الکلام اسلامی المعاصر المجلد 1

هوية الکتاب

خسروبناه، عبد الحسين مؤلف .

الكلام الإسلامي المعاصر الجزء الثالث / تأليف عبد الحسين خسروبناه ؛ ترجمة محمد حسين الواسطي، اسعد الكعبي - الطبعة الثانية - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440 ه. = 2019.

3 مجلد ؛ 24سم – (سلسلة دراسات كلامية ؛ 14)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

.1 علم الكلام أ. الواسطي، محمد حسين مترجم. ب. الكعبي، اسعد ، مترجم. ج. العنوان.

LCC: BP166 K46 2019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

خسروبناه عبد الحسين، مؤلف .

الكلام الإسلامي المعاصر. الجزء الاول / تأليف عبد الحسين خسروبناه ؛ ترجمة محمد حسين الواسطي اسعد الكعبي - الطبعة الثانية - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440 ه = 2019.

3 مجلد ؛ 24-سم - (سلسلة دراسات كلامية ؛ 14)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

1. علم الكلام. أ. الواسطي، محمد حسين، مترجم. ب. الكعبي، اسعد ، مترجم. ج. العنوان.

LCC : BP166K462019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز ...8

تصدير...11

الباب الأول: مبادئ علم الكلام ...15

1. ماهيّة علم الكلام الإسلاميّ. ...16

1/1. التعريف بالدراسات الدینیّة ومجالاتها ...16

2/1 . تعاريف علم الكلام الإسلامي ...17

3/1 . ماهيّة علم الكلام الجديد ... 20

4/1 . شاكلة علم الكلام الإسلامي الجديد... 25

5/1 . ضرورة التعرّف على علم الكلام ...32

2 . معقوليّة القضايا الدينيّة وقابليتها للإثبات ...35

1/2 . المبادئ التصوّريّة في المسألة .... 37

2/2 .معقولية القضايا الإسلامیّة الوصفية: ....38

4/2 .معقولية القضايا العرفانية الدینیّة: ....44

5/2 . معقوليّة القضايا التاريخية الدینیّة: ...47

6/2. معقولية القضايا التجريبية الدینیّة ...50

الباب الثاني: الإلهيات ...55

3 .معرفة وجود الله وإثباته....56

1/3 .تمهید ...56

2/3 . معرفة الله ....58

3/3 . براهين إثبات وجود الله عَزَّ وَجَلَّ ...59

4/3 . دليل الفطرة: ...63

5/3 . دليل النظام : ...63

ص: 4

6/3 .برهان الوجوب والإمكان ...90

4 . إثبات التوحيد الإلهي ومراتبه. ..98

1/4 . تمهید: ...98

2/4 . تفسير معنى التوحيد النظري: ...98

3/4 . تفسير معنى التوحيد العملى : ...102

4/4 . إثبات التوحيد الذاتي ...103

4/4 . إثبات التوحيد الصفاتی ... 105

5/4 . إثبات التوحيد في الخالقية ...106

6/4 .إثبات التوحيد في الربوبيّة ...108

6/4 .إثبات توحيد الحاكميّة والمالكيّة والولاية ....110

7/4 . إثبات التوحيد في العبادة ...112

8/4 . إثبات التوحيد في الطاعة .....116

9/4 . دور الإيمان بالتوحيد ...117

10/4 . عوامل النزوع إلى الشرك :...119

5 . الصفات الإلهية ...122

1/5. تمهید ... 122

2/5 . الصفات الإلهية الذاتية: ...132

3/5 . الصفات الإلهية الفعلية .... 142

4/5 . الصفات الإلهية السلبية: ... 153

6. الأفعال الإلهية ... 157

1/6. نطاق معرفة الأفعال الإلهية : ....157

2/6 . حاجة الممكنات إلى الواجب عَزَّ وَجَلَّ: ...158

ص: 5

3/6 . الفاعليّة الإلهيّة وفاعلية المخلوقات: ...159

4/6 . القضاء والقدر الإلهيّان ...164

الباب الثالث: معرفة الدين ..235

7 . حقيقة الدين ...236

1/7 . تمهید: ...236

2/7 . كيفية تعريف الدين : ...236

3/7 . الاتجاهات المتنوّعة في تعريف الدين : ...239

4/7 . مفردة «الدين» في اللغات المختلفة: ...240

5/7 . تعريف الدين عند المفكّرين الغربيين. ...241

6/7 .تعريف الدين عند المفكّرين المسلمين. ...246

7/7 . التعريف المختار للدين ....248

8 .حقيقة التجربة الدینیّة ....264

1/8 . تمهيد ... 264

2/8 . ماهية التجربة الدينيّة وأنواعها ..265

3/8 . ماهية التجربة العرفانية وأنواعها ....272

9 . توقعات الإنسان من الدين ... 278

1/9 . تمهید ...278

2/9 . أضواء على بعض المفاهيم ...279

3/9 . تحليل القضية ....281

4/9 . منطلق القضية : ...283

5/9 . منهج البحث في القضية : ...284

6/9 . رؤى المفكرين الإسلاميّين في القضية : ...286

ص: 6

7/9 . رؤى المفكرين الغربيين في القضية ...292

8/9 . نظريّة التوقعات المعتدلة من الدين ...297

9/9 . توقعات الحد الأقصى والنصوص الدینیّة: ...300

10 . منشأ الدين ...306

1/10 . تمهيد : ....306

2/10 . معنى منشأ الدين: ...306

3/10. أضواء على نظرية الاغتراب : ...307

4/10 . أضواء على نظرية الجهل ...311

5/10 . أضواء على نظرية التوالد الاجتماعي: ...312

6/10. أضواء على نظرية الطبقات الاجتماعية: 317

11 . الإيمان الديني : ...342

1/11 .تمهيد : ...342

2/11 .الإيمان في القرآن الكريم : ...347

3/11 .العوامل والموانع في الإيمان الديني....350

12 .التعدّدية الدينيّة.... 360

1/12 .تمهيد : ...355

2/12 .مناحي البحث في تعدّد الأديان ...356

3/12. حقيقة التعدّديّة الدینیّة: ......360

4/12 .خلفيات التعدّديّة الدينيّة: .... 360

5/12. أدلّة التعدّديّة الدينيّة: .... 363

6/12. معايير التقييم عند جون هيك : ...368

7/12 .تحليل التعدّديّة الدينيّة: ..369

ص: 7

مقدمة المركز

اختلفت الآراء في تعريف علم الكلام الجديد هل هو امتداد للكلام القديم ليكون مسائل كلامية جديدة ومستحدثة، أم انه مختلف جذرياً عن الكلام القديم في المنهج والمسائل والبنى، وإن اشترك معه في الهدف، عدا ما يراه البعض من انّ هذا المصطلح وليد العالم الشرقي الذي أدهشته صدمة الحضارة الغربية بما فيها من معارف جديدة وتقنيات حديثة أثرت على نمط الحياة والفكر، وإلّا فالغرب لا يوجد فيه كلام جديد أو قديم.

مع قطع النظر عن الخوض في تفاصيل الموضوع وتأييد هذا أو ذاك، باتت ضرورة الاهتمام بمسائل علم الكلام الجديدة حتمية لما لها من رواج وإقبال واسع في الوسط العلمي الجامعي وطبقة المثقفين، مما أدّى الى إرفاد المكتبة الاسلامية بعشرات الكتب والدراسات الجادّة في هذا المضمار .

وقد حاول مؤلّف هذا الكتاب ( الكلام الاسلامي المعاصر) سماحة الشيخ الدكتور عبدالحسین خسروبناه، سبر أغوار هذا العلم بطريقة مبتكرة، حيث مزج بين القديم والجديد، وجعل الواحد تلو الآخر ومكملاً له في باقة عطرة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.

وقد أخذ المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية - المهتم برسم الاستراتيجيات الدينيّة والمعرفية – على عاتقه الاهتمام بمسائل العقيدة وعلم الكلام بشقيه القديم والجديد، لما له من دور محوري في سعادة الانسان الدنيوية والأخروية، سيما ونحن نعيش الثورة المعلوماتية وما أنتجته من ( عولمة الشبهات).

ص: 8

من هذا المنطق قمنا بترجمة هذا الكتاب تعميماً للفائدة ورفداً للمكتبة العربية بالدراسات الجادة في الدفاع عن العقيدة، ونحن إذ نقدم هذا الكتاب إلى القرّاء الكرام، نتقدّم بالشكر والامتنان لمؤلفه الفاضل حيث وافق على ترجمته، وكذلك الفاضل سماحة الشيخ محمد حسين الواسطي حيث أجاد في عمله، وكذلك من أعانه في الترجمة الأخ الفاضل محمد مجتبى الجعفري، والاستاذ أسعد الكعبي، حيث ترجم قسم المعاد، علماً بأننا لم نترجم ما أورده المؤلف الفاضل حول الحضارة الاسلامية (وهو الباب السادس من الكتاب) لملاحظات فنية، بأمل أن تطبع مستقلة لاحقاً.

ونحن إذ نثمن هذه الجهود، نتمنّى للمؤلف دوام التوفيق ومتابعة الأمر والمثابرة في الدفاع عن العقيدة كما نعتقد أنّه جهد بشري يعتريه ما يعتري البشر من السهو والخطأ والنسيان، والعصمة الله وحده ولمن اصطفاه.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

النجف الاشرف

مدير المركز

ذو القعدة الحرام 1440 ه

ص: 9

ص: 10

تصدير

شغلت فصول «الكلام الإسلامي المعاصر» لعدّة سنوات حيزاً من اهتمامي، وتمنيت أن أوفّق - يوماً ما - لجمع شتات الأبحاث الكلامية التقليدية والجديدة في كتاب واحد بنسق وترتيب منطقي. لقد اعتاد - وللأسف - أساتذة علم الكلام في الجامعات والحوزات العلمية وغيرها على الفصل في محاضراتهم بين مادّةٍ تتناول قضايا الكلام التقليدي كما في كتاب كشف المراد مثلاً، ومادة أخرى تستعرض قضايا الكلام الجديد»، فتُدرّس كلّ من المادتين في وحدات دراسية مستقلة، دون أيّ حلقة وصل بينهما .

والهاجس المهم هنا هو أن نتساءل: ألا ينبغي أن يؤدي تدفّق مسائل الإلهيات الغربية الحديثة المسماة ب «الكلام الجديد» على العالم الإسلامي إلى تحريك الفكر الكلامي الإسلامي نحو إعادة هيكلة تنتظم فيها مسائله التقليدية مطعمة بهذه الأبحاث الجديدة، ضمن نظام متناغم وموحد ؟ ! ألم تكن الشبهات والمسائل الكلامية التقليدية تثرى على العالم الإسلامي قديماً، وترده من أقصى الشرق والغرب؟! هل انبثقت شبهات الثنوية، والجبرية، وغيرها، في عالمنا الإسلامي من تلقاء نفسها؟ أم أنها وليدة الاحتكاك الفكري بين المسلمين وغيرهم من الديانات الأخرى؟! لا شكّ في أنّ علاقات المسلمين الأوائل مع أبناء الديانات الأخرى - كالهندوسية، والزرادشتية، والنصرانية واليهودية - قد أفضت إلى دخول عدد من الأبحاث الكلامية في العالم الإسلامي، الأمر الذي اضطرّ المتکلّمین المسلمين - في كل عصر - إلى بلورة مباحث هذا العلم ضمن هيكلية حديثة، تضع القضايا القديمة إلى جانب القضايا المستحدثة ضمن نظام معرفي جديد وهذا هو الذي أدّى إلى تنوّع المنهج المتبع في أمهات المصادر

ص: 11

الكلامية القديمة ؛ مثل: «أوائل المقالات» للشيخ المفيد (413 ه)، و«الذخيرة في علم الكلام» للسيّد المرتضى (436ه)، و «تمهيد الأصول» للشيخ الطوسي (460ه)، و«تقريب المعارف» لأبي الصلاح الحلبي (447ه)، و«تجريد العقائد» للمحقق الطوسي (672ه).

وليس الحال في عصرنا يشطّ عن هذا؛ فقد أدّى ورود المسائل الكلامية المستحدثة إلى ولادة مناخ جديد، يستدعي منا التفكير في حلّ ناجع ، ونظام كلامي عصري، يجمع بين دفتيه القضايا التقليدية والجديدة معاً. وتتأكّد ضرورة ذلك بملاحظة ما يطرأ على علم الكلام من مسائل من خلال ما نشهده من تطوّر العلوم والمعارف التي تؤدّي بدورها - إلى توسيع دائرة الكلام نفسه، وما يقابله من تأثير الكلام على نموّ العلوم الأخرى. إنّنا اليوم، وفي ظلّ البلوغ العلمي الذي أحدثه الشيعة اليوم في المجتمع، وما نشهده في عصرنا من الاهتمام بتطوير العلوم التجريبية والإنسانيّة بمناحيها الدینیّة، مطالبون ببذل مزيد من الاهتمام والعناية بتطوير علم الكلام، خاصّة لما يتحلّى به هذا العلم من دور تنظيري وتأسيسي لسائر العلوم.

ولا يخفى أن هذه النقلة النوعية في العلوم لا تتأتى إلا من خلال التعريف بالتراث الإسلامي في شتى مجالات العلوم التجريبية والإنسانيّة، من أجل ترسيخ الإيمان بالذات، والتحلّي بروح الشجاعة العلمية، ونقد النماذج والأنماط الفكرية للعلوم الغربية، مستعينين بذلك، وبالنماذج الفكرية الغربية الموافقة، ومن خلال الاعتماد على الأسس الفلسفية والكلامية، والرؤية الكونية الإسلاميّة. ولا شكّ في أنّ كشف نماذج العلوم من صميم الحضارة الإسلامیّة المتقدّمة، وتدوين فلسفات للعلوم الإسلامیّة ونظام للأنثروبولوجيا الإسلامیّة، وكذا عرض نماذج أسلمة شتّى العلوم لها بالغ التأثير على هذه الطفرة العلميّة.

وهذا هو ما يستهدفه كتاب «الكلام الإسلامي المعاصر»، وهو حصيلة أبحاث

ص: 12

كاتب هذه السطور، وكذا تدريسه وتأليفه في السنوات الأخيرة، حيث يرى أنه يلبّي الحاجة المعاصرة. لقد حاولتُ في هذا الكتاب الإفادة من المصادر الأصيلة قديماً وحديثاً، وسعيتُ إلى تقديم الأبحاث الكلامية القديمة والجديدة ضمن شاكلة منطقيّة تعرّضتُ لشرحها في الباب الأوّل، مجيباً على أحدث الشبهات في هذا الصدد.

وقد قمتُ بتدريس هذا الكتاب في الحوزة العلميّة المخصصة بطلبة الجامعات (حوزة الشهيد بهشتي بطهران). ولهذا، أرى لزاماً عليّ أن أتقدم بأسمى آيات الشكر إلى جميع الطلبة الذين شاركوني البحث، وإلى كافة من أعانني في تدوين هذا الكتاب، وبالأخص إلى الأخ الطالب محمّد يوسفي الذي تجسّم عناء تنسيق الكتاب، وزوجتي الفاضلة التي تولّت مراجعته وتدقيقه وتصحيحه.

عبد الحسين خُسروپناه

أستاذ الحوزة العلميّة

وأستاذ مشارك في معهد الثقافة والفكر الإسلامي

25 ذي القعدة 1432ه

الموافق لذكرى استشهاد الإمام الصادق

ص: 13

ص: 14

الباب الأول: مبادئ علم الكلام

1. ماهيّة علم الكلام الإسلامي

1/1 . التعريف بالدراسات الدینیّة ومجالاتها

1- ماهيّة علم الكلام الإسلاميّ

2- معقوليّة القضايا الدینیّة وقابليتها للإثبات

ص: 15

قد يتراءى للبعض ممّن لا معرفة له بهذا العلم - عند أوّل ارتباط بعنوان «علم الكلام» - أنّ المقصود من «الكلام» هنا: «التحدّث»، و«الحوار»، وأنّ «علم الكلام» هو العلم الذي يتناول تعليم «إلقاء الكلمات»، وفنّ «الخطابة» ! والحقيقة أنّ هذا العلم لا يمتّ إلى شيء من ذلك بأيّ صلة، رغم أنه يستفيد من «الخطابة» لتحقيق أهدافه. من هنا، تتجلّى أهمية الوقوف على تعريف دقيق لعلم الكلام، ومعرفة موضوعه، ومنهجه، وأهدافه، ومسائله، والذي هو بمثابة خارطة طريق تدلّنا على النهج الصحيح، وتقودنا نحو الهدف. وعليه فإنّ البحث عن ماهية علم الكلام مقدّم على سائر الأبحاث الأخرى.

يمكن تصنيف علم الكلام الإسلامي ضمن مجموعة «الدراسات الدینیّة»، وهو حقل معرفي حظي باهتمام شديد في تاريخ معرفة الأديان. لقد اشتغل المتكلّمون على مدى العصور - في إثبات العقائد الدینیّة، والردّ على شبهات المخالفين والمعاندين حتى سمّي هذا العلم ب «الفقه الأكبر» نظراً لعلوّ مكانته ، كما عمد الكثير من الفقهاء إلى بيان المعارف العقائدية، وتأليف الكتب للدفاع عنها، بالتزامن مع اشتغالهم ببحوث الفقه والأصول.

يشتمل حقل الدراسات الدینیّة على عدد من الفروع العلميّة المتنوّعة التي تدرس بمناهج مختلفة أبعاداً ومجالات متعدّدة من الدين. وبملاحظة أن الأديان السماوية - وعلى رأسها الإسلام - تنطوي على جوانب عقائدية وفقهية وحقوقية

ص: 16

وفرديّة واجتماعية وتربوية وسياسية وما إلى ذلك، يمكن تصنيف العلوم المنضوية تحت مسمّى الدراسات الدینیّة ضمن تصنيفات متنوّعة. فعلى أساس أصول التدين ومضامينه، وأثره وماهيّته والأبحاث المقارنة، تنشعب أبحاث الدراسات الدینیّة إلى خمسة فروع:

1 . الأسس الدینیّة في فلسفة الدين.

2 . المضامين الدینیّة في علم الكلام وعلم الفقه وعلم الأخلاق.

3 . أثر الدين في علم الاجتماع الديني وعلم نفس الأديان، والأنثروبولوجيا الدینیّة ( علم الإنسان) ، والميثولوجيا الدینیّة (علم الأساطير).

4 . حقيقة الدين والتديّن في فينومينولوجيا الدين (علم الظواهر).

5 . الأبحاث المقارنة في علم الأديان المقارن، وتاريخ الأديان.

هذا، وتبحث بعض أفرع الدراسات الدینیّة (مثل : فلسفة الدين، وعلم الكلام) صدق القضايا أو كذبها، فيما يكتفي البعض الآخر منها (مثل: تاريخ الأديان، وعلم الأديان المقارن، وفينومينولوجيا الدين وعلم الاجتماع الديني، وعلم نفس الأديان) على وصفها، دون الاهتمام بصدق القضايا الدینیّة أو كذبها (1).

2/1 . تعاريف علم الكلام الإسلامي:

بعد أن تبين تعريف «الدراسات الدینیّة»، والأفرع المعرفية التي تناولتها، نتوجّه الآن إلى تعريف علم الكلام الإسلامي باعتباره أحد فروع هذه الدراسات. لقد تطرّق عدد من العلماء المسلمين إلى تعريف هذا العلم بعبارات شتى؛ نشير إلى بعض منها فيما يلي :

ص: 17


1- للاستزادة راجع الكلام الجديد في مسيرة الأفكار : [بالفارسيّة كلام جدید در گذر انديشه ها]، إعداد على اوجبي مقالة: «فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد» لمحمّدرضا كاشفي ص 258-256 .

قال الفارابي (339ه ) في تعريف علم الكلام :

«صناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرّح بها واضع الملة، وتزييف ما خالفها بالأقاويل»(1).

وقال صاحب «المواقف القاضي عضدالدين الإيجي (756ه):

«علم يُقتدر معه على إثبات العقائد الدینیّة، بإيراد الحجج، ودفع الشبه»(2).

وأشار سعد الدين التفتازاني (793ه) في تعريفه لهذا العلم بالقول :

«الكلام هو : العلم بالعقائد الدینیّة عن الأدلّة اليقينية» (3).

وأورد عبدالرحمن بن خلدون (808ه) قوله:

«هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية، بالأدلة العقليّة، والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنّة . وسرّ هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد»(4).

وقال المحقق اللاهيجي - بعد إشكاله على تعاريف غيره من المتکلّمین - :

«الكلام صناعة يُقتدر بها على إثبات العقائد» (5).

أما التعريف المختار - وهو التعريف الشامل الملاحِظُ للأهداف، ومهام المتکلّمین ومنهج علم الكلام - فيمكن أن يُقال فيه:

ص: 18


1- إحصاء العلوم، الفارابي، ص 114 .
2- شرح المواقف الإيجيّ، ج 1 ص 24 ؛وراجع أيضاً شوارق الإلهام، عبد الرزاق اللاهيجيّ، ج 1 ص 3.
3- شرح المقاصد التفتازاني، ج 1، ص 163.
4- مقدّمة ابن خلدون، ص 458 .
5- شوارق الإلهام، اللاهيجي، ج 1، ص 5.

هو : علم وفنّ ينتمي للدراسات الدینیّة، تُستنبط وتُنظَّم وتُبيَّن به المعارف والمفاهيم العقائدية، من خلال الاستعانة بالنصوص الإسلامیّة، ويُستدلّ به على إثبات تلك المعارف وتبريرها باتباع مختلف المناهج والمقاربات الدینیّة وغير الدینیّة، ويُردّ به على شُبهات المخالفين ومناقشاتهم العقائديّة.

وكما هو ملاحظ، فإنّ هذا التعريف لم يُشر إلى «موضوع العلم»؛ لأنّ علم الكلام لا موضوع له(1)، وفي المقابل ركّز التعريف على غاية علم الكلام ومنهجه.

ونستنتج ممّا تقدّم :

أوّلاً: يُصنّف علم الكلام على أنّه علم وفنّ ينطوي على جانب نظري تعليمي، وآخر تطبيقي مهاريّ، يحافظ من خلاله المتكلّمون على سلامة عقائد العوام والخواص من الناس، كما يسهر الحَرَس ورجال الشرطة على أمن المجتمع.

ثانياً : علم الكلام فرع علمي ينضوي تحت مظلة الدراسات الدینیّة.

ثالثاً : . طبيعة قضايا هذا العلم وأبحاثه تنتمي إلى المفاهيم والمعارف العقائديّة.

رابعاً: تتحدّد أهداف علم الكلام ومهام المتکلّمین فيما يلي :

1 . الاستنباط.

2 . التنظيم.

ص: 19


1- احتدم الجدل بين من تطرّق لبيان موضوع علم الكلام بين مشدّد على ضرورة التماس موضوع له - لما في ذلك من فائدة أهمها: معرفة حقيقة ذلك العلم، واتضاح الضابطة التي على أساسها تتضح حدود العلم ونطاق دائرته وبين نافٍ لتلك الضرورة. وقد ارتأى البعض أنّ «العلم الحقيقي البرهاني» هو العلم الذي ذهب مشهور الحكماء والمناطقة إلى ضرورة اشتماله على موضوع، أما «العلم الاعتباري» فاختلفوا في أمره، ولعلهم يختلفون أيضاً في تصنيف علم الكلام؛ هل هو حقيقي برهاني، أم اعتباري ؟ وهذا كلّه، بخلاف من أنكر ضرورة وجود موضوع للعلم من الأساس. وقد ارتأى المؤلف هنا أنّ علم الكلام لا موضوع له؛ من باب إنكاره لضرورة وجود الموضوع للعلوم، كما أفادنا به صراحةً [م]

3 . بيان المعارف والمفاهيم العقائدية.

4 . إثبات القضايا العقائدية، وعقلنتها.

5 .حماية التعاليم الدینیّة، ودرء الشبهات عنها.

خامساً: تُستخدم في علم الكلام شتّى المناهج الدینیّة وغير الدینیّة؛ مثل: المنهج العقلي، والنقلي، والتجريبي، والوجداني، علاوةً على ما يُعتمد عليه في هذا العلم من مقاربات استدلاليّة، ووصفيّة، وتحليلية، وتفسيريّة.

وتتلخّص أبرز قضايا علم الكلام ومباحثه في البحث عن: إثبات وجود الله تعالى، والصفات الإلهية، وإثبات التوحيد الإلهي، وقضايا تتعلّق بالأفعال الإلهية؛ مثل: حدوث العالم أو قِدَمه، وحدوث القرآن أو قدمه، والقضاء والقدر العلميّين والعينيّين للّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والجبر والاختيار، وبحث الآلام والشرور ، والهداية والإضلال، الأعواض والآجال والأرزاق، والعدل الإلهيّ، وضرورة إرسال الرسل، وضرورة الإمامة والخلافة، ومباحث المعاد والحياة الأخروية، وبعض القواعد الكلاميّة؛ مثل : قاعدة الحسن والقبح العقليين، وقاعدة اللطف، وقاعدة الأصلح ، وغيرها من الأبحاث الأخرى (1).

3/1 .ماهيّة علم الكلام الجديد

استخدم مصطلح الكلام الجديد في الأوساط العلميّة الإسلامیّة - لأوّل مرّة - من قِبَل الكاتب الهندي سيّد أحمد خان (2)؛ حيث قال في خطاب له عام 1286ه :

ص: 20


1- راجع: مبادئ علم الكلام ومصادره للمؤلّف، وهي دروس ألقاها في مؤسسة الإمام الصادق ، ص 100 و101.
2- سيد أحمد خان بهادر (1232-1306ه - 1898-1817م) سياسّي، ورجل تعليم هندي مسلم عده البعض أحد أبرز قادة حركة الإصلاح الاجتماعي والثقافي في الهند ورائد التعليم الحديث للمسلمين في هذه البلاد، وذلك بتأسيسه الكلّيّة المحمدية الأنجلو شرقية، والتي تطوّرت لتصبح جامعة عليكرة الإسلامیّة لاحقاً. لم يشارك في أحداث ثورة الهند ضد الإنجليز والتي قادها المجاهدون المسلمون. تفاهم مع البريطانيين، وساهم في إنهاء حالة العداوة بين الطرفين. ترك عدة مؤلّفات في مجال التاريخ والآثار والمعارف الدینیّة له آراء تفرّد بها، مما أثار حفيظة عدد من علماء المسلمين. [م]

«إنّنا نحتاج اليوم إلى علم كلام جديد نستعين به على إبطال التعاليم الجديدة، أو إثبات مطابقتها لمراتب الإيمان في الإسلام»(1).

وبعد ذلك، جرى استخدام هذا المصطلح في كتابات العالم الهندي شبلي النعماني(2) (1332ه)، وكان العلامة الشهيد مرتضى المطهّري (1399ه) أوّل من تطرّق في إيران إلى ماهيّة الكلام الجديد، وضرورة البحث فيه (3). والمهمّ هنا أن نقف على المقصود من «الكلام الجديد»، ومفردة «التجديد» في هذا التعبير؛ فهل إنّ صفة «الجديد» هذه نعت للعلم، أم لمسائل العلم ؟

يمكن أن نحصي في المقام اثني عشر نظريّة؛ لكننا سنكتفي في ما يلي باستعراض نظريتين أساسيتين منها (4):

1/3/1. نظرية النسخ:

تبتني نظريّة نسخ الكلام الجديد للكلام القديم على رؤية لا تؤمن بأيّ علاقة

ص: 21


1- تاريخ الفلسفة في الإسلام، ميان محمد شريف [النسخة المترجمة إلى الفارسيّة تاريخ فلسفه در اسلام، ج4، ص 201-202.
2- شِبلي حبيب الله بن سراج الدولة النعماني (1275 - 1332ه/1857 - 1914م): عالم وشاعر هنديّ مسلم عمل في جامعة عليكرة، وشارك في تأسيس ندوة العلماء بلكنو، أبرز كتبه: علم الكلام والسيرة النبوية، وسيرة عمر بن الخطاب، ونقد لكتاب تاريخ التمدن الإسلامي، رد فيه على كتاب جورجي زيدان وبعض الكتب الأدبية، ومقالات منوّعة. [م]
3- لا نبالغ إن وصفنا هذا الحكيم الفذّ بمحيي الكلام الإسلامي؛ حيث أدرك ضرورة الكلام الجديد في الدفاع عن كيان الفكر والإيمان الديني ونبه المفكّرين الإلهيّين إلى رسالتهم الخطيرة قائلاً: «طالما أننا نواجه في عصرنا شبهات حديثة وغير مسبوقة، وبعد ظهور بعض المؤيّدات التي ترتبط بالتقدّم العلمي الحديث، وانعدام المبرّر الموضوعي لكثير من الشبهات القديمة في زماننا كما فقدت كثير من المؤيدات السابقة قيمتها فمن هنا، يتحتّم تأسيس كلام جديد .... راجع حول الجمهورية الإسلامیّة، مرتضى المطهري، [النسخة الفارسيّة: پیرامون جمهوري إسلامي] ط17 ص 37-38. وهذا ما دعى بعض المعاصرين إلى تسمية المطهري بمؤسس الكلام الإسلامي الجديد راجع المطهري وعلم الكلام الجديد، في ذكرى العلامة = الشهيد المطهري [بالفارسيّة : يادنامه استاد شهيد مرتضى مطهري]، رضا داوري اردكاني ، ج 2، ص 35. وكذا: إطلالة على الكلام الجديد بالفارسية: آشنايي با کلام جدید همایون همّتي ومقدّمة على الإلهيّات المعاصرة ، ليث وآخرون، ص40.
4- راجع للاستزادة : ماهيّة الكلام الجديد بالفارسية چيستي كلام جديد، خسروبناه ومهدي عبداللهي فصلية «اندیشه نوين ديني».

تجمع الكلام الجديد بالقديم غير «الاشتراك اللفظي» في العنوان؛ حيث يرى أصحاب هذه النظرية أنّ اختلافاً جوهريّاً يفصل بينهما، فما لبث الكلام الجديد بالظهور حتّى نُسخ الكلام القديم واضمحل. وما ذلك إلا بسبب ما طرأ في العصر الراهن على البيئة الفكريّة العامّة من تقلبات وتبدّلات، وانهيار الجزمية العلمية أو الفلسفيّة، حتى بات «إثبات العقائد الحقّة» الذي كان هدفاً للكلام التقليدي - يوماً ما - في عداد المستحيلات. وفي كلمة واحدة يرى أصحاب هذا الاتجاه أنّ الساحة الفكرية المعاصرة تحكمها اليوم تساؤلات ومطارحات جديدة، وتسودها مناهج و مبادئ ومناخات مختلفة، تتطلب أساليب جديدة في الحديث عن «الله»، و«النبوّة»، و«الإنسان»، و«المعاد»، و«الوحي»(1).

ولعلّ أبرز ما تعاني منه هذه الرؤية : معاداتها للموروث التقليدي، وانبهارها بحركة التطوّر في الغرب، وقراءتها الخاصة بها فيما يتعلّق ب«الوحي» و«الكلام»، تأثراً بنظرية النسبيّة الجديدة. إضافةً إلى أنّها - في خضم هذا البحر اللجيّ من الآراء الغربية المتلاطمة -لم تحدّد بعد انتماءها في المنهج والنظرية النسبيّة؛ فهل تؤمن بمنهج شلاير ماخر(2) (1834م) في الكلام الجديد؟ أم أنها تنتمي إلى مقاربة ألستون(3) (2009م)؟ أم أنها تتوافق مع رؤى أخرى؟ فلا ريب في أنّ أيّاً من هذه الآراء والانتماءات الفكرية تترك آثاراً بالغة الأهميّة على صورة الكلام الجديد» المزمع تعريفه.

2/3/1. نظرية التكامل:

ذهب أصحاب هذه النظرية إلى أنّ صفة «الجديد» نعت متعلّق بالشبهات

ص: 22


1- هرمنيوطيقا الكتاب والسنّة محمد مجتهد شبستري بالفارسيّة: هرمنوتيك كتاب وسنّت]، ص 168-170 .
2- فريدريش شلایرماخر (1768 Friedrich Schleiermacher -1834م) فيلسوف ولاهوتي بروتستانتي ألماني، عرف بتأسيسه اللبنات الأولى للهرمينوطيقا الحديثة. ترك بصمات واضحة على الفكر المسيحي المعاصر، وخاصة في دائرة اللاهوت البروتستانتي. [م]
3- وليام ألستون (1921) William Alston-2009م) : فيلسوف أمريكي، يعد من أشهر فلاسفة الدين الغربيين. له مساهمات مميّزة في فلسفة اللغة ونظرية المعرفة والفلسفة المسيحيّة [م] .

والأساليب الكلاميّة، نافين الاختلاف الجوهري المدعى بين الكلام الجديد والقديم فالكلام الجديد عندهم ليس إلّا نموذجاً متكاملاً للكلام القديم، واستمراراً له ومن هنا، قال بعض روّاد هذه الرؤية :

«علم الكلام الجديد استمرار للقديم، وليس بينهما اختلاف جوهري. ويمكن رصد التجديد في الكلام عند أمور ثلاثة أحدها أنّ الردّ على الشبهات هوأحد أهمّ مهام علم الكلام، وطالما أنّ الشبهات متجدّدة، فالكلام يتجدد كذلك. فلا ينبغي الاعتقاد بإمكان مجابهة الشبهات بالأساليب والأسلحة القديمة على الدوام؛ فإنّنا بحاجة - أحياناً - إلى أسلحة جديدة. ومن هنا، يحتاج المتكلّم إلى معرفة المسائل الحديثة وبالتالي يتضح أنّ علم الكلام يتغذى وينمو عبر المعارف الجديدة، مثلما ينمو بالمسائل الجديدة كذلك»(1).

أما التفسير السائد والمتداول عن صفة «الجدة» في «الكلام الجديد» فهو عدّها نعتاً للمسائل والقضايا الكلاميّة؛ بما يعني أنّ الكلام القديم تناول - في الأعم الأغلب القضايا المتعلّقة بالإلهيات والمعاد؛بيد أنه اليوم يلج مدارات بحثية أكثر اتساعاً، فيتناول أبحاثاً مرتبطة بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، وعلم الأديان، وغير ذلك(2).

3/3/1. النظرية المختارة:

الحق أننا إذا انتهينا إلى اضطلاع علم الكلام ببيان المعتقدات الدینیّة وإثباتها والدفاع عنها، فلا محيص من عدّ «الكلام الجديد» استمراراً للكلام التقليدي؛ وهو بذلك ليس مشابهاً لحال الفيزياء القديمة نسبةً إلى الحديثة، ليكون الجديد ناسخاً

ص: 23


1- القبض والبسط في الشريعة النسخة الفارسية بعنوان: قبض وبسط تئوريك شريعت عبدالکریم سروش ط 3 ص 79 -78 .
2- لاحظ: مدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام [بالفارسيّة: مدخل مسائل جديد در علم کلام] ، جعفر السبحاني، ص 10.

للقديم منها. أما لو كان المراد من«الكلام الجديد»: العقائد الدینیّة التي تتناولتها الإلهيّات المسيحيّة البروتستانيّة الحديثة - حيث يُنفى الإله المحدّد والمعاد الديني، ويُعدّ الوحي فيها تجربةً دينية شخصيّةً فاقدة للعصمة، ويُصار إلى حقانية جميع الأديان على إطلاقها - ففي هذه الحالة، لا مانع من كون الكلام الجديد ناسخاً للقديم. ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا : كيف يمكن تسمية شيء كهذا بعلم الكلام، وعده علماً يستهدف الدفاع عن المعتقدات الدینیّة ؟! فهل يجوز لنا مثلاً أن نعد السارق الذي يُخلّ بالأمن في المجتمع حارساً؟! أو أن نسمّي الجندي المتعاون مع العدوّ بالمدافع عن ثغور البلاد؟! أو أن نصف المجرم الذي يبيع أعضاء مرضاه بالطبيب؟! لا شكّ في أنّ أيّاً من هذه التسميات لا تجوز. وعليه لا يمكن تسمية من يسعى إلى إنكار المعتقدات الدینیّة، ويدافع عن الشبهات الاعتقادية بدل الردّ عليها، ويلعب في أرض المسيحيّة البروتستانية «متكلّماً إسلامياً»، فغاية ما يمكن تسميته به : «أنه فيلسوف ديني». ومن العَجب العجاب دخول البعض في المعترك الكلامي بزي الفلاسفة، ثمّ وصف أنفسهم بالمتكلّمين، ليغيّروا على الناس معتقداتهم، ويسعون في خرابها، وكذا عدّهم «التفلسف» كواحدة من المهام التي يضطلع بها هذا العلم؛ حتى قال قائلهم :

«يضطلع علم الكلام - علاوةً على مهمته في ردّ الشبهات، وبيان المعارف، وإثبات المباني والأسس الدینیّة - بمهمة جديدة؛ تتمثل في علم معرفة الدين؛ وعلم معرفة الدين نظرة خارجية إلى الدين. ولذا، سمّي الكلام الجديد أحياناً بفلسفة الدين»(1).

وهذا المدّعى باطل؛ لأننّا سنبيّن - لاحقاً - الفرق بين «فلسفة الدين» و «علم الكلام الإسلامي». أما أهمّ القضايا التي يتناولها علم الكلام الجديد فتتمحور حول: «تعريف الدين»، و«حاجة الإنسان إلى «الدين»، و«منشأ الدين»، و«عقلانية القضايا الدینیّة» و«أثر الدين ودوره» و «جوهر الدين وصدفه»، و«لغة الدين»، و«التعدّديّة الدینیّة»، و«العقل والدين»، و«العلم والدين»، و«الدين والأخلاق»، و«الدين والدنيا» .

ص: 24


1- القبض والبسط في الشريعة مصدر سابق، ص 78-79 .

نستنتج مما تقدّم أنّ الكلام الجديد استمرار للكلام القديم، وعلينا أن نستعرضهما معاً في إطار واحد، ونظام موحد ومتناسق تحت مظلة علم الكلام الإسلامي المعاصر.

4/1 . شاكلة علم الكلام الإسلامي الجديد

بعد أن تبيّنت معالم الكلام الجديد من تعريف وماهية والرأي المختار في هذا الخصوص، واتضحت أيضاً ضرورة تلفيق المباحث الكلامية التقليدية مع المسائل الكلامية المستحدثة، نقترح هيكلّيّة جديدة للكلام الإسلامي بثوبه الجديد؛ وهي كما يلي:

الباب الأوّل: المبادئ والمقدّمات:

البحث الأوّل: ماهيّة علم الكلام (وتشمل أبحاث: التعريف، والموضوع، ،والمنهج، والأهداف، ونظام علم الكلام، والفوارق بين علم الكلام وفلسفة الدين، وعلم اجتماع الدين، وعلم نفس الأديان، وغيرها من العلوم المماثلة).

البحث الثاني: قابليّة الإثبات للقضايا الدینیّة ومعقوليتها.

الباب الثاني: الإلهيات:

البحث الثالث: معرفة الله وإثبات وجوده (سبل معرفة الله في الفكر الإسلامي والغربي، ثمّ إثبات وجود الله بدليل الفطرة، وبرهان النظم، وبرهان الوجوب والإمكان وما إلى ذلك).

البحث الرابع: إثبات وحدانية الله ومراتب التوحيد (التوحيد العملي والنظري).

البحث الخامس الصفات الإلهية (ماهية الصفات ، ثمّ تصنيفها، وإثبات الصفات الإلهيّة، ومباحث العدل الإلهى ).

البحث السادس: الأفعال الإلهية (حاجة الممكنات إلى الواجب تعالى فاعلية

ص: 25

الله وفاعليّة الخلق القضاء والقدر الإلهيّان، وموضوع الجبر والاختيار، والهداية والإضلال الإلهيّان وعلاقتهما بالاختيار البشري، ثمّ الصفات الإلهية والإبداعات البشرية الحديثة، بحث البداء، والنظام الكوني الأحسن، وفلسفة خلق العالم والإنسان، وفلسفة خلق الشيطان، وتبرير الشرور في العالم).

الباب الثالث: معرفة الدين :

البحث السابع: حقيقة الدين.

البحث الثامن : حقيقة التجربة الدینیّة.

البحث التاسع : المطلوب من الدين.

البحث العاشر: منشأ الدين.

البحث الحادي عشر : الإيمان الديني.

البحث الثاني عشر : التعددية الدینیّة.

الباب الرابع: النبوة:

البحث الثالث عشر : النبوّة العامة .

البحث الرابع عشر : النبوّة الخاصة .

البحث الخامس عشر : إعجاز القرآن .

البحث السادس عشر : القرآن وثقافة العصر.

البحث السابع عشر : ختم النبوّة.

الباب الخامس: الإمامة :

ص: 26

البحث الثامن عشر : الإمامة العامة (ماهية الإمامة وخصائصها، والنسبة بين الإمامة والديمقراطيّة، والصفات فوق البشريّة للإمام) .

البحث التاسع عشر : الإمامة الخاصة .

البحث العشرون المهدويّة.

الباب السادس: الإسلام :

البحث الحادي والعشرون: ماهية الإسلام ولغته.

البحث الثاني والعشرون: منهج فهم الإسلام (إثبات منهجية الاجتهاد، وإبطال تاريخية الفهم الديني).

البحث الثالث والعشرون: شمولية الإسلام (على الصعيد النظري، والخُلُقي، والسلوكي).

البحث الرابع والعشرون: الإسلام والمتطلبات الدنيوية (إبطال العلمانية، وإثبات الأيديولوجيا الإسلاميّة والحكومة الولائيّة ).

البحث الخامس والعشرون: جوهر الإسلام وصدفه .

البحث السادس والعشرون: الإسلام والعقل والعقلانية.

البحث السابع والعشرون: الإسلام والغرب الحداثي (نسبة عناصر الحداثة وما بعد الحداثة مع الإسلام).

البحث الثامن والعشرون: الإسلام والعلوم الحديثة (الطبيعية والإنسانية).

البحث التاسع والعشرون: العلم الدينيّ .

ص: 27

الباب السابع: المعاد.

البحث الثلاثون: المعاد الجسماني والروحانيّ.

البحث الحادي والثلاثون: الرجعة.

البحث الثاني والثلاثون: إبطال التناسخ.

البحث الثالث والثلاثون عالم البرزخ والقيامة.

4/1. الفرق بين الكلام الإسلامي والعلوم المماثلة

علم الكلام الإسلامي - كما تبيّن ممّا سبق - علم يهدف إلى تبيين المعتقدات الدینیّة وإثباتها والدفاع عنها. وتُعدّ فلسفة الدين وأنثروبولوجيا الدين، وعلم نفس الأديان، و علم اجتماع الدين وأخريات نأتي على ذكرها من العلوم المماثلة لعلم الكلام. وسنقف فيما يلي على تعاريف هذه العلوم لتتضح نقاط افتراقها عن علم الكلام.

1/4/1. علم الأديان المقارن:

علم الأديان المقارن(1) - أو قد يسمّى أيضاً بتاريخ الأديان(2) - علم حديث ظهر في الغرب، ويتمتع بحيوية وازدهار بالغين ودائمين وهو - كغالبية العلوم الأخرى - وليد عصر التنوير، أو على نحو الدقة أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.

وقد أشار عالم الأديان المعاصر والاجتماعي الشهير يواخيم واخ(3) (1955م) - في كتابه «الدراسة المقارنة للأديان» الصادر بعد وفاته - إلى تاريخ علم الأديان، ووضعه حالاً ومستقبلاً بقوله:

ص: 28


1- Comparative Study of Religion.
2- History of Religions.
3- يواخيم واخ (1898) Joachim Wach-1955م) عالم اجتماع وأديان ألمانيّ، أكّد في أبحاثه على الفصل بين حقلي تاريخ الأديان وفلسفة الدين. [م]

«لن يتصرّم هذا القرن دون أن نشهد تأسيس علم متكامل ومتناسق، نجد أجزاءه اليوم مبعثرة ومتناثرة. علم لم يكن له وجود في القرون الماضية، ولا نملك له تعريفاً واضحاً بعد ، علم لعله يسمّى - لأوّل مرّة - بعلم الأديان (1)»(2).

هذا، ويمكن اقتفاء جذور لعلم الأديان المقارن في تراث عالم اللسانيات الألماني ماكس مولر(3) (1900م)؛ حيث كان لإلمامه باللغات الهنديّة والأوروبية، وكذلك لمنهجه المقارن في فقه اللغة، وتطبيقه له في علم الأديان، ودعمه الصريح لهذا الحقل كفرع علمي طيلة حياته، دور كبير في التمهيد لإيجاد الكرسي الجامعي لهذا العلم في جامعات أوروبا الرائدة وقتذاك(4).

2/4/1 .فلسفة الدين:

فلسفة الدين تعني التفكير الفلسفي في الدين ولو نظرنا إليها كوسيلة للدفاع العقلي والفلسفي عن المعتقدات الدینیّة، فهي - في هذه الحالة - استمرار لمسيرة الإلهيّات الطبيعية (العقليّة) المتمايزة أصلاً عن الإلهيّات الوحيانية، ومكملة لدورها، وغايتها إثبات وجود الله عبر البراهين العقليّة. أما اليوم فلا تُطلق فلسفة الدين إلا على التفكير الفلسفي والعقلاني حول الدين، ولا يمكن عدها وسيلة لتعليم الدين. بناءاً على ذلك، يمكن للملحدين واللاأدريين - كما للمتدينين - مزاولة التفكير الفلسفيّ حول الدين وعليه فإنّ فلسفة الدين فرع من الفلسفة، تُدرس فيه المفاهيم والأنظمة العقيديّة الدینیّة، والظواهر الأصيلة للتجربة الدینیّة، والمناسك العبادية،

ص: 29


1- Science of Religions .
2- مجلّة كيهان الثقافية (باللغة الفارسية)، الكاتب همايون همتي.
3- فريدريك ماكس مولر (1823 Friedrich Max Müller-1900م) : عالم ألماني اهتم بصفة خاصة باللغة السنسكريتية الهندية القديمة. أسهم في الدراسة المقارنة في مجالات اللغة والدين وعلم الأساطير [م] .
4- مجلة الدراسات الدینیّة(دين پژوهي) العدد الأوّل، طهران، معهد العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية،الكاتب: ميرتشا ،إلياده ص134 .

والأسس الفكرية التي تبتني عليها هذه الأنظمة الاعتقادية(1). وأهم ما يبحث في فلسفة الدين بالمنهج العقلي: تعريف الدين، ومنشأ الدين، وبراهين إثبات وجود الله، والتعدّديّة الدینیّة، والشبهات المثارة حول الشرور، والصفات الإلهية، والصلة بين العلم والدين، ثمّ الأخلاق والدين، ولغة الدين.

3/4/1. أنثروبولوجيا الدين:

تمتد جذور المنحى الأنثروبولوجي في دراسة الدين كحقل معرفي ممنهج إلى أعماق الثقافة الغربية، وتعود الدراسات الأولى له إلى أعمال المؤرّخين الأنثروبولوجيين الإغريق وأسلافهم الرومان. وقد لعبت النزعة الاجتماعية التكاملية والبيولوجية (الحيوية) في القرن التاسع عشر دوراً فعّالاً في النظريات الأنثروبولوجية حول الدين؛ فقد كان الأنثروبولجي الإنجليزي تايلور(2) (1917م) من الأوئل في استخدام المفاهيم التكاملية في الأبحاث الدینیّة، ويعد مؤسساً لأنثروبولجيا الدين، فقد وجد في الآداب والتقاليد والعقائد العائدة للثقافات الإنسانية القديمة شواهد تدلّ على المرحلة البدائية للأديان، وقد ذهب إلى أنّ أوّل مرحلة من الدين تمثلت في الإيمان بالأرواح التي لا تختص بالبشر ، بل توجد في جميع الكائنات الطبيعية وغيرها. وقد كان لأمثال الأنثروبولجيّين البريطانييّن سميث (3) (1894م) وماريت(4) (1943م) إسهامات ودراسات في هذا المجال ايضاً (5).

ص: 30


1- فلسفة الدين [النسخة المترجمة للفارسية]، جون هيك ص 13-12 .
2- إدوارد بيرنت تايلور (1917 (1832) Edward Burnett Tylor : عالم بريطاني اشتهر بنظرية التطوّر الثقافي، ويعد من المؤسسين لعلم الأنثروبولوجيا الاجتماعية [م] .
3- ولیام روبرتسون سمیت 1846) William Robertson Smith-1894م): مستشرق أسكتلندي، وأستاذ اللاهوت ، ووزير الكنيسة الحرّة في اسكتلندا. اشتهر بتأليفاته التأسيسية في الدراسة المقارنة للدين. [م]
4- روبرت رانولف ماريت 1866) Robert Ranulph Marett-1943م): عالم أجناس بريطاني، من روّاد المدرسة التطوّرية البريطانيّة، ركّز عمله على أنثروبولوجيا الدين، وعمل على تطوير ونقد نظريات تايلور. [م]
5- المصدر السابق، ص 137.

4/4/1 علم نفس الأديان:

نشأ علم نفس الأديان - كما هو مشهور اليوم - تزامناً مع ظهور علم الأديان المقارن، وتبلور علمين آخرين لم تربطهما في أوّل الأمر أيّ صلة بالدين؛ وهما: علم نفس الأعماق(1) الذي ظهر في العلوم الطبيّة كمحاولة أولى في البحث عن نظرية حول العقل الباطن لعلاج الأمراض النفسية، وعلم الفسيولوجيا النفسية (2) الذي تشعب عن الفسيولوجيا كمحاولة لاستبدال النظام والمرتكز الفلسفي في نظرية الإدراك بالتجربة العينيّة. ورغم العلم الزاخر والمنهج الشامل الذي كانت تتحلّى به أعمال روّاد علم نفس الأديان إلا أنّ الجذور المتباينة للعلمين قيدت كلا منهما بمنهج متعارض مع الآخر، وقد أدّى ذلك إلى إيجاد مناهج حديثة في علم نفس الأديان(3).

5/4/1 . علم اجتماع الدين:

تعود الدراسات الأولى حول الصلة بين الدين والمجتمع إلى عهد الإغريق لكنّ ابن خلدون (4) (808ه) هو أوّل من تطرّق إلى دور الدين في النظم الاجتماعية والسياسية، كما أبدى بعض العلماء المسيحيين أيضاً عناية بالدور المحوري للدين في المجتمع ، وردود الفعل الدینیّة تجاه القوّة والنفوذ الكبير للمظاهر الدنيوية وقد درس الفلاسفة الجدد البعيدون عن الرؤى والميول الدینیّة هذه الصلة من زاوية دنيوية بحتة؛ كما دلّت عليه نظریات كونت(5) (1859م) وسبنسر(6) (1903م).

ص: 31


1- Depth Psychology .
2- Psychophysiology ، وقد يطلق عليه بالعربية أيضاً: علم الطبيعة النفسية. [م]
3- مجلة دین پژوهي، العدد الثاني طهران، پژوهشگاه علوم انساني و مطالعات فرهنگي، 1373 ه ش، ص 253.
4- عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي (732-808ه/1332-1382م) مؤرّخ عربي تونسي المولد وأندلسي الأصل ومغربي الثقافة، يعدّه البعض مؤسس علم الاجتماع الحديث. [م]
5- أوغست كونت (1794 Auguste Comte-1859م) : عالم اجتماع وفيلسوف اجتماعي فرنسي، أعطى لعلم الاجتماع الاسم الذي يعرف به الآن اتسمت كتاباته بجانب كبير من التأمل الفلسفي، ويعدّ المؤسس للفلسفة الوضعية. [م]
6- هربرت سبنسر 1820) Herbert Spencer-1903م): فيلسوف بريطاني، يعدّ منمؤسسي علم الاجتماع الحديث. [م]

هذا، وكانت أبحاث علم اجتماع الدين تعدّ جانباً من علم اجتماع الثقافة والوعي كما صرح بذلك ماركس (1)(1883م) حين جعل الوعي الإنساني رهيناً بطبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعيّة.

ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى الصلة الوثيقة بين ظهور الدراسات الاجتماعية حول الدين في العصر الجديد على يد ،بارسونز و دوغلاس وطوماس لوكمان، وظهور الرأسمالية وتعدّد الثقافات والتساهل الديني والحكومة الليبرالية. وعليه : لا يمكننا عد هذا العلم أسلوباً موضوعياً لدراسة الدين والمجتمع، بل على العكس تماماً؛ فهو منتوج ثقافي صُنّع في معمل التطوّرات التاريخية للفكر الغربي، أرغم الباحثين على التخلّي عن المعايير والقيم التي يتبناها ذلك الدين أو المجتمع المزمع دراسته. وبالتالي: فإنّ علم اجتماع الدين هو حصيلة لإحدى تعلّقاته، وهذا يعني علمنة المؤسسات والأفكار الدینیّة وحصرها بالأطر الدنيوية.

5/1 . ضرورة التعرّف على علم الكلام :

تتضح ضرورة التعرّف على علم الكلام للمتدينين مع كل ما يشمله من قضايا قديمة ومستحدثة من خلال الوقوف على المبرّرات التالية :

1. ينقسم التديّن في إحدى التصنيفات العامة له إلى نوعين: التديّن المبرّر، والتدين المبرهن. أمّا التديّن المستدل والمبرهَن فهو تدين قائم على أساس البرهان والمنطق، بخلاف التديّن المبرّر الذي هو وليد مبررات وأسباب عائلية وثقافية واجتماعية وغيرها، والذي قد تتغيّر أحواله مع كلّ تغيّر يطرأ على هذه المبرّرات والأسباب، فيصاب تديّن الناس على أثر ذلك بالقبض والبسط ، أو الظهور والكمون. ومن هنا،

ص: 32


1- کارل هانريك ماركس (1818 Karl Heinrich Marxx-1883م): فيلسوف واقتصادي وعالم اجتماع ألماني لعبت أفكاره دوراً فعّالاً في تأسيس علم الاجتماع، أسّس نظرية الشيوعية العلمية بالاشتراك مع فريدريك إنجلز، وهو من تُنسب إليه الماركسية.[م]

يتحتّم على المتدينين أن ينفتحوا على معتقداتهم الدینیّة التي تمثل جذور شجرة الإيمان والتدين عندهم من بوّابة المعارف المبرهنة المستدلّة؛ كي لا تتزلزل أو تنحرف عن الحقيقة. وما علم الكلام - حسبما تقدّم من تعريفه - إلا تمهيد لهذا اللون من التدين. وبطبيعة الحال، لا ينبغي للمتدينين أن يغفلوا عن الدور المركزي الذي يلعبه العمل الصالح في تقوية الإيمان، فيظنوا أن المعرفة الدینیّة المبرهنة كافية في ظهور التديّن واستمراريته. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ تقليد الفقيه الأعلم في الأحكام الشرعية يصنّف ضمن التدين المبرهن؛ لأنّ تبعيّة الجاهل للعالم والمتخصص فعل يستند إلى أدلّة ومبادئ عقليّة؛ بخلاف التقليد الأعمى والأخرق الذي يمارسه الجاهل تجاه جاهل آخر، فهو يفتقر إلى أي دعم عقليّ مبرهن. وإن رجوع التلميذ والطالب إلى المعلم والأستاذ، والمريض إلى الطبيب، وغير الفقيه إلى الفقيه الجامع لشرائط الفتوى كلّه يقع ضمن دائرة التقليد العقلاني، خلافاً لتقليد المشركين آباءهم وأجدادهم؛ فهو تقليد أعمى.

2 .يُصنّف المتدينون أيضاً إلى طائفتين : الطائفة الأولى : مجموعة المتدينين القلقين والحريصين على الدين، وهم الذين يشعرون بالمسؤولية تجاه ما يدور حولهم، ويدافعون عن العقيدة والدين إلى آخر لحظة من حياتهم، فيتألمون إذا ما ضعف دور الدين أو غاب عن مسرح المجتمع. وعلى هذا الصنف من المتدينين أن يتفحّص أوجه الخلل، وأن يبادر لدرء الشبهات، وينفتح على البحوث الكلامية والأصول المعرفية والعقائديّة؛ ليذبّ بعد ذلك عن حياض الإيمان، وأسسه في المجتمع. ناهيك عما يستلزمه هذا التوجّه من وعي للتحدّيات الفكرية والسلوكية التي يعاني منها الجيل المعاصر، والدور الاجتماعي الذي يضطلع به. أما الطائفة الثانية: فهم أولئك المتدينون الذين لا يعيرون اهتماماً بالمعضلات والتحدّيات الدینیّة أو الثقافية، ولا يكترثون بواجباتهم في إيجاد حلول لها.

ولا يخفى أنّ كلّ مؤمن مطالب - على أدنى تقدير - بالحفاظ على إيمان أبنائه، والحرص على الوقوف في وجه التحدّيات العقائدية التي تعترض طريقهم، ومن ثمّ

ص: 33

الدفاع عن المعتقد الدينيّ. إنّ عالمنا الذي نعيش فيه اليوم متخم بالشبهات الفلسفية والاجتماعية والثقافية التي تكالبت على الدين وقيم المجتمع الإسلامي وتغلغلت فيه من جهات وقنوات شتى، وينبغي العلم بأننا مهما أغفلنا انتماءنا الديني أو تدين غيرنا فإن عدوّنا الثقافي ليس بغافل .

3. تصنع البحوث العقائدية والكلامية للإنسان نظاماً وأنموذجاً فكرياً يترك أثره - حسبما يرى فلاسفة العلوم الطبيعية والاجتماعية المعاصرين - على جميع مناحي الرؤية الكونيّة والطبيعية للإنسان. هذا، ناهيك عن أثرها على الفكر والسلوك الفقهي والقانوني والأخلاقي. وهنا نتساءل: هل يمكن الالتزام بالأحكام الفقهية والمبادئ الأخلاقية الدینیّة بمعزل عن الإيمان بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ، ومن دون معرفته، والاعتقاد بالحياة بعد الموت، ومعرفة أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ عالم بالمصالح والمفاسد الحقيقية للأمور؟!

وعليه الذهاب إلى أنّ عالم الطبيعة خاضع لنظام ميكانيكي لا شأن لتدبير الله فيه، ليعترف - في الحد الأدنى - بكونه خالقاً ليس أكثر، أو ما عبّروا عنه بمصطلح إله الفراغات (1) لم يكن إلا بسبب رؤية وموقف معين تبلور في ثنايا البحوث والدراسات الطبيعية (2).

ص: 34


1- بالإنجليزية: God of the gaps. [م]
2- للمزيد راجع: العلم والدین، ایان باربور .

2 .معقوليّة القضايا الدینیّة وقابليتها للإثبات

1/2 .المبادئ التصوّريّة في المسألة:

قبل بضع سنين، كنتُ ضيفاً في رحلة جبلية، وعند عودتي من نزهة السير على الأقدام بمفردي، وجدتُ الجميع منهمكين في نزاع فلسفيّ عنيف، تمحور موضوعه حول سنجاب! لقد افترضوا أنّ سنجاباً كان على طرف من جذع شجرة، وكان شخص في مقابله على الطرف الآخر. فكلما حاول ذلك الإنسان أن يدور حول جذع الشجرة في حركة سريعة لينظر إلى السنجاب، وكلّما أسرع في دورانه، كان السنجاب يدور معه في سرعة تضاهي حركة الإنسان، فيدور معه حول جذع الشجرة في الاتجاه نفسه، بحيث يبقى الجذع قائماً بينهما على الدوام، ولا ينجح ذلك الشخص في رؤية .السنجاب والسؤال الميتافيزيقي المتبلور من هذه الحالة هو: هل دار الإنسان حول السنجاب حقّاً، أم لا؟ لا شكّ في أنّه دار حول الشجرة، وأنّ السنجاب كان ملتصقاً بها؛ لكن هل دار هذا الشخص حول السنجاب أيضاً؟ لم يفض النقاش في تلك الفترة التي كان يقضي فيها المخيّمون أوقات فراغ مفتوحة إلى نتيجة. كان الجميع قد شارك في الإدلاء برأيه والإصرار عليه، وكان المتنازعون منقسمين بالتساوي. وعند ورودي، لم يكن مستغرباً من كلا الطرفين أن يحاولوا استقطابي لأنحاز إلى أحدهما، فنشكّل بذلك أغلبيّة. أمّا الذي كان يشغل ذهنيّ وقتئذ هو المثل المدرسي الذي يقول: متى ما واجهت تضاداً فضع مائزاً. وعندئذٍ وجدت وجه التمايز، وقلت لهم: البحث عن الرأي الصائب رهين بتعريف الدوران»، وتحديد المقصود منه؛ فإذا كان المقصود من الدوران أن يتحوّل موقع الشخص من شمال السنجاب إلى شرقه، ثمّ إلى جنوبه، فغربه، ومنه إلى الشمال ثانيةً، ففي هذه الحالة: ما من شك في أنّ الرجل كان يدور حول السنجاب. أما لو كان المقصود أن يقف المرؤ أمام السنجاب، ثمّ يتحوّل إلى

ص: 35

يمينه، فشماله، ثمّ يتموضع أمامه ثانية، فلا يخفى أنه لم يتمكن من الدوران حول السنجاب؛ لأنّ السنجاب بدورانه الدائم جعل بطنه نحو الرجل دائماً، وأخفى ظهره عنه! ضعوا هذا التمايز في الحسبان، ولن يبقى مجال للنزاع أكثر من ذلك(1).

نقلتُ هذه الأقصوصة عن وليام جيمس (2) (1910م) تمهيداً للبحث عن إمكانية إثبات الدعاوى الدینیّة، ولأقرّب قضيّة قابليّة إثبات القضايا الدینیّة إلى الأذهان.

لقد أصيب بعض أنصار التيار التنويري الإيراني في عصرنا بشيء من الشكّ والترديد في القضايا الدینیّة، تأثراً بالغرب، وما شهده من تطوّرات معرفية هناك، لا سيّما من أصحاب النزعة الشكيّة (3) الحديثة. ويهدف هذا البحث إلى البرهنة على معقوليّة القضايا الدینیّة، وقابليتها للإثبات. لقد كان التنويريون الإيرانييون - منذ عهد القاجار - أتباعاً ومقلّدين لفلاسفة الغرب، على الرغم من ظهورهم بزي العلماء والمفكرين، وكان منهجهم العلمي يفتقد الدقة والعمق الفكري ومن هنا، لم يلعبوا أيّ دو دور فاعل على صعيد هذا الموضوع سوى وقوفهم كمتفرجين وداعمين لما يردّده الآخر في نفي قابلية القضايا الدینیّة للإثبات، وقد شكّل هذا المنحى لهذا التيار المتبجح بآرائه في إيران خللاً كبيراً في فكره.

وهنا، نشير إلى أن مشكلة «قابلية إثبات القضايا الدینیّة» قضية تتصدّر أهمّ موضوعات الكلام الجديد، وفلسفة الدين ونظريّة المعرفة الدینیّة. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا البحث :هو هل بإمكاننا الحديث عن صدق العقائد الدینیّة، وتبريرها بأساليب منطقيّة، وإثبات حقيقتها ومعقوليتها في حال اعتبار المعرفة عقيدة صادقة مبررة؟

ص: 36


1- وليام جيمس البراغماتية (ترجم إلى الفارسيّة :بعنوان پراگماتیسم) ترجمة عبدالکریم رشیدیان، منشورات آموزش انقلاب إسلامي، طهران، 1370 ھ ش ، ص 39-40.
2- ویلیام جیمس (1842 William James-1910م): فيلسوف وعالم نفس ،أمريكي، ألف كتباً مؤثرة في علم النفس الحديث وعلم النفس التربوي، وعلم النفس الديني والتصوّف والفلسفة البراغماتية. [م]
3- [م] .Skepticism

سوف نتناول البحث والتحليل حول هذا الموضوع ضمن ثلاثة محاور هي: المبادئ التصوّريّة، والنظريات والنظرية المختارة.

المبادئ التصوّريّة في المسألة:

1. الدين: ويُراد منه المسلك أو النظام الذي يتسم بالصفات التالية: أولاً: أن يكون سماويّاً إلهيّاً ؛ لا دنيوياً وضعيّاً من صنع البشر . ثانياً : أن يمثل رسالة إلهيّة مشتملة على التعاليم الوصفية والمعياريّة، وأن يكون في متناول أيدي الناس. ثالثاً: أن يحمل نصاً سماويّاً مقدساً بعيداً عن التحريف بزيادة أو نقصان. رابعاً: أن يكون هادياً للبشر، ومؤمّناً له السعادة الأخروية. وبناءً على هذه المبادئ فإنّ الدين هو تعاليم وصفية ومعياريّة أنزلها الله لهداية الإنسان، ورسالته دون أيّ ،تحريف، موجودة وفي متناول أيدي الناس ولا ينطبق هذا التعريف في عصرنا إلا على دين الإسلام.

2. القضايا الدینیّة تنقسم القضايا الدینیّة إلى قسمين هما: القضايا الوصفية (1) والقضايا المعياريّة(2)؛ أي: الإخبارية والإنشائية . أما القضايا الإخبارية فهي ما تحتمل الصدق أو الكذب؛ لأنها من سنخ العلوم المعرفية. وأما القضايا الإنشائية فهي - باعتبار دلالتها المطابقيّة - لا تحكي عن الواقع ونفس الأمر الخارجيّ؛ رغم إمكانية وصفها بالكذب أو الصدق - باعتبار المصدر أو الغاية - . والقضايا الإخبارية في الإسلام : القضايا العقائديّة، والتأريخيّة، والطبيعية، والعرفانية، والأخبار الغيبية، والسنن الإلهيّة المشروطة . والقضايا الإنشائية هي القضايا الأخلاقية والقانونية والفقهية.

3 . قابليّة الإثبات ولمصطلح «قابليّة الإثبات» أكثر من معنى في فلسفة الدين؛ إذ يُراد بها - أحياناً - «القبول والتصديق العام» ، أو «تطابق الفكرة مع الواقع». وبناءً على الرؤية الأولى الشهيرة ب-«العقلانية القصوى»(3) فلا يمكن بلوغ مرتبة الصدق في

ص: 37


1- Descriptive.
2- Normative.
3- Strong Rationalism.

الاعتقاد إلا في حال اقتناع جميع العقلاء، كما لا يُركن للأدلة والبراهين على العقيدة الدينيّة إلّا إذا أذعن بها العقلاء كافّةً. وقد مال البعض الآخر من الكتاب في قبال هذا التعريف إلى القول ب- «الإثبات المرتهن بالفرد»(1). وحسب اعتقادي فإنّ كلا المعنيين (التصديق العام، والتصديق الشخصي) مرفوض ؛ لأنهما يخلطان بين الصدق الخبري والصدق المخبريّ(2). وتوضيح ذلك : أنّ المعنى السائد والمشهور للصدق هو: «تطابق الفكرة مع الواقع»، ولا يخفى أنّ «المعقوليّة» و «قابليّة الإثبات» إنما تبحث في إطار هذا التعريف؛ سواء آمن بمضمون القضيّة أحد أم لم يؤمن. أما التصديق العام أو الشخصيّ فهو عائد إلى الصدق المخبري الذي يحكي عن «مطابقة القضية لاعتقاد المخبِرين»، وهذا النوع من الصدق لا محلّ له في أروقة العلوم العقلية وعلم الكلام، ولا يدل على الصدق الخبري الذي يعني مطابقة الفكرة للواقع.

2/2 .معقوليّة القضايا الإسلامیّة الوصفية:

نستنتج من الأبحاث السابقة أن قضايا الدين الإسلامي تنقسم إلى وصفية ومعيارية، والوصفية - التي تحكي عن الواقع - تنقسم بدورها إلى ستة أقسام:

1 . القضايا الفلسفيّة والعقليّة ؛ كما في قضيّة: «الله موجود».

2 . القضايا الطبيعية والتجريبية ؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهُ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ (3).

3 . القضايا التاريخية والنقليّة؛ كما في قصص الأنبياء والأمم.

4 . القضايا العرفانية والشهوديّة؛ كقوله تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانَا) (4).

ص: 38


1- العقل والإيمان الديني، مايكل بطرسون وآخرون، ص 72 و 131 [المصدر بالفارسية].
2- مختصر المعاني سعد الدين التفتازاني منشورات مكتبة إسلامي، من دون تاريخ، ص12.
3- سورة النمل 88 .
4- سورة الأنفال 29 .

5 . القضايا الكونيّة والسنن الإلهيّة؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ (1)، أو : وَمَن يَتَّقِ الله يُجْعَل لَّهُ خَرَجًا) (2).

6 . الإخبار الغيبي للقرآن الكريم.

وهنا نشير إلى أنّ القسمَين: الخامس والسادس من القضايا الوصفية يمكن تحويلهما إلى قضايا عقائديّة أو علميّة أو تاريخيّة أو عرفانية، وتثبت بتحققها في الخارج.

هذا، وتستند قابلية الإثبات في القضايا المعيارية - أي: القضايا الأخلاقية والفقهية والحقوقية (القانونية) - إما على بديهيات العقل العملي (حسن العدل وقبح الظلم)، وإما على معقولية القضايا الوصفية. توضيح ذلك: أنّ بعض القضايا الإنشائية والمعيارية الدینیّة تحظى بالصدقيّة من باب أنها ذات قضيّة حُسن العدل وقُبح الظلم، أو من مصاديقها. وتثبت صدقية البعض الآخر من القضايا المعيارية من خلال إثبات القضايا العقائديّة، وحقّانيّة الدين الإسلامي. والمراد من صدقية القضايا الإنشائية: مطابقتها لكمال الإنسان وسعادته؛ وهو ما يثبت بدوره عن طريق حُسن العدل وقُبح الظلم، أو من خلال إثبات حقانية الدين الإسلامي، وحقانية كلام الله عَزَّ وَجَلَّ. وحين يقال بصدقية قضايا؛ مثل: «العدل والإحسان حسنٌ»، و«الظلم وغصب مال الغير قبيحٌ» فإنّ المقصود من ذلك أن تحقق العدل والإحسان، وكذا اجتناب الظلم وغصب أموال الناس موصل إلى نيل الكمال والسعادة وكذا عندما يُقال بصدقيّة قضايا معياريّة؛ مثل: «صلاة الفجر ركعتان»، أو«تجب مراعاة حقوق الجار»، أو «الحجاب واجبٌ» ، وإنّ قابليّة إثبات حقانيّة هذه القضايا أن كلّ هذه القضايا تتأتى من خلال إثبات انتمائها إلى كلام الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وكلامه حكيم وحق. وعليه:

تكون كلّ القضايا المذكورة آنفاً حكيمة وحقة أيضاً.

ص: 39


1- سورة الطلاق 3 .
2- سورة الطلاق 2.

ويمكن إثبات القضايا الوصفية من خلال توظيف المعايير الفلسفية والعلمية والتاريخيّة والعرفانية؛ كما سيأتي بيانه أدناه.

3/2 .معقوليّة القضايا العقليّة الدينيّة :

تتصدّر القضايا العقليّة والفلسفيّة قائمة أهم القضايا الأساسية الدینیّة، وهي قضايا يستتبع معقوليتها وقابليتها للتبرير - علاوة على إثباتها وصدقها وقابليتها للبرهنة - معقولية سائر القضايا الدینیّة، بما يعم الوصفية والمعيارية. توضيح ذلك: أنّ بالإمكان تصنيف تعاليم الدين الإسلامي إلى صنفين : تعاليم البنية التحتية، وتعاليم البنية الفوقية. أمّا تعاليم البنية الفوقية فيلزم من واقعيّتها والقبول بها واقعية تعاليم البنية التحتية والقبول بها أيضاً من أمثلة ذلك : الإيمان بوجود الله وعلمه، وقدرته، وحكمته، وحاجة البشر الماسة إلى الدين والنبوة، والحقانية، والاعتقاد بوحيانية القرآن وكونه منزلاً من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فكلّ ذلك ينتمي إلى تعاليم البنية التحيّة. أما حقانية سائر التعاليم الإسلاميّة؛ مثل : إثبات باقي الصفات الإلهيّة الفعلية، وقضايا المعاد، والتعاليم الأخلاقية والفقهيّة فهي مبتنية على تعاليم البنية التحتيّة آنفة الذكر. وهذا يعني أننا لو أثبتنا قضايا البنية التحتيّة الإسلامیّة فقد ثبتت بذلك سائر التعاليم الدینیّة.

أمّا معيار الكشف وطبيعته في المعرفة العقلية، وكذا تمييز المعارف الصادقة والحقيقيّة من الكاذبة وغير الحقيقية فيعد من أهم القضايا المعرفيّة والمنطقيّة من هنا، أسس فلاسفة نظرية المعرفة في هذا البحث - الذي درسوه تحت عنوان قيمة المعرفة - لنظريتين أساسيتين هما: البنيوية، والاتساقية.

النزعة البنيوية (1) هي أقدم النظريات في هذا المجال وأرسخها، وقد دافع عنها أو تبنّاها فلاسفة اليونان؛ مثل: أفلاطون (348 ق.م)، وأرسطو (322 ق.م) ، وكذا فلاسفة مسلمون؛ مثل: ابن سينا (428ه) ، والسهروردي (587ه)، وصدر الدین

ص: 40


1- Foundationalism.

الشيرازي (1050ه)، وبعض مشاهير فلاسفة المعرفة من الغربيين في العصر الراهن؛ مثل بلانتينغا (1) وسوينبرن(2). ولعلّ أشهر تقرير لفكرة البنيوية يتلخص في أنّ المعتقدات والمعارف الحصوليّة للإنسان تنقسم إلى قسمين: معتقدات أساسية (3) وأخرى مستنتجة (4)، أو كما يعبر المناطقة: معارف بديهية وأخرى نظرية (5). والمعرفة البديهية هي التي لا تحتاج في تصديقها إلى استدلال؛ فتصوّر الموضوع والمحمول فيها يكفي لتصديق القضية بخلاف المعرفة النظرية التي هي قضية يفتقر التصديق بها إلى استدلال، ولا يكفي للتصديق بمضمونها مجرّد تصوّر الموضوع .والمحمول أمّا البديهيّات والمعارف الأساسية فعلى ضربين:

.1 البديهيات الأوّليّة : وهي ليست مستغنية عن الاستدلال فحسب، بل يستحيل الاستدلال عليها من أمثلتها مبدأ استحالة التناقض، أو امتناع اجتماع النقيضين، أو استحالة اجتماع الوجود والعدم. فبمجرّد تصوّر النقيضين، وتصوّر امتناع اجتماعهما يحصل التصديق وبداهة هذه القضية تعني: استغناء القضية عن الاستدلال والبرهنة لإثباتها، بل امتناع الاستدلال عليها؛ لأنّ جميع الأدلّة والبراهين سوف تعود - لا محالة - إلى مبدأ امتناع التناقض في نهاية المطاف. من هنا، تجد المنكرين لهذا المبدأ أيضاً يستخدمونه حتى عندما يمارسون إنكاره أو التشكيك فيه؛ لأنّ الرافض لاستحالة اجتماع النقيضين لا يمكن له أن يكون منكراً وشاكاً

ص: 41


1- ألفن بلانتينغا Alvin Plantinga : فيلسوف دين أمريكي معاصر ، ولد في ولاية مشيغان عام 1932م. كرّس جهوده في إثبات الدفاع عن العقيدة بوجود الله كأساس للإيمان، وتوسّع في نظرية المعرفة الدینیّة. يشغل حالياً منصب مدير مركز فلسفة الدين في جامعة نوتردام الكاثوليكية الأمريكية. [م]
2- ريتشارد سوینبرن Richard Swinburne : فيلسوف دين إنجليزي ،معاصر يحاضر في جامعة أكسفورد البريطانية من مواليد العام 1934م. [م]
3- Basic Beliefs.
4- Inferred Beliefs.
5- المنطقيّات الفارابي، ج 1، ص 19؛ شرح الإشارات والتنبيهات ابن سينا ونصير الدين الطوسي، ج1، ص 229213 شرح المواقف، ج 2 ، ص 36-41 حكمة الإشراق، ص 39 و 118-123 المنهج الجديد في تعليم الفلسفة محمّد تقي مصباح اليزدي، ج1، ص 211-212 .

فيه، ثمّ غير منكر وغير شاكٌ فيه في الوقت ذاته ! وذلك لأنه يقرّ في نفسه بامتناع اجتماع النقيضين.

2 .البديهيات الثانوية: وهي قضايا يتطلب التصديق بها توظيف أدوات أخرى؛ كالحس والعقل. وبعبارة أخرى البديهيات الثانوية غنيّة عن الاستدلال، لكنها ليست مستحيلة الاستدلال. وسمّيت ب- «الثانوية» لأنّ تصوّر الموضوع والمحمول لا يكفي لتصديقها، بل يلزم وجود عنصر آخر، بيد أن استخدام هذا العنصر لا يتوقف على تعمل عقليّ، أو العثور على برهان أو حدّ أوسط.

والبديهيات الثانوية بدورها تتكوّن من:

1 . الحسّيّات وهذا الصنف من البديهيات قضايا تستشعر بالحواس الظاهرة؛ مثل: «الجوّ مُشمِس» . التصديق بهذه القضايا وكذا الحكم فيها يفتقر إلى أعضاء حسيّة، علاوةً على أنّ إثبات وجود المحسوسات في الخارج، وتطابق الصور الحسّية المدرَكة مع الواقع الخارجيّ أمر يستدعي برهنة عقليّة؛ فلقائل أن يقول: لعلّ الصور الحسّية المدرَكة نتائج لنفس الإنسان، ولا دلالة لها على الواقع المحسوس في الخارج! لكنّ العقل المستدلّ يبرهن على ذلك المدعى بالقول: لو لم يكن الواقع الخارجيّ مصدرَ الصور المدركة، وكانت من صنع النفس ، لوَجَب أن يُدرِك الإنسانُ تلك الصور في كل زمان و مكان وعلى كل حال؛ فالنفس والعلة في إيجاد هذه الصور - حسب الفرض موجودة، وطالما أننا لا نستحضر هذه الصور المدركة - كما ذكر - فإذن نستنتج أنّ الواقع المحسوس موجود في الخارج وهو مصدر لإدراك الصور الحسية في الذهن (1). السرّ في بداهة الحسيّات على رغم احتياجها إلى البرهان العقلي هو أنّ العقل البشري يبرهن تلقائياً على هذه المدركات ولا يستعين بالبحث. قد أخرج البعض عدداً من المحسوسات كالألوان والأصوات من مجموعة اليقينيات والبديهيات الثانوية مستدلا

ص: 42


1- التعليقات ابن سينا ص 68 و 88 و 148 نهاية الحكمة الطباطبائي المرحلة 11 الفصل 13، الأسفار الأربعة، صدر الدين الشيرازي، ج3، ص 498 .

بنسبيّة هذه المدركات والحال أنّ الألوان والأصوات هي حقائق نسبية ومتغيّرة تكويناً والإدراك الحسي المتغيّر كذلك تابع للواقع الذي يعكسه.

2 .الفطريات: هي قضايا أوّلاً لا يتم تصديقها بتصوّر الموضوع والمحمول فحسب بل تحتاج إلى برهان عقلي أيضاً؛ وثانياً البرهان العقلي قرين لهذه القضايا ولا يحتاج إلى الجهد العقلي وبعبارة أخرى يتولّد بتصوّر الموضوع والمحمول البرهان العقليّ؛ وثالثاً لاتحتاج هذه القضايا إلى آلة حسّ ظاهرة أو باطنة (1)؛ كما في مبدأ السببية (كلّ معلول أو ممكن محتاج إلى العلّة) ومبدأ الهوهوية (الشيء هو هو)، واستحالة ارتفاع النقيضين (ارتفاع النفي والإثبات معاً عن قضية واحدة ممتنع)، والحمل الأولي (الإنسان إنسان)، واستحالة الدور (توقف وجود «س» على «ص»، ووجود «ص» على «س» محال)، واستحالة تقدّم الشيء على نفسه (تقدّم وجود «س» على نفسه محال) كلّها قضايا فطريّة؛ لأنّ تصوّر الموضوع والمحمول يولّد البرهان العقلي، ومعه تصدق القضيّة. توضيح ذلك : أنّ كلّ هذه القضايا كانت مصاديق لاستحالة اجتماع النقيضين فإنّ تصوّر المعلول أو الممكن وتصوّر احتياجه إلى العلّة يظهر معها البرهان العقليّ القائل ب- «ان المعلول لو يكن يحتاج إلى علة فيستلزم ذلك اجتماع النقيضين؛ ولكن التالي باطل فالمقدّم مثله»، وعليه يتمّ تصديق أصل العلية. كما يتكوّن بعد تصوّر الموضوع والمحمول في أصل الهوهو البرهان القائل بأنّ كلّ شيء لو لم يكن هو هو، استلزمه اجتماع النقيضين، ولكنّ اجتماع النقيضين محال، فإذن كلّ شيء هو هو. وقد عدّ بعض المحققين هذا الأصل من البديهيات الأولية (2).

3 .الوجدانيات: هي قضايا تحصل بانعكاس العلم الحضوري في الذهن وتبدّله إلى علم حصولي ولا يحتاج إلى برهان عقليّ أو حواس ظاهريّة. بعبارة أخرى الوجدانيات علوم حصوليّة ناشئة عن علوم حضوريّة. لا يحتاج هذا السنخ من القضايا في مصدر

ص: 43


1- شرح الإشارات والتنبيهات ابن سينا، ج1، ص 289 .
2- لاحظ : نظرية بداهة مبدأ الهوهوية [بالفارسية: نظريه بداهت اصل هوهويت]، أحمد أحمدي.

الإنتزاع إلى برهان عقلي ولكنّه مدين إلى آلة العقل. والجدير بالذكر أنّ الوجدانيات تستند في تصوّر الموضوع والمحمول وكذلك في التصديق والحكم إلى العلم الحضوري كما في قولك: «أنا خائف»، أو «أنا جائع» أو «أنا أشعر بالحاجة».

كان المناطقة - في الماضي - يصنفون التجريبيّات والحدسيات والمتواترات في عرض الفطريات والحسيّات والوجدانيّات، فتكون كلّها من أقسام القضايا اليقينية، واستبدل مصطلح اليقينيات بالبديهيات فيما بعد. ولا يبعد أن تكون التجريبيّات والحدسيات والمتواترات من أقسام اليقينيات بالدقة المنطقية والمعرفية، علماً بأنّ اليقين المقصود هنا أعمّ من اليقين المنطقي أو العقلائي؛ ومعناه أنّ للعقلاء أن يستيقنوا بالقضايا التجريبية والمتواترة والحدسية عبر التجربة والأخبار المتواترة والحدس يقيناً عقلائياً، رغم أنّ هذا النوع يعتبره المنطق ظناً معتبراً مورثاً للاطمئنان. وعلى أيّ حال، فإنّ هذه القضايا ليست من البديهيات الثانوية، بل هي من سنخ القضايا النظرية؛ لأنها أوّلاً تحتاج في تصديقها إلى استدلال وثانياً لا يرافقها الاستدلال العقلي وثالثاً إنها محتاجة إلى جهد وعمل عقليّ. نتاج البحث هو أن ملاك تمييز المعارف والقضايا الصادقة عن القضايا الكاذبة في المجال الديني - العقليّ هو البداهة العقلية. وبناءاً عليه لإثبات وجود الله استدلّ العقلانيون إلى برهان الصدّيقين وبرهان الإمكان والوجوب وأصل العليّة وغيره وتمسكوا ببرهان حاجة البشر الاجتماعية إلى القانون لإثبات ضرورة بعثة الأنبياء. وهذا ما يثبت به معقولية القضايا العقليّة الدینیّة وهي البنية التحتية للمعارف الدينيّة وتثبت بها معقولية سائر المعارف الدینیّة.

4/2 .معقوليّة القضايا العرفانية الدینیّة :

تثبت القضايا العرفانية بمنهج العلم الحضوري والشهودي؛ ففيه يحضر وجود المعلوم واقعه الموضوعي عند العالم؛ فعلى سبيل المثال: قضيّة (أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ

ص: 44

الْقُلُوبُ) (1) قضية دينية عرفانيّة قابلة للإثبات عن طريق العلم الحضوري. توضيح ذلك : لا نشكّ في أنّ فرقاً ما يميّز بين «الشعور بالألم» و «تصوّر الألم»، أو بين «الإحساس الحبّ» و«تصوّر الحبّ»، أو بين «إدراك الجوع والعطش» و «تصوّر الجوع والعطش»؛ فمتعلَق الشعور بالألم والحبّ والجوع والعطش هو الواقع الموضوعي لتلك الأمور، في حين أنّ متعلَّق تصوّرها هو صورها ومفاهيمها الذهنية. وبالتالي: يمتلك الإنسان ضربين من الوعي والإدراك:

1. إدراك يحصل من خلال توسط الصور والمفاهيم الذهنية، ويحكي واقعاً خارجياً.

2 . إدراك يتحقق من دون توسط تلك الوسائط .

تسمّى المعرفة المستغنية عن الواسطة والتي يحضر فيها الوجود الواقعي للمعلوم عند العالم ب- «العلم الحضوري» ؛ كما في علمنا بأنفسنا وحالات أنفسنا وقواها مثل: الخوف، والحبّ، وما إلى ذلك. أما المعرفة الحاصلة بتوسط المفهوم أو الصورة الذهنية فیسمى ب- «العلم الحصولي» .

ومن هنا، يظهر أن العلم الحضوري معرفة مباشرة يدرك فيها الإنسانُ الوجود الواقعي للمعلوم. ويتميز العلم الحضوري بالنقاط التالية:

1 . الاتحاد الوجودي بين «الواقع المدرَك» أو «المعلوم»، وواقع «العلم»؛ في حين أنّ العلم الحصوليّ ينطوي على ثلاثة أمور؛ هي : العالِم والمعلوم والواسطة؛ وهي تلك الصورة أو ذاك المفهوم الذهني.

2 . في أطر العلم الحضوري لا معنى للشكّ والتصوّر، والتصديق، والخطأ، . والحافظة، والفكر، والتعقل، والاستدلال، وما شاكل ذلك من أمور متعلّقة بالعلوم الحصوليّة، ومرتبطة بعالم الذهن

ص: 45


1- سورة الرعد: 28 .

3 . لا معنى للخطأ في العلم الحضوري، في حين أن الخطأ محتمل في العلم الحصولي.

4 . يجوز في العلم الحصولي أن يتطابق مع الواقع، كما يجوز فيه أيضاً ألا يتطابقا، ويكمن السر وراء رفض العلم الحضوري للخطأ، وقوع الواقع العيني بذاته ومن دون وسائط تحت طائلة الشهود ، اما الواقع في العلم الحصولي فيتأتى من خلال نافذة المفاهيم والصور الذهنيّة، ولا محيص في ذلك من احتمال الخطأ، وعدم التطابق مع الواقع المفترض. وما المكاشافات الشيطانية عند العرفاء أو الشهوة المزيفة عند المريض إلا ضرب من ضروب العلوم الحصوليّة التي تقع تفسيراً لعلوم حضوريّة، وهي معرّضة للخطأ. ولعلّ عارفاً يدرك شيئاً عن طريق خياله المتصل والذهني، فيظن أنه من سنخ العلم الحضوري والكشف العرفاني، في حين أن الخيال المتصل ليس لون من ألوان العلم الحصوليّ المعرّض للخطأ .

وعلى صعيد آخر، لا يفتأ ذهن الإنسان - الشبيه بآلة التصوير - عن التقاط صور تلقائية للمدركات الحضوريّة، وتخزين صور أو مفاهيم خاصة في جنباته، والقيام بعمليات الفرز والتحليل والتفسير بشأنها. ومن هنا، من الممكن لبعض العرفاء بعد حصول كشف أو شهود لهم أن تقوم نفوسهم من خلال الذهن أو الذهنيات بتفسير مدركاتها الحضوريّة، فيخالوا تفسيراتهم تلك - وهي مكاشفات شيطانية من سنخ العلم الحصولي - مكاشفاتِ ربّانيةً وإلهيّة!

ولهذا السبب، عقد أرباب العرفان الإسلامي بحثاً بعنوان «ميزان العرفان»؛ ليميّزوا على ضوئه الكشف العرفاني الصحيح عن السقيم، وقد أشاروا في العرفان الإسلامي إلى ثلاثة معايير : عامة وخاصة، وعقليّة:

*أرادوا ب«العامة» : الشريعة ؛ أي إذا ما أراد العارف الوثوق بكشفياته، فعليه أن يطبّقها الشريعة؛ فإذا توافقا وتطابقا، فله أن يثق بها، وإلّا فلا(1). والمقصود

ص: 46


1- لاحظ شرح فصوص الحكم، داوود القيصري، باهتمام سيد جلال الدين الآشتياني ص 32 إعجاز البيان في تأويل القرآن، صدر الدين القونوي، ص 12 .

بالشريعة مجموعة من المعارف والتعاليم المنزّلة على الإنسان عن طريق الوحي. وتثبتُ معياريّة الدين والشريعة بالنسبة إلى كشفيات العرفاء والتمييز بها بين الكشفيات الحضوريّة الإلهية والإلقاءات الحصوليّة الشيطانية بعد إثبات معقولية القضايا والتعاليم الدینیّة، وهذا يعني أولوية البدء باستخدام المنهج العقلي في إثبات معقولية قضايا مثل : وجود الله وصفاته الذاتية والفعلية، وضرورة حاجة الإنسان إلى الدين، وحقانية الدين الإسلامي.

* وقد أضاف العرفاء علاوةً على الشريعة معياراً خاصاً أسموه ب- «الأستاذ الكامل»؛ فإذا خضع الفرد إلى تربية الأستاذ الكامل المكمل وهدايته أمكن له من خلال تطبيق كشفياته مع كشفيات الأستاذ الوقوف على صحة مشاهداته أو سقمها؛ لأن الأستاذ مطّلع على أحوال تلميذه ومشاهداته بشكل كامل، وله أن يصوّب طريقه بالإرشادات التي تناسبه(1).

* أمّا المعيار الثالث لصحة الكشف والشهود العرفاني أو سقمه فهو «العقل». وقد تقدّم بيان معيارية العقل في بحث معقوليّة القضايا الدینیّة العقلية»، فلا نعيد.

وفي المحصّلة نقول : لا شكّ في أنّ قابليّة إثبات القضايا الدینیّة العرفانية أمر متيسّر من خلال العلم الحضوري الذي تقدّم أنه عصيّ على الخطأ.

5/2 . معقوليّة القضايا التاريخية الدینیّة:

تنتمي القضايا التاريخيّة في النصوص الدینیّة الإسلاميّة إلى صنف القضايا الوصفيّة . ويعتمد إثبات هذا اللون من القضايا، وكذا معقوليتها، على صدق المخبرين والمقرّرين، وعلى مدى ضبطهم ودقتهم؛ فإذا ثبت اتصاف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والرسول (صلّی الله علیه وآله)، والأئمة (علیهم السلام) ، ومذا نقلة التاريخ وحملة الأخبار بكونهم مخبرين صادقين، أمكن إثبات صحة القضايا التاريخية الدینیّة ومعقوليتها.

ص: 47


1- لاحظ شرح فصوص الحكم مصدر سابق، ص 32؛ تحرير تمهيد القواعد الجوادي الآملي، ص 715.

من جهة أخرى، فإنّ صدق الله والرسول والأئمة قد ثبت بالبراهين والأدلة العقليّة في علم الكلام والفلسفة الإسلامیّة؛ حيث خلصت تلك الأبحاث إلى أنّ الكلام الكاذب والمجانب للواقع لايمكن له - بالضرورة الفلسفية والأنطولوجية - أن يصدر عن الإله القادر والعالم المطلق والحكيم الغنيّ عن غيره؛ لأن صدور الكلام الكاذب قد يكون ناشئاً عن العجز ، أو الجهل، أو الحاجة، أو لغويّة الفعل، وجميعها محال في شأن القادر العالم المطلق الحكيم الغني بذاته. وعليه: فإنّ صدور الكلام الكاذب منه تعالى شأنه ممتنع عقلاً. والأصول الموضوعة لهذا الدليل هي: إثبات وجود الله، وإثبات صفاته الكمالية بالمنهج العقلي، وصدق كلام الرسول والأئمة (علیهم السلام)، المدلّل عليه بدليل العصمة. وفي المحصلة نقول: جميع القضايا التاريخية الواردة في كلام الله ورسوله محمّد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) صادق.

هذا، ولكن البحث في هذا المجال يبقى مفتوحاً بالنسبة إلى المخبرين المعاصرين؛ فهم لم يتلقوا تلك المنقولات التاريخية بشكل مباشر من الله ورسوله وأولياء الدين بل تلقفوه من خلال وسائط ومخبرين ،آخرين والسؤال هنا: ما السبيل إلى إثبات صدق هذه الوسائط ؟

لقد خاض المؤرّخون والرجاليّون في هذا الحقل، وتطرّقوا لبيان أنواع الأخبار المتواترة غير المحفوفة بالقرائن القطعية، وتوصلوا بسلوك هذا السبيل إلى كشف استناد المقولة إلى قائلها المعصوم. توضيح ذلك: أنّ الخبر المتواتر يعني الخبر المنسوب للقائل من قِبَل مجاميع من المخبرين المتعدّدين، وتعدّد الوسائط فيه على نحو لا يُحتمل معه تواطؤهم على الكذب في ذلك الخبر المنقول فينتفي ذلك عنهم(1).

وعلى أساس من حساب الاحتمالات، يجب أن ينتفي إمكان خطأ جميع المخبرين الواقعين كوسائط في فهم كلام المتكلم، أو الواقعة التاريخية، أو تتضاءل على ضوئه فروض ذلك إلى أدنى حدّ.

ص: 48


1- راجع شرح الإشارات والتنبيهات، ج 1، ص 218 .

لا شكّ في أن القرآن الكريم من حيث السندية، وكذا بعض الأحاديث الشريفة؛ مثل : حديث الثقلين، وحديث الغدير وما شابهها، يقعان ضمن هذه الدائرة. أمّا الأخبار غير المتواترة - وهي الأخبار المنقولة من قبل الوسائط والمخبرين المتعدّدين - فهي على ضربين:

1 . الأخبار غير المتواترة المحفوفة بالقرائن القطعية، وهي التي يثبت استنادها لقائلها؛ نظراً لوجود تلك القرائن القطعية.

2 . الأخبار غير المتواترة الخليّة عن تلك القرائن القطعيّة.

ولا يخفى أنّ المؤرّخين - وفقاً لمنهج البحث التاريخي - بل عموم العقلاء يميلون إلى تقديم الأخبار المتواترة في الدرجة الأولى، ثم يليها في الأخذ والترجيح: الأخبار غير المتواترة المحفوفة بالقرائن القطعية، ثم تأتي في المرتبة الثالثة: الأخبار غير المتواترة غير المحفوفة بالقرائن القطعية. أما الأخبار الواردة من المخبرين الوضاعين أو غير الموثوقين فلا يُعتنى بها من الأساس.

وحصيلة ما تقدّم أنّ قابليّة الإثبات في القضايا الدینیّة التاريخية رهينة بمدى اعتبار صدق المخبرين - كما في إخبار الله عَزَّ وَجَلَّ والمعصومين (علیهم السّلام) - ومدى صحة ذلك. ويثبت صدق استناد الكلام لهم عقلاً عن طريق الوسائط من خلال الأخبار المتواترة، والمستفيضة، وأخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن وغيرها. نعم؛ يمكن الإفادة من المناهج التاريخية المذكورة آنفاً من دون إثبات صدق المخبرين الدينيين للوصول إلى کشف تطابق القضايا الدينيّة التاريخية مع الواقع.

ص: 49

6/2 .معقوليّة القضايا التجريبيّة الدينيّة:

1/6/2. الاستقراء في فلسفة اليونان والمشاء:

يرتهن موضوع قابليّة الإثبات في القضايا العلمية والتجريبية في الإسلام برؤى فلاسفة العلم في باب «الاستقراء». والاستقراء قضيّة شغلت اهتمام المفكرين منذ قديم الزمن ؛ فقد انبرى سقراط كأول مفكّر استقرائي مارس البحث في معرفة المصاديق والجزئيات وتوظيف منهجه الجدلي للوصول إلى تعاريف عامة. وأفاد أفلاطون من بعده مما انتهى إليه الأستاذ (1) ، لكنّه لم يُذعن باعتبارية الإدراكات الحسية والتجريبية وصدقها (2). أما أرسطو (322ق.م) فاكتفى في تقديم القياس كممثل وحيد للاستنتاج المنطقي، وأرجع إليه باقي الحجج؛ ومن بينها: الاستقراء(3).

وقد مال الفلاسفة المشّاء إلى التفريق بين الاستقراء الناقص والتجربة، وذهبوا إلى انضواء التجريبيات تحت مظلة البديهيات الثانوية والقضايا اليقينية، ولكنّهم اعتمدوا -بطبيعة الحال - على أصل موضوع :مفاده رجوع المشاهدات الجزئية إلى القياس واليقين المنطقي ببركة قواعد عامة تقول : إنّ الاتفاق أو الصدفة لا يكون دائميّاً أو أكثرياً»، و«إنّ الحالات المتشابهة من الطبيعية تؤدّي إلى نتائج متماثلة»، و«إنّ حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد. ووفقاً لهذا المنحى، تثبت معقوليّة القضايا التجريبية والعلمية التي نجدها في النصوص الإسلاميّة.

2/6/2. الاستقراء عند التيار التجريبي:

على الصعيد الآخر، توزّع التجريبيون - على طول خط الفكر المنتمي لأصالة التجربة (4) - فيما يخص «الاستقراء» إلى أربعة مذاهب؛ هي: التحقّقيّة، ومذهب التأييد،

ص: 50


1- أفلاطون عبد الرحمان بدوي، ص 140.
2- الأعمال الكاملة لأفلاطون، رسالة الجمهورية، ورسالة فيدو.
3- منطق أرسطو ، ج 1 ، تحقيق عبدالرحمان بدوي .
4- [م] . Empiricism

والعادة، والتكذيب :

*أما التحققية (1): فيمثلها فكريّاً الفيلسوفان الإنجليزيان الشهيران: فرانسيس بيكون (1626م)، وجون ستيوارت مِل (1873م)(2). وعلى أساس من هذا المنحى، فإن القضايا التجريبية والطبيعية في النصوص الدینیّة الإسلامیّة قابلة للإثبات؛ إذ يمكن توظيف منهج بيكون ومل في إخضاع القضايا الدینیّة التجريبية للبحث والتحقيق، وإثبات معقوليّتها .

*وأما مذهب العادة: فهو ما نظر له ديفيد هيوم (1776م)، أحد أبرز قادة الاتجاه التجريبي؛ حيث تناول بيان الاستقراء باستخدامه للمنهج الحسّي التجريبي، وآمن بأنّ المشاهدة المتعاقبة للأحداث هي الأمر الوحيد الذي يمكن أن يُستنبط منه تزامن تلك الأحداث أو تقارنها وتواليها مع بعضها في الماضي(3).

ووفقاً لرؤية هيوم، فإنّ الاستقراء لا يورث اليقين؛ لكن المشاهدة المتعاقبة للظواهر يمكن لها أن تكشف النقاب عن عادة التقارن فيها . وعلى أساس من هذا المنحى أيضاً، يمكن الدفاع عن القضايا الدینیّة التجريبية، ونعت معقوليتها بأنها «معتادة» أو «حسب العادة».

*وأمّا مذهب التأييد(4): فهو لون آخر من ألوان التيار التجريبي، وهو يعمد - بدلاً عن الإثبات - إلى إصدار فتوى بتأييد القوانين والقضايا العلمية التجريبيّة العامة

ص: 51


1- Verificationism ، وهو المذهب الذي اعتمد مبدأ قابليّة التحقق Verifiability ، وقد آمن به من الفلاسفة مبكراً أنصار الوضعية Positivism. [م]
2- لاحظ ترجمة فرانسيس بيكون ومؤلفاته محسن ،جهانگيري ص 145 مسيرة الحكمة في أوروبا، محمد علي فروغي، ج1، ص 120 وج3، 1296-141؛ تاريخ الفلسفة، فردريك كابلستون، ج 8 ص 93-98 و 124-125؛ معرفة المناهج في العلوم أو الفلسفة العلمية، ص 123-124 [المصادر باللغة الفارسية].
3- مدخل تاريخي إلى فلسفة العلم ،لازي، ص 97 معرفة العلوم الفلسفيّة، سروش ص 222 [بالفارسية].
4- وهو المذهب الذي اعتمد مبدأ قابلية التأييد Confirmability في تقييم المعرفة. [م]

على أساس الاختبار والتجربة المتعاقبة. وقد رحّب بمذهب التأييد هذا الوضعيّون المنطقيّون مثل كينز ،وكارناب وریشنباخ وبرتراند راسل، ونلسون غودمن، وجين نيكود(1). ووفقاً لهذا المذهب، يمكن الدفاع عن معقولية القضايا الدینیّة التجريبية.

*وأمّا مذهب التكذيب (الإبطال)(2) : فهو ما بشر به کارل بوبر (1994م) - وهو - أحد فلاسفة العلم في القرن العشرين - حيث استعرض نظريّته في الأخذ بمبدأ «قابليّة التكذيب» (الإبطال) كأساس في التمييز بين العلوم التجريبيّة، وعارض منهج «قابلية التحقق» و«قابلية التأييد» في تمحيص النظريات العلميّة، محاولاً تقديم حلّ بديل يعتمد الأسلوب التجريبي التكذيبي، معالجاً بذلك قضيتين مهمتين؛ هما: الاستقراء، وتمييز العلم عن غيره. وعلى ضوء هذه الرؤية، لا تتصف الفرضيات أو القوانين الحاكية عن العالم الخارجي الحاكمة عليه ب-«العلمية» ، ولا تكون «إخبارية» إلا إذا كانت «قابلة للإبطال»؛ بمعنى أن تمنع طائفة من القضايا الحسّية، ويحكم باستحالتها؛ بحيث إذا تحقق فرد أو مصداق مَنَعه هذا القانون أو تلك النظرية، فإنه يُستكشف بذلك بطلانها. ويبتني المنحى البوبري على عدد من الأسس والأصول الموضوعة؛ منها : أنّ الحسّ والتجربة المجرّدة عن أي حكم مُسبَق أو مبدأ نظري أمر متعدّر، والنظريّة مقدّمة على الحسّ والتجربة. وقد تعرّضت هذه الرؤية لسهام النقد من قبل بعض العلماء؛ مثل : لاكاتش، وتشالمرز وفايرابند و بارتلي، وكوهن(3). وعلى أساس

ص: 52


1- مدخل إلى فلسفة العلوم رودلف ،کارناب ص 45 الحدس والإبطال كارل بوبر ص ،17 و 35 منطق الكشف العلمي، كارل بوبر، ص 149 ظهور الفلسفة العلمية، هانس ،ريشنباخ، ص 261-274 [المصادر باللغة الفارسية].
2- وهو المذهب الذي اعتمد مبدأ قابلية التكذيب (الإبطال) Falsifiability ، والذي قد يعبر عنه أيضاً: بقابلية الخطأ، وقابلية الدحض وقابلية التفنيد والمراد بهذا المعيار أنّ أيّ افتراض أو نظرية لا يمكن لها أن تكون علمية ما لم تقبل إمكانية أن تكون كاذبة؛ وليس المقصود من قابلية التكذيب - بطبيعة الحال - الحكم بكذب النظرية أو بطلانها فعلاً، بل المدعى هنا هو أنّ الفرضية لا يمكن لها أن تتصف بالصحة لو لم تكن قابلة للتكذيب، ومعنى قابليتها للتكذيب أن يكون هناك - من حيث المبدأ - إمكانية إجراء تجربة تظهر أنها خاطئة؛ حتى لو لم تُجر هذه التجربة المكذبة من الأساس. [م]
3- ماهية العلم ص 83 [باللغة الفارسية].

من هذا المنحی، يمكن - أيضاً - الحديث عن معقوليّة القضايا الدینیّة التجريبية؛ لأنّ هذا اللون من القضايا قابل للإبطال والتجربة.

3/6/2. الاستقراء ومعيار النظام الفكري :

ذهب توماس كوهن (1996م) - وهو من وهو من الشخصيات التي كتبت في «فلسفة العلم، وتناولت طبيعة العلم وتاريخه ضمن منظومة الثورات العلمية - إلى أنّ «العلم» لا يتحلّى بمسيرة متسلسلة من تراكم الحقيقة، ولا تصح دعوى من يقول: إنّ العلم في مراحله المتأخرة يتحلّى بنسبة كبيرة من الحقيقة والصحة، تفوق ما نجده في المراحل المتقدّمة. وقد تمسّك بنظرية «النظام الفكري» أو «البرادايم»، ذاهباً إلى ارتهان جميع الأحداث في تاريخ العلم بظهور «النظم الفكرية» (البراديامات) وأفولها؛ حيث يشمل كل نظام فكري معيّن نظرية علمية، ومجموعة من المقبولات الميتافيزيقية ومنهجاً وأسلوباً ومعياراً للبحث .

وعلى ضوء ذلك، فإنّ البحث العلمي الذي تبلور في ظلّ اكتشاف أو اكتشافات علميّة معيّنة في فترة زمنية معينة، ضمن مجتمع علمي معيّن يقع تحت هيمنة نظام فكري معيّن. وبعد مرور فترات من الزمن ، وطروء بعض الظروف الموضوعية، يفقد هذا النظام الفكري جدارته وأهليته المتوخاة منه، ويُصاب بداء التخبّط والخروج عن القاعدة؛ وهذا يعني بروز ظروف وموضوعات لا يُمكن تفسيرها أو تبريرها على ضوء ذاك النظام الفكري. ويرى كوهن أن النظم الفكرية غير خاضعة للقياس (1) .

ومع غضّ الطرف عن المناقشات الواردة على قراءة كوهن هذه - كانزلاقها في هاوية النسبية، مما يجعلها تعاني من التهافت والتناقض الذاتي (2)- يمكن دراسة القضايا الدینیّة التجريبية وفقاً لهذا المعيار أيضاً. وما من شكّ في أنّ هذه الطائفة من القضايا

ص: 53


1- لاحظ بنية الثورات العلمية توماس كوهن .
2- راجع مقالة «قابليّة الدين للقراءات دراسة في البنى التحتية» للمؤلّف، مجلة قبسات، العدد 23.

الدینیّة منضوية تحت مظلة نظام فكري معين، وبالتالي فهي - على أساس مما ذهب إليه كوهن - قابلة للإثبات والمعقولية أيضاً.

وفي خاتمة هذا البحث، ننوّه بأننا لم نعمد - فيما نقلناه من الاتجاهات المتنوعة التي ذهب إليه الفلاسفة في موضوع الاستقراء - إلى التمحيص والمحاكمة، وقد اكتفينا بعرض تقرير وصفي موجز استهدفنا منه التدليل على إمكانية الحديث عن معقولية القضايا الدینیّة التجريبية، ومعنائيتها، وقابليتها للتبرير، وفقاً لأيّ من المدارس والمذاهب التي أدلت بدلوها في قضية الاستقراء.

ص: 54

الباب الثاني: الإلهيات

3 .معرفة وجود الله وإثباته

1/3. تمهید:

- معرفة وجود الله وإثباته

- إثبات التوحيد الإلهي ومراتبه

- الصفات الإلهية

- الأفعال الإلهية

ص: 55

هل يمكن لنا الحصول على معرفة يقينيّة بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟

هذا هو التساؤل المبدئيّ الأوّل في باب الإلهيّات، وقد أجابت المدارس الفكريّة المختلفة على هذا السؤال بعدة إجابات؛ منها ما يلي:

1 . يرى أرباب الوضعيّة المنطقية والتجريبيون المتشدّدون أنّ التجربة هي المعيار الأوحد للمعرفة، وذهبوا إلى امتناع معرفة الله من باب أنها غير تجريبيّة، بل أنكروا أصل وجود معنى لقضايا «الإلهيّات». ولا يخفى أن بحوث نظرية المعرفة والأدلة على حقّانيّة المنهج العقليّ والشهوديّ كفيلة بإبطال هذا المدّعى.

2. يذهب بعض العرفاء إلى امتناع العلم بذات الله وكُنهه؛ وذلك لأنّ الذات الإلهية غير متناهية وغير متعيّنة؛ في حين أن إدراك الإنسان محدود، ومتناه. ومع ذلك، فهم لم ينكروا إمكانية معرفة الصفات الإلهية والبحث في العرفان النظري عن الذات الإلهيّة اللامتعيّنة التي لا ينالها الواصفون بالاسم أو الوصف أو الرسم، وكذا البحث عن مسألة التعيّن الأوّل والثاني الجامع لجميع الأسماء والصفات على نحو اندماجي في التعيّن الأوّل، وتفصيلي في التعيّن الثاني، ما هو إلا تفسير لهذه الرؤية(1). وقد غفلت هذه الطائفة عن عينيّة الذات والصفات الإلهية، وكون الصفات الإلهية غير متناهية أيضاً كما هي الذات، والتفكيك المعرفي بين الذات والصفات لا يستند إلى أي مبرّر عقلي أو نقلي.

ص: 56


1- شرح فصوص الحكم، تاج الدين الخوارزمي، ص 23 .

3 . يرى البعض عدم إمكانيّة المعرفة بالله عَزَّ وَجَلَّ معرفةً تشبيهيّة (غير تنزيهية)؛ لعدم تناهي الذات والصفات الإلهية، وبالتالي تجب معرفته سُبحَانَهُ وَتَعَالى من خلال الصفات السلبية التنزيهية. وهو ادّعاء غير تام؛ لأنّ الإنسان قادر على معرفة الذات والصفات الإلهية من خلال المفاهيم. والأمر الذي نصفه باللامتناهي أو اللامحدود هو وجود تلك الذات، ووجود تلك الصفات الإلهية وليس المفاهيم الحاكية عنها؛ مثل : علم الله وقدرته وحكمته وعدله، وما إلى ذلك؛ فهي قابلة للإدراك والإثبات العقليّ؛ وإن كان الوقوف على كنه الذات والصفات والمصداق الحقيقي لها أمر خارج عن القدرة . وبعبارة أخرى القوة العاقلة عند الإنسان ليست مطالبةً بأكثر من إدراك المفاهيم الكلّيّة، وليس من وظائفها الوقوف على الحقائق الخارجية بصورة مباشرة؛ وإن كانت المفاهيم المدرَكة تحظى بحيثيّة الحكاية عن الخارج، وتكشف عن الواقعيات الخارجيّة، وكان البرهان يساعد على إثبات المصاديق الخارجية لتلك المفاهيم. وعليه: فإن معنى الحديث الشريف: «إنّ الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار» امتناع العلم بنفس ذات الله وصفاته؛ لأجل عدم التناهي من جهة، وإمكان العلم المفهومي بنحو يحكي عن الخارج من جهة أخرى.

4 . يؤمن البعض بالمعرفة التشبيهية، ولا يمانع من التعريف به عَزَّ وَجَلَّ أو معرفته على هذا النحو. وهذه الطائفة هم الذين باتوا يعرفون بين الفرق الإسلامیّة ب«المشبهة» . وقد ذهبوا إلى تفسير آيات قرآنية - مثل : (يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (1) - بما يتناسب مع التجسيم، متشبثين بالإسرائيليات والأحاديث الموضوعة في تكوين تفسير مادّي عن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى. وللأسف، فقد زلّت أقدام مجموعات من أهل السنة والسلفيّة - وعلى رأسهم الوهابية - في هذا المستنقع (2) .

5 . مفهوم «الحقيقة اللامحدودة» مفهوم قابل للمعرفة والإثبات الخارجي، كما

ص: 57


1- سورة الفتح: 10 .
2- لاحظ: دراسة في التيارات المضادة للثقافة، للمؤلّف، بحث حول الوهابية.

أنّ الكشف الحضوري والشهودي لحقيقتها الوجودية أمر ممكن أيضاً.

وهذه نظريّة يمكن الدفاع عنها عقلاً ونقلاً؛ وذلك لأنّ كلا من الدليل العقلي، وكذا الكتاب الكريم والسُنّة المطهّرة ، يثبت وجود الله وصفاته كما يمكن من خلالها أيضاً الخوض في أبحاث الإلهيّات. ولو كانت المعرفة المفهوميّة بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى غير ممكنة، للزمت لغويّة الآيات النازلة في الإلهيّات منه عَزَّ وَجَلَّ. هذا، ولكن الجدير بالالتفات هنا ألّا تُتخذ المفاهيم الحاكية عن الإلهيّات معبوداً حقيقياً؛ لأنّ المعبود الحقيقي هو الواقع الموضوعيّ الخارجيّ للحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى . أمّا المفاهيم تلك، فليست إلا مرآة تحكي ذلك المعبود الحقيقي. وقد قال الإمام الباقر (علیه السّلام): «كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم - في أدق معانيه - مخلوق مثلكم مردود إليكم»(1). وعليه فإنّ التصوّرات الذهنية مخلوقة للنفس الإنسانيّة، وبالتالي : فإنّ تصوّر الله مغاير لوجوده؛ وإن كان حاكياً عنه.

وفي المحصلة نقول : يمكن لنا إدراك مفهوم الله وصفاته وأفعاله بالعلم الحصولي، وهذا المفهوم يدلّ بالدليل العقلي على الواقع الخارجي له عَزَّ وَجَلَّ، والعلم الحضوري أيضاً يدعم إدارك وجوده الخارجيّ، لكنّ وجود الإنسان - لما فيه من نقص وفقر وجودي - عاجز عن إدراك كُنه وجود الله اللامتناهي، وعاجز عن الإحاطة به بالعلم الحضوري أو الحصوليّ.

2/3 .معرفة الله :

من الواضح أنّ البحث عن تعريف «الله» يتقدّم منطقياً على البحث عن وجوده، وكما يعبّر في المنطق : فإن مطلب« ما» الشارحة مقدّم على مطلب «هل» البسيطة (2). وعليه: ينبغي أن نكوّن في مستهل البحث تصوّراً - ولو إجمالياً - عن مفهوم «الله»، قبل الولوج في ثنايا بحث براهين إثبات وجود الله» فقبل امتلاك مفهوم أو تصوّر عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى لا معنى للحديث عن وجوده أو عدمه من الأساس.

ص: 58


1- المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج 1، ص 131.
2- المنطق، محمد رضا المظفّر ، ص 110.

وهنا نشير إلى أنّ الانطباع المتداول عن اللّه وصفاته عند فلاسفة الدين واللاهوتيين الغربيين - أي : في ما يُعرف ب «الإلهيّات التوحيدية التقليدية»(1)- لا يختلف عن الانطباع العامّ عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عند غالبيّة مفكّري الأديان التوحيدية (2) من اليهودية والمسيحيّة والإسلاميّة فقد آمنوا بذلك مع شيء من الاختلاف(3).

وفي تحديد «الإيمان بالله» يمكن القول بأنه: إيمان بإله، واحد، خالق، غير متناه، قائم بالذات، مجرّد، سرمدي ، لا متغيّر، ولا متأثر بسيط، کامل، عالم مطلق، وقادر مطلق، وخير ،مطلق، ومتشخّص، وأهل للعبادة. فإذا كان الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى غير متناه فيجب - عندئذٍ - أن يكون واجداً لجميع الصفات المجرّدة عن المحدوديّة (4).

وتُعرف هذه الحقيقة - في الثقافة الإسلامیّة - باسم «الله» ؛ وهو يعني : الربّ الواجد لجميع صفات الجمال والجلال، وهو الوجود الأسمى والأكمل من جميع الموجودات، وخالق كلّ ما سواه.

3/3 .براهين إثبات وجود الله عَزَّ وَجَلَّ :

بعد تكوين مفهوم ذهنيّ عام عن الله جَلَّ وَعَلا يصل الدور إلى براهين إثبات وجوده(5). وقد أقام المفكرون المسلمون والغربيون حُججاً وبراهين عديدة تُثبت وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، صنّفها الغربيون إلى ثمانية أصناف على النحو التالي:

1 .البراهين الوجودية (6): وفي هذا الصنف من البراهين يُستخدم في الاستدلال .

ص: 59


1- Classical theism .
2- Theistic .
3- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 97.
4- براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، بول إدواردز ، ص 25 و 99 ؛ فلسفة الدين جون هيك ص 29 [باللغة الفارسية].
5- Arguments of the existence of God.
6- Ontological arguments.

على وجوده عَزَّ وَجَلَّ التحليل المفهومي الصِّرف لله. ويُعدّ الأسقف الأوغسطيني أنسِلم(1) (1109م) مؤسّس البرهان الوجودي(2).

2 . البراهين الكونية (3): وهذا اللون من الحجج - الذي ينضوي تحته أمثال: برهان الوجوب والإمكان وبرهان الحدوث، وبرهان الحركة - عنوان عام يشمل مجموعة من براهين إثبات وجود الله المبتنية على أكثر المبادئ عمومية - كمبدأ السببية مثلاً - وعلى أكثر الواقعيات بداهةً في العالم(4).

3 . البراهين الغائيّة (5): وهذا الصنف من الأدلّة - الذي ينتمي إليه ما يُعرف باسم «دليل النظام»، أو «برهان إتقان الصنع»(6)- يشكّل مع الحجج الوجودية والكونية ثلاثي البراهين التقليدية على وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى . وتُعدّ البراهين الغائيّة أكثر الأدلّة شعبية وقرباً من الناس نسبةً إلى غيرها من الحجج (7).

4 . براهين درجات الكمال (8): ويجري التركيز في هذا الصنف من الأدلّة على صفات حاكية عن مراتب الشدّة والضعف في الموجودات؛ حيث يستدلّ بالكمالات

ص: 60


1- أنسلم الكنتربري (1033 Saint Anselm of Canterbury - 1109م) رئيس أساقفة كنتربري (في إنجلترا)، ومن فلاسفة أوروبا في القرن الحادي عشر. سُمّي برهانه الشهير هذا ب- «الدليل الأنطولوجيّ» أو «الوجودي»، أمّا أنسلم - نفسه - فقد أسماه «الدليل الأوحد»، أو «دليل العظمة»، وعرضه في كتابه «التمهيد». [م]
2- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 134 النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية عبد الرسول عبوديت ج 1، ص 51-50 الحكمة المتعالية والفلسفة المعاصرة، مقالة «بحث في براهين إثبات وجود الله في الحكمة الإسلامیّة وفلسفة الغرب»، للمؤلّف ص .351 [المصادر باللغة الفارسية]
3- Cosmological arguments . ومن البراهين المنتمية إلى هذا الصنف ما يسمّى ب- : The causal argument [م] .Argument from universal causation, Argument from first causes <
4- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 134 [باللغة الفارسية].
5- [م] . physico-theological arguments وتسمى في الغرب أيضاً ب- .Teleological arguments
6- [م] . from intelligent design أو ، argument from design
7- فلسفة الدين جون هيك، مصدر سابق، ص 58.
8- Degrees of perfection arguments.

بعد ثبوت تحققها، لإثبات وجود تلك الصفة الكمالية بنحو مطلق، ومن ثُمّ إثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى .

5 . براهين الإجماع العام (1): فقد تمسّك جمع غفير من الفلاسفة والمتكلّمين باتفاق عموم البشر؛ حيث عُدّ هذا الإجماع تأييداً لوجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وخلود روح الإنسان(2).

6. البراهين الأخلاقية (3): حاول فيلسوف القرن الثامن عشر الألماني كانط (1804م) - بعد تسليمه بما أورد هيوم (1776م) على براهين إثبات وجود الله - أن يستدل بالتجربة الأخلاقية على وجوده عَزَّ وَجَلٌ ؛ حيث ذهب إلى قصور العقل النظري عن إثبات وجود الله ، لكنّه استعاض عن ذلك بالعقل العملي المرتبط بالأمر والنهي الأخلاقي، ليجعل منه منطلقاً للاحتجاج على ذلك(4).

7. براهين التجربة الدینیّة (5): يسعى هذا الصنف من البراهين إلى إثبات وجود الله عَزَّ وَجَلَّ من خلال التجربة الدینیّة، أو ما يُعبّر عنه بالأحاسيس والمكاشفات الدینیّة؛ فإنّ الوحدة النسبية للكشف والشهود العرفاني - على مرّ التاريخ عند الأمم والملل المختلفة - تدلّ على وجود حقيقة غائيّة ماورائية.

8. برهان التجارب الخاصة ويُقصد بالتجارب الخاصة أموراً ثلاثة؛ هي: استجابة الدعاء، فالكشف والكرامات، ثمّ المعجزات. وكلّها أمور خارقة للعادة(6)،

ص: 61


1- Common consent arguments.
2- براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، مصدر سابق، ص 105-16- [ باللغة الفارسية].
3- Common consent arguments.
4- المصدر السابق، ص 137.
5- Religious experience
6- النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، مصدر سابق، ج1، ص 61-62 .

وهي أحداث يرى بعض فلاسفة الدين أنها دالة على وجود حقيقة ماورائية (1). وقد وصف المفكرون الغربيون براهين التجارب الشخصية، والإجماع العام، والغائية، بأنّها براهين متداولة قريبة من قلوب الناس(2).

هذا، وقد قدّم المفكّرون الإسلاميون أدلّة إثبات وجود الله في سبعة حجج؛ هي: «دليل الفطرة»، و «برهان الوجوب والإمكان» ، و«برهان الحدوث»، و«برهان الحركة»، و«برهان النفس» ، و «دليل النظام»، و«برهان الصدّيقين».

وعلى ضوء الإيضاحات المارّة آنفاً، يمكن تصنيف البراهين الإسلامیّة هذه إلى أربعة أصناف هي:

1 . برهان الإجماع العام وهو «دليل الفطرة ».

2 . البراهين الكونية وتشمل: «برهان الصدّيقين»، و«برهان الوجوب والإمكان »، و «برهان الحدوث»، و« برهان الحركة» .

3 . برهان «إتقان الصنع» أو «دليل النظام».

4 . «برهان النفس».

ولا شكّ في أنّ استيفاء شرح جميع هذه البراهين وتحليلها يتطلب متسعاً وافراً من البحث، لكنّنا سوف نكتفي هنا بالإشارة إلى ثلاثة براهين مشتركة بين الفكر الإسلامي والغربي، معتمدين على المنهج الوجداني والتجريبي والعقلي؛ حيث سندرس : الفطرة أو الإجماع العام (الدليل الوجداني)، وبرهان النظام (الدليل التجريبي العقلي)، وبرهان الوجوب والإمكان (الدليل العقلي) (3).

ص: 62


1- الحكمة المتعالية والفلسفة المعاصرة، مصدر سابق، ص 373؛ أنيس الموحدين، النراقي، ص 53 و 57 .
2- Papular arguments.
3- للوقوف على البراهين الثمانية في إثبات وجود الله لاحظ المسائل الكلامية الجديدة وفلسفة الدين، للمؤلّف .

4/3 . دليل الفطرة:

1/4/3 التقرير الأول: الإيمان الفطري بوجود الله:

برهان الفطرة في الكلام الإسلامي يعادل إلى حدّ ما برهان الإجماع العام في اللاهوت الغربي، فقد استدل جمع غفير من الفلاسفة والمتكلّمين بالاتفاق العام بين بني البشر على إثبات وجود الله عَزَّ وَجَلَّ.

و ممن ناصَرَ هذا البرهان شيشرون(1) (34 ق.م)، وسينيكا (2) (65م)، وإكليمندس الإسكندري)(3) (215م)، وغروتيوس (4) (1645م)، و هربرت تشيربوري(5) (1648م)، وغاسندي (6) (1655م)، وأفلاطونيو كمبريج . وانضم إلى هذا الركب - في السنين الأخيرة - عدد لا يستهان به من مشاهير اللاهوتيين الكاثوليك والبروتستانت.

وقد وصف هيغل (7) ( 1831م) برهان الإجماع العام - رغم إنكاره له - بأنه يحظى بمساسه لبّ ،الحقيقة وأشار إليه إيسلر (8) (1926م) ضمن تصنيفه الخامس لبراهين وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى .

ص: 63


1- ماركوس توليوس كيكرو (106) Marcus Tullius Cicerق.م34 - ق.م): عُرّب اسمه - من الإيطالية - إلى «شيشرون»؛ وهو أشهر كاتب روماني عرفه التاريخ، وخطيب روما المميز [م]
2- لوكيوس أنايوس سينيك (4) Lucius Annaeus Seneca. م-65-م فيلسوف وخطيب وكاتب مسرحي روماني. يُلقب بسينيكا الفيلسوف أو الأصغر، تمييزاً له عن والده الخطيب الشهير. [م]
3- تيتوس فلافيوس إكليمندس Titans la Clemens (توفي بين عامي 211 و 215م ) : أحد أبرز معلّمي مدرسة الإسكندرية اللاهوتية. وقد تميّز بربطه وتقريبه بين الفلسفة اليونانية واللاهوت المسيحي. [م]
4- هوغو غروتيوس (153) Hugo Grotius (1645م فيلسوف ولاهوتي ومؤرّخ وشاعر هولندي. عُرف بأنه وَضَع مع جماعة أسس القانون الدولي، اعتمادًا على الحق الطبيعي. [م]
5- إدوارد هربرت تشيربوري (1583) Edward Herbert of Cherbury-1648م) دبلوماسي ومؤرّخ وشاعر وفيلسوف دين إنجليزي. [م]
6- بيير غاسندي (1592) Pierre Gassendi-1655م): فيلسوف وعالم فلك ورياضيات فرنسي [م]
7- غيورغ فيلهلم فريدريش هيغل 1770) Georg Wilhelm Friedrich Hegel-1831م): أحد أبرز الفلاسفة الألمان. ويُعدّ أهم مؤسّسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. [م]
8- رودولف إيسلر (1873 Rudolf isler-1926م) : فيلسوف نمساوي من أصول يهودية، كتب قاموساً في المصطلحات والتعابير الفلسفية باللغة الألمانية، وتخصّص في دراسة تاريخ الفلسفة ونظرية المعرفة [م]

وعلى الرغم من نُدرة المؤمنين بمتانته المنطقيّة عند من يحترف الفلسفة في عصرنا الراهن، فإنّ توظيف هذا البرهان - على أي حال - متداول على نطاق واسع عند المنافحين عن الأديان بلغة مفهومة للعُرف(1). وهو برهان يتحلى باهتمام وقبول واسعين عند المفكرين الإسلاميين - قديماً وحديثاً - كما نجده عند الفخر الرازي (606ه)، والعلامة الحلّيّ (726ه) ، ثمّ العلامة الطباطبائي (1402ه)، والشهيد المطهّريّ (1399ه)، والشيخ السبحاني.

وقد عرض اللاهوتيون الغربيون تقريرين لبرهان الإجماع العام؛ هما :

1 . أدلّة تمسكوا فيها بعمومية الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ، متخذين من ذلك شاهداً على غريزيّة هذا الإيمان، ليستنتجوا - في نهاية المطاف - صدق هذا الإيمان والمعتقد. وقد أسموا هذا النمط من التقرير باسم «التفسيرات البيولوجية» أو «التفسيرات الأحيائية».

2 . أدلّة تمسكوا فيها بعمومية الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ، مع ضمّ مدّعى آخر مفاده: أنّ المؤمنين بوجود هذا الإله لم يعقدوا القلب على ذلك إلا بعد متابعتهم هدى العقل . وقد نعتوا هذا التقرير باسم «القياس الأقرن المضادّ للشكّيّة» (2).

وفي ما يلي نتطرّق لبعض تقريرات برهان الإجماع العام :

التقریر الاول:الإيمان الفطريّ بوجود الله:

أشار الفيلسوف الروماني في القرن الأوّل الميلادي سينيكا (65م) في الرسالة

ص: 64


1- براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، بول إدواردز، ص 105-106 [باللغة الفارسية].
2- المصدر السابق ص 102 . المضاد للشكّيّة أي . و القياس الأقرن» - أو ما قد يسمّى في علم المنطق أيضاً: بالقياس ذي الحدّين وذي ،الفرضين وقياس الإحراج، والديليميا Dilemma - : هو الدليل الذي تكون إحدى مقدّماتها قضيّة عنادية ذات ،احتمالين وتكون مقدّماتها الأخرى دالّة على أنّ كلّ احتمال من هذين الاحتمالين يتضمّن النتيجة نفسها. وهو قياس مركب ومزدوج يحرج الخصم، ويُلزمه بقبول النتيجة. لاحظ: المعجم الفلسفي صليبا، ج1، ص 42 [م]

المرقمة ب 117 من رسائله الأخلاقيّة إلى هذا المدّعى - لأوّل مرّة - حيث استدلّ بأنّ الإيمان بالآلهة أمر عام، وعموميّته هذه تدلّ على فطريّة الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ. ودافع بعض من جاء بعده عن هذا الدليل؛ مثل هُودج(1) ( 1878م ) .

وتترتب مقدّمات هذا البرهان على النحو التالي:

1. الإيمان بقضيّة«الله موجود فطريّة».

2 . كلّ إيمان فطري مطابق للواقع.

*قضيّة «الله موجود» مطابقة للواقع.

وقد أشكل لوك (2) (1704م) على هذا التقرير من برهان الإجماع العام بعدة مناقشات أجاب عليها أنصار هذا البرهان. وأهم تلك المناقشات: الاستفسار عن الملازمة بين فطريّة المعتقد وصحته من أين نشأت؟!

وقد يحلو للبعض الردّ على ذلك بما أومأ إليه ديكارت(3) (1650م) بخصوص تلك الملازمة، متمسكاً ب«كمال الله» و«إرادته للخير»؛ حيث أفاد ما حاصله: «إذا كانت هذه المعارف التي عُبّئ بها الوجود الإنساني باطلة ومخالفة للواقع، للزم من ذلك أن يمارس الله المكر والخديعة؛ وهذا ينافي إرادته للخير». لكن الحق أنّ ردّاً مثل هذا - كما أفاد ستيوارت مل (1873م) - يعاني من مشكلة الدور(4).

ص: 65


1- تشالز هودج 1797 Charles hodge-1878م أحد أبرز علماء اللاهوت الأمريكيين، وداعية قيادي في الكنيسة الأرثوذكسية في الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر. [م]
2- جون لوك (1632)John Lock-1704م) : فيلسوف و مفكّر سياسي إنجليزي، يعد من أقطاب المذهب التجريبي. [م]
3- رينيه ديكارت (1596 Ren: Descartes-1650م) : فيلسوف وفيزيائي وعالم رياضيات فرنسي، يلقبه البعض في الغرب بأبي الفلسفة الحديثة؛ إذ تشكّل الكثير من الأطروحات الفلسفيّة الغربيّة التي جاءت بعده انعكاساً لأفكاره التي ما زالت تُدرّس حتى اليوم. [م]
4- لمزيد من التوسع في المناقشات والردود عليها لاحظ براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة مصدر سابق ص 108-112 دراسات الفطرة الإنسانية في الإلهيّات الفطرية علي الشيرواني، ص 175-182 .
2/4/3 . التقرير الثاني : القياس الأقرن المضادّ للشكّيّة:

استعرض جويس(1) (1943م) في كتابه «مبادئ الإلهيات الطبيعية قياساً ذا حدين مضاد للشكيّة كواحد من براهين الإجماع العام. وحاصل هذه الحجّة أن يُقال: قضيّة الله موجود قضيّة صادقة، وإلا شككنا في جميع القضايا، وانسدّ باب العلم علينا بنحو مطلق . وتترتب مقدّمات هذا القياس على النحو التالي:

1. كلّ البشر يؤمنون بوجوده عَزَّ وَجَلَّ ؛ حتى أولئك الذين ينكرونه في الظاهر.

2 . الإيمان بوجود الله يمنع الحريّة المطلقة للإنسان في تصرفاته؛ لأنّ جميع المؤمنين بالله يثبتون له القدرة المطلقة والهيمنة العامة على بني البشر .

3 . الإنسان شغوف بالحرّيّة، وكاره للرضوخ إلى سلطة قاهرة فوقه.

4. يُستنتج من المقدّمات الثلاثة أعلاه أنّ نداء العقل هو الذي حثّ الإنسان على الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ ؛ وليس ميوله أو أحاسيسه.

5. إذا أخطأ كل بني البشر في هذا الاستنتاج العقلي، لاستلزم ذلك إبطال جميع الأحكام العقلية، ولتعذر الإيمان بها، وهذا يعني الوقوع في هاوية السفسطة والشكّيّة (2) المحضة.

6. بناءً على ما تقدّم، يتوجب الحكم بصدقية قضية «الله موجود»، أو القول بالسفسطة والشكيّة.

7 . لكننا نؤ من جميعاً باعتبار العقل البشري وموثوقيته، ولا يصح القول بالسفسطة والشكّيّة في جميع القضايا.

ص: 66


1- جورج هایورد جویس (1864 George Hayward Joyce-1943م): لاهوتي وقسّيس وأستاذ جامعي إنجليزي كتب ودرّس في المنطق ونظرية المعرفة، وشغل منصب عميد كلّيّة اللاهوت في بريطانيا. [م]
2- Skepticism

* إذن يجب الإذعان بصدقية القضيّة المذكورة، والإيمان بوجود الله عَزّ وَجَل (1).

وقد استخدم المحقق النراقي (2)(1209ه) برهاناً مشابهاً لما ورد بالقول:

«الدليل السادس: اتفاق جميع الفرق والطوائف على وجود الصانع؛ وذلك لأنّ جميع عقلاء البشر وعلمائهم يؤمنون بأنّ لهذا العالم صانعاً حكيماً، وخالقاً عليماً. ولهذا، لم يُعدّ إثبات الصانع من ضمن أصول الدين؛ إذ يجب أن تكون الأصول من الأمور الضرورية في دين الإسلام التي تُنكر أو تُخالف. ولا شكّ في أنّ ذوي الفهم والوعي لا يتفقون على أمر خاطئ؛ فإذا اجتمعت كلمة الفِرَق والأمم وجميع العقلاء من بني آدم على أمر ، حصل اليقين بضرورة ظهور دليل ذلك الأمر، وأنه حقّ»(3).

هذا، ولعلّ الذي يؤمن بالبديهيات الأولية قادر على الخدش في هذا البرهان بالقول: طالما آمنا بالبديهيات الأولية، فلن يُفضي إنكار وجود الله إلى السفسطة.

3/4/3 .التقرير الثالث : الانجذاب الفطري إلى الله :

ذهب هودج (1878م) إلى أنّ جميع القوى والأحاسيس الذهنية لأبداننا تمتلك متعلقات تناسبها، ووجود هذه القوى يستلزم وجود متعلقاتها. وعليه: فإنّ العين بشاكلتها الحالية تستوجب وجود نور يُرى، ولن تكون الأذن قابلة للفهم ما لم يكن للصوت وجود، وعلى ذات المنوال يُقال: الحسّ والاندفاع الديني عندنا يستوجب وجود الله (4). فكما يميل الإنسان ويتوق إلى جنسه الآخر، أو رؤيته لمناظر خلابة، أو

ص: 67


1- دراسات الفطرة الإنسانيّة في الإلهيّات الفطرية، مصدر سابق، ص 185 النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، مصدر سابق، ج1، ص 59 [المصادر باللغة الفارسية ]
2- محمد مهدي بن أبي ذرّ النراقي الكاشاني (1128 - 1209ه): فقيه وأصولي وفيلسوف إمامي. تتلمذ عند الوحيد البهبهاني والشيخ يوسف البحراني، وغيرهما من كبار علماء الشيعة. من أشهر مؤلّفاته في الحكمة والكلام أنيس الحكماء، أنيس الموحدين بالفارسيّة ] العرشيّة في الحكمة الإلهيّة، اللمعة الإلهية وغيرها. [م]
3- أنيس الموحدين، محمد مهدي النراقي ص 55-57 [باللغة الفارسية].
4- براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، مصدر سابق، ص 112 [باللغة الفارسية].

سماعه لأصوات عذبة، فإنّه ينجذب إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى. وبناءً على ذلك، يُستدلّ بكلّ ميل وإحساس بشريّ على جود متعلّق ذلك الميل في الخارج، فيستنتج منه أنّ شوق الإنسان وانجذابه إلى الله يستلزم وجوده.

وقد نعت الفلاسفة المسلمون هذا البرهان باسم «دليل الميول الإنسانية»، أو «البحث الفطري عن الله»، واستندوا بدلاً عن «الانجذاب إلى الله» على «حبّ الإنسان للكمال المطلق» الذي يمكن بسهولة العثور عليه في أي إنسان دون استثناء. فإذا مال الإنسان إلى السلطة والهيمنة فإنّه لا يتوق إلى حدّ معيّن منها، بل يطلبها على نحو مطلق وغير محدود، والسلطة أو الهيمنة المطلقة هي التي تعشقها نفسه وترغب فيها، وهكذا الحال عند من يحبّ العلم، أو يطلب الجمال. والنتيجة هي أنّ كلّ إنسان - بلا استثناء - يميل إلى الكمال المطلق بالفعل، فيستخلصون من ذلك: أنّ الميل الفعلي نحو الكمال المطلق يستلزم وجوداً فعليّاً للكمال المطلق، وعليه يُستنتج أنّ الكمال المطلق موجود بالفعل (1).

وقد تعرّض هذا التقرير إلى جذب وشدّ في السؤال والردّ (2).

ويمكن ترتيب المقدّمات التي استند عليها هذا البرهان على النحو التالي:

1 . ينجذب الإنسان ويتوق إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بنحو فطريّ.

2 . كلّ انجذاب فطري في الإنسان يمتلك متعلقاً معيناً له في الخارج.

* إذن متعلق الانجذاب الفطري الإنساني إلى الله عَزَّ وَجَلَّ له وجود في الخارج؛ وهذا المتعلّق هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى .

ص: 68


1- النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، مصدر سابق، ص 62-63 [باللغة الفارسية]
2- للوقوف على المناقشات وأجوبتها لاحظ براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، مصدر سابق، ص 113 -114 دراسات الفطرة الإنسانيّة في الإلهيّات الفطرية، مصدر سابق، ص 183-184 [باللغة الفارسية]

ووافق على هذا التقرير بعض كبار العلماء المسلمين؛ مثل: الإمام الخميني (1409ه) ، والعلّامة الجوادي الآملى(1)، حيث أشار إليه الإمام الراحل بقوله:

«تُوجَد في البشر خصائص لا توجد في أي موجود آخر؛ من جملتها: أنّ في فطرة الإنسان ميل نحو القدرة المطلقة ؛ وليس القدرة المحدودة، وطلب الكمال المطلق؛ وليس الكمال المحدود، فهو يطلب العلم المطلق، والقدرة المطلقة. ولما كانت القدرة المطلقة لا تتحقق غير الحقِّ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فإنّ البشر يطلب الحقِّ عَزَّ وَجَلَّ بالفطرة؛ دون أن يعرف. أحد الأدلّة المحكمة لإثبات الكمال المطلق هو هذا الحبّ الإنسانيّ للكمال المطلق؛ فهو يمتلك حبّاً فعليّاً للكمال المطلق؛ وليس توهماً للكمال المطلق، بل حقيقة الكمال المطلق. من المحال أن يكون هناك عاشق فعلي دون معشوق فعليّ. هنا لا أثر لتوهم النفس أو اختلاقها؛ لأنّ الفطرة تبحث عن حقيقة الكمال المطلق؛ وليس عن توهّم الكمال المطلق؛ حتى يُقال إنّها خُدعت، فالفطرة لا تنخدع أبداً. الفطرة عند جميع الناس تنزع إلى الكمال المطلق، وهو يطلبه لنفسه الإنسان يميل إلى الاحتكار. يريد الكمال المطلق، ويريد أن يتملكه لنفسه ... هذا، في حين أنّ الأرض - بكاملها - لو أعطيت لأحدهم لذهب يبحث عن الذي لا يملكه، ولا يقنع بما لديه. يسعى لما لا يملكه؛ لأنه يعشق الكمال المطلق، ويعشق القدرة المطلقة. فإذا سُخر جميع هذا العالم، وجميع هذه المجرّات، وجميع هذه الكواكب السيارة والثابتة وكل ما هو موجود، إذا سخر جميع هذا تحت سلطة شخص واحد، فإنّه لا يقنع؛ لأنّ هذه الأشياء ليست الكمال المطلق. وما لم يصل إلى حيث يتصل ببحر الكمال المطلق، ولم يفن فيه، فلن تطمئنَّ نفسه: ﴿أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (2)... ، فحبّ الكمال المطلق، وحبّ الله مركوز في فطرة البشر كافةً، دون استثناء. أما العذاب فلأجل أننا لا نفهم، ولأننا جاهلون، ونتناول الأمور بشكل معكوس. إذا سرنا على هدى هذه الفطرة نصل إلى الكمال المطلق» (3).

ص: 69


1- لاحظ آداب الصلاة، وشرح الأربعين حديثاً، للإمام الخميني؛ أضواء على براهين إثبات الله الجوادي الآملي ص 289.[ المصادر باللغة الفارسية].
2- سورة الرعد 28 .
3- صحيفة الإمام، ج 14، ص 164-166 [النسخة المعرّبة].

ويقول في موضع آخر:

«وجميع الأحكام الإلهية تنقسم - بكليتها - إلى مقصدين: أحدهما أصلي ومستقلّ، والآخر فرعي وتابع وجميع الأوامر الإلهية ترجع إلى هذين المقصدين، إما بواسطة أو بدونها؛ فالمقصد الأوّل الأصلي المستقل هو توجيه الفطرة إلى الكمال المطلق الذي هو الحقِّ جَلَّ وَعَلا وشؤونه الذاتية الصفاتيّة والأفعالية، ويرتبط به - بواسطة أو بلا واسطة - أبحاث المبدأ والمعاد، ومعاني الربوبيات من الإيمان بالله والكتب والرسل والملائكة واليوم الآخر، وعمدة مراتب السلوك النفساني، والكثير من فروع الأحكام؛ كفريضتي: الصلاة والحج. والمقصد الثاني - وهو العَرَضيّ و التبعي - هو تنفير الفطرة من الشجرة الدنيوية الخبيثة والطبيعة التي هي أمّ النقائص والأمراض، ويرجع إليه كثير من مسائل الربوبيّات وعمدة الدعوات القرآنية والمواعظ الإلهية والنبوية ومواعظ الأئمة، وعمدة أبواب الرياضة والسلوك، والكثير من الفروع الشرعيّة؛ كالصوم والصدقات الواجبة والمستحبّة، والتقوى، وترك الفواحش والمعاصي»(1).

4/4/3. دليل الفطرة في القرآن الكريم :

تُصنف الآيات القرآنية التي تطرقت لفطرية بعض الأمور إلى عدة طوائف:

* الطائفة الأولى: الآيات التي عدّت رسالة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) تذكيراً للإنسان؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَذَكَّرُ إِنَّهَا أَنتَ مُذَكَّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرِ )(2) .

* الطائفة الثانية: الآيات التي دلّت على العهد والميثاق؛ كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ﴾ (3).

ص: 70


1- جنود العقل والجهل، الإمام الخميني، ص 47 [النسخة المعرّبة].
2- سورة الغاشية: 21-22 .
3- سورة يس 60.

* الطائفة الثالثة : الآيات التي أشارت إلى دعاء الإنسان وتوسله بالله عند الخوف والخطر؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(1) ، أو قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تُجَأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (2).

* الطائفة الرابعة : الآيات التي تحدّثت بصراحة أكثر عن فطرية الدين والأصول الدینیّة؛ كما في قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّين حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (3).

* الطائفة الخامسة: الآيات التي قرّرت أنّ هداية الإنسان فطريّة؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلهْمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾(4) .

وقد تمسّك الأئمّة من أهل البيت (علیهم السّلام): بفطريّة وجود الله، وفطرية الدين؛ كما نجد في الدعاء المنقول عن الإمام الحسين (علیه السّلام) :

«كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِمَا هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرُ إِلَيْكَ؟! أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ؛ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ؟ مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ یَدُلُّ عَلَيْكَ ؟! ومَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الْآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟! عَمِيَتْ عَيْنٌ لَا تَرَاكَ، وَلَا تَزَالُ عَلَيْهَا رَقِيباً» (5)(5) .

وقد سأل رجلٌ الإمام الصادق (علیه السّلام) ليدله على دليل يُثبت وجود الله، فقال له : «يَا عَبْدَ الله ! هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةٌ قَطُّ ؟ قَالَ : نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةَ

ص: 71


1- سورة العنكبوت: 65 .
2- سورة النحل: 53-54 .
3- سورة الروم: 30 .
4- سورة يس: 60 .
5- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 64، ص 142.

72

الكلام الإسلامي المعاصر

تُنْجِيكَ ولَا سِبَاحَةَ تُغْنِيكَ؟ قَالَ : نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ هُنَالِكَ أَنَّ شَيْئاً مِنَ الْأَشْيَاءِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ، قَالَ الصَّادِقُ 7: فَذَلِكَ الشيء هُوَ الله الْقَادِرُ عَلَى الْإِنْجَاءِ؛ حَيْثُ لَا مُنْجِي، وَعَلَى الْإِغَاثَةِ؛ حَيْثُ لَا مُغيث» (1). وبذلك، أوصله الإمام (علیه السّلام) إلى الفطرة الباحثة عن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى .

5/3 .دليل النظام:

1/5/3. حقيقة النظام وأقسامه:

يُعد «دليل النظام» - أو ما قد يُطلق عليه «برهان إتقان الصنع»(2)، أو «البرهان الغائي»(3) - أوسع حُجّة استشهد بها الفلاسفة الغربيون والإسلاميون على حدّ سواء، وغصت بها النصوص الدینیّة القرآنية ،والحديثية، معتمدةً على الآيات الآفاقية والأنفسيّة في إثبات وجود الله العليم القدير.

ويقوم هذا الدليل - الذي حظي منطقيّاً وعُرفيّاً بين عامة الناس بالثقة والاعتماد - بإيصال الاحتمال القاضي بانعدام وجود الله إلى حدّ مقارب للصفر.

تعود سابقة هذا البرهان في التراث والنصوص الفلسفية إلى «رسالة طيمايوس»(4) من رسائل أفلاطون (348ق.م)، وللبرهان الأخير من البراهين الخمسة التي ساقها أكويناس(5) (1274م)، كما نجد شرحاً لهذا الدليل أيضاً في كتاب بيلي(6) (1805م): «الإلهيّات الطبيعية»، أو «شواهد وجود الله وصفاته من الظواهر الطبيعية) (7) .

ص: 72


1- التوحيد الشيخ الصدوق، ص 231.
2- Argument of design .
3- Teleological argument.
4- [م] . Timaeus
5- توماس أكويناس - أو توما الأكويني - (1225) Thomas Aquinas-1274م: قسيس كاثوليكي إيطالي من الرهبانية الدومينيكانيّة، وفيلسوف ولاهوتي بارز في الفلسفة المدرسية (السكولائية) [م]
6- وليام بيلي (1743 William Paley - 1805م) : لاهوتي وفيلسوف إنجليزي. اشتهر بتقريره عن دليل النظام وذلك من خلال كتاب الإلهيّات الطبيعيّة، ومثاله المشهور عن صانع الساعة [م]
7- فلسفة الدين جون هيك، مصدر سابق، ص 85.

أماً الفلاسفة والمتكلّمون الإسلاميون المتقدّمون، فلم يوظفوا دليل النظام في إثبات ذات واجب الوجوب، مكتفين باستخدامه في باب التوحيد» و«العلم الإلهي؛ مع أنّ الحكماء المتأخرين استدلوا به على إثبات ذات الباري تَبَارَكَ وَتَعَالَى(1) .

حقيقة النظام وأقسامه:

«النظام» لونٌ من ألوان علاقة الانسجام بين أجزاء مجموعة، تكوّنت من أجل تحقيق هدف محدّد، بحيث يكون كلّ جزء من أجزاء المجموعة مكمل للآخر، وفقدان أيّ منها يتسبب في أن تفقد المجموعة هدفها المعيّن، وأثرها المنشود . وإن واقع «النظام» في الظواهر الطبيعية لا يعدو اجتماع أجزاء مختلفة من حيث الكم والكيف، ائتلفت مع بعضها لأجل أن يُسفر تكاملها وتعاونها عن تحقيق هدف محدّد (2).

ويدلّنا تحليل مفهوم النظام وتعريفه إلى أنّ تحققه رهين بتأتي الأركان التالية:

1 . وجود عدد من الأشياء أو الأجزاء المختلفة.

2 . حالة الترتيب والانسجام والتناغم السائدة عليها.

3 . وجود هدف محدّد.

4 . التأثير النسبي لكلّ جزء من الأجزاء في تحقيق الهدف، وارتهان تحقق الهدف باجتماعها وائتلافها .

5 . عنصر الربط وعامل تلك العُلقة الموجدة بين الأجزاء(3).

ص: 73


1- لاحظ أضواء على براهين إثبات الله الجوادي الآملي ص 227 مدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام، جعفر السبحاني ص 78 -79 [المصادر باللغة الفارسية ]
2- المدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام، مصدر سابق، ص 73.
3- براهين إثبات وجود الله في نقد لشبهات جون ،هاسبرز حمید رضا شاکرین، ص 148 [بالفارسية].

ويُقسّم النظام - بالنظر إلى إحدى الجهات - إلى نظام صناعيّ، ونظام طبيعي . أما النظام الطبيعي التكويني فهو أن تكون العلاقة وحالة الترتيب السائدة على أجزاء ظاهرة ما، أمراً تكوينيّاً وطبيعياً؛ لا أمراً وضعيّاً أو ناشئاً من التركيب الصناعي.

وينقسم هذا النظام التكويني إلى ثلاثة أقسام:

1 . نظام ناشئ من العلاقة بين العلة الفاعلية ومعلولها، أو قل : «النظام السَبَبي والمسببي» (1).

2 . نظام ناشئ من العلاقة بين العلّة الغائيّة مع معلولها، أو قل: «النظام الغائيّ»(2)

3 . نظام ناشئ من العلل المقوّمة، أو العلائق الداخلية بين أجزاء الشيء الواحد مع بعضها، أو قل : «النظام الداخلي»، أو «النظام الجمالي» (3) . وهنا، لابد من الإشارة إلى أنّ «النظام» المبحوث عنه في هذا البرهان هو النظام الطبيعي - لا الصناعي، ولا الوضعيّ - وهو نظام غائي ذو هدف(4).

2/5/3 .أضواء على دليل النظام :

يرتكز أساس هذا الدليل على الامتناع العقلي لانعدام صانع أو ناظم هادف يقف خلف ما نجده من نظام أو انسجام سائد على أرجاء الكون(5). وبعد اتكائه على وجود شيء أو أشياء خارجية تتسم بالنظام الغائي ( الهادف)، يوظف هذا النمط الاستدلالي مبدأ «السببية»، فيُثبت به «وجود الله» بصفته «سبباً غير مادي وعالماً وقادراً».

ص: 74


1- Cousal order .
2- Teleological order .
3- Aesthetistical order . وقد يسميه البعض بالنظام الاستحساني. [م]
4- براهين إثبات وجود الله في نقد لشبهات جون هاسبرز، مصدر سابق، ص 149.
5- المصدر السابق، ص 147.

وفي البراهين الغائيّة عادةً ما يُفترض وجود غاية أو غايات للطبيعة أو الموجودات الطبيعيّة، ثم يُنظر إلى أنّ وجود غاية للفعل تستلزم وجود وعي وشعور في فاعل ذلك الفعل، في حين أن العوامل الطبيعية فاقدة لأيّ وعي أو شعور، فيُستنتج من ذلك: ثبوت فاعل في هذه الطبيعة، يفوق الطبيعة، ويمتلك الوعي والشعور؛ وهو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى(1).

وقد ذكروا لدليل النظام تقريرات عديدة، يتفق جميعها في اعتماده على مقدمتين؛ إحداهما حسّيّة، والأخرى عقليّة:

* المقدّمة الأولى : مشاهدات عينيّة، وبحوث علمية تحكي لنا وجود نظام هادف يسود الموجودات الطبيعية. ومن أجلى وأبرز مظاهر النظام للإنسان ما يشاهده في عوالم النباتات والحيوانات والإنسان، والتي تولّت دراستها والتدقيق في نظامها وانسجام أجزائها، وأهدافها، وآثارها المترتبة عليها، حقول علميّة ؛ مثل: الفيزياء والكيمياء والأحياء. فعلى سبيل المثال : تتكاتف جميع تنظيمات «العين» - بما فيها الحدقة، وأغشيتها المتنوّعة، وشتّى ألوان المياه والمخاريط ، وأعصاب البَصَر ، والعضلات التي تؤدّي إلى اكتمال حركة العين وتتضافر جهودها بكميات وكيفيات معيّنة، لتحقق هدفاً محدداً يُسمّى «الإبصار». والكشف عن وجود نظام يلفّ الطبيعة أمر يشترك فيها العالم والجاهل؛ فالفلاح الأمي يفهم من خلال تفحّصه للأرض والشجر أنّ نظاماً ما يسود هذا العالم، وهو ما أدركه العلماء، فانطلقوا بعد توصلهم لوجود قوانين تكوينيّة نحو التفكير في اكتشافها .

* المقدّمة الثانية : إدراك العقل وفهمه لوجود علاقة منطقية واضحة تربط بين «النظام» الذي يسود العالم وهدفيّته من جهة، و«الوعي» من جهة أخرى؛ فالعقل يوحي إلى صاحبه أنّ الجهاز الذي تتحلّى به كلّ من هذه الظواهر يحكي عن ألوان من الحسابات والمعادلات جعلت الأجزاء المختلفة فيها تتناغم وتتناسب فيما بينها كماً وكيفاً، وفرضت عليها حالةً من التعاون والانسجام، ليتحقق - في نهاية المطاف -

ص: 75


1- النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، مصدر سابق، ج1، ص 57.

الهدف المنشود. وهو أمر لا يُعقل أبداً أن نعدّه مسبّباً عن أي عامل عديم الوعي؛ لأنّ وضع الحسابات والمعادلات التي تشكل أساس النظام، أمر لا يصدر إلا عن علم وإدراك، ولا يُحسن فعله إلا فاعل عليم وقدير؛ وليس الفاعل الفاقد للشعور (1).

ويُعدّ المدّعى القاضي بأنّ «انتظام العالم لا يصح فرضه أو شرحه وتبريره إلا بوجود ناظم له روح دليل النظام. هذا، وإن كانت تقريرات الغربيين منصبة على التمثيل بالمصنوعات البشريّة؛ ولهذا تجد بيلي (1805م) يقارن بين «العين» و«الساعة»، ويستدلّ قائلاً : لو عَثر شخص يعيش في جزيرة نائية على «ساعة»، فإنّه سيصدّق - لا محالة - بأنّها صُنعت بيد موجود عاقل. ومن هنا، ينبغي على الإنسان أن يتفحص «العين»، ليستنتج من ذلك أنّ موجوداً عاقلاً هو الذي صنعها (2). لكن من الجدير أن نلتفت هنا إلى أنّ دليل النظام في عالم التكوين غير مقتبس من المصنوعات البشرية.

أما التلازم العقليّ القائم بين «النظام» في ظاهرة ما، و«الوعي» الذي يتصف به فاعل تلك الظاهرة، فهو جوهر هذا الدليل . ووجود «الشرور» في عالم الطبيعة ما هو إلا نتيجة لنظام تكويني ، وليس ينفي «الهدفيّة»، ولا «الوعي».

وعليه : لا تَرِد المناقشات الستة التي سطرها ديفيد هيوم (1776م) في مصنَّفه «حواريات في الدين الطبيعي»؛ وهو كتابٌ نُشر قبل ثلاثة وعشرين عاماً من حديث وليام بيلي (1805م) ، وقد رُدّ عليه بمجموعة من الردود(3).

ص: 76


1- لاحظ مدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام، مصدر سابق، ص 74-76 . وقد ذكروا لإثبات المقدمة الثانية طرقاً متعدّدة؛ منها: -1 المنهج التحليلي. 2- المناهج البرهانية؛ كالمنهج المبتني على مبدأ السببية، والمنهج المبتني على الاختيار والانتقاء. 3- المنهج المبتني على الاستقراء. للتوسع في ذلك راجع دليل النظام؛ دراسات في الطبيعة ،والحكمة أحمد ديلمي، ص 113-115 .
2- براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، مصدر سابق، ص 78.
3- لمزيد من التوسع في مناقشات هيوم، وسائر الإشكاليات والردّ عليها لاحظ براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، م.س، ص 78- 79 أضواء على براهين إثبات الله، م.س، ص 231-243؛ مدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام ،م. س ص 80-109 فلسفة الدين جون هيك، م.س، ص 61-68؛ براهين إثبات وجود الله في نقد لشبهات جون هاسبرز م س ص 160-174 [المصادر باللغة الفارسية ]

وقد دلّت على هذا البرهان مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة؛ منها قوله تعالى:

*( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ) (1).

*(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (2) .

*(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمينَ)(3).

* (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (4).

*وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (5).

* (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(6).

وهناك آيات عديدة أخرى جاء بها القرآن الكريم، ودلّت على إثبات وجود الإله العليم القدير على أساس من «دليل النظام» أو «البرهان الآياتي » (7).

ص: 77


1- سورة الروم: 20 .
2- سورة الروم: 21 .
3- سورة الروم: 22 .
4- سورة الروم: 23 .
5- سورة الروم: 24 .
6- سورة البقرة: 164.
7- سورة الرعد: 3 ، والروم: 25، والأنفال: 62-63 .

وحاصل ما تقدّم أنّ العقل والنقل الديني يُثبتان دليليّة هذا البرهان في إثباته لموجود عليم قدير حكيم، وناظم لعالم الطبيعة، بيد أنّ إثبات «وجوب وجوده» متوقف على «برهان الوجوب والإمكان».

3/5/3 . دليل النظام ونظرية داروين:

ينطوي ظهور الأنواع عند العلماء على فرضيتين:

1 . فرضيّة «ثبات الأنواع» القاضية بخلق مستقل وظهور فجائي لها.

2 . فرضيّة «تبدّل الأنواع» الذاهبة إلى اشتقاق الموجودات من بعضها البعض.

والسؤال المطروح هنا هو : هل يمكن لنا أن نعدّ نظرية ثبات الأنواع متسقة مع متبنيات الإلهيات ودليل النظام، ونصف نظرية «تبدل الأنواع» بأنها نافية ومنكرة لذلك؟ ذهب البعض إلى أنّ نظرية داروين تتعارض مع «برهان إتقان الصنع»(1)، أو «البرهان الغائيّ »(2)؛ بنحو لا يمكننا من التدليل على وجود الله بهذا البرهان الذي يُعدّ أهمّ الأدلّة على وجوده سُبحَانَهُ وَتَعَالى. وما من شك في أن برهان إتقان الصنع أو دليل النظام يُمثل - إلى جانب البراهين الوجودية والكونية - إحدى أهمّ الحجج التقليديّة الثلاثة.

وكما تقدّم، فإنّ هذا البرهان يهدينا إلى الحقيقة القاضية بأنّ العالم دال على وجود نظام هادف، متّسم بالتخطيط والتدبير. وعليه يجب أن يكون صانعه عاقلاً ومدبّراً وحكيماً. والميزة الأساسيّة للنظام الهادف أنه يجتر مفاهيم لإحداثيات وأجهزة ائتلفت فيما بينها بنحو متناغم، يُفضي إلى نتيجة معينة.

يقول اللاهوتي والفيلسوف الإنجليزي وليام بيلي (1805م) في تبيينه لهذا البرهان :

ص: 78


1- Argument of design.
2- Teleological argument.

إذا عثر أحدهم على ساعة في جزيرة مهجورة، فمن حقه أن يفكر في أنّ صانعاً عاقلاً هو الذي صنعها. ووفقاً لنظرية التكامل، فإن تركيبة العناصر في زماننا الراهن قد ولدت من رحم عناصر أخرى أكثر بساطة منها عبر عمليات طبيعية محضة. وعلى أساس ذلك، فإنّ عاملين رئيسين لعبا الدور الأهم هنا؛ وهما : أوّلاً: الطفرة(1)، وثانياً: وفرة النسمة . أما الطفرة فتحدث حينما يتوافر الطفل الوليد على عنصر يتمايز فيه مع الأب والأم بما يمكنه من نقل هذا التمايز إلى نسله أو الأجيال من بعده من خلال نسله. وقد صبّ داروين كلّ اهتمامه في أن يُبرّر ويشرح كيفية انبثاق العناصر المعقدة من بوتقة عناصر بسيطة (2).

وقد ذكروا في بيانهم واستعراضهم لدليل النظام قراءات وتقارير مختلفة، غير أن داروين وكما يقول لورن آيسلي (3) (1977م) لم يدحض سوى قراءة «الساعة وصانع الساعة»(4). ولعلّ ذلك لأنه في بعض مصنفاته الأخرى عد قوانين تكامل الحياة مخلوقة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، غير أنه اختار انبثاق الأنواع الجديدة الخارجة من رحم التكامل وليدةً للصدفة، وليس حصيلةً لتخطيط أو تدبير سابقين.

وهنا، لا بدّ من الالتفات إلى أن التمعن في مؤلّفات داروين يهدينا إلى ما قصده من «الصدفة» ؛ إذ لم يعن به سوى جهلنا بالعلل والعوامل الموجدة للظواهر؛ وإن كان قد أبدى معارضته الشديدة لمبدأ الغائيّة أو الهدفية.

ومهما يكن من أمر، فإنّ بعض العلماء ذهبوا في تفسيرهم للعلاقة بين الله والطبيعة إلى القول بأن الخالق سلك في عمله طريق التكامل، وأنه دبّر أطروحةً تتفتح معالمها و تتوسّع آفاقها بنحو تدريجي(5).

ص: 79


1- Mutation.
2- الله في الفلسفة، بهاء الدين خرمشاهي ص84. [بالفارسية]
3- [م] Loren Eiseley
4- العلم والدين ص 113 .[بالفارسية ].
5- العلم والدين، ص 113 .

ومن جهة أخرى فقد انبرى جماعة آخرون بعد ظهور كتاب «أصل الأنواع»، ليُعلنوا أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى قد اكتفى من عمليّة «الخلق»، واستقال ببركة «القوانين الثابتة التي لا تتغيّر» عن إدارة العالم (1).

لقد أدى ظهور نظرية داروين وتشابكها مع العقيدة بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى تفجر جدل واسع في أوروبا، انقسم فيه المفكرون إلى موالٍ ومعارض؛ فذهبت طائفة إلى إنكار ما آلت إليه نظريّات ،داروين وذبّت عن حياض الإيمان بالله وانطلقت جماعة أخرى للخدش في دليل النظام، والوصول من ذلك إلى نتائج إلحاديّة، وحاول فريق آخر بشيء من الحذاقة الجمع بينهما ؛ فعلى سبيل المثال لم يرتض بعض الأعوان المقرّبين من داروين - مثل تشارلز ،لاين وهرشل - فرضيته في «الاصطفاء الطبيعي» مع أنهم في الوقت ذاته لم يعدّوها متقاطعة الدین أو الحكمة الإلهية. وقبل ذلك، فإنّ المفكرين الإسلاميين لم يجدوا بين الداروينية وإتقان الصنع، أو اتصاف العالم بالتدبير أي تعارض يُذكر، ذاهبين إلى أنّ هذه النظرية عاجزة عن إثبات فرضيّة استقلال المادّة في حركتها واستغنائها عن العامل الخارجيّ؛ فإن انخراط المادة ضمن حالة قانونية دليل على إتقان الصنع وحكمته، كما أنّ ظهور أنواع جديدة في الجمادات والنباتات والكائنات الحية أيضاً آية من آيات الحكمة في الخلق، ومدخليّة اليد الغيبية في تلك الظواهر.

إنّ الإيمان بنظرية «تطوّر الأنواع» - كما الإيمان بنظرية «ثبات الأنواع» - لا تتنافى مع مبدأ التوحيد أو الإيمان بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وكلاهما يُثبت - على نحو سواء - وجود نظام متجدر ومرموز في هذا العالم، ويعدّ هذا النظام أجود علامة تدلّ على وجود الله؛ فأي نظام أسمى من أن يخلق الله كلّ هذه الكائنات الغريبة المذهلة المتنوعة من كائن أحادي الخلية؟!(2).

ص: 80


1- الدين والعلم، برتراند راسل، ص 53 .
2- دراسة حول الداروينية، ص 153-155 تطوّر الأنواع وحكمة الصنع، مجلة الكلام الإسلامي، العدد 15 .

هذا، وقد أشار العلامة الشهيد مرتضى المطهّري (1399ه) إلى الرؤية التي تقول بأنّ المبادئ التي ارتكز عليها لامارك وداروين لوكانت كافية لظهور النظام في الطبيعة لانتقض بذلك دليل النظام في دليليّته على إثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لكنّه أضاف أنّ المبادئ تلك لا تُبرّر الطبيعة؛ إذ لا يكفي الظهور التدريجي أو التطوّر الصدفي في الجهاز العضوي للنباتات والحيوانات ليكون مبرراً كافياً لوجود هذا النظام الدقيق، وإنّ كلَّا من هذه الأجهزة - كالجهاز الهضمي والتنفّسي وجهاز الإبصار والسمع وما إلى ذلك - يُشكل حلقة من سلسلة باهرة مذهلة، يرمي مجموعها إلى عمل وهدف واحد ومع ذلك، فلا مبرّر يدعونا للقبول بأن تطوّراً صدفيّاً هو الذي أوجد ذلك كلّه؛ ولو على نحو تدريجي. ولهذا نرى أن مبدأ التطوّر ما فتئ يدلّ ويُشدّد على مدخليّة قوّة مدبّرة وهادية ومسيّرة(1).

وبهذا، يكون العلامة المطهّري (1399ه) قد شرح أسباب مدعى التعارض بين النظرية الداروينية ودليل النظام، مرجعاً ذلك إلى هشاشة أسسه الفلسفية، لكنّه أذعن في موضع آخر بوجود هذا التعارض بين النظرية والدليل المشار إليهما، غير أنه لم يُسلّم بتماميّة المبادئ التي انطلقت منها تلك النظرية.

وقد أوضح في بيانه لهذا التعارض ما مضمونه بعد صراع الكائنات على البقاء، وتغلّب الكائن الأقوى واستمرار هذه الغلبة في الصراع عند الأجيال التالية التي انتقلت إليها من خلال الوراثة خصائص وسمات معيّنة على نحو من الصدفة، ليكون نظام الخليقة حصيلة لخصائص متكرّرة امتازت بها الكائنات، وجدت بشكل صدفي بموجب قانون صراع البقاء، وبقاء الأصلح والأنسب.

وهنا يُقال : إذا كان هذا النظام قد وجد منذ البداية مع هذه الخصائص والسمات، فإنّ المبرّر الوحيد لها هو وجود مدخليّة لمدبّر حكيم صدرت عنه. أما لو أذعنا بوجود

ص: 81


1- الدوافع نحو المادّيّة، مرتضى المطهّري، ص 122 .[بالفارسية]

ذلك ضمن حركة تدريجيّة استغرقت مئات ملايين السنين، فعندئذٍ يكون انعدام وجود المدبّر أمراً قابلاً للتبرير (1).

وفي اعتقادنا، فإنّ نظريّة الاصطفاء الطبيعي لا تتنافى مع إثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى للأسباب التالية :

1 . فرضيات العلوم التجريبية وإنجازاتها متغيّرة ومتبدّلة على نحو الدوام.

2 . دليل النظام ليس هو البرهان الوحيد، ولا حتى أهم الأدلة على وجود الله؛ فهناك في هذا الحقل حجج وبراهين تفوقه في الأهمية والقوة.

3 . لا ينحصر عالم الخلق بالنباتات والكائنات الحيّة؛ حتى يتسنى لنظرية تطوّر الكائنات الحيّة أن تنفض اليد عن وجود ربّ مدبّر حكيم لها؛ إذ كيف يمكن لهذه المبادئ الداروينية أن تفسر وتبرّر وجود كل هذا النظام في العالم العلوي والكواكب

والمجرات ؟!

4. مفهوم «الغائيّة» أو «الفيناليزم» قضيّة فلسفيّة محضة، ولا يحق لعلماء الأحياء التدخل فيها، وإبداء آرائهم بالإيجاب أو السلب. وإن وجود قوى تفوق الطبيعة، وتُسيّر الأحداث الطبيعية دعوى فلسفيّة لا تقبل الأخذ أو الردّ إلا ضمن سياقاتها الفلسفية.

5 . لا تدلّ التطوّرات الصدفية أبداً على نفي الهدف أو العلة الغائيّة؛ لأنّ هذه الدعوى ناشئة من جهل الإنسان، وكما يعبّر العلامة الطباطبائي فإنّ القول بالصدفة ينطلق من الجهل بالأسباب الحقيقيّة، وكذا الجهل بنسبة الغاية إلى ذي الغاية(2).

هذا، وقد أيد بعض الكتاب - خلافاً لما هو متوقع منهم - هذا اللون من التعارض قائلاً:

ص: 82


1- التوحيد مرتضى المطهّري، ص 248-250 .[بالفارسية]
2- لاحظ: نهاية الحكمة محمد حسين الطباطبائي، ص 190.

«لقد فجّر داروين ثورةً نيوتينية في عالم علم الأحياء. ولم تكن تلك الثورة غير انقشاع ضباب التفاسير الغائيّة عن سماء الحياة والأحياء، واستبدالها بتفسيرات علّيّة بدل تلك التفسيرات الغائيّة. إنّ نظريّة تطوّر الأنواع تقدّم في واقع الأمر تفسيراً عليّاً عن عالم العناصر بما يُغني العلماء عن الخوض في إيجاد تفسير غائيّ، ويفتح الباب على التفسير الصدقيّ للعالم الحيّ. فعلى أساس من نظرية خلق الساعة لا يمكن الإذعان بأنّ أنواعاً بهذه العظمة والتعقيد صمّمت من دون ناظم؛ فإنّ احتمال تحوّل مادّة فاقدة للحياة إلى إنسان ضئيل جداً بما لا يُساعد على الوثوق به. أمّا في إطار رؤية الخلق المتطوّر، فلا بعد في قبول صدفية نشأة الأنواع؛ لأنّ العالم يشهد تطوّراً، والأنواع تتبدل تدريجياً من أنواع شديدة البساطة لترى النور بعد ذلك.. وبعبارة أخرى: فإنّ نظرية التطوّر هذه تهدينا إلى أنّ دلالة النظام على ناظم مرهونة بما لو جهلنا الظروف المحيطة بالحدوث الصدفي

للظاهرة، وفيما لو عجزنا عن تفسير ذلك بما نملكه من آليات مادية»(1).

يعاني هذا الكلام من عدة أوجه تعرّضه للنقد؛ نذكرها باختصار فيما يلي:

1 . إذا صح وصمُ ما قام به داروين على أنه ثورة في علم الأحياء، وانقشاع لضباب التفسيرات الغائية، واستبدالها بتفسيرات عِلّيّة، فإنّ الأصح إذن أن يُقال للكاتب الموقر : إنّ هذه الثورة انطلقت منذ عهد غاليليو (2) (1642م) في مطلع القرن السابع عشر، واستبدلت فيها تفسيرات أرسطو (322 ق.م) الغائية إلى تفسيرات علية! يقول باربور(3) (2013م) في هذا الصدد: «بعد انحسار التشبّث بالعلّيّة الغائيّة استبدل

ص: 83


1- موقف العلم والدين في خلق الإنسان، أحد فرامرز قراملكي، ص 44-45 .[بالفارسية]
2- غاليليو غاليلي Galileo Galile : عالم فلكي وفيلسوف وفيزيائي إيطالي، ولد في بيزا في إيطاليا. نشر نظرية كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية، فقام أولاً بإثبات خطأ نظريّة أرسطو حول الحركة، وقام بذلك عن طريق الملاحظة والتجربة [م]
3- إيان باربور In Barbour : فيزيائي وفيلسوف أمريكي معاصر كرّس جهوده في إثبات العلاقة بين العلم والدين. عمل أستاذاً في كلّيّة كارلتون في نورثفيلد بولاية مينيسوتا الأمريكية، لأكثر من ثلاثة عقود. أثار نقاشات بين العلماء واللاهوتيين على قضايا فكرية أساسيّة؛ مثل: نشأة الكون، والآثار الأخلاقية المترتبة على التكنولوجيا. حصل على جائزة تمبلتون المرموقة. توفي مؤخّراً عن عمر ناهز التسعين. [م]

تعريف الله، والتصوّر المرسوم عنه، بصفته الخير الأسمى الذي ترجع إليه الأمور كلّها، بتعريف آخر يصفه بالعلّة الأولى، حيث يُشار إليه بعنوانه أوّل حلقة من سلسلة العلل الفاعلية» (1).

2 . نظراً إلى ما أولاه العلماء من اهتمام بالطبيعة يعود قدمه إلى أربعمائة عام، فمن اللازم - حسب تلك الرؤية - ألا يخوض أيّ عالم في تفسيرات غائيّة لعالم الطبيعة، وأن نبرئ ساحة العلماء من هذا اللون من التفسيرات والبحوث الطبيعية؛ لأن واجبهم العلمي يمنعهم من ذلك نفياً أو إثباتاً، لكنّ الفلاسفة لا يحق لهم عدم الاكتراث بهذه الرؤية.

3 . إذا آمن أحدهم بتفسير عِلّيّ عن العالم، وأعاد حلقات سلسلة العلل والمعاليل إلى العلة الأولى مع اتصافها بصفات؛ مثل: «وجوب الوجود»، و«الحكمة»، و«العلم المطلق»، و «القدرة المطلقة»، و«إرادة الخير التي لا حدّ لها»، وما إلى ذلك، فلا محيص له من الإذعان بالعلة الغائيّة والتفسير الغائي عن العالم أيضاً؛ وذلك لأنّ حكمة الواجب تعالى واستغنائه عن غيره، يُثبت لنا هدفية فعله.

4 . إذا ألحقنا التطوّر الدارويني التدريجي بحساب الاحتمالات الرياضي العقلائي أمكن لنا إثبات النظام الهادف والخالق الهادف بنحو رياضي.

4/5/3 .دليل النظام والنظرية الكمية:

النظرية الكمّيّة (2) نظريّة متداولة أخرى في الفيزياء الحديثة، ولعلّ فيها تعارضاً

ص: 84


1- العلم والدين، ص 37. [بالفارسية]
2- النظرية الكمية Quantum Theory - أو فيزياء الكم Quantum Physics ، أو ميكانيكا الكم Quantum Mechanics - : نظرية فيزيائية أساسية، جاءت كتعميم وتصحيح لنظريات نيوتن التقليدية، ودمجها بالحركة الموجيّة خاصّةً على المستوى الذري ودون الذري. أمّا الكَمْ - أو : الكَمة - Quantum في علم الفيزياء: فهو مصطلح يُستخدم لوصف المقدار الأقل من المادة أو الطاقة المُمْكِنُ وُجوده، أو قل: أصغر مقدار من الطاقة يمكن أن يوجد مستقلا. اكتُشفت الظاهرة الكمومية عام 1900م على يد العالم الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (1858) Max Planck-1947م). [م]

ظاهرياً مع دليل النظام الفيزياء هو علم دراسة الطبيعة (من الذرّة إلى المجرّة) لمعرفة خواصها والقياسات فيها. وقد جاءت ميكانيكا الكم التي هي فرع من الفيزياء النظرية كبديل عن ميكانيكا نيوتن الكلاسيكية، وأخذت على عاتقها وصف العالم الميكروسكوبي وحالات الذرّة، بمقياس ذرّيّ ودون ذرّيّ على أساس من حساب الاحتمالات. وقد ساهم في تأسيس هذا اللون من المعرفة جماعة؛ منهم:

بلانك (1) (1947م)، وشر ودنغر (2) (1961م)، وبور(3) (1962م)، وهايزنبرغ (4) (1976م)، وديراك (5) (1984م)، وغيرهم .

لا تؤمن الفيزياءُ الكمّيّة بدوران الإلكترون في فلك النواة كما في المنظومة الشمسية منكرةً هذا النمط من حركة الإلكترونات ومستعيضةً عن ذلك بتفسيرها المبتني على نظرية «ازدواجية موجة - جُسيم»(6).

يتمركز الجسيم في نقطة معينة من الجو، ويتناثر الموج فيما حوله. يوصف الإلكترون

ص: 85


1- ماكس بلانك (1858) Max Planck-1947م فيزيائي ألماني، من أقدم مؤسسي نظرية الكمّ، وأحد أهم علماء الفيزياء في القرن العشرين [م]
2- إرفين شرودنغر (1887) Erwin Schrodinger - 1961م) : فيزيائي نمساوي اشتهر بإسهاماته في ميكانيكا الكم وقدّم فيها معادلة حملت اسمه، وحاز من أجلها على جائزة نوبل في الفيزياء. [م]
3- نيلس بور (188) Niels Bohr-1962م): فيزيائي دنماركي ترأس لجنة الطاقة الذرية الدنماركية ، وأسهم في صياغة نماذج لفهم البنية الذرّية وميكانيكا الكم.[م]
4- فيرنر هایزنبرغ (1901) Werner Heisenberg-1976م) فيزيائي ألماني اكتشف أحد أهم مبادئ الفيزياء الحديثة ؛ وهو مبدأ الارتياب (اللاتعيّن)، وحاز على جائزة نوبل في الفيزياء [م]
5- بول ديراك (1902) Paul Dirac-1984م): فيزيائي بريطاني من مؤسسي ميكانيكا الكم، عُرف بتطوير نظرية فيزيائية عامة تشمل في طياتها نظريات هايزنبرغ وشرود نغر . [م]
6- يُقال في علم الفيزياء أنّ هذه الازدواجية - أو المثنوية كما قد يُعبر أحياناً - هي خاصية مميّزة للجسيمات المجهرية تمكنها من التصرف في بعض الأحيان كموجة وفي البعض الآخر كجسيم. ولعلّ من أبرز الأمثلة لتمثيل هذه الظاهرة هو الضوء؛ ففي ظاهرة التداخل يتصرّف الضوء (الفوتون كموجة وفي ظاهرة المفعول الكهروضوئي يتصرف كجسيم مادّي (فوتون). بالمقابل أمكن إجراء تجربة التداخل بواسطة الإلكترونات وهذا يدعم بشكل مطلق الازدواجية جسيم موجة في جميع الأجسام دون الذرية [م]

في الفيزياء الكمّيّة بصفة الجسيم تارةً، وبصفة الموجة تارةً أخرى. ولا يتسنّى بيان هيكليّة الذرّة ونسيجها في هذا النموذج من خلال الحواس الظاهرية، وبكيفيات حسّية، ومقولات زمانية ومكانية وسببية.

الإلكترون الواحد هو كمّ واحد ويرتهن كون الإلكترونات أو الكمومات (الكمّات) موجاتٍ أو جسيمات بالناظر. لا تمتلك الإلكترونات الذرية في حين انعدام الناظر نطاقاً أو حدّاً معيناً، وتتبدّل إلى موجات .

وفيزياء الكمّ لاتميّز بين الواقع الذاتيّ (1)والواقع الموضوعيّ (2)، ولا تتماشى مع مسلك الواقعية الساذجة (3) ، وهي تولي الشخص المجرّب (المشاهد) في عمليات التجربة أهميةً بالغة. ولهذا، ليست هنالك قوانين دقيقة تحكم الذرّة(4).

إلى هنا، قمنا بإلقاء نظرة عابرة على فيزياء الكمّ، ووصل الدور إلى بيان دليل النظام ليتبيّن لنا : هل العلاقة القائمة بينهما هي علاقة تحد أم لا علاقة بينهما أساساً؟

ص: 86


1- [م] .Subjective
2- Objective. [م]
3- الواقعية Realism هي المذهب الذي يقرر للواقع الخارج عن التعقل وجوداً مستقلا، ويقيس صدق الكلام بمطابقته للواقع، وهي بهذا المعنى تعارض المثالية [ر] idealism فترفض أن تربط وجود الأشياء والطبيعة بالوجود الإنساني وترى أن للعالم وجوداً عينياً مستقلاً عن الذات العارفة وأحوالها وقد برزت في هذا المذهب نظريتان: نظرية ترى أن الإدراك إلمام مباشر بأشياء أو كائنات مختلفة عن الذات المدركة، ونظرية غير مباشرة يكتسب فيها إدراك الصور التي تتشكل في العقل المكانة الأولى، وقد عرفت هذه النظرية بالواقعية الثنائية dualist realism لأنها تقول بوجود الأشياء في العالم وبصورها في الذهن وتفرع عنها نظرية الواقعية التمثيلية representatives والواقعية النقدية critical ، في حين انبثق عن النظرية الأولى ما يعرف بالواقعية الساذجة naive realism والواقعية الجديدة neo-realism. تتفق الواقعية الساذجة مع ما يراه عامة الناس الذين يسلمون دون نقد أو مناقشة بأن العالم الخارجي موجود كما يتبدى للحواس دون تعديل أو تحوير فما يدرك من خصائص الأشياء إنما يمثل حقيقتها، ومن ثمّ فإن دور الإنسان في المعرفة يشبه دور «آلة التصوير» الذي يقتصر على نقل الأشياء وإبرازها دون تفكير أو نقد. انظر: الموسوعة العربية، ج22، ص 113 مقالة «الواقعية»، لسوسان إلياس. [م]
4- راجع العلم والدين إيان ،باربور، القسم الثالث و: Herbert, Nick, Quantum Reality: Beyond the new phisucs (New York: Doubleday, 1985) p: 30

تبتني القراءات والتقارير المتنوّعة لدليل النظام على وجود نظام في الطبيعة، يدلّ بدوره على وجود ناظم حكيم. وهنا نتساءل: ألا تؤدّي حالة التشويش واللانظام التي يشهدها عالم الذرّة وما دون الذرّة حسبما تعرض لها فيزياء الكم - كما يحلو للبعض أن يدعي - ، وكذا انهيار الانطباع السائد حول النظام في الطبيعة، ومبدأ الارتياب(1)، أو اللاتعيّن(2) في فيزياء الكم، ألا يؤدّي ذلك كلّه إلى غياب التدبير والتخطيط الشامل في العالم الميكروسكوبي؟ هل سوف يمكن إثبات وجود الله في ظلّ إنكار مبدأ السببية في فيزياء الكمّ؟ ويبدو في الوهلة الأولى أنّ هذا البحث يدلّنا على تصادم فيزياء الكمّ ليس مع دليل النظام وحده، بل مع أي لون من ألوان التدليل والبرهنة المبتنية على مبدأ السببية.

والغريب في الأمر أنّ الفيزياء التقليدية مع جزميّتها، ودعوى امتلاكها القدرة على التنبؤ ، وكذا مسلكها الاختزالي، كانت تحاول إنكار الربوبية والتدبير الإلهي، لكنّ فيزياء الكمّ - حسب قراءة البعض بطبيعة الحال - تسعى جاهدةً من خلال إنكار مبدأ السببية، أو من خلال مبدأ الارتياب (اللاتعيّن)، أن تغلق عينيها عن الاعتراف بالنظام الذي يسود الكون، وأن تنكر وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى . وليس هذا النمط من الاستنتاجات اللاهوتية التي سطرتها الفيزياء التقليدية أو فيزياء الكمّ إلا ثمرة أفرزتها الفلسفة الغربية السقيمة.

وهنا نتساءل باختصار : هل إن حالة الارتياب وعدم التأكد ناتجة عن اللاتعين في الطبيعة؟ أم أنه إقرار بجهل البشر ليس إلا؟ هل يعني ذلك غياب قوانين دقيقة تحكم

ص: 87


1- مبدأ الارتياب - أو مبدأ عدم التأكد، أو الريبة، أو اللايقين - Uncertainty Principle أحد أهم المبادئ في فيزياء الكمّ. صاغه العالم الألماني هايزنبرغ (1976 Heisenberg)، وهو ينص على عدم إمكانية تحديد خاصيتين مقاستين من خواص جملة كمومية إلا ضمن حدود معينة من الدقة؛ أي أن تحديد أحد الخاصيتين بدقة متناهية (ذات عدم تأكد ضئيل) يستتبع عدم تأكد كبير في قياس الخاصية الأخرى، ويشيع تطبيق هذا المبدأ بكثرة على خاصيتي تحديد الموضع والسرعة لجسيم أولي فهذا المبدأ معناه أن الإنسان ليس قادرا على معرفة كل شيء بدقة 100%. ولا يمكنه قياس كلّ شيء بدقة 100%، إنما هناك قدر لا يعرفه ولا يستطيع قياسه [م]
2- [م] . Indeterminacy Principle

عالم الذرّة، أم أننا لم نتوصل بعد لكشف هذه القوانين؟ وبعبارة أخرى: هل إنّ هذا الارتياب بذاته عيني خارجي أم ذهني اعتباري؟

لقد أجاب الفيزيائيون والفلاسفة الغربيون على هذه التساؤلات بإجابات مختلفة؛ منها قولهم:

1 . إنّ الارتياب وعدم التأكّد عائد إلى الجهل الذي يغمر الإنسان في الوقت الراهن. وهذا الرأي يجمل في خلفيّاته الإيمان بوجود قوانين دقيقة تنتظر من يكتشفها في المستقبل.

2 . يرتبط الارتياب وعدم التأكد بالقيود التجريبية أو المفهومية الداخلية؛ لأنّ الشخص المجرّب (المشاهِد) سوف يعمد - لا محالة - إلى التشويش على النظام الذي يقوم بتجربته أو مشاهدته، وإنّ النظريات المرتبطة بالذرّة لا بدّ لها من أن تستخدم المفاهيم المتداولة، والذرّة - نفسها - كانت وما تزال في غير متناول اليد.

3 . يعود الارتياب وعدم التأكد المذكور إلى اللاتعين في الطبيعة ذاتها؛ أي أنّ عالم الذرّة ينطوي على قوى وقابليات بديلة.

الرأي الأوّل - الذي مال إليه بلانك (1947م)، وأينشتاين (1955م)، وديفيد بوم (1992م) - هو اعتراف بالمنهج الواقعي إبستمولوجياً، وهو قول بالجبرية أنطولوجيّاً. أما الرأي الثاني الذي ذهب إليه نيلز بور فهو رؤية تنتمي للوضعية(1) ،وتفوح منها رائحة اللاأدرية (2)؛ لأننا لن نتمكّن على الإطلاق من الوقوف على نشاط

ص: 88


1- مذهب الوضعية Positivism يمثل إحدى مدارس فلسفات العلوم من أبرز معالم هذه الرؤية أن المعرفة الحقيقيّة في مجال العلوم الاجتماعيّة والعلوم الطبيعيّة هي المعرفة والبيانات المستمدة من التجربة الحسية والعلاجات المنطقية والرياضية لمثل هذه البيانات والتي تعتمد على الظواهر الطبيعية الحسية وخصائصها والعلاقات بينهم والتي يمكن التحقق منها من خلال الأبحاث والأدلة التجريبية. [م]
2- مسلك اللاأدرية (الأغنوستيّة) Agnosticism: توجّه فلسفيّ يقول أنّ القيمة الحقيقية للقضايا الدینیّة أو الغيبية غير محدّدة ولا يمكن لأحد تحديدها. وباختصار فإنّ أتباع اللاأدرية يؤمنون باستحالة التعرف على وجود الله والتوصل لهذا الإيمان ضمن شروط الحياة الإنسانية. [م]

الذرّة وحراكها في الفترات التي تفصل بين الملاحظات والتجربات التي تجرى عليها. وأمّا الرأي الثالث فيعود إلى رؤية هايزنبرغ (1976م)(1).

لقد اتّضح من الرأي الأوّل والثاني رؤيته في نفي أي تقاطع أو تعارض بين دليل النظام أو سائر براهين إثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وفيزياء الكم، وقد خلص الرأيان إلى أن النقص إن وجد فهو متوجّه إلى المقدرة البشرية في الإدراك راهناً أو بشكل دائم. وينصب أساس المشكلة عند اعتناق الرأي الثالث في النظرية الكمية. لكنّ هذه الرؤية لا يمكن لها أن تخدش في مصداقية دليل النظام أو أدلّة إثبات وجود الله؛ لما يلي:

1. لا تمثل رؤية هايزنبرغ التفسير الوحيد في فيزياء الكم، ولا يجب عدّ هذا التفسير من جملة مصاديق التعارض بين العلم والدين.

2 . المعادلات الكمومية تقدّم توقعات وتنبوءات جزمية للكليات العامة الكبرى؛ فاللاتعيّن يجري فيما يخص كمّ الإشعاع (2)؛ وليس لفئة الذرّات الإشعاعية.

3 . مبدأ السببية هو مبدأ بديهي فلسفي يلزم من إنكاره اجتماع النقيضين، ولا يمكن أن ينتقض هذا المبدأ بما يُتداول في العالم الغامض للذرّة وما دون الذرّة، او بالفيزياء النظرية الكمّيّة .

4 . ترتكز فيزياء الكمّ على حساب الاحتمالات، ومما لا حساب الاحتمالات ومما لا ريب فيه أنّ منطق الاحتمالات مبني من الأساس على مبدأ السببية؛ لأنّ كلاً من «الإمكان» و «الاحتمال» و«الاستعداد» تمثل دوالا موجية (3) للحظات السابقة، وإنّ إنكار السببية يستلزم إنكار فيزياء الكمّ من أساسها. ورغم الالتفات إلى الفرق القائم بين السببية في منطق

ص: 89


1- العلم والدين إيان باربور، القسم الثالث .
2- [م] .Radioactive
3- [م] .Wave functions

الاحتمالات والسببية في منطق الضرورة، لكن - وعلى أي حال - لا مانع من أن نقوّي رصيد احتمالات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من خلال السببية في منطق الاحتمالات .

5 . إذا ارتهنت الأحداث والتطوّرات في عالم الذرّة بالناظر والمشاهد، وإذا ابتنى أساس فيزياء الكمّ على رؤية معرفية مثالية، أو عقلانية نقدية، فكيف يجوز أن ننسب اللاتعيّن إلى الواقع الموضوعي للطبيعة؟!

6 . ما الذي منع أنصار الفيزياء الكمّيّة من أن يستنتجوا من اللاتعين الكمّي السيطرة على الطبيعة من خلال المشيئة والإرادة الإلهية، واستعاضوا بدلاً عن القول بالتشويش واللانظام في عالم الطبيعة ؟!

6/3 .برهان الوجوب والإمكان :

يُعدّ «برهان الوجوب والإمكان»(1) من إبداعات الفارابي ،(339ه)، وقد تناوله ابن سينا (428ه) في بعض كتبه مثل : «المبدأ والمعاد»، و«النجاة» (2) وأسماه في «الإشارات» ب«برهان الصدّيقين» (3) . وتدلّنا الخلفية التاريخيّة لهذا البرهان على مقبولة عامة حظي بها من قبل الأغلبية الساحقة لأهل الفكر والنظر. ولعلنا لا نجد في مختلف العلوم برهاناً يتحلّى بهذا القدر من الإتقان والقدم والتسالم (4).

أوّل من تداول استعمال هذا البرهان في اللاهوت والفلسفة الغربية هو توماس أكويناس(5) (1274م)، وهناك مجموعة من الشواهد والقرائن التي تدلّنا على أنّه

ص: 90


1- Contingency Argument.
2- موسوعة الفلسفة، عبد الرحمان بدوي، ج2، ص 102.
3- الإشارات والتنبيهات ابن سينا، ج 3، ص 66.
4- فلسفة الدين، حسين زاده، ص 267-268 .
5- توماس أكويناس - أو توما الأكويني - Thomas Aquinas : قسيس وراهب دومينيكاني كاثوليكي إيطالي وفيلسوف ولاهوتي مؤثر ضمن تقليد الفلسفة المدرسية. [م]

اقتبسه من الفلاسفة المسلمين؛ مثل: الفارابي (1)، وابن رشد(2). وقد تابعه في ذلك لا يبنتز(3) (1716م)؛ حيث قدّم في عرض هذا البرهان تقريراً مغايراً أسماه ب«مبدأ العلة الكافية»(4).

أمّا كانط(5) (1804م) الذي هاجم براهين إثبات وجود الله بأشدّ المناقشات وقعاً أذعن بالمنزلة الرفيعة التي يمتاز بها هذا البرهان في أيّ منظومة كلامية طبيعية (6).

هذا، وينطوي برهان الوجوب والإمكان على تقريرات متنوّعة نشير في هذا الكتاب إلى ثلاثة منها؛ وهي تقريرات ابن سينا، وأكويناس، وصدر الدين الشيرازي.

تقریر ابن سینا :

قرّر ابن سينا (428ه) في كتابه الإشارات هذا البرهان بقوله :

«كلّ موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره، فإما أن يكون بحيث يجب له الوجود في نفسه أو لا يكون فإن وجب فهو الحق بذاته الواجب وجوده من ذاته وهو القيوم وإن لم يجب لم يجز أن يقال إنّه ممتنع بذاته بعدما فرض موجوداً، بل إن قرن باعتبار ذاته شرط عدم علته صار ممتنعاً، أو مثل شرط وجود

ص: 91


1- موسوعة الفلسفة، مصدر سابق .
2- أضواء على براهين إثبات الله، الجوادي الآملي .
3- غوتفريد فيلهيلم لايبنتز Gottfried Wilhelm Leibniz: فیلسوف وعالم طبيعة وعالم رياضيات ودبلوماسي ألماني شهير. [م]
4- Principle of sufficient reason ، لاحظ فلسفة ،الدين حسين ،زاده ص 305 و 319 هذا، وقد يُطلق عليها البعض اسم العلة المعينة » Determining Reason ؛ أي: العلّة التي تعين وجود الشيء، وتجعله على الهيئة التي هو عليها لا غيرها. وقد يقرّر هذا المبدأ - أحياناً - بالقول: لا يمكن أن تكون هناك واقعة حقيقية، أو موجودة، أو قضية صادقة، ما لم تكن هناك علّة كافية لأن تكون هكذا؛ لا شيئاً ،آخر سواء كانت هذه العلل معروفة أو غير معروفة لنا. [م]
5- إيمانويل كانط Immanuel Kant : فيلسوف ألماني شهير من أبرز مفكّري القرن الثامن عشر. [م]
6- نقد العقل المحض، كانط، ص 667 [نقلا عن النسخة المترجمة إلى الفارسية. ويُقصد - عادةً - بالكلام الطبيعي في الفكر الغربي الكلام العقلي الذي يقابل الكلام الوحياتي (النقلي). [م]

علّته صار واجباً، وإن لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له في ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان. فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع، فكلّ موجود إما واجب الوجود بذاته أو ممكن الوجود بحسب ذاته»(1).

ويمتاز هذا التقرير بأنه علاوة على استغنائه عن دراسة صفات المخلوقات، وإثبات الحدوث والحركة وغيره من الصفات، فهو لا يحتاج إلى إثبات وجود المخلوقات من الأساس؛ لأن مقدمته الأولى وردت بصيغة الافتراض.

وبعبارة أخرى يكفي في مضيّ هذا البرهان الإيمان بأصل الوجود العيني (مبدأ الواقعية)، والتسالم على مبدأ السببية، وبطلان الدور والتسلسل. وهي أمور إما أن تكون بديهيّة غير قابلة للطعن، أو هي أمور قابلة للإثبات والبرهنة(2). ناهيك عما ذهب إليه البعض في استغناء برهان ابن سينا حتى عن مقدّمة بطلان الدور والتسلسل (3).

وإذا كان برهان الوجوب والإمكان متوقف على امتناع الدور والتسلسل، فإنّ إثبات ذلك متيسر من خلال مبدأ عدم التناقض:

*فالدور - الذي يعني: توقف وجود الشيء«س» على وجود الشيء «ص» و العكس صحيح - يبتني على «توقف الشيء على نفسه»، ولازم ذلك أن يكون الشيء «س» والشيء «ص» في ذات الوقت الذي يقع كلّ منهما فيه سبباً ومتقدّماً، أن يكون كلّ منهما أيضاً مسبباً ومتأخّراً، وهذا يعني أن يكون الشيء موجوداً وغير موجود في آن واحد وهي نتيجة تستلزم اجتماع النقيضين.

ص: 92


1- الإشارات والتنبيهات، ابن سينا ص 18 فما بعد وقد قال في النجاة لا شك أن هنا وجوداً، وكل وجود فإما واجب أو ممكن ، فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب. وإن كان ممكناً فإنّا نوضح أن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود ... ثم ينهي ابن سينا سلسلة الممكنات إلى علة واجبة الوجود ، إذ ليس لكل ممكن علة ممكنة بلا نهاية [م]
2- لاحظ: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة مصباح اليزدي، ج 2، ص 341 [النسخة الفارسية].
3- لاحظ النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، عبوديت، ج1، ص 133 [ النسخة الفارسية؛ العرفان النظري يحيى يثربي، ص 75-77 (بالفارسية).

* أما التسلسل فهو يعني أن يكون وجود الشيء «س» محتاجاً إلى وجود الشيء «ص»، والأخير محتاجاً لوجود الشيء «ع»، وهلم جرا.. إلى ما لا نهاية.

وبالتالي فإنّ التسلسل في الفلسفة مغاير للتسلسل في الأعداد والرياضيات. يتعلّق التسلسل الفلسفي بسلسلة توجد جميع حلقاتها بالفعل، وهي ممكنة الوجود، وتسودها علاقة السببية، ولا تقف عند واجب الوجود إلى ما لا نهاية.

وهذه الصورة من التسلسل مستحيلة الوقوع في الخارج؛ لأنها تستلزم اجتماع النقيضين؛ فجميع حلقات هذه السلسلة التي لا تنتهي ممكنة الوجود، ومحتاجة للعلّة الموجدة لها، فإذا لم تصل السلسلة في نهاية المطاف

إلى واجب الوجود، فهذا يعني أن السلسلة لا تحتاج إلى علة موجدة، وفي المحصّلة : السلسلة اللامنتهية الممكنة الوجود تحتاج إلى علة ولا تحتاج إلى علّة في الوقت ذاته!(1).

تقرير أكويناس:

قرّر توماس أكويناس (1274م) في كتابه «الخلاصة اللاهوتية»(2) برهان الوجوب والإمكان بصفته طريقاً ثالثاً من الطرق التي سلكها لإثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وعرضه على هذا النحو:

1 . بعض الأشياء موجودة حالياً، ووجودها غير ضروري؛ بمعنى أن بإمكانها أن تكون أو لا تكون.

2. إذا كانت جميع الأشياء على هذا الحال لزم ألا يوجد أي شيء في الزمان الأوّل.

3. إذا كانت جميع الأشياء في أحد الأزمنة معدومة، لزم ألا يكون أي شيء موجود حالياً.

ص: 93


1- لمزيد من التوسع راجع المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، مصدر سابق، ج2، بحث العلية.
2- Summa Theologica.

4 . حالياً هناك في الخارج موجودات متحققة على نحو القطع.

5 . إذن، يجب أن يكون هناك موجود ضروريّ، والموجود الضروري هذا يجب أن يكون موجوداً بالفعل، وألّا تكون نسبته إلى الوجود والعدم متساوية.

6 . ضرورة هذا الموجود الضروري لا يمكن لها أن تكون مسبّبةً لشيء آخر. ولهذا يجب أن يكون هذا الموجود «ضرورياً بالذات»؛ وهو الله (1).

وبعبارة أخرى: إذا كان الموجود غير ضروري الوجود، لزم ألا يوجد الموجود غير ضروري الوجود، ولأنّ الموجودات ليست بضروريّة الوجود، فالموجود ضروريّ الوجود متحقق وموجود .

لقد تعرّضت فقرات هذا الاستدلال لعدّة مرّات إلى سهام النقد، لكنّ أبرز الإشكاليات التي يعاني منه دليل أكويناس أنه أراد استنتاج انعدام الأشياء في أحد الأزمنة من خلال اتصافها بالإمكان، في حين أنّ اتصاف الشيء بالإمكان لا يتعارض مع اتصافه بالقدم، ولا يجوز استنتاج العدم الزماني للشيء من كونه ممكناً.

وبالإضافة إلى ما تقدّم نقول : لو سلّمنا أنّ الإمكان يستلزم حدوث الموجود، فإنّ لازم الإيمان بكون جميع الأشياء ممكنةً هو «عدم كلّ منها في زمن معين»؛ وليس اللازم هو «ألا يوجد أي شيء في زمن معيّن» ! وعليه تنثلم المقدّمة الثانية للاستدلال؛ إذ من الممكن لأيّ شيء أن يكون معدوماً في زمن بعينه، لكن هذا لا يعني ألا يكون هناك زمن لا يوجد فيه أي شيء.

بإمكان هذه المناقشة أن توقف دليل أكويناس في خطواته الأولى، لكنه إذا لم يكن يقصد من «كون الأشياء ممكنة» أمراً أكثر من كونها «حادثة»، فإنّ الإشكالية المذكورة لن تطاله؛ لأنّ الأشياء كلّها إذا كانت حادثةً حقاً، فلا يجب أن يوجد شيء حالياً. وفي

ص: 94


1- براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، مصدر سابق، ص 55.

هذه الحال، لن يختلف برهانه عن الدليل المسمّى ب- «برهان الحدوث، وهو لا يثبت سوى أنّ الشيء أو الأشياء الحادثة التي هي ليست بزمانيّة، يجب أن تكون موجودة.

وعلى أي حال، فإنّ برهان أكويناس وإن كان دليلاً يمكن الذب عنه، إلا أنه ليس برهان الإمكان، بل هو تركيب تشكّل من «برهان الحدوث» الذي أقامه المتكلّمون ،و «برهان السببية» الذي أقامه هو بنفسه(1). وعلى أساس من ذلك، اشتهر دليله باسم «برهان الوجوب والإمكان»، أو «برهان حدوث العالم»(2).

تقرير صدر الدين الشيرازي :

استند تقرير ابن سينا (428ه) وغيره من المفكرين المسلمين إلى زمن الشيرازي (1050ه) عن برهان الوجوب والإمكان إلى تفسير «الإمكان» ب«الإمكان الماهوي» ، وهي صفة عقليّة توصف بها الماهيّة، وتتلاءم مع مسلك «أصالة الماهية». وقد حاول صدر الدين الشيرازي أن يُقرّر برهان الصدّيقين على أساس من مسلك «أصالة الوجود»، وتفسير الإمكان ب «الإمكان الوجودي» أو «الإمكان الفقري»، ليُقلّل من المقدمات التي يتطلبها هذا الدليل.

يقول الشيرازي في تقريره لبرهان الصدّيقين:

«الوجود المتعلّق بالغير، المتقوم به، يستدعي أن يكون ما يتقوم به وجوداً أيضاً؛ إذ غير الوجود لا يتصوّر أن يكون مقوّماً للوجود . فإن كان ذلك المقوّم قائماً بنفسه، فهو المطلوب. وإن كان قائماً بغيره، فننقل الكلام إلى ذلك المقوّم الآخر، وهكذا، إلى أن يتسلسل، أو يدور، أو ينتهي إلى وجود قائم بذاته غير متعلّق بغيره»(3).

والحق أنّ برهان الصدّيقين الذي يعرضه صدر المتألهين لا يتطلب إلا الإيمان بمبدأ الواقعيّة، وأصالة الوجود ولا حاجة له بإثبات امتناع الدور والتسلسل (4).

ص: 95


1- مدخل إلى الإلهيّات الفلسفيّة، محسن جوادي، ص 128-129 .
2- فلسفة الدين جون هيك، مصدر سابق، ص 12-13 .
3- الشواهد الربوبيّة صدر الدين الشيرازي ص 36-35 .
4- يقول في بيانه لبرهان الصدّيقين في كتاب الأسفار: «وتقريره أن الوجود - كما مرّ - حقيقة عينية واحدة بسيطة لا اختلاف بين أفرادها لذاتها إلا بالكمال والنقص والشدّة والضعف، أو بأمور زائدة كما في أفراد ماهيّة نوعية وغاية كمالها ما لا أتمّ منه؛ وهو الذي لا يكون متعلقاً بغيره ولا يتصوّر ما هو أتمّ منه؛ إذ كل ناقص متعلق بغيره، مفتقر إلى تمامه. وقد تبيّن فيما سبق أنّ التمام قبل النقص، والفعل قبل القوّة والوجود قبل العدم، وبيّن أيضاً أنّ تمام الشيء هو الشيء، وما يفضل عليه. فإذن، الوجود: إما مستغن عن غيره وإما مفتقر لذاته إلى غيره. والأوّل: هو واجب الوجود؛ وهو صرف الوجود الذي لا أتمّ منه، ولا يشوبه عدم ولا نقص. والثاني : هو ما سواه من أفعاله وآثاره، ولا قوام لما سواه إلا به». الحكمة المتعالية (الأسفار)، صدر الدين الشيرازي، ج6، ص 15 .

وهذا البرهان مقتبس من قوله تعالى :

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إلى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ) (1).

(وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء) (2).

ويُروى عن الإمام الحسين (علیه السّلام) أنه قال في دعاء عرفة:

«كَيْفَ يُستَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فى وُجُودِهِ مُفتَقِرُ إِلَيكَ ؟! أيَكُونُ لِغَيرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيسَ لَكَ؛ حَتّى يَكُونَ هُوَ المُظهِرَ لَكَ؟! )(3).

وبيان هذا الاستدلال: انّ الموجود إمّا أن يكون مفتقراً للغير، أو لا يكون كذلك. فإذا كان مفتقراً للغير كان ممكن الوجود، وإلا كان واجب الوجود.

استطاع برهان الوجوب والإمكان المبتني على الإمكان الماهوي الذي ابتكره الحكماء المسلمون أن يشق طريقه لينفذ إلى التعاليم التقليدية لفلاسفة القرون الوسطى من خلال مصنفات الحكماء المشّاء؛ إلا أنّ برهان الإمكان الفقري الذي بلورته الدقة العقليّة التي مارسها الحكماء المتألّهون، ودارت حول محورها رحى التعاليم الفلسفية الإماميّة مدّة أربعة قرون، غاب عن المخيّلة المضطربة للمتفلسفين الغربيين، ومؤرّخي الفلسفة الغربية (4) .

ص: 96


1- سورة فاطر: 15 .
2- سورة محمد 38 .
3- إقبال الأعمال السيّد ابن طاوس، ص 660.
4- أضواء على براهين إثبات ،الله مصدر سابق، ص 188.

هذا، وقد أورد بعض الباحثين المعاصرين ما يربو على مئتي تقرير لبرهان الصدّيقين(1).

لقائل أن يقول : إن هذا البرهان لا يُثبت إلا واجب الوجود بوجود مستغن عن غيره، وهو لا يتطرّق إلى إثبات وجود ذلك الإله الديني أو القرآني !

والردّ عليه : أنّ البرهان يستدلّ حسبما يقتضيه الحد الأوسط في الدليل، ولا ينبغي المطالبة بشيء يفوق ذلك؛ فدليل يثبت واجب الوجود، ودليل آخر علمه، وثالث قدرته، وأدلّة أخرى يُثبت كل منها صفة من صفاته، لتفضي هذه المجموعة من الأدلّة إلى إثبات ذلك الإله الديني، أو القرآني.

وعليه: رغم أنّ البرهان محدود بدائرة حده الأوسط، ولا يسعه إثبات الإله الديني المستجمع الجميع صفات الجمال والجلال مرّةً واحدةً، لكنّ مجموعة البراهين تكفل إثباته بجدارة. وحينئذ يمكن الوقوف على جميع الصفات التي وردت في دعاء عرفة المشار إليه؛ حيث رُوي عن الإمام الحسين (علیه السّلام) قوله:

«يا مَوْلايَ أَنْتَ الَّذِي مَنَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَنْعَمْتَ ، أَنْتَ الَّذِي أَحْسَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَجْمَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَفْضَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَكْمَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي رَزَقْتَ، أَنْتَ الَّذِي وَفَقْتَ ، أَنْتَ الَّذِي أَعْطَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَغْنَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَقْنَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي آوَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي كَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي هَدَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَصَمْتَ، أَنْتَ الَّذِي سَتَرْتَ، أَنْتَ الَّذِي غَفَرْتَ أَنْتَ الَّذِي أَقَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي مَكَّنْتَ أنتَ الَّذِي أَعْزَزْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَعَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَضَدْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَيَّدْتَ، أَنْتَ الَّذِي نَصَرْتَ، أَنْتَ الَّذِي شَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَافَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَكْرَمْتَ؛ تَبَارَكْتَ رَبِّنا وَتَعَالَيْتَ»(2).

ص: 97


1- براهين الصدّيقين، حسين العشاقي الإصفهاني.
2- إقبال الأعمال السيد ابن طاوس، ص 656.

4 . إثبات التوحيد الإلهي ومراتبه

1/4. تمهید:

يُعدّ «التوحيد» أهمّ أصل من أصول الدين الإسلامي، وسائر الأديان الإبراهيمية. التوحيد في اللغة: جعل الشيء واحداً(1) ، وفي مصطلح علم الكلام: الحكم أو العلم بأنّ الله واحد(2). وهو يُصنّف إلى التوحيد النظري، والتوحيد العملي. يمثل التوحيد النظري لوناً من ألوان الإيمان القلبي، أمّا التوحيد العمليّ فهو إيمان مقرون بالعمل.

وهنا، تجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز في الدراسات المرتبطة بالتوحيد بين زوايا البحث الثلاثة التفسير والتبيين، ثمّ الدور ،والوظائف، وأخيراً الإثبات والتدليل. وفي مطلع هذه الأبحاث سنعمد إلى تفسير معنى التوحيد وأقسامه، والتدليل على ذلك، ثمّ نعرّج على دور الإيمان بالتوحيد، واستعراض العوامل والدوافع المؤثرة في النزوع إلى الشرك.

2/4. تفسير معنى التوحيد النظري:

1/2/4 التوحيد الذاتي:

التوحيد النظري يعني الإيمان بوحدانية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على مستوى الذات، والصفات، والأفعال الإلهيّة. يقول الحكيم السبزواري:

ص: 98


1- قال أرباب اللغة: الوحد المنفرد والواحد أوّل عدد من الحساب والوحدان جماعة الواحد. والرجل الوحد والوحد والوَحْد الذي لا يعرف له أصل. ووحده توحيداً جعله واحداً. راجع العين 3: 280-281، تهذيب اللغة 5: 193، الصحاح 2 :548 ،لسان العرب :3 - 447446، القاموس المحيط: 414. [م]
2- قال القاضي عبد الجبار المعتزلي: «أمّا في اصطلاح المتکلّمین فهو العلم بأن الله - تعالى - واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفياً وإثباتاً على الحدّ الذي يستحقه والإقرار به» شرح الأصول الخمسة القاضي عبد الجبار ص 128 وقال الجرجاني: «التوحيد ثلاثة أشياء: معرفة الله - تعالى - بالربوبية والإقرار له بالوحدانية، ونفي الأنداد عنه جملة». التعريفات الجرجاني، ص 99. [م]

«عدد مراتب التوحيد [النظري]: توحيد الذات وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال وتوحيد الآثار»(1).

وإليك فيما يلي بيان هذه المراتب :

التوحيد الذاتي:

تُقسم هذه المرتبة من التوحيد إلى قسمين: توحيد واحديّ، وتوحيد أحديّ:

*أمّا التوحيد الذاتي الواحدي فيعني: توحيده تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الوجوب الذاتي، والإيمان بوحدانية واجب الوجود بالذات، وإنكار أي شريك أو شبيه أو نظير للحق جَلَّ وَعَلا.

* وأما التوحيد الذاتيّ الأحدي فيعني: إنكار أي لون من ألوان التركيب العقليّ، أو الوهمي، أو الخارجي الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وإثبات بساطته.

ويرى البعض أن الوحدة الإلهية تعني الوحدة العددية، والتوحيد الذاتي يعني أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى واحد ؛ وليس اثنين. لكنّه قول أنكره المروي عن الإمام عليّ (علیه السّلام) في نهج البلاغة؛ حيث قال: «واحد لا بالعدد»، فهو يعني أن وحدة الله ليست بوحدة عددية، كما أنها ليست وحدةً جنسيّة أو نوعية.

وعليه: ينحصر التفسير الصائب للتوحيد الذاتي في معنيين :

1. أنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى لا شبيه له، ولا نظير ولا مثيل، وأن تصوّر فرد آخر . لواجب الوجود بصفته مفهوماً كلّيّاً ضربٌ من المحال، كما أنّ الصورة الذهنية عن «شريك الباري» أيضاً تصوّر خاطئ. وإذا ما تصوّرنا «واجب الوجود» بنحو صحیح، انتفى تصوّر شريك الباري»، وانتقضت أحكامه في الذهن .

ص: 99


1- أسرار الحكم الملا هادي السبزواري، ص 748 . [بالفارسية]

2 . أنّ الله جَلَّ وَعَلا بسيط، لا جزء له.

ويسمّى هذا اللون من الوحدة في الفلسفة الإسلامیّة بالوحدة الحقة الحقيقية.

2/2/4. التوحيد الصفاتي:

ويعني أنّ صفات الله تَبَارَكَ وَتَعَالى عين ذاته. وهي متحدة مع بعضها. ومنه يتبيّن سقم ما ذهب إليه البعض في نفيهم لصفات الكمال عن الله، أو قولهم بزيادة صفات الكمال على الذات المقدّسة. وهو خطأ جرّهم إلى إنكار التوحيد الصفاتي، وأودى بهم

في هاوية الانحراف العقائدي.

3/2/4. التوحيد الأفعالي:

وتعني هذه المرتبة التوحيدية: إسناد جميع الأفعال إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. وهي تنقسم إلى التوحيد في الخالقية والربوبيّة، والمالكية، والحاكمية.

4/2/4 .التوحيد في الخالقيّة:

ويعني ذلك ألّا خالق إلا الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، وأنه هو الذي خلق الكون بما فيه؛ حتى أفعال الإنسان الإرادية، خلقها من دون أن يلزم الجبر.

5/2/4 .التوحيد في الربوبية :

ويعني أنّ ربوبية العالم منحصرة في الله جَلَّ وَعَلا، وألّا شريك له في تدبير العالم. وتنقسم الربوبية إلى تكوينية، وتشريعية :

*أمّا الربوبية الإلهية التكوينية: فتعني أنه هو وحده من يتولى تدبير السنن و نواميس الطبيعة وما وراء الطبيعة في عالم الممكنات، وقد ينكشف بعض من هذه السنن التكوينية في الطبيعة للناس بالعلوم الطبيعية، أو غيرها.

ص: 100

*وأما الربوبية الإلهية التشريعية : فتعني أنه هو وحده من يتولى التقنين والتشريع الهادف إلى هداية الإنسان وسعادته الدنيوية والأخروية.

6/2/4. التوحيد في المالكية :

وهو يعني أنّ الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى - ذلك الربّ الخالق لكلّ شيء - هو وحده من يملكها. وبطبيعة الحال، فلا مانع من أن يتصف الناس بالمالكية الخاصة بإذنه؛ فالكيته التكوينية تقتضي أن تكون الكائنات وأموال الناس بأسرها مملوكة له، ومالكيته التشريعيّة تقتضي أن يزاول الناس نشاطاتهم الاقتصادية طبقاً لتعاليمه، وألا يضربوا في الأرض موغلين في جمع المال من أي مصدر اتفق وألا ينفقوها في أي مصرف، فإذا أمرهم ربّهم بإيتاء الخمس والزكاة لا يمتنعون، ولا ينسبون المال لأنفسهم، بل يؤمنون بأن جميع أموالهم ملك له عَزَّ وَجَلَّ.

7/2/4 .التوحيد في الحاكمية والولاية:

لمّا كان الله جَلَّ وَعَلا هو الربّ الخالق القادر المالك للكون والإنسان، فإنّ الولاية والحاكميّة السياسية والاجتماعيّة له أيضاً، فإذا أراد أحد أن يطوي وسادة الحكم لزمه إذن إلهي يتيح له ذلك. ومن هنا، فلا أحد يتمتع بالاستقلال في الحكم أو التشريع دونه، وهو وحده الحاكم والوليّ على أنفس الناس وأموالهم، وليس أحد سواه يملك هذه الولاية المباشرة الأصيلة.

وبناءً على ذلك، فإنّ الحقّ تَبَارَكَ وَتَعَالى لقدرته وخالقيته وربوبيته المطلقة هو وحده من يتولى تدبير الشؤون التكوينية والتشريعية والاجتماعية للكون والإنسان، لا ينازعه في ذلك أحد. فإذا نُسبت الولاية التكوينية أو التشريعية أو السياسية للأنبياء أو الأئمة أو الولاية السياسية للفقيه الجامع للشرائط، فما هي إلا ولاية تابعة لولاية الله، يتجلّى الله بها في خلقه من دون أن يُنقص ذلك من ولايته شيئاً.

ص: 101

ولعلّ المراد من الحديثين القدسيين الآتي ذكرهما هو ذاك الحبل المتين الذي يربط بين التوحيد والولاية؛ فقد روي عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال :

«سَمِعْتُ جَبْرَئِيلَ يَقُولُ : سَمِعْتُ الله جَلَّ جَلالُهُ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِ. قَالَ [الراوي]: فَلَمَّا مَرَّتِ الرَّاحِلَةُ نَادَانَا [الإمام الرضا (علیه السّلام)]: بشرُوطِهَا؛ وَأَنَا مِنْ شُرُوطِهَا» (1).

ورُوي عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال أيضاً:

«عَنْ جَبْرَئِيلَ، عَنْ مِيكَائِيلَ، عَنْ إِسْرَافِيلَ، عَنِ اللوح، عَنِ الْقَلَمِ، قَالَ: يَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَلَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ نَارِي» (2).

فدلّنا هذان الحديثان إلى أنّ التوحيد الإلهي وولاية الإمام هما تجلّيان لحقيقة الحصن الإلهيّ في ساحة العمل والعقيدة؛ ذلك الحصن المنيع الذي يلجأ إليه الإنسان هرباً من نار جهنم.

3/4 .تفسير معنى التوحيد العملي:

التوحيد العملي الذي يعني الإيمان العملي بوحدانية الله عَزَّ وَجَلَّ ينقسم إلى أقسام؛ منها التوحيد في العبادة والتوحيد في الطاعة :

* أمّا التوحيد في العبادة: فيعني أنه هو المستحق للعبادة وحده دون سواه؛ لأنه الواحد الفرد الذي لا نظير له في الخلق والتدبير.

* وأما التوحيد في الطاعة: فتعنى أن طاعته المستقلة والذاتية هي الطاعة الواجبة الوحيدة، ولا طاعة لمخلوق إلا لمن أذِنَ الله له أن يتولّى هذا الشأن.

ص: 102


1- الأمالي الصدوق، ص 235.
2- الأمالي الصدوق، ص 235.

4/4 .إثبات التوحيد الذاتي:

تمسّك المفكرون لإثبات التوحيد الذاتيّ الأحديّ والواحدي له تَبَارَكَ وَتَعَالَى بباقة من الأدلّة والبراهين. وفيما يلي قبس من ذلك:

1. برهان إثبات الأحديّة: الله جَلَّ وَعَلا بسيط منزّه عن جميع أنحاء التجزئة والتركيب (العقلية والوهمية والخارجية) ؛ لأنه إن كان مركباً من الأجزاء افتقر إليها، وهو ما لا ينسجم مع واجبية الوجود . إذن، فصفة «واجب الوجود» تستلزم إثبات البساطة له، ونفى التركيب عنه. وآيات التنزيل تدلّ على هذا المعنى أيضاً؛ حيث قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ) (1).

2 . إثبات التوحيد الواحدي ببرهان «صرف الوجود» بعدما ثبتت واقعيّة واجب الوجود ببرهان الوجوب والإمكان يثبت بذلك أيضاً أنه «صرف الوجود»، وأنه «لا يتثنى ولا يتكرّر». ومعنى ذلك أنّ واجب الوجود هو الموجود الذي يتحد وجوده مع ذاته (وجوده عين ذاته)، وخلافاً لما هو حال الممكنات : لا سبيل لأي حيثية عدمية إليه. وبعبارة أخرى : فإنه وجود صرف محض خالص لا يحده العدم، ولا نهاية له، ولا تكرار. فإذا افترضنا إلهاً آخر، وجب أن يكون كذات واجب الوجود، ولما كان الله وجوداً محضاً غير محدود في كمال، فإنّ هذا الفرض ينتفي وينتقض عقلاً .

3 . إثبات التوحيد الواحدي ببرهان نفي التركيب: إذا افترضنا وجودين واجبين، لزم من ذلك أن يكون كل من هذين الإلهين مركباً مما به الاشتراك ومما به الامتياز؛ أي: مركباً مما يشتركان فيه ومما يمتازان به عن بعضهما. ومن جهة أخرى: فإنّ كلّ موجود مركّب مفتقر إلى أجزائه التي تركّب منها؛ في حين أنّ واجب الوجود لا يجوز فيه أن يكون فقيراً أو محتاجاً لأيّ شيء. وعليه فإنّ نفي الحاجة يستلزم نفي التركيب في واجب الوجود، ونفي التركيب يستلزم نفي الشبيه والنظير فيه. يقول

ص: 103


1- سورة فاطر: 15 .

تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)(1) ، ويقول أيضاً: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شُيَءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير ﴾(2) .

4. إثبات التوحيد الواحدي ببرهان وحدة انسجام العالم : إذا سادت على عالم الوجود الطبيعة إرادتان وجهتا تدبير مختلفتان، عمّ الفساد وفشيت الفوضى في العالم. وانعدام الفساد في عالم الطبيعة دليل على وحدة الذات الإلهيّة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا البرهان رغم إثباته وحدة الخالق والمدبّر أوّلاً وبالذات، إلا أنه صالح لإثبات الوحدة الذاتية أيضاً؛ لأنّ واجب الوجود يجب أن يكون الخالق والربّ أيضاً، وفي غير هذا الحال لو كانت الخالقيّة والربوبية الموجود آخر - واجب أو ممكن - يزاولها بنحو استقلالي، لزم الشرك في الذات أو اجتماع النقيضين، أو نسبة واجبية الوجود لموجود ممكن؛ وهو محال فإن قيل : ما الضير في وجود واجبين مستقلين يدبّران أمر مخلوقين مستقلين؟ أو واجبين يدبّران أمر عالم واحد بالتعاون والتعاضد فيما بينهما؟ قلنا: إنّ الفرض الثاني (تدبير العالم الواحد بالتعاون بين الواجبين) يتعارض مع استقلال واجب الوجود وكلا الفرضين يتعارض مع كونه سُبحَانَهُ وَتَعَالى صرف الوجود». يقول جَلَّ وَعَلا (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَنَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ (3)، ويقول أيضاً : (مَا اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهِ إِذًا لَّذَهَبَ كُلٌّ إِلَه بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ) (4). إن افتراض حالة التعاون والتعاضد بين إلهين لتدبير أمور العالم لا ينسجم مع الاستقلال الذاتي الذي يتصف به الله عَزَّ وَجَلَّ، فإذا جاز تحقق أكثر من واجب للوجود - لتكون إدارة العالم شركة بينهم - لزم من ذلك أنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى غير مستقل في إدارة العالم وتدبيره، وأنه مفتقر إلى غيره، ومتوقف عليه، وهذا ما لا يتلاءم مع واجبيّة وجوده جَلْ وَعَلا.

ص: 104


1- سورة التوحيد.
2- سورة الشورى: 11 .
3- سورة الأنبياء: 22.
4- سورة المؤمنون: 91.

5. إثبات التوحيد الواحدي ببرهان «وحدة الأنبياء»: إذا جاز أن يتعدّد واجب الوجود، لزم أن يبادر كلّ منهم إلى إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لهداية الناس، لكنه أمر لم يحدث. يقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ هُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (1)، ويقول أيضاً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾(2).

4/4 .إثبات التوحيد الصفاتي:

التوحيد الصفاتي مرتبة من مراتب التوحيد النظري الاعتقادي، وهو يرتبط بعقيدة المؤمنين وإيمانهم، ويُراد به عينيّة الصفات الذاتية والكمالية مع الذات الإلهية، وعينيّة تلك الصفات مع بعضها البعض. ولمزيد من التوضيح نقول : يُحتمل في قضيّة العلاقة بين الذات والصفات الإلهية ثلاث احتمالات :

1 . أن تُسلب صفات الكمال عن الذات: وهو باطل ومحال عقلاً ونقلاً؛ لأنه لو كان سُبحَانَهُ وَتَعَالى فاقداً لصفات كماليّة؛ مثل: العلم والقدرة، لاستلزم ذلك أن يكون واجداً لصفات؛ مثل: الجهل والعجز في حين أنه منزّه عن أي نقص.

2 . أن تتباين الصفات مع الذات: أي أن يكون جَلَّ وَعَلا واجداً لصفات كمالية زائدة على ذاته. وهذا الاحتمال إما يستلزم الكثرة في ذاته تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وتركب الذات من أجزاء، أو يُفضي إلى سلب الصفات عن الذات، وإثبات الحاجة إلى الغير.

3 . عينيّة الصفات مع الذات: وهو المدعى الذي ينادي به المعتقد الإسلامي، وأحاديث المعصومين (علیهم السّلام): أما آيات القرآن الكريم بخصوص الصفات فهي على طائفتين: الأولى آيات تتحدّث عن صفات إلهيّة؛ مثل : العلم والقدرة والحياة وما

ص: 105


1- سورة الأحقاف: 4 .
2- سورة الأنبياء: 25 .

شاكل ذلك، والثانية: تدلّ على استغنائه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ونفي المثليّة عنه، وتثبت عينيّة الصفات مع الذات؛ لأنّ الصفات إن كانت زائدة على الذات لاحتاج عَزَّ وَجَ- في كماله إلى تلك الصفات الزائدة عليه، ولاستلزم ذلك تشبيهه بالموجودات الممكنة؛ في حين أن القرآن الكريم يؤكّد على أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(1)، وَأَنَّهُ (هُوَ الْغَنِيُّ الحميد ) (2) . وقد شدّد أئمة أهل البيت (علیه السّلام)- بصراحة - على هذا المعنى، وحذّروا من القول بزيادة الصفات على الذات.

5/4 .إثبات التوحيد في الخالقية:

أثبت المتكلّمون المسلمون التوحيد في الخالقية من خلال لجوئهم إلى توسيط القدرة الإلهية المطلقة؛ فقدرته المطلقة تُثبت لنا أنّ كل قدرة أخرى لا يمكن لها إلا أن تكون منبثقة من القدرة الإلهيّة. ومن جهة أخرى فإنّ الخالقية حقيقة ناتجة عن القدرة؛ فإذا وجدت صفة الخالقية عند غير الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فهي وليدة القدرة والاختيار الذي أفاضه الله تَبَارَكَ وَتَعَالى على صاحبها. وبناءً على ذلك، فإنّ الشرك في الخالقيّة يحل عند الإيمان بخالقية مستقلة ومستغنية عن الواجب، تُنسب إلى غير الله، وهي أمر يستلزم اجتماع النقيضين، وإثبات صفة واجب الوجود الموجود ممكن! أو يستلزم خالقيّة واجب آخر غير الله ؛ وهو ما يتعارض مع التوحيد الذاتي آنف الذكر. وقد دلّت الآيات الكريمة على توحيد الخالقية في مواضع مختلفة؛ منها قوله تعالى :

(وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾(3).

(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (4).

(ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (5).

ص: 106


1- سورة الشورى: 11 .
2- سورة فاطر: 15 .
3- سورة الصافات: 96.
4- سورة فاطر: 3 .
5- سورة الأنعام: 102 .

ومن الجدير بالإشارة هنا أنّ الإذعان بالتوحيد في الخالقية لا يعني إنكار السببية في سائر الموجودات، وقد أشارت الآية 96 من سورة الصافات إلى هذا المعنى :بقوله: ﴿وَمَا تَعْمَلُونَ) ؛ إذ نسبت الآية صناعة الأوثان إلى المشركين، وإن استخدام المفردات المشتقة من خَلَق» يوضح لنا أنّ فاعليّة الحقِّ جَلّ وَعَلا تقع في طول فاعليّة الموجودات الأخرى. وما قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ (1) إِلا إشارة إلى تلك العلاقة الطولية بين الرمي الإلهي والرمي البشري؛ فلم ينفِ القرآن الكريم الرمي عن الإنسان وإنما قال: إنك عندما رميت لم تكن قد رميت أنت، بل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى هو الذي رمى؛ أي إنّ رميك لا يتصف بالاستقلالية. وبناءً على ذلك، فإنّ العلاقة القائمة بين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وسائر العوامل الأخرى هي علاقة طولية، وليست عرضيّة.

وفي المحصلة نقول: إنّ التوحيد الأفعالي والتوحيد في الخالقية المستنبطين من القرآن الكريم والعقل لا يتلاءمان مع الرؤية الاعتزاليّة التي تنفي التأثير الإلهي على أفعال الإنسان بقول مطلق، وتذهب إلى «التفويض»، كما لا يتلاءمان أيضاً مع الرؤية الأشعريّة المتمثلة في نظريّة «الكسب» التي تفضي بالنهاية إلى «الجبر».

لقد مالت المعتزلة إلى القول بالتفويض في مسيرتها التدليليّة على إثبات العدل الإلهي وتنزيه ساحة الله جَلَّ وَعَلا عن فعل الأعمال القبيحة والشنيعة، فيما ابتليت الأشاعرة بالميل نحو النزعة الجبرية في خضم استدلالاتها لإثبات التوحيد الأفعاليّ. لكنّنا لو أردنا أن نؤمن بالعدل الإلهي والتوحيد الأفعالي دون أن نقع في منزلق التفويض، أو مستنقع الجبر ، فعلينا أن نتمسّك بعُرى التبعية لأهل البيت (علیهم السّلام) ، وأن نقول بما قالته الإمامية: «لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ ؛ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْن) (2)؛ ومفاده: أن الإرادة الإلهية اقتضت السماح للإنسان أن يفعل أو يترك بإرادة إنسانيّة حرّة. ومن هنا، لا مانع من أن تُنسب أفعال

ص: 107


1- سورة الأنفال: 17 .
2- وهو مقطع من حديث مروي عن الإمام الصادق (علیه السّلام). لاحظ الكافي الكليني، ج1، ص 160. [م]

الإنسان إلى الإرادة الإلهية، فيثبت التوحيد الأفعاليّ، كما لا ضير في استنادها إلى إرادة الإنسان من دون أن يلزم القول بالجبر، أو أن ينثلم الإيمان بالعدل الإلهي .

6/4 .إثبات التوحيد في الربوبيّة:

يمثل التوحيد في الربوبية الإلهية إحدى أهم مراتب التوحيد في عصرنا الراهن. وفي ظلّه تتمايز المدرسة الفلسفيّة الإسلاميّة ونظامها الفكري العام جليّاً عن سائر المدارس الأخرى؛ فلعل عالم الحداثة أو ما بعد الحداثة يذعن بوجود الله، أو خالقيته، لكن أصحاب النزعات الإنسانوية التي تدين بأصالة الإنسان لا يؤمنون بالربوبية الإلهية، وينكرون التدبير الإلهي للأمور التكوينية، وينسبونها إلى قوانين تكوينية جبرية، كما ينكرون أيضاً التدبير الإلهي للأمور التشريعية، وينسبونها إلى إرادة الإنسان، متغافلين عن عينية الصفات الكمالية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى مع ذاته، وأنه جَلَّ وَعَلا من حيث كونه واجباً للوجود، فهو قادر مطلق وعالم مطلق وخالق مطلق، ومن حيث أنه خالق مطلق، فله الربوبية المطلقة أيضاً. ولا يعني سلب الربوبية عنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلا إنكار خالقيّته المطلقة.

وبعبارة أخرى: لا يمكن الفصل بين قضيّة تدبير شؤون الكون فيما يخص الإنسان والعالم، وبين قضيّة الخلق ؛ فليس التدبير إلا الخلق. فإذا كان خالق الكون والإنسان واحداً، فإنّ مدبّره واحد أيضاً؛ إذ لا ريب في وجود صلة وثيقة وعلاقة متينة بين تدبير العالم وخلقه.

ومن هنا، تجد القرآن الكريم عند وصفه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالخالقية، يُلمح إلى كونه المدبّر للمخلوقات أيضاً. يقول تعالى في مواضع مختلفة:

(الله الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبَّكُمْ تُوقِنُونَ )(1) .

ص: 108


1- سورة الرعد: 2.

(قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخرجُ المُيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرَ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ الله فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (1).

(إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ (2) .

(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهُ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلَّ شَيْءٍ) (3).

(قَالَ بَل رَّبِّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض الَّذِي فَطَرَهُنَّ)(4).

(لَوْ كَانَ فِيها الةٌ إلا الله لَفَسَدَنَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)(5).

وتدلّ هذه الآية المباركة على أنّ الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى لو كان له شريك في الخلق والربوبية لاستلزم ذلك الاختلاف والفساد في الأرض والسماء، وهذا يعني أنّ النظام والانسجام السائد على أرجاء الكون يهدينا إلى وحدة الخالق والمدبّر له.

وبعبارة أخرى: إذا تعدّد الخالق والمدبّر، لاختلفا من حيث الذات، وتعدّد الذات يستلزم تعدّد الآثار. وإذا افترضنا ضرباً من التعاون والتوافق بين واجبين للوجود لإدارة العالم وتدبير شؤونه، فقد ساوينا بين الله والإنسان، وقارنا بينهما، وأخضعنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى حفنة من القواعد الاعتبارية، في حين أنه جَلَّ وَعَلا قاهر فوق عباده، وحاكم على أي قانون أو قاعدة.

إن التوحيد في الخالقية والتوحيد في الربوبية يستلزمان التوحيد في الرازقية وسائر

ص: 109


1- سورة يونس: 31 .
2- سورة يونس: 3 .
3- سورة الأنعام: 164.
4- سورة الأنبياء: 56.
5- سورة الأنبياء: 22 .

الكمالات الأخرى. وعليه فإنّنا لا نرى حاجة ملحة لاستعراض تلك الأبحاث بنحو مستقلّ.

6/4 .إثبات توحيد الحاكميّة والمالكية والولاية :

الحكومة تعني السلطة، والحاكم هو صاحب القدرة والسلطة الذي يسعى إلى إحلال النظام وسيادته وإنّ كلّ حاكم يتحلّى بضرب من ضروب الولاية التي يتخذ على أساسها قرارات ويُصدر في ضوئها أوامر ترتبط بأنفس الناس وأموالهم.

وإذا ثبتت خالقية الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وربوبيته، فإنّ البرهان العقلي يُثبت لنا أنّ الله هو الوحيد الذي يحق له أن يتصف بالحاكميّة على الإنسان، ولا أحد غيره؛ لأنّ جميع الناس سواسية فيما بينهم من هذه الجهة. وبناءً على ذلك، فإنّ حق الحاكمية المالكية منحصر فيه، وفيمن يأذن له سُبحَانَهُ وَتَعَالى. يقول في القرآن الكريم:

(إنِ الْحُكْمُ إِلا لله أَمَرَ أَلا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (1) .

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ المُلْكَ مِن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (2).

(وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾(3).

(ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ)(4).

(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبع الهوَى) (5).

ص: 110


1- سورة يوسف: 40.
2- سورة آل عمران: 26 .
3- سورة البقرة: 247 .
4- سورة فاطر: 13 .
5- سورة ص: 26 .

﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )(1).

(أَفَغَيْرَ اللهُ أَبْتَغِي حَكَما وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(2).

واستنتاجاً لما ورد من آيات كريمة بهذا الصدد نقول:

1. الحاكمية صفة منحصرة في الحق سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لأنّ الولاية على الأنفس والأموال، وكذا الخالقية والتدبير منحصرة فيه جَلَّ وَعَلا.

2 . الحكومة على نحوين: تكوينية (تدبير عالم الخلق)، وتشريعية. تُستفاد «الحكومة التشريعية» من الآية 40 من سورة يوسف و «الحكومة التكوينية» من الآية 26 من سورة آل عمران.

3 . مع أنّ الحكومة حق حصري الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أوّلاً وبالذات، لكن لا ينبغي الظنّ بمبادرته لتدبير الأمر بنحو مباشر في كل حين، بل شاءت إرادته أن يوكّل في ذلك من يأمره ،به ويأذن له ذلك، ويرضى له . وقد أشارت الآية 26 من سورة ص إلى هذا المعنى فيما يخص النبي داوود (علیه السّلام). وعليه فإنّ شعار الخوارج الذي صدحت به حناجرهم: «لله الحكم يا علي ! لا لك ولا لأصحابك» (3) قول غير تام. ولهذا، ردّ عليهم أمير المؤمنين (علیه السّلام) بقوله: «كَلِمَةً حَقٌّ يُرَادُ بِهَا بَاطِل»(4).

4 . الدولة والحكومة ظاهرة لا يمكن للمجتمعات البشرية أن تتجاوزها، أو تتغاضى عنها ، أو تحذفها من قواميسها ومجريات حياتها.

ص: 111


1- سورة المائدة: 47. وقد سبقت هذه الآية آيتان من نفس السورة، ورد فيهما قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بَمَا أَنزَلَ الله فَأَوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ المائدة: 44 (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأَوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المائدة: 45.
2- سورة الأنعام: 114.
3- الإرشاد، المفيد، ج1، ص 20.
4- روى الشريف الرضي في نهج البلاغة قوله :«كَلِمَةً حَقٌّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ. نَعَمْ، إِنَّهُ لاَ حُكْمَ إِلا لِله وَلَكِنَّ هَؤُلاَءِ يَقُولُونَ لَا إِمْرَةَ إِلَّا ِلله! وَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ؛ بَرٌّ أَوْ فَاجِر..». الخطبة 40 ط صبحي الصالح. [م]

5 . الآيات التي تطرّقت إلى التوحيد في الحاكميّة والتشريع تحصر مهمة التقنين وجعل الحقوق وسن القوانين بالله تَبَارَكَ وَتَعَالى وبمن أذن له الله، وتصف العدول عن الأحكام الإلهية بالظلم والفسق والكفر؛ كما في الآيات 44 و 45 و 47 من سورة المائدة، والآية 26 من سورة ص وغيرها .

6. عدّت بعض الآيات القرآنية الحكم الإلهي بمثابة المحور الذي تحلّ في ظله النزاعات والخلافات بين بني البشر؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى الله ذَلِكُمُ الله رَبِّ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ )(1).

7/4 .إثبات التوحيد في العبادة :

تقع دعوة الإنسان إلى عبادة الإله الواحد، ورفض عبادة أي موجود سواه على رأس قائمة الواجبات التي اضطلع بها الأنبياء منذ فجر التاريخ. والتوحيد في العبادة يمثل أحد أنماط التوحيد العمليّ؛ وهو يعني أنّ العبادة مختصة بالله عَزَّ وَجَلَّ، ولا يستحقها أحد غيره؛ لأنّ العبادة تعني أن يقوم المرؤ بعمل لموجود يرى فيه الألوهية، ويعدّه ربّاً، أو وجوداً مستقلاً في التأثير.

وبناءً على ذلك، لا تعني العبادة - كما يخال البعض - مجرّد الخضوع للغير، أو اللجوء إليه، والتذلّل أو الخشوع في حضرته؛ وإلّا لكان أمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لنبیّه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بالخضوع وخفض الجناح للمؤمنين (2) ، أو أمره للناس بالخضوع والتذلل أمام الوالدين (3) - كما حثّ عليه القرآن الكريم - تشجيعاً وتحفيزاً على الشرك بالله؛ وهو ليس كذلك بلا ريب.

وقد تطرّقت آيات قرآنية عديدة لما يتصل بالتوحيد العبادي؛ حيث قال تعالى:

ص: 112


1- سورة الشورى: 10 .
2- قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين) سورة الحجر: 88 [م]
3- قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُما جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) سورة الإسراء: 24. [م]

(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (1).

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ (2).

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّه وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا)(3).

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ (4).

﴿وَاعْبُدُ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ )(5).

﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(6).

(يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (7).

وبعد استعراض هذه الآيات، يتوجب الوقوف عند الرسائل القرآنية التالية :

1 . التوحيد العبادي مبدأ تسلّم به جميع الفرق والمذاهب الإسلامیّة، ولئن انحرفت بعض جماعات من المعتزلة والأشاعرة عن الجادّة في التوحيد الصفاتي والأفعاليّ، فإنّها لم تختلف مع باقي طوائف المسلمين في التوحيد العبادي.

ص: 113


1- سورة النحل: 36.
2- سورة الأنبياء: 25 .
3- سورة آل عمران: 64.
4- سورة يس 60-61 .
5- سورة الحجر: 99.
6- سورة البينة: 5 .
7- سورة العنكبوت: 56.

2 . يُقسّم الشرك في العباة إلى شرك جلي، وآخر خفي. أما الشرك الجلي فهو عبادة غير الله ؛ كما كان يصنع عبدة الأوثان في الجاهليّة، وهو الذي يؤدّي إلى تصنيف معتنق هذا الاعتقاد كلاميّاً في خانة «المشركين». وأمّا الشرك الخفي فهو الاستمداد من غير الله، والتملق له دون الالتفات إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والتوجه إليه. وإن هذه السلوكيات تجعل من الإنسان مشركاً من الناحية الأخلاقية؛ لا الكلامية. ولهذا، لا يُرتب على هذا النوع من الشرك أي آثار فقهيّة ثابتة للمشركين بالشرك الجلي.

.3 . «العبادة» لغةً - كما يرى الراغب الإصفهاني - تعني : إظهار غاية التذلّل (1) ويُطلق «العبد» ويُراد منه تارةً: العبد بحكم الشرع ؛ وهو الإنسان الذي يصح بيعه وابتياعه، وتارةً أخرى العبد بالإيجاد؛ وذلك ليس إلا الله جَلَّ وَعَلا ، وثالثةً : عبد بالعبادة والخدمة. أمّا العبادة في معناها الاصطلاحي فتعني: القيام بعمل لموجود يُعتقد فيه الألوهية، ويُعدّ ربّاً، أو وجوداً مستقلاً في التأثير؛ أي: السلوك الذي يُعبّر عن إيمان بألوهية ذلك الموجود. يُستفاد هذا التعريف من بعض آيات القرآن الكريم؛ حيث قال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّه مَا لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرُهُ)(2)، وقوله أَيضاً : ﴿إِنَّ الله رَبِّيٌّ وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)(3) ؛ حيث نستفيد من هاتين الآيتين ومثيلاتهما أنّ العبادة عمل يقوم به صاحبه لأجل موجود يرى فيه الألوهية أو الربوبية .

4 . يمكن لنا أن نستنتج من التعريف المذكور آنفاً ما يلي : أولاً: التمسك بالأسباب الطبيعية وغير الطبيعية ليس شركاً بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى - كما يحلو للوهابية أن تصوّر وتسوّق - ؛ لأنّ نظام الخلق مبني على أساس مبدأ السببية؛ فإذا ابتغى أحدهم مسبباً قصد سببه لا محالة؛ وإن كان المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو علة العلل، والخالق والمدبّر لنظام الخلق بأسره. وقد أمر القرآن الكريم بالاستعانة بالصبر والصلاة في قوله تعالى:

ص: 114


1- قال ما نصّه: «العبوديّة: إظهار التذلّل والعبادة : أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلّل ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال؛ وهو الله تعالى». مفردات غريب القرآن الراغب الإصفهاني ص 319 .[م]
2- سورة الأعراف: 59 .
3- سورة آل عمران: 51 .

(وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)(1) . وثانياً : التوسل بالغير واللجوء إليه ليس أنه لا يُعدّ شركاً أو عبادةً للغير وحسب، بل هو مصداق حي من مصاديق عبادة الله، سواء كان هذا التوسل بالصالحين في فترة حياتهم أو بعد مماتهم؛ فقد طلب صحابة رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) منه الدعاء والشفاعة. والسرّ في مجانبة هذه الأعمال للشرك أنّ طلباً مثل هذا لا يجري بنيّة الإيمان بألوهية المطلوب منه، أو ربوبيته، بل من أجل المكانة والوجاهة التي يحظى بها عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وقد قال عَزَّ اسمَهُ في كتابه: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكِ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لَمَن يَشَاء وَيَرْضَى) (2). وعليه : فإنّ طلب الشفاعة من الغير ليس بشرط، طالما يجري وفق الإذن الإلهي؛ فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يرضى بالشرط بأي حال.

5 . الرسالة الأهمّ التي أكد عليها الأنبياء هي الدعوة إلى التوحيد في العبادة، ورفض جميع ألوان الشرك. من هنا، يمثل التوحيد العبادي مبدأ عاماً تشترك فيه جميع الأديان السماوية.

6 . يُستفاد من الآيتين 60 و 61 من سورة يس أنّ التوحيد العبادي أمر فطري جبل عليه الإنسان، وأنّ الله عَزَّ وَجَلَّ قد أخذ من الناس جميعاً عهداً تكوينياً فطرياً يدعو إلى رفض عبادة الشيطان.

7. يُستفاد من الآية 5 من سورة البينة أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لا يرضى إلا بالعبادة الخالصة التي لا يشوبها أيّ قصد أو توجّه لغيره جَلَّ وَعَلا.

8 . تهدينا الآية 99 من سورة الحجر إلى أن منافع العبادة وثمارها لن تكون إلا من نصيب الإنسان نفسه. يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (3)، والمعنى يمكن أن يُفسّر بنحوين: الأوّل: أن يُراد باليقين «الموت»، ويراد ب- (حَتَّى يَأْتِيَكَ )

ص: 115


1- سورة البقرة: 45.
2- سورة النجم: 26.
3- سورة البقرة: 45.

الغاية الزمانية؛ فيكون المعنى أنّ عبادة الله واجبة إلى حين الممات. والثاني: أن اعبد ربّك حتى تبلغ مرحلة اليقين، وتصل إلى مرتبة المعرفة الجزميّة، وهو ما يدل على أنّ العبادة توصل الإنسان إلى مقام اليقين. وهذا هو المعنى الذي تُستفاد منه فلسفة العبادة، والفوائد المترتبة عليها بشكل واضح.

9 . نجد في الآية 56 من سورة العنكبوت مزيداً من التأكيد على عبادة الله تَبَارَكَ 9 وَتَعَالى؛ حيث يأمر سُبحَانَهُ وَتَعَالى الإنسان بالهجرة في أرضه الواسعة، والبحث عن مكان بديل إذا كان بقاؤه في البقعة التي يقطنها يحول دون عبادة الله جَلّ وَعَلا.

10 . إذا ثبتت خالقية الله وربوبيته، فهو وحده من يستحق العبادة؛ دون سواه.

8/4 .إثبات التوحيد في الطاعة :

لما كان الله تَبَارَكَ وَتَعَالى وحده الخالق والمدبّر للكون والإنسان دون غيره، فتجب إذن طاعته وحده، ولا تجوز الطاعة لغيره ؛ لأنّ الطاعة شأن من شؤون المالكية والمملوكيّة، ولا مالك إلا هو. وبطبيعة الحال، تجب طاعة الإنسان الذي يأمر الله بالانصياع له؛ لأنّ في ذلك امتثال لأمر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى. يقول تعالى:

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله ) (1).

والآية تشير إلى أنّ الطاعة الله جَلَّ وَعَلا إنّما تصل للغير بإذن منه، ويقول أيضاً:

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله )(2) .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّه وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (3).

ص: 116


1- سورة النساء: 64.
2- سورة النساء: 80.
3- سورة النساء: 59 .

(قُلْ أَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )(1) .

ولهذا، فإنّ طاعة الرسول والأئمة والفقهاء الجامعين للشرائط والوالدين وغيرهم ممن أمرنا بطاعتهم، إنما جاز لأنه مأذون به من قِبل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى. ومن هنا، فإن إطاعة أئمة الدين تجري باعتبار كونها تجليّاً إلهيّاً، وليست من باب التجافي(2)؛ فالتجلي يعني التنزّل إلى المقصد من دون انتقاص المبدأ؛ بخلاف التجافي الذي يعني الوصول إلى المقصد مع نقص يتوجّه إلى المبدأ . فعندما يهب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لمخلوقة كمالاً ما، لا ينقص ذلك من الله شيئاً. ولهذا فإنّ تنزّل الخالقية والربوبيّة والرازقية والمالكية والولاية والطاعة إلى المخلوق لا يتسبب في سلب كمال أو إنقاص شيء منه جَلَّ وَعَلا. وبناءً على ما تقدّم، فإنّ الصفات الإلهية قد تتنزل على المخلوق بنحو من التجلّي؛ لا كالمطر الذي إذا هطل من الأعلى إلى الأسفل، استقرّ في الأسفل، وانتفى عن الأعلى.

9/4 . دور الإيمان بالتوحيد:

رغم أن التوحيد يتناول في علم الكلام على أنه عقيدة، وفي علم العرفان بصفته مقاماً ومنزلاً، لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ التوحيد في الإسلام يُعبّر عن حقيقة وعمليّة اهتمّ المتكلّمون بجانبها العقائدي، والعرفاء بجانبها السلوكيّ.

والحق أنّ التوحيد يجب أن ينطلق من الساحة العقائدية، وصولاً إلى فضاءات السلوك التعاملي والروحاني، ونظهر آثار التوحيد في مناحي الأفكار والسجايا والأفعال الفرديّة والاجتماعية.

ص: 117


1- سورة آل عمران: 32 .
2- يفرّق العلماء بين الصدور أو النزول على نحو التجافي، والصدور أو النزول على نحو التجلي؛ أما التجافي فهو أن يظهر الشيء أو ينتقل من موضع إلى موضع آخر، ولكن عند ظهوره في المكان الجديد يفقد المكان الأوّل. وإلى هذا الاستعمال يشير قوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة: (16) فعندما ينهض الناس لا تبقى جنوبهم في المضجع بل تتجافى عنه وتتباعد. وأما التجلّي فيعني أنّ الشيء إذا صدر أو انتقل من منزل إلى منزل آخر لا يفقد موقعه الأصلي، وهذا يتحقق في الأمور المجرّدة. ويمكن تقريب الحالة بمثال من النشاط العلمي للإنسان، فإذا ما كانت عند الإنسان فكرة في ذهنه، ثمّ عمد إلى كتابتها على الورق، فإنّ هذه الفكرة تكون قد تنزّلت من مرتبة العقل وصارت في مرتبة الورق، من دون أن تفقد مرتبتها السابقة.

إنّ الفرد الموحّد لا يكتفي بعقد القلب على وحدانية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الذات والصفات والأفعال، بل يمكن استشراف الحالة التوحيدية عنده في ملكاته النفسانية، وشتى نشاطاته الفردية والاجتماعية؛ بما يعمّ حراكه السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وإن اصطباغ الملكات والنشاطات الفردية والاجتماعية بصبغة التوحيد يعني ألا يقتصر الفرد على تطبيق الشريعة وإخلاص العمل الله عَزَّ وَجَلَّ في اكتساب الفضائل الأخلاقية، وما ينشط فيه من فعاليات سياسية واجتماعية (مثل تأسيس الأحزاب، وإنتاج المنتجات والعلاقات الدولية، والتحصيل، والتدريس، وتهذيب النفس)، بل يرتقي أيضاً لما يجعله يؤمن بأنّ المقدرة والتوفيق، أو الإخفاق والهزيمة منوطة بما تمليه القدرة والربوبية والمالكية والإلهيّة ، وعلى قدر ما تفيضه على الإنسان. والفرد الذي يتصف بهذا اللون من التوحيد لن ينتابه الملل أو الكسل في حياته؛ حتى لو مني بالهزيمة في الحرب، ولن يعتريه الغرور؛ وإن حاز على النصر المؤزّر فيها.

إنّ الإنسان الموحّد لا يترك فعلاً فردياً أو نشاطاً عائليّاً أو اجتماعياً يقوم به إلا ويسيّره في خط العبادة والجهاد في سبيل الله، فتجده على الدوام مستبشراً ونشيطاً ومتطوّراً في حياته بشكل ملحوظ، لا يخبو وهج إيمانه بالقدرة الإلهية، ويخطو جميع خطواته - حتى في إسهاماته السياسية - ليكسب بها رضا ربه.

نعم؛ إنّ التحصيل الدراسي وإنتاج العلم تحت مظلة الرؤية الموحدة يختلف كثيراً عن التحصيل والإنتاج في بيئة مشركة، وللأسف فإنّ العلوم الطبيعيّة والإنسانية في عالمنا المعاصر قد انعقدت نطفها ووُلدت وترعرعت في بيئات تسودها الرؤية المشركة . ولهذا، تجد العالم الفيزيائي والكيميائي والأحيائي - الذي ما فتئ يفتش في أعماق الحقائق والظواهر الطبيعية مثل : الحركة، والأوزان ، والكُتل، والعلاقات المتبادلة بين العناصر الكيميائية ، وكيفيات نموّ الكائنات الحيّة وتحرّكاتها، والعلاقات التي تحكم المجتمعات البشرية، وما إلى ذلك، ويضع لها القوانين والمعادلات العلمية - يتجاهل

ص: 118

العلاقات الطولية التي تربط القوانين الطبيعية والإنسانية بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويُنكر الربوبية التي يتصف بها، والسنن الإلهيّة التي وضعها في الخلق .

إنّ الفرد الموحد ينظر إلى الإنسان والطبيعة من منظار توحيدي، ويرى أنّ قانون القصور الذاتي(1)، أو الجاذبية، أو نسبيّة الكُتل، وما إلى ذلك هي من صنع الله ، ومحكومة بسننه، منطلقاً من أسسه التوحيدية ليلجَ عالم الأبحاث الوصفية والمعيارية الدارسة للعلاقات بين بني البشر. وإنّ هذا المنحى التوحيدي في البحث هو الذي قد يقف أحياناً في وجه بعض نظريات العلوم الإنسانيّة، فيرفضها؛ كما في مثل نظرية «تبعيّة الطلب للاستهلاك» في الاقتصاد الإسلامي.

10/4 .عوامل النزوع إلى الشرك:

تتناظر - أو بالأحرى تتقابل - مراتب الشرك مع مراتب التوحيد؛ فطالما قسمنا التوحيد إلى نظري ،وعمليّ، ثمّ النظري إلى ذاتيّ وصفاتي وأفعاليّ، ثمّ العملي إلى: توحيد في العبادة وتوحيد في الطاعة، فإنّ الشرك أيضاً ينقسم إلى هذه الأقسام باستبدال مفردة «التوحيد» إلى «الشرك».

ينجم الشرك في المراتب التوحيديّة المختلفة من عوامل معرفية ونفسية واجتماعية سَردها لنا القرآن الكريم، كما سيأتي بيانه فيما يأتي:

وردت مفردة «الشرك» في آيات الذكر الحكيم بمعنى إنكار وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، واتخاذ بديل له كاله ،ومعبود، وقد عدّ لنا القرآن مجموعة من العوامل التي شخص أنها تسببت في نزوع المشركين نحو الشرك؛ منها - على سبيل المثال - : العمل بالظنون والأوهام، والنزعة الحسّيّة، والنزعة النفعية، وحالة التقليد الأعمى.

ص: 119


1- قانون «القصور الذائي» - أو ما قد يسمّى بالعربية أيضاً ب- «العطالة» - Inertia : مصطلح فيزيائي يعني مقاومة الجسم الساكن للحركة ومقاومة الجسم المتحرك بتزويده بعجلة ثابتة أو تغيير اتجاهه. وهو معروف بصفته القانون الأول لنيوتن (1642 Newton-1727م). [م]

1/10/4. عامل الظنون والأوهام :

يمثل العمل بالظنّ والركون إلى الوهم أحد أهم العوامل المؤثرة في نزوع الإنسان نحو الشرك . قال تعالى :

(وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهُ إِلَّهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)(1) .

(وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلُ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ هُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نصير) (2).

(أَلا إِنَّ لله مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ) (3).

2/10/4. عامل النزعة الحسّيّة:

الركون إلى الحسّ والإيمان بأصالته هو العامل الثاني من عوامل نزوع الإنسان نحو الشرك. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى:

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلَّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ )(4).

(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور) (5).

ص: 120


1- سورة المؤمنون: 117 .
2- سورة الحج: 71.
3- سورة يونس: 66.
4- سورة القصص: 38 .
5- سورة البقرة: 210 .

3/10/4 . عامل النزعة النفعية :

تشكّل حالة البحث عن النفع والفائدة كأصل حياتي إحدى العوامل المؤثرة في ميل الإنسان إلى الشرك. يقول تعالى :

﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُون الله الةٌ لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ) (1).

(وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ الله آلِهَةً ليَكُونُوا هُمْ عِزّاً)(2).

(ألا لله الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ (3).

4/10/4. عامل التقليد الأعمى :

يعرّف القرآن الكريم حالة التقليد الأعمى للآخرين كأحد العوامل المؤثرة في اعتناق الشرك . يقول تعالى :

(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) (4).

(قَالُواْ أَجِئْنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) (5) .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ )(6).

ص: 121


1- سورة يس: 74.
2- سورة مريم: 81 .
3- سورة الزمر: 3 .
4- سورة الزخرف: 22-23 .
5- سورة يونس: 78 .
6- سورة سبأ: 43.

5 . الصفات الإلهية

1/5. تمهید :

1/1/5 . اتحاد الصفات مع الذات :

طالما أنّ المعرفة الحضوريّة أو الحصوليّة لكنه الذات الإلهية أمر متعدّر وغير ممكن للإنسان، ولما كان تعطيل المعرفة بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أمراً محظوراً عند العقل والشرع، فإنّ السبيل الأمثل لاكتساب المعرفة بالله هو الوقوف على صفاته جَلَّ وَعَلا، شريطة ألّا ننزلق في هاوية التشبيه، وألا تُنزّل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى منزلة البشر، ونقيسه بهم.

لقد أوضح لنا القرآن الكريم في سورة الأعراف اتصاف الله عَزَّ وَجَلَّ بالأسماء الحسنى؛ حيث قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى :

(وَ للّه الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) (1).

وفد نزّه القرآن الكريم الذات المقدّسة عن أي لون من ألوان المثلية والتشبيه بغيره؛ حيث قال جَلَّ وَعَلا:

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ (2).

ونجد هذا المعنى بعينه في الآية 74 من سورة النحل في الآية 4 من سورة التوحيد

هذا، وتنطوي الصفات الإلهية من زاوية تعريفها وتقسيماتها على أبحاث، نعرض لها في ما يلي:

ص: 122


1- سورة الأعراف: 180 .
2- سورة الشورى: 11 .

اتحاد الصفات مع الذات:

الصفات الإلهية مفاهيم كمالية متحدة مع الذات الإلهية (صفاته عين ذاته)، وتتمايز من حيث المفهوم فيما بينها، كما تتمايز من حيث المفهوم أيضاً مع الذات. ولا يستلزم القول بالصفات الإلهيّة أيّ حيثيّة للتكثر في الذات الإلهية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ حقيقة «الاسم» و«الصفة» واحدة ولا يختلفان إلا على مستوى اللفظ والاعتبار الذهنيّ؛ فالاسم هو الذات بضميمة الصفة.

2/1/5 .تقسيمات الصفات الإلهية :

قسم المتكلمون المسلمون الصفات الإلهية إلى : ذاتية وفعلية، وإلى: ثبوتية وسلبية، أو: جمالية وجلالية(1)؛ فإذا انتزعت الصفات الإلهية في مقام تصوّر الذات الإلهية من دون أخذ الفعل الإلهي بعين الاعتبار كانت تلك الصفات ذاتية؛ مثل : العلم والقدرة والحياة الإلهيّة. وإذا انتزعت تلك الصفات في مقام التصوّر من النسبة بين الذات والأفعال - أي ارتبطت بأفعال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى - كانت الصفات حينئذ فعليّة مثل : الخالقية والرازقية وما شاكلهما. من الجدير بالانتباه أنّ الصفات الذاتية والفعلية لا تتفاوتان في مقام الإثبات والتصديق؛ بمعنى أنّ كلا الصفات الذاتية والفعلية قابلة للإثبات من دون أيّ التفات إلى الأفعال الإلهية، ويكفي في ذلك توسيط مفهوم «واجب الوجود»، كما أنها قابلة للإثبات أيضاً مع توسيط الأفعال الإلهيّة في عمليّة الاستدلال وتنقسم الصفات الإلهية في تقسيم آخر أيضاً إلى صفات ثبوتية أو جمالية؛ مثل: العلم والقدرة، وصفات سلبية أو جلالية؛ مثل : سلب الجهل والعجز عنه.

ص: 123


1- وقد جاءت التسمية استئناساً بقوله تعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ) [سورة الرحمن: 78]، حيث يستفيد بعضهم بأنّ «الإكرام» إشارة إلى الصفات الجمالية التي تكرّمت بها الذات الإلهيّة وتجمّلت بها، في حين أنّ «الجلال» فهو ما جلّت ذاته وتنزّهت عن الاتصاف به [م]
3/1/5 . الجدل حول الصفات الخبرية:

ذهب بعض المتکلّمین إلى استحداث قسم آخر من الصفات الإلهية أسموه بالصفات الخبرية، ومثلوا لها ب- : «العلوّ»، و«الوجه»، و«اليد»، غير ذلك. والصفات الخبرية تعني تلك الصفات التي أخبر عنها القرآن الكريم؛ وإن كانت حقيقتها محلّ نظر واختلاف بين أهل النظر؛ حيث انقسموا في شأنها إلى مذاهب:

1 . نظريّة المجسّمة المشبّهة : وهم من نسبوا الصفات الخبرية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمعانيها وكيفيّاتها البشرية. وقد تصدّى لهذا المنحى جمهور المسلمين، وناقشوه بأدلة عقلية ونقلية؛ لأن الكيفيات البشرية - أياً كانت - تتصف بصفات المخلوق والمعلول، ويمتنع انتسابها لواجب الوجود عقلاً.

2 . نظريّة غالبيّة الأشاعرة: وهم الذين حملوا هذه الصفات على الله جَلَّ وَعَلا بالمعنى المتبادر منها في العرف، لكنهم حاولوا إبعاد تهمة التشبيه عن ساحتهم بالقول: «إنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى وجهاً ويداً بلا تشبيه ولا تكييف»(1). وهذا ما مال إليه الشافعي وأبو حنيفة؛ وهو قول لا يحمل في طياته معنى مبرراً ومقنعاً لأهل الدين والإيمان.

3 . نظرية بعض الأشاعرة : وهم الذين وصفوا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذه الصفات، إلا أنهم ارتأوا تفويض أمرها إلى الله جَلَّ وَعَلا ؛ أي: أنهم أعلنوا العجز عن فهم معاني الصفات الخبرية. وهذا القول أيضاً لاينسجم مع شرطية الفهم والمعرفة نسبةً إلى المضمون الإيماني والمعتقد الديني، ويُفضي بالنتيجة إلى تعطيل العقل عن إدراك الآيات والصفات الإلهيّة وهو باطل .

4 . نظريّة المشهور من المعتزلة : وهم الذين مالوا إلى نظرية التأويل، وحملوا ألفاظ

ص: 124


1- يقول الأشعري - رئيس هذا المذهب - : «إنّ لله سبحانه وجها بلا كيف؛ كما قال: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [سورة الرحمن: 27]، وإنَّ له يدين بلا كيف؛ كما قال: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [سورة ص : 75]». انظر: الإبانة الأشعري: ص18. [م]

الصفات الخبرية على خلاف ظواهرها؛ فقالوا في معنى «اليد» - مثلاً - : إنها «النعمة» و القدرة». وقد قصدوا بالتأويل هنا : العدول عن المعنى الظاهري، والتشبث بمعنى مخالف للظاهر. وهنا ننوه بأنّ القدرة» تشكّل إحدى المعاني الظاهرة من لفظ «اليد»؛ وليست تخالف الظاهر كما يقولون.

5 . نظريّة أصوليّي الإمامية وهم يرون تنويع الدلالة اللفظية إلى نوعين:

أوّلاً: الدلالة التصوّرية؛ وهي تعني انتقال الذهن إلى معنى اللفظ بمجرد صدور اللفظ من اللافظ، ولا يُشترط في تحقق هذه الدلالة إرادة اللافظ .

ثانياً : الدلالة التصديقية وهي التي ترتبط بإرادة اللافظ.

قُسّمت هذه الأخيرة إلى تصديقية استعمالية، وتصديقية جدّيّة، فتمسّكوا لإثبات الأولى بوضع الواضع ولإثبات الثانية بسيرة العقلاء وبنائهم.

ولا تتحقق الدلالة التصديقية من دون وجود إرادة استعمالية أو إرادة جدّية. الاستعمال يعني: استخدام اللفظ في المعنى، فإذا كان المعنى المستخدم فيه هو المعنى الذي وُضع اللفظ له فإنّ الاستعمال حقيقي. أما لو استخدم اللفظ لمعنى لم يوضع له اللفظ فالاستعمال عندئذٍ مجازيّ. ولا بدّ في تحقق المجاز أن تكون هناك مناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

وقد انقسم اللغويون فيما يخص الاستعمال المجازي إلى رأيين مختلفين:

*ذهب بعضهم إلى أنّ الاستعمال المجازي يُعدّ تصرفاً في المعنى، فحملوا معنى كلمة «الأسد» في قولك «رأيتُ الأسد الذي فاز بالجائزة العالمية الأولى للمصارعة »على معنى «البطل» أو «الرجل الشجاع».

*وذهب آخرون إلى أنّ الاستعمال المجازي تصرّف في المصداق؛ لا المعنى.

ص: 125

فالأسد لم يتغيّر معناه في المثال المذكور، وله مصداق حقيقي واحد هو ذلك الحيوان المفترس الذي نعرفه ، لكنّ هذا لا يمنع من أن نختلق له مصداقاً ادّعائياً آخر هو ذلك الرجل الشجاع المذكور.

والحق أنّ الاستعمال هو استخدام اللفظ في ما يريده المتكلّم؛ وليس في معنى اللفظ. فإذا كان مراد المتكلّم مطابقاً لمعنى اللفظ كان الاستعمال حقيقياً، وإلا صنف ضمن الاستعمال المجازي. وعليه فمجازيّة الاستعمال تعود إلى عدم التطابق بين مراد المتكلّم ومعنى اللفظ.

ولمزيد من التوضيح نقول : تنطوي عمليّة الاستعمال على ثلاثة عناصر؛ هي: اللفظ والمعنى، والمراد. أمّا حقيقة الوضع فهي إيجاد العُلقة بين اللفظ والمعنى، وأمّا حقيقة الاستعمال فهي إيجاد العلقة بين اللفظ ومراد المتكلّم.

يتضح من هذا، أنّ كلمةً مثل «اليد» من الممكن لها أن ترتبط بأكثر من معنى على نحو العُلقة الوضعيّة؛ منها المعنى المعروف المشير إلى أحد الأطراف، والآخر معنى القدرة. وبالتالي فإنّ هذه المفردة لفظ مشترك، له معنيان حقيقيان، يمكن للمتكلّم في مقام الاستعمال أن يقصد أحدهما.

ولأجل استكشاف مقصود المتكلّم ومراده من اللفظ يجب التدقيق في نوعية التركيب اللفظي والقرائن اللفظية والعقلية الحافّة به؛ فعلى سبيل المثال: عندما يُقال لنا: إنّ الإمارة بيد الأمير، أو (يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (1)، يدلنا تركيب الجملة مع انضمام [1] القرائن العقليّة إلى أن اليد المقصودة هنا ليست تلك اليد الجسمية، فينتفي معنى التجسيم عن ساحة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى . وإذا ما انضمت - علاوةً على ذلك - قرينة لفظية كما قوله عَزَّ اسمَهُ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ )(2) ، دلّت الألفاظ على أنّ المراد هو

ص: 126


1- سورة الفتح: 10 .
2- سورة الشورى: 11 .

«القدرة». بناءً على ما تقدّم، فإنّ استعمال لفظ «اليد» في معنى القدرة، ليس استعمالاً مجازيّاً، وليس بتأويل، بل هو استعمال للفظ في معناه الحقيقي (1).

والسؤال المركزي هنا هو : لماذا استخدم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في بيان تلك الصفات الخبرية آيات متشابهات؟ يستعرض العلامة الطباطبائي في تفسيره آراء مختلفة بهذا الخصوص، وقد خلص في بحثه هذا إلى أنّ وجود الآيات المحكمة والمتشابهة أمر تقتضيه اللغة والدلالة وعلى هذا الأساس، وبالرغم من إمكانية استخدام مفردة «القدرة» بدلاً عن «اليد»، فإنّ الظرافة التي نجدها في مفردة «اليد» بما توحيه من إحاطة وسيطرة لا نعثر عليها في مفردة القدرة». ومن هنا، فإنّ الاستعاضة عن اليد بالقدرة من ناحية لغوية ودلالية ليس أمراً مستحسناً (2).

4/1/5 . الصفات المشتركة:

البحث الآخر الذي يتناول ضمن إطار أبحاث الصفات الإلهية يتعلق بالصفات المشتركة بين الخالق والمخلوق والسؤال عن طبيعة معنى تلك الصفات عند استخدامها في الله عَزَّ وَجَلَّ وفي الإنسان أيضاً؛ هل هي من باب الاشتراك اللفظي أم المعنويّ؟

يرى بعض المتکلّمین المسلمين أنّ الصفات المشتركة بين الله والإنسان هي ألفاظ مشتركة فعلاً ظانّين بأنّ القول باتّحاد المعنى الذي تدلّ عليه هذه الصفات يستلزم رفع اليد عن واجبيّة وجوده تَبَارَكَ وَتَعَالى، أو القول بواجبيّة وجود الممكن وقد تغافلوا في رأيهم هذا عن إمكانيّة القول بالاشتراك المعنوي الذي يسمح بوجود مصاديق متعدّدة لمفهوم واحد تتفاوت فيه تلك المصاديق من حيث الشدّة والضعف.

ص: 127


1- لاحظ الملل والنحل الشهرستاني، ج1، ص 105؛ الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل، محاضرات الشيخ السبحاني، ج1، ص 317 .
2- لاحظ كلام العلامة الطباطبائي في: الميزان في تفسير القرآن ذيل الآية 7 من سورة آل عمران.

وفي هذا السياق، صاغ فيلسوف القرون الوسطى توماس أكويناس (1274م) نظريته المسماة ب-«التمثيل» ( أنالوجي)، مصرحاً فيها بأنّ الصفات والمحمولات التي تُنسب إليه جَلَّ وَعَلا - مثل : العدل، والعلم والقدرة - تُطلق على المخلوقات أيضاً؛ كما ورد في الآيات 13 و 14 من الباب الثالث في سفر الخروج من العهد العتيق، فقد وُصف الله عَزَّ وَجَلَّ بالوجود كما وُصفت المخلوقات بالوجود أيضاً، لكن هذه المحمولات لهذين الموضوعين لا يمكن لها أن تكون من باب الاشتراك اللفظي، ولا الاشتراك المعنوي:

*فمن جهة : هناك حالة الشبه والترابط بين العدل الإلهي والعدل البشري - على سبيل المثال - لكنّ المحمول ((عادل) ليس بمشترك لفظي .

*ومن جهة أخرى هنالك اختلافات قائمة بين الله اللامتناهي والإنسان المتناهي، فهذا المحمول ليس بمشترك معنوي.

وكما يعبّر الفرنسي جيلسون (1979م)(1) فإنّ اللفظ عندما يحمل على موضوع بنحو من الاشتراك المعنوي، فإنّه يُحمل عليه بوصف كونه جنساً، أو فصلاً، أو عَرَضاً؛ وليس أيّ من تلك المحمولات - بهذا المعنى - صالح ليطلق على الله عَزَّ وَجَلَّ.

والدليل على هذا النحو من الاستنتاج يكمن في طبيعة العلاقة القائمة بين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وغيره من الموجودات؛ فإنّه جَلَّ وَعَلا هو الوجود بعينه، وهو - أيّاً كانت حقيقته - كائن باقتضاء ذاته؛ في حين أنّ سائر الموجودات - أياً كانت حقائقها - كائنة باكتسابها الفيض من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وإنّ جميع الكمالات مستندة أوّلاً وبالذات إليه عَزَّ وَجَلَّ، وإنما تُنسب إلى غيره وتُحمل عليه ثانياً وبالعَرَض. ومن جهة أخرى، فلا يمكن الركون إلى تباين كامل وتفاوت تام بين صفات الله عَزَّ وَجَلَّ ومخلوقاته

ص: 128


1- إتيان جيلسون (1884 Étienne Gilson-1978م) فيلسوف ومؤرّخ للفلسفة الفرنسية، وهو أحد الكتاب البارزين في الفلسفة المدرسية الجديدة، ومن المختصين في فكر توماس أكويناس. [م]

حتى يبلغ بنا المقام إلى القول بالاشتراك اللفظي. وبالتالي: فإنّ هذه النظرية - كما يرى روس (1) ( 2010 م) - تسعى لإنقاذ الإنسان من ورطة التشبيه والتعطيل.

لقد استعرض توماس أكويناس (1274م) نظريته التمثيلية هذه التي ابتنت على إنكار الاشتراكين اللفظي والمعنوي في الصفات الإلهية بعد إيمانه بمعنائية القضايا الدینیّة، وكونها قضايا إخبارية ناظرة للواقع . والأمر المهم اللافت في هذا السياق أنّ مفسّري نظرية أكويناس انقسموا في تفسيرهم للتمثيل الأكويني هذا إلى فريقين ورؤيتين:

1 . التمثيل الإسنادي: وهو ما ذهب إليه الفريق الأوّل منها؛ وهو يعني أنّ الصفة قد تكون أصلية بالنسبة إلى موضوع ما ، وقد تكون مجازية. فعلى سبيل المثال عندما يقال: «الله عالم» أو «قادر»، ويقال أيضاً: «الإنسان عالم» أو «قادر»، فإنّ المعنى هو كونه سُبحَانَهُ وَتَعَالى سبباً للعلم والقدرة في المخلوقات، وأن هاتين الصفتين تُنسبان له على نحو المجاز. وهنا، يمكن الخدشة في هذا البيان بأن يقال: إذن ، لماذا لا يجوز لنا أن ننسب الجسمية له جَلَّ وَعَلا؛ فنقول: «الله جسم»، ثمّ نؤوّل ذلك بنفس البيان المذكور لنقول : المقصود هو كونه سبباً للأجسام؟!

2 . التمثيل التناسبي : حيث ارتاه الفريق الثاني؛ وهو ليس الحاصل من عقد مقارنة بين الصفات الإلهية والصفات البشريّة، بل ينتج عن مقارنة تجري بين نسبتين؛ كما لو قسنا مثلاً النسبة القائمة بين الكسرين ، دون أن نقارن بين الأعداد 1 و 2 و 4 مثلاً؛ ففي باب الصفات الإلهيّة والبشرية نقول : النسبة القائمة بين ذات . وصفاته هي نفسها تلك النسبة القائمة بين ذات الإنسان وصفاته. وبخصوص هذه الرؤية يمكن أن نستشكل على هذا التحليل بفقدانه لأيّ معطى معرفي جديد يمكن له أن يزيدنا علماً بالصفات الإلهية، أو يسلّط عليها شيئاً من الضوء(2).

ص: 129


1- جيمس فرانسیس روس James Francis Ross فيلسوف أمريكي اختص بالفلسفة والميتافيزيقيا، وفلسفة الدين والقانون، وكان عضواً في قسم الفلسفة بجامعة بنسلفانيا الأمريكية من عام 1962م حتى وفاته. [م]
2- استفدنا في بيان هذا القسم من المصادر التالية: العقل والعقيدة الدینیّة؛ أسس الفلسفة المسيحية؛ مجلّة المعرفة، مقالة أنالوجي، العدد 19 مجلة رسالة المفيد، مقال بعنوان: في دلالة الصفات الإلهية، العدد 18.

إننا نرى أنّ الخلل الأساسي الذي تعاني منه رؤية أكويناس هو ظنّه وهاجسه الذي يصوّر له الوقوع في فخ التشبيه إذا ما تبنّى نظرية الاشتراك المعنوي بين الصفات الإلهيّة والبشرية، واستنتاجه المصير إلى وحدة مصداقية عند الإيمان بوحدة مفهومية.

و في كلمة واحدة: إنه تورّط في خلط بين المفهوم والمصداق؛ فكم من مفهوم اتحد معناه مع مفاهيم كثيرة أخرى، وكان لكلّ من هذه المفاهيم المتحدة مصاديق متعددة ومختلفة.

وعلى هذا الأساس، قسّم المناطقة المسلمون المشترك المعنوي إلى: «متواطئ»، و «مشكَّك» ، ثمّ عرّفوا المشترك المعنوي المتواطي بأنه مفهوم كلّيّ يصدق على أفراده، ويُحمل عليهم بنحو واحد؛ كما هو الحال في حمل مفهوم «الإنسان» على مصاديقه(1). أمّا المشترك المعنويّ المشكك فقد عرّفوه بأنه المفهوم الكليّ الذي يُحمل على أفراده على نحو الشدّة والضعف ؛ كما في حمل مفهوم «النور» على مصاديقه الشديدة والضعيفة مثلاً (2).

وإنّ صفات مثل: «العلم»، و«القدرة» أيضاً لا يمكن لها أن تنخرط في صنف المشترك المعنوي المشكّك ، فيكون معنى الصفة واحداً، بيد أنه يصدق على الأفراد على نحو الشدّة والضعف ؛ فعلم الله علم لا حد له، وعلمٌ يجب وجوده، وهو عين الذات الإلهيّة، لكن علم الإنسان علم محدود ممكن.

ص: 130


1- المفهوم الكلّي الذي لا يوجد بين أفراده تفاوت في نفس صدق المفهوم عليها هو المسمّى بالمفهوم المتواطئ. ومثاله الإنسان؛ فزيد وعمرو وخالد - إلى آخر أفراد الإنسان - من ناحية الإنسانية سواء، من دون أن تكون إنسانية أحدهم أولى من إنسانيّة الآخر، ولا أشدّ ، ولا أكثر ولا أي تفاوت آخر في هذه الناحية. وإذا كانوا متفاوتين فاختلافهم في نواح أخرى غير الإنسانيّة؛ كالتفاوت بالطول، واللون والقوّة، والصحة والأخلاق وما إلى ذلك. ومثل هذا المفهوم الكلّيّ المتوافقة أفراده في مفهومه يسمّى بالمتواطئ؛ لأنّ التواطؤ يعني هنا التوافق والتساوي، وأفراده - كما تقدّم - متوافقة فيه راجع المنطق، محمد رضا المظفر، ص 71. [م]
2- المفهوم الكلّي الذي يوجد بين أفراده تفاوت في نفس صدق المفهوم عليها هو المسمّى بالمفهوم المشكك. ومثاله: البياض؛ فإذا طبقته على أفراده، تجد - على العكس من المفهوم المتواطئ - تفاوتاً بين الأفراد في صدق المفهوم عليها بالاشتداد أو الكثرة، أو الأولوية، أو التقدّم، فنرى - على سبيل المثال - بياض الثلج أشد بياضاً من بياض القرطاس وكلّ منهما بياض ومثل هذا المفهوم الكلّيّ المتفاوتة أفراده في صدق مفهومه يسمّى بالمشكك؛ لأنّ التشكيك يعني هنا التفاوت راجع المصدر السابق، ص 71-72. [م]
5/1/5 .إثبات الصفات الإلهية:

أقيمت براهين متنوّعة على إثبات الصفات الإلهية نشير إلى بعضها على نحو الإيجاز فيما يلي. ويمكن التدليل على الصفات الكمالية من خلال سلوك طريقين:

أوّلاً من خلال إثبات واجبيّة الوجود له عَزَّ وَجَلَّ، وأنه واجب الوجود بالذات من جميع الجهات؛ لأنّ هذا يستلزم أن يكون تَبَارَكَ وَتَعَالى واجداً لجميع الكمالات الوجوديّة، ومنزّهاً عن أيّ نقص، وإلا جاز فيه الاتصاف بالعدم وإمكان الوجود؛ وهو ما لا يجتمع مع واجبية الوجود بحال.

وثانياً: البرهنة المبتنية على كمالات الممكنات؛ حيث يُستدل بها لإثبات وجود تلك الكمالات فيه عَزَّ وَجَلَّ بنحو أكمل وأتمّ. توضيح ذلك في النقاط التالية:

1 . معلولاته ومخلوقاته سُبحَانَهُ وَتَعَالى حائزة على بعض الصفات الكمالية؛ مثل: العلم، والقدرة، والحياة، وما إلى ذلك.

2 .مبدأ السنخيّة بين العلة والمعلول ينصّ على أنّ الصفة الكماليّة يجب أن تكون موجودة بنحو أكمل وأتمّ في علّتها الحقيقية؛ وذلك لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه؛ إذ كيف يُعقل لعلّة فاقدة للكمال أن تفيض به على معلولها؟! والنتيجة: أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ واجد للصفات الكمالية بنحو أكمل وأتمّ ؛ لأنه العلة المفيضة للوجود، والعلة الأقوى والأكمل من المعلول.

6/1/5 .صفة اللامحدودية:

الموضوع الآخر الذي يتناول على طاولة البحث في الصفات الإلهية هو اتصافه جَلَّ وَعَلا بالإطلاق أو اللامحدوديّة؛ فقد أقيمت براهين متعدّدة على رفض هذه الصفات لأي لون من ألوان الحدّ والقيد . من بين تلك البراهين ما يلي:

ص: 131

1 . الله تَبَارَكَ وَتَعَالى وجود لا حد له؛ لأنه واجب الوجود، وغني عن الغير، فلما كانت الحاجة ناشئة من المحدوديّة، فإنّ انتفاء الحاجة بنحو مطلق (الغنى المطلق) يدلّنا على كونه غير محدود.

2 .صفات الله عَزَّ وَجَلَّ هي عين ذاته اللامحدودة، والنتيجة: صفاته عَزَّ وَجَلَّ غير محدودة.

2/5 .الصفات الإلهية الذاتية:

1/2/5. العلم الإلهي:

الصفات الإلهيّة الذاتية في علم الكلام هي علم الله وقدرته وأزليته وأبديته وحياته سُبحَانَهُ وَتَعَالى . وفيما يلي مزيد من الأضواء على هذه الصفات:

العلم الإلهي هو أحد صفات الله جَلَّ وَعَلا؛ وهو يعني أنه عالم مطلق، لا سبيل للجهل إلى ساحة قدسه والعلم الإلهي علم لا حد له، وهو عين ذاته تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وإنّ إحاطته عَزَّ وَجَلَّ تشمل الذوات والأفعال، وتعمّ الكون بأسره؛ بما فيه من صغيرة وكبيرة في مختلف الأزمنة. وهذا العلم متحقق للذات الإلهية بنحو تفصيلي قبل وجود العالم .

وقد تمسّك المتكلّمون لإثبات العلم الإلهي بعدد من الأدلة؛ منها : إثبات العلم الإلهي عن طريق إتقان صنعه وإحكام فعله عَزَّ وَجَلَّ، فالنظام والاستحكام في أفعاله سُبحَانَهُ وَتَعَالى المستكشفة للإنسان من خلال مشاهداته للطبيعة ودراساته في العلوم الطبيعية تدلّ على علم صانعها بما صنع ويستحيل صدور أفعال محكمة متقنة من فاعل غير عالم . وعليه : يثبت علم الله جَل وَعَلا بمخلوقاته(1) .

ص: 132


1- راجع كشف المراد العلامة الحلّي، ص 20.

وقد استدلّ الحكماء في برهان آخر من خلال صفة إمكان الوجود الثابتة لجميع ما سوى الله عَزَّ وَجَلَّ، واستنادها جميعاً في الوجود إلى واجب الوجود. وطالما أنّه تَبَارَكَ وَتَعالى عالم بذاته، وإنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول، فإنّ ذلك يهدينا إلى أنّ الإله العالم بذاته وكمالاته، عالم بجميع مخلوقاته أيضاً.

وقد أثبتت آيات القرآن الكريم صفة العلم الإلهي بالانطلاق من اسمي «اللطيف»، و «الخبير»، كما في قوله عَزَّ اسمَهُ: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ)(1) . وقد تطرّق المفكّرون المسلمون بعد إثبات أصل هذه الصفة إلى أحكامها؛ نُشير إلى أبرزها فيما يلي:

1 . العلم الإلهي علم حضوريّ؛ لا حصولي فعلمه عَزَّ وَجَلَّ بذاته وأفعاله لا يفتقر إلى وجود المفاهيم والتصوّرات الحصوليّة، بل هو يعلم بذاته وكمالاته وأفعاله بنحو حضوري.

2 . إحاطة العلم الإلهي بكل شيء: وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الإحاطة العلمية بكلّ شيء؛ كما في قوله عَزَّ مِن قَائل: (وَاعْلَمُوا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (2)، ﴿وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَاتِ وَفي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ (3)، (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)(4)،( قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمُهُ الله وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (5)، ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سَرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله عَلّامُ الْغُيُوب)(6) ، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ

ص: 133


1- سورة الملك : 14.
2- سورة البقرة: 231 .
3- سورة الأنعام: 3 .
4- سورة الأنعام: 59 .
5- سورة آل عمران: 29 .
6- سورة التوبة : 78.

حَبْلِ الْوَرِيدِ) (1)، فإذا ثبتت له سُبحَانَهُ وَتَعَالى صفة الخالقية وشمولية هذه الصفة فهو عالم بجميع أفعاله من دون شك؛ لأنه يمتلك الإرادة والاختيار.

وعلاوةً على هذا الاستدلال، يمكن توظيف دليل النظام هنا ليستدلّ من خلال الانسجام والتناغم المدهش الذي يلفّ العالم ، وكذلك من خلال عدم التناهي الذي يتصف به واجب الوجود وعلّة العلل، وإحاطته المطلقة على الكون أن نصل إلى علمه اللامحدود.

3. العلم الإلهي بجميع المخلوقات قبل الخلق وبعده: فهو عَزَّ وَجَلَّ عالم بالموجودات قبل خلقها، وعالم بها بعد الخلق أيضاً. أما علمه بها بعد الخلق فهو ناتج عن واجديّته لجميع الكمالات في ذاته، ولإحاطة العلّة التامة بمعلومها . وأمّا علمه بها قبل الخلق فهو ناتج عن واجديته جَلَّ وَعَلا الجميع كمالات تلك الموجودات، فهو إذن في مقام الذات عالم بجميع الكمالات، وجميع الموجودات.

4. سمعه وبصره أثبت المتكلمون المسلمون تبعاً لآيات القرآن الكريم اتصافه تَبَارَكَ وَتَعَالى بالسمع والبصر. وقد ذهب الأشاعرة إلى عد هاتين الصفتين - كسائر الصفات الأخرى؛ مثل: العلم والقدرة والإرادة والحياة، والتكلّم - قديمتين وزائدتين على الذات؛ وهو قول يستلزم تعدّد الشريك لذات واجب الوجود.

أما سائر المتكلّمين فقد فسّروا السمع والبصر بعلمه عَزَّ وَجَلَّ بالمسموعات والمبصَرات وبذلك يمثل السمع والبصر الإلهيّان مرتبتين من مراتب علمه عَزَّ وَجَلَّ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الله بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)(2) ، (ليسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ (3)، (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (4)، (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ

ص: 134


1- سورة ق : 16.
2- سورة فاطر: 31 .
3- سورة الشورى: 11.
4- سورة البقرة: 244.

لي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء)(1) ، وروي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال: «هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ؛ سَمِيعٌ بِغَيْرِ جَارِحَةٍ، وَبَصِيرُ بِغَيْرِ آلَةٍ، بَل يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ، وَيُبْصِرُ بِنَفْسِهِ)(2). والسؤال المهم المطروح هنا هو :

لماذا أشار القرآن الكريم إلى هاتين الصفتين علاوةً على استخدامه لصفة العلم؟

أو قل : طالما دلّت صفة العلم على مضمون الصفتين، فما الداعي إذن لذكرهما؟

والجواب: لعلّ الاكتفاء بمفردة «العلم» يترك للظانّ مجالاً ليظن أنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى عالم بالكلّيّات فقط، ولا إحاطة له بالأمور الجزئية والحسية، فاستخدام هاتين الصفتين كفيل بتبديد هذه الشكوك.

5 .صفة الحكمة الحكمة هي الصفة الثالثة التي تُعدّ من لوازم العلم الإلهي . يقول : تعالى: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(3)، (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾(4)، ﴿ وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيماً )(5). وقد عُرّفت الحكمة في أمهات المصادر اللغوية - مثل : العين، وصحاح اللغة، ولسان العرب، ومفردات الراغب، وغيرها - بأنها تعني: «العلم»، و«معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم»(6)، و«إصابة الحق بالعلم والعقل»(7)، و«إتقان الأفعال»(8)، وما إلى ذلك. وعلى أي حال، فإنّ الفعل الحكيم هو

ص: 135


1- سورة آل عمران: 38 .
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 83، ح 6.
3- سورة البقرة: 220 .
4- سورة هود: 1.
5- سورة النساء: 130 .
6- النهاية ابن الأثير، مادّة حكم، ج 1، ص 119 لسان العرب، ج 12، ص 140؛ المعجم الوسيط مادة : حكم، ج 1، ص 190. [م]
7- المفردات في غريب القرآن الراغب الإصفهاني، مادة حكم ص127. [م]
8- يُقال : أحكم الأمر؛ أي: أتقنه فاستحكم، ومنعه عن الفساد. انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص1415؛ لسان العرب، ابن منظور، ج 12، ص 143 مختار الصحاح مادة حكم، ص62. [م]

الفعل الصادر عن مصلحة المشتمل على هدف وغرض، وهو لا يتحقق من دون علم مسبق. وطالما أنّ العلم الإلهي بكل شيء فإنّ جميع أفعاله تتصف بالحكمة. ومن الجدير بالإشارة هنا أنّ الهدفيّة في الله جَلَّ وَعَلَا تُنسب إلى فعله؛ لا إلى ذاته. وهذا يعني أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ ليس له هدف فاعلي؛ أي: لم يخلق الخلق لرفع حاجة عنده؛ لأنّ الهدف الفاعليّ يستلزم النقص، ويدلّ على استكمال الفاعل، بل هدفيّته عَزَّ وَجَلَّ متوجّهة لأفعاله؛ بمعنى أنه يفعل أموراً تُفضي إلى رفع النقيصة عن أفعاله؛ وإن كانت هذه الأهداف في نهاية المطاف تعود إلى حبّ ذات الفاعل.

6 .صفة الإرادة والمشيئة تندرج الإرادة والمشيئة الإلهيّتان ضمن لوازم العلم الإلهي. وما من شك في أن أفعال الله تَبَارَكَ وَتَعَالى صادرة ومنبثقة من إرادته واختياره. والإرادة على نحوين: تكوينية وتشريعية . أما الإرادة التكوينية فهي تظهر بهيئة أفعال متحققة في عالم التكوين، وأما الإرادة التشريعية فهي تبرز من خلال الأوامر والنواهي في الشريعة الإلهية. وتعني صفة الإرادة الرغبة والمحبّة والقصد، والتصميم على القيام بعمل والقرار المنبثق عن ترجح حكيم. وتعني صفة الاختيار: الرغبة، وتقديم خيار ما على غيره من دون إكراه أو اضطرار. أمّا الإرادة والاختيار في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى فتعني : المحبّة، ونفي الإكراه والاضطرار(1).

وبعبارة أخرى تنقسم الإرادة الإلهية إلى قسيمن: ذاتي وفعلي: أما الإرادة الذاتية فهي العلم بالنظام الأصلح في عالم الخلق، أو هي حبّ الكمالات، وأما الإرادة الفعلية فهي عين الإيجاد، وتحقيق الفعل الإلهي . وعليه فإنّ الإرادة الذاتية هي عين العلم، والإرادة الفعليّة صفة من الصفات الإلهية الفعلية. أما الآيات القرآنية المرتبطة بالإرادة الإلهية، فمنها قوله عَزَّ اسمهُ: (إِنَّمّا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن تَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)(2) ، وتدلّ هذه الآية على أنّ الفعل الإلهي لا يتخلّف عن الإرادة الإلهية بأي فترة زمنيّة،

ص: 136


1- راجع المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، ج 2، ص 9-91 . [النسخة الفارسية]
2- سورة النحل: 40 .

وإذا كانت هناك فترة زمنية تفصل بينهما فهي تتعلّق بعلم الله جَلَّ وَعَلا؛ أي: أنه يعلم بالمخلوقات المادية إن كانت لم تتحقق في الخارج إلى الآن. يقول تعالى: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ الله بمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)(1). وهناك من الآيات الكريمة ما يوضح المراد الإلهي أيضاً؛ كما في قوله عَزَّ مِن قَائل: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (2) . (يُريدُ الله بِكُمُ الْيُسَر وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسَرْ) (3). ﴿ يُخْلُقُ الله مَا يَشَاء إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(4)، وهي تدلّ على المشيئة الإلهية وشموليتها.

2/2/5. القدرة الإلهية :

القدرة هي الصفة الثانية من الصفات الثبوتية الذاتية للحق عَزَّ وَجَلَّ، وهي تعني: أن يكون الفاعل بنحو إذا شاء فعل، وإذا شاء لم يفعل. وعليه فإنّ كلّ «قادر» هو مريد وذو مشيئة. وكما يتضح من المعنى المتقدّم فإن دائرة قدرة الفاعل تشمل الفعل والترك. ما من شكّ في أنّ واجبيّة الوجود وعلّيّة العلل التي يوصف بها الله تَبَارَكَ وَتَعَالى تُبيّن وتُثبت القدرة له، إضافةً إلى أنّ دليل النظام كفيل أيضاً بإثبات ذلك.

ویرى الحكماء المسلمون أنّ القدرة الإلهية لا تتعلّق إلا بالممكنات بالذات. أمّا الأمور الممتنعة بالذات، فلا تشملها دائرة القدرة؛ لأنّ المحال الذاتي يتضمّن فرضُه التناقض، وما يتضمّن فرضُه تناقضاً يستلزم تحققه ووقوعه التناقض أيضاً (5).

ومن الأدلة المثبتة للقدرة الإلهية : الاستدلال بحدوث العالم؛ فإذا كان الله عَزَّ وَجَلَّ فاعلاً موجباً غير قادر، لزم من ذلك حدث الواجب، أو قدم العالم، واللازمان

ص: 137


1- سورة الفتح: 11.
2- سورة القصص: 5 .
3- سورة البقرة: 185 .
4- سورة النور: 45 .
5- كلّ شيء يمكن فيه الوجود والعدم فهو ممكن بالذات، وكلّ شيء تحققه محال فهو ممتنع بالذات.

باطلان، فالملزومان مثلهما، فيثبت أنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى قادر مختار. وتستبين الملازمة بين المقدّم والتالي في هذا الاستدلال إذا ما علمنا أن تخلف الأثر عن الفاعل الموجب محال، فإذا كان الواجب عَزَّ وَجَلَّ فاعلاً موجباً لزم أن يتحقق الأثر في الخارج من دون أيّ انتظار ؛ لأنّ الفاعل الموجب لا ينفك عن الفعل. وعليه إما أن ينسب الحدوث إليه جَلَّ وَعَلا، أو يصح قدم العالم؛ وكلاهما باطل(1).

يقول سبحانه وتعالى في هذا الصدد:

(الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(2).

والآية الكريمة - كما غيرها من الآيات الأخرى المشابهة - تدلّ على شمولية القدرة الإلهيّة، وقد عَدَّ القرآن الكريم الوقوف على شموليّة هذه القدرة الإلهية هدفاً من أهداف الخلق. ويقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى أيضاً :

(وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾(3) .

والآية الأخيرة تنفي أي لون من ألوان العجز عنه الله عَزَّ وَجَلَّ، وهي هنا تُثبت من خلال الملازمة التي تدلّ عليها شمولية القدرة الإلهية - أصل اتصافه عَزَّ وَجَلَّ بالقدرة. وقد تطرّقت آيات قرآنية عديدة إلى بيان نماذج من قدرته سُبحَانَهُ وَتَعَالى على خلق السماوات والأرض، وإحياء الموتى، ومراحل تطوّر الإنسان، وقدرته على المعاد، وغير ذلك؛ منها قوله عَزَّ اسمه:

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ المُوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (4).

ص: 138


1- لاحظ كشف المراد، العلامة الحلّي، ص 12-13.
2- سورة الطلاق: 12 .
3- سورة فاطر: 44 .
4- سورة الأحقاف: 33 .

(الله الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفِ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)(1) .

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِونَ إِلا كُفُورًا ﴾(2).

(فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمُشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن تُبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)(3).

3/2/5. الأزليّة والأبدية الإلهيّتان:

أثبت المتكلّمون المسلمون بما استوحوه من هدي القرآن الكريم الله جَلَّ وَعَلا وصفين آخرين هما: الأزليّة والأبديّة. والمقصود بهما أنه تبَارَكَ وَتَعَالى قديم من الأزل، وباقٍ إلى الأبد. ويثبت هذا المعنى من خلال اتصافه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بواجبية الوجود بالذات. وإنّ تنزيهه عَزَّ وَجَلَّ عن الحدوث والحاجة إلى العلة من شأنه أيضاً أن يُثبت أزليته. وإنّ وجود واجب الوجود بالذات هو عين ذاته، ولا ينفك عنه، وهذا ما يُفضي بدوره إلى إثبات أزليّته أيضاً. ثمّ إنّ القول بأزليّته جَلَّ وَعَلا يستلزم القول بأبديته.

وبناءً على ذلك، ينتفي في الحقِّ سُبحَانَهُ وَتَعَالى وجود مبدأ، أو غاية له، وكما هو مروي عن أمير المؤمنين(علیه السّلام):

«لَيْسَ لأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءُ، وَلاَ لِأَزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءُ»(4).

وقد دلّت آيات قرآنية كثيرة على أزليته وأبديته؛ منها قوله عَزَّ من قائل:

ص: 139


1- سورة الروم: 54 .
2- سورة الإسراء: 99 .
3- سورة المعارج: 40-41.
4- نهج البلاغة الخطبة 163 .

(وَالله خَيْرٌ وَأَبْقَى)(1).

(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ (2).

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(3).

(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) (4).

4/2/5. الحياة الإلهية :

قبل الولوج في البحث عن حقيقة الحياة الإلهية وإثباتها، ينبغي بدايةً أن نقف على تعريف هذه المفردة، وإنّ العلوم الكفيلة بتقديم تعريف لهذا المفهوم هما: الفلسفة وعلم الأحياء. لقد حاول العلماء منذ القدم أن يقدّموا تعريفاً موحداً لمفهوم «الحياة» ، لكنّهم لم ينجحوا في الاتفاق على تعريف يحظى بالقبول العام، ويتصف بالجامعية والمانعيّة المنشودة.

وقد ذهب جمع غفير من الفلاسفة المعاصرين إلى أن «الحياة» تنطوي على معنى يتجاوز معنى «العلم» ، لكنّهم عجزوا عن تقديم إيضاحات تكشف عنه.

أمّا علماء الأحياء فقد حاروا في تعريف «الحياة» لسنين عديدة، واختار الكثير منهم أن يستعيض عن تقديم تعريف للحياة بسرد مجموعة من خصائصها، وتسليط بعض الضوء على الكائنات الحيّة .

هذا، ويمكن أن تدرس «الحياة» من جهات مختلفة، وتقدّم التعاريف التالية:

ص: 140


1- سورة طه، 73 .
2- سورة القصص: 88 .
3- سورة الحديد: 3 .
4- سورة الرحمن: 26 .

1. التعريف الفسلجي: الحياة نظام قادر على القيام بعمليات رئيسية؛ منها : التغذية، والهضم والدفع والتنفس، والحركة، والنموّ، والإنجاب.

2 . التعريف الاستقلابي (الميتابوليك)(1): الحياة نظام يقوم بتبادل المواد مع البيئة الخارجيّة على نحو الدوام وهو نظام يحافظ على خصائصه العامة مع استمرار هذه العمليّة التبادلية بشكل دائم.

3 . التعريف البيوكيميائي (2): الكائنات الحيّة أنظمة تقوم بتخزين بياناتها الوراثية القابلة للنقل إلى الغير. وتخزن هذه البيانات في الحمض النووي، وتقوم بتنظيم ردود الأفعال الحياتية، وقيادتها من خلال عملية التخليق الأنزيمي(3)، والتركيبات البروتينيّة.

4 . التعريف الجيني (4): الكائنات الحيّة - ابتداءً من الخلية، ووصولًا إلى الإنسان - هي أجهزة تقوم بتنشيط الخلايا الآلية المعقدة وتحريكها بقوة خارقة للعادة، تلك الخلايا التي تنشأ منها السمات والسلوكيّات، وكذلك إنتاج المواد المركبة والمعقدة من المواد الخام البسيطة. وإلى جانب هذه المسارات يمكن للأجهزة الحية أن تؤدّي إلى إيجاد كائنات مثيلة لها بنحو أو بآخر.

ص: 141


1- الاستقلاب - أو الأيض، أو عملية التمثيل الغذائي (Metabolism : هو مجموع التحولات الكيمياوية والفيزيائية التي تمر بها المادة في الخليّة الحيّة. وتقدّم للكائن الحي ما يحتاج إليه من طاقة ومادة. [م]
2- البيوكيمياء - أو الكيمياء الحيوية Biochemistry) - : هي أحد فروع العلوم الطبيعية، ويختص بدراسة التركيب الكيميائي لأجزاء الخليّة في مختلف الكائنات الحيّة؛ سواء كانت كائنات دقيقة؛ كالبكتيريا والفطريات والطحالب أو راقية؛ كالإنسان والحيوان والنبات [م]
3- التخليق الأنزيمي هي العمليّة المسماة أيضاً بالاصطناع الأنزيمي (Enzyme's synthesis). وقد عُرّفت عملية الاصطناع الكيميائي أو التخليق الكيميائي Chemical synthesis بأنها عملية تصنيع مادة كيميائية ما اعتباراً من مركبات كيميائية أوّلية غاية في البساطة تتضمّن العملية استخدام إجراءات فيزيائية وكيميائية، وتتخلّلها طبعاً تفاعلات كيميائية للحصول على المنتج المراد تصنيعه. [م]
4- الجينات - جمع جين Gene وقد عُرّبت إلى المورثة ( وجمعها مُوَرِّثَات) - : هي الوحدات الأساسية للوراثة في الكائنات الحيّة. أمّا علم الوراثة (Genetics) فهو العلم الذي يدرس الجينات والوراثة وما ينتج عنه من تنوّع الكائنات الحية. [م]

أمّا الفلاسفة والمتكلّمون فقد عدّوا الحياة صفة مقارنة للعلم والقدرة؛ فالحياة في النبات والحيوان والإنسان - كما قرّروا - صفة تؤدّي إلى النمو والتكامل، علاوةً على ما تحمله في طياتها من العلم والقدرة. والحياة التي ننسبها الله عَزَّ وَجَلَّ هي صفة كمال غير محدود، وهي عين الذات الإلهيّة، ولا تؤدّي إلى تكامل تلك الذات؛ لأنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى موجود كامل ؛ وليس مستكملاً .

والدليل على إثبات الحياة الإلهيّة أنّ الحياة صفة كمال، ويجب في خالق الكمال أن يكون واجداً له؛ لأنّ الموجود الفاقد لكمال ما لا يمكن له أن يكون موجداً له. فإذن: الله عَزَّ وَجَلَّ متّصف بصفة الحياة.

لقد اقترنت صفة «الحياة» في القرآن الكريم بصفة «القيموميّة»، وهذا يعني أنّ الله جَلَّ وَعَلا متصف بالحياة، أنّ ذاته قائمة بنفسها، وكلّ ما سواه قائم به. يقول تعالى:

(الله لا إِلَهَ إِلا هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ)(1).

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيَّ الْقَيُّوم وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)(2).

3/5 .الصفات الإلهيّة الفعلية:

الصفات الإلهية الفعلية صفات تُنتزع من خلال مقارنة الذات الإلهية والفعل الإلهي. وهذه الصفات لا تتحد الذات؛ أي أنها ليست عين ذاته عَزَّ وَجَلَّ.

مع وهي تُنسب إليه بعد صدور الفعل عنه. وهي صفات مثل: «الخالق»، و«الفاطر»، و «البارئ»، و«البديع»، و«المصور»، و«المالك»، و«الحاكم»، و«الربّ»، و«الولي»، و «الرقيب»، و«الرزّاق»، و «الكريم»، و«الكافي»، و «الشفيع»، و«الغفّار»، و «السلام»، و«المؤمن»، و«الهادي»، و«التوّاب»، و«العفو»، و«اللطيف»، وغيرها من الأسماء

والصفات المشابهة. وكلّها صفات فعليّة ورد ذكرها في القرآن الكريم.

ص: 142


1- سورة البقرة: 255 .
2- سورة طه: 111 .

و سنشير في ما يلي - على سبيل المثال فقط - إلى مجموعة من الصفات الفعلية التي وردت في القرآن الكريم، مسلّطين الضوء على أبرزها لما يتحلّى به من أهميّة :

1 . الخالقيّة الإلهية:(قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ (1)، ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ)(2).

2 . البارئ (الخالق لا عن مثال سابق): ﴿هُوَ الله الخالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ)(3).

3 . الفالق : ﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ)(4) .

4. البديع : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (5) .

5 . المالك: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ) (6).

6 . الحاكم : ﴿وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ﴾ (7).

7. الربّ : ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلَّ شَيْءٍ) (8).

8 . العزيز الحكيم (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (9).

9 . الوليّ: (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ )(10) .

ص: 143


1- سورة الرعد: 16.
2- سورة الحجر: 86.
3- سورة الحشر : 24 .
4- سورة الأنعام: 96 .
5- سورة البقرة: 117 .
6- سورة آل عمران: 26 .
7- سورة الأعراف: 87.
8- سورة الأنعام: 164.
9- سورة البقرة: 209 .
10- سورة الشورى: 9.

10 . الحافظ : فَالله خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ (1).

11 . الرقيب: ﴿وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾ (2).

12 . الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن:(هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المُلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ)(3).

13 . الرزاق:( إنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المتين ﴾(4).

14 . الغنيّ الحميد: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾(5).

15 . الفتاح العليم: (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (6).

16 . الرؤوف الرحيم: (إِنَّ الله بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (7) .

17 . الغفور الودود: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴾ (8) .

18 . اللطيف الخبير : ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ)(9).

19. الحفيّ: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ) (10).

ص: 144


1- سورة يوسف: 64.
2- سورة الأحزاب: 52 .
3- سورة الحشر : 23 .
4- سورة الذاريات: 58 .
5- سورة البقرة: 267 .
6- سورة سبأ: 26.
7- سورة البقرة: 143 .
8- سورة البروج: 14.
9- سورة الأنعام: 103.
10- سورة مريم: 47 .

20 . الشكور: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ (1).

21 . الشفيع والولي: (لَيْسَ هُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) (2).

22 . الوكيل: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾(3).

23 . الكافي: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ (4).

24 . الحسيب وسريع الحساب وأسرع الحاسبين وسريع العقاب: ﴿وَكَفَى بِالله حَسِيبًا) (5)، ﴿ وَاللهُ سِرَيعُ الْحِسَابِ) (6)، (وَهُوَ أَسْرِعُ الحَاسِبِين) (7)، ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَريعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (8).

25. القاهر والقهار: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾(9) ، ﴿ أَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(10).

26 .المحيي: ﴿إِنَّ ذَلِكَ مُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)(11) .

27 . الشهيد: (وَالله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) (12).

ص: 145


1- سورة الشورى: 23 .
2- سورة الأنعام: 51.
3- سورة الأنعام: 102.
4- سورة الزمر: 36.
5- سورة النساء: 6.
6- سورة البقرة : 202.
7- سورة الأنعام: 62.
8- سورة الأنعام: 165.
9- سورة الأنعام: 18.
10- سورة يوسف: 39.
11- سورة الروم: 50.
12- سورة آل عمران: 98 .

28 . الهادي والنصير : (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (1).

29 . الخير: ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ (2)، (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين) (3)، ﴿ وَهُوَ خَيْر الْفَاصِلِينَ)(4) ، ﴿وَأَنتَ خَیرُ الْفَاتِحِينَ)(5) ،(وَالله خَيْرُ الرَّازِقِين)(6).

30. المتكلّم: (وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا) (7). والمراد من الكلام الإلهي تلك الحروف والأصوات التي تُحدثها القدرة الإلهية بنحو معيّن في بعض الحقائق الخارجيّة؛ مثل: الشجرة، والملائكة، وقلب الرسول .. وعليه فإنّ الكلام لا ينتمي إلى الصفات الإلهية الذاتية، ولا يُعدّ قديماً أو قائماً بالذات الإلهية، بل يمثل واحداً من المخلوقات التي خلقها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى . والكلام الصادر من الشجرة، أو القادم من الملك على هيئة كتاب سماوي هو كلام إلهي بلا شك. هذا، ويرى الأشاعرة أنّ كلام الله جَلَّ وَعَلا ليس من سنخ الأصوات والحروف، بل هو مفاهيم قديمة قائمة بالذات الإلهية، أسموه ب- «الكلام النفسي. أما التكلّم باللسان فهو من عوارض الجسم، ويُعدّ الصفات السلبية له عَزَّ وَجَلَّ (8)؛ لأن واجب الوجود منزّه عن أي أمر جسمي ومادّيّ. وردّاً على ما تقدّم نقول : إنّ القول بقدَم الكلام النفسي، أو قيامه بالذات الإلهية، يتنافى مع التوحيد الذاتي، إلّا إذا قلنا أنّ الكلام النفسي مرتبة من مراتب العلم الإلهي الذاتي، وعندئذٍ يكون متحداً مع الذات. والحصيلة أنّ الكلام يعني خلق الأصوات في الموجودات الإمكانيّة من قِبَل الله عَزَّ وَجَلَّ، وهو من الصفات الفعلية.

ص: 146


1- سورة الفرقان: 31 .
2- سورة المؤمنون: 109 .
3- سورة الأعراف: 87.
4- سورة الأنعام: 57.
5- سورة الأعراف: 89 .
6- سورة الجمعة: 11.
7- سورة النساء: 164.
8- أي: يُقال: إن الله ليس متكلّما بلسان. [م]

31 . الصادق: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثًا ﴾(1) ، ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ ﴾ (2). ومن الجدير بالذكر هنا أنّ القائلين بالحسن والقُبح العقليّين يمكن لهم أن يبرهنوا عقليّاً على صدق الكلام الإلهي، أما المنكرين لهذه القاعدة الكلامية - وعلى رأسهم الأشاعرة - فلن يتسنّى لهم صنع ذلك .

32. العدل الإلهي: وهو موضوع شكّل في بدايات التاريخ الإسلامي أحد أبرز النقاشات والمجادلات الكلامية، وأكثرها ضراوةً وحِدّةً. وفيما يلي مزيد من الضوء على هذه الصفة.

1/3/5. العدل الإلهي:

تمتلك الكائنات في نظام الخلق قابليّات وإمكانيات واستعدادات معينة، ونظراً إلى اتصاف الله تَبَارَكَ وَتَعَالى بالخير والفيّاضيّة المطلقة فإنه يُفيض على كلّ كائن الكمال الممكن له، ويضع كلّ شيء في موضعه، ويعطي كل ذي حق حقه. وبالتالي: فإنّ نسيم عدله جَلَّ وَعَلا قد غطّى عالم التكوين والتشريع بأسرهما في الدنيا وفي الآخرة. وما من شكّ في أنّ المفكرين المسلمين لا يختلفون على صفة العدل بما هي صفة يتصف بها الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، لكنّ موضع النقاش هنا يكمن في الأساس والدليل الذي تبتني عليه هذه الصفة.

وبناءً على ما تقدّم، فإننا هاهنا أمام مبحثين:

*المبحث الأوّل: هو الأساس الذي يبتني عليه العدل الإلهي في مدرسة العدلية، والمدارس المخالفة لها؛ أي قضيّة الحسن والقبح الذاتيّين العقليين عند العدلية، وقضيّة الحسن والقبح عند غيرهم.

ص: 147


1- سورة النساء: 87.
2- سورة آل عمران: 152 .

*المبحث الثاني: هو الدليل العقليّ الدال على العدل الإلهيّ.

2/3/5 . الحُسن و القبح العقليان والشرعيّان:

آمنت طائفة من المسلمين عُرفت ب«العدلية» بأن الحسن والقبح أمران ذاتيان عقليّان. وذهب هؤلاء وهم المعتزلة والإماميّة إلى أنّ الأفعال تتصف بهاتين الصفتين بلحاظ ذواتها، أو بلحاظ صفة معيّنة أو وجوه واعتبارات مشتملة على الحسن و القبح؛ فعلى سبيل المثال : يتصف مفهوم «العدل» بالحسن ذاتاً، ويتصف مفهوم «الإحسان» بالحسن نظراً لاندراجه تحت مسمى «العدل»، وكذا «ضرب اليتيم لتأديبه»؛ لأنه «تأديب». وإنّ الحسن والقبح الذي هو ذاتي للأفعال هو الذي اتخذه الله عَزَّ وَجَلَّ معياراً ومقياساً لصدور أفعاله وأحكامه التشريعية؛ وهو معنى «العدل».

وتُكتشف ذاتيّة الحسن والقبح في الأفعال من خلال العقل والشرع. وعليه: فإنّ العدلية تؤمن بالحسن القبح الذاتيين في مقام الواقع والثبوت، وبالحسن القبح العقليين الشرعيين في مقام المعرفة والإثبات.

ويعني الحسن والقبح الذاتيّان أنّ كلّ فعل ينطوي على حسن أو قبح نابع من ذاته؛ مع غضّ الطرف عن فاعله. أما الحسن و القبح العقلي الشرعي فيعني أن عقل الإنسان قادر على إدراك عموميات الحسن و القبح وبعض من جزئياته ومصاديقه، أمّا الوقوف على كثير من تلك الجزئيات فهو متروك للشرع.

وفي الجهة المقابلة، يُنكر الأشاعرة وجود معيار أو مقياس تُقاس به الأفعال الإلهية، وينفون أن يكون معنى العدل الإلهي انطباق الأفعال الإلهية على قوانين العدل، ويذهبون إلى أنّ العدل ما يفعله الله عَزَّ وَجَلَّ ؛ فكلّ ما يصنعه هو عين العدل وأنّ فعله هو المعيار الذي يجب أن تُقاس به الأمور؛ لا أن تُتوّج قوانين الحسن والقبح في الأفعال مقياساً للعدل الإلهي.

ص: 148

وذهبوا - علاوةً على ذلك - إلى أنّ الحسن و القبح في مقام الواقع والثبوت شرعيّ، وفي مقام المعرفة والإثبات شرعي أيضاً، هذا يعني أن معرفة الإنسان بمصاديق الحسن والقبح في الأفعال منحصرة في سلوك طريق النقل، أما العقل فهو قاصر عن الوقوف على هذه الحقائق. وعلى أساس من هذه الرؤية، إن أراد الله جَلَّ وَعَلا أَن يُلقي المؤمنين بل الأنبياء - في نار جهنم، وأن يُنعم الكفّار والمنافقين في جنات النعيم، فليس في هذا أيّ قُبح، بل هو حسن جميل.

لقد تسبّب هذا النقاش الجاد في أن تتحوّل هذه الصفة إلى مبدأ مستقل تتناوله المصنفات الكلاميّة في أبحاثها، وحاصل الكلام أنّ المسلمين من خارج المدرسة العدلية يرون أنّ «كلّ ما يصنعه الحبيب جميل»، في حين أن العدلية تقول: «الحبيب لا يصنع إلّا الجميل».

تمسكت العدليّة لإثبات نظريتها بعدد من الأدلة؛ من أهمها ما يلي:

إننا إذا لم نقل بالحسن والقبح الذاتيين والعقليين، فلن يثبت إذن أصل الحسن والقبح الشرعيين؛ لأنّ العلم بحسن الأوامر والنواهي الإلهية سيكون متوقفاً على قبح الكذب؛ أي: إذا كان الحسن و القبح شرعيّين - لا ذاتيّين - فإنّ الفعل الذي يتعلّق به الأمر الإلهي هو الذي سيتصف بالحسن ، والفعل الذي يتعلّق به النهي الإلهي هو الذي سيتصف بالقبح، ولن يكون هناك وجود لحسن أو قبح سابق على الأمر والنهي الإلهيين.

وهنا نتساءل: هل الأمر والنهي الصادر عن المولى تَبَارَكَ وَتَعَالَى صادق أم كاذب؟ إن قلت: إنه صادق؛ لأنّ صدور الكذب منه قبيح، تساءلنا: لم هو قبيح؟ وما سبب استحالة صدور الكذب عنه عَزَّ وَجَلَّ ؟ هل لأنّ قبح الكذب ذاتي ؟ أم لأنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى قبّحه في القرآن الكريم؟

ص: 149

أما الجواب الأوّل: فهو يُثبت المطلوب؛ أي أنّ الحسن والقبح ذاتيّان عقليّان، وأمّا الجواب الثاني: فيستلزم الدور أو التسلسل ؛ لأنّ هذا السؤال مطروح عن تلك الآيات التي أثبتت الحسن أو القبح أيضاً وعليه فإنّ الأشاعرة مضطرون إلى القول بذاتيّة الحسن و القبح، وعقليتها (1).

إن قلت: إنّ الحكم بالحسن والقبح الصادر عنه عَزَّ وَجَلَّ إنشائي؛ لا إخباري، والإنشائيات ليست كالقضايا الإخبارية قابلة للصدق والكذب!

قلنا : الإخبار عن القضايا الإنشائية قابل للصدق والكذب؛ لأنّ كماً هائلاً من الجمل الإنشائية والإخبارية الواردة في القرآن الكريم يعتمد أو يرتهن صدقه - من خلال صدق الإخبار عنها - على التثبت من ذلك؛ وهو أمر قابل للوقوع.

3/3/5 .إثبات العدل الإلهي :

استدلّت العدليّة على العدل الإلهي عقلياً بأنه إن لم يكن الله جَلَّ وَعَلا عادلاً، لثبت له الجهل، أو العجز أو الحاجة، أو الحسد أو اتباع الهوى، أو ما شاكل ذلك صفات دالّة على النقص مما له دخل في حدوث الظلم أو دوافعه وطالما أنّه عَزَّ وَجَلَّ عالم وقادر وغنيّ على الإطلاق، ومنزه عن أي نقيصة، فلا يُعقل أن يصدر منه أي ظلم.

وقد أشارت آيات الذكر الحكيم إلى إثبات العدل، وتنزيه المولى تَبَارَكَ وَتَعَالى عن أي لون من ألوان الظلم في لفيف من الآيات الكريمات؛ نشير إلى بعض منها فيما يلي:

1. نفي الظلم عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)(2)؛ حيث يُستفاد . من هذه الآية أنّ الظلم لا يجتمع مع الربوبية الإلهية، وأن مقتضى الربوبية هو رعاية

ص: 150


1- لاحظ شرح تجريد الاعتقاد القوشجي، ص 338.
2- سورة الكهف: 49.

المخلوقات وتكاملهم، وليس صبّ جام الظلم والجور عليهم، مما يستلزم انتقاصهم؛ وهو ما يتضادّ مع تكاملهم(1).

2 . نفي الظلم عنه يوم القيامة: ﴿فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾(2) ، ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا )(3) .

3. ظلم الناس لأنفسهم: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾(4) ، ووفقاً لهذه الآية والآيات الآخر فإنّ الله عَزَّ وَجَلَّ لا يوجه ظلما لأحد، وإذا وجد الظلم في هذا العالم فهو من ناحية الناس الظالمين لأنفسهم(5).

4 . الأمر بالعدل والعمل به: (شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إلا هو والملائِكَةُ وَأُولُوا العلم قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا )(6)، (الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ (7)، ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِبْنَاء ذِي الْقُرْبَى)(8)، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾(9) ، (اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ الله) (10)، وهذه الآيات تدلّ على الحسن والقبح الذاتيين والعقليين؛ أي أنّ الأفعال - في ذواتها - إمّا حسنة أو قبيحة، أما الأمر

ص: 151


1- راجع قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَيِّ مَن يَشَاء وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ سورة النساء: 49 (تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًا لَلْعَالَمِينَ) سورة آل عمران: 108.
2- سورة يس: 54 .
3- سورة الأنبياء: 47.
4- سورة يونس: 44.
5- راجع قوله تعالى: (فَما كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) سورة التوبة: 70 (فَما كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) سورة الروم: 9.
6- سورة آل عمران: 18 .
7- سورة ص: 28.
8- سورة النحل: 90 .
9- سورة الأنعام: 115.
10- سورة المائدة: 8 .

والنهي الإلهيان فهما صادران على أساس من الحسن القبح والمصالح والمفاسد الذاتية في الأفعال.

وقد أورد بعض المخالفين لنظرية الحسن و القبح الذاتيين والعقليين إشكالاً مفاده أن الأفعال إذا كانت تتسم بالحسن والقبح الذاتيين، فلم تكون بعض الأفعال حسنة في ظروف ما، وقبيحة في ظروف أخرى؟! فعلى سبيل المثال: إنّنا نَصفُ «ضرب الطفل اليتيم للتأديب بالفعل الحَسَن، في حين أننا نصف ضرب الطفل اليتيم لإيقاع الظلم والحيف عليه» بالفعل القبيح.

وقد أجاب كبار علماء الأخلاق والكلام على هذه الشبهة بجوابين هما:

*أوّلاً: إنّ الكذب قبيح ومذموم على الدوام؛ ولا استثناء فيه، لكن إذا تزاحم في وقت ما فعلان لا يمكن الجمع بينهما بحال، يحكم العقل بشكل مؤقت بتقديم الأهمّ على المهم؛ فعلى سبيل المثال : إذا تزاحم الكذب الذي هو قبيح في جميع الأوقات، وكذا الصدق الذي هو حسن في جميع الأوقات مع إنقاذ نفس محترمة، حكم العقل بشكل مؤقت بجواز إنقاذ هذا الإنسان عن طريق الكذب إن تطلب الأمر. وما من شكّ في أنّ التوري(1) أرجح من الكذب إذا أمكن العمل بها.

*ثانياً: إنّ الذي يتصف بالحسن و القبح ليس هو ظاهر الأفعال، بل حقائقها؛ فالظاهر من ضرب اليتيم أنه فعل يمكن أن يدلّ على معنيين مختلفين ينضوي كلّ منهما تحت مسمّى «العدل» تارةً، وتحت مسمّى «الظلم» تارةً أخرى؛ فإذا قصد به «التأديب»، وراعى فيه المؤدِّبُ شروط التأديب وحدود الضرب المجاز كما ينبغي ،التحق هذا المصداق من الضرب بمصاديق العدل، واتّسم بالحسن. أمّا لو قصد به الظلم والجور، فهو إذن قبيح.

ص: 152


1- «التورية» هي الحديث بشكل يوهم المتلقّي معنى آخر غير المعنى الصادق الذي أراده المتحدّث.

4/5 . الصفات الإلهية السلبية:

بعد الفراغ من بيان الصفات الثبوتية، أو ما يعبّر عنها أيضاً بصفات الجمال الإلهية وإثبات ذلك، يصل الدور إلى استعراض الصفات السلبية، أو ما يُعبّر عنها بصفات الجلال الإلهيّة؛ مثل: «الجسميّة»، و«التركّب»، و«الرؤية»، و«التأيّن»، و«التوقت»، و «الحاجة»، و«التغيّر»، وما إلى ذلك، ثمّ التطرّق إلى إثباتها، والتدليل عليها .

لقد أثبتنا في ما مضى من أبحاث أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ غنيّ عن أي شيء؛ لأنّ واجب الوجود هو موجود مستغن في تحققه وكمالاته عن الغير، والوجود هو عين ذاته. وبهذا المنحى يمكن لنا أن ننزّه الباري جَلَّ وَعَلا عن الجسميّة أيضاً؛ لأنّ كلّ جسم ممكن الوجود، ومحتاج للغير. وإذا انتفت الجمسية عنه عَزَّ وَجَلَّ فرؤيته بالعين المادّيّة الجسميّة منتفية أيضاً .

هذا، وننوه هنا بأنّ المسلمين انقسموا حيال موضوع رؤيته إلى ثلاثة طوائف:

1 . نظرية الإمامية وهي أوّل نظرية ذهبت إلى امتناع رؤيته سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالعين المادّيّة في الدنيا وفي الآخرة؛ وإن جازت رؤيته بالعين الباطنية والعلم الحضوري.

2. نظرية المجسّمة : وهي الطائفة التي لم تتورّع عن الذهاب إلى جسميّته عَزَّ وَجَلَّ، وبالتالي فهي لم تمانع من جواز رؤيته .

3 . نظريّة الأشاعرة وهي من أبرز فرق أهل السنّة، وقد ذهبوا مع تنزيههم له تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن المادّيّة الجسميّة إلى أنّ رؤيته في الآخرة ممكنة، وليس هناك يمنع ما تحققها، وقد رأوا أن المؤمنين ينظرون إليه جَلّ وَعَلا في الآخرة بعيون مادّيّة، من دون حاجة إلى إثبات الجهة، أو التأين في رؤيتهم تلك.

ويكفي في إبطال النظريتين الأخيرتين قليل من التأمّل ؛ لأنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى ليس بجسم، ولا مراء في أنّ الرؤية المادية تتطلب جهةً، ومكاناً، وجسماً مرئياً؛ وهي صفات لا تتلاءم والذات الإلهية المقدّسة.

ص: 153

وقد دلّت آيات الكتاب العزيز على نفي الرؤية البصرية إليه عَزَّ وَجَلَّ في أكثر من موضع ؛ منها قوله عَزَّ اسمه :

(لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) (1).

﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوا كَبِيرًا ﴾(2) .

﴿وَلمّا جَاء مُوسَى لِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِن انظُرُ إلَى الجَبَل فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) (3).

وليست هذه الآيات تدلّ على نفي الرؤية البصريّة إليه وحسب، بل إنّها توبّخ أيضاً القائلين بذلك، والطالبين له؛ وإن كانوا من الأنبياء. ولا شكّ في أنّ طلب النبي موسى (علیه السّلام)، وذهابه إلى الطور من أجل الحصول على الردّ الإلهي، لم يكن إلا بعد تعنت وإلحاح شديدين مارسه بنو إسرائيل، وتلته أحداث عجيبة سردها لنا القرآن الكريم. ويتأتى لنا هذا المعنى أيضاً من قوله عَزَّ مِن قَائل:

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّه جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ )(4).

ومن كلام موسى (علیه السّلام) في سورة الأعراف :

(سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ) (5) .

ص: 154


1- سورة الأنعام: 103 .
2- سورة الفرقان: 21 .
3- سورة الأعراف: 143 .
4- سورة البقرة: 55.
5- سورة الأعراف: 143

حيث تدلّ الآية على أنه (علیه السّلام) كان مؤمناً بالقول الحق الذي تلقاه من ربّه منذ أوّل الأمر، ولم يتقدّم بهذا الطلب إلا بعد ضغوط قومه، وإصرارهم على ذلك.

هذا، وقد تمسك القائلون بجواز الرؤية ببعض الآيات القرآنية التي هي في الأعم الأغلب آيات متشابهات؛ مثل قوله عَزَّ اسمه:

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (1).

لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ مفردة «ناظرة مشتقة من «النظر»؛ وهو اسم يدلّ على معنين أوّلهما: الرؤية، والثاني: الانتظار . ولذا لا يجوز تفسير الآية من دون أن نأخذ هذا الاختلاف بعين الاعتبار، كما لا يجوز غضّ الطرف عن قوله عَزَّ مِن قَائل: ﴿وَلَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾ (2)، وبالتالي : يتوجب نفي معنى الرؤية من الأساس.

ومن الآيات التي تمسكوا بها في هذا الخصوص أيضاً : قوله عَزَّ اسمَهُ:

(كَلَّا إِنّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)(3) .

فاستنتجوا منها أنّ رؤية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى جائزة يوم القيامة؛ في حين أنّ نفي الحجب لا يدلّ على ما ادعوه من الرؤية البصرية.

وقد نزهت آيات قرآنية أخرى الله عَزَّ وَجَلَّ عن التأين والتموضع في مكان أو محل؛ وذلك لأنه من لوازم الجسمية، ونفي الجسمية يستلزم انتفاء لوازمها أيضاً، وبالتالي: يجب تنزيهه جَلّ وَعَلا عن الزمان والمكان أيضاً. يقول تعالى :

(وَالله المُشْرِقُ وَالْمُغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾(4).

ص: 155


1- سورة القيامة : 22-23 .
2- سورة الأنعام: 103.
3- سورة المطفّفين: 15.
4- سورة البقرة: 115 .

﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهِ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (1) .

فإذا كان الله عَزَّ وَجَلَّ مع الجميع، وكان - كما عبّرت سورة ق - «أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وهو معنا أينما كنّا، فمن الواضح أن حضوره هذا يعني الإحاطة الوجودية - لا الإحاطة المكانيّة - ؛ إذ إنّ العلة الموجدة محيطة بمعلولها، وهي مسيطرة ومهيمنة عليه.

ص: 156


1- سورة الحديد: 4 .

6 .الأفعال الإلهية

1/6 .نطاق معرفة الأفعال الإلهيّة:

يمثل البحث عن الأفعال الإلهيّة أحد مباحث الإلهيات بعد إثبات وجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ،والصفات الإلهيّة. وإن عالم الممكنات بأسره يُعدّ من أفعال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ بما فيه من كائنات مجرّدة ومادّيّة، ملائكةً أو شياطين، وبما فيه من الجنّة والناس والحيوانات والنباتات والجمادات.

وفي مطلع هذا البحث ينبغي علينا الردّ على سؤال مهمّ في هذا الباب؛ وهو: هل من المطلوب هنا أن نتطرّق إلى جميع ألوان الفعل الإلهي، ونبحث فيه عن معارفها جميعاً، وعن كلّ ما يتطلبه أمر التعرّف عليها؟ وبعبارة أخرى: هل يجب أن ندرس في علم الكلام كلّ ما يتعلّق بعلوم معرفة العالم والطبيعة والإنسان والجن والملك، وحتّى الذرّة والإلكترون؟ وبالتالي تنضوي جميع العلوم تحت راية علم الكلام؟

من الواضح أنّ الجواب سلبيّ؛ لأنّ البحث عن المخلوقات والممكنات في علم الكلام إنما يجري من حيث استنادها إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وارتباطها بصفاته، ولا يتطرّق فيه إلى القضايا الجزئية والأحكام الخاصة؛ لأنها متروكة إلى علوم أخرى تكفّلت بها. وإنّ علوماً مثل معرفة الإنسان الدینیّة أو معرفة الطبيعة الدینیّة أو معرفة المعالم الدینیّة هي علوم مستقلّة، ينبغي على الحوزات ومؤسسات العلوم الإسلامیّة أن تقوم بالعمل الدؤوب من أجل تأسيسها واستخراج موضوعاتها من الكتاب والسنة، لتصاغ في هيئة علوم مستقلّة، ويُحترز بذلك عن تضخيم علم الكلام بما يؤدّي إلى وهن تلك العلوم وانكفائها، وإلى تضعيف علم الكلام أيضاً.

ص: 157

وعليه: فإنّ البحث عن الأفعال الإلهية بما يشمل المخلوقات والممكنات في علم الكلام هو بحثُ عنها من جهة انتسابها إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وصفاته، ولا يجري الحديث هنا عن أحكامها الخاصة التي يوكل أمرها إلى علوم مستقلة أخرى.

أما البحث عن «الجبر والاختيار» وهو من أبرز أبواب علم معرفة الإنسان، أو البحث عن «القضاء والقدر» وهو من أهم أبواب علم معرفة العالم ضمن الأبحاث الكلاميّة، فهو جارٍ لأنهما مرتبطان بصفتي العلم الإلهي والقدرة الإلهية، ولأنّ هذين الموضوعين أثارا مشكلة معرفية مرتبطة بالفاعلية الإلهية، وهي إحدى صفات الله جَل وَعَلا ، فاستدعت منا الحل والشرح في علم الكلام. ولأجل الصلة الوثيقة بين بعض الصفات الإلهيّة ؛ مثل: «العدل»، و«الحكمة»، و«الهداية» من جهة، والمباحث المرتبطة بمعارف الدين والإسلام والنبوة والإمامة والمعاد من جهة أخرى، يجري تناول هذه الأبحاث في علم الكلام بمزيد من الإسهاب والتفصيل.

تأسيساً على ما تقدّم ، يتسم البحث عن الأفعال الإلهية بجهتين :

أوّلاً: من حيث الأحكام العامة للأفعال الإلهية؛ مثل: البحث عن سبب حاجة الممكنات إلى الواجب تَبَارَكَ وَتَعَالَى، النسبة بين الفاعليّة الإلهية وفاعلية المخلوقات، ومثل أبحاث القضاء والقدر الإلهيين، والنظام الأحسن في العالم، والبحث عن شبهة الشرور والآلام.

وثانياً: استعراض بعض مصاديق الأفعال الإلهية؛ مثل: أبحاث معرفة الدين والإسلام والنبوة والإمامة والمعاد.

2/6 .حاجة الممكنات إلى الواجب عَزَّ وَجَلَّ:

ينصب أساس البحث عن الأفعال الإلهية على أنّ الشرائع السماوية تستعرض تفسيراً شاملاً عن ربوبيّة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وتأثيره في النظام الكوني، وأنها تنسب الخالقية والتدبير والإدارة المستمرة للعالم لحظة بلحظة إليه عَزّ وَجَلّ .

ص: 158

وهي رؤية لا تتفق مع م بإله حكمه حكم صانع الساعة؛ خلق الخلق ونظمه، ثمّ اعتزل خلقه؛ والسبب في هذا الاختلاف أنّ الله جَلَّ وَعَلا هو علّة موجدة حقيقية لوجود هذا الكون، ونظراً إلى أنّ معیار حاجة المعلول إلى علته الحقيقيّة هو الفقر والحاجة الوجودية التي يتصف بها المعلول نسبةً إلى علّته الموجدة، وأنّ هذه الحاجة هي عين ذات المعلول، فالمعلول - إذن محتاج إلى علته الموجدة (الله عَزَّ وَجَلَّ) في جميع لحظاته؛ حدوثاً وبقاء.

يذهب إليه أصحاب النزعة الطبيعية الحديثة الذين آمنوا

وعليه: فإنّ العلاقة بين الكون والله تَبَارَكَ وَتَعَالى ليست هي علاقة المعلل بعلته المعدّة - كما هو الحال في علاقة الولد بوالديه، أو البناء بالبناء - حتى لا يحتاج المعلول بعد تحققه إلى استمرار وجود العلة ، بل العلاقة بينهما هي من سنخ العلاقة بين المعلول المحتاج وعلته الموجدة كما تقدّم.

3/6 . الفاعليّة الإلهيّة وفاعلية المخلوقات :

لا يتعارض التفسير المختار للعلاقة بين الخلق والخالق مع القوانين التكوينية للطبيعة، أو مع إرادة الإنسان؛ وذلك لأنّ استمرار الحياة وبقاء هذه القوانين أمر يفتقر إلى الإرادة التكوينية الإلهية. وقد استعرض القرآن الكريم هذا اللون من التدليل العقليّ في أكثر من موضع ؛ منها قوله عَزَّ مِن قَائل:

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (1).

(ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ ﴾ (2) .

(وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)(3).

ص: 159


1- سورة الأنعام: 101 .
2- سورة غافر: 62 .
3- سورة الصافات: 96.

(يُدَبِّرُ الأَمْرَ)(1).

﴿ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾(2).

(إنَّ الله فَالِقُ الحبِّ وَالنَّوَى) (3).

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُيْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (4).

(الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ مَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ )(5) .

(وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(6).

ومن الجدير بالإشارة هنا أنّ أيّاً من هذه الآيات الكريمات لاتدلّ على نفي القوانين الميكانيكية أو الطبيعية، ولا تستلزم القول بجبر الإنسان. وقد أشارت آيات قرآنية عديدة إلى التدبير الإلهي، علاوةً على تطرّقها للقوانين الطبيعية؛ مثل زوجية النباتات وحركة الأرض وما شاكل ذلك. كما توجد آيات قرآنية أخرى تدلّ على التدبير الإلهي بالنسبة إلى الأفعال البشريّة الاختيارية، مشيرةً إلى حكمة نزول القرآن، وإرسال الرسل، والحساب والكتاب والثواب والعقاب الأخرويين.

ويمكن تصنيف الآيات التي تحدّثت عن الفاعلية الإلهية، وفاعلية المخلوقات إلى ثلاثة طوائف؛ هي حسب الترتيب التالي :

ص: 160


1- سورة يونس: 3 .
2- سورة الأعراف: 54 .
3- سورة الأنعام: 95.
4- سورة الأنفال: 17 .
5- سورة الرعد : 26 .
6- سورة البقرة: 213 .

1 . الفاعلية الإلهية ونفي الفاعلية عن الغير: يقول تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(1) ، والآية تدل على أنّ الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وإن كان يريد هداية الناس إلا أنّ إرادته هذه إن لم تكن في ظلّ إرادة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى فلن يرى فعل الهداية هذا النور أبداً.

2 . القبول بالفاعليّة الإلهيّة وفاعليّة الغير : فقد نسب القرآن الكريم في موضع ما وفاة الإنسان إلى ملك الموت أو غيره من الملائكة، ونسبه في موضع آخر إلى نفسه؛ حيث قال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾(2)، وقال أيضاً:(الله يَتَوَفَّ الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ﴾ (3)،( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يُهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) (3) ، (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾(4) ، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (5) ويمكن تفسير هذه الآيات من خلال سلسلة التأثيرات الطولية؛ فيكون تأثير ملك الموت في ظلّ التأثير الإلهي، وكذا دور إيمان المؤمنين في نزول البركات من السماء والأرض، ودور الإيمان والعمل الصالح في الهداية الإلهية.

3 . انتساب الفاعلية لغير الله والسكوت عن انتسابها له عَزَّ وَجَلَّ : فقد نسبت بعض الآيات القرآنية الفاعلية إلى غير الله، ولم تتطرق لفاعليته عَزَّ وَجَلَّ، كما في انتساب فاعلية الوسوسة إلى الشيطان؛ حيث قال تعالى: ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (6) ، أو نسبة القتال والإخزاء إلى المؤمنين؛ كما في

ص: 161


1- سورة القصص: 56.
2- سورة السجدة: 11 .
3- سورة الزمر: 42 .
4- سورة يونس: 9.
5- سورة الأعراف: 96 .
6- سورة الناس: 4-5 .

قوله عَزَّ اسمَهُ:(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ)(1) ، أو نسبة الفساد الظاهر في البر والبحر إلى الإنسان؛ كما في قوله عَزَّ مِن قَائل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (2).

والسؤال المركزي المتعلّق بالعلاقة بين الله والكون يتمحور حول كيفية الجمع بين جميع هذه الأمور المذكورة آنفاً؛ بما يعم التدبير الإلهي والقوانين التكوينية.

والجواب هو أنّ العلل قد تكون على أنحاء:

*أولاً : أن تكون العلل الإلهية والتكوينية والبشرية في عرض بعضها علّةً حقيقيةً وتامّةً لتحقق معلول ما. وهذا الافتراض باطل؛ لأنّ العليّة الإلهية لا يمكن لها أن تكون في عرض علّيّة القوانين الطبيعية، وأن تدير الكون بالتعاون فيما بينها؛ لأنّ هذا يستلزم أنّ الله جَلَّ وَعَلا محتاج في أفعاله إلى شريك، بل شركاء عديدون.

*ثانياً : أن تكون العليّة الإلهية وعليّة القوانين الطبيعية نسبةً إلى بعضها عليتين بديلتين؛ فيكون لكلّ منهما إمكانية إيجاد المعلول بنحو مستقل، كما في علّيّة النور والحركة نسبةً إلى إيجاد الحرارة؛ حيث يؤثر كلّ منهما في ذلك بنحو مستقل. وهذا الافتراض باطل أيضاً؛ فليس كلّ منهما مستقل في الفاعلية على نحو بدلي لإيجاد المعلول؛ لأن هذا الفرض يستلزم أن تكون الظواهر الطبيعية غير محتاجة إلى واجب الوجود؛ وهو باطل.

*ثالثاً : أن يكون دور الفاعليّة الإلهية في أفعال ما سوى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في طول الفواعل الأخرى؛ وليس في عرضها، ولا بدلاً منها ؛ فيكون هو عَزَّ وَجَلَّ من خلق الكون كله بإرادته التامة وهو الذي تستمد منه الموجودات وجودها وحياتها على وجه الدوام، فتحتاج إليه، وتستند عليه. وإذا غابت إرادته للحظة واحدة تلاشي

ص: 162


1- سورة التوبة: 14 .
2- سورة الروم: 41.

وجودها، ومع انعدام تلك الإرادة ، فلا أرض ولا سماء، ولا بشر، ولا شجر، ولا فعل، ولا انفعال وبالتالي: طالما أنّ العلاقة بين العلة الموجدة وسائر العلل والعوامل المؤثرة في صدور أفعالها هي علاقة طوليّة يمكن لنا أن ننسب الظواهر إلى عللها الطبيعيّة إلى الذات الإلهيّة المقدسة على نحو سواء، ولكن لا على نحو مجموعي أو بدلي، بل على نحو طولي.

ومن هنا، نجد أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في القرآن الكريم قد نسب الأفعال إلى السماء والأرض والإنسان والملك وسائر الكائنات الأخرى، كما نسبها أيضاً إلى نفسه، فكانت الهداية هدايته على الرغم من وصف القرآن والرسول بالهادي، وعُدّ الإنسان كأحد العوامل المؤدّية للهداية والضلالة ونضيف هنا أنّ علية الموجودات الممكنة ليس أنها تقع في طول العلة الإلهية وحسب، بل هي علّيّة إعداديّة وممهدة، ولا تُعدّ علّةً حقيقية. وإذا قيل إنّ الممكنات نسبةً إلى بعضها هي علل إعداديّةً، فهذا لا يعني أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ محتاج في فاعليته وعليّته إلى مجموعة من العلل الإعدادية؛ إذ هو الغني المطلق الذي لا سبيل للحاجة إليه، بل الحق أنّ الممكنات محتاجة في تحققها إلى علل إعداديّة؛ كحاجة الشجر إلى المزارع بصفته علّةً إعداديّة، وإلى الله جَلَّ وَعَلا بصفته علّةً حقيقية.

وحصيلة ما تقدّم من البحث القرآني أنّ الفاعليّة الحقيقية الإلهية ثابتة وصحيحة نسبةً إلى الأفعال، كما أن فاعليّة الفواعل الإعداديّة أيضاً ثابتة وصحيحة، وأن إرادات الفواعل الإعدادية المختارة تقع في ظلّ الإرادة الإلهية وطولها، ومن دون ذلك لا يتحقق أيّ فعل على وجه الإطلاق.

وبهذا التفسير يمكن لنا الجمع بين طائفتين من الآيات، أو قل الجمع بين مبدأ السببية والاختيار والإرادة البشرية والثواب والعقاب من جهة، والتوحيد الأفعاليّ من جهة أخرى.

ص: 163

4/6 .القضاء والقدر الإلهيّان:

1/4/6 .أضواء على القدر الإلهي:

قضيّة القضاء والقدر الإلهيان هي إحدى المعتقدات الأساسية التي تناولتها جميع الشرائع السماوية في باب الأفعال الإلهية، والتي واجهت موجات كبيرة من الضبابية وسوء الفهم. وقد تعرّض هذا البحث في العهود الأولى من تاريخ الإسلام إلى سيل عارم من الشبهات مهدت الطريق لاشتداد عود النزعة الجبرية، وتبلور فرق منحرفة اتخذت من الجبر أصلاً المعتقداتها، وساهمت في تسهيل حركة بعض الساسة الذين امتطوا هذه المطيّة لبلوغ مآربهم الدنيئة من خلال تقديم تفسيرات مغلوطة عن القضاء والقدر، فتمكّنوا بذلك من اللعب بحُريّة في مسرح السياسة والحكومة.

وفي الجهة المقابلة نفضت طائفة أخرى آمنت باختيار الإنسان وحرّيّة إرادته اليد كلّيّاً عن الإيمان بالقضاء والقدر، أو أثرت سلوك سبيل التأويل الباطل فيهما .

وقبل الولوج في خضم أبحاث القضاء والقدر، وتبيان التفسير الصحيح لهما، نلفت الانتباه فيما يلي إلى الآيات القرآنية الكريمة في هذا الصدد.

أضواء على القدر الإلهي:

تطرقت آيات قرآنية كثيرة إلى القدر الإلهي؛ ومنها قوله عَزَّ اسمَه:

1 . التقدير العام للمخلوقات: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا )(1) .

2 . تقدير الشمس: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي مُسْتَقَرٌّ مَّا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (2).

3. تقدير القمر: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (3). .

ص: 164


1- سورة الفرقان: 2 .
2- سورة يس: 38 .
3- سورة يس: 39 .

4 .تقدير المطر: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ )(1).

5 .تقدير الأرض: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء للسَّائِلِينَ) (2).

6 . تقدير الهلاك : (... إلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَنَ الْغَابِرِينَ ) (3).

وبالاستفادة من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة وما أدلى به الفلاسفة والمتكلّمون في هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:

* أوّلاً: التقدير يعني إيجاد تحديد أو قَدَر في شيء .

* ثانياً: تُظهر الآية الأولى أن التقدير يشمل كلّ شيء؛ وإن أشارت آيات أخرى البعض مصاديق التقدير الإلهيّ. وقد ألمحت الآية الأخيرة أيضاً إلى شمول التقدير الإلهي للأفعال الاختيارية عند الإنسان.

* ثالثاً: ينقسم التقدير الإلهي إلى علمي وعيني؛ أما التقدير العلمي فيعني أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ يعلم بتحقق كل شيء في الزمان والمكان الذي يتحقق فيه، وبالكيفية التي يكن عليها، وهذا المعنى من التقدير يؤول في النهاية إلى العلم الإلهي، ولا يتعدّى مضمونه علم الله تَبَارَكَ وَتَعَالى بالعلل الناقصة للممكنات. وأما التقدير العيني الخارجيّ فإنّه يعني أن يتسم كلّ شيء في الواقع الموضوعي بقدر وحدود معينة؛ بما يعني تحققه ضمن دائرة خاصة وفي ظروف معينة، وليس القدر العيني الخارجيّ شيء أكثر من وجود العلل الناقصة في الخارج.

* رابعاً: هل تقدير الموجودات يستلزم جبرها؟ من الواضح أن التقدير العلمي لا يتعارض مع اختيار الموجودات المختارة؛ لأنّ معنى التقدير العلمي - كما تبين - هو

ص: 165


1- سورة المؤمنون: 18.
2- سورة فصلت: 10 .
3- سورة الحجر: 60.

علم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالاختيار الذي سوف يُقدِم عليه الموجود المختار، فيكون عالماً بما سوف يفعله أو ما سوف يتركه بحكم اختياره وكذا لا يستلزم التقدير الخارجي العيني ذلك الجبر المشار إليه؛ لأن معنى التقدير الخارجي - كما تقدّم - هو تأطّر كلّ شيء بحدود و قیود و مقادير ترتبط به ، وهذا المعنى لا يمكن له أن ينفي وجود الاختيار عن الموجودات المختارة؛ لأنّ الاختيار صفة تتحقق في الموجود المختار، وهي نفسها تتأطّر بحدود وظروف معينة؛ فعلى سبيل المثال : إذا قرر الموجود المختار أن يمشي فإنّ تحقق هذا القصد يتطلّب سلامة أعضائه وجوارحه والعديد من العوامل الداخلية والخارجية الأخرى. وبتعبير آخر : يرتهن تحقق كل معلول بمجموعة من الظروف والعلل الناقصة، ومن دون اجتماع جميع أفراد العلة، وتحقق العلة التامة فلن يتحقق ذلك المعلول، وما من شكّ في أن الاختيار وإرادة الفاعل هي إحدى أجزاء العلة في الأفعال الاختيارية.

2/4/6 .أضواء على القضاء الإلهي:

تطرّقت آيات قرآنية عديدة إلى القضاء الإلهي ؛ نذكر منها ما يلي :

(وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)(1).

(الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمَّتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الموْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (2) .

(وَلَكِن لَّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً )(3).

(وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)(4) .

ص: 166


1- سورة البقرة: 117 .
2- سورة الزمر: 42 .
3- سورة الأنفال: 42 .
4- سورة الإسراء: 23.

_وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنِ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ هُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) (1).

(وَالله يَقْضِى بالحقِّ) (2).

(وَغِيضَ الماء وَقُضِيَ الأَمْرُ ) (3).

(فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾(4).

(وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) (5).

وبالنظر إلى هذه الآيات الكريمات وما ورد من أحاديث شريفة، وما أدلى به الفلاسفة والمتكلمون في هذا الخصوص، من الممكن لنا في موضوع القضاء الإلهي استخلاص ما يلى:

1 . حقيقة القضاء الإلهي: القضاء الإلهي - كما هو حال القدر الإلهي - شامل لكلّ - - الأحداث، ومحيط بكل الموجودات؛ بما فيها الأمور الاختيارية. وقد استخدمت مفردة «القضاء» في الآيات الكريمة المشار إليها آنفاً في معان مختلفة؛ هي : (أ) : القضاء بمعنى الإرادة الإلهية؛ مثل: (وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾(6) ، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (7) (ب): الحكم التشريعي؛ مثل: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَ تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا )(8) ؛ (ج) : الحكم بين المتخاصمين؛ مثل: (والله

ص: 167


1- سورة الأحزاب: 36.
2- سورة غافر: 20.
3- سورة هود: 44 .
4- سورة القصص: 15.
5- سورة طه: 114.
6- سورة البقرة: 117 .
7- سورة يس: 82 .
8- سورة البقرة: 117 .

يَقْضِي بِالحَقِّ)(1). ؛ (د): بمعنى الإتمام والانتهاء؛ كما في أغلب الآيات الأخرى.

2 . أنواع القضاء الإلهيّ : ينقسم القضاء الإلهي إلى علمي وعيني؛ أما القضاء العلمي فهو العلم الإلهي بالعلة التامة لتحقق الموجودات، أمّا القضاء العيني منه فهو التحقق الحتمي للأشياء، فالقضاء إذن يعني: إتمام العمل، وهو لا يتنافى مع الأفعال الاختيارية؛ لأن إتمام الأفعال بيد الله عَزَّ وَجَلَّ أي أنّ جميع الأفعال في قبضته، وكما مرّ معنا في بحث التوحيد الأفعالي فإنّ فاعليّة سائر الموجودات تقع في طول فاعليته عَزَّ وَجَلَّ، وليس لأيّ منها الاستقلالية في وجوده وأفعاله بنحو مطلق؛ وعليه: فإنّ كلّ شيء في يده. وهذا التفسير لا يعني بأي حال من الأحوال سلب اختيار الإنسان ، أو سلب إرادته. وفي تعبير آخر : إذا تحققت العلة التامة، فإنّ المعلول يجب أن يتحقق بالضرورة، ولا يأتي زمن إتمام المعلول وضرورة وجوده إلا حين توجد علته التامة، وإن آخر جزء من أجزاء العلة التامة في الأفعال الاختيارية هو إرادة الموجود المختار واختياره، لكن وفقاً لمضمون التوحيد الأفعالي فإن جميع الموجودات هي عين الربط إلى الله، ولا استقلال لها من عند أنفسها، فيكون القضاء وإتمام الأمر بيده وفي قبضته جَلَّ وَعَلا.

3/4/6 .القضاء والقدر الإلهيان والاختيار البشري:

يؤدّي اتضاح الرؤية في بحث القضاء والقدر الإلهيين العلميين والعينيين إلى اتضاحها في مشكلة الجبر والاختيار. وقد قدّم أئمة أهل البيت : في معرض مواجهتهم للفكر الجبري المفضي إلى سلب الاختيار عن الإنسان، وكذا ردّاً على الفكر التفويضيّ المفضي إلى سلب الاختيار عن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَطروحة «لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ ؛ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْن»(2) ، وبينوا لنا أنّ أفعال الإنسان ترتبط بالإرادة الإلهية من جانب وبالإرادة البشريّة من جانب آخر، لكن إرادة الإنسان تقع في طول الإرادة

ص: 168


1- سورة غافر: 20.
2- مقطع من حديث مروي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) لاحظ الكافي الكليني، ج1، ص 160. [م]

الإلهية؛ لا في عرضها؛ بمعنى أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أراد أن يقوم الإنسان بأفعاله بإرادة هذا الإنسان.

وبناءً على ما تقدّم لا يعني القضاء ولا القدر سلب اختيار الإنسان، بل القضاء يعني: نسبة العلة التامة في الأفعال والمعلولات، والقدر يعني: نسبة كل جزء من أجزاء العلة التامة بالمعلول؛ لأنّ تحقق العلة التامة يفضي إلى حتمية المعلول، ومع تحقق كل جزء منها يتقدّر المعلول بقدر معيّن، وإن أحد أهم أجزاء العلة التامة في الأفعال الاختيارية البشريّة هو الجزء الأخير منها؛ وهو إرادة الإنسان.

4/4/6 . الموقع العلمي لقضية الجبر والاختيار:

البحث بخصوص الجبر والاختيار بحث ينتمي لعلم معرفة الإنسان، ويجب أن يُتدارس بتفاصيله وحيثياته في علم مستقل عنوانه : علم معرفة الإنسان الإسلامي، لكن نظراً إلى ارتباط هذه القضية ببحث الصفات الفعلية الإلهية، وما أحدثته من شبهة، فهو يتناول هنا في علم الكلام الإسلامي.

لقد درست مختلف المدارس البشرية موضوع الجبر والاختيار في الإنسان، وقدّمت نظريّاتها وتفسيراتها بهذا الشأن، وقد عدّت الإنسان موجوداً تهيمن عليه القوانين الطبيعية والاجتماعية، ونسبوا إليه أيضاً خضوعه لجبر طبيعي واجتماعي؛ حتى آمنوا بسنن ثابتة وأبديّة في الطبيعة والمجتمع تسيطر على أفعال البشر. وقد زعموا أن العلوم الاجتماعية قد أخذت على عاتقها واجب الكشف عن هذه القوانين المهيمنة، وما يرتبط بها، والتنبؤ بردود الأفعال حيالها، ثمّ ملاحظتها، ووصفها، وتحليلها، بعيداً عن تقديم الإرشادات والتوجيهات لبني البشر (1) .

إنّ الإسلام يرفض الهيمنة المطلقة للقوانين الطبيعية والاجتماعية على إرادة

ص: 169


1- لاحظ : تاريخ المذاهب الاقتصاديّة، شارل جيد وشارل ،جیست ج 2 ص 48 و 76 [النسخة المترجمة للفارسية ]؛ أسس الاقتصاد الإسلاميّة، منشورات سمت ص 101-102.

الإنسان؛ لأنّ هذا الزعم يستلزم القول بالجبر ، وينفي حكمة نزول الكتب السماوية وإرسال الرسل وإنذار الناس من الزيغ عن الحق في أعمالهم، وينسف معنى الثواب والعقاب الأخرويين. وقد أكّد القرآن الكريم على دور الإرادة الفردية في أحداث المجتمع، وتطوّراته، رغم اعترافه بأثر العوامل الاجتماعية. يقول تعالى:

(إِنَّ الله لا يُغَيَّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيَّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(1).

وإن وجود التيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تنشأ منها تطوّرات اجتماعيّة مهمّة لهو خير دليل على هيمنة الإرادة البشرية ومقدرة الإنسان على الإمساك بزمام القرار. ويشير القرآن الكريم أيضاً إلى تأثر الفرد من التيارات المهيمنة على المجتمع بقوله:

(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُهْتَدُونَ )(2).

ومن الجدير بالإشارة هنا أنّ هذا التأثر نفسه قد نتج عن إرادة الإنسان وقراراته؛ لا أنّ جبراً اجتماعياً قد اعترى إرادة الإنسان، وتسبّب في نقضها !

وبالتالي يجد الإنسان في وجدانه وقرارة نفسه أنه يمتلك إرادة الاختيار، حتى أنّ الأشعري المتمايل إلى القول بالجبر إلى حد ما قد اعترف بوجود هذا الشعور الدال على إرادة الإنسان وقدرته على الاختيار(3). ولا مراء في أنّ الإنسان محدود ومؤطر في حدود تفرضها علیه طبائعه الجسمية والروحيّة والوراثية، وكذا الجغرافية والاجتماعية والسياسية.

5/4/6 .الخلفية التاريخية للقول بالجبر:

يمكن العثور على خيوط تاريخية للجبر، تقودنا إلى عهد المشركين وعبدة الأصنام في الحجاز؛ إذ ينقل لنا القرآن الكريم ما نصه :

ص: 170


1- سورة الرعد: 11 .
2- سورة الزخرف: 22 .
3- لاحظ: اللمع أبو الحسن الأشعري، ص 41.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا) (1).

وقد دلّتنا الأخبار والتقارير التاريخية إلى رواج سلعة القول بالجبر بين المسلمين بعد التحاق الرسول الأكرم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بالرفيق الأعلى (2) ، حتى بلغ ذروته على عهد بني أمية، وقد نقل القاضي عبدالجبار المعتزلي عن شيخه الجبائي أنّ أوّل من نشر عقيدة الجبر هو معاوية بن أبي سفيان. وقد تصدّى لذلك من أجل تبرير أفاعيله الباطلة، وإسباغ المشروعية عليها (3).

وفي المقابل، تمخض المعتقد الجبري هذا عن بروز نظريّة التفويض التي أكدت على حرّيّة الإنسان، وأنكرت القضاء والقدر الإلهيين، وهيمنة الله عَزَّ وَجَلَّ على أفعال البشر.

أمّا القائلون بالجبر فقد تنوّعت اتجاهاتهم إلى تيارين:

1 . الجبرية الخالصة وهم من رفضوا اختيار الإنسان بقول مطلق؛ مثل: الجهمية وهم أتباع جهم بن صفوان.

2 . الجبرية المتوسطة ويمثلهم الأشاعرة الذين نسبوا للإنسان مقدرته على الاختيار بنحو لا تأثير فيه (4). وقد ذهب مؤسس هذا المذهب إلى أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ عند خلقه الفعل في الإنسان يوجد فيه قدرةً حادثةً، وقد أسموا التقارن بين خلق الفعل والقدرة الحادثة في الإنسان ب«الكسب »(5).

وهنا نقول: إنّ الإيمان بالجبر لا يقي وجهاً أو مبرراً للأوامر والنواهي والتكاليف الإلهية، ولا يترك معنىً للثواب والعقاب الأخرويين، كما أنّ الإيمان بالتفويض يُسفر

ص: 171


1- سورة الأنعام: 148.
2- انظر: تاريخ المذاهب الإسلامیّة، أبو زهرة، ص 95-96 .
3- راجع: المغني في أبواب التوحيد والعدل القاضي عبدالجبار، ج8، ص 4.
4- لاحظ: الملل والنحل الشهرستاني، ج1، ص 85.
5- راجع: اللمع، مصدر سابق، ص 42.

عن تضييق دائرة الإرادة والقدرة الإلهية، ويُفضي إلى إثبات الضعف والعجز الله جَلَّ وَعَلا.

أما تیّار التفويض فينقسم إلى شعبتين:

1. التفويض التشريعي: وهو ما نجده عند فرق وأديان؛ مثل: المزدكيّة (1) والخُرميّة (2)، والمسلميّة (3)، وفرق أخرى من الغُلاة؛ حيث يرون إيكال أمر تكليف الإنسان وأعماله إلى نفسه.

2 . التفويض التكويني في الأفعال وهو يعني أنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى قد فوّض الإنسان قدرة القيام ببعض الأفعال، وتنحى هو جانباً، ولم يعد بعدئذ قادراً على الإمساك بزمام الإنسان وأفعاله. كما ذهبت إليه المرجئة، والقدرية (ومنهم: معبد الجهني، وغيلان الدمشقي)، وبعض المعتزلة.

وقد انبرى أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) لدحض هاتين النظريتين المعروفتين بالجبر والتفويض، وأطلقوا أطروحتهم التي اشتهرت بعبارة: «لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ ؛ وَلَكِنْ أَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْن»(4). وعلى أساس من هذه الرؤية فإنّ الله عَزَّ وَجَلَّ قد أفاض على الإنسان قدرة القيام بأفعاله، غير أنه بقي مالكاً لهذه القدرة، وانضوت إرادة الإنسان لأفعاله تحت إرادة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في علاقة طوليّة مرّت الإشارة إليها مسبقاً.

ص: 172


1- المزدكية: دينٌ ثَنوي منبثق من المانوية، مؤسسه الزعيم الديني الفارسي مَزْدَك بن موبذان. وقد نُسب إليه أنه أحلّ النساء، وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيه؛ كاشتراكهم في الماء والنار والكلاً [م]
2- الخُرَّمِيّة - أو الخُرَّمْدينيّة - : طائفة دينية فارسية ظهرت في أقاليم عدّة شرقي العراق (مركز الخلافة العباسية)، وفي أوقات مختلفة في العصر العباسي، حملت أسماء متنوعة منها المحمرة والمبيضة، والبابكية والمازيارية. [م]
3- المسلِمِيَّة - أو الأبُومُسلِمِيَّة - : هم أصحاب أبي مسلم عبد الرحمن الخراساني، ويُنقل عنهم أنهم قالوا بإمامته بعد قتله، وادعوا أنه حي لم يمت ولم يُقتل. [م]
4- الكافي الكليني، ج1، ص 160.
6/4/6 .الهداية والإضلال الإلهيّان والاختيار البشري:

يقول تعالى في سورة الرعد :

﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ)(1).

يتضح لنا مما تقدّم من أبحاث أنّ هذه الآية الكريمة لا تدلّ على الجبر كما قد يتصوّر البعض ؛ للأسباب التالية:

1 .أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ قال في آية أخرى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(2).

2 . ما دامت جميع الأسباب والعوامل والمعدّات تخضع للأمر الإلهي، فلا ضير في إسناد الهداية والإضلال إليه جَلَّ وَعَلا .

3 . لا يتنافى استناد الهداية والإضلال إليه مع الدور الذي تلعبه إرادة الإنسان في الهداية. لقد أراد الله عَزَّ وَجَلَّ أن تشمل هدايته أو يغطّي إضلاله الإنسان جراء أعماله الاختيارية.

وتجدر الإشارة هنا إلى انقسام الهداية الإلهية إلى أقسام ثلاثة هي:

*أولاً : الهداية التكوينية الأولى : وهي التكامل الطبيعي الذي قدرته المشيئة الإلهية للإنسان جسماً وروحاً.

*ثانياً : الهداية التشريعية: وهي تلك الأوامر والنواهي الإلهية المعدة لإيصال الإنسان إلى تكامله الاختياري.

ص: 173


1- سورة الرعد: 27 .
2- سورة الإنسان: 3 .

*ثالثاً: الهداية التكوينية الثانوية : وهي التي تشمل الإنسان بعد تنعمه بالهداية التشريعية .

ومن هذا يظهر أنّ بعض أقسام الهداية الهداية التكوينية الأولى) رهين بإرادة الإنسان، والبعض منها (الهداية التشريعية) متوقف على إرادة الإنسان بنحو مباشر، أما البعض الآخر الهداية) التكوينية (الثانوية فهو مرتبط بإرادة الإنسان أيضاً، لكن بنحو غير مباشر (1).

7/4/6 أنواع الفعل البشري:

تنقسم الأفعال البشرية إلى ثلاثة أنواع:

1 . ما يُنسب إلى الإنسان من الأفعال ومثاله : الحياة البشريّة . وهذه النسبة جارية رغم أن حياة الإنسان متوقفة على إرادة الله تَبَارَكَ وَتَعَالى بنحو حصري، ولا دخل لإرادة الإنسان فيها ؛ فقبل أن يولد الإنسان تتعلّق الإرادة الإلهية وفقاً لحكمة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وقدرته بإيجاد هذا الإنسان، فتحدث ولادته وعليه : لا معنى لقول من ينفي إرادته للقدوم إلى هذا العالم، ودخوله عالم الوجود .

2 . الأفعال التي تتحقق بإرادة الإنسان، والتي تشكل تلك الإرادة الجزء الأخير من العلة التامة لوجودها؛ بمعنى أن الإنسان بمجرد أن تتعلّق إرادته بالمشي أو الأكل مثلاً، يحدث ذلك المشي أو الأكل في الخارج.

3 . الأفعال التي تتدخّل الإرادة البشريّة في تحققها، لكن لا على نحو الجزء الأخير من العلة؛ ولهذا فقد تتعلّق إرادة الإنسان بفعل ما ، ثمّ لا يتحقق. ومثاله: كما لو أراد الإنسان الموت بالانتحار؛ فهو لا يحصل بمجرّد الإرادة، بل لعله لا يحصل أيضاً حتى مع إقادمه على الانتحار عمليّاً، من دن الفصل بين الإرادة والفعل ؛ كما لو تناول سمّاً

ص: 174


1- راجع: الهداية والضلال في القرآن الكريم، الجوادي الآملي .

قاتلاً مثلاً. والسبب في ذلك أن الإرادة الإلهية هي الجزء الأخير من علّة الموت. وننوه هنا أيضاً إلى اللبس الذي قد يقع في قول بعضهم: إنّ فلاناً أراد أكل الطعام، لكنّه لم يأكل»؛ ففي هذا المثال لم تُستخدم الإرادة بمعناها الحقيقي، بل المقصود بها: اشتياقه أو تمايله ولا محيص عن تحقق الفعل بعد تحقق الإرادة .

8/4/6 .قضيّة البداء الإلهي:

يمثل البحث عن «البداء» - الذي يؤمن به علماء الإمامية، ويُنكره أهل السنة - بل يستنكرونه على الشيعة - أحد الأبحاث المنشعبة عن القضاء والقدر الإلهيين.

و«البداء) في اللغة (1) قد يُستخدم في معنيين؛ هما :

1 . الظهور بعد الخفاء(2).

2 . نشأة الرأي الجديد أو الانتقال من عزيمة إلى عزيمة (3).

وما من شكّ في عدم جواز إسناد أي من هذين المعنيين للبداء إلى الله عَزَّ وَجَ- لأنّ ذاته ليست محلا للحوادث، وبالتالي فهو ضرب من الكفر، وقد منعه جميع علماء الإماميّة؛ لأنه صفة من صفات الممكنات ولا يليق بواجب الوجود، فلا يمكن القول بأنه عَزَّ وَجَلَّ قد ظهر له شيء بعد أن خفي عنه، فأدى إلى تراجعه عمّا

ص: 175


1- «البداء» في اللغة: مصدر «بَدَا»؛ يقول ابن منظور: بَدَا الشيءُ يَبدُو بَدْوَاً، وبُدُوَّاً، وبداء، وبدأ - الأخيرة عن سيبويه - : ظهر، وأبديته أنا أظهرته». لسان العرب ج ،14 ص ،65، وانظر القاموس، ص1629. [م]
2- يقول ابن فارس: «هو ظهور الشيء؛ يقال : بدا الشيء يبدو، إذا ظهر فهو باد معجم مقاييس اللغة ، ج 1، ص212. ومثاله قولك: بدا سور المدينة؛ أي ظهر. ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم به الله) سورة البقرة: 284. [م]
3- يقول ابن فارس: «تقول : بدا لي في هذا الأمر بداء أي تغير رأي عما كان عليه» معجم مقاييس اللغة ص 212. ويقول ابن منظور: «البداء: استصواب شيء عُلِمَ بعد أن لم يعلم»، ويورد أيضاً: «قال الفراء: بدا لي بداء؛ أي ظهر لي رأي آخر لسان العرب، ج 14، ص 66 ويقول الشيخ المفيد: «إنّ لفظ البداء أطلق في أصل اللغة على تعقب الرأي والانتقال من عزيمة إلى عزيمة». تصحيح اعتقادات الإماميّة، المفيد، فصل في معنى البداء، ص 67. ومنه قوله تعالى: ((ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُأ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ سورة يوسف: 35 .[م]

كان قد عزم على فعله(1)، أو أن يُقال مثلًا: إنه نشأ له رأي جديد صرفه عما كان قد قدره مسبقاً !

وبناءً على ذلك، لا يعني البداء في معتقد الإمامية ما تقدّم، وقد صرّح بذلك كبار علماء الشيعة مثل : الشيخ الطوسي (460ه) في «عدّة الأصول»(2)، وتفسير «التبيان»، السيّد المرتضى (3) (436ه) في «الذريعة»(4). وقد أوضح العلّامة الشيخ مكارم الشيرازي ( مواليد 1345ه) حيثيات قضيّة البداء في معتقد الإمامية بقوله :

لقد بيّن هذا البحث في الآية 39 من سورة الرعد؛ حيث قال تعالى: ﴿يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ). يقول [ الفخر] الرازي (5)في تفسيره الكبير في ذيل الآية - محلّ البحث - : قالت الرافضة : البداء جائز على الله تعالى، وهو يعتقد أن شيئاً، ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده، وتمسكوا فيه بقوله: ﴿يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثبِتُ) ، ثمّ يضيف الرازي: «إنّ هذا باطل؛ لأنّ علم الله من لوازم ذاته المخصوصة، وما كان كذلك كان دخول التغيّر والتبدل فيه باطلاً»(6).

ص: 176


1- ويقول الشيخ المفيد: «إنّ لفظ البداء أطلق في أصل اللغة على تعقب الرأي والانتقال من عزيمة إلى عزيمة». تصحيح اعتقادات الإماميّة، المفيد، فصل في معنى البداء، ص 67. [م]
2- يقول الشيخ الطوسي: «إذا أضيفت هذه اللفظة [أي البداء إلى الله تعالى: فمنه ما يجوز إطلاقه عليه، ومنه ما لا يجوز؛ فأما ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه... [ وأما ما لا يجوز من ذلك فهو: حصول العلم بعد أن لم يكن». عدّة الأصول الطوسي، ج 2، الباب ،7 ف1، ص 495 [م]
3- يقول السيّد المرتضى: «البداء في لغة العرب هو الظهور من قوله : بدا الشيء: إذا ظهر وبان والمتكلمون تعرّفوا فيما بينهم أن يسمّوا ما يقتضي هذا البداء باسمه، فقالوا: إذا أمر الله تعالى بالشيء في وقت مخصوص على وجه معيّن ومكلّف ،واحد ، ثمّ نهى عنه فهو بداء، والبداء على ما حدّدناه لا يجوز على الله تعالى لأنه علم بنفسه، ولا يجوز له أن يتجدّد كونه عالماً ، ولا أن يظهر له من المعلومات ما لم يكن ظاهراً . .». رسائل الشريف المرتضى، مسألة 5، ص 117 المسألة الرازية. [م]
4- راجع ما ذكره الشيخ أبوالحسن الشعراني تعليقاً على شرح الكافي للملا صالح المازندراني.
5- وللتوضيح نضيف: ليس الرازي فريداً في التقوّل في هذا المجال، بل سبقه البلخي في هذه النسبة، راجع التبيان الطوسي، ج 1، ص 13 ، ونقله أيضاً الشيخ الأشعري راجع مقالات الإسلاميين ، ص 107 لاحظ أضواء على عقائد الشيعة الإمامية، السبحاني، ص 431 . [م]
6- تفسير الرازي ج 4 ص 216 ، تفسير الآية 39 من سورة الرعد. [م]

ومما يؤسف له حقاً أنّ عدم المعرفة بعقيدة الشيعة في مسألة البداء أدّت إلى أن ينسب كثيرون تهماً غير صحيحة إلى الشيعة الإمامية.

ولتوضيح ذلك نقول: «البداء» في اللغة بمعنى الظهور والوضوح الكامل، وله معنى آخر هو الندم، لأنّ الشخص النادم قد ظهرت له - حتماً - أمور جديدة.

لا شكّ، إنّ هذا المعنى الأخير بالنسبة إلى الله تعالى مستحيل، ولا يمكن لأي عاقل وعارف أن يحتمل أنّ هناك أموراً خافية على الله ثمّ تظهر له بمرور الأيام، فهذا القول هو الكفر بعينه ولازمه نسبة الجهل وعدم المعرفة إلى ذاته المقدّسة، وأنّ ذاته محلاً للتغيير والحوادث.

وحاشا للشيعة الإمامية أن يحتملوا ذلك بالنسبة لذات الله المقدّسة! إنّ ما يعتقده الشيعة من معنى البداء ويصرون عليه، هو طبقاً لما جاء في روايات أهل البيت (علیهم السّلام) «ما عرف الله حق معرفته من لم يعرفه بالبداء ».

كثيراً ما يكون - وطبقاً لظواهر العلل والأسباب - أن نشعر أن حادثة ما سوف تقع أو أنّ وقوع مثل هذه الحادثة قد أخبر عنه النبي، في الوقت الذي نرى أنّ هذه الحادثة لم تقع، فنقول حينها: إنّ «البداء» قد حصل، وهذا يعني أنّ الذي كنا نراه بحسب الظاهر سوف يقع واعتقدنا تحققه بشكل قاطع قد ظهر خلافه.

والأصل في هذا المعنى هو ما قلناه في بحثنا السابق، وهو أن معرفتنا مرّةً تكون فقط بالعلل الناقصة، ولا نرى الشروط والموانع ونقضي طبقاً لذلك، ولكن بعد أن نواجه فقدان الشرط أو وجود المانع ويتحقق خلاف ما كنا نتوقعه سوف ننتبه إلى هذه المسائل، وكذلك قد يعلم النّبي أو الإمام بأمور مكتوبة في لوح المحو والإثبات القابل للتغيير طبعاً، فقد لا تتحقق أحياناً لمواجهتها بالموانع وفقدان الشروط.

ولكي تتضح هذه الحقيقة لابد من مقايسة بين «النسخ» و«البداء»: نحن نعلم أنّ

ص: 177

النسخ جائز عند جميع المسلمين، يعني من الممكن أن ينزل حكم في الشريعة فيتصوّر الناس أنّ هذا الحكم دائمي، لكن بعد مدة يعلن الرّسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) عن تغيير هذا الحكم ا. وينسخه ويحلّ محلّه حكماً آخر؛ كما قرأنا في حادثة تغيير القبلة.

إنّ هذا في الحقيقة نوع من «البداء» ولكن في القضايا التشريعية والقوانين والأحكام يسمّونه ب«النسخ» وفي الأمور التكوينية يسمّى ب «البداء» ويقال أحياناً: (النسخ في الأحكام نوع من البداء، والبداء في الأمور التكوينية نوع من النسخ).

فهل يستطيع أحد أن ينكر هذا الأمر المنطقي ؟ إلا إذا كان لا يفرّق بين العلة التامة والعلل الناقصة، أو كان واقعاً تحت تأثير الدعايات المغرضة ضد شيعة أهل البيت (علیهم السّلام)، ولا يجيز له تعصبه الأعمى أن يطالع عقائد الشيعة من نفس كتبهم، والعجيب أنّ الرازي قد ذكر مسألة «البداء» عند الشيعة في ذيل الآية ﴿يَمْحُو اللَّه مَا يَشَاء وَيُنْبِتُ) بدون أن يلتفت إلى أنّ البداء ليس أكثر من المحو والإثبات، وهجم على الشيعة بعصبيته المعروفة واستنكر عليهم قولهم بالبداء.

اسمحوا لنا هنا أن نذكر أمثلة مقبولة عند الجميع : نقرأ في قصة «يونس» أنّ عدم طاعة قومه أدّت إلى أن ينزل العذاب الإلهي عليهم، وقد تركهم النّبي لعدم هدايتهم واستحقاقهم العذاب، لكن - فجأةً - وقع البداء حيث رأى أحد علمائهم آثارالعذاب، فجمعهم ودعاهم إلى التوبة، فقبل الجميع ورفع العذاب:

(فَلَوْلاً كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (1)، (2).

ص: 178


1- سورة يونس: 98 .
2- تفسير الأمثل مكارم الشيرازي، ج 6، ص 467.
8/4/6 .الصفات الإلهيّة والإنجازات البشرية الحديثة :

يُعدّ البحث عن الصلة بين الإنجازات البشرية الحديثة والصفات الإلهية إحدى المسائل الجديدة المطروحة في علم الكلام ومعارف العقيدة، ومفادها التساؤل الذي يقول:

هل تتعارض التقنيات المتقاربة (1)الأربعة الشهيرة - وهي: تقنية النانو (2)، والتقنية الحيوية(3) ، وتقنية المعلومات (4)وتقنية العلوم الاستعرافية (5) - مع صفات إلهية؛ مثل «الحكمة»؟ وللتمهيد لما تقدّم نقول:

تجاوز الإنسان في مسيرته الإنتاجية وصناعاته التقنيّة منذ القرن الثامن عشر

ص: 179


1- [م] . Convergent Technologies
2- تقنية النانو - أو : التقانة النانوية، وتقنيّة الصغائر Convergent Technologies) : هي العلم الذي يهتم بدراسة معالجة المادة على المقياس الذرّيّ والجزئي. وتهتم تقنية النانو بابتكار تقنيات ووسائل جديدة تقاس أبعادها بالنانومتر وهو جزء من الألف من الميكرومتر؛ أي جزء من المليون من الميليمتر .[م]
3- التقنية الحيوية - أو التكنولوجيا الحيوية (Biotechnologies) : هي تطبيق المعلومات المتعلقة بالمنظومات الحيّة، بهدف استعمال هذه المنظومات أو مكوّناتها في الأغراض الصناعية؛ أي أنها تقانة مستندة على علم الأحياء، خصوصًا عندما تستعمل في الزراعة علم الغذاء، والطب. [م]
4- تقنية المعلومات (Information technology) التي تسمى اختصارا IT - : هي دراسة تصميم تطوير تفعيل دعم أو تسيير أنظمة المعلومات التي تعتمد على الحواسيب بشكل خاص تطبيقات وعتاد الحاسوب، وتهتم تقنية المعلومات باستخدام الحواسيب والتطبيقات البرمجية لتحويل وتخزين وحماية ومعالجة وإرسال والاسترجاع الآمن للمعلومات وهو اختصاص واسع يهتم بالتقنية ونواحيها المتعلّقة بمعالجة وإدارة المعلومات، خاصة في المنظمات الكبيرة [م]
5- العلوم الاستعرافية - أو علوم الإدراك Cognitive science- : هي الدراسة العلمية للعقل أو الذكاء علم الاستعراف تخصص جامع لعدة علوم فهو يأخذ، يساهم ويتكامل مع علم النفس (خاصة علم النفس الاستعرافي ومع الذكاء الاصطناعي واللسانيات linguistics وكذلك اللسانيات النفسية psycholinguistics، والفلسفة خاصّة فلسفة العقل، وعلوم الحاسب والعلوم العصبية neuroscience ،والمنطق والروبوتات robotics وعلم الإنسان أو ما يدعى بالأنثروبولوجيا anthropology ، وأخيراً: علم الأحياء؛ بما في ذلك الميكانيك الحيوي biomechanics. [م]

الميلادي وإلى يومك هذا خمسة أمواج رئيسية؛ هي:

1 الثورة الصناعية: وهي تمتد من حوالي عام 1780 إلى 1830م، وقد تمظهرت في تقنيات الفحم، وماكنات النسيج، ومحرّكات البخار ، والنهضة الثقافية والاجتماعية التي أحدثتها النزعة الرومنطقية في الفنّ والأدب.

2 . عصر الرأسمالية: وهو في الفترة الواقعة بين عام 1830 إلى 1880م التي احتوت مظاهر ؛ مثل : السكك الحديديّة، والتلغراف، والفولاذ، والحركات الشعبوية، والشيوعيّة، والديمقراطية الاشتراكية.

3 . عصر الإمبريالية: وهو في الفترة الواقعة بين عام 1880 إلى 1930م التي تمظهرت في مثل الكهرباء، واختراع السيّارة والطائرة، والصناعات الكيميائية، وبرزت فيه حركات مقارعة الاستعمار ، وكذا الحركات الفاشية، والحداثوية في الفنّ.

4 . الفترة ما بين 1930 و 1980م: وقد طفت على السطح في هذه الآونة علوم وفنون في مجالات الطاقة النووية، والوراثة والحاسوب، وظهرت حركات الحقوق المدنية، ومكافحة الأنشطة النووية، ثمّ حركات أنصار البيئة، والنزعة النسوية، وما بعد الحداثة.

5 . عصر المعلومات وهو في الفترة الواقعة بين عام 1980 إلى يومنا هذا، وقد برزت فيه التقنيات المتقاربة تقنية النانو، والتقنيّة الحيوية، وتقنية المعلومات وتقنية العلوم الاستعرافية)، وتزامنت معه ظهور الحركات السياسية ذات نزعات أصالة الهويّة، والحركات المطالبة بالوصول الحرّ إلى المعلومات والتخطيط وفق أسس مقتبسة من علم البيئة، والعدل في معاييره العالمية. وإنّ تلاحم التقنيات المتقاربة الأربعة وانسجامها يعني أنّ الأبعاد التطبيقية لكل منها آخذة في التقلّص والصغر، لتصل في نهاية المطاف إلى معايير نانومترية (1) حتى ظهرت على نحو قوالب التقنية

ص: 180


1- النانومتر (Nanometer): هي وحدة لقياس الأطوال تستعمل لقياس الأطوال القصيرة جداً؛ وهي جزء من مليار جزء من المتر (جزء من الألف من الميكرومتر؛ أي جزء من المليون من الميليمتر. لها استخدامات كثيرة في الفيزياء والكيمياء، وهي غالباً ما تكون من أبعاد الذرّة، يُرمز لها ب- نم أو nm. [م]

العملاقة، وحققت قدرات فريدة ومنقطعة النظير. وإنّ الاستمرار في مسيرة التقنية العملاقة لسوف يفتح المجال أمام الإنسان لإعادة هيكلة الطبيعة، والتدخل في بنيتها وعناصرها الأحيائية المكوّنة لها .

لقد استخدم مصطلح «تقنية النانو» لأوّل مرة من قبل الأستاذ في جامعة طوكيو للعلوم نوريو تانيغوتشي (1) عام 1974م، وقد استخدمه لوصف تصنيع مواد دقيقة يبلغ مقياس عدم الدقة في تعيين أحجامها نسبة تفاوت بقدر نانومتر واحد. وقد نمت تقنيات النانو في مطلع الألفية الجديدة في وتيرة متصاعدة. وفي السنوات الأخيرة الماضية رصدت بعض الدول ميزانية بحثيّة ضخمة، تهدف إلى تنمية هذه التقنية، وقد بلغ مجموع الميزانيات البحثية في هذا الحقل ما يزيد عن أربعة مليارات دولار سنوياً. وقد انطلق العصر الإلكتروني الذي نعيش فيه الآن من عام 1940م، واخترع فيه أوّل حاسوب رقميّ (ديجتال) سريع قادر على القيام بمهمات حسابية مبرمجة، وقد بلغ وزن هذا الجهاز الذي صُنع لصالح الجيش الأمريكي، وسُمّي ب- «إينياك»(2)ما يقرب من ثلاثين ،طناً، استخدمت فيه الصمامات الإلكترونية المفرغة (3) للقيام بأعمال حسابيّة، وهو ما أنبأ بشرارة الانطلاقة الأولى للعصر الإلكتروني.

تلبث هذه الصمامات الإلكترونية المفرغة حتى أزيحت لتأخذ الترانزستورات (4)

ص: 181


1- استخدم العالم الياباني نوريو تانيغوتشي Norio Taniguchi هذا المصطلح لأوّل مرة في محاضرة علمية، وصف فيها عمليات معالجة أنصاف النواقل، وكيف يمكن تطويرها مستقبلاً، معرّفاً هذه التقنيّة على أنّها الآلية الجديدة التي تتيح تركيب المواد وتعديلها ذرّةً ذرّة. [م]
2- إينياك (ENIAC) هو أول جهاز حاسب آلي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية عام 1945م. واسم الجهاز اختصار ل- Electronic Numerical Integrator Analyser and Computer ؛ أي آلة حاسبة ومكامل عددي إلكتروني. [م]
3- الصمام الإلكتروني - أو الصمام المفرغ في الإلكترونيات (Electronic tube أو Vaccum tube) - : هو صمام مفرغ يستخدم كثيراً في تضخيم الإشارات والتردّدات ومعالجتها إلكترونية متعددة؛ مثل: الراديو، والتلفزيون ومكبرات الصوت وفي أجهزة البحث العلمي وغيرها [م]
4- الترانزستور - أو المقحل Transistor : هي نبيطة تُعدّ أحد أهم مكوّنات الأدوات الإلكترونية الحديثة مثل: الحاسوب. والنبيطة Semiconductor device) هي مكوّنات إلكترونيّة تُصنع من مواد شبه موصلة، يمكن معالجتها لتصبح موصلة. [م]

محلّها، وقد استعيض فيه أيضاً عن البطاقات المثقوبة بشرائط كاست.

وفي هذه الحقبة كذلك، طوّرت لغات برمجيّة في مستويات عالية؛ مثل: الكوبول(1)، والفورتران(2). أمّا التطوّر اللاحق فيتمثل في استبدال الترانزستورات بالدارات المتكاملة (3)، مما سهّل عملية إنتاج أنظمة التشغيل التي تدير عمل الحواسيب، والتي صُمّمت على أساس من لغات برمجيّة أكثر تطوّراً؛ مثل : البيسيك(4).

هذا، وتُعدّ التقنية الحيوية - أو تكنولوجيا الأحياء - ضرباً من ضروب العلوم التكنولوجية المبتنية على علم الأحياء، وهي تُستخدم عادةً في حقول علمية مثل: الطبّ والزراعة؛ حيث توظف نتائجها في التعديل على العمليات البيولوجية والمتعضيات (5) التلبية بعض متطلبات حياة الإنسان. لكنّ هذا المصطلح كان يُستخدم قبل عام 1971م للتعبير عن التقنيات المرتبطة بالغذاء والزراعة، واستخدم من عام 1970 فما بعد لوصف المناهج التجريبية التي توظف في البحوث البيولوجية. وتتبلور التقنية الحيويّة الحديثة من ثنائي العلم والتكنولوجيا في حقول؛ مثل: علم الوراثة،

ص: 182


1- لغة الكوبول (COBOL اختصار Common Business-Oriented Language): هي لغة برمجية متعدّدة الاستخدام تخدم النواحي التجارية، وخاصّة مجال البنوك وغيرها [م]
2- لغة الفورتران ( Fortran مركبة من FORmula TRANslation؛ بمعنى : ترجمة المعادلات): هي لغة برمجة متعدّدة الاستخدام عُدت كأولى لغات البرمجة ذوات المستوى العالي تُستخدم في التحليلات العددية، وفي الحوسبة العلميّة [م]
3- الدارة المتكاملة (IC) - أو الشريحة الإلكترونية (Chip : هي دائرة إلكترونية مصغرة أحدثت ثورة في عالم الإلكترونيات، وهي من ضمن ما يعرف بتقنية ميكروية، والتي هي بدورها جزء من الهندسة الإلكترونية وهي شريحة رقيقة من مادة السيلكون تبلغ مساحتها عدة مليمترات تحتوي على الآلاف من المكوّنات الإلكترونية الدقيقة جداً التي تربط معاً لتكوّن دوائر إلكترونية متكاملة. أُنتجت - لأوّل مرّة - بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1958 [م].
4- لغة البيسيك (BASIC اختصار Beginners All Purposes Symbolic Instruction Code): هي لغة متعدّدة الأغراض تستخدم اليوم للمبرمجين المبتدئين. طُوّرت عام 1964م؛ حيث كانت تستند بشكل كبير على لغة الفورتران. [م]
5- الْمُتَعَضّيات - جمع الْمُتَعَيّ (Organism) : هي كل نظام متكيّف معقد حيّ من أعضاء تتأثر ببعضها البعض بحيث تعمل بشكل عام ككل واحد مشكلة كياناً وحيداً حياً [م]

وعلم الأحياء الجزيئي (1)، والكيمياء الحيوية(2)، وعلم الأحياء الخلوي(3)، وهي تقدّم إنجازات جديدة للبشريّة بالتعاون العمليّ مع علوم؛ مثل : الهندسة الكيميائية (4)، تقنية المعلومات والروبوتات الحيوية (5).

وإنّ أبرز الوظائف العمليّة التقليديّة التي تمنحها التقنية الحيوية تتجلّى في زراعة النباتات؛ حيث يُستفاد منها في إنتاج الغذاء المناسب للإنسان من خلال إنتاج مواد تتعلّق بالاحتياجات الغذائيّة عند البشر. وقد تصدّر المزارعون قائمة الفئات التي استفادت من هذه التقنية؛ حيث وظفت في اختيارهم للفصائل النباتية المناسبة والمقاومة، وفي عملية تطعيم النباتات أيضاً .

لقد عرفت بعض الحضارات - مثل : مصر والهند القديمتين - عمليات تخمّر ماء الشعير (المزر) ، وهو أحد أبرز نماذج التقنية الحيوية. وإنّ الأسلوب الذي اتبعه أبناء هذه الحضارات في ذلك ما يزال يُستخدم إلى اليوم. وفيما بعد، اكتشفت حضارات

ص: 183


1- علم الأحياء الجزيئي - أو البيولوجيا الجزيئية Molecular biology : علم يقوم بدراسة الأحياء على المستوى الجزيئي لذلك فهو يتداخل مع علم الأحياء والكيمياء في عدة فروع ويتقاطع مع الكيمياء الحيوية، وعلم الوراثة في عدة مناطق وتخصصات تهتم البيولوجيا الجزيئية بدراسة مختلف العلاقات المتبادلة بين جيمع الأنظمة الخلويّة وخاصة العلاقات بين الدنا (DNA) والرنا (RNA) وعمليّة الاصطناع البروتيني، إضافة إلى آليات تنظيم هذه العمليّة وسائر العمليات الحيوية. [م]
2- الكيمياء الحيوية - أو البيوكيمياء (Biochemistry) : من فروع العلوم الطبيعية، وهو علم يختص بدراسة التركيب الكيميائي لأجزاء الخليّة في مختلف الكائنات الحيّة؛ سواء كانت كائنات دقيقة؛ كالبكتيريا والفطريات والطحالب أو راقية؛ كالإنسان والحيوان والنبات [م]
3- علم الأحياء الخلوي - أو البيولوجيا Cell biology أو cellular biology أحيانا cytology) - : علم يقوم بدراسة الخلايا الحية؛ بخواصها، وبنيتها ومكوناتها، والعضيات الموجودة فيها، وتفاعلاتها مع البيئة المحيطة. إضافة لذلك دورة حياتها، وانقسامها، وأخيرا موتها، وتُدرس على نطاق مجهري أو جزيئي. [م]
4- الهندسة الكيميائية - أو الهندسة الكيماوية (Biochemistry) - : علم هندسي يختص بتصميم وتطوير العمليات الصناعيّة الكيميائيّة أو التحويلية. وبتصميم وبناء وإدارة المصانع التي تكون العملية الأساسية فيها هي التفاعلات الكيميائية، وتندرج تحت هذا التخصص عمليّات انتقال المادّة والحرارة والكتلة كما تشمل التفاعلات وعمليات الفصل متعدّدة .المراحل وتكاد تكون مقابلة لمصطلح هندسة العمليات. [م]
5- الروبوتات الحيوية (Biochemistry) مصطلح يُستخدم أحياناً للإشارة إلى اختصاص نظري للهندسة الوراثية الشاملة التي يتم إنشاء الكائنات الحية وتصميمها فيها عن طريق الوسائل الاصطناعية [م]

أخرى عمليّة تخمّر حمض اللاكتيك. وقد أفادت هذه الطريقة في الحفاظ على الأطعمة المنتجات، وما زلت تُستخدم إلى اليوم في الخبز والمعجنات. وبالرغم من رواج استخدام هذه التقنية عند الإنسان منذ آلاف السنين، لكنّ العالم الفرنسي باستور (1)(1895م) استطاع أن يكتشف أسراره العلمية عام 1857م، ويقدّم بياناً دقيقاً لمجرياته. وإنّ هذا التأخّر الزمني في الوصول إلى بيانات علمية تفسّر بعض الظواهر - قياساً لتوظيف القدرات العِلّيّة تقنيّاً - أمر ليس بالغريب، بل نراه يتكرّر في تاريخ العلوم على الدوام، وإننا هنا عند الحديث عن حقول التقنيات المتقاربة، نواجه أحد أمثلته المتعدّدة. ومن بين مظاهر التقنية الحيوية يمكن الإشارة إلى تركيبة النباتات والمتعضّيات الحيّة لأهداف طبية وعلاجية.

وهذا اللون من استخدام التكنولوجيا الحيوية كان متداولاً في كثير من الحضارات القديمة بصفتها فرعاً من فروع الطبّ؛ فعلى سبيل المثال: اعتاد الأطباء منذ حوالي 200 عام قبل الميلاد على استخدام مقادير صغيرة من عدوى الأمراض، لإيجاد الحماية ضد أنواع من العدوى التي قد يُبتلى بها جسم الإنسان. وقبل عقود قليلة سبقت اكتشاف الإنجليزي جينر (2) (1895م) للقاح الجدري، ورواجه في إنجلترا، استخدم الأطباء المسلمون في الدولة العثمانية وغيرها من البقاع تلك الطريقة أيضاً؛ حيث قاموا بالتلقيح مستخدمين مقادير ضئيلة من فيروس الجدري؛ لتحصين الناس أمام هذا المرض، لا سيّما الأطفال منهم. وقد طوّرت أعداد كبيرة من هذه الأساليب والعمليّات في الطبّ ،الحديث وخضعت لتعديلات وإصلاحات، لتظهر في نهاية المطاف على هيئة لقاحات، ومضادات حيويّة، وتدخل في سلك الاستخدام العام.

لقد انطلقت بدايات التقنية الحيوية الحديثة - حسب بعض المنقولات - في عقد

ص: 184


1- لويس باستور (Louis: Pasteur عالم كيميائي فرنسي عُدّ كأحد أبرز مؤسسي علم الأحياء الدقيقة في الطب، ويُعرف بدوره المميّز في بحث أسباب الأمراض وسبل الوقاية منها. ساهمت اكتشافاته الطبية بتخفيض معدل وفيات حمّى النفاس وإعداد لقاحات مضادّة لداء الكلب والجمرة الخبيثة [م]
2- إدوارد جينر (Edward Jenner طبيب إنجليزي اشتهر باكتشافه لقاحاً ضد مرض الجدري. [م]

الثمانينات من القرن العشرين؛ حيث قام الباحث الهندي شاكرابارتي (1)- الذي كان يعمل لصالح شركة جنرال إلكتريك - باستخدام علوم الهندسة الوراثية لتطوير نوع من البكتيريا قادر على تفتيت بقع النفط الغليظة، وتحويلها إلى مادة أقل كثافة. ومنذ ذلك الحين، توسعت هذه التقنية بشكل مطّرد، مستلهمة من الطبيعة، ومتطلّعةً لإمكانية التدخل في العمليات البيولوجية، والتعديل عليها، وقد فتحت أمام الإنسان أفقاً رحباً من الإمكانيات والقدرات الجديدة. هذا، وتتوزّع استخدامات التقنية الحيويّة في أربعة حقول صناعيّة أساسية؛ هي: الرعاية الصحيّة (الطبّ)، وإنتاج المواد الزراعية، والاستخدام الصناعي - لا الغذائي - للمنتجات الزراعية (كما في المواد البلاستيكيّة القابلة للتحلّل في الطبيعة، والزيوت النباتية وأنواع الوقود الحيوي)، والاستخدامات المرتبطة بالبيئة.

لقد حاول علم الأعصاب الإدراكي (2) - والعلوم الاستعرافية بشكل عام - أن يعثر على إجابة للاستفسار عن كيفية جريان العمليّات الذهنيّة كعمليات التفكير والإدراك، والذاكرة) التي ينظمها وينفّذها الدماغ. وإن أملاً كبيراً يحدو البشرية اليوم للوصول إلى إجابات شافية لهذا اللون من الأسئلة من خلال توظيف هذا العلم، والوقوف على كيفية انقداح هذه الكيانات في الذهن والدماغ، وكيفية إدراكنا لما نعلم به. ووفقاً للعلوم الاستعرافية فإنّ المعرفة سلسلة متنوعة من عمليات عليا يقوم بها الذهن؛ كما في عمليات التفكير والإدراك، والتخيّل، والنطق والتخطيط والعواطف المرتبطة بالإدراك . وعلى أساس من هذا التعريف، حاول علم الأعصاب الإدراكي أن يقدّم شرحه وتفسيره للعمليّات المعرفية من خلال مقاربات اعتمدت بشكل أساسي على محورية الدماغ.

ص: 185


1- أناندا شاكرابارتي (Ananda Chakrabarty: باحث هندي أمريكي مختص في الميكروبيولوجيا، اشتهر بتعديله الوراثي على كائنات حية دقيقة طوّرت لتأكل النفايات الخطيرة. [م]
2- علم الأعصاب الإدراكي (Cognitive neuroscience) هو فرع علمي يُعنى بالبحث عن الركائز البيولوجية الكامنة وراء الإدراك مع التركيز بوجه خاص على الركائز العصبية للعمليات العقلية [م]

وعلى الرغم من أن مجموعة العلوم الاستعرافيّة تنطوي على حقول معرفية متنوعة - مثل : علوم اللغة، والفلسفة وعلم النفس، وعلم الأعصاب الإدراكي - لكن التقنيات المتقاربة تركّز في أبحاثها على معطيات علم الأعصاب الإدراكي بشكل أساسي. وعليه: فإنّ الاهتمام الأوّل في هذا الصدد سيكون منصباً على بحوث تتصف بثنائية العلم والتكنولوجيا. هذا، ويقوم علم الأعصاب الإدراكي بمدّ الجسور بين العلوم الاستعرافية وعلم النفس المعرفيّ من جهة، وعلم الأحياء وعلم الأعصاب من جهة أخرى. وهو حقل علمي حديث لم يلتحق بركب العلوم والتنقيات سوی قبل بضع عقود خلت.

أمّا الحقل البحثي المسمّى بالحياة الاصطناعية (1) فهو مجال متعدد التخصصات يهدف إلى كشف الخصائص الجوهرية (2) للأنظمة الحيوية من خلال التعديل الاصطناعي على هذه الأنظمة باستخدام قنوات مثل : المحاكاة، والنماذج الحاسوبية، والروبوتيات، والبيوكيمياء .

ونظراً إلى أنّ الخصائص الجوهريّة الانتزاعيّة للأنظمة الحيّة (مثل : السلوك الذكي أو قابليّة التأقلم مع البيئة) تنتمي إلى الأمور التي تتناولها العلوم الاستعرافيّة، فإنّنا نشهد نوعاً من التداخل (3) بين حقلي الحياة الاصطناعية والعلوم الاستعرافية.

ص: 186


1- الحياة الاصطناعية (Artificial life) - وتختصر أيضاً ب- «ALife - : أحد حقول العلم الممتزجة بالفنّ، يبحث في الأنظمة المرتبطة بالحياة، وعملياتها، وتطوّرها من خلال المحاكاة باستخدام نماذج حاسوبية، أو روبوتات والكيمياء الحيوية. وهو مجال يتشابه مع علم الأحياء، ويفارقه؛ فهو يحاول إعادة صناعة الظاهرة البيولوجية وترميمها بدل محاولة عزلها. وباختصار يمكن تعريف الحياة الاصطناعية بأنها مجال يدرس البيولوجيا من زاوية تهدف إلى تصنيعها. فمعظم الباحثين في هذا المجال يعتقدون أن منتجاتنا الاصطناعية (مثل: التركيبات الكيميائية، والروبوتات لاسيّما ،الحواسيب وما شاكلها تطوّرت، وبلغت حداً من التعقيد يجعلنا نتطلّع إلى صناعة الحياة وتخليقها. وقد تأسست بدايات هذا الحقل العلمي التكنولوجي في سبتمبر 1987م على يد لانغتون الذي عرفه بالقول: «تُعنى الحياة الاصطناعية بدراسة الأنساق التي تبنيها يد الإنسان والتي تكشف عن تصرفات تتميز بها في مستقر العادة الأنساق الطبيعية الحيّة؛ فالحياة الاصطناعية مبحث يكمّل ويتمّم العلوم البيولوجيّة التقليدية التي تدرس الأجهزة العضوية الحيّة، ويسعى إلى تركيب السلوكات الشبيهة بسلوك الحيّ عن طريق استعمال الحواسيب وغيرها. [م]
2- Essential properties.
3- Overlap.

هذا وتنشعب أبحاث الحياة الاصطناعية إلى ثلاث شُعب مترابطة فيما بينها، وتتمايز من خلال نوعية الأساليب المتبعة في عملية الترميم الاصطناعية المستخدمة فيها.

أمّا شعبها الثلاثة فهي: الحياة الاصطناعية البرمجية(1)، والحياة الاصطناعية العتاديّة (2) ، والحياة الاصطناعية الرطبة (3)، وهي التي تستلهم أبحاثها من الكيمياء الحيويّة، وتقوم بتصنيع نماذجها باستخدام مواد بيوكيميائية (4).

أمّا مصطلح الحياة الاصطناعيّة فهو تعبير اقترحه العالم الأمريكي لانغتون(5).

لقد تحوّلت عمليّات المحاكاة الحاسوبية إلى أداة مهمة في مجالات بحثية وعلمية متعدّدة، ويتجلّى الدور البارز لهذه الأداة بشكل خاص في الموضوعات التي لا يمكن فيها استخدام مناهج الرياضيات التقليديّة في تحليل النظم غير الخطية (6)المعقدة جداً، أو في شأن التجارب الخطيرة المحفوفة بالمجازفة، أو التي تكون باهظة التكاليف، أو تلك التي يتعسّر تنفيذها فنيّاً. وكمثال على ذلك لو أردنا الإجابة على سؤال مفاده: كيف يمكن لمجرّتين أن يتصادما، وماذا سوف ينجم عن هذا الاصطدام؟ فإننا لن نتمكن من الحصول على ردّ من دون اللجوء إلى أسلوب المحاكاة الحاسوبية. وكذلك الحال فيما لو أردنا الإجابة على سؤال يستفسر عن ردود الأفعال التي سوف يلاقيها

ص: 187


1- Soft Artificial Life .[م]
2- Hard Artificial Life. [م]
3- Wet Artificial Life . [م]
4- Biochmical Substances.
5- كريستوفر لانغتون (Christopher Langton عالم كمبيوتر أمريكي، بادر إلى إطلاق الشرارة الأولى لأبحاث الحياة الاصطناعية عندما كان يعدّ بحثاً لنيل شهادة الدكتوراه آنذاك، وذلك خلال ندوة بلوس ألاموس في نيو میكسيكو عن موضوع تركيب الأنساق البيولوجية ومحاكاتها (Synthesis and Simulation of Biological (Systems) نُشرت أعمالها عام 1989 [م]
6- [م] . Nonlinear systems

منتج جديد يُعرض لأوّل مرّة على السوق المحليّة مثلاً، أو عن تقلبات الظروف الجويّة، فإنّ أسلوب المحاكاة الحاسوبية هو الأنجع.

واليوم، يمكن لحواسيب فائقة القوّة - مثل : الحاسوب 512 ، وهو المعالج الذي تستخدمه وكالة ناسا الفضائية لدراسة الأنواء والتقلبات الجوية، أو الحاسوب 2200 هو المعالج الذي تمتلكه جامعة فرجينيا للتقنية، وهو ثالث أسرع حاسوب في العالم - أن تلعب دوراً بارزاً وموسّعاً لتخمين آثار التقنيات المتقاربة (NBIC) وتداعياتها على البيئة. وعلى سبيل المثال يمكن الإشارة إلى الآمال الكبيرة بشأن السيطرة على مقادير غاز ثاني أكسيد الكربون المعلقة في الجو باستخدام تقنية النانو، وكذلك التقنية .الحيوية كما يمكن لأسلوب المحاكاة الحاسوبية أن يبيّن لنا مدى انطباق هذه الآمال مع الواقع أيضاً. وإنّ عمليّات المحاكاة هذه من شأنها أن تسهم في الحد من إهدار الطاقة والمواد، وأن تحول دون وقوع مخاطر قد تلوح في الأفق(1).

وبعد إلقاء نظرة على التقنيات الحديثة، يأتي دور السؤال المهم هنا؛ وهو: إذا كانت هذه التنقنيات البشرية مفيدة ، فلِمَ لم يمنحها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى للإنسان بشكل مباشر ؟ وإذا كانت غير مفيدة فلِمَ لم تتصدّى لها الحكمة الإلهية وتمنعها؟

والجواب الوجيز على هذا السؤال يمكن استخلاصه مما تقدّم على النحو التالي:

لا تختلف التقنيات الحديثة عن التقنيات القديمة في انقسامها إلى خيّرة وشرّيرة. وإنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت أن يختار الإنسان - بمحض إرادته - سلوك طريق الخير أو الشر. وقد جعل الله جَلَّ وَعَلا بقدرته سنناً طبيعية تسود هذا العالم، ويمكن للإنسان من خلال جهوده العلمية وما أتاحه له الإذن الإلهي التكويني أن يسبر أغوار هذه السنن. وهو مخيّر بحُسن إرادته أو بسوئها في أن يحوّل العلوم التي يحصل عليها

ص: 188


1- لاحظ: الموج الرابع في التنمية العلميّة التكنولوجية وتداعياتها الثقافية والاجتماعيّة في إيران علي بابا ورضا كلانتري نجاد مركز بحوث السياسة العلمية في إيران، ص 45-3 .[بالفارسية]

إلى تقنيات مفيدة أو ضارّة. ولم تتعلّق الحكمة الإلهية في أن توفّر للإنسان وتملكه مقاليد كلّ خير أو شرّ في هذا العالم، بل يجب عليه أن يحوز حقائق الكون ويتصرف فيها بعد محاولاته ومساعيه العلمية والعملية الحثيثة . ومهما يكن من أمر، فإن المهم هنا قضيّة السيطرة على السلوك البشري الحديث الذي من شأنه أن يفجّر أزمات عديدة للبشرية بأسرها، وهي المسؤولية الجسيمة التي تكفّلتها بعض العلوم الإسلامیّة في مجالات العقيدة والفقه والأخلاق .

وبناءً على ما تقدّم، كان من الممكن للحكمة الإلهية أن تُطلع الإنسان على السنن الطبيعية، أو أن تمنحه قدرة التصرّف في الطبيعة من خلال حصوله على التقنيات الحديثة، كما كان من الممكن لها أن تهديه إلى دستور إلهيّ يضمن له السيطرة على تلك التصرفات. والواقع المعاش ينبئنا بأنّ الإنسان - مع كلّ ما يعانيه من ابتعاد عن الدين الإلهيّ، وانغماس في العقل المغرور بذاته - قد توصل اليوم إلى امتلاك تقنيات حديثة، قدّمت له حلولاً ناجعة لبعض مشكلاته، إلّا أنها أودت به إلى منزلقات خطيرة جداً، وتركته في دهليز مظلم ومؤسف . وإذا ما أرادت البشريّة أن تتكامل وتتألّق، وتنأى بنفسها عن مخاطر الإفراط أو التفريط، فلا محيص لها في أخذها بحبال العقل والتجربة من التمسّك بعُرى الوحي الإلهي .

9/4/6. النظام الكونيّ الأحسن:

لا يعني النظام الأحسن إنكار النقص الذاتي في الممكنات؛ فالنقص على مستوى الذات لا ينفكّ عن الممكنات بأي حال. النظام الكونيّ الأحسن والأكمل يعني أنّ نظاماً أفضل وأكمل من النظام الذي هو موجود في عالم الممكنات غير قابل للتحقق؛ لأنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى يتصف بالفيّاضيّة، ومن اللازم أن يخلق جميع مراتب الوجود. ونظراً إلى عدله فمن الضروري أنه يضع كلّ شيء في موضعه. أما حكمته فهي تقتضي أن يكون خلقه على نحو غائي وهدفيّ (1).

ص: 189


1- لاحظ شرح كشف المراد، ص 85.

وقد ذهبت غالبيّة المتكلّمين من الإماميّة إلى أنّ الإرادة الإلهية هي علم الله عَزَّ وَجَلَّ بالمصلحة الكامنة في الأمور(1). وصرح الحكماء المسلمون بهذا المعنى أيضاً؛ حيث ذهبوا إلى أنّ إرادته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هي عين علمه بالنظام الأحسن، ويُعدّ هذا العلم منشأ الخلق العالم (2).

ومن هنا نجد الشيخ الطوسي (460ه) يقول:

الله تعالى مريد؛ بمعنى أنه يرجّح الفعل إذا علم المصلحة؛ بدليل أنه خصّص بعض الأشياء بوقت دون وقت، وشكل دون شكل (3).

ويقول الشيخ المفيد (413ه) في هذا الصدد:

الإرادة [الإلهيّة ] هنا :قسمان: إرادة لأفعال نفسه، وإرادة لأفعال عبيده، وكذا الكراهة؛ فإرادة أفعال نفسه عبارة عن علمه الموجب لوجود الفعل في وقت دون وقت ؛ بسبب اشتماله على مصلحة داعية إلى إيجاد الفعل في ذلك الوقت، دون غيره وإرادة أفعال عبيده عبارة عن طلبه إيقاعها منهم على وجه الاختيار(4).

وفي الفلسفة فإنّ الفاعل بالعناية هو الفاعل الذي يتبع فعله عمله، وعلمه بالخير المطلق يكفي في صدور الفعل من الفاعل من دون وجود دافع زائد على ذات الفاعل وفعله هو مجرد علمه بالنظام الأحسن. وبعبارة أخرى: إنّ منشأ الفاعلية الإلهيّة هو علمه بالخير المطلق، والنظام الأحسن في الوجود، وإن علمه بنظام الوجود هو عين الوجود(5).

ص: 190


1- راجع: أنوار الملكوت في شرح الياقوت ص 67؛ معجم الكتب الحديثية الشيعية، ص 69 .[بالفارسية].
2- دانشنامه ،علائي ابن سينا ص 93-97 [بالفارسية].
3- الرسائل العشر الشيخ الطوسي، ص 95 راجع أيضاً: إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، المقداد السيوري، ص 40 ومعجم الشيعة ص 69 [بالفارسية].
4- النكت الاعتقادية ،الشيخ المفيد، ط بيروت، دار المفيد، ص 18.
5- لاحظ: شرح المنظومة السبزواري، ص 112؛ الحكمة المتعالية (الأسفار)، صدر الدين الشيرازي، ص 165، و213؛ معجم المعارف الإسلامیّة، ج 3 [ بالفارسية].

ويرى العلامة المطهّري (1399ه) أنّ صفتي «العدل» و«الحكمة» صفتان مهمتان في باب الأفعال الإلهيّة. أمّا المقصود بالعدل الإلهي فهو أَنه جَلَّ وَعَلا لا يُهمل أيّ استحقاق أو أهليّة لأيّ موجود، ويعطي كل ذي حق حقه. وأما المراد من حكمته فهو أنّ نظام الخلق هو النظام الأحسن والأصلح؛ أي: أفضل نظام ممكن على الإطلاق(1).

إنّ العالم في أفق الرؤية الكونية التوحيديّة الإسلامیّة هو مخلوق من خلق الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، وإنّ العناية والمشيئة الربانية هي التي تحافظ عليه وترعاه، وإذا تخلّت تلك العناية الإلهية عن العالم - ولو للحظة - لتلاشى واندثر وهو سُبحَانَهُ وَتَعَالى لم يخلق هذا الكون باطلاً، أو لعباً، أو عبثاً، بل لأجل أهداف حكيمة هي التي تقف وراء خلق العالم والإنسان، ولم يُخلق في هذا العالم أيّ شيء فاقد للحكمة، أو في غير محله، وإنّ النظام الموجود هو النظام الأحسن والأكمل، والعالم قائم على العدل والحق. وقد خلق هذا الكون على أساس من الأسباب والمسبّبات ويجب العثور على أي نتيجة حاصلة من خلال أسابها ومقدّماتها التي تخصها، ولا ينتج عن أي مقدّمة أو سبب سوى النتيجة والمسبب الخاص بها. فالقضاء والقدر الإلهيّان لا يوجدان أي شيء إلا من خلال مجرى علته الخاصة به والقضاء والقدر الإلهيان لشيء ما هما عين القضاء والقدر لسلسلة علله (2).

10/4/6 .فلسفة خلق الإنسان والعالم:

يمثل البحث عن فلسفة الخلق، والسؤال عن هدفيّة الفعل الإلهي أو عدمها، أحد القضايا المركزية التي يعالجها باب الإلهيات في علم الكلام والهدف أو الغرض أو الغاية يعني: الفائدة التي تترتب على الفعل. ومن زاوية فلسفية فإنّ العلة الغائية هي : العلم والإرادة التي تتعلق بالفائدة والكمال المترتبين على الفعل.

ص: 191


1- الأعمال الكاملة، المطهري، ج 2، ص 149. [بالفارسية].
2- الأعمال الكاملة المطهري، ج 2، ص 87، 149 . [بالفارسية].

ومن الجدير بالتنويه به هنا ما يلي:

1 . تنطوي الأفعال الإرادية والاختيارية على غايات وعلل غائية؛ بمعنى أنّ الفاعل يعلم بالفائدة والكمال المترتبين على الفعل، ويريده، كما أنّ الفعل ذاته ينطوي على غاية وفائدة في مقام التحقق أيضاً؛ سواء كانت هذه الغاية أو تلك الفائدة هي ذاتها التي أرادها الفاعل، أم لا، وسواء كانت عقلانية، أو غير عقلانية.

2 . ما من شكّ في أنّ الأهداف تنقسم من ناحية طولية إلى: أهداف بدائية، ومتوسطة ونهائية. بيد أنّ الهدف النهائي في الحقيقة أمر واحد. أما الأمور الأخرى فهي ترد بوصفها أموراً معدة ،وممهدة، أو من مستلزمات الهدف النهائي؛ فعلى سبيل المثال : إذا وضع الطالب في مسيرة تحصيله العلمي غاية كبرى تتمثل في نيله مرتبة الدكتواره أو الأستاذية في الجامعة مثلاً، فلا مراء في ضرورة طيّه لجميع المقدّمات والمراحل الدراسية والتحصيلية التي تسبق ذلك، فتكون الدكتوراه أو الأستاذية الهدف النهائي، وتمثل المقدّمات والمراحل الدراسية التي تسبقها الأرضية عندئذٍ هي التي تحقق ذلك الهدف النهائي.

3 . من المعتاد أن ينبري الإنسان لتلبية احتياجات نفسه وقواه التي يتحلى بها؛ بمعنى أن الفاعل المختار أياً كان يقوم بتصوّر الهدف أولاً، ثمّ يمضي في إرضاء إحدى غرائزه الشهوية أو الغضبية أو العقلية، أو أحاسيسه وعواطفه، وما شاكل ذلك.

4 . يدلّ وجود الهدف على النقص، والسعي نحو كسب الكمال عند الفاعل، وبهذا المعنى يستحيل فرض هدف أو غاية الله عَزَّ وَجَلَّ ؛ لأنه هو الكمال المحض، وقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَالله هُوَ الْغَنِيُّ ) (1).

ومن هنا، فإنّ الأفعال الإلهية ليست معلّلة بالأغراض، لكن انعدام الهدف بهذا

ص: 192


1- سورة فاطر: 15 .

المعنى لا يستلزم العبثية أو اللغوية وانعدام الحكمة في الأفعال الإلهية؛ لأنّ المسلوب عن الله جَلَّ وَعَلا هنا هو الغرض بمعناه البشريّ الذي يدلّ على تلبية حاجة الإنسان، ولا ضير في فرض الهدف لفعله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بمعنى آخر مغاير لذاك.

وقد أجاب بعض المتکلّمین على هذا السؤال بتصنيفهم الهدف إلى ضربين: فاعلي، وفعليّ. أمّا الهدف الفاعلي منسوب (للفاعل فهو الذي يضعه الفاعل نصب عينيه لرفع نقص فيه، ولأجل بلوغ مرتبة من الكمال، وأمّا الهدف الفعلي (منسوب للفعل) فهو ما يتناوله الفاعل من أجل رفع النقص عن فعله، ولا يترتب عليه أي منفعة ذاتيّة تعود للفاعل؛ كما هو حال المعلّم الذي يدرّس تلاميذه من دون مقابل، ولا يستهدف في فعله إلا رقيهم وتنامي معارفهم . وإذا كان الله تَبَارَكَ وَتَعَالى لا يصح فيه الهدف الفاعلي، فلا ضير في تصوّر هدف فعلي له.

في المحصلة نقول : الهدف الإلهي من خلق العالم هو إيصال المخلوقات إلى الكمال. ولا يخفى على أهل التحقيق أن تلبس الكائنات الممكنة بجلباب الوجود، وخروجها من دائرة العدم هو كمال في حدّ ذاته يحصل عليه كلّ مخلوق بمجرد تنعمه بنعمة الوجود وبعد استحصال الموجودات المختارة لكمال الوجود بوصفه هدفاً بدائيّاً للخلق، تتحلّى هذه المخلوقات بأهداف متوسطة ونهائيّة؛ أي أنها تمضي في مسيرة استكمالية متواصلة. ويمكن لسائر الموجودات أيضاً أن يكون لها أهدافاً أخرى تصبّ في دائرة الابتلاء والاختبار الإلهي للإنسان. ولم يكتف بعض الفلاسفة بهذا القدر فذهبوا إلى أن إيصال المخلوقات إلى الكمال هدف متوسط، ينتظر منا هو الآخر إجابة لنعرف العلة الغائية له، والجواب عندهم: إنّ ذات الله عَزَّ وَجَلَّ - أو قل: ألوهيته وربوبيته - تستلزم إيصال مدّ المخلوقات بما ينفعهم؛ بمعنى أنّ الرحمة الإلهية المطلقة التي هي عين ذاته تقتضي هداية المخلوقات إلى كمالها. وبذلك، تكون العلة الغائية قد عادت إلى أمر هو من لوازم الذات الإلهية.

ص: 193

أمّا الآن وبعد أن تبيّنا شرحاً عقليّاً لمعنى الغائيّة في الفعل الإلهي فقد وصل الدور لإلقاء نظرة فاحصة على ما يمدنا به الوحي الإلهي من إضاءات تنير لنا الدرب في طريق معارفنا، وتعطّر لنا أجواء السير إلى فناء الحب الإلهي.

وقد ورد في القرآن الكريم بخصوص الهدفية والغائية في عالم الخلق آيات عديدة ومتنوعة نذكّر بها حسب الترتيب التالي :

1 . الآيات التي تشير إلى صفة «الحكمة»، وتتناول الاسم الإلهي «الحكيم» بوصفه أحد الأسماء الحسنى لله جَلَّ وَعَلا ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (1)، ﴿ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (2) ،(وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحَمْتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابُ حَكِيمٌ ﴾(3)، (ولا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدِ) (4).

2 . الآيات التي تبيّن أهداف خلق العالم والكائنات؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )(5)، والمقصود في هذه الآية الكريمة أن هدف خلق الإنسان هو بلوغه الكمال، وأن هذا الهدف متوقف على وجود عالم الطبيعة والسماوات والأرض والابتلاء والاختبار؛ وبالتالي فإنّ المشروع الإلهي ينطوي على هدف نهائي واحد، وأنّ تحققه يجري من خلال ذلك.

ويقول تعالى أيضاً: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (6) ، (إنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (7)، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ﴾(8) ، ﴿وَإِلَيْهِ

ص: 194


1- سورة البقرة : 220 .
2- سورة النساء: 26 .
3- سورة النور: 10 .
4- سورة فصلت: 42.
5- سورة هود: 7 .
6- سورة الكهف: 7 .
7- سورة العلق: 8 .
8- سورة الذاريات: 56.

يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ﴾(1) ، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾(2)، (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَام )(3)، (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالأَخِرَةِ)(4) ، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ (5) .

وبيان الآيتين الأخيرتين بالنظر إلى العلم الذاتي واللامحدود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ صفاته على ضربين : ذاتيّة وفعليّة . والبعض من صفاته يمكن فيه هذين المعنيين؛ أي أنّ صفة واحدة تكون ذاتية بمعنى، وفعليّة بمعنى آخر. فإذا تصوّرنا «الإرادة الإلهية» مثلاً بملاحظة الفعل الإلهي كانت هذه الصفة فعلية، وإذا تصوّرناها بملاحظة العلم الإلهي، بعيداً عن الأفعال، فإنّ هذه الصفة تُعدّ ذاتيّة. و«العلم الإلهي» نفسه يكون صفة فعليّة إذا كان المعنى حضور العمل عند الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وبناءً على ذلك: فإنّ معنى الآيتين أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ قد خلق الشيطان من أجل أن يحضر إيمانكم وعملكم الله بصورة فعليّة؛ لا أنه جَلَّ وَعَلا قبل تحقق الفعل، لم يكن يعلم بوجود الفعل أو طبيعته، وأنه احتاج لرفع جهله إلى الابتلاء والاختبار، بل إن تحقق الأعمال وحضورها بين يديه بشكل فعلي أمر له أهميّته وموضوعيّته عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى

3 . الآيات التي أنكرت العبثية في الخلق، ونزّهت الباري عَزَّ وَجَلَّ عن اللهو واللعب، مصرحةً بحقانية عالم الخلق. يقول تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً) (6)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)(7)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ هُوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾(8)،

ص: 195


1- سورة هود: 123 .
2- سورة البقرة: 29.
3- سورة الرحمن: 10 .
4- سورة سبأ: 21 .
5- سورة محمد: 31 .
6- سورة المؤمنون: 115 .
7- سورة الدخان: 38 .
8- سورة الأنبياء: 16-17 .

﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ)(1) ، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾(2).

4. الآيات التي أشارت إلى هدف خلق الإنسان؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(3) ،( وَاعْبُدُ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين ﴾(4) ، ﴿أَلهاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجُحِيمَ ﴾(5) ، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾(6). وقد ظنّ الكثير من الكتاب والباحثين أنّ هذه الآيات قد حاولت رسم الأهداف الإلهية وترتيبها بتسلسل ينطلق من الأهداف البدائية، ويمر بالأهداف المتوسطة، ليصل إلى الهدف النهائي، لكنّ كاتب هذه السطور يرى أن الآيات واضحة في إشارتها إلى الهدف النهائي والحقيقي لخلق الإنسان؛ ألا وهو العبودية. وإنّ اليقين أو القرب واللقاء الإلهي إنّما تُعدّ من لوازم العبودية.

11/4/6. فلسفة خلق الشيطان:

واقع «الشيطان» - أو الكائن المسمّى ب«إبليس» - هو انتماؤه إلى «الجنّ». وقد شملت فيّاضيّة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إبليس لتخرجه من دائرة العدم إلى الوجود. وقد انخرط هذا المخلوق في سلك العابدين الله عَزَّ وَجَلَّ، ثمّ شاء بإرادته واختياره وبسبب الحسد الذي اعتراه أن يتمرّد على الأمر الإلهيّ، وهذا ما أدى به إلى أن يغدو كافراً وشيطاناً.

ص: 196


1- سورة الأنعام: 73.
2- سورة ص: 27.
3- سورة الذاريات: 56 .
4- سورة الحجر: 99.
5- سورة التكاثر: 1-6 .
6- سورة الانشقاق: 6 .

وبناءً على ذلك، فإنّ المقولة التي تزعم أنّ الشيطان» مرتبة من مراتب وجود الإنسان لا أساس لها من الصحّة .

يقول الفيض الكاشاني (1091ه) في هذا الصدد:

قال بعض أهل المعرفة : اعلم أنّ النفس والشيطان والملك ليست أشياء خارجة عنك، بل أنت هم؛ وكذلك السماء والأرض والعرش والكرسي، ليست أشياء خارجة عنك، ولا الجنّة والنار؛ إنّما هي أشياء فيك (1).

هذا ، ويؤمن المفكّرون الإسلاميون تبعاً لما استنبطوه من الكتاب والسنة بوجود كائنات واقعية خارج خيال الإنسان وغرائزه، قد تتسمّى ب«الجنّ» أحياناً أو «الشيطان» في أحيان أخرى. ويمكن تصنيف الآيات التي تطرّقت هذا الموضوع على النحو التالي:

1 . الآيات التي تبيّن أنّ المنشأ المادّيّ لإبليس، وأنّ ماهية الجن والشيطان هو النار؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَالجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ﴾(2)، ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ )(3).

2 . الآيات التي تصف إبليس بأنه من الجنّ؛ مثل قوله تعالى: ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجنَّ )(4) .

3 . الآيات التي تصف إبليس بأنه كافر ومستكبر؛ مثل قوله تعالى: ﴿فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )(5). وحسبما تقصه لنا آيات القرآن الكريم (6)

ص: 197


1- الفيض الكاشاني، أنوار الحكمة: 372 .
2- سورة الحجر: 27.
3- سورة الرحمن: 15 .
4- سورة الكهف: 50 .
5- سورة البقرة: 34 .
6- راجع الآيات التالية: سورة التحريم: 6 ؛ النحل: 49؛ الأنبياء: 19.

فإنّ الملائكة لم تتورّط في المعصية أو تمارس الاستكبار ، لكنّ إبليس اختار بإعراضه عن السجود لآدم المعصية، وانخرط في زمرة المستكبرين.

وقد صرّحت أحاديث شريفة متعدّدة(1) رويت عن أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) بوجودِ واقعي خارجي للشيطان، وأنه من الجنّ؛ منها : ما رواه علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، أنّ الإمام الصادق (علیه السّلام) قال:

«فَإِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ يَعْبُدُ الله، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَظُنُّ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ. فَلَمَّا أَمَرَ الله الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، أَخْرَجَ مَا كَانَ فِي قَلْبِ إِبْلِيسَ مِنَ الْحَسَدِ، فَعَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ ... كَانَ إِبْلِيسُ مِنْهُمْ بِالْوَلَاءِ؛ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَة ) (2) .

وعلي بن إبراهيم ثقة في الرواية، أما ابن أبي عمير، وجميل بن دراج فهما من أصحاب الإجماع (3). ويروي ابن درّاج في رواية أخرى عن الإمام الصادق (علیه السّلام) قوله :

«سَأَلْتُهُ عَنْ إِبْلِيسَ أَكَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ أَوْ هَلْ كَانَ يَلِي شَيْئاً مِنْ أَمْرِ السَّمَاءِ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَلي شَيْئاً مِنْ أَمْرِ السَّمَاءِ، وَكَانَ مِنَ الْجِنِّ، وَكَانَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَرَى أَنَّهُ مِنْهَا، وَكَانَ الله يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا (4).

12/4/6. حكمة وجود الشيطان:

يقول العلامة الطباطبائي (1402ه) في شأن فلسفة خلق الشيطان:

عاد موضوع إبليس موضوعاً مبتذلاً عندنا لا يُعبأ به، دون أن نذكره أحياناً

ص: 198


1- راجع الأحاديث التالية: بحار الأنوار، ج 63، الصفحات : 212 ، 217، 220، 229، 234، 249، 259، 262، 273.
2- بحار الأنوار (ط بيروت)، ج63، ص 234 .
3- كليات في علم الرجال جعفر السبحاني، ص 177.
4- بحار الأنوار (ط) بيروت)، ج63، ص 218.

ونلعنه، أو نتعوّذ بالله منه، أو نقبّح بعض أفكارنا بأنها من الأفكار الشيطانية ووساوسه ونزغاته، دون أن نتدبّر، فنحصل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب الغائب عن حواسنا، وما له من عجيب التصرّف والولاية في العالم الإنسانيّ. وكيف لا وهو يصاحب العالم الإنسانيّ على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود، حتّى ينقضي أجله، وينقرض بانطواء بساط الدنيا، ثمّ يلازمه بعد الممات، ثم يكون قرينه، حتّى يورده النار الخالدة. وهو مع الواحد منا كما هو مع غيره؛ هو معه في علانيته وسره يجاريه كلّما جرى، حتى في أخفى خيال يتخيّله في زاوية من زوايا ذهنه، أو فكرة يواريها في مطاوي سريرته، لا يحجبه عنه حاجب، ولا يغفل عنه بشغل شاغل . وأما الباحثون منا، فقد أهملوا البحث عن ذلك، وبنوا على ما بنى عليه باحثو الصدر الأوّل، سالكين ما خطّوا لهم من طريق البحث ؛ وهي النظريات الساذجة التي تلوح للأفهام العامّيّة لأوّل مرّة، تلقوا الكلام الإلهي، ثمّ التخاصم في ما يهتدي إليه فهم كلّ طائفة خاصة والتحصن فيه، ثمّ الدفاع عنه بأنواع الجدال، والاشتغال بإحصاء إشكالات القصّة، وتقرير السؤال والجواب بالوجه بعد الوجه(1).

والسؤال المركزي هنا يدور حول سبب خلق الله جَلَّ وَعَلا لإبليس؛ لماذا خلقه رغم علمه بأنه سيغدو شيطاناً مريداً، يغوي الإنسان ويخدعه؟! هنالك أوجه وأسباب عديدة تفسّر لنا الحكمة من خلق الشيطان، نعرض لها فيما يلي:

1 . الوجه الكلامي أثبتت الأدلّة العقلية والنقليّة أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حكيم. عليه فإن جميع أفعاله تصدر وفقاً لحكمة معيّنة. ولأجل ذلك، أكّد القرآن الكريم على نفي البطلان والعبثية في خلق السماوات والأرض وما بينهما (2). وعليه: فإن خلق الشيطان بوصفه واحداً من مخلوقات الله تَبَارَكَ وَتَعَالى هو الآخر ينطوي على حكمة؛ وإن لم يقف البشر على وجهها.

ص: 199


1- الميزان في تفسير القرآن الطباطبائي، ج 8، ص: 36.
2- راجع الآيات التالية: سورة الأنبياء: 16 الدخان: 38؛ ص: 27.

يقول صدر الدين الشيرازي (1050ه) في هذا الصدد:

اعلم أنّ الله في كلّ مخلوق حكمة ومصلحة وإلّا لم يوجد؛ لاستحالة العبث والقبح في فعله، والإهمال والتعطيل في إيجاده، وأنّ الإنسان كما ينتفع من إلهام الملك كذلك ينتفع بوجه من وسوسة الشيطان(1).

ينبغي أن يُعلم أن الله في كلّ ما يفعله، أو يأمره، أو يأمر به حكمة، بل حكماً كثيرةً؛ لأنه تعالى منزّه عن فعل العبث والاتفاق والجزاف؛ وإن خفي علينا وجه الحكمة في كثير من الأمور على التفصيل، بعد أن علمنا القانون الكلّيّ في ذلك على الإجمال؛ وخفاء الشيء علينا لا يوجب انتفاءه(2).

فإن قلت : فما الحكمة في إيجاد مثل الشيطان، وتسلّطه على أفراد الإنسان، حتى أغوى كثيراً منهم، وأهلكهم، وأوقعهم في سخط الله وغضبه ؟! قلنا: الحكمة فيها كثيرة، لا يحيط بها إلّا الله (3).

ولعلّ إحدى تلك الحِكَم الإلهيّة أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ لم يخلق الشيطان بطبيعة ذميمة أو ماهيّة شريرة، بل خلقه كموجود قابل للتكامل، وقد أغدق عليه من هدايته، لكنّ الشيطان اختار أن يسلك طريق الشرّ والانحراف والدليل على أن ماهيّته لم تكن شريرة اشتغاله بالتسبيح والتقديس الله جَلّ وَعَلا لسنوات طوال، حاله في ذلك حال فرعون، أو حال عبدالرحمن بن ملجم ؛ إذ لم يخلقها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بسجيّة أو طبيعة ذميمة، بل كانا مؤهلين للرقي والتكامل الإنسانيّ، لكنّ سوء اختيارهما أودى بهما في هاوية الانحراف(4). لقد وهب الله تَبَارَكَ وَتَعَالى لإبليس عقلا وفها يستعين به

ص: 200


1- مفاتيح الغيب، ص 165.
2- مجموعة الرسائل الفلسفيّة لصدر المتألهين، ص 350 .
3- تفسير القرآن الكريم، صدر الدين الشيرازي، ج 5، ص 245.
4- لاحظ: تفسير النور محسن قرائتي، ج 4، ص 37.

في تمييز الخير عن الشر، ثمّ أمره ونهاه لكنّه حاد عن جادة التقوى، واتبع هوى نفسه فغوی(1).

هذا، ويرى صدر الدين الشيرازي أنّ وجود الشيطان ينطوي أيضاً على فائدة أخرى، تتمثل في الرقي العلمي؛ فوجوده يفضي إلى ذلك. يقول :

كما ينتفع الإنسان من إلهام الملك، قد ينتفع من وسوسة الشيطان؛ فإنّ اتباع الشيطان وأهل الضلال كلّهم تبعة الوهم والخيال ولو لم يكن أوهام المعطلين، وخيالات المتفلسفين والدهريين، وسائر أولياء الطاغوت ومراتب جربزتهم، وفنون اعوجاجاتهم وضلالاتهم وانحرافاتهم وخيالاتهم لما انبعثوا أولياء الله في طلب البراهين، لبيان علّة حدوث العالم على نهج الكشف واليقين. وهكذا في الأعمال؛ لو لم يكن اغتياب المغتابين وتجسّس المتجسّسين بعيوب الناس، لم يجتنب الإنسان كلّ الاجتناب من العيوب الخفية، التي قد لا يراها الأصدقاء، وإنّما يظهر لهم تحققها من تدقيقات الأعداء، وفحصهم والتماسهم ظهورها عليه وعلى غيره. فكم من عدوّ انتفع العبد من عداوته أكثر مما ينتفع من محبّة الصديق ؛ فإنّ المحبّة مما تورث الغفلة عن عيوب المحبوب، والعمى عن رؤية نقائصه، والصمم عن سماع مثالبه. ومن هاهنا، يظهر أنّ لوجود الأفاعيل الشيطانية - كإظهار العداوة والبغضاء والحسد والغدر من الأعداء - فوائد كثيرة عائدة إلى المؤمنين(2).

وبعبارة أخرى: لا يبلغ الإنسان المراتب العليا من الكمال من دون مواجهته لموانع عديدة تعترض طريقه، فيزيحها جانباً ويواصل مسيره إلى الأمام. ولا يتسنّى للإنسان أن يسمو ويتعالى من دون أن تتحدّاه الوساوس الشيطانية، لكنّه بالاتكال على الله عَزَّ وَجَلَّ، وبتوظيفه الصحيح لما يمتلكه من قوة الاختيار، يتجاوز ذلك ويتقدم بخطواته

ص: 201


1- انظر رسائل العدل والتوحيد يحيى بن الحسين، ص 128.
2- تفسير القرآن الكريم، صدر الدين الشيرازي، ج 5، ص 245.

الواثقة نحو الهدف السامي في حياته. وإذا لم يكن أمام الإنسان أي تهديد لوساوس الشيطان، أو أي أثر لإلقاءات النفس الأمارة بالسوء، فماذا يعني التكامل إذن؟!(1)

ويقول صاحب «الرياض» السيد علي خان المدني (1120ه) في هذا الصدد:

وأما الشبهة الخامسة ؛ وهي السؤال عن فائدة تمكين الشيطان من الدخول إلى آدم في الجنّة ... فالجواب عنها : أنّ الحكمة في ذلك والمنفعة عظيمة، فإنّه لو بقي في الجنّة أبداً لكان بقي هو وحده في منزلته التي كان عليها في أوّل الفطرة، من غير استكمال واكتساب فطرة أخرى فوق الأولى، وإذا هبط إلى الأرض خرج من صلبه أولاد لا تحصى، يعبدون الله ويطيعونه إلى يوم القيامة، ويرتقي منهم عدد كثير في كلّ زمان إلى درجات الجنان بقوّتي العلم والعبادة (2).

2 . الوجه النقلى أجابت أحاديث شريفة متعدّدة وردت عن أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) عن شبهة الحكمة من خلق إبليس، فأشاروا إلى أنّ إبليس كان من الجنّ، وقد خلقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى كباقي الجنّ ليبلغ مرتبة الكمال في العبودية، لكنه تمرّد عن أمر ربه بمحض اختياره فاكتوى بنار الحسد التي استعرت في وجوده تجاه المقام الذي بلغه آدم (علیه السّلام) ، وأن عبادته أو عصيانه لا ترد بنفع أو ضرر على الله جَلَّ وَعَلا، كما أنّ سلطانه على الناس لا يتجاوز كونه وسوسةً يلقيها في روعهم. يروي هشام بن الحكم عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال:

«سَأَلَ الزِّنْدِيقُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السّلام) فَقَالَ أَفَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ لِنَفْسِهِ عَدُوّاً وَقَدْ كَانَ وَلَا عَدُوَّ لَهُ فَخَلَقَ كَمَا زَعَمْتَ إِبْلِيسَ فَسَلَّطَهُ عَلَى عَبِيدِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى خِلَافِ طَاعَتِهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِمَعْصِيَتِهِ وَجَعَلَ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ كَمَا زَعَمْتَ يَصِلُ بلُطفِ الحِيلَةِ إلَى قُلُوبهمْ فَيُوَسْوِسُ إِلَيْهِمْ فَيُشَكِّكُهُمْ فِي رَبِّهِمْ وَيَلْبِسُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ فَيُزِيلُهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ حَتَّى

ص: 202


1- أسس معرفة الإنسان في القرآن الكريم عبدالله نصري، ص 351 . (بالفارسية)
2- رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين: 184/3.

أَنْكَرَ قَوْمٌ مَّا وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ رُبُويَّتَهُ وَعَبَدُوا سِوَاهُ فَلِمَ سَلَّطَ عَدُوَّهُ عَلَى عَبِيدِهِ وَجَعَلَ لَهُ السَّبِيلَ إِلَى إِغْوَائِهِمْ قَالَ إِنَّ هَذَا الْعَدُوّ الَّذِي ذَكَرْتَ لَا يَضُرُّهُ عَدَاوَتُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ وَلَايَتُهُ وَعَدَاوَتُهُ لَا تَنْقُصُ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئاً وَوَلَايَتُهُ لَا تَزِيدُ فِيهِ شَيْئاً وَإِنَّمَا يُتَّقَى الْعَدُوُّ إِذَا كَانَ في قُوَّةٍ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ إِنْ هَمَّ بِمِلْكِ أَخَذَهُ أَوْ بِسُلْطَانٍ فَهَرَهُ فَأَمَّا إِبْلِيسُ فَعَبْدٌ خَلَقَهُ لِيَعْبُدَهُ وَيُوَحدَهُ وَقَدْ عَلِمَ حِينَ خَلَقَهُ مَا هُوَ وَإِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَعْبُدُهُ مَعَ مَلَائِكَتِهِ حَتَّى امْتَحَنَهُ بِسُجُودِ آدَمَ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ حَسَداً وَشَقَاوَةً غَلَبَتْ عَلَيْهِ فَلَعَنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ عَنْ صُفُوفِ المَلَائِكَةِ وَأَنْزَلَهُ إِلَى الْأَرْضِ مَلْعُوناً مَدْحُوراً فَصَارَ عَدُوّ آدَمَ وَوُلْدِهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ وَمَا لَهُ مِنَ السَّلْطَنَةِ عَلَى وُلْدِهِ إِلَّا الْوَسْوَسَةَ وَالدُّعَاءَ إِلَى غَيْرِ السَّبِيل وَقَدْ أَقَر مَعَ مَعْصِيَتِهِ لِرَبِّهِ بِرُبُوبِيَّتِه» (1).

والسؤال المركزي الآخر الذي قد يخطر بالبال من قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إِلَى يَومِ الْوَقْتِ المَعْلُومِ ﴾(2) هو السبب في منحه هذه المهلة ليمضي في خداع الناس وإضلالهم؟ والجواب : أنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى قد أمهله إلى يوم القيامة على أساس من قوله: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) (3)، وقوله أَيضاً: ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُردْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا )(4).

ويروي الشيخ الصدوق (381ه) عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى بن علي بن حسان عن علي بن عطية، قال:

قال أبو عبد الله(علیه السّلام): إنّ إبليس عبد الله في السماء سبعة آلاف سنة في ركعتين، فأعطاه الله ما أعطاه ثواباً له بعبادته»(5).

ص: 203


1- بحار الأنوار (ط) - بيروت)، ج 60، ص 234 .
2- سورة الحجر: 38-37 .
3- سورة الكهف: 30 .
4- سورة آل عمران: 145 .
5- علل الشرائع، ج 2، ص 213؛ بحار الأنوار، ج 63، ص 240.

ويروي أيضاً عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن الحسن بن عطية، قال:

«قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): حدثني كيف قال الله لإبليس: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى الْوَقْتِ المَعْلُوم ) ؟ قال : لشيء كان تقدّم شكره عليه، قلت: وما هو ؟ قال: ركعتان ركعهما في السماء في ألفي سنة، أو في أربعة آلاف سنة»(1).

وفي رواية أخرى:

فقال الله تبارك وتعالى: ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَحِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)(2) قال إبليس: يارب فكيف وأنت العدل الذي لا تجور؟! فثواب عملي بطل ؟ قال : لا ؛ ولكن سلني من أمر الدنيا ما شئت ثواباً لعملك أعطك، فأوّل ما سأل البقاء إلى يوم الدين، فقال الله: قد أعطيتك»(3).

13/4/6 تبرير الشرور في الكون:

السؤال عن أسباب حدوث الشرور في العالم، وكيفية التخلّص منها هو أحد أعرق الأسئلة التي اعترضت طريق الإنسان منذ القدم؛ بغضّ النظر عن دينه أو معتقده. وهي قضيّة تناولها معظم المفكرين بالبحث والدراسة، بل هي مسألة تستوقف كلّ إنسان في مسيرته التكاملية فكرياً وعقليّاً.

لقد ارتبطت مشكلة الشرور هذه في الشرق والغرب بعدد من القضايا العقائدية الجادّة، وأسفرت عن تبلور فلسفات ونزعات مادّيّة، وثنوية، وتشاؤمية، وما يُسمّى بلاهوت الصيرورة(4). وما زالت هذه المشكلة تمثّل إحدى أبرز المسائل الأساسية في

ص: 204


1- المصدران السابقان؛ علل الشرائع، ص 212 .
2- سورة الحجر: 34-35 .
3- بحار الأنوار، ج 63، ص 274.
4- [م] .Process Theology

فلسفة الدين والكلام واللاهوت؛ حيث يتساءل فيها عن كيفية التوفيق بين حدوث الشرور والآلام في العالم وصفات إلهية مثل القدرة والعلم والخيريّة المطلقة، والعدل، والحكمة الإلهية.

من هنا، فإنّ فك رموز هذه المسألة وسير أغوارها بما ينسجم مع القضايا الدینیّة المسلّمة أمر مهم وحيوي، ولا يستهان به، لا سيّما أنّ أيّ إخفاق تقع فيه المنظومات الفكرية المنتمية للأديان الإلهية (الإسلام والنصرانية واليهودية) ضمن سعيها لتقديم عرض معقلن في هذا الصدد من شأنه أن يُلحق أضراراً جسيمةً في إيمان الناس، وتعرّضهم لأخطار فادحة.

14/4/6. نطاق البحث في قضية الشرور:

ترتبط قضية الشرور والآلام بمجموعة من المعتقدات الأساسية من جهات متنوّعة، وقد أفضت نتائج البحث فيها إلى شبهات مختلفة. وهنان يمكن الإشارة إلى بعض المعتقدات المرتبطة بهذه المسألة:

1. وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى : فقد طرحت قضية العلاقة بين الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ ووجود الآلام والشرور على طاولة البحث بقوّة في دراسات فلسفة الدين والعلوم اللاهوتية المعاصرة في الغرب. وقد تشبّث البعض في محاولاته لإبطال المعتقدات الدینیّة وعلى رأسها الإيمان بوجود الله جَلَّ وَعَلا ساعياً إلى إنكار عقلانيّتها ببعض التقارير المنطقية عن هذه المسألة؛ منهم على سبيل المثال جون ليزلي ماكي (1) : (1981م) الذي زعم بوجود مفارقة بين الإيمان بإله قادر مطلق وعالم مطلق، وخيّر مطلق من جهة، وبين وجود الآلام والشرور في العالم من جهة أخرى(2).

ص: 205


1- John Leslie Mackie. [م]
2- الكلام الجديد عبدالحسین خسروبناه ص 76 .[بالفارسية ]

2 .التوحيد الإلهي والسؤال المطروح هنا هو : هل يتلاءم القول بوجود الشرور التي تقابل الخير مع القول بوحدانية المبدأ والخالق؟ وقد أدّى العجز عن حلّ هذه الإشكالية إلى ظهور الثنوية، والإيمان بإله الخير (يزدان) وإله الشرّ (أهريمن)، أو إله النور وإله الظلمة .

3 . القدرة الإلهية المطلقة : لماذا لا يقوم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مع كلّ ما يملكه من قدرة مطلقة بدفع الشرور أو رفعها؟ وكيف التوفيق بين وجود هذه الشرور وصفة القدرة الإلهية المطلقة على تبديد أي مكروه؟ وقد أدّى العجز عن حلّ هذه المسألة عند أصحاب النزعة المسماة بلاهوت الصيرورة في الغرب إلى القول بأنّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكامل بنحو تدريجي على مر الزمن، وزعموا أنّ امتلاك مزيد من العلم والقدرة من شأنه التسبيب في التغلب على النوائب والصعاب شيئاً فشيئاً، والحد من ازديادها، وتقليلها إلى مستويات متدنية جداً.

.4 . العدل الإلهي والسؤال هنا : هل يمكن الإذعان بوجود شرور طبيعية، والبقاء على الإيمان بالعدل الإلهي؟ لقد أدّى إنكار الأشاعرة للحسن والقبح الذاتيين في الأفعال، ونفي قدرة العقل على تحديد الحسن والقبيح إلى إنكار صفة العدل في الله عَزَّ وَجَلَّ وَجَلَ؛ بما يعني عدم وجود معيار عقلانيّ توزن به الأفعال جميعاً؛ بما فيها: الفعل الإلهي، حتى خلصوا إلى القول بأنّ كلّ ما يصنعه الحبيب جميل». وفي المحصلة: إذا انعدم الحسن و القبح الذاتيان والعقليان فكيف يمكن الحديث عن خير أو شر؟ فكلّ الأفعال مستند إلى الله جَلَّ وَعَلا، وكلّ ما يفعله الربّ خير؛ فلا وجود - إذن - للشر.

5 . الرحمة والخير الإلهيّان وهنا يتساءلون: كيف يصح في ربّ رحيم وخيّر مطلق أن يجوّز حدوث أو ظهور كلّ هذه الشرور ؟!

6 .الحكمة الإلهية والسؤال فيها : ألا تتقاطع الشرور في الكون وتتنافى مع الحكمة الإلهية، والهدفية التي أثبتناها له تَبَارَكَ وَتَعَالَى ؟!

ص: 206

7. القضاء الإلهي والعناية الربانية : وهنا يُقال : كيف يمكن للشرور أن تقتحم حريم القضاء الإلهي والعناية الربانية؟ أليسا يقتضيان تحقق الخير في العالم؟ أم أنهما يقتضيان وقوع الشر فيه ؟!

8. النظام الأحسن في الكون والشبهة المطروحة هنا حول كيفية التوفيق بين وجود الشرور والآلام ووجود النظام الأحسن؛ فإذا كان عالم الطبيعة هذا هو أحسن عالم يمكن له أن يرى النور ، فلِمَ - إذن - خُلق بنحو لا ينفك فيه عن الشرور ؟! وقد أفضى العجز عن إيجاد حل لهذه المسألة لى نشوء فلسفات تشاؤمية؛ مثل: فلسفة شوبنهاور(1) (1860م).

وحصيلة البحث هنا أنّ خيوط مشكة الآلام والشرور قد تشابكت مع خيوط البحث عن أصل وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى تارةً، ومع التوحيد بصفته أهم الصفات الإلهية تارةً أخرى، ومع بعض الصفات الإلهية الأخرى ثالثةً، وقد فتحت في كلّ ميدان منها جبهة يجب الخوض فيها بحثاً ودراسةً؛ لما تتحلّى به من ضرورة وأهميّة.

15/4/6. أنواع الشرور:

يمكن تصنيف الشرور بنحو عام إلى نوعين رئيسين:

.1 الشرور الإرادية (الأخلاقية): وهي الشرور التي تنتج عن سوء اختيار الإنسان، وانحطاطه الأخلاقي؛ كما في ما يقترفه من قتل أو نهب أو ظلم أو سرقة أو ما شابه ذلك.

2. الشرور غير الإرادية (الطبيعية): وهي النوائب والصعاب التي تنجم عمّا تفرضه الطبيعة ،وتقلباتها، أو التي تنشأ من تفاعل بعض أجزاء الطبيعة مع بعضها الآخر؛ مثل: السيول، والزلازل، والأوبئة، والأمراض، وما شاكل ذلك.

ص: 207


1- آرثر شوبنهاور (178) Arthur Schopenhauer-1860م) : فيلسوف ألماني عُرف بفلسفته التشاؤمية. كان يرى في الحياة شراً مطلقاً. [م]

وقد يحلو للبعض إضافة نوع ثالث لما ذكر باسم «الشرور العاطفية»، ومثالها : ما يصيب الإنسان من ألم ونصب، وعوز، وهم، وغمّ، وانكسار، وما إلى ذلك(1). لكن، يتحتم الالتفات إلى أنّ الشرور العاطفية ليست نوعاً مستقلاً عما ذكر؛ فالحوادث والنوائب التي تلم بالإنسان - مثل : السيول والزلازل - لا تُعدّ شروراً إن لم تُسفر عن ألم أو نَصب، والحوادث - بحدّ ذاتها - لا تشكل شراً للإنسان، بل تُعدّ شروراً حينما تسبّب إصابة أو ضرراً في حياة الناس ويتقارن معها أي لون من ألوان الأذى والألم. كما أنّ الشرور الأخلاقية لا تتصف بالشر إلا حيث تتسبّب في إيجاد الشرور العاطفية.

وعليه : فإنّ الشرور العاطفية نابعة من منشأ أخلاقي تارةً، ومن منشأ طبيعي تارةً أخرى

ومن اللافت للأنظار هنا أنّ المتكلّمين المسلمين قد استخدموا في بحوثهم عن الشرور مفردة «الآلام أيضاً؛ ليشيروا بذلك إلى أنّ حقيقة الشبهة في قضيّة الشرور تعود إلى حالة الأذى والألم التي تنتج عنها؛ وإن رجّح الفلاسفة الاكتفاء بمصطلح «الشر» نظراً إلى الواجب العلمي الذي تضطلع به الفلسفة بشأن كشف الواقع ومعرفة الوجود، وقد ذهبوا إلى أنّ الشرور أمور عدميّة. وبالتالي : اقتضت أبحاث الأنطولوجيا في الفلسفة إلى تناول عنوان «الشرور» ، ومن ثمّ إثبات أن الشر أمر عدميّ؛ بخلاف المتکلّمین الذين يُحتّم عليهم واجبهم العلمي تبيين المعتقد الديني والدفاع عنه، وقد اقتضى البحث عندهم استخدام عنوان الآلام ، ثمّ الحديث عن حكمة وجودها.

16/4/6 .معقولية الإيمان بالله ومشكلة الشرور:

الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ - بصفته موجوداً كاملاً سامياً وفوق كلّ كمال أو جمال أمر كامن ومستقرّ في فطرة كلّ إنسان. والفرصة متاحة لأي شخص في أن يرجع إلى ذاته، وينظر في باطنه، ليتعرّف على خالقه، ويؤمن به كما أنّ شمولية الإيمان بالله جَلّ

ص: 208


1- نقد على عدم قابلية البرهنة على وجود الله عسكري سليماني ص 325 .[بالفارسية]

وَعَلا واتساع رقعة المؤمنين به بين الأغلبية الساحقة من البشر على طول التاريخ يشهد على فطريّة هذا المعتقد.

وفي الوقت ذاته، يمكن للعقل أن ينظم ما يملكه من قضايا أوّليّة في نسق منطقيّ ليصل إلى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن طريق العلم الحصولي، ومن الممكن أيضاً أن تتعاضد البراهين العقلية مع المعلومات البديهية الواضحة للوصول في نهاية المطاف إلى إثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى .

وتتحلّى هذه البراهين التي تأتي بأجمعها لتعزيز المعطيات الفطرية عند الإنسان بوظيفتين أساسيتين هما:

1 . أنّها مؤهّلة لإقناع أولئك الذين علقوا في دوّامة الشبهات المتنوّعة، لكنّهم ما زالوا يحاولون الكشف عن وجه الحقيقة .

2. أنها تعرض المعتقد الديني والإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ في هيئة معقلنة، وقابلة للتبني عقلاً(1).

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ الإيمان بوجود الله جَلَّ وَعَلا يبتني على الفطرة وعلى البراهين العقلية أيضاً. ومع ذلك، إذا غضضنا الطرف عن دليل الفطرة أو الأدلة العقلية، فلا يمكن لأحد أيضاً أن يحكم ببطلان الإيمان بوجوده تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أو بكونه منافياً للعقل.

ص: 209


1- لاحظ: الله والاختيار والشر (God, Freedom and Evil) ألفن بلانتينغا، ص 32 [النسخة المترجمة للفارسية]. وقد ذهب بلانتينغا إلى أنّ الرسالة الكبرى التي تضطلع بها براهين إثبات وجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالى هي تقديم المعتقد الديني بشكل معقلن. ويقول في هذا الصدد: «الواقع أنّ قلّةً من الناس اكتسبوا إيمانهم بالله لأجل ما تتحلى به هذه البراهين من قوّة إقناعية ... وإن الواجب الأبرز للكلام الطبيعيّ (العقلاني ) هو عرض المعتقدات الدینیّة في حلّة معقلنة وقابلة للتبنّى». هذا، ولكنّنا أسلفنا في النصّ أنّ براهين الإثبات العقلي لوجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الفلسفة والكلام مؤهّلة لأداء دور إقناعي عقلائي بعد تعاضدها مع فطرة البحث عن الله تَبَارَكَ وَتَعَالى؛ ناهيك عن عدم الحاجة إلى كلّ تلك البراهين العامة بعد وجود تلك الفطرة.

ولا يكفي مجرّد إنكار الفطرة أو ردّ أدلّة إثبات وجود الله لنفي وجوده من الأساس، أو الحكم بكون ذلك منافياً للعقل . ولتبرير إنكار وجود الله، ليس أمام المنكرين سوى أن يقيموا الدليل على نفي وجوده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أو إثبات التعارض بين الإيمان به والعقل.

لقد حاول فلاسفة الدين الملحدون - الذين لم يألوا جهداً في إظهار المعتقدات الدینیّة على أنها أمور غير عقلانية - أن يثبتوا استحالة وجود الله، وأن يلمعوا صورة ما يخالف ذلك، ليبدو عقلانياً، وعندما عجزوا عن ذلك اكتفوا بالإعلان عن عدم عقلانية الإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ. هذا، علاوةً على محاولاتهم ومساعيهم الحثيثة في ردّ براهين إثبات وجود الله جَلّ وَعَلا .

17/4/6 . قضيّة الشرور وشبهة هيوم:

تمثل قضية الشرور والآلام إحدى الذرائع التي تشبّث بها الفلاسفة الملحدون، بل لعلها الأهم - أو الدليل الأوحد أحياناً - في مسعاهم لرفض وجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، والحكم بعدم عقلانيّة الإيمان به؛ حتى وصف البعض هذه القضيّة بأنها الملجأ الذي يأوي إليه الإلحاد (1).

هذا، ويسمّى الجهد المبذول في سبيل هذا الهدف في فلسفة الدين باسم «الإلحاد الطبيعيّ». ويُعدّ الفيلسوف التجريبي ديفيد هيوم (1776م) من زمرة أولئك الذين حاولوا التصدّي لردّ براهين إثبات وجود الله، وكذلك إقامة أيّ حجّة على نفي وجوده، وقد اعتمد في ذلك على قضيّة الشرور (2).

ويرتكز استدلال هيوم على أنّ العالم حافل بالشرور الكثيرة، فكيف يجيز إله

ص: 210


1- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 177.
2- نقد على عدم قابلية البرهنة على وجود الله، مصدر سابق، ص 305.

يُوصف بالقدرة المطلقة والخير العميم وقوع هذا الكمّ الهائل من الشرور العظيمة؛ مثل: السيول، والزلازل، والحروب الطاحنة، والمجازر بحق الأبرياء، وهلم جراً؟! لماذا لا ينظم الكون بنحو لا يسمح فيه بوقوع هذه الشرور ؟! ويقول في هذا أيضاً:

هل يروم الربّ إلى إيقاف الشرّ فلا يقدر على ذلك؟ إذن فهو عاجز ! هل هو قادر لكنّه لا يريد ؟ إذن هو مريد للشر ! هل هو قادر ومريد؟ إذن من أين يأتي الشر؟! لماذا يوجد السوء والشؤم في العالم من الأساس؟ من الواضح أن هذا ليس تصادفيّاً، بل مسبب عن علّة؛ فهل هو مسبّب عن قصد إلهي ؟ لكنه مريد للخير المطلق! فهل أتى ذلك رغماً عن القصد الإلهى ؟ ! لكنه قادر مطلق ! ...(1).

18/4/6. مناقشة شبهة هيوم:

قدّم المفكّرون المسلمون وغيرهم سبلاً مختلفة لحل مشكلة الشرور.

وهنا نكتفي بالإشارة إلى بعض منها فيما يلي:

1 . يبتني استدلال هيوم على فرضيّة فرضيّة أُخذت مأخذ الأصل الموضوع؛ وهي أنّ الموجود المريد للخير سوف يقضي على أيّ شيء تفوح منه رائحة الشر! في حين أنّ عموميّة هذه القضية مخدوشة من الأساس. نعم؛ يمكن للموجود المريد للخير الفاقد لصفة الحكمة وإتقان الصنع في أفعاله أن يكون على هذا الحال وأن يقارع أيّ شيء متصل بالشر، لكنّك إذا افترضت موجوداً مريداً للخير، ويتحلّى بالحكمة، ويزن أفعاله بها، فسوف تجد أنه لا يتنازل عن الخير الأسمى إذا توقف عليه الرضا بشر ضئيل؛ لا سيّما إذا كان ذلك من لوازمه المنطقية؛ فالأب الحكيم الذي يروم الخير لولده يصبّ الدواء المرير في جوف ابنه؛ وإن عُدّ ذلك شرّاً بأي نحو من الأنحاء.

وعليه: فإنّ زعم التلازم بين إرادة الخير والقدرة المطلقة من جهة، وإنكار أيّ

ص: 211


1- الله والاختيار والشّر ، مصدر سابق، ص 40.

لون من ألوان الشر - حتّى ما يقع مقدّمة للخيرات السامية - باطل، ولا أساس له من الصحة، بل إن إرادة الخير هذه تقتضي منه الرضا ببعض الشرور والآلام طالما وقعت مقدمة لاكتساب خير أكبر وأسمى. وبالتالي : فإنّ شريّة هذه الشرور ليست مطلقة ولا دائميّة، بل تتصف بنوع من الخيريّة؛ لأنها وقت مقدّمةً لحلول خير أكبر وأسمى. هذا، ناهيك عن أنّ القادر المطلق إذا أراد أن يوجد عالماً يتحلّى بمواصفات معينة وتترتب عليه بنحو التلازم المنطقي بعض الشرور التي إذا نظر للعالم بنحو كلّي ومالي لتبين أنها ضئيلة قليلة، فإنّ هذا لن يتنافى أو يصطدم بقادريّته المطلقة، أو كونه مريداً للخير المحض، وهما أمران يجتمعان من دون أي مشكلة منطقية.

نعم؛ لا ننكر أن القادر المطلق لا يعجز عن التصدّي لهذه الشرور القليلة من خلال الإحجام عن خلق مناشئها، فتزول بذلك من الأساس؛ وذلك لأنه قادر مطلق، لكن هذا الفعل بذاته مخالف لحكمته وفيّاضيّته وإرادته للخير؛ إذ يترتب على ذلك ضياع خير وفير عميم لأجل شرّ ضئيل قليل ، وهو بحدّ ذاته شرّ كبير ! وبعبارة أخرى العالم المادّيّ الجسماني - بذاته - ملازم لبعض الشرور المترتبة على وجود الحركة والزمان والتضادّ في الحركة - كما في حركة الغاز تحت الأرض الذي قد يبلغ مرحلة الانفجار أحياناً - لكن خير ذلك أكثر بكثير من الشر المترتب عليه .

2 . افترض أنّ أيّاً من الحلول المقدّمة لمشكلة الشرور لم تكن مقنعة، وافترض أنّ الموحد اعترف بجهله السبب الذي دعا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى للسماح بحدوث الشر، فما النتيجة التي يمكن أن نخرج بها من ذلك؟ ما الذي يدعو إلى تخيل أنّ الإنسان هو أوّل من يجب أن يقف على السبب المقنع والتبرير الصحيح لفعل الله عَزَّ وَجَلَّ؟!

وفي المحصلة : لماذا يجب أن يكون جهلنا بالتبرير المقنع دليلاً على عدم وجود تبرير مقنع ؟! فلعلّ الله يملك تبريراً ودليلاً صحيحاً ومقنعاً للسماح بحدوث الشرور في العالم، لكنه أعقد من أن تفقهه عقولنا مثلاً . والموحد يرى من خلال توظيفه لبرهان

ص: 212

اللّمّ (العلم بالمعلول عن طريق العلم بالعلّة) أنّ الله جَلَّ وَعَلا يمتلك التبرير الذي يسمح بحدوث الشر؛ وإن كان يجهله هو والتساؤل الأساس هنا : كيف يستنتج من ذلك أنّ الإيمان بوجود الله باطل أو غير عقلاني؟!

و ببيان آخر قد يؤدّي الفشل في حل مشكلة الشرور إلى بروز إشكالية عند من يحصر إثبات وجود الله في دراسة ظواهر الخلق والنظام العام السائد على الكون، ومن لا يرى الله إلا في ظلّ النظم في هذه الخليقة، لكنّ المتکلّمین والفلاسفة توصلوا في قضيّة إثبات وجد الله عن طريق برهان اللّم إلى حل الإشكالية، وطريقهم إلى الله غير منحصر في النظم الحكيمة والمتقنة في هذا العالم. إذن، فلنفترض فرداً لم يتغلب على مشكلة الشرور بنحو منطقي، لكن إيمانه واعتقاده لن يتصدّع عندئذ؛ لوجود طرق أخرى أثبتت له وجود الله وعدله وحكمته بعيداً عن نظام الخلق، بما يجعله عنده من اليقينيّات والمسلّمات؛ وإن كان غير قادر على عرض ذلك بنحو تفصيلي(1). وبناءً على ذلك لا يحق للملحد من أجل إثبات موقفه أن يُطلق وابلاً من الأسئلة المحيرة التي قد لا يهتدي الموحد إلى إجابات مفصلة عليها، ثم يقف جانباً بكل هدوء وسكينة (2).

19/4/6 .قضيّة الشرور وشبهة ماكي:

استغلّ الفيلسوف الطبيعي الأسترالي المعاصر جون ليزلي ماكي(3) (1981م) مشكلة الشرور ليستخدمها كحربة في صراعه مع الإيمان بوجود الله جَلَّ وَعَلا، فهو وجود الشر لا ينسجم مع بعض الصفات الإلهيّة الأساسية مثل : العلم

يرى أنّ

ص: 213


1- لاحظ: العدل الإلهي مرتضى المطهّري، ص 3- النسخة الفارسيّة. وهنا تجب الإشارة إلى أنّ هذا البيان ماضٍ فيما لو أردنا أن نماشي الخصم في النقاش وإلا فإنّ الذي يحصر معرفة الله في سلوك طريق النظم الحكيمة في الخلق أيضاً لن يواجه مشكلة في قضية الشرور إذا ما جهل التبرير المذكور؛ لأنّ بإمكانه الاستناد إلى النظام المدهش السائد على العالم في مجالات أخرى من الخلق، وإلى علمه اليقيني بحكمة الخالق، ثمّ يحمل حدوث الشرور على جهله هو.
2- الله والاختيار والشّر، مصدر سابق، ص 41-42 العدل الإلهي، مصدر سابق، ص90.
3- [م] .John Leslie Mackie

المطلق القدرة ،المطلقة وإرادة الخير المحض. ويؤكّد من جهة أخرى أنّ الإله الفاقد لهذه الصفات لا يمكن له أن يكن إلهاً حقيقياً في أعين المتألهين. ويخلص بناءً على ما تقدّم إلى إنكار وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى على الأقل في المستوى الذي تصوّره الأديان الإلهية (1).

وبالتالي: نحن أمام زعم مفاده المفارقة المنطقية، أو قل: اللاانسجام بين الإيمان بالله والإذعان بوجود الشرور(2). يقول ماكي في مقال له بعنوان «الشر والقدرة المطلقة »ما نصه :

إنّ تحليل قضيّة الشرّ يكشف لنا فقدان المعتقدات الدینیّة لأي مرتكز عقلاني، وانعدام قابليتها للإثبات العقلي، بل يدلّنا أيضاً إلى أمر مسلّم به وهو كون تلك المعتقدات غير عقلانيّة؛ بما يعني أنّ بعض مقاطع هذه النظرية الكلامية العامة لا تنسجم مع مقاطع أخرى منها(3).

وقد أوضح استدلاله بقوله:

مسألة الشرور في أبسط صورها على النحو التالي: «الله قادر مطلق» و«الله خير مطلق» و مع ذلك «الشر موجود» ثلاثة قضايا متناقضة ؛ بحيث إذا صدقت اثنتان منها، فإنّ الثالثة كاذبة(4).

وهو يعترف أنّ التناقض المزعوم بين هذه القضايا الثلاثة ليس بتناقض صريح كما نجده بين القضيتين: الإنسان فان» و «ليس صحيحاً أنّ الإنسان فان»، بل التناقض فيما نحن فيه ضمني يتطلّب إظهاره اللجوء إلى قضيتين أخريتين؛ هما: «الخير يقابل

ص: 214


1- الله والاختيار والشّر ، مصدر سابق، ص 196.
2- بطبيعة الحال، لا يؤمن كلّ الباحثين في هذا الحقل بوجود مفارقة منطقية، أو عدم انسجام بين ما ذكر أعلاه، بل الغالبية منهم أذعنوا بجود انسجام منطقي بين الإيمان بالله لا من باب المفارقة المنطقية، بل ببيان آخر مختلف.
3- مقالة الشّر والقدرة المطلقة ماكي، الترجمة الفارسية المنشورة في مجلة كيان السنة الأولى، العدد 3 .
4- مقالة الشّر والقدرة المطلقة ماكي، الترجمة الفارسية المنشورة في مجلة كيان السنة الأولى، العدد 3 .

الشر؛ بحيث أنّ الفرد الخيّر يطرد الشرّ ما استطاع»، و « لا حدود لقدرة القادر المطلق» ثمّ يُقال: «لازم المقدمات المذكورة أنّ الخيّر المحض والقادر المطلق يطرد الشر ويبدده بشكل كامل» ولهذا فإن قضيّتي القادر المطلق «موجود»، و«الشرّ موجود قضيّتان متناقضتان (1).

ويقول أصحاب هذا الرأي : إذا كان الله عَزَّ وَجَلَّ يمتلك العلم والإرادة والقدرة المطلوبة لتبديد الشر، وإذا كان وجود الشرّ ليس بضرورة منطقية، فلا يجب إذن أن يكون هناك شر.

ومع ذلك فإنّ بعض الناقدين يرون أن صرف وجود الشر لا يتنافى مع وجود إله الأديان التوحيديّة، بل الذي لا ينسجم مع وجود إله مثل هذا هو كثرة الشر في العالم.

ويرى آخرون أنّ اللاانسجام يظهر بشكل أجلى بين الشرور الطبيعية ووجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، وهذا الرأي يرتكز على تصوّر مفاده أنّ الله يُبيح صدور الشرور الأخلاقية من الإنسان المختار، لكنّه لا يسمح بحدوث الشرور الطبيعية التي تبدو عبثية وعمياء. والقاسم المشترك بين هذه الأدلّة هو مصيرهم إلى وجود نوع من عدم الانسجام بين وجود الشرور ومجموعة المعتقدات الدینیّة بشأن الله جَلَّ وَعَلا (2).

20/4/6 .مناقشة شبهة ماكي :

يمكن إبطال الاستدلال الذي جاء به ماكي بسلوك إحدى الطرق التالية :

1 . يكفينا في نقض هذا الاستدلال - كما يعترف ماكي نفسه - أن نُخرج أياً من القضايا المذكورة عن اليقين والقطعية.

2 . أن نُثبت صدقيّة وجود الله القادر المتعال وإثبات وجود ذلك الإله الخير

ص: 215


1- المصدر نفسه.
2- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 180.

بالدليل القطعي؛ وذلك لأنّ جميع القضايا الصادقة منسجمة فيما بينها، وفي حالة إثبات صدق هاتين القضيتين فإنّ القضيّة الثالثة التي تتحدّث عن وجود الشرور في العالم ستكتسب معنى يؤهلها للانسجام مع القضيتين السابقتين.

3 . أن يبرهن على أنّ اللا انسجام المزعوم بين القضيتين الأوليتين من جهة، والثالثة من جهة أخرى لم يثبت بالدليل، وأن أصحاب هذا الزعم أخفقوا في البرهنة على ذلك.

وقبل الولوج في تفاصيل مناقشة الاستدلال، نرى ضرورة الالتفات إلى أن القدرة الإلهية - كما يراها السواد الأعظم من المؤمنين بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى - قدرة مطلقة لا يحدّها حد؛ لكنّ السؤال المطروح هنا هو : هل تتعلّق هذه القدرة بالمحالات المنطقية (العقلية) أيضاً؟ فمثلاً: هل تتسع دائرة القدرة الإلهية لتشمل خلق مربع مدوّر؟ أو هل يقدر عَزَّ وَجَلَّ على أن يخلق شيئاً لا يكون مخلوقاً له؟!

الجواب على هذا عند غالبيّة المؤمنين بالقدرة الإلهية المطلقة وجميع المفكّرين المسلمين أنّ المحالات الأمور الممتنعة عقلاً لا يمكن لها أن تقع في دائرة القدرة الإلهية؛ لأنها - بذواتها - فاقدة لقابلية الوجود والتحقق في الخارج، وهذا لا يعني أبداً الحدّ من القدرة. نعم؛ ذهب بعض المفكّرين إلى أنّ قيداً مثل هذا يُعدّ حدّاً وقيداً للقدرة الإلهيّة المطلقة، وأنّ هذه القدرة المطلقة لا تخضع حتى للحدود المنطقية، فلا تُحدّ بها؛ وهو ما ذهب إليه ماكي(1).

ومن هنا، جاءت القضية الخامسة التي تحدّثت عن نفي الحدّ والقيد عن القادر المطلق كتفسير المفردة ما استطاع الواردة في القضية الرابعة؛ حتى لا يُقال إنّ الشر لازم منطقي للخير، وهو غير قابل للانفكاك عنه.

ص: 216


1- ذهب ماكي إلى أنّ منظومة علم اللاهوت (الإلهيات) المتداولة تستلزم عدم تقيّد القدرة الإلهية المطلقة حتّى بالمحالات المنطقية. ولهذا، عد الحلّ الذي سعى إلى تصوير «الخير الذي لا شرّ فيه على أنه من المحالات المنطقية أمراً يُفضي إلى تقييد القدرة المطلقة. ولهذا فقد رفضه، ورأى أنه يُعدّ تراجعاً وانكفاءاً عن الإلهيات العرفية المتداولة. راجع مقالة الشرّ والقدرة المطلقة، مصدر سابق.

وعلى هذا الأساس، يمكن الردّ على استدلال ماكي؛ لإمكانية الخدشة في ما ذهب إليه من تعلّق القدرة المطلقة بالمحالات ولإمكانية إبطال استدلاله حتى لو سلّمنا جدلاً بمذهبه ذاك؛ حيث نقول عندئذ : إذا صح تعلّق القدرة الإلهية المطلقة بما يشمل المحالات العقلية والمنطقيّة، فما المانع إذن من أن يخلق هذا القادر المطلق الشر بما يمتلكه من صفات؛ حتى إذا استلزم ذلك التناقض ؛ لاشتماله أموراً ممتنعةً عقلاً؟!(1) ولهذا فإنّ الحجّة المذكورة لا تتحلّى بأيّ متانة عقلية أو رصانة منطقية.

ولو افترضنا أن صاحب الاستدلال تراجع عن مقولته، وأذعن بعدم تعلق القدرة بالمحالات المنطقية، فيمكن الردّ عليه أيضاً من خلال سلوك الطرق الثلاثة المذكورة آنفاً على النحو التالي:

1 . أن نُخرج أيّاً من القضايا الأربعة المذكورة عن دائرة اليقين والقطعية. وقد تبينا مما سبق أنّ القضية التي تحدّثت عن تعلّق القدرة بالمحالات ليست أنها فاقدة للقطعية وحسب، بل يمكن لنا القطع بأنها كاذبة؛ وقد ثبت ذلك في محلّه، وهو أمر بديهي لا يتطلب منا إلا تأمّلاً بسيطاً. وفي المحصلة : إذا أثبت الإلهي امتناع انعدام الشرور، أو أثبت أنها من لوازم بعض الخيرات الكبرى التي لا تنفك عنها، أو أبدى احتمالاً في ذلك، فقد أبطل حجّة ماكي.

2 . أن نُثبت قطعيّة صدق القضيتين الأوليتين؛ فإنّ القضايا القطعية لا تتناقض مع القضايا الصادقة. وكما نعلم فإن البراهين اليقينية التي لا تقبل النقاش قد قامت على ضرورة وجود الواجب، وإطلاق علمه وقدرته وسائر صفاته الكمالية، وقد بحثت جميعاً في محلّها(2).

ص: 217


1- مقالة: مواجهة مع ماكي في مقالته الشّر والقدرة المطلقة هادي ،الصادقي، مجلة ،كيان السنة 3 العدد 17.
2- تجدر الإشارة إلى أنّ بعض البراهين التي أقامها الفلاسفة المسلمون تتحلى بهذه الصفة؛ بخلاف الأدلة التي ساقها المتألهون في الغرب، فإن غالبيتها أو ربما جميعها لا يتمتع بهذه القطعية الفلسفية المشار إليها.

3 . أن نكشف وهن الدليل الذي تشبّث به ماكي؛ إذ لا وجود لأيّ حجّة تثبت ما زعم من عدم الانسجام بين القضيتين الأوليتين والقضية الثالثة؛ حتى وإن أضفنا إليها القضية الرابعة والخامسة . وقد سلك ألفن بلانتينغا هذا الطريق(1). وتوضيح ذلك أننا إذا أمعنا النظر في القضية الرابعة لاتضح أن هذه القضية ليست صادقة بالضرورة؛ إذ من الممكن أن يكون الموجود خيراً، وأن يكون حكيماً أيضاً، وأن يمتلك مبرّراً كافياً نابعاً من حكمته؛ لعدم وقوفه في وجه الشر، أو تبديده له؛ كما لو قرّر الأب الحنون المريد لخير ولده عدم دفع الشرّ عن ابنه ؛ لأنه يرى في تجربة الأخطار التي تشكله بعض تلك الشرور كمالاً ضرورياً له. أما الأمر الذي يمكن أن يكون صادقاً بالضرورة فهو أمر جديد، وهو قضيّة سادسة يمكن أن نضعها كبديل عن القضية الثالثة؛ ومفادها: «لا يسمح الموجود القادر المطلق والعالم المطلق والخيّر المحض بوجود الشر إلا إذا امتلك مبرّراً كافياً لذلك».

ومع الاستعاضة عن القضية الثالثة بهذه القضية السادسة لا يبقى مجالاً للتناقض من الأساس؛ لأنّ الموحِّد يزعم - بل يُثبت - أنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مع أنه قادر على منع الشرّ من التحقق ، لكنّه نظراً لحكمته وفيّاضيّته وسائر صفاته الكمالية لم يشأ صنع ذلك؛ ورضي بوجود بعض الشرور؛ لأنّ في منعها زوالاً لخير أسمى وأعم. أما لو ادعى أحدهم قضيّة سابعة؛ مفادها: «يستحيل على القادر المطلق والعالم المطلق والخيّر المحض أن يمتلك مبرراً كافياً للسماح بوقوع أي لون من ألوان الشر» قاصداً بذلك ما يعمّ الشرّ النسبي، أو الشر الذي يأتي مقدّمةً ضرورية لبعض الخيرات الكبرى، فالجواب على ذلك أن نقول : ليس أنّ هذه القضيّة فاقدة لوصف «الصدق بالضرورة» وحسب، بل هي كاذبة قطعاً؛ لوجود صفات إلهية مثل الحكمة والفياضية، وللضرورة المنطقية في وجود بعض الشرور المقدّمية، وعدم انفكاك البعض منها عن الخيرات.

ص: 218


1- راجع مقالة : قضيّة الشر، ويليام وينرايت (William J. Wainwright)، الترجمة الفارسية المنشورة في مجلة كيان السنة 3 العدد 17، ص 34 .
21/4/6 .معقولية الإيمان بالصفات الإلهية وقضية الشرور:

قدّم المفكرون المسلمون وغيرهم في معرض ردّهم على شبهة الشرور، وإثبات انسجامها مع الصفات الإلهية مجموعةً من الإجابات المتعدّدة في هذا الصدد؛ منها ما هو كلّيّ عام يدور حول إثبات الحكمة الإلهية، ومنها ما هو جزئي خاص يستعرض بعض مصاديق الحكمة في ما نراه يحدث في هذا العالم من نوائب وآفات وبليّات، أو فقر وتمييز وزوال للنَّعَم، أو غير ذلك من الشرور الطبيعية أو الأخلاقية.

وإن تناول جميع تلك الردود يتطلب مجالاً واسعاً ومطوَّلاً يمكن الوقوف على تفصيلاته في كتاب العدل الإلهي للعلامة المطهّريّ (1399ه). وفيما يلي نشير إلى بعض تلك الردود مستفيدين من هذا المصدر وغيره مع تصنيفها إلى أربعة اتجاهات ومناح؛ هي: المنحى الكلامي، والفلسفي، والعرفاني، والتربوي.

22/4/6 .المنحى الكلامي في الردّ على شبهة الشرور:

الاتجاه الأول في الردّ على هذه الشبهة هو ما ذهب إليه المتكلمون في ردودهم ذات الطابع النقليّ أو العقلي، المنبثقة من الداخل الديني أو من خارجه. وملخصه ما يلي:

1 . إنّ الله جَلَّ وَعَلا عالم قادر حكيم منزّه عن جميع مناشئ الظلم ودوافعه - مثل: الجهل، والعجز، والحاجة، والنقص - ولهذا، فلا يوجد ما يدعوه للظلم، أو قل : ما يتسبب في ممارسته الظلم على أحد من خلقه . أما الحكمة من الشرور والآلام والصعاب التي قد نجدها هنا أو هناك فأمر خارج عن نطاق علمنا، لكننا لا نشك في وجود حكمة أو فلسفة تقف خلفها. ومن الجدير بالذكر هنا أنّ وصف هذا المنحى بالدليل الفلسفي والعقلي تابع لاعتماده على إثبات الحكمة الإلهية بمنهج عقلي منبثق من خارج الأطر الدینیّة.

2 . قدّم المتكلّمون في تبرير الشرور بالحكمة الإلهية - علاوةً على الردّ العام أعلاه

ص: 219

- مجموعة من الردود التفصيلية الأخرى؛ منها على سبيل المثال قولهم: إنّ بعض الشرور المذكورة كالظلم والفقر والجوع وعشرات المعضلات الاقتصادية والسياسية والصحية وغيرها ما هي إلا شرور أخلاقية نابعة من إرادة البشر. وهذا الردّ كسابقه صحيح أيضاً، لكنه لا يحلّ إلا مشكلة الشرور الأخلاقية من دون أن يتطرّق إلى الحكمة الفاعلية في الشرور الطبيعيّة.

23/4/6 .المنحى الفلسفي في الردّ على شبهة الشرور:

الاتجاه الثاني الذي نتناوله هنا يعالج القضيّة من زاوية فلسفية خارجة عن الأطر الدينيّة؛ وهو ينطوي على الردود التالية:

1 . ماهيّة الشرور من سنخ العدم فالتحليل يدلّنا إلى أن العمى والصمم والجهل والعجز والمرض وأي لون آخر من ألوان الشر ليس إلا انعدام للبصر والسمع والقدرة والصحة. والعدم لا يتطلب في نظام الأسباب والمسبّبات علّة موجدة، حتّى نحتاج إلى إسناد شيء إلى إله الخير (يزدان)، أو إله الشر (أهريمن)، أو إلى النور والظلام. وهذا الردّ الأفلاطوني قد يتناسب مع السؤال الأنطولوجي والفلسفي عن الشرور، فيكشف لنا عن كون الشرّ أمراً ،عدميّاً، لكنّه لا يوضح لنا حكمة تلك الأعدام المسماة بالشرور؛ فلقائل أن يقول : لماذا لم يعالج الإله القادر هذه الأعدام، ويدفعها من الأساس؟!

2 . الشرور أمور نسبيّة : الجواب التالي الذي قدّمه الفلاسفة في بحثنا أنّ هذا العالم ليس فيه شرّ مطلق ؛ فالسيول الزلازل والوحوش والأمراض والأوبئة قد تكون شرّاً لبعض المخلوقات، بيد أنها قد تكون خيراً لمخلوقات أخرى؛ فسمّ الحية الذي قد يفتك بالإنسان أحياناً، فيكون شرّاً لا محالة، هو خير إذا ما لاحظنا كونه الدواء الوحيد الذي ينقذ الإنسان من الهلاك أحياناً أخرى وهذا الجواب صحيح أيضاً، لكنّه لا يجيب على السؤال المشار إليه آنفاً بنحو كامل ؛ فالسؤال ما يزال باقياً: طالما أنّ

ص: 220

الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ذو قدرة غير محدودة، وهو خير محض ، فلِمَ لا تُقلع هذه الشرور من جذورها، ويستريح العالم منها ؟ !

3 . اللاانفكاك بين الخير والشر : أجاب الفلاسفة من المدرسة المسائية على السؤال بنحو مختلف؛ حيث قالوا إن عالم الطبيعة هو عالم الحركة والتعارض والتصادم، وإن الموجودات المادية في تكامل وحراك مستمرّ يخرجه على الدوام من القوّة إلى الفعل وقد ينجم عن هذه الحركة تضاد، أو تزاحم بينها، وعندئذ لا يمكن الفصل والتفكيك بين الشرور والخيرات؛ فالخيرية المحضة في هذا العالم رهينة بإيقاف عجلة الحركة، وانتفاء مادية العالم؛ أي: يلزم السلب بانتفاء الموضوع انتفاء الحركة يساوي انتفاء عالم الطبيعة)، وحينئذ يلزم انتفاء الخير الكثير؛ وهو - في حد ذاته - شر كثير. فبزوال عالم الطبيعة وتلاشيه ننجو من الشر القليل، لكنّنا في الوقت ذاته سوف نخسر خيراً كثيراً؛ هو عالم الطبيعة. ناهيك عن كون بعض الشرور - مثل: التفاضل والاختلاف بين الأشياء - ناشئ عن اختلاف المناطق والأقاليم الجغرافية المتفاوتة فيما بينها أصلاً، وهذا هو مقتضى الطبيعة؛ بمعنى أنّ هذا الاختلاف يُعدّ من اللوام الذاتية للطبيعة.

وبعبارة أخرى تتعلق الإرادة الإلهية بالخيرات أوّلاً وبالذات؛ وإن تعلقت بالشرور ثانياً وبالعرض. وعليه ليست الشرور متعلقة بالإرادة الإلهيّة أوّلاً وبالذات؛ بل تبعاً وبالعرض. وإنّ هذه الإرادة العرضية التبعية لازم ذاتي للطبيعة، فنحن نبتلى بالشرور إلى جانب تنعمنا بالخيرات. ومع الإذعان بصحة هذا الرد، لكنّه يعاني من أنّ شريّة الحوادث ليس بذاتيّ طبيعي لها؛ إذ توصف الحوادث بالشرّ من جهة إضرارها بالإنسان فيرد السؤال هنا: لماذا لا تتكاتف القدرة والعدل والحكمة الإلهية لتنتج سيلاً أو زلزالاً أو حادثاً طبيعياً لا يحلق الضرر بالإنسان؛ كما لو حدث مثلاً في مناطق غير مأهولة ؟! وطالما أنّ الحوادث الطبيعية ليست بشرور ذاتية، لم لا تتعلق الإرادة الإلهية بخيرات لا تستلزم شروراً عرضية؟!

ص: 221

4. الخيرات أكثر من الشرور يردّ الفلاسفة أيضاً بأنّ الشرور وإن وُجدت في هذا في العالم، لكنّها ليست بأكثر من الخيرات فيه؛ وإلا لما بقيت لعالم الطبيعة باقية، ولتبدّد وفنى. وما بقاء العالم وثباته إلا دليل على غلبة الخيرات على الشرور. وبالنظر إلى ما تقدّم من نقاط، فإنّ هذا الردّ لا يُبدد الهواجس الكلامية، أو يحلّ مشكلاتها؛ فهو لا يفسر لنا ما يبرّر وجود هذه الشرور القليلة في العالم، والسؤال القائل: لم لا ينطوي عالم الطبيعة مع وجود هذه الحوادث الطبيعية على خير مطلق ؟ أو قل : لم لا تتحق ه الحوادث في الطبيعة بنحو لا يطال الإنسان، ولا يجرّه إلى ويلاته؛ فيجري السيل أو يحلّ الزلزال مثلاً في موضع لا يؤثر سلباً على الإنسان؟!

23/4/6 .المنحى العرفاني في الردّ على شبهة الشرور:

الاتجاه الثالث في الردّ على شبهة الشرور هو المنحى العرفاني؛ فقد انبرى العرفاء بما يملكونه من رؤية شمولية لحل هذه المسألة، نعرض قولهم بإيجاز على النحو التالي:

1. الرؤية الجزئية هي منشأ الشرور وهذا يعني أنّ الشرور نابعة من نظرتنا للأمور؛ فلو نظر الإنسان إلى عالم الطبيعة برؤية شمولية واسعة الأفق لرأى أن وجود ما وصفه بالشرّ أمر مناسب وضروري، بل لما وَجَد فيه أيّ شرّ أو ألم أو نَصَب؛ فنحن بنو البشر نحسب المحن والصعاب التي تواجهنا شروراً وآلاماً لأفقنا الضيق ونظرتنا الجزئية للأمور، فنعيش حالة الاستياء والسخط باستمرار، أما لو بسط الإنسان بصره على المشهد بأكمله برؤية شمولية ؛ كما لو لاحظ داراً بعموميتها، لوجد أنّ المجاري والمرافق الصحيّة فيها ضروريّة، ولما وصمها بالشر، أمّا لو قصر نظره على ما تطلقه من روائح كريهة لما تردّد في وصفها بالشر والسوء. ومع أنّ هذا الردّ صحيح - في حدّ ذاته - وهو يضع بين أيدينا حلاً عرفانيّاً عملياً كي لا نتجاهل الشرور والصعاب، بيد أنه عاجز عن الأخذ بيد الذين لم يبلغوا هذا المستوى العرفاني.

2 . النظرة إلى الشر : بعض الأمور الموصوفة بالشر إذا لوحظت بنظرة دنيوية بحتة

ص: 222

فهي معدودة في زمرة الشرور، أمّا لو أخذنا عالم الآخرة بعين الاعتبار أيضاً، فلن يبقى مجال لعدّها من الشرور؛ فعلى سبيل المثال: الموت عند أصحاب النظرة الدنيوية شر وعذاب أليم، لكنّ المؤمن باليوم الآخر يراه انتقالاً من عالم إلى عالم آخر. وهذا الجواب صحيح أيضاً، وهو ناجع لحل عقد بعض الشرور ، لكنّه لا يكفي لحلّها جميعاً. ولا يخفى أنّ حلّ المعضل النفسي والعاطفي للشرور لا يُلزمنا الوصول إلى ذلك من خلال طريق واحد ؛ فمن الممكن سلوك طرق مختلفة لحل مشكلة الشرور في صوره ومصاديقه المختلفة .

24/4/6 .المنحى التربوي في الردّ على شبهة الشرور:

قدّم بعض العلماء حلولاً تربوية للأخذ بيد العالقين في شبهة الشرور والآلام؛ حيث ذهبوا إلى أنّ الشدائد والصعاب وما يلمّ بالإنسان من نوائب ومصائب لها دور مفصلي في تكامل الإنسان علمياً ومعنوياً وصناعيّاً على مستوى الفرد والمجتمع. :وعليه فإنّ الشرور تفضي في نهاية المطاف إلى خير كثير، وهذا ما يكسبها لوناً من ألوان الخير. ومع أن هذا الردّ صحيح أن هذا الردّ صحيح كذلك، غير أنه لا يجيب على المشكلة المشار إليها آنفاً؛ فالسؤال الملح هو : ألا يمكن الحصول على تلك الخيرات من دون الاضطرار إلى ركوب مقدماتها الشريرة ؟!

25/4/6 .الرأي المختار في الردّ على شبهة الشرور:

لا نرفض أياً من الحلول الكلامية والفلسفية والعرفانية والتربوية التي تقدّمت، غير أننا سوف نسلك طريقاً مختلفاً نظراً إلى إلحاح السؤال على كشف الحكمة من وجود الشرور ونظراً إلى التساؤل الذي يقول : لماذا لم تُخلق الحوادث الطبيعية بنحو يسفر عن مشكلة الشر، ولا ينتهي إلى تورّط الإنسان في دوامة من الآلام والصعاب؟!

وخلاصة الجواب على ذلك فيما يلي:

ص: 223

ترتبط بعض الشرور بصلة تكوينية مع أعمال الإنسان كما في بعض ألوان العذاب الدنيوي، وجميع ألوانه الأخروية. ولهذا، يجب الالتفات إلى أن الصلة بين العمل من جهة، والجزاء في الآخرة أو بعض الجزاء في الدنيا من جهة أخرى ليست صلةً وضعيّةً جعليّةً؛ وإنّما هي صلة السبب والمسبّب، وبعبارة أدقّ الجزاء هو عين العمل في تجسّده الأخروي. والتدليل على هذا المدعى متروك إلى حين الحديث عن الحياة في عالم ما بعد الموت عند التطرّق إلى بحث «تجسّد الأعمال».

وهذا الردّ في رأي كاتب هذه السطور أنجع في تفسير الحكمة عند الفاعل الإلهي بالنسبة إلى مسألة تحقق الشرور في هذا العالم. ولمزيد من تسليط الضوء على هذ الجواب نقول :

ترتهن شرّيّة الحوادث المؤلمة بنوعية تأثيرها وارتباطها بالإنسان؛ فوقوع الكوارث الطبيعية في الصحارى القفار لا يُعدّ شرّاً لأيّ إنسان، كما أنّ حادثةً ما قد تكون شراً لقوم وخيراً لقوم ،آخرين، ويتوقف اتصاف الحوادث المريرة بالشر على اقترانها بالآلام والصعاب التي تتوجّه للإنسان. وقد أشرنا إلى مناسبة استخدام مفردة «الآلام» عند بعض المتکلّمین حين تطرّقهم لبحث الشرور. أما الفلاسفة فقد ركزوا اهتمامهم بالحديث عن وجود الشرور أو عدم وجودها نظراً إلى هواجسهم الأنطولوجية عند تحليلهم لكل ظاهرة. ومن هنا، يستدعي البحث الفلسفي عن الشر القول بأنّ الحوادث التي تتسبب في الشرور إنّما تُفضي إلي تحقق أمور عدميّة؛ فشر مثل: الموت أو الإصابة الجسدية أو فقدان المال أو ما شاكل ذلك هو أمر عدمي بلا شكّ، لكنّ اللافت للانتباه أن جميع ما ذكر يتسبب في إيلام الإنسان وإيجاعه، وهذا أمر وجوديّ، وهو من سنخ العلم الحضوري، ويؤدّي أيضاً إلى خلق معضلات نفسانية عديدة للإنسان. ولهذا، فإنّ السؤال الكلامي في ما يخصّ الحكمة الإلهية وراء حدوث الآلام ما يزال قائماً .

ص: 224

والجواب على ذلك في تقديرنا أنّ الشرور الطبيعية - كما هو حال الشرور الأخلاقية - وليدة إرادة الإنسان، وأفعاله الاختيارية، وإنّ الحكمة والقضاء الإلهيين يقتضيان أن تكون إرادة الإنسان في طول الإرادة الإلهيّة، وقد شاء الله عَزَّ وَجَلَّ أن يتحقق الخير والشرّ بإرادة الإنسان نفسه. أضف إلى ذلك أن كشف هذه الحقيقة ليس من صلاحيّة العقل، ولا يجري من خلال الشهود والتجربة البشرية، أو الفلسفة والعرفان والعلوم التربوية، بل هو أمر يُستكشف من وحي التعاليم الدینیّة التي نص عليها الكتاب والسنة؛ فالدور المركزي الذي يضطلع به الدين الإلهي هو إماطة اللثام عن العلائق والصلات الخفية التي تربط بين فعل الإنسان وجزائه الدنيوي والأخروي.

ومع وجود هذا الردّ المشار إليه آنفاً يبقى سؤال آخر في المقام؛ ومفاده: صحيح أنّ جميع الشرور الطبيعية والأخلاقية وليدة لإرادة الناس، لكن جميع هذه الشرور ليست وليدة ذلك الشخص المبتلى بالشر تحديداً؛ فقد يُبتلى الإنسان بشر ما ، بيد أنّه ناتج عن إرادة إنسان آخر، ويمكن لمجموعة من الناس أن تورّط مجتمعاً بذنوب تقترفها، وتزج بها في أتون العذاب الإلهي، وفي ذلك المجتمع أناس أبرياء يقع عليهم الأذى والضرر، كما يمكن أن نشهد إضراراً أو إيذاءاً يوجّهه الإنسان المذنب أو المجرم إلى الأبرياء بما يقترفه من أفعال سيئة؛ كالقتل أو السرقة أو الاغتصاب. والسؤال الملح هنا هو : لماذا يجب أن يُبتلى هكذا إنسان بريء بالشر؟! وما الحكمة في ذلك؟

والجواب: أنّ الأناس الأبرياء قد يلتزمون الصمت أحياناً على الذنب أو الجريمة التي تقترف في المجتمع، أو قد تراهم يعربون عن قبولهم بها، تاركين واجبهم في مر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبالتالي : يتغيّر وضع هؤلاء الأبرياء بتورّطهم في ذنب مختلف عنوانه : السكوت على الجريمة والقبول بها ، وهذا - بحدّ ذاته - كافٍ في شمول العذاب الإلهي لهم، كما أنّ الأناس الذين نعدهم أبرياء حسب الظاهر قد يتعرّضون إلى الأذى والضرر بسبب إرادة بشريّة أخرى عن قصد أو عن دون قصد فيُبتلون بحادث مروري، أو يفقدون أموالهم في عملية سطو، وما إلى ذلك، وهذا كله

ص: 225

معلول لبعض ما جنته أيديهم؛ فلعل بعض أفعالهم مثل: عقوق الوالدين، أو التعدّي على حقوق أرحامهم أو جيرانهم هو منشأ بعض تلك الأضرار والحوادث المفاجئة. وهذه الحقيقة قد نُص عليها بشكل جلي وواضح في ما ورد من نصوص دينية.

نعم؛ قد نجد أحياناً بعض الأناس الأبرياء الذين ابتلوا بالشرور الإرادية رغم أنهم لم يرضوا بالجريمة، بل أنكروها وانبروا للتصدّي لها، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولاقوا في سبيل ذلك الأذى والمضض، وأبرز مثال على ذلك ما لاقاه الأولياء والصالحون في واقعة كربلاء الأليمة؛ فقد استبيحت حرماتهم على أيد جناة طغاة اختاروا لأنفسهم حياة السبعية والتوحش، فقتلوهم وأبادوهم لأنهم أبوا ظلم الطاغوت وثاروا عليه، أو مثل إنسان بريء يفقد حياته على يد قاتله ظلماً وجوراً. ويجب العثور على الحكمة في وقوع ذلك في بحث عدم قابلية التفكيك بين إرادة الإنسان وعمله، وكذلك عدم قابلية التفكيك بين العمل الصالح أو الطالح وتداعياته أو آثاره التكوينية.

توضيح ذلك : أنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن يمارس الإنسان أفعاله الصالحة أو الطالحة بإرادته هو؛ فهل يمكن لنا أن نفترض إنساناً أراد القيام بفعل حسن أو قبيح، ثم لا يتحقق فعله، في حين أنّ نسبة إرادة الإنسان إلى فعله فلسفياً هي كونها الجزء الأخير من العلة التامة للمعلول؟! أو أن يتحقق الفعل في الخارج دون أن يوجد أثره التكويني؛ كأن يرمي الإنسان بسهمه، فيصيب الهدف به دون أن يُجرح الهدف أو يُبتلى بأذى أو ضرر؟! الجواب سلبي طبعاً؛ لأنّ في ذلك اجتماع للنقيضين؛ وهو محال. نعم؛ يمكن للنار أن تتحوّل إلى جنّة غنّاء، فلا يحترق من بداخلها، أما طالما كانت النار ناراً فهي محرقة؛ لا محالة.

وهنا يطرح هذا السؤال: ما دام هذا حتمي وضروري، فماذا نقول في الإنسان البريء؟ لقد قدّمت لنا النصوص الدینیّة في الإسلام بحثاً يرتبط بما سُمّي ب

ص: 226

«الأعواض» ؛ ومفاده أنّ الله الحكيم العادل يعوّض الإنسان المتضرر الذي حلّت به تلك المصائب والنوائب بما يجبر به ذلك؛ فيقال على سبيل المثال : إن المصيبة للإنسان المبتلى هي كفّارة لذنوبه، أو أنه سوف يتنعم بنعم مادية ومعنوية دنيوية (مثل: حصوله على النفس الملهمة، أو المطمئنة، أو على مرتبة علمية عالية)، أو يدفع عنه عذاب أخروي، أو يُخفّف عنه ذلك العذاب؛ بما صبر عليه من هول المصيبة وأذاها.

26/4/6 .الآيات المتعلقة بالشرور :

يمكن استنباط أغلب ما ورد من ردود سابقة - لا سيّما الرأي المختار في الردّ على شبهة الشرور - من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي نستعرضها فيما يلي بإيجاز :

1 . الآيات التي تحدّثت عن وجود الشرور المتعدّدة؛ مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد)(1) ، ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَبِرْ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ (2)، (الَّذِينَ يُحْشُرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ (3)فالشرور - نظراً إلى وجود الألم والنَّصَب فيها - أمور وجودية؛ لا عدمية.

2 . الطائفة الأخرى من الآيات هي التي أشارت إلى أنكم قد تعدّوا بعض الأشياء خيراً أو شرّاً لكنّ واقعها ليس كما تحسبون أي أنّ النظرة الشمولية الجامعة تكشف لكم خلاف ذلك؛ منها قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(4)، وقوله تعالى: ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً )(5).

ص: 227


1- سورة الفلق 1-5 .
2- سورة الأنبياء: 35.
3- سورة الفرقان: 34 .
4- سورة البقرة: 216 .
5- سورة الإسراء: 11 .

3 . الآيات التي تطرّقت إلى اقتران الخير بالشر، وأفادت أن السعادة تأتي من رحم المصيبة، وأنّ الآلام والنوائب مقدّمات لوجود الراحة والسكينة، وهي التي تتسبب في حدوثها. ومثالها قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا )(1) .

4. الآيات الدالة على السنن التكوينية؛ مثل قوله تعالى: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلًا ﴾(2) ، فقانون الجاذبية، واحتراق النار، والبراكين، والزلازل ، وعشرات القوانين الأخرى، ما هي إلا سنن طبيعية لا تنفكّ عن الطبيعة بحال.

5 . الآيات التي أخبرت عن إسناد التطوّرات الاجتماعية، والصعاب، والآلام والمصائب إلى إرادة الإنسان؛ مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيَّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(3) . ويشير القرآن الكريم إلى أنّ بعض ما يُبتلى أو يُصاب به الإنسان ناتج عن أعماله هو : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾(4) ، وقد قصّت لنا الآيات الكريمة ما مرّت به الأمم المختلفة في غابر الزمان من ويلات، وطوفانات، وغرق، وما شاكل ذلك، مبينةً أنّ هذا كان جزاءً وانعكاساً لأفاعيلهم السيئة. يقول تعالى في قصة قوم لوط(علیه السّلام): ( قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظالمينَ ﴾ (5)، ثمّ يقول عقب ذلك : (إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ (6)، ثمّ يستعرض يستعرض ما جرى على قوم شعيب ى على قوم شعیب (علیه السّلام) قائلًا: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ (7)، ثم يتناول قصص عاد وثمود

ص: 228


1- سورة الشرح 5-6 .
2- سورة فاطر: 43
3- سورة الرعد: 11 .
4- سورة الشورى: 30 .
5- سورة العنكبوت 31 .
6- سورة العنكبوت: 34 .
7- سورة العنكبوت: 37 .

وفرعون وقارون وهامان بقوله: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾(1) ، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَاَ أَغْنَتْ عَنْهُمْ الفَتْهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ لما جَاء أَمْرُ رَبَّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَثْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً كُنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ﴾(2)، ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَنتُهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَما كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾(3) ، ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لا ظَلَمُوا وَجَاءَتُهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾(4) ، ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمَّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ )(5) ،(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ ا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِکهِم مَّوْعِدًا) (6))، ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )(7).

6 . رغم أنّ الشرور الطبيعية والأخلاقية ناتجة عن إرادة طائفة . من الناس؛ حيث يشكّل البعض بإرادتهم منطلقاً للشرور والآلام، تذهب مجموعة أخرى من الناس -

ص: 229


1- سورة العنكبوت: 40 .
2- سورة هود: 101-103 .
3- سورة التوبة :70.
4- سورة يونس: 13 .
5- سورة القصص: 58-59 .
6- سورة الكهف: 59 .
7- سورة الروم: 9.

على خلاف إرادتهم - ضحيّةً لإرادات الآخرين. والسؤال المطروح هنا هو : ما الحكمة في تبلور هذه الظاهرة؛ ظاهرة لم يكن لإرادة الشخص المتألّم أو المبتلى بها أي دور في حدوثها، بل إنّ وقوعها كان وفقاً لإرادة الآخرين التي تقع في طول الإرادة الإلهية؟ والجواب أوّلاً: أنّ شراً مثل هذا غير قابل للانفكاك عن الطبيعة، وافتراض نفي الشر عن الطبيعة في هذه الحالة يستلزم اجتماع النقيضين؛ يقول تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ في كبد) (1). وثانياً : أعدّ الحكيم العادل تبَارَكَ وَتَعَالى للمتألم المبتلى نعما وجوائز ؛ مثل: منحه مزيداً من الصبر والجلد في دار الدنيا، ومزيداً من الأجر والثواب والأعواض الدنيوية والأخروية المترتبة على ما أبلاه في الامتحانات والاختبارات الإلهية. وقد تناولت الأحاديث الشريفة هذا الموضوع بتفصيل أكبر ؛ حيث نجد قول الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «إن الله ليغذّي عبده المؤمن بالبلاء كما تغذّي الوالدة ولدها باللبن»(2) وعن عليّ (علیه السّلام) عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال: «ما كرم عبد على الله إلا ازداد عليه البلاء» (3) ؛ وروي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنه قال: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة»(4) ، ويروى عن الإمام الصادق (علیه السّلام) قوله: «إنما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه» (5)، وعنه (علیه السّلام) : «إنّ أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثمّ الذين يلونهم ثمّ الأمثل فالأمثل»(6)، ويقول أيضاً: «إنّ الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً غَته بالبلاء غتاً » (7)، وكان قد قال النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) عن نفسه: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(8)، ولا شكّ في أنّ البلاء من عوامل الاختبار

ص: 230


1- سورة البلد: 4 .
2- بحار الأنوار، ج 78، ص 195، الباب ،1، فضل العافية والمرض وثواب المرض وعلله وأنواعه.
3- بحار الأنوار، ج 93 ص ،28 الباب ،1 وجوب الزكاة وفضلها.
4- مستدرك الوسائل، ج 2، ص ،437 باب استحباب احتساب البلاء.
5- وسائل الشيعة ج 3 ص ،263 ، الباب ،77، باب استحباب احتساب البلاء.
6- المصدر السابق ص 262 .
7- الكافي، ج 2 ص ،253 باب شدّة ابتلاء المؤمن ؛ بحار الأنوار، ج 15، ص 55.
8- بحار الأنوار، ج ،39 ص 55 في مساواته يعقوب ويوسف.

الإلهي، وكما يعبّر القرآن الكريم: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةٌ)(1) ، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾(2) ، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشْيَءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا الله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾(3).

ومن الواضح أنّ الاختبار الإلهي يساهم في الكشف عن الواقع، والتعريف بالمحسنين والمسيئين من الناس ويمهد لتكامل الإنسان ورقيه كما شاءت الإرادة الإلهيّة، كما أن الابتلاءات تطهر القلوب من أدرانها، وكما هو مروي في الحديث الشريف: «ساعات الهموم ساعات الكفارات» (4) ، «السقم يمحو الذنوب»(5)، كما تمثل النوائب والبليات جرس إنذار مستمر للإنسان، والعامل الوحيد الذي يوقظه بين الفينة والأخرى من رقاده وانغماسه في لذائد الدنيا، فينتبه من غفلته، ويسلك طريق الهداية؛ يقول تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّاهُ اسْتَغْنَى ) (6)، (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيِّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴾(7) ، ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾(8) .

27/4/6 . حصيلة بحث الشرور :

تقدّم أنّ بحث الشرور باب واسع يتضمّن في طيّاته أبعاداً عديدة، وأن الملحدين حاولوا قدر جهدهم أن يصوّروا القضيّة وكأنها لا تنسجم مع بعض المعتقدات

ص: 231


1- سورة الأنبياء: 35.
2- سورة محمد: 31 .
3- سورة البقرة: 155-156 .
4- بحار الأنوار، ج 64، ص 244 .
5- المصدر السابق.
6- سورة العلق 6-7 .
7- سورة الأعراف: 94 .
8- سورة الأعراف: 130 .

الأساسية التي يؤمن بها المتأهون، وأنّ الموحدين ردّوا عليهم بأنّ جهل الإنسان بحكمة بعض الشرور ليس من شأنه أن يزلزل الإيمان الديني.

وهنا، يمكن تلخيص ما تقدّم في النقاط التالية:

1 . الشر - الذي يعني: النقص في أي موجود ممكن - هو أمر متحقق، وغير قابل للزوال. وإنّ إنكار جميع ألوان النقص والعدم في «الممكن» لا يعني سوى تبدّله إلى «واجب الوجود»؛ وهذا جمع للنقيضين؛ لأنّ لازم هذا القول أن يكون ممكن الوجود بالذات واجب الوجود بالذات في الوقت الذي هو ممكن الوجود بالذات! وعليه: لا محيص عندئذ من الوقوع في اجتماع النقيضين.

2 . المراد من الشر وجود أمور توجّه الألم والضرر للإنسان؛ مثل: السيول والطوفانات والزلازل والسموم وما إلى ذلك. وطالما أنها لا تلحق بالإنسان ألماً أو نَصَباً فهي لا تُعدّ من الشرور. وعليه فإنّ شرّيّة الشرور رهينة بما يعانيه أو يقاسيه الإنسان من أذاها.

3 . الشرور الأخلاقية وليدة الإرادة البشرية ورفعها سهل يسير على الله جَل وَعَلا ، لكن هذا منحصر فيما لو انتفت إرادة الإنسان، وسُلبت منه، وبات مجبراً على أفعاله، وهذا ما يتعارض مع الحكمة الإلهيّة. وبناءً عليه نقول : لقد خلق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الإنسان بنحو حكيم ، وهداه النجدين؛ سبيل الهدى (الخير) وسبيل الضلال (الشر) بالعقل أو النقل والإنسان - بعد ذلك - مخيّر بإرادته بين سلوك سبيل الهدى والصلاح، فيجنّب بذلك مجتمعه ويلات الشرور الأخلاقية، ويتسبب في تنعمهم بالخيرات، وبين سلوك سبيل الغيّ والفساد بسوء إرادته، وتعريض مجتمعه إلى الفناء والاضمحلال . وقد يُستشكل هنا بالقول : أليس الله عَزَّ وَجَلَّ بقادر على أن يريد إنساناً يقوم بالعمل الصالح بمحض إرادة هذا الإنسان ويتجنّب السيء من الأعمال، وما يؤدّي إلى الشر والأذى؟ والجواب : بلى؛ إنّه قادر على ذلك عندما يبلغ الإنسان درجة

ص: 232

العصمة، ويجوز مَلَكتها، أو حينما يتصف بالعدالة في أقلّ التقادير، وهما درجتان يمكن للإنسان الوصول إليهما باختياره. فإذا بلغ الناس جميعاً باختيارهم مرتبة العصمة أو العدالة، فسوف يريد الله تَبَارَكَ وَتَعَالى أن يفعل الناس جميعاً أفعالاً صالحة وعادلة بإرادتهم هم؛ دون أن يتحقق أي جبر أو إلجاء، وهو اليوم الذي تتبدّل فيه الدنيا إلى جنّة خالية من الشرور الطبيعية والأخلاقية إلا تلك الشرور التي تفرضها الضرورة المنطقية لعالم الطبيعة، واللوازم التي لا تنفك عنها عقليّاً؛ مثل: الموت. وإن العالم الذي يحتضن أيام العدل الإلهي على يد المهدي الموعود(علیه السّلام) هو مصداق هذا الأمل والمبتغى الإنسانيّ؛ فعجّل الله لنا ظهوره ، ونعمنا بنمير خيره وعميم أمنه .

4 . الشرور الطبيعية من حيث ذات الحوادث التي تنطوي عليها أمر ذاتي للطبيعة، ولا ينفك عنها؛ فطالما كانت الطبيعة طبيعةً ففيها الحركة والتضادّ والتزاحم والتعارض والكوارث الطبيعية، لكنّ أيّاً من هذه الحوادث لن تُعدّ شراً ما دامت لم تُلحق ضرراً أو أذى بالإنسان. والسؤال هنا: لماذا تحققت هذه الكوارث (مثل: السيول والزلازل والطوفانات والأمراض والأوبئة وهلم جراً) بنحو ألحق الأذى والضرر بالإنسان، فكانت شروراً؟ والجواب على هذا السؤال يرتبط بأعمال الإنسان الاختيارية؛ فالإنسان المعاصر نتيجةً إلى استخدامه المنفلت واللامسؤول لمصادر الطبيعة، وتصرفاته وعبثه في الطبيعة قد أوغل في تلويث البيئة، وتسبّب في ظهور أمراض وأوبئة عصيّة على العلاج في عالمنا المعاصر.

لقد تمادت بعض الشركات العالمية لتصنيع الأدوية في أفاعيلها، حتى أجازت لنفسها إنتاج فيروسات، واختراع أمراض جديدة لا سابق لها؛ من أجل استقطاب مزيد من الأرباح والمكاسب المالية ! فهل يجب بعد ذلك أن نعدّ هذه الشرور الطبيعية قادمة من الله جَلّ وَعَلا ، أو الحق أن ننسبها لإرادة الإنسان نفسه؟!

نعم؛ كلّ ما يحدث في هذا العالم يعود في مآل أمره إلى الإرادة الإلهية القاهرة

ص: 233

لكنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أراد أن يفعل الإنسان الخير أو الشر بإرادة هذا الإنسان، ليلقى جزاء أعماله. إنّ جانباً مهماً من الشرور الطبيعية ناتج عن أفعال الإنسان غير المشروعة؛ أفعال ارتبطت بنتائجها وآثارها الدنيوية والأخروية ارتباطاً تكوينياً وثيقاً؛ فلعل هذا السيل أو ذاك الزلزال أو التسونامي الذي ضرب داخل تلك المدينة دون حواليها وضواحيها مرتبط بما اقترفه أبناء هذه المدينة في حياتهم.

5 . اتضح مما تقدّم آنفاً أنّ قضيّة الشرور ليست معضلة مبهمةً عصيّةً على التبرير العقلاني كما يرى الأشاعرة، ولا هي أمر ينفي الوجود الإلهي، ويدعونا إلى إنكاره كما يحلو للملاحدة والطبيعيين أن يصوّروه، ولا هي مشكلة فكرية عويصة يجب أن تنتهي بنا إلى الثنوية والإيمان بإله للخير ، وإله للشر. إنّ الشرور بأسرها وليدة إرادة الإنسان، وإنّ الإرادة الإلهية تقع في طول إرادة الإنسان من الأعلى.

ص: 234

الباب الثالث: معرفة الدّين

7. حقيقة الدين

1/7. تمهید:

- حقيقة الدين

-حقيقة التجربة الدینیّة

-توقعات الإنسان من الدين

- منشأ الدين

-الإيمان الديني

- التعددية الدینیّة

ص: 235

تمهید:

لا تتمتع أيّ ظاهرة أو مؤسسة أو نشاط اجتماعي وإنساني في تاريخ البشرية بعراقة تاريخية أو تنوّع في الشكل والمضمون كما يتمتع به الدين والتدين عند الإنسان. فكلّ الأديان تنطوي على معتقدات ومفاهيم وطقوس معيّنة أدت إلى تنوّع هذه الأديان. ومن هنا، تبلورت فروع علمية متعدّدة في حقل الدراسات الدینیّة - منها: علم الاجتماع الديني، وعلم نفس الأديان، وفينومينولوجيا الدين (علم الظواهر ) ، وفلسفة الدين، وعلم الكلام، وعلم اللاهوت، وما إلى ذلك - سبرت أغوار الدين و درسته من زواياه المختلفة، وقامت بتقديم تعريفات له، وأوضحت دوره وآثاره.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الأبحاث التقليدية لعلم الكلام لم تخصص باباً أو بحثاً مستقلاً يدرس الدين الإلهي بوصفه أحد أهم الأفعال الإلهية في مسيرة الهداية. وقد اقتصر ذلك على ما ورد في أبحاث الكلام الجديد، وفلسفة الدين.

2/7 كيفية تعريف الدين:

هل يجب أن يُعرّف الدين بالتعريف الحقيقي؟ أم يجب أن يُستخدم فيه التعريف اللفظي؟ وبعبارة أخرى: هل ينتمي مفهوم الدين إلى المفاهيم الماهوية التي تنطوي على مفاهیم نوعية وكليات خمس (النوع، والجنس والفصل والعرض العام، والعرض الخاص) ، أم أن مفهوم الدين ينتمي إلى المفاهيم المنطقية والفلسفية؟

توضيح ذلك : أنّ الفلاسفة وعلماء نظرية المعرفة قسّموا عموم العلم والمعرفة إلى

ص: 236

علم حصولي وعلم حضوري. أمّا العلم الحضوري فهو علم لا تتوسّط فيه الصورة الذهنية في التعلق بذات المعلوم، فيكون الوجود الواقعي المعلوم حاضراً عند المدرك؛ كما في معرفة الإنسان بذاته، وهو أن يظهر له بالشهود الباطني. وأما العلم الحصولي فهو علم تتوسط فيه الصورة الذهنية من أجل الارتباط بالمعلوم. وعليه فإنّ الصورة الذهنية هي التي تكشف عن المعلوم الخارجيّ، كما في علمنا بشخص زيد عن طريق مفهومه لدينا .

وقد قسم علماء المنطق العلم الحصولي إلى تصوّر وتصديق. أما التصوّر فهو تلك الصورة الذهنية البسيطة الفاقدة للحكم؛ كمفهوم «غار حراء»، وأما التصديق فهو الإذعان بحكم ما ، يُثبت نسبة المحمول إلى الموضوع، أو يسلبها عنه . ويتعلق التصديق دوماً بقضيّة حملية أو شرطية؛ مثل قولك : الإنسان حيوان ناطق»، أو «إذا طلعت الشمس كان النهار ».

وينقسم التصوّر - في إحدى تقسيماته - إلى كلّيّ وجزئي. أما الكلّيّ فهو المفهوم الذي من شأنه أن يصدق على كثيرين ؛ مثل مفهوم «الإنسان» الذي بإمكانه أن يصدق على مليارات من أفراد البشر. وبعبارة أخرى الكلّيّ مفهوم له قابلية الحمل على أفراد متعدّدين ؛ سواء كان لذلك المفهوم مصاديق موجودة بالفعل في الخارج؛ مثل مفهوم «الإنسان»، أم لم تكن له مصاديق ؛ مثل مفهوم «شريك الباري»، أو كان له مصداق خارجي واحد فقط؛ مثل مفهوم «واجب الوجود». وأما التصوّر الجزئي فهو تلك الصورة الذهنية التي ليس من شأنها سوى الإشارة إلى موجود واحد؛ كالصورة الذهنية (سقراط).

وتنقسم كلّ من التصورات الكلية والجزئية إلى أقسام أخرى؛ فالتصورات الجزئية تنقسم إلى حسّيّة، وخيالية، ووهمية والتصورات الكلية تنقسم إلى : مفاهيم ماهوية (معقولات أولى) ، ومفاهيم فلسفية (معقولات ثانية فلسفية)، ومفاهيم منطقية (معقولات ثانية منطقية).

ص: 237

ومفهوم «الدين» من المفاهيم الكلية القابلة للصدق على مصاديق كثيرة، وهنا يجب أن نبحث هل هو مفهوم ماهوي أم فلسفي أم منطقي؟

وقبل البدء في تحديد هوية مفهوم الدين وانطباقه مع أيّ من هذه المفاهيم الكلية الثلاثة، يتوجب إلقاء نظرة على تعاريف هذه المفاهيم أوّلاً:

1 . المفاهيم الماهويّة (المعقولات الأولى) : هي مفاهيم ينتزعها ذهن الإنسان من المصاديق الجزئية بشكل تلقائي ومن دون الحاجة إلى أي عملية أو مقارنة ذهنية؛ مثل : مفهوم «الإنسان» و«البياض»، فبمجرد إدراك شخصيّ واحد أو أكثر بالحواس الظاهرية أو الشهود الباطني، يتوصل العقل إلى المفهوم الكلي. وتمتاز المفاهيم الماهوية بأنها تحكي ماهية الأشياء، فتبين حدودها الوجودية، وتضع لكلّ موجود حدّاً هو بمثابة القوالب المفهومية.

2. المفاهيم الفلسفيّة (المعقولات الثانية الفلسفيّة): هي مفاهيم يتطلب انتزاعها شيء من التأمل والمقارنة؛ مثل : مفهومي «العلّة» و«المعلول»، حيث ينتزعان من مقارنة شيئين يتوقف وجود أحدهما على الآخر، فيؤخذ المعنى من واقع هذه العلاقة. مثال ذلك : عندما نقارن بين النار وبين الحرارة المتصاعدة منها ونلاحظ توقف الحرارة على النار، ينتزع العقل مفهوم «العلّة من النار ، ومفهوم «المعلول» من الحرارة. وإذا لم تكن هناك أي مقارنة لما كانت هذه المفاهيم. ويتميّز هذا اللون من المفاهيم الكلية بعدم وجود مفاهيم أو تصوّرات جزئية توازيها؛ فعلى سبيل المثال: لا يمتلك الذهن صورةً جزئية أو مفهوماً كلّيّاً عن «العلّيّة».

3 . المفاهيم المنطقيّة (المعقولات الثانية المنطقية): هي مفاهيم تنتزع من ملاحظة مفاهيم أخرى، والتدقيق في خصائصها. مثال ذلك : أننا حينما نلاحظ مفهوم الإنسان، ونجد أنه قابل للانطباق على مصاديق كثيرة، ننتزع منه مفهوم «الكلي». ولهذا، فإنّ هذه المفاهيم لا تقع إلا صفات لمفاهيم أخرى . وكل المفاهيم الأساسية في علم المنطق هي من هذه الطائفة (1).

ص: 238


1- راجع المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، مصباح اليزدي، ج1، الدرس 15.

وبملاحظة هذه التعاريف يتضح أن مفهوم الدين ليس من سنخ المفاهيم الماهويّة، ولا الفلسفية، ولا المنطقيّة؛ فلا الدين مفهوم يمتلك ماهية وحدّاً وجوديّاً يُعيّن مصاديقه حتى يكون مفهوماً ماهويّاً، ولا هو مفهوم يتطلب تأمّلاً ومقارنةً لأمرين حتى ينتزع منهما مفهوم فلسفيّ، كما أنه ليس بمفهوم يؤخذ من ملاحظة عدد من المفاهيم والتدقيق في خصائصها حتى يكون مفهوماً منطقياً.

والسرّ في عدم انتماء هذا المفهوم الكلي إلى أيّ من هذه الأقسام الثلاثة المذكورة للمفاهيم الكلية أنّ المقسم فيها هو الكليات البسيطة، في حين أن مفهوم الدين مفهوم مركب اعتباري تبلور من عناصر وأجزاء فرعية متعدّدة؛ مثله في ذلك مثل مفاهيم «الفيزياء»، و«علم النفس»، و«الرياضيّات»، و«التاريخ»؛ فمفهوم العلم مركب اعتباري يضعه العلماء وضعاً وجعلاً على مركب ما مثل: «الفيزياء» و«علم النفس».

ومحصلة ما تقدّم أنّ مفهوم الدين ليس مفهوماً ماهوياً ينطوي على نوع أو جنس أو فصل أو عرض عام أو خاص ؛ فلا تعريف حقيقي له إذن، ولا يصدق في حقه أيّ من أقسام التعريف الحقيقي الأربعة (الحدّ التام والناقص، والرسم التام والناقص). ولهذا اضطرّ علماء الدراسات الدینیّة إلى الاكتفاء بتعريفه حسب منهج التعريف اللفظي؛ ليستوعب المتلقّي مدلول هذا اللفظ والمعنى الذي وضع له، والمراد به حين الاستخدام، تحصيناً له من اللبس الذي قد يوقعه فيه الاشتراك اللفظي.

وإذا كان موضوع بحثنا هو مصداق معيّن ومحدّد مصداق معيّن ومحدّد من المصاديق المتعدّدة للدين، فعلينا أن نستعين بالتعريف المصداقي إذن؛ أي: أن نوضح للمتلقي خصائص ذلك المصداق، وأجزائه، وعناصره، وأركانه وآثاره؛ ليتميّز عن غيره من المصاديق.

3/7 .الاتجاهات المتنوّعة في تعريف الدين:

التدين حالة مدهشة ورثها الناس منذ عهد الإنسان البدائي في العصور الضاربة في القدم من حياة البشرية. وهي حالة وجدت في مختلف الأزمنة، ومستمرة إلى يومنا هذا،

ص: 239

وإذا تفاوتت في شكلها، وتنوّعت فيها الفرق والمذاهب فإن تغييراً لم يطل مفردة «الدين» .بعينها . لكننا نتساءل هنا هل يمكن العثور على معنى ثابت و أساسي للدين؟ فهل يمكن الوصول إلى معنى مشترك يلتقي فيه دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم النبيين محمد (عليهم أفضل الصلاة والسلام)؛ وهي الأديان الإلهية السماوية، وكذا دين بوذا (483 ق.م) وكونفوشيوس (479ق.م) وغيرهما؛ بوصفها أدياناً بشريةً أرضيّة؟

للإجابة على هذا السؤال، ينبغي لنا أن ندرس معاني «الدين» في المصادر اللغوية والدینیّة كما ستوافيه الأبحاث التالية.

4/7 .مفردة «الدين» في اللغات المختلفة:

تعد مفردة «دين» من المفردات المشتركة بين اللغات السامية (1) والإيرانية (2) .

و «الدين» في اللغة العربيّة والفارسيّة لفظ يُصنَّف على أنّه من «الأضداد»؛ لاشتماله على معان متفاوتة، بل متناقضة أحياناً؛ منها على سبيل المثال: «المذهب» و«الملة» و«الشريعة» و«المنهاج» و«القانون»، وكذلك «الحساب» و«القضاء» و«الجزاء» و«القصاص»، ومعاني: السلطان و الرفعة و الشأن، ومنها أيضاً: «الذلّ» والخضوع» و«الانقياد» و«التسليم» و «المقهورية» و«المحكومية» و«المملوكية»، وكذلك : «العبادة» و«الطاعة»، إلى جانب المعصية»، وغير ذلك ..(3) .

ص: 240


1- اللغات السامية هي إحدى فروع أسرة اللغات الأفروآسيوية. وهي فرع استقل تدريجياً ليشكل ما يفترضه اللغويون من لغة سمّوها اللغة السامية الأمّ. وتُنسب هذه اللغة للساميين الذين ينسبون إلى سام بن نوح. يتحدّث باللغات السامية حاليّاً حوالي 467 مليون شخص، ويتركز متحدّثوها حالياً في الشرق الأوسط وأفريقيا. أكثر اللغات السامية انتشاراً هذه الأيام هي العربية 22 دولة)، والأمهرية (إثيوبيا)، والتيغرينية (إرتريا وإثيوبيا)، ثم العبرية (اليهود). [م]
2- لاحظ: فرهنگ ،فارسي محمّد ،معین، ج2، مفردة «دين».
3- هذا ويحلّل صاحب كتاب «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» هذا الجذر اللغوي بقوله: « الأصل الواحد في هذه المادة : هو الخضوع والانقياد قبال برنامج أو مقرّرات معينه ويقرب منه : الطاعة والتعبد والمحكومية والمقهورية والتسليم في مقابل أمر أو حكم أو قانون أو جزاء. وبهذا الاعتبار، يفسّر اللفظ بما يقرب من مصاديق الأصل من الجزاء والحساب والدين والطاعة والذل والعادة والمملوكية وغيرها ولازم أن نتوجه بأن المعنى الحقيقى هو ما قلناه ولا بد من اعتبار القيدين الخضوع وكونه في مقابل برنامج. وأما مطلق الانقياد أو الطاعة أو الجزاء أو غيرها فليس من الأصل ومن لوازم هذا الأصل وآثاره: ذلّة ما أو العزة بعد الانقياد، وهكذا حصول التعبّد والمحكوميّة، واجراء الجزاء خيرا أو شرًا، وتحقق الطاعة أو المعصية والتثبت والاعتياد وهذا المعنى إذا لوحظ من جانب البرنامج يطلق عليه الحكم والجزاء والحساب والإعطاء وما يقرب منها. وإذا اعتبر من جانب المطاوع والقابل فيستعمل في معاني الطاعة والذل والمملوك والدين إذا يأخذه و غيرها». [م]

وفي اللغة الإنجلزية تعادل المفردة (Religion) الدين في العربية، وهي تعود إلى الجذر اللاتيني (Religio) ، وهي مشتقة من المفردة اللاتينية ( Religare) التي تعني : «التقريب»، و«الربط».

ويجب التنويه هنا بأنّ التعاريف اللغوية التي تعرضها لنا القواميس والمعاجم العربيّة والفارسية والإنجليزية وغيرها عاجزة عن كشف حقيقة مفهوم «الدين» وماهيته، ولهذا ينبغي البحث عن المعنى الاصطلاحي الماهوي له.

5/7 .تعريف الدين عند المفكرين الغربيين:

قدّم المفكرون الغربيون - بما يعم: الفلاسفة منهم و والمتكلّمون، وعلماء النفس والاجتماع والدراسات الدینیّة - حتى الآن تعاريف معيارية(1)، وماهوية وصفية(2)،وأخرى وظائفية (3)، ناهيك عن التعاريف المركبة والممزوجة(4) في موضوع «الدين»؛ نشير إليها فيما يلي بإيجاز :

1. التعاريف القيمية المعيارية : يرى مؤسس اللاهوت المعتدل شلاير ماخر(5) (1834م) أنّ الدين موضوع للتجربة، وهو إحساسنا بالتعلّق والتبعية المطلقة، وأنّ

ص: 241


1- Normative definition.
2- Descriptive definition .
3- Functional definition.
4- Complex.
5- فردریش دانيال أرنست شلاير ماخر 1768 Friedrich Daniel Ernst Sheermacher-1834م): فيلسوف ألماني ومؤسّس اللاهوت البروتستانتي الحديث ذاع صيته بسبب عمله عن أفلاطون، وتجلّى اهتمامه بالمشكلات الهرمنيوطيقية تأويل النصوص الدینیّة)، ويعد مؤسّس الهرمنيوطيقا الحديثة. [م]

الشعور بالتناهي أمام اللامتناهي هو العنصر المعياري المشترك بين جميع الأديان(1). ويُعرّف تي ميل الدين بأنه وضع روحانيّ، وحالة فذة محترمة تُسمّى الخشية(2). ويُعرّفه وليام جيمس (1910م) بأنّه : الأحاسيس والأفعال والتجربيات التي يجدها الناس في خلواتهم مع الله (3).

.2 . التعاريف الماهوية الوصفية : يبحث هذا اللون من التعاريف عن كشف ماهية الدين، ويرى سبنسر(4) (1903م) أنّ الدين هو الاعتراف بحقيقة مفادها أنّ جميع الموجودات تجليات لقوّة أسمى من علومنا ومعار فنا(5). ويُعرّفه بارسونز (6) (1979م) بأنّه مجموعة من المعتقدات والأفعال، والطقوس والمؤسسات الدینیّة التي شيدها الناس في شتى المجتمعات(7). ويرى روبرتسون(8) (مواليد 1938م أنّ الثقافة الدینیّة تُطلق على المعتقدت والرموز القيم التي تنشأ منها بشكل مباشر)، وهي تشتمل على التمييز بين الأمر التجريبي، والأمر المتعالي على التجربة، أو الواقع المتعالي. وهنا، تتحلّى الأمور التجريبية بأهمية أقل من الأمور غير التجريبية(9). والمناقشة التي نوجهها لهذه التعاريف ( المعيارية والوصفية) أنها لا تنطبق على جميع مصاديق الدين في المجتمعات البشرية، أو أنّ بعض المفاهيم المستخدمة فيها مثل: «المعتقدات»، و«الأفعال»،

ص: 242


1- الدراسات الدینیّة، ج 1، ص 85 بالفارسية)؛ العلم والدين ص 131 .(بالفارسية).
2- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 18.
3- فلسفة الدين، ص 2 .
4- هربرت سبنسر Herbert Spencer .[م]
5- المصدر السابق. ص .2 وقد نُقل عنه قوله في تعريف الدين: الاعتقاد بالحضور الفائق لشيء غامض وعصي على الفهم وكذا الإيمان بقوّة لا يمكن تصوّر ماهيّتها الزمانية ولا المكانية راجع كتابه المبادئ الأولية First Principles. [م]
6- تالکوت بارسونز Talcott Parsons . [م]
7- فلسفة الدين، ص 2.
8- [م] .Roland Robertson
9- Roland Robertson, The sociological interpretation of religion, Oxford: Blackwell, (1976) p.47.

و«الأحاسيس» غامضة، وليس هناك ما يمنع اشتمالها للمدارس الفكرية غير الدینیّة.

3 . التعاريف الوظائفيّة: هذا اللون من التعاريف ليس على نسق موحد، والقاسم المشترك بينها هو الحديث عن الوظائف التي يضطلع بها الدين؛ فيشير بعضها إلى الوظائف الفردية أو الاجتماعيّة للدين، ويقدّم البعض الآخر تقريراً عن الوظائف والآثار الإيجابية أو السلبية التي تُنسب للدين. على سبيل المثال: يرى براولي أنّ الدين قبل كلّ شيء هو جهد يسعى إلى اكتناه الحقيقة الكاملة للخير في جميع أرجاء وجودنا(1). ويذهب ريناخ (2) (1932م) إلى أنّ الدين مجموعة من الأوامر والنواهي التي تقف مانعاً في وجه الأداء الحرّ لقدراتنا. ويعتقد دوركايم(3) (1917م) أنّ الدين جامع وموحد لأتباعه في مجتمع أخلاقي واحد(4). ويقول سنغر: الدين منظومة من المعتقدات والأفعال، يوظفها بعض الناس لمعالجة القضايا الغائية في حياة البشر(5).

والمناقشة الأهمّ الموجّهة إلى هذا الضرب من التعاريف أنها شاملة لبعض الظواهر غير الدینیّة التي تشترك في الوظائف المذكورة، والتي لا محيص عن عدّها ديناً وفقاً لما تنص عليه هذه التعاريف وعليه فإنّ السعة غير المبرّرة لدائرة هذه التعاريف من شأنها أن تحدّ من دقته بشكل كبير؛ فهي تسمح بدخول بعض المنظومات العقائدية والأيدولوجية - مثل : الاشتراكية - إلى داخل نطاق الدين؛ في حين أنها مدارس لا تخفي عداءها للدين ووفقاً لهذا التعريف أيضاً سيكون المشجّعون المستميتون لأحد أندية كرة القدم، أو المعجبون المغرمون بأحد المطربين أو الممثلين أتباعاً لدين معيّن!

ص: 243


1- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 18.
2- سالومون رینا Salomon Reina : عالم آثار فرنسي [م]
3- إميل دوركايم Emile Dekheim فیلسوف وعالم اجتماع فرنسي يهودي. يُعدّ أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث [م]
4- وقد نُقل عنه قوله في تعريف الدين: أنه منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلقة بالأشياء المقدّسة تضمّ أتباعها في وحدة معنوية راجع كتابه الصور الأولية للحياة الدینیّة Les Formes élémentaires de la vie religieuse [م]
5- علم الاجتماع الديني (The Sociology of Religion) مالکولم هاميلتون ص 31 . [النسخة الفارسية]

أضِف إلى ذلك غموض المقصود ب«القضايا الغائية في حياة البشر» ؛ ما هي ؟ ومن يمكنه تحديدها؟ هل هم المؤمنون، أم علماء النفس والاجتماع، أو غيرهم؟ وهل إنّ أساليب الالتذاذ بالحياة، واجتناب الأذى والألم تُعدّ من القضايا الغائية في حياة البشر ؟

كما يتوجّه نقد آخر لهذه التعاريف، يكمن في حكمها المسبق على الدين، ودوره أو تأثيره على المجتمعات؛ حيث يُذكر في قالب التعريف بالدين ما هو الشيء الذي يجب إثباته بنحو تجريبي. فعلى سبيل المثال : عندما يُقال: إنّ الدين عامل عالمي في الحياة الاجتماعيّة؛ لأنه ضروري للوحدة الاجتماعية والنهوض بالاستقرار الاجتماعي. وقد حاول أنصار هذا التعريف الدفاع عنه في قبال أيّ شاهد يمكن له أن ينقض هذه النظرية. ولو وضعنا اليد على مجتمع فاقد لأي نظام ديني، فإنّ أنصار التعريف الوظائفي سوف يزعمون أن انعدام ما تعارف الناس على تسميته بالدين لا يُبطل رؤيتهم؛ لأن أيّ لأنّ أيّ مجموعة من المعتقدات والقيم التي تعزّز الوحدة والاستقرار في المجتمع هي دين حسب رؤيتهم(1).

والشاهد على ما ذكرنا حديث دوركايم عن الدين وتعريفه المبتني على التفريق بين المقدس واللامقدّس ؛ فهو يقول فيه : منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلقة بالأشياء المقدّسة؛ أي: الأمور التي يُتصَوَّر أنها مختلفة عن غيرها، وتُعدّ من الأمور المحرَّمة، وهي معتقدات وممارسات تجمع كلّ العاملين بها في مجتمع أخلاقي واحد(2).

.4 التعاريف التركيبية تتنوّع هذه الطائفة من التعاريف بشكل كبير، وتنطوي في : مضمونها على تعاريف عقائدية - أخلاقية، أو عقائدية - رمزية، أو عقائدية - آدابية، وهكذا دواليك. نذكر منها على سبيل المثال : ما ذهب إليه دوبيلاري(3)؛ حيث ارتأى

ص: 244


1- علم الاجتماع الديني مصدر سابق، ص 32.
2- المصدر السابق، ص 22-23 .
3- کارل دوبيلاري Karel Dobbelaere (من مواليد 1933م) عالم اجتماع بلجيكي متخصص في الدين. وهو أستاذ فخري في كل من جامعة أنتويرب والجامعة الكاثوليكية في لوفين ببلجيكا. ترأس سابقاً الجمعية الدولية لعلم الاجتماع الديني. [م]

أنّ الدين نظام موحد من المعتقدات والآداب المرتبطة بحقيقة سامية ومتعالية على التجربة هي توحد كلّ أتباعها، والمؤمنين بها، لتأسيس مجتمع أخلاقي موحَّد(1). ويرى ماستراو أنّ الدين مركب من أمور ثلاثة؛ هي: الاعتراف بقدرة (أو قدرات) لیست تحت تصرفنا، والعلم بخضوعنا ومقهوريّتنا لهذه القدرة (أو القدرات)، وطلب الارتباط بها. ويتحصل من هذه العناصر الثلاثة ما يلي : الدين إيمان نظري بقوّة أو قوى مجرّدة عنا، ومسيطرة علينا، وينتج عن هذا الإيمان أمور؛ هي: منظومات وقوانين محدّدة، وأفعال معيّنة، وأنظمة خاصة تربطنا وتصلنا بتلك القوّة (أو القوى) (2).

وإذا ما أمعنا النظر في هذه التعاريف لوجدنا أنها تسمح أيضاً بدخول بعض المدارس غير الدینیّة إلى نطاق التعريف، فتشتمل مثلاً الليبرالية والماركسية.

نستنتج مما تقدّم أنّ التعاريف المعيارية والماهوية والوظائفية والتركيبية التي عرض لها المفكّرون الغربيون للدين بنظرة علمية - اجتماعية تفتقر للجامعية والمانعية المطلوبة في التعريف؛ فلا ينطبق أياً مما ذكر على الأديان الحاضرة في المجتمعات البشرية، بل إنها تنطبق على بعض المدارس الفكرية غير الدینیّة.

ومن هذا المنطلق، تمسّك فيتغنشتاين (3) (1951م في تعريفه المفاهيمي عن الدين بنظرية «التشابه العائلي» (4).

وعلى أساس من هذه الرؤية، ليس هناك أي قاسم مشترك بين المصاديق المتنوّعة

ص: 245


1- سوسيولوجيا الدين دانيال هيرفيه ليجيه وجون بول ويلام ص 171 (النسخة المترجمة للفارسية). تُرجم هذا الكتاب وطبع عام 2005 ترجمة درويش الحلوجي، منشورات المجلس الأعلى للثقافة في مصر. [م]
2- ماهية الدين ومنشأه فضل الله ،کمپاني ص 112-113 (بالفارسية).
3- لودفيغ فيتغنشتاین Ludwig Wittgenstein : فيلسوف وعالم منطق نمساوي، انقسمت حياته الفلسفية إلى فترتين في الأولى كتب رسالته المشهورة في المنطق «الرسالة» حاصراً وظيفة الفلسفة بتحليل اللغة فقط، ورأى أن هذه اللغة تخضع لجملة من القواعد المنطقية هي بمنزلة «الصياغة المنطقية للغة». وفي الفترة الثانية: بدأ بنقد «الرسالة» وتطويرها إلى «بحوث فلسفية»، وفيها رفض أي أثر للفلسفة في تقديم تفسيرات للعالم وما يدور فيه. [م]
4- Family resemblance.

للدين، بل إنّ مصاديق الدين قد تشترك مع بعضها البعض مثنى وثلاث ورباع أو .أكثر . أما جيمس (1) (1910م) فقد استنتج من التنوّع الوسيع لمصاديق الدين أنّ هذه المفردة لا تدلّ على مبدأ موحد، بل هي اسم يُطلق على مجموعة من الطقوس(2). هذا، وقد أعرض ماكس فيبر (3) (1920م) في مطلع كتابه حول علم الاجتماع الديني عن تعريف الدين، زاعماً أنّ هذا يجب أن يحدث بعد الفراغ من البحوث والدراسات القارئة للدين(4). لكنّه لم يبلور نظرية واضحة في دراساته الاجتماعية؛ لأنه لو رام إلى وضع تعريف جامع ومانع يشمل كلّ الأديان الموجودة لتورّط في دوّامة العناصر الغامضة والمجملة في التعريف.

6/7 .تعريف الدين عند المفكّرين المسلمين:

استعرض الحكماء والمتكلّمون والمفسّرون المسلمون تعريفاتهم الحقيقة الدين، بعيداً عن الأساليب الأحادية المحور، فلم يُعرّفوه بأسلوب أو منحى معرفي-عقائدي، أو بمنحى وجودي، أو وظائفي، أو ما شاكل ذلك، بل اختاروا منهج التعريف الشامل الجامع. وعلى سبيل المثال:

يقول العلامة الطباطبائي (1402ه) :

الدين هو مجموعة المعتقدات والقوانين التي تناسبها مما له جانب عملي في الحياة (5) .

ص: 246


1- ويليام جيمس William James : فيلسوف مثالي أمريكي من أصل أيرلندي. يُعدّ من روّاد علم النفس الحديث كتب مؤلّفات مؤثرة في علم النفس الحديث وعلم النفس التربوي، وعلم النفس الديني والتصوّف والفلسفة البراغماتية [م]
2- The Varieties of Religious Experience (New York: Collier Books, 1961, P.39
3- ماكسيميليان كارل إميل فيبر Maximilian Carl Emil Weber : عالم اقتصاد وسياسة واجتماع ألمانّي يُعدّ من مؤسسي علم الاجتماع الحديث عمله الأكثر شهرة مؤلفه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية أسس به لعلم الاجتماع الديني، وأشار فيه إلى أنّ الدين هو عامل غير حصري في تطوّر الثقافة في المجتمعات الغربية والشرقية.[م]
4- راجع كتابه: 1.The Sociology of Religion, P
5- الشيعة في الإسلام محمد حسين الطباطبائي، ص 3 (النسخة الفارسية).

ويقول العلامة الجوادي الآملي في تعريفه للدين :

إنه مجموعة العقائد والأخلاق والقوانين التي جاءت لإدارة شؤون المجتمع البشري، وتربية الإنسان، فإذا كانت حقةً سُمّي الدين بالدين الحق. وعليه فإنّ الدين الحق هو دين نزلت عقائده وقوانينه من الله عَزَّ وَجَلَّ، والدين الباطل هو الذي جاء ووضع ونظم من عند غير الله (1) .

ويرى حامد الغار (2) في شرحه عن الدين :

إنّه مجموعة من الأحكام والعقائد التي وضعها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بين يدي الإنسان لهدايته وإيصاله إلى السعادة الدنيوية والأخروية... وإنّ الدين والدنيا والحياة أمور مندكة في بعضها، وقد جاء الدين لإصلاح الحياة، وهدايتنا في بوتقة الدنيا. وإنّ معرفة الأسلوب والنموذج الصحيح للحياة لا يتسنّى من دون الوحي، والعمل بأحكام الدين ... الدين شامل للمعارف العقلية، والشهود القلبيّ والعمل الشرعيّ (3).

وعن تعريف الدين أيضاً يقول الشيخ العلامة السبحاني:

هو ثورة فكرية تقود الإنسان إلى الكمال والترقي في جميع المجالات. وما هذه المجالات إلا أبعاده الأربعة: تقويم الأفكار والعقائد وتهذيبها عن الأوهام والخرافات وتنمية الأصول الأخلاقية، وتحسين العلاقات الاجتماعية، وإلغاء الفوارق العنصرية والقومية (4) .

ص: 247


1- الشريعة في مرآة المعرفة عبدالله الجوادي ،الآملي، ص 93-95 .(النسخة الفارسية).
2- حامد الغار Hamid Algar (من مواليد 1940م بإنجلترا: أستاذ بريطاني أمريكي مختص بالدراسات الإسلامیّة والفارسية في كلية دراسات الشرق الأدنى بجامعة كاليفورنيا ببيركلي الأمريكية. حاز على شهادة الدكتوراه من جامعة كامبريدج، كان مسيحيّاً، ثمّ أسلم عام 1959م، له عدة مؤلّفات وترجمات، ونُشرت له أكثر من مئة مقالة في موسوعة إيرانيكا [م]
3- مجلة كتاب نقد، العدد ،2و 3 ص 114 (بالفارسية).
4- الإلهيّات على هُدى الكتاب والسنة ،والعقل، جعفر السبحاني، بقلم حسن مكي العاملي، ج 1، ص 6.

ويقول العلامة الشيخ مصباح اليزدي :

«الدين» كلمة عربية، ذكرت في اللغة بمعنى: الطاعة والجزاء. وأما في الاصطلاح فتعني : الإيمان بخالق الكون والإنسان، وبالتعاليم والأحكام العملية الملائمة لهذا الإيمان(1).

7/7. التعريف المختار للدين :

1/7/7. المنحى التجريبي والاجتماعي:

مكانة البحث عن حقيقة الدين في خضم قضايا الدراسات الدینیّة ليست على نحو واحد أو وتيرة مشابهة؛ فبعض من تلك القضايا تتوقف بنحو تام على تعريف

الدين، ومن دون تحديد تعريف دقيق له، والكشف عن هويته وحقيقته، أو ما يقصده الباحث - على أقل التقادير - لا يمكن تقديم أي تفسير، أو تحليل لتلك القضايا. ومن بين الأبحاث والقضايا التي هي على هذا النحو البحوث المتعلقة بالعلاقة بين الدين

والدنيا، أو الدين والآخرة، أو العلم والدين، أو العقل والدين، وهلم جرّاً ..

وهناك قضايا أخرى مما تتناولها بحوث الدراسات الدینیّة تتميّز بترابط متبادل مع حقيقة الدين ومثالها : القضايا المرتبطة بحاجة الإنسان للدين وتوقعاته منه، ونطاق الدين؛ فمن جهة يتوقف البحث عنها على تعريف الدين؛ لأنّ الإجابة المنطقية على التساؤل عما يتوخاه الإنسان ويرتقبه من الدين، أو عن نطاق الدين، لا تتأتى من دون معرفة معنى الدين وحقيقته، ومن جهة أخرى فإنّ تحديد ماهية الدين هي النتيجة والثمرة التي ينتهي إليها هذان البحثان . وبعبارة أخرى: هنالك دور هر منيوطيقي في هذا النوع من القضايا. وبطبيعة الحال، يكفي أن نفرّق ونميز بين التعريف الإجمالي والتفصيلي للدين؛ كي نتفادى التورّط في الدور الفلسفي.

هذا، ويمكن استعراض تعريف الدين حسب رؤيتنا من خلال ثلاث زوايا مختلفة؛ هي : المنحى التجريبي، والعقلي، والنقلي؛ كما يلي:

ص: 248


1- دروس في العقيدة الإسلامیّة، مصباح اليزدي، الدرس الأول.

المنحى التجريبي والاجتماعي:

يعتمد هذا المنحى التجريبي أو الاجتماعي على دراسة جميع مصاديق الدين؛ بما يعمّ الأديان الإلهية والوضعية؛ التوحيدية وغير التوحيدية؛ السماوية وغير السماوية، ثمّ الخلوص إلى نتيجة هذا البحث والدراسة في صورة تعريف جامع لكل الأفراد، ومانع لكلّ الأغيار.

وقد ذهب جمع غفير من المحققين إلى تعسّر الوصول إلى تعريف جامع ومانع يحتوي الأديان الموجودة كافةً لسببين :

1. أنّ التحوّلات والتغييرات المتلوّنة التي شهدتها الأديان على مر التاريخ تسبّبت في تبلور ملل ونحل عديدة ومختلفة. وقد تبنّت هذه الأديان والملل والنحل المتنوّعة معتقدات مختلفة، بل متضادّة، ومتناقضة أيضاً. ولهذا، لا يمكن الوصول إلى تعريف دقيق، تستظل بمظلّته جميع المعتقدات الدینیّة إلّا إذا لجأنا إلى مفردات غامضة في التعريف؛ وهذا - كما ألمحنا مسبقاً - أسلوب خاطئ، ولا ينسجم مع الغرض من التعريف بتاتاً.

2 . أن تعريف الدين ليس مسألة أوّليّة في سلّم أبحاث الدراسات الدینیّة؛ فإنّ ماهية الدين تنطوي على أسس ومبادئ إبستمولوجية، وأنثروبولوجية، وأنطولوجية، ووظائفية، كما أنّ معطيات علم المناهج لها تأثيرها في تمحيص التعاريف المقدمة عن الدين، وترجيح بعضها على الآخر؛ فعلى سبيل المثال : تُقدّم المناهج النصوصية المنتمية للداخل الديني، وعمليات مراجعة مصادر كل دين تعريفاً معيناً، فيما تخلص المناهج اللانصوصيّة الخارجة عن الأطر الدینیّة - كالمنهج الوظائفي مثلاً - إلى تعاريف أخرى مختلفة؛ نظراً إلى التنوع الموجود في مصاديق الأديان.

وفي تقديرنا يمكن في المنحى التجريبي الاجتماعي الإشارة إلى ثلاثة قواسم مشتركة، لا ضير في إسنادها إلى جميع الأديان الإلهية والوضعية؛ هي :

ص: 249

1 . الإيمان بعالم باطني ملكوتي، يُقابل العالم الظاهري الملكي.

2 . الإيمان بقضية النجاة والفلاح.

1. تقديم منظومة وصفية معيارية لاكتشاف العلقة بين الملك والملكوت، والفوز بالنجاة والفلاح.

وإن جميع الأديان الإلهية والوضعية تؤمن بأنها تستطيع هداية الإنسان نحو العُلقة بين الظاهر والباطن، أو الملك والملكوت، وكيفية العبور من الظاهر للوصول إلى الباطن في هذا العالم، وكذلك سبل الفوز بالنجاة والفلاح. ولا يخفى أن المنحى التجريبي ليس من شأنه أن يكشف النقاب عن حقّانيّة هذا المدعى أو بطلانه، أو أن يميز بين الدين الحق والدين الباطل، وهو يكتفي بتقديم تقرير محايد عنه. ولهذا، فإنّ الوقوف على حقّانيّة المزاعم الدینیّة أو عدمها أمر مطلوب من المنحى المنطقي.

2/7/7. المنحى العقلي والمنطقي :

المنحى البحثيّ الثاني الذي يمكن اتباعه في الكشف عن حقيقة الدين وماهيته هو المنحى العقلي والمنطقي؛ حيث يقوم هذا الأسلوب البحثي بدراسة مدعيات الأديان، وتمحيصها بعيداً عن ملاحظة ما تطلقه من مزاعم، وذلك من خلال توظيف القواعد المنطقية. ويمكن للأسس الإبستمولوجية والأنثروبولوجية والأنطولوجية والوظائفية أن تمدّ يد العون لتعزيز عمليّة الوصول إلى تعريف منطقي للدين.

ويعتمد المنهج المنطقي في عملياته على توظيف القواعد المنطقية لإثبات وجود إله حكيم مستجمع الجميع الكمالات، ثمّ الحكم بضرورة وجود حياة تعقب الموت على أساس من العدل الإلهي والحكمة الربّانيّة، ثم التدليل على الصلة التي تربط المعتقدات والأفعال والسلوكيات الدنيوية بالعالم الأخروي، وبعبارة أخرى العلقة بين العالم الظاهر (الملك) والعالم الباطن (الملكوت)، ثمّ تبرهن بعد ذلك على عجز الأدوات

ص: 250

والمصادر البشرية الاعتيادية - كالعقل والتجربة والشهود - عن كشف العلقة بين هذين العالمين (الدنيا والآخرة، أو الظاهر والباطن، أو الملك والملكوت)، وكذلك عجزها عن تأمين السعادة والفلاح للإنسان. ثمّ يستنتج من الحكمة الإلهية ضرورة التمهيد لهداية الشر. ولا تتحقق هداية الإنسان إلا بعد ظهور الوحي الإلهي والدين الحق، وصيانتهما من التحريف اللفظي والمعنوي.

أمّا حقيقة الدين في هذه الرؤية فتتحلّى بمبدأ فاعليّ إلهي ومبدأ غائيّ محقِّق للسعادة، ومبدأ مضموني تفسيري للعلقة بين الملك والملكوت، وسبل الفوز بالسعادة.

وهذا التعريف لا ينطبق إلا على بعض الأديان، وليس جميعها؛ فالأديان الوضعية البشرية وإن ادّعت أنها تمثل الظاهر والباطن للعالم وللنجاة والفلاح الإنساني، وينطبق عليها مسمّى «الدين في المنحى التجريبي، لكنّها لا تُعدّ ديناً حقيقياً؛ بمعنى أنها عاجزة عن هداية الإنسان أو إسعاده، وغير مؤهّلة لاكتناه العلقة الحقيقية بين ظاهر العالم وباطنه.

3/7/7. المنحى النصوصي الديني :

المنحى البحثي الثالث الذي يمكن توظيفه في معرفة حقيقة الدين هو المنحى النصوصيّ المنتمي للداخل الديني، من خلال مراجعة المصادر الدینیّة. ولا يخفى أنّ مفردة «الدين» قد استخدمتها بعض النصوص الدینیّة؛ مثل: الأبستاق(1)، والتوراة والقرآن الكريم. ويمكن للبحوث الدلالية الدارسة لهذه المفردة أن تسهم في معرفة حقيقة الدين بشكل مؤثّر.

ص: 251


1- الأبستاق أو الأفيستا كتاب زرادشت رسول) الدين المجوسي)، وهو الكتاب المقدس عند أتباع الديانة الزرادشتية (المجوسية). وتعني كلمة أفيستا - أو أوستا - باللغات القديمة الأساس والبناء القوي، ولغته هي اللغة الأفستية ذات الصلات القوية باللغة السنسكريتية الهندية القديمة [م]
4/7/7 .مفردة الدين في الأبستاق:

المقصود بمفردة الدين في الأبستاق لفظة «دَئنا » ، أو Daena». وتعود جذور هذه الكلمة إلى معانٍ مثل : التفكير، والاطلاع، والمعرفة . وتُعدّ الدئنا في الديانة الزرادشتية من الأسس والأصول؛ لأنها القوّة المدركة التي يتميّز بها الإنسان، وتمنحه القدرة على معرفة الصالح والطالح، والتي تجري على أساسها عمليّات الاختيار والاصطفاء، ومن ثم النجاة والخلاص.

وقد عزا البعض مفردة الدئنا إلى اللفظة «داي» ، أو (Day» التي تعني الإبصار. ولهذا ذهبوا إلى أنها تعني: «النظر» و«الرؤية» ؛ لكن ليس بمعنى الرؤية الاعتيادية، بل الرؤية الدینیّة والشهودية على نحو الحصر؛ أي الوسيلة التي يجد بها الإنسان الحقيقة الإلهية (1).

5/7/7 .مفردة الدين في التوراة :

لم تُستخدم مفردة «الدين» في العهد الجديد أو الأناجيل الأربعة، لكنّها ومشتقاتها اللغوية وردت في التوراة بمعنى: «القضاء» و«الجزاء» في هذه الحياة الدنيا؛ وليس القضاء والجزاء في الحياة الأخرى بعد الموت.

ومن نماذج القضاء الإلهي في التوراة قصص طوفان النبي نوح (علیه السّلام)، وخراب قريتي «سدوم» (2) و «عمورة»(3) اللتين ورد ذكرهما في سفر التكوين، والاسمان «دان Dan» و «دينة Dena » المنسوبان إلى أبناء يعقوب (علیه السّلام)، ومن المحتمل أنهما مشتقان من مفردة الدين ولهما ارتباط معنوي بالقضاء والجزاء أيضاً.

ص: 252


1- لاحظ: الأبستاق، ترجمة وتحقيق هاشم رضي ص 115 و 424 (بالفارسية).
2- سَدُوم (بالإنجليزية : Sodom) : اسم عبري يعني الاحتراق أو المحروق وهو اسم قرية لوط ، خسفها الله تَبَارَكَ وَتَعَالى بسبب ما كان يقترفه أهلها من مفاسد - منها: إتيانهم الذكور من دون النساء - وفق ما ورد في بعض النصوص الدینیّة [م]
3- عَمُورَة (أو): غومورا؛ بالإنجليزية: Gomorrah): كلمة عبرية تعني مغمورة؛ وهي اسم قرية أخرى خسفها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بسبب ذنوب أهلها، ورد ذكرها في التوراة. [م]

وحسب الرواية التوراتية فإنّ ابنة يعقوب تقع في فخ ابن أحد الأمراء، وتفقد في تلك الحادثة عفافها، فيرسل الخاطئ أهله ليطلبها زوجةً من أهلها، فيلتزم يعقوب الصمت. وبعد وقوف بني يعقوب على ما حدث، يذهب اثنان منهما، وهما شِمْعُونَ وَلاَوِي، فيغدرون بقوم ذلك الرجل، وجميع أهله، وأبناء قريته، ويبيدون رجالهم جميعاً، وهكذا يكونون قد قاضوهم، وأنزلوا بهم جزاء أفعالهم (1). وقد أطلق اليهود على فتاة هذه الواقعة اسم «دينة»(2) .

وقد استخدمت المفردة «دان Dan» في سفر التكوين أيضاً؛ حيث تقص الرواية التوراتية أنّ راحيل زوجة يعقوب كانت عاقراً، في حين كان لأختها ذرية كثيرة. فدبّت نار الغيرة والحسد في نفسها تجاه أختها ، وخاطبت يعقوبَ أن ائتيني بذريّة، وإلا مِتُّ. فزوجته جاريتها «بِلْهَة» التي حملت من يعقوب بغلام، ولدته في حجر راحيل. فقالت راحيل : قد قضى لي الله وسمع الصوتي، وأعطاني ابناً، ولهذا أسموه دان (3).

ص: 253


1- ونصّ الواقعة - حسب ما ورد في سفر التكوين - ما يلي: وخرجت دينة ابنة ليئة التي ولدتها ليعقوب لتنظر بنات الأرض، فرآها شكيم ابن حمور الحوّيّ رئيس الأرض، وأخذها واضطجع معها وأذلّها. وتعلّقت نفسه بدينة ابنة يعقوب وأحب الفتاة ولاطف الفتاة فكلّم شكيم حمور أباه قائلاً: "خذ لي هذه الصبية زوجةً“. وسمع يعقوب أنّه نجس دينة ابنته. وأما بنوه فكانوا مع مواشيه في الحقل فسكت يعقوب حتى جاءوا. فخرج حمور أبو شكيم إلى يعقوب ليتكلّم معه. وأتى بنو يعقوب من الحقل حين سمعوا. وغضب الرّجال واغتاظوا جدًّا لأنّه صنع قباحةً في إسرائيل بمضاجعة ابنة يعقوب، وهكذا لا يصنع. وتكلّم حمور معهم قائلاً: "شكيم ابني قد تعلّقت نفسه بابنتكم. أعطوه إيَّاها زوجةً وصاهرونا... فأجاب بنو يعقوب شكيم وحمور أباه بمكرٍ وتكلموا؛ لأنه كان قد نجس دينة أختهم ... فحدث في اليوم الثالث إذ كانوا متوجّعين أنّ ابني يعقوب، شمعون ولاوي أخوي ،دينة، أخذا كلّ واحدٍ سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كلّ ذكرٍ. وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف، وأخذا دينة من بيت شكيم وخرجا. ثم أتى بنو يعقوب على القتلى ونهبوا المدينة، لأنّهم نجسوا أختهم . غنمهم وبقرهم وحميرهم وكل ما في المدينة وما في الحقل أخذوه وسبوا ونهبوا كلّ ثروتهم وكلّ أطفالهم ونساءهم وكلّ ما في البيوت». راجع سفر التكوين، الباب 34، من رقم 1 إلى 29 حاشا الأنبياء وأبناء الأنبياء مما نسب لهم اليهود أخزاهم الله وتعالى الله عما يصفون.[م]
2- ولعلّ الأدق أنّ الاسم قد ورد بنصه في تلك الواقعة كما نقلنا في الهامش السابق. [م]
3- ونص الأقصوصة - حسب ما ورد في سفر التكوين - ما يلي: «فلما رأت راحيل أنّها لم تلد ليعقوب، غارت راحيل من ،أختها وقالت ليعقوب: "هب لي بنين، وإلا فأنا أموت فحمي غضب يعقوب على راحيل وقال: "ألعلّي مكان الله الذي منع عنك ثمرة البطن؟ فقالت: "هوذا جاريتي بلهة ادخل عليها فتلد على ركبتي، وأرزق أنا أيضًا منها بنين. فأعطته بلهة جاريتها زوجةً، فدخل عليها يعقوب، فحبلت بلهة وولدت ليعقوب ابنًا، فقالت راحيل: قد قضى لي الله وسمع أيضًا لصوتي وأعطاني ابنًا . لذلك دعت اسمه دانًا» راجع سفر التكوين الباب ،30 من رقم 1 إلى 6 [م]

ومن هنا، فإنّ مفردة الدين ومشتقاتها وردت في التوراة بمعنى القضاء والجزاء الدنيويّين، لكنّ هذه الكلمة بعينها جاءت في التلمود (1)بمعنى القضاء والجزاء الأخرويين.

6/7/7 .مفردة الدين في القرآن الكريم :

وردت مفردة «الدين» في الكتاب والسنّة بمعانٍ عديدة؛ منها ما يلي:

.1 النظام المعرفي والقيمي عموماً (الحق والباطل) : كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ﴾ (2) ، (لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِي دِينِ) (3). ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرُ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (4).

2 النظام المعرفي والقيمي الإلهي الحق كما في قوله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لله أَمَرَ أَلَا تَعْبُدُواْ إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾(5) ، ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ) (6))، (إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ

ص: 254


1- التلمود Talmud : لفظة عبرية تفيد معنى «التعليم» و «التعلم والدرس. والمقصود بها التعليم القائم على أساس الشريعة الشفهية. وتطلق هذه المفردة عادة على مصنّف الأحكام الشرعية أو مجموعة القوانين الفقهية اليهودية»، فهو كناية عن فقه شرعي وتفسير كتاب التوراة ويضم مجموعة الكتب والأسفار التي تحوي سجل التشريعات والمجادلات والأخبار والقصص والأقوال الحكمية كذلك الأعمال والآثار التي أنتجتها المدارس الدینیّة اليهودية في فلسطين وبابل خلال الفترة الممتدة من القرن الثالث إلى القرن الخامس للميلاد [م]
2- سورة التوبة: 33.
3- سورة الكافرون 6 .
4- سورة آل عمران: 85 .
5- سورة يوسف: 40.
6- سورة يونس: 105.

اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(1) ، (أَفَغَبَرْ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ (2)،(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (3)، (وَوَصيَّ بَهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾(4).

3. الجزاء والحساب: كما في قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾(5) ، ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (6).

4. الشريعة والقانون(7): كما في قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بالله هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾(8) ، ﴿فَبَدأَ بأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَن يَشَاء الله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (9) وإن كان المعنى الأول والثاني محتمل أيضاً في هذه الآيات.

5 . الطاعة والعبادة والتدين (10): كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ

ص: 255


1- سورة آل عمران: 19 .
2- سورة آل عمران: 83 .
3- سورة التوبة: 33 .
4- سورة البقرة : 132 .
5- سورة الفاتحة: 4 .
6- سورة الشعراء: 82 .
7- راجع: تفسير الميزان محمد حسين الطباطبائي، ج 15، ص 79.
8- سورة الحج: 78.
9- سورة يوسف: 76.
10- راجع:تفسير الميزان محمّد حسين الطباطبائي، ج 17، ص 233.

فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) (1)، وقد ورد في الحديث الشريف: «الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين»(2).

6 . الإيمان والعقيدة القلبية (3): كما في قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَنَّ الرُّشْدُ مِنَ الْغَى فَمَنْ يَكْفُرُ بالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (4)، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مُمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ الله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً )(5) .

7 . الإسلام: وردت مفردة الدين في القرآن الكريم بمعنى «الإسلام» والرسالة الخاتمة المنزلة على الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) في الآية التاسعة عشر من سورة آل عمران (6) ،كما وردت بهذا المعنى بكثرة في الأحاديث الشريفة؛ فعلى سبيل المثال: روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «بني الإسلام على عشرة أسهم على شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملة، والصلاة وهي الفريضة، والصوم وهو الجنّة، والزكاة وهي الطهارة، والحجّ وهو الشريعة، والجهاد وهو العزّ، والأمر بالمعروف وهو الوفاء، والنهي عن المنكر وهي المحجّة والجماعة وهي الألفة، والعصمة وهي الطاعة»(7).

وقد سأل كميل بن زياد أمير المؤمنين (علیه السّلام) عن قواعد الاسلام ما هي ؟ فقال (علیه السّلام): «قواعد الاسلام سبعة فأولها العقل، وعليه بني الصبر، والثاني صون العرض وصدق اللهجة، والثالثة تلاوة القرآن على جهته والرابعة الحبّ في الله والبغض في الله، والخامسة حق آل محمّد ومعرفة ولايتهم، والسادسة حق الإخوان و المحامات

ص: 256


1- سورة الزمر : 2 .
2- نهج البلاغة الكلمات القصار 125 .
3- راجع: تفسير الميزان محمد حسين الطباطبائي، ج 9، ص 428.
4- سورة البقرة : 256 .
5- سورة النساء: 125 .
6- قال تعالى في هذه الآية: (إنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلَامُ). [م]
7- بحار الأنوار، ج 65، ص 375.

عليهم، والسابعة مجاورة الناس بالحسنى»(1). وروي عن الإمام الباقر (علیه السّلام) أنه قال: «بني الإسلام على خمس : على الصلاة والزكاة والصوم، والحجّ، والولاية..»(2).

ويرى بعض الكُتّاب (3) أنّ كلّ مفردة تنطوي على معنى رئيسي ومركزي واحد تبقى روحه مخيّمة على اللفظ ؛ وإن طرأت عليه تطوّرات دلالية متعاقبة، مَثَله في ذلك مَثَلُ أيّ عنصر من مجموعة عناصر تتألف منها منظومة حيّة، فعلاقته وصلاته بالعناصر الأخرى لتلك المنظومة في حال تجدّد وتبدّل مستمرّين، ولعلّه في خضمّ تلك التطوّرات والتبدلات يضطلع بأدوار جديدة لم تكن من ذي قبل؛ كما في الأدوار التي يلعبها الفرد الإنساني في مجتمعه الذي يعيش فيه. فالمنظومة اللغوية لها وضع مشابه لذلك؛ ولو على نحو الموجبة الجزئية. ولو لم نقبل بهذه الرؤية كقاعدة كلية، فإن صدقيتها في المفردات القرآنية ليست بالأمر البعيد.

ومن هنا، فإنّ وجود عشرات الآيات ومئات الجمل المتنوعة التي استخدمت فيها مفردة «الدين» من شأنه أن يضعنا في مواجهة مع عشرات المعاني المختلفة لهذه المفردة، لكن المعاني المتغيّرة لا تتصف بالمصداقية والاعتبار إلا إذا أُخذت ضمن تركيبتها اللغوية التي تتموضع فيها، ولم تتناقض مع المعنى الأساسي والمركزي.

ولا يخفى أنّ أحد العوامل التي أدّت إلى حدوث اضطرابات كثيرة في المعاني التي تنقلها لنا المعاجم والقواميس اللغوية هو التركيز المتزايد على حشد مجموعة من المعاني النسبية المتنوّعة لمفردة واحدة، بدل السعي في تحديد المعنى الأساسي لها. فعلى سبيل المثال: لو راجعنا قاموساً مثل المنجد في «اللغة لنلحظ فيه معاني مفردة «الدين»، لوجدنا أنه يستعرض تسعةً وعشرين معنى مختلف لها، في حين أنّ كلاً من هذه المعاني لا يمكن الأخذ به كمدلول دقيق ومناسب لهذا اللفظ إلا إذا لوحظ في تركيبة ونسيج

ص: 257


1- بحار الأنوار، ج 65، ص 381.
2- الكافي، ج 1 ، ص ،18 باب دعائم الإسلام.
3- لاحظ: الهاجس الأخير علي طهماسبي، ص 73-95 . (بالفارسية)

لغوي معيّن استخدم فيه، ولا يتسنّى لهذا المعنى أن يرتبط بلفظ «الدين» خارج هذه الدائرة.

والشواهد القرآنية تشير إلى أنّ المعنى الأساسي والمركزي للدين في جميع الحالات المتغيّرة لهذه الكلمة سواء وردت في مجالات الآداب أو الشعائر أو السلوكيات أو الحقوق الاجتماعيّة وغيرها، ومن دون ملاحظة التطوّرات الزمانية والمكانية الطارئة عليها - هو دائماً معنى واحد فقط. والمعنى الأساسي هو ذلك الجوهر الباطني الذاتي الفريد الذي لا يتقيّد بالأزمنة والأمكنة والأفراد؛ بخلاف المعنى النسبي الذي يتأثر بكلّ ذلك.

وهنا نقول : إذا أردنا الالتزام بهذا المبدأ، أو حتّى إذا لم نشأ فعل ذلك، واكتفينا بما نستنتجه من مجموع الآيات القرآنية التي وردت في مفردة الدين، فسوف يكون بمقدورنا اكتناه المعنى الحقيقي لهذه المفردة في الكتاب والسنة. وحسب تقديرنا، فإنّ حقيقة الدين في النصوص الدینیّة هي :«مجموع الرؤى والمناهج والسلوكيات التي تبيّن للإنسان طريق السعادة والنجاة».

توضيح ذلك : أنّ الدراسة الدلالية للآيات القرآنية المباركة تهدينا إلى أن مفردة «الدين» قد استخدمت غالباً في معنيين مختلفين أكثر من المعاني الأخرى؛ وهما:

1 . معنى «المذهب» و «الملة» و«الشريعة» و«القانون» و«الآداب»؛ كما استخدمت في قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾(1) ، ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ (2)، ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ) (3))، ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ )(4) ، (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾ (5)، وغيرها .

ص: 258


1- سورة الكافرون: 6 .
2- سورة المائدة: 3 .
3- سورة النصر : 2 .
4- سورة المائدة :3 .
5- سورة النساء: 171 .

2 . معنى «الحساب» و «القضاء» و «الجزاء» و«الثواب» و«العقاب» وما شاكل

ذلك؛ ومنه قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (1)، (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِع )(2) ، (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ)(3) ، (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) (4)، وغيرها .

نعم؛ استخدمت لفظة «الدين» بمعنى التدين» في كثير من النصوص الدینیّة، وهو معنى يجب إرجاعه إلى المعنى المرتبط بحقيقة الدين.

وإنّ التأمل الدلالي في هاتين الطائفتين من المعاني يأخذنا إلى منطلق وجذر معنويّ واحد لهذه المفردة في القرآن الكريم، وهو ما يمكن استكشافه من خلال وقوفنا على أصل موضوعي قرآني مسبق؛ مفاده : الترابط التكويني بين المعتقدات والأفعال من جهة، والنتائج المترتبة عليها من جهة أخرى؛ وهو ما يمكن استنباطه بشكل واضح وصريح من آيات قرآنية عديدة.

ولتقريب الفكرة نقول: إذا زرع الفلاح القمح في ظروف اعتيادية ضمن خطّة مدروسة وسليمة فإنه سوف يحصد ثمار جهوده هذه بعد انقضاء الأجل المطلوب لذلك لا محالة؛ وهو أمر طبيعي وبديهي. وهذا هو حال العلاقة الوطيدة بين الإيمان والعمل من جهة والمصير الذي يرتبط بهما من جهة أخرى؛ حسبما فهمناه من القرآن الكريم. قد أشارت مجموعة كبيرة من الآيات القرآنية إلى ارتباط كل المعتقدات والأفعال والسلوكيات والآداب والشعائر التي يحملها أو يمارسها الإنسان بجزاء دنيوي أو أخروي لها، كما شدّدت أيضاً على التقييم الذي سوف تخضع له بعد موت الإنسان (يوم القيامة)، فيمتاز الصالح عن الطالح، ويذوق كلّ

إنسان ثمار فعله وصنيعه

ص: 259


1- سورة الفاتحة: 4 .
2- سورة الذاريات: 6 .
3- سورة المطففين: 11.
4- سورة الماعون: 1.

وبناءً على ذلك، فإنّ جزاء كلّ إنسان هو منتوج معتقداته وأفعاله وسلوكياته في دار الدنيا، وقد أشارت إلى ذلك الآيات الست الأولى من سورة الزلزلة : ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لَّبُرُوْا أَعْمَاهُمْ)(1) . وَإِنّ استخدام مفردتي «يوم القيامة» و«يوم الدين يدلّنا بنحو صريح على الوشائج المعنوية التي تربط أفعال الإنسان في هذا العالم بالنتائج المترتبة عليها يوم القيامة.

وبالتالي فإنّ العلاقة بين «الدين» الذي يعني الأفعال والسلوكيات والشعائر والمعتقدات من جهة والدين» الذي يعني الحساب والجزاء من جهة أخرى باتت واضحة وجلية (2).

ومن الممكن أن يذهب البعض إلى أنّ الفعل ونتيجته واقعيتان مستقلّتان، لا تربطهما نسبة العينية والهوهويّة؛ فكيف يجوز استخلاص أن معنى الدين هو الترابط بين المعتقدات والآداب والشعائر من جهة والجزاء والحساب من جهة أخرى؟! والجواب: أنّ بعض آيات القرآن الكريم شدّدت على اتحاد حقيقة الأفعال الدنيوية والنتائج الأخروية، وأنهما يمثلان الظاهر والباطن لحقيقة واحدة. ولهذا، تجد التعبير القرآني في الخطاب الموجه لأهل النار : (ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ (3)، واللافت هنا استخدام مفهوم «الذوق» بدلاً عن مفهوم «الرؤية»، كما تجد أيضاً ما ينقله لنا القرآن الكريم من حديث أهل الجنة : (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ) (4).

وتلخيصاً لما تقدّم نستنتج النقاط التالية:

1. المعنى الأساسي هو الروح المعنوية التي الروح المعنوية التي تُخيّم على المفردة في جميع صورها

ص: 260


1- سورة الزلزلة 1-6
2- لمزيد من التوضيح راجع: الهاجس الأخير، مصدر سابق، ص 73-95 .
3- سورة العنكبوت: 55 .
4- سورة البقرة: 25.

وتقلباتها الصرفية والنحوية المتنوعة ؛ كما في معنى «الحبس» أو «المنع» الذي يخيم على معاني مفردة «العقل» بجميع مشتقاتها. وإنّ المفردة الواحدة قد تتعانق في أنسجة الغويّة مختلفة وجملات متعدّدة ضمن ظروف زمانية ومكانية متفاوتة مع شبكة وسيعة من المعاني، لكنّها تحتفظ في جميع أحوالها تلك بمعناها الأساسي والمركزي. والمعنى الأساسي الذي يمثل القاسم المشترك لمعاني مفردة «الدين» هو تلك الرؤى والمناهج والسلوكيات التي ستؤول إلى نتائجها فيما بعد.

2. استخدمت مفردة «الدين» في القرآن الكريم بغضّ النظر عن المبدأ المشار إليه آنفاً للدلالة على معنيين رئيسيين يرتبط أحدهما بدار الدنيا، والآخر بالآخرة. أمّا الذي يخصّ عالم الدنيا فهو السلوك والفعل المستند إلى القانون الإلهي وما جاء به الرسل والقادة الإلهيون؛ وهو المسمّى ب- الدين القيم»، أو «دين الحق». وأما الذي يخص عالم الآخرة فهو انتقال المؤمنين والمحسنين إلى الجنّة؛ لينالوا أجورهم في حياة خالدة، وانتقال الكافرين والمسيئين إلى النار والعذاب الأبديّ. ويدلّ هذان المعنيان على أنّ الحياة في الدنيا وفي الآخرة تتحلّى بالقدسيّة، ويشيران أيضاً إلى أنّ التعدي على حقوق الناس في هذا العالم يستتبعه جزاء أخروي في العالم الآخر. فالدين - إذن - يمثل الحقائق التي تبيّن للإنسان النتائج الأخروية لمعتقداته وأفعاله وسلوكياته في الدنيا؛ فإذا كان الدين منتسباً لله جَلَّ وَعَلا كانت النتائج الأخروية التي يعرضها لعقيدة الإنسان وسلوكه مطابقة للواقع، وجاز لنا الاعتماد إليها، وإلا فلا يمكن الركون إلى أي دين آخر يزعم مقدرته على كشف العلاقة بين الأفعال في الدنيا والمصير الأخروي السعيد أو الشقي.

3 . المصدر الوحيد الذي يمكنه أن يميّز القضية الدینیّة عن غيرها من القضايا هو المصدر الذي لا يعجز عن تبيين العلقة بين الدنيا والآخرة، أو الملك والملكوت بنحو يقيني وقطعي. وهذا يعني أنّ المصادر الدینیّة الكفيلة هي المصادر التي - أولاً : - جاءتنا من عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى كتاباً أو سنةً، أضف إلى ذلك ثانياً : العقل الكاشف

ص: 261

بنحو قطعي عن المآل الأخروي للمعتقدات والأفعال الدنيويّة. وعليه: فإنّ جميع القضايا التي بينها الله عَزَّ وَجَلَّ هي قضايا دينية؛ لأنّ غايته تَبَارَكَ وَتَعَالَى من ذلك: تعريف الإنسان بطريق السعادة والشقاء، وبيان النتائج الأخروية التي تترتب على عقيدة الإنسان وعمله، وإيصال ذلك إلى مرتبة الكمال. وعليه : فإنّ المبدأ الأوّلي يحكم بأن تكون التعاليم الإلهيّة بأسرها مندرجةً في سياق بيان الغاية المشار إليها إلّا إذا نص دليل آخر على ما يخالف هذه القاعدة العامة؛ فعلى سبيل المثال : قد يصدر تعليم أو سلوك من الإمام المعصوم على وجه التقية مثلاً، فعندئذ لا يجوز عدّ ذلك ضمن التعاليم الدینیّة؛ وإن كان فعل التقية نفسه فعلاً دينياً.

وفي المحصلة نقول: تتصف جميع التعاليم القرآنية والحديثية الصادرة عن المعصومين (علیهم السّلام) بما فيها التعاليم الواردة في موضوعات تخص الغذاء أو معالجة الأمراض وما شابه ذلك بأنها دينية، وهي واردة في مقام تبيين المآل الأخروي لعقائد الإنسان وأفعاله الدنيوية إلا في بعض الاستثناءات؛ حتى لو لم يُصرح في الآية أو الرواية بالجزاء الأخروي، أو ما ستؤول إليه تلك المعتقدات أو الأفعال. وعلى صعيد متصل، يمكن عدّ المتبنّيات والتعاليم العقلية التي تتصف بالشرطين التاليين ضمن مجموعة القضايا الدینیّة أيضاً. والشرطان هما: أولاً : أن يكون ذلك في سياق تبيين العلقة بين الدنيا والآخرة، أو الصلة التي تربط الحياة الدنيوية بالسعادة أو الشقاء في الآخرة، أو قل الربط بين الملك والملكوت وثانياً: أن يُبيَّن مضمون الشرط الأوّل على نحو يورث القطع أو الاطمئنان. ولا تتصف القضية العقلية بأنها «دينيّة» إلا إذا استوفت هاتين النقطتين من هنا، فإنّ القضايا المتعلقة بمباحث الإلهيات بالمعنى الأخص (بحوث معرفة الله ومعرفة النبي والإمام والمعاد (العقليّة يمكن عدها ضمن القضايا الدینیّة. أما القضايا القطعية الأخرى كالقضايا الرياضياتية أو الأبحاث المسماة بالأمور العامة في الفلسفة فلا تُعدّ من القضايا الدینیّة وفق المعطيات اللغوية والدلالية القرآنية؛ لأنها ليست بصدد بيان المآل الأخروي للمعتقدات والأفعال الدنيوية، أو بيان العلقة بين الملك والملكوت.

ص: 262

وحاصل ما تقدّم أننا نذهب إلى عدم اقتصار القضايا الدینیّة على النصوص الدینیّة، بل نرى علاوةً على ذلك انضمام القضايا العقلية اليقينية، أو المورثة للاطمئنان إلى حظيرة القضايا الدینیّة، طالما أنها نصت على العلقة بين الدنيا والآخرة، أو أخذت هذا الترابط من الكتاب والسنّة.

4. الصراط المستقيم في القرآن الكريم هو الدين الإلهي: يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا فِيهَا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) (1) وقد نقل الإمام الباقر (علیه السّلام) عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال في تفسير هذه الآية: أنّ دين إبراهيم (علیه السّلام) هو ديني (2).وقال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (3).

5 . تدلّنا الأبحاث السابقة إلى وجود انسجام وتناغم دلالي في موضوع حقيقة الدين بين المنحى التجريبي والعقلي والنقلي وحقيقة الدين هي التعاليم المبينة للجزاء الأخروي المترتب على الرؤى والمناهج والسلوكيات الدنيوية؛ بما يضمن نجاة الإنسان وسعادته. فإذا كانت التعاليم مستندةً إلى الله جَلَّ وَعَلا كان الدين حقاً وإلهيّاً، وإلا فهو دين باطل وغير إلهي. وإن اشتملت الأديان الباطلة على بعض التعاليم الحقة فهذا لا يعني أن مزيج الحق والباطل يمكن له ضمان سعادة الإنسان أو نجاته.

ص: 263


1- سورة الأنعام: 161.
2- راجع تفسير نور الثقلين الشيخ الحويزي، ج 1، 786 .
3- سورة إبراهيم: 1.

8 .حقيقة التجربة الدینیّة

1/8. تمهید :

كانت حقيقة الدين هي تلك الحقيقة المبينة للمآل الأخروي والملكوتي لعقيدة الإنسان وأفعاله الدنيوية، وطالما أنّ إثبات هذا يحصل في الأعمّ الأغلب من خلال النصوص الدینیّة، وما دام الوحي الإلهي هو أهم تلك النصوص، فإنّ السؤال عن العلاقة بين الدين والتجربة الدینیّة إنما هو سؤال يعود إلى الصلة بين الوحي والتجربة الدینیّة.

ومن أهمّ المسائل المطروحة في موضوع التجربة الدینیّة البحث عن واقع الصلة بينها وبين الدين؛ فهل حقيقة الدين هي ما يُسمّى بالتجربة الدینیّة؟ وهل الوحي الإلهي تجربة دينية ؟ وهل التجربة العرفانية هي تجربة دينية أيضاً؟

تتطلب منا الإجابة على هذه التساؤلات فتح ملفّ يدرس كلًا من «التجربة الدينيّة»، و«التجربة العرفانية»، و«الوحي».

أمّا الوحي فتُعرف ماهيّته وحقيقته من الكتاب والسنة، وأما التجربة العرفانية فالطريق إليها يمرّ عبر العرفاء وأهل الشهود، وأما التجربة الدینیّة فنقف على تفاصيلها حسب ما أفاده المفكّرون والمنظّرون.

وسوف نسعى في هذه البحوث إلى إثبات التغاير بين حقيقة الدين والتجربة الدينيّة. أما التغاير بين الوحي والتجربة الدينيّة فأمره موكول إلى بحوث باب النبوة.

ص: 264

2/8. ماهية التجربة الدینیّة وأنواعها :

1/2/8. ماهية التجربة الدینیّة :

ماهية التجربة الدینیّة :

المنهج المتبع في مسألة تطابق الدين أو عدم تطابقه مع التجربة الدینیّة هو منهج ظاهراتي، بمعنى أننا سوف ندرس - بادئ ذي بدء - الظواهر المنتمية لكلّ من الدين والتجربة الدینیّة؛ لنتعرّف عى معانيها، ثمّ نقف من خلال ذلك على تغايرها أو اتحادها.

وسوف تنتهي هذه الدراسة - من خلال مطالعتها لظواهر التجربة الدینیّة كما صوّرها شلاير ماخر، وألستون، وبراودفوت، والأنواع التي فصلها سوينبرن، ومن خلال معطيات البحث عن حقيقة الدين - إلى الحكم بتغاير الدين والتجربة الدینیّة.

تقدّم أنّ الوقوف على معنى التجربة الدینیّة يتأتى من خلال استعراض رؤى المفكّرين والمنظّرين في هذا الصدد؛ إذ سنتهي من ذلك إلى تعريف دقيق عن هذه الظاهرة، مما يسمح لنا بعدئذٍ بعقد مقارنة بينها وبين الوحي.

2/2/8 .التجربة الدينيّة عند شلاير ماخر :

يُعدّ شلاير ماخر أوّل من تناول مصطلح «الشعور الديني»، ثمّ كتب بعده وليام جيمس (1910م) كتاباً عنوانه «تنوع التجارب الدینیّة». وقد ذكر شلايرماخر السبب الذي دعاه إلى خوض غمار هذا البحث ضمن مقدّمة كتابه المسمى ب- «حول الدین»(1)؛ حيث قال إنّ بعض أصدقائه الذين حضروا حفل عيد ميلاده ذات يوم عاتبوه بالقول: إنّ الإلحاد واللادينية قد بلغا حدّ الذروة في القرن التاسع العشر ، وقد تمايل أغلب الناس والعلماء نحو النزعة الإلحادية؛ فلِمَ لا تحرّك ساكناً وأنت متكلّم لاهوتي لتذبّ عن حياض الدين؟ لم لا تعلن أن من حق الدين أن يبقى حيّاً؟ لماذا

ص: 265


1- [م] .On Religion

لا تُبيّن دوره وفاعليته؟ وهذا هو ما دفع بشلاير ماخر ليكتب كتاباً موجزاً خصصه للحديث عن الدين، فأوضح فيه ما يجب معرفته من معنى الدين.

وقد تطرّق شلاير ماخر في هذا الكتاب إلى مجموعة من الفرضيات، وناقشها، ليخلص في النهاية إلى رؤيته في هذا المقام . وقد بدأ في استعراض برهانه من خلال الفرضيات التالية :

1 . هل الدين هو الميتافيزيقا (1) ؟ الجواب: الدين مختلف عن الميتافيزيقا

2 . هل الدين هو الأخلاق؟ يقول : هاتان حقيقتان منفصلتان؛ خلافاً لما يزعمه باركلي؛ حيث اصطنع تلفيقة معينة جمع فيها الأخلاق والدين.

3 . هل الدين هو العرفان أو التصوّف؟ يرفض شلاير ماخر هذا الفرض أيضاً.

ويخلص شلاير ماخر في نهاية المطاف إلى أنّ الدين تجربة دينية، ويُعرّف التجربة الدينيّة بأنها الشعور بالاعتماد على موجود مطلق، وحقيقة مطلقة (2) . ويرى أنّ هذا الشعور بالاعتماد على الموجود المطلق هو شعور بالاعتماد الكامل الشامل على جهة أو قوّة تمتاز عن العالم.

وعلى هذا الأساس، يرى أن التجربة الدينيّة هي من جنس الإحساس والشعور؛ لا من سنخ العلم أو المعرفة. ويضيف إلى ما تقدّم : وفقاً لهذا التعريف، ليس الدين من جنس العلم، وهو لا ينتمي إلى الأمور المعرفية وبالتالي فإنّ لغة الدين ليست لغةً معرفية، والدين لا يتصف بأي صبغة علمية أو معرفية، بل إنه يمنحنا شعوراً روحانياً عبّر عنه بعض علماء النفس بأنه شعور يُخرج المرء من وحدته، ويرمي به في أحضان أجواء روحانية معيّنة.

ص: 266


1- المراد بها هنا الإلهيات بالمعنى الأخص ، وهي الأبحاث المرتبطة بمعرفة الله، ومعرفة الدين، وفلسفته.
2- الإطلاق هنا بمعنى الكمال والشمولية والشعور المشار إليه في التعريف هو شعور ينطوي على ضرب من ضروب الوحدة، وهو شعور ينتاب كل كيان الإنسان، وهو إحساس يتعلّق بقوّة تفوق هذا العالم، ولا يتطرّق إلى أنها الله .

وقد وافق رودولف أوتو على تعريف شلاير ماخر بحذافيره، ساعياً إلى إسقاط تفاصيله على الأديان السماوية والإبراهيمية.

لقد ذهب شلاير ماخر في نظريته التي تزعم الانسجام والتناغم بين الدين والتجربة الدینیّة إلى أنّ كلّ إنسان متديّن؛ حتّى إنسان القرن التاسع عشر، وأنهم جميعاً يمتلكون تلك التجربة الدینیّة، وليس هناك من البشر من لا يشعر في قرارة نفسه بالاعتماد على الموجود المطلق الذي وصفه بأنه ما وراء هذا العالم. ولم يستثن شلاير ماخر الفنانين الذين اشتهروا في ذلك العصر بأنهم أكثر الناس بعداً عن الدين؛ حيث عدّهم من أشدّ الناس تديناً؛ لأنهم حسب وصفه يمتلكون هذا الشعور بالاعتماد على الموجود المطلق أكثر من غيرهم. وكما يعبّر ستيس في كتابه التصوف والفلسفة فإنّ هذه الحالة مشهودة حتّى عند المدمنين على المخدرات.

وفي الختام، ردّ شلاير ماخر على أصدقائه بألا يتحسّروا على الدين، أو يهابوا لادينية القرن التاسع عشر(1).

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ التجربة الدینیّة تنتمي إلى أحاسيس الإنسان ومشاعره، ولا يخفى أنّ الشعور ينطوي على مراتب و درجات، فلا يبعد أن يُدعي القائلون بالتجربة الدينيّة أنّ المرتبة العليا من هذا الشعور هي المرتبة المسماة ب-«الوحي»، وهو ما أرسله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى تلقاه الإنسان منه .

3/2/8 . التجربة الدینیّة عند ألستون:

يرى ألستون أنّ التجربة الدینیّة أمر علمي؛ وليس من سنخ الشعور والأحاسيس. وإذا انتهينا إلى أنّ التجربة الدینیّة تنتمي إلى جنس الأحاسيس فمن اللازم عندئذٍ أن يكون الشخص صاحب الإحساس موجوداً. أمّا متعلق هذا الشعور فلن يكون أمراً

ص: 267


1- وبعبارة أخرى: إنه أفاد هنا من مجاز السكاكي حينما تصرف في معنى الدين، ليصبح الجميع متديناً؛ كما صنع السكاكي في مجازه فتصرف في معنى الأسد ليشمل كل إنسان شجاع أيضاً.

وارداً في البحث؛ لفرط غموضه، فالفرد المدمن

على المخدّرات مثلا لديه شعور وإحساس معين، لكن متعلق هذا الإحساس أمر مجهول، فلعله يحس بالوحدة، وبحاجته إلى من يمد يد العون له، لكن من هو هذا الشخص المعين الذي يحتاجه؟ وما هي صفاته؟ ذلك أمر غير معلوم، وليست الصورة واضحة حياله ، ولهذا لا يدخل متعلق الإحساس في خضم البحث. وعليه، فإنّ الشعور يتكوّن من ثلاثة عناصر؛ هي: الشعور، وصاحبه، ومتعلق هذا الشعور . ولا يجري الحديث عن متعلق الشعور لشدّة غموضه.

أما لو كانت التجربة الدینیّة من جنس العلم والإدراك (وهي العلاقة بين المدرِك والمدرَك)، فلا محيص إذن من وجود مدرك ومدرَك (متعلّق الإدراك)، ولا مفرّ أيضاً من وجود مدرَكين مدرَكاً أو معلوماً بالذات (الصورة الذهنية)، ومدرَكاً أو معلوماً بالعَرَض (الخارج)؛ فإذا كان المدرَك بالذات متطابقاً مع المدرَك بالعَرَض فالإدراك حينئذٍ صادق، وإلا فهو كاذب.

4/2/8 .التجربة الدینیّة عند براودفوت:

يرى براود فوت أنّ التجربة الدینیّة - سواء كانت من جنس الإحساس أو الإدراك حقيقة قابلة للبيان والتفسير وهو بالتالي لا يفصل بين التجربة الدینیّة وتفسيرها (1). ويذهب أيضاً إلى أنّ الإدراك أو الشعور الروحي وكذا إدراك الموجود السامي أو الشعور بالاعتماد على المبدأ أو الحقيقة الممتازة عن الكون لا يمكن له أن يتحقق من دون تفسیر صاحب التجربة نفسه.

وفي واقع الأمر، فإنّ التجربة الدینیّة عنده مركّب يجمع بين إدراك صاحب التجربة أو شعوره زائداً تفسيره لذلك.

ص: 268


1- التفسير هنا هو الانطباع الشخصي لصاحب التجربة الدینیّة عما جرّبه، سواء ظهرت هذه التجربة في هيئة ألفاظ، أم لم تتحمّلها قوالب اللغة لضعف الأخيرة، أو لأنّ قابلية المتلقي لشرحها غير محرّزة. وبشكل عام فإنّ صاحب التجربة له معرفة بتجربته ؛ وهذا هو تفسيرها.

ولا يخفى على المتتبع تأثر أبحاث براودفوت هنا عما يدور في أروقة الهرمنيوطيقيا الفلسفية؛ فوفقاً لبعض الأصول الموضوعة المفترضة مسبقاً تتبلور التجربة لصاحبها جرّاء مجموعة من العلل والعوامل، ثمّ يقوم الفرد على ضوء تلك المفترضات بتفسير شعوره أو إداركه. وتركيب هاتين الخطوتين هو ما يعبّر عنه بالتجربة الدینیّة. ولهذا، ليس هنالك تجربة دينية عارية عن التفسير.

ولعلّ هذا القول مشابه لما ردّده كانط (1804م) حين ذهب إلى امتلاك الإ

نسان لقوى ثلاثة؛ هي : الحساسة، والواهمة والفاهمة وأنّ هناك وقائع موجودة خارج الذهن تترك آثارها علينا؛ فالإنسان يدرك بعض الأمور عن طريق حواسه، لكنه يجهل ماهية ما يدركه في الواقع؛ فالمواد المدركة تلك تمتزج بفضل قواه الواهمة والفاهمة مع عنصري الزمان والمكان أو قل تمرّ هذه المواد من خلال معبر يكونه الزمان والمكان. ثمّ يتحدّث عن المقولات الاثني عشر ، وما تصدره القوّة الفاهمة أو العاقلة؛ أي: مرور تلك المواد من ذلك المعبر، واستقرارها في إحدى المقولات المشار إليها. ثمّ يستصدر من هذه المقولات أحكاماً اثني عشر. والأحكام الكلية والجزئية أو الشخصية إنما تصدر من هذه المقولات الاثني عشر.

ويرتكز ما ذهب إليه كانط (1804م) إلى نقطتين:

أوّلاً: أنّ هنالك وقائع موجودة في الخارج (الأنطولوجيا عنده).

وثانياً : أنّ هنالك أحكاماً أيضاً (الابستمولوجيا عنده) ، ثمّ يفتح باباً يخص العلاقة بين بحوث معرفة الوجود الأنطولوجيا)، ونظرية المعرفة (الابستمولوجيا) يسميها ببحوث معرفة الذهن.

ولا يخفى أنه لم يُشر في نسخته الأولى من كتاب «نقد العقل المحض» إلى موضوع معرفة الذهن، بل اكتفى هناك بالإشارة إلى القوة الحساسة والفاهمة.

ص: 269

وفي معرض الرد على مناقشة مفادها السؤال عن كيفية الولوج في بحث المقولات فجأةً، يقول : يرتبط عنصرا الزمان والمكان بالقوى الواهمة، ومن خلال ذلك تتبلور حقيقة ما لتلك المواد والمقولات، تُطلق عليها اسم «الأحكام».

وكما أسلفنا فيما مضى، فقد ذهب شلاير ماخر إلى أنّ عنصري الزمان والمكان وكذلك المقولات أمور ذهنية، وأنّ المواد تأتينا من الخارج. ومن هنا، فإن المركب الناتج عن هذه العناصر الثلاثة (الزمان والمكان + المقولات + المواد) هو ما نطلق عليه اسم المعرفة. وبعبارة أخرى المعرفة مركب ناتج عن مواد متخذة من الخارج، وتأثيرات تركتها قوى الذهن الفعالة على هذه المواد.

ويرى براودفوت أنّنا كما لا نملك مواداً محضةً، فإننا لا نملك أيضاً تجربة دينية صرفة خالصة . وإذا جاز لنا أنطولوجياً أن نذعن بوجودها، فإننا عاجزون عن بيانها أو الإفصاح عنها. وبالتالي: إذا نجحت عملية التبيين في التجربة الدینیّة، فتغيرت حالات الشخص، وبدأ يذرف الدموع، أو يسرد الأبيات الشعرية، فإنّ هذا مركب نتج عن شعور هذا الشخص أو إدراكه ممتزجاً بتفسيره لذلك؛ وليس مجرّد الشعور أو الإدراك المحض؛ لأنّ الشعور والإدراك لا ينفكان عن التفسير(1) .

وبناء على ذلك، فإنّ التجربة مقرونة بالتفسير على الدوام، سواء كانت من جنس الأحاسيس، أو انتمت إلى فئة الإدراكات. كما أنّ التفسير الذي تجري عملياته بفعل من صاحب التجربة نفسها هو الآخر لا ينفصل عن الشعور أو الإدراك.

5/2/8 .أنواع التجربة الدینیّة:

التجربة مشترك لفظي يدل على التجربة الحسية والتجربة العرفية، والإدراك الحسي، والتجربة الأخلاقية، والتجربة العرفانية، والتجربة الدینیّة.

ص: 270


1- تأثر براودفوت بإلقاءات كانط في التمييز بين ما أسماه بالشيء بذاته أو النومين Noumen من جهة، والظاهرة Phenomenon من جهة أخرى، وكذا تأثر بآراء هايدغر وغادامر الهرمنوطيقية الفلسفية، ناهيك عما لاحه من تأثيرات البراغماتيكية المذهب النفعي.

والمراد بالتجربة الدینیّة الشعور أو الإدراك الذي ينتاب الإنسان تجاه أمر معنوي أو روحي وحقيقة غائيّة.

ويرى سوينبرن أنّ للتجربة الدینیّة - أو تجربة الله حسب تعبيره - خمس مراتب؛ هي ما يلي:

1 .تجربة الحقيقة الغائية بواسطة شيء محسوس : وهي أمر متاح لكل شخص، ويقع في نطاق التجربة العامة ومثالها : تجربة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أو الحقيقة الغائية برؤية صورة لشخص مقدّس مثلاً؛ كما لو تداعى ذلك لمن شاهد صورة السيد المسيح (علیه السّلام) وهو يرزح تحت التعذيب ضمن أحداث عرض سينمائي، أو من خلال مشهد حي لغروب الشمس مثلاً، وفي هذين المثالين تحصل للإنسان حالة روحانية ناتجة من التجربة المحسوسة العامة.

2 . تجربة الحقيقة الغائية بواسطة شيء محسوس غير مألوف لكنّه عام: كما في مشاهدة نبتة تلتهمها النيران، لكنّها لا تحترق، أو كواقعة إلقاء إبراهيم (علیه السّلام) وسط الحريق دون أن يمسّه سو ء؛ فهاتان تجربتان بصريّتان محسوستان عامتان)، لكنهما غير مألوفتين.

3 . تجربة الحقيقة الغائية بواسطة ظاهرة شخصية قابلة للوصف باللغة الحسية المألوفة والمقصود بها هنا تلك التجربة المنطلقة من الظواهر الشخصية؛ لا العامة، كما هو الحال في مثل الأحلام والمكاشفات.

4 . تجربة الحقيقة الغائيّة بواسطة ظاهرة شخصية لا تقبل الوصف باللّغة الحسّية

المألوفة في الغالب كما هو الحال في الكشف والشهود العصي على البيان.

5 . تجربة الحقيقة الغائية دون توسيط أمر حسّيّ (ظاهري أو باطني): ومثاله: الإنسان الذي يرتبط بالله عَزَّ وَجَلَّ ، وهذا يعني : انعدام أي أمر محسوس في البين رغم وجود التجربة الدینیّة (1).

ص: 271


1- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق فصل التجربة الدینیّة.

لقد استعرض سوينبرن هذه المراتب المختلفة للتجربة الدینیّة ليؤكد على أنّ التجربة الدینیّة - سواء كانت من جنس الإدراك أو الشعور ، أو كانت قابلة للتفسير أو عصيّة عليه - مظلة كبرى تشمل أدنى المراتب؛ وهي ما قد يحدث لأي شخص، وصولاً إلى أسماها مقاماً؛ مثل ما كان يحدث للسيد المسيح (علیه السّلام)، أو للرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وهو المسمّى بالتجربة الوحيانية .

وبناءً على ذلك فالتجربة الدینیّة التي تناولها سوينبرن تشتمل على الترجبة الروحانية والعرفانية - بما يعمّ القابلة للوصف والعصيّة عليه - وكذلك التجربة الوحيانية التي نجدها عند الأنبياء.

3/8 . ماهية التجربة العرفانية وأنواعها:

التجربة العرفانية هي كشف أو شهود قلبي يحصل عليه العارف نتيجةً لتزكية النفس وترويضها عملياً. وفي معرض دراستنا لهذه الظاهرة وفقاً للمنهج الظاهراتي فإننا لا نسعى هنا إلى ممارسة أيّ برهنة عقلية أو أي إثبات عرفاني على وجود هذه الظاهرة، بل يجب أن يكون أحدنا ذلك العارف الذي يمرّ بتجربة تلك الظاهرة، أو أن نطرق باب العرفاء مستفسرين منهم عن حقيقتها، أو مراجعين لمصنفات عرفانية مثل منازل السائرين، والتمهيدات»، و«الفتوحات»، و«الأربعون مجلساً لعلاء الدين الكرماني وغيرها.

وقد عبّر العرفاء عن المعرفة العرفانية بمفردات مثل: «الكشف» و«المكاشفة»، و الشهود»، و«المشاهدة»، و«المعرفة القلبية»، وغير ذلك. وقسموها إلى أقسام. يقول الكاشاني: «الشهود رؤية الحق بالحق»(1).

وهذا يعني أن الإنسان إذا أدرك الحقيقة التي مفادها أن العالم بأسره ما هو إلا

ص: 272


1- اصطلاحات الصوفية، عبد الرزاق الكاشاني (القاساني)، ج 2 ، ص 152 مصطلح شهود.

مظهر وتجلّ من مظاهر الحق وتجلياته، حصل له شهود الحق بهذه المظاهر والتجليات، فقد بلغ حقيقة الشهود وجوهره. وقد قسّم الكاشاني بعد ذلك الشهود إلى مجمل في مفصل، ومفصل في مجمل.

وأشار إلى أنّ الشهود المجمل في المفصّل يتلخّص في رؤية الأحدية في الكثرة؛ أي أننا إذا استطعنا أن نرى أحديّة الله تَبَارَكَ وَتَعَالى في كثرة العالم، فقد بلغنا شهود المجمل (الأحدية) في المفصّل (الكثرة).

أمّا شهود المفصل في المجمل فيتلخّص في رؤية الكثرة في الذات الأحديّة؛ وهو يعني السير من الحق إلى الحق في مسلك مسير الصعود للوصول إلى الذات الأحديّة (مقام الأحديّة)، ورؤية الكثرة في هذا المقام، وذلك لأنّ الكثرة الموجودة في الأعيان الخارجيّة لها وجودها في الأعيان الثابتة، وفي علم الله جَلَّ وَعَلا.

وعليه، فإنّ مقام شهود العلم الإلهي ينطوي على شهود المعلومات الإلهية أيضاً؛ لا أنّ الأعيان الخارجيّة موجودة هناك بماهيّاتها، بل هي حاضرة جميعاً بكمالاتها، والعلم بها في أعيان الحقِّ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

يقول القيصري (751ه) :

«الكشف لغةً رفع الحجاب، يُقال: كشفت المرأة وجهها؛ أي: رفعت نقابها. واصطلاحاً هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني (1) الغيبية، والأمور الحقيقية(2)وجوداً أو شهوداً» (3).

ص: 273


1- يقول العلامة حسن زاده الأملي في تعليقته أي من الأسماء والصفات. راجع التعليقة على شرح فصوص الحكم للقيصري، ج 1، ص 127. [م]
2- أي الموجودة خارجاً :أي: صيرورة المكاشف متصفاً بحقيقة المكشوف. لاحظ المصدر السابق. [م] [3] - وجوداً أي وجداناً لها بحيث لا يصير المكاشف متحققاً بحقيقة المكشوف، وهذا مقام حق اليقين. ووجداناً أي ورؤيةً، وهذا مقام عين اليقين.
3- شرح فصوص الحكم للقيصري، ج 1، ص 127. [م]

وبعبارة أخرى : إذا بلغ الإنسان مقام عين اليقين، وشاهد الحقائق الغيبية فقد حصل على مرتبة الكشف، وإذا بلغ مقام حق اليقين فإنّ وجوده في واقع الأمر قد اتحد بوجود سائر الموجودات بنحو ما، وعندئذ فالمقام ليس مقام ،الشهود، بل مقام الوجود؛ وهو ما عبّر عنه العرفاء بوحدة الوجود التي هي مرتبة تلي مقام وحدة الشهود.

وبعد ذلك، يقسّم القيصري الكشف قائلاً :

«وهو معنوي(1) وصوري، وأعني بالصوريّ: ما يحصل في عالم المثال من طريق الحواس الخمس (2) وذلك إما أن يكون على طريق المشاهدة (3)؛ كرؤية المكاشف صور الأرواح(4) المتجسّدة، والأنوار الروحانية(5). وإما أن يكون عن طريق السماع؛ كسماع النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) الوحي النازل عليه»(6).

وهذا يعني أنّ الإنسان عندما يرتبط بعالم المثال المنفصل والبرزخ يحصل على مشاهدات مشابهة لما هو في الخيال المتصل، فيمكن للإنسان أن يشاهد صوراً لا يراها الآخرون، ولهذا يمكن للعارف أن يرتبط بالخيال المنفصل، وهو مرتبة من مراتب العالم المجرّد (التجرّد غير التام، وأن يرى أو يسمع أموراً؛ كما نجد في قول الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لأمير المؤمنين (علیه السّلام) «إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى»(7)، وهذا هو الكشف الصوريّ. ويمكن هذا عن طريق الذوق؛ كما في السالك الذي يحصل له شهود بطعام يتناوله فيطّلع به على معان غيبية، وفي بعض الأحيان قد يأكل الإنسان

ص: 274


1- أي: عقلي ، لاحظ: المصدر السابق. [م]
2- الحواس الخمس الباطنة. م.س. [م]
3- وهو الاطلاع الشهودي. م. س. [م]
4- أي: أرواح الأناسي.م.س. [م]
5- أي: العقول. م.س. [م]
6- المصدر السابق، ص 127-128. [م]
7- نهج البلاغة ص 417 ،ط شرح محمد عبده [م]

طعاماً في الخيال المنفصل، ويمكن أيضاً أن يكون هذا الكشف من خلال سائر الحواس الأخرى.

وحسب ما ذهب إليه العرفاء فإنّ الحواس الخمس موجودة في باطن النفس، باعتبار وجودها البرزخي والمثالي، وإنّ حواسنا المادية تستفيد من النوافذ المفتوحة لها من الحواس الموجودة في الخيال.

والقسم الآخر الذي استعرضه القيصري هو الكشف المعنوي (في قبال الصوري)، مثاله : أن يطلع الإنسان على مقام الأحدية الإلهيّة، أو ظهور الوحدة في الكثرة (1).

وقد قسّم العرفاء أيضاً التجلي إلى نوعين: ثبوتي، وإثباتي.

أما التجلي الثبوتي فهو وجودي أنطولوجي، ومعناه أن يُعرف الحق عَزَّ وَجَلَّ بصفته هوية غيبية غير متعينة. والهوية الغيبية له تَبَارَكَ وَتَعَالى تظهر في قوس النزول على هيئة التعيّن الأول بدايةً (الحضرة الأحدية)، ثمّ التعين الثاني (الحضرة الواحدية)، ثم التعينات الخلقية ( عوالم العقل والمثال، والمادة).

وأما التجلي الإثباتي فهو الشهود أو الكشف العرفاني.

والعارف في عرفانه العملي يمضي في سيره وسلوكه ليتجاوز عدة منازل في قوس الصعود فيرتقي من اليقظة، ليبلغ مقام الفناء. وآخر مراحل السلوك الوحدة في الشهود؛ بمعنى أن يجد الله جَلَّ وَعَلا في كلّ شيء، أو الوحدة في الوجود؛ أي: أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى هو الوجود الأوحد.

لقد خلص العرفاء قبل ابن عربي إلى أنّ أقصى مراتب الكمال هي مرتبة الوحدة الشهودية، لكن ابن عربي ذهب إلى وحدة الوجود. فكلّ ما سوى ذهب إلى وحدة الوجود. فكلّ ما سوى الله متحقق في وحدة

ص: 275


1- راجع شرح فصوص الحكم، القيصري، الفصل الرابع في مراتب الكشف وأنواعها إجمالا، وراجع كذلك شرح مقدّمة القيصري، ص 536.

الشهود، لكنّ العارف لا يتلفت إليه بل يرتكز شهوده على الوحدة، ففي وحدة الوجود لا وجود لأي شيء غير الحقِّ عَزَّ وَجَلَّ، وغيره ما هي إلا تجليات له.

وقد استطاع ابن عربي بنظريته هذه في وحدة الوجود أن يبني رؤيته في العرفان النظري، وأن يبيّن العرفان العملي الذي يُعدّ طريقة الوصول إلى الكمال والوحدة بشكل ممنهج، وتمكّن بعده صدر الدين الشيرازي أن يكمل ما بدأه ابن عربي، وأن يبرهن على مجموعة مدعياته العرفانية.

هذا، ولا يختلف العرفاء جميعاً في أنّ الشهود هو منطلق العرفان. وهو ينتمي إلى العلم الحضوريّ، ويُعدّ مرتبةً من مراتبه إلى جانب المراتب الأخرى؛ مثل: الشعور بالألم، أو العطش، وما شاكل ذلك. ويصرّح العرفاء أنفسهم بأن منطلق الشهود وأصله قد يكون إلهياً تارةً وشيطانياً تارة أخرى. وفي واقع الأمر، فإنّ الشهود الشيطاني ليس بشهود أصلاً، بل هو ارتباط مع الخيال المتصل والذهن البشري؛ إذ يمكن للفرد أن ينغمس في خياله لأسباب نفسانية أو شيطانية، فيخال له أن صوره الذهنية شهود عرفاني، أو خيال منفصل، فيختلط عليه الأمر.

وللوصول إلى الشهود المنفصل أي إلى الواقع الخارجي والملكوتي للعالم، وتمييز الشهود الإلهيّة عن النفساني أو الشيطاني اقترح أهل العرفان طرائق متعددة؛ منها: موازين العقل والسؤال من العارف الواصل ، وكذلك عرضها على الكتاب والسنة. وهنا ننوه بأنّ العرفاء المتشرّعين ليس أنهم يؤمنون بأنّ القرآن الكريم هو الأصل والمنطلق الوحيد لاكتشاف صدق الشهود أو كذبه وحسب، بل إنهم يرون فيه المصدر الأنطولوجي للعرفان أيضاً. وبتعبير آخر يرى العرفاء أن جميع مراحل العرفان موجودة في الكتاب والسنة. وبالتالي، فإنّ آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة لم تبالغ فقط في بيان أحكام الشريعة، بل أوغلت أيضاً في تناول المقامات العرفانية، وطرق الوصول إليها.

ومن هنا، فقد رفضوا ألوان الرياضة الصوفية وجعلوها خارج دائرة الكتاب والسنة، وعدّوها في واقع الأمر كحلقة من خلقات الإلقاءات الشيطانية.

ص: 276

هذا، ويدعي العرفاء في معرض بيانهم لشهودهم أنّ بياناتهم وإفصاحهم عما رأوه لا يعدو كونه أمراً شخصياً، وليس له منطلق إلهي . وعليه، طرحوا قضية ضيق الخناق في التعابر اللغوية، ووجدوا أنفسهم عاجزين في الإعراب عن مشاهداتهم. وقد عزوا هذا العجز إلى ضعف القدرة على البيان عند العارف، وانخفاض مستوى قدرة الفهم عند المخاطب، وإشكالية المعاني عندما يروم العارف إلى بيان المعارف العرفانية السامية، وهذا هو الذي أدّى إلى ظهور توجّهات معيّنة عند بعض العرفاء، انتهت بهم إلى إبراز ما وصف بالشطحيّات (1).

وفي المحصلة نقول : اتّضح من وقوفنا على التجارب العرفانية وما تبين لنا بشأن التجربة الدینیّة وأقسامها - لا سيّما التجربة الدینیّة في نظرية سويبرن - أنّ الشهود العرفاني لون من ألوان التجربة الدینیّة. ومع اتضاح حقيقة الدين التي ذكرنا أنها تلك الحقائق المبينة للمآل الملكوتي الذي ستؤول إليه الرؤى والمناهج والسلوكيات الدنيوية، واتضاح معنى التجربة الدینیّة التي هي شعور أو إدراك روحي وقدسي، ينقشع الضباب عن إجابة السؤال المثار آنفاً؛ ألا وهو هل يمكن القول بأنّ التجربة الدینیّة هي حقيقة الدين؟

فالإجابة هي بالنفي طبعاً؛ لأنّ التجربة الدینیّة وليدة للعوامل الداخلية والخارجية، وهي تتأثر بالمتغيرات التي تحيط بحالات صاحب التجربة وشؤونه الاجتماعية؛ فكيف يمكن لأمر مثل هذا أن يتحد مع حقيقة الدين التي لا منشأ لها إلا الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؟!

نعم؛ يمكن عد التجارب العرفانية لوناً من ألوان التجربة الدینیّة، لكن حقيقة الدين تتفاوت مع التجربة الدینیّة تفاوتاً ماهويّاً وحقيقيّاً.

ص: 277


1- نُقل عن البسطامي أنه قال: «لا إله إلا أنا فاعبدني»، ومنها أيضاً مقولة الحلاج الشهيرة: «أنا الحق».

9. توقعات الإنسان من الدين

1/9. تمهيد :

يردّد بعض من يسمون بأنصار حركة التنوير من العلمانيين أسئلة تطعن في حاجة الإنسان إلى الدين، زاعمين أن عجلة التطوّر العلمي المتسارعة لم تترك حاجة يتوقف سدها على الدين؛ فما الحاجة إليه إذن؟

لقد ذهب البعض إلى أنّ علوم النفس والاجتماع ومثيلاتها أظهرت كفاءةً عالية في التصدّي للمعضلات التي يواجهها المجتمع البشريّ؛ مثل: السرقة، أو الاحتكار، أو ما شابه ذلك، والناس اليوم باتوا في غنى عن الفقه والأحكام الإسلامیّة. وبذلك، حصروا الدين وقيّدوه بين جدران الأمور الروحانية؛ وإن عادوا بعد ذلك ليعيدوا النظر في قولهم بعد حين، فسلبوا من الدين هذا الدور الخجول أيضاً، ومنحوه لبعض المدارس الصوفية الشرقية أو الغربية. وبناءً على هذه الرؤية، لن يبقى في نهاية المطاف أي حاجة إلى الدين أو أيّ توقع منطقي منه، ولا أي أمل يعلّق عليه.

إنّنا عندما نخاطب أصحاب هذا الاتجاه متسائلين عن كيفية حل الإشكال عندما يختلف علماء النفس والاجتماع وأرباب التصوّف الشرقي أو الغربي، ونتوقف عند آراء أرباب هذه العلوم وحلولهم ومناهجهم وطرائقهم في كسب السعادة وتحصيل الكمال الإنساني، نجد أنفسنا في دوّامة من التناقضات والرؤى المتهافتة، حائرين في متاهات وضعتنا فيها تلك العلوم الإنسانية التي كان من المفترض بها أن تكون بلسماً لتلك الجراح.

ص: 278

والسؤال المطروح هنا هو: هل يمكن لنا الاعتماد على أحكام ورؤى متناقضة و متضادّة فيما بينها اتخذتها العلوم الإنسانيّة وتبنّتها بعيداً عن الدين ؟ هذا هو السؤال المعبّر عنه أحياناً ب- توقعات الإنسان من الدين ، وهو تساؤل انطلقنا منه في كتابنا الذي وضعناه للردّ على هذه الإشكالية (1) خلال عشرة أعوام من البحث والدراسة.

2/9 .أضواء على بعض المفاهيم:

ينطوي عنوان «توقعات الإنسان من الدين» على ثلاث مفردات أساسية؛ هي: «التوقعات»، و«الإنسان»، و«الدين». ومن المناسب أن نتوقف عند كل منها فيما يلي :

أما مفردة «التوقعات» فقد تستخدم بمعنى الدوافع والاحتياجات أو المتطلبات والتطلعات، ولا يخفى أنّ «التوقع» - هنا - يدلّ على حاجة مقرونة بالترقب، علاوةً على ما يحمله المعنى من تحلّي صاحب الحاجة بهذا الحق. أما «الحاجة» فلها مفهوم أوسع مما تقدّم، فهو يشمل حالات احتياجات الشخص المحق في حاجته، وغير المحق أيضاً.

ويضيف إبراهام مزلو في كتابه «الدوافع والشخصية» حاجات الإنسان إلى سبعة أصناف هي الحاجة الفسلجية، والأمن (الوقاية)، والحب أو التعلق، والحاجة إلى الحفاوة والاحترام والحاجة إلى ازدهار الطاقات الذاتية، والنزوع إلى الفهم والمعرفة، والاحتياجات المرتبطة بالجوانب الجمالية (2).

وحول بحث الاحتياجات نلفت عنايتكم إلى بعض النقاط الجوهرية التالية:

1 . لا تتسنّى تلبية احتياجات الإنسان بصورة جزئية ومنفصلة (كل حاجة على حدة)، بل إنها بشكل عام ممتزجة ومندكة فيما بينها؛ فلا يكتفي الإنسان بتأمين متطلباته

ص: 279


1- عنوان الكتاب بالفارسية: «انتظارات بشر از دین» .
2- راجع الدوافع والشخصيّة، إبراهام ،مزلو، ص 75-76 [النسخة المترجمة إلى الفارسية].

من الغذاء والسكن وحسب، بل يريدهما مع ما يحفظ له سمعته وماء وجهه أمام أبناء المجتمع من حوله ،وبالتالي فهو يكدح من أجل رفع حاجته الجسمية، وحاجته إلى الحفاوة والاحترام على حدّ سواء.

2 . الحاجات الجسمية المحضة قابلة للتأمين، لكن الحاجة إلى الحفاوة والاحترام أمر ذو أفق رحب؛ بمعنى أن الحاجة إلى الطعام ترتفع بمجرد تلبيتها، أما الحاجة إلى الاحترام فهي ذات مراتب تتفاوت في شدتها وضعفها .

3 تأمين الاحتياجات البشرية موضوع يختلف عن موضوع رعاية الاعتدال في ذلك، هو أمر يتطلبه حال الإنسان، كي لا ينجرّ إلى هاوية الإفراط أو التفريط، وقد وردت قيم الإسلام وتعاليمه لتأمين الجهتين معاً (1).

أمّا المقصود بالإنسان فيعمّ كلّ أصناف البشر ؛ خواصه وعوامه، فالناس بشكل عام لهم حاجات ومتطلبات دينية مشتركة؛ فالكل يحتاج إلى الهداية من دون فرق بين الخواص والعوام. ولا يخفى أنّ الخواص من الناس أيضاً لهم احتياجات دينية معينة كذلك، وهي ترتبط بحقل اختصاصهم؛ فالفيزيائيون أو الكيميائيون المتدينون يحتاجون إلى مبادئ علم الطبيعة الديني، أو السياسيون المتدينون مثلاً هم بحاجة أيضاً إلى الفقه والأخلاق والكلام السياسي الديني.

وأما المقصود بالدين فهو كل حقيقة مبينة للمآل الملكوتي للرؤى والمناهج والسلوكيات الدنيوية . وهذه الطائفة من الحقائق يمكن أن تكون نابعة من منطلق تجريبي أو شهودي أو عقلي، أو تتمتع بنقل ديني يعمها. وبطبيعة الحال فإنّ بيان المآل الملكوتي والأخروي لها بنحو شمولي يغطّي جميع الجوانب لا يتسنّى من دون الوحي والنقل الدينيّ؛ لأنّ باقي المصادر المعرفية عاجزة عن أداء هذا الدور الخطير الجامع. وتشمل هذه الطائفة من الحقائق الدینیّة على حقائق وصفية وأخرى معيارية، وكلّ

ص: 280


1- راجع: تشريح المجتمع فرامرز رفیع بور، ص 69- 5 . [ العنوان بالفارسية آناتومي جامعه].

قضية تقع في طريق هداية الإنسان بما يعمّ القضايا العقائدية والأخلاقية والفقهية والحقوقية وغيرها. وبالطبع، فإنّ الدين في هذا البحث الدارس لتوقعات الإنسان من الدين يمكن له أن يدلّ أيضاً على المرجعية الدینیّة؛ أي: الله جَلَّ وَعَلا ، والرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، والأئمّة من أهل البيت (علیهم السّلام).

3/9 .تحليل القضية:

يمكن لنا أن نحلّل قضية توقعات الإنسان من الدين على صعد وجوانب مختلفة؛ فعلى سبيل المثال: يمكن لنا أن نسأل في الجانب التاريخي والمنطقي عما يتوقعه ويرتقبه المتدينون وعلماء الدين في شتّى الأديان على مر التاريخ، أو نتساءل مثلاً: ماذا يرتقب الإنسان منطقياً من الدين؟ والمقصود هنا - بطبيعة الحال - تلك التطلعات المنطقية التي يتوقعها الإنسان من الدين .

ويمكن تحليل هذه القضية منطقياً من خلال استعراض التساؤلات التالية : هل الدين حاضر على مسرح الحياة في جميع الاحتياجات السبعة المذكورة آنفاً؟ هل إنّ توقعات الإنسان من الدين في الميادين الاقتصادية والحقوقية والسياسية والتربوية والإدارية وعلى صعد العلوم الإنسانية والطبيعية هي توقعات منطقية؟ وهل إنّ تدخلات الدين في الاحتياجات الفردية والاجتماعية المادية والمعنوية، وكذلك الدنيوية والأخروية تدخّلات مبرهنة ومبرّرة؟ وهل تعد تدخلات الدين في هذه القضايا تدخلات مباشرة أم غير مباشرة؟

ذهب بعض الكتاب إلى اعتماد التحليل في هذه القضية على ثلاث ركائز مبدئية؛ هي ما يلي:

1 . يجب على الإنسان أن يشعر ويحس بحاجاته الدینیّة بنحو مستقل.

2 . يجب على الدين أن يكون مؤهلاً لتلبية حاجات الإنسان الدینیّة.

ص: 281

3 . يجب على الدين أن يلبّي هذه الاحتياجات بشكل حصري، وألا يستعين بغيره في قضاء هذه الحوائج الدینیّة، أو يتخذ في ذلك ما ينوب عنه فيها(1).

وفي تقديرنا فإنّ هذه الركائز والأصول باستثناء الركيزة الأولى التي تنص على أهلية الدين ومقدرته على رفع احتياجات الإنسان الدینیّة غير تامة، ويمكن الخدشة فيها لما يلي:

أوّلاً: لم يزعم أيّ علم بما فيها العلوم الدارسة للإنسان والتي تتناول الاحتياجات الإنسانيّة أنّ على الإنسان معرفة جميع حاجاته الذاتية، والشعور بها أولاً، ثمّ المصير إلى تلبيتها؛ فلعله يفتقر إلى أمور لا يكتشفها ولا يشعر بها إلا من خلال سلوكه لطرق أخرى؛ كاعتماده على الآخرين مثلاً، مثل ما نجده في حال المريض على سبيل المثال؛ فهو ينتهج أسلوب تقليد أهل المعرفة واتباع الخبير حينما يراجع الطبيب المختص للتداوي فيكتشف بذلك مرضه ؛ وإن لم يصل إلى تلك النتيجة ولم يشعر بها من خلال طرق فسلجية. والحق أن الرواية التي تذهب إلى أنّ «رجوع الإنسان إلى الدين لا يجري إلا عبر الاحتياجات الدینیّة التي يشعر بها الإنسان، ويبرهن عليها الحسّ والعقل» هي رؤية نفعية براغماتية وإنسانوية هيومانيزمية، وهي لا تنسجم مع مسلك الفلسفة العقلانية.

وبناءً على ما تقدم، يمكن للإنسان بعد تجاوزه لمراحل إثبات وجود الله وصفاته الكمالية ووقوفه على ضرورة ابتعاث الأنبياء وعصمتهم، م إعجاز القرآن الكريم وحصانته من التحريف أن يستنتج حقانية الدين الإسلامي، وأن يكتشف حاجات الإنسان إلى الدين من تقارير وضعها بين يديه العليم الحكيم على الإطلاق.

وثانياً : تتأخر مكتشفات العلوم التجريبية الحديثة زمنياً عن عصر نزول الشريعة الإلهيّة، وعلى الدين الذي يتبوّء وظيفة هداية البشرية بأسرها أن ينظر إلى جميع الأزمان والأعصار، وأن يأخذها بعين الاعتبار. أضف إلى ذلك أنّ غرائب العلوم التجريبية على

ص: 282


1- راجع: الله والآخرة غاية ابتعاث الأنبياء مهدي ،بازركان مجلة كيان العدد 28 [بالفارسية].

كثرتها لا تُغني عن الرجوع إلى تعاليم الدين وإنجازات الشريعة؛ لأنّ العلوم الحديثة لم تُفلح أبداً في كشف النقاب عن العلة التامة أو العلة الحصرية للظواهر الموجودة في هذا العالم؛ فإذا استطاعت العلوم الجديدة أن تظهر كفاءة في تلبية الاحتياجات الدینیّة فهذا لا يعني إلغاء توقعات الإنسان من الدين في هذه الميادين؛ لأنّ هذه العلوم الجديدة المستحدثة عاجزة عن اكتناه العلة التامة للاحتياجات الدینیّة، وكذلك ليس بإمكانها أن تبيّن لنا المآل الأخروي لهذه العلوم؛ وإن كانت قادرةً عمليّاً على ذلك حسب رؤية المذهب النفعي البراغماتي.

وبعبارة أخرى قد يتسنّى للعلوم والفلسفات البشرية أن تلبّي بعض الاحتياجات الدینیّة، لكنّ مجموعة الاحتياجات الدینیّة التي تُستكشف عن طريق العقل والنقل الديني، وكذلك المآل الأخروي للأعمال الدنيوية لا تُكشف إلى من خلال الدين، ولا بديل عنه فيها.

4/9 .منطلق القضية :

انطلقت شرارة البحث عن توقعات الإنسان من الدين من زناد مطارحات إنسانوية (هيومانيزمية)؛ أي أنّ النزعة الفلسفية التي استبدلت محورية الله بمحورية الإنسان في كلّ شيء هي التي تسببت في تبلور قضية توقعات الإنسان من الدين؛ وذلك لأنّ الإنسانوية شاءت أن تنصب الإنسان نظرياً وعملياً على الصعيدين المعرفي والقيمي كمعيار للصحة والسقم، أو الخير والشر. ولا ننكر في هذا المقام أثر النسبية المعرفية والشكوكية المحدثة في ظهور هذا المسلك الفكري؛ حيث حصر أنصار هذه المذاهب العلوم والقيم في الإنسان، وجعلوها رهينة به.

وقد عمّم أصحاب المذهب الإنسانوي منحاهم هذا على جميع أصناف البشر، بما فيهم الأنبياء الإلهيون؛ فذهبوا إلى أن الوحي والحقائق الدینیّة ما هي إلا ثمرة من ثمار تفاعلات الشد والجذب التي تمارسها أذهان الأنبياء مع العالم الخارجيّ !

ص: 283

وبناءً على ما ذهبت إليه المدرسة الهيومانيزمية لا شيء ولا موجود - بما يشمل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى والقيم الأخلاقية والاجتماعيّة مثل الحرية والعدالة وما إلى ذلك - يعلو على الإنسان شرفاً وأهميةً. وبالتالي، فإنّ التضحية في سبيل الله والدين والمثل الأخلاقية والروحية حسب الفكر الحداثوي والإنسانوي أمور عديمة المعنى. وكذلك الأوامر والنواهي الإلهية أو أحكام الشريعة وتكاليفها كلها أمور لا تعني شيئاً إلا إذا أدركها الإنسان ،بحواسه، وأدرك فوائدها ومنافعها لحياته الدنيوية (1).

نعم؛ نشأت قضية توقعات الإنسان من الدين في بوتقة هذه الرؤية الفلسفية، والنزعة إلى محورية الإنسان، لكن يتوجب هنا ألا نخلط بين المنطلقات والنتائج؛ فلا يصح أن نستنتج من لاصوابية المنطلق كون القضيّة سقيمة من الأساس؛ وإن كنا لا ننكر تأثير المنطلقات تلك على نوعية اختيارنا لمنهج الردّ على أتباع النزعة الإنسانوية.ومن هنا، فإنّ السؤال عن توقعات الإنسان من الدين أو مدى احتياجه وتطلعاته إليه له ما يبرّره ويبرّر البحث فيه، بالرغم من المنطلقات الخاطئة التي أدّت إلى تفجر النقاش بشأنه، كما أنّ البحث عن توقعات الدين من الإنسان له مبرره، ولا يخدش في إيمان المؤمنين بذلك الدين.

5/9 .منهج البحث في القضية :

يمكن أن نحلّل قضية توقعات الإنسان من الدين على مستوى منهج البحث أيضاً، والسؤال المطروح في هذا الجانب هو: هل إنّ تطلعات الإنسان هذه حالة نفسانية ذهنية لها جانبها الشخصي، أم يمكن أن نضع اليد على توقعات وتطلعات مقنّنة ومنضبطة؟ وفي الحالة الأخيرة، هل يجب اتخاذ منهج خارج عن الأطر الدینیّة، أم يكفي مراجعة الكتاب والسنة والإفادة من منهج النصوص النصوص الدینیّة؟

ص: 284


1- راجع: تاريخ الهيومانيزمية ورؤية هايدغر بشأنها بالفارسية، علي أصغر مصلح مجلة نامه فرهنك، السنة الرابعة، العدد 4، ص 122 تأثيرات الهيومانيزمية على الفكر الديني، مصطفى ملكيان كراسة غير مطبوعة [بالفارسية] ؛ تاريخ الفلسفة ،كابلستون، ج 8 ص 380 [النسخة المترجمة إلى الفارسية].

إننا نرى أن اتباع أسلوب الجمع بين المنهجين المذكورين عن طريق الإفادة من القرآن الكريم والسنة الشريفة، وكذلك العقل والتجربة هو أكثر الطرق إتقاناً و شموليّةً للخوض في قضية توقعات الإنسان من الدين؛ إذ يمكن استخدام المنهج الخارج عن الأطر الدینیّة أي بتوظيف العقل والتجربة من أجل إماطة اللثام عن بعض الحاجات الدینیّة عند الإنسان، ثمّ نذهب بعد إثبات حجية الدين ومصداقية النصوص الدینیّة إلى انتهاج طرق الكتاب والسنة للوصول إلى سائر الاحتياجات الدينيّة الأخرى عند الإنسان.

وبناءً على ما تقدّم، يمكن أن نعدّ المناحي البحثية المتنوعة التالية ضمن الاتجاهات والمناهج الكفيلة بإثبات أصل موضوع حاجة الإنسان إلى الدين:

*المنهج العقلي الفلسفي المبتني على ضرورة ابتعاث الأنبياء.

*المنهج الوظيفي التجريبي؛ لا سيما في حقلي علم النفس الديني وعلم الاجتماع الديني بغية كشف النقاب عن التأثيرات والخدمات الفردية والاجتماعية التي قدّمها الدين.

*أسلوب استبيان آراء المتدينين والرافضين للدين.

منهج المعارف الإنسانية التجريبية، ودراسة الاحتياجات الفردية والاجتماعية والمادية والروحية والدنيوية والأخروية عند الإنسان، وتحديد حصص الحاجات الدینیّة بعد فرز سائر الاحتياجات العلمية والفلسفية وغيرها.

*منهج التمدّد التاريخي للدين، وكذلك قابلية الدين للتحقق والاختبار.

أما تحديد جميع الاحتياجات الدینیّة عند الإنسان على نحو الدقة فهو أمر متروك لمنهج النصوص الدینیّة؛ أي أنه يتيسّر من خلال مراجعة الكتاب والسنة، والإفادة من هديهما.

ص: 285

ولا يخفى أن الميزة التي يتحلى بها هذا الأسلوب (الجمع بين المناهج الدینیّة والخارجة عن الأطر الدینیّة) ويتميّز بها عن غيره من الأساليب الاكتفاء بأحد المنهجين المذكورين) تكمن في كشفه عن جميع الاحتياجات الدینیّة، بل وفي كونه مفيداً لجميع شرائح المجتمع ؛ بما فيهم غير المتدينين وغير المؤمنين بالمعتقدات الدینیّة ونصوصها.

ومن الجدير بالإشارة هنا أوّلاً أنّ المنهج التجريبي والعقلي ليس أنه نافع للتداول به مع اللادينيين وحسب، بل هو مفيد أيضاً في فهم الكتاب والسنة، وإظهار فاعليتهما، علاوةً على إسهامه في تحديد المصلحة، ومواطن تزاحم الأحكام أحياناً، وثانياً: أن توظيف النصوص الدینیّة من القرآن الكريم والحديث الشريف مرتكز على الالتزام بالقواعد اللغوية العامة (مثل : قاعدة العام والخاص) ، وقواعد اللغة العربية على نحو الخصوص ( مثل القواعد الصرفية والنحوية)، وكذلك القواعد القرآنية والحديثية وهي أكثر خصوصية (مثل: قاعدة الناسخ والمنسوخ) ، وهو مرتهن أيضاً بالاجتناب عن إصدار أحكام مسبقة والزج القسريّ بالرؤى والمعتقدات الشخصية لتلولى بها أعناق النصوص الدینیّة؛ وذلك لأنّ النصوص الدینیّة ناطقة، ودالة على معانيها، والواجب هنا هو کشف النقاب عنها (1).

6/9 .رؤى المفكرين الإسلاميين في القضية :

1/6/9 .التوقعات المعتدلة من الدين :

تنطوي قضية توقعات الإنسان من الدين على رؤى ومناهج فكرية متعددة يمكن تصنيفها وفقاً لإحدى الاعتبارات إلى توقعات الحد الأدنى، وتوقعات الحد الأقصى والتوقعات المعتدلة.

أمّا توقعات الحد الأدنى فتقرر اقتصار وظائف الدين على علاقة الإنسان بربه، وأمّا توقعات الحد الأقصى فهي تزيد على ذلك جميع الاحتياجات الدنيوية والاخروية،

ص: 286


1- راجع: توقعات الإنسان من الدين [بالفارسية]، المؤلف ،القسم الأول، الفصل الخامس، منهج البحث في القضية، ص 135-87 .

وشتى الحاجات الصغرى والكبرى، وأمّا التوقعات المعتدلة فهي ترى وفقاً لهدى الوحي ونصوصه وما يمليه العقل البشري أنّ الدور المركزي الذي يجب أن يضطلع به الدين هو هداية الإنسان، وتأمين سعادته. وعليه، فلا يقوم الدين بدور حيوي على الصعيد الأخروي وحسب، بل ينشط أيضاً فيما يرتبط بازدهار الدنيا كمقدمة لحياة أخروية مزدهرة أيضاً.

وبناءً على ما تقدّم فإننا إجمالاً أمام ثلاث نظريّات أساسية في بحث توقعات الإنسان من الدين حسب رؤى المفكرين المسلمين نفصل فيها على النحو التالي:

التوقعات المعتدلة من الدين:

تذهب هذه النظرية إلى أنّ النصوص الدینیّة لا تقف عند حد الاهتمام بشؤون الحياة الأخروية، بل تسعى أيضاً لتأمين بعض الاحتياجات الدنيوية أيضاً، منها حاجات سياسية وحقوقية واقتصادية وإدارية وثقافية وأخلاقية وعبادية وغيرها، لم يغفل الكتاب أو السنة عن الاهتمام بها. وبطبيعة الحال فإن تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية رهين بالتزام الطبقة الحاكمة للمجتمع وسائر الأفراد فيه عقائدياً وعملياً.

وتذهب هذه الرؤية الشهيرة بنظريّة التوقعات المعتدلة إلى أن توظيف العقل والتجربة والتاريخ والشهود القلبي مؤثر وفعّال في عمارة الدنيا وازدهارها، وهي نظرية تستمد أسسها من نظرية الإسلام الشامل الجامع التي يؤمن بها جمع غفير من الفلاسفة والمتکلّمین القدامى والمعاصرين.

وتتبلور نظرية التوقعات المعتدلة من خلال البتّ في إثبات وجود الله وصفاته الكمالية، لا سيّما علمه وقدرته وحكمته وعدله، وضرورة الحياة بعد الموت، والعلقة الحقيقية بين الدنيا والآخرة وفق المنهج العقلي، ثمّ إثبات ضرورة الوحي الإلهي من خلال الوصول إلى ضرورة كشف العلقة بين الفكر والعمل الدنيوي من جهة،

ص: 287

والسعادة الأخروية من جهة أخرى إلى جانب العجز المطلق الذي تعانيه السبل والأدوات الاعتيادية التي يملكها الإنسان في مسيرة الكشف هذه.

ومما تثبته ضرورة الوحي الإلهيّة أنّ الدين يجب أن ينطلق من منطلق إلهي سماوي، كما يتحتم أن يكون مصوناً ومعصوماً عن شتّى ألوان التحريف. وبالتالي: لا يمكن لأي دين غير سماوي وغير إلهيّ، أو أي دين سماوي محرَّف أن يتم مهمته، ويجلب الهداية والسعادة لبني البشر .

2/6/9 .توقعات الحد الأقصى من الدين:

قرّرت هذه النظرية بتقريرات متنوعة نعرض جانباً منها فيما يلي :

التقرير الأوّل: أنّ الدين يلبي جميع الاحتياجات الدنيوية والأخروية، ويجيب على المسائل العلمية، ويحلّ القضايا العلمية كافةً وأنّ الدين ونصوصه يردّ على مختلف المسائل الدنيوية والأخروية صغيرها وكبيرها من دون أي حاجة تدعو للرجوع إلى العقل أو التجربة؛ وذلك فيما لو استعنا بالقرآن الكريم ظاهره وباطنه(1).

هذه الرؤية مردودة بالدليل العقلي والنقليّ؛ لأنّ الكتاب والسنة حدّدا مهمة الدين في كونه المصدر لهداية الإنسان وسعادته، وليس رافعاً لجميع احتياجاته على نحو الإطلاق، كما أنهما شدّدا على توظيف العقل والتجربة والاستفادة منها.

أما التقرير الثاني لهذه النظرية فيذهب إلى أنّ الدين ونصوصه يلبّي جميع الاحتياجات الأخروية، وشتّى المتطلبات الدنيوية والأخروية على مختلف الصعد الفردية والاجتماعية، وطالما أنّ العقل يشكّل أحد مصادر الدين، فلا ضير في توظيفه بسد الاحتياجات الدنيوية الجزئية عن طريق إعمال الاجتهاد في العموميات. على سبيل المثال يمكن من خلال التأمل في الآيات القرآنية الواردة بشأن الطبيعيات

ص: 288


1- راجع: إحياء علوم الدين الغزالي، ج 1، ص 289؛ جواهر ،القرآن الغزالي، الفصل الرابع، ص 18 .

(مثل): علوم الفلك ومعرفة الإنسان والزراعة والعلوم البحرية والطب) وعبر الإفادة من قواعد الاجتهاد أن يصل المجتهد إلى استنباط القضايا الجزئية في العلوم الطبيعية. وهو أمر مشابه لما صنعه محققو علم أصول الفقه في بحوثهم حول الحديث الشريف لا تنقض اليقين بالشكّ؛ حيث استنبطوا قضايا جزئية عديدة، بل كتبوا على أساسه مصنّفات كثيرة، تناولت إحدى أهم القواعد الأصولية والفقهية؛ ألا وهي الاستصحاب(1).

هذه الرؤية يمكن استعراضها والتعامل معها على أنها إحدى المدعيات والفرضيات في هذا الصدد، لكنّ إثباتها بالدليل العقلي والنقلي ليس بالأمر الهين، والمقارنة بين الآيات القرآنية الواردة في موضوعات العلوم الطبيعية والحديث الشريف الوارد في شأن الاستصحاب لا يعدو كونه استدلالاً تمثيلياً، لا يقوى على إثبات ذلك المدعى.

أمّا التقرير الثالث لنظرية توقعات الحد الأقصى من الدين فيعود إلى بعض المفكّرين المسلمين الذين اتخذوا منحى أيدولوجياً متطرّفاً يميل إلى النزعة الدنيوية؛ حيث ذهبوا إلى أنّ الدين ليس مطالباً بالعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية وحسب، بل تحدّثوا عن واجبه ودوره في سدّ متطلبات الرفاهية المادية، وتحسين الأوضاع المعيشية ، وازدهار الحياة الدنيوية، واستثمار الطاقات الطبيعية.

وقد سوّق لهذه الرؤية بعض الحداثويين والمصلحين الاجتماعيين المسلمين المعاصرين في القرن المنصرم وعلى رأسهم الدكتور شريعتي، والمهندس بازركان؛ فقد ذهبت هذه الشخصيات إلى أنّ الإسلام لم يكتفِ بدعوته للتنمية واستثمار العقل والطبيعة، بل قدّم أنموذجاً أيدولوجياً وتخطيطاً معيناً يستهدف التنمية والإعمار في الدين؛ بما يشمل القوانين العلمية أيضاً، مثل: قانون الديناميكا الحرارية (الثرموديناميك).

ص: 289


1- لاحظ: الشريعة في مرآة المعرفة الجوادي الأملي .

لقد تبنّى أنصار حركة التنوير المعاصر هذه الرؤية من أجل بثّ الروح والحيوية في الدين الإسلامي، وضمان حضوره العلمي والاجتماعي، لكنّ مدّعياتهم المذكورة بدل أن تركّز على عناصر التبرير والتدليل التي تدعمها وتعزّز موقفها، مالت إلى الانخراط في دوّامة الفرضيات المتخذة كأصول موضوعة، معتمدةً على الأحكام المسبقة، والتفسير بالرأي. وهذا يعني أن نصير حركة التنوير الذي لا يُخفي توجهاته السوسيولوجية أو الهندسية، لا يتردّد أبداً في استدعاء الرؤى والنظريات التي عرفها في تلك العلوم الاجتماعية أو الهندسية ليطبّقها على آيات القرآن الكريم بلا انتظام أو تقيّد بالضوابط التي يمليها المنهج التفسيري، ليقرّر ختاماً إسناد اجتهادات علماء تلك العلوم إلى الدين! ولعلّ أخطر التداعيات المترتبة على هذه الرؤية هو فقدان الثقة بآيات القرآن الكريم عند طروء أي تطوّرات وتقلبات علمية تؤدّي إلى ظهور فرضيّات ونظريات جديدة. ناهيك عن الخلل المنهجيّ الذي تعانيه هذه الانطباعات الدنيوية من الدين.

3/6/9 .توقعات الحدّ الأدنى من الدين :

ذهب البعض إلى حصر دائرة الدين والتوقعات منه في حدود القضايا العبادية، وتنظيم العلاقات بين الإنسان وربّه، والانشغال بالآخرة وشؤونها، رافضين في رؤيتهم هذه ما ذهب إليه أصحاب الاتجاه الأيدولوجي الدنيوي. وهذا ما نلحظه عند المهندس بازركان في فترة ما بعد الثورة الإسلامیّة في إيران، والأحداث التي أفرزتها التجاذبات بين القوميين والإسلاميين. وفي معرض إثباته لما ذهب إليه حاول بازركان كما صنع في منحاه السابق - أن يتشبث ببعض الآيات القرآنية ، والشواهد التاريخية (1).

وهذا الرأي أيضاً يفتقر للمنهجية، ولا يعتمد على المبادئ أو المناهج الهرمنيوطيقية (التفسيرية)، كما أنّ تأثره بالقراءات الشخصية والأحكام المسبقة والتداعيات الاجتماعيّة لتلك الحقبة التاريخية واضحة للعيان. ولهذا، تجده يتبنى هذه الرؤية بعيداً

ص: 290


1- راجع: الله والآخرة غاية ابتعاث الأنبياء، مصدر سابق.

عن الالتفات إلى سيادة المنهج النبوي والعلويّ، وما دلّت عليه الآيات والأحاديث في شؤون المعاملات والعلاقات الاجتماعية .

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ بعض الكتاب الآخرين حاولوا أيضاً أن يبرهنوا على هذا المدعى باستدعائهم لأصول ومناهج بعيدة عن النصوص الشرعية والدینیّة، متخذين نظرية الذاتيات والعَرَضيّات في الإسلام أساساً ومنطلقاً لما ب«دین الحد الأدنى». ووفقاً لهذه النظريّة فإنّ ذاتي الإسلام وهدفه الأساسي هو العناية بالآخرة وإعمارها ، أما ما ورد في الكتاب والسنة من أوامر وتعاليم أخرى مثل: التوصيات الصحية والنفسية، وما يرتبط بالقضايا الاقتصادية والسياسية والثقافية فهي عرضيات هذا الدين، ولا تُعدّ جزءاً من هدفه الأساسي(1).

وهذا المنحى الفكري أيضاً يعاني من الاضطراب واللا انسجام حسبما تنص الأدلّة العقلية والنقلية؛ فعلى الرغم من أنّ الغاية القصوى التي يتوخاها الإسلام والغرض المركزي الذي يهتم به المشرع هو الكمال والسعادة للإنسان، لكنّ تعاليم الدنيا وأوامره على صعيد الشؤون الفردية والاجتماعية مقدّمة أساسية لا محيص عنها في سبيل بلوغ هذا الهدف. وبناءً على ذلك، إذا أذعنا بكون بعض هذه التعاليم الإسلامیّة مقدمات و ممهدات، فلا يمكن المصير إلى دين الحد الأدنى؛ لأنّ طريقيّة هذه الطائفة من الأوامر الإلهية وكونها وسيلة لنيل أهداف المشرع وغايته أمر له موضوعيته، وهو يتحلّى بالضرورة أيضاً.

وتأسيساً على ما تقدّم من أبحاث، يتضح بطلان ما ذهب إليه بعض التنويريين الدينيّين مثل إقبال اللاهوري ومحمد مبارك؛ حيث مالوا إلى نفي أي لون من ألوان التخطيط أو التنظير لبرنامج يتناول الحياة الدنيوية في الإسلام. لقد ذهبت هذه الفئة من الكتاب والمفكرين إلى أنّ الإسلام قد حثّ الناس وشجعهم على استثمار الطاقات

ص: 291


1- انظر: بسط التجربة النبوية، عبد الكريم سروش .

والثروات الطبيعية، وشدّد أيضاً على دفع عجلة التنمية في الدينا بما ينسجم مع العقل، لكنّه لم يقدّم توصيات خاصة وأساليب معيّنة في هذا الصدد.

لا شكّ في أنّ بطلان هذه الرؤية يتضح بمجرّد الرجوع إلى آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة الشريفة وتصفّح الأحكام الاجتماعية المتنوعة؛ بما يعم الشأن الاقتصادي السياسي والتربوي وهلم جرا.

وعليه فإن النصوص الدینیّة في الإسلام ليس أنها تؤكّد على توظيف العقل والتجربة وحسب بل عمدت إلى تبيين سلسلة من الأحكام الاجتماعية والدنيوية، ولم تسمح بتعطيل العقل والتجربة.

7/9 . رؤى المفكرين الغربيين في القضية :

مرّت قضيّة توقعات الإنسان من الدين في الفضاء الغربي بثلاث حقب تاريخية ابتداءً من مرحلة ما قبل القرون الوسطى، ومروراً بعصر النهضة والعصر الجديد، ووصولاً إلى وقتنا الراهن.

لم تكن هذه القضية مطروحة بشدّة في مرحلة ما قبل القرون الوسطى ( في اليونان القديم أو الروم القديمة)، أمّا في القرون الوسطى فقد أبدى المسيحيون توقعات واسعة النطاق من الدين المسيحي، متقبلين سيطرة الدين واستحواذه على جميع مفاصل الحياة الفردية والاجتماعية. لقد عمدوا إلى توليف الفلسفة واللاهوت وحاولوا المواءمة بين العقل والوحي، وخلصوا إلى ادعاء نطاق رحب للدين، حتى ذهبوا إلى رؤية حد أقصائيّة» لكتابهم المقدس بعيداً عن سلطة العقل والفلسفة. يقول الفيلسوف الفرنسي جيلسون (1979م) في هذا الصدد:

لقد استعاضت طائفة من اللاهوتيين المسيحيين بالوحي بدلاً عن جميع العلوم والمعارف البشرية؛ بما فيها العلوم التجريبية والأخلاقية والميتافيزيقية، معتقدين بأنّ

ص: 292

الله قد تحدث إلينا، وقد سجّل لنا في الكتاب المقدّس كلّ ما هو ضروري للفلاح. ،ولهذا، يتحتم تعلم الشريعة وحسب، ولا حاجة لغيرها ؛ بما فيها الفلسفة (1).

أما عصر النهضة والعصر الجديد فهو الحقبة التاريخية التي شهدت تقلبات علمية ورؤى جديدة حيال الإنسان والطبيعة والله عَزَّ وَجَلَّ. وقد أدّت سلوكيات أرباب الكنيسة والتعارضات والتضاربات التي طفت على السطح بين العلوم الجديدة التي بشر بها أمثال غاليليو (1642م) ونيوتن (1727م) وداروين (1882م) ومن لفّ لفهم من جهة، والتعاليم الكنيسية في موضوعات «التثليث» «والخطيئة الأصلية»(2) من جهة أخرى أدّى جميع ذلك إلى هبوط مستوى التوقعات من الدين المسيحي من حده الأقصى إلى مستويات متدنّية آلت به إلى توقعات الحد الأدنى.

لقد ذهب لوثر (3) (1546م) في قراءته للكتاب المقدّس إلى توقع التغيير في الإنسان؛ وليس الحصول على حفنة من المعلومات. وقد شدّدت على هذه الصيحات المنادية بالحدّ الأدنى مطالبات دعت إلى استبدال العقل الكلّيّ الفلسفي بالعقل الجزئي(4)، واستبدال العلاقات الكيفية والتفسيرات الغائية إلى علاقات كمية ورياضياتية في العلوم.

وعلى سبيل المثال: عندما واجه غاليليو تعارضاً واضحاً بين مركزية الأرض في المسيحية مع الأرض التي توصل العلم إلى أنها تدور، مضى في إطلاق حكمه بالفصل

ص: 293


1- العقل والوحي في القرون الوسطى إتيان جيلسون ص 2 و 5 [النسخة المترجمة إلى الفارسية].
2- الخطيئة الأصلية Original sim عقيدة مسيحية تشير إلى وضع الإنسان الآثم الناتج من سقوط آدم. ويتصف هذا الوضع بأشكال عديدة، ما يتراوح من القصور البسيط أو النزعة تجاه الخطيئة بدون الذنب الجماعي ( ما يدعى الطبيعة الخاطئة) إلى شدة الفساد التام من خلال الذنب الجماعي [م]
3- مارتن لوثر (1483 Martin Luther-1546) مؤسس المذهب البروتستانتي، هو راهب ألماني، وقسّيس وأستاذ للاهوت، ومُطلق عصر الإصلاح في أوروبا، [1] بعد اعتراضه على صكوك الغفران. نشر في عام 1517 رسالته الشهيرة المؤلفة من خمس وتسعين نقطة تتعلق أغلبها بلاهوت التحرير وسلطة البابا في الحل من «العقاب الزمني للخطيئة»؛ رفضه التراجع عن نقاطه الخمس والتسعين بناءً على طلب البابا ليون العاشر .[م]
4- يُطلق عليها أيضاً العقل الأداتي Instrumental Reason . [م]

بين العلم والدين، وآمن بأنّ النصوص الدینیّة لا تتحدّث عن الحقائق العلمية، بل تنطق بالمعارف الروحية التي يتوقف عليها فلاح الإنسان.

ولا يخفى أنّ تديّن غاليليو دفعه إلى القول بأنّ العقل والطبيعة على حد سواء يقفان إلى جانب النصّ المقدّس في الدلالة على الله والهداية إليه.

وعلى صعيد متّصل، فقد أفضى التفسير الميكانيكي الذي أدلى به نيوتن في النصف الثاني من القرن السابع عشر ، وكذلك بعض النظريات - مثل: حساب التفاضل والتكامل(1) وقوانين نيوتن الثلاثة(2)- أفضى جميع ذلك إلى تحويل العالم إلى ماكنة معقدة، وانتهى به المطاف إلى تقزيم الدور الإلهي في الطبيعة، ليتحوّل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى إلى صانع ساعة (أي : صانع الساعة الذي يقتصر دوره على صناعته للساعة فقط دون تدخله في أي إدارة مستقبلية لشؤونها) ، مهمته الحصرية هي إعمار عالم الطبيعة فقط؛ وليس ممارسة الدور الربوبي فيها . وعلى الرغم من ذلك لم يُنكر دوره وفاعليته في خلق العالم وفي دخوله على خط المجهولات العلمية بصفته «إله الفجوات»(3)، لكنّ التحليل الرياضياتي لميكانيكية حركة الكواكب الذي قدّمه لابلاتس أبطل إله الفَجَوات، وتدخله في دائرة المجهولات أيضاً، مما أدّى إلى تقلّص مستوى التوقعات من الدين عند بعض المفكرين الغربيين. هذا، ناهيك عن بقاء حدّة هذه التوقعات

ص: 294


1- حساب التفاضل والتكامل Calculus فرع من فروع الرياضيات يدرس النهايات والاشتقاق والتكامل والمتسلسلات اللانهائية وهو علم يستخدم لدراسة التغير في الدوال وتحليلها. ويدخل علم التفاضل والتكامل في العديد من التطبيقات في الهندسة والعلوم المختلفة حيث كثيراً ما يحتاج لدراسة سلوك الدالة والتغير فيها وحل المشاكل التي يعجز علم الجبر عن حلها بسهولة. [م]
2- قوانين نيوتن للحركة Newton's laws of motion ثلاثة قوانين فيزيائية تأسس الميكانيكا الكلاسيكية وتربط هذه القوانين القوى المؤثرة على الجسم بحركته أول من جمعها هو إسحاق نيوتن، وقد استخدم هذه القوانين في تفسير العديد من الأنظمة والظواهر الفيزيائية. [م]
3- إله الفَجوات (سدّ الفَجَوات) أو : إله الفراغات أو الثغرات God of the gapse مصطلح يشير في الأبحاث الدارسة للإلهيات إلى نظرية ترى أنّ كل ما يمكن تفسيره بعلم الإنسان ليس من اختصاص الإله، وهو يعني أن دور الإله يتحدد في الفجوات التي يجدها الإنسان في التفسيرات العلمية للطبيعة. وتتضمن هذه الفكرة دمجاً بين التفسيرات الدینیّة مع التفسيرات العلمية [م]

في أدنى مستوياتها عند بعض أنصار التنوير والنهضة الرومنطيقية، كما ذهب إليه الألمانيّ كانط (1804م) الذي اختزل دور الدين في نطاقات أخلاقية، وكما ذهب إليه شلاير ماخر (1834م) في نظرية التجربة الدینیّة، وتعريفه للدين بأنه الشعور بالاعتماد على موجود مطلق.

هذا، وقد انطوت نظريّة «تبدّل الأنواع» أو «تطوّر الأنواع» التي أطلقها داروين وبعض المبادئ المرتبطة مثل: الصراع من أجل البقاء»، و«الاصطفاء الطبيعي» على تأثيرات كلامية واضحة؛ منها : التعارض مع حكمة الخلق، والتعارض مع أشرفية الإنسان، ومطارحات حول علاقة الاخلاق التكاملية بالأخلاق الدنيئة، وعدم الانسجام مع مضمون الكتاب المقدس عند المسيحية، وهي أمور ساهمت في اضمحلال بريق الدين المسيحي، وأكسبت حركات الإلحاد والفلسفات المادية زخماً ودفعاً معنوياً إلى الأمام، وهو ما أدى أيضاً إلى إنكار شتّى ألوان التوقعات من الدين.

ولا ننسى في هذا المقام أن شكوكيّة هيوم (1776م)، والفصل بين الواقع الموضوعي والإدراكات الذهنية عند كانط (1804م) في القرن الثامن عشر، وكذلك النسبية والتحليل النفسي عند فرويد(1) (1939م) في القرن التاسع عشر، وأيضاً ما ذهب إليه الوضعيون والتجريبيون المتطرّفون، وفلاسفة التحليل اللغوي في القرن التاسع عشر والعشرين بخصوص مزاعمهم في فراغ القضايا الدینیّة من المعاني وتخرّصاتهم في فقدانها لأيّ مدلول مهدت إلى ظهور توقعات سلبية من الدين.

ولا يفوتنا التنويه هنا بأنّ المفكرين الغربيين مع كل ما تقدّم لهم من مواقف وآراء، وبسبب مسلكهم ومنهجهم الوظائفي، لم يتجاهلوا الدور والأثر النفساني والاجتماعي الذي يتحلّى به الدين ولهذا تجد عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم

ص: 295


1- سيغموند شلومو فرويد (1856 (Sigmund Schlomo Freud-1939م): طبيب أعصاب نمساوي من أصل يهودي. يعدّ مؤسس مدرسة التحليل النفسي اشتهر بنظريات العقل الباطن (اللاواعي)، وآلية الدفاع عن القمع وخلق الممارسة السريرية في التحليل النفسي لعلاج الأمراض النفسية عن طريق الحوار بين المريض والمحلل النفسي. اشتهر عنه إعادة تحديد الرغبة الجنسية والطاقة التحفيزية الأولية للحياة البشرية [م]

(1917م) يعزو حالة «الوفاء بأفراد المجتمع » عند الإنسان إلى الدين، كما يذهب الألمانيّ فونت(1) (1920م) إلى إسناد أخلاقية الإيثار إلى الدين أيضاً، علاوةً على ما ذهب إليه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1920م) من الدور المؤثر الذي لعبته الأخلاق البروتستانتية (أي: الأخلاق التي نص عليها المذهب البروتستانتي) في إيجاد تنمية واسعة للرأسمالية الحديثة. وعلى الرغم من جميع الإجحافات التي ارتكبها فروید بحق الدين فهو يقول:

إنني أرى ضرورة التربية الدینیّة بصفتها أساساً للنظام في الحياة الاجتماعية عند الإنسان. وبالطبع، ليس عليكم أن تظنّوا بأنّي مؤمن بهذه المبادئ، وأنني مؤمن بالدين لا؛ ليس في أي إيمان أو تعصب كما يوجد عند المؤمنين بالدين، لكنّني من أجل ما أجده في مصالح ومقتضيات أرى صحتها، وأعمل بها(2).

ويقول العالم النفساني يونغ (1961م) وهو من زملاء فرويد وناقديه: ولهذا السبب اقتنعت بشكل كامل أنّ المعتقدات والطقوس الدینیّة لها أهمية خارقة للعادة؛ ولو على مستوى المنهج في الصحة النفسية. فإذا كان هناك مريض له وضع مثل هذا؛ أي أنه شخص كاثوليكي عامل بالتكاليف الدينيّة، فإنّني لن أتردد في أن أوصيه بممارسة طقوس الاعتراف بالذنب، والأفخارستيا(3)؛ ليقي نفسه من الاصطدام بتجربة مباشرة لا يطيقها (4).

ص: 296


1- فيلهلم فونت (1832 Wilhelm Wundt-1920م): عالم نفس ألماني، عُد مؤسس علم النفس التجريبي. أصدر مجلة دورية ينشر فيها بحوثه وتلاميذه أطلق عليها اسم «الدراسات الفلسفية»؛ فقد كان يعد نفسه فيلسوفاً، وله الفلسفة والمنطق والأخلاق عدة مصنّفات. [م]
2- مستقبل وهم ،فرويد ص 468 [ النسخة المترجمة إلى الفارسية].
3- الأفخارستيا - أو سر التناول أو القربان المقدس Eucharist : هو أحد الأسرار السبعة المقدسة في الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية أو أحد السرين المقدسين في الكنيسة البروتستانتية. وهو تذكير بالعشاء الذي تذكر الكنيسة أنّ المسيح 7 تناوله بصحبة تلاميذه عشيّة آلامه. ويُحتفل بها في جماعة المؤمنين لأنها التعبير المرئي للكنيسة. الاحتفال يكون بصيغة تناول قطعة صغيرة ورقيقة من الخبز (تعرف بالبرشان التي تمثل جسد يسوع وأحياناً تذوق أو غمس قطعة الخبز في القليل من الخمر الذي يمثل دم المسيح .[م]
4- الدين وعلم النفس، كارل يونغ، ص 85 .[ النسخة المترجمة إلى الفارسية].

وعلى خطى هذا النهج سار إريك فروم (1980م) وجمع غفير من الفلاسفة واللاهوتيين المنتمين للمذهب الوجودي، وبعض فلاسفة التحليل اللغوي (مثل: فيتغنشتاين)، فاعترفوا بتوقعات وظائفية من الدين، لكنّهم جميعاً تمسكوا بموقفهم الذاهب إلى نظرية توقعات الحد الأدنى من الدين.

8/9 .نظريّة التوقعات المعتدلة من الدين:

أسلفنا سابقاً أنّ نظريّة التوقعات المعتدلة من الدين هي نظرية يمكن إثباتها بالمناهج الدینیّة والمناهج الخارجة عن الأطر الدینیّة على حد سواء، سواء، وهي النظرية المختارة عندنا وبناءً على هذه النظرية فإن رسالة الأنبياء لا تنحصر في الاهتمام بشؤون الآخرة، أو في بيان العلاقة بين الإنسان وربه، بل تتناول علاوةً على ذلك قضايا وجوانب إنسانيّة أخرى بنحو مباشر أو غير مباشر. ومع أنّ الإسلام يرفض العلمانية، بيد أنه لا ينكر العلوم التجريبية أو الإنسانية أو الطبيعية أو العقلية، ونظرية التوقعات المعتدلة لا تتجاهل دور الدين في العلوم المشار إليها .

أمّا مراحل إثبات هذه النظرية فتبدأ من إثبات أصل الحاجة إلى الدين باستخدام مناهج خارجة عن الأطر الدینیّة؛ إذ يمكن مثلاً من خلال توظيف المنهج التجريبي إثبات عدد من وظائف الدين وآثاره؛ مثل تلبية نداء الشعور بالوحدة، أو تخفيف حدّة الخوف من الموت أو الآلام والمتاعب، أو منحه معنى جديداً لحياة الإنسان، أو حلّه لمنازعات الناس واختلافاتهم، أو السيطرة على أفراد المجتمع، أو الوقاية من الأزمات النفسية، أو تقديم المصالح العليا للآخرين على المصالح الشخصية، أو دوره في التلاحم الاجتماعي، وأثره في دعم الأخلاق، وهلم جرا(1).

أو من خلال المنهج العقلي تقوم بإثبات ضرورة الحياة الاجتماعية، والمشاركة في العمل، وتوزيع الأدوار بين الناس، وضرورة وجود قانون شامل ومقنّن عادل إلهي،

ص: 297


1- للاستزادة راجع: الكلام الجديد للمؤلف، بحث وظائف الدين وأدواره.

ومن ثَمّ يُستنبط لزوم وجود قوانين إلهيّة، وانبعاث أنبياء إلهيين يأخذون على عواتقهم مهمة تطبيق القانون الإلهي على الأرض(1).

وبعد إثبات حاجة الإنسان إلى القوانين الإلهيّة، ودور الدين وأثره، يصل الدور إلى تحديد المصداق للدين الحقيقي؛ أي: وضع اليد على دين واحد من بين مجموعة الأديان المتنوعة، يكون باستطاعته تقديم القوانين الإلهية، وتوفير الفوائد والآثار المترتبة على الدين. ومن الواضح أن الدين إذا لم يستند إلى الله جَلّ وَعَلا كما في الأديان الوضعيّة البشريّة، أو الأديان المحرّفة فلن يتسنّى له توفير السعادة الحقيقية أو القوانين الإلهية؛ حتى لو استطاع تأمين جزء من فوائد الدين وآثاره كتلبية نداء الشعور بالوحدة؛ وذلك لأنه يفتقد استناده إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى .

ومن هنا، فإنّ حقانية الدين الحقيقي يجب أن تُستلهم من الإعجاز، كما يجب أن نضمن حقانية الإسلام وأرجحيّته على سائر الأديان الأخرى واستناده إلى الله عَزَّ وَجَلَّ من نافذة الإعجاز أيضاً، ومن ثَمّ نتحوّل للمنهج النصوصي الديني - أي: إلى الكتاب والسنّة - لاستكشاف باقي توقعات الإنسان من الدين والأمر مشابه لحالة الإنسان المريض الذي يشعر بدايةً بالألم، فيُدرك الحاجة إلى الطبيب، ثمّ يختار طبيباً حاذقاً يسهّل عليه تشخيص المرض فيراجعه ويتغلّب بمساعدته على المرض الذي ابتلي به.

إنّ هذا المنهج المشار إليه هنا والنتائج التي توصل إليها ليس أنها تُثبت التوقعات المعتدلة من الدين الحقيقي والسماوي وحسب، بل تُثبت أيضاً اضطرار الإنسان وحاجته الماسة إلى الدين الإلهي.

وبعبارة أخرى يمكن للإنسان الوقوف على مدى حاجته إلى الدين على صعيد الأمن الفرديّ ( مثل تلبية نداء الشعور بالوحدة والسكينة إلى معنى يملء فراغ

ص: 298


1- راجع: الإلهيات من الشفاء، ابن سينا المقالة العاشرة، الفصل: 2 و 3 ؛ الإشارات والتنبيهات ابن سينا، ج 3، النمط التاسع، ص 371-373.

الحياة، وحلول للشرور والمتاعب)، وكذا حاجته إلى الدين على صعيد الأمن الاجتماعي (كما في حالات استتباب النظام والأخلاق والحقوق الاجتماعية) من خلال سلوك المنهج التجريبي السيكولوجي أو السوسيولوجي، ومن ثَمّ يتسنّى له توظيف المنهج العقلي لإثبات حاجة الإنسان إلى الدين على صعيد الأمن الأخروي. ومن هناك، يمكن استكشاف الحاجات الأكثر جزئية في مجالات الأمن الفردي والاجتماعي من خلال الوصول إلى الدين الحقيقي الثابت عن طريق المصادر الإلهية كالقرآن والسنة. وهذه المراحل لا توصلنا إلى الحاجة للدين وحسب، بل وتثبت لنا اضطرار الإنسان وحاجته الماسة إليه.

وفي المحصلة نقول: تجري عمليات المراحل المذكورة آنفاً حسب الترتيب التالي: اكتشاف الحاجة إلى الدين على صعيد الأمن الفردي والاجتماعي بواسطة توظيف المنهج التجريبي - الحاجة إلى الدين على صعيد الأمن الأخروي بالمنهج العقلي- اكتشاف مصداق الدين الحقيقي من خلال الإعجاز – الرجوع إلى القرآن والسنة لاكتشاف حاجات كثيرة أخرى يعجز الإنسان عن معرفتها من تلقاء نفسه.

وبيان ذلك أنّ البرهان العقلي يثبت لنا وجود الله وصفاته الكمالية؛ ومنها: حكمته تبَارَكَ وَتَعَالَى، ثمّ تأتي فلسفة خلق الإنسان والغائية الإلهية لتوجب الضرورة التي تستدعي حصول الإنسان على الهداية والكمال من الله جَلَّ وَعَلا. وطالما أنَّ العقل والتجربة البشريّة لا يمكن لها بمفردها أن تميط اللثام بشكل كامل عن ترابط الفعل البشري بالكمال الإنساني، يتوصل العقل البشري عبر تحليله للحكمة الإلهية إلى ضرورة نزول مصدر معرفي آخر يؤمن الهداية والكمال؛ وهو ما نسميه بالدين. والحكمة الإلهية تقتضي إرسال دين يأخذ على عاتقه بيان المآل الملكوتي لما تقترفه جوارح الإنسان وجوانحه.

وإلى هنا، أثبت العقل البشري على نحو الإجمال توقعات الإنسان المنطقية من الدين، أو الاضطرار له والحاجة الماسة إليه، أو قل : ضرورة كشف العلقة والارتباط

ص: 299

بين الملك والملكوت. أمّا إظهار مصداق الدين الحقيقى فأمره متروك لما تُثبته المعجزة التي يأتي بها الأنبياء وأمّا قضايا الدين الحقيقي فتتناول بنحو جزئي وتفصيلي الحقائق الكفيلة بهداية الإنسان على صعيد الرؤى والمنهج والسلوكيات.

ومن هذا كله نستنتج أن منهج العقل والنقل الديني مؤهّل لإثبات التوقعات المعتدلة من الدين بلا إنكار أي دور أو أثر آخر للعقل أو التجربة.

9/9 .توقعات الحد الأقصى والنصوص الدینیّة:

تمسّك بعض المحققين والمفسّرين لإثبات توقعات الحد الأقصى بطائفة من الآيات القرآنية الكريمة ؛ ومنها قوله تعالى :

(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لَّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(1) .

وهذه الآية حسب ما ذهب إليه أنصار توقعات الحد الأقصى تدل على أن الكتاب هنا هو القرآن الكريم، وهو بالتالي مبيّن لجميع الحقائق دون استثناء. يقول العلامة الطباطبائي (1402ه) حول هذه الآية المباركة ما نصه:

إذ كان كتاب هداية لعامة الناس - وذلك شأنه - كان الظاهر أنّ المراد بكل شيء كل ما يرجع إلى أمر الهداية مما يحتاج إليه الناس في اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة بالمبدإ والمعاد والأخلاق الفاضلة والشرائع الإلهيّة والقصص والمواعظ فهو تبيان لذلك كله. ومن صفته الخاصة أي المتعلّقة بالمسلمين الذين يسلّمون للحق أنه هدى يهتدون به إلى مستقيم الصراط ورحمة لهم من الله سبحانه يحوزون بالعمل بما فيه خير الدنيا والآخرة وينالون به ثواب الله ورضوانه، وبشرى لهم يبشرهم بمغفرة من الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم . هذا ما ذكروه وهو مبني على ما هو ظاهر التبيان من البيان المعهود من الكلام وهو إظهار المقاصد من طريق الدلالة اللفظية فإنا

ص: 300


1- سورة النحل: 89 .

لا نهتدي من دلالة لفظ القرآن الكريم إلا على كليات ما تقدم، لكن في الروايات ما يدل على أن القرآن فيه علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو صحت الروايات لكان من اللازم أن يكون المراد بالتبيان الأعم مما يكون من طريق الدلالة اللفظية فلعل هناك إشارات من غير طريق الدلالة اللفظية تكشف عن أسرار وخبايا لا سبيل للفهم المتعارف إليها . والظاهر على ما يستفاد من سياق هذه الآيات المسوقة للاحتجاج على الأصول الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد، والكلام فيها ينعطف مرة بعد أخرى عليها أن قوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ) .. ليس باستئناف، بل حال عن ضمير الخطاب في جِئْنَا بِكَ بتقدير «قد»، أو بدون تقديرها - على الخلاف بين النحاة في الجملة الحالية المصدرة بالفعل الماضي. والمعنى: وجئنا بك شهيدا على هؤلاء، والحال أنا نزلنا عليك من قبل في الدنيا الكتاب وهو بيان لكلّ شيء من أمر الهداية يعلم به الحق من الباطل ، فيتحمل شهادة ، أعمالهم، فيشهد يوم القيامة على الظالمين بما ظلموا، وعلى المسلمين بما أسلموا؛ لأنّ الكتاب كان هدى ورحمة وبشرى لهم، وكنت أنت بذلك هادياً ورحمة ومبشّراً لهم(1).

ويقول الفخر الرازي (606ه) في تفسيره لهذه الآية:

من الناس من قال: القرآن تبيان لكل شيء؛ وذلك لأنّ العلوم إمّا دينيّة أو غير دينية، أما العلوم التي ليست دينية فلا تعلّق لها بهذه الآية؛ لأنّ من المعلوم بالضرورة أنّ الله تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين، فأما ما لا يكون من علوم الدين فلا التفات إليه، وأمّا علوم الدين فإما الأصول، وإما الفروع(2).

النقطة الأخرى تتعلّق ببيان سلسلة من الأحاديث الكثيرة التي رويت عن الأئمة المعصومين (علیهم السّلام): ذيل الآية المذكورة أعلاه والتي دلّت على العلم الغزير عند الأئمة،

ص: 301


1- الميزان في تفسير القرآن العلامة الطباطبائي، ج 12، ص 324-325 .
2- التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، ج 20 ص 99 .

ومعرفتهم بما كان ويكون وما هو كائن وعلمهم بالسماوات والأرض والجنّة والنار، وهي علوم أخذوها من القرآن الكريم، وقد استشهدوا بهذه الآية حينما راموا إثبات ذلك للغير (1).

وفيما يلي نستعرض جانباً من تحليل هذه الأحاديث الشريفة وتفسيرها :

استخدم القرآن الكريم الدلالة اللفظية لبيان الأمور الدخيلة في هداية الإنسان بنحو مباشر، أما الأمور الأخرى التي لها دخل بنحو غير مباشر فقد تركها تبين في خضمّ الإشارات والأسرار المكنونة والمداليل الالتزامية وبواطن القرآن الكريم. وهذه الإشارات والأسرار والبواطن لا يفقهها إلا المعصومون (علیهم السّلام)(2)؛ دون غيرهم من بني البشر. وبعبارة أخرى نقول : لقد بيّن القرآن الكريم المضامين المرتبطة ببعض ما يحتاجه الإنسان في موضوعات الإلهيات ومعرفة الإنسان والأحكام والأخلاق والمعاد وما إلى ذلك بألفاظ صريحة، لكنّه شاء أن يُبيّن سائر الاحتياجات الأخرى من خلال مناهج أخرى مشدّداً على سلوك طريق العقل والحس والتجربة والشهود القلبي، وقد تحصل الأئمة المعصومون (علیهم السّلام) على حقائق السماوات والأرض والجنة والنار وغيرها من خلال توظيفهم لتلك المناهج. فإذا كان أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) قد استطاعوا أن يستنبطوا جميع تلك العلوم من القرآن الكريم، فهذا لا يعني قدرة غيرهم على القيام بذلك.

ومن نافلة القول هنا أن نشير إلى أنّ سيرة الأئمة من أهل البيت (علیهم السّلام) لا سيّما ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) تدلّ على أنهم رغم امتلاكهم لهذه المعارف والقابليات، كانوا يستخدمون العلوم المتداولة، والتجارب البشرية الاعتيادية. وما مقاومة الإمام الحسين (علیه السّلام) لساعات أمام العدوّ الغاشم يوم عاشوراء، ونجاحه في هداية جمع من

ص: 302


1- راجع تفسير نور الثقلين الحويزي ج 3 ص 73؛ تفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج 1، ص 936؛ البرهان في تفسير القرآن البحراني، ج 2، ص 380 .
2- لاحظ قوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أَوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ سورة النساء: 83 (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ سورة الواقعة 79 ؛ (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ سورة النحل: 43. [م]

الجهلة المغرَّر بهم إلا خير دليل على ذلك؛ إذ كان بمقدوره اللجوء إلى ما أودعه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنده من قدرات تكوينية ما ورائية لكنه لم يفعل.

بناءً على ما تقدّم، فإنّ القرآن الكريم جامع وشامل للعلوم،وفي هذا الكتاب السماوي تبيان كل شيء، لكنّ الإنسان الاعتيادي لايملك القدرة على اكتناه كل الحقائق واستخراجها من القرآن الكريم، وهذا هو الذي اختص به الله عَزَّ وَجَلَّ الأئمة المعصومين . أما الإنسان الاعتيادي فهو لم يُحرم من إدراك الهداية القرآنية بشكل كامل؛ لأن نافذة السنة الشريفة المروية عن النبي وآله : مفتوحة أمامه، ويمكن له الاستنارة بنورها.

وفي هذا المقام، يمكن الإشارة إلى آيات قرآنية أخرى؛ منها: الآيات 38 و 59 من سورة الأنعام (1)، والآية 3 من سورة المائدة(2)، وجميعها يدلّ على التوقعات المعتدلة من الدين، أو يشير بعضها إلى العلم الإلهي اللامحدود في اللوح المحفوظ؛ وهي إشارات لا ارتباط لها بجامعية القرآن الكريم ، وقضية توقعات الإنسان من الدين.

لقد أشارت آيات قرآنية عديدة إلى علوّ كعب العلم والعلماء، والدعوة إلى التأمل في نظام الخلق، وعجائب المخلوقات وأحوالها، والمعرفة الآفاقية والأنفسية، وصفات بعض أجزاء عالم الطبيعة. والبعض من هذه الآيات يمكن لها أن تكون مبينةً لأسس نظرية علميّة، وهي بذلك تعقد علقةً بين الطبيعة وعالم الملكوت، كما توجد في القرآن الكريم آيات مبينة لبعض الرؤى والنظريات العلمية، لكن هذا لا يعني أنّ جميع القضايا العلمية في مجالات الصحة والزراعة والأحياء والفيزياء وغيرها يمكن للإنسان العادي أن يستخرجها من القرآن أو السنة (3).

ص: 303


1- قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيءٍ) ، وقال عزّ من قائل: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مبين) . [م]
2- قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتَمَّمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا). [م]
3- راجع: توقعات الإنسان من الدين للمؤلف ص 464-474 . [بالفارسية].

نعم يمكن القول بأن التعاليم الاقتصادية والسياسية وما يرتبط بالتربية والتعليم والإدارة والاجتماع والعرفان والفلسفة موجودة بوفرة في أكثر من باقي الحقول الأخرى في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبطبيعة الحال فإنّ العلوم الإنسانيّة والاجتماعية تنطوي على قضايا و معارف رحبة واسعة النطاق، بنحو يصعب معه به القول بأنّ نصوص الكتاب والسنة قد غطت جميع مفرداتها . ومع ذلك، فإنّ تعاليم الإسلام في هذه المجالات معارف تمكننا من أن نُطلق عليها عنوان الاقتصاد الإسلامي، والسياسة الإسلامیّة، والتربية الإسلامیّة، والإدارة الإسلاميّة، وعلم الاجتماع الإسلامي، والعرفان الإسلامي، والفلسفة الإسلامیّة (1).

اتضح إلى هنا أنّ بالإمكان العثور على أحكام اقتصادية وجزائية وحقوقية وقوانين مدنية علاوة على قضايا سياسية واجتماعية وتربوية وغيرها في الكتاب والسنة، لكنّ السؤال المطروح هنا هو : ما الدليل على أبديتها وسرمديتها؟ وما الذي يمنحها أفقاً زمنياً رحباً يبلغ مرحلة الحد الأقصى الذي يتجاوز التاريخ؟ وهل إنّ صفتي العصمة والعلم بالغيب اللتين يتحلّى بهما المعصومون (علیهم السّلام) يمكن لهما أن تعطي الزخم الأبدیّ لها ؟

الجواب هو أنّ الأفق الزمني لكلمات القرآن الكريم والسنة المطهرة، وموضوع كونها محكومة ومقيّدة بالتاريخ أو متفوّقة عليه متحرّرة منه يجب أن يُدرس في مختبرات البحوث اللغوية. وعلى هذا الأساس، إذا تعلّق حكم المشرع بموضوع ما انقضى أجله، أو كان موضوعاً شخصياً معيناً لاحظه المشرع ، أو كان التحقق الخارجي لذلك الموضوع قد انتفى من اصله، فعلى هذه الافتراضات سينتفي الحكم أيضاً، ويفقد بذلك استمراريته. وإن موضوعات مثل: النسخ والتخصيص والتقييد وأشباهها، تُستكشف من خلال القواعد اللغوية؛ فعلى سبيل المثال : نجد الإمام الصادق (علیه السّلام) قد

ص: 304


1- سنأتي على ذكر هذا البحث في الفصل المرتبط بالدين والعلوم الإنسانية.

دعا بعد وفاة ابنه إسماعيل بكفنه، فكتب في حاشية الكفن كما في الرواية:

«إِسْمَاعِيلُ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله »(1).

ولأنّ علماء الأخبارية (2) لم يلتفتوا إلى أنّ الحكم هنا يدور مدار شخص إسماعيل ابن الإمام الصادق (علیه السّلام)، فقد أفتوا بأن يُكتب في حاشية أكفان المسلمين عين تلك الجملة المرويّة عنه (علیه السّلام) في حين أنّ موضوع الحكم شخص ما بعينه!

أمّا الأحكام الاجتماعية في الإسلام فهي محمولة على موضوعات عامة، وليس هناك ما يقيدها بزمن معيّن؛ فالعقلاء جميعاً يُقرّون بمبدأ مفاده أنّ الحكم إذا صدر من المشرع دون أن يتقيّد فعلاً بقيد زمنيّ أو غير زمني، فيجب أن يُفهم منه الإطلاق والعمومية الزمانية، وهو شامل لجميع الأزمنة والأمكنة. هذا، ناهيك عن الأدلة النقلية والعقلية المتعددة التي دلّت على الاستمرارية الزمنية للأحكام والتعاليم الدینیّة؛ مثل الحديث المروي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) :

«حَلَالُ مُحمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، وَحَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَدَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، لَايَكُونُ غَيْرُهُ وَلَا يَجِيءُ غَيْرُه »(3).

ص: 305


1- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 47، ص 248. [م]
2- انتهت هذه المدرسة إلى أنّ الحجّة منحصرة في الحديث ولا مجال لإعمال الرأي فيها، والناس مضطرون للرجوع إلى النصوص مباشرة، والعمل بها، وألا يوسطوا مجتهداً أو مرجعاً للتقليد في ذلك. راجع الأعمال الكاملة، المطهري ج 20، ص 169؛ ظهور الأخبارية في الشيعة ص 168 .
3- الكافي، الكليني، ج 1، ص 58.

10 .منشأ الدين

1/10. تمهيد :

قد يبدو البحث عن منشأ الدين غريباً عند السماع بالعنوان لأول وهلة، فيتساءل المرؤ : لماذا الاستفهام عن منشأ الدين وأصله؟ وهل للدين أصل آخر غير الله تَبَارَكَ وَتَعَالى؟ هل يمكن لغير الله أن يُنشئ ديناً؟ لكننا إذا علمنا بوجود نظريات ترفض إلهية الدين، وتلجأ في تفسيرها لظاهرة التديّن عند الإنسان إلى عوامل نفسيّة أو اجتماعيّة مثل العقد النفسيّة مثلاً، أو آليات الإنتاج، فإنّ السؤال عن هذا الموضوع سيكون مبرراً عندئذ. ويمكن تتبع خيوط هذا البحث في كتاب «الفطرة» للعلامة الشهيد المطهّري (1399ه)؛ حيث استعرض هناك النظريات المختلفة بهذا الشأن، وما يرد عليها من مناقشات.

2/10. معنى منشأ الدين :

يُعدّ البحث عن منشأ الدين وأصله واحداً من أهم الأبحاث المدروسة في الكلام الجديد وفلسفة الدين، وقد استخدم هذا المصطلح في معان مختلفة؛ أهمها :

* أنه قد يعني: منشأ ظهور الدين وتحققه الخارجيّ.

* وقد يُراد به أسباب النزوع إلى الدين والعوامل النفسية أو الاجتماعية التي دعت الإنسان للميل نحو الدين والمعتقدات الدینیّة.

أما السؤال الأول فهو سؤال فلسفي وكلامي ناظر إلى حقيقة الدين، وأما السؤال

ص: 306

الثاني فهو سؤال نفساني وعلم اجتماعي ناظر إلى ظاهرة «التدين». وللأسف فقد اختلط الأمر على الباحثين الغربيين، فلم يفرّقوا بين المسألتين، وعمدوا إلى الإجابة على السؤال بنحو مشترك.

ومن المؤسف أيضاً أنهم قرّروا منذ البداية أنّ ظاهرة «الدين» وحقيقته لا يمكن لها أن تتسم بأي خلفيّة منطقيّة، لكنّهم بعدما واجهوا سيلاً عارماً من الإقبال على الدين، ونزوع الناس إلى عبادة الله عبر التاريخ حاولوا رفع التناقض الذي وقعوا فيه، فأعلنوا أنّ للدين خلفيّاتٍ غير منطقية! والسؤال هنا: ما هي تلك الخلفيات اللامنطقية ؟ ! لقد ذهبوا لما يحملونه مسبقاً من نزعات إلحادية إلى أنّ الدين أمر اختلقته الأميال النفسية ومختلف المؤسسات الاجتماعية البشرية، فقرّوا انعدام أيّ واقعية خلف جدار المعتقدات التي يؤمن بها المتدينون . وبعبارة أخرى يرى بعض الرافضين لإلهيّة الدين أن المنشأ والمنطلق للتديّن ما هو إلّا مجموعة من العقد النفسية، أو الآليات الإنتاجية، أو أمور أخرى ، ثمّ استنتجوا من هذا البحث في منشأ الدين عدم وجود أيّ أصل إلهي للدين(1).

وفيما يلي نستغرض بعض آراء المفكرين الغربيين في هذا الصدد:

3/10 . أضواء على نظرية الاغتراب :

«الاغتراب(2) لغةً: النزوح عن الوطن والزواج في غير الأقارب(3). وفي اللغة الإنجليزية تعود المفردة «Alienation» إلى الجذر اللاتيني «Alius»، وهي تعني:

ص: 307


1- راجع الأعمال الكاملة، المطهّري، ج 3، ص 539 [بالفارسية].
2- الاغتراب Alienation : مفردة استخدمها كارل ماركس في كتاباته الاقتصادية الفلسفية عام 1844م، واشتهرت على الألسن منذ ذلك الحين. استخدم هذا المصطلح وقتئذ بمعنى الإنسان الذي يغترب عن ذاته وينسلخ عن طبيعته الإنسانية. وقد اقتبس ماركس مصطلحه هذا من مفردتين ألمانيتين جرتا على لسان هيغل؛ هما Entäusserung و Entfremdung. [م]
3- راجع: الموسوعة العربية، ج 2، العلوم الإنسانية مفردة «الاغتراب»، حيدر حاج إسماعيل، ص 820.

«الآخر» وقد أضيفت إليه اللاحقي« en»(1). ويدلّ هذا المصطلح في الفلسفة الغربية على معانٍ إيجابية يمكن اختصارها في الخروج من الذات واستحصال الحقيقة»، كما يمكن أن يُراد به معنى سلبياً يتمحور حول ما يُطلق عليه بالعربية عنوان «الاغتراب»؛ وقد استخدم بالمعنى الأخير عند بعض أتباع هيغل؛ مثل: فوير باخ، وهيس(2). وفي هذا الاستخدام افترض للإنسان هويّة حقيقية، تُفضي الحركة في مسير آخر يخالفها إلى الغفلة عن تلك الحقيقة ونسيانها، والغفلة عن تلك الهوية الواقعية تضع الإنسان تحت تصرّف قوى غير ذاتية، حتى يبلغ الأمر عند الإنسان مبلغاً يجد فيه موجوداً أسمى منه وكأنه هو نفسه، فيصيّر جميع أعماله ونشاطاته متناسبة مع ذلك الموجود الأم الأسمى(3).

أوّل من تناول هذا المصطلح وأسبغ عليه الصبغة الفلسفية هو الفيلسوف المثالي الألماني الشهير هيغل (1831م) . وقد زعم بعض الكتاب أن إحدى التعاليم المسيحية التي تؤكّد على المذنبية الذاتية للإنسان (مفهوم الخطيئة الأصلية) هي التقرير البدائي لمفهوم الاغتراب عند هيغل لكنّ آخرين رفضوا هذه النقطة معتبرين أنّ الخيوط الأولى لهذا المفهوم في الفكر الغربي جاءت من انطباعات العهد القديم عن عبادة الأصنام، ورأت طائفة أخرى أنّ جذور نظريّة هيغل فيما يخص الطبيعة بصفة الأمر المغترب في الذهن المطلق، يمكن اقتفاء أثرها في نظرية افلاطون الذي ذهب إلى أنّ عالم الطبيعة هو صورة ناقصة عمّا يوجد في عالم المثل والمجرّدات. وعلى أي حال، فإنّ أوّل المفكّرين الذين نُسلّم بأنهم تناولوا شرحاً وافياً عن مفهوم الاغتراب هم هيغل وفوير باخ وماركس. وتُعدّ تفسيراتهم له نقطة انطلاق جميع الباحثين المعاصرين الذين خاضوا بحثاً فلسفيّاً أو اجتماعيّاً أو نفسيّاً في هذا الصدد (4).

ص: 308


1- راجع آلام اللاانتمائية [بالفارسية: درد بي خويشتني] نجف دريابندري، ص 1.
2- راجع مقالة: الاغتراب [بالفارسية از خود بيگانگي] أبو القاسم بشيري مجلة معرفت، العدد 91، ص 72.
3- انظر: معرفة الإنسان محمود رجبي ص 55-54 .
4- G. Patrovic, “Alienation”. The Enculopedia of Philosophy, Paul Edwards (ed), Vol. 1, p. 76

لقد طُرحت نظرية الاغتراب فيما يخص البحث الدائر عن الله جَلَّ وَعَلا في القرن التاسع عشر الميلادي على يد الألماني فويرباخ أحد زعماء التيار المادي. وقد ذهب في نظريته تلك إلى أنّ الدين ناشئ من حالة الاغتراب التي اعترت الإنسان فسلخته عن ذاته. وقد صوّر في فكرته حول الدين وعلاقته بالإنسان حيّزين أو وجودين؛ أحدهما وجود سام، والثاني وجود دانٍ أو قل : جانب عُلويّ (هو بُعد إنسانية الإنسان)، وجانب سفليّ (هو بعد حيوانية الإنسان، فأعطى الأصالة للجانب العلوي من الإنسان، واصفاً إياه بسلسلة من الفضائل؛ مثل: الشرف والكرامة والرحمة والخير والإحسان. وحسب رؤيته فإنّ الإنسان حينما ينزع إلى الأمور المنحطة فهو يتبع بذلك ما يجده في وجوده السفليّ، فيلاحظ لوناً من ألوان التضارب بين جانبه السفلي وجانبه العُلويّ. وفي هذه الأثناء، يبدأ بالمكابرة ، ويظنّ أنّ هذه الصفات العلوية والفضائل السامية موجودة في عالم يقع فيما وراء وجوده، مُطلقاً عليه اسم «الربّ» أو «الإله»، وهذا ما يدخله في فضاءات الاغتراب.

وفي معرض الردّ على هذه النظرية نقول: إنّ أساس هذه الرؤية التي ترتكز على فكرة الاغتراب مقبول مبدئياً عند المتدينين، لكنّ تطبيقها على التدين ومعرفة الله غير تام لما يلي من نقاط :

1 . أغلب هذه النظريات ترى في وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وجوداً اختلقته أوهام الذهن البشري الواعي أو اللاواعي في حين أنّ هذا الزعم لا ينسجم مع البراهين العقلية المسلمة التي أثبتت وجود الله عَزَّ وَجَلَّ بصفته موجوداً واقعياً، نسبة عالم الكون إليه - بما يعمّ الإنسان - أنه مخلوقه وعين الربط به(1). وإنّ الذي جرّ الكتاب الغربيين إلى الوقوع في هذا الخطأ هو وهن الفلسفة الغربية في أبحاث الوجود، وإثبات وجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى .

ص: 309


1- راجع مقالة: الاغتراب، مصدر سابق، ص 74.

2 . طالما أننا نتناول في هذا البحث الحديث عن حالة الاغتراب عند الإنسان ونتدارس سُبل التصدّي لها، فعلينا إذن أن نكوّن تصوّراً واضحاً عن «الذات» أو «الأنا» الواقعية للإنسان أوّلاً، حتى يتسنى لنا أن ندعي ابتعاد هذا الإنسان عن ذاته، وتخليه عنها ، ثمّ لجوئه إلى الغير) في ظروف معينة وبنحو ما. وللأسف، فإن تعريف أصحاب هذه النظريات للإنسان بعيد عن الهوية الواقعية له؛ فالأعمّ الأغلب من الرؤى الغربية تختزل البشر في أبعاده المادية، وتقتصر في نظرتها للحياة على عالم الدنيا؛ في حين أنّ الهوية الواقعية للإنسان تكمن في روحه الإلهية المجرّدة، والحياة الدنيا ليست إلا مقدّمة ممهدة لحياة أبدية تنطلق في عالم آخر.

3 . حينما يقف الإنسان على حقيقته الإلهية فإنه يصبح عندئذٍ مؤهّلاً لمعرفة الله جَلَّ وَعَلا كما ينص عليه الحديث الشريف من عرف نفسه فقد عرف ربه»؛ فعند معرفة الإنسان بحقيقة ذاته يُدرك وجوده الفقري الذي يصفه الفلاسفة بأنه «عين الربط»، وقد كشف القرآن الكريم النقاب عن هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أَوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )(1)، فنسيان الله يجر الإنسان إلى نسيان ذاته، ﴾ والتورّط في وحل الإلحاد لن يعود إليه إلا بالاغتراب والانفصال عن الذات.

4. يشير العلامة المطهري (1399ه) في معرض مناقشته وتحليله لهذه النظرية إلى تهافت الأساس الذي ارتكزت عليه الفلسفة المادية المؤمنة بأصالة المادة، وثنائية الجانب العلوي والسفليّ، أو البعد السامي والبعد الداني في الإنسان، متسائلاً عن كيفية رضوخ الفكر المادّي المحض إلى القول بوجود جانب عُلويّ ملكوتي عند الإنسان، وهو ما يُفترض به أن يكون ماورائيّاً مفارقاً للمادة ! أليس في هذا تناقض واضح؟!

والإشكالية الأخرى التي تعاني منها هذه النظرية أنّ جميع البشر وفقاً لرؤيتها هم أناس ساقطون في أوحال الحيوانية، وهم أناس متدينون في الوقت نفسه؛ في حين أنّ

ص: 310


1- سورة الحشر : 19.

أفراد البشر كانوا على الدوام منقسمين إلى ضربين مختلفين: أولهما: أناس حافظوا على كرامتهم الإنسانية، وهم موجودون في كل عصر، وثانيهما: أناس انحطت مستوياتهم، وسقطوا في هاوية الحيوانية. والسؤال المطروح هنا هو : هل يجب أن نعدّ الناس الذين نزعوا إلى الدين ضمن الشرفاء الذين التزموا القيم الإنسانية النبيلة، وحافظوا على الصفات السامية، أم من الأفراد الساقطين في أوحال الحيوانية؟ لقد شهد التاريخ أنّ أتباع الأديان كانوا على الدوام أناساً كراماً ميالين للشرف ومنحازين للفضيلة(1).

4/10 . أضواء على نظرية الجهل :

ذهب كونت(2) (1859م) و سبنسر (3) (1903م) في موضوع منشأ الدين وأصله إلى أنّ الدين وليد الجهل؛ فحاول كونت أن يبرّر الدين والتدين نظرياً بالقول:

بعد الإذعان بمبدأ السببية والجهل حيال العلل الطبيعية للحوادث، آمن الإنسان بوجود كائنات غيبية وآلهة، فنسب الحوادث إليها .

وقد أشار سبنسر إلى جذور العبادة مستخدماً معتقدات الإنسان البدائي التي ارتكزت على ثنائية الروح والبدن معمّماً هذه الحالة على جميع الكائنات، ليبين في المحصلة واقع الإيمان الديني حسب رؤيته؛ حيث ذهب إلى أنّ البشر الأوائل كانوا يؤمنون بوجود روح تسكن الطوفان والريح والمطر ، وقد كانوا يحاولون دفع بليّاتها وأخطارها الطبيعية من خلال تقديم الهدايا والقرابين والتذلل لها، مما مهد الطريق أمامهم للمصير إلى عبادة قوى الطبيعة .

ووفقاً لهذه النظرية يجب أن يزول الدين والنزوع إليه إذا ما زال الجهل، وحلّ محلّه العلم بالعلل الطبيعية؛ في حين أن التجربة تتناقض وتتضارب مع مفاد هذه الرؤية، فإنّنا

ص: 311


1- راجع الأعمال الكاملة المطهري، ج 3، ص 553-336 .
2- أوغست كونت Auguste Comte. [م]
3- هربرت سبنسر Herbert Spencer. [م]

شهدنا في عالمنا شخصيّات علميّة مرموقة آمنت بالدين؛ مثل : أينشتاين (1955م)، وبلانك (1) (1947م)، وجيمس (2) (1910م) ، وبرغسون(3)، وداروين(4) (1882م)، وأمثالهم؛ إذ لا يشكّ أحد في أنهم كانوا من الطراز العلمي الأوّل، وأنهم كانوا في الوقت ذاته مؤمنين بالدين.

5/10. أضواء على نظريّة التوالد الاجتماعي:

طرح دور کایم (5) (1917م) نظريته المسماة بالتوالد الاجتماعي للدين مؤسساً ذلك على مبدأ أصالة المجتمع. لم يكن يؤمن بأصالة الفرد، بل قرّر أنّ المجتمع مركب حقيقي مكوّن من الأفراد؛ وليس بتركيب اعتباري، وذهب أيضاً إلى أنّ «الأنا» الاجتماعية هي تجلّي الروح الاجتماعيّة للإنسان. وقد أفضت رؤى دوركايم الاجتماعية إلى الحديث عن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بصفته كائناً خيالياً اخترعه المجتمع ليستخدمه كوسيلة في بعض الشؤون.

بيان ذلك : أنّ الناس رجالاً ونساءً يشعرون بحسّ ديني معيّن تجاه قوّة متعالية تقبع في عالم ماورائي يتجاوزه حياتهم الفردية، وهي قوّة تفرض سلطتها وإرادتها عليهم في هيئة أوامر أخلاقية، وأنهم يقفون في حضرة واقع رحب عظيم مترامي الأطراف، لكنّ هذا الواقع ليس بالكائن الماورائي ، بل هو الواقع الطبيعي للمجتمع ليس إلا. وذهب في رؤيته هذه إلى أنّ المجتمع الإنساني يطلق الصفات الإلهية على أفراده فيخلق في أذهانهم صورة عن الإله، فتتحوّل هذه الصورة في نهاية المطاف إلى

رمز للمجتمع (6).

ص: 312


1- ماكس بلانك Max Planck. [م]
2- ویلیام جیمس William James. [م]
3- هنري برغسون Auguste Comte. [م]
4- تشارلز روبرت داروین Charles Robert Darwin . [م]
5- إميل دوركايم Emile Durkheim . [م]
6- فلسفة الدين جون هيك، مصدر سابق، ص 73-74 .

وقد شرح الفيلسوف وعالم النفس الألماني فونت(1) (1920م) ذلك بالقول:

إنّنا نعيش حاجة اجتماعيّة واحدة فقط تؤدّي بنا إلى النزوع نحو الدين؛ وهي أنّ الإنسان عاجز عن الجمع بين حبّه لذاته والحفاظ على علاقات اجتماعيّة سليمة، فإذا أراد الفرد أن يستمر وجوده فلن يتسنّى للمجتمع أن يبقى مستمراً، وإذا شاء المجتمع أن يستمرّ في وجوده احتاج إلى تضحيات أفراده، والتضحية تتنافى مع حبّ الذات، ولهذا جاء الدين ليوائم بين حب الذات والتضحية(2).

يقول دوركايم في هذا الخصوص :

عندما يكون المجتمع في حالةٍ من الغليان يصبح -ولّداً للدين، فتكون طبيعة الدين موجدة لنمطيّة من الانتماء المتعصّب إلى طوائف جزئية في الأفراد، فيرتبط كلا منهم بمجتمع معيّن، وتؤدّي في المحصلة إلى إيجاد خصومة في كلّ مجتمع نسبةً إلى المجتمع الآخر (3).

وقد حاول في كتابه الثالث الكبير - أي: الأشكال الأولية للحياة الدینیّة (4) - أن يشيّد نظريّة عامة حول الدين على أساس تحليل أبسط المؤسسات الدینیّة وأكثرها بدائيّة. وفي اعتقاده فإنّ اليد الطولى على ساحة الأخلاق والفكر في المجتمعات الفردانية والعقلانية المعاصرة تعود للعلم. وفي جانب آخر، فإنّ كل مجتمع يفتقر إلى مجموعة من المعتقدات المشتركة، والدين التقليدي لا يسعه تلبية متطلبات الروح العلمية، ولم يعد بإمكانه أن يؤمن المعتقدات المشتركة الضرورية. وقد أوجد العلم الثقة اللازمة التي تمكّن المجتمع في كل عصر من بلورة الآلهة التي يحتاج إليها. وليست التعلقات الدینیّة سوى صور تمثيلية للتعلقات الاجتماعية والأخلاقية.

ص: 313


1- فيلهلم فونت Wilhelm Wundt. [م]
2- تاريخ الفلسفة كابلستون، ج ،7 ص 373-374؛ ما بعد الطبيعة جون فول John (Voll)، ص 604 و 676 [النسخة المترجمة إلى الفارسية].
3- المراحل الرئيسية للفكر في علم الاجتماع ريمون ،آرون ج 2 ص 39 [النسخة المترجمة إلى الفارسية].
4- وقد يُترجم العنوان للعربية أحياناً إلى الصور الأولية للحياة الدینیّة [م]

لقد أراد دوركايم أن يبرهن على أنّ موضوع الدين ليس إلا تجسيداً آخر للمجتمع. وقد رفض أن يكون جوهر الدين هو الإيمان بإله قابع في ما وراء العالم، بل ذهب إلى أنّ ذات الدين وطبيعته ليست إلا تصنيف العالم إلى ظواهر مقدّسة وأخرى غير مقدّسة، وأنّ القسم المقدّس فيه مركّب من مجموعة معتقدات وطقوس. فإذا كانت الأمور المقدّسة تنطوي على علاقات معينة فيما بينها - مثل : «الانسجام»، أو «التبعية» - بحيث تكوّن بذلك نظاماً يتحلّى بوحدة داخلية، ويستقلّ عن أي نظام آخر، فإنّ تلك المجموعة من المعتقدات والطقوس ستبلور ديناً معيناً. وبناءً على ذلك فإنّ «الدين» - حسب هذه الرؤية - هو : منظومة منسجمة من المعتقدات والأفعال المتعلقة بأمور مقدّسة.

لقد حاول دوركايم أن يثبت أوّلاً: أنّ الأديان التقليدية مدانة بعد الانتشار الواسع للعقلانية العلمية، وثانياً : أنّ البحوث والدراسات العلمية خلصت إلى أنّ الإنسان لم يكن يعبد شيئاً مغايراً لمجتمعه.

أما فيما يخص السؤال عن سبب تحوّل المجتمع إلى موضوع للعبادة فيجيب دوركايم بأنّ المجتمع حائز على القداسة من تلقاء نفسه (1). وفي اعتقاده، فإنّ منشأ الدين هو المتطلبات العلمية للحياة في المجتمع والدين عنده هو مصدر الرؤى الإيثارية والمحبّة للجنس البشري، وهي التي تفضي إلى الإحجام عن الأنانية المفرطة، وتدعو إلى التضحية وعدم اللهاث وراء الانتفاع الفردي والمصالح الشخصية (2).

وقد وجّه المفكّرون والاجتماعيون الدينيون عدداً من الملاحظات والمناقشات على هذه النظرية، نشير إلى بعضها فيما يلي:

1 . يقول ريمون آرون: «في تقديري ليس من المعقول أن نذهب إلى أنّ "جوهر الدين هو عبادة الفرد لطائفته أو مجتمعه"؛ فعلى أقلّ التقادير - حسب رأيي - عبادة

ص: 314


1- راجع: المصدر السابق ص 389-373 .
2- راجع: دوركايم، أنطوني غيدنز السابق، ص 70 [ النسخة المترجمة إلى الفارسية].

النظام الاجتماعي بنفسها هي تلك الذات الفاقدة للطّهر . وإنّ تناول هذه القضية التي تزعم أنّ "موضوع الشعور الديني هو المجتمع نفسه، غير أنه اتخذ صورة جديدة" لا يمثل إنقاذاً للتجربة البشرية التي هي موضوع الدراسات الاجتماعية، بل يمثل تحطيماً لها؛ بمعنى أنّ صورةً مثل هذه عن الدين لا تُلبّي ذلك التوقع من الدين (1).

2 . اعتاد الأنبياء عند ظهورهم على رفض النظام الموجود والسائد في مجتمعاتهم، وعملوا جاهدين على إزاحة القوانين الظالمة المتجذرة فيه، وهي حركة تؤدّي بطبيعة الحال إلى بروز تجاذبات دينية وغير دينية. وبناءً على نظرية دوركايم الذي انتهى إلى أنّ الإله هو المجتمع ، يجب أن يكون الأنبياء الذين عارضوا النظم الاجتماعية حفنةً من المتمرّدين ! في حين أنّ الأنبياء الذين تبوؤوا مقام التبليغ الديني ينبغي أن يلتزموا بسيادة المجتمع؛ حتى يتسنّى لهم دعوة الآخرين إلى الانصياع لحاكميته، لكنّ الأنبياء كانوا يقارعون الأحكام السائدة في مجتمعاتهم، وكانوا يحملون هموم ديانة وشريعة جديدتين.

3 . لو افترضنا إمكانية تبرير الإيمان بوجود الله من خلال قضية الإلزام الاجتماعي فإننا نتساءل هنا : كيف يمكن إذن تبرير قضايا مثل: خلود النفس»، و«هدفية عالم الخلق»، و«الأخلاق الدینیّة»، وما شاكل ذلك؟ وبناءً على ذلك، لن تكون الأديان التي تناولت بحوثاً أخرى غير الإلهيات مقتبسة من الإلزام الاجتماعي.

4 . ليس صحيحاً أنّ جميع المتدينين يميلون إلى الدين من أجل الحفاظ على وحدة المجتمع، فعلاوةً على وجود احتياجات أخرى أثرت في تمايلات الإنسان نحو الدين، هناك في كثير من الأحيان متدينون تحرّكوا ضدّ وحدة المجتمع باسم حفظ الدين، وأدّى إصرارهم على الدين إلى تشتيت صفوف المجتمع ؛ في حين أنّ «الإلزام الاجتماعي» يجب أن يوائم بين أفراد المجتمع، ويزرع في نفوسهم روح التفاهم والانسجام. وعليه، لا يمكن تبرير التدين الذي يتحرّك في مسارات تخالف جهة المجتمع بنظرية دوركايم.

ص: 315


1- المصدر السابق، ص 390-391.

5 . لا يمكن التصديق بأنّ منظومات فكرية مثل الدين والتي تبوّأت مكانة رفيعة على مرّ التاريخ، واستمدّ الناس من منهلها قوى ساعدتهم على الحياة لم تكن سوى تخيّلات خالية وأوهام بالية. لقد اتفق الجميع اليوم على أنّ القانون والأخلاق، بل وحتى الفكر العلمي نفسه قد تبلور في بوتقة الدين، وكان إلى فترات زمنية طويلة ممتزجاً به، ومنضوياً تحت طائلة تأثيره(1).

6 . أبرز الأخطاء التي ارتكبها دوركايم هو عدم التمييز بين الدين وعبادة الطوطم(2)، لا سيما تلك التي كانت منتشرة في أستراليا، فأسرى - بغير حق - أحكام علم الاجتماع المتعلقة بتلك المناطق على شتى المجتمعات. من هنا، فإنّ هذه النظرية ناتجة عن منهجية مختلة وغير صائبة من الأساس، وهي تُعرف في علم المنطق ب-«التمثيل» ، ولا تتمتّع بأي اعتبار أو مصداقية منطقية.

7. الإشكالية الأخرى التي نشير إليها هنا هي اعتراف دوركايم بعدم واقعية العناصر الماورائية التي تفوق الطبيعة، وأنه ذهب إلى توقعات معينة من دين وهمي وخرافي، لكنّ هذه النظرية عاجزة عن الردّ على السؤال التالي: إذا حذفنا العنصر الماورائي الميتافيزيقي من معادلة الدين، فهل سيبقى لهذا الدين المزعوم من باقية؟ أو قل : هل يمكن لنا أن نتصوّر واقعيّة لهذا الدين من الأساس؟!

ومع انتفاء واقعية الدين هل يمكن القبول بفوائد الدين ومكتسباته الاجتماعية ؟! بل نتساءل أصلاً كيف أمكن لهذه الخدعة المذهلة المدهشة أن تقاوم وتبقى فاعلة على مرّ التاريخ؟! وعلى أي حال، فإنّ تعريف دوركايم للدين يستلزم انتفاء كلّ أنواع التوقعات منه، والاكتفاء بما لدينا من توقعات اجتماعية يجب أن تنسب للدين أيضاً.

ص: 316


1- المصدر نفسه، ص 377-378 .
2- عبادة الطوطم أو الطوطمية Totemism - هو تقديس بعض مظاهر الطبيعة أو الحيوانات والإيمان بأنه يقوم بدور أساسي في حماية وتوفير احتياجات القبيلة، أو الاعتقاد بوجود علاقة خاصة تربط هذا الطوطم بافراد القبيلة، وغالباً ما يكون الطوطم الذي يتم تقديسه شيء من بيئة تلك القبيلة ومرتبط بحاجاتها ومخاوفها.[م]

6/10. أضواء على نظرية الطبقات الاجتماعية :

كارل ماركس هو أحد علماء الاجتماع الذين خاضوا بنحو أو بآخر في قضية منشأ الدين، أو المنطلقات الداعية إلى ميول الإنسان نحو الدين وحاجته إلى المعتقدات والتعاليم الدینیّة. وقد تأثرت نظريته التكاملية الاجتماعية والطبقاتية، وكذلك تحليله الاجتماعي للدين بالفلسفة الجدلية الديالكتيكية عند هيغل مرتكزاً على فلسفة التاريخ ومنطق الطريحة والنقيضة (1) من جهة، كما تأثرت رؤيته أيضاً بنظريات داروين ولامارك، وكذلك بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها إنجلترا في القرن التاسع عشر من جهة أخرى.

لقد تضمّن أهمّ بيان شيوعيّ له التضادّ الاجتماعي الناشئ من صراع الطبقات الاجتماعيّة؛ تضادّ مستمرّ ومباشر نَشَب بين الأسياد والعبيد، النبلاء والعامة، الإقطاعيين والفلاحين المعلّمين والطلاب المستبدين والمضطهدين، وظهرت معالمه في التاريخ الاجتماعي للإنسان (2).

وقد يتشكل المجتمع عند ماركس من عنصرين هما: البنية التحتية، والبنية الفوقية. أما القوى المنتجة التي هي أساس الاقتصاد في المجتمع فتمثل البنية التحتية فيه وأمّا العلاقات الإنتاجية التي تشتمل على أمور ؛ مثل: القيم والأيدولوجيات والفنون والفلسفات فهي تمثل البنية الفوقية، وتتأثّر بالبنية التحتية بشكل مباشر (3).

والمناط في التحوّلات التاريخية للمجتمع البشري عند ماركس مبني على أساس المنهج في الأنظمة الإنتاجية، وهو ينشعب إلى ثلاث مراحل انتقالية؛ هي:

1. مرحلة الاشتراكية الأولى، أو البدائيّة (انعدام الملكية الخاصة).

ص: 317


1- أي: القضيّة أو الفكرة Thesis ، ونقيضها Anti-Thesis. [م]
2- نظريات علم الاجتماع غلام حسین ،توسّلي ص 164 .[بالفارسية]
3- المراحل الرئيسية للفكر في علم الاجتماع ، مصدر سابق، ص 164.

2 . مرحلة الطبقات الاجتماعية ( عصر تنامي الملكية الخاصة).

3 . مرحلة الاشتراكية النهائيّة، أو : الطور الشيوعي الأعلى (عصر العودة إلى الملكيّة العامة)(1).

يقول ريمون آرون في هذا الصدد:

على نحو العموم، تخضع تنمية الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية لسيطرة أنماط الإنتاج في الحياة المادية. أما معارف بني البشر فلا يمكن لها أن تحدّد وجودهم، بل على العكس، فإنّ الوجود الاجتماعي للناس هو الذي يحدّد معارفهم (2).

الدين عند ماركس هو ثمرة لمجتمع طبقي اخترعته الطبقة الحاكمة (3). وبناءً على ذلك، فغنّ للدين جذور ضاربة في أعماق القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك في حالة الاغتراب عند الإنسان؛ لأنّ الناس في المجتمع الطبقي مغتربون عن أنفسهم ومنسلخون عن ذواتهم.

ولا يخفى أنّ ماركس أحياناً قد عد الدين صنيعة أيدي أصحاب السلطة والسطوة لأجل نهب الفقراء والمعدمين، كما عدّه في مواضع أخرى ضرباً من ضروب السلوك الدفاعي الذي تمارسه الطبقة الفقيرة لأجل تبرير أوضاعها البائسة، ورفع مستوى تحمّلها لها، عسى أن تحظى بالجنة الموعدة يوماً ما. وفي رأيه، فإنّ الدين أفيون الشعوب، كما وصفه في أيضاً بأنه ثمرة جهل الإنسان حيال الطبيعة (4).

وفي المحصّلة فإنّ الإنسان هو من يصنع الدين؛ بغية أن يبرّر وضعه المأساوي الذي يعيشه بنحو غير واقعي أو من أجل تسخير الدين في سبيل نهب ممتلكات الفقراء

ص: 318


1- مدخل إلى المدارس والنظريات في علم الاجتماع حسين ،تنهايي ج 2، ص 248 بالفارسية.
2- المراحل الرئيسية للفكر في علم الاجتماع ، مصدر سابق، ص 163.
3- علم الاجتماع الديني هاميلتون، مصدر سابق، ص 139.
4- راجع: اقتصادنا الشهيد محمد باقر الصدر، ص 913.

والمساكين، أو ليوظف في أنشطة دفاعية يمارسها الفقراء، أو لأجل أن يبدد ظلمات الجهل ولو بنحو مؤقت. وحسب ما تقدّم، فإنّ جميع الآثار المترتبة على الدين سلبية وضارّة.

وحول تعريف الدين يقول إنغلس (1) (1895م):

ليس الدين سوى انعكاس تخيّليّ لقوى خارجية تتحكّم في حياتنا اليومية تجري مجرياته في الذهن ، وتتلبّس فيه القوى الأرضية بلباس قوى ما وراء الطبيعة (2).

ومن هنا قال ماركس (1883م) عند استعراضه لثمرات نقد الدين إنّ نقد الدين يُخرج الإنسان من ظلمات الأوهام، ويرغمه على أن يُفكّر ويعمل ويبلور واقع حياته كإنسان متعقل طارد للأوهام، فيدور في فلك ذاته، أو بالأحرى في فلك شمس الإنسان(3).

وفي اعتقاده، فإنّ الدين ليس بميل فطري بشري، بل هو نتيجة لمقتضيات اجتماعية معيّنة(4). وملخص الكلام أنّ ماركس لا يرى أي حاجة حقيقية للدين عند الإنسان، رافضاً أيّ توقعات صحيحة منه ؛ لأنه يرى أنّ الدين فاقد للواقعية، ولأنه لا يعدو الأوهام، فلا يترتب عليه سوى بعض الآثار السلبية.

هذا، وتعاني نظرية الطبقات الاجتماعية أو التكامل الاجتماعي لماركس من أخطاء ونقاط ضعفٍ تجعلُها حَرِيَّةً بالنقد والمناقشة في أكثر من زاوية؛ نكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها كما يلي:

ص: 319


1- فريدريش إنغلس (1820) Friedrich Engels-1895م): فيلسوف ألماني عُرف بأنه «أبو النظرية الماركسية» إلى جانب كارل ماركس. اشتغل بالتنظير في الفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع. نشر كتابه «حالة الطبقة العاملة» في إنجلترا اعتماداً على ملاحظاته وأبحاثه الشخصية. وأصدر مع زميله ماركس بيانهما المشهور والمعروف ببيان الحزب الشيوعي والذي يسمى اختصارًا البيان الشيوعيّ. [م] .
2- علم الاجتماع الديني هاميلتون، مصدر سابق، ص 143.
3- المصدر السابق .
4- المصدر نفسه، ص 145 .

1. لا يتمتع الرأي القائل بأنّ الاقتصاد هو البنية التحتية والأساس الوحيد للتطوّرات والتقلبات الفكرية والاجتماعية بأي دليل محكم يدعمه؛ فعلى أقل التقادير، يتحصّل الإنسان على مجموعة من المعارف البشرية من دون أي ارتكاز على عجلة الإنتاج، بل من خلال لجوئه إلى عمليات التفكير وإيجاد الجسور بين النظريات والبديهيات عنده، كما أننا نشهد عدداً من الحالات التي تجري فيها التطوّرات والتقلبات الاقتصادية والإنتاجية من دون أن تتبعها أيّ تحوّلات معرفية ترتبط بها.

2. لم يُكلّف ماركس نفسه أبداً عناء دراسة الدين بنحو شامل، وانطباعاته عن الدين ليست مبنيّة على نصوص دينية أصيلة، وليست مستوحاة من رسالة الدين الواقعي وأهدافه الحقيقية، بل اعتمدت معرفته الإجمالية عن الدين على مطالعاته لمؤلفات بعض أرباب اللاهوت والفلسفة في القرن التاسع عشر. وكما قال غيدنز فإنّ ماركس لم يوفّق أبداً لدراسة الدين بنحو تفصيلي، فاقتصرت أفكاره في الأغلب على ما سطره جمع من اللاهوتيين والفلاسفة في بدايات القرن التاسع عشر(1).

3 . يقول العلامة المطهّريّ (1399ه) في نقده على نظرية ماركس ما نصه: تاريخ الأديان يشير إلى وجود آثار العبادة منذ أقدم أيام وجود البشر على الأرض، بما فيها المرحلة التي يطلق عليها هؤلاء اسم مرحلة الاشتراكية الابتدائية. بل إن ماكس مولر يرى خلاف النظرية القائلة بأن الدين بدأ أولاً بعبادة الطبيعة والأشياء والأصنام، ثمّ انتقل إلى عبادة إله واحد، فيقول: إنّ علم الأزمنة القديمة قد أثبت أن عبادة الإله الواحد كانت موجودة منذ أقدم الأزمنة، وهو ما يزال يثبت ذلك. نقطة الضعف الأخرى هي أنه في المراحل الطبقية والإقطاعية، لا بد أن نتقبل بالضرورة أن أتباع جميع الأديان وموجديها كانوا من الطبقة الحاكمة، وهذا يتنافى مع ما أثبته تاريخ الأديان بما لا يقبل الشك، ولا حتى مع تاريخ الديانة اليهودية والديانة المسيحية. إنه لا يتفق مع اليهودية؛ لأنّ موسى (علیه السّلام) ينتمي إلى الطبقة المستغلة المحرومة من حيث دمه و عنصره، ولكنه من حيث طبقته ينتمي إلى الطبقة الحاكمة المستغلة؛ لأنه كان بمثابة

ص: 320


1- مبادئ علم الاجتماع، منوتشهر صبوري، ج 1، ص 491 . [بالفارسية]

ابن لفرعون، بعد أن عاش في كنف عزّه، وتربّى في نعمته، فكان أميراً من الطراز الأوّل. فيثور موسى على فرعون في بيت ،فرعون لمصلحة طبقة بني إسرائيل المستغَلّة . هنا، لا تنفع التفسيرات الماركسية؛ لأننا إذا اعتبرنا هذا تابعاً للقومية والعنصر والدم، فإنه لا يتفق مع النظرية الماركسية؛ لأن الماركسيين لا يعترفون بصراع الدم والعنصر، بل بالصراع الطبقي وعليه فإما أن يكون التعصب العنصري هو الذي حمل موسى على الثورة، أو أن تكون هناك أشياء أخرى، وهذه أيضاً لا تأتلف على كل حال مع حياة فرعون وعليه فإن ثورة موسى في بيت فرعون على فرعون تكون لمصلحة الطبقة المحرومة، بني إسرائيل ، الطبقة المحكومة فالثورة إذن ليست ثورة الفراعنة بل هي ضدّ الفراعنة ؛ أي ثورة بني إسرائيل. إذن، فهي مئة بالمئة بخلاف هذا الكلام الذي يقوله هؤلاء من أنّ الدين قد وضعته الطبقة الحاكمة . إننا - حسب نظريتهم - يجب أن نقول : إنّ اليهودية قد وضعتها أجهزة فرعون لكي تحمل قوم بني إسرائيل على حسن التسليم والاستسلام، مع أنّ دين اليهود قد جاء لتهييج بني إسرائيل وحملهم على الثورة. يقول تعالى: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمتُهَا عَلَى أَنْ عَبَّدتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (1)، ويقول أيضاً:( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىَ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (2)، فكلّها إثارة: لا تخافوا! اثبتوا! اصبروا! توكلوا على 4(2)، الله ! إنّ الله يفعل كذا وكذا. والإسلام نفسه دين يقول: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾(3)، ويقول : ﴿وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ هُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى هُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾(4)؛ فالله يعد الناس

ص: 321


1- سورة الشعراء: 22 .
2- سورة المائدة: 21 .
3- سورة القصص: 5 .
4- سورة النور: 55 .

بأنه سيمنحهم الخلافة التي اغتصبها منهم الآخرون. ويقول أيضاً: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ الله يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )(1)، وأيضاً: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(2)(3). فإذا كان التفاضل الطبقي في المجتمع هو المنشأ والمنطلق للدين فهذا يعني أنّ زوال هذا التفاضل والتمايز سيؤدّي إلى زوال الدين لا محالة، ولا داعي أصلاً للدخول في صراع معه لمحوه من المجتمع. ويسترسل المطهري (1399ه) بالقول: «يقولون: اقضوا على الامتيازات الطبقية، فيزول الدين تلقائياً، إنّ كذب هذا القول أوضح ما يكون في الدول الاشتراكية . قرأتُ أيضاً أنّ الدعاية ضد الدين على أشدّها في الاتحاد السوفيتي، فلماذا ؟ هناك لا توجد امتيازات طبقية، ومع ذلك يقولون بين حين وآخر: إنّ الدين قد ترسّخ في المجتمع، فحاربوه! أيها الناس، إذا زالت العلة زال المعلول تلقائياً. أنتم تقولون : إنّ العلة هي الامتيازات الطبقية، ولما لم تكن ثمة امتيازات هناك، فكيف ترسّخ الدين هناك؟ إذن لا بد أن تكون العلة شيئاً آخر .. ويل ديورانت (1981م) وهو غير متديّن يقول في كتابه دروس التاريخ بأسلوب يظهر عليه الغضب والقلق : "إنّ كل هذه التعليلات بشأن الدين لا صحة لها"، وأخيراً يقول بحنق: "إنّ للدين مئة روح فكلما قتلته انبعث حياً مرّةً أخرى". كلا أيها السيّد! إنّ الأمر لا يستلزم مئة ،روح، فللدين روح واحدة، بل فيه روح، ويكفي أن نقول: فيه روح، وأرح نفسك، فهذه هي الفطرة، ولن يقدر أحد على قتل الفطرة في الإنسان. إنه ليس عادة من العادات من الممكن أن تزيل العادة إذا حاربتها فترة من الزمن، أمّا الدين فلن يزول؛ لأنه ليس عادة، بل فطرة»(4).

4 . النقد الآخر الموجّه لنظرية ماركس أنه خلط بين الدين والتدين؛ في حين أنّ

ص: 322


1- سورة الأعراف: 128.
2- سورة الأنبياء: 105 .
3- الفطرة، مرتضى المطهري، ص 168-171 .[النسخة المترجة للعربية ]
4- الفطرة، مرتضى المطهري، ص 168-171.

تقييم حالة المتدينين لا يمكن له أن يُفضي إلى نفي الدين أو إثباته. ناهيك عن أنه تجاهل الجوانب والمميزات الإيجابية التي يتحلى بها المتدينون ونظر إلى الدين بعين سياسية وغايات أيدولوجية. وأسرى حكماً يعود لمنطقة جغرافية معينة أو عصر ما إلى غيرهما من الأزمة والأمكنة. يقول زيتلن في هذا الصدد: «إنّ ماركس وإنغلس يصنعان مراحل تكاملها من خلال التقاط نماذج تتعلّق بأزمنة وأمكنة مختلفة مثلما صنع التطوّريون(1) في عصرهم»(2). وبعبارة أخرى: لا يمكن تسرية حكم كلّي عامّ [1] على جميع البلدان والمناطق في العالم لأجل وقوع بعض الأحداث في أوروبا أو الغرب.

5 . لقد دلّت شواهد تاريخية عديدة على معارضة الأديان السماوية لشتى أشكال الظلم والظالمين ، كما أنّ أغلبية أتباع الأديان الحقة هم من المعدمين والمستضعفين الذين لم يفتأوا في صراع مع الظلمة والمستغلين، وإنّ الأنظمة العقائدية والقيمية لهذه الأديان تضمّ في طياتها خطاباً ثورياً مقاوماً للظلم والسبب الرئيس الذي أدى بالكافرين والمشركين إلى رفض الدين هو حرصهم على صيانة مواقعهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الرفيعة. ولهذا، فإنّ فرضية اختراع الدين بأيدي المستغلين لأجل الحفاظ على مصادر القوّة والسلطة، وكذلك فرضية اختراع الدين بأيدي الفقراء والمساكين لأجل تبرير أوضاعهم السيئة منتفية وغير واردة.

نعم؛ لا مراء في أنّ التاريخ زاخر بالظلمة والمستبدين الذين لم يألوا جهداً في تحریف بعض الحقائق الدینیّة، وإسباغ مسحة إلهية وسماوية على سلطانهم ومواقعهم من أجل إسكات صرخات المعدمين، وهو ما يمكن مشاهدته بوضوح في تاريخ الديانة المسيحية، لكنّ هذا الواقع التاريخي لا يجب أن يشكل مانعاً من تكوين معرفة حقيقية عن طبيعة الأديان الحقة.

ص: 323


1- [م] . Evolutionists
2- مستقبل مؤسسي علم الاجتماع، إيرفينغ زيتلن ( Irving Zeitlin) ج 1 ص 18 .[النسخة المترجمة للفارسية]

6 . لعلنا نجد الكثير من الناس الذين لم يذوقوا حرّ الأوضاع الاقتصادية اللاذعة، أو لم يتصدّوا للدفاع عن نشاطات اقتصادية معينة، أو لم يكونوا من ضحايا الجهل أبداً، لكنّهم من الناشطين والمثابرين في سبيل إعلاء راية العقيدة الدینیّة، وصيانتها، وتدعيم أسسها، بل ومن المضحين بأنفسهم في هذا السبيل، وهذا يكشف لنا أن الفكر والأيدولوجيا ليست دائماً وليدة المذهب الاقتصادي(1).

7/10 .أضواء على نظرية العقل الباطن :

أضواء على نظرية العقل الباطن (2):

طُرحت نظرية العقل الباطن في بحث منشأ الدين من قبل عالم النفس الشهير فرويد(3) (1939م) الذي تناول بحكم تخصصه دراسة السلوك العبادي عند المتعبدين وقدّم أبحاثاً تخص منشأ الدين، ودوافع الإنسان نحو النزوع إلى المعتقدات الدینیّة.

لقد كان علماء النفس والفلاسفة إلى ما قبل فرويد يعدّون الظواهر الفكرية إرادية وناتجة عن العقل الواعي، وأساساً لم يكونوا يؤمنون بوجود عقل غير العقل الواعي. لقد كانوا يرون أنّ أيّ فعل أو ظاهرة تصدر من الإنسان هي أمر ناتج عن قوة الإرادة و منبعث عن وعي الإنسان.

ص: 324


1- الفطرة، مصدر سابق .
2- العقل الباطن - ويسمى أيضاً: العقل اللاواعي و اللاشعور Unconscious mind - : مصطلح يشير إلى مجموعة من العناصر التي تتألف منها الشخصية، بعضها قد يعيه الفرد كجزء من تكوينه، والبعض الآخر يبقى بمنأى كلّي عن الوعي. وهناك اختلاف بين المدارس الفكرية بشأن تحديد هذا المفهوم على وجه الدقة والقطعية إلا أن العقل الباطن على الإجمال هو كناية عن مخزن للاختبارات المترسبة بفعل القمع النفسي، فهي لا تصل إلى الذاكرة. [م]
3- ولد سيغموند فرويد في 6 مايو 1856م في بلدة فريبورغ كما تُنطق بالألمانية Freiberg وهي باللغة التشيكية : Pribor) بمنطقة مورافيا التابعة آنذاك للإمبراطورية النمساوية، والتي هي الآن جزء من جمهورية التشيك. كان والده (جاكوب) تاجراً يهودياً يمتهن بيع الصوف. وفي عام 1859 هاجر مع عائلته إلى فيينا وهو ابن ثلاثة أعوام، وبقي فيها إلى سن التاسعة والسبعين اضطرّ إى الهروب من هناك إلى إنجلترا عام 1938 إثر الهجمات النازية. كان يرى أن نجاحاته تعود إلى خلفيته اليهودية؛ وإن لم يكن يمارس طقوس هذا الدين وآدابه على الإطلاق، بل كان يعدّ جميع الأديان أموراً وهمية لا حقيقة لها.

أمّا فرويد فهو يقسّم النفس الإنسانية إلى عقل واع وعقل باطن، مؤكداً على أنّ الإنسان يجهل بعضاً من تفاعلات عقله وضميره. وقد ذهب فرويد إلى أنّ الإنسان كلّما قمعت حاجته لأسباب وقيود أخلاقية أو اجتماعية أو دينية فإنها تنتقل إلى عقله الباطن وضميره الخفيّ، وتتحوّل هناك إلى عُقدةٍ نفسيّة يجعل صاحبها الأسباب والمناشئ التي أدّت إليها. وقد قال فرويد إنّ الأطفال يمتلكون تجاه أقربائهم ميولاً عاطفيّة عاشقة، فسّرها بالجنس، وسماها ب«عقدة أوديب»(1).

وقد استنتج فرويد أنّ هذه العقدة هي سبب جميع الأمراض النفسية، والمؤسسات الاجتماعية، والإبداعات الفنيّة، وأنّ «الطوطم» و «الطابو»(2) كلّه ناشئ من عقدة أوديب. يقول في أحد كلماته:

كانت القبيلة في بدايتها تتكوّن من عائلة يسيطر فيها الأب، ويحتفظ بالنساء له وحده من دون الأبناء، فهو السيّد الذي يملك كلّ الإناث في القبيلة ويحرمها على ذكورها، ولا يكاد أبناؤه يشبون عن الطوق حتى يطردهم خارج العشيرة. فالتأم شمل الإخوة المطرودين فقتلوا أباهم، وحصلوا على النساء، لكنّهم تنازعوا الأمر فيما بينهم، وانتهى بهم المطاف إلى الندم والشعور بالذنب وتأنيب الضمير. وبعد

ص: 325


1- «أوديب» وفقاً للأساطير الإغريقية هو بطل مدينة ثيفا، وهو ابن الملك «لايوس»، وأمه هي «جوكاست». وملخص هذه الأسطورة: أنّ العرّاف قال لملك ثيفا آنذاك بأنه سيقتل بيد ابنه، وأن ابنه سيتزوج من الأم، وفي ذلك الوقت كانت زوجته حاملاً ، فلما ولدت صبيها أمر الملك بأن تُشدّ أقدام الوليد بالحبال، ويُرمى فوق الجبل، ولهذا السبب سمّي بأوديب التي تعني باللغة اليونانية صاحب الأقدام المتورّمة. وهكذا كُبّل الطفل ورمي فوق الجبل، فوجده الرعاة على تلك الحالة فأخذوه إلى ملك (كورنثيا) الذي تولى تربيته كما يُربى الأمراء. وفي نهاية المطاف، عاد إلى مملكته، وقتل أباه، وتزوج من أمه الملكة راجع الطوطم والمحرّم فرويد، ص 7 [النسخة المترجمة إلى الفارسية].
2- «الطوطم»: حيوان مأكول مسالم أو خطير ومخيف. ومن النادر أن يكون الطوطم نباتاً، أو قوّة طبيعية؛ مثل: المطر أو الماء. وهو يكوّن علاقات متميزة مع المجموعة. يمثل الطوطم بداية حدود المجموعة، ثم يكون الملك الموكل بحفظهم وصيانتهم، وهو يرسل لهم رسائل غيبية، أو في الوقت الذي يكون فيه خطيراً على الغير فهو يعرف أبناءه ويحافظ عليهم. ويقع على عاتق الذي يمتلكون طوطماً واحداً واجب مقدّس يُحتّم عليهم ألا يتقلوا طوطمهم، وألا يقضوا عليه، أو يأكلوا من لحمه. ويفرض قانون آخر لهم ألا يقيم أعضاء الطوطم الواحد فيما بينهم أية علاقات جنسية، وان يجتنبوا الزواج فيما بينهم . أما «الطابو» فيعني الممنوع والمحظور والمحرَّم راجع المصدر السابق، ص 19-24، و44.

فترة، صار هذا الأب موضع تبجيل وتقدير، ومن ثمّ اختاروا حيواناً لينقلوا إليه هذا التبجيل، فكان الحيوان بمثابة الطوطم، فقاموا بتقديسه وتقديم القرابين له تعويضاً عن فعلتهم وقتلهم أباهم، فكبّلوا أنفسهم بقيود ومحظورات شاقة تسمّى بالطابو، جعلوها كفّارةً لما اقترفت أيديهم(1).

ويستعرض فرويد بعد توظيفه لمبادئ التحليل النفسي المذكورة آنفاً أربع اتجاهات مختلفة في موضوع منشأ نزوع الإنسان نحو الدين:

1/7/10. الاتجاه الفرويدي الأوّل:

وهو أنّ الخوف والجهل هما من العوامل الطبيعية لميول الناس نحو الدين. وقد برزت هذه النظرية في أوّل ظهور لها على يد الشاعر الروماني تيتوس (2) (99م) ضمن أحد أبياته؛ حيث شدّد على أنّ الخوف هو الشرارة الأولى التي خلقت الآلهة (3). ويقول مؤلف كتاب «أديان الإنسان» جون نوس مؤيّداً لهذه النظرية :

الدين هو الثمرة الأولى لجهود الفكر الإنساني الساعي إلى الحصول على قسط من الشعور بالأمن في هذا العالم(4).

وقد حاول فرويد أيضاً في كتابه مستقبل وهم أن يوظف مبادئ التحليل النفسي ليثبت من خلال ذلك أن الخوف من العوامل الطبيعية أدى بالإنسان إلى اختلاق سبب مشترك سُمّي بالإله، ثمّ اللجوء إليه والاحتماء به (5). ولا يخفى أنه أشار في

ص: 326


1- راجع الطوطم ،والمحرّم فرويد ص 270 [ من النسخة المترجمة إلى الفارسية].
2- تيتوس لوكريتيوس كاروس (حوالي 599 ق م فيلسوف وشاعر روماني عمله الشهير هو القصيدة الفلسفية الملحمية De rerum natura وتعني «على طبيعة الأشياء»، أو «على طبيعة الكون»؛ وهي عن معتقدات الإبيقورية [م]
3- راجع: مباهج الفلسفة، ويل ديورانت، ص 383 .[من النسخة المترجمة إلى الفارسية].
4- راجع: أديان الإنسان (Man's Religions)، جون بي نوس، ص 7 .[من النسخة المترجمة إلى الفارسية].
5- راجع: فلسفة الدين، جون هيك، مصدر سابق، ص 79.

هذا الكتاب إلى عوامل العجز والجهل والخوف باعتبارها منطلقات ومناشئ لظهور الدين، مستعرضاً بعض القراءات المتنوّعة عن ذلك. يقول في هذا الصدد:

على أي حال، فإنّ عجز الإنسان وإخفاقه أمام قوى الطبيعة العمياء، وفشله في حلّ أسرار الخلق وألغازه على طول التاريخ، أوجد سلسلة من الأوهام والمعتقدات والأفكار التي تتسم بالمحدودية وبالتهدئة والمطلوب من هذه المعتقدات وهذه السلسلة من الأفكار أن تقوم بدور الآلهة لترفع من مستوى تحمل الإنسان وتجلّده في عجزه وفشله أمام قوى الطبيعة، وقد اتخذت هذه الأوامر والقوانين وكأنها منزلة من السماء، وأسندت إلى الآلهة(1).

وقد شرح إريك فروم هذه النظرية قائلاً:

يرى فرويد أن الدين ينبع من عجز الإنسان في مواجهة قوى الطبيعة في الخارج، والقوى الغريزية داخل نفسه. وينشأ الدين في مرحلة مبكرة من التطوّر الإنساني عندما لم يكن الإنسان يستطيع أن يستخدم عقله بعد في التصدّي لهذه القوى الخارجية والداخلية، ولا يجد مفرّاً من كبتها، أو التحايل عليها مستعيناً بقوى عاطفية أخرى. وهكذا، بدلاً من التعامل مع هذه القوى عن طريق العقل، يتعامل معها بعواطف مضادة، بقوى وجدانية أخرى تكون وظيفتها هي الكبت أو التحكم فيما يعجز عن التعامل معه عقلانياً ... فإذا تخلى الإنسان عن وهمه في إله أبوي، وإذا واجه وحدته وتفاهته في الكون، فسيكون أشبه بالطفل الذي ترك بيت أبيه. غير أن غاية التطوّر الإنساني أن يتغلب على هذا التثبيت الطفولي. وعلى الإنسان أن يعلّم نفسه لمواجهة الواقع، فإذا علم أنه لا يستطيع الاعتماد على شيء إلا على قواه الخاصة، فسيتعلّم كيف يستخدمها استخداماً صحيحاً. والإنسان الحرّ الذي حرّر نفسه من نير السلطة السلطة التي تهدّد وتحمي - هو وحده الذي يستطيع استخدام قوّة عقله، وإدراك

ص: 327


1- مستقبل ،وهم فرويد ص 180-181 [من النسخة المترجمة إلى الفارسية].

الكون ودوره فيه إدراكاً موضوعياً، دون وهم، وبقدرة على التطوّر، وعلى استخدام القدرات الكامنة فيه . ولن نجرؤ على التفكير تفكيراً مستقلاً إلا إذا ،نمونا، وكففنا عن أن نكون أطفالاً نعتمد على السطلة ،ونَهابها، والعكس صحيح، فلن نحرّر أنفسنا من قهر السلطة إلا إذا تجاسرنا على التفكير (1).

ومع هذا الشرح، يتضح أن فرويد يُلغي بكلامه أي ضرب من ضروب الارتباط بالله عَزَّ وَجَلَّ، ويذهب إلى اكتفاء الإنسان بقوّة التعقل التي يملكها في سدّ جميع احتياجاته ومتطلباته. وقد أشار في خضم حديثه عن منشأ ظهور الأديان وعامل الخوف إلى ثلاثة مصاديق للخوف؛ هي : الخوف من الله ، والخوف من قوى الطبيعة، والخوف من الموت. وقال في شرحه لرؤيته تلك:

لقد حوصر الفرد في المجتمع من قبل ثلاث قوى جلبت له الأذى والهلع؛ والقوى الثلاثة هي الحضارة بتنظيماتها ومؤسساتها، ثمّ ضغوط أفراد المجتمع والطبيعة على الإنسان، وما يصبّانه عليه من عذاب وهلع وفزع. أما ردود فعل الإنسان على القوّتين الأوليتين فتظهر في هيئة أحقاد وعداوات تتلاءم مع حالات الأذى والنَّصَب والتقيّد التي يعيشها(2) . أمّا الإنسان البدائي في مواجهته للقوّة الثالثة فقد بحث عن أسباب هذه الحوادث، وتعجّل في حكمه بأنها مسببة عن الأشباح والأرواح المنتشرة واللامرئيّة، ففتح على نفسه نافذةً إلى ما وراء الطبيعة؛ لينجو من الخوف والهلع (3).

وقد شدّد فرويد على أنّ جماح العوامل الطبيعية لم تُكبح ، وقد استمرت في مسيرتها الطبيعية، ومضت البراكين والزلازل والرعد والبرق والطوفان العارم في الظهور والحدوث غير آبهة بما يقدّم الإنسان بين يديها من صلوات وتبجيل وعبادة وأضاحي،

ص: 328


1- الدين والتحليل النفسي إريك فروم نقله إلى العربية فوائد كامل، ص 15-18 .
2- مستقبل ،وهم ،فرويد مصدر سابق، ص 166-167 .
3- المصدر السابق، ص 171.

لكن لا ينبغي أن نتناسى الدور الذي يلعبه العامل النفسي والروحي، وما يشعر به الإنسان جراء ذلك من سكينة وطمأنينة (1).

2/7/10. الاتجاه الفرويدي الثاني :

وهو أنّ الآلهة أو الأوامر الدینیّة تدخل على الخطّ من أجل مساعدة الحضارة والقانون في الحدّ من القيود التي تفرضها الحضارة ومحظوراتها، وذلك من خلال استخدام العامل النفسي، فتقوم بتعبيد الطريق لفرض تطبيق مبادئ الحضارة والقانون على الناس، وكذلك لدعمها وتنفيذها، وهي أمور لا ينصاع المجتمع ولا ينقاد لها بسهولة. ومن هذا المنطلق، تُصاغ لمقتضيات الحضارة وما يرتبط بها أسس ومناشئ إلهيّة بنحو تدريجي (2). وبناءً على ذلك، عمد الإنسان إلى صياغة قانون العقوبات الذي يعاقب على إزهاق الأرواح، والقتل الفردي والجماعي، ثم نسبه إلى ،الآلهة، وعده من ضمن الأوامر الدینیّة السماوية والمقدّسة (3). ويرى فرويد أنّ أساس الحضارة ونجاحها رهين بالانتظام الاجتماعي، وهذا الانتظام يستلزم الرقابة على الغرائز والأميال الفردية، وفرض طوق من القيود عليها؛ لأنّ هذه القيود هي التي تضمن تبلور الحضارة واستمراريتها، وهو ما يؤدي إلى اشتعال حالة الحقد والغضب عند الفئة المقيَّدة بذلك. ولهذا، لا يمكن للحضارة أن تحظى بدعم شعبي صادق (4). وهذا الأمر هو الذي يستدعي اللجوء إلى الإيمان والدين طمعاً في توظيفه لاستتباب الحضارة. وبناءً على ذلك، فإنّ الاتجاه الفرويدي الثاني يحصر الدين في دائرة الحفاظ

على استقرار الحضارة واستتباب أمرها .

ص: 329


1- المصدر نفسه.
2- مستقبل ،وهم ،فرويد مصدر سابق، ص 180.
3- المصدر السابق، ص 420 -421 .
4- المصدر السابق، ص 159.

3/7/10. الاتجاه الفرويدي الثالث:

وهو يتمثل في التركيز على قضية كبت الغريزة الجنسية ، والسعي في قمعها؛ حيث يرى فرويد أنّ الشهوة الجنسية أساس جميع الغرائز، بل هي عنده كل الغرائز في الإنسان. وحسب فرويد فإنّ الرغبة الجنسية التي أسماها ب- «الليبيدو»(1) هي الممثل عن القوّة التى تظهر بفعلها الغريزة الجنسيّة، وإنّ الاقتضاء الأوّلي لهذه الغريزة هو التحرّر من كلّ قيد أو حدّ أو ضابط ؛ في حين أنّ الاستلزامات الاجتماعية والأخلاقية والحقوقية في المجتمع تقمع هذه الحاجة، فتنكفئ الغريزة الجنسية إلى باطن الإنسان، وتنتقل الرغبة الجنسية من العقل الواعي إلى العقل الباطن. وبعد اجتماعها هناك، وعدم عثورها على منفذ تخرج منه ، تتبلور لها هيئة معينة . وبهذا، يُفسّر ظهور الشعراء والفنانين والأنبياء(2). وكتب فرويد في أحد مؤلفاته :

عندما يعجز المرؤ عن إشباع ميوله وغرائزه في الواقع الموضوعي، فإنّه يُباشر عملية التخيل، ليعقد بذلك عُلقة بين العالم الخارجي وعالمه الداخلي. وبنحو عام، فإنّ الفنّان يحاول أن يعرض ميوله المكبوتة بأسمى وأثمن أسلوب فني ممكن(3).

4/7/10. الاتجاه الفرويدي الرابع :

وهو ما يسمّى بعقدة «أوديب» ، أو : الميل إلى «الأم». وعقدة «إلكترا»، أو «الميل إلى الأب». وقد مرّ الحديث عنه آنفاً. لقد طبّق فرويد في كتاب الطوطم والمحظور منشأ الدين والمعتقدات الدینیّة على أنموذج الأسرة والعُقدة الأسرية، أو عقدة أوديب

ص: 330


1- الليبيدو (libido) مفردة لاتينية معناها: التلذذ استناداً إلى شهوة حسّيّة. والكلمة أصبحت مصطلحاً يستخدم غالباً في التحليل النفسي، ويشير إلى السلوك الممتع للوصول إلى إثارة الغرائز الطبيعية. أوّل من استخدم هذا المصطلح هو فرويد [م]
2- فرويد والفرويدية النسخة المترجمة إلى الفارسيّة فيلسيان سالاي، ترجمة: إسحاق وكيلي ص 29، 106، 150-148 فكر فرويد [النسخة المترجمة إلى الفارسية] إدغار بيش ترجمة غلام علي توسلي ص 86-90.
3- التحليل النفسي للجميع [النسخة المترجمة إلى الفارسية] فرويد، ص 86-90.

وإلكترا. وفي خضم آرائه حول الإيمان الديني الذي عدّه وهماً منبعثاً من قمع الحاجة الجنسية (1)، وأن أساس الدين قائم على الشعور بالخوف والهلع والحيرة من الحوادث الطبيعية، يُقدّم فرويد تعريفاً معيناً للوهم والخيلاء، ولا يتناسى أيضاً الدور الإيجابي الذي يضطلع به الدين على المستوى الفردي والاجتماعي، فيلتفت إلى الفوائد والآثار الفردية والاجتماعيّة المترتبة على الدين (2)

وقد كتب في شرحه للوهم قائلاً: «ليس من الضروري أن يكون الوهم أو الخيلاء أمراً خاطئاً مجانباً للصواب في حين أن الخطأ يعني على الدوام مجانبة الصواب»(3).

وبعد الوقوف على الاتجاهات الفرويديّة الأربعة في تفسير منشأ الدين تصل النوبة إلى تحليلها ومناقشتها على النحو التالي:

1 . من المستغرب جداً أن يبني فرويد أسس منهجه البحثي في التحليل النفسي - وهو يتبوأ مقعد رجل العلم - على حفنة من الأساطير التاريخية، والأقاصيص الملفّقة التي سطرها رهط من الأنثروبولوجيين الأسطوريين؛ فأقصوصة أوديب، أو عبادة الطوطم والمحظور، وما شاكل ذلك فاقدة لأيّ أصل أو ثيقة تاريخية . نعم؛ يَعُدّ فرويد كتابه المسمّى ب- «الطوطم والمحظور في إحدى تصريحاته إنجازاً عظيماً، ويقول عنه في موضع آخر: «لا تأخذوا على محمل الجد؛ إنّني ألفته ونسقته مساء سبتِ ماطر»(4).

والأمر الغريب الآخر في تنظير فرويد: كيف أمكن له أن يعمم ما اكتشفه في حال عدد من المرضى الذين كانوا يعانون من معضلاتٍ جنسيّة على جميع المرضى النفسيين،

ص: 331


1- فرويد [النسخة المترجمة إلى الفارسية]، أنطوني ستور ( Anthony Store)، ترجمة: حسن مرندي ص 122.
2- المصدر السابق، ص 123 .
3- مستقبل ،وهم ،فرويد مصدر سابق، ص 322 .
4- فرويد، أنطوني ستور، مصدر سابق، ص 119 حوار مع يونغ یونز ص 15 مدارس علم النفس ومناقشاتها مكتب التعاون بين الحوزة والجامعة، ج 1، ص 386 387 ترجمة نهج البلاغة وتفسيره، محمّد تقي جعفري، ج 6، ص 252-253 [المصادر جميعاً باللغة الفارسية ] .

بل وجميع مؤسسات المجتمع البشريّ قاطبةً؟! وقد كان صديقه الحميم جوزيف بروير(1) (1925م) يُشكل عليه بهذه المناقشة على الدوام(2).

هذا، علاوةً على ما اعتمده من العادات والتقاليد القَبَليّة وغيرها من بعض الفئات الاجتماعية التي اتخذت طابع الخرافة، أو تبلورت على أسس خرافية، واكتست حُلّة دينية؛ منها على سبيل المثال: الخوف من الجن والعفاريت، أو الخوف من الشيطان أو «أهريمن» كما يسمى في بلاد فارس القديمة، أو غيرها من الانحرافات الأخرى عند الإغريق.

ومن الواضح أنّ هذه الخرافات والأساطير لا يجوز لها أن تتمخض عن قاعدة عامة تُفسّر لنا ظهور جميع الأديان الحقة والباطلة.

2 .المناقشة الأخرى التي نسجّلها هنا أنّ الخوف ليس هو العامل الذي أفضى إلى اختلاق فكرة الإله؛ وإن جاز أن يكون داعياً حقيقياً للنزوع إليه. وقد أشرنا في بحثنا عن الآثار والفوائد المترتبة على الدين (3) إلى أنّ الإيمان بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وغيره من المعتقدات الدینیّة يتحلّى بتأثير تطميني يُهدّئ من روع النفوس، ويدعو الإنسان عند تعرضه لعوامل الخوف والهلع الطبيعية وغير الطبيعية إلى الاستعاذة بالقدرة الإلهية اللامتناهية، واللجوء إليها. يقول تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(4). وبتعبير آخر : ليس هناك في منطلقات الإيمان بالله ما يستلزم - من جهة العقد أو النقائص النفسية - إنكار الوجود الحقيقي له جَلَّ وَعَلا، ولا يجوز الخلط بين منشأ الدين ومنشأ التديّن، أو بين الدوافع والنتائج، أو الإيمان بوجود اتحاد أو تلازم بين صدق القضيّة المثبتة لوجود الله وكذبها من جهة، والصحة والسقم الأخلاقيين اللذين قد تتصف بهما عوامل الإيمان بتلك القضية من جهة أخرى(5).

ص: 332


1- Joseph Breuer. [م]
2- التحليل النفسي للجميع ، مصدر سابق، ص 270.
3- الكلام الجديد، عبدالحسین خسروبناه مقال: «الآثار والفوائد المترتبة على الدين».
4- سورة العنكبوت: 65 .
5- فلسفة الدين، جون هيك، مصدر سابق، ص 81-82 .

وحسب رؤيتنا، فإنّ فرويد فشل في الجمع بين فكرتين؛ الأولى: «شعور التعلّق بالقدرة اللامتناهية، وفهم الفقر الوجودي بصفته حقيقة فلسفية»، والثانية: «الجرأة على التفكير في القوى الفطرية، والمواهب المودعة في وجود الإنسان، ومحاولة تنميتها وتطويرها»؛ في حين أنهما ليستا على تنافر وتضاد، وهما قابلتان للاجتماع.

3 . كان فرويد يزعم أنّ الربّ القدير عاجز عن علاج الأوجاع وشفاء الأمراض، وهذا ما أسفر عن زعزعة التديّن عند الناس. ومناقشتنا له في هذا أوّلاً: أنّ دعوى تزعزع التدين عند الناس أمر يفتقر إلى دليل، بل الإحصائيات الدقيقة والتقارير المنشورة تدلّ على ارتفاع وتيرة التديّن واتّساع مطّرد في رقعته حول العالم(1). وثانياً : حرمان فرويد من الشعور بالكرامات الإلهية، والاحتكاك بمعاجز شفاء الأمراض المستعصية التي أكرم الله بها أولياءه المعصومين(علیهم السّلام) الذين جعلهم وسطاء فيضه ورحمته هو الذي أفضى إلى حكم عقيم كهذا. وثالثاً : أنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى شاء أن يجري عالم الطبيعة ويُدار وفقاً لسنن ونواميس طبيعية.

4. فلفترض مجتمعاً يتحلّى بحرّيات لا تُعدّ ولا تُحصى، وأن أفراد هذا المجتمع لا يجدون ما يمنعهم أو يصدّهم عن إرضاء غرائزهم الشخصية وإشباع نزواتهم الجنسية، وأنهم يسمحون لأنفسهم بالتصرف في أي شيء يجلب انتباههم، ويثير رغبتهم، ولا يتردّدون في تصفية من يخالفهم؛ فهل يا تُرى يمكن لهذا المجتمع أن يداوي عِلله، ويحلّ معضلاته النفسيّة؟! وعندئذ، كيف يمكن لهذا المجتمع أن يُصلح حاله، وهل سيبلغ أفراده الحياة السعيدة الرغيدة الهانئة؟! الطريف في القضيّة أنّ فرويد بنفسه يزعم قائلاً: «إذا ارتفعت قيود التحضّر ، ومهد الطريق لبيئة حُرّة تُبيح إشباع الغرائز فلن يُتاح لأي فرد أن ينعم بالفوائد واللذات الناجمة عن ذلك إلا شخصاً واحداً؛وهو ذلك الفرد الأناني المستبد الذي أخذ بجميع مقاليد السلطة والقمع، واستأثر بكلّ ذلك لنفسه»(2) .

ص: 333


1- الثقافة والدين [النسخة المترجمة للفارسيّة] ميرتشا إلياده ،مقالة «الدين والدنيا».
2- مستقبل وهم فرويد، مصدر سابق، ص 160 .

5. تأثر فرويد بمصطلحي الأب الأرضيّ»، و«الأب السماوي» الرائجين في الديانة المسيحيّة، في حين أن عقيدة الربّ المماثل للإنسان وفكرة «الأب السماوي» ليست حاضرة في جميع الأديان وبالرغم من ذلك، فإنّ التبرير الذي يجوز في قضيّة الأب السماويّ هو أن يُقال : لما كان الأطفال غير قادرين على استيعاب فكرة الأب السماويّ، لجأوا إلى الأب الأرضيّ؛ لا أنّ الأب السماوي أمر اختلقته نزعات الأطفال نحو الأب الأرضي!

6 . لا نطعن في وجود بعض القرائن والشواهد التي تدلّ على وجود أنماط من عبادة الطوطم والحيوانات وتحريم قتل الحيوان الطوطمي، أو أكله في الماضي السحيق، أو في وقتنا الراهن، لكنّ اختلاق شيء من الربط والعلقة بين الطوطمية والأديان الحقة كما صنع فرويد ليس إلا مصداقاً بارزاً من مصاديق التمثيل (حسب التعبير المنطقي)، أو القياس مع الفارق (كما يُعبّر في العلوم الشرعية). وهذا التهافت خطأ منهجيّ واضح يُؤخَذ على فرويد الذي أدار ظهره لجميع البحوث الفلسفية والكلاميّة متهماً جميع الأديان بالخرافة والوهم الذي اصطنعه الإنسان! في حين أنّ خطر جرائم القتل وتحريم الزنا بالمحارم التي وصفها فرويد بأنها مبادئ اتفقت عليها الأديان والحضارات، وضمنها في استدلاله، إنّما هي أمور أفرزتها الفطرة والجبلة الإنسانيّة إلى جانب العقل الذي يتحلّى به بنو البشر .

7. من المزاعم الباطلة الأخرى التي أطلقها فرويد في دراساته حول الدين أنّ المعتقدات الدینیّة حفنة من القضايا التعبّديّة التقليدية التي يجب على الناس أن يؤمنوا بها، وأن يطئطئوا لها رؤوسهم من دون مناقشة أو سؤال (1)؛ وهذه الدعوى غير صائبة بخصوص الإسلام؛ فإنّ تعاليم هذا الدين تدعو المؤمنين دوماً إلى بناء معتقداتهم الدینیّة على أسس مبرهنة، وترغبهم في إيمان مُشيَّد على الدليل. نعم؛ لم يخطئ فرويد في مدّعاه إذا لاحظنا الكتب المقدّسة عند الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة؛ فهي تنطوي

ص: 334


1- الفطرة [النسخة الفارسية] مرتضى المطهري، ص 254 .

على آيات متضادّة ومتناقضة بنحو مذهل، وتروي أقوالاً أسطورية، لكن أين هذه من الدين الإسلامي الحنيف (1)؟!

8/10 .أضواء على نظرية الخوف :

ترتكز إحدى النظريات المتعلّقة بمنشأ الدين على الدعوى التي تزعم أنه ناشئ ومنبثق من الضعف والهوان والخوف الذي يعانيه الإنسان. وقد بشّر بهذه النظرية برتراند راسل (1970م) ذاهباً إلى أنّ الإيمان بالدين يسوقنا إلى مزيد من الجبن والتخاذل ! وحسب هذه الرؤية، فإنّ عدداً ضخماً من حديثي السنّ يفقد الإيمان بالقضايا الدینیّة في الفترات الزمنية التي تستولي فيها حالة اليأس(2).

ويرى راسل أننا إذا قارنا هؤلاء بالأفراد الذين لم يسبق لهم أن ترعرعوا في أجواء التهذيب الديني، لوجدنا أنّ عليهم مواجهة تعاسة متزايدة هي أشدّ بأساً من غيرهم (3).

ويضيف راسل أنّ أنصار العقيدة والراغبين في الإيمان يذهبون إلى التقليل من شأن بعض ألوان الخوف، ويميلون إلى حذفه من حساباتهم. ويقول معلقاً على ذلك: «وهم مخطئون - برأيي - في السماح لأنفسهم بالترحيب باعتقادات غير مريحة من أجل تجنّب حالة الخوف»(4). ثمّ يختم هذا المقطع بأنّ حياة الإنسان الذي يلجأ إلى التشبث بمعتقدات تؤمله وتناغيه ليست بالطريقة المثلى للحياة، وطالما أنّ الدين يلجأ إلى الخوف، فإنّه ينتقص من قيمة الإنسان ومكانته (5).

ص: 335


1- المصدر السابق، ص 263 .
2- التربية والنظام الاجتماعي راسل، نقله للعربية سمير عبده، ص 105. [م]
3- التربية والنظام الاجتماعي راسل، نقله للعربية سمير عبده، ص 105. [م]
4- المصدر نفسه بتصرف في الترجمة؛ نظراً للتشويش الكبير الذي يلفّها. [م]
5- المصدر نفسه. [م]

ويقول راسل في موضع آخر:

«أعتقد أنّ الإنسان الذي يعجز عن تحمّل صعاب الحياة بدون الإذعان بأساطير تسلّي خاطره هو كائن ضعيف ومعرّض للمخاطر. لا ريب في أنّ هذا الإنسان يعترف في قرارة نفسه بحقيقة مفادها أنّ ما أذعن به ليس أكثر من خرافة، أو أسطورة، وأنّ الدافع الوحيد الذي دعاه لهذا الإيمان هي الراحة والسكينة التي حصل عليها منه، لكنّه لا يجرؤ أبداً على الوقوف عند هذه الأفكار، أو مواجهتها. بل يمكن القول بأنه إنّما يتعصب ويتزمّت لأفكاره تلك، ويحاول الهروب من أي نقاش يدور حولها لمعرفته بأنها غير منطقية»(1).

يقول العلامة المطهري (1399ه) في معرض نقده لهذه الرؤية:

«يستخدم علماء أصول الفقه مصطلحي الحكومة والورود، فيقولون أنّ دليل كذا حاكم أو وارد على دليل كذا، ويقصدون بذلك أنه يحدث - أحياناً - أن دليلين اثنين لا يمكن أن يتعارضا؛ وذلك عندما يكون أحد الدليلين مشروطاً بشرط معيّن يزول بظهور الدليل الآخر. وبزوال الشرط يزول الدليل تلقائياً أيضاً، ولا يعني هذا المصطلح أن الدليلين متناقضان ومتحاربان.

لقد قال هؤلاء - منذ البداية - بفرضيّتهم على أن المنطق الواحد لا يمكن أن يكون ظهوراً لمنشأ فكر ديني فإذا لم يكن المنطق قادراً على ذلك، فلنبحث عن شيء غير المنطق. وبحثوا فعثروا على الخوف والجهل وأمثالهما، واعتبروها منشأ الدين. لا بد أن يقال لهؤلاء: إنّ فكر البشر وإن يكن باطلاً ومهما يكن تعلق البشر به، فإنه يرجع إلى منطقة ، لا إلى شيء ما وراء منطقة.

فالإنسان مثلاً ظلّ آلاف السنين يعتقد أن الشمس تدور حول الأرض، وأن

ص: 336


1- المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة ، راسل. [م]

الأرض ثابتة، فهل نبحث عما دعا البشر إلى الاعتقاد بأن الأرض هي المركز، وأن الشمس والكواكب الأخرى تدور حول الأرض؟ هل كان السبب خوف الناس من الأموات أو مما يشبه ذلك؟ كلا؛ نقول كان الأمر فكرياً ومنطقياً ولا عامل آخر وراءه. حتى لو كان على خطأ. كان الإنسان يعني بما يرى، فبدا له أن الشمس هي التي تدور حول الأرض، وكان يحكم بما يرى. إن الدليل على ذلك هو الرؤية وتفكير الإنسان. ولا حاجة للبحث عن دليل من الخارج. إنه ليس مثل النحس الذي يلازم الرقم 13 كي نقول : إن في ذلك عاملاً خارجياً .

ينبغي أن نسأل هؤلاء: إن الآثار والدلائل الكثيرة التي تدل على أنّ الإنسان القديم قبل آلاف السنين كان متقدماً في الفن والصنعة وكانت له أفكار فلسفية رفيعة ودقيقة محيرة ألم يكن ذلك المقدار من التفكير هو الذي يقوده إلى الدين؟ أولم يكن الإنسان البدائي يرى انتظام الطبيعة؟ ألم يكن يغرس الأشجار؟ ألم يكن يرى البذرة كيف تخرج من تحت التراب فترتفع إلى الأعلى، وتمدّ جذورها، وتورق، وتثمر؟ ألم ير وجوده هو، وما فيه من أعضاء وتناسب وانتظام ؟ أو لم يكن كل هذا يثير في الإنسان البدائي الحيرة والتفكير في الله ؟ كيف يمكننا أن نغضّ الطرف عن هذا مع وجود البناء المنطقي والفكري عند الإنسان؛ لنبحث عن أسباب أخرى؛ كأن نقول مثلاً: انّ الخوف هو الذي أدى إلى أن يفكر الإنسان في الله، أو أنه الجهل، أو ما كان يشاهده في الأحلام من أرواح الموتى، وما استتبعه من نتائج أوصلته إلى ازدواجية الروح؟! لماذا يريدوننا أن ندخل من النافذة والباب مفتوح على مصراعيه؟ ما الذي يدعونا للتفكير في أسباب غير منطقية مع وجود التفكير المنطقي؟ إن مجرّد إدراك وجود الله يكفي الإنسان البدائي.

ثمّ إنّ التاريخ نفسه يدلّنا على أنه في أدوار ما قبل التاريخ كان هناك أشخاص مفكرون قادرون على تذكير الناس بالله . الخطوة الأولى هى أنه كلّما صادف الإنسان حدثاً أسرع يبحث عن العلة ،والسبب، فالإنسان البدائي - إذن - كان دائم البحث

ص: 337

عن العلل. أمّا الخطوة الثانية فإنها خطوة بسيطة لا تستوجب بالضرورة إنساناً من القرن العشرين ليخطوها ، فالإنسان البدائي كان أيضاً بإمكانه أن يدرك أن هناك علة لكل ظاهرة؛ فهل يمكن أن تكون للظواهر كلها علة واحدة؟ ظهر هذا السؤال أمام الإنسان في وقت مبكر جداً وهذا هو القول الذي يقوله القرآن الكريم. فالإنسان عندما يرى تغير الأشياء، وأنها تأتي وتروح بغير إرادتها، يشرع بالبحث عن عامل التغيير، وحينما يشرع في البحث عن عامل التغيير يتضح له أن جميع تلك العوامل هي نفسها مربوبة ومقهورة ومحكومة، فيكون من الطبيعي أن يخطر للإنسان فوراً هذا السؤال: هل هناك قوة تكون حاكمة فقط وغير محكومة؟»(1).

9/10 .أضواء على نظرية الفطرة:

النقطة الجوهرية الجديرة بالالتفات هنا أنّ جميع الرؤى المشار إليها آنفاً قد تورّطت في ارتكاب مغالطة الخلط بين المنطلقات والنتائج؛ فلو افترضنا أن الدافع والمنطلق الذي أدى ببعض الناس إلى الإيمان بالدين هو «الخوف»، أو «الجهل»، أو أي سب- آخر؛ فهل هذا يدل على سقم النتيجة؛ ألا وهي الإيمان بدين ما؟!

بعد الفراغ من تبيين الفرضيّات المختلفة في بحث نشأة الدين، واستعراض المناقشات الواردة عليها، يصل الدور الآن إلى تسليط بعض الضوء على النظرية القرآنية في هذا الصدد.

يقول العلامة المطهري (1399ه) في حديثه عن هذه النظرية:

إذا كانت نظرتنا إلى الدين تشمل ما يعرضه الأنبياء على الناس، فمنشأ الدين هنا يكون الوحي، ولكن هل لهذا الوحي الذي يقدّم لنا ما نطلق عليه اسم المعارف الدینیّة أو التربوية أو القانونية، وكذا الشرائع التي تضع أسس فكر الإنسان وعمله، هل لهذا الوحي جذور عميقة في داخل الإنسان؟

ص: 338


1- الفطرة ، مرتضى المطهري، نقله إلى العربية: جعفر صادق الخليلي ص 148-155 (بتصرف) . [م]

ربّ قائل يقول : إنّ الدين هو هذا الذي يرسله الله إلى الناس عن طريق ما يوحيه إلى رسله، وإنّ الإنسان ما كان ليعنى بالدين لولا ذلك، إذ إنّ الإنسان مثل الحائط أو الورق الأبيض، نسبةً إلى الخطوط التي ترسم عليه، ولا يهمها إن رسم عليها شيء أم لم ،يرسم، فكلاهما عند الورقة سيّان، وسواء رسمت عليها آية قرآنية أم نقيضها. وهكذا يمكن أن يقال: إن الإنسان من حيث طبيعته لا يبالي بالدين، إنما أرسل الله الرسل يعلمون الدين للإنسان، وإنّ الذي يقول هذا القول لا يكون منكراً للأديان.

وعلى الضفّة الأخرى، هناك نظرية مختلفة تقول : إنّ ما يعرضه الأنبياء لا يمكن أن تكون نظرة الإنسان إليه نظرة لامبالاة، بل هو مما يريده الإنسان ويبحث عنه بطبيعته، وفي أعماقه وفي هذه الحالة، يغدو عمل الأنبياء عمل المزارع الذي يرعى الزهور والنباتات والأشجار؛ أي إنّ في هذه الشجرة أو الزهرة استعداداً لشيء ما، أو رغبة في شيء معين. إنّ زرع نوى التمر أو المشمش لا يعني أن هذا النوى لا يبالي إن نبتت نخيلاً أو أشجار مشمش، وإن المزارع هو الذي عليه أن يجعل هذه النواة تنبت نخلة، وتلك تنبت شجرة مشمش، وبالعكس. كلا؛ ففي الإنسان فطرة، وإنّ ما أتى به الأنبياء كان استجابةً لنداء هذه الفطرة، وللرغبة الكامنة في أعماق الإنسان في الحقيقة إنّ ما يبحث عنه الإنسان بفطرته، ويسعى إليه، جاء به الأنبياء إليه»(1).

والمفردة «فطرة» مصدر نوعيّ على وزن فعلة»، يدلّ على نوع خلقة الإنسان؛ فإن خلق الإنسان قد حدث على نحو تعبّأ فيه باطنه وضميره بمجموعة من الرؤى والتمايلات بصورة إلهيّة غير اكتسابية ؛ فروح الإنسان ليست بصفحة بيضاء فارغة تملؤها التجارب تدريجياً؛ كما ذهب جون لوك (1704م) ، أو ديفيد هيوم (1776م)، بل إنّ بعضاً من أفكار الإنسان وتمايلاته حاضرة في أعماق بني البشر على نحو عام؛ وإن اختلفوا في ذلك من جهة الشدّة والضعف. كما أنها ليست اكتسابية. أما البعض

ص: 339


1- الفطرة ، مرتضى المطهري، نقله إلى العربية: جعفر صادق الخليلي ص 148-155 (بتصرف) . [م]

الآخر منها فهي الرؤى والمناهج والسلوكيات الاكتسابية؛ وإن كانت هذه المجالات أيضاً جزء لا يتجزأ من فطرة الإنسان وجبلّته.

وعلى أساس من ذلك، لا ينبغي أن نفسّر الفطرة الإنسانية بالأمور غير الاكتسابية وحسب، بل إنها تشمل شتى المجالات الأنطولوجية الإنسانية كذلك.

وقد صرّحت الأحاديث الشريفة المرويّة عن الأئمّة (علیهم السّلام) في ما يخص الفطرة بفطرة الحس، وفطرة الخيال، وفطرة العقل، أو فطرة الإذعان بولاية أمير المؤمنين (علیه السّلام) مع أن غالبية هذه الأمور اكتسابيّة.

وفيما يلي نشير إلى ما تناولته المعارف الإسلاميّة في بحث الفطرة:

ما من شكّ في أنّ الإسلام استعرض قضية الفطرة بنحو تفصيلي ومبسوط، ولا يوجد بين علماء المذاهب الإسلامیّة من الفريقين أي اختلاف في هذا الصدد.

ويمكن تنويع الآيات القرآنية التي تطرّقت لموضوع الفطرة إلى ما يلي:

*الطائفة الأولى: الآيات التي عدّت الرسالة النبوية «ذكرى»؛ مثل قوله تعالى: (إِنَّما أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَیطِرٍ)(1) .

*الطائفة الثانية : الآيات التي أشارت إلى موضوع العهد والميثاق؛ مثل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) (2).

*الطائفة الثالثة: الآيات التي أشارت إلى نزوع الإنسان إلى الله عَزَّ وَجَل عند تعرّضه للأخطار والمخاوف مثل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ )(3).

ص: 340


1- سورة الغاشية: 21-22 .
2- سورة يس: 60.
3- سورة العنكبوت: 65 .

*الطائفة الرابعة : الآيات التي أخبرت عن فطرية الدين بشكل صريح أكثر ؛ مثل قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيْمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (1).

*الطائفة الخامسة : الآيات التي عدّت هداية الناس أمراً فطرياً؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَهْمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ (2) .

*الطائفة السادسة : الآيات التي أشارت لعالم الذرّ والعهد الإلهيّ؛ مثل قوله :تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾(3).

وقد دلّت أحاديث شريفة عديدة على فطرية الدين؛ منها على سبيل المثال: الحديث الشهير المروي عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»(4) ، وقد روى هذا الحديث من العامة البخاري في صحيحه، ومن الخاصة الكليني في الكافي(5).

ص: 341


1- سورة الروم: 30 .
2- سورة الشمس: 7-8 .
3- سورة الأعراف: 172-173 .
4- صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب 80 وباب 93 .
5- الفطرة [النسخة الفارسية]، مرتضى المطهّري، ص 600-606؛ مفاهيم القرآن [النسخة الفارسية]: منشور جاويد جعفر السبحاني، ج 1؛ نفحات القرآن [النسخة الفارسيّة پیام ،قرآن مكارم الشيرازي، ج2.

11 .الإيمان الديني

1/11. تمهيد:

يُعدّ مفهوم «الإيمان»، ومفهوم «الأمل»، أو مفهوم «الحبّ»، ومثيلاتها من أكثر المقولات الإنسانية أصالة، وهي من المعاني التي تُضفي على حياة الإنسان حلاوة ورونقاً. موضوع «الإيمان» في جوهره يرتبط بمجال دراسة الدين ومجال توظيفه واستخداماته أو مقامه ومنزلته في الأدب والتعاليم الدینیّة غير خافٍ على أحد. وقد أدّت إلى انطلاقة البحث عن الإيمان) ودراسته بعض التطوّرات والتقلبات السياسية والاجتماعية بعد حرب صفين، لا سيّما من ناحية «الخوارج» - وهي فرقة اشترطت في الإيمان الطاعة العملية الله جلّ وعلا - ومن ناحية المرجئة» - وهي فرقة اقتصرت في الإيمان على معرفة الله سبحانه - فقد تسبّبت هذه الأحداث في إحداث استفهامات عديدة عن حقيقة «الإيمان»، وما يرتبط به طرحت على أئمة الدين، وقدمت لها ردود وإجابات(1).

والإيمان - لغةً - مصدر باب الإفعال من «الأمن»، يُقال : آمَنَ يُؤْمِنُ إِيمَاناً؛ وهو قد يعني: «التأمين»(2) (ضد التخويف)، أو «التصديق»(3) (ضد التكذيب).

ص: 342


1- راجع بحار الأنوار العلامة المجلسي ، ج ،66، باب 30 شرح المقاصد التفتازاني، ج 5، ص 183.
2- أي إعطاء الأمان، يقول ابن منظور : فأما آمنته (المتعدّي) فهو ضدّ أخفته. وفي التنزيل العزيز: آمنهم من خوف لاحظ لسان العرب 13 21 [م]
3- یُقال: آمنتُ بكذا، أي صدقتُ به. قال الخليل والايمان: التصديق نفسه، وقوله تعالى: (وَما أَنْتَ بُمُؤْمِنٍ لَنا بمصدق لنا. وقال ابن منظور: يُقال آمن به قوم وكذَّب به قوم لاحظ ترتيب العين 56 لسان العرب: 13: 21. فالمقرون بالباء أو اللام يأتي بمعنى: «التصديق»؛ كقوله سبحانه:« آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيهِ مِنْ رَبِّهِ ) سورة البقرة: 285، وقوله عزّ من قائل: (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) سورة يوسف: 17. [م]

والإيمان في القرآن الكريم بمعنى : فعل الإيمان، أو معناه المضموني، وقد يُستخدم في كلا المعنيين (1).

وقد أبدى المتكلمون والحكماء المسلمون في أبحاثهم آراء متنوّعة حول حقيقة «الإيمان)) ، وأركانه وشروطه؛ فهل الإيمان إقرار باللسان؟ أو تصديق بالقلب؟ أو هو العمل الصالح؟ أو مزيج من كلّ هذه الأمور؟

ذهب المتكلمون من الإمامية إلى أنّ الإيمان تصديق قلبي بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وبرسالته.

عليه فإنّ الإقرار اللساني والعمل الجوارحي ليس ركناً في الإيمان، ولا شرطاً فيه(2) .

وعلى الرغم من أن الشيخ المفيد (413ه) عرّف الإيمان بأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح(3) ، لكن نصير الدين الطوسي (672ه) فسره تارةً بالتصديق القلبي، وتارةً بتفسير مركّب من التصديق القلبي والإقرار اللساني(4).

وقد استبعد الخوراج جميع العصاة من دائرة «المؤمنين»، وعدوهم في زمرة «الكفار»؛ ولهذا اشترطوا «العمل الصالح» كركن من أركان الإيمان(5).

ولم تختلف الأشاعرة - أكبر الفرق العقائدية عند أهل السنة - في الأعمّ الأغلب

ص: 343


1- لاحظ دائرة معارف التشيع (بالفارسية)، ج2 ، مدخل الإيمان»؛ مقال «الإيمان في الموروث الإسلامي»، لوي ،غاردییه ترجمه إلى الفارسية كامران فاني مجلة ،كيان العدد 52، ص 18 .
2- لاحظ: تصحيح الاعتقاد الشيخ المفيد الأعمال الكاملة، ج 5، ص 119 ؛الذخيرة في علم الكلام السيد المرتضى، ص 536؛ الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد الشيخ الطوسي، ص 227 .
3- قال سديد الدين الحمّصي: «وشيخنا السعيد المفيد رضي الله عنه، ذهب إلى أنّ الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان والعمل بالجوارح» المنقذ من التقليد، الحمصي، ج2، ص 163.
4- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلامة الحلّي؛ كشف الفوائد في شرح القواعد، العلامة الحلّي، ص 93.
5- الفرق بين الفرق، عبد القاهر البغدادي، ص 42 .(الترجمة الفارسية).

حول هذا الموضوع مع ما ذهبت إليه الإمامية، لكنّ أبا الحسن الأشعري (324ه) - مؤسس هذا المذهب - قدّم تفسيرين للإيمان أحدهما: التصديق القلبي، والآخر الإقرار القولي والعمليّ (1).

أما المرجئة فهي على طرف النقيض من الخوارج؛ فقد عدّوا العمل في مرتبة متأخرة عن الإيمان، وفسّروا الإيمان بالمعرفة (2) .

وكان أبو حنيفة (150ه) قد فسّر الإيمان بالمعرفة الإلهية والتصديق القلبي، والإقرار اللساني(3).

أمّا المعتزلة فقد شدّدت في نظرتها للإيمان على العمل الجوارحي إلى جانب التصديق القلبي (4).

وقد ورد في الحديث الشريف المروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام) : «الإيمَانُ تَصدِيقٌ بِالجَنَانِ وَإقرَارُ بِاللَّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالأَركَانِ، وَهُوَ عَمَلٌ كُلُّهُ »(5).

وقد استدلّ نصير الدين الطوسي (672ه) في «تجريد الاعتقاد» على عدم كفاية التصديق القلبي من دون الإقرار اللساني بقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوَّا) (6)، وقوله: ﴿فَلَماً جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ )(7) ، كما استدلّ على أنّ الإقرار اللساني من دون التصديق القلبي غير كافٍ

ص: 344


1- مقالات الإسلاميين، عبد القاهر البغدادي، ص 297 الإبانة عن أصول الديانة الأشعري، ص 39؛ أصول الدين، عبد القاهر البغدادي، ص 250-280 .
2- الملل والنحل الشهرستاني، ج 1، ص 125.
3- شرح المقاصد التفتازاني، ج 5، ص 178.
4- شرح الأصول الخمسة، عبد الجبار المعتزلي ص 701689؛ ضحى الإسلام، أحمد أمين، ج 3، ص 64.
5- بحار الأنوار المجلسي، ج 66، ص 74.
6- سورة النمل: 14 .
7- سورة البقرة: 89.

أيضاً بقوله تعالى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا)(1).

أما الكرامية فقد ذهبت إلى أن حقيقة الإيمان هي الإقرار اللساني بحقانية أصول الدين، ولا دخل للتصديق القلبيّ أو العمل الصالح فيه (2).

وقد ميّزت الاسماعيلية بين الإيمان الظاهري والباطني فاكتفت في الظاهري بالإقرار اللساني، وعدّت التجربة العقلية أو القلبية عنصراً ضرورياً في الإيمان الباطني والحقيقي(3).

ويرى العرفاء المسلمون أنّ الإيمان أمر اختياري؛ لأنّ الله جَلَّ وَعَلا أمر به، وأقام لذلك الحجّة التامة البالغة على خلقه، ويظهر من بعض التعابير أن الإيمان حقيقة قلبية، فلعل قوماً بلغوا في إيمانهم مراتب معرفيّة معيّنة، وأظهرت لهم المعجزات حقائق دينية عديدة، لكنّهم لا يعترفون بما أيقنت به قلوبهم ظلماً وعدواناً وحسداً من عند أنفسهم، فتبقى قلوبهم كدرةً مدلهمّة لا يسطع فيها نور الإيمان.

وقد قسّم العرفاء الإيمان إلى إيمان ،عملي، وإيمان عيني، وعدّوا الإيمان العيني من ثمار التجلّي الشهودي، كما أنهم عدّوا الإيمان والعقل رفيقين حميمين للسالكين على الطريقة، مذعنين بأنّ الإنسان الفاقد للإيمان بالشرائع لا يمكن له أن ينعتق ويتخلّص من العيش في الأوهام، والتخبّط في ظلماتها(4).

وعلى الضفّة الأخرى، ساهم الفلاسفة واللاهوتيون المسيحيون والغربيون في الإدلاء بآرائهم في البحث عن «الإيمان»؛ فعرّف توماس أكويناس (1274م) الإيمان بأنه «تصديق يعتنقه المؤمن بعد وقوفه على شواهد ناقصة على أساس من إرادته واختياره، وهو يتعلق بالأمور الغيبية.

ص: 345


1- سورة الحجرات: 14 .
2- دائرة معارف التشيع، مصدر سابق، مدخل «الإيمان».
3- مقال «الإيمان في الموروث الإسلامي»، مصدر سابق، ص 19.
4- انظر: شرح فصوص الحكم، الفص اللوطي، تاج الدين الخوارزمي ص 461، 464، 670 ، 723.

وقد أورد مفردة «الشواهد الناقصة» احترازاً من أن يظهر عنصر الإيمان بمظهر فاقد للدليل ومضاد للعقل. ولكنه لا يتجاوز مرتبة «العلم» ودرجة «اليقين»، ولا يتعلق بالمشهودات(1). واللافت للنظر هنا أن أكويناس - وبالرغم من رؤيته هذه عن الإيمان - يتوغل في سرده للأدلة والبراهين الخمسة لإثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وهي: البراهين الوجودية (2)، والكونية (3)، وبرهان إتقان الصنع (4)، والإجماع العام(5) ودرجات الكمال(6).

وعلى صعيد آخر، يُفسّر مؤسّس النهضة الإصلاحية للكنيسة مارتن لوثر (1546م) الإيمان ب-«الثقة بالله»(7). ويذهب شلايرماخر (1834م) إلى أنه شعور بالتعلّق والارتباط(8).

ویری بول تیلیخ(9) (1965م أنّ الإيمان هو : حالة الانشغال المطلق»، أو الاهتمام الأسمى(10) بالغاية القصوى مسنداً حيوية الإيمان ونضارته بحيوية هذا النمط مما أسماه بالانشغال المطلق، أو الاهتمام الأسمى(11).

وحول العلاقة بين الإيمان والتعقل ذهب كيركغارد (12) (1855م) إلى أنها ضدان

ص: 346


1- نظرية الإيمان في رحاب القرآن الكريم وعلم الكلام ص25 .
2- [م] . Ontological arguments
3- [م] . Cosmological arguments
4- [م] . from intelligent design :أو ، argument from design
5- [م] .Common consent arguments
6- [م] .Degrees of perfection arguments
7- نظرية الإيمان في رحاب القرآن الكريم وعلم الكلام، ص 28 .
8- المصدر السابق ص 30.
9- [م] . Paul Tillich
10- [م] . Ultimate Concern
11- حيوية الإيمان، بول تيليخ، ص 16 (النسخة المترجمة إلى الفارسية).
12- [م] .Soren Kierkegaard

بنحو تام، ورأى فيتغنشتاين (1951م) أنهما موضوعان أجنبيان عن بعضهما، ولا تربط بينهما رابطة، في حين أن أكويناس (1274م) قد أقر - من ذي قبل - بوجود الصلة بينهما .

وهنا، يمكن لنا أن نشير إلى وجود ثلاث نظريات غربية حيال «الإيمان)؛ هي :

*أوّلاً: النظرية التي انتهت إلى أنّ الله شيء اختلقه الإنسان، وأنّ الدين أمر عديم الفائدة؛ وهي رؤية الملحدين.

* ثانياً : النظرية التي آمنت باختلاق الإنسان للإله، لكنّها لم تذهب إلى عبثية الدين، بل أقرّت بفائدته ؛ وهي الرؤية التي تبنّاها اللاهوتي الأوروبي المعاصر دون كوبيت(1) (مواليد 1934م) الذي عرّف الإيمان وفقاً لرؤيته هذه بأنه التزام ابتكاري واختياري بالقيم الروحية، وبنمط معيّن في الحياة، وأن يتفطن إلى أنّ هذه الرؤية تحمل من العناصر ما يكفي لإبطال ذاتها، وهدم مرتكزاتها.

*ثالثاً: النظرية التي أذعنت بأنّ الله عَزَّ وَجَلَّ هو خالق الإنسان، وأن أعظم الواجبات الملقاة على عاتق هذا الإنسان هو حمد الله وتسبيحه؛ وهذا هو مذهب المتدينين الواقعيين(2).

2/11. الإيمان في القرآن الكريم :

استخدم القرآن الكريم مفردة «الإيمان» تارةً في ما يقابل «النفاق»، وتارةً أخرى في مقابل «الفسق»، ولا تعدّ الآيات القرآنية الإقرار اللساني والقولي المحض أمراً يعبر عن حقيقة الإيمان(3). ولا يصح حسب الاستعمالات القرآنية تفسير الإيمان بالعمل

ص: 347


1- [م] .Don Cupitt
2- مقالة عكس تيّار الإيمان اللاواقعي (النسخة المترجمة للفارسيّة)، ستيفين ديفيس، مجلّة كيان، العدد 52، ص 45.
3- ورد في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم يُمِؤْمِنِين ) سورة البقرة: 8، وقوله - تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) سورة العنكبوت: 3- 2

الصالح نظراً إلى عطفه على الإيمان، أو بالنظر إلى البشارة القرآنية للمؤمنين ومن يعمل عملاً صالحاً (1)؛ فإنّ تعريف الإيمان بالعمل الصالح سوف يستلزم التكرار غير المبرر في هذه الآيات المباركات .

ويُستفاد من آيات قرآنية عديدة أنّ حقيقة الإيمان أمر قلبي وليس بالقولي، أو الفعليّ (2) . وأنه نور يهدي به الله عباده (3)، وعطيّة إلهيّة تفضي إلى البركة، وتمنح الإنسان حالة من التضرع إلى الله تَبَارَكَ وَتَعَالى (4).

هذا، ويمكن عدّ بعض مواصفات الإيمان حسب الرؤية القرآنية على النحو التالي:

* أوّلاً: أنّ الإيمان أمر اختياري للأسباب التالية: أحدها: الأمر بالإيمان، والنهي عن الكفر(5). وثانيها : ذمّ الكفّار ووعيدهم بالعذاب الأخروي. وثالثها: نفي الإكراه في الدين والإيمان(6). ورابعها حسرة الكفّار (7).

*ثانياً : أنه قابل للمعرفة، وأن المعرفة شرط الإيمان(8).

* ثالثاً : أنه قابل لتعلّق اليقين به (9)، وذمّ اتخاذ الظنّ واتباعه (10). وقد شدّد المتكلّمون المسلمون في تفسيرهم للإيمان على كونه تصديقاً قلبياً، وأنه تصديق ويقين جازم(11).

ص: 348


1- راجع قوله تعالى في المواضع التالية سورة الإسراء: 9 البقرة: 25 ،62 ، النساء: 126 يونس: 9، القصص: 67، التغابن: 9 طه: 82 ؛ مریم :60 .
2- قال تعالى: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحِ مِّنْهُ﴾ سورة المجادلة: 22.
3- سورة الشورى: 52 .
4- سورة المائدة: 83 .
5- سورة البقرة: 41، 86، 186 .
6- سورة البقرة: 256 .
7- سورة الزمر: 55-56 .
8- سورة الروم: 29 .سورة الحجرات: 15 .
9- سورة سبأ :21 ؛ التوبة: 45 ؛ الحجرات: 15 .
10- سورة يونس : 36 سورة الأنعام: 116 .
11- لاحظ: حقائق الإيمان، زين الدين العاملي، ص 59-56 .

وبطبيعة الحال، فليس الأمر منحصراً باليقين المعرفي، بل بما يشمل اليقين التصديقي المقترن بالخضوع والإذعان القلبي(1).

*رابعاً: عدم ركنيّة «العمل» بالنسبة إلى الإيمان»، على الرغم من كونه لازماً وضرورياً(2).

وأمّا فيما يخص الفوائد والآثار المترتبة على الإيمان فالآيات القرآنية كثيرة في ذلك؛ منها - على سبيل المثال - ما يشير إلى الفلاح(3)، والتقوى(4) ، والاستقرار الروحي (5)، والبركات الدنيوية (6)، والعمل الصالح (7) ، والمعرفة الباطنية (8) ، والحبّ المتعاظم الله جَل وَعَلا (9)، والطمأنينة والتوكل على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى (10)، والهداية القلبية(11)، وزوال الخوف والهلع والحزن (12) والثبات والصمود لدى المؤمن (13)، والأمن والسكينة(14).

وغيرها من الآيات والأحاديث العديدة الواردة في أنّ الإيمان له درجات ومراتب (15).

ص: 349


1- المصدر السابق ص 77-78 .
2- سورة النساء : 124 السجدة: 18-20، المجادلة: 22.
3- سورة الصف: 10-11 .
4- سورة التوبة: 10.
5- سورة يونس: 62-63 .
6- سورة الأعراف: 95 .
7- سورة الكهف: 11.
8- سورة الأنفال: 29 .
9- سورة البقرة: 165 .
10- سورة الأنفال: 2.
11- سورة التغابن: 11 .
12- سورة الجن: 13.
13- سورة إبراهيم: 27.
14- سورة الفتح: 4.
15- سورة آل عمران: 173 الأنفال :2 ؛ التوبة: 124 ؛ الأحزاب :22 ، الفتح: 4 المدثر: 31 .

وقد ورد في «أصول الكافي» ما يدل على أنّ الإيمان ينطوي على سبع درجات، أو سبع أسهم(1).

والسؤال المهمّ المطروح هنا : إذا ذهبنا إلى أنّ الإيمان تصديق قلبي، أو إقرار لسانيّ، أو أمر مركب منهما معاً ، فهل يمكن لنا أن نعترف بقابلية الإيمان للزيادة والنقصان؟ أم لا يمكن الحديث عن مراتب الإيمان إلا إذا فسرناه بما يجعله من جنس السلوك والعمل الصالح؟ ذهب بعض المؤلّفين إلى الاتجاه الثاني، رغم إمكانية القول بأنّ التصديق القلبي ذو مراتب(2). ومهما يكن من أمر، فإنّ جميع المتکلّمین أقروا بأنّ الإيمان قابل للزيادة والنقصان (3).

والأمر الآخر الذي تجدر الإشارة إليه هنا أنّ متعلّق الإيمان في القرآن الكريم يمكن له أن يكون أمراً حقاً، كما يمكن له أن يكون أمراً باطلاً . يقول تعالى :

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِل وَكَفَرُوا بالله أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ)(4) .

وقد ذهب المتكلّمون في الأعم الأغلب إلى أنّ ما يسمّى ب«ضروريات الدين»، أو «أصول الدين الخمسة» - وهي: التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد هي متعلّق الإيمان(5).

3/11 .العوامل والموانع في الإيمان الديني :

1/3/11 .عوامل الإيمان الديني:

يُعدّ البحث عن العوامل المؤدّية للإيمان الديني والموانع التي تعترض طريقه أهمّ الأبحاث الكلامية التي لم تحظَ بالاهتمام الواسع عند الباحثين. وفيما يلي، سنحاول تسليط بعض الضوء على هذا الموضوع.

ص: 350


1- روى الكليني عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال: «إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَ الْإِيمَانَ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُم؛ عَلَى الْبِرِّ وَالصِّدْقِ، والْيَقِينِ، والرِّضَا، والْوَفَاءِ والْعِلْمِ والحِلْمِ». الكافي، الكليني، ج 2، ص 42.
2- لاحظ: دائرة معارف التشيع، مصدر سابق.
3- لاحظ: حق اليقين السيّد عبدالله شبر، ص 546 .
4- سورة العنكبوت: 52 .
5- حق اليقين، مصدر سابق، ص 559.

عوامل الإيمان الديني:

يتحقق الإيمان الديني ويشتدّ وثاقه بفعل مجموعة من العوامل التي سنلمح فيما يلي إلى أبرزها:

1 . العوامل المؤثرة في تدعيم التدين الفطري: يشهد التاريخ البشري بفطرية التدين والإيمان الديني عند الإنسان، ولعلّ السبب الذي يقف وراء هذا الالتزام الديني المستمرّ وجود الشعور العبادي والنزوع نحو الدين باعتباره أحد ألوان الحواس الباطنية، إلى جانب مثيلاته الأخرى؛ كحب الاستطلاع وكشف الحقيقة، أو النزوع نحو الجمال، وما إلى ذلك. ومن أهم العوامل المؤثرة في تدعيم هذا اللون من التدين: «اليقظة»، أو قل : حالة «الذكر» ؛ أي: ما يقابل حالة «الذهول»، أو «الغفلة»؛ فإنّ الأحداث والوقائع الجارية في حياة الإنسان بما يشمل ما يواجهه من نعمة أو نقمة، ومن خير أو شرّ، ومن لذة أو ألم، ومن انتصارات أو إخفاقات، لها أهميتها البالغة عند أهل المعرفة؛ لما تحمله من إرشادات وتعاليم، فكم من ثري متمكّن أحفاه الدهر، وأجلسه على بساط الفقر، وكم من فقير مسكين اعتلا سلّم الثراء، وتربّع على عرشه بعد حين. وإنّ هذه الأحداث وعشرات الأمور الأخرى غيرها مثل المرض والهرم، والموت، وما شاكل ذلك، لكفيلة بقرع ناقوس الحذر والانتباه عند الإنسان، وإن عنصر اليقظة والذكر هذا هو من أبرز العوامل المؤثرة في تقوية الإيمان الديني وتدعيمه.

2 . المعرفة المبرهنة والمنطقية : يُسهم التديّن الناشئ من منطلقات فلسفية وعقلية في تقوية عُرى الإيمان الديني أيضاً؛ فما من شكٍّ في أنّ الإنسان الذي يمارس التعاطي مع أدلّة وبراهين عقليّة؛ مثل: برهان الوجوب والإمكان أو برهان الصدّيقين، أو برهان الوجود الفقري، وما شاكلها، يحصل - في نهاية المطاف - على ما يبتغيه من قناعة ويقين في سعيه لإثبات وجود الله، وعلى ما يوفّر له إيماناً دينياً قوياً متيناً.

ص: 351

3. العمل بالواجبات الشرعية والأخلاقية: رغم أن التطبيق العملي للواجبات والمندوبات الشرعية لا تدخل في نطاق حقيقة الإيمان وماهيته، لكنّها تؤدّي دوراً بالغ التأثير في تدعيم أسسه. وقد صرّح القرآن الكريم في آيات عديدة بدور العمل الصالح وتأثيره على الإيمان الديني. وقد أكّد أمير المؤمنين (علیه السّلام) في بعض كلماته على دور بعض الأعمال (مثل: التصدّق، أو الجهاد في سبيل الله في تحكيم عُرى الإيمان عند الإنسان. فقد روي عنه (علیه السّلام) أنه قال: «وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْناءَنا وَإِخْوانَنا وَأَعْمامَنا، ما يَزيدُنا ذلِكَ إلا إيماناً وَتَسلياً»(1)، ورُوي عنه أيضاً أنه قال: «سُوسُوا إيمَانَكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَحَصَّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَادْفَعُوا أَمْوَاجَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ»(2)، ورُوي عنه كذلك: «الإيمانُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ : عَلَى الصَّبْرِ، وَالْيَقِينِ، وَالْعَدْلِ، وَالْجِهَادِ» (3)، وروي عنه أيضاً: «سَبِيلٌ أَبْلَجُ المَنْهَاج، أنوَرُ السِّرَاج، فَبِالإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ، وَبِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الإِيمَانِ» (4)، ورُوي عنه في نهج البلاغة أَيضاً: «وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - : لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْد حَتَّى يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ » (5)، وقال أيضاً: «وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبِرْ، فَإِنَّ الصَّبَرُ، مِنَ الإِيمَانِ كَالرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ، وَلاَ خَيْرَ فِي جَسَد لاَ رَأْسَ مَعَهُ، وَلَا فِي إِيمَان لَا صَبْرَ مَعَهُ»(6).

4 . البيئة والثقافة الدینیّة الملائمة : يجب على المؤمنين أن يسعوا في بناء بيئة دينية ملائمة لأنفسهم وأهليهم، وأن يبتعدوا ما استطاعوا عن الثقافات العلمانية والمضادّة للدين، وعن الأصدقاء والندماء الفاقدين للإيمان؛ حذراً من الآثار السلبية المترتبة على ذلك.

ص: 352


1- نهج البلاغة الخطبة: 56 .
2- المصدر السابق، الكلمة: 146 .
3- المصدر السابق، الكلمة: 31 .
4- المصدر السابق، الخطبة: 156 .
5- المصدر السابق، الخطبة: 176 .
6- المصدر السابق، الكلمة: 83 .
2/3/11 .موانع الإيمان الديني:

تتسبب بعض العناصر والعوامل في قطع الطريق على الدين، وتتحوّل - في نهاية المطاف - إلى حجر عثرة أمام الإنسان في حركته نحو الإيمان والتدين، وهذا ما يدعوه لاجتنابها والاحتراز منها. من بين تلك الموانع : الشكّ المزاجي، والشك الاستدلالي أو الاستفهاميّ، وكذا النزوع إلى النسبية، والضعف أمام المعاصي والذنوب.

وعلى سبيل المثال : قد يؤدّي سلوك منافٍ للأخلاق يصدر من عالم ديني إلى حدوث شكّ مزاجي عند المتدينين، أو قد يُفضي التصادم والتعارض الظاهري المزعوم بين العلم والدين، أو البرهنة الشكليّة المزعومة على إنكار وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى حدوث شك استدلالي، وقد تنتهي بعض الأحداث المرّة والأليمة أو الويلات التي تجرّها الحوادث الطبيعية وما يستتبعها من شرور إلى الشكّ الاستفهامي عند الإنسان.

وللخروج من هذه الدوّامات والمستنقعات: يجب على المؤمنين - بادئ ذي بدء - أن يُميزوا بين الأدعياء المتدثرين بجلباب العلم الديني، وبين الحقيقة الدینیّة الناصعة، وألا يسمحوا لأنفسهم بالانجرار النفسي بسبب ذلك إلى هاوية الشكّ الديني، ويجب عليهم ثانياً أن يضعوا الأدلّة والبراهين الشكليّة المزعومة والأسئلة الدینیّة التي تؤرقهم بين يدي العلماء الصالحين والأستاذة المختصين الكفوئين في هذا الشأن؛ للعثور على إجابات شافية وردود سريعة وصحيحة، وألا يتركوا تلك الاستفهامات لتتحوّل بمرور الزمن إلى شبهات خطيرة، تزعزع تدينهم، وأسس إيمانهم.

هذا، وإنّ النزوع نحو النسبية يُشكّل ظاهرةً سيئة تهدد إيمان الكثيرين من الناس، وتجرّهم في كثير من الأحيان نحو الانحراف، وفقدان معتقداتهم.

ولعلّ المنطلق الذي تنبع منه هذه الحالة هو ما يجده الناس من اختلاف في وجهات النظر بين علماء الدين؛ كما حصل - على سبيل المثال - مع بروتاغوراس (420 ق.م) في اليونان القديمة؛ حيث أخذت به الاختلافات الواقعة بين علماء زمانه لاعتناق

ص: 353

مذهب النسبية في كلّ شيء، ولم يقصر المعاصرون من أنصار ما بعد الحداثة في امتطاء هذا الدليل، والترويج للنسبية؛ دون الالتفات إلى أن وجود نقاط مشتركة يتفق عليها العلماء - على مختلف مذاهبهم ومشاربهم وعلومهم - دليل واضح على وجود معيار علمي في البين لا يسعنا إنكاره. ناهيك عن أنّ اختلافهم إنما هو اختلاف ممنهج ،وعلمي وليس الحال بأن يختلف فرد غير مختص مع عالم مختص، فيكون كلام الأوّل مسموعاً .

وبناءً على ذلك، فإنّ علماء الدين يمارسون دورهم في الإدلاء بآرائهم سواء في نقاط الاختلاف أو الاشتراك بنحو منهجيّ وعلمي، فلا يجوز بعد ذلك أن يستنتج أحدهم النسبية من هذا بأي نحو من الأنحاء.

ومن بين الموانع والعقبات التي تعترض طريق الإيمان الديني أن يقع الإنسان في شباك الذنوب والمعاصي، فهي حجاب عملي يحول دونه ودون الإيمان الديني، وكم من مؤمن أوقع به تقاعسه عن أداء الواجب الشرعي، وتوغله في ارتكاب المعاصي إلى مستنقع الكفر والإلحاد، أو إلى بؤرة من بؤر الضلال والانحراف.

ص: 354

12. التعددية الدینیّة

1/12. تمهید:

يلحظ أي زائر أو رحالة يزور بلدان جنوب شرق آسیا، لا سيّما بلاد الهند أدياناً ومذاهب وطقوس عديدة ومتلوّنة تعايش في ربوعها المسلمون بمحاذاة البوذيين والمسيحيون بجوار البرهمائيين واليهود إلى جانب الهندوس. كما يلحظ أيضاً أن وفرة المعتقدات والطقوس تفوق عدد الألوان واللغات بشكل أكبر، فيتساءل شعوره الفطري الباحث مستفسراً عن بعض الأمور المرتبطة بذلك؛ ماذا عن حقانيتها أو بطلانها؟ أي منها ينتهي إلى السعادة، وأي منها إلى الشقاء؟ لأيّ منها الثواب، ولأيّ منها العقاب؟ وهل يمكن عدّ جميع تلك الأديان على باطل، والقول بأنّ جميع المؤمنين بها في نار جهنم؟

البحث عن «التعددية الدینیّة» يقع في هذا السياق. وبعبارة أخرى: بعد الفراغ من الحديث عن طبيعة الدين، وما يميّزه عن التجربة الدینیّة، واتضاح ذلك، وبعد أن انتهينا من بيان الضرورة العقلية لحاجة الإنسان إلى الدين وإثبات نظرية التوقعات المعتدلة من الدين، والمصير إلى أنّ الفطرة هي المنشأ والمنطلق في ميول الإنسان نحو الدين واستبانة حقيقة الإيمان والتديّن تصل النوبة في البحث إلى موضوع «تعدّد الأديان»، والتساؤل عن إمكانية القول بأنّ الأديان الموجودة في مجتمعاتنا حقةً بأسرها، وأن المؤمنين بها ناجون جميعاً، أو لا؟

ص: 355

2/12 .مناحي البحث في تعدّد الأديان :

يتمحور السؤال الأساسي فيما يخص تعدّد الأديان حول زاوية الرؤية التي يجب أن تُتخذ في البحث عن تكثر الأديان ووفرتها، وما هي النظرة التي يجب أن تسود بين أتباع هذه الأديان فيما بينهم؟ يمكن تبيين هذه الرؤية ضمن ثلاث زوايا رئيسية تدرس الجانب المعرفي والكلامي والحقوقي الأخلاقي:

1 . السؤال المعرفي (الإبستمولوجي): وهو استفهام يحوم حول حقانية الأديان الكثيرة، أو بطلانها في واقع الأمر، ويتولّى الإجابة على السؤال القائل: هل إن جميع الأديان الحاضرة في الساحة حقة ؟ أم أنّها تمثل مزيجاً من الحق والباطل؟ أم أنها باطلة برمتها؟ والبحث في هذا السؤال منصبّ على الصدق المنطقي والمعرفي، وهو ما يعني أنه ناظر إلى «التطابق مع الواقع»؛ لا الصدق الأخلاقي، فمن الطبيعي أن كل ذي دين یری أنّ دينه هو الحق، فكلّ الأديان عند أتباعها تتحلّى بالصدق الأخلاقي، كما أنّ المقصود من حقانية الأديان الإلهيّة في هذا البحث ليست الأديان في طول بعضها؛ فمن الواضح أنّ كلّ دين إلهي سماوي هو دين حق في زمنه، ولا شبهة في ذلك.

2 .السؤال الكلامي الأخروي : يتناول هذا الاستفهام المآل الأخروي الذي سوف يؤول إليه أمر أتباع الأديان المتعدّدة، والإجابة على السؤال القائل: هل إنّ جميع المؤمنين بهذه الأديان السماوية (الإلهية) والأرضيّة (البشرية) هم من أهل الفلاح والنجاة؟ أم من الممكن أن يكون بعضهم من أصحاب النار وعذاب جهنّم؟

3 . السؤال الحقوقي الأخلاقي: يتمحور هذا الاستفهام حول حقوق المؤمنين بالأديان، ويتناول نوعية السلوك الذي يجب على أتباع الأديان المتعددة أن يمارسوه نسبةً إلى بعضهم البعض، وهل هناك حقوق يتحلّى بها أتباع الأديان الأخرى يتوجّب عليهم مراعاتها، أم لا؟ وهل يتحتم عليهم أن يكونوا من أهل التسامح والتساهل مع الآخر، أم يجوز لهم أن يمارسوا العنف ضدّهم. وهل ينبغي الاعتراف بالآخر رسمياً، أم لا؟

ص: 356

ونذكر هنا بأنّ الأبحاث المرتبطة بمصطلح «التسامح»(1) وعلاقته ب«العنف»(2) تنتمي إلى السؤال الثالث، ولا يصح الخلط بين التسامح والتعددية الدینیّة كما صنع بعض الكتاب المعاصرين(3).

أما السؤالان السابقان المتعلّقان بالجانب المعرفي والأخروي، فينطويان على أربع إجابات مختلفة، والإجابات الأربع التي قدّمها فلاسفة الدين في هذا الصدد هي ما عُرفت ب: «التعدّديّة الدینیّة»(4) ، و«الانحصارية الدینیّة» (5)، و«الشمولية الدینیّة»(6)، و «الطبيعية الدینیّة»(7) .

ولأجل الإشارة إلى هذه الرؤى، وتمييز الجانب المعرفي عن الجانب الأخروي فيها، نميز بينهما بمصطلحي «الصدق»، و«النجاة»:

1 .مسلك الطبيعية الدینیّة: وهي رؤية تذهب إلى أنّ جميع الأديان والمعتقدات الدینیّة أمور باطلة وغير صحيحة. وقد شدّد أرباب هذه النزعة - مثل: فوير باخ، و ماركس، وفرويد، ودوركايم - على أن نظريات أهل الأديان حول الوجود الأسمى ليست إلا منتجاً صاغته يد الاسقاطات (8) المحضة التي يمارسها الإنسان.

2 مسلك الشمولية الدينيّة: وهي رؤية آمنت بحقانية دين واحد لكنّها حكمت بأنّ الأديان الأخرى لها حطّ من الحقانية بالقدر الذي تقترب به من الدين الحق.

ص: 357


1- [م] .Tolerance
2- [م] .Violence
3- لاحظ: الصراطات المستقيمة [النسخة الفارسية]، عبد الكريم سروش، ص 71.
4- Religion pluralism.
5- Religion exclusism.
6- Religion inclusivism.
7- Religion naturalism.
8- [م] .Projections

وبالتالي: فإنّ الأديان الأخرى لا تُحرم من النجاة بعد نزول الرحمة والبركة والمغفرة الإلهيّة عليها (1).

3 .مسلك التعدّديّة الدینیّة : وهي رؤية تنقسم إلى قسمين: أولاً: التعددية الدینیّة في الصدق؛ وهي تفتي بحقانية جميع الأديان الموجودة، وثانياً: التعددية الدینیّة في النجاة؛ وهي تحكم بأنّ جميع أتباع الأديان من أهل السعادة والنجاة.

4. مسلك الانحصارية الدینیّة: وهي رؤية تنقسم إلى القسمين المذكورين آنفاً؛ فالانحصارية في الصدق تعني أنها تُفتي بصدقيّة دين واحد له الحقانية الحصرية، وترى بطلان سائر الأديان الأخرى. أما الانحصارية في النجاة، فهي تحكم بسعادة أتباع الدين الحق ونجاتهم وحدهم؛ دون سائر المؤمنين بالأديان الأخرى، فهم - حسب هذه الرؤية - خارجون من دائرة الفلاح والنجاة.

وقد ربطت الانحصارية قضيّة النجاة والخلاص عند الإنسان بتقليد ديني خاص تنحصر فيه، وقد آمن أصحاب الاتجاه الانحصاري في رؤيتهم تجاه العقائد الدینیّة والأبحاث المرتبطة بالإيمان بأنّ النجاة منحصر في مذهب معيّن، وأنّ سائر الناس خارجه غير معنيين بذلك، وأنهم مستثنون من دائرة الفوز والفلاح. ولعلّ أبرز الخطابات حماسيّةً وأشدّها تأثيراً في الكشف عما يدور في أروقة الانحصارية هو المقولة التي عبّرت عن عقيدة كاثوليكية دوغماتية مفادها: «لا وجود للنجاة والفلاح خارج إطار الكنيسة». وإلى جانب ذلك، أطلقت الحركة التبشيرية البروتستانتية في القرن التاسع عشر مقولتها: «لا تُتصوّر أي نجاة خارج المسيحيّة»(2).

وتوضيح ذلك: أنّ الانحصارية ترتبط بمجالين؛ هما الصدق والنجاة. أمّا

ص: 358


1- Routledge, encyclopedia of philosophy, religious pluralism, genral editor: Edward Cralg, London and New York, 1998, Vol. 8.
2- مباحث التعدّدية الدینیّة [النسخة المترجمة للفارسية] جون هيك، ص 64-65.

الانحصارية في الصدق فهي الرؤية التي تذهب إلى أن تعاليم دين واحد فقط هي التعاليم الصادقة برمتها، وتعاليم جميع الأديان الأخرى غير صحيحة بنحو تام، هذا عند بروز أي لون من ألوان التعارض. وأمّا الانحصاريّة في النجاة فهي رؤية تذهب إلى أنّ ديناً واحداً هو الذي يعرض منهجاً مؤثراً في النجاة والخلاص(1).

وبعبارة أخرى: يرى الانحصاريون أنّ الفلاح والخلاص والكمال أو أي أمر يُعدّ هدفاً نهائيّاً ( غايةً) للدين لا يوجد إلا في دين معيّن ،واحد ، أو يمكن الحصول عليه من خلال دين معيّن واحد والدين الحق ينحصر في دين واحد، هو الدين الوحيد الذي يفتح آفاق الفلاح والخلاص أمامنا (2).

وبناءً على ما تقدّم فإنّ التعدّديّة الدینیّة لا تعني الاعتراف الرسمي بالأديان المتعدّدة (3)، بل هي قضيّة اجتماعية وحقوقية؛ فالتعددية الدینیّة أمر معرفي وكلامي، والتعدّديّة الدینیّة إلى جانب اتجاهين آخرين هما الشمولية والانحصارية ليست في معرض شرح الأسباب التي أدّت إلى كثرة الأديان وتعدّدها؛ لأنها عندئذ ستكون قضيّة أنطولوجيّة؛ بمعنى أنها ستتحدّت عن وجود التكثر والتعدّد في الأديان. وقد ظنّ بعض الكتاب المعاصرين أن بحث التعددية الدینیّة لا يصبو إلى تمييز الحق عن الباطل، ولا يدّعي حقانية جميع الأديان، وإنّما ينصب البحث على بيان الكثرة والتعدّد في الأديان؛ سواء كانت هذه الكثرة مشتملةً على حقائق، أو كانت مزيجاً من الحق والباطل(4). وهو تفسير غير تام للتعدّدية الدینیّة؛ فهي - كما نقلناها من لسان مؤسسها جون هيك (5) (2012م) - تدّعي حقانية جميع الأديان، وتسعى لإثبات الفلاح والنجاة الجميع أتباع الأديان بنحو عام.

ص: 359


1- Routledge, religious pluralism.
2- العقل والإيمان الديني، مايكل بطرسون وآخرون ص 402 [المصدر بالفارسية].
3- مقالة الصراطات المستقيمة (بالفارسية)، عبدالكريم سروش مجلّة كيان العدد 36، ص 9.
4- الصراطات المستقيمة، عبد الكريم ،سروش ص 72 91 [المصدر بالفارسية].
5- John Hick. [م]

3/12. حقيقة التعددية الدینیّة:

تمثل التعدّديّة الدينيّة أحد أبحاث فلسفة الدين والكلام الجديد، وهي - كغيرها من منتوجات المدارس الغربية - مفهوم مستورد من العالم الغربي.

ومصطلح «التعددية الدینیّة» - في لغته الأصلية (البلوراليزم) - مشتق من المفردة اللاتينية (plural) التي تعني الكثرة، وهو يدلّ على النزوع نحو الكثرة والتعدّد والزيادة الكمّيّة. والتعدّديّة الدینیّة بصفتها رؤية كلامية ومعرفية هي إجابة على استفهامات تخص الأسباب التي أدّت إلى التنوع والتكثر في الأديان والمذاهب المتعدّدة في عالمنا المعاصر. وإنّ كثرة الأديان وتنوّعها في وقتنا الراهن - بما يشمل الأديان الإلهية والبشرية، المحرّفة وغير المحرّفة - واقع لا يمكن إنكاره. وهي كثرة تتماثل مع الكثرة التي نجدها في اللغات والثقافات والأفكار والمذاقات في كونها غير قابلة للمحو والإزالة. ولهذا فإنّك لا تجد الأديان المتعددة في أي من الأزمنة الغابرة منزويةً بنحو كامل، بل كان كلّ منها يترك بصماته على الآخر حتى على مستوى الحياة الاجتماعية عند الإنسان.

ويشهد التاريخ أيضاً بوجوه شبه بين الأديان؛ حيث يتشابه أتباع الأديان المتعددة في طقوسهم ومناسكهم الدينيّة في العديد من معتقداتهم. وعلى الرغم من ذلك، فإن اختلافات مهمة تفصل بينها ؛ فالتوحيد عند المسلمين والثنوية عند الزرادشتية، والتثليث عند المسيحية، وتعاليم تعدد الآلهة عند الهندوس، ما هي إلا نماذج واضحة لمجموعة من الاختلافات والتمايزات القائمة بين هذه الأديان.

4/12 .خلفيات التعددية الدینیّة:

ما من شكّ في أنّ التنوع والتعدد في الأديان ليس بالأمر الجديد والحديث في المجتمعات البشرية، السؤال عن حقانية جميع الأديان أو بعضها كان مطروحاً على بساط البحث في الماضي أيضاً. والأمر المستحدث هنا هو محاولات فكرية قام بها

ص: 360

بعض فلاسفة الدين المعاصرين مثل : كانتويل سميث (1) (2000م)، وجون هيك (2012م) ، لإثبات حقانية الأديان المتعددة قاطبةً.

والمهم اللافت في الموضوع هو الانتباه إلى أنّ التعددية الدینیّة فكرة أولدها التاريخ المسيحي، تلك المسيحية التي يعجّ تاريخها بالثبات والصمود على موقف (الانحصاريّة» ! والسر الذي يكمن في اعتناق فكرة الانحصارية عند المسيحيين هو ما تعرّضت له المسيحية في أواخر عهد القديم من موجات التعذيب وهجمات الانتقاد، ناهيك عن التأثير الذي تركته الكلمات المنسوبة للسيد المسيح(علیه السّلام) التي توحي بمضامين داعمة لمزاعم الانحصاريّة؛ منها على سبيل المثال المقولة التي تنص على ما يلي: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الأب إلا بي»(2).

لقد ظهرت الانحصارية بصيغتها المتطرّفة في القرن الثالث الميلادي؛ حتى بات السواد الأعظم من أتباع الديانة المسيحية يؤمن بأنّ الخلاص والفلاح غير موجود خارج كنيستهم وقد أدّى هذا الفكر المتطرّف إلى اشتباكات وقعت بين المسيحيين الأوروبيين في القرون الوسطى من جهة، وأتباع الأديان غير التوحيدية وكذا اليهود والمسلمين - الذين كانوا يعيشون ذروة حضارتهم الإسلامیّة - في الجهة الأخرى. وقد أفضى هذا الفكر وما استتبعه من ممارسات إلى تضاؤل حجم التعاطي المتبادل بين المسيحيين والمسلمين واليهود وغيرهم.

وفي تلك الحقبة التاريخية لم يستفد من أمثال ابن ميمون (1204م)، أو ابن سينا (428ه) إلا شرذمة قليلون من مفكّري المسيحيين؛ مثل: توماس أكويناس (1274م).

وبعد أن استولى المسيحيون على السلطة في عصر التنوير الأوروبي، أو ما يسمّى

ص: 361


1- John Hick. [م]
2- إنجيل يوحنا 14: 6 .

بعصر النهضة، ساقتهم نزعاتهم الانحصارية المتطرفة إلى الميل نحو التمدّد الاستعماري، فانتشرت قوافل المبشرين المسيحيين في شتى أرجاء العالم، هادفين في الأساس إلى تغيير الأديان. وعلى الرغم من ذلك، اضطر بعض المسيحيين في القرن العشرين لنفض اليد عن الانحصارية، والنزوع إلى الشمولية أولاً، ثم التعددية من بعد ذلك.

وقد دخلت قضية التعدّديّة الدينيّة دائرة الضوء بصفتها إجابة على التساؤل عن حقانية الأديان المتعددة أو بطلانها، وذلك من خلال تناولها في الصحافة من قبل بعض التنويريين المسلمين المعاصرين، تبعاً لأسلافهم من روّاد التنوير في الغرب. وقد طرق هذا الباب في إيران لأوّل مرّة في العدد الأوّل الصادر من فصلية «حوزه و دانشگاه» في مقال لم يُذكر اسم كاتبه يحمل عنوان كتاب في مقالة؛ حيث حاول الكاتب في مقاله هذا أن يُعرّف بكتاب رئيس قسم الدراسات الدینیّة في جامعة ستريلنغ البروفسور غلين ريتشاردز الموسوم ب- «نحو لاهوت ناظر إلى جميع الأديان»، ثم قامت مجلة «كيان» في عددها رقم 28 بنشر ندوة دافعت عن التعدد الدینیّة.

وقد قام كاتب هذه السطور بكتابة مقال يناقش تلك المقالة، وما تضمنته الندوة المشار إليها ، نُشر في فصلية «حوزه و دانشگاه» تحت عنوان «التعددية الدینیّة في رؤية خارجة عن النطاق الديني» .

وقد أدّى نشر مقالة «الصراطات المستقيمة» لكاتبها عبدالكريم سروش (مواليد 1945م) في العدد رقم 36 من مجلة «كيان» إلى لفت أنظار المهتمّين والقرّاء بنحو أكبر إلى هذه القضية، مما أدى إلى تبلور معسكرين مختلفين حيالها؛ أحدهما يوالي، والآخر يعارضها . ثم توالت بعد ذلك المقالات والمؤلفات الموافقة والمخالفة لها .

ص: 362

5/12. أدلّة التعددية الدینیّة:

1/5/12. أساس حوار الأديان:

تمسّك أنصار التعدّديّة الدينيّة في إثبات مزاعمهم بأدلة دينية داخلية، وأخرى خارجة عن الأطر الدینیّة وسنحاول هنا أن نستعرض الأدلة، ثم نحلّلها ونقيمها. وإليك فيما يلي مجموعة من الأدلة والأسس التي ابتنت عليها فكرة التعددية الدینیّة في مجالي الصدق والنجاة :

أساس حوار الأديان:

تشبّث البعض من أنصار التعدّديّة الدینیّة في استدلالهم على مزاعمهم بضرورة إيجاد حوار مفتوح بين الأديان؛ فالمجتمع البشري يزخر بعدد كبير من الأديان والمذاهب المتنوعة التي يجب أن تعيش مع بعضها بأمن وسلام، ولا يمكن الوصول إلى هذا المبتغى من دون حوار بين الأديان، شرطه انشراح الصدر ورحابته؛ لمزيد من التناغم والانسجام؛ بما يُفضي إلى رفض الانحصارية ومدّعياتها.

والحق أننا لا نشكّ في وجود ضرورة اجتماعيّة معاصرة مفادها حوار بين الأديان، تسوده رحابة الصدر ، وروح التناغم والانسجام، لكنّ هذا لا يدلّ على التعدّديّة الدینیّة، ولا حقانية جميع الأديان الموجودة على الساحة برمتها، ولا يؤدّي إلى إبطال الانحصاريّة الدینیّة أو إلى إثبات الإلهية العالمية؛ لأنّ هذا لو تم لانتقض أساس الحوار الديني، ولأصبح أمراً عبثياً(1).

2/5/12 أساس التمييز بين النومن والفنومن :

أساس التمييز بين النومن(2) والفنومن (3) :

يبتني أحد الأسس المعرفية للتعدّديّة الدینیّة على مرتكز مستورد من فلسفة

ص: 363


1- للاستزادة: الكلام الجديد عبدالحسین خسروبناه، ص 170-174 .[بالفارسية ]
2- [م] . Noumen
3- Phenomenon. [م]

كانط (1804م) ، ومفاده : التمييز بين النومن الواقع في نفسه)، والفنومن (الواقع الظاهر). وهو مرتكز ينتهي بمن يتبنّاه في نهاية المطاف إلى السقوط في أحضان الشكاكية والنسبية؛ فهو يقرّ بمبدأ وجود «الواقع في نفسه» رافضاً لوجد أي معيار، فيضع التعددية الدینیّة ونظرية المعرفة الكانطية في بوتقة الشكاكية، فلا يبقى عندئذٍ ما يميز بين الكفر والإيمان، أو الدين واللادينية، أو الإلحاد والتدين.

وعلى أساس من هذه الرؤية فإنّ التعددية الدینیّة والانحصارية والشمولية ليست إلا ثلاث ظهورات وتجليات لواقع واحد؛ فلا معنى للإصرار على حقانية التعدّديّة الدینیّة بعد ذلك !

أما التمثيل الذي ورد على لسان جلال الدين الرومي (672ه) المتعلّق بقصة الفيل في الغرفة المظلمة فهو لا يُسمن ولا يغني من جوع، كما أنه أجنبي عن بحث التعدّديّة الدینیّة من الأساس. لقد ذكر الشاعر في قصيدته قصة رهط من الناس اجتمعوا في الظلام الدامس حول فيل، فظنّ الذي لمس قدم الفيل أنه أمام عمود ضخم، وزعم الذي اقترب من الخرطوم أنه بجانب ميزاب تجري فيه المياه، وذهب الآخرون إلى مذاهب أخرى لا صلة لها بالفيل، فأطلق القوم تفسيرات متعددة ومتنوعة عن واقع واحد. وقد حاول جون هيك (2012م) أن يستفيد من هذه القصة لإثبات صحة التعدّديّة الدينيّة؛ في حين أنّ هذا التمثيل لا ارتباط له بحقانية الأديان؛ لأن التعدّديّة الدينيّة تدل على حقّانيّة جميع الأديان، وتطابقها مع الواقع، في حين أن هؤلاء القوم لم يبلغوا واقع الفيل كما هو ؛ بل ذهب الجميع إلى خلاف ذلك!

3/5/12. أساس الهرمنيوطيقيا الفلسفية :

أساس الهرمنيوطيقيا (1) الفلسفية :

يعتمد أحد الاستدلالات التي لجأ إليها أنصار التعددية الدینیّة على نظرية الهرمنيوطيقيا الفلسفية، وما يكتنف النصوص الدینیّة من حالة صامتة، علاوةً على

ص: 364


1- [م] .Hermeneutics

ما تتركه الافتراضات المسبقة والتوقعات التي يحملها المفسّر تجاه النصوص الدینیّة من آثار .

وهنا نقول: حتى وإن آمنا بأنّ هذا الاستدلال يجدي نفعاً في بيان تعدّد الفهم والتفاسير والتجارب الدینیّة، فإنّه غير كافٍ لإثبات حقانية هذا التعدد، وما تدعو إليه فكرة التعدّديّة الدینیّة، ناهيك عما تعانيه الهرمنيوطيقيا الفلسفية عند غادامر من إشكاليات ألسنية عديدة في موضوع تعدد التفاسير؛ فليس كل نص يعاني من الغموض حتى يتطلّب منا تفسيراً، أو إقحاماً لافتراضات مسبقة! بل المطلوب من المفسّر أن يبتعد عن لي عنق النص لكي يتناسب مع افتراضاته، وأن يكتفي في محاولاته البلوغ المعنى بمعلوماته المسبقة؛ سواء كانت معلومات استخراجية، أو استفهامية.

ولا يخفى أنّ انطواء القرآن الكريم على بطون» ومعانٍ توصف بأنها باطنية لا يدلّ - بأي نحو من الأنحاء - على نظرية القبض والبسط في المعرفة الدینیّة»، ولا على التعددية الدینیّة، بل إنّ الكتاب والسنة لا يتفقان مع فرضية «صمت النصوص الدینیّة»، ويصرّحان بأنّ القرآن الكريم تبيان لكلّ شيء»، ويصفانه ب- «المبين»، وما شاكل ذلك من الصفات(1).

4/5/12. أساس تكافؤ الأدلّة:

استدلّ بعض أنصار التعددية الدینیّة لإثبات حقانية جميع الأديان بما يسمّى ب«تكافؤ الأدلّة»؛ أي: تساوي أدلة القضيّتين المتعارضتين. والردّ على ذلك:

.1 أنّ تكافؤ الأدلّة لا يحصل إلا بعد نظرة معرفية من الدرجة الثانية؛ في حين أنّ حقانية الأديان أو بطلانها هي معرفة من الدرجة الأولى، وهي أمر يجب حسمه بمنهج فلسفي.

ص: 365


1- للاستزادة : أسس المعرفة الدینیّة، محمد حسین زاده ص 159-172 . [ بالفارسية ]

2 . لا يمكن الوصول إلى حقانية أمر ما أو إلى بطلانه من خلال تكافؤ الأدلة، بل الذي يمكن أن يُصار إليه من ذلك هو الطعن في الطرفين معاً.

3 . لا تجوز دعوى تكافؤ الأدلّة من خلال نظرية معرفية من الدرجة الثانية؛ فإنّ غاية ما يصل إليه صاحب هذه النظرة عند البتّ في حقانية الأديان أو بطلانها هو التوقف. هذا ناهيك عن أنّ الاستدلال من خلال تكافؤ الأدلّة يستلزم اجتماع النقيضين.

5/5/12. الأساس الديني الداخلي:

تمسّك أتباع التعدّديّة الدینیّة لإثبات مدعياتهم بأدلة دينية داخلية، فذكروا - على سبيل المثال - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (1)، فاستنتجوا من هذه الآية الشريفة التعدّدية الدینیّة؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى اشترك في فلاح الإنسان ونجاته من العذاب الأخروي، وتنعمه بالأجر والثواب أموراً ثلاثة هي: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والعمل الصالح. وبناءً على ذك فإن المسلمين واليهود والنصارى والصابئين إذا توافروا على هذه الشروط فقد حازوا الخلاص. وبالتالي: فإنّ اتباع دين معيّن بعينه ليس هو الشرط الذي يؤكّد عليه القرآن الكريم، بل هو يعلّمنا أنّ جميع الأديان سواء في سيرها إلى إسعاد الإنسان، وسوقه نحو الفلاح والنجاة!

استدلّ بهذا الدليل - لأوّل مرّة - بعض المستشرقين، واستبشر به المتغربون. ولكنّه يعاني من خلل توضحه المناقشات التالية:

1 . لا تدلّ هذه الآية على التعددية الدینیّة التي تعني حقانية جميع الأديان وتطابقها

ص: 366


1- سورة البقرة : 62 .

مع الواقع، بل تنحصر دلالتها في الحكم على المؤمنين بالله، وباليوم الآخر، والعاملين صالحاً بأنهم من أهل الفوز والنجاة. وعليه كيف يمكن أن تستنبط منها التعددية الدینیّة في الصدق والحقانية؟

2. لا يدلّ مفاد الآية الكريمة أنّ مجرّد انتماء الإنسان إلى الإسلام أو اليهودية أو النصرانية أو دين الصابئة يُفضي إلى الفلاح والنجاة، بل صرحت بأنّ شرط النجاة هو الإيمان الحقيقي والعمل الصالح . وبطبيعة الحال، فإنّ العمل الصالح لا يتحقق من دون معرفة واتباع الشريعة الحقة. وبالطبع، فإنّ المؤمنين بالشرائع المحرّفة إذا تخلّفوا عن اتباع الشريعة الحقة، لكنّ تخلّفهم هذا لم يكن عن عناد وعدوان، بل نشأ من الجهل والغفلة، فإنّ أعمالهم الصالحة تُجزى عند الله عَزَّ وَجَلَّ بالخير. وبعبارة أخرى: سوف يؤثر الحسن الفاعلي إيجابياً في نجاة جهلة المؤمنين الذين لم يعملوا عملاً صالحاً.

3. الإيمان بالله يستلزم إيماناً بما تضمنه الوحي الإلهي، فلايمكن للمؤمنين بالأديان المتعدّدة أن يفوزوا بالسعادة والفلاح من دون أن يؤمنوا بمضامين الوحي الإلهي، وهذا يعني ضرورة إيمانهم بالإسلام، وأن يسلموا وجهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيؤمنوا في عصر إبراهيم (علیه السّلام) بشريعة إبراهيم، وفي عصر نوح (علیه السّلام) بشريعة نوح، وفي عصر موسی بشريعة موسى، وفي عصر عيسى بشريعة عيسى، وفي عصر النبي الخاتم محمّد (علیه السّلام) بشريعته الخاتمة. وعليه فإنّ الإنسان لن ينال الفلاح من دون إيمانه بالوحي الإلهي. وبناءً على ذلك، فإنّ مفاد هذه الآية الكريمة هو أن الانتماء الديني إلى الإسلام أو اليهودية أو النصرانية - أو قل: التدين بالهوية - لا يكفي لبلوغ مرتبة الفلاح والسعادة، بل يلزم لذلك الوصول إلى إيمان واقعي بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ، وباليوم الآخر، وإلى عمل صالح، أو قل إلى الإيمان بما أنزل الله جَلّ وَعَلا . ولهذا، نجد أنّ إبليس رغم اعترافه وإيمانه بوجود الله وباليوم الآخر ، ورغم ذلك الكم الهائل من العمل الصالح - الذي تمثل بعبادة استمرت آلاف السنين - قد خرج عن الرحمة الإلهية؛ لمخالفته أمراً من أوامر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

ص: 367

4 . لو ادّعى أحدهم أنّ ظاهر هذه الآية يدلّنا على أنّ الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ وباليوم الآخر ، مضافاً إلى العمل الصالح كافٍ في إيصال الإنسان إلى الفلاح والسعادة، ولا أثر للإيمان بما أنزل الله في ذلك. نقول : يتعارض هذا الفهم مع آيات قرآنية أخرى صُرّح فيها بكفر أصحاب العقائد الباطلة من أهل الكتاب، وبيّن فيها أنهم معذبون. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَه إِلا إِلَهُ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(1) .

5. العمل الصالح شرط ثالث للفلاح والسعادة، وتحققه من دون فهم يقيني وشريعة سماوية حقة غير ممكن ؛ فإذا أراد المرؤ أن يُسجّل لنفسه عملاً صالحاً، لا بدّ له من أن يتمسّك بشريعة إلهيّة حقة غير محرّفة .

6/12 .معايير التقييم عند جون هيك:

تشبّث جون هيك (2012م) للخلاص من شراك النسبية بمعايير أخلاقية وتجريبية وبراغماتية وما سُمّي بالانسجام الداخليّ. ورغم أنه بعد تناوله لهذه المعايير يستنتج - في نهاية المطاف - أن تقييم الموروث الديني الضخم في هذا العالم أمر غير ممكن ، لكنّه على أي حال يأتي على ذكرها.

وهنا نقول: إضافةً إلى أنّ هذه المعايير لا تنسجم مع المتبنيات المعرفية التي يؤمن بها جون هيك فإنّ التمييز بين النومن والفنومن، وكذا ما ذكر من الانسجام الداخلي أو البراغماتية أو غيرها من المعايير الأخلاقية والتجربة الدینیّة لا يمكن لها أن تكون معياراً صائباً للكشف عن وجه المعرفة الحقيقية وتمييزها عن المعرفة الزائفة؛ فالانسجام الداخلي يتلاءم أيضاً مع المنظومة الكاذبة المنسجمة، والنفع العمليّ لا يدلّ على حقانيّة المدعى أو بطلانه؛ لأنه أعمّ منه، وتوضيح ذلك: أن الانسجام إذا صح كونه معياراً للصدق، فهذا يعني أن منظومتين منسجمتين فيما

ص: 368


1- سورة المائدة: 73 .

بينها يجب أن تكونا صادقتين؛ وإن لم تكونا منسجمتين داخلياً؛ في حين أنّ هذا الفرضيّة تؤدّي إلى اجتماع النقيضين.

ومن جهة أخرى، فإنّ النزعة النفعية البراغماتية لا يمكن لها أن تصدر حكماً بحقانية الأديان المختلفة؛ لأنّ الأديان وغيرها من المدراس البشرية كلها مفيدة نافعة، ولهذا فهي جميعاً حقة! بغض النظر عن كونها ديناً ، أو مدرسة فكرية بشرية؛ وهي نتيجة لا يرتضيها جون هيك (2012م).

وأما المعايير الأخلاقية فهي حاضرة أيضاً في بعض الشخصيات التي تنتمي إلى مدارس فكرية باطلة ومنحرفة .

وفي كلمة واحدة نقول : كان من المفترض بجون هيك (2012م) أن يقوم - بدايةً بمراجعة نظامه المعرفي، وأن ينال فهم الحقيقة من خلال سلوك المنهج البنيوي، والارتكاز على الأمور البديهية للكشف عن الأمور النظريّة.

7/12 .تحليل التعدّدية الدینیّة:

يمكن تقييم التعدّدية الدینیّة من زاويتين؛ هما :

1. من خلال المضمون الذي تنطوي عليه هذه النظرية؛ لنعرف هل إنّ مزاعم التعددية الدینیّة صائبة أم خاطئة، بغضّ النظر عما عرضته من أدلّة؟

2. هل إنّ الأدلّة التي أقامها أرباب هذه النظرية لإثبات مدعياتهم تامة أم غير تامة ؟

وحسب رؤيتنا فإنّ مزاعم التعدّديّة الدینیّة - مع غضّ الطرف عن أدلتها التي ساقتها، وأسسها التي ابتنت عليها - غير معقولة، وهي تستلزم التناقض؛ لأنّ الأديان إذا كانت جميعها حقة ومطابقة للواقع، فهذا يعني أن نظرية التناسخ والمعاد في موضوع

ص: 369

«الحياة بعد الموت» ، وكذلك التوحيد والثنوية والتثليث في باب «الإلهيات» يجب أن تكون صحيحة برمتها ! وهذا ما يستلزم اجتماع النقيضين، واجتماع النقيضين باطل؛ فلا يصح إذن أن تكون جميع الأديان حقة.

إن قلت: كل من هذه الأديان حق عند المؤمنين به؛ فلا يجري التناقض.

قلنا : إنّ الحقانية التي تثبت في هذه الحالة هي ما قد يُعبّر عنها بالحقانية الأخلاقية، أو الحقانيّة الثابتة للأشخاص، وهذا يعني : تطابق القضية مع المعتقد الشخصي؛ وليس مع الواقع. وهذا لا علاقة له بالحقانية الواقعية المعبّر عنها ب- «نفس الأمرية»، وهذا هو ما يدعيه جون هيك (2012م) وأنصار التعددية الدینیّة.

وبناءً على ما تقدّم، فإننا إذا لاحظنا بطلان أساس المدّعى الذي تنادي به التعدّديّة الدینیّة، فلا يبقى بعد ذلك مجال للقبول بأي دليل يُقام لصالحها في مقام الإثبات. ومع ذلك، فإنّ مراجعة الأدلة والأسس التي تقوم عليها التعددية الدینیّة يُظهر لنا أنّ هذه النظرية عاجزة عن إثبات ما زعمته من حقانية جميع جميع الأديان.

وعلاوةً على الدليل العقلي، من الممكن أن يُستدلّ أيضاً بالدليل النقلي لإبطال التعدّديّة الدینیّة، ومنه: آيات قرآنية عديدة، وأحاديث شريفة كثيرة رفضت التعدّديّة الدینیّة بدلالاتها الالتزامية منها على سبيل المثال: الآيات 137 من سورة البقرة، و 8 و 19-22 من سورة آل عمران والآية 65 من سورة المائدة؛ حيث أكّدت على ، ضرورة الإيمان بنبوّة الرسول الخاتم محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) في عصر الخاتمية

وفيما يلي نشير إلى الأدلة النقلية بشيء من التفصيل:

1/7/12. آيات عالمية الإسلام :

وردت في القرآن الكريم آيات دلّت على عالمية الدين الإسلامي، ولهذا فقد خاطب

ص: 370

القرآنُ الناسَ بشكل عام، داعياً إياهم إلى الإسلام، معبراً عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم)بأنه رسول الله إلى جميع الناس. قال تعالى :

1. ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)(1) .

2. (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِالله شَهِيداً) (2).

3 . ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمَيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(3).

4. (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )(4).

5 .﴿وَمَا وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمينَ )(5).

6 . (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) (6).

2/7/12 .آيات عالمية القرآن:

عبّرت بعض الآيات الشريفة عن القرآن الكريم بتعابير دالّة على عالميته وعموميته للناس أجميعن. قال تعالى:

1. (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ (7).

ص: 371


1- سورة الحج: 49 .
2- سورة النساء: 79.
3- سورة الأعراف: 158 .
4- سورة سبأ: 28.
5- سورة الأنبياء: 107.
6- سورة الفرقان: 1.
7- سورة إبراهيم: 1.

2. (هَذَا بَيَانُ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) (1).

3 . (هَذَا بَلَاغُ لِّلنَّاسِ) (2).

4 . (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) (3).

5 .(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾(4).

3/7/12. بطلان معتقدات الأديان المحرّفة :

توجد بين أيدينا آيات قرآنية متعدّدة أنكرت على أهل الكتاب بعض معتقداتهم، ووجّهت إليهم نقداً لاذعاً؛ منها قوله تعالى:

1 . ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقَالَتْ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّه ذَلِكَ قَوْهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ )(5).

2 . ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى الله إِلا الحَقِّ إِنَّمَا المُسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةُ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَهُ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي

السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلاً) (6).

4/7/12 .بطلان اتباع الأديان الأخرى:

ص: 372


1- سورة آل عمران: 138 .
2- سورة إبراهيم: 52 .
3- سورة النساء: 174 .
4- سورة الفرقان: 1.
5- سورة التوبة: 30 .
6- سورة النساء: 171.

دلت آيات القرآن الكريم على ضرورة اتباع الإسلام ديناً، ونهت عن اتباع غيره من الأديان المحرّفة. قال تعالى:

(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(1) .

وفي معرض بيانه لدلالات هذه الآية، قال العلامة المطهري (1399ه) :

«إذا قيل أن مراد الإسلام ليس هو خصوص ديننا، بل المقصود به التسليم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإن الإجابة على هذا هي أن الإسلام هو التسليم من دون شك، والدين الإسلامي هو دين التسليم لكن حقيقة التسليم تتمظهر بنحو ما في كلّ زمن، وفي زماننا هذا ظهرت على هيئة ذلك الدين الحنيف الذي دعا له خاتم الأنبياء والمرسلين (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، ومفردة الإسلام تنطبق عليه لا محالة.

وبعبارة أخرى : يستلزم التسليم الله عَزَّ وَجَلَّ الانصياع لأوامره، ومن الواضح أن الاستجابة إلى آخر أوامره أمر واجب، وآخر أو امره هو ذلك الشيء الذي جاء به آخر الرسل»(2).

5/7/12. الآيات التي دعت أهل الكتاب للإسلام:

دعت بعض الآيات القرآنية أهل الكتاب إلى الإيمان بالإسلام، موبِّخة الذين ابتعدوا عن تعاليمه قال تعالى :

1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا ما كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَاب وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مَّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )(3).

ص: 373


1- سورة آل عمران: 85 .
2- العدل الإلهي، مرتضى المطهّري ، المطبوع ضمن الأعمال الكاملة، ج2، ص 278 [النسخة الفارسية].
3- سورة المائدة: 15-16 .

2 .(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(1).

3 . (وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لما مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرِ بِهِ )(2).

4 . ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (3) .

ص: 374


1- سورة المائدة: 19 .
2- سورة البقرة: 41.
3- سورة آل عمران: 71 .

هذا الكتاب

شغلت فصول "الكلام الإسلامي المعاصر" لعدّة سنوات حيّزاً من اهتمامي ، وتمنيت أن أوفق - يوماً ما - لجمع شتات الأبحاث الكلاميّة التقليدية والجديدة في كتاب واحد بنسق وترتيب منطقي - لقد اعتاد - وللأسف أساتذة علم الكلام في الجامعات والحوزات العلميّة وغيرها على الفصل في محاضراتهم بين مادة تتناول قضايا الكلام التقليدي كما في كتاب "كشف المراد " مثلاً، ومادة أخرى تستعرض قضايا "الكلام الجديد " ، فتُدرس كلّ من المادتين في وحدات دراسيّة مستقلة دون أي حلقة وصل بينهما ..

المرکز الاسلامي للدراسات الاستراتحية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 375

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.