ینابیع الأحکام في معرفة الحلال و الحرام المجلد 3

هوية الكتاب

بطاقة تعريف:قزویني، علي بن اسماعیل، 1237 - 1298ق.

عنوان المؤلف واسمه:ینابیع الاحکام في معرفة الحلال و الحرام/ تالیف علي الموسوي القزویني ؛ تحقیق علي العلوي القزویني.

تفاصيل النشر:قم: جامعة المدرسین في الحوزة العلمیه بقم، موسسه النشر الاسلامي، 1424ق.-= 1382 -

مواصفات المظهر:5ج.

فروست:موسسه النشر الاسلامي التابعه لجماعة المدرسین بقم المشرفه؛ 1075، 1076، 1079.

ISBN:دوره 978-964-470-077-4 : ؛ 46000 ریال : ج.1: 964-470-077-5 ؛ 105000 ریال: ج. 5 : 978-964-470-850-3 ؛ ج. 2 978-964-470-847-3 :

لسان:العربية.

ملحوظة:محقق جلد پنجم عبدالرحیم الجزمئی القزوینی است.

ملحوظة:ج. 2 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) (فیپا).

ملحوظة:ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

ملحوظة:کتابنامه.

موضوع:فقه جعفری -- قرن 13ق.

الحلال والحرام

طهارت

معرف المضافة:علوي قزویني، علي، محقق

معرف المضافة:جزمئي قزویني، عبدالرحیم

معرف المضافة:جامعة المدرسین في الحوزة العلمیه بقم. موسسه النشر الاسلامي

تصنيف الكونجرس:BP183/3/ق4ی9 1382

تصنيف ديوي:297/342

رقم الببليوغرافيا الوطنية:1 1 4 1 6 5 0

ص: 1

اشارة

ینابیع الاحکام فی معرفه الحلال و الحرام

تالیف علی الموسوی القزوینی

تحقیق علی العلوی القزوینی.

ص: 2

كتاب الصلاة

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، و صلّى اللّه على محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

و بعد فهذا هو المجلّد [الثالث] من كتاب ينابيع الأحكام في الحلال و الحرام «كتاب الصلاة»

[في معنى الصلاة]

و هي لغة «الدعاء» على ما هو المعروف فيما بينهم المصرّح به في كلام أهل اللغة، المتسالم فيه عند كافّة العلماء(1) سيّما الفقهاء و الاصوليّين في كتبهم الفقهيّة و الاصوليّة.

فلا ينبغي الاسترابة في كونها بحسب الوضع اللغوي حقيقة فيه، لكن قضيّة إطلاق تفسيرها به كونهما لفظين مترادفين.

و يشكل بأنّ من حكم المترادفين صحّة حلول أحدهما محلّ صاحبه، و «الدعاء» على ما ظهر من تتبّع موارد استعمالاته و ملاحظة كلام أهل اللغة مقول بالاشتراك المعنوي على طلب الخير و طلب الشرّ، و يخصّ في الاستعمال بالأوّل إذا عدّى باللام، و بالثاني إذا عدّى ب «على»، بخلاف الصلاة فإنّها لا ترد في الاستعمال إلاّ لطلب الخير، فلا تحلّ محلّ الدعاء بمعنى طلب الشرّ و لذا تتعدّى دائما ب «على». و لم ينقض بإفادتها الضرر، و قضيّة ذلك أن يقال: إنّها بحسب اللغة و إن كانت للدعاء لكن لا على إطلاقه، بل الدعاء الخاصّ و هو طلب الخير خاصّة.

فبينهما و بين الدعاء عموم و خصوص مطلقا، فكلامهم في تفسيرها به لا يخلو عن إهمال.

و في كلام بعض أهل اللغة(2) عدّ «الرحمة» أيضا «كالاتباع»(3) من معاني الصلاة، و جعل منه قوله تعالى: أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ (4).

ص: 3


1- المبسوط 70:1، المعتبر 9:2، المنتهى 7:4، نهاية الإحكام 307:1، التذكرة 259:2، التحرير 1: 173، الذكرى 65:1، غاية المراد 275:1.
2- الصحاح 2402:6، لسان العرب 464:14.
3- لسان العرب 467:14، تهذيب اللّغة 237:12.
4- البقرة: 157.

و قد زعم(1) جمع أنّها من اللّه تعالى للرحمة و من الملائكة للاستغفار و من الآدميّين للدعاء.

و ظاهر جماعة منهم أنّها مقولة عليها من باب الاشتراك اللفظي، و قضيّة ذلك اختلاف معنى اللفظ لغة باختلاف المسند إليه. و يردّه - مع مخالفة الاشتراك للأصل - أنّ الاستغفار قسم من الدعاء، بناء على أنّ طلب الخير أعمّ من طلب المغفرة.

و كونها من اللّه تعالى للرحمة على وجه الحقيقة ممّا لا شاهد له، سوى ما عرفته عن بعض أهل اللغة من عدّ «الرحمة» من معانيها.

و فيه - مع أنّه لا تخصيص فيه -: أنّه لم يظهر منه أنّه ذكرها باعتقاد الحقيقيّة، فمن الجائز كونه إنّما ذكرها باعتقاد المجازيّة، و يقوّى ذلك بملاحظة أنّ من ديدن أهل اللغة في التعرّض لمعاني اللفظ الجمع بين حقائقه و مجازاته.

فلم يبق إلاّ الإسناد المتوقّف صحّته في اللّه تعالى على إرادة الرحمة حيثما وردت مسندة إليه، نظرا إلى أنّ الدعاء بمعنى طلب الخير عن الغير لا يصحّ إلاّ من العاجز.

و يردّه أنّ جعل الإسناد أمارة للوضع ليس بأولى من أخذه قرينة للتجوّز كما في إسناد الرحمة إليه تعالى، مع أنّه لم يعهد في كلام العرب لفظ اختلف معناه باختلاف المسند إليه، مع أنّ الوضع بالشرط كما هو اللازم من قول الجماعة باطل - على ما قرّر في محلّه - فالقول المذكور ضعيف جدّا.

و يتلوه في الضعف جعلها مقولة على المعاني الثلاث بالاشتراك المعنوي، لجامع العطف الّذي من اللّه تعالى رحمة و من الملائكة استغفار و من الآدميّين دعاء بعضهم لبعض، قائلا:

«الصواب عندي أنّ الصلاة لغة بمعنى واحد و هو العطف. إلى أن قال: و أمّا قول الجماعة فبعيد من جهات:

أحدها: اقتضاؤه الاشتراك، و الأصل عدمه.

الثاني: إنّا لا نعرف في العربيّة فعلا واحدا يختلف معناه باختلاف المسند إليه إذا كان الإسناد حقيقيّا.

ص: 4


1- جامع المقاصد 5:2 «و قد صرّحوا بأنّ لفظها من الألفاظ المشتركة، فهي من اللّه الرحمة و من الملائكة الاستغفار...» ساكتا عليه، تهذيب اللّغة 236:12، الصدوق في معاني الأخبار: 1/367.

الثالث: أنّ الرحمة فعلها متعدّ، و الصلاة فعلها قاصر، و لا يحسن تفسير القاصر بالمتعدّي.

الرابع: أنّه لو قيل مكان «صلّى عليه» دعا عليه انعكس المعنى، و حقّ المترادفين صحّة حلول كلّ منهما محلّ الآخر»(1).

و فيه: أنّ ورود الصلاة لغة للعطف ممّا لم يشهد له شاهد، و لو ثبت الاستعمال فيه في بعض الأحيان فهو أعمّ من الحقيقة. و إنكار كونها للدعاء كما هو قضيّة الوجه الرابع مدافع لما هو من قبيل الواضحات، و هو على ما بيّنّاه لا يلازم الترادف بينها و بين الدعاء حتّى ينكر بعدم صحّة حلول الدعاء مكانها استنادا إلى انعكاس المعنى. مع أنّ أصالة عدم الاشتراك لفظا لا تقضي بتعيّن الاشتراك معنى. مع قيام احتمال المجاز فيما عدى الدعاء إلاّ مع رجحان الاشتراك المعنوي على الحقيقة و المجاز، و هو محلّ منع. فالوجه هو ما قرّرناه من جعلها مجازا في الرحمة، و إرجاع الاستغفار إلى الدعاء، كما يظهر الالتزام به من محكيّ روض الجنان ردّا على من قال: إنّها من اللّه بمعنى الرحمة «استنادا إلى أنّ ارتكاب كونها في ذلك و نحوه مجازا خير من جعلها مشتركة، و بأنّ ظاهر العطف في قوله تعالى:

عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ (2) يقتضي المغايرة»(3) و إن ضعف مستنده في الوجه الثاني، بأنّ كون الصلاة في الآية مرادا بها الرحمة ممّا لا محيص عنه، لاستحالة إسنادها بمعنى الدعاء إليه تعالى. و غاية ما هنالك كونه على وجه التجوّز، فالعطف تفسيري لا محالة، و لو كان خلاف ما يقتضيه ظاهر العطف.

و كيف كان فهي شرعا باعتبار الوضع الشرعي - بناء على الحقائق الشرعيّة في ألفاظ العبادات كما حقّق في محلّه - عبارة عن العبادة المخصوصة الّتي تكون تارة ذكرا محضا كالصلاة بالتسبيح، و اخرى فعلا محضا كصلاة الأخرس، و ثالثة يجمعهما كصلاة الصحيح المختار و من بحكمه في اشتمال صلاته على الذكر و الفعل معا.

و اشتهارها عند المتشرّعة بحسب صورتها النوعيّة - بحيث يعرفها كلّ أحد من فقيه و عامي و إن جهلها الأكثر بأجزائها المفصّلة - ممّا يغني عن التعرّض لتعريفها، و لذا قال في

ص: 5


1- مغني اللبيب 791:2 الباب الخامس.
2- البقرة: 157.
3- روض الجنان مقدّمة الكتاب 32:1.

المدارك: «و هي أشهر من أن يتوقّف فهم معناها على تعريف لفظي»(1) مع أنّ التعريف التامّ السليم عمّا ينقضه في طرد أو عكس و ما يشينه من إطناب أو إجمال غير متيسّر هنا، و لذا لم يأت كلّ من تعرّض لتعريفها بما يسلم عن جميع ما ذكر، و السرّ فيه جهالة ماهيّتها الجامعة لشتات جزئيّاتها المانعة عن دخول كلّ مغاير لها.

و عن جماعة: من أئمّة اللغة كابن الأثير في النهاية(2) و صاحب القاموس(3) و غيرها ذكر هذه العبادة المخصوصة في عداد معاني الصلاة، فتوهّم منه كونها من معانيها اللغويّة.

و يزيّفه: منع ظهور كلامهم في أنّهم ذكروها باعتقاد كونها من معانيها بالوضع اللغوي الثابت من واضع لغة العرب لتكون من الحقائق اللغويّة، فيجوز كونهم ذكروها باعتقاد المجازيّة بالنظر إلى اللغة، أو باعتقاد الحقيقيّة بحسب الوضع الشرعي، نظرا إلى أنّ المعلوم من ديدن أهل اللغة أنّهم إنّما كانوا يضبطون في كتبهم المدوّنة معاني الألفاظ المتداولة في عرف زمانهم.

و من المقرّر أنّ كتب اللغة إنّما دوّنت في عهد الأئمّة فيما بين زمان الصادقين إلى زمان العسكريّين عليهم السّلام و ظاهر أنّ العبادة المخصوصة في معنى الصلاة كانت متداولة معروفة ثمّة على وجه المجاز أو الحقيقة بالوضع الشرعي، مع أنّ الوضع اللغوي إن اريد به ما صدر من واضع أصل لغة العرب غير ممكن في تلك العبادة لكونها أمرا شرعيّا لم يعرفه غير الشارع، و إن قلنا بحصول التسمية لها قبل شرع نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما هو المحقّق المدلول عليه بالآيات و الروايات، من ثبوت الصلاة كالزكاة و الصيام في الشرائع السالفة أيضا، كشرع عيسى و موسى و إبراهيم و غيرهم من الأنبياء عليهم السّلام.

نعم: لو اريد بالحقائق اللغويّة ما كان وصف الحقيقيّة له ثابتا في ما هو من ألفاظ لغة العرب و لو بوضع غير العرب - كالشارع و نحوه - أو بوضع العرب لكن من حيث إنّهم من أهل الشرع، كان لإدراجها في الحقائق اللغويّة وجه إلاّ أنّه خلاف الاصطلاح. و في الذخيرة بعد نقل الخلاف في كونها حقيقة شرعيّة «لا شكّ في كونها حقيقة عرفيّة»(4)و كأنّه أراد بها عرف المتشرّعة، و إلاّ فالحقيقة العرفيّة بمعنى العرف العامّ ممّا لا معنى له.

ص: 6


1- المدارك 6:3.
2- النهاية 50:3.
3- القاموس 353:4.
4- الذخيرة: 182.

ثمّ : الروايات المأثورة في فضلها كالروايات المرويّة في عقاب تاركها فوق حدّ الإحصاء.

ففي رواية محمّد بن سنان عن الرضا عليه السّلام «أنّ علّة الصلاة أنّها إقرار بالربوبيّة للّه عزّ و جلّ ، و خلع الأنداد، و قيام بين يدي الجبّار جلّ جلاله بالذلّ و المسكنة و الخضوع و الاعتراف و الطلب للإقالة من سالف الذنوب، و وضع الوجه على الأرض كلّ يوم خمس مرّات إعظاما للّه عزّ و جلّ ، و أن يكون ذاكرا غير ناس و لا بطر، و يكون خاشعا متذلّلا راغبا، طالبا للزيادة في الدين و الدنيا، مع ما فيه من الإيجاب و المداومة على ذكر اللّه عزّ و جلّ بالليل و النهار لئلاّ ينسى العبد سيّده و مدبّره و خالقه فيبطر و يطغى، و يكون في ذكره لربّه و قيامه بين يديه زاجرا له عن المعاصي، و مانعا له عن أنواع الفساد»(1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «الصلاة ميزان فمن وفّى استوفى»(2).

و في الفقيه قال الصادق عليه السّلام: «إنّ طاعة اللّه عزّ و جلّ خدمته في الأرض، و ليس شيء من خدمته يعدل الصلاة، فمن ثمّ نادت الملائكة زكريّا و هو قائم يصلّي في المحراب»(3).

و في رواية إبراهيم بن عمر اليماني رفعه إلى عليّ عليه السّلام أنّه كان يقول: «إنّ أفضل ما يتوصّل به المتوسّلون إلى اللّه الإيمان باللّه و رسوله، و الجهاد في سبيل اللّه، و كلمة الإخلاص فإنّها الفطرة، و إقام الصلاة فإنّها الملّة...»(4) الحديث.

و في رواية معاوية بن وهب قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم، و أحبّ ذلك إلى اللّه عزّ و جلّ ما هو؟ فقال: ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، أ لا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم عليهما السّلام قال: وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا »(5)-(6).

و عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «صلاة فريضة خير من عشرين حجّة، و حجّة

ص: 7


1- الوسائل 7/8:4، ب 1 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الفقيه 645/214:1، علل الشرائع: 317، ب 2/2 باختلاف يسير.
2- الكافي 13/266:3، الفقيه 622/207:1.
3- الوسائل 5/39:4، ب 10 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الفقيه 623/208:1.
4- الفقيه 613/205:1.
5- مريم: 31.
6- الوسائل 1/38:4، ب 10 من أبواب أعداد الفرائض، الكافي 1/264:3.

خير من بيت ذهب يتصدّق به حتّى يفنى»(1).

و عن زريق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له أيّ الأعمال أفضل بعد المعرفة ؟ فقال:

ما من شيء بعد المعرفة يعدل هذه الصلاة، و لا بعد المعرفة و الصلاة شيء يعدل الزكاة... إلى أن قال: و صلاة فريضة تعدل عند اللّه ألف حجّة و ألف عمرة مبرورات متقبّلات، و الحجّة عنده خير من بيت مملوءة ذهبا، لا بل خير من ملء الدنيا ذهبا و فضّة ينفقه في سبيل اللّه...»(2) الحديث.

و عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مثل الصلاة مثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود نفعت الأطناب و الأوتاد و الغشاء، و إذا انكسر العمود لم ينفع طنب و لا وتد و لا غشاء»(3).

و في رواية جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «الصلاة عمود الدين مثلها كمثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود ثبت الأطناب و الأوتاد، و إذا مال العمود و انكسر لم يثبت وتد و لا طنب»(4).

و في رواية عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ إنّما فرض على الناس في اليوم و الليلة سبع عشرة ركعة، من أتى بها لم يسأله عمّا سواها»(5).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام قال: «أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة، فإن قبلت قبل سائر عمله، و إذا ردّت ردّ عليه سائر عمله»(6).

و في رواية عن عليّ عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عمود الدين الصلاة، و هي أوّل ما ينظر فيه من عمل ابن آدم، فإن صحّت نظر في عمله، و إن لم تصحّ لم ينظر في بقيّة عمله»(7).

و في الفقيه «و دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسجد و فيه اناس من أصحابه، فقال: أ تدرون

ص: 8


1- الوسائل 4/39:4، أبواب أعداد الفرائض، الكافي 7/265:3.
2- الوسائل 34/27:1، ب 1 من أبواب مقدّمة العبادات، أمالي الطوسي 305:2.
3- الوسائل 6/33:4، ب 8 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الكافي 9/266:3.
4- الوسائل 12/27:4، ب 6 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، المحاسن: 60/44.
5- الوسائل 7/79:1، ب 16، أمالي الطوسي 263:2.
6- الوسائل 10/34:4، ب 8 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الفقيه 626/208:1.
7- الوسائل 13/34:4، ب 8 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، التهذيب 936/237:2.

ما قال ربّكم ؟ قالوا: اللّه و رسوله أعلم، فقال: إنّ ربّكم يقول إنّ هذه الصلوات الخمس المفروضات، من صلاّهنّ لوقتهنّ و حافظ عليهنّ لقيني يوم القيامة و له عندي عهد ادخله به الجنّة، و من لم يصلّهنّ لوقتهنّ و لم يحافظ عليهنّ فذاك إليّ ، إن شئت عذّبته و إن شئت غفرت له»(1).

و في رواية أبان بن تغلب قال: «صلّيت خلف أبي عبد اللّه عليه السّلام المغرب بالمزدلفة... إلى أن قال: ثمّ صلّيت معه بعد ذلك بسنة فصلّى المغرب ثمّ قام فتنفّل بأربع ركعات، ثمّ أقام فصلّى العشاء ثمّ التفت إليّ ، فقال: يا أبان هذه الصلوات الخمس المفروضات من أقامهنّ و حافظ على مواقيتهنّ لقي اللّه يوم القيامة و له عنده عهد يدخله به الجنّة، و من لم يصلّهنّ لمواقيتهنّ و لم يحافظ عليهنّ فذلك إليه إن شاء غفر له، و إن شاء عذّبه»(2).

و في رواية محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «الصلاة قربان كلّ تقيّ »(3).

و عن إسماعيل بن يسار قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إيّاكم و الكسل، إنّ ربّكم رحيم يشكر القليل، أنّ الرجل ليصلّي الركعتين تطوّعا يريد بهما وجه اللّه، فيدخله اللّه بهما الجنّة...».(4).

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالس في المسجد إذ دخل رجل، فقام يصلّي فلم يتمّ ركوعه و لا سجوده، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نقر كنقر الغراب، لئن مات هذا و هكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني»(5).

و عن عيون الأخبار عن الرضا عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا كان يوم القيامة يدعى بالعبد، فأوّل شيء يسأل عنه الصلاة، فإذا جاء بها تامّة و إلاّ زجّ في النار، قال و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تضيّعوا صلاتكم، فإنّ من ضيّع صلاته حشر مع قارون و هامان، و كان حقّا على اللّه أن يدخله النار مع المنافقين، فالويل لمن لم يحافظ على صلاته و أداء سنّته»(6).

و عن القدّاح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه

ص: 9


1- الفقيه 625/208:1.
2- الوسائل 1/107:4، ب 1 من أبواب المواقيت، الكافي 2/267:3.
3- الوسائل 1/43:4، ب 12 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الفقيه 637/210:1.
4- الفقيه 631/209:1.
5- الوسائل 2/20:3، ب 8 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، التهذيب 948/239:2.
6- الوسائل 7/30:4، ب 7 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 46/31:2.

أوصني، فقال: لا تدع الصلاة متعمّدا، فإنّ من تركها متعمّدا فقد برئت منه ملّة الإسلام»(1).

و عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث الكبائر قال: «إنّ تارك الصلاة كافر»(2) يعني من غير علّة.

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث عدد النوافل قال: «إنّما هذا كلّه تطوّع و ليس بمفروض، أنّ تارك الفريضة كافر، و أنّ تارك هذا ليس بكافر»(3).

و عن العجلي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما بين المسلم و بين أن يكفر إلاّ أن يترك الصلاة الفريضة متعمّدا، أو يتهاون بها فلا يصلّيها»(4).

و عن عبد اللّه بن ميمون عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عن جابر قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ما بين الكفر و الإيمان إلاّ ترك الصلاة»(5).

و عن مسعدة بن صدقة أنّه قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام ما بال الزاني لا تسمّيه كافرا، و تارك الصلاة تسمّيه كافرا، و ما الحجّة في ذلك ؟ فقال: لأنّ الزاني و ما أشبهه إنّما يفعل ذلك لمكان الشهوة لأنّها تغلبه، و تارك الصلاة لا يتركها إلاّ استخفافا بها، و ذلك لأنّها لا تجد الزاني يأتي المرأة إلاّ و هو مستلذّ لإتيانه إيّاها قاصدا إليها، و كلّ من ترك الصلاة قاصدا لتركها فليس يكون قصده لتركها اللذّة، فإذا نفيت اللذّة وقع الاستخفاف، و إذا وقع الاستخفاف وقع الكفر»(6).

و في الفقيه عن الصادق عليه السّلام: «إنّ العبد إذا صلّى الصلاة في وقتها و حافظ عليها ارتفعت بيضاء نقيّة، تقول حفظتني حفظك اللّه، و إذا لم يصلّها لوقتها و لم يحافظ عليها ارتفعت سوداء مظلمة، تقول ضيّعتني ضيّعك اللّه»(7) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

ثمّ النظر في هذا الكتاب يقع في مقاصد:

ص: 10


1- الوسائل 5/42:4، ب 11 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الكافي 11/488:3.
2- الوسائل 4/42:4، ب 12 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، التهذيب 13/7:2.
3- التهذيب 13/7:2، ب المسنون من الصلوات.
4- الوسائل 6/43:4، ب/ 1 أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، عقاب الأعمال: 1/274، المحاسن 1: 8/80.
5- الوسائل 7/43:4، عقاب الأعمال: 2/275.
6- الوسائل 2/41:4، ب 11 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الكافي 9/386:2، الفقيه 1: 616/132، قرب الإسناد: 22.
7- الوسائل 2/108:4، ب 1 من أبواب المواقيت مع اختلاف يسير، الفقيه 627/209:1.

المقصد الأوّل في المقدّمات

اشارة

الّتي يراد بالمقدّمة الصادقة عليها جمع ما هو نظير مقدّمة الكتاب، و هو طائفة من الامور تقدّم على الصلاة، و تذكر أمامها لارتباط لها بها، إمّا لكونها ممّا يتوقّف عليها في وقوعها الخارجي أو الشرعي - كالمواقيت و القبلة و لباس المصلّي و مكانه - أو لكونها ممّا يتوقّف عليه جزء الصلاة في وقوعه الخارجي أو الشرعي و هو ما يصحّ السجود عليه، أو لكونها ممّا يتقدّم عليها وضعا فقط كالأذان و الإقامة، أو لكونها ممّا يوجب العلم بأنواع الصلاة و جزئيّاتها الإضافيّة و هو أعداد الصلوات المفروضة و المسنونة، فإنّ المقدّمة بهذا المعنى هو القدر الجامع بين جميع هذه الامور السبع لا غير، كما يظهر بأدنى تأمّل.

و كيف كان ففي هذا المقصد المتكفّل لبيان المقدّمات فصول.

ص: 11

الفصل الأوّل في أعداد الصلوات

اشارة

و فيه ينابيع:

ينبوع في أعداد الصلوات الواجبة

و اعلم أنّ الصلاة إمّا واجبة أو مسنونة، و الواجب منها أنواع، و المراد بوجوب هذه الأنواع أنّه لا يجب من الصلاة إلاّ هذه الأنواع، لا أنّه لا تكون هذه الأنواع إلاّ واجبة.

و بالجملة الحصر المستفاد من كلام الفقهاء في هذا المقام من باب حصر الصفة في الموصوف، لا من باب حصر الموصوف في الصفة، لوضوح أنّ أكثر هذه قد يعرضه الندب كالفريضة المعادة، و صلاة العيدين في أزمنة الغيبة، و المعادة من الكسوفين، و صلاة الطواف المندوب. و قد يحرم بعضها كالجمعة في حال الغيبة على القول بالتحريم. و المراد بالوجوب هنا ما يعمّ ما يجب بأصل الشرع، و ما يجب لعارض بسبب من المكلّف كالملتزم بنذر أو عهد أو يمين، أو تحمّل عن الغير بالإجارة أو بسبب من غيره، كالواجب من قضاء الميّت على وليّه.

و اختلفت عباراتهم في عدد الصلوات الواجب، حيث إنّهم بين من جعله تسعا كالمحقّق في المعتبر(1) و الشرائع(2) و العلاّمة(3) في أكثر كتبه، الفرائض اليوميّة و الجمعة و العيدين و الكسوف الشامل للخسوف و الزلزلة و الآيات و صلاة الطواف و ما يلزمه الإنسان بالنذر

ص: 12


1- المعتبر 10:2.
2- الشرائع 59:1.
3- المنتهى 11:4، التذكرة 259:2، القواعد 245:1.

و هو الثامن و شبهه و هو التاسع، كما في المعتبر(1) و القواعد(2) و غيرهما. و في الشرائع جعل الثامن صلاة الأموات و التاسع الملتزم به بالنذر و شبهه من العهد و اليمين و الإجارة. و الأوّل مبنيّ على خروج صلاة الأموات عن حقيقة الصلاة، و كون إطلاقها عليها على وجه المجاز.

و بين من جعلها سبعا بإدراج الكسوف الشامل للخسوف و الزلزلة في الآيات، مع جعل السادس صلاة الأموات، و السابع ما يلزمه الإنسان بنذر و شبهه كما في النافع(3) و اللمعة(4)و الدروس(5).

و بين من جعلها ستّا بإسقاط صلاة الأموات، تعليلا بخروجها عن حقيقة الصلاة كما في مصابيح(6) العلاّمة الطباطبائي.

و قيل بكونها خمسا بإرجاع الجمعة إلى اليوميّة، لكونها بدلا عن الظهر و هو من اليوميّة.

و ربّما قيل أو احتمل كونها أربعا بإسقاط ما يلتزمه الإنسان اقتصارا على ما يجب بأصل الشرع.

و الإنصاف: أنّ إدراج الجمعة في اليوميّة ممّا لا وجه له، و كونها بدلا عن الظهر لا يقضي بكونها منها على وجه الحقيقة، مع كونها ماهيّة اخرى مغايرة لها، كما يكشف عنه اختصاصها بأحكام كثيرة لا تجري في اليوميّة. كما أنّ إفراد الكسوفين و الزلزلة عن الآيات ممّا لا وجه له، بعد ملاحظة اتّحاد الجميع بحسب الماهيّة كما يكشف عنه اشتراكها في أكثر الأحكام، مع كون السبب في وجوب الجميع العلامة الإلهيّة السماويّة أو الأرضيّة.

و أضعف منه إفراد ما يلتزم بشبه النذر من العهد و اليمين و الإجارة عمّا يلتزم بالنذر، بل الوجه كون الجميع من نوع واحد.

و أمّا صلاة الاحتياط و قضاء الفائتة ففي دخولها في اليوميّة لكون الاحتياط مكمّلة لما يحتمل فواته و كون القضاء تابعا لما فات من اليوميّة فيكون منها، أو في الملتزم به لكون المكلّف بشكّه يلتزم بالاحتياط و بتفويته في الوقت يلتزم بالقضاء، أو الأوّل في اليوميّة و الثاني في الملتزم، وجوه: ذكرها في المسالك(7) و الروضة(8) و تبعه السيّد في الرياض(9)

ص: 13


1- المعتبر 10:2.
2- القواعد 245:1.
3- النافع: 21.
4- اللمعة: 9.
5- الدروس: 136:1.
6- مصابيح الأحكام: 2.
7- المسالك 137:1.
8- الروضة 468:1-469.
9- الرياض 23:3.

و غيره في غيره.(1) و في الروضة(2) بعد ما ذكر الوجه الأخير «أنّ له وجها وجيها» لكنّ الأجود هو الأوّل وفاقا لجمال الملّة و الدين في حواشيه على الروضة(3) لأنّ الاحتياط على تقدير مصادفته النقص في الواقع جزء، و إلاّ فهو تابع لليوميّة فيكون منها، و القضاء تدارك للفائت منها فتكون هي اليوميّة، غير أنّها تقع في خارج وقتها. و يقوّى ذلك على القول بجعله تابعا للأداء، إذ ليس حينئذ إلاّ أمر واحد يقتضي امتثالا في الوقت المضروب أو خارجه.

و أمّا صلاة الأموات: فالأقرب خروجها عن حقيقة الصلاة بالمعنى الشرعي، وفاقا لثاني الشهيدين(4) و الذخيرة(5) و شرح الدروس(6) للفاضل الكاظمي و سيّد المصابيح(7) و غيره(8)بل و أكثر المتأخّرين كما في المصابيح، لعدم تبادرها عرفا من إطلاقات الصلاة، بل و تبادر غيرها و هو تبادر ذات الركوع و السجود مع عدم وقوع الإطلاق عليه إلاّ بإضافة كما في الماء المضاف. مضافا إلى رواية يونس بن يعقوب في الصحيح قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنازة اصلّي عليها على غير وضوء؟ قال: نعم إنّما هو تكبير و تسبيح و تحميد و تهليل، كما تكبّر و تسبّح في بيتك على غير وضوء»(9) دلّت الرواية على أنّها مجرّد تكبير و تسبيح و تحميد و تهليل، و ليست صلاة على وجه الحقيقة ليشملها العمومات الواردة فيها المثبتة للطهور فيها.

و استدلّ أيضا كما في الذخيرة(10) و شرح الدروس بأنّ «الظاهر من الصلاة ما يجب فيه الطهارة و قراءة الفاتحة، و لا يعتبر شيء منهما في صلاة الجنازة إجماعا»(11). و هذا كسابقه إنّما ينفي وقوع الصلاة عليه على وجه الاشتراك المعنوي، و أمّا الاشتراك لفظا فاحتماله باق إلاّ أن يتمسّك لنفيه بالأصل.

و استدلّ في الروضة بما ورد من أنّه «لا صلاة إلاّ بطهور»(12) «و لا صلاة إلاّ بفاتحة

ص: 14


1- المدارك 8:3، روض الجنان 474:2، كشف اللثام 8:3.
2- الروضة 468:1-469.
3- حاشية الروضة (للخوانساري) كتاب الصلاة: / 1.
4- روض الجنان: 474، الروضة 4:1.
5- الذخيرة: 182.
6- شرح الدروس 518:1.
7- مصابيح الأحكام: 98.
8- المدارك 9:3.
9- الوسائل 3/799:2، ب 21 من أبواب صلاة الجنازة.
10- الذخيرة: 182.
11- شرح الدروس 518:1.
12- الوسائل 1/256:1، ب 1 من أبواب الوضوء، التهذيب 144/49:1.

الكتاب»(1) و أنّ تحليلها بالتسليم حيث قال: و نفي الصلاة عمّا لا فاتحة فيها و لا طهور و الحكم بتحليلها بالتسليم ينافي الحقيقة(2).

و يخدشه: أنّ الأوّل إنّما يتمّ لو كانت النافية لنفي الحقيقة، و هو مبنيّ على ما يراه من كون الصلاة و غيرها من العبادات أسامي للصحيحة و أمّا على المذهب المنصور فالمتعيّن حملها على نفي الصحّة، و معه فالاستدلال بنحو هذه الروايات غير ناهض كما لا يخفى.

و ليس للقول الآخر إلاّ ما حكاه في الرياض بقوله: «ربّما يدّعى عدم صحّة السلب عرفا، و دلالة بعض النصوص على كونها صلاة»(3) مفسّرا لبعض النصوص في الحاشية المنسوبة إليه بما دلّ على «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما صلّى على النجاشي بل دعا له»(4) أي ما صلّى صلاة الميّت، و في المجمع مرسلا «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى على النجاشي لأنّه كان يكتم إيمانه»(5).

و في الروايتين مع ضعف سنديهما و عدم مقاومتهما لما تقدّم أنّه ليس فيهما إلاّ الاستعمال الّذي لا يعبأ به في إثبات الحقيقة.

و في عدم صحّة السلب أنّ المعتبر فيه - على ما قرّر في محلّه - سلب ما يفهم من اللفظ عرفا عند إطلاقه، و قد عرفت أنّه هنا بحكم التبادر ليس إلاّ ذات الركوع و السجود، و لا ريب في صحّة سلبها بهذا الاعتبار. و لو اريد عدم صحّة سلبها باعتبار معنى آخر فدلالته على الحقيقة أوّل الكلام.

و ربّما يقوّى في النفس كونه هنا نظير عدم صحّة سلب الأسد عن الصورة الأسديّة المنقوشة في الجدار و نحوه. و لا يبعد أيضا كونها حقيقة بالوضع العرفي الطارئ على الوضع الشرعي بكثرة الاستعمالات المجازيّة، كما يحتمل كون إطلاقها عليها باعتبار المعنى اللغوي و هو الدعاء لأنّها من أفراده، فعدم صحّة السلب لعلّه لأجل أحد الاعتبارين.

و على أيّ تقدير فلا إشكال في عدم دخولها في عمومات الصلاة المتكفّلة لبيان شرائطها و آدابها، فلا يثبت لها شيء منها إلاّ بدليل خاصّ .

فتقرّر بجميع ما قرّرناه أنّه ينبغي أن يعدّ الأقسام ستّا كما صنعه في المصابيح(6) و كيفما

ص: 15


1- عوالي اللآلئ 2/196:1، المستدرك 274:1، ب 1.
2- الروضة البهيّة 4:1.
3- الرياض 23:3.
4- الوسائل 5/105:3، ب 18.
5- مجمع البحرين 273:4.
6- مصابيح الأحكام: 98.

كان فالخلاف المتقدّم ليس خلافا في المعنى و الحكم، بل هو اختلاف في العبارة من حيث الإطناب و الإيجاز.

و الدليل على وجوب هذه الأقسام دون غيرها إمّا إجماع علماء الإسلام في الجملة و إجماع الأصحاب في اخرى كما في كلام غير واحد، أو أنّ الحصر استقرائي مستفاد من مجموع الأدلّة. هذا مع أنّ المناسب في كلّ نوع أن يذكر دليل وجوبه في بابه فانتظر له.

ثمّ الصلوات اليوميّة الواجبة في اليوم و الليلة خمس، الظهر و العصر و المغرب و العشاء و الصبح. و دليل وجوبها - مع أنّه المستفاد من مجموع الأدلّة كتابا و سنّة و غيرهما - إجماع علماء الإسلام، بل هو من أظهر ضروريّات هذا الدين الغير المفتقرة إلى الاستدلال الّتي يوجب إنكارها الكفر و الخروج عن الإسلام.

و دليل عدم وجوب غيرها ممّا يقع في اليوم و الليلة - مضافا إلى مجموع سائر الأدلّة بعد الأصل - إجماع أصحابنا، و في المعتبر «و هو مذهب أهل العلم»(1) خلافا لأبي حنيفة من العامّة القائل بوجوب الوتر(2) و يشهد له من رواياتنا المرويّ عن الباقر عليه السّلام «الوتر في كتاب عليّ واجب، و هو وتر الليل و المغرب و وتر النهار»(3) و ضعفه بعد ملاحظة عدم قائل من أصحابنا به واضح، كضعف الرواية بعدم كونها معمولا بها عند الأصحاب، مع احتمالها لإرادة تأكيد الاستحباب من الوجوب أو الوجوب بمعنى الثبوت، مع احتمال خروجها مخرج التقيّة لموافقتها مذهب أبي حنيفة، فتأمّل.

و هاهنا لطيفة وردت في رواية حمّاد بن زيد قال: «قلت لأبي حنيفة كم الصلوات ؟ فقال: خمس، فقلت: فالوتر؟ فقال: فرض، قلت: لا أدري تغلط في الجملة أو التفصيل»(4).

و استدلّ أيضا على بطلان مذهبه بلزوم خروج الوسطى عن كونه وسطى، و اللازم بطلانه بنصّ الآية حٰافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوٰاتِ وَ اَلصَّلاٰةِ اَلْوُسْطىٰ (5).

و يخدشه: أنّه لا يتمّ إلاّ على بعض الوجوه في بعض الأقوال، فإنّ في تعيين الوسطى خلافا، فقيل: إنّها الظهر، ذهب إليه جماعة و لعلّه المشهور، بل عن الشيخ في الخلاف

ص: 16


1- المعتبر 11:2.
2- تذكرة الفقهاء 261:2، الخلاف 534:1.
3- المبسوط (للسرخسي) 155:1، المجموع 19:4، فتح العزيز 221:4، الوسائل 4/91:4، ب 25.
4- بدائع الصنائع 270:1، شرح العناية 369:1.
5- البقرة: 238.

«و إجماع الفرقة عليه» و علّل «بأنّ وقتها وسط النهار، و بأنّها متوسّطة بين صلاتي النهار الغداة و العصر، و بأنّها وسط بين نافلتين متساويتين و الأوّلان منصوصان»(1).

و قيل كما عن المرتضى: «إنّها العصر مدّعيا عليه الإجماع» و علّل «بأنّها واسطة بين صلاتي النهار و صلاتي الليل» و يشهد له المرسل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر»(2) و المرسل عن الحسن بن أمير المؤمنين عليه السّلام عن النبيّ : أنّه قال في حديث: «فهي من أحبّ الصلوات للّه عزّ و جلّ و أوصاني من بين الصلوات»(3)-(4).

و قيل: «إنّها المغرب، لتوسّطها بين بياض النهار و سواد الليل، و أنّها متوسّطة بين أقلّ الصلوات ركعة و هو ركعتان و أكثرها ركعة و هو أربع ركعات لأنّها أزيد من الأوّل و أنقص من الثاني» و بالجملة فهي واسطة بين ثنائي و رباعي، و لأنّ الظهر أوّل صلاة وجبت في الشرع فتكون المغرب هي الوسطى، و لأنّها مع زيادتها على ركعتين لا تقصر في السفر، فيناسب التأكيد بالأمر بالمحافظة عليها»(5).

و قيل: «إنّها العشاء، لأنّها متوسّطة بين صلاتين لا تقصران في السفر أو بين ليليّة و بين نهاريّة، و لأنّها أثقل صلاة على المنافقين»(6).

و قيل: «إنّها الصبح، لتوسّطها بين صلاتي الليل و صلاتي النهار أو بين الضياء و الظلام، و لأنّها لا تجمع مع اخرى فهي منفردة بين مجتمعتين، و لمزيد فضلها بحضور ملائكة الليل و النهار، و لما فيها من المشقّة الموجبة لكونها مظنّة للتضييع - بسبب البرد في الشتاء، و طيب النوم في الصيف مع فتور الأعضاء و غلبة النعاس و شدّة الغفلة و محبّة الاستراحة - فناسب الأمر بالمحافظة عليها»(7).

ص: 17


1- الخلاف 294:1.
2- صحيح مسلم: كتاب المساجد 205/437:1، كنز العمّال 29904/383:10.
3- الوسائل 7/8:3، ب من أبواب أعداد الفرائض، الفقيه 643/211:1، ب علّة وجوب خمس صلوات.
4- رسائل الشريف المرتضى، المسألة السادسة 275:1 المسائل الميافارقيّات.
5- قال به: قبيصة بن (أبى) ذؤيب و أبو عبيدة السلماني، انظر تفسير الرازي 162:6، ذيل الآية 238 من سورة البقرة، القرطبي 210:3، الحاوي 8:2.
6- المجموع 61:3، تفسير الرازي 162:6.
7- قال به: الشافعي و مالك، انظر حلية العلماء 22:2، الحاوي 7:2، المجموع 60:3.

و قيل: «إنّها مخفيّة كليلة القدر»(1).

و هذه الأقوال الأربع منسوبة إلى العامّة.

و عن بعض أئمّة الزيديّة «إنّها الجمعة في يومها و الظهر في غيرها»(2) و هذا لا يخالف ظاهرا للقول الأوّل، و قد نصّ به في بعض الروايات على ما تعرفه.

و كيف كان فالأقرب الأقوى هو القول الأوّل: للنصوص المستفيضة الّتي فيها الصحيح و غيره، ففي صحيح زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عمّا فرض اللّه عزّ و جلّ من الصلاة ؟ فقال: خمس صلوات في الليل و النهار... إلى أن قال: و قال اللّه تعالى: حٰافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوٰاتِ وَ اَلصَّلاٰةِ اَلْوُسْطىٰ (3) و هي صلاة الظهر و هي أوّل صلاة صلاّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هي وسط النهار، و وسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة و صلاة العصر»(4).

و المرويّ عن معاني الأخبار بإسناده عن أبي بصير المرادي قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: صلاة الوسطى صلاة الظهر، و هي أوّل صلاة أنزل اللّه على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(5).

و المرويّ عن الطبرسي في مجمع البيان «عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام في صلاة الوسطى أنّها صلاة الظهر»(6).

و المرويّ عن العيّاشي في تفسيره عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الصلاة الوسطى الظهر. و قوموا للّه قانتين، إقبال الرجل على صلاته و محافظته على وقتها حتّى لا يلهيه عنها و لا يشغله شيء».

و المرسل عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «صلاة الوسطى هي الوسطى من صلاة النهار، و هي الظهر، و إنّما يحافظ أصحابنا على الزوال من أجلها»(7).

ص: 18


1- قال به نافع و سعيد بن المسيّب و الربيع بن خثيم و زيد بن ثابت و شريح، انظر الحاوي 8:2، المجموع 61/3، تفسير الرازي 157:6.
2- تفسير البحر المحيط 241:2 ذيل الآية 238 من سورة البقرة قال: روي ذلك عن عليّ ذكره ابن حبيب.
3- البقرة: 238.
4- الوسائل 1/10:4، ب 2 أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الكافي 1/271:3.
5- الوسائل 2/22:4، ب 5 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، معاني الأخبار: 1/331.
6- الوسائل 3/23:4، ب 5 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، مجمع البيان 343:1.
7- الوسائل 5/23:4 و 6، ب 5 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، تفسير العيّاشي 127:1-128 / 418-419.

و لا يخالفها المرسل المرويّ عن عليّ عليه السّلام «أنّها الجمعة يوم الجمعة و الظهر في سائر الأيّام»(1) كما لا يخفى.

و أمّا مذهب السيّد فيكفي في ضعفه كونه على خلاف المستفيضة المذكورة. و ما تقدّم من المرسلين و غيرهما - مع ضعفهما بالإرسال و غيره - لا يصلحان لمقاومة تلك المستفيضة، نعم في ذيل صحيحة زرارة المتقدّمة قوله عليه السّلام: و في بعض القراءة «حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى صلاة العصر و قوموا للّه قانتين»(2) إلاّ أنّه في الوسائل «و هو محمول على التقيّة في الرواية»(3) نظرا إلى أنّ هذا القول أيضا ممّا قال به العامّة.

و أمّا ما نقله من الإجماع فهو معارض بإجماع الشيخ في الخلاف(4).

و أمّا المناسبة الّتي ذكرها، فهي إنّما تنهض وجها للتسمية بعد وقوع التسمية، و لا تنهض لإثبات أصل التسمية، مع أنّ نحوها أيضا موجود في الظهر و غيرها ممّا يوافق الأقوال الاخر. و بهذا كلّه يعلم الجواب عن الوجوه و الاعتبارات الاخر المذكورة للأقوال الاخر، مع شذوذ تلك الأقوال بأسرها، و كونها عامّية خارجة على خلاف الروايات المخرجة عن أهل العصمة عليهم سلام اللّه.

ثمّ الفرائض الخمس اليوميّة سبعة عشر ركعة في الحضر، و إحدى عشرة ركعة في السفر، بسقوط ستّ ركعات عن كلّ رباعيّة ركعتين، و هذا - مع أنّه مدلول عليه بالنصوص المتكاثرة البالغة فوق حدّ الاستفاضة، بل القريبة من التواتر بل المتواترة معنى - مجمع عليه بين المسلمين، و إن وقع الخلاف بين العامّة و الخاصّة في كون القصر في السفر عزيمة أو رخصة. و لذا قال في المعتبر - بعد ذكر الحكمين للحضر و السفر -: «و على ذلك كلّه إجماع المسلمين، و إنّما الخلاف في القصر هل هو عزيمة أم لا»(5) فتأمّل.

ص: 19


1- الوسائل 4/23:4، ب 5 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، مجمع البيان 343:1.
2- الوسائل 1/10:4، ب 2 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الكافي 1/271:3.
3- الوسائل 23:4.
4- الخلاف 294:1.
5- المعتبر 12:2 و 14.
ينبوع في أعداد النوافل

و اعلم أنّ ما عدى الصلوات المذكورة كلّه مسنون، و ينقسم إلى النوافل اليوميّة - المعبّر عنها بالرواتب - و غيرها، و هو غير محصور، و الرواتب على ما هو المعروف من مذهب الأصحاب ضعف الفرائض، فتكون أربعة و ثلاثين ركعة، ثمان قبل الظهر، و ثمان قبل العصر، و أربع بعد المغرب، و ركعتان عن جلوس تعدّان ركعة عن قيام معبّر عنها بالوتيرة بعد العشاء، و ثمان صلاة الليل، و ثلاث عقيبها ركعتا الشفع مع ركعة الوتر بعدهما، و ركعتان قبل الفجر، فمجموع الفرائض و نوافلها إحدى و خمسون ركعة.

و في المعتبر وصف العدد المذكور للنوافل «بالمشهور عندنا»(1) بل في المدارك «و هو مذهب الأصحاب لا نعلم فيه خلافا»(2) و عن الذكرى «لا نعلم فيه مخالفا من الأصحاب»(3) و نفى الخلاف عنه أيضا شارح الدروس(4) و نقل نفيه عن المختلف(5) و عن الدروس(6) عليه فتوى الأصحاب، و عن كاشف(7) الرموز عليه عمل الأصحاب، بل عن الخلاف(8) و الانتصار(9) و المهذّب(10) و غاية المرام(11) و مجمع البرهان(12) الإجماع عليه.

و اختلفت الروايات بين متكفّلة لهذا العدد و هي أكثرها و أشهرها، و متضمّنة لثلاثة و ثلاثين ركعة بإسقاط الوتيرة، و متحمّلة لتسعة و عشرين ركعة بإسقاط الوتيرة و أربع

ص: 20


1- المعتبر 12:2 و 14.
2- المدارك 10:3.
3- الذكرى 289:2.
4- شرح الدروس 519:1.
5- المختلف 324:2.
6- الدروس 136:1.
7- كشف الرموز 124:1.
8- الخلاف 525:1 و 526.
9- الانتصار: مسائل الصلاة 50.
10- المهذّب البارع 278:1.
11- غاية المرام 117:1، التعبير فيه بلفظ «أطبق الأصحاب» و هو لا يدلّ على دعوى الإجماع.
12- مجمع الفائدة و البرهان 4:2.

ركعات من نافلة العصر، و مقتصرة على سبعة و عشرين ركعة بإسقاط الوتيرة و الأربع المذكورة مع ركعتين من نافلة المغرب، لا كما في الرياض(1) من كون هذه الستّ كلّها من نافلة العصر، فإنّه سهو واضح.

و من الطائفة الاولى:

الصحيح عن فضيل بن يسار قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول في حديث: إنّ اللّه عزّ و جلّ فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات، فأضاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الركعتين ركعتين، و إلى المغرب ركعة، فصارت عديل الفريضة، لا يجوز تركهنّ إلاّ في سفر، و أفرد الركعة في المغرب، فتركها قائمة في السفر و الحضر، فأجاز اللّه له ذلك كلّه، فصارت الفريضة سبع عشر ركعة. ثمّ سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النوافل أربعا و ثلاثين ركعة مثلي الفريضة، فأجاز اللّه عزّ و جلّ له ذلك، و الفريضة و النافلة إحدى و خمسون ركعة، منها و ركعتان بعد العتمة جالسا تعدّان بركعة مكان الوتر»(2) الحديث.

و الصحيح عنه أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الفريضة و النافلة إحدى و خمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعدّان بركعة و هو قائم، الفريضة منها سبع عشرة، و النافلة أربع و ثلاثون ركعة»(3).

و الصحيح عنه أيضا و الفضل بن عبد الملك و بكير قالوا: «سمعنا أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي من التطوّع مثلي الفريضة، و يصوم من التطوّع مثلي الفريضة»(4).

و الصحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام: إنّ أصحابنا يختلفون في صلاة التطوّع، بعضهم يصلّي أربعا و أربعين، و بعضهم يصلّي خمسين، فأخبرني بالّذي تعمل به أنت كيف هو حتّى أعمل بمثله ؟ فقال: اصلّي واحدة و خمسين ركعة، ثمّ قال: أمسك - و عقد بيده - الزوال ثمانية، و أربعا بعد الظهر، و أربعا قبل العصر، و ركعتين بعد المغرب، و ركعتين قبل العشاء الآخرة، و ركعتين بعد العشاء من قعود تعدّان بركعة من قيام، و ثمان صلاة الليل، و الوتر ثلاثا، و ركعتي الفجر، و الفرائض سبع عشرة، فذلك أحد

ص: 21


1- الرياض 24:3.
2- الوسائل 2/45:4، ب 13، من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الكافي 4/208:1.
3- الوسائل 3/46:4، ب 13، الكافي 2/443:3، التهذيب 2/4:2.
4- الوسائل 4/46:4، ب 13، الكافي 3/443:3، التهذيب 3/4:2.

و خمسون»(1).

و رواية الحارث بن المغيرة النصري قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: صلاة النهار ستّ عشرة ركعة، ثمان إذا زالت الشمس، و ثمان بعد الظهر، و أربع ركعات بعد المغرب، يا حارث لا تدعهنّ في سفر و لا حضر، و ركعتان بعد العشاء الآخرة كان أبي يصلّيهما و هو قاعد و أنا اصلّيهما و أنا قائم، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي ثلاث عشرة ركعة من الليل»(2).

و رواية فضل بن أبي قرّة رفعه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل عن الخمسين و الواحدة ركعة، فقال: إنّ ساعات النهار اثنتا عشرة ساعة، و ساعات الليل اثنتا عشرة ساعة، و من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ساعة، و من غروب الشمس إلى غروب الشفق غسق، فلكلّ ساعة ركعتان، و للغسق ركعة»(3).

و رواية سعد بن الأحوص قال: «قلت للرضا عليه السّلام: كم الصلاة من ركعة ؟ قال: إحدى و خمسون ركعة»(4) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و من الطائفة الثانية: رواية حنان قال: «سأل عمرو بن حريث أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا جالس، فقال له: جعلت فداك أخبرني عن صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي ثمان ركعات الزوال، و أربعا الاولى و ثماني بعدها و أربعا العصر، و ثلاثا المغرب و أربعا بعد المغرب، و العشاء الآخرة أربعا، و ثماني صلاة الليل، و ثلاثا الوتر و ركعتي الفجر، و صلاة الغداة ركعتين، قلت: جعلت فداك و إن كنت أقوى على أكثر من هذا يعذّبني اللّه على كثرة الصلاة ؟ فقال: لا و لكن يعذّب اللّه على ترك السنّة»(5).

و رواية حمّاد بن عثمان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالنهار؟ فقال: و من يطيق ذلك، ثمّ قال: و لكن أ لا اخبرك كيف أصنع أنا؟ فقال: بلى، فقال: ثماني ركعات قبل الظهر، و ثماني بعدها. قلت فالمغرب ؟ قال: أربع بعدها، قلت: فالعتمة ؟ قال:

ص: 22


1- الوسائل 7/47:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الكافي 8/444:3.
2- الوسائل 9/48:4، ب 13، الكافي 15/446:3.
3- الوسائل 10/48:4، ب 13، الكافي 5/487:3.
4- الوسائل 11/49:4، ب 13، الكافي 16/446:3.
5- الوسائل 6/47:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، التهذيب 4/4:2، الاستبصار 1: 774/218.

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي العتمة ثمّ ينام، و قال بيده هكذا فحرّكها»(1) الخ.

و من الثالثة: رواية أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التطوّع بالليل و النهار؟ فقال: الّذي يستحبّ أن لا يقصر عنه ثمان ركعات عند زوال الشمس، و بعد الظهر ركعتان، و قبل العصر ركعتان، و بعد المغرب ركعتان، و قبل العتمة ركعتان، و في السحر ثمان ركعات ثمّ يوتر و الوتر ثلاث ركعات مفصولة، ثمّ ركعتان قبل صلاة الفجر، و أحبّ صلاة الليل إليهم آخر الليل»(2).

و المرسل قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يصلّي بالنهار شيئا حتّى تزول الشمس، و إذا زالت صلّى ثماني ركعات و هي صلاة الأوّابين... إلى أن قال: فإذا فاء الفيء ذراعا صلّى الظهر أربعا، و صلّى بعد الظهر ركعتين، ثمّ صلّى ركعتين اخراوين، ثمّ صلّى العصر أربعا إذا فاء الفيء ذراعا، ثمّ لا يصلّي بعد العصر شيئا حتّى تئوب الشمس، فإذا آبت و هو أن تغيب صلّى المغرب ثلاثا، و بعد المغرب أربعا، ثمّ لا يصلّي شيئا حتّى يسقط الشفق، فإذا سقط الشفق صلّى العشاء، ثمّ آوى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى فراشه و لم يصلّ شيئا حتّى يزول نصف الليل، فإذا زال نصف الليل صلّى ثماني ركعات، و أوتر في الربع الأخير من الليل بثلاث ركعات، فقرأ فيهنّ بفاتحة الكتاب و قل هو اللّه أحد، و يفصل بين الثلاث بتسليمة، و يتكلّم و يأمر بالحاجة، و لا يخرج من مصلاّه حتّى يصلّي الثالثة الّتي يوتر فيها و يقنت فيها قبل الركوع، ثمّ يسلّم و يصلّي ركعتي الفجر قبل الفجر و عنده و بعيده، ثمّ يصلّي ركعتي الصبح و هي الفجر إذا اعترض الفجر و أضاء حسنا، فهذه صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّتي قبضه اللّه تعالى عليها»(3).

و من الرابعة: صحيحة زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّي رجل تاجر أختلف و أتّجر، فكيف لي بالزوال و المحافظة على صلاة الزوال، و كم نصلّي ؟ قال: تصلّي ثماني ركعات إذا زالت الشمس و ركعتين بعد الظهر و ركعتين قبل العصر، فهذه اثنتا عشرة ركعة، و تصلّي بعد المغرب ركعتين، و بعد ما ينتصف الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر و منها ركعتا الفجر،

ص: 23


1- الوسائل 15/5:4، ب 13، التهذيب 7/5:2.
2- الوسائل 2/59:4، ب 14، التهذيب 11/6:2، الاستبصار 777/219:1.
3- الوسائل 6/61:4، ب 14 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الفقيه 678/146:1.

فذلك سبع و عشرون ركعة سوى الفريضة. و إنّما هذا كلّه تطوّع و ليس بمفروض، إنّ تارك الفريضة كافر، و إنّ تارك هذا ليس بكافر، و لكنّها معصية، لأنّه يستحبّ إذا عمل الرجل عملا من الخير أن يدوم عليه»(1).

و صحيحته الاخرى قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما جرت به السنّة في الصلاة ؟ فقال:

ثمان ركعات الزوال، و ركعتان بعد الظهر، و ركعتان قبل العصر، و ركعتان بعد المغرب، و ثلاث عشرة ركعة من آخر الليل، منها الوتر و ركعتا الفجر، قلت: فهذا جميع ما جرت به السنّة ؟ قال: نعم، فقال أبو الخطّاب: أ فرأيت إن قوي فزاد؟ قال: فجلس و كان متّكئا فقال:

إن قويت فصلّها كما كانت تصلّى، و كما ليست في ساعة من النهار فليست في ساعة من الليل، إنّ اللّه يقول: وَ مِنْ آنٰاءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ »(2)-(3).

و رواية عبد اللّه بن سنان قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا تصلّ أقلّ من أربع و أربعين ركعة، قال: و رأيته يصلّي بعد العتمة أربع ركعات»(4).

و جمع بين الجميع بحمل الاختلاف على اختلاف مراتب الفضل، فأفضل الجميع سبعة و عشرون ركعة، و دونه في الفضل تسعة و عشرون بإضافة ركعتي المغرب، و دونهما ثلاثة و ثلاثون بإضافة أربع ركعات العصر، و دون الجميع أربعة و ثلاثون بإضافة الوتيرة أيضا، و ربّما يشعر به روايتا أبي بصير و عبد اللّه بن سنان بل صحيحة زرارة الثانية. فالحمل المذكور حسن إن لم يكن في الروايات ما ينافيه بنفي مشروعيّة الزائد، كما قد يتوهّم في مثل رواية حنان و نحوها، و إلاّ فلا مناص من طرح المنافي، أو جميع ما يخالف الطائفة الاولى، لتعيّن العمل بها دون سائر الطوائف لعدم عامل بها من الأصحاب.

ص: 24


1- الوسائل 1/59:4، ب 14، التهذيب 13/7:2.
2- طه: 130.
3- الوسائل 3/59:4، ب 14، التهذيب 12/7:2.
4- الوسائل 4/60:4، ب 14، التهذيب 9/6:2، الاستبصار 775/219:1.
ينبوع [فى ذكر مسائل الاولى نافلة الظهر و العصر]

في ذكر مسائل ينبغي التعرّض لها من باب التفريع:

الاولى: قال في المدارك كما في الذخيرة(1): «المشهور بين الأصحاب أنّ نافلة الظهر ثمان ركعات قبلها، و نافلة العصر ثمان ركعات قبلها»(2) انتهى.

و يؤول إلى دعوى الشهرة على كون الثمانية بأجمعها للعصر، و عن المهذّب(3) البارع أنّ «عليه عمل الطائفة» و عن أمالي(4) الصدوق «أنّ من دين الإماميّة الإقرار بأنّ نافلة العصر ثمان ركعات قبلها». و يظهر ذلك أيضا من كلّ من عبّر عند تفصيل النوافل بأنّ ثمان ركعات للظهر قبلها، و ثمان للعصر قبلها كالمحقّق و الشهيد في النافع(5) و اللمعة(6) و غيرهما(7) في غيرهما. و ربّما نسب إلى ظاهر المقنعة(8) و الخلاف(9) و النهاية(10) و المبسوط(11) و جمل السيّد(12) و الوسيلة(13) و السرائر(14) و غيرها(15) ممّن عبّر في هذا الموضع «بأنّه ثمان قبل الظهر، و ثمان قبل العصر» لظهور عبائرهم في غيره في الاختصاص. و استظهر أيضا ممّن عبّر في مسألة سقوط النوافل النهاريّة في السفر «بأنّه يسقط في السفر نوافل الظهرين» أو «نوافل الظهر و نوافل العصر».

خلافا للمحكيّ (16) عن ظاهر هداية الصدوق(17) «الستّة عشر نافلة الظهر». و عزاه

ص: 25


1- المدارك 13:3.
2- الذخيرة: 184.
3- المهذّب البارع 279:1.
4- أمالي الصدوق: 510 و 511 في المجلس الثالث و التسعون.
5- النافع: 21.
6- اللمعة: 9.
7- كما في مفتاح الكرامة 18:5.
8- المقنعة: 90.
9- الخلاف 525:1، المسألة 266.
10- النهاية: 57.
11- المبسوط 71:1.
12- جمل العلم و العمل (رسائل المرتضى) 31:3.
13- الوسيلة: 81.
14- السرائر 193:1.
15- كالغنية: 106 و الإرشاد 242:1 و المختلف 325:2 و الذكرى 289:2 و المدارك 13:3.
16- الحاكي الجامع للشرائع كتاب الصلاة: 58.
17- الهداية: 30.

الراوندي(1) على ما حكي إلى بعض الأصحاب، و لعلّ مراده الصدوق، لكن فيه ما لا يخفى من كونه منه متهافتا لما سبق عن أماليه، و لظاهر الإسكافي(2) من جعل الركعتين من الثمانية خاصّة للعصر.

و عن الذكرى(3) «أنّ معظم الأخبار و المصنّفات خالية عن التعيين للعصر و غيره» و تبعه على ذلك جماعة ممّن تأخّر عنه منهم صاحبا المدارك و الذخيرة، فيظهر منهم كون النوافل بأجمعها للأوقات الخاصّة من دون إضافة لها في الواقع إلى الفرائض الواقعة في هذه الأوقات، قال في المدارك كما في الذخيرة(4): «و بالجملة فليس في الروايات دلالة على التعيين بوجه، و إنّما المستفاد منها استحباب ثمان ركعات قبل الظهر و ثمان بعدها، و أربع بعد المغرب، من غير إضافة إلى الفريضة، فينبغي الاقتصار في نيّتها على ملاحظة الامتثال بها خاصّة»(5) انتهى.

و يمكن إرجاع العبائر الظاهرة من الأصحاب في خلاف ذلك إليه بحمل الإضافة إلى الفريضة على مجرّد التعريف، بناء على كفاية أدنى الملابسة فيها. فهذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه، لعدم دليل في الروايات الواردة في باب النوافل على مدخليّة الإضافة إلى الفرائض فيها، فإنّ الروايات بأجمعها بين ما يدلّ على عدد النوافل على الإجمال من غير تفصيل، و ما يدلّ على التفصيل بأنّ ثمان قبل الظهر و ثمان بعد الظهر وارد بعد المغرب، و ما يدلّ عليه أيضا بأنّ ثمان عند الزوال و ستّة بعد الظهر و ركعتان قبل العصر و أربعة بعد المغرب، و ما يدلّ عليه أيضا بأنّ ثمان عند الزوال و أربعة بعد الظهر و أربعة قبل العصر، و ما يدلّ عليه أيضا بأنّ ثمان عند الزوال و ركعتان بعد الظهر و ركعتان قبل العصر. و ليس في شيء من ذلك كما ترى ما يقضي بالاختصاص و التعيين للفريضة.

نعم: ربّما توهّم الدلالة عليه من المرويّ عن العلل بإسناده عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال «قلت: لأيّ علّة أوجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلاة الزوال ثمان قبل الظهر و ثمان قبل العصر؟... إلى قوله قال: لتأكيد الفرائض، لأنّ الناس لو لم يكن إلاّ أربع ركعات

ص: 26


1- حكاه عنه الشهيد في الذكرى 289:2.
2- نقله عنه العلاّمة في المختلف 325:2 و الشهيد في الذكرى: 289:2.
3- الذكرى 289:2.
4- الذخيرة: 184.
5- المدارك 13:3.

الظهر لكانوا مستخفّين بها حتّى كاد تفوتهم الوقت، فلمّا كان شيئا غير الفريضة أسرعوا إلى ذلك لكثرته، و كذلك الّتي من قبل العصر ليسرعوا إلى ذلك لكثرته، و ذلك لأنّهم يقولون: إن سوفّنا و نريد أن نصلّي الزوال يفوتنا الوقت، و كذلك الوضوء للمغرب يقولون: حتّى نتوضّأ يفوتنا الوقت، فيسرعوا إلى القيام، و كذلك الأربع ركعات الّتي من بعد المغرب، و كذلك صلاة الليل في آخر الليل ليسرعوا القيام إلى صلاة الفجر، فلتلك العلّة وجب هذا هكذا»(1).

و فيه: منع الدلالة، فإنّ تأكيد الفرائض بالمحافظة عليها عن فوات وقتها بملاحظة كثرة الصلوات الواقعة في أوقاتها لا يقضي بكون النوافل من وظائف الفرائض لا أنّها كالفرائض من وظائف تلك الأوقات، مع أنّه لو تمّت هذه الدلالة بموجب التعليل الوارد في الرواية لقضت بتعيّن نافلة الليل أيضا لفريضة الصبح، و هم لا يقولون به.

فظهر بذلك أنّ المقصود من التعليل مجرّد إبداء الحكمة في التشريع، لا بيان مدخليّة الإضافة في المشروع.

و من هنا ظهر الجواب عمّا لو استدلّ بصحيحة محمّد بن مسلم قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ عمّار الساباطي روى عنك رواية، قال: و ما هي ؟ قلت: روى أنّ السنّة فريضة، فقال: أين يذهب ؟ ليس هكذا حدّثته، و إنّما قلت له: من صلّى فأقبل على صلاته لم يحدّث نفسه فيها أو لم يسه فيها أقبل اللّه عليه ما أقبل عليها، فربّما رفع نصفها أو ربعها أو ثلثها أو خمسها، و إنّما امرنا بالسنّة ليكمل بها ما ذهب من المكتوبة»(2). و في معناها صحيحته الاخرى عن أبي جعفر(3) و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام(4).

و بالتأمّل فيما ذكر يظهر أيضا منع الدلالة عمّا لو استدلّ بما ورد في الروايات في وجه مشروعيّة نافلة الوتيرة من أنّها شرّعت ليتمّ لكلّ ركعة من الفريضة ركعتان من النافلة، بتقريب: أنّ فريضة الظهر لمّا كان عدد ركعاتها أربعا فجعل لها ثمانية، فحساب كلّ ركعتين بإزاء ركعة، و كذا فريضة العصر بالقياس إلى الثمانية الاخرى، فإنّ ذلك لا ينافي أن يكون في الأوقات الخاصّة حكمة اقتضت تشريع النوافل لها على حسب ما في

ص: 27


1- الوسائل 21/53:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، علل الشرائع: 3/328، ب 24.
2- الوسائل 2/70:4، ب 17 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الكافي 1/362:3.
3- الوسائل 3/71:4، ب 17، الكافي 2/363:3، التهذيب 1413/341:2.
4- الوسائل 4/71:4، ب 17، الكافي 3/363:3.

الفرائض. غاية ما هنالك قيام حكمة اخرى مقتضية لكون النوافل ضعف الفرائض، فشرّعت الوتيرة ليتمّ بها العدد.

و قضيّة قاعدة الضعف وقوع كلّ ركعتين من النافلة بإزاء ركعة من الفريضة، لأنّ الاثنين ضعف الواحد، مع أنّ الدلالة على ما ذكر من مدخليّة الإضافة في المشروع لانتقضت بنوافل المغرب و العشاء و الصبح، لوجوب كون نافلة المغرب على حساب الركعتين لركعة ستّ ركعات، و نافلة العشاء ثمانية، و نافلة الصبح أربعة. و هذا كما ترى خلاف النصّ و الفتوى. مع أنّ في النصوص ما هو ظاهر كالصريح في اختصاص النوافل بساعات الليل و النهار أو بالأوقات، ففي مرفوعة أبي قرّة المتقدّمة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل عن الخمسين و الواحدة ركعة، فقال: إنّ ساعات النهار اثنتا عشرة ساعة، و ساعات الليل اثنتا عشرة ساعة، و من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ساعة، و من غروب الشمس إلى غروب الشفق ساعة، فلكلّ ساعة ركعتان، و للغسق ركعة»(1).

و رواية أبي هاشم الخادم قال: «قلت لأبي الحسن الماضي عليه السّلام: لم جعلت صلاة الفريضة و السنّة خمسين ركعة لا يزاد فيها و لا ينقص منها؟ قال: لأنّ ساعات الليل اثنتا عشرة ساعة، و فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ساعة، و ساعات النهار اثنتا عشرة ساعة، فجعل اللّه لكلّ ساعة ركعتين، و ما بين سقوط الشمس إلى سقوط الشفق غسق فجعل للغسق ركعة»(2).

و المرويّ عن عيون الأخبار و العلل بإسناد عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في حديث «و إنّما جعلت السنّة في أوقات مختلفة و لم تجعل في وقت واحد، لأنّ أفضل الأوقات ثلاثة، عند زوال الشمس، و بعد المغرب، و بالأسحار، فأحبّ أن يصلّي له في كلّ هذه الأوقات الثلاثة، لأنّها إذا افترقت السنّة في أوقات شتّى كان أداؤها أيسر و أخفّ من أن تجمع كلّها في وقت واحد»(3).

ثمّ إنّ هذا البحث لم يظهر له ثمرة معتدّ بها بعد ملاحظة عدم لزوم التعرّض للإضافة إلى

ص: 28


1- الوسائل 10/48:4، ب 13، الكافي 5/487:3.
2- الوسائل 20/52:4، ب 13، علل الشرائع: 1/324، ب 16.
3- الوسائل 22/53:4، ب 22/13، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 107:2، علل الشرائع: 9/261، ب 182.

الفريضة و غيرها في السنّة و كفاية قصد امتثال الأمر الاستحبابي بالنافلة، إلاّ أنّه ذكر له ثمرتان غير تامّتين:

إحداهما: اعتبار إيقاع الثمان أو الستّ أو الأربع قبل القدمين أو المثل، على الخلاف الآتي في وقت نافلة الظهر، إن جعلنا أحد المذكورات للظهر.

و دفع: بأنّ الشرع لمّا دلّ على تعيين وقت الثمان الّتي بعد الظهر، فلا بدّ من إيقاعها في وقتها، سواء جعلناها للظهر أو العصر كلاّ أم بعضا، فإنّ النصوص قد قضت باعتبار إيقاع الثمان الّتي قبل الظهر قبل القدمين أو المثل، و الثمان الّتي بعدها قبل الأربعة أو المثلين فلا يتفاوت الحال.

ثانيتهما: فيما إذا نذر نافلة العصر، فإنّ الواجب حينئذ هو الثمان على المشهور(1)و ركعتان على قول ابن الجنيد(2).

و دفع: بأنّ النذر يتبع القصد، فإن قصد الثمان أو الركعتين وجب، و إن أهمل بأن لم يتعرّض للعدد ففي انعقاد النذر حينئذ منع. و الأولى أن يقال بأنّه على تقدير عدم التعرّض للعدد أيضا ينصرف إلى الثمان، لأنّه المعهود من نافلة العصر المركوز في أذهانهم، و إن لم يكن الاختصاص بحسب الشرع ثابتا في الواقع.

و في المدارك «و إن قصد ما وظّفه الشارع للعصر أمكن التوقّف في صحّة النذر، لعدم ثبوت الاختصاص كما بيّنّا»(3) انتهى.

و فيه نظر: لأنّ فساد الاعتقاد لا يوجب عدم انعقاد النذر في المعتقد، بعد ما كان بحسب العدد معهودا عند الناذر مركوزا في ذهنه.

الثانية(4): لا ريب أنّ الرواتب آكد النوافل و أفضلها، على ما هو المجمع عليه المستفاد من النصوص المتضمّنة لمزيد تأكيد في فعلها و أكيد مبالغة في إدراكها، كما لا ريب في تفضيل الرواتب بعضها على بعض و كون بعضها أفضل من بعض، و أمّا تفصيل ذلك و تشخيص الأفضل عن غيره فيمكن تقريره بأحد الوجوه:

الأوّل: ما هو قضيّة الجمع بين مختلفات الأخبار في ضبط عدد ركعات الرواتب حسبما

ص: 29


1- المختلف 325:2، المهذّب البارع 280:1.
2- نقله عنه في المختلف 325:2.
3- المدارك 14:3.
4- تقدّمت الاولى في ص: 25.

تقدّم، بأن يكون أفضل الجميع سبعة عشر ركعة، و هي ثمانية الظهر، و أربع ركعات من ثمانية العصر، و ركعتان من أربع ركعات المغرب، و ثلاثة [من] عشر صلاة الليل، ثمّ بعدها الركعتان الأخيرتان من المغرب، ثمّ الأربع الباقية من العصر، ثمّ الوتيرة، فهي مفضولة بالقياس إلى الجميع.

الثاني: ما عن ابن بابويه: «من أنّ أفضل هذه الرواتب ركعتا الفجر، ثمّ ركعتا الزوال، ثمّ نافلة المغرب، ثمّ تمام صلاة الليل، ثمّ تمام نوافل النهار»(1).

الثاني(2): ما اختاره في المدارك بقوله: أفضل الرواتب صلاة الليل، لكثرة ما ورد فيها من الثواب، و لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في وصيّته لعليّ عليه السّلام: «عليك بصلاة الليل»(3) ثلاثا رواه معاوية بن عمّار في الصحيح عن الصادق عليه السّلام. ثمّ صلاة الزوال، لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الوصيّة:

«و عليك بصلاة الزوال»(4) ثلاثا. ثمّ نافلة المغرب، لقوله عليه السّلام في رواية الحارث بن المغيرة:

«أربع ركعات بعد المغرب لا تدعهنّ في حضر و لا في سفر»(5) ثمّ ركعتا الفجر، لما روي عن عليّ عليه السّلام «أنّه قال في قوله تعالى: قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كٰانَ مَشْهُوداً (6): «ركعتا الفجر تشهدها ملائكة الليل و ملائكة النهار»(7) و في السند و الدلالة نظر(8).

و قال الشيخ في الخلاف: «ركعتا الفجر أفضل من الوتر بإجماعنا»(9).

أقول: أمّا الوجه الأوّل فلا ينبغي الركون إليه لعدم قائل به من الأصحاب، و لا ينافيه ما عرفت عن جمع من ذكرهم له وجها للجمع بين الأخبار، لأنّه ليس على وجه الإفتاء به، بل مجرّد إبداء احتمال لرفع التنافي محافظة على الأخبار المنافية للنصوص المعمول بها عن الطرح كما هو ديدنهم، و لا سيّما الشيخ في التهذيب لما استقرّ ديدنه على ذكر احتمال في الخبر المخالف لمجرّد رفع التنافي من دون إفتاء بالمحتمل.

ص: 30


1- نسبه إلى رسالة أبيه في من لا يحضره الفقيه: باب أفضل النوافل 496:1.
2- هكذا في المصدر و الصحيح «الثالث» لأنّه ذكر الثاني عن ابن بابويه قبل أسطر.
3- الوسائل 91:4، ب 5/35، الفقيه 1402/307:1، المقنعة: 19، الكافي 33/79:8.
4- الوسائل 1/93:4، ب 1/28، الكافي 33/79:8.
5- الوسائل 9/48:4، ب 13، الكافي 15/446:3، التهذيب 5/4:2.
6- الإسراء: 78.
7- الكافي 2/282:3، التهذيب 116/37:2، الوسائل 1/155:3، ب 18.
8- المدارك 23:3-24.
9- الخلاف 198:1.

و أمّا الوجه الثاني فمستنده غير واضح، كما اعترف به غير واحد، إلاّ أن يتشبّث فيه بقاعدة التسامح في أدلّة السنن، مع الاكتفاء فيه بفتوى الفقيه خصوصا مثل الصدوق.

و أمّا الوجه الثالث فحسن لوضوح دليله خصوصا في صلاة الليل ثمّ صلاة الزوال، لما عرفت من الوصيّة بهما ثلاثا، بل في بعض الروايات المتكفّلة لنقل هذه الوصيّة في صلاة الليل أربعا، إلاّ أنّ فيها نوع إجمال في النصوص لما فيها من التعبير بصلاة الزوال، و لا يدرى أنّ المراد بها الركعتان الاوليان لمقاربتهما الزوال أو جميع الثمان الركعات لانصراف صلاة الزوال إلى الجميع، و فيه تأمّل، ثمّ نافلة المغرب للنهي عن تركها في المستفيضة(1) و اللّه العالم.

الثالثة: يكره الكلام بين أربع ركعات نافلة المغرب، و بين المغرب و نافلتها أيضا. و دليل الأوّل ما رواه الشيخ عن أبي الفوارس قال: «نهاني أبو عبد اللّه عليه السّلام أن أتكلّم بين الأربع ركعات الّتي بعد المغرب»(2).

و قد أخذه في المدارك دليلا على الثاني أيضا باعتبار الفحوى قائلا: «و كراهة الكلام بين الأربع يقتضي كراهة الكلام بينها و بين المغرب بطريق أولى»(3).

و فيه: منع واضح سيّما مع احتمال وجود الفارق، و هو أنّ نافلة المغرب بجميع ركعاتها الأربع بمنزلة عبادة واحدة، فكره الكلام بين ركعاتها، بخلاف الفريضة مع النافلة.

فالوجه أن يستدلّ لهذا الحكم بما رواه عن أبي العلاء الخفّاف عن جعفر بن محمّد قال:

«من صلّى المغرب ثمّ عقّب و لم يتكلّم حتّى يصلّي ركعتين كتبتا له في علّيين، فإن صلّى أربعا كتبت له حجّة مبرورة»(4) فإنّ الكراهة لا يعنى بها إلاّ رجحان الترك المستفاد من الرواية، و قد يعبّر عنه هنا باستحباب الترك، و هو خلاف المصطلح إلاّ أن يراد به الكراهة.

و يستفاد منها أيضا استحباب التعقيب في هذا الموضع بالخصوص، إلاّ أنّه عن مقنعة المفيد رحمه اللّه «أنّ الأولى القيام إلى نافلة المغرب عند الفراغ منها قبل التعقيب، و تأخيره إلى أن

ص: 31


1- تقدّم في صفحة: 30 الرقم 5.
2- الوسائل 1/488:6، ب 30 من أبواب التعقيب، الكافي 7/433:3، التهذيب 193/114:2.
3- المدارك 14:3.
4- الوسائل 2/488:6، ب 30 من أبواب التعقيب، التهذيب 113:2، ب 190/8.

يفرغ من النافلة»(1) و مقتضاه استحباب تأخيره عن النافلة لا تقديمه عليها. و لعلّ مستنده كما ذكره غير واحد المرويّ من فعل النبيّ من «أنّه لمّا بشّر بالحسن عليه السّلام صلّى ركعتين بعد المغرب شكرا، فلمّا بشّر بالحسين صلّى ركعتين، و لم يعقّب حتّى فرغ منها»(2).

و فيه - مع عدم وضوح سند الرواية و عدم دلالتها بانفرادها على أنّ هذه الصلاة المؤدّاة في موضع الشكر هي النافلة المضروبة للمغرب - منع الدلالة، لعدم ظهورها في استمرار تركه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التعقّب، و إجمال فعله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعدم معلوميّة جهته، و لعلّه لخصوصيّة لها مدخليّة في المقام، كالمبادرة إلى الشكر و أدائه عند ظهور النعمة.

و من الغرائب ما عن الشيخ في التهذيب(3) من استدلاله للمفيد برواية أبي العلاء المتقدّمة مع نصوصيّتها في خلاف المطلوب. و لذا قيل في ردّه «بأنّها تعطي استحباب فعل النافلة قبل الكلام بما لا يدخل في التعقيب، لا استحباب فعلها قبل التعقيب»(4).

و عن الشهيد في الذكرى كما عن المفيد(5) أيضا كالشيخ في التهذيب «أنّ الأفضل المبادرة بنافلة المغرب قبل كلّ شيء سوى التسبيح»(6) استدلّ عليه بما تقدّم من فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قضيّة البشارة بالحسن و الحسين عليهما السّلام. و فيه: منع الدلالة على كلّ من المستثنى و المستثنى منه كما هو واضح.

نعم: إنّما يتّجه الاستدلال على حكم المستثنى و هو استحباب التسبيح بالمرويّ عن العيون، بإسناده عن رجاء بن أبي الضحّاك عن الرضا عليه السّلام في حكاية تفاصيل عمله عليه السّلام في فعل فرائض الليل و النهار و نوافلهما بآدابهما، و فيه: «فإذا سلّم - أي عن المغرب - جلس في مصلاّه يسبّح اللّه و يحمده و يكبّره و يهلّله ما شاء اللّه، ثمّ سجد سجدة الشكر، ثمّ رفع رأسه و لم يتكلّم حتّى يقوم و يصلّي أربع ركعات بتسليمتين»(7) الخ. و مقتضاه استحباب التسبيح، غير أنّه لا ينفي استحباب مطلق التعقيب، مع قضاء ما تقدّم من رواية أبي العلاء

ص: 32


1- المقنعة: 18.
2- الوسائل 6/88:4، ب 24، الفقيه 1319/289:1، التهذيب 424/113:2، علل الشرائع: 1/324.
3- التهذيب 422/113:2.
4- المدارك 14:3.
5- المقنعة: 19.
6- الذكرى 367:2.
7- الوسائل 24/55:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، عيون أخبار الرضا 180:2، ب 5/44.

على استحبابه.

فلا نافي له عدى توهّم قاعدة حمل المطلق على المقيّد، فيحمل إطلاق ما تقدّم على خصوص التسبيح.

و يزيّفه - مع توجّه المنع إلى جريان هذه القاعدة في السنن على ما ذكر في محلّه - أنّ الحمل فرع على التنافي بين ظاهري المطلق و المقيّد، و لا تنافي هنا كما هو واضح. فيكون مطلق التعقيب مستحبّا و يتأكّد في التسبيح الخاصّ . غير أنّه يشكل بأنّ إطلاق المطلق ممّا لا عامل به من الأصحاب فيما نعلم فيتوهّن به إطلاقه، فالأحوط الاقتصار على التسبيح الخاصّ الوارد في رواية رجاء، و الأحوط مراعاة ما فيه من الترتيب بين الأذكار الأربع.

ثمّ : إنّ قضيّة الرواية المذكورة أيضا استحباب سجود الشكر فيما بين الفريضة و النافلة بعد التسبيح قبل النافلة. و أصرح منها رواية جهم بن أبي جهم قال: «رأيت أبا الحسن موسى عليه السّلام قد سجد بعد الثلاث ركعات من المغرب، فقلت له: جعلت فداك رأيتك سجدت بعد الثلاث، فقال: و رأيتني ؟ فقلت: نعم، فقال: فلا تدعها، فإنّ الدعاء فيها مستجاب»(1).

و لكن يعارضهما رواية حفص الجوهري عن أبي الحسن عليه السّلام «أنّه صلّى المغرب فسجد سجدة الشكر بعد السابعة، فقلت له: كان آباؤك يسجدون بعد الثلاثة، فقال: ما كان أحد من آبائي يسجد إلاّ بعد السبعة»(2). و لعلّه لأجل هذه الرواية ما عن المنتهى «من أنّ سجود الشكر في المغرب ينبغي أن يكون بعد نافلتها»(3). لكن ترجيحها على ما عرفت مع ضعف سندها محلّ منع. و قصارى ما هنالك جواز الأمرين كما عن الشهيد في الذكرى(4) لتجويزه العمل بهما، و في شرح(5) الدروس «أنّه الأظهر» و في المدارك(6) بعد نقل الروايتين «أنّ الكلّ حسن». و قضيّة ذلك ثبوت التخيير بين الأمرين، لكنّ الأحوط خروجا عن شبهة ترك السنّة تكرّر هذا السجود، فتارة بعد الثالثة، و اخرى بعد السابعة.

و ممّا يستحبّ في نافلة المغرب الدعاء في آخر سجدة من النافلة، لصحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من قال في آخر سجدة من النافلة بعد المغرب ليلة

ص: 33


1- الوسائل 2/489:6، ب 31 من أبواب التعقيب، التهذيب 114:2، ب 195/8.
2- الوسائل 1/489:6، ب 31 من أبواب التعقيب، التهذيب 114:2، ب 194/8.
3- المنتهى 25:4.
4- الذكرى 294:2.
5- شرح الدروس 522:1.
6- المدارك 16:3.

الجمعة و إن قال كلّ ليلة فهو أفضل: (اللّهمّ إنّي أسألك بوجهك الكريم و اسمك العظيم أن تصلّي على محمّد و آل محمّد و أن تغفر لي ذنبي العظيم) سبع مرّات، انصرف و قد غفر له»(1). و عن الذكرى «أنّ محلّ هذا الدعاء السجدة الواقعة بعد السبع»(2) و هذا وهم كما في المدارك(3).

و ممّا ورد في هذه النافلة على ما في رواية رجاء بن أبي ضحّاك «أن يقرأ في الركعة الاولى الحمد و قل يا أيّها الكافرون، و في الثانية الحمد و قل هو اللّه أحد، و في كلّ من الركعتين الباقيتين الحمد و قل هو اللّه أحد»(4).

الرابعة: أنّ ممّا ورد استحبابه بين العشاءين الصلاة المعروفة بصلاة الغفيلة، و هي ركعتان يقرأ فيهما بعد الحمد آيتا ذا النون و عنده مفاتح الغيب، ثمّ يدعى في القنوت بدعاءين على ما في المرويّ عن مصباح الشيخ و فلاح السائل للسيّد ابن طاووس، عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من صلّى بين العشاءين ركعتين قرأ في الاولى الحمد و قوله: وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغٰاضِباً - إلى قوله - وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ (5) و في الثانية الحمد و قوله تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ اَلْغَيْبِ (6) إلى آخر الآية. فإذا فرغ من القراءة رفع يديه و قال: اللّهمّ إنّي أسألك بمفاتح الغيب الّتي لا يعلمها إلاّ أنت، أن تصلّي على محمّد و آل محمّد، و أن تفعل بي كذا و كذا، و يقول: اللّهمّ أنت وليّ نعمتي، و القادر على طلبتي، تعلم حاجتي، فأسألك بحقّ محمّد و آله عليه و عليهم السلام لمّا قضيتها لي، و سأل اللّه حاجته أعطاه اللّه ما سأل»(7) و عن المرويّ عن فلاح السائل زيادة قوله عليه السّلام: «لا تتركوا ركعتي الغفيلة و هما ما بين العشاءين»(8).

و هذه الصلاة ذكرها جمع من الأصحاب كما أنّهم عملوا بهذه الرواية كالشيخ في المصباح(9) و المحقّق في المعتبر(10) و الشهيد في الذكرى(11) و أصحاب المدارك(12)

ص: 34


1- الوسائل 1/394:7، ب 46 من أبواب صلاة الجمعة و آدابها، الفقيه 1251/424:1.
2- الذكرى 295:2.
3- المدارك 15:3.
4- الوسائل 24/55:4 باب 13 من أبواب أعداد الفرائض، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 180:2، ب 5/44.
5- الأنبياء: 87، 88.
6- الأنعام: 59.
7- مصباح المتهجّد: 94.
8- فلاح السائل: 245-246.
9- مصباح المتهجّد: 94.
10- المعتبر 133:2.
11- الذكرى 313:2.
12- المدارك 21:3.

و الذخيرة(1) و شرح(2) الدروس و غيرهم(3). و لا يبعد دعوى الشهرة فيها، بل في المعتبر دعوى الاتّفاق عليها قائلا: «و يستحبّ التنفّل بين المغرب و العشاء زيادة على الراتب بأربع اثنتان بساعة الغفلة و اثنتان بعدها و هو اتّفاق علمائنا. ثمّ ذكر في مستنده من طريق أصحابنا رواية(4) هشام بن سالم المذكورة مستندا إليها للصلاة الاولى، و المرسل المرويّ عن المصباح أيضا مستندا إليه للصلاة الثانية المسمّاة بصلاة الوصيّة عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «اوصيكم بركعتين بين العشاءين يقرأ في الاولى الحمد و إذا زلزلت الأرض ثلاث عشر مرّة، و في الثانية الحمد و قل هو اللّه أحد خمس عشرة مرّة، فإن فعل ذلك كلّ شهر كان من المؤمنين، فإن فعل في كلّ سنة كان من المحسنين، فإن فعل في كلّ جمعة كان من المخلصين، فإن فعل ذلك كلّ ليلة زاحمني في الجنّة و لم يحص ثوابه إلاّ اللّه تعالى»(5)-(6).

و ظاهره رحمه اللّه بل صريحه كون صلاة الغفيلة هي الواقعة في ساعة الغفلة، و هي المشتملة على قراءة الآيتين، و إنّما تسمّى غفيلة لوقوعها في ساعة الغفلة. كما أنّ صريحه كون الركعتين الاوليين كالركعتين الاخريين زائدتين على الأربع الرواتب، لكن في حاشية المدارك «قيل: إنّ هاتين من جملة الأربع ركعات الّتي هي نافلة المغرب(7) ثمّ قال:

و لم نعرف مأخذه بل هذا خلاف ظاهر الخبر»(8).

أقول: و هو كذلك لظهور الخبر في كونهما صلاة منفردة بنفسها غير مرتبطة بالأربع الراتبة حيث لم يشر فيه إلى كونها منها، مع أنّه خلاف ظاهر الأخبار المتكفّلة لبيان الأربع المتضمّن بعضها لبيان كيفيّتها على ما تقدّم، لعدم تضمّن شيء منها لتلك الكيفيّة المخصوصة، مع خلاف ما فهمه الأصحاب الّذين كلامهم بين صريح و ظاهر في كونها زائدة على الأربع، بل خلاف معقد اتّفاق المعتبر حيث نقله في صريح كلامه على وصف الزيادة.

ص: 35


1- الذخيرة كتاب الصلاة: 184.
2- شرح الدروس 525:1.
3- كالشهيد في الدروس: كتاب الصلاة/ 21 و ابن فهد في الموجز: 94، و الكاشاني في المفاتيح 37:1.
4- الوسائل 2/302:6، ب 15 من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة.
5- الوسائل 1/118:8، ب 17 من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، مصباح المتهجّد: 94.
6- المعتبر 133:2.
7- روضة المتقين 289:2، البحار 101:84.
8- حاشية المدارك 293:2.

فالقول المذكور مع شذوذه غير واضح المأخذ، كما اعترف به فيما عرفت من حاشية المدارك. و لعلّه وهم نشأ عن أحد أمرين:

الأوّل: خلوّ الأخبار المتكفّلة لبيان النوافل الّتي كان يفعلها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو غيره من أهل العصمة بين العشاءين، لمكان الاقتصار فيها على الأربع الراتبة، فلو كان بينهما ما زاد على الأربع لما تركوه، لأنّهم عليهم السّلام أولى بفعل ما أمروا به و ترك ما نهوا عنه.

الثاني: ما ورد في بعض روايات هذه الصلاة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تنفّلوا في ساعة الغفلة، و لو بركعتين خفيفتين»(1) بتقريب أنّ كلمة الوصل لبيان الفرد الخفيّ ، و خفاء الركعتين إنّما هو باعتبار كونهما ركعتين، فيقابلهما الزائد عليهما و هو الأربع و ليست إلاّ الأربع الراتبة، و قضيّة ذلك كون الركعتين من جملة الأربع.

و لا يخفى ما فيهما، لوضوح اندفاع الأوّل: بأنّ قصارى ما في الأخبار المقتصرة على الأربع الراتبة الدلالة على أنّ ما فعله أهل العصمة من الرواتب بعد المغرب إنّما هو الأربع، لا على نفي الزيادة ممّا ليس من الرواتب، كيف و هي كغيرها من نصوص سائر الرواتب مسوقة لضبط ما يكون من الواحدة و الخمسين من الفرائض اليوميّة و رواتبها، لا لبيان كلّ فريضة أو نافلة كانوا يفعلونها، و الاّ لسرى الإشكال إلى سائر النوافل المخصوصة أو المطلقة الّتي كانوا يداومونها، فعدم تعرّضها لنحو الغفيلة و غيرها لا ينافي كونها ممّا يفعلونها أيضا.

كوضوح اندفاع الثاني: بأنّ الظاهر أنّ النظر في خفاء الفرد إنّما هو إلى وصف الخفّة، و هي الاكتفاء بقراءة الحمد فقط كما فسّرها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك، لما روي في خبر السكوني الراوي لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تنفّلوا» الخ من قوله: «قيل يا رسول اللّه و ما ساعة الغفلة ؟ قال: ما بين المغرب و العشاء» و عن ابن طاووس روايته كذلك مع زيادة قوله: «قيل يا رسول اللّه و ما معنى خفيفتين ؟ قال: يقرأ فيهما الحمد وحدها»(2) فيقابلها التنفّل المتحقّق بقراءة الآيتين، لا إلى كونهما ركعتين ليقابلهما الأربع. و لو سلّم لتوجّه المنع إلى انحصار الأربع في الأربع الراتبة، لجواز كونهما من أربع اخرى كالّتي عرفت استحبابها زيادة على الراتبة عن المعتبر(3) أو

ص: 36


1- المستدرك 2/302:6، ب 15 من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، فلاح السائل: 245.
2- فلاح السائل: 248.
3- المعتبر 133:2.

ممّا هو أزيد منها أيضا ممّا ورد فعله بين العشاءين في الروايات حسبما ذكر في المطوّلات. و بالجملة فالقول المذكور في غاية السقوط.

و هاهنا توهّم آخر يظهر من المحكيّ عن الذكرى من قوله: «السادس عشر: يستحبّ ركعتان ساعة الغفلة، و قد رواها الشيخ بسنده عن الصادق عن أبيه عليهما السّلام. و ذكر خبر السكوني السابق، ثمّ قال: و يستحبّ أيضا بين المغرب و العشاء ركعتان يقرأ في الاولى بعد الحمد و ذا النون»(1) إلى آخر ما عرفت، فإنّ ظاهره كون ركعتي الغفيلة غير الركعتين اللتين يقرأ فيهما الآيتان.

و فيه: أنّه خلاف المعروف من مصطلح الأصحاب، لاستقراره بتسمية ما يقرأ فيه الآيتان غفيلة. إلاّ أن يعتذر بمنع دلالة العبارة على تغيير الاصطلاح بل غايتها إفادة أنّ ما يقع في ساعة الغفلة ليس هو المسمّاة بالغفيلة بل صلاة اخرى. فيرد عليه: أنّه خلاف ما يقتضيه التناسب بين الغفيلة و ساعة الغفلة باعتبار المادّة، فإنّ النسبة في الغفيلة لا طرف لها إلاّ ساعة الغفلة، مضافا إلى أنّه خلاف معقد إجماع المعتبر، لما عرفت من أنّه ادّعاه على ركعتين في ساعة الغفلة، و استند له إلى رواية ما يقرأ فيه الآيتان. و هذا كما ترى يقضي باتّحاد الغفيلة و ركعتي ساعة الغفلة، بل هو خلاف ما فهمه الأصحاب ظاهرا من اتّحادهما.

كما يظهر ذلك من صاحب الوسائل حيث أفتى «باستحباب التنفّل و لو بركعتين في ساعة الغفلة و هي ما بين العشاءين» بهذا العنوان ثمّ أخذ ينقل الروايات الواردة فيه، فنقل ما رواه الفقيه مرسلا قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تنفّلوا في ساعة الغفلة و لو بركعتين خفيفتين، فإنّهما تورثان دار الكرامة. قال: و في خبر آخر دار السلام و هي الجنّة، و ساعة الغفلة بين المغرب و العشاء الآخرة» ثمّ رواه عنه في العلل، مسندا بسنده عن زرعة عن سماعة عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثمّ رواه عنه أيضا في ثواب الأعمال، مسندا بسنده عن وهب بن وهب عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام... الخ. ثمّ نقله عنه أيضا في المجالس، مسندا بسنده عن محمّد بن خالد عن أبيه. ثمّ نقله عنه أيضا في معاني الأخبار، مسندا بسنده عن عاصم الكوزي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. ثمّ نقله عن الشيخ، مسندا بسنده عن السكوني عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهم السّلام. ثمّ أورد رواية هشام بن سالم

ص: 37


1- الذكرى 313:2.

المتقدّمة في بيان ما يقرأ فيه الآيتان كلّه(1).

و هذا كما ترى يكشف عن فهم كون هذه الروايات بأجمعها واردة لبيان صلاة الغفيلة، و عن فهم اتّحادها مع ركعتي ساعة الغفلة. و لا يقدح فيه كلمة الوصل بعد ملاحظة ما بيّنّاه من النظر في خفاء الفرد الخفيّ إلى وصف الخفّة، لا إلى عدد الركعة، فليتدبّر.

نعم: يبقى الإشكال في مشروعيّة الغفيلة من حيث وقوعها في وقت العشاء على القول بحرمة التطوّع في وقت الفريضة، فإنّ الأخبار الواردة في منع المتطوّع لمن عليه فريضة قضت بعمومها بالحرمة خرج منها الرواتب، و لأجل ذا توقّف غير واحد في تجويزها، و ربّما جعل الاحتياط في تركها أو احتسابها من النافلة. و لكن يدفعه: أنّ عمومات المنع إن سلّمناها كما تخصّص بأدلّة الرواتب كذلك بأخبار الغفيلة، فإنّها بالغة فوق حدّ الاستفاضة، و قد عمل بها على ما عرفت جماعة كالشيخ(2) و المحقّق(3) و الشهيد(3) و غيرهم(4). و بلوغها الحدّ المذكور مع انضمام عمل الجماعة إليها إن لم يوجب العلم بالمشروعيّة فلا أقلّ من إيجابه الظنّ و الاطمئنان، و يتقوّى ذلك بملاحظة ما عرفت من إجماع المعتبر(6) فتخصّص به العمومات بلا شبهة.

نعم: المعضل إنّما هو إثبات مشروعيّة صلاة الوصيّة حسبما أفتى باستحبابها المحقّق في المعتبر(7) مدّعيا «للاتّفاق عليه» فإنّه ليس فيها إلاّ المرسلة المتقدّمة، و هي لضعفها بالإرسال و عدم وضوح جابر لها لا ينهض لتخصيص العمومات البتّة، كما لا يصلح له دعوى الاتّفاق عليه، لأنّ حجّيّة نقل الإجماع ليست ذاتيّة، و إنّما يصير حجّة حيث أفاد الظنّ الاطمئناني، و هو لعدم مشاركة أحد للمحقّق في نقله قاصر عن إفادته، فالمتّجه فيها على هذا المنع.

لا يقال: إنّ المسألة من السنن الّتي يتسامح في أدلّتها، فيكفي في إثبات المشروعيّة هنا المرسل و إن كان ضعيفا تسامحا، و يتأكّد ذلك بانضمام نقل الاتّفاق خصوصا مع الاكتفاء في التسامح بفتوى الفقيه، فكيف بنقله الاتّفاق ؟، لأنّ السنن إنّما يتسامح في أدلّتها حيث انتفى احتمال الحرمة، بل التسامح قاعدة اخذ في موضوعها عدم قيام احتمال الحرمة، فمع

ص: 38


1- الوسائل 120:8-121.
2- مصباح المتهجّد: 94. (3و6و7) المعتبر 133:2.
3- الذكرى 313:2.
4- كابن فهد في الموجز: 94.

قيام هذا الاحتمال ارتفع موضوعها، و هو يقضي بعدم جريانها، و المفروض قيام هذا الاحتمال في المقام.

لا يقال: إنّ هذا إنّما يصحّ إذا كانت الحرمة المحتملة ذاتيّة لا تشريعيّة، لأنّ الحرمة من جهة التشريع لا تنافي الرجحان من جهة التسامح، و إلاّ لزم عدم جريان قاعدة التسامح في شيء من العبادات لقيام احتمال الحرمة من جهة التشريع في الجميع، بل القاعدة بموضوعها رافعة لموضوع التشريع، كما يظهر بالتأمّل على قياس ما هو الحال في الاحتياط الرافع لموضوع التشريع، و لعلّ الحرمة المحتملة في المقام تشريعيّة فلا تمنع عن التسامح.

لأنّ هذا الكلام حسن، حيث انتفى احتمال الحرمة الذاتيّة و انحصر الحرمة المحتملة في التشريعيّة، و انتفاء الحرمة الذاتيّة هنا دون إثباته خرط القتاد، إن لم ندّع ظهور بعض عمومات المنع في الحرمة الذاتيّة، هذا.

لكنّ الإنصاف - بناء على ما سنحقّقه من جواز النافلة لمن عليه فريضة - مشروعيّة هذه النافلة، مع أنّه يمكن أن يقال لإثبات المشروعيّة بإمكان التمسّك بالمرسل مع ضميمة نقل الاتّفاق، بتقريب انجباره بعمل نحو الشيخ و المحقّق، و تأكّد مضمونه بمنقول الاتّفاق الّذي لا معارض له هنا من إجماع منقول على الخلاف، و لا شهرة محقّقة و لا محكيّة بخلافه.

فيحصل الاطمئنان من ملاحظة المجموع و ليس ببعيد، و لكنّ الأحوط تركها أو احتسابها من الأربع الراتبة. و بما ذكرناه يعلم الحال في سائر ما نقل أو روي من الصلوات فيما بين العشاءين، و لتطلب من المطوّلات.

ص: 39

ينبوع في بيان ما يسقط و ما لا يسقط من النوافل

و اعلم أنّه يسقط في السفر نوافل الظهرين «لا أعلم فيه مخالفا بين الأصحاب» كما في الذخيرة(1) و «بلا خلاف بينهم» كما في الحدائق(2) بل «هو مذهب الأصحاب» كما في المدارك(3) بل «هو إجماعي» كما في الروضة(4) و عن الخلاف(5) و غيره(6) بل «من دين الإماميّة الإقرار بأنّه لا يصلّى في السفر من نوافل النهار شيء، و لا يترك فيه من نوافل الليل شيء» كما عن أمالي(7) الصدوق، للنصوص الّتي فيها الصحاح و غيرها:

ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: «سألته عن الصلاة تطوّعا في السفر؟ قال: لا تصلّ قبل الركعتين و لا بعدهما شيئا نهارا»(8).

و صحيح حذيفة بن منصور عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا: «الصلاة في السفر ركعتان، ليس قبلهما و لا بعدهما شيء»(9).

و صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الصلاة في السفر ركعتان، ليس قبلهما و لا بعدهما شيء، إلاّ المغرب ثلاث»(10).

و خبر أبي يحيى الحنّاط قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن صلاة النافلة بالنهار في السفر؟

ص: 40


1- الذخيرة: 185.
2- الحدائق 45:6.
3- المدارك 26:3.
4- الروضة البهيّة 171:1.
5- الخلاف 568:1 مسألة 348.
6- كالغنية: 106، مجمع الفائدة و البرهان 7:2، السرائر 194:1.
7- أمالي الصدوق: 510 و 514، المجلس الثالث و التسعون
8- الوسائل 1/81:4، ب 21 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، التهذيب 32/14:2.
9- الوسائل 2/81:4، ب 21، التهذيب 34/14:2.
10- الوسائل 3/82:4، ب 21، التهذيب 31/13:2، الاستبصار 778/220:1.

فقال: يا بنيّ لو صلحت النافلة في السفر تمّت الفريضة»(1).

و خبر أبي بصير أو صحيحه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الصلاة في السفر ركعتان، ليس قبلهما و لا بعدهما شيء إلاّ المغرب، فإنّ بعدها أربع ركعات لا تدعهنّ في سفر و لا حضر، و ليس عليك قضاء صلاة النهار، و صلّ صلاة الليل و اقضه»(2).

و خبر الفضل بن شاذان عن الرضا، و فيه «و إنّما ترك تطوّع النهار و لم يترك تطوّع الليل، لأنّ كلّ صلاة لا يقصّر فيها فلا يقصّر فيما بعدها من التطوّع، و كذلك الغداة لا تقصير فيها فلا تقصير فيما قبلها من التطوّع»(3).

و خبر رجاء بن أبي ضحّاك عن الرضا عليه السّلام «أنّه كان في السفر يصلّي فرائضه ركعتين ركعتين إلاّ المغرب، فإنّه كان يصلّيها ثلاثا، و كان لا يدع نافلتها، و لا يدع صلاة الليل و الشفع و الوتر و ركعتي الفجر في سفر و لا حضر، و كان لا يصلّي من نوافل النهار في السفر شيئا»(4).

و ظاهر كلام الأصحاب كون السقوط هنا عزيمة، و لا نعلم فيه مخالفا كما لم نقف على نقل قول بالخلاف، و هو المستفاد من ظاهر النصوص، فإنّ قوله عليه السّلام: «الصلاة في السفر ركعتان، ليس قبلهما و لا بعدهما شيء»(5) ظاهر كالصريح في نفي المشروعيّة. و أظهر قوله عليه السّلام: «لو صلحت النافلة في السفر تمّت الفريضة»(6) فإنّ نفي الصلاحية يرادف الفساد.

و توهّم: كون المراد به الرخصة و رفع تأكّد الاستحباب من النصوص المسوّغة لقضاء النوافل النهاريّة في السفر ليلا، يدفعه: منع دلالتها عليه بطريق النصوصيّة و لا بطريق الظهور، لعدم الملازمة خصوصا مع ملاحظة عدم تبعيّة القضاء للأداء، و لذا ترى أنّ صوم الحائض يقضى و ليس بمشروع حال الحيض. مع إمكان دعوى الإشعار في هذه الأخبار بعدم المشروعيّة، فإنّ ترخيص القضاء مع عدم ترخيص الأداء مع أنّه بالطبع أفضل ربّما يقضي بانحصار المشروع في القضاء. و لو سلّم فيها الدلالة فليست إلاّ على وجه الظهور،

ص: 41


1- الوسائل 4/82:4، ب 21، التهذيب 44/16:2، الاستبصار 780/221:1.
2- الوسائل 7/83:4، ب 21، الكافي 3/493:3، التهذيب 36/14:2.
3- الوسائل 5/87:4، ب/ 25، علل الشرائع: 266، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 5/183:2.
4- الوسائل 8/83:4، ب 21، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 5/182:2.
5- الوسائل 2/81:4، ب 21، التهذيب 34/14:2.
6- الوسائل 7/83:4، ب 21، الكافي 3/493:3، التهذيب 36/14:2.

و يقدّم عليه ما تقدّم من نفي القبليّة و البعديّة و نفي الصلاحية، لأنّه لو لم يكن نصّا فلا أقلّ من كونه أظهر في عدم المشروعيّة من تسويغ القضاء في إثباتها، و من الواجب ترجيح الأظهر على الظاهر.

و في كون المراد من عدم المشروعيّة ملزوم الحرمة التشريعيّة، أو لازم الحرمة الذاتيّة ؟ وجهان: من أنّ قوله عليه السّلام: «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما و لا بعدهما شيء» لا يقتضي أزيد من عدم المشروعيّة اللازم من عدم الخطاب بالنافلة في السفر. و من ظهور قوله عليه السّلام في صحيحة محمّد بن مسلم: «لا تصلّ قبل الركعتين و لا بعدهما شيئا» في الحرمة الذاتيّة، فإنّ النهي كما أنّه ظاهر في التحريم كذلك ظاهر في كونه ذاتيّا ناشئا عن مفسدة ذاتيّة. إلاّ أن يدفع هذا الظهور بملاحظة سائر النواهي الواردة في باب النواهي المصروفة عن التحريم الّتي منها ما تقدّم في خبر أبي بصير «لا تدعهنّ في سفر و لا حضر» لضرورة تعذّر الحقيقة فيه. و يزيّفه: أنّ التجوّز في لفظ وارد في خبر مثلا لقرينة مخصوصة به لا يكشف عن التجوّز فيه إذا كان واردا في خبر آخر مجرّدا عن نحو القرينة المذكورة، كما هو واضح. مع أنّه لو صحّ ذلك باحتمال دعوى قرينيّة السياق لقضى بكراهة النافلة في السفر، لكون النواهي المذكورة مصروفة إليها، و لم يقل به أحد.

نعم: يمكن نفي احتمال الحرمة الذاتيّة، بتقريب: أنّ ما يترك من العبادة يترك تارة لوجود مصلحة في الترك غير منافية لمصلحة الفعل كما في صوم الحائض، و اخرى لوجود مفسدة في الفعل كما في صلاة الحائض، و لذا ثبت للأوّل قضاء دون الثانية، و لعلّه الوجه فيما هو في كلام الأصحاب في أحكام الحائض من التعبير عن حكم صلاتها بعبارة [يحرم] و عن كون صومها بعبارة «لا يصحّ » لمكان أنّهم استفادوا من أدلّة الأوّل الحرمة الذاتيّة الناشئة عن المفسدة في الفعل، و من أدلّة الثاني عدم المشروعيّة الناشئ عن مصلحة في الترك راجحة على مصلحة الفعل. فيقال حينئذ: إنّ النافلة في السفر إنّما تترك لوجود مصلحة فيه، لأنّه المستفاد من النصوص المسوّغة للقضاء فيها، و إلاّ لم يشرّع له ذلك القضاء كما في صلاة الحائض، و بذلك يصرف النهي المذكور عمّا هو ظاهر فيه من الحرمة الذاتيّة. و يظهر ثمرة هذا البحث في جواز إجراء قاعدة التسامح و عدمه في نحو وتيرة العشاء لو اشتبه حكمها من حيث السقوط و عدمه، من جهة الخلاف الواقع فيه و اختلاف النصوص مع العجز عن الترجيح.

ص: 42

و في تعدّي حكم السقوط إلى الأربع ركعات من نوافل يوم الجمعة الزائدة على الستّة عشر، وجه ظاهر من عموم الأدلّة المتقدّمة.

لكن قد يتأمّل فيه تبعا للشهيد(1) في الحواشي المنسوبة إليه من الإطلاق، و من احتمال انصرافه إلى غيرها.

و فيه: أنّ الحكم في النصوص إنّما ورد بعبارة «ليس شيء» و هو صريح في استغراق النفي، و لا معنى لاحتمال الانصراف في نحوه، و يتأكّد ذلك بملاحظة نفي الصلاحية لقضائه، بأنّ نهار السفر ليس محلاّ لماهيّة النافلة، خصوصا مع ملاحظة أنّ ظاهر «لو صلحت تمّت» إثبات الملازمة بين السقوط للنافلة و التقصير في الفريضة، و من المعلوم عموم القصر للجمعة.

و في تعدّي الحكم إلى الأماكن الأربع المخيّر فيها بين القصر و الإتمام وجه، من إطلاق الفتاوي، بل معاقد الإجماعات.

لكن عن الذكرى «يستحبّ صلاة النوافل المقصورة في الأماكن الأربعة، لأنّه من باب إتمام الصلاة المنصوص عليه، و نقله الشيخ نجيب الدين محمّد بن نما عن شيخه محمّد بن إدريس. و لا فرق بين أن يتمّ الفريضة أو لا، و لا بين أن يصلّي الفريضة خارجا عنها و النافلة فيها أو يصلّيهما معا فيها»(2) انتهى. و وافقه صاحب المدارك(3) على أصل الحكم و نفى الفرق من الجهة الاولى مستشكلا فيه من الجهة الثانية.

و الأقوى هو الإطلاق، لنا على أصل الحكم اختصاص النصوص المسقطة للنافلة في السفر بغير الأماكن الأربع، فإنّ قوله عليه السّلام: «الصلاة في السفر ركعتان» يقتضي تعيّن القصر في السفر، فلا يتناول مواضع التخيير بينه و بين الإتمام، فيبقى عموم مشروعيّة النوافل بالقياس إليها على حاله، مضافا إلى أصالة عدم السقوط. هذا مع أنّ قضيّة قوله عليه السّلام: «لو صلحت النافلة في السفر تمّت الفريضة» كون عدم صلاحية النافلة في السفر متفرّعا على عدم صلاحية إتمام الفريضة فيه، فيفهم منه عرفا بحكم هذه الملازمة أنّه كلّما هو صالح لإتمام الفريضة فيه فهو صالح للنافلة أيضا، و المفروض صلاحية الأماكن للإتمام، فتكون صالحة للنافلة أيضا.

ص: 43


1- نقله عنها في مفتاح الكرامة 35:5.
2- الذكرى 335:4.
3- المدارك 27:3.

و من هنا يظهر الوجه في التعميم بالقياس إلى ما لو اختار الإتمام أو القصر، لأنّ صلاحية النافلة متفرّعة على صلاحية الإتمام لا فعليّته، و هذا هو الوجه أيضا في عدم الفرق بين ما لو صلّى النافلة و الفريضة معا في الأماكن، أو صلّى الفريضة خارجا منها و النافلة فيها، لأنّ عدم وقوع الفريضة فيها فعل لا ينفي وصف الصلاحية. نعم لا يجري الحكم فيما لو عكس بأن يصلّي الفريضة فيها و النافلة خارجا عنها، لعدم صلاحية الفريضة للتمام في الخارج.

و من طريق هذا الاستدلال يظهر أنّ الوجه في المسافر الّذي هو في حكم الحاضر - ككثير السفر مثلا - هو عدم السقوط أيضا، لما عرفت من تفرّع السقوط على عدم صلاحية الفريضة للتمام، و أنّ كلّما صلحت الفريضة فيه للتمام فقد صلحت فيه النافلة.

و في تعدّي الحكم إلى الخوف الموجب للقصر وجهان: مبنيّان على كون سقوط النافلة من أحكام السفر فيتّجه الثبوت، أو من أحكام التقصير في الفريضة فيتّجه السقوط، و ظاهر النصّ على ما عرفت من كون السقوط متفرّعا على القصر في الفريضة، و لا يقدح فيه الإضافة إلى السفر، لأنّ قوله: «لو صلحت النافلة في السفر... الخ» يجري مجرى التعليل، فيفهم منه عرفا عدم مدخليّة الإضافات. فالوجه حينئذ هو السقوط وفاقا للمسالك(1)حيث ألحق الخوف بالسفر، و يظهر اختياره من جامع المقاصد حيث إنّه بعد ما ذكر رواية أبي يحيى الحنّاط قال: «و فيها إيماء إلى السقوط في الخوف أيضا»(2).

و لو دخل الوقت على المكلّف و هو حاضر ثمّ سافر قبل فعل النافلة و الفريضة حاضرا، ففيه وجه لعدم السقوط مطلقا من استصحاب الحالة السابقة، فإنّ خطاب مشروعيّة النافلة قد توجّه إليه قبل إنشاء السفر فيستصحب. و يمكن بناء المسألة في الثبوت و السقوط على القولين في الفريضة بالنسبة إلى هذا الفرض، من كون العبرة فيها بحال الوجوب فتثبت النافلة أيضا أو بحال الأداء فتسقط. و الاستصحاب المذكور يمكن منع جريانه لتبدّل موضوع المستصحب، فإنّ الحاضر و المسافر موضوعان متغايران في الحكم، و لا يجري حكم أحدهما فيما هو من مصاديق الآخر، و المكلّف المفروض بإنشائه السفر قد خرج عن عنوان الحاضر و دخل في عنوان المسافر.

ص: 44


1- المسالك 138:1.
2- جامع المقاصد 10:2.

نعم: لو دخل عليه الوقت فأتى بالنافلة حاضرا ثمّ سافر فلا إشكال في الصحّة و إن كان من نيّته السفر حين دخول الوقت و فعل النافلة، لكن في النصوص ما يقضي باستحباب نافلة الظهرين في السفر لمن سافر بعد دخول وقتهما، ففي الحسن عن عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل عن الرجل إذا زالت الشمس و هو في منزله ثمّ يخرج في السفر؟ فقال: يبدأ بالزوال فيصلّيها ثمّ يصلّي الاولى بتقصير ركعتين، لأنّه خرج من منزله قبل أن تحضر الاولى، و سئل فإن خرج بعد ما حضرت الاولى ؟ قال: يصلّي الاولى أربع ركعات ثمّ يصلّي الاولى أربع ركعات ثمّ يصلّي بعد النوافل ثمانية ركعات، لأنّه خرج من منزله بعد ما حضرت الاولى، فإذا حضرت العصر صلّى العصر بتقصير و هي ركعتان، لأنّه خرج في السفر قبل أن تحضر العصر»(1).

نعم: ظاهر جملة من النصوص استحباب قضاء صلاة الليل في السفر نهارا، ففي موثّقة ذريح قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: فاتتني صلاة الليل في السفر، أ فأقضيها في النهار؟ فقال:

نعم إن أطقت ذلك»(2).

و في صحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان عليّ بن الحسين عليه السّلام يقول:

إنّي لاحبّ أن أدوم على العمل و إن قلّ ، قال: قلنا: نقضي صلاة الليل بالنهار في السفر؟ قال:

نعم»(3).

و صحيح صفوان قال: «كان أبو عبد اللّه عليه السّلام يصلّي صلاة الليل بالنهار على راحلته أينما توجّهت به»(4).

و رواية صفوان بن يحيى قال: «سألت الرضا عليه السّلام عن التطوّع بالنهار و أنا في سفر؟ فقال:

لا، و لكن تقضي صلاة الليل بالنهار و أنت في سفر، فقلت: جعلت فداك صلاة النهار الّتي اصلّيها في الحضر أقضيها بالنهار في السفر؟ فقال: أمّا أنا فلا أقضيها»(5) و يستفاد منه أنّ نهار السفر لا يصلح للنوافل النهاريّة حتّى الفائتة منها في الحضر.

ص: 45


1- الوسائل 1/85:4، ب 23، التهذيب 49/18:2.
2- الوسائل 1/92:4، ب 26، التهذيب 590/229:3، الكافي 4/44:3.
3- الوسائل 2/92:4، ب 26 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 40/15:2.
4- الوسائل 3/92:4، ب 26 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 41/15:2.
5- الوسائل 4/92:4، ب 26 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 45/16:2.

ثمّ تقييد الفتاوي كمعاقد الإجماعات المنقولة للنوافل الساقطة في السفر بالنهاريّة عدم سقوط النوافل الليليّة، و هو في ما عدى الوتيرة نافلة العشاء موضع وفاق. و في كلام جماعة منهم ثاني الشهيدين في الروضة(1) نقل الإجماع عليه. و هو مع ذلك منصوص عليه في الروايات، فبالقياس إلى نافلة المغرب ما تقدّم في رواية أبي بصير من استثناء المغرب معلّلا «بأنّ بعدها أربع ركعات، لا تدعهنّ في حضر و لا سفر» و في معناها غيرها من المستفضة الّتي يقف عليها المتتبّع. و بالقياس إلى صلاة الليل ما استفاض من الروايات أيضا كخبر حارث بن المغيرة في حديث قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان أبي لا يدع ثلاث عشرة ركعة بالليل في سفر و لا حضر»(2) و صحيح محمّد بن مسلم قال: «قال لي أبو جعفر عليه السّلام: صلّ صلاة الليل و الوتر و الركعتين في المحمل»(3) و حسنة زرارة بابن فضّال قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر و ركعتا الفجر في السفر و الحضر»(4).

و أمّا الوتيرة فالمشهور فيها السقوط، و حكي فيها الشهرة في جامع المقاصد(5)و المسالك(6) و الروضة(7) و غيرها(8) و عن الحلّي(9) و الغنية(10) الإجماع عليه، و مستنده إطلاق ما تقدّم من النصوص الدالّة على سقوط نوافل الفرائض المقصورة في السفر، فإنّ قوله عليه السّلام: «الصلاة في السفر ركعتان» يتناول بإطلاقه العشاء، كما أنّ قوله عليه السّلام: «ليس قبلهما و لا بعدهما شيء» يتناول بإطلاقه نافلة العشاء، و يتأكّد ذلك باستثناء المغرب الوارد في خبر أبي بصير، فإنّ إفرادها بالاستثناء و نافلتها و عدم استثناء العشاء و نافلتها أقوى شاهد بعموم حكم السقوط لهما هذا، مضافا إلى الملازمة المستفادة من قوله عليه السّلام: «لو صلحت النافلة في السفر تمّت الفريضة» بملاحظة أنّ الاستثناء برفع التالي ينتج رفع المقدّم.

ص: 46


1- الروضة البهيّة 171:1.
2- الوسائل 1/90:4، ب 25 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 39/15:2.
3- الوسائل 2/90:4، ب 25 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 42/15:2.
4- الوسائل 6/9:4، ب 25 من أبواب أعداد الفرائض، الكافي 14/446:3.
5- جامع المقاصد 9:2.
6- المسالك 138:1.
7- الروضة البهيّة 473:1.
8- كالعلاّمة في المختلف 326:2، و الفاضل المقداد في التنقيح الرائع 163:1.
9- السرائر 194:1.
10- الغنية: 106.

و مقابل المشهور ما عن الشيخ في النهاية(1) من القول «بعدم سقوطها» و تبعه الشهيد في الذكرى(2) حيث قوّى عدم السقوط معلّلا بكون الخبر الآتي المتضمّن له خاصّا و معلّلا، فيخصّص به عمومات السقوط و تبعهما الشهيد الثاني في الروضة(3) قائلا: «بأنّ ما قوّاه المصنّف قويّ » و تبعهم صاحب الحدائق(4) و ربّما يظهر الميل إليه من غيره كصاحب المدارك(5) و الذخيرة(6) كما أنّه ربّما يستشمّ التردّد من الذكرى(7) حيث قال بعد تقوية عدم السقوط: «إلاّ أن ينعقد الإجماع على خلافه». و منهم(8) من تردّد في المسألة.

و مستندهم ممّا استدلّ و ما يمكن أن يستدلّ عليه وجوه: كالأصل. و ما تقدّم عن أمالي(9) الصدوق «من أنّه من دين الإماميّة أنّه لا يترك من نوافل الليل شيء». و إطلاق أدلّة مشروعيّة الوتيرة المتناول للحضر و السفر معا. و قاعدة التسامح الّتي يكتفي فيها بفتوى فقيه واحد، فكيف بالخبر الضعيف. و قاعدة حمل المطلق على المقيّد، فإنّ من النصوص الدالّة على السقوط ما هو مقيّد - كصحيح محمّد بن مسلم المتقدّم - و منها ما هو مطلق كباقي ما تقدّم فيحمل الثاني على الأوّل. و خصوص المرويّ في الفقيه بإسناده عن الفضل ابن شاذان عن الرضا عليه السّلام قال: «و إنّما صارت العشاء مقصورة و لم يترك ركعتاها، لأنّ الركعتين ليستا من الخمسين و إنّما زيدت ليتمّ بها بدل كلّ ركعة من الفريضة ركعتان من التطوّع»(10) و توهّم قصوره سنده بعبد الواحد بن عبدوس و عليّ بن محمّد القتيبي بعدم توثيقهما، يدفعه: أنّ المعلوم بالتتبّع أنّهما من مشايخ الصدوق لأنّه كان يكثر في الرواية عنهما، و من المقرّر أنّ كون الراوي من مشايخ الإجازة من أسباب التوثيق و أمارات الوثاقة، خصوصا نحو هذين الرجلين اللذين يكثر في الرواية عنهما الصدوق، فإنّ اعتماد مثل الصدوق عليهما يكشف عن كونهما ثقتين عنده. و خصوص المرويّ عن الفقه الرضوي

ص: 47


1- النهاية 276:1.
2- الذكرى 298:2.
3- الروضة البهيّة 474:1.
4- الحدائق 46:6.
5- المدارك 27:3.
6- الذخيرة: 185.
7- الذكرى 298:2.
8- كالمحقّق في المعتبر 216:2 و النافع: 21، و العلاّمة في التذكرة 273:2 و التحرير 26:1، و الصميري في غاية المرام 116:1 و السبزواري في الكفاية: 15.
9- أمالي الصدوق: 514، المجلس الثالث و التسعون.
10- الوسائل 3/95:4، ب 29 من أبواب أعداد الفرائض، الفقيه 1318/455:1، علل الشرائع 1: 9/267، ب 182.

«نوافل الليل في السفر أربع ركعات بعد المغرب، و ركعتان بعد العشاء الآخرة من جلوس»(1) الخ. و المستفيضة لقوله عليه السّلام: «من كان يؤمن باللّه و باليوم الآخر فلا يبيتنّ إلاّ بوتر»(2) بناء على أنّ المراد بالوتر فيها الوتيرة، كما فسّر بها في بعض هذه المستفيضة.

و في الكلّ ما لا يخفى، فإنّ الأصل مقطوع بما مرّ من دليل المشهور. كما أنّ الإطلاق يخرج عنه بذلك إن سلّم الإطلاق، و إلاّ فدليل مشروعيّة الوتيرة وارد مورد حكم آخر، و هو بيان أصل المشروعيّة على نحو القضيّة المهملة من غير نظر إلى تعميم أو تخصيص. و بذلك يندفع توهّم العموم من وجه بين مطلقات المشروعيّة و مطلقات السقوط في السفر، فيتعارضان في الوتيرة في السفر، و تخصيص الاولى بالثانية ليس بأولى من العكس، بل من المقرّر في محلّه أنّ تعيين التخصيص في أحد العامّين من وجه لا بدّ له من شاهد خارجي، فإنّ أصل الإطلاق في نصوص المشروعيّة بعد ملاحظة الورود مورد الإهمال محلّ منع، و لو سلّم فالشاهد أعمّ من الداخلي و الخارجي، و من الداخلي كون أحد العامّين أظهر في العموم من الآخر. و من الظاهر أنّ قوله عليه السّلام: «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما و لا بعدهما شيء» أظهر في العموم بالقياس إلى الوتيرة من قوله عليه السّلام: «ركعات بعد العشاء الآخرة» مثلا في العموم بالقياس إلى السفر. و لو سلّم فإعراض المعظم عن العمل بذلك إلى العمل بعمومات السقوط يوجب قوّة في دلالة الثاني أو سنده و وهنا في دلالة الأوّل أو سنده، فيترجّح الثاني عليه.

و يندفع قاعدة التسامح، بأنّها مع قيام احتمال الحرمة غير جارية، و لو سلّم انتفاء احتمال الحرمة الذاتيّة في المقام فالقاعدة المذكورة إنّما يرجع إليها حيث لم ينهض دليل معتبر على الخلاف، و قد علم الدليل الجامع لشرائط الحجّيّة من جهات عديدة على خلاف القاعدة، و معه لا التفات إليها.

كما يندفع قاعدة حمل المطلق على المقيّد، بعدم كونها في خصوص المقام في مجراها، لكونهما منفيّين لما هو المقرّر من أنّه حينئذ يعمل بهما معا لعدم التنافي.

و يندفع الخبر الخاصّ المعلّل على تقدير تسليم كفاية كون الرجل من مشايخ الإجازة في توثيقه: أنّ تخصيص العامّ بالخاصّ فرع على التكافؤ، أو إعراض الأصحاب عن العمل

ص: 48


1- فقه الرضا: 100 باب 7 الصلوات المفروضة.
2- الوسائل 1/94:4، ب 29، التهذيب 1412/341:2.

به، و الأخذ بعمومات السقوط مع كونه بمرأى منهم و مسمع يوجب وهنا فيه من حيث صدوره أو جهة صدوره، فلا ينهض لتخصيصها و لو كان معلّلا.

و يندفع الرضوي، بأنّ أصله غير ثابت الحجّيّة، فلا عمل عليه مع عدم جابر خصوصا في نحو المقام الّذي جابر الضعاف فيه على خلافه.

و يندفع المستفيضة بعد تسليم أخذ الوتر فيها بمعنى الوتيرة، بأنّ بينها - بعد الإغماض عن منع ورودها في مقام التعميم لقوّة احتمال ورودها مورد حكم آخر - و بين عمومات السقوط عموم من وجه، فتخصّص بهذه العمومات، لما معها من المرجّحات من وجوه شتّى كما عرفت.

نعم يبقى الكلام فيما عرفت عن الأمالي، و يدفعه - بعد تسليم أنّه يفيد معنى الإجماع، و الإغماض عن أنّه يتوهّن بمصير المعظم إلى خلافه حتّى أنّه لم يوافقه إلاّ شرذمة قليلة مع مخالفة بعضهم كالشيخ في غير النهاية من كتبه(1) كما قيل(2) و عدم كون كلام الآخر كالشهيد صريحا في اختياره، لمكان قوله «إلاّ أن ينعقد الإجماع على خلافه»(3) المشعر بتردّده في عدم السقوط -: أنّه معارض بإجماع السرائر(4) كالغنية(5) على ما حكي، فإمّا يتكافآن أو يترجّح هذان عليه، لما معهما من المرجّحات، كالتعدّد و الصراحة في الإجماع و الاعتضاد بالشهرة العظيمة و النصوص المعتبرة الّتي بها العمل و عليها المعوّل، فالأقوى إذن هو السقوط.

ص: 49


1- انظر الرسائل العشر (المسائل الحائريّات): 286 و الجمل و العقود: 58-59 و المبسوط 71:1.
2- كما في الرياض 28:3.
3- الذكرى 298:2.
4- السرائر 194:1.
5- الغنية: 106.
ينبوع [النوافل تصلى كل ركعتين بتسليم]

النوافل كلّها من رواتبها أو غيرها موقّتاتها و غيرها تصلّى كلّ ركعتين بتسليم، على معنى وجوب الفصل بين كلّ ركعتين بتسليم، و عدم جواز الاقتصار على ركعة واحدة و لا الزيادة على الركعتين بتسليم واحد عدى ما استثني، كما هو المعروف بين الأصحاب المدّعى فيه المعروفيّة و الشهرة في كلام غير واحد، بل عن ظاهر الغنية(1) كصريح الخلاف(2) و السرائر(3) الإجماع عليه.

و هو مع ذلك منصوص عليه في عدّة من الروايات المأثورة من طرق أصحابنا، مضافا إلى النبوي المرويّ في طرق العامّة.

ففي رواية أبي بصير المأخوذة عن كتاب حريز عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال:

«و افصل بين كلّ ركعتين من نوافلك بتسليم»(4) و رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام المأخوذة من قرب الإسناد قال: «سألته عن الرجل يصلّي النافلة أ يصلح له أن يصلّي أربع ركعات و لا يسلّم بينهنّ؟ قال: لا إلاّ أن يسلّم بين كلّ ركعتين»(5) و قصور سنديهما لو كان مجبور بما عرفت من المعروفيّة و الشهرة العظيمة، بل عمل المعظم عليهما، مع الاعتضاد «بقاعدة التوقيف في العبادات» الّتي اعتمد عليها هنا جمع من أساطين أصحابنا، و ملخّصها أنّه كما أنّ أصل العبادات توقيفيّة فكذلك كيفيّاتها، و كما أنّه يجب الاقتصار في الأوّل على ما وظّفه صاحب الشريعة فكذلك في الثاني. و المعلوم من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة ليس إلاّ فعل النوافل ركعتين ركعتين، و لو لم ندّع العلم بعدم اقتصارهم على ركعة و لا الزيادة على ركعتين، فلا أقلّ من عدم العلم بالاقتصار عليها و الزيادة عليهما، و هو كاف في الحكم بعدم

ص: 50


1- الغنية: 106.
2- الخلاف 527:1 المسألة 267.
3- السرائر 193:1.
4- الوسائل 3/63:4، ب 15 من أبواب أعداد الفرائض، مستطرفات السرائر: 1/71.
5- الوسائل 2/63:4، ب 15 من أبواب أعداد الفرائض، المحاسن: 71/325.

المشروعيّة، كما أنّ عدم الدليل على المشروعيّة في التوقيفيّات ينهض دليلا على عدم المشروعيّة.

و العجب عن الفاضل الجواد في شرحه للدروس حيث إنّه بعد ما نقل كلام الأصحاب في عدم مشروعيّة الركعة الواحدة في غير الوتر، و احتجاجهم لذلك بكونها مخالفا للتقدير الشرعي، قال معترضا عليه: «إنّ كونه مخالفا للتقدير الشرعي ممنوع، كيف و الصلاة خير موضوع كما ثبت في الأخبار»(1).

و ضعفه في الوضوح بحيث لا يحتاج إلى البيان، فإنّه لو سلّم عدم العلم بالمخالفة فلا أقلّ من عدم العلم بالموافقة، و هو كاف في المنع من جهة التشريع المحرّم. و إثبات الموافقة بنحو «الصلاة خير موضوع» يدفعه: أنّ القضيّة المسوقة لبيان حكم لا تصلح محرزة لموضوع ذلك الحكم، و لا تنهض دليلا لإثباته، و لا ريب أنّ الكيفيّة المخصوصة في النافلة و هي للفصل بين كلّ ركعتين بتسليم من جملة الموضوع. و لا يمكن نفي اعتبارها بعموم «خير موضوع» لأنّه حكم عامّ في كلّ صلاة وظّفها الشارع. و كون الركعة الواحدة أو الزائدة على الركعتين ممّا وظّفها الشارع بالعموم أوّل الكلام، و يجب إثباته بدليل آخر، و لا يمكن إثباته بهذا الدليل الوارد لبيان الرجحان و الفضل و الاستحباب.

و أعجب من ذلك ما عن مجمع المحقّق الأردبيلي، من «أنّ الدليل على عدم الزيادة و النقيصة غير ظاهر، و ما رأيت دليلا صريحا صحيحا على ذلك، نعم ذلك مذكور في كلام الأصحاب، و الحكم به مشكل، لعموم مشروعيّة الصلاة، و صدق التعريف المشهور على الواحدة و الأربع، و لهذا جوّزوا نذر الوتر و صلاة الأعرابي مع القيد اتّفاقا، و على الظاهر في غيرهما، و تردّدوا في كونهما فردي المنذورة المطلقة أم لا، و لو كان ذلك حقّا لما كان لقولهم هذا معنى. و يؤيّده صلاة الاحتياط، فإنّها قد تقع ندبا مع الوحدة. فيحتمل أن يكون مرادهم الأفضل و الأولى... إلى أن قال: أو أنّ مرادهم بقولهم (كلّ النوافل) أنّهم لم يجدوا فيها ما هو ركعة أو أزيد من ركعتين سوى الوتر و صلاة الأعرابي...»(2) الخ.

و لا يخفى ما فيه بجميع فقراته، فإنّ الدليل على عدم جواز الزيادة و النقيصة قد اتّضح بما تقدّم من الخبرين المنجبرين بعمل الأصحاب مع انضمام الإجماعات المنقولة، و هذا

ص: 51


1- شرح الدروس 524:1.
2- مجمع الفائدة و البرهان 42:3.

الدليل صريح في عدم الجواز، و عدم كونه صحيحا بحسب الاصطلاح إن سلّمناه غير قادح بعد كونه في حكم الصحيح من حيث الاعتبار من جهة الانجبار و الاعتضاد. و بذلك علم أنّ كونه مذكورا في كلام الأصحاب إنّما هو عن مستند، لا أنّه خال عن المستند، فلا ينبغي الاستشكال في الحكم به، و الاستناد لإثبات مشروعيّة الركعة و الأربع في غير الوتر و صلاة الأعرابي إلى عموم مشروعيّة الصلاة.

و صدق التعريف المشهور يدفعه: أنّ أدلّة المشروعيّة عامّة فيما وظّفه الشارع، و كون الواحدة و الأربع على إطلاقهما ممّا وظّفه الشارع أوّل المسألة، و لا يمكن إثباتها بنفس ذلك العموم كما ظهر وجهه. و التعريف المشهور كغيره من التعريفات المذكورة للصلاة تعريف لفظي قصد به تميّز الصلاة عمّا بين سائر العبادات إجمالا و بحسب الصورة النوعيّة، لا أنّه تعريف حقيقي قصد به إفادة تمام الماهيّة، فلا يجدي صدقه على ما صدق عليه نفعا في إثبات المشروعيّة، و لو سلّم فغايته إفادة صدق الصلاة حقيقة على الواحدة و الأربع، فيندرجان في عموم أدلّة المشروعيّة، لكن يجب الخروج عنه بما تقدّم من دليل المنع، فإنّه ينهض مخصّصا للعمومات بلا شبهة.

و تجويزهم نذر الوتر و صلاة الأعرابي ليس لمجرّد عموم المشروعيّة و صدق التعريف، بل لثبوت مشروعيّتهما بالخصوص بالدليل.

و تجويزهم نذر غيرهما ممّا نقص عن الركعتين أو زاد عليهما غير ظاهر.

و تردّدهم في كونهما من المنذورة المطلقة أو المقيّدة أيضا للإشكال عندهم في عموم مشروعيّة الركعة و الأربع.

و صلاة الاحتياط ندبا مع الوحدة في مواردها ليست لثبوت مشروعيّة الركعة الواحدة على وجه العموم، بل لثبوت مشروعيّة صلاة الاحتياط بركعة بخصوصها بالدليل.

و حمل كلامهم على الأفضليّة و الأولويّة يأباه كلماتهم الّتي هي بين صريحة و ظاهرة في المنع و نفي المشروعيّة. و استنادهم إلى الخبرين و الإجماع يرشد إلى أنّ قولهم في النوافل إنّما هو لوجدان عدم المشروعيّة، لا لمجرّد عدم وجدان مشروعيّة ما عدى الوتر و صلاة الأعرابي. و لو سلّم فعدم الوجدان في التوقيفيّات على ما عرفت كاف في الحكم بعدم المشروعيّة.

فالمعتمد ما عليه الأصحاب من عدم جواز الاقتصار على الركعة الواحدة و لا الزيادة

ص: 52

على الركعتين بتسليمة واحدة.

نعم يستثنى عن الأوّل صلاة الوتر الواقعة بركعة واحدة، كما استثناه كلّ من تعرّض للمسألة من أصحابنا، و دليل الاستثناء بعد الإجماع محقّقا و منقولا النصوص المتكاثرة البالغة فوق حدّ الاستفاضة الّتي تقدّم جملة منها، و يقف على الجملة الاخرى المتتبّع.

و في كلام جماعة(1) استثناء صلاة الأعرابي أيضا، و تركه آخرين التفاتا منهم إلى عدم طريق لها في أخبارنا، كما اعتذر لهم غير واحد، و ما ورد في طريقها مع كونه مرسلا عامّي، فإنّ الشيخ في المصباح على ما حكي روى مرسلا عن زيد بن ثابت، قال: «جاء رجل من الأعراب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إنّا نكون بالبادية بعيدا من المدينة و لا نقدر أن نأتيك في كلّ جمعة، فدلّني على عمل فيه فضل صلاة الجمعة و إذا رجعت إلى أهلي أخبرتهم به، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا كان ارتفاع النهار فصلّ ركعتين تقرأ في أوّل ركعة الحمد مرّة و قل أعوذ بربّ الفلق سبع مرّات، و اقرأ في الثانية الحمد مرّة و قل أعوذ بربّ الناس سبع مرّات، فإذا سلّمت فاقرأ آية الكرسي سبع مرّات. ثمّ قم فصلّ ثماني ركعات بتسليمتين، و اقرأ في كلّ ركعة منها الحمد مرّة و إذا جاء نصر اللّه مرّة و قل هو اللّه أحد خمسا و عشرين مرّة، فإذا فرغت من صلاتك فقل: سبحان ربّ العرش الكريم و لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم سبعين مرّة، فو الّذي اصطفاني بالنبوّة ما من مؤمن و لا مؤمنة يصلّي هذه الصلاة يوم الجمعة كما أقول إلاّ و أنا ضامن له الجنّة، و لا يقوم من مقامه حتّى يغفر له ذنوبه و لأبويه ذنوبهما»(2) الحديث.

و هذه الرواية لإثبات مشروعيّة هذه الصلاة حسن لو لا عموم ما تقدّم من دليل المنع، و إلاّ فلعدم ثبوت جابر لها لا تنهض لتخصيص ما عرفت، و لا حكم لقاعدة التسامح هنا كما هو واضح. و العجب عن الفاضل الجواد(3) لتمسّكه بتلك الرواية مع انضمام التسامح لإثبات صلاة الأعرابي، مع أنّ مرجعه إلى تخصيص عموم الدليل بالخبر الضعيف. و على هذا فصلاة الأعرابي موضع تأمّل، و الاحتياط في تركها، و اللّه العالم.

ص: 53


1- كما في السرائر 193:1، الشرائع 166:1، المدارك 29:3.
2- الوسائل 3/369:7، باب 39 من أبواب صلاة الجمعة و آدابها.
3- شرح الدروس 524:1.
ينبوع [كيفية صلاة الوتيرة و الاعرابى]

و اعلم أنّ العلماء من الخاصّة و العامّة بعد ما اتّفقوا على أنّ الوتر منقول عن معناه الأصلي اللغوي إلى الصلاة و أنّها غير خارجة عن صلاة الليل، اختلفوا في تعيين هذه الصلاة المنقول إليها على أقوال ضبطها السيّدان في المصابيح(1) و مفتاح(2) الكرامة:

أحدها: ما عزي إلى الأكثر من علمائنا من أنّه حقيقة في الركعة الواحدة الّتي هي آخر صلاة الليل حيث يظهر من تحديدهم الوتر بها و تحديدها به، و عن أمالي(3) الصدوق «كونه من دين الإماميّة» و عن الشيخ في الخلاف(4) «إجماع الفرقة عليه» و يظهر دعوى الإجماع من محكيّ المنتهى «و عدد صلاة الليل في المشهور إحدى عشر ركعة، منها ثماني صلاة الليل، و اثنتان للشفع يسلّم فيهما ثمّ يوتر بواحدة، ذهب إليه علماؤنا قال: و ممّن قال إنّ الوتر واحدة، عثمان، و سعد، و زيد بن ثابت، و ابن عبّاس، و ابن عمر و ابن زبير، و أبو موسى، و عائشة، و سعيد بن المسيّب، و عطاء، و مالك، و الأوزاعي و الشافعي، و إسحاق، و أحمد، و أبو ثور»(5).

و عنه في التذكرة «الوتر عندنا واحدة لا يزاد عليها، و ما يصلّى قبله ليس من الوتر، ثمّ حكى القول به عن سعيد بن المسيّب و عطاء و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبو ثور»(6) و عن كاشف اللثام «أنّ الوتر عندنا ركعة واحدة»(7).

و ثانيها: أنّه حقيقة في الثلاث، حكي النصّ بذلك عن جماعة من متأخّري أصحابنا

ص: 54


1- مصابيح الأحكام: 63.
2- مفتاح الكرامة 27:5-30.
3- أمالي الصدوق: 51، المجلس الثالث و التسعون.
4- الخلاف 525:1.
5- المنتهى 19:4-20، سنن البيهقي 24:3-27، المحلّى 47:3.
6- التذكرة 264:2.
7- كشف اللثام 155:1.

كشيخنا البهائي(1) و السيّد صاحب المدارك(2) و الفاضل المدقّق الشيخ محمّد بن الحسن ابن الشهيد الثاني(3) و صاحب الذخيرة(4) و غير واحد من شرّاح الحديث(5) و حكي القول به من العامّة عن أبي حنيفة(6) و أصحاب الرأي(7) حاكين ذلك عن عليّ و عمر و ابيّ و أنس و ابن مسعود و أبي امامة و عمر بن عبد العزيز(8) و هو إحدى الروايتين عن ابن عبّاس(9) عن الصحابة و الشافعي و أحمد من الفقهاء، لكن عند أبي حنيفة و من قال بمقالته من الجمهور ثلاث ركعات موصولة بتسليمة واحدة(10) و عند أصحابنا مفصولة بالتسليم في الركعتين.

و ثالثها: ما عن الزهري من العامّة أنّها في شهر رمضان ثلاث ركعات، و في غيره ركعة واحدة(11).

و رابعها: ما عن الشافعي في الرواية الاخرى و أحمد: «من أنّ الوتر كلّ فرد من صلاة الليل من الواحدة إلى الإحدى عشر، أقلّه الأوّل و أكثره الثاني، و ما بينهما من الأفراد مترتّبة في الفضل، و أدنى الكمال هو الثلاث، و أفضل منه الخمس، ثمّ السبع، ثمّ التسع، ثمّ الإحدى عشر، و لا يجوز الزيادة عليها»(12).

و خامسها: ما عن مالك(13) بن أنس و الرواية الاخرى عن ابن عبّاس(14): «من أنّ الوتر ركعة قبلها شفع منفصل عنها، و أقلّه ركعتان و لا حدّ لأكثره».

و سادسها: ما عن الثوري و إسحاق «من أنّها ثلاث و خمس و سبع و تسع و إحدى عشر لا تنقص عن الثلاث و لا تزيد على الإحدى عشر»(15) و هذه الأقوال الأربع كما نصّ عليه

ص: 55


1- حبل المتين: 134، مفتاح الفلاح: 251 الباب السادس.
2- المدارك 17:3.
3- نقله عنه في مفتاح الكرامة 30:5.
4- الذخيرة: 185.
5- شرح معاني الآثار (للطحاوي) باب الوتر 286:1 و 292، نصب الراية (للمرغيناني) 66:1.
6- المجموع 22:4، البحر الرائق 38:2.
7- كما في تذكرة الفقهاء 264:2.
8- التمهيد (لابن عبد البرّ) 250:13، المغني 783:1.
9- مستدرك الوسائل 1/156:3، باب 41 من أبواب المواقيت، سنن النسائي 235:3، كنز العمّال 8: 21883/62.
10- البحر الرائق 38:2، المجموع 22:4، فتح العزيز 225:4، بدائع الصنائع 271:1.
11- الكفاية (ضمن شرح فتح القدير) 372:1.
12- المجموع 12:4، الإنصاف 167:2-170.
13- المغني 790:1، الشرح الكبير 754:1.
14- المجموع 23:2، صحيح البخاري 30:2، سنن النسائي 233:3.
15- المغني 783:1، الشرح الكبير 750:1.

في المصابيح(1) من العامّة و لم يذهب إليها أحد من أصحابنا فلا ينبغي الالتفات إليها، مع أنّه ليس على شيء منها دليل يعتمد عليه، مع قيام الدليل على خلافها.

فالعمدة القولان الأوّلان، و الحقّ منهما الأوّل، لتبادر الواحدة و هي خصوص الأخيرة في عرف المتشرّعة، كما يتبادر من الشفع عندهم الركعتان السابقتان عليها، بل لم يعهد عندهم للوتر معنى إلاّ هذه الركعة الواحدة و هي المركوزة في أذهانهم، كما أنّه لم يعهد عندهم للشفع معنى إلاّ الركعتان المذكورتان. و هذا كلّه آية كون الوتر وضعا للركعة المفردة المتأخّرة عن ركعتي الشفع، و يؤيّده ما تقدّم عن الأمالي و غيره من الإجماعات المنقولة صراحة و ظهورا.

و توهّم أنّ غاية ما يثبت بذلك كونه كذلك في عرف المتشرّعة و لا ينافي كونه في عرف الشارع وضعا للثلاث ركعات، يدفعه الأصل، فإنّ نقل الوتر عن معناه الأصلي بالوضع الشرعي إلى الصلاة على ما عرفت معلوم، و الزائد عليه و هو نقله ثانيا عن الموضوع له الشرعي إلى المعنى المتشرّعي غير معلوم، فينفيه الأصل، و قضيّة ذلك كون المعنى الشرعي هو المعنى المتشرّعي لا غير. مع أنّه يدفعه الملازمة المتّفق عليها المدّعاة على القول بالحقائق الشرعيّة بينها و بين حقيقة المتشرّعة كما هو واضح. و يؤيّد الجميع أو يدلّ على كون الوضع للركعة هو الوضع الشرعي، النصوص المستفيضة الدالّة على كونه للركعة المفردة حيث استعمل فيها في الركعة بطريق الحمل أو الإطلاق، كما تقدّم أكثر هذه النصوص في المباحث المتقدّمة متفرّقة، و يقف على جملة اخرى غيرها المتتبّع.

لا يقال: إنّ هذه النصوص يعارضها أخبار اخر دالّة على كونه للثلاث، و هي بين مشتملة على تحديد الوتر و تفسيره بالثلاث و ما استعمل فيه الوتر في الثلاث مع التصريح بإرادتها و ما يفهم منه إرادتها منه بمعونة القرائن الخارجيّة، و هي بهذه الأنواع الثلاث أكثر من النصوص المذكورة بمراتب شتّى، بل في الكثرة بمثابة ادّعي فيها التواتر، بل في مفتاح الكرامة(2) بلوغها «أربعين خبرا» أو أزيد، بل في مصابيح(3) السيّد رحمه اللّه بلوغها «الخمسين أو أكثر» فتترجّح بكثرتها على ما ذكر.

لأنّا نقول: هذه الروايات مقتولة بنفس ما فيها من الكثرة، بملاحظة عدول المعظم و لا سيّما القدماء و لا سيّما مثل الصدوق و المفيد و شيخ الطائفة - مع ما لهم من قرب العهد

ص: 56


1- مصابيح الأحكام: 138.
2- مفتاح الكرامة 29:5.
3- مصابيح الأحكام: 138.

إلى أهل العصمة الموجب لمزيد اطّلاعهم على آثار الشرع و اصطلاحات الشارع - عن الأخذ بهذه النصوص، مع ما فيها من الكثرة الكذائيّة لكشفه عن أنّ فيها شيئا و شينا من حيث الصدور بعدم صدور جملة منها عن أهل العصمة، أو من حيث جهة الصدور بخروجها عنهم عليهم السّلام مخرج التقيّة لموافقتها مذهب الحنفيّة و أصحاب الرأي، أو من حيث الدلالة بالتجوّز في إطلاق الوتر على الثلاث تسمية للكلّ باسم البعض، و لو كان الداعي إليه التقيّة أيضا إعلاما للموافقة في مذهبهم، و حينئذ فلا ينبغي الالتفات إلى هذه النصوص.

ثمّ : إنّ قضيّة ما اخترناه كون مفردة الوتر مفصولة عن ركعتي الشفع بتسليم بعدهما و قبلها، و هو المعروف من مذهب الأصحاب كما صرّح به غير واحد، بل لعلّه ممّا لا خلاف فيه حيث لم نقف على قائل في أصحابنا بتعيّن الوصل. و يؤيّده عموم الرشد في خلافهم لما عرفت من أنّ الوصل من مذاهب العامّة.

و هو مع هذا كلّه منصوص عليه في المستفيضة الّتي منها: الصحيح عن أبي ولاّد حفص بن سالم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التسليم في الركعتين في الوتر، فقال: نعم، فإن كان لك حاجة فاخرج و اقضها ثمّ عد و اركع ركعة»(1).

و الصحيح الآخر عنه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس أن يصلّي الركعتين من الوتر ثمّ ينصرف فيقضي حاجته»(2).

و الصحيح عن معاوية بن عمّار قال: «قال لي: اقرأ في الوتر في ثلاثتهنّ بقل هو اللّه أحد، و سلّم في الركعتين توقظ الراقد و تأمر بالصلاة»(3) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و ليس في الروايات ما ينافي ذلك عدى عدّة منها ظاهرة في التخيير بين الفصل و الوصل، كصحيحة يعقوب بن شعيب قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التسليم في ركعتي الوتر؟ فقال: إن شئت سلّمت، و إن شئت لم تسلّم»(4).

و صحيحة معاوية بن عمّار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام في ركعتي الوتر، فقال: إن شئت

ص: 57


1- الوسائل 1/62:4، ب 15 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الكافي 29/449:3.
2- الوسائل 8/64:4، ب 15 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، التهذيب 489/128:2.
3- الوسائل 7/64:4، ب 15 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، التهذيب 448/128:2.
4- الوسائل 16/66:4، ب 15 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، التهذيب 494/129:2.

سلّمت، و إن شئت لم تسلّم»(1).

و فيهما - مع خروجهما عن المسألة لأنّ الكلام في تعيين أحد الأمرين - أنّهما لعدم عامل بهما من الأصحاب وجب اطراحهما و إن صحّ سنداهما بحسب الاصطلاح، أو تأويلهما بحمل قوله عليه السّلام «إن شئت سلّمت، و إن شئت لم تسلّم» على التنويع باعتبار قيام موجب التقيّة فوجب معه الوصل، و عدم قيامه فوجب الفصل معه، لا التخيير المصطلح ليكون حكما شرعيّا في المسألة.

و عن الشيخ الجواب عنهما تارة: بحمل السلام المخيّر فيه على صيغة «السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته» الواقعة بعد «السلام علينا و على عباد اللّه الصالحين» إذ بذلك يتحقّق الخروج عن الصلاة، و إذا فالمكلّف بالخيار بين الإتيان بالصيغة الاخرى و عدمه و إن استحبّ الأوّل.

و اخرى: بحمل التسليم المخيّر فيه على ما يستباح به من منافيات الصلاة، كالكلام و غيره تسمية للمسبّب باسم السبب.

و ثالثة: بالحمل على «التقيّة»(2) و لا يرد عليه عدم موافقة مضمونهما لمذهب العامّة و هو تعيين الوصل، لجواز أن يكون التخيير أيضا من مذاهبهم و إن لم يتعرّض لنقله الأصحاب.

مع أنّه لا يعتبر في حمل الخبر على التقيّة الموافقة لمذاهبهم، لأنّه كثيرا ما كان يخرج الخبر عنهم عليهم السّلام تقيّة لمجرّد إلقاء الخلاف بين أصحابهم، كما ورد في غير واحد من الروايات.

و في المدارك «أنّه لو قيل بالتخيير بين الفصل و الوصل و استحباب الفصل كان وجها قويّا»(3).

و فيه: أنّ ذلك إنّما يحسن في الجمع بين الأخبار المتعارضة ما لم يطرأ أحد المتعارضين ما يوجب الوهن المسقط له عن درجة الاعتبار كإعراض الأصحاب عن الأخذ بمضمونه، و أمّا معه كما في المقام فلا داعي إلى الجمع كما لا يخفى، فإنّ غير الحجّة لا يعارض الحجّة، فلا قوّة في الوجه الّذي ذكره، بل هو في غاية الضعف.

ص: 58


1- الوسائل 17/66:4، ب 15 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، التهذيب 495/129:2.
2- التهذيب 264/129:2.
3- المدارك 18:3.
[ينبوع: استحباب القنوت في ركعتي الفجر]

ينبوع

عن الشيخ البهائي(1) «أنّه لا قنوت في ركعتي الشفع، بل هو في الركعة الثالثة من الوتر». و ربّما يظهر ذلك من صاحب المدارك(2) أيضا حيث قال: «يستحبّ القنوت في الركعة الثالثة من الوتر» و جرى على منواله صاحب الذخيرة(3) أيضا، و اختاره صاحب الحدائق(4).

و مستندهم صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «القنوت في المغرب في الركعة الثانية، و في العشاء و الغداة مثل ذلك، و في الوتر في الثالثة»(5) و عن الشيخ البهائي في حواشيه على مفتاح الفلاح أنّه بعد الاستدلال بهذا الخبر، قال: «و هذه الفائدة لم يتنبّه عليها علماؤنا»(6) و قضيّة عبارته هذه كونه أوّل من أحدث هذا القول فتكون في قوّة دعوى الشهرة في خلافه كما فهمه صاحب الحدائق، و إن كانت محتملة لمعنى آخر و هو كون عدم تنبّه علمائنا لما ذكره من الفائدة و هو نفي القنوت عن ركعتي الشفع عملا بالرواية المذكورة لعدم تعرّضهم لأصل المسألة بإثبات و لا بنفي، و لكنّه بعيد. و لذا قيل(7) على ما حكي «أنّ استحباب القنوت في الشفع نصّ عليه أكثر الأصحاب»(8) و في الجواهر «لم يعرف الخلاف فيه إلاّ من المحكيّ عن البهائي»(9) الخ.

و يستفاد دعوى الشهرة فيه من كلمات صاحب الحدائق(10) أيضا، و هو الأقوى و الأظهر، لعموم ما دلّ على استحبابه في كلّ الصلوات، كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام

ص: 59


1- مفتاح الفلاح: 240.
2- المدارك 19:3.
3- الذخيرة: 184.
4- الحدائق 39:6-40.
5- الوسائل 267:6، ب 3 من أبواب القنوت، التهذيب 100/89:2.
6- مفتاح الفلاح: 240، ب السادس.
7- كما في مفتاح الكرامة 578:7
8- بحار الأنوار 208:85، الوسيلة: 116.
9- الجواهر 115:7.
10- الحدائق 40:6.

أنّه قال: «القنوت في كلّ الصلوات»(1).

و صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «القنوت في كلّ ركعتين في التطوّع و الفريضة»(2).

و صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن القنوت ؟ فقال: في كلّ صلاة فريضة و نافلة»(3).

و رواية محمّد بن مسلم قال: قال: «القنوت في كلّ صلاة في الفريضة و التطوّع»(4) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و خصوص رواية رجاء بن أبي الضحّاك الواصف لصلوات الرضا عليه السّلام فإنّ فيها «ثمّ يقوم فيصلّي ركعتي الشفع يقرأ في كلّ ركعة منهما الحمد مرّة و قل هو اللّه أحد ثلاث مرّات و يقنت في الثانية بعد القراءة و قبل الركوع...»(5) الخ.

و لا يضرّ قصور سندها بعد ملاحظة اعتضادها بالعمومات أو انضمام قاعدة التسامح إليها، لكون المسألة من السنن، و لا مانع من إعمالها هنا لعدم احتمال الحرمة الذاتيّة حيث لا قائل، و عدم مخالفة الرواية للدليل المعتبر على الخلاف عموما أو خصوصا بل هي على ما عرفت موافقة للعمومات.

و أمّا الرواية المستدلّ بها على القول الآخر - فمع عدم ظهور عامل بها ممّن عدى الجماعة المذكورة - غير دالّة على نفي القنوت عن الشفع لا صراحة و لا ظهورا، بل غايتها إثبات القنوت لمفردة الوتر، و ذلك لا ينافي ثبوته في ركعتي الشفع أيضا. و لعلّ النكتة في إفرادها بإثبات القنوت إبداء مخالفتها لسائر الصلوات في وضع القنوت، حيث إنّها في كلّ ركعتين منها قنوت، و هي مع كونها ركعة فيها قنوت. و في الوسائل حمل الرواية على أنّ المراد أنّ القنوت المؤكّد في الوتر الّذي يستحبّ إطالته في الثالثة لاستحبابه في الثانية

ص: 60


1- الوسائل 1/261:6، ب 1 من أبواب القنوت، الفقيه 935/208:1.
2- الوسائل 2261:6، ب 1 من أبواب القنوت، الفقيه 934/207:1.
3- الوسائل 8/263:6، ب 1 من أبواب القنوت، الكافي 5/339:3.
4- الوسائل 12/264:6، ب 1 من أبواب القنوت، الكافي 15/340:3.
5- الوسائل 24/58:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 180/181.

أيضا. و ما ذكرناه أجود.

ثمّ إنّ ظاهر الروايات كظاهر فتاوي الأصحاب أنّ في مجموع ركعتي الشفع و مفردة الوتر قنوتين أحدهما في ثانية الشفع و الآخر في مفردة الوتر.

و توهّم قنوتات ثلاث فيها لعدم مساعدة دليل عليه ضعيف بجميع محتملاته، من كون كلّ واحد من الثلاث في ركعة من الثلاث بأن يكون قنوت في الركعة الاولى و آخر في الثانية و الثالث في الثالثة، كما حكى التصريح به عن جماعة، أو كون قنوتين في الركعة الثانية من الشفع أحدهما قبل الركوع و الآخر بعده و قنوت في الثالثة كما نسب إلى بعض الناس، أو كون قنوت في الثانية قبل الركوع و قنوتين في الثالثة أحدهما قبل الركوع و الآخر بعده كما هو المعروف من القول بالتثليث. و بالجملة احتمال التثليث و إن كان قولا في المقام ممّا لا ينبغي الالتفات إليه لضعفه.

نعم ورد في بعض الروايات استحباب قراءة دعاء بعد رفع الرأس عن ركوع الوتر و هو «هذا مقام من حسناته منك»(1) الخ غير أنّه ليس من القنوت المصطلح الّذي يلزم فيه رفع اليدين على وجه مخصوص، لعدم دلالة الرواية الكافلة لهذا الدعاء عليه بشيء، كما هو واضح. و لو كان مبنى القول بالتثليث على احتماله الثالث على إطلاق القنوت على نحو ذلك ليكون ذلك اصطلاحا من القائل فلا مشاحّة فيه.

ص: 61


1- التهذيب 276/132:2، الكافي 89:1.
[ينبوع: هل الجلوس في ركعتي الوتيرة أفضل أم القيام ؟]

ينبوع

اختلف المتأخّرون في ركعتي الوتيرة هل الجلوس فيهما أفضل أو القيام أفضل ؟ و هذا ربّما يومئ إلى عدم الخلاف في جواز القيام فيهما، فإنّ الخلاف في تعيين أفضل الأمرين إنّما هو بعد الوفاق على تجويزهما معا. ففي المسألة قولان، و ربّما يمكن تثليث الأقوال، و ثالثها منع القيام رأسا كما ربّما يستشمّ من جملة من عبائرهم، حيث اقتصر فيها على تحديد نافلة العتمة بركعتين من جلوس تعدّان بركعة من قيام، من دون تعرّض لمسألة الأفضل و لا إشعار بجواز القيام فيهما.

و كيف كان فالقول بأفضليّة الجلوس عزي(1) تارة إلى جمع من الأصحاب، و اخرى إلى ظاهر الأكثر(2) و صريح الروض(3) كما أنّ القول بأفضليّة القيام عزي(4) إلى ظاهر الذكرى(5) و صريح الروضة(6) تارة و إلى الفاضل(7) و جماعة من المتأخّرين اخرى.

حجّة الأوّل: المستفيضة المعتبرة الواردة في تحديد الوتيرة «بركعتين من جلوس تعدّان بركعة من قيام»(8) فإنّها و إن كانت ظاهرة في تعيّن الجلوس، غير أنّه لا بدّ من صرفها إلى إرادة الأفضليّة لعدم الخلاف ظاهرا في جواز القيام.

و استدلّ أيضا بما دلّ من النصوص(9) على كون الوتيرة زيادة في الخمسين تكميلا

ص: 62


1- كما في المدارك 16:3، المصابيح (مخطوط): 3/210، الذخيرة: 184.
2- المبسوط 71:1، المهذّب 68:1، إرشاد الأذهان 242:1، الجواهر 219:12.
3- الروض 475:2.
4- كما في الجواهر 219:12، المدارك 16:3.
5- الذكرى 290:2 ذكر جواز القعود و القيام من دون أفضليّة بينهما.
6- الروضة البهيّة 470:1.
7- الذخيرة: 184.
8- الوسائل 7/47:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الكافي 8/444:3.
9- الوسائل 2/45:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الكافي 4/208:1.

للفرائض و ليكون النوافل ضعف الفرائض، و هذا لا يستقيم إلاّ بالجلوس لأنّ الركعتين جلوسا تعدّان بركعة قياما، و أمّا هما قياما فركعتان بالاستقلال و يزيد معه النوافل عن الضعف بركعة كما لا يخفى. و يمكن الخدشة فيه بأنّه لو تمّ لقضى بتعيّن الجلوس، و القائل بكونه أفضل يسلّم جواز القيام مع أنّ عدّ الركعتين جلوسا بركعة قياما تنزيل من الشارع، و يمكن التزامه فيهما قياما أيضا بدعوى أنّ ركعتي الوتيرة نزّلهما الشارع منزلة ركعة واحدة فعلتا من قعود أو من قيام، فتأمّل.

و حجّة الثاني أوّلا: رجحان القيام في نفسه على القعود، و ثانيا: كونه أحمز فيكون أفضل، و ثالثا: موثّقة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث «و ركعتان بعد العشاء الآخرة يقرأ فيهما مائة آية قائما أو قاعدا و القيام أفضل»(1). و رواية الحارث بن المغيرة النصري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: في حديث: «و ركعتان بعد العشاء الآخرة كان أبي يصلّيهما و هو قاعد و أنا اصلّيهما و أنا قائم...»(2) الخ فإنّ مواظبته عليه على القيام يكشف عن رجحانه، و لا ينافيه كون أبيه عليه السّلام مواظبا على القعود لجواز كونه للمشقّة من جهة كونه جسيما لحيما كثير السنّ ، كما نطق به رواية سدير عن أبي جعفر عليه السّلام «أ تصلّي النوافل و أنت قاعد؟ فقال عليه السّلام: ما اصلّيها إلاّ و أنا قاعد منذ حمّلت هذا اللحم و ما بلغت هذا السنّ »(3).

و يرد عليها: أنّ رجحان القيام مع أفضليّة الأحمز إنّما ثبت بالعموم فيخصّص بما تقدّم من دليل رجحان القعود هنا لكونه خاصّا، و يترجّح ذلك على الروايتين أيضا للأكثريّة بل الاستفاضة البالغة قريبة من التواتر، و صحّة أسانيد كثير منها و موافقتها ظاهر الأكثر بل الاحتياط أيضا، نظرا إلى قيام احتمال المنع عن القيام رأسا كما هو اللازم من ظهورها في تعيّن القعود. و دعوى عدم الخلاف في جواز القيام لعلّها محلّ منع، لجواز وجود القائل بتعيّن الجلوس كما هو قضيّة ما عرفت من ظهور جملة من عبائرهم فيه. فالأقوى حينئذ كون القعود أفضل بل هو الأحوط مراعاة لاحتمال التعيّن بل القول به، كما يعطيه ظواهر النصوص المذكورة و جملة من العبائر، و اللّه وليّ السرائر.

ص: 63


1- الوسائل 16/51:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، التهذيب 8/5:2.
2- الوسائل 9/48:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الكافي 15/446:3.
3- الوسائل 1/491:5، ب 4 من أبواب القيام، الكافي 1/410:3، التهذيب 674/169:2.
[ينبوع: يجوز الجلوس في النوافل اختيارا]

ينبوع

يجوز الجلوس في النوافل اختيارا مطلقا على المشهور كما حكاها(1) غير واحد بل في محكيّ المنتهى(2) «لا نعرف فيه خلافا» بل في المعتبر(3) «هو إطباق العلماء» و في شرح المفاتيح(4) «الإجماع عليه» كما عن جماعة أيضا منهم النهاية قائلا: «يجوز التنفّل قاعدا بإجماع العلماء مع القدرة على القيام»(5).

خلافا للحلّي في السرائر «فمنع عن الجلوس إلاّ في الوتيرة ناسبا للجواز إلى الشيخ في النهاية و رواية شاذّة(6) ثمّ اعترض على نفسه بجواز النافلة على الراحلة، فأجاب بخروجها بالإجماع»(7).

و عرّض عليه الشهيد في الذكرى بأنّ «دعوى الشذوذ هنا مع الاشتهار عجيبة، و المجوّزون للنافلة على الراحلة هم المجوّزون لفعلها جالسا و ذكر النهاية هنا و الشيخ يشعر بالخصوص، مع أنّه قال في المبسوط: يجوز أن يصلّي النوافل جالسا مع القدرة على القيام(8) ثمّ ساق الكلام إلى ذكر الروايات دفعا لتوهّم الشذوذ فيها»(9) و ما عرفته من الإجماعات كأنّه لعدم الاعتداد بخلافه لمعلوميّة نسبه أو للحوقه بالإجماع.

و كيف كان فالمعتمد هو المشهور، و الأصل فيه بعد الإجماعات ما استفاض من الروايات كرواية سهل بن اليسع «إنّه سأل أبا الحسن الأوّل عليه السّلام عن الرجل يصلّي النافلة قاعدا و ليست به علّة في سفر أو حضر، فقال: لا بأس به»(10).

ص: 64


1- كما في الجواهر 218:12.
2- المنتهى 32:4.
3- المعتبر 23:2.
4- مصابيح الظلام 148:2.
5- النهاية: 121.
6- صحيح مسلم 735/507:1، سنن أبي داود 950/250:1، التهذيب 655/166:2، الكافي 3: 2/410، الاستبصار 13/294:1، ب 159 كيفيّة قضاء النوافل و الوتر.
7- السرائر 309:1.
8- المبسوط 132:1.
9- الذكرى 308:2.
10- الوسائل 2/491:5، ب 4 من أبواب القيام، الفقيه 1047/238:1.

و رواية معاوية بن ميسرة «أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول أو سأل يصلّي الرجل و هو جالس متربّعا أو مبسوط الرجلين ؟ فقال: لا بأس»(1).

و رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام قال: «إنّ الصلاة قائما أفضل من الصلاة قاعدا»(2).

و روايته أيضا عن الرضا في حديث قال: «صلاة القاعد على نصف صلاة القائم»(3) إلى غير ذلك ممّا تسمعه من الروايات الدالّة بالالتزام على جواز الجلوس.

نعم ينبغي القطع بكون القيام أفضل، لظهور الإجماع و نفي الخلاف في كلام غير واحد، و صريح خبر ابن شاذان المتقدّم بل ظهور خبره الثاني.

و إذ ثبت جواز الجلوس فيها فهل يتعيّن بدل كلّ ركعة بركعة أو بركعتين ؟ أو جاز الأمران مع التساوي، أو أفضليّة الثاني، صرّح الشهيد في الذكرى(4) بجواز الأمرين، و عزى إلى ظاهر المفيد(5) بل هو ظاهر كلّ من حكم بأفضليّة الركعتين بركعة، كالمحقّق و غيره(6)قائلا في الشرائع: «و إن جعل كلّ ركعتين من جلوس مكان ركعة من قيام كان أفضل»(7) بل صرّح به في المعتبر قائلا: «و التطوّع جالسا جائز، و يحتسب كلّ اثنين بواحدة، و يسلّم عقيب كلّ ركعتين من جلوس، و لو احتسب كلّ ركعة قاعدا بركعة قائما جاز أيضا، و الأوّل أفضل، و هو إطباق العلماء»(8) و ربّما نفي الخلاف عنه، بل ظاهر ما عرفت عن المعتبر كونه «إطباق العلماء» و هو المعتمد.

و دليله مع ظهور عدم الخلاف فيه رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت له: إنّا نتحدّث و نقول: من صلّى و هو جالس من غير علّة كانت صلاته ركعتين بركعة و سجدتين بسجدة، فقال: ليس هو هكذا، هي تامّة لكم»(9) بتقريب أنّه عليه السّلام استفاد من سؤال الراوي

ص: 65


1- الوسائل 3/502:5، ب 11 من أبواب القيام، الفقيه 1050/238:1.
2- الوسائل 3/492:5، ب 4 من أبواب القيام، الفقيه 1513/342:1.
3- الوسائل 2/493:5، ب 5 من أبواب القيام، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 108:2.
4- الذكرى 308:2.
5- المقنعة: 23.
6- كالعلاّمة في التذكرة: 295/2 و المنتهى 32:4 و القواعد 261:1، كشف اللثام 407:3.
7- الشرائع: 32.
8- المعتبر 133:2.
9- الوسائل 1/492:5، ب 5 من أبواب القيام، الكافي 2/410:3.

كونه معتقدا من جهة الأمر بالتضعيف نقص كلّ ركعة بركعة على معنى عدم صحّتها أو وجوب التضعيف على معنى اشتراطه في الصحّة، فردّه و يردعه عن معتقده بقوله: «ليس هو هكذا» أي ليس الأمر كما اعتقدتم. و قوله عليه السّلام: «هي تامّة لكم» معناه الصلاة ركعة بركعة تامّة لكم على معنى التمام في مقابلة النقص المرادف لعدم الصحّة. و حمله على إرادة التمام من حيث الثواب كما يلوح من بعضهم ليس بسديد، مع منافاته لظاهر جملة من النصوص القاضية بنقص ثوابها بالقياس إلى الصلاة قياما الّتي منها ما عرفت في حديث ابن شاذان، من قوله عليه السّلام: «صلاة القاعد على نصف صلاة القائم». هذا كلّه في جواز ركعة بركعة.

و أمّا جواز ركعتين بركعة - فمع أنّه من القضايا الّتي قياساتها معها - يدلّ عليه عدّة من النصوص، كصحيحة الحسن بن زياد الصيقل قال: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا صلّى الرجل جالسا و هو يستطيع القيام فليضعف»(1).

و رواية محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل يكسل أو يضعف فيصلّي التطوّع جالسا؟ قال: يضعف ركعتين بركعة»(2).

و رواية عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه قال: «سألته عن المريض إذا كان لا يستطيع القيام كيف يصلّي ؟ قال: يصلّي النافلة و هو جالس و يحسب كلّ ركعتين بركعة، و أمّا الفريضة فيحتسب كلّ ركعة بركعة و هو جالس إذا كان لا يستطيع القيام»(3).

و هذه الروايات و إن كانت ظاهرة في وجوب التضعيف غير أنّه يجب حملها على الاستحباب، للإجماع على عدم الوجوب، و لدلالة ما تقدّم في خبر أبي بصير. و لذا أنّ الشيخ بعد ما ذكر الخبرين الأوّلين في التهذيب حملهما على الاستحباب، و تبعه جماعة و قرّرهم آخرون. و بهذا ظهر الوجه في استحباب التضعيف. و هل يجوز التلفيق فيها بأن يفعل بعضها قياما و بعضها قعودا أو لا؟

و التحقيق أنّه يتصوّر على وجهين:

أحدهما: أن يصلّي و هو جالس ثمّ يقوم قبل إتمام السورة فيتمّها و يركع من قيام، و هذا

ص: 66


1- الوسائل 4/493:5، ب 5 من أبواب القيام، التهذيب 656/166:2.
2- الوسائل 3/493:5، ب 5 من أبواب القيام، التهذيب 655/166:2.
3- الوسائل 5/493:5، ب 5 من أبواب القيام، مسائل عليّ بن جعفر: 294/171.

ممّا لا ينبغي التأمّل في جوازه بل استحبابه، بل في المعتبر(1) «كونه أفضل» ممّا تقدّم من الجلوس مع التضعيف، للنصّ عليه في عدّة من النصوص: مثل ما رواه حمّاد بن عثمان في الصحيح عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يصلّي و هو جالس ؟ فقال: إذا أردت أن تصلّي و أنت جالس و تكتب لك صلاة القائم فاقرأ و أنت جالس، فإذا كنت في آخر فقم فأتمّها و اركع، فتلك تحسب لك بصلاة القائم»(2) و ما رواه في الفقيه بإسناده عن حمّاد بن عثمان أنّه قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قد اشتدّ عليّ القيام في الصلاة، فقال: إذا أردت أن تدرك صلاة القائم فاقرأ و أنت جالس فإذا بقي من السورة آيتان فقم و أتمّ ما بقي و اركع و اسجد، فذلك صلاة القائم»(3) و ما رواه زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت الرجل يصلّي و هو قاعد فيقرأ السورة فإذا أراد أن يختمها قام فركع بآخرها، قال: صلاته صلاة القائم»(4) و المرويّ عن قرب الإسناد عن محمّد بن الوليد عن عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بالصلاة و هو قاعد و هو على نصف صلاة القائم... إلى أن قال:

فإذا بقيت آيات قام فقرأهنّ ثمّ ركع»(5).

و ثانيهما: أن يصلّي ركعة قياما و ركعة قعودا بتقديم الأوّل أو العكس، و الظاهر عدم مشروعيّة ذلك لعدم اندراجه في نصوص النوافل، لا ما ورد منها بالقيام فيها و لا ما رخص منها في القعود فيها، لظهور كلّ من الفريقين في تمام النافلة قياما أو قعودا، و لا يشمل شيء منهما صورة التلفيق.

و توهّم أنّ جواز الجلوس في الكلّ يقضي بجواز الجلوس في البعض بطريق الأولويّة.

يدفعه منع الأولويّة، فإنّ النصوص قد دلّت على أنّ الشارع شرع في النوافل ما يفعل بتمامه قياما و ما يفعل بتمامه قعودا، و ظاهره أنّ الملفّق على الوجه المذكور هيئة ثالثة مغايرة لهما، و لا يلزم من شرعه لهما شرعه الهيئة المغايرة لهما، و الأولويّة هنا ممّا لا معنى له، كما لا يخفى.

ص: 67


1- المعتبر 133:2.
2- الوسائل 3/498:5، ب 9 من أبواب القيام، التهذيب 676/170:2.
3- الوسائل 2/498:5، ب 9 من أبواب القيام، الفقيه 1046/238:1.
4- الوسائل 1/498:5، ب 9 من أبواب القيام، التهذيب 675/170:2.
5- الوسائل 4/499:5، ب 9 من أبواب القيام، قرب الإسناد: 80.

و بجميع ما قرّرناه ظهر أنّ النافلة تقع مع الاختيار على وجوه أربع: عن قيام، و عن جلوس مع القيام قبل إتمام السورة، و عن جلوس ركعتين بركعة، و عن جلوس ركعة بركعة.

و هذا دون الجميع في الفضل، كما أنّ الأوّل فوق الجميع فيه، و التفضيل في المتوسّطان محلّ تأمّل. لكن في المعتبر(1) جعل «القيام لإتمام السورة أفضل من التضعيف».

و في وقوع النافلة استلقاءا و اضطجاعا مع الاختيار قولان: أصحّهما المنع، لتوقيفيّة العبادة، و عدم ورود مشروعيّة هذه الكيفيّة من الشارع.

و القول الآخر للفاضل «لأنّ الكيفيّة تابعة للأصل، و حيث لا يجب الأصل فلا تجب الكيفيّة»(2).

و ردّ بأنّ عدم وجوب الأصل بالوجوب الشرعي لا ينافي وجوب الكيفيّة بالوجوب الشرطي، و قضيّة قاعدة التوقيف كون ما عدى الكيفيّات المشروعة تشريعا محرّما.

ص: 68


1- المعتبر: 133.
2- إيضاح الفوائد 100:1.
[ينبوع: قد يترك النافلة لعذر]

ينبوع

قال الشهيد في الذكرى: «قد يترك النافلة لعذر و منه الهمّ و الغمّ »(1).

و ظاهره رجحان تركها حال الهمّ و الغمّ ، و استدلّ عليه بما رواه الشيخ بإسناده عن سعد بن عبد اللّه عن معاوية بن حكيم عن معمّر بن خلاّد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام «أنّ أبا الحسن عليه السّلام كان إذا اغتمّ ترك الخمسين»(2) و معناه عدم فعل تمام الخمسين لاستحالة تركه الفرائض منها. و ما رواه أيضا بإسناده عن سعد بن عبد اللّه عن عليّ بن إسماعيل عن معلّى بن محمّد عن عليّ بن أسباط عن عدّة من أصحابنا «أنّ أبا الحسن موسى عليه السّلام كان إذا اهتمّ ترك النافلة»(3).

و طعن عليهما في المدارك «بقصورهما من حيث السند، ثمّ قال: و الأولى أن لا تترك النافلة بحال، للحثّ الأكيد عليها في النصوص المعتبرة»(4).

و ربّما يطعن عليهما من حيث المضمون بأنّه عليه السّلام كيف يترك النافلة مع ما في رواياتهم من التأكيدات الأكيدة على فعلها، حتّى أنّه في غير واحد من الروايات الحكم بكون تركها معصية و كون تاركها مستخفّا متهاونا مضيّعا لحرمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و ممّا يطعن أيضا من حيث المضمون ما في حاشية المدارك للمحقّق البهبهاني من قوله:

«مع أنّ مضمونهما ربّما لا يخلو عن إشكال، لأنّ همّ المعصوم عليه السّلام لو كان من أمر دنيوي فهم عليهم السّلام أمروا بالاستعانة بالصبر و الصلاة، و إلاّ كان اللازم الاهتمام بفعل الصلاة، مع أنّه تعالى كان عندهم أحبّ كلّ شيء، و همّهم كان مقصودا فيه و كانوا مستغرقين في محبّته

ص: 69


1- الذكرى 313:2.
2- الوسائل 4/68:4، ب 16 جواز ترك النوافل، التهذيب 23/11:2.
3- الوسائل 5/68:4، ب 16 جواز ترك النوافل، التهذيب 24/11:2.
4- المدارك 22:3.

لا يعتنون بشيء بعده»(1).

أقول: يمكن الذبّ عن الجميع، أمّا الطعن من حيث السند فلأنّ الرواية الاولى ليس في سندها من يطعن عليه إلاّ معاوية بن حكيم من جهة فطحيّته، لقول الكشّي(2) فيه: إنّه فطحي، لكنّه مع هذا قال: «و هو عدل عالم» و عن النجاشي «ثقة جليل القدر في أصحاب الرضا عليه السّلام»(3) فتدخل الرواية في عداد الموثّقات الّتي هي من جهة إفادتها الوثوق و الاطمئنان معتبرة.

نعم الطعن في الرواية الاولى ربّما كان في محلّه لعليّ بن إسماعيل الّذي لم يصرّح بتوثيقه، و معلّى بن محمّد الّذي قيل فيه «مضطرب الحديث و المذهب»(4) و عن الغضائري «نعرف حديثه و ننكره و يروي عن الضعفاء، و يجوز أن يخرج شاهدا»(5) و العدّة المحتملة للجهالة، غير أنّها غير قادحة في المطلب لكفاية الموثّقة في إثباته، و يخرج هذه الرواية مؤيّدة.

مع إمكان الذبّ عن بعض ما ذكر فيها، مثل كون عليّ بن إسماعيل ممّن يروي عنه الأجلاّء، و يعتمدون عليه مثل محمّد بن أحمد بن يحيى، و محمّد بن عليّ بن محبوب، و عبد اللّه بن جعفر الحميري، و محمّد بن الحسن الصفّار، و سعد بن عبد اللّه، و محمّد بن يحيى العطّار(6) و هو من أمارات الوثاقة، بل عن الحاوي أنّه ذكره في خاتمة قسم الثقات، و عنه قال: «هو في طريق الصدوق إلى إسحاق بن عمّار و قد وصفه العلاّمة(7) بالصحّة و هو يعطي التوثيق»(8).

و مثل ما عن التعليقة في معلّى قال جدّي: لم نطّلع على خبر يدلّ على اضطرابه في الحديث و المذهب، و عن المعراج(9) عن بعض معاصريه عدّه من مشايخ و حديثه صحيحا(10) و عزي كونه من مشايخ الإجازة أيضا إلى الوجيزة(11). و جهالة العدّة ربّما ينجبر بالجمعيّة. فالرواية حينئذ إن لم تكن موثّقة من جهة عليّ بن أسباط الفطحي الثقة فلا أقلّ من كونها قويّة، فربّما تكفي في طلب الاطمئنان إن لم يعارضها مثلها أو ما هو أقوى منها.

ص: 70


1- حاشية المدارك 294:2.
2- اختيار معرفة الرجال: 285.
3- رجال النجاشي 348:2.
4- رجال النجاشي 365:2.
5- الرجال لابن الغضائري: 96.
6- راجع معجم رجال الحديث 272:11.
7- الخلاصة: 184 الرقم 1.
8- حاوي الأقوال 22:3.
9- معراج أهل الكمال: 25.
10- تعليقة الوحيد البهبهاني: 337.
11- الوجيزة: 1902/324.

و أمّا الطعن الأوّل من حيث المضمون فلعدم دلالة في الروايتين على أنّه عليه السّلام كان يترك النافلة رأسا حتّى بعد زوال الهمّ و الغمّ ، غايته وقوعها حينئذ قضاء.

و الظاهر أنّ الهمّ و الغمّ كثيرا ما يمنعان عن الإقبال و التوجّه و الحضور القلبي المطلوب المرغوب فيه في العبادة بل المأمور به في كثير من النصوص، فإذا دار الأمر بين فعلها أداء من غير إقبال و فعلها قضاء مع الإقبال، أمكن الالتزام بكون الثاني أرجح و أفضل، بل هو الحقّ الّذي لا محيص عنه لشهادة الاعتبار و دلالة غير واحد من الأخبار، كالمرويّ عن الكافي عن أحدهما عليهما السّلام قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ للقلوب إقبالا و إدبارا، فإذا أقبلت فتنفّلوا، و إذا أدبرت فعليكم بالفريضة»(1) و المرويّ عن نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «إنّ للقلوب إقبالا و إدبارا، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، و إذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض»(2). و بالجملة فيجوز أن يكون تركه النافلة من باب ترك الغير الأفضل لإدراك الأفضل، و هذا لا ينافي استحبابها في كلّ حال حتّى حال الهمّ و الغمّ .

و أمّا الطعن الثاني عليه فلجواز اختيار كون همّه عليه السّلام لأمر دنيوي لكن للّه لا للدنيا، فإنّ الاطّلاع على شنائع أهل الخلاف - مثل تغيير للشرع و غصبهم الخلافة و تعرّضهم للشيعة بالقتل و الضرب و الشتم، و تصرّفهم في أموال المسلمين و بيت المال بغير حقّ و غير ذلك - من أسباب الهمّ للامور الدنيويّة، و إذا كان ذلك للّه و في اللّه فهو عين كون همّهم مقصورا فيه تعالى، و هذا مضافا إلى ما عرفت لا ينافي استغاثتهم بالصبر و الصلاة، و اللّه العالم.

ص: 71


1- الوسائل 8/69:4، ب 16 جواز ترك النوافل، الكافي 16/454:3.
2- الوسائل 11/70:4، ب 16 جواز ترك النوافل، نهج البلاغة 312/228:3.

الفصل الثاني في المواقيت

اشارة

و اعلم: أنّ المواقيت مفاعيل من المفعال، و بناء هذا الوزن على هذا الجمع كثير شائع في الاستعمالات كما في المصابيح و المفاتيح، فيكون المواقيت جمعا للميقات الّذي هو على ما نصّ عليه غير واحد من أئمّة اللغة(1) عبارة «عن الوقت المحدود للفعل» و منه ما في قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ كٰانَ مِيقٰاتاً (2) أي اليوم الّذي يقضي تعالى بين عباده و يحكم بين الخلائق، هو الوقت المحدود لما وعده من الجزاء و الثواب و العقاب و الجنّة و النار. و قد يستعار «لمكان الفعل» كما في مواقيت الحجّ لمواضع الإحرام، و الوقت مقدار معيّن من الزمان مفروض لأمر ما.

و أمّا احتمال كونه جمعا للموقوت الّذي ورد مفعولا للوقت، و منه ما في قوله تعالى:

إِنَّ اَلصَّلاٰةَ كٰانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً (3) أي مفروضة حدّ لها الوقت، و المفروض أنّ بناء جمع المفعول على صيغة مفاعيل أيضا كثير شائع في الاستعمالات كما في مكاتيب و مراسيل و مفاهيم و نحوها.

فيزيّفه: أنّه إنّما يصحّ أن لو كان مراد الفقهاء من المواقيت في هذا العنوان الصلاة الّتي حدّ لها أوقات معيّنة لأنّ المفعول من الوقت عبارة عن الفعل الّذي حدّ له الوقت، و هو محلّ منع، لأن غرضهم من عنوان المواقيت إنّما هو بيان الأوقات المعيّنة المحدودة للصلوات، لا بيان الصلوات المحدود لها تلك الأوقات كما هو واضح للخبير البصير، فالاحتمال المذكور ضعيف.

ص: 72


1- مصباح المنير: 344.
2- النبأ: 17.
3- النساء: 103.

و أضعف منه احتمال كونه جمعا للوقت و لو على غير قياس كما في الأوامر و النواهي الواردين في لسان الاصوليّين جمعين للأمر و النهي على غير قياس، فإنّ الالتزام بذلك هاهنا ممّا لا داعي إليه لوجود ما يكون بناء جمعه على المواقيت داخلا في القياس هاهنا و هو الميقات كما عرفت، بخلافه في الأمر و النهي فلا مناص في جمعهما على الأوامر و النواهي إلاّ الالتزام بكونه على غير قياس.

و كيف كان ففي هذا الفصل مباحث:

ص: 73

المبحث الأوّل في أوقات الفرائض
[ينبوع: أوقات الفرائض]

ينبوع و اعلم أنّ في قوله تعالى: إِنَّ اَلصَّلاٰةَ كٰانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً (1) دلالة على سبيل الإجمال على التوقيت في الفرائض اليوميّة، و أنّ لكلّ واحدة منها وقتا معيّنا. و من أحكام التوقيت أن لا يجوز تقديمها على الوقت و لا تأخيرها عنه اختيارا و بلا عذر بإجماع المسلمين، كما نصّ عليه جمع من الأساطين(2) فإنّهم ذكروا أنّ لكلّ واحدة منها من الصلوات اليوميّة وقتا معيّنا لا يجوز تقديمها عليه و لا تأخيرها عنه، و نقلوا عليه إجماع المسلمين.

و قد فصّل هذا الإجمال المستفاد من الآية المذكورة في الجملة قوله تعالى: أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كٰانَ مَشْهُوداً (3)بتقريب أنّ الدلوك اطلق تارة على زوال الشمس و ميلها عن دائرة نصف النهار، و اخرى على غروب الشمس و استتارها في افق المغرب، كما أنّ الغسق اطلق تارة على ظلمة الليل المتحقّقة من سقوط الحمرة المشرقيّة و زوالها، و اخرى على انتصاف الليل. فالوجوه المحتملة في معنى الآية باعتبار مرتفع الاثنين في الاثنين أربع:

الأوّل: أن يراد من الدلوك زوال الشمس، و من الغسق انتصاف الليل، فيكون المعنى أقم الصلاة من عند زوال الشمس إلى انتصاف الليل.

الثاني: أن يراد من الدلوك غروب الشمس، و من الغسق سقوط الحمرة، فيكون المعنى أقم الصلاة من عند غروب الشمس إلى سقوط الحمرة.

ص: 74


1- النساء: 103.
2- كما في المدارك 30:3 و المنتهى 36:4.
3- الإسراء: 78.

الثالث: أن يراد من الدلوك زوال الشمس، و من الغسق سقوط الحمرة، فيكون المعنى أقم الصلاة من عند زوال الشمس إلى سقوط الحمرة.

الرابع: أن يراد من الدلوك غروب الشمس، و من الغسق انتصاف الليل، فيكون المعنى أقم الصلاة من عند غروب الشمس إلى انتصاف الليل.

و المتعيّن من هذه الوجوه هو الأوّل، لإجماع المسلمين على حمل الدلوك و الغسق في الآية على إرادة زوال الشمس و انتصاف الليل، و للنصوص المعتبرة الّتي منها: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في الصحيح قال: «سألته عمّا فرض اللّه من الصلاة ؟ فقال: خمس صلوات في الليل و النهار، فقلت: فهل سمّاهنّ اللّه و بيّنهنّ في كتابه ؟ فقال: نعم، قال اللّه سبحانه لنبيّه صلوات اللّه عليه و آله: أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اَللَّيْلِ (1) و دلوكها زوالها، ففيما بين زوال الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات سمّاهنّ و بيّنهنّ و وقّتهنّ ، و غسق الليل انتصافه»(2).

و منها: ما رواه عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اَللَّيْلِ قال: «إنّ اللّه افترض أربع صلوات، أوّل وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل، منها صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس إلاّ أنّ هذه قبل هذه، و منها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلاّ أنّ هذه قبل هذه»(3).

و ليس في سند الرواية الثانية ما يقدح في الاعتبار إلاّ الضحّاك بن زيد الّذي ليس مذكورا بهذا العنوان في كتب الرجال، إلاّ أنّه عن المدارك(4) أنّ الظاهر أنّه ابن مالك الثقة كما يظهر من النجاشي(5) فالسند على هذا التقدير صحيح. و على تقدير المنع فلا يقدح جهالة الراوي هنا في الاعتبار، لانجبار ضعفه من هذه الجهة بعمل الأصحاب.

ثمّ المراد من قُرْآنَ اَلْفَجْرِ في الآية على ما نصّوا عليه صلاة الفجر تسمية للشيء باسم جزئه نظرا إلى أنّ القرآن بمعنى القراءة الّتي هي من أجزاء الصلاة، و يدلّ على ذلك

ص: 75


1- الإسراء: 78.
2- الوسائل 1/10:4، ب 2 من أبواب أعداد الفرائض، الكافي 1/271:3.
3- الوسائل 4/157:4، ب 1 من أبواب المواقيت، التهذيب 72/52:2.
4- المدارك 39:3.
5- رجال النجاشي: 546/205.

و غيره من معنيي الدلوك و الغسق رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كٰانَ مَشْهُوداً قال:

«دلوك الشمس زوالها، و غسق الليل انتصافه، و قرآن الفجر ركعتا الفجر»(1).

ثمّ الآية كما أنّها دالّة على التوقيت بالنسبة إلى الصلوات، فكذلك دالّة على توسعة أوقاتها المعيّنة. و معنى التوسعة امتداد وقت أداء الظهرين من الزوال إلى الغروب، و امتداد وقت العشاءين من الغروب إلى انتصاف الليل. و من حكم التوسعة بهذا المعنى جواز إيقاعهما في أيّ جزء من أجزاء ذلك الوقت إلاّ فيما يختصّ بأحدهما، و لازمه أن لا يعصي المكلّف بتأخيره الصلاة من أوّل الوقت إلى آخره إذا أدّاها في الآخر أو فيما بين الأوّل و الآخر. فإنّ هذا هو الظاهر المنساق من الآية، و هو المعروف من مذهب الأصحاب، خلافا للمفيد في المقنعة فأنكر التوسعة و التزم بالتضييق و جعل التوسعة المستفادة من الآية و غيرها من النصوص توسعة في وقت العفو، قائلا فيما حكي عنه: «و لا يجوز لأحد أن يؤخّر الصلاة عن أوّل وقتها، و هو ذاكر لها غير ممنوع منها، فإن أخّرها ثمّ اخترم في الوقت قبل أن يؤدّيها كان مضيّعا لها، و إن بقي حتّى يؤدّيها في آخر الوقت أو فيما بين الأوّل و الآخر عفي عن ذنبه في تأخيرها. و قال في موضع آخر: فإن أخّرها لغير عذر كان عاصيا، و يسقط عقابه لو فعلها في بقيّة الوقت»(2).

و الحقّ : ما هو المعروف من المذهب المحكيّ فيه الشهرة المنقول عليه الإجماع كما عن الغنية(3).

لنا على ذلك أوّلا: الآية حسبما أشرنا إليه، فإنّها ظاهرة في كون الصلاة الواقعة فيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل واقعة في وقتها، على أنّه أحد أجزاء الوقت المضروب لها المخيّر فيها، لبطلان التطبيق و التكرار بالإجماع و غيره.

و ثانيا: الروايات المستفيضة الّتي منها: الخبران المتقدّمان في تفسير الآية.

و منها: ما رواه عبيد بن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن وقت الظهر و العصر؟ فقال:

إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر و العصر جميعا، إلاّ أنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقت

ص: 76


1- الوسائل 10/159:4، ب 10 من أبواب المواقيت، السرائر: 473.
2- المقنعة: 94.
3- الغنية: 70.

منهما جميعا حتّى تغيب الشمس»(1).

و منها: ما رواه زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: أحبّ الوقت إلى اللّه عزّ و جلّ أوّله، حين يدخل وقت الصلاة فصلّ الفريضة، فإن لم تفعل فإنّك في وقت منهما حتّى يغيب الشمس»(2).

و منها: ما رواه داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر و العصر حتّى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّي أربع ركعات، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر و بقي وقت العصر حتّى تغيب الشمس»(3).

و منها: ما رواه معمّر بن يحيى قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: وقت العصر إلى غروب الشمس»(4).

و منها: ما رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تفوت الصلاة من أراد الصلاة لا تفوت صلاة النهار حتّى تغيب الشمس، و لا صلاة الليل حتّى يطلع الفجر، و لا صلاة الفجر حتّى تطلع الشمس»(5) و عن الشيخ «حمل صلاة الليل على النوافل».

و منها: ما رواه زرارة في حديث قال: «و قال الصادق عليه السّلام: إذا غابت الشمس فقد حلّ الإفطار و وجبت الصلاة، و إذا صلّيت المغرب فقد دخل وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل»(6).

و منها: ما رواه داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي ثلاث ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب و العشاء الآخرة حتّى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، و إذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب و بقي وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل»(7).

ص: 77


1- الوسائل 5/119:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 68/24:2.
2- الوسائل 5/119:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 69/24:2.
3- الوسائل 7/127:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 70/25:2.
4- الوسائل 13/155:4، ب 9 من أبواب المواقيت، التهذيب 71/25:2.
5- الوسائل 9/159:4، ب 10 من أبواب المواقيت، التهذيب 1015/256:2.
6- الوسائل 2/184:4، ب 17 من أبواب المواقيت، الفقيه 662/142:1.
7- الوسائل 4/184:4، ب 17 من أبواب المواقيت، التهذيب 82/28/2.

و ما في أكثر هذه النصوص من ضعف أو قصور ينجبر بالكثرة، و اعتضاد بعضها ببعض، و موافقة الكتاب، و عمل المعظم، و غير ذلك، و صحيحة زرارة عن الباقر عليه السّلام «إنّ من الامور امورا مضيّقة، و امورا موسّعة، و إنّ الوقت وقتان و الصلاة ممّا فيه السعة، فربّما عجّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ربّما أخّر إلاّ صلاة الجمعة، فإنّ صلاة الجمعة فإنّها من الأمر المضيّق، إنّما لها وقت واحد حين تزول الشمس»(1).

و استدلّ للمفيد بعدّة روايات:

منها: ما رواه الصدوق مرسلا قال: «قال الصادق عليه السّلام: أوّل الوقت رضوان اللّه، و آخره عفو اللّه، و العفو لا يكون إلاّ عن ذنب»(2).

و منها: ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لكلّ صلاة وقتان، فأوّل الوقت أفضله، و ليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتا إلاّ من عذر من غير علّة»(3).

و منها: ما رواه ربعي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: «إنّا لنقدّم و نؤخّر، و ليس كما يقال من أخطأ وقت الصلاة فقد هلك، و إنّما الرخصة للناسي و المريض و المدنف و المسافر و النائم في تأخيرها»(4).

و منها: ما رواه الكرخي قال: «سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام متى يدخل وقت الظهر؟ قال:

إذا زالت الشمس، فقلت: متى يخرج وقتها؟ فقال: من بعد ما يمضي من زوالها أربعة أقدام إنّ وقت الظهر ضيق ليس كغيره، قلت: فمتى يدخل وقت العصر؟ فقال: إنّ آخر وقت الظهر هو أوّل وقت العصر، فقلت: فمتى يخرج وقت العصر؟ فقال: وقت العصر إلى أن تغرب الشمس، و ذلك من علّة و هو تضييع، فقلت له: لو أنّ رجلا صلّى الظهر بعد ما يمضي من زوال الشمس أربعة أقدام أ كان عندك غير مؤدّ؟ فقال: إن كان قد تعمّد ذلك ليخالف السنّة و الوقت لم يقبل منه، كما لو أنّ رجلا أخّر العصر إلى قرب أن تغرب الشمس متعمّدا من غير علّة لم يقبل منه، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد وقّت للصلوات المفروضات أوقاتا و حدّ لها

ص: 78


1- الوسائل 3/316:7، ب 8 من أبواب صلاة الجمعة و آدابها، التهذيب 46/13:3.
2- الوسائل 16/123:4، ب 3 من أبواب المواقيت، الفقيه 651/217:1.
3- الوسائل 13/122:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 124/39:2.
4- الوسائل 7/139:4، ب 7 من أبواب المواقيت، التهذيب 132/41:2.

حدودا في سنّته للناس، فمن رغب عن سنّة من سننه الموجبات كان كمن رغب عن فرائض اللّه»(1).

و الجواب: عنها بعد الإغماض عمّا في أسانيدها - من قصور بمحمّد بن عيسى كما في الثانية، أو ضعف بالإرسال كما في الاولى، أو ضعف إسماعيل بن سهل في الثالثة، و جهالة الكرخي في الرابعة، و عدم صلوحها لمعارضة ما مرّ و لا سيّما الآية - تطرّق المنع إلى دلالتها.

أمّا المرسلة فمع ما فيها من اختصاص العفو بالآخر و المدّعى كونه لغير الأوّل، أنّ العفو ممّا يجوز تعلّقه بترك الأولى كما في قوله تعالى: عَفَا اَللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (2)و لا ينافيه قوله: «و العفو لا يكون إلاّ عن ذنب» لجواز كون المراد ب «الذنب» ما يوجب اللوم و العتاب لا ما يوجب الذمّ و العقاب، و إن أبيت إلاّ و أنّ المراد منه موجب الذمّ و العقاب، فنقول: بجواز رجوع العفو حينئذ إلى سائر الذنوب الحاصلة من غير جهة تأخير الصلاة عن أوّل وقتها، فيكون معنى الرواية أنّ الصلاة في أوّل الوقت يوجب رضوان اللّه بمعنى رضائه المستتبع لمجازاة الثواب، و في آخر الوقت توجب عفوه بمعنى رفع العقاب عن الذنوب، و لا توجب الرضاء المستتبع لمجازاة الثواب.

و أمّا رواية ابن سنان فلاقتضاء أفعل التفضيل المشاركة في الجواز و الرجحان فيحمل قوله عليه السّلام: «ليس لأحد» على نفي الأفضليّة تنبيها على نقصان الثواب بالتأخير لا على نفي الرخصة، تحكيما لظاهر صيغة التفضيل على ظاهر «ليس لأحد» على ما هو المنساق من نحوه في نظر العرف. فيراد منه ما يرادف عبارة «لا ينبغي» كما ربّما يكشف عنه في الجملة حسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «وقت الفجر حين ينشقّ الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء، و لا ينبغي تأخير ذلك عمدا لكنّه وقت لمن شغل أو نسي أو نام»(3) و صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لكلّ صلاة وقتان، و أوّل الوقتين أفضلهما، وقت صلاة الفجر حين ينشقّ الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء، و لا ينبغي تأخير ذلك عمدا، و لكنّه وقت من شغل أو نسى أو سها أو نام و وقت المغرب حين تجبّ الشمس إلى أن

ص: 79


1- الوسائل 2/247:4، ب 42 من أبواب المواقيت، التهذيب 74/26:2.
2- التوبة: 43.
3- الوسائل 1/207:4، ب 26 من أبواب المواقيت، التهذيب 121/38:2.

تشتبك النجوم، و ليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتا إلاّ من عذر أو علّة»(1).

و يحتمل أن يكون قوله عليه السّلام: «ليس لأحد» في هذه الرواية و ما سبق و نظائرهما على تقدير إبقائه على ظاهره ردّا على بعض الحنفيّة المنكر للتوسعة المخصّص للوقت المستفاد توسعته من الآية بالآخر، كما يشعر به التعبير ب «جعله وقتا» و استثناء العذر و العلّة الظاهرين في الأعذار الطارئة في أوّل الوقت، المسقطة للتكليف فيه الزائلة في آخر الوقت، كالنسيان و النوم و الجنون و الحيض و نحوه، كما يظهر إرادة ذلك من الأمثلة المذكورة في الحسنة و صدر هذه الصحيحة.

و على هذا المعنى يمكن حمل ما في رواية ربعي و كأنّه أسند إليهم عليهم السّلام أنّهم يؤخّرون الصلاة إلى آخر الوقت، على أنّه هو الوقت لا غير، فردّه بقوله عليه السّلام «ليس كما يقال» بعد ما قال «إنّا لنقدّم و نؤخّر» تنبيها على ما هو من وظيفة التوسعة من جواز التقديم و التأخير معا. و يمكن أن يكون المراد من التأخير في قضيتي النفي و الإثبات التأخير عن تمام الوقت، على معنى تأخير الصلاة إلى خارج الوقت بلا عذر مسوّغ له، فأثبت الرخصة بمعنى عدم الحرج في ذلك الطوائف المذكورة إذا زال أعذارهم في خارج الوقت، فيكون معنى قوله عليه السّلام «إنّا لنقدّم...» الخ إنّا نقدّم الصلاة تارة و نؤخّرها اخرى، لكن لا بالمعنى الّذي يقال علينا من تأخيرها عن تمام الوقت بلا شيء من الأعذار المذكورة. و يحتمل أيضا أن يكون قوله عليه السّلام «من أخطأ وقت الصلاة فقد هلك و إنّما الرخصة...» الخ مقولا للقول المنفيّ في قوله عليه السّلام:

«و ليس كما يقال» كما ربّما يرشد إليه قوله: «إنّا لنقدّم و نؤخّر». و هذا أوجه الوجوه.

و أمّا رواية الكرخي فهي ظاهرة في المنع عن التأخير على وجه المخالفة للسنّة على معنى إنكارها، بل قوله: «إن كان قد تعمّد ذلك ليخالف السنّة» صريح في ذلك، و لذا عدل عن الجواب بعدم الأداء على ما سأل عنه الراوي إلى عدم القبول الغير المنافي للصحّة الملازمة للأداء مع التأخير، فالذمّ إنّما هو على تعمّد مخالفة السنّة على أن يكون هي الغاية المقصودة من التأخير، لا على مجرّد التأخير اعتمادا على توسعة الوقت من غير أن يكون بعنوان المخالفة. و ممّا يفصح عن ذلك أيضا قوله عليه السّلام: «فمن رغب عن سنّة من سننه» فإنّ الرغبة عن السنّة معناها الإعراض عنها و تعمّد التأخير لغاية المخالفة للسنّة.

ص: 80


1- الوسائل 5/208:4، ب 26 من أبواب المواقيت، التهذيب 123/39/2:2.

و أمّا قوله: «إنّ وقت الظهر ضيق» فيحمل على وقت الفضيلة أو الوقت المختصّ بالظهر بدليل الإضافة المفيدة للاختصاص. و قوله: «ليس كغيره» معناه أنّ الوقت المختصّ بالظهر ليس كغيره من الوقت المشترك، فإنّه موسّع.

و ممّا يدلّ على المختار أيضا ما رواه زرارة في الصحيح قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام:

أصلحك اللّه وقت كلّ صلاة أوّل الوقت أفضل أو وسطه أو آخره ؟ فقال: أوّله، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه يحبّ من الخير ما يعجّل»(1) فإنّ السؤال عن تعيين الأفضل المردّد في نظر زرارة بين الأوّل و الوسط و الآخر يدلّ على كونه معتقدا بكون كلّ واحد من الوقت المضروب للصلاة و الرخصة في إيقاعها في كلّ على التخيير، مع تقريره عليه السّلام له على معتقده و إعطائه الجواب على حسب ما سأله. و أوضح من ذلك كلمة ما نقله عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّه ظاهر كالصريح في أنّ الأمر بمراعاة أوّل الوقت إنّما هو لرجحان المسارعة إلى الخير لا غير.

ص: 81


1- الوسائل 12/122:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 127/40:2.
[ينبوع: وقت صلاة الظهر]

ينبوع

و اعلم أنّ ظاهر الروايات المتقدّمة كالآية بل صريحها دخول وقت الظهرين بمجرّد الزوال، و لازمه جواز الشروع لغير المتنفّل في الظهر من حين الزوال و عدم وجوب تأخيرها إلى قدم أو ذراع أو نحوهما من الزوال، و هو المعروف من مذهب الأصحاب الّذي لم يعرف فيه خلاف، بل في محكيّ المنتهى «أوّل وقت الظهر زوال الشمس بلا خلاف بين أهل العلم»(1) و في المدارك «أوّل وقت الظهر زوال الشمس بإجماع العلماء قاله في المعتبر»(2)-(3).

لكن في عدّة من الروايات ما يوهم ظاهره خلاف ذلك كما في صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن وقت الظهر؟ فقال: بعد الزوال بقدم أو نحو ذلك إلاّ في يوم الجمعة أو في السفر، فإنّ وقتها حين تزول»(4).

و موثّقة سعيد الأعرج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن وقت الظهر أ هو إذا زالت الشمس ؟ فقال: بعد الزوال بقدم أو نحو ذلك إلاّ في السفر أو يوم الجمعة، فإنّ وقتها إذا زالت»(5).

و موثّقة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن وقت الظهر؟ فقال: إذا كان الفيء ذراعا»(6).

و صحيحة زرارة المرويّة في الفقيه أنّه سأل مولانا الباقر عليه السّلام عن وقت الظهر؟ فقال:

ص: 82


1- المنتهى 189:1.
2- المعتبر 27:2.
3- المدارك 32:3.
4- الوسائل: 11/144، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 59/21:2.
5- الوسائل 17/145:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 970/244:2.
6- الوسائل 18/145:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 996/251:2.

«ذراع من زوال الشمس و وقت العصر ذراعان من وقت الظهر»(1) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع، فإنّ المستفاد منها كون وقتهما بعد الزوال بقدم أو ذراع أو نحوهما. و هذا ينافي ظاهرها ما تقدّم من الآية و النصوص.

و يندفع هذه المنافاة المتوهّمة، بأنّ تحديد وقت الظهر في الروايات المذكورة و نحوها بما بعد القدم أو الذراع أو غيرهما، إنّما هو لمراعاة وظيفة المتنفّل من النافلة الّتي حيثما كانت ثابتة تقع قبل الفريضة، لا لتخصيص وقت الفريضة بذلك، بحيث لو وقعت على تقدير ترك النافلة قبله كانت واقعة في غير وقتها، و القرينة على ذلك - مع أنّه قضيّة الجمع بين الروايات - أنّ إضافة الوقت إلى الظهر في كلام السائل تفيد الاختصاص، فيكون المسئول عنه ما يختصّ بالظهر و هو الّذي لا يشاركها فيه النافلة و ليس إلاّ ما بعد القدم أو الذراع أو نحوهما. هذا مضافا إلى شهادة استثناء يوم الجمعة و السفر في الخبرين الأوّلين بذلك، إذ ليس فيهما نافلة تقع بعد الزوال قبل الفريضة، أمّا السفر فلسقوطها فيه، و أمّا يوم الجمعة فلأنّ الأفضل في نافلته إيقاعها قبل الزوال على النهج الّذي يأتي تفصيله، فيبقى ما بعد الزوال إلى القدم أو الذراع فارغا عن النافلة، و لازمه وقوع الفريضة فيهما من حين الزوال.

و ممّا يفصح عن ذلك أيضا عدّة روايات اخر:

مثل ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ حائط مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قامة، و كان إذا مضى من فيئه ذراع صلّى الظهر، و إذا مضى من فيئه ذراعان صلّى العصر. ثمّ قال: أ تدري لم جعل الذراع و الذراعان ؟ قلت: لم جعل ذلك ؟ قال:

لمكان النافلة فإنّ لك أن تتنفّل ما بين زوال الشمس إلى أن يمضي الفيء ذراعا، فإذا بلغ فيئك ذراعا من الزوال بدأت بالفريضة و تركت النافلة، و إذا بلغ فيئك ذراعين بدأت بالفريضة و تركت النافلة»(2).

و المرويّ عن آخر السرائر نقلا من كتاب حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّما جعلت القدمان و الأربع و الذراع و الذراعان وقتا لمكان النافلة»(3).

ص: 83


1- الوسائل 3/141:4، ب 8 من أبواب المواقيت، الفقيه 653/140:1.
2- الوسائل 3/141:4، ب 8 من أبواب المواقيت، الفقيه 653/140:1.
3- الوسائل 35/151:4، ب 8 من أبواب المواقيت، السرائر: 480.

و ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحرث بن المغيرة النصري و عمر بن حنظلة و منصور ابن حازم قالوا: «كنّا نعتبر الشمس بالمدينة بالذراع، فقال لنا أبو عبد اللّه عليه السّلام: أ لا انبّئكم بأبين من هذا؟ قلنا: بلى جعلنا اللّه فداك، قال: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر إلاّ أنّ بين يديها سبحة و ذلك إليك، فإن أنت خفّفت سبحتك فحين تفرغ من سبحتك، و إن أنت طوّلت فحين تفرغ من سبحتك»(1) و رواه أيضا في الكافي باختلاف يسير في الألفاظ من دون اختلاف في المعنى.

و ما رواه الشيخ في الصحيح عن أحمد بن يحيى قال: «كتب بعض إلى أبي الحسن عليه السّلام روي عن آبائك القدم و القدمين و الأربع و القامة و القامتين و ظلّ مثلك و الذراع و الذراعين، فكتب عليه السّلام: لا القدم و القدمين، إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين، و بين يديها سبحة و هي ثماني ركعات إن شئت قصّرت و إن شئت طوّلت، ثمّ صلّ الظهر فإذا فرغت كان بين الظهر و العصر سبحة و هي ثماني ركعات إن شئت طوّلت و إن شئت قصّرت، ثمّ صلّ العصر»(2).

و ما رواه في زيادات التهذيب في الموثّق عن عمر بن حنظلة قال: «كنت أقيس الشمس عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: يا عمر أ لا انبّئك بأبين من هذا، قال، قلت: بلى جعلت فداك، قال:

إذا زالت الشمس فقد وقع الظهر، إلاّ أنّ بين يديها سبحة و ذلك إليك، فإن أنت خفّفت فحين تفرغ من سبحتك، و إن طوّلت فحين تفرغ من سبحتك»(3).

و ما رواه أيضا في الزيادات في الموثّق عن ذريح المحاربي قال: «سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام اناس و أنا حاضر؟ فقال: إذا زالت الشمس فهو وقت لا يحبسك منها إلاّ سبحتك تطيلها أو تقصرها، فقال بعض القوم: إنّا نصلّي الاولى إذا كانت على قدمين و العصر على أربعة أقدام، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: النصف من ذلك أحبّ إليّ »(4).

فالمستفاد من هذه النصوص و ما في معناها أنّ اعتبار عدم إيقاع الفريضة من حين

ص: 84


1- الوسائل 1/131:4، ب 5 من أبواب المواقيت، الكافي 4/276:3.
2- الوسائل 13/134:4، ب 6 من أبواب المواقيت، التهذيب 990/249:2.
3- الوسائل 9/133:4، ب 5 من أبواب المواقيت، التهذيب 977/246:2.
4- الوسائل 22/146:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 978/246:2.

الزوال إلى القدم و القدمين أو الذراع و الذراعين و نحو ذلك إنّما هو لوجود مانع خارجي، و هو النافلة الواقعة في ذلك للمتنفّل لا لفقد المقتضي و هو عدم صلاحية ذلك الوقت للفريضة، و قضيّة ذلك - مع ما عرفت من التعليل في الأخبار المشار إليها - أن يكون القدم و القدمين و الذراع و الذراعين و نحوه حدّ غاية للنافلة، لعدم وقوعها فيما بعده لأحد بداية للفريضة بتوهّم عدم وقوعها فيما قبله.

و ممّا يوضّح ذلك أيضا - مضافا إلى ما مرّ - رواية إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا كان الفيء في الجدار ذراعا صلّى الظهر، و إذا كان ذراعين صلّى العصر، قلت: الجدران تختلف منها قصير و منها طويل، قال: إنّ جدار مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يومئذ قامة، و إنّما جعل الذراع و الذراعان لئلاّ يكون تطوّع وقت فريضة»(1).

و روايته الاخرى عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أ تدري لم جعل الذراع و الذراعان ؟ قال: قلت:

لم ؟ قال: لمكان الفريضة، قال: لئلاّ يؤخذ من وقت هذه و يدخل في وقت هذه»(2).

و أمّا: اختلاف الأخبار المذكورة بالقدم و الذراع و القامة و نحوها ففي كلام غير واحد كما عن الشيخ حمله على الاختلاف في فعل النافلة بسبب تطويلها قراءة و أركانا و دعاء و نحو ذلك.

ص: 85


1- الوسائل 28/147:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 933/250:2.
2- الوسائل 21/146:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 975/245:2.
[ينبوع: لكلّ صلاة وقتين]

ينبوع

قال في المدارك: «نصّ الثلاثة(1) و أتباعهم(2) على أنّ لكلّ صلاة وقتين، سواء في ذلك المغرب و غيرها»(3) و هذا هو المعروف من مذهب الأصحاب بحيث لم يعرف فيه خلاف، عدى ما حكاه ابن البرّاج عن بعض الأصحاب من إنكار الوقتين في خصوص المغرب، بدعوى: «أنّ لها وقتا واحدا»(4) و سيأتي الكلام في تحقيق أنّ هذا خلاف في هذه المسألة، أو أنّه ممّا لا تعلّق له بها، و على تقدير كونه خلافا فيها فلا ريب في شذوذه و ندور قائله.

و لذا قال في الحدائق(5) بعد حكاية الشهرة في المسألة: «بل يكاد أن يكون إجماعا» و هذا منه و من نظرائه إنّما هو لشذوذ المخالف الموجب لعدم الاعتداد بخلافه.

نعم: إنّما اختلفوا في معنى هذين الوقتين المتّفق عليهما في الجملة، فالمشهور بين الأصحاب أنّ الأوّل منهما وقت للفضيلة، و ثانيهما وقت للإجزاء، و عزي إلى السيّد و ابن الجنيد و سلاّر و ابن زهرة و ابن إدريس و الفاضلين و جمهور المتأخّرين(6) و تكرّر فيه حكاية الشهرة مطلقة تارة، و مقيّدة بكونها فيما بين المتأخّرين اخرى.

و قيل كما عن الشيخين(7) و ابن أبي عقيل(8) و أبي الصلاح(9) و ابن البرّاج(10) و المحدّث

ص: 86


1- المفيد في المقنعة: 94، و السيّد المرتضى في مسائل الناصريّات: 189، و الشيخ في النهاية: 58 و المبسوط 72:1، و الخلاف 87:1.
2- كالقاضي ابن البرّاج في المهذّب 69:1 و أبي الصلاح في الكافي في الفقه: 137 و ابن زهرة في الغنية: 69 و ابن حمزة في الوسيلة: 670 و يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع: 60.
3- المدارك 30:3.
4- المهذّب 69:1.
5- الحدائق 87:6.
6- المدارك 32:3.
7- المفيد في المقنعة: 94، و الشيخ في النهاية: 58 و الخلاف 87:1 و المبسوط 72:1.
8- لا يوجد كتابه لدينا بل نقله عنه في المختلف 4:2.
9- الكافي في الفقه: 138.
10- المهذّب 71:1.

الكاشاني(1): إنّ الأوّل منهما وقت للمختار، و ثانيهما وقت للمعذور و المضطرّ، و اختاره في الحدائق(2). و مرجع الخلاف إلى أنّ هذين الوقتين اللذين قرّرهما الشارع لكلّ صلاة، هل هما بالقياس إلى نوع المكلّف مختارا كان أو معذورا أو مضطرّا؟ أو بالقياس إلى مكلّفين ؟ فعلى الأوّل يلزم كون الأوّل للفضيلة و الثاني للإجزاء، و على الثاني يلزم كون الأوّل للاختيار و الثاني للاضطرار. و إلى ذلك ينظر كلام الحلّي في السرائر قائلا: «و إنّما الخلاف بين أصحابنا في أنّ هذين الوقتين لمكلّف واحد أو لمكلّفين»(3) بناء على إرادة الوحدة النوعيّة كما يومئ إليه مقابلة المكلّف الواحد للمكلّفين.

و عن الشيخ في المبسوط «أنّ العذر أربعة: السفر، و المطر، و المرض، و شغل يضرّ بدينه أو دنياه، و الضرورة خمسة: الكافر يسلم، و الصبيّ يبلغ، و الحائض تطهر، و المجنون و المغمى عليه يفيقان»(4) و كان الضابط في هذه الخمس الّتي حصر فيها الضرورة، كلّ أمر وجودي يكون لعدمه مدخليّة في وقوع الصلاة على وجه الصحّة من جهة كونه قيدا في المكلّف به كالكفر، أو شرطا في أصل التكليف كالبواقي.

و أمّا العذر الّذي حصره في الأربع، فالظاهر أنّ مراده به العذر العرفي المنضبط بالأمر الوجودي الّذي لا يكون لعدمه مدخليّة في وقوع الصلاة على وجه الصحّة، لعدم كونه من قيود المكلّف به، و لا من شروط التكليف، كالامور الأربع المذكورة. و إنّما يستقيم ذلك أن لو أراد بهذه الامور ما لا يكون سالبا للاختيار على الصلاة أوّل الوقت و إن تضمّن مشقّة و كلفة و نحوهما، بأن يكون الداعي إلى التأخير ما تضمّنه أحد هذه الامور، و إلاّ فلو أراد بها ما يكون سالبا للاختيار بأن لم يتمكّن معها من الصلاة أوّل الوقت و ضابطه إرادة العذر العقلي.

يرد عليه أوّلا: أنّ مرجع العذر بهذا المعنى إلى الضرورة فلا معنى لجعله فيما لها لكون عدمه شرطا في التكليف حينئذ، إلاّ أن يفرّق بكون اعتبار الشرط ثابتا بالشرع أو بالعقل، و فيه نظر.

و ثانيا: عدم انحصار العذر بهذا المعنى في الأربع المذكورة، لأنّ النوم و النسيان و السهو و نحوها أيضا من الأعذار، كما نطق به رواية عبد اللّه بن سنان المتقدّمة في قوله عليه السّلام:

ص: 87


1- الوافي 210:7.
2- الحدائق 90:6.
3- السرائر 197:1.
4- المبسوط 72:1.

«و لا ينبغي تأخير ذلك عمدا، و لكنّه وقت من شغل أو نسي أو سها أو نام»(1) و من هنا يعلم ورود نحو هذا الإشكال بالقياس إلى هذه الامور على حصره الضرورة في الخمس المتقدّمة، فتأمّل.

ثمّ إنّه ربّما اختلفت نسبة القول إلى الشيخ المفيد، لأنّ منهم(2) من نسب إليه القول بالتضييق و إنكار التوسعة في الوقت و جعلها في وقت العفو لا الأداء كما عرفت في المسألة السابقة، و الأكثر(3) نسبوا إليه القول بالوقتين للمختار و المضطرّ. و ربّما يشكل الحال في ذلك من جهة الفرق بين النسبتين و تغاير القضيّتين في المعنى و عدمه على معنى كون مؤدّاهما واحدا، و إن تغايرتا بحسب العبارة. و لا يبعد الالتزام بالفرق فإنّ الظاهر من القول بالتضييق كون حدّ الوقت المضيّق لكلّ صلاة ما يقع فيه الصلاة مع ما لم يحصل من مقدّماتها بلا زيادة للوقت على الفعل، و صريح أهل القول بالوقتين تحديد الوقت الأوّل بالمثل و المثلين و نحو ذلك، و فيه نحو توسعة كما لا يخفى.

و أيضا فإنّ ظاهر أهل القول بالتضييق تضيّق وقت كلّ صلاة بالقياس إلى نوع المكلّف مختارا أو مضطرّا، غاية الأمر أنّ الضرورة إذا دعت في المضطرّ إلى عدم تمكّنه من الصلاة في أوّل الوقت كشف عن عدم تكليفها بها رأسا، و مبناه على إنكار التوسعة في الوقت رأسا بخلافه على القول بالوقتين، فإنّ مبناه على توسعة الوقت للمعذور و المضطرّ.

و أيضا فإنّ الظاهر من القول بالتضيّق كون ما بعد الوقت المضيّق خارج الوقت، فلو وقعت الصلاة فيه بعد تأخيرها عن وقتها كانت واقعة في خارج الوقت لأنّهم قالوا «إنّ التوسعة في وقت العفو لا وقت الأداء». و محصّله كون مرادهم بالمضيّق ما هو كذلك رخصة و إجزاء، و هذا غير ظاهر من أهل القول بالوقتين، مع إمكان دعوى ظهور كلامهم في عدم خروج الوقت بتأخير المختار عن أوّل الوقت، غايته ترتّب الإثم على التأخير و هو لا يلازم خروج الوقت، و مرجعه إلى كون أوّل الوقت على مذاقهم من قبيل المضيّق رخصة فقط مع إجزائه عن الأمر الأوّل لو وقع فيما بعده.

ص: 88


1- الوسائل 4/119:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 123/39:2.
2- كما في المدارك 30:3، و المنتهى 36:4، و كشف اللثام 21:3.
3- كما في المختلف 4:2، و مفتاح الكرامة 46:5، و المدارك 32:3، و المنتهى 37:4، و الرياض 36:3.

و توهّم أنّ الالتزام بخروج الوقت بالتأخير عن الوقت الأوّل على القول بالتضييق يلازم عدم الفرق بين الفعل بعد الوقت المضيّق و بينه بعد وقت العفو أيضا، لمكان كونهما معا خارج الوقت، و لعلّه موضع منع على هذا القول. يدفعه أنّ ما بعد الوقت المضيّق مع ما بعد وقت العفو و إن كانا متشاركين في كون الفعل في كلّ منهما واقعا في خارج الوقت إلاّ أنّهما يتمايزان في العفو الحتمي و عدمه، فإنّه لو أخّر الفعل إلى ما بعد وقت العفو فلا عفو حينئذ، و هذا كاف في حصول الفرق بينهما على مذاق هؤلاء. فظهر بجميع ما قرّرناه كون إحدى النسبتين إلى المفيد خطأ.

و الظاهر كون الصحيح منهما نسبة القول بالوقتين إليه كما في كلام الأكثر، نظرا إلى عبارته المحكيّة في التهذيب عن المقنعة، فإنّه قال: «لكلّ صلاة من الفرائض الخمس وقتان أوّل و آخر، فالأوّل لمن لا عذر له، و الثاني لأصحاب الأعذار، و لا ينبغي لأحد أن يؤخّر الصلاة عن أوّل وقتها و هو ذاكر لها غير ممنوع منها...»(1) إلى آخر ما ذكره. و تقدّم نقل تتمّة هذه العبارة في المسألة السابقة، و صدر هذه العبارة كما ترى صريح في صحّة ما نسبه الأكثر إليه.

و لعلّ غفلة من نسب إليه غير ذلك نشأت عن ملاحظة ما في آخر كلامه من التصريح «بالعفو لو أخّرها ثمّ فعلها في آخر الوقت أو فيما بين الأوّل و الآخر» إغماضا عمّا هو صريح صدر كلامه. و يدفعه أنّ الالتزام بالعفو لا يلازم القول بالتضيّق بالمعنى المتقدّم المبنيّ على إنكار التوسعة في الوقت رأسا، لأنّ عدم التأخير إذا كان واجبا بالمعنى المعتبر في المضيّق رخصة فقط كان اللازم منه ترتّب الإثم الموجب لاستحقاق العقوبة. و من الجائز على أصحاب القول بالوقتين أيضا الالتزام بالعفو الحتمي عن هذا الإثم لو أدرك الصلاة في بقيّة الوقت.

ثمّ نفي الإشكال في صحّة نسبة المخالفة للمشهور إلى الشيخين كما زعمه المتعرّضون لنقل الخلاف في المسألة، و هو غير واضح، بل محلّ منع، كما يظهر وجهه بملاحظة كلام الشيخ في التهذيب، فإنّه بعد ما نقل عدّة من الروايات مستندا لما نقله عن شيخه. و قد تقدّم عبارته قال: «و ليس لأحد أن يقول إنّ هذه الأخبار إنّما تدلّ على أنّ أوّل الأوقات أفضل، و لا تدلّ على أنّه يجب في أوّل الوقت، لأنّه إذا ثبت أنّها في أوّل الوقت أفضل و لم يكن

ص: 89


1- التهذيب 39:2.

هناك منع و لا عذر فإنّه يجب أن تفعل، و متى لم تفعل و الحال على ما وصفناه استحقّ اللوم و التعنيف. و لم يرد بالوجوب هاهنا ما يستحقّ بتركه العقاب لأنّ الوجوب على ضروب عندنا، منها: ما يستحقّ بتركه العقاب، و منها: ما يكون الأولى فعله و لا يستحقّ بالإخلال به العقاب و إن كان يستحقّ به ضرب من اللوم و العتب»(1) انتهى.

و هذا بصراحته كما ترى تعطي أنّ مراده من اعتبار وقتي الاختيار و الاضطرار استثناء المعذور و المضطرّ من الفضيلة و تخصيصها بالمختار، لا تضييق الوقت للمختار و توسعته للمعذور و المضطرّ، و هو عين ما هو المشهور من جعل أوّل الوقتين للفضيلة، و ثانيهما للإجزاء، و قضيّة كونه للإجزاء جواز التأخير بلا إثم و لا استحقاق عقوبة كما صرّح به رحمه اللّه.

غاية الأمر أنّه لكونه تفويتا للفضيلة كان تركا للأولى، و عليه يحمل أيضا عبارة المقنعة، لأنّ الشيخ في التهذيب على ما ظهر بالتتبّع لسان شيخه في المقنعة فيحمل الذنب و العقاب في عبارته المتقدّمة و غيرها على إرادة ترك الأولى، و اللوم و العتب المستحقّ لهما بترك الأولى. و ممّا يوضّح ذلك قوله «لا ينبغي» في عبارة المقنعة على ما نقلها في التهذيب و غيره من أكثر كتب المتعرّضين لنقل تلك العبارة.

و أمّا ما في كلام بعضهم من لفظ «لا يجوز» مكان «لا ينبغي» فالظاهر أنّه سهو. و أمّا ابن أبي عقيل و أبو الصلاح و ابن البراج فلعلّ عبائرهم أيضا تفيد هذا المعنى، فلا بدّ من العثور عليها لينظر فيها، فلم يبق مخالف محقّق للمشهور إلاّ صاحب الحدائق(2) و المحدّث الكاشاني(3) و الخطب في مخالفتهما سهل.

و كيف كان فاستدلّ لهذا القول في الظهر و العصر بالروايات الدالّة على انتهاء وقت الظهر عند صيرورة ظلّ كلّ شيء مثله، و انتهاء وقت العصر عند صيرورة ظلّ كلّ شيء مثليه، كموثّقة زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن وقت صلاة الظهر في القيظ؟ فلم يجبني، فلمّا أن كان بعد ذلك، قال لعمرو بن سعيد بن هلال: إنّ زرارة سألني عن وقت صلاة الظهر فلم اخبره فخرجت من ذلك فاقرأه منّي السلام، و قل له: إذا كان ظلّك مثلك فصلّ الظهر، و إذا كان ظلّك مثليك فصلّ العصر»(4).

ص: 90


1- التهذيب 41:2.
2- الحدائق 90:6.
3- الوافي 210:7.
4- الوسائل 13/144:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 62/22:2.

و قويّة ابن بكير قال: دخل زرارة على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: «إنّكم قلتم لنا في الظهر و العصر على ذراع و ذراعين، ثمّ قلتم: ابردوا بها في الصيف فكيف الإبراد(1) بها؟ و فتح ألواحه(2) ليكتب ما يقول فلم يجبه أبو عبد اللّه بشيء، فأطبق ألواحه فقال: إنّما علينا أن نسألكم و أنتم أعلم بما عليكم و خرج، و دخل أبو بصير على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: إنّ زرارة سألني عن شيء فلم اجبه و قد ضقت من ذلك، فاذهب أنت رسولي إليه فقل: صلّ الظهر في الصيف إذا كان ظلّك مثلك، و العصر إذا كان مثليك، و كان زرارة هكذا يصلّي في الصيف، و لم أسمع أحدا من أصحابنا يفعل ذلك غيره و غير ابن بكير»(3).

و في معناهما صحيحة أحمد بن محمّد قال: «سألته عن وقت صلاة الظهر و العصر؟ فكتب: قامة للظهر و قامة للعصر»(4) و صحيحة أحمد بن عمر عن أبي الحسن عليه السّلام قال:

«سألته عن وقت الظهر و العصر؟ فقال: وقت الظهر إذا زاغت الشمس إلى أن يذهب الظلّ قامة، و وقت العصر قامة و نصف إلى قامتين»(5) بناء على أنّ المراد بالقامة قامة الإنسان، و ظاهر أنّه متى صار ظلّ الإنسان بقدر قامته فقد صار ظلّ كلّ شيء مثله.

وجه الاستدلال أنّ هذه الروايات تعارض آية الدلوك و الروايات المفسّرة لها الدالّة على امتداد وقت الظهرين من زوال الشمس إلى غروبها و امتداد وقت العشاءين من غروبها إلى انتصاف الليل، و لا يمكن العمل بهما معا، كما لا يجوز ترك العمل بهما معا و لا ترك العمل بالآية و الروايات المفسّرة لها، مع العمل بروايات المثل و المثلين لمخالفتهما الإجماع.

و حمل الآية و الروايات المفسّرة على وقت المضطرّ مع حمل روايات المثل و المثلين على وقت المختار طريق الجمع فيجب، إذ العكس يوجب كون المضطرّ أسوأ حالا من المختار و هو باطل.

ص: 91


1- الإبراد: انكسار الوهج و الحرّ و هو من الإبراد الدخول في البرد، و أبرد القوم دخلوا في آخر النهار، لسان العرب 84:3 (برد).
2- الألواح: جمع لوح بالفتح و هو ما يكتب فيه صحيفة عريضة خشبا أو عظما أو غيرهما مجمع البحرين 410:2 (لوح).
3- الوسائل 33/149:4، ب 8 من أبواب المواقيت، رجال الكشّي 226/355:1.
4- الوسائل 12/144:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 61/21:2.
5- الوسائل 9/143:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 52/19:2.

و فيه: أنّ الجمع بين المتعارضين هنا كما يمكن بهذا الوجه، كذلك يمكن بحمل أدلّة الامتداد على وقت الإجزاء و حمل روايات المثل و المثلين على وقت الفضيلة، و الأوّل ليس بأولى من الثاني بل الثاني هو المتعيّن، لأنّه لا يوجب تصرّفا إلاّ في روايات المثل و المثلين بصرفها عن انتهاء وقت الإجزاء إلى انتهاء وقت الفضيلة، لكون أدلّة الامتداد حينئذ مبقاة على حالها من دون أن توجب روايات المثل و المثلين بعد حملها على ما ذكر تصرّفا عنها، بل إنّما تفيد حكما آخر زائدا على ما أفادته أدلّة الامتداد من إجزاء كلّ جزء و هو الفضيلة بل الأفضليّة.

و موضوعه بعض من الوقت الممتدّ و هو مقدار المثل و المثلين، و هذا نظير ما لو قيل:

أكرم العلماء، ثمّ قيل: اخلع زيد العالم، فإنّ الثاني لا يوجب تخصيصا في الأوّل بل إنّما تعطي في زيد الّذي هو بعض من العلماء وجوب خلعه زيادة على وجوب إكرامه، بخلاف الوجه الأوّل فإنّه يوجب التصرّف في كلا المتعارضين بتقييد أحدهما بالمضطرّ و تقييد الآخر بالمختار كما هو واضح. فالأمر في الجمع يدور بين طرح ظاهري كلا المتعارضين معا، و بين إبقاء ظاهر أحدهما و طرح ظاهر الآخر، و من الظاهر تعيّن الثاني، مع أنّ كون الآية و ما يوافقها من الروايات الكثيرة المعتبرة مسوقة لبيان وظيفة المضطرّ دون المختار الّذي هو أكثر أفرادا في غاية البعد.

و ربّما يذكر للجمع المذكور - مع كونه مزيّفا في نفسه - شاهدا و هو الروايات الناصّة بأنّ لكلّ صلاة وقتين، كصحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لكلّ صلاة وقتان، و أوّل الوقتين أفضلهما، وقت صلاة الفجر حين ينشقّ الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء، و لا ينبغي تأخير ذلك عمدا لأنّه وقت لمن شغل أو نسي أو سها أو نام، و وقت المغرب حين يجبّ الشمس إلى أن تشتبك النجوم، و ليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتا إلاّ من عذر أو علّة»(1) و صحيحته الاخرى قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لكلّ صلاة وقتان، فأوّل الوقت أفضله، و ليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتا إلاّ في عذر من غير علّة» و صحيحة معاوية بن عمّار أو ابن وهب قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لكلّ صلاة وقتان، و أوّل الوقت أفضلهما»(2). بتقريب أنّها دلّت على المنع من تأخير الصلاة عن أوّل

ص: 92


1- الوسائل 5/208:4، ب 27 من أبواب المواقيت، التهذيب 123/39:2.
2- الوسائل 11/121:4، ب 3 من أبواب المواقيت، الكافي 4/274:3.

الوقتين إلى ثانيهما، و استثنى منه العذر و العلّة فيكون المنع للمختار، و الرخصة المستفادة من الاستثناء للمعذور و المضطرّ. و قضيّة ذلك أن يكون أوّل الوقتين للمختار و ثانيهما للمضطرّ و هو المطلوب.

و فيه - مع ما عرفت في المسألة الاولى من وجوه الحمل في هذه الروايات الّتي منها حمل قوله عليه السّلام «ليس لأحد» على إرادة الكراهية كما صنعه جماعة -: أنّ الاستشهاد بها و أخذها شاهدا على الجمع المتقدّم مبنيّ على انطباق الوقتين الواردين منها على وقتي الاختيار و الاضطرار حسبما يزعمه أهل هذا القول، على معنى كون هذين الوقتين هما الوقتين المنصوص عليهما في هذه الروايات، و هو محلّ منع، بل لا وجه له إلاّ بصرفها عن ظواهرها.

أمّا أوّلا: فلأنّ قوله عليه السّلام: «لكلّ صلاة وقتان» ظاهر في ثبوت الوقتين لكلّ صلاة لذاتها و في حدّ نفسها و مع قطع النظر عن الامور الخارجة عنها، و إنّما يستقيم ذلك إذا اعتبر الوقتان لمكلّف واحد، و أمّا إذا اعتبر المكلّفين المختار و المضطرّ فلا يصدق أنّ لكلّ صلاة لذاتها وقتين، بل إنّما يصدق أنّ لكلّ صلاة باعتبار توارد حالتي الاختيار و الاضطرار عليها وقتين، و هذا المعنى كما ترى خلاف ظاهر لا يصرف الروايات إليها بلا شاهد.

و أمّا ثانيا: فلظهور قوله عليه السّلام: «لكلّ صلاة وقتان» في ثبوت الوقتين لكلّ صلاة على الاجتماع فلا يصرف إلى الوقتين المتبادلين، كما هو قضيّة القول بوقتي الاختيار و الاضطرار لأنّ وقت صلاة حينئذ ليس إلاّ واحد إلاّ أنّه مع طريان حالة الاختيار من الزوال إلى المثل و المثلين، و مع طريان حالة الاضطرار من الزوال إلى الغروب إلاّ لشاهد، كما أنّ قول القائل:

لزيد زوجتان، الظاهر في زوجتين مجتمعتين، لا يصرف إلى زوجتين متبادلتين، كما لو كان له زوجة فطلّقها ثمّ تزوّج باخرى ثمّ طلّقها ثمّ تزوّج بالاولى إلاّ لشاهد.

و أمّا ثالثا: فلأنّ الوقتين في الروايات ظاهر في تغاير الوقتين بداية و نهاية، و هما على مذاق هؤلاء لا يتغايران إلاّ نهاية فقط لكون وقت الاختيار بعضا من وقت الاضطرار باعتبار كون مبدئهما معا زوال الشمس، فحمل ما ظاهره تغاير الوقتين بداية و نهاية على الوقتين المتغايرين نهاية فقط أيضا يقتضي شاهدا.

و أمّا رابعا: فلأنّ قوله عليه السّلام «أوّل الوقت أفضله، أو أوّل الوقتين أفضلهما، أو أوّل الوقت

ص: 93

أفضلهما» على اختلاف الروايات المذكورة في التعبير إفرادا و تثنية يأبى عن حمل الوقتين على وقتي الاختيار و الاضطرار، لأنّه يقتضي التفضيل لغرض إرشاد المكلّف لئلاّ يترك الأفضل إلى غير الأفضل، و هذا إنّما يتمّ إذا كان بحيث قرّر له وقتان و تمكّن من الصلاة في كلّ منهما عقلا و شرعا، و لا يتمشّى ذلك على هذا القول لا بالقياس إلى المختار و لا بالقياس إلى المضطرّ، فينتفي فائدة الإرشاد ببيان الأرشد.

أمّا في المختار فلتعيّن الوقت الأوّل عليه و ليس له وقت آخر سواه لئلاّ يترك الأوّل إليه، و أمّا المضطرّ فإن تمكّن من الصلاة في أوّل الوقت و لم يطرأه عذر حينئذ فهو في أوّل الوقت مختار، و لا وظيفة له سواه، و إلاّ فلا يتمكّن من الأفضل لئلاّ يتركه إلى غيره، و على جميع التقادير لا فائدة في بيان الأفضل، بل لا معنى له.

و كون المراد بيان «أنّ الوقت المضروب للمختار أفضل من وقت المضطرّ» كما احتمله في الذخيرة(1) يدفعه: أنّه لا يندرج حينئذ تحت فائدة يطلب بيانها من الشارع فيبعد حمل كلامه عليه.

ثمّ : إنّ في الوقتين المنصوص عليهما في هذه الروايات نوع إجمال لكثرة ما يجري فيهما من الاحتمالات في بادئ الأمر:

فأوّلها: أن يكون المراد من أوّل الوقتين وقت الفضيلة. و من ثانيهما وقت الإجزاء حسبما يقول به المشهور.

و ثانيها: أن يكون المراد بهما وقتي الفضيلة و الإجزاء أيضا لكن بعكس الفرض، بأن يكون أوّل الوقتين وقت الإجزاء و ثانيهما وقت الفضيلة.

و ثالثها: أن يكون المراد بهما وقتي الاختيار و الاضطرار حسبما يقول به الجماعة.

و رابعها: أن يراد بهما وقتا الاختصاص و الاشتراك، و محصّله: أنّ لكلّ صلاة وقتا يختصّ بها و وقتا يشركها فيه غيرها.

و خامسها: أن يكون المراد بهما وقتي الفضيلة، على معنى أنّ لفضيلة كلّ صلاة وقتين.

و سادسها: أن يكون المراد بهما أوّل وقت الفضيلة و آخره، على معنى أنّ لوقت الفضيلة أوّلا و آخرا. و هذا ربّما يظهر فهمه من الكليني فإنّه بعد نقل ما ستعرف من الأخبار

ص: 94


1- الذخيرة: 186.

الصحيحة المصرّحة بأنّ لكلّ صلاة وقتين إلاّ المغرب تعليلا بأنّ لها وقتا واحدا قال:

«و روي أيضا أنّ لها وقتين آخر وقتها سقوط الشفق، و ليس هذا ما يخالف الحديث الأوّل (أنّ لها وقتا واحدا) لأنّ الشفق هو الحمرة، و ليس بين غيبوبة الشمس و غيبوبة الشفق إلاّ شيء يسير، و ذلك أنّ علامة غيبوبة الشمس بلوغ الحمرة القبلة، و ليس بين غيبوبة الحمرة القبلة و بين غيبوبتها إلاّ قدر ما يصلّي الإنسان صلاة المغرب و نوافلها إذا صلّى على تؤدة و سكون و قد تفقّدت غير مرّة و كذلك صار وقت المغرب ضيّقا»(1).

و الظاهر أنّ مراده بالرواية الاخرى الدالّة على أنّ للمغرب أيضا وقتين صحيحة بكر بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سأله سائل عن وقت المغرب ؟ قال: إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه: فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأىٰ كَوْكَباً (2) فهذا أوّل الوقت، و آخر ذلك غيبوبة الشفق، و أوّل وقت العشاء ذهاب الحمرة، و آخر وقتها إلى غسق الليل يعني نصف الليل»(3).

و في معناها موثّقة ذريح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أتى جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأعلمه مواقيت الصلاة، فقال: صلّ الفجر حين ينشقّ الفجر، و صلّ الاولى إذا زالت الشمس، و صلّ العصر بعيدها، و صلّ المغرب إذا سقط القرص، و صلّ العتمة إذا غاب الشفق. ثمّ أتاه من الغد فقال: أسفر بالفجر فأسفر، ثمّ أخّر الظهر حين كان الوقت الّذي صلّى فيه العصر، و صلّ العصر بعيدها، و صلّ المغرب قبل سقوط الشفق، و صلّ العتمة حين ذهب ثلث الليل. ثمّ قال: ما بين هذين الوقتين وقت، و أوّل الوقت أفضله. ثمّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو لا انّي أكره أن أشقّ على امّتي لأخّرتها إلى نصف الليل»(4).

و هذا أيضا يرشد إلى أنّه حمل الوقتين على أوّل وقت الفضيلة و آخره، و في معنى هذا الخبر في الدلالة على الوقتين للمغرب موثّقة ذريح أيضا أنّ جبرئيل أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الوقت الثاني في المغرب قبل سقوط الشفق.

و حاصل ما ذكره في الجمع بين الروايات حمل ما دلّ على وحدة الوقت في المغرب على تقارب الوقتين الأوّل و الآخر فيها. و كيف كان فأجود الاحتمالات اعتبارا و أظهرها

ص: 95


1- الكافي 28:3.
2- الأنعام: 76.
3- الوسائل 6/174:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 88/30:2.
4- الوسائل 8/158:4، ب 10 من أبواب المواقيت، التهذيب 1004/253:2.

من جهة القرائن الخارجيّة من الروايات و غيرها أوّلها، فإنّ الوقتين المنصوص عليهما في الروايات هما الوقتان اللذان أتى بهما جبرئيل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما نطق أخبار صحيحة:

مثل صحيحة أديم بن الحرّ قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ جبرئيل أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصلوات كلّها، فجعل لكلّ صلاة وقتين إلاّ المغرب، فإنّه جعل لها وقتا واحدا»(1).

و صحيحة زيد الشحّام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن وقت المغرب ؟ فقال: إنّ جبرئيل أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكلّ صلاة بوقتين غير صلاة المغرب، فإنّ وقتها واحد و وقتها وجوبها»(2).

و صحيحة زرارة و الفضيل قالا: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ لكلّ صلاة وقتين غير المغرب، فإنّ وقتها واحد، و وقتها وجوبها، و وقت فوتها سقوط الشفق»(3).

و قد فصّل هذه القضيّة المجملة المستفادة من هذه الصحاح، رواية معاوية بن وهب أو موثّقته عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أتى جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمواقيت الصلاة فأتاه حين زالت الشمس فأمره فصلّى الظهر، ثمّ أتاه حين زاد الظلّ قامة فأمره فصلّى العصر، ثمّ أتاه حين غربت الشمس فأمره فصلّى المغرب، ثمّ أتاه حين سقط الشفق فأمره فصلّى الصبح، ثمّ أتاه من الغد حين زاد في الظلّ قامة فأمره فصلّى الظهر، ثمّ أتاه حين زاد في الظلّ قامتان فأمره فصلّى العصر، ثمّ أتاه حين غربت الشمس فأمره فصلّى المغرب، ثمّ أتاه حين ذهب ثلث الليل فأمره فصلّى العشاء، ثمّ أتاه حين نوّر الصبح فأمره فصلّى الصبح، ثمّ قال:

ما بينهما وقت»(4).

و في معناها موثّقة ذريح المتقدّمة و إن اختلفتا في خصوص المغرب كما لا يخفى.

و النكتة في إتيان جبرئيل بالوقت الثاني في اليوم الثاني التنبيه على عدم تعيّن الوقت الأوّل لكلّ صلاة و هو القامة في الظهر و القامتان في العصر، و جواز تأخير الاولى عن القامة إلى ما بعدها و تأخير الثانية عن القامتين إلى ما بعدها على ما هو مقتضى وقت الإجزاء.

و حينئذ يظهر بطلان احتمال إرادة وقتي الفضيلة من الوقتين المنصوص عليهما لكلّ

ص: 96


1- الوسائل 11/189:4، ب 18 من أبواب المواقيت، التهذيب 1035/260:2.
2- الوسائل 1/187:4، ب 18 من أبواب المواقيت، التهذيب 1036/260:2.
3- الوسائل 2/187:4، ب 18 من أبواب المواقيت، الكافي 9/280:3.
4- الوسائل 5/157:4، ب 10 من أبواب المواقيت، التهذيب 1001/252:2.

صلاة بملاحظة الموثّقين مع ضميمة الإجماع، لأنّه يلزم حينئذ أن يزيد وقت فضيلة الظهر عن المثل و وقت فضيلة العصر عن المثلين، و هو خلاف الإجماع، لإجماعهم ظاهرا على أنّهما لا يزيدان عن المثل و المثلين. أمّا الملازمة فلأنّ الوقتين المنصوص عليهما بمقتضى الموثّقتين عبارة عن القامة و ما بعدها في الظهر، و القامتين و ما بعدهما في العصر، و مقتضى الاحتمال المذكور كون كليهما في كلتيهما وقتي الفضيلة، فيلزم ما ذكر من زيادة وقت الفضيلة على المثل و المثلين.

و بهذا يظهر أيضا بطلان احتمال إرادة أوّل وقت الفضيلة و آخره، لأنّه يلزم حينئذ تأخّر وقت الفضيلة عن المثل و المثلين بل زيادته عليهما أيضا، و كلّ خلاف الإجماع.

و أمّا احتمال إرادة وقتي الاختصاص و الاشتراك فيبطل بعدم انطباق القامة و القامتين على وقت الاختصاص في الظهر و وقت الاختصاص في العصر، أمّا الأوّل فلأنّ وقت الاختصاص يقدّر مقدار فعل الصلاة و القامة أوسع من ذلك كثيرا، و أمّا الثاني فلأنّ وقت اختصاص العصر يعتبر في آخر الوقت و القامتان مع زيادتهما على وقت الاختصاص اعتبرنا من أوّل الوقت.

و أمّا احتمال إرادة وقتي الاختيار و الاضطرار فظهر بطلانه ممّا مرّ سابقا. و يزيد عليه أنّ ظاهر الموثّقتين كون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كلا اليومين في حالة الاختيار.

و أمّا احتمال إرادة وقتي الفضيلة و الإجزاء مع تأخّر الفضيلة عن الإجزاء، فيظهر بطلانه بما في روايات «الوقتين لكلّ صلاة» من التصريح بكون أوّل الوقتين أفضلهما، فتعيّن الاحتمال الأوّل و هو المطلوب.

نعم يبقى في المقام إشكال: و هو عدم دلالة الموثّقتين على تمام وقت الإجزاء، بل غاية ما فيهما الدلالة على جواز التأخير عن وقت الفضيلة إلى ما بعده من أوائل وقت الإجزاء، و لا يثبت به امتداد وقت الإجزاء في الظهرين إلى غروب الشمس، و في العشاء إلى انتصاف الليل، و في الصبح إلى طلوع الشمس المقتضي لجواز التأخير إلى الغايات المذكورة كما هو المشهور.

لكنّ الخطب فيه سهل و التفصّي عنه هيّن، لأنّه يندفع بأنّ المطلوب من الموثّقين في المقام إثبات جواز التأخير عن وقت الفضيلة إلى ما بعدها في الجملة، دفعا لشبهة المنع عن

ص: 97

ذلك كما يدّعيه أهل القول بالاختيار و الاضطرار في المختار، و قد حصل ذلك بصريح الموثّقتين، و يبقى امتداد وقت الإجزاء إلى ما ذكر من الغايات، مستفادا من عمومات الامتداد من الآية و الروايات.

أو يقال: إنّه إذا ثبت جواز التأخير من القامة و القامتين إلى ما بعدهما في الجملة بالموثّقتين، فيثبت الجواز مطلقا اللازم من الامتداد إلى الغروب و الانتصاف، فالطلوع بالإجماع المركّب، فإنّ كلّ من أثبت جوازه من وقت الفضيلة إلى ما بعده أثبت جوازه إلى هذه الغايات، و كلّ من نفاه في الثاني نفاه في الأوّل أيضا، فالإثبات في الأوّل و النفي في الثاني خرق للإجماع المركّب.

نعم: هاهنا إشكال آخر بالنسبة إلى المغرب، من جهة الصحاح الثلاث المتقدّمة المتضمّنة لاستثناء المغرب عن قاعدة الوقتين المصرّحة بأنّ لها وقتا واحدا، بل من جهة الموثّقتين أيضا لعدم قضائهما بالوقت الثاني للمغرب، مع أنّ المشهور ثبوت وقتي الفضيلة و الإجزاء لها أيضا. و يمكن دفعه: بملاحظة الإجماع المركّب، فإنّ من أثبتهما لسائر الصلوات أثبتهما للمغرب أيضا، و من نفاهما بالنسبة إلى المغرب نفاهما بالنسبة إلى سائر الصلوات.

أو يقال: إنّ العمدة في المقام إثبات وقت الفضيلة لكلّ صلاة، لأنّ وقت الإجزاء الممتدّ ثبت بعمومات الامتداد و غيرها، و المفروض ثبوت وقت الفضيلة للمغرب أيضا بالموثّقتين، و يبقى وقت الإجزاء بالنسبة إليها مستفادا من عمومات الامتداد أو عموم ما ورد من الروايات بأنّ لكلّ صلاة وقتين.

و يشكل ذلك بأنّ الاستثناء الوارد في الصحاح الثلاث المتقدّمة المصرّحة بأنّ لها واحدا ينافيه، بل ينهض ذلك مخصّصا للعمومات المذكورة، و معه لا معنى للاستناد إليها لإثبات وقت الإجزاء للمغرب، فإنّ مفاد الاستثناء المذكور أن لا وقت لها بعد وقت الفضيلة، إلاّ أن يدفع شبهة التخصيص بحمل الاستثناء المذكور على استحباب المبادرة إلى فعل كلّ المغرب في وقت الفضيلة أو في أوائله، أو على تأكّد استحباب ذلك كما صنعه غير واحد من الأصحاب.

و يزيّفه: أنّ هذا المعنى أمر مشترك بينها و بين سائر الصلوات فلا وجه لاستثنائها عن

ص: 98

سائر الصلاة، فلا بدّ حينئذ إمّا التأمّل في الموثّقتين و الاستثناء الوارد في الصحاح المتعقّب بالتصريح بوحدة الوقت في المغرب، بأن يقال في الموثّقتين أنّ غاية ما فيهما الدلالة على أنّ جبرئيل أتى للمغرب بوقت واحد و هو لا يستلزم نفي وقت آخر له لسكوتهما عن النفي، فيبقى ثبوت ذلك الوقت المحتمل ثبوته في الواقع مستفادا من العمومات، و في الصحاح أنّ معنى كون الوقت في المغرب واحدا أنّ ما أتى به جبرئيل لها من الوقت واحد، و هو لا ينافي لأن يكون لها وقت آخر، فتمسّك لإثباته بالعمومات.

أو حملها على التقيّة لموافقتها مذهب جمع من العامّة كالثوري و أبي حنيفة و أحمد و إسحاق و داود و أبي ثور و ابن المنذر و الزهري، من أنّ آخره غيبوبة الشفق المغربي على ما ذكره في التذكرة، ثمّ قال: و حكاه أبو ثور عن الشافعي لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «وقت المغرب ما لم يسقط نور الشفق»(1) و نور الشفق هو انتشار الشفق، و قال الشافعي(2) في الجديد و القديم «إنّ لها وقتا واحدا، و هو قول مالك - و هو يدخل بسقوط جميع القرص»(3)إلى آخر ما ذكره. و لعلّه لذا لم يعمل بها معظم الأصحاب و إنّما عمل بها شاذّ منهم على ما عن القاضي ابن البراج من نسبة القول به إلى بعض الأصحاب، و لا خفاء في شذوذه و ضعف قوله لضعف مستنده.

و ممّا استدلّ به على مذهب الشيخين و من تبعهما رواية يزيد بن خليفة بسند فيه محمّد ابن عيسى عن يونس قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ عمر بن حنظلة أتانا منك بوقت، فقال أبو عبد اللّه: إذن لا يكذب علينا، قلت: ذكر أنّك قلت: إنّ أوّل صلاة افترضها اللّه عزّ و جلّ على نبيّه الظهر، و هو قول اللّه عزّ و جلّ : أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ (4) فإذا زالت الشمس لا يمنعك إلاّ سبحتك، ثمّ لا تزال في وقت إلى أن يصير الظلّ قامة، و هو آخر الوقت، فإذا صار الظلّ قامة دخل وقت العصر، فلم تزل في وقت العصر يصير الظلّ قامتين، و ذلك المساء قال: صدق»(5).

ص: 99


1- صحيح مسلم 172/427:1، سنن أبي داود 396:1، سنن النسائي 260:1.
2- المجموع 34/29:3، المغني 424:1، الشرح الكبير 472:1، سنن الترمذي 305:1.
3- التذكرة 311:2-312.
4- الإسراء: 78.
5- الوسائل 6/133:4، ب 5 من أبواب المواقيت، الكافي 1/275:3.

و فيه - بعد الإغماض عمّا في سندها من جهة محمّد بن عيسى، بناء على مذهب الصدوق تبعا لشيخه ابن الوليد - القدح في بعض ما تضمّنته مع القدح في دلالتها.

أمّا الأوّل فلقضائها بتأخّر دخول وقت العصر عن القامة، و قضيّة ذلك عدم وقوعها في القامة، و لعلّه خلاف الإجماع كما ادّعاه بعضهم، بتقريب انعقاد الإجماع على دخول وقتها بعد مضيّ وقت اختصاص الظهر، و المعيار في حدّه ما يقع فيه الظهر مع ما لم يحصل من مقدّماتها، و هو قد ينقص عن القامة، و قد يزيد عليها، و قد يساويها، فالحكم على وقت العصر بالدخول بعد القامة بقول مطلق يخالف ذلك، و يلزم منه وهن آخر في الرواية.

و أمّا الثاني فلعدم دلالة لقوله عليه السّلام: «و هو آخر الوقت» بالصراحة و لا بالظهور على كون القامة وقتا للمختار، إلاّ أن يحمل على ذلك جمعا بينها و بين ما تقدّم من عمومات الامتداد إلى انتصاف الليل مطلقا. و يزيّفه: أنّ الجمع كما يتأتّى بذلك كذا يتأتّى بحمل الرواية على وقت الفضيلة، و الأوّل ليس بأولى من ذلك بل هذا هو المتعيّن بملاحظة ما سبق من الشواهد - مضافا إلى ما ستعرفه - مع ما عرفت من أنّ هذا الجمع لا يوجب تصرّفا في هذه الرواية، و ما ذكر يوجبه في كلا المتعارضين.

ثمّ إنّ في المقام ممّا يقابل القول المشهور قولان آخران:

أحدهما: ما عن الشيخ في النهاية من «أنّ آخر وقت الظهر لمن لا عذر له إذا صارت الشمس على أربعة أقدام»(1) محتجّا على ما حكي بما رواه في زيادات التهذيب في الموثّق عن الفضل بن يونس قال: «سألت أبا الحسن الأوّل عليه السّلام قلت: المرأة ترى الطهر قبل غروب الشمس، كيف تصنع بالصلاة ؟ قال: إذا رأت الطهر بعد ما يمضي من زوال الشمس أربعة أقدام فلا تصلّي إلاّ العصر، لأنّ وقت الظهر دخل عليها و هي في الدم، و خرج عنها الوقت و هي في الدم، فلم يجب عليها أن تصلّي الظهر»(2).

و بما تقدّم من رواية الكرخي قال: «سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام متى يدخل وقت الظهر؟ قال: إذا زالت الشمس، فقلت: متى يخرج وقتها؟ فقال: من بعد ما يمضي من زوالها أربعة أقدام أنّ وقت الظهر ضيّق ليس كغيره، قلت: فمتى يدخل وقت العصر؟ قال: إنّ آخر

ص: 100


1- النهاية 278:1.
2- الوسائل 2/361:2، ب 49 من أبواب الحيض: التهذيب 1199/389:1.

وقت الظهر هو أوّل وقت العصر، قلت: فمتى يخرج وقت العصر؟ فقال: وقت العصر إلى أن تغرب الشمس من علّة و هو تضييع...»(1) الخ.

و في الاستدلال بالرواية الاولى ما لا يخفى، فإنّها تخالف مذهب الشيخ في المضطرّ من امتداد وقته في الظهرين إلى الغروب مع عدّه الحائض إذا طهر من أفراد المضطرّ. و بالجملة ظاهر عبارته هنا كون أربعة أقدام وقتا للمختار و الرواية وردت في المضطرّ، و كون مبنى كلامه هنا على التعميم بخلاف ما سبق من التحديد بالمثل و المثلين يأباه قيد «لمن لا عذر له» في العبارة المتقدّمة، مع أنّ الرواية في مقابلها روايات كثيرة دالّة على قضاء الصلاة مع طهر الحائض قبل الغروب، فلا تصلح لمعارضتها.

و اورد عليها أيضا بتضمّنها لما أكثر الأصحاب على خلافه حتّى الشيخ في الخلاف، حيث قال: «من أدرك قدر ما يصلّي خمس ركعات قبل الغروب لزمته الصلاتان بلا خلاف، و إن كان أقلّ من ذلك لم يلزمه الظهر عندنا»(2) فلو أنّ الوقت يخرج بمضيّ أربعة أقدام لما كان كذلك.

و أمّا الرواية الثانية: فأوّل ما يرد عليها: القدح في السند بجهالة الكرخي.

و ثاني ما يرد عليها: اشتمالها على ما يخالف الإجماع من تأخّر دخول وقت العصر عن مضيّ أربعة أقدام بالتقريب المتقدّم.

و ثالث ما يرد عليه: القدح في الدلالة بعدم إمكان حمل وقت الظهر الّذي حدّده بأربعة أقدام، و حكم عليه بكونه ضيّقا ليس كغيره على وقت المختار، لكون وقت المختار في سائر الصلوات أيضا ضيّقا بل هو في بعضها كالمغرب أضيق، نعم هو متّسع في العشاء، فإطلاق الحكم عليه بأنّه ليس كغيره ليس بسديد، و تقييده بالعشاء بعيد.

و لا يمكن أيضا حمله على وقت الفضيلة بتقريب ما عرفت، فلا بدّ من حمله على الوقت المختصّ بالظهر كما يشعر به إضافة الوقت إلى الظهر في كلام السائل و الإمام عليه السّلام، و يكون معنى قوله عليه السّلام: «ليس كغيره» من الوقت المشترك بين الظهر و العصر، و تحديد وقت الاختصاص بأربعة أقدام لعلّه بالنظر إلى الغالب من وقوع الفريضة بعد النافلة في هذا المقدار.

ص: 101


1- الوسائل 32/149:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 74/26:2.
2- الخلاف 273:1.

و لا ينتقض ما ذكرناه من استفادة الاختصاص من الإضافة بالإضافة في وقت العصر أيضا الغير المفيدة للاختصاص بالضرورة، لوجود الصارف للإضافة في وقت العصر عمّا هي ظاهرة فيه، و هو الدخول الّذي سأل عنه السائل بقوله: «و متى يدخل وقت العصر» لظهوره في السؤال عن ابتداء وقت العصر.

و يمتنع كونه وقت الاختصاص لأنّه بالنسبة إلى العصر إنّما يعتبر من آخر الوقت قدر ما يقع فيه العصر مع ما لم يحصل من مقدّماته، فيحمل وقت العصر في كلام السائل لأجل هذه القرينة على ما يصلح لوقوع العصر فيه صلح لأن يقع فيه غيره أو لا. قوله «و ذلك» لعلّه معناه أنّ امتداد وقت العصر إلى غروب الشمس المتضمّن لجواز التأخير إلى الغروب إذا كان التأخير لعذر و علّة، و يحمل على التأخير عن وقت الفضيلة، و لا ريب أنّه إذا كان لغير عذر ترك للأولى باعتبار كونه تفويتا للفضيلة. و قوله عليه السّلام: «و هو تضييع» معناه أنّ التأخير بغير علّة تضييع، لأنّه تفويت للفضيلة. و مع الغضّ عن جميع ما ذكر فالروايتان لا تنهضان لمعارضة أدلّة الفضيلة و الإجزاء بالمعنى المشهور.

و ثانيهما: ما عن المقنعة من أنّ «وقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يرجع الفيء سبعي الشخص، و العصر إلى أن يتغيّر لون الشمس باصفرارها للغروب و للمضطرّ و الناسي إلى الغروب»(1).

و ربّما حمل على إرادة وقوع الفريضة بعد مضيّهما لا أنّهما الآخر، بناء على أن يكون وقوعها بعد مضيّهما بالقياس إلى المتنفّل الّذي يأتي بالنافلة فيهما، فيرجع إلى أنّ المراد انتهاء وقت النافلة عند القدمين و يلزمه وقوع الفريضة بعدهما. و كيف كان فالمحكيّ عن دليل هذا القول - بناء على عدم قبوله للحمل المذكور - الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام و أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّهما قالا: «وقت الظهر بعد الزوال قدمان، و وقت العصر بعد ذلك قدمان»(2)و عن التهذيب في تتمّة الحديث «هذا أوّل وقت إلى أن يمضي أربعة أقدام للعصر»(3)و رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن وقت الظهر؟ فقال: ذراع من زوال

ص: 102


1- المقنعة: 93.
2- الوسائل 1/141:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 1012/255:2.
3- الوسائل 1/141:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 1012/255:2.

الشمس، و وقت العصر ذراع من وقت الظهر»(1).

و يرد عليهما: ظهور كونهما منساقتين في سياق ما تقدّم من الروايات المصرّحة بأنّ وقت الظهر بعد الزوال بقدم أو بذراع أو نحو ذلك، المحمولة - كما تقدّم - على تحديد ما يقع فيه الفريضة للمتنفّل بعد وقوع النافلة في القدم أو الذراع أو نحوه، ثمّ قوله عليه السّلام في الرواية الاولى «هذا أوّل وقت...» الخ ربّما يكون ظاهرا في خلاف مطلوب المستدلّ ، لأنّ معناه أنّ ما ذكر من الوقت الممتدّ إلى أربعة أقدام تحديد لأوّل الوقت. و كان النكتة في بيان ذلك الدلالة على مقدار أوّل الوقت الّذي حكموا عليه في رواياتهم على كونه أفضل، فتدبّر.

ص: 103


1- الوسائل 3/141:4، ب 8 من أبواب المواقيت، الفقيه 653/140:1.
[ينبوع: وقتي الفضيلة و الإجزاء في المغرب]

ينبوع

هذا كلّه في تزييف الأقوال المخالفة للمشهور في خصوص الظهرين، و أمّا بالقياس إلى المغرب ففي مقابل المشهور فيها أيضا أقوال مختلفة و عبائر مضطربة:

ففي المقنعة(1) و المبسوط(2) و التهذيب(3) و الوسيلة(4) و الكاتب(5) و الكافيين(6)(7)و الاستبصار(8) و مصباح(9) السيّد و الإصباح(10) و الاقتصاد(11) و النهاية(12) أنّ آخر وقته للمختار غيبوبة الشفق و للمضطرّ إلى ربع الليل. و عن الهداية(13) و الناصريّات(14)و الخلاف(15) و مصباح(16) الشيخ و الجمل(17) و عمل يوم(18) و ليلة و المراسم(19) إطلاق القول بأنّ آخره غيبوبة الشفق، و ربّما حمل على إرادة كونه كذلك للمختار. و عن المنتهى(20) أنّه نقل عن الشيخ القول «بأنّ آخره للمختار ذهاب الشفق و للمضطرّ إلى ما قبل نصف الليل بأربع» و عن السيّد أيضا في المصباح(21) كذلك. و عن بعض العلماء(22) يمتدّ وقت المضطرّ

ص: 104


1- المقنعة: 93.
2- المبسوط 75:1.
3- التهذيب 70/259:2، ب 13 من أبواب المواقيت.
4- الوسيلة: 83.
5- الكاتب (هو ابن الجنيد الإسكافي) نقله عنه في كشف اللثام 4:3 و في المختلف 20:2.
6- الكافي 9/280:3، باب وقت المغرب و العشاء.
7- الكافي في الفقه: 137.
8- الاستبصار 33/269:1، ب 149 من أوقات الصلاة.
9- المصباح (للسيّد المرتضى): نقله عنه المحقّق في المعتبر 40:2.
10- الإصباح: 60.
11- الاقتصاد: 256.
12- النهاية: 59.
13- الهداية: 29-30.
14- الناصريّات: مسألة 193/73.
15- الخلاف 261:1 مسألة 6.
16- المصباح للشيخ: 23.
17- الجمل و العقود: 59.
18- عمل اليوم و الليلة (الرسائل العشر): 143.
19- المراسم: 62.
20- المنتهى 68:4، المبسوط 75:1.
21- المصباح (للسيّد المرتضى): نقله عنه في المعتبر 40:2.
22- منهم الصدوق في الفقيه 221:1، و يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع: 60.

حتّى يبقى للفجر وقت العشاء، و عن المحقّق في المعتبر(1) اختياره. و «عن المبسوط عن بعض الأصحاب القول بامتداد وقت المغرب إلى طلوع الصبح»(2).

احتجّ أهل القول الأوّل على وقت المختار بالروايات الناصّة «بأنّ وقت المغرب من غروب الشمس إلى غيبوبة الشفق» و هي كثيرة متؤيّدة بالنصوص الكثيرة «بأنّ وقت المغرب من غروب الشمس إلى أن تشتبك النجوم» بناء على عدم انطباق اشتباك النجوم على غيبوبة الشفق لما قيل من أنّه في الغالب إنّما يكون بعد ذهاب الشفق، و قد يكون قبله فلا ينطبق عليه، و إلاّ فهذه النصوص أيضا من جملة هذا الدليل.

و على وقت المضطرّ الممتدّ إلى ربع الليل ما رواه عمر بن يزيد قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام : أكون مع هؤلاء و أنصرف من عندهم عند المغرب ؟ فأمرّ بالمساجد فاقيمت الصلاة، فإن أنا نزلت اصلّي معهم لم أستمكن من الأذان و لا من الإقامة و افتتاح الصلاة، فقال: ائت منزلك و انزع ثيابك، و إن أردت أن تتوضّأ فتوضّأ فصلّ فإنّك في وقت إلى ربع الليل»(3).

و ما رواه أيضا قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن وقت المغرب ؟ فقال: إذا كان أرفق بك و أمكن لك في صلاتك، و كنت في حوائجك، فلك أن تؤخّرها إلى ربع الليل، قال: قال لي هذا و هو شاهد في بلده»(4).

و الجواب: أنّ الروايات الأوّلة المستدلّ بها على الجزء الأوّل من المدّعى معارضة بما هو أقوى منها دلالة من الأخبار الظاهرة بل المصرّحة ببقاء وقت المغرب بعد سقوط الشفق أيضا، مع ظهورها في الاختيار كموثّقة جميل بن درّاج قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

ما تقول في الرجل يصلّي المغرب بعد ما يسقط الشفق ؟ فقال: لعلّه لا بأس، قلت: فالرجل يصلّي العشاء الآخرة قبل أن يسقط الشفق، فقال: لعلّه لا بأس»(5).

و رواية أحمد بن محمّد بن عيسى عن داود الصرمي قال: «كنت عند أبي الحسن

ص: 105


1- المعتبر 40:2.
2- المبسوط 75:1، هكذا في المبسوط «و في العشاء الآخرة إلى نصف الليل، و في أصحابنا من قال: إلى طلوع الفجر».
3- الوسائل 11/196:4، ب 19 من أبواب المواقيت، التهذيب 91/30:2.
4- الوسائل 8/195:4، ب 19 من أبواب المواقيت، التهذيب 1034/259:2.
5- الوسائل 13/196:4، ب 19 من أبواب المواقيت، التهذيب 101/33:2.

الثالث عليه السّلام يوما، فجلس يتحدّث حتّى غابت الشمس، ثمّ دعا بشمع و هو جالس يتحدّث، فلمّا خرجت من البيت نظرت و قد غاب الشفق قبل أن يصلّي المغرب، ثمّ دعا بالماء فتوضّأ و صلّى»(1).

و رواية عمر بن يزيد قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أكون في جانب المصر فيحضر المغرب و أنا اريد المنزل فإن أخّرت الصلاة كان أمكن لي، و أدركني المساء أ فاصلّي في بعض المساجد؟ قال: فقال: صلّ في منزلك»(2).

و صحيحة إسماعيل بن همّام قال: «رأيت الرضا عليه السّلام و كنّا عنده لم يصلّ المغرب حتّى ظهرت النجوم ثمّ قام فصلّى بنا على باب دار ابن أبي محمود»(3).

و حملها على صورة العذر أو الاضطرار مع ظهورها في الاختيار خصوصا بعضها بعيد، إلاّ أن يراد من العذر مطلق ما يشغل الإنسان و لو نحو التحدّث و هو أبعد. هذا مع القدح في طريقي الخبرين المستدلّ بهما على الجزء الثاني من المدّعى باعتبار عدم توثيق القاسم بن محمّد الجوهري في طريق الأوّل، و عدم توثيق محمّد بن عمر بن يزيد في طريق الثاني، مع أنّ الاستدلال بأخبار الجزءين لا يتمّ إلاّ بتوسيط قاعدة الجمع بين المتعارضين، بحمل أحدهما على المختار و حمل الآخر على المضطرّ.

و يدفعه: إمكان الجمع بحملها على وقتي الفضيلة، بدعوى أنّ لفضيلة المغرب وقتين، أحدهما: من غروب الشمس إلى ذهاب الشفق، و ثانيهما: من ذهاب الشفق إلى ربع الليل، بل هذا هو المتعيّن، لأنّ الأوّل يوجب طرح نصوص امتداد وقت العشاءين إلى نصف الليل، أو التأويل فيها بتقييد و نحوه. بخلافه على الوجه الثاني، فإنّ أدلّة الامتداد حينئذ تسلم عن الطرح و التأويل، مع امتناع الطرح في بعضها كالآية.

هذا مع أنّ سياق السؤال في الرواية الاولى يأبى الحمل على وقت المضطرّ، فإنّ قوله:

«لم أستمكن من الأذان و لا من الإقامة و افتتاح الصلاة» يعطي كون الأمر في نظر السائل مردّدا بين تفويت فضيلة الأذان و تالييه و تفويت فضيلة الوقت، لعدم إمكان الجمع بينهما في

ص: 106


1- الوسائل 10/196:4، ب 19 من أبواب المواقيت، التهذيب 90/30:2.
2- الوسائل 14/197:4، ب 19 من أبواب المواقيت، التهذيب 92/31:2.
3- الوسائل 9/195:4، ب 19 من أبواب المواقيت، و التهذيب 89/30:2.

الفرض المذكور و صدر الجواب على طبق مسئوله، و مرجعه إلى ترجيح فضيلة الأذان و تالييه، بل قوله عليه السّلام «فإنّك في وقت إلى ربع الليل» ربّما يكون إشارة إلى عدم فوات الفضيلة مطلقا ردعا للسائل عمّا زعمه من الدوران، بناء على تعدّد وقت الفضيلة في المغرب كما عرفت، فيكون معناه أنّه لا تفوت عنك الفضيلة بالمرّة إن أخّرت الصلاة لإدراك الأذان و الإقامة و التكبيرات الافتتاحيّة لأنّك في وقت منها بعد سقوط الشفق إلى ربع الليل. و على هذا المعنى أيضا يحمل الرواية الثانية. و عليه فلا تصلح الروايتان دليلا على القول المذكور.

و أمّا القول الثاني الشامل إطلاقه للمختار و المضطرّ معا - إن تحقّق قول بناء على الإغماض عمّا تقدّم من احتمال الحمل على إرادة المقيّد - فلم يعرف مستنده. و يمكن أن يكون المستند فيه ما تقدّم من الصحاح الثلاث المصرّحة بأنّ لكلّ صلاة وقتين إلاّ المغرب، المعلّلة بأنّ وقتها وجوبها و أنّ وقت فواتها سقوط الشفق، فإنّ إطلاقها يتناول المختار و المضطرّ. و يمكن كون المستند ما عرفت في حجّة القول الأوّل الدالّة على كون وقت المغرب ما بين غيبوبة الشمس و غيبوبة الشفق. و يرد عليهما بعدم المعارضة لما عرفت من الأخبار الدالّة على بقاء وقت المغرب بعد سقوط الشفق مطلقا، و هي أقوى منها لجهات شتّى، أنّ الصحاح لعدم مقاومتها لنصوص امتداد وقت العشاءين إلى انتصاف الليل لا بدّ من تأويلها بما مرّ، أو حملها على التقيّة، و أنّ الروايات الاخر لعدم مقاومتها لما مرّ لا بدّ من حملها على وقت الفضيلة.

و أمّا القول الثالث فمستنده الجمع بين عمومات امتداد وقت العشاءين إلى نصف الليل بحملها على وقت المضطرّ، و الروايات المتقدّمة بكون وقت المغرب ما بين الغروبين بحملها على وقت المختار. و يرد عليه: أنّ هذا الجمع ممّا لا شاهد له في الأخبار، و أنّ احتماله معارض باحتمال الجمع بالحمل على وقتي الفضيلة و الإجزاء، و أنّ المتعيّن هو الثاني لأنّه لا يوجب إلاّ التأويل في أحد المتعارضين، بخلاف الأوّل الموجب له في كلا المتعارضين، مع موافقة الجمع المذكور لفهم المشهور و غيره.

و أمّا القول الرابع فلعلّ المراد به بقاء الوقت بالنسبة إلى المضطرّ بعد انتصاف الليل إلى طلوع الفجر، كما ورد بقاؤه في المغرب و العشاء كذلك بالنسبة إلى أرباب بعض الأعذار في بعض النصوص الصحيحة و عمل بها جماعة، و إلاّ فهو على إطلاقه خلاف الإجماع بل

ص: 107

الكتاب و السنّة المصرّحين بانتهاء وقتهما إلى انتصاف الليل، مع أنّ مستنده من النصوص غير واضح عدى ما احتمل كونه المستند من رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«لا يفوت الصلاة من أراد الصلاة، لا يفوت صلاة النهار حتّى تغيب الشمس، و لا صلاة الليل حتّى يطلع الفجر»(1) و صلاة الليل فيها لمخالفتها الكتاب و السنّة و الإجماع محمولة على نافلة الليل.

و أمّا بالقياس إلى العشاء ففي مقابل المشهور أيضا عبائر مضطربة و أقوال مختلفة:

منها: ما عن المفيد(2) و الشيخ(3) في عدّة من كتبه و ابن البرّاج(4) من «أنّ آخره ثلث الليل».

و منها: ما عن الشيخ في المبسوط(5) و النهاية و ابن حمزة(6) من «أنّ آخره للمختار ثلث الليل، و للمضطرّ نصف الليل».

و منها: ما عن أبي الصلاح(7) «أنّ آخره للمختار ربع الليل، و للمضطرّ نصف الليل».

و منها: ما نقله الشيخ في المبسوط(8) على ما حكي عنه عن بعض علمائنا و اختاره المحقّق في المعتبر(9) من «أنّ آخره للمضطرّ طلوع الفجر» و عزي إلى بعض المتأخّرين(10)أيضا.

حجّة القول الأوّل: أنّ تحقّق كون إطلاقه قولا طريقة الاحتياط و الأخذ بالقدر المتيقّن من معقد الإجماع، على أنّ ما بين غيبوبة الشفق إلى ثلث الليل وقت العشاء و لا إجماع بالنسبة إلى ما بعد الثلث، احتجّ به الشيخ على ما حكي عنه في الخلاف قائلا: «بأنّ الثلث مجمع على كونه وقتا للعشاء فيقتصر عليه أخذا بالقدر المتيقّن»(11).

و يزيّفه أوّلا: أنّ طريقة الاحتياط لا تعطي تعيّن الآخر، بل غايته بيان كيفيّة العمل، مع أنّ التعويل عليها في مقابلة الآية و النصوص المفسّرة و غيرها من المستفيضة بل المتواترة القاضية بانتهاء وقت العشاء عند انتصاف الليل كما ترى. و من هنا يعلم أنّه لا يلزم من عدم

ص: 108


1- الوسائل 9/159:4، ب 10 من أبواب المواقيت، التهذيب 1015/256:2.
2- المقنعة: 93.
3- الخلاف 264:1، المصباح: 24، مختصر المصباح (مخطوط): 46، الجمل و العقود: 59، الاقتصاد: 256.
4- المهذّب 69:1.
5- المبسوط 75:1.
6- الوسيلة: 670.
7- الكافي في الفقه: 137.
8- المبسوط 75:1.
9- المعتبر 43:2.
10- المدارك 60:3.
11- الخلاف 265:1-266.

انعقاد الإجماع على ما بعد الثلث أن لا يكون دليل آخر عليه، بل هو على ما عرفت موجود و لا إجماع على خلافه بل لا شهرة فيه بل هي على طبقه، مع أنّه لو كان ملاك كون الشيء وقتا هو الإجماع لوجب الاقتصار في وقت العشاء بقول مطلق على ربع الليل، إذ لا إجماع على ما بعده على إطلاقه. كما يعلم وجهه بملاحظة ما عرفت من القول الثالث الّذي نقله المستدلّ عن بعض علمائنا.

و عن الشيخين الاحتجاج أيضا برواية يزيد بن خليفة عن الصادق عليه السّلام قال: «أوّل وقت العشاء حين تغيب الشفق إلى ثلث الليل»(1) و بما في رواية زرارة عن الباقر عليه السّلام «و آخر وقت العشاء ثلث الليل»(2) و يشهد لهما أيضا المرويّ عن الفقيه في الصحيح عن معاوية بن عمّار «وقت العشاء الآخرة إلى ثلث الليل»(3).

و يرد عليها أوّلا: المعارضة بمثلها بل أقوى منها لجهات شتّى من الموافقة للكتاب و الشهرة و الإجماع المنقول المحكيّ عن ابن زهرة، كمرسلة داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي ثلاث ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب و العشاء الآخرة حتّى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلّي أربع ركعات، فإذا بقى مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب و بقى وقت العشاء الآخرة»(4). و رواية بكر بن محمّد بل صحيحه على ما في كلام جماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أوّل وقت العشاء الآخرة ذهاب الحمرة، و آخر وقتها إلى غسق الليل»(5) يعني نصف الليل. و موثّقة معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في إتيان جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمواقيت الصلاة و فيه «ثمّ أتاه حين ذهب ثلث الليل فأمره فصلّى العشاء»(6). و رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو لا إنّي أخاف أن أشقّ على امّتي لأخّرت العتمة إلى ثلث الليل، و أنت في رخصة إلى نصف

ص: 109


1- الوسائل 2/156:4، ب 10 من أبواب المواقيت، التهذيب 95/31:2.
2- الوسائل 3/156:4، ب 10 من أبواب المواقيت، التهذيب 1045/262:2.
3- الوسائل 4/200:4، ب 21 من أبواب المواقيت، الفقيه 675/141:1.
4- الوسائل 4/184:4، ب 17 من أبواب المواقيت، التهذيب 82/28:2.
5- الوسائل 6/174:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 88/30:2.
6- الوسائل 5/157:4، ب 10 من أبواب المواقيت، التهذيب 72/252:2.

الليل»(1) و غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و ثانيا: أنّ العمل بظواهر هذه الأخبار يوجب طرح الكتاب و غيره من المستفيضة القريبة من التواتر، و هذا كما ترى. و حملها على المختار لوجب العدول عن إطلاق القول بهذا الوقت، مع استلزامه التقييد في الآية و غيرها ممّا يوافقها من النصوص في الدلالة على امتداد وقتها إلى انتصاف الليل. فالمتعيّن حينئذ حملها على وقت الفضيلة، لأنّه لا يوجب طرحا و لا تأويلا فيما ذكر من أدلّة الامتداد إلى انتصاف الليل.

و بذلك ظهر الجواب عن حجّة القول الثاني و هو على ما قيل: الجمع بين النصوص الواردة في الباب بجعل الدالّة على انتهاء الوقت بثلث الليل للمختار و الدالّة على الامتداد إلى نصف الليل للمضطرّ، فإنّ هذا الجمع ممّا لا شاهد له في الأخبار، مع أنّه معارض باحتمال الجمع بالحمل على الفضيلة و الإجزاء بل هو المتعيّن لما مرّ مرارا، مع أنّه قد يقال بظهور ما دلّ على الامتداد في المختار.

و أمّا القول الثالث: فلم يعلم مستنده حتّى أنّ المتعرّضين لنقله أهملوا ذكر مستنده، و لم نقف في النصوص على ما يشهد له عدى ما نقله في الحدائق(2) عن موضع من الفقه الرضوي، من قوله: «و وقت العشاء الآخرة الفراغ من المغرب إلى ربع الليل و قد رخّص العليل و المسافر فيهما إلى انتصاف الليل و للمضطرّ إلى طلوع الفجر»(3). و ردّ عليه أنّ الفقه الرضوي غير ثابت الحجّيّة فلا عمل عليه فيما لم يعتضد بما أوجب اعتباره، فالقول المذكور في غاية السقوط.

و أمّا القول الرابع: فمستنده عدّة روايات: مثل صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إن نام رجل و نسي أن يصلّي المغرب و العشاء الآخرة، فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصلّيهما كلتيهما فليصلّيهما، و إن خشي أن يفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة و إن استيقظ بعد الفجر فليبدأ فليصلّ الفجر ثمّ المغرب ثمّ العشاء الآخرة قبل طلوع الشمس»(4).

و صحيحة شعيب عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إن نام رجل و لم يصلّ صلاة

ص: 110


1- الوسائل 7/185:4، ب 17 من أبواب المواقيت، التهذيب 1041/261:2.
2- الحدائق 196:6.
3- فقه الرضا عليه السّلام: 7.
4- الوسائل 4/288:4، ب 62 من أبواب المواقيت، التهذيب 1076/270:2.

المغرب و العشاء الآخرة أو نسي فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما، و إن خشي أن يفوته أحدهما فليبدأ بالعشاء الآخرة، و إن استيقظ بعد الفجر فيبدأ فليصلّ الفجر ثمّ المغرب و العشاء الآخرة قبل طلوع الشمس، فإن خاف أن تطلع الشمس فيفوته إحدى الصلاتين فليصلّ المغرب و يدع العشاء الآخرة حتّى تطلع الشمس و يذهب شعاعها ثمّ ليصلّها»(1).

و موثّقة ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث «و إن طهرت في آخر الليل فلتصلّ المغرب و العشاء»(2) و ايّدت برواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يفوّت الصلاة من أراد الصلاة، لا تفوت صلاة النهار حتّى تغيب الشمس، و لا صلاة الليل حتّى تطلع الفجر»(3).

و لا يخفى معارضتها المستفيضة بل المتواترة الظاهرة في انتهاء وقت العشاءين عند نصف الليل مع مخالفتها الكتاب و الشهرة العظيمة و موافقتها العامّة، كما نصّ عليها جماعة منهم ثاني الشهيدين قائلا على ما حكي عنه: «و للأصحاب أن يحملوا الروايات الدالّة على امتداد الوقت إلى الفجر على التقيّة، لإطباق الفقهاء الأربعة عليه و إن اختلفوا في كونه آخر الوقت الاختيار أو الاضطرار»(4) و لأجل ذا كلّه - مضافا إلى قضاء الروايتين الاوليين بوجوب تقديم الحاضرة على الفائتة، و هو أيضا على ما قيل خلاف المشهور عند القدماء و المتأخّرين - أجاب العلاّمة في المنتهى(5) عن الاولى «بحمل القبليّة على ما قبل الانتصاف» و هو يجري في الرواية الثانية أيضا غير أنّه في غاية البعد جدّا.

و قد يجاب عن الثالثة بالحمل على الاستحباب. و هو أيضا لا يخلو عن بعد، لعدم شاهد له. نعم يرد على الجميع عدم وفائها بعموم المدّعى لاختصاصها بالنائم و الناسي و الحائض، و لذا نسب إلى جماعة العمل بها في مواردها خاصّة، و يظهر الميل إليه من الذخيرة(6).

و يرد على الأخيرة أنّها على إطلاقها المتناول للمختار أيضا على خلاف الإجماع، و حملها على المضطرّ مع بعده معارض باحتمال إرادة نافلة الليل من صلاة الليل، أو حملها على المجموع من الفريضة و النافلة مع تخصيص بقاء الوقت بعد انتصاف الليل بالنافلة.

و الأولى حمل الجميع على التقيّة كما عرفته عن الشهيد و صنعه جماعة لكن في المحكيّ

ص: 111


1- الوسائل 3/288:4، ب 62 من أبواب المواقيت، التهذيب 1077/270:2.
2- الوسائل 10/364:2، ب 49 من أبواب الحيض، التهذيب 1204/390:1.
3- الوسائل 3/125:4، ب 4 من أبواب المواقيت، الفقيه 1030/232:1.
4- روض الجنان 488:2.
5- المنتهى 88:4.
6- الذخيرة: 195.

عن المجلسي في البحار «و لعلّ الأقوى امتداد وقت الفضيلة إلى ثلث الليل، و وقت الإجزاء للمختار إلى نصف الليل، و وقت المضطرّ إلى طلوع الفجر... إلى أن قال: فإن قيل: ظاهر الآية انتهاء وقت العشاءين بانتصاف الليل، و إذا اختلف الأخبار يجب العمل بما يوافق الكتاب. قلنا: إذا أمكننا الجمع بين ظاهر القرآن و الأخبار النافية له ظاهرا فهو أولى من طرح بعض الأخبار، و حمل الآية على المختارين الّذين هم المخاطبون و عمدتهم يوجب الجمع بينها، و عدم طرح شيء منها. و أمّا حمل أخبار التوسعة على التقيّة كما فعله الشهيد(1)الثاني... إلى أن قال: و هو غير بعيد، لكن أقوالهم لم تكن منحصرة في أقوال الفقهاء الأربعة، و عندهم في ذلك أقوال منتشرة. و الحمل على التقيّة إنّما يكون فيما إذا لم يكن محمل آخر ظاهر يحصل به الجمع بين الأخبار، و ما ذكرناه جامع بين الأخبار(2) انتهى.

و فيه: أنّ مرجع هذا الجمع إلى تقييد الآية و ما يوافقها من المستفيضة بل المتواترة بروايات التوسعة، و هو فرع على التكافؤ المفقود في المقام، لإعراض معظم الأصحاب عن الأخذ بهذه الروايات الموجب فيها الوهن المسقط لها عن المكافئة. و الحمل على التقيّة لا يقتضي انتفاء محمل ظاهر بل يقتضي المخالفة لمذهب الأصحاب أو معظمهم مع الموافقة لمذاهب العامّة، مع إشكال في اشتراط الأخير، و يكفي فيه الموافقة لبعض مذاهبهم فكيف بالموافقة لمذهب فقهائهم الأربعة.

لكن عن الشيخ أنّه مع أنّه نسب هذا القول في المبسوط إلى بعض علمائنا، مشعرا بشذوذ القائل به، قال في موضع من الخلاف: «لا خلاف بين أهل العلم في أنّ أصحاب الأعذار إذا أدرك أحدهم قبل طلوع الفجر الثاني مقدار ركعة أنّه يلزمه العشاء الآخرة»(3).

و عن الشهيد في الذكرى أنّه بعد ذكر جملة من روايات التوسعة و نقل هذه العبارة قال:

و جوابه المعارضة بالأخبار السابقة و الشهرة المرجّحة و يؤيّدها مرفوع ابن مسكان إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من نام قبل أن يصلّي العتمة فلم يستيقظ حتّى يمضي نصف الليل، فليقض صلاته و ليستغفر اللّه»(4) و كذا رواية النوم على العشاء إلى نصف الليل المتضمّنة

ص: 112


1- روض الجنان 488:2.
2- بحار الأنوار 53:80-54.
3- الخلاف 271:1 المسألة 13.
4- الوسائل 5/185:4، ب 17 من أبواب المواقيت، التهذيب 1097/276:2.

للقضاء و صوم الغد(1) انتهى(2).

و مراده أنّ ما ذكر من الروايات مع ما ذكره الشيخ من نفي الخلاف الّذي هو بالنسبة إلينا منقول و هو - بناء على حجّيّته من باب الإجماع المنقول أو مطلق الدليل الظنّي - معارض بالأخبار الدالّة على انتهاء وقت العشاءين عند انتصاف الليل الموافقة للشهرة، فلا يفيدان الظنّ ، أو يرجّح الأخبار عليهما بموافقتها الشهرة، و تأيّدها بالأخبار الآمرة بالقضاء فيما هو من أفراد المسألة.

و عليه فما ذكره صاحب الذخيرة في الاعتراض عليه «من أنّ مجرّد المعارضة لا يقتضي الإطراح إلاّ عند عدم إمكان الجمع و ليس الأمر هنا كذلك، و مثل هذه الشهرة المخالفة لما نقل الإجماع عليه غير كاف في الترجيح، و اعترف رحمه اللّه باستقامة سند رواية ابن سنان و وضوح دلالته، لكن قال: إنّه مطرح بين الأصحاب و للتأمّل فيه مجال»(3) ليس بسديد.

و أمّا الصبح: ففي مقابل المشهور قول ابن أبي عقيل(4) و الشيخ في المبسوط(5)و ابن حمزة(6) من «أنّ وقته للمختار من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الحمرة المشرقيّة، و للمضطرّ إلى طلوع الشمس». و عن الشيخ في الخلاف(7) «أنّ وقت المختار إلى أن يسفر الصبح» قيل: و هو قريب من مذهب ابن أبي عقيل، لأنّ إسفار الصبح إضاءته و إشراقه.

و حجّتهم الجمع بين المتعارضين فأوّلهما عدّة روايات: كرواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام المتضمّنة لقوله عليه السّلام: «لا تفوت صلاة الفجر حتّى تطلع الشمس»(8). و رواية عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الرجل إذا غلبته عينه أو عاقه أمر أن يصلّي المكتوبة من الفجر ما بين أن يطلع الفجر إلى أن تطلع الشمس، و ذلك في المكتوبة خاصّة»(9). و ما رواه الشيخ عن الأصبغ بن نباتة قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامّة»(10). و صحيحة عليّ بن يقطين قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام

ص: 113


1- الوسائل 3/214:4، ب 29 من أبواب المواقيت، الفقيه 658/142:1.
2- الذكرى 348:2.
3- الذخيرة: 197.
4- نقله عنه في المعتبر 45:2.
5- المبسوط 75:1.
6- الوسيلة: 83.
7- الخلاف 267:1 مسألة 10.
8- الوسائل 8/209:4، ب 26 من أبواب المواقيت، التهذيب 1015/256:2.
9- الوسائل 7/208:4، ب 26 من أبواب المواقيت، التهذيب 120/38:2.
10- الوسائل 2/217:4، ب 30 من أبواب المواقيت، التهذيب 119/38:2.

عن الرجل لا يصلّي الغداة حتّى يسفر و يظهر الحمرة و لم يركع بركعتي الفجر أ يركعهما أو يؤخّرهما؟ قال: يؤخّرهما»(1) وجه الدلالة - على ما قيل - أنّ ظاهر الخبر امتداد الوقت إلى ما بعد الإسفار و ظهور الحمرة، و كلّ من قال بذلك قال بامتداده إلى طلوع الشمس.

و ثانيهما: حسنة الحلبي أو صحيحته عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «وقت الفجر حين ينشقّ الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء، و لا ينبغي تأخير ذلك عمدا، و لكنّه وقت لمن شغل أو نسي أو نام»(2). و صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «لكلّ صلاة وقتان و أوّل الوقتين أفضلهما، و وقت صلاة الفجر حين ينشقّ الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء، و لا ينبغي تأخير ذلك عمدا و لكنّه وقت من شغل أو نسي أو سها أو نام»(3). و رواية يزيد بن خليفة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «وقت الفجر حين يبدو حتّى يضيء»(4).

و إذا حمل الأوّل على المضطرّ و الثاني على المختار كما هو ظاهر الصحيحين يحصل الجمع بينهما.

و فيه: ما لا يخفى، فإنّ الأوّل إذا حمل على وقت الإجزاء إبقاء له على ظاهره و الثاني على وقت الفضيلة يحصل الجمع، و هو المتعيّن بملاحظة ما سبق، مع أنّ حمل الوقتين في صحيحة ابن سنان على وقتي الاختيار و الاضطرار غير صحيح على ما سبق وجهه، بل لا ينطبق الوقتان على ما بيّنّاه إلاّ على وقتي الفضيلة و الإجزاء، و يتأكّد ذلك بظاهر قوله «لا ينبغي». و بهذا كلّه يصرف قوله عليه السّلام في ذيل الرواية «و ليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتا إلاّ من عذر أو من علّة» عمّا هو ظاهر فيه بالحمل على بيان المرجوحيّة من جهة تفويت الفضيلة و ترك الأولى. فعلم بجميع ما قرّرناه - من بداية المسألة إلى تلك النهاية - أنّ الحقّ ما هو المشهور من كون الوقتين المقرّرين لكلّ صلاة هما وقتا الفضيلة و الإجزاء لا غير.

ص: 114


1- الوسائل 1/266:4، ب 51 من أبواب المواقيت، التهذيب 1409/340:2.
2- الوسائل 1/207:4، ب 26 من أبواب المواقيت، التهذيب 121/38:2.
3- الوسائل 5/208:4، ب 26 من أبواب المواقيت، التهذيب 123/39:2.
4- الوسائل 3/207:4، ب 26 من أبواب المواقيت، التهذيب 112/36:2.
[ينبوع: أوّل الوقت في كلّ صلاة أفضل من غيره]

ينبوع

و اعلم أنّ أوّل الوقت في كلّ صلاة أفضل من غيره وسطا و آخرا و غيرهما بلا خلاف يظهر بين أصحابنا، و عليه الإجماع مستفيضا، و عن الناصريّة(1) نسبته إلى الأصحاب، و عن كشف(2) الحقّ نسبته إلى الإماميّة، و الأصل بعد ما ذكر - مضافا إلى عمومات الكتاب من نحو قوله عزّ من قائل: وَ سٰارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (3)فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرٰاتِ (4)- النصوص المستفيضة القريبة من التواتر بل المتواترة في الحقيقة، كصحيحة عبد اللّه بن سنان(5) و صحيحة معاوية(6) بن عمّار أو ابن وهب(7) و رواية ابن سنان(8) المصرّحة بأنّ أوّل الوقتين أفضلهما أو أوّل الوقت أفضلهما أو أوّل الوقت أفضله.

و صحيحة سعد بن أبي خلف عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال: «الصلوات المفروضات في أوّل وقتها إذا اقيم حدودها أطيب ريحا من قضيب الآس حين يؤخذ في طيبه و ريحه و طراوته، فعليكم بالوقت الأوّل»(9).

و صحيحة محمّد بن مسلم قال: «سمعت أبا عبد اللّه يقول: إذا دخل وقت صلاة فتحت أبواب السماء لصعود الأعمال، فما أحبّ أن يصعد عمل أوّل من عملي، و لا يكتب في الصحيفة أحد أوّل منّي»(10).

ص: 115


1- الناصريّات: 197.
2- نهج الحقّ و كشف الصدق: 421، المسألة الثامنة.
3- آل عمران: 133.
4- البقرة: 148.
5- الوسائل 5/208:4، ب 26 من أبواب المواقيت، التهذيب 123/39:2.
6- الوسائل 11/121:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 125/40:2.
7- الوسائل 11/121:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 125/40:2.
8- الوسائل 13/122:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 124/39:2.
9- الوسائل 1/118:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 128/40:2.
10- الوسائل 2/119:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 131/41:2.

و صحيحة زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: أحبّ الوقت إلى اللّه عزّ و جلّ أوّله، حين يدخل وقت الصلاة فصلّ الفريضة، فإن لم تفعل فإنّك في وقت منهما حتّى تغيب الشمس»(1).

و رواية سعيد بن الحسن قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: أوّل الوقت زوال الشمس، و هو وقت اللّه الأوّل و هو أفضلهما»(2).

و موثّقة ذريح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال جبرئيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - في حديث -:

أفضل الوقت أوّله»(3).

و رواية أبي بصير قال: «ذكر أبو عبد اللّه عليه السّلام: أوّل الوقت و فضله، فقلت: كيف أصنع بالثماني ركعات ؟ فقال: خفّف ما استطعت»(4).

و صحيحة زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: اعلم أنّ أوّل الوقت أبدا أفضل، فعجّل الخير ما استطعت، و أحبّ الأعمال إلى اللّه ما دام عليه العبد و إن قلّ »(5).

و حسنة زرارة أو صحيحته قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أصلحك اللّه، وقت كلّ صلاة أوّل الوقت أفضل أو وسطه أو آخره ؟ قال: أوّله، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يحبّ من الخير ما يعجّل»(6).

و رواية بكر بن محمّد الأزدي قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لفضل الوقت الأوّل على الأخير خير للرجل من ولده و ماله»(7).

و رواية قتيبة الأعشى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ فضل الوقت الأوّل على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا»(8).

و رواية عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من صلّى الصلوات

ص: 116


1- الوسائل 5/119:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 69/240:2.
2- الوسائل 6/120:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 50/18:2.
3- الوسائل 8/121:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 1004/253:2.
4- الوسائل 9/121:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 1019/257:2.
5- الوسائل 10/121:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 130/41:2.
6- الوسائل 12/122:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 127/40:2.
7- الوسائل 14/122:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 126/40:2.
8- الوسائل 15/123:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 129/40:2.

المفروضات في أوّل وقتها و أقام حدودها رفعها الملك إلى السماء بيضاء نقيّة تقول: حفظك اللّه كما حفظتني، و استودعك اللّه كما استودعتني ملكا كريما... الخ»(1).

و رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في حديث طويل قال: «و الصلاة في أوّل الوقت أفضل»(2).

و مرسل الفقيه قال: «قال الصادق عليه السّلام: أوّله رضوان اللّه، و آخره عفو اللّه»(3).

و رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «صلاة المسافر حين تزول الشمس، لأنّه ليس قبلها في السفر صلاة، و إن شاء أخّرها إلى وقت الظهر في الحضر، غير أنّ أفضل ذلك أن يصلّيها في أوّل وقتها حين تزول»(4).

و رواية إسحاق بن عمّار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخبرني عن أفضل المواقيت في صلاة الفجر؟ فقال: مع طلوع الفجر إنّ اللّه يقول: إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كٰانَ مَشْهُوداً (5) يعني صلاة الفجر تشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار، فإذا صلّى العبد صلاة الصبح مع طلوع الفجر اثبت له مرّتين تثبته ملائكة الليل و ملائكة النهار»(6) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

لكن في بعض الروايات ما يوهم خلاف ذلك في خصوص العشاء كما في الرواية المتقدّمة لأبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو لا أنّي أخاف أن أشقّ على امّتي لأخّرت العشاء إلى ثلث الليل، و أنت في رخصة إلى نصف الليل»(7) و في روايته الاخرى عنه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو لا أن أشقّ على امّتي لأخّرت العشاء إلى نصف الليل»(8) لقضائهما بأنّ فضيلة العشاء إنّما هي في التأخير إلى الثلث أو النصف لمزيّة في أحدهما أو في كليهما مع تفاوت الرتبة، و إنّما تركه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما يقتضيه مفهوم «لو لا» لئلاّ

ص: 117


1- الوسائل 17/123:4، ب 3 من أبواب المواقيت، أمالي الصدوق: 10/211.
2- الوسائل 18/124:4، ب 3 من أبواب المواقيت، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 123:2.
3- الوسائل 16/123:4، ب 3 من أبواب المواقيت، الفقيه 651/140:1.
4- الوسائل 1/135:4، ب 6 من أبواب المواقيت، التهذيب 612/234:2.
5- الإسراء: 78.
6- الوسائل 1/212:4، ب 28 من أبواب المواقيت، التهذيب 116/37:2.
7- الوسائل 2/200:4، ب 21 من أبواب المواقيت، التهذيب 1041/261:2.
8- الوسائل 5/201:4، ب 21 من أبواب المواقيت، علل الشرائع: 1/340، ب 40.

يتوهّم الامّة وجوبه فالتزموا به تأسّيا فوقعوا في الكلفة و المشقّة.

و فيهما - بعد الإغماض عمّا في سنديهما من جهة محمّد بن زياد و هارون بن خارجة في سند الأوّل لاشتراك الأوّل بين الثقة و غيره، و عدم خلوّ الثاني عن شبهة الاشتراك، و أحمد بن عبد اللّه القروي لجهالته - أنّهما لا تقاومان لمعارضة عمومات فضيلة التعجيل و المبادرة إلى الخير و عمومات أفضليّة أوّل الوقت، مع أنّ تفويت فضيلة التأخير إلى الثلث أو النصف دفعا للمشقّة عن الامّة يقتضي تدارك هذه الفضيلة الفائتة بفضيلة اخرى تساويها، أو تزيد عليها في أوّل الوقت و لو من جهة المبادرة الراجحة لا من جهة ذات ذلك الوقت، فتأمّل.

مع أنّهما معارضتان بما في بعض من الروايات، من «أنّه ملعون ملعون من أخّر العشاء إلى أن تشتبك النجوم»(1) بناء على عدم جواز رجوع اللعن إلى تأخيرها باعتقاد الجواز، فتعيّن كونه راجعا إليه باعتقاد الفضيلة، و إن احتمل أيضا رجوعه إليه باعتقاد الوجوب بقرينة ورود نحو ذلك في المغرب مع صراحته في الفضيلة، كقول الصادق عليه السّلام: «ملعون ملعون من أخّر المغرب طلبا لفضلها»(2) ثمّ استثنى عمّا ذكرناه من الكلّيّة نصّا و فتوى صور كثير يأتي التعرّض لذكرها في أواخر أبواب أحكام المواقيت إن شاء اللّه.

ص: 118


1- الوسائل 7/201:4، ب 21 من أبواب المواقيت، الاحتجاج: 479.
2- الوسائل 6/188:4، ب 18 من أبواب المواقيت، الفقيه 660/142:1.
[ينبوع: تحديد وقت الفضيلة للفرائض]

ينبوع

لوقت فضيلة كلّ صلاة حدّ معيّن قدّره الشارع، له أوّل و آخر، فأوّل وقت فضيلة الظهر أوّل وقت الفريضة، و هو الزوال بلا خلاف ظاهر، مع ما فيه من المبادرة إلى الخير و التعجيل فيه، فيتناوله عموم الأمر بالمسارعة و الاستباق، و عموم نحو قوله: «فعجّل الخير ما استطعت»(1) و «إنّ اللّه يحبّ من الخير ما يعجّل»(2) بل يندرج في الأوّل المحكوم عليه في كثير من الروايات بكونه أفضل إذ الظاهر المنساق منه أوّل وقت الفريضة، مضافا إلى خصوص رواية سعيد بن الحسن «أوّل الوقت زوال الشمس و هو وقت اللّه الأوّل و هو أفضلهما»(3).

نعم في عدّة من الروايات ما ربّما يوهم خلاف ذلك، كصحيحة إسماعيل بن عبد الخالق و موثّقة سعيد الأعرج الدالّتين على «أنّ وقت الظهر بعد الزوال بقدم»(4). و صحيحة زرارة و موثّقة يعقوب بن شعيب الدالّتين على «أنّ وقت الظهر بعد الزوال بذراع»(5) و الذراع قدمان بناء على تفسيره بهما في بعض الروايات كرواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«سألته عن وقت الظهر؟ فقال: ذراع من زوال الشمس و وقت العصر ذراع من وقت الظهر فذلك أربعة أقدام من زوال الشمس»(6).

لكنّ الخطب فيها - مع عدم منافاتها لما نحن فيه، لأنّ الغرض إثبات كون أوّل وقت

ص: 119


1- الوسائل 10/121:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 130/41:2.
2- الوسائل 12/122:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 127/40:2.
3- الوسائل 6/120:4، ب 3 من أبواب المواقيت، التهذيب 50/18:2.
4- الوسائل 11/144:4 و 17/145، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 59/21:2، 970/244:2.
5- الوسائل 18/145:4 و 19، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 996/251:2 و 973/245:2.
6- الوسائل 3/141:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 55/19:2.

الفضيلة أوّل وقت الفريضة، و إن جعلنا أوّل وقت الفريضة ما بعد الزوال بقدم أو ذراع بناء على هذه الروايات - سهل و الأمر فيها هيّن بعد ملاحظة ما تقدّم من حملها على صورة الاشتغال بالنافلة لمن يريدها.

فالمراد من وقت الظهر ما يقع فيه الظهر بعد النافلة، أو ما يختصّ بالظهر، و لا يشاركها فيه النافلة، و الشاهد عليه ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«إنّ حائط مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قامة و كان إذا مضى من فيئه ذراع صلّى الظهر، و إذا مضى من فيئه ذراعان صلّى العصر. ثمّ قال: أ تدري لم جعل الذراع و الذراعان ؟ قلت:

لم جعل ذلك ؟ قال: لمكان النافلة، فإنّ لك أن تتنفّل ما بين زوال الشمس إلى أن يمضي الفيء ذراعا، فإذا بلغ فيئك ذراعا من الزوال بدأت بالفريضة و تركت النافلة»(1) و في معناها أخبار كثيرة.

و قضيّة ذلك كون الفضل لمريد النافلة في فعل الفريضة بعد القدم أو الذراع، و هذا لا ينافي في أفضليّة أوّل الوقت على ما تقدّم، بناء على أنّها بالقياس إلى أوّل الوقت أفضليّة ذاتيّة نفسيّة، و ما ذكر أفضليّة عرضيّة أو غيريّة جاءت من قبل النافلة، فالفضيلة حينئذ في فعل النافلة قبل الفريضة.

و حينئذ فمن لا يريد النافلة و إن كان لعدم مشروعيّة النافلة له كما لو كان مسافرا فلا ينبغي التأمّل في أنّ فضيلة صلاته في المبادرة إلى فعلها في أوّل الوقت، فإنّها فضيلة لا يزاحمها غيرها. و أمّا المريد للنافلة فله فضيلة اخرى في فعل النافلة قبل الفريضة. فإذا دار الأمر حينئذ بين فضيلة أوّل الوقت و فضيلة النافلة قبلها فالظاهر كون الثاني أفضل، بل الظاهر أنّه ممّا لا خلاف لأنّه المعلوم من سيرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة عليهم السّلام و أصحابهم و تابعيهم و علماء السلف و الخلف، بل هو المستفاد من مجموع نصوص النوافل، مضافا إلى أنّه المستفاد من روايات السبحة الّتي بين الزوال و الظهر، و هي أيضا كثيرة.

و قضيّة هذا كلّه تقدّم أدلّة النوافل على أدلّة أفضليّة أوّل الوقت من باب الحكومة لا من باب التخصيص، بناء على أنّ أدلّة أوّل الوقت بعمومها قضت بأفضليّة الأوّل لمريد النافلة و غيرها، و أدلّة النوافل تقتضي الخروج عنها في مريد النافلة مثلا فليتأمّل.

ص: 120


1- الوسائل 4/141:4، ب 8 من أبواب المواقيت، الفقيه 653/140:1.

ثمّ إنّ ما أشرنا إليه من كون الفضيلة في الظهر المتأخّرة عن النافلة عرضيّة أو غيريّة إنّما هو إذا اعتبرت الفضيلة لها من جهة النافلة، و أمّا إذا لوحظت مع الوقت الّذي تقع فيه بعد النافلة - و هو ما بعد القدم أو الذراع مثلا - فلها أيضا فضيلة ذاتيّة نفسيّة، لبقاء وقت الفضيلة بعد بناء على انتهائه إلى قدمين أو أربعة أو ظلّ المثل، و عليه فالأفضل المبادرة إلى فعلها أيضا من حين الفراغ عن النافلة بلا تراخ و لا انتظار للقدم أو الذراع إن كان فراغه من النافلة قبلهما كما صرّح به في المدارك(1). و لعلّه أيضا ممّا لا خلاف فيه، لعموم الأمر بالمسارعة، و كونه من التعجيل المأمور به في قوله عليه السّلام: «فعجّل الخير ما استطعت». و لا يبعد دعوى اندراجه في أوّل الوقت المحكوم عليه بكونه أفضل، مضافا إلى أنّه الظاهر المنساق من روايات السبحة المتوسّطة بين الزوال و الفريضة.

فصار محصّل الكلام في المقام: أنّ أوّل وقت فضيلة الظهر بالنسبة إلى غير المتنفّل من الزوال، فإذا دار الأمر عنده بين أداء الظهر من حين الزوال بدون نافلة و فعلها كذلك بعده، فالأفضل الأوّل فلا ينتظر للقدم و لا الذراع سواء كان ممّن شرّع له نافلة أو لا، و بالنسبة إلى المتنفّل من حين الفراغ عن النافلة و لو قبل القدم و الذراع. فإذا دار أمره بين المبادرة إلى فعل الظهر من حين الزوال بلا نافلة، و تأخيرها لإدراك النافلة فالأفضل هو الثاني، ثمّ الأفضل بعد الفراغ عن النافلة المبادرة إليها و لو قبل القدم أو الذراع و لا ينتظر لهما، هذا كلّه في أوّل وقت الفضيلة.

ص: 121


1- المدارك 34:3.
ينبوع في آخر وقت فضيلة الظهر

و اعلم أنّه قد اختلفت فيه الروايات المحمولة على بيان وقت الفضيلة، فهي بين دالّة على كون آخره صيرورة ظلّ كلّ شيء مثله، و هي أكثرها و قد عمل بها المعظم، لكون تحديد الآخر بذلك هو المشهور بين الأصحاب. و دالّة على كونه صيرورة الظلّ على أربعة أقدام، و قد عمل بها الشيخ(1) إلاّ أنّه كما تقدّم في مسألة الاختيار و الاضطرار حملها على وقت المختار، و قد عرفت الجواب بتعيّن حملها على الفضيلة. و دالّة على أنّه صيرورة الظلّ قامتين و قد عمل بها المفيد(2) فيما تقدّم حاملا لها على وقت المختار، و قد عرفت الجواب أيضا بتعيّن حملها على الفضيلة. و هذا هو معنى اختلاف الروايات في آخر وقت فضيلة الظهر، غير أنّ الّذي يسهّل الخطب في هذا الاختلاف هو أنّ الّذي يظهر من ملاحظة روايات الباب أنّ مبنى جميع التحديدات الواردة فيها ليس على حصر وقت الفضيلة فيما حدّته به من القدمين، أو أربعة أقدام بحيث لا يزيد عليه و لا ينقص عنه.

و ممّا يفصح عن ذلك من الروايات موثّقة ذريح المحاربي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام اناس و أنا حاضر... إلى أن قال: فقال بعض: إنّا نصلّي الاولى إذا كانت الشمس على قدمين و العصر على أربعة أقدام، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: النصف من ذلك أحبّ إليّ »(3).

و رواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن صلاة الظهر؟ فقال: إذا كان الفيء ذراعا، قلت: ذراعا من أيّ شيء؟ قال: ذراعا من فيئك، قلت: فالعصر؟ قال:

الشطر من ذلك، قلت: هذا شبر؟ قال: أو ليس شبر كثير»(4).

ص: 122


1- النهاية 278:1، و عمل اليوم و الليلة: 143.
2- المقنعة: 92.
3- الوسائل 22/146:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 978/246:2.
4- الوسائل 18/145:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 996/251:2.

أقول: شطر الشيء جزؤه و المعروف فيه النصف، و قد نصّ عليه بعض أهل اللغة، و يعضده هذه الرواية بقوله فهم الراوي حيث فسّره بالشبر، نظرا إلى أنّ الغالب في الذراع كونه شبرين. و قضيّة ذلك بعد ملاحظة تقرير الإمام لمعتقد السائل كون مراده عليه السّلام من قوله الشطر من ذلك نصف الذراع.

و رواية أحمد بن عمر عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «سألته عن وقت الظهر و العصر؟ فقال:

وقت الظهر إذا زاغت الشمس إلى أن يذهب الظلّ قامة، و وقت العصر قامة و نصف إلى قامتين»(1).

و صحيحة محمّد بن أحمد بن يحيى قال: «كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن عليه السّلام روي عن آبائك القدم و القدمين و الأربع و القامة و القامتين و ظلّ مثلك و الذراع و الذراعين، فكتب عليه السّلام: لا القدم و لا القدمين، إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين، و بين يديها سبحة و هي ثمان ركعات، فإن شئت طوّلت و إن شئت قصّرت ثمّ صلّ الظهر، فإذا فرغت كان بين الظهر و العصر سبحة و هي ثمان ركعات، إن شئت طوّلت و إن شئت قصّرت، ثمّ صلّ العصر»(2) قال الشيخ: «إنّما نفى القدم و القدمين لئلاّ يظنّ أنّ ذلك وقت لا يجوز غيره»(3).

و رواية الحارث بن المغيرة و منصور بن حازم و عمر بن حنظلة جميعا قالوا: «كنّا نقيس الشمس بالمدينة بالذراع، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أ لا انبّئكم بأبين من هذا، إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر إلاّ أنّ بين يديها سبحة و ذلك إليك، فإن كنت خفّفت سبحتك فحين تفرغ من سبحتك، و إن طوّلت فحين تفرغ من سبحتك»(4) و في معناها غيرها ممّا يقف عليه المتتبّع. و المنساق من هذه الروايات و غيرها كما ترى التنبيه على عدم كون ما ورد في الروايات المتضمّنة للتحديد من الحدود على ظاهر التحديد من قصر المحدود عليها بحيث لا يتخلّف عنها بزيادة أو نقيصة.

لكن ينبغي القطع بأنّه لا يتجاوز ظلّ المثل في الظهر، و لا ظلّ المثلين في العصر، بأن

ص: 123


1- الوسائل 9/143:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 52/19:2.
2- الوسائل 13/134:4، ب 5 من أبواب المواقيت، التهذيب 990/249:2.
3- التهذيب 250:2.
4- الوسائل 1/131:4، ب 5 من أبواب المواقيت، الكافي 4/276:3.

يبقى وقت الفضيلة بعدهما بالقياس إليهما ليس إلاّ أوّل وقت الإجزاء لأنّه الّذي يقتضيه ظاهر فتاوي الأصحاب، و يساعد عليه مجموع روايات الباب. و لا يبعد دعوى الإجماع عليه كما أومأ عليه جمال الملّة و الدين في حاشية الروضة في جملة كلام له على موثّقة زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن وقت صلاة الظهر في القيظ فلم يجبني، فلمّا أن كان بعد ذلك قال لعمر بن سعيد بن هلال: إنّ زرارة سألني عن وقت صلاة الظهر في القيظ فلم اخبره فخرجت من ذلك فاقرأه منّي السلام، و قل له: إذا كان ظلّك مثلك فصلّ الظهر، و إذا كان ظلّك مثليك فصلّ العصر»(1) قال المحقّق المذكور: «فالظاهر أنّه رخصة لتأخير كلّ من الصلاتين إلى انتهاء وقت فضيلته لمكان الحرّ و إلاّ فلا قائل من الأصحاب باستحباب تأخير الظهر إلى بعد المثل و العصر إلى بعد المثلين»(2) انتهى.

نعم يبقى الكلام في وجه اختلاف الروايات في التحديد و معناه، و هو يتصوّر من وجوه:

أحدها: ما ذكره جماعة منهم الشهيد في الذكرى(3) و غيره من حمل اختلافها في التقدير على كونه باعتبار «اختلاف المصلّي المتنفّل سرعة و بطأ» فإنّ النافلة يختلف وقوعها من المصلّين في زمان قصير و طويل و متوسّط بينهما باعتبار تطويل الأفعال و قصرها، و قضيّة ذلك أن يكون النظر في التقدير بالقدمين إلى من يقع نافلته في زمان قصير، و في التقدير بالمثل إلى من يقع نافلته في زمان طويل، و في التقدير بالأربع إلى من يقع نافلته في زمان متوسّط. و يشهد لهذا الحمل رواية محمّد بن أحمد بن يحيى المتقدّمة و غيرها من أخبار السبحة.

و ثانيها: ما عن الشهيد في الدروس(4) من احتمال كون اختلاف الأخبار بحسب اختلاف «مراتب الأفضليّة في الوقت» فكلّما كان أقرب إلى الأوّل كان أفضل ممّا بعده، و هكذا حتّى ينتهي إلى القامة، و تنتفي الفضيلة بعد ذلك. و ربّما يشهد له عمومات رجحان التعجيل و المبادرة إلى فعل الخير كتابا و سنّة.

و ثالثها: ما ربّما يستشمّ من مرسلة يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سألته عمّا جاء في الحديث أن صلّ الظهر إذا كانت الشمس قامة و قامتين، و ذراعا

ص: 124


1- الوسائل 13/144:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 62/22:2.
2- حاشية الروضة كتاب الصلاة: 5.
3- الذكرى 327:2.
4- الدروس 139:1.

و ذراعين، و قدما و قدمين، من هذا؟ و من هذا؟ فمتى هذا؟ و كيف هذا؟ و قد يكون الظلّ في بعض الأوقات نصف قدم، قال: إنّما قال: ظلّ القامة و لم يقل: قامة الظلّ ، و ذلك أنّ ظلّ القامة يختلف مرّة يكثر و مرّة يقلّ ، و القامة قامة أبدا لا يختلف، ثمّ قال: ذراع و ذراعان، و قدم و قدمان تفسيرا للقامة و القامتين في الزمان الّذي يكون فيه ظلّ القامة ذراعا و ظلّ القامتين ذراعين، فيكون ظلّ القامة و القامتين و الذراع و الذراعين متّفقين في كلّ زمان معروفين، مفسّرا أحدهما بالآخر مسدّدا به، فإذا كان الزمان يكون فيه ظلّ القامة ذراعا كان الوقت ذراعا من ظلّ القامة و كانت القامة ذراعا من الظلّ ، و إذا كان ظلّ القامة أقلّ أو أكثر كان الوقت محصورا بالذراع و الذراعين، فهذا تفسير القامة و القامتين و الذراع و الذراعين»(1).

و محصّل مفادها ظاهرا أنّ وقت فضيلة الظهر مقدار من الزمان معيّن في الواقع، و علامته صيرورة ظلّ القامة على قدمين، أو على أربعة أقدام، أو مثل القامة، و يختلف ذلك بحسب اختلاف الأزمان و الفصول، لكنّ الأصحاب لم يلتفتوا إلى هذا الوجه فالمصير إليه مشكل، مع أنّه مع جهالة الزمان الّذي اختلافه يوجب اختلاف العلامة غير مفيد.

ص: 125


1- الوسائل 34/150:4، ب 8 من أبواب المواقيت، الكافي 7/277:3.
ينبوع في أوّل وقت العصر و وقت فضيلتها

و اعلم أنّ أوّل وقت العصر هو من حين الفراغ من الظهر بلا خلاف بين الأصحاب، قال شارح الدروس: «لا خلاف بين أصحابنا في أوّل وقت العصر بعد الفراغ من الظهر»(1) و قد نفى الخلاف عن ذلك أيضا الخوانساري في حاشية الروضة(2) بل عن المعتبر(3)و المنتهى(4) الإجماع عليه.

و هو المستفاد من أكثر النصوص بل مجموعها، بناء على أنّ ما يوهم منها خلاف ذلك مؤوّل، كرواية يزيد بن خليفة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ عمر بن حنظلة أتانا منك بوقت... إلى أن قال: فإذا زالت الشمس لم يمنعك إلاّ سبحتك، ثمّ لا تزال في وقت إلى أن يصير الظلّ قامة و هو آخر الوقت، فإذا صار الظلّ قامة دخل وقت العصر، فلم تزل في وقت العصر حتّى يصير الظلّ قامتين...»(5) الخ. و رواية محمّد بن حكيم قال: «سمعت العبد الصالح و هو يقول: إنّ أوّل وقت الظهر زوال الشمس، و آخر وقتها قامة من الزوال، و أوّل وقت العصر قامة، و آخر وقتها قامتين، قلت: في الشتاء و الصيف سواء؟ قال: نعم»(6).

و رواية إبراهيم الكرخي عن أبي الحسن عليه السّلام و فيها «قلت: متى يدخل وقت العصر؟ قال: إنّ آخر وقت الظهر هو أوّل وقت العصر»(7).

و في أسانيدها قصور، فالاولى من جهة محمّد بن عيسى عن يونس و الكلام فيه مشهور، و يزيد بن خليفة لكونه واقفيّا غير موثّق. و الثانية من جهة حمّاد لعدم خلوّه بسبب

ص: 126


1- شرح الدروس 542:1.
2- حاشية الروضة كتاب الصلاة: 3.
3- المعتبر 35:2.
4- المنتهى 56:4.
5- الوسائل 6/133:4، ب 5 من أبواب المواقيت، التهذيب 56/20:2.
6- الوسائل 29/148:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 994/251:2.
7- الوسائل 32/149:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 74/26:2.

كونه مطلقا عن اشتراك، و محمّد بن حكيم الّذي لم يوثّقوه. و هي أيضا مع الثالثة لحسن بن محمّد سماعة الواقفي، فتأمّل.

و رواية معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في إتيان جبرئيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمواقيت الصلاة قال: «فأتاه حين زالت الشمس فأمره فصلّى الظهر، ثمّ أتاه حين زاد الظلّ قامة فأمره فصلّى العصر...»(1) الخ. و في سندها أيضا محمّد بن أبي حمزة و هو لا يخلو عن شبهة الاشتراك. و حملها غير واحد على استحباب التأخير إلى الأوقات المذكورة فيها، و استجوده شارح الدروس، قائلا: «بأنّه طريق جيّد للجمع بين الأخبار»(2).

أقول: الأولى حملها على الوقت المختصّ بالعصر الّذي لا تشاركها فيه الظهر في الفضيلة و إن شاركتها في الإجزاء، كما صنعه الخوانساري في حاشية(3) الروضة. و كيف كان فقضيّة دخول وقت العصر من حين الفراغ عن الظهر جواز الإتيان بها من ذلك الحين و كونها مجزئة، و هذا ممّا لا كلام فيه.

و إنّما الكلام في أوّل وقت فضيلة العصر، فهل هو أوّل وقت الفريضة ؟ أو هو حين يخرج وقت فضيلة الظهر؟ فيه خلاف.

و مرجع الكلام في ذلك إلى أنّه هل يستحبّ المبادرة إلى فعل العصر حين الفراغ عن الظهر، أو يستحبّ تأخيرها إلى أن يخرج وقت فضيلة الظهر؟ و هو صيرورة الظلّ مثل القامة على المشهور في آخر وقت الفضيلة، فجماعة(4) إلى الأوّل و لعلّه المشهور، و آخرون إلى الثاني، و ربّما عزي إلى المفيد(5) و الشهيد في الذكرى.(6)

و الأقوى المعتمد هو الأوّل، لعمومات المسارعة و التعجيل كتابا و سنّة، و عمومات أفضليّة أوّل الوقت، بناء على أنّ المراد بالأوّل المحكوم عليه بكونه أفضل في الروايات المتقدّمة هو أوّل وقت الفريضة في كلّ صلاة، و قد ثبت بالإجماع و غيره أنّ أوّل وقت العصر هو الفراغ عن الظهر كما عرفت، فيتناوله عموم أفضليّة الأوّل، مضافا إلى خصوص

ص: 127


1- الوسائل 5/157:4، ب 10 من أبواب المواقيت، التهذيب 1001/252:2.
2- شرح الدروس 543:1.
3- حاشية الروضة (للخوانساري): 167.
4- منهم الصدوق في الهداية: 29، و ابن زهرة في الغنية: 69، و ابن ادريس في السرائر 196:1، و الفاضل الإصبهاني في كشف اللثام 31:3.
5- المقنعة: 93.
6- الذكرى 332:2.

أخبار السبحة بين الصلاتين الحاصرة للمانع عن العصر من حين الفراغ عن الظهر في النافلة. و قضيّة ذلك رجحان المبادرة و استحبابها لغير المتنفّل.

نعم المستحبّ لمريد النافلة قبلها أن يؤخّرها لفعل النافلة إدراكا لفضلها ثمّ يأتي بالفريضة عند الفراغ منها، فإنّ التأخير حينئذ أفضل من المبادرة إلى فعلها بدون النافلة، و هذا ممّا لا كلام فيه، إنّما الإشكال في أنّ استحباب التأخير حينئذ هل هو لأجل النافلة، أو أنّ التأخير إلى أن يخرج وقت فضيلة الظهر في نفسه مورد للاستحباب ؟

و يظهر الفائدة فيمن لا يريد التنفّل و فيمن يفرغ منها قبل خروج وقت فضيلة الظهر، فإنّ فضيلة التأخير على الثاني باقية بخلافه على الأوّل، و لعلّ مبنى القول باستحبابه أيضا على إرادة الأوّل على معنى استحباب التأخير لإدراك النافلة طلبا لفضلها لا لنفسه. و عليه فيعود النزاع لفظيّا، بل العبارة المحكيّة عن المفيد لا يقتضي أزيد من ذلك، حيث إنّه في باب عمل الجمعة على ما حكاه الشهيد في الذكرى(1) و غيره في غيرها قال: «و الفرق بين الصلاتين في سائر الأيّام مع الاختيار و عدم العوارض أفضل، و قد ثبت السنّة به إلاّ في يوم الجمعة، فإنّ الجمع بينهما أفضل، و كذا في ظهري عرفة و عشاءي المزدلفة»(2).

فإنّ الظاهر أنّ مراده من الفرق بين الصلاتين في سائر الأيّام غير يوم الجمعة هو ما يقابل الجمع بينهما في يوم الجمعة، و هو عبارة عن اتّصال الصلاتين بلا تخلّل أذان و إقامة بينهما، فيكون المراد بالفرق بينهما في غير هذا اليوم فعلهما بحيث تخلّل بينهما الأذان و النافلة، و هذا هو التوفيق بين الصلاتين الوارد في كلام الأصحاب المجمع على استحبابه، كما نقل الإجماع عليه غير واحد من الأساطين منهم علاّمة الطباطبائي في مصابيحه(3).

و أظهر من العبارة المذكورة في إفادة هذا المعنى عبارة ابن الجنيد الّتي نقلها في الذكرى شاهدا لمطلبه و بيانا لموافقة ابن الجنيد له في مقالته قائلا: «لا نختار أن يأتي الحاضر بالعصر عقيب الظهر الّتي صلاّها مع الزوال، إلاّ مسافرا أو عليلا أو خائفا ما يقطعه عنها، بل الاستحباب للحاضر أن يقدّم بعد الزوال و قبل فريضة الظهر شيئا من التطوّع إلى أن تزول الشمس و قدمين أو ذراعا من وقت زوالها، ثمّ يأتي بالظهر ثمّ يعقّبها بالتطوّع من

ص: 128


1- الذكرى 332:2.
2- المقنعة: 165.
3- مصابيح الأحكام: 127.

التسبيح أو الصلاة ليفيء أو ليصير الفيء أربعة أقدام أو ذراعين ثمّ يصلّي العصر، و لو أراد الجمع بينهما من غير صلاة أن يفصل بينهما بمائة تسبيحة»(1) و هذا كما ترى ظاهر كالصريح فيما ذكرنا.

و أمّا عبارة الشهيد و صدرها و إن كان يوهم إرادة الاستحباب بالمعنى المتنازع فيه إلاّ أنّ مطاوي كلماته تعطي إرادة استحباب التفريق بالمعنى المجمع عليه، فإنّه قال: «لا خلاف عندنا في جواز الجمع بين الظهر و العصر حضرا أو سفرا للمختار و غيره، و رواه العامّة عن عليّ عليه السّلام(2) و ابن عبّاس(3) و ابن عمر(4) و أبي موسى(5) و جابر(6) و سعد بن أبي وقّاص(7)و عائشة(8) و روى ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جمع بين الظهرين و العشاءين من غير خوف و لا سفر(9) و في لفظ آخر: من غير خوف و لا مطر(10) إلى أن قال: و روينا عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جمع بين الظهرين حين زالت الشمس في جماعة من غير علّة، قال: و إنّما فعل ذلك لتوسيع الوقت على امّته(11).

نعم: الأقرب استحباب تأخير العصر إلى أن يخرج وقت فضيلة الظهر، إمّا المقدّر بالنافلتين و الظهر، و إمّا المقدّر بما سلف من المثل و الأقدام و غيرهما، لأنّه معلوم من حال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أنّ رواية الجمع بين الصلاتين تشهد بذلك، و قد صرّح به المفيد. ثمّ ساق الكلام إلى نقل عبارة المفيد المتقدّمة، و نقل ما تقدّم أيضا من عبارة ابن الجنيد. ثمّ قال:

و الأصحاب في المعنى قائلون باستحباب التأخير، و إنّما لم يصرّح بعضهم به اعتمادا على صلاة النافلة بين الفريضتين»(12).

و في دعواه موافقة المفيد و ابن الجنيد إيّاه فيما ادّعاه من استحباب التأخير - مع

ص: 129


1- الذكرى 332:2.
2- سنن الدارقطني 391:1.
3- سنن أبي داود 1214/6:2، صحيح مسلم 706/491:1، سنن النسائي 286:1.
4- صحيح مسلم 703/488:1، سنن النسائي 289:1، سنن الدارقطني 392:1.
5- المغني 113:2.
6- سنن أبي داود 1215/7:2، سنن النسائي 287:1.
7- المغني 113:2.
8- المصنّف لابن أبي شيبة 457:1.
9- صحيح مسلم 705/489:1، سنن أبي داود 1210/6:2، سنن النسائي 290:1.
10- صحيح مسلم 706/493:1، سنن أبي داود 1211/6:2، سنن النسائي 290:1.
11- الوسائل 8/222:4، ب 32 من أبواب المواقيت، التهذيب 1064/263:2.
12- الذكرى 331:2-333.

ما عرفت من مفاد عبارتيهما - شهادة واضحة، فإنّ مراده استحباب التأخير لأجل النافلة لا لنفسه، و كذا في نسبته القول بذلك إلى الأصحاب كما يفصح عنه اعتذاره لعدم تصريح بعضهم بذلك بالاعتماد على صلاة النافلة بين الفريضتين، فإنّ الاكتفاء بذكر استحباب النافلة بينهما عن بيان استحباب التأخير يقضي بأنّ استحبابه إنّما هو لاستحباب النافلة.

ثمّ قال: «و قد رووا ذلك في أحاديثهم كثيرا مثل حديث إتيان جبرئيل بمواقيت الصلاة، رواها معاوية بن وهب(1) و معاوية بن ميسرة(2) و أبو خديجة(3) و المفضّل بن عمر(4)و ذريح(5) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. و عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي الظهر على ذراع و العصر على نحو ذلك»(6) يعني على ذراع آخر، لرواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان حائط مسجد رسول اللّه قامة، فإذا مضى من فيئة ذراع صلّى الظهر، و إذا مضى من فيئه ذراعان صلّى العصر»(7) و مثله رواية إسماعيل الجعفي عنه عليه السّلام(8). و عن عبد اللّه بن سنان: «شهدت ليلة مطيرة في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحين كان قريبا من الشفق نادوا و أقاموا للصلاة فصلّوا المغرب، ثمّ أمهلوا الناس حتّى صلّوا ركعتين، ثمّ قام المنادي في مكانه في المسجد، فأقام الصلاة فصلّوا العشاء، فسألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذلك، فقال:

نعم، قد عمله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(9).

و عن صفوان الجمّال قال: «صلّى بنا أبو عبد اللّه عليه السّلام الظهر و العصر عند ما زالت الشمس بأذان و إقامتين، و قال: إنّي على حاجة فتنفّلوا»(10). و في هذا الخبر فوائد:

منها: جواز الجمع.

ص: 130


1- التهذيب 1001/252:2، الاستبصار 922/257:1.
2- التهذيب 1002/253:2، الاستبصار 923/257:1.
3- التهذيب 1002/253:2.
4- التهذيب 1003/253:2، الاستبصار 924/257:1.
5- التهذيب 1004/253:2، الاستبصار 925/258:1.
6- التهذيب 987/248:2، الاستبصار 910/253:1.
7- التهذيب 992/250:2، الاستبصار 915/255:1.
8- التهذيب 58/21:2، الاستبصار 916/255:1.
9- الوسائل 1/218:4، ب 31 من أبواب المواقيت، الكافي 2/286:3.
10- الوسائل 2/219:4، ب 31 من أبواب المواقيت، الكافي 5/287:3، التهذيب 1048/263:2.

و منها: أنّه لحاجة.

و منها: سقوط الأذان و النافلة مع الجمع، كما روى محمّد بن حكيم عن أبي الحسن عليه السّلام «إذا جمعت بين الصلاتين فلا تطوّع بينهما»(1).

و منها: أفضليّة القدرة على التأخير، و روى عبد اللّه بن سنان في كتابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في السفر يجمع بين المغرب و العشاء و الظهر و العصر، إنّما يفعل ذلك إذا كان مستعجلا قال عليه السّلام: و تفريقهما أفضل»(2).

و هذا نصّ في الباب، و لم أقف على ما ينافي استحباب التفريق من رواية الأصحاب، سوى ما رواه عبّاس بن الناقد(3) قال: تفرّق ما كان في يدي و تفرّق عنّي حرفاي، فشكوت ذلك إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: «اجمع بين الصلاتين الظهر و العصر ترى ما تحبّ »(4)... إلى أن قال: و هو إن صحّ أمكن تأويله بجمع لا يقتضي طول التفريق، لامتناع أن يكون ترك النافلة بينهما مستحبّا، أو يحمل على ظهري يوم الجمعة.

و أمّا باقي الأخبار فمقصورة على جواز الجمع، و هو لا ينافي استحباب التأخير، قال الشيخ: «كلّ خبر دلّ على أفضليّة أوّل الوقت محمول على الوقت الّذي يلي وقت النافلة»(5).

و بالجملة: كما علم من مذهب الإماميّة جواز الجمع بين الصلاتين مطلقا، علم منه استحباب التفريق بينهما لشهادة النصوص و المصنّفات بذلك(6) إلى آخر ما ذكره. لاحظ فقرات كلامه و شواهد مطلبه تعرف أنّه لا يريد ممّا ادّعاه أزيد ممّا ذكرناه، و لو أراد أزيد منه فلا خفاء في قصور شواهده و أدلّته القامة عليه.

و بالجملة: فإن أراد الشهيد من استحباب التأخير استحبابه طلبا لفضل النافلة فهو مسلّم، غير أنّه لا يقتضي اعتبار خروج وقت فضيلة الظهر و إن كان قد يستلزمه. و إن أراد به استحبابه من حيث هو فيتوجّه المنع إليه، لعدم مساعدة الدليل. و دلالة ما نقله من الروايات عليه غير واضحة:

أمّا رواية إتيان جبرئيل بمواقيت الصلاة فلأنّه ليس فيها إلاّ قوله «ثمّ أتاه حين زاد الظلّ

ص: 131


1- الكافي 3/287:3، التهذيب 1050/263:2.
2- الوسائل 7/220:4، ب 31 من أبواب المواقيت.
3- الصحيح عباس الناقد.
4- الوسائل 9/223:4، ب 32 من أبواب المواقيت، التهذيب 1049/263:2.
5- التهذيب 248:2.
6- الذكرى 233:2-235.

قامة فأمره فصلّى العصر» و ليس فيه دلالة على استحباب التأخير من حيث هو لجواز كون تأخيره إلى الحين المذكور لاشتغاله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالنافلة، أو للتنبيه على انتهاء وقت فضيلة الظهر إلى ذلك الحين، أو على أنّ ما بعد ظلّ القامة من وقت فضيلة العصر، و هو لا ينافي كون ما قبله أيضا من وقت فضيلته، و لا استحباب المبادرة إليه قبل مضيّ القامة، مع أنّ فيها أيضا «ثمّ أتاه من الغد حين زاد في الظلّ قامة فأمره فصلّى الظهر، ثمّ أتاه حين زاد في الظلّ قامتان فأمره فصلّى العصر» و قد عرفت آنفا أنّ وقت فضيلة الظهر لا يزيد على القامة و لا وقت فضيلة العصر يزيد على قامتين. فظهر بذلك أنّ الرواية ليست في مقام إفادة استحباب تأخير العصر إلى أن يخرج وقت فضيلة الظهر.

و أمّا رواية الحلبي فلجواز كون صلاته العصر على الذراع الآخر لاشتغاله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبله بالنافلة، مع أنّ قصارى ما يقتضيه هذه الرواية أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان لا يؤخّر العصر عن الذراع الثاني، و أمّا أنّه كان لا يقدّمه عليه بأن صلاّه في الذراع الأوّل فلا دلالة لها عليه، مع أنّ تأخير العصر إلى أن يخرج الذراع الأوّل لا تستلزم التأخير إلى أن يخرج وقت فضيلة الظهر، و قد عرفت أنّ الأقوى في وقت فضيلة الظهر وفاقا للمشهور امتداده إلى أن يصير الظلّ قامة. و بهذا كلّه ظهر الجواب عن رواية حائط مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و أمّا رواية عبد اللّه بن سنان فعلى خلاف المطلوب أدلّ ، لأنّها صريحة في كون الإمهال لأجل صلاة ركعتين لا لمطلوبيّة التأخير من حيث هو، مع أنّ التأخير إلى مقدار صلاة ركعتين ليس من التأخير إلى خروج وقت فضيلة المغرب من شيء.

و أمّا رواية صفوان فهي لا تعطي أزيد من رجحان التفريق بمقدار النافلة، لأجل النافلة، و كذا رواية عبد اللّه بن سنان المصرّحة بأفضليّة تفريقهما، و كذا ما نقله من كلام الشيخ، بل هو صريح في كون الأوّل المحكوم عليه بكونه أفضل في الظهر و العصر هو ما يلي وقت النافلة، و لا ريب أنّه في كلّ منهما أقلّ من وقت فضيلته.

و قد يستدلّ لهذا القول أيضا برواية يزيد بن خليفة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ عمر ابن حنظلة أتانا منك بوقت... إلى أن قال: فإذا زالت الشمس لم يمنعك إلاّ سبحتك ثمّ لا تزال في وقت إلى أن يصير الظلّ قامة و هو آخر الوقت، فإذا صار الظلّ قامة دخل وقت العصر فلم تزل في وقت العصر حتّى يصير الظلّ قامتين»(1).

ص: 132


1- الوسائل 6/133:4، ب 5 من أبواب المواقيت، التهذيب 56/20:2.

و رواية محمّد بن حكيم قال: «سمعت العبد الصالح، و هو يقول: إنّ أوّل وقت الظهر زوال الشمس، و آخر وقتها قامة من الزوال، و أوّل وقت العصر قامة و آخر وقتها قامتين، قلت: في الشتاء و الصيف سواء؟ قال: نعم»(1).

و رواية إبراهيم الكرخي عن أبي الحسن عليه السّلام و فيها قلت: «متى يدخل وقت العصر، قال:

إنّ آخر وقت الظهر هو أوّل وقت العصر»(2).

و يرد عليها - مع ما في أسانيدها من قصور بل ضعف كما لا يخفى على الخبير البصير -: منع الدلالة، أمّا الاولى فلعدم قضائها بأنّ الأفضل تأخير العصر إلى القامة، بل أقصاها الدلالة على أنّه إذا صار الظلّ قامة دخل الوقت المختصّ بالعصر الّذي لا يشاركه الظهر في الفضل، فلا ينبغي تأخير الظهر إليه. فلا تفيد الرواية إلاّ تحديد وقت فضيلة الظهر إلى قامة، و فضيلة العصر إلى قامتين.

و على هذا المعنى أيضا يحمل الروايتان الأخيرتان فلا دلالة في شيء منها على كون الأفضل تأخير العصر إلى قامة، بل غايتها إفادة تحديد وقت الفضيلة بالقامة و القامتين. هذا مع ما في هذه الروايات و نظائرها من احتمال خروجها مخرج التقيّة لموافقة ظواهرها - إن لم تكن لبيان تحديد وقتي الفضيلة - مذهب جماعة من العامّة «من أنّ وقت العصر لا يدخل حتّى يخرج وقت الظهر» على ما حكاه الفاضل في شرحه للدروس.(3)

ص: 133


1- الوسائل 29/148:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 994/251:2.
2- الوسائل 32/149:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 74/26:2.
3- شرح الدروس 542:1.
ينبوع في آخر وقت فضيلة العصر

و قد اختلفت فيه الروايات أيضا بما يقابل اختلافها في آخر وقت فضيلة الظهر، ففي طائفة صيرورة ظلّ كلّ شيء مثليه، و في معناه صيرورته قامة، و في اخرى صيرورته ثمانية أقدام من الزوال، و في ثالثة صيرورته أربعة أقدام، و في بعض الروايات هنا صيرورته ثلاثة أقدام من الزوال كما في قوله عليه السّلام: «الشطر من ذلك» فيما تقدّم و قوله عليه السّلام أيضا: «النصف من ذلك أحبّ إليّ » و في بعض آخر «كونه قامة و نصفا إلى قامتين» كما تقدّم. و الكلام في توجيه الاختلاف و الحمل و المحمل كما تقدّم في مسألة آخر وقت فضيلة الظهر، و لا حاجة إلى الإعادة. فتقرّر بجميع ما تقدّم أنّ وقت فضيلة الظهر يمتدّ من زوال الشمس إلى صيرورة ظلّ الشخص مثله، ثمّ يبقى وقت فضيلة العصر ممتدّا إلى صيرورته مثليه.

ثمّ المعتبر في المماثلة في المسألتين - على المشهور بين الأصحاب - المماثلة بين الظلّ الحادث من الشيء بعد الزوال و نفس ذلك الشيء، على معنى صيرورة الظلّ الحادث من الشيء مثل ذلك الشيء، خلافا لمن اعتبرها بين الظلّ الباقي عند الزوال و الظلّ الحادث بعده، على معنى كون الظلّ الحادث مثل الظلّ الباقي أو مثليه كما عن الشيخ في التهذيب(1).

و قد ينسب إلى فخر المحقّقين في الإيضاح(2) و ربّما يظهر اختياره من المحقّق في الشرائع(3) حيث نقل القول الأوّل بعبارة «قيل» مشعرا بتمريضه، و ربّما يشعر ذلك بشذوذ القائل به مع أنّ الأمر بالعكس.

و الأقوى: هو المشهور لظواهر النصوص المقدّرة لوقت الفضيلة بالقامة و القامتين، بناء على ظهور القامة في قامة الشخص أو قامة الإنسان خاصّة بل صراحة جملة منها، كالواردتين(4) في قضيّة زرارة المشتمل إحداهما على قوله عليه السّلام: «إذا كان ظلّك مثلك فصلّ

ص: 134


1- التهذيب 23:2.
2- الإيضاح 73:1.
3- الشرائع 170:1.
4- و هما روايتا زرارة و عبد اللّه بن بكير (منه).

الظهر، و إذا كان ظلّك مثليك فصلّ العصر»(1) و اخراهما على قوله عليه السّلام: «صلّ الظهر في الصيف إذا كان ظلّك مثلك، و العصر إذا كان مثليك»(2). و هذا كما ترى لا يتحمّل إرادة مثل الباقي. و حمله على كونه كذلك في بعض الأحيان كحمل أخبار القامة عليه تقييد بلا موجب، مع أنّه ينافيه التسوية بين الصيف و الشتاء الواردة في بعض الأخبار. و عليها بناء الأصحاب مع استلزام القول الآخر لمحاذير كثيرة لا يرد شيء منها على القول المشهور:

مثل أن لا يكون للصلاتين وقت فضيلة في بعض البلاد الّذي لا يبقى فيه للشاخص ظلّ عند الزوال، و مثل أن يكون التكليف بالصلاة في بعض البلاد أو في بعض الأحيان تكليفا بما يزيد على وقته، لأنّ الظلّ الباقي قد يكون شيئا يسيرا لا يسع مثله من الظلّ الحادث للصلاة خصوصا مع انضمام النافلة إليها.

و مثل أن يختلف وقت الفضيلة زيادة و نقيصة على حسب اختلاف الأمكنة في العروض، فإنّ الظلّ الباقي قد يكون أقلّ من قدم، و قد يكون قدما، و قد يزيد عليه بقليل أو كثير أو متوسّط بينهما، كما يكشف عن ذلك رواية ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «تزول الشمس في النصف من حزيران على نصف قدم، و في النصف من تموز على قدم و نصف، و في النصف من آب على قدمين و نصف، و في النصف من أيلول على ثلاثة أقدام و نصف، و في النصف من تشرين الأوّل على خمسة أقدام و نصف، و في النصف من تشرين الآخر على سبعة و نصف، و في النصف من كانون الأوّل على تسعة و نصف، و في النصف من كانون الآخر على سبعة و نصف، و في النصف من شباط على خمس و نصف، و في النصف من آذار على ثلث و نصف، و في النصف من نيسان على قدمين و نصف، و في النصف من أيار على قدم و نصف، و في النصف من حزيران على نصف قدم»(3).

و هذه الرواية إن سلّمنا اختصاصها بالمدينة، بناء على ما عن صاحب المنتقى «من أنّ النظر و الاعتبار يدلاّن على أنّ هذا مخصوص بالمدينة، غير أنّها كافية في الدلالة على أصل الاختلاف، فيلزم خروج الوقت عن الانضباط»(4). و هذا كما ترى بخلافه على

ص: 135


1- التهذيب 62/22:2، الاستبصار 891/248:1، الوسائل 13/144:4، ب 8 من أبواب المواقيت.
2- الوسائل 33/149:4، ب 8 من أبواب المواقيت، و رجال الكشّي 226/355:1.
3- الوسائل 3/163:4، ب 11 من أبواب المواقيت، التهذيب 1096/276:2.
4- المنتقى 427:1.

المشهور، فإنّ الوقت حينئذ منضبط لا يطرأه اختلاف، و عن المصابيح «أنّه لم يقل أحد بالفرق بين الأزمنة في تحديد الأوقات»(1).

و توهّم رفع الاختلاف المشار إليه بأنّ القليل الباقي في الصيف مثلا يساوي الكثير الباقي في الشتاء من جهة البطؤ و السرعة.

مدفوع بشهادة الوجدان بخلافه، و بأنّه لا تجدي في رفع الاختلاف بحسب الأمكنة.

و لأجل هذا كلّه قيل كما عن فوائد القواعد: «إنّه قول شنيع مخالف لظاهر الأدلّة» مع أنّه ليس له مستند واضح يصلح للتعويل عليه.

و دعوى: استفادته من بعض النصوص و كثير من الفتاوي المشتملة على التقدير بصيرورة ظلّ كلّ شيء مثله بإرجاع الضمير إلى الظلّ لا إلى الشيء، يدفعها: كونه خلاف المنساق من العبارة، بل ظاهرها عود الضمير إلى الشيء، مع أنّ الظلّ المذكورة المضاف إليه الصيرورة هو الظلّ الحادث فلا يصلح مرجعا للضمير بل المرجع له هو الظلّ الباقي، و ليس بمذكور في العبارة فلا بدّ من إضمار. و مع هذا كلّه فكيف يدّعى الظهور.

و في كلام غير واحد الاستناد له بمرسلة يونس المتقدّمة عن الصادق عليه السّلام عمّا جاء في الحديث «أنّ ظلّ الظهر إذا كانت الشمس قامة و قامتين و ذراعا و ذراعين و قدما و قدمين من هذا و من هذا فمتى هذا؟ و كيف هذا؟ و قد يكون الظلّ في بعض الأوقات نصف قدم، قال:

إنّما قال: ظلّ القامة و لم يقل قامة الظلّ الخ»(2).

و فيه - بعد القدح في السند بسبب الإرسال و المتن من جهة الاضطراب، خصوصا ما في قوله من أنّه «إنّما قال ظلّ القامة و لم يقل قامة الظلّ » لعدم ذكر لذلك في سؤال الرواية - منع الدلالة لعدم انطباقها صراحة و لا ظهورا، بل ظاهرها على ما تقدّم بيان وجه اختلاف الروايات في تقدير الوقت بالقدم و القدمين و الذراع و الذراعين و القامة و القامتين.

و محصّله كون الوقت أمرا معيّنا في الواقع، و علامته صيرورة ظلّ القامة قدما و قدمين أو ذراعا و ذراعين أو قامة و قامتين، و يختلف ذلك بحسب اختلاف الزمان، مع أنّه لو استقامت دلالتها على ما ذكر فهي لا تقاوم لمعارضة ما عرفت من الروايات، مع شذوذ العامل بها

ص: 136


1- مصابيح الأحكام: 128.
2- الوسائل 34/150:4، ب 8 من أبواب المواقيت، الكافي 7/277:3.

و مخالفتها الشهرة فوجب اطراحها.

ثمّ على المشهور فالمعتبر ضرورة الظلّ الحادث مثل ذي الظلّ لا المجموع منه و من الظلّ الباقي، لأنّه ظاهر الفتاوي بل صريح كثير منها لما فيها من تقييد الظلّ بالحادث، و في الجواهر(1) أنّ اعتبار المجموع ممّا لم يقل به أحد، و عن الخلاف(2) نفي الخلاف عن ذلك، نعم عن بعضهم(3) أنّه ذكره احتمالا مع اعترافه بعدم القائل به.

أقول: يلزم على اعتبار المجموع ما لزم على القول باعتبار المماثلة بين الباقي و الحادث من اختلاف الوقت و خروجه عن الانضباط، لما عرفت من اختلاف الظلّ الباقي قلّة و كثرة بحسب الأزمنة و الأمكنة، و لعلّ هذا هو السرّ في فهم الأصحاب من نصوص الظلّ و القامة اعتبار بلوغ الظلّ الحادث مثل ذيه.

ص: 137


1- الجواهر 238:7.
2- الخلاف 257:1.
3- كالعاملي في مفتاح الكرامة 19:2.
[ينبوع: وقت الاختصاص و الاشتراك]
اشارة

ينبوع

يختصّ بالظهر من أوّل الوقت المضروب الممتدّ من زوال الشمس إلى غروبها بمقدار أدائها، كما يختصّ بالعصر من آخره بمقدار أدائها، و هما تشتركان فيما بينهما، و هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة تكاد تبلغ الإجماع، بل لا يبعد دعوى كونها إجماعا في الحقيقة، لأنّ القول بالخلاف - و هو اشتراك الفرضين في مجموع ذلك الوقت من دون اختصاص للأوّل بالاولى و لا الآخر بالثانية - منسوب إلى الصدوقين(1).

مع أنّه قيل(2): إنّهما لم يذكرا شيئا سوى أنّ الأوّل عبّر بمضمون رواية عبيد بن زرارة الآتية، و هو «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين إلاّ أنّ هذه قبل هذه»(3) و الثاني رواها في الفقيه(4) و قضيّة ما ضمنه في أوّل الكتاب(5) - من أنّه لا يذكر فيه إلاّ ما عمل به - أن يكون عاملا بها، و يجري فيهما ما ستعرف من منع دلالة الرواية على ما يخالف المشهور، بل هي على البيان الآتي من أدلّة المشهور.

و ربّما يستظهر عدم الخلاف في البين من عبارة السيّد في الناصريّات قائلا: «الّذي نذهب إليه أنّه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر بلا خلاف، ثمّ يختصّ أصحابنا بأنّهم يقولون: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر و العصر معا إلاّ أنّ الظهر قبل العصر.

و تحقيق هذا الموضع: أنّه إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر بمقدار ما يؤدّى أربع ركعات، فإذا خرج هذا المقدار من الوقت اشترك الوقتان، و معنى ذلك أنّه يصحّ أن يؤدّى في هذا الوقت المشترك الظهر و العصر بطوله، على أنّ الظهر مقدّمة على العصر، ثمّ

ص: 138


1- المقنع: 27، الهداية: 29.
2- ذكر في الحدائق 100:6 و 107.
3- الوسائل 21/130:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 54/19:2.
4- الفقيه 647/216:1.
5- الفقيه: 3:1.

لا يزال في وقت منهما إلى أن يبقى إلى غروب الشمس مقدار أداء أربع ركعات، فيخرج وقت الظهر و يخلص هذا المقدار للعصر كما خلص الوقت الأوّل للظهر»(1) بناء على كون ما ذكره في التحقيق تفسيرا لما نقله عن الأصحاب من دخول وقت الظهر و العصر معا بزوال الشمس، و عن المختلف «أنّه بناء على هذا التفسير يزول الخلاف»(2) و استجوده(3)غير واحد.

و هذا لا يخلو عن نوع تأمّل، لأنّه إنّما يستقيم إذا كان مراده من الخلاف الّذي نفاه أوّلا الخلاف بين العامّة و أصحابنا ليكون ما خصّه بالأصحاب من دخول الوقتين معا بالزوال موضع خلاف بينهم و بين العامّة، بناء على كون نظره في مخالفة العامّة في هذا الحكم إلى ما عزي إلى جماعة منهم من أنّ وقت العصر لا يدخل حتّى يخرج وقت الظهر، فيكون ما ذكره في التحقيق حينئذ تفسيرا لمذهب الأصحاب المختصّ بهم في مقابلة [العامّة] و العبارة ليس بصريحة بل و لا ظاهرة في ذلك، لجواز أن يريد بالخلاف المنفيّ هو الخلاف بينه و بين سائر الأصحاب، فيكون ما خصّه بالأصحاب محلّ خلاف بينه و بينهم.

و قضيّة ذلك أن يكون ما حقّقه تفسيرا لمختاره، لا لما نسبه إلى الأصحاب من دخول الوقتين معا بالزوال، إلاّ أن يستظهر الوجه الأوّل بملاحظة القرائن الخارجة الّتي منها اقتضاء الوجه الثاني أن يكون ما حقّقه من إثبات وقت الاختصاص و وقت الاشتراك خلاف المشهور بين الأصحاب مع أنّ الأمر بالعكس.

و قد يقال في شرح العبارة: إنّ الظاهر أنّ كلامه في مقابلة العامّة كما ينبّه عليه لفظة «أصحابنا» وجه ذلك أنّهم لمّا يجعلون من الزوال إلى العصر مختصّا بالظهر و من العصر إلى الغروب مختصّا بالعصر، و بالجملة حكموا باختصاص القدر الممتدّ بالظهر، و القدر الممتدّ الباقي بالعصر، و لم يكن الأمر عند أصحابنا كذلك، قال: «و اختصّ أصحابنا...» الخ. و لمّا كانت عبارته المنقولة موهمة لما نسب إلى الصدوق عقّبه بقوله: «و التحقيق....» الخ. و على أيّ تقدير فلا بدّ من التكلّم في المسألة طلبا لما هو الحقّ من الاحتمالين أو على تقدير وقوع الخلاف فيها.

فنقول: إنّ مرجع الخلاف إلى أنّ مقدار أداء الظهر من أوّل الوقت هل هو بالنسبة إلى

ص: 139


1- الناصريّات: 229، المسألة 72.
2- المختلف 7:2.
3- الجواهر 141:7.

العصر بمنزلة ما قبل الوقت - فتكون العصر على تقدير وقوعها فيه باطلة مطلقا كما أنّ الصلاة ظهرا و عصرا قبل الوقت باطلة مطلقا من غير فرق بين المتذكّر و الناسي و العامد و الساهي و العالم و الجاهل - أو هو بمنزلة ما بعده من الوقت المشترك فتصحّ فيه العصر لو وقعت نسيانا و أنّ مقدار أداء العصر من آخر الوقت بالنسبة إلى الظهر بمنزلة خارج الوقت بالنسبة إليها و إلى العصر، أو هو من الوقت المشترك بينهما؟

و يظهر الفائدة في الظهر إذا وقعت فيه نسيانا فتبطل على الأوّل دون الثاني، و كيف كان فربّما احتمل بناء تحقيق المسألة على النظر في أنّ الصلاتين هل اعتبر بينهما بحسب الشرع ترتيب بتقديم الظهر على العصر أو لا؟

و على الأوّل: فهل الترتيب المذكور معتبر بينهما من باب القضيّة التكليفيّة - على معنى وجوب مراعاته من دون اشتراطه في الصحّة و لازمه لزوم الإثم في بعض الصور لو أخلّ به مع صحّة الصلاتين - أو من باب القضيّة الوضعيّة ؟ على معنى اشتراطه و مدخليّته في الصحّة أيضا، و لازمه بطلان الصلاتين بالإخلال به.

و على الثاني: فهل الاشتراط ثابت على وجه الإطلاق، أو على وجه الاختصاص بحالة العمد و التذكّر دون حالتي السهو و النسيان ؟ أوجه، أوجهها الأخير، لبطلان الأوّل بما علم ضرورة من النصوص و الإجماع و عمل المسلمين و فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خلفائه الأئمّة عليهم السّلام كبطلان الثاني أيضا بما علم ضرورة أيضا من صاحب الشرع و فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة عليهم السّلام و الإجماع و النصوص المتظافرة الواردة في بيان أعداد الفرائض المتّفقة على تقديم الظهر و المغرب في الذكر على العصر و العشاء، فإنّ ذلك ممّا يعطي الاعتبار على وجه الاشتراط، مضافا إلى ما في المستفيضة من قوله عليه السّلام: «إلاّ أنّ هذه قبل هذه» لظهوره في الوضع دون التكليف الصرف.

و أمّا الثالث: فيظهر انتفاؤه بملاحظة ظهور عدم الخلاف بين الأصحاب في كون الترتيب الخاصّ مغتفرا عن الناسي و الساهي، على معنى عدم اشتراطه في الصحّة بالقياس إلى الناسي و الساهي، بل هو في الجملة مجمع عليه بينهم، و في كلام غير واحد من الأساطين الإجماع عليه، كما عن كاشف اللثام(1) أيضا.

ص: 140


1- كشف اللثام 79:3.

و يشهد له من النصوص خبران صحيحان عمل بهما الأصحاب، مثل ما رواه الشيخ في زيادات التهذيب عن صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «سألته عن رجل نسي الظهر حتّى غربت الشمس و قد كان صلّى العصر، فقال: كان أبو جعفر عليه السّلام أو كان أبي يقول:

إن أمكنه أن يصلّيها قبل أن يفوته المغرب بدأ بها، و إلاّ صلّى المغرب ثمّ صلاّها»(1).

و قوله عليه السّلام في صحيحة زرارة: «و إن كنت قد صلّيت العشاء الآخرة و نسيت المغرب فقم فصلّ المغرب»(2) فإنّه لو لم يكن اللاحقة مع عدم تقديم السابقة صحيحة مطلقة حتّى مع النسيان لوجب إعادة اللاحقة، و الملازمة بيّنة، و قد دلّت الصحيحتان على نفي اللازم، و هذا ممّا لا كلام فيه.

و إنّما الكلام في أنّ هذا الحكم و هو اغتفار الترتيب هل يختصّ بما بين وقتي الاختصاص المعبّر عنه بوقت الاشتراك أو يعمّهما أيضا؟ و مرجعه إلى ما تقدّم من كون مقدار أداء الظهر من أوّل الوقت بالقياس إلى العصر بمنزلة ما قبل الوقت و عدمه، و كون مقدار أداء العصر من آخر الوقت بالنسبة إلى الظهر بمنزلة خارج الوقت.

و مرجع المشهور إلى الأوّل كما أنّ مرجع قول الصدوقين إلى الثاني، و لا ريب أنّ المقدّمة المذكورة الثابتة بالنصّ و الإجماع لا يفي بمجرّدها بإثبات ذلك، بل لا بدّ فيه من إقامة دليل آخر على الإثبات أو النفي. فاحتجّ أهل القول بالاختصاص بوجوه:

منها: ما اعتمد عليه في المدارك من «أنّه لا معنى لوقت الفريضة إلاّ ما جاز إيقاعها فيه و لو على بعض الوجوه، و لا ريب أنّ إيقاع العصر عند الزوال على سبيل العمد ممتنع، و كذا مع النسيان على الأظهر، لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه، و انتفاء ما يدلّ على الصحّة مع المخالفة، و إذا امتنع وقوع العصر عند الزوال مطلقا انتفى كون ذلك وقتا لها»(3).

و يرد عليه: النقض بإيقاع العصر مقدّمة على الظهر في غير وقت الاختصاص على المشهور ممّا هو من وقت الاشتراك فإنّ العمد فيه ممتنع، و هو مع النسيان ليس إتيانا بالمأمور به على وجهه فوجب أن لا يكون مجزئا أيضا.

و دعوى: الفرق بينهما بوجود الدليل على الصحّة مع المخالفة نسيانا في هذه الصورة

ص: 141


1- الوسائل 7/289:4، ب 62 من أبواب المواقيت، التهذيب 1073/269:2.
2- الوسائل 1/290:4، ب 63 من أبواب المواقيت، التهذيب 340/158:3.
3- المدارك 26:3.

و انتفاؤه في محلّ البحث، يدفعها: أنّ الدليل على الصحّة إن كان هو الإجماع فانتفاؤه في محلّ البحث مسلّم، لامتناع الإجماع في محلّ الخلاف. و إن كان غيره كالخبرين المتقدّمين فانتفاؤه محلّ منع، لأنّ الخبرين بإطلاقهما يشملان ما لو وقعت العصر و العشاء في أوّل وقتي الظهرين و العشاءين ممّا يعدّ وقت الاختصاص على المشهور، إلاّ أن يدفع ذلك باستبعاد تحقّق نسيان الظهر و المغرب في الوقت المختصّ بهما فلا ينصرف إليه الإطلاق كما في كلام جماعة، أو بأنّ عدم التفات الأصحاب أو معظمهم ممّا يتوهّن به هذا الإطلاق فلا يصلح لأن يعوّل عليه، أو أنّه يجب الخروج عنه عملا بأدلّة الاختصاص فتأمّل.

لكن يبقى المناقشة حينئذ في أنّ قضيّة الدليل كون بطلان العصر حينئذ من جهة استلزام إيقاعها في ذلك الوقت فوات الترتيب الخاصّ الثابت اعتباره على وجه الاشتراط، لا من جهة اختصاص ذلك الوقت بالظهر الّذي مرجعه إلى عدم صلاحيته لغير الظهر، إلاّ أن يعتذر لذلك أيضا بأنّ عدم الصلاحية في معنى الاختصاص المتنازع فيه أعمّ من عدم صلاحيته له لذاته أو لعارض، باعتبار ما لزمه من فوات الشرط، كما ربّما يظهر ذلك ممّا في كلام غير واحد من الاستدلال لإثبات وقت الاختصاص، بأنّ اختصاص ما يقع فيه من أوّل الوقت بالظهر من ضروريّات الترتيب الخاصّ المعتبر بينهما المعبّر عنه في النصوص «بأنّ هذه قبل هذه» فيراد من وقت الاختصاص حينئذ ما لا يصلح لغير الظهر و لو من جهة استلزام إيقاعه فيه فوات شرط من شروطه، و فيه من البعد ما لا يخفى.

و بعد جميع هذه اللتيّا و الّتي فالدليل المذكور غير جار في ما يختصّ بالعصر من آخر الوقت كما هو واضح، إلاّ أن يتشبّث له بعدم القول بالفصل، و هو أيضا بعيد.

و في الذخيرة دفع الاستدلال معترضا على قوله «و كذا مع النسيان لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه» «بأنّا لا نسلّم أنّ الوقت المعلوم شرط لصحّة صلاة العصر حتّى تنتفي عند انتفائه، إنّما المسلّم وجوب تأخيرها عن الظهر في صورة التذكّر لا مطلقا، فعدم الإتيان بالمأمور به في صورة النسيان ممنوع»(1).

و فيه: أنّ كون تأخير العصر عن الظهر شرطا في الصحّة ممّا لا كلام فيه، و إنّما الكلام في تخصيصه بصورة التذكّر مطلقا، و من المعلوم أنّ التخصيص المذكور لا بدّ له من موجب و الّذي ظهر منه من الإجماع و النصّ إنّما هو بالنسبة إلى ما بعد وقت الاختصاص، إذ

ص: 142


1- الذخيرة: 189.

لا إجماع في محلّ الخلاف، و إطلاق النصّ غير باق بحاله، و قضيّة ذلك عموم الاشتراط بالقياس إلى ذلك الوقت لصورتي التذكّر و النسيان. فالقول بعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه متّجه، خصوصا مع الالتزام بكون هذا المقدار من الوقت بالقياس إلى العصر بمنزلة ما قبل الوقت، فتعيّن البطلان حينئذ بلا تأمّل. نعم إن كان و لا بدّ من المناقشة في الدليل فهي إنّما تتّجه لقصوره عن إفادة كونه بمنزلة ما قبل الوقت لئلاّ يصلح لذاته لإيقاع العصر فيه، كما أشرنا إليه سابقا.

و منها: ما عن المختلف من «أنّ القول باشتراك الوقت حين الزوال بين الصلاتين مستلزم لأحد الباطلين، إمّا تكليف ما لا يطاق أو خرق الإجماع فيكون باطلا، بيان الاستلزام المذكور أنّ التكليف حين الزوال إمّا أن يقع بالعبادتين معا أو بإحداهما لا بعينها، أو بواحدة معيّنة، و الثالث خلاف فرض الاشتراك فتعيّن أحد الأوّلين، على أنّ المعيّنة إن كانت هي الظهر ثبت المطلوب، و إن كانت هي العصر لزم خرق الإجماع، و على الاحتمال الأوّل يلزم تكليف ما لا يطاق و على الثاني يلزم خرق الإجماع، إذ لا خلاف في أنّ الظهر مرادة بعينها حين الزوال لا لأنّها أحد الفعلين»(1).

و يمكن الجواب باختيار الشقّ الأوّل، و دفع محذور تكليف ما لا يطاق بأنّه إنّما يلزم لو اريد الإتيان بالفعلين على سبيل الدفعة و ليس بمراد، بل المراد التكليف بالعبادتين على سبيل التعاقب مع اشتراط تأخّر العصر عن الظهر في حالة التذكّر خاصّة هذا، مع أنّ الترديد المذكور جار في أوّل جزء من الوقت المشترك أيضا، و لازمه نفي الاشتراك رأسا و لا يرضى به المستدلّ بل لم يقل به أحد.

و منها: ما نقله في الذخيرة من «أنّ الإجماع واقع على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى الظهر أوّلا و قال: صلّوا كما رأيتموني اصلّي(2) فلو لم يكن وقتا لها لما صحّ منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيقاعها فيه»(3).

و ضعفه واضح لا يحتاج إلى البيان، فإنّ صحّة إيقاع الظهر فيه متّفق عليه بين القولين، و إنّما الكلام في صلاحيته لوقوع العصر فيه في الجملة و الدليل لا ينفيها، مع انّ الظاهر أنّ النبيّ إنّما أوقعها فيه مع التذكّر، و هو لا ينافي صحّة وقوع العصر فيه أيضا نسيانا كما لا يخفى.

ص: 143


1- المختلف 7:2-8.
2- صحيح البخاري 162:1، سنن البيهقي 345:2.
3- الذخيرة: 188.

و منها: ظاهر قوله تعالى: أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اَللَّيْلِ (1) فإنّ ضرورة الترتيب يقتضي الاختصاص، حكاه في الذخيرة(2) عن الفاضل الشارح للإرشاد. و الظاهر أنّه أراد الشهيد رحمه اللّه.

و يزيّفه: أنّ الآية غير دالّة على الترتيب أصلا و إنّما ثبت الترتيب على الوجه الخاصّ بأدلّة اخر تقدّم ذكرها، و هو إنّما يقتضي الاختصاص على وجه الضرورة إذا كان عامّا لحالتي التذكّر و النسيان، و هو محلّ منع لما عرفت من الأدلّة على اختصاصه بحالة التذكّر في الجملة، على أنّ الترتيب الثابت بأدلّته إنّما ثبت على طريقة القضيّة المهملة. و أمّا اختصاص بعض من الوقت بالظهر على وجه يكون بالقياس إلى العصر بمنزلة ما قبل الوقت و البعض الآخر بالعصر على وجه يكون بالقياس إلى الظهر بمنزلة ما بعد الوقت، فيبقى مستفادا من دليل آخر، لا الآية و لا أدلّة الترتيب و لا أدلّة تخصيصه بحالة التذكّر.

و منها: رواية داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر و العصر حتّى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر و بقي وقت العصر حتّى تغيب الشمس...»(3) الخ.

و هذه الرواية كما ترى نصّ في القول المشهور، و ليس فيها ما يخدش فيها إلاّ ضعف السند بالإرسال، و يدفعه: الانجبار بالشهرة العظيمة المعتضدة بإجماع الغنية(4) و حملها على صورة العلم و التذكّر كما صنعه في الذخيرة(5) و غيرها يحتاج إلى شاهد. و توهّم كون المقتضي له الجمع بينها و بين ما دلّ من الروايات على الاشتراك مطلقا مع رجحان المعارض من جهة السند، يدفعه: منع المعارضة بتطرّق المنع إلى دلالة ما توهّم دلالته من الروايات على ما يخالف المشهور كما ستعرفه.

و منها: رواية الحلبي فيمن نسي الظهر و العصر ثمّ ذكر عند غروب الشمس قال: «إن كان

ص: 144


1- الإسراء: 78.
2- الذخيرة: 188.
3- الوسائل 7/127:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 70/25:2.
4- الغنية: 494.
5- الذخيرة: 189.

في وقت لا يخاف فوت أحدهما فليصلّ الظهر ثمّ ليصلّ العصر، و إن خاف أن يفوته فليبدأ بالعصر و لا يؤخّرها فيكون قد فاتتاه جميعا»(1).

و هذه أيضا بالقياس إلى ما يختصّ بالعصر واضحة الدلالة، ضرورة أنّه لو لا اختصاص الجزء الأخير من الوقت بالعصر على وجه كان بالنسبة إلى الظهر خارج الوقت لم يلزم فوات الصلاتين معا على تقدير إيقاع الظهر فيه، و يتمّ في غيره بالإجماع المركّب. و قصور السند ينجبر بما عرفت.

نعم يخدش فيها ظهورها في حالة العلم و التذكّر. و يمكن دفعه بأنّ الفرق بين حالتي التذكّر و النسيان إنّما ثبت بالنسبة إلى الترتيب الخاصّ المعتبر بين الصلاتين. و الرواية ظاهرة في خوف الفوات و عدمه بالقياس إلى قابليّة الوقت بالذات للظهر و عدمها، فحملها على حالة التذكّر كما في الذخيرة(2) ليس بجيّد، بناء على توجيه الفوات بأنّ التكليف بالعصر في ذلك الوقت يقتضي النهي عن الإتيان بالظهر فيه، و النهي في العبادة يستلزم الفساد، فإذا أتى بالظهر فيه لم يكن صحيحا فيكون قد فاتتاه جميعا. و هذا لا ينافي الصحّة مع النسيان لانتفاء النهي معه لظهور الفوات بحسب العرف و الشرع في كون الفساد من جهة خروج الوقت، و إطلاقه على ما كان لأمر خارج كالنهي المقتضي للفساد و نحوه مسامحة لا يصرف إليها الإطلاق من غير قرينة.

و منها: صحيحة إسماعيل بن همّام عن أبي الحسن عليه السّلام «أنّه قال في الرجل يؤخّر الظهر حتّى يدخل وقت العصر: إنّه يبدأ بالعصر ثمّ يصلّي الظهر»(3) فإنّ وقت العصر هنا لا يمكن حمله على وقت الفضيلة لاستلزامه مخالفة الإجماع، فلا بدّ من حمله على وقت الاختصاص كما يعطيه الإضافة، فيراد به الوقت المختصّ بالعصر و هو نصّ في المطلوب، و تقييده بحالة التذكّر يستدعي شاهدا مفقودا في المقام.

و استدلّ أيضا بصحيحة أبي همام عن أبي الحسن عليه السّلام «في الحائض إذا اغتسلت في وقت العصر تصلّي العصر ثمّ تصلّي الظهر»(4) و كأنّ مبناه على حملها على حصول الطهر لها

ص: 145


1- الوسائل 18/129:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 1074/269:2.
2- الذخيرة: 189.
3- الوسائل 17/129:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 1080/271:2.
4- الوسائل 14/365:2، ب 49 من أبواب الحيض، التهذيب 64/398:1.

قبل زمان الاغتسال بما يسع الاغتسال و الصلاتين معا فأخّرته إلى ما يسعه و إحدى الصلاتين إذ لا قضاء على الحائض فيما فات منها حال الحيض. و حينئذ فالعمدة في وجه الاستدلال ظهور الإضافة في الاختصاص، فتأمّل جيّدا.

و استدلّ أيضا بحسنة معمّر بن يحيى قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الحائض تطهر عند العصر تصلّي الاولى ؟ فقال: لا، إنّما تصلّي الصلاة الّتي تطهر عندها»(1).

و في دلالة هذه الرواية نظر، لظهورها في حالة التذكّر مع انتفاء ما يعطي الاختصاص ممّا عدى الأمر بصلاة العصر الظاهر في حالة التذكّر.

حجّة القول بالاشتراك عدّة من روايات ادّعي ظهورها في الاشتراك مطلقا: كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر و العصر، و إذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب و العشاء»(2).

و رواية عبيد بن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن وقت الظهر و العصر؟ فقال: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر و العصر جميعا، إلاّ أنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتّى تغيب الشمس»(3).

و صحيحة عبيد بن زرارة «منها صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس إلاّ أنّ هذه قبل هذه»(4).

و صحيحة محمّد بن أحمد بن يحيى «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين»(5).

و رواية الصبّاح بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين»(6).

و رواية سفيان بن السمط عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين»(7).

ص: 146


1- الوسائل 3/362:2، ب 49 من أبواب الحيض، التهذيب 1198/389:1.
2- الوسائل 1/125:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 54/19:2.
3- الوسائل 5/126:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 68/24:2.
4- الوسائل 4/157:4، ب 10 من أبواب المواقيت، التهذيب 72/25:2.
5- الوسائل 13/134:4، ب 6 من أبواب المواقيت، التهذيب 990/249:2.
6- الوسائل 8/127:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 964/243:2.
7- الوسائل 9/127:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 965/244:2.

و رواية منصور بن يونس عن العبد الصالح عليه السّلام قال: «سمعته يقول إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين»(1).

و رواية مالك الجهني قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن وقت الظهر؟ فقال: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين»(2).

و الجواب عن الجميع: منع دلالتها على الاشتراك مطلقا و لو ظهورا.

أمّا الرواية الاولى: فلأنّ وقت الصلاتين على القول بالاشتراك واحد مشترك بينهما فلا يتّجه إطلاق الوقتين عليه إلاّ بتكلّف لا داعي إليه من القرائن المعتبرة، و هو أنّ التثنية في الوقت الواحد المشترك إنّما هو باعتبار تثنية ما فيه من الإضافة، فإنّ له باعتبار اشتراكه إضافة إلى الظهر و إضافة إلى العصر، فكونه وقتين إنّما هو من جهة هاتين الإضافتين، و هذا مع بعده لا يصار إليه بغير قرينة، بخلاف ما لو حملت الرواية على المذهب المشهور من وقتي الاختصاص بالظهر و ما بعده ممّا يقع فيه العصر.

و توهّم: استلزامه على المشهور أيضا المجاز في الإسناد باعتبار شدّة القرب بين دخولهما و عدم الحدّ المعروف المنضبط بينهما، فكأنّهما بالزوال يدخلان معا.

يدفعه: منع اقتضاء التركيب في قوله عليه السّلام: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان» دخول الوقتين معا دفعة واحدة ليلتزم في تصحيحه بالتجوّز في الإسناد بالنسبة إلى دخول وقت العصر، أ لا ترى أنّه لو قيل: إذا زالت الشمس قدم الحاجّ ، فهو في متفاهم العرف صادق مع قدومهم على الاجتماع و معه على التدريج، و الفائدة المقصودة من التوقيت بكلمة «إذا» نفي قدومهم قبل الزوال لا إثبات القدوم لهم على الدفعة حين الزوال. فظاهر مفاد قوله «قدم الحاجّ » أنّه شرع الحاجّ في القدوم، و هو أعمّ من كون قدومهم على التدريج. و هكذا يقال فيما نحن فيه فإنّ المنساق من قوله عليه السّلام «دخل الوقتان» أنّه شرع الوقتان في الدخول، و هذا صادق مع دخولهما على التدريج، فلا داعي إلى ارتكاب التجوّز في الإسناد و لا في إطلاق التثنية.

و بذلك ظهر أنّه لا وقع لما تكلّفه بعض المتأخّرين - على ما حكي عنه - من أنّه بعد نقله عن بعضهم القول باشتراكه بأجمعه استنادا إلى ظاهر الأخبار المطلقة بدخول الوقتين

ص: 147


1- الوسائل 10/127:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 966/244:2.
2- الوسائل 11/128:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 967/244:2.

إذا زالت الشمس و ضعف المتضمّن للاختصاص من الطرفين مع انتفاء القول بالفصل قال:

«و يدفعه أنّ إطلاق دخول الوقتين مجاز على التقديرين، أمّا على تقدير الاختصاص ففي الإسناد باعتبار شدّة القرب بين دخولهما و عدم الحدّ المعروف المنضبط بينهما فكأنّهما بالزوال يدخلان معا، و أمّا على تقدير الاشتراك ففي لفظ «الوقتين» بإرادة الواحد المشترك إذ لا تعدّد حينئذ حقيقة، و العلاقة واضحة و لا ترجيح للمجاز الثاني قطعا، بل إمّا أن يرجّح الأوّل أو يكونا متساويين، و لا يتمّ التعلّق بذلك الإطلاق في إثبات القول بالاشتراك إلاّ إذا ثبت رجحان مجازه. و مع انتفاء صلاحيته للدلالة على الاشتراك يجب الوقوف في إثبات التوقيت من الأوّل و الآخر مع موضع اليقين، و هو ما بعد القدر المختصّ من الأوّل بالنسبة إلى العصر و ما قبله من الآخر بالنسبة إلى الظهر»(1) انتهى.

و أمّا ما قيل: من أنّ دخول الوقتين بأوّل الزوال لا ينافي اختصاص الظهر من أوّل الوقت بمقدار أدائها، إذ المراد بدخول الوقتين دخولهما موزّعين على الصلاتين، كما يشعر به قوله عليه السّلام: «إلاّ أنّ هذه قبل هذه».

ففيه - مع عدم وجود هذا الاستثناء في هذه الرواية المشتملة على دخول الوقتين -: أنّه مسوق لبيان وجوب الترتيب و هو حكم آخر لا ينافي الاشتراك، لثبوت تقيّده في الجملة بصورة التذكّر و اغتفاره مع النسيان. و من الجائز كونه كذلك من أوّل الوقت إلى آخره، كما عليه مبنى القول بالاشتراك، كيف و لو نافاه لزم اختصاص الوقت بالظهر ما لم يؤدّها، و لا اختصاص له بالوقت الأوّل كما عليه مبنى القول بالاختصاص. و يلزم من ذلك نفي اشتراك الوقت مطلقا، و هو كما ترى.

مع أنّ دخول الوقتين موزّعين، إن اريد به دخول ما يختصّ بالظهر و ما يقع فيه العصر على التدريج بالبيان المتقدّم. فهو و إن كان صحيحا في نفسه إلاّ أنّ تطبيق الرواية على ذلك لتكون من أدلّة القول بالاختصاص مشكل، لجواز أن يراد بالوقتين المحكوم عليهما بالدخول عند الزوال على هذا الوجه وقتا فضيلة الظهر و فضيلة العصر، و عليه فلا شهادة في الرواية على القول بالاختصاص، كما لا شهادة فيها على القول بالاشتراك إلاّ أن يراد بما ذكر مجرد إبداء احتمال دفعا لمنافاتها القول بالاختصاص و منعا لدلالتها على القول بالاشتراك.

ص: 148


1- نقله عنه في الذخيرة: 189-190.

و إن اريد به توزيع وقت واحد على الصلاتين على حسب ما يقتضيه الترتيب الطبيعي بينهما، باعتبار أنّهما لا تقعان في الخارج إلاّ على التدريج أو الترتيب الشرعي المعتبر فيما بينهما باعتبار لزوم تقديم الظهر على العصر. ففيه: أنّه لا ينفي القول بالاشتراك بالمعنى الّذي يدّعيه القائل به، و مرجعه جواز وقوع العصر في أوّل الوقت و الظهر في آخره في الجملة و لو نسيانا، أمّا على الترتيب الطبيعي فواضح، و أمّا على الترتيب الشرعي فلما عرفت من كونه مغتفرا عن الناسي في الجملة.

و أمّا الرواية الثانية: فلأنّ الظاهر المنساق من وقت الظهر و العصر المحكوم عليه بالدخول بالزوال الوقت المختصّ بهما، أي لا يشاركهما فيه غيرهما من الصلوات كالعشاءين مثلا، و ظاهر أنّ دخول الوقت المختصّ بهما بالمعنى المذكور يصدق مع اختصاص الجزء الأوّل منه بالظهر، و اختصاص الجزء الأخير منه بالعصر، و اشتراك الباقي بينهما و مع اشتراكه بأجمعه بينهما. ثمّ إنّ إطلاق دخول وقتهما لمّا كان موهما للتخيير بينهما في التقديم و التأخير فدفعه بقوله عليه السّلام: «إلاّ أنّ هذه قبل هذه». و لمّا كان المقام مع ذلك موهما للتضييق فدفعه بقوله عليه السّلام: «ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتّى تغيب الشمس» إثباتا للتوسعة و الامتداد إلى الغروب.

و على هذا المعنى أو ما تقدّم في توجيه الرواية الاولى يحمل أيضا رواية محمّد بن أحمد بن يحيى، و رواية الصباح، و رواية سفيان، و رواية منصور، و رواية مالك، فإنّ دخول ما يختصّ بالصلاتين على معنى ما لا يشاركهما غيرهما فيه يصدق مع الاختصاص في الجملة و الاشتراك كذلك و مع الاشتراك مطلقا، كما أنّ شروع وقت الصلاتين بالدخول يصدق مع الدخول على الدفعة و معه على التدريج. مع إمكان أن يراد بوقت الصلاتين في جميع هذه الروايات وقت الفضيلة، و لا ريب في تأخّر وقت فضيلة العصر عن وقت فضيلة الظهر، و قضيّة ذلك إرادة دخولهما على التدريج.

و يحتمل هذا الوجه في الرواية الثانية أيضا، و ربّما كان في قوله «ثمّ أنت في وقت منهما جميعا...» الخ إشارة إلى ذلك بناء على كونه بيانا لوقت الإجزاء المتأخّر عن الفضيلة كما يومئ إليه التعبير ب «ثمّ ».

و أمّا الرواية الثالثة: فلأنّها في ظاهر متفاهم العرف مسوقة لبيان عدم وقوع الصلاتين في

ص: 149

خارج الوقت المحدود بزوال الشمس و غروبها قبلا و بعدا، من دون تعرّض فيها للاختصاص و الاشتراك، كما هو مفاد صدر الرواية أيضا «إنّ اللّه افترض أربع صلوات أوّل وقتها زوال الشمس إلى انتصاف الليل» لضرورة عدم اشتراك الوقت المحدود بزوال الشمس و انتصاف الليل بجميعه بين الأربع. بل لا يبعد دعوى استفادة الاختصاص عنها في الجملة بقرينة ما في الصدر، من ضرورة اختصاص الظهر و العصر بما بين زوال الشمس و غروبها، و اختصاص المغرب و العشاء بما بين غروب الشمس و انتصاف الليل.

و بالجملة فكما أنّ المتعيّن أن يراد ممّا في الصدر من قوله عليه السّلام «أوّل وقتها» أوّل وقت المجموع منها لا أوّل وقت كلّ منها، فكذلك احتمل إرادة ذلك من قوله عليه السّلام «أوّل وقتهما» إن لم يكن متعيّنا فلا دلالة فيها على الاشتراك أصلا.

و أجاب في المعتبر عن روايات القول بالاشتراك بطريق التأويل قائلا: «و يمكن أن يتأوّل ذلك من وجوه:

أحدها: أنّ الحديث تضمّن (إلاّ أنّ هذه قبل هذه) و ذلك يدلّ على أنّ المراد بالاشتراك ما بعد وقت الاختصاص.

الثاني: أنّه لما لم يكن للظهر وقت مقدّر، بل أيّ وقت فرضت وقوعها فيه أمكن فرض وقوعها فيما هو أقلّ منه حتّى لو كانت الظهر تسبيحة كصلاة شدّة الخوف كانت العصر بعدها، و لأنّه لو ظنّ الزوال فصلّى ثمّ دخل الوقت قبل إكمالها بلحظة أمكن وقوع العصر في أوّل الوقت إلاّ ذلك القدر، فلقلّة الوقت و عدم ضبطه كان التعبير عنه بما ذكر في الرواية ألخص العبارات و أحسنها.

الثالث: أنّ هذا الإطلاق مقيّد في رواية داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه... الخ:(1)

و يظهر ما في هذه الوجوه بالتأمّل فيما تقدّم سيّما الوجه الأوّل، لما عرفت مرارا من ورود هذه العبارة لإفادة الترتيب رفعا لتوهّم التخيير من الإطلاق، و هو على ما تقدّم مخصوص بحالة التذكّر في الجملة فلم لا يجوز كونه كذلك من أوّل الوقت إلى آخره، فلا يثبت بذلك اختصاص أصلا بحيث يكون الوقت المختصّ لعدم صلاحيته لإحدى

ص: 150


1- المعتبر: 136.

الصلاتين مطلقا كخارج الوقت قبلا أو بعدا.

و قد يتوهّم دلالة رواية عبيد و أمثالها على الاختصاص كما في شرح المفاتيح معلّلا:

بأنّ المعصوم عليه السّلام قال: «منها صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى الغروب إلاّ أنّ هذه قبل هذه» فإنّ قوله «إنّ هذه قبل هذه» بعد ما ذكر ينادي بأنّ كون الزوال وقتهما إنّما هو بهذا النحو أي بعنوان كون إحداهما قبل الاخرى لا مطلقا، فدخول وقت ثمانية ركعات بمجرّد زوال الشمس لا يكون إلاّ بعنوان التوزيع بأن يكون أوّلا دخل وقت تكبيرة الإحرام، ثمّ وقت قراءة الحمد، ثمّ وقت قراءة السورة، و قراءة الحمد أيضا على سبيل التوزيع في الآيات و كذلك السورة، ثمّ وقت الركوع إلى آخر الركعة بهذا النحو، ثمّ وقت الركعة الثانية بالنحو المذكور، و كذلك الثالثة و الرابعة و الخامسة و هكذا... إلى تمام الثمانية.

بل على القول بالاشتراك لا شكّ في أنّه بمجرّد الزوال لا يدخل وقت التشهّد الأخير و التسليم، و لا وقت الركعة الأخيرة، و لا وقت الركعة الثالثة، و لا وقت الركعة الثانية، بل و لا وقت تمام الركعة الاولى، بل و لا وقت خصوص تكبيرة الإحرام بالنحو الّذي ذكرت، فكلّما هو الحال بالنسبة إلى أربع ركعات فهو الحال بعينه بالنسبة إلى ثمانية ركعات لمكان أنّ قوله عليه السّلام «إلاّ أنّ هذه قبل هذه» مطلق شامل لجميع الفروض غير مقيّد بصورة دون صورة، فمقتضاه أنّهما شرّعا بالنحو المذكور، فإذا لم يكونا بالنحو المذكور لم يكونا على النحو المشروع، فوضع الظهر و قراره بحسب الشرع مقدّم على العصر، فإذا وقعت العصر قبلها سهوا أو جهلا لم يقع بموقعها و لم يصدر على النهج المقرّر شرعا.

مضافا إلى أنّ العبادات توقيفيّة، و الّذي وصل إلينا من الشارع من قوله و فعله هو بالكيفيّة المذكورة، كتأخير الركعة الأخيرة عن الثالثة و الثالثة عن الثانية و هي عن الاولى، كتأخير السلام عن التشهّد و هو عن السجود و هو عن الركوع، و هكذا... فلو وقعت على خلاف الترتيب المذكور و لو سهوا لم تكن هي موافقة لأمر الشارع إلاّ أن يصل من الشارع عدم ضرره...»(1) إلى آخر ما ذكره.

و في الكلّ ما ترى، فإنّ قوله عليه السّلام: «إلاّ أنّ هذه قبل هذه» إنّما ينادي بأنّ كون الزوال وقتهما ليس على وجه التخيير فيهما بين التقديم و التأخير، و هذا مع ما عرفت من ثبوت

ص: 151


1- مصابيح الظلام 410:5-411.

اختصاص هذا الحكم في الجملة بصورة التذكّر لا ينافي كون الوقت بينهما من أوّله إلى آخره على الاشتراك الّذي يظهر فائدته في صورة النسيان، و الشيء إذا كان في حصوله تدريجيّا فلا محالة يتوزّع وقت حصوله على أجزائه المترتّبة بالطبع، و هذا ليس من الاختصاص المبحوث عنه في شيء لينافي الاشتراك المقابل له، بل التوزيع على الوجه المذكور مشترك اللزوم بين القول بالاختصاص و القول بالاشتراك، كما اعترف به في أثناء كلامه، و مع ذلك كيف يعقل نهوضه دليلا على الاشتراك.

تذنيبات

أحدها: أنّ المعروف بين الأصحاب المذكور في كلامهم أنّه يتفرّع على القولين في المسألة ما لو صلّى العصر في الوقت المختصّ بالظهر ناسيا، فعلى القول بالاختصاص تبطل، و على القول بالاشتراك تصحّ فيصلّي الظهر بعدها.

و يشكل بأنّ البطلان على القول الأوّل واضح لا سترة عليه، لكون العصر حينئذ كالظهر إذا وقعت قبل الوقت و هو الزوال و لا إشكال في بطلانها إذا وقعت سهوا. و أمّا الصحّة على القول الآخر ففيها خفاء لفوات الترتيب الشرعي المعتبر بين الصلاتين، و هو على ما تقدّم بنفسه من موجبات البطلان، و دليل اختصاصه بحالة الذكر كصحيح صفوان بن يحيى و صحيح زرارة المتقدّمين غير شامل لوقت الاختصاص، لمنع انصرافه إليه في كلام الأصحاب تعليلا باستبعاد طروء النسيان و ندرته للمكلّف المفوّت للترتيب في أوّل الوقت.

فيبقى عموم ما دلّ على الترتيب المتناول لصورتي التذكّر و النسيان بحاله، غاية الأمر أنّه خرج منه صورة النسيان بالقياس إلى الوقت المتّفق على اشتراكه.

نعم إنّما يتّجه الصحّة في الظهر إذا وقعت نسيانا في الوقت المختصّ بالعصر لعدم منافاتها الترتيب، بل المنافي له وقوع العصر في ذلك الوقت مقدّمة على الظهر، إلاّ أن يتمسّك لالتزام الصحّة فيما ذكر أيضا بعدم القول بالفصل على تقدير وقوع الاشتراك من أوّل الوقت، على معنى أنّ الأصحاب مطبقون على اغتفار الترتيب عن الناسي في الوقت المشترك سواء كان الاشتراك واقعا من أوّل الوقت و هو الزوال أو فيما بعده. و كان مبنى التفريع على ذلك و إن قصر كلامهم في بيانه.

ص: 152

ثمّ إنّه لو ذكر في أثناء الفريضة فعن البيان(1) و المقاصد العليّة(2) «أنّه عدل إلى الظهر» و كأنّهما ذكرا ذلك على القول بالاشتراك، و إلاّ فهو على القول بالاختصاص غير متّجه، ضرورة أنّ ما مضى من هذه الصلاة قبل التذكّر باعتبار وقوعه في غير وقتها كان باطلا، و معه فالعدول إلى الظهر لا يعطيه الصحّة، و قضيّة ذلك عدم انعقاد هذه الصلاة ظهرا أيضا كما لا تنعقد عصرا، كيف و لا جهة للبطلان فيما لو وقعت العصر بتمامها في وقت اختصاص الظهر ثمّ تذكّر بعد الفراغ إلاّ وقوعها في غير وقتها، فإذا أوجب ذلك البطلان باعتبار عدم كون الواقع في غير الوقت من المأمور به، فلا يتفاوت الحال فيه بين وقوع الكلّ في غير الوقت، و وقوع البعض فيه. و كون الثاني ممّا نزّله الشارع منزلة ما وقع بتمامه في الوقت يحتاج إلى دليل.

و توجيه كلامهما بالبناء على كون النسيان في تقديم الفريضة على وقتها من الأعذار المعفوّة الغير المنافية للإجزاء، كما احتمله بعض مشايخنا قائلا: «كما هو المحكيّ عن أوّلهما فيما يأتي إن شاء اللّه»(3) غير مجد، بعد ما عرفت من عدم مساعدة الدليل خصوصا بعد مساعدة قاعدة الإجزاء بخلافه، فإنّ التحقيق في نحو ذلك - على ما قرّرناه في المباحث الاصوليّة - عدم الإجزاء.

و في كلام بعض مشايخنا بعد ما تنظّر في الفرع المذكور تعليلا بعدم قابليّة الوقت لصحّة ما سبق من فعله، فلا يقاس على ما وقع في الوقت المشترك «نعم قد يكون له العدول لو فرض شروعه في العصر في الوقت المختصّ بوجه شرعي كالظنّ و نحوه في مقام اعتباره، ثمّ دخل عليه المشترك في الأثناء، ثمّ بان له بعد ذلك قبل الفراغ، لحصول الصحّة بدخول المشترك، و لذا لو لم يتبيّن له حتّى فرغ صحّت له عصرا كما صرّح به في البيان و في المقاصد أيضا، إذ لا يزيد المختصّ على ما قبل الوقت بالنسبة إلى الظهر»(4).

و فيه نظر: لا لما قيل - من أنّه لا يصحّ فيه العصر كلاّ و لا بعضا بوجه من الوجوه، و أنّه فرّق بينه و بين ما قبل الظهر أوّلا بالدليل، و ثانيا بأنّ المراد من الاختصاص عند التأمّل ذلك بخلاف ما قبل الوقت، فإنّ الفساد فيه لعدم الإذن لا للنهي عن الإيقاع فيه بالخصوص،

ص: 153


1- البيان: 50.
2- المقاصد العليّة: 102.
3- الجواهر 156:7.
4- الجواهر 156:7.

لوضوح فساده - بل لأنّ الفرع المذكور إن كان مفروضا بالقياس إلى من ظنّ دخول الوقت بالاجتهاد فصلّى الظهر بعضه قبل الوقت و بعضه الآخر بعده من الوقت المختصّ به ثمّ شرع في العصر فصلاّها على الوجه المفروض في الفرع، ففيه: منع وقوع بعضها حينئذ في الوقت المختصّ بالظهر، بل القدر المسلّم من الوقت المختصّ بالظهر في هذه الصورة هو ما وقع فيه بعضها و لو لحظة، كما يظهر ذلك من المحقّق في المعتبر فيما تقدّم من عبارته في تأويل روايات القول بالاشتراك، فيكون ما بعده من الوقت المشترك، فالعصر حينئذ واقعة بجميعها في الوقت المشترك لا غير. هذا مع أنّه لا معنى للعدول في ذلك الفرض إلى الظهر، لأنّ المفروض وقوعها و صحّتها أيضا بدخول وقتها في الأثناء.

و إن كان مفروضا فيمن نسي الظهر رأسا ظانّا لدخول الوقت المشترك فشرع في العصر على وجه وقع بعضها في وقت الاختصاص فدخل المشترك في الأثناء ثمّ تذكّر قبل الفراغ، ففيه - مع بعد تحقّق هذا الفرض لبعد مجامعة نسيان الظهر لظنّ دخول الوقت المشترك -: أنّ مقايسة ما نحن فيه على ما قبل الوقت بالنسبة إلى الظهر قياس و مع الفارق، لأنّ في المقيس عليه لا عدول فيه، لأنّ ما وقع من الظهر قبل الوقت إنّما وقع ظهرا بخلاف المقيس، فالواجب مساعدة القياس على تقدير جوازه على ثبوت حكم للعدول، و ليس في المقيس عليه عدول ليجري حكمه في المقيس، كما هو واضح.

و قد يذكر في المقام فروع اخر:

منها: من ظنّ دخول الوقت فصلّى الظهرين و اتّفق العصر في الوقت المختصّ فعلى القول بالاختصاص تبطلان معا، و على القول بالاشتراك يصحّ العصر. و صحّة العصر على هذا القول موضع نظر، إلاّ على تقدير اغتفار الترتيب مع الخطأ كما أنّه مغتفر مع النسيان، و هو غير واضح لاختصاص ما ورد فيه من النصّ بالنسيان، إلاّ أن يكون هناك إجماع على عدم الفرق في هذا الحكم بين النسيان و الخطأ، و هو أيضا غير واضح.

و منها: لو ظنّ الضيق إلاّ عن العصر فصلاّها ثمّ بان السعة بمقدار ركعة أو أربع، قيل(1)لا إشكال في صحّة العصر لأن المرء متعبّد بظنّه، و أمّا الظهر فيصلّيها أداء فيما بقى من الوقت على الاشتراك أو قضاء فيه أو ينتظر خروج الوقت فيقضيها بناء على الاختصاص

ص: 154


1- انظر الذخيرة: 190 و المهذّب 290:1.

على اختلاف الوجهين أو القولين.

و فيه نظير ما تقدّم من المناقشة في صحّة العصر، لفوات الترتيب و عدم تناول دليل اغتفاره لنحو ما نحن فيه.

و قد يورد عليه أيضا، بأنّ المتّجه بعد تسليم صحّة العصر فعل الظهر في ذلك الوقت أداء حتّى على الاختصاص، ضرورة أنّ المنساق من النصوص و الفتاوى كونه وقت اختصاص بالعصر إذا لم يكن قد أدّاها، و إلاّ فهو وقت صالح لأداء الظهر و قضاء غيره.

و فيه نظر: بناء على تفسير وقت الاختصاص بالخارج من الوقت قبلا أو بعدا بالقياس إلى غير ما هو مختصّ به.

و منها: من صلّى الظهر ظانّا سعة الوقت فبان الخطأ و وقوعها في الوقت المختصّ بالعصر، و حينئذ يجب قضاؤهما معا على الاختصاص.

و منها: من أدرك من آخر وقت العشاء مقدار أربع ركعات، فإنّه يجب فيه العشاءان على الاشتراك، و يتعيّن العشاء على الاختصاص.

و ثانيها: أنّه ليس لوقت الاختصاص حدّ معروف منضبط في الشرع كما في المعتبر(1)و المصابيح(2) و غيرهما، نعم إنّما ينضبط بالأداء، و ضابطه حينئذ أداء الفريضة بشرائطها و تمام أجزائها طال زمانه أو قصر و لو لحظة أو ما يقرب منها. و يختلف ذلك بحسب اختلاف حالات المكلّفين بالسفر و الحضر، و الاختيار و الاضطرار، و الأمن و الخوف و السرعة و البطؤ الطبيعيّين في القراءة و الحركات، و استجماع الشرائط حين دخول الوقت من الطهارة حدثا و خبثا و التستّر و الاستقبال و المكان و نحو ذلك، و عدم استجماعها كلاّ أم بعضا، بل و سبق حصول بعض الأجزاء على دخول الوقت، كما لو صلّى ظانّا دخول الوقت فدخل و هو في الصلاة و ربّما يكون لحظة أو ما يقرب منها، كما لو دخل عليه الوقت و هو في حال شدّة الخوف مستجمعا للشرائط، فإنّ وقت الاختصاص له حينئذ مقدار تسبيحتين بدلا عن الركعتين من غير وجوب الانتظار إلى مضيّ مقدار الأربع و غيرها ممّا هو وظيفة غيره.

بل في عبارة المعتبر المتقدّمة كما عن ثاني الشهيدين انتهاء القصر إلى التسبيحة، و كلّ ذلك لإطلاق الفتاوى المعبّر فيها بالأداء، و هو المصرّح به في كلام جمع من الأساطين،

ص: 155


1- المعتبر 136:2.
2- مصابيح الظلام 442:5.

و عليه يحمل التعبير بالأربع كما عن المبسوط(1) و الإرشاد(2) و غيرهما(3) لظهوره كظهور التعبير بها في رواية داود بن فرقد(4) في إرادة الحاضر. و كأنّه لا خلاف في أنّ المراد في النصّ و الفتوى ما يشمل التامّة و المقصورة كائنة ما كانت، و لو نسي من الأفعال ما ليس بركن و لا يتدارك كالقراءة و الأذكار لا يجب عليه تأخير الثانية بقدر الأجزاء المنسيّة، كما صرّح به جمع من الأساطين، لتحقّق الأداء بذلك و عدم حكم للمنسيّ في هذا الفرض فلا يأخذ قسطا من الوقت. و القول بوجوبه(5) لورود التحديد بالأربع ضعيف جدّا.

و بالجملة: كلّ ما أسقطه الشارع من الكمّ أو الكيف لسفر أو خوف أو نسيان أو عذر آخر لا حكم له هنا بالنسبة إلى الوقت، بعد ملاحظة ما تقدّم من عدم ثبوت حدّ له بحسب الشرع، بل حدّه الأداء الصادق مع جميع الفروض.

نعم، في كون وقت تلافي ما يتلافى منسيّه من الأجزاء كالسجدة و التشهّد من وقت الاختصاص فيجب تأخير الثانية عن فعله قول قويّ ، اختاره ثاني الشهيدين في المسالك(6)و ثاني المحقّقين في جامع المقاصد(7) و حاشيتي الشرائع(8) و الإرشاد(9) كما عنه في المقاصد(10) لأنّه جزء من الصلاة حقيقة.

و ما قيل في منعه كما في المصابيح لمنع ثبوت التوقيت بناء على أنّ القدر الثابت من نصيبه في الوقت إذا كان في محلّه لا مطلقا، و وجوب المبادرة بالمنسيّ في أوّل أوقات الإمكان إن اقتضى فساد الشروع في الثانية فلاقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ أو لغير ذلك، و هو كلام آخر خارج عمّا نحن فيه، و غير جار مع الغفلة أو النسيان(11) غير سديد، لأنّ كون محلّ الجزء المنسيّ هو أثناء الصلاة إنّما يسلّم بالقياس إلى المتذكّر، و أمّا الناسي لذلك الجزء فوقته بالنسبة إليه بمقتضى دليل وجوب تلافيه إنّما هو بعد التسليم فهو جزء حقيقة، و محلّه ذلك لا أنّه واقع في غير محلّه لئلاّ يكون له نصيب من الوقت. فالقول

ص: 156


1- المبسوط 72:1.
2- إرشاد الأذهان 242:1.
3- كالخلاف 257:1، و تحرير الأحكام 178:1، و السرائر 195:1.
4- الوسائل 7/127:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 21/25:2.
5- كما في غاية المرام 122:1.
6- المسالك 139:1.
7- جامع المقاصد 16:2.
8- حاشية الشرائع: (مخطوط).
9- حاشية الإرشاد: (مخطوط) 41.
10- المقاصد العليّة: 490.
11- مصابيح الظلام 442:5.

المذكور متّجه، مع أنّه أحوط.

و أمّا صلاة الاحتياط و سجدتي السهو ففيهما قول بكون وقتيهما من وقت الاختصاص فيجب تأخير الثانية. و قيل(1) بالمنع، و هو قويّ ، لمنع ثبوت جزئيّتهما و لا سيّما الأخير.

و تنظّر فيهما في المسالك(2) و الاحتياط واضح.

و هاهنا شيء آخر و هو أنّ المحقّق الثاني في جامع المقاصد(3) و حاشيتي الشرائع و الإرشاد قيّد الفريضة الّتي مقدار أدائها وقت الاختصاص بأقلّ الواجب، و كأنّه للاقتصار في مخالف الأصل على القدر المتيقّن، و إلاّ فإطلاق قوله عليه السّلام: «مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات» في رواية داود يتناول غيره أيضا. فالأولى ترك هذا التقييد كما تركه الأكثر.

إلاّ أن يستشكل بخروج الوقت حينئذ عن الانضباط، و اختلافه على حسب اختلاف آحاد المكلّفين في الاقتصار على أقلّ الواجب أو مراعاة أكثره أو المتوسّطات بينهما، بل اختلاف حالات مكلّف واحد، فإنّه أيضا قد يقتصر على الأقلّ ، و قد يراعي الأكثر، و قد يراعي غيرهما. و لو انيط الحكم بالعادة فالمعتاد أيضا على تقدير تحقّق العادة يختلف باختلاف المكلّفين، فإنّ المعتاد لكلّ مكلّف شيء غير ما هو معتاد غيره، فيلزم اختلاف الوقت الواحد في المقدار. بخلاف ما لو جعل المناط أقلّ الواجب، فإنّه منضبط فينضبط من جهة الوقت و يتّحد مقداره بالقياس إلى الجميع، و بذلك يصرف إطلاق النصّ و الفتوى عمّا كان يوهمه.

فالقول بمراعاة أقلّ الواجب متّجه، و عليه فإن صلّى العصر ناسيا قبل الظهر و قد ذكر بعد الفراغ و كانت في الوقت المختصّ بطلت، و المدار في معرفته على التقدير بأقلّ الواجب، و الظاهر كفاية التقريب في ذلك لتعذّر التحقيق. و لو شكّ في وقوعها في الوقت المختصّ و تعذّر التقدير بنى على الفساد، لأصالة عدم دخول الوقت و قاعدة الشغل المقتضية ليقين البراءة.

و قد يقال في ضابط معرفة الوقت المختصّ : «إنّ الظاهر مراعاة الوسط بالنسبة إلى السرعة و البطؤ الغير الطبيعيّين بعد جعل المدار في معرفته على التقدير، فلا يقدّر غاية الطول الحاصل بسبب مراعاة أكثر المستحبّات مثلا و إن كان من عادته ذلك، لأنّه إذا فعل الظهر كذلك لا يحتسب له من الاختصاص إلاّ الوسط، كما أنّه لا يقدّر ضدّه أيضا بمراعاة

ص: 157


1- كما في الجواهر 154:7.
2- المسالك 139:1.
3- جامع المقاصد 16:2.

الاقتصار على أقلّ الواجب إن لم يكن معتادا عليه.

فأمّا إذا كان معتادا فيحتمل مراعاته، نظرا إلى أنّه وقت الاختصاص بالنسبة إلى ما لو فعل الظهر ذلك المقدار فيقدّر، و يحتمل الوسط، للفرق بين التقدير و الفعل، إذ الأوّل يراعى فيه الوسط كما في غالب التقديرات الّتي وردت بها الروايات، بخلاف الثاني، و لا ملازمة بين الاكتفاء به لو وقع و بين تقديره، و لعلّه لو وقع منه هذه المرّة لكان على خلاف عادته، ضرورة عدم علم الإنسان بما يقع منه فتأمّل(1) انتهى.

و ما ذكرناه من إناطة التقدير بأقلّ الواجب أجود لكونه أضبط، و على أيّ تقدير فينبغي القطع بوجوب الاقتصار في التقدير على مقدار فعل الواجبات، لخروج المستحبّات عن مسمّى الصلاة شرعا، فلا يتناولها النصّ و الفتوى.

و ثالثها: ذهب بعض الأصحاب على ما في حاشية الروضة للمحقّق الخوانساري(2) إلى اختصاص آخر الوقت بالظهر بمقدار أدائها قبل الوقت المختصّ بالعصر متّصلا به، و نسبه الفاضل في شرحه للدروس(3) إلى ظاهر كلام بعض الأصحاب، قال: «و قد يستفاد ذلك من الآية الكريمة بملاحظة الترتيب كما لا يخفى».

أقول: يمكن كون مستنده التوهّم من قاعدة التضيّق الّذي يعرض بالنسبة إلى الظهرين آخر الوقت، فإنّه بالنسبة إلى الظهر يعرض مقدار أدائها من آخر الوقت متّصلا بالوقت المختصّ بالعصر، نظرا إلى أنّ دليل التضيّق بهذا المعنى ينهض مخصّصا للمقدار المذكور بالظهر.

و يزيّفه: أنّ التضيّق لا يوجب إلاّ حكما تكليفيّا على المكلّف الذاكر العامد، و هو المنع من التأخير، و هو لا يلازم التخصيص على وجه لم يكن الوقت المضيّق بالقياس إلى الظهر قابلا لوقوع العصر فيه مطلقا. و من هنا مع ملاحظة ما سبق في تزييف بعض أدلّة القول بالاختصاص ظهر أنّ الترتيب الشرعي المعتبر بين الصلاتين أيضا لا يلازم التخصيص على الوجه المذكور، فالقول المشار إليه ضعيف جدّا. و يتفرّع عليه أنّه لو صلّى العصر في هذا الوقت قبل الظهر ناسيا لم تصحّ ، بل يعيدها الآن و يقضي الظهر على هذا القول و صحّ العصر و يصلّي الظهر الآن أداء على الاشتراك و صحّ العصر و يقضى الظهر الآن بخروج وقتها على المشهور.

ص: 158


1- الجواهر 155:7.
2- حاشية الروضة (للخوانساري) كتاب الصلاة: 3.
3- شرح الدروس 537:1.
[ينبوع: علامات الزوال]

ينبوع

قد علم من تضاعيف المباحث المتقدّمة أنّ أوّل وقت الظهرين هو الزوال، و هو انحراف الشمس عن وسط السماء و ميلها عن دائرة نصف النهار، و هي العظيمة الموهومة في الفلك المنصّفة له نصفين شرقي و غربي، و يلزمها مرورها بقطبي المعدّل، و هو العظيمة الموهومة فيه المنصّفة له نصفين جنوبي و شمالي، و قطباها نقطتا الجنوب و الشمال و بقطبي الافق، و هو العظيمة الموهومة المنصّفة له نصفين ظاهر و هو المرئيّ من الفلك و خفيّ و هو الغير المرئيّ منه و قطباها سمتا الرأس و القدم. و من هنا ظهر أنّ المعدّل و الافق أيضا يلزمهما مرورهما بقطبي نصف النهار و هما نقطتا المشرق و المغرب، كما ظهر أنّ الفصل المشترك بين المعدّل و الافق و هو نقطة تقاطعهما من الجانبين هو نقطة المشرق و المغرب، كما أنّ الفصل المشترك بين نصف النهار و الافق و هو نقطة تقاطعهما من الجانبين هو نقطة الجنوب و الشمال. كما ظهر أيضا كون دائرة نصف النهار على وسط السماء منطبقة على سمت الرأس الّذي هو أحد قطبي الافق، فإذا مال الشمس عنها نحو المغرب تحقّق الزوال، و لمعرفته علامات ينبغي التعرّض لجملة منها:

العلامة الاولى: زيادة الظلّ بعد انتهاء نقصانه أو حدوثه بعد انعدامه، و قد يعبّر عنهما معا اعتبارا للقدر الجامع بينهما بظهور الظلّ في جانب المشرق، و يختلف ذلك على حسب اختلاف عروض الأماكن قلّة و كثرة و مساواة بالإضافة إلى الميل الكلّي العارض للشمس.

و توضيح المقام على سبيل الإجمال: أنّ الشمس إذا طلعت وقع لكلّ شاخص قائم في الأرض - بحيث يكون عمودا عليها و ضابطه حدوث الزوايا القوائم بالخطوط المستقيمة المخرجة عن محلّ قيامه إلى الجوانب الأربع - ظلّ ممتدّ إلى المغرب، مسمّى عندهم بالظلّ المبسوط في مقابلة الظلّ المنكوس، و هو الحادث عن المقاييس الموازية للافق فإنّه يبتدئ

ص: 159

في الحدوث عند الطلوع، و إذا أخذت الشمس في الارتفاع يأخذ الظلّ الممتدّ في الانتقاص فكلّما زادت ارتفاعا زاد الظلّ انتقاصا إلى أن تصل الشمس إلى دائرة نصف النهار و تنطبق عليها، و حينئذ فإمّا أن ينتهي نقصان الظلّ مع بقاء شيء منه بعد انتهاء النقصان، أو ينعدم بالمرّة، و إذا مالت عنها إلى المغرب تحقّق الزوال، و لازمه شروع الظلّ في الزيادة على تقدير انتهاء نقصانه، أو حدوثه في جانب المشرق على تقدير انعدامه.

و الضابط فيهما: أنّ كلّ مكان يكون الشمس حال كونها في دائرة نصف النهار مسامتة لرءوس أهله انعدم فيه الظلّ بالمرّة، و كلّ مكان لم تكن مسامتة لرءوس أهله بأن لم تبلغ إلى رءوس الأهل، أو تجاوزت إيّاها نحو الشمال انتهى فيه نقصان الظلّ مع محاذاة رأس الباقي منه بعد انتهاء نقصانه للشمال كما في الأوّل، و للجنوب كما في الثاني. و المسامتة لرءوس الأهل تتأتّى لها في صور:

منها: ما لو كان من البلاد على خطّ الاستواء و هو الواصل بين نقطتي المشرق و المغرب المنطبق على دائرة معدّل النهار، و عرّف بالعظيمة الحادثة من دائرة معدّل النهار على السطح المحيط بالأرض المارّة بمركزها الّذي هو مركز العالم، و ذلك كما في بلاد حبشة و زند و أسافل بربر و جنوبي مصر و سرانديب على ما قيل.

و منها: ما كان عرضه أقلّ من الميل الكلّي اللاحق بالشمس و ذلك كمكّة و صنعاء على ما قالوه لأنّ الميل الكلّي أربع و عشرون درجة، و عرض مكّة إحدى و عشرون درجة و أربعون دقيقة تقريبا، و عرض صنعاء أربع عشرة درجة و أربعون دقيقة.

و منها: ما كان عرضه مساويا للميل الكلّي كمدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّ عرضها على ما حقّق في محلّه أربع و عشرون درجة، و قيل: و الميل الأعظم و إن لم يبلغ هذا المقدار لكنّ التفاوت بينهما قليل، و الأمر فيه سهل.

و المراد بعرض البلد بعده عن خطّ الاستواء المستلزم لبعده عن المعدّل بهذا المقدار، و عرّف بقوس من دائرة نصف النهار ما بين معدّل النهار و سمت الرأس في مقابلة طول البلد الّذي يراد به بعده عن مبدأ طول العمارة من المغرب. و إن شئت قلت: قوس من معدّل النهار فيما بين سمت الرأس، و مبدأ طول العمارة من المغرب الّذي هو عند بعض أهل الصناعة ساحل البحر المحيط الغربي و عند آخرين جزائر الخالدات و قدّر طول العمارة بمائة و ثمانون درجة و هو أربعة آلاف فرسخ، و منتهاه في جانب المشرق موضع يسمّى كنكدز،

ص: 160

و البعد بينه و بين الجزائر مائة و ثمانون درجة، و منهم من اعتبره مبدأ.

و المراد بالميل الكلّي غاية بعد الشمس عن المعدّل. و إن شئت قلت: إنّه قوس من الدائرة المارّة بالأقطاب الأربعة فيما بين المعدّل و منطقة البروج عند غاية بعدها عن المعدّل و يكون شماليّا و جنوبيّا، و المراد به في المقام هو الشمالي. و نعني بالأقطاب الأربعة قطبي المعدّل و قطبي منطقة البروج، و هي العظيمة الّتي تقاطع المعدّل بنقطتين متقابلتين الموسومتين بنقطتي الاعتدال الربيعي و الاعتدال الخريفي.

و إذا تبيّن هذا كلّه ففي الصورة الاولى من الصور المتقدّمة يحصل للشمس مسامتة الرءوس في يومين عند كونها في الاعتدالين، فينعدم الظلّ فيهما بالمرّة، و في غيرها يبقى منه شيء يختلف باختلاف الفصول، و قد يكون الظلّ الباقي بحيث لا يحسّ كما إذا كانت الشمس حال كونها في وسط السماء قريبة من الجزء الّذي انعدم فيه الظلّ .

و في الصورة الثانية يحصل لها المسامتة لرءوس الأهل في السنة مرّتين عند نقطتين بعدهما عن المعدّل كبعد عرض البلد عنه مع كونهما في جانب الشمال، فينعدم الظلّ عند بلوغ الشمس إليهما، و يكون ذلك في يومين أحدهما عند صعود الشمس، و ثانيهما عند هبوطها.

و قد نصّ جماعة(1) مستندين إلى الأرصاد أنّ مكّة و صنعاء من هذا القبيل، فقالوا: إنّ مكّة تسامت تارة حال الارتفاع عند كونها في الدرجة الثامنة من الجوزاء، و اخرى حال الانهباط عند كونها في الدرجة الثالثة و العشرين من السرطان، و قضيّة ذلك بقاء ظلّه إلى جانب الجنوب في أطول أيّام السنة، و هو عند كونها في أوّل السرطان الّذي هو ميلها الكلّي. و صنعاء تسامت تارة في ثامنة الثور، و اخرى في الثالثة و العشرين من الأسد، و قضيّة ذلك بقاء ظلّه أيضا إلى الجنوب في أطول أيّام السنة عند الميل الكلّي، و هو أوّل السرطان على ما عرفت.

و في الصورة الثالثة يحصل لها المسامتة في السنة مرّة واحدة حال كونها في الانقلاب الصيفي، و هو انتقالها عن الجوزاء إلى السرطان، فينعدم الظلّ في ذلك اليوم الّذي هو أطول أيّام السنة، و لازمه بقاء الظلّ في غير ذلك اليوم صعودا و هبوطا إلى الشمال.

ص: 161


1- منهم الشهيد الأوّل في الدروس: 22، و الشهيد الثاني في روض الجنان: 175.

و أمّا ما كان من البلاد عرضه أكثر من الميل الكلّي - كما في العراق و الشام و غيرهما ممّا خرج عنهما من جانب الشمال - فلا تسامت الشمس رءوس أهله قطّ، و تكون دائما في جانب الجنوب من المقياس، و ظلّه دائما في جانب الشمال.

و بجميع ما ذكر ظهر أنّ ما في الدروس(1) و الذكرى(2) كما عن العلاّمة(3) من كون انعدام الظلّ في مكّة و صنعاء في أطول أيّام السنة المبنيّ على كون عرضهما موافقا للميل الكلّي في المقدار، ليس بسديد، كما نصّ عليه جماعة(4) من المحقّقين. و في الروضة أنّه من أقبح الفساد، و أوّل من وقع فيه الرافعي(5) من الشافعيّة، ثمّ قلّده فيه جماعة منّا و منهم من غير تحقيق المحلّ (6).

و أضعف منه ما عن بعضهم من أنّ انعدام الظلّ في هذين البلدين يستمرّ ستّة و عشرين يوما قبل الانتهاء إلى طول النهار و يستمرّ بعده بستّة و عشرين يوما أيضا(7).

و فيه - مع ما عرفت من التفاوت الفاحش بينهما في العرض الموجب لقرب الميل في مكّة من نقطة الانقلاب و بعده في صنعاء عنها -: أنّ الشمس لا تسامت رءوس الأهل إلاّ في نقطة واحدة صعودا، و في عين هذه النقطة أيضا في الهبوط. و ما ذكر إنّما يتمّ على تقدير استمرار بقاء الشمس في هذه النقطة ستّة و عشرين يوما حال الصعود و استمرار بقائها فيها بمثل ذلك حال الهبوط، و هو خلاف ما علم بالحسّ و الاعتبار من أنّ الظلّ في مبدأ المسامتة يعدم يوما واحدا و كذا في منتهاها، ثمّ يرجع جنوبيّا في الأوّل و شماليّا في الثاني.

و يمكن توجيه كلامه بإرادة انعدام الظلّ الشمالي في هذه المدّة في الصعود و الهبوط مع انضمام يومي المسامتة و ثلاثة أيّام ممّا قبل أوّلهما في الصعود و مثلها ممّا بعد ثانيهما في الهبوط، بناء على عدم ظهور الظلّ الشمالي الباقي فيها على الحسّ ليكمل به الإثنان و العشرون يوما ستّة و عشرين يوما في كلّ ممّا بعد المسامتة الاولى و ما قبل المسامتة الثانية. و هذا مع ما فيه من التكلّف إن تمّ في مكّة فلا يتمّ في صنعاء، كما لا يخفى.

و كيف كان فمن حاول في العراق و غيره ممّا لا ينعدم ظلّ المقياس فيه أبدا أو في

ص: 162


1- الدروس 138:1.
2- الذكرى 321:2.
3- نهاية الإحكام 333:1.
4- كالشهيد الثاني في المقاصد العليّة: 177.
5- فتح العزيز 7:3.
6- الروضة البهيّة 177:1.
7- حكاه في الذكرى 321:2، و في مفتاح الكرامة (عن المنتهى و التذكرة) 53:5.

الجملة معرفة الزيادة بعد انتهاء النقصان، فالطرق الأسهل له أن يأخذ مقياسا من العود و نحوه و يقدّر ظلّه عند قرب الشمس من الاستواء، و يخطّ على رأس الظلّ خطّا مستقيما يحدث منهما زاويتان قائمتان، ثمّ يصير قليلا، فإذا كان الظلّ أقلّ من الأوّل أو كان مثله فالشمس لم تزل بعد و إلاّ زالت.

ثمّ العلامة المذكورة - مع قيام فتوى الأصحاب بها - ممّا نصّ عليه في عدّة من الروايات:

ففي رواية سماعة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك، متى وقت الصلاة ؟ فأقبل يلتفت يمينا و شمالا كأنّه يطلب شيئا، فلمّا رأيت ذلك تناولت عودا، فقلت: هذا تطلب ؟ قال: نعم، فأخذ العود فنصبه بحيال الشمس، ثمّ قال: إنّ الشمس إذا طلعت كان الفيء طويلا، ثمّ لا يزال ينقص حتّى تزول، فإذا زالت زادت، فإذا استبنت فيه الزيادة فصلّ الظهر، ثمّ تمهّل قدر ذراع ثمّ صلّ العصر»(1).

و رواية عليّ بن أبي حمزة قال: ذكر عند أبي عبد اللّه عليه السّلام زوال الشمس قال: «فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: تأخذون عودا طوله ثلاثة أشبار و إن زاد فهو أبين، فما دام ترى الظلّ ينقص فلم تزل، فإذا زاد الظلّ بعد النقصان فقد زالت»(2).

و مرسلة الصدوق قال الصادق عليه السّلام: «تبيان زوال الشمس أن تأخذ عودا طوله ذراع و أربع أصابع، فتجعل أربع أصابع في الأرض، فإذا نقص الظلّ حتّى يبلغ غايته ثمّ زاد فقد زالت الشمس، و تفتح أبواب السماء و تهبّ الرياح و تقضى الحوائج العظام...»(3) الخ.

و بجميع ما سمعت تعرف أنّ ما عن منتهى(4) العلاّمة من جعل العلامة عدم نقص الظلّ تبعا لصاحب الملخّص من أهل صناعة الهيئة، ليس بسديد، لمخالفته النصّ و الفتوى، بل الاتّفاق أيضا كما نقله الشارح الچقميني عند شرح عبارة الملخّص، و إذا انتهى الظلّ الباقي نهاية في النقصان عند غاية ارتفاع الشمس فهو أوّل وقت الظهر قائلا: و فيه نظر لأنّ أوّل

ص: 163


1- الوسائل 1/162:4، ب 11 من أبواب المواقيت، التهذيب 75/27:2.
2- الوسائل 2/163:4، ب 7 من أبواب المواقيت، التهذيب 76/27:2.
3- الوسائل 4/164:4، ب 11 من أبواب المواقيت، الفقيه 673/145:1.
4- المنتهى 41:4.

وقته بعيد الزوال بالاتّفاق انتهى.

العلامة الثانية: ميل الظلّ بعد غاية ارتفاع الشمس عن خطّ نصف النهار المستخرج بإحدى طرقه، و الطريق الأظهر في استخراجه الدائرة الهنديّة الّتي ذكرها جماعة(1) تبعا للعلاّمة(2) كما ذكرها أهل الصناعة أيضا، و الطريق فيها أن يسوّي موضعا من الأرض تسوية صحيحة خالصة عن الارتفاع و الانخفاض و الانحدار، بحيث لو صبّ فيها ماء سال من جميع جوانبها، أو وضع عليها مترجرج كالزيبق و نحوه، أو متدحرج كالبندقة و نحوها يبقى عليها مرتعدا مهتزّا، ثمّ يدار عليها دائرة بأيّ بعد كان بشرط أن لا يبلغ محيطها إلى أطراف ذلك الموضع المستوي، قيل بل يكون بينها و بين محيطها أكثر من إصبع، ثمّ ينصب على مركزها مقياس مخروطي معتدل في الدقّة و الغلظة، طوله قدر ربع قطر الدائرة أو أقصر له ثقل صالح لأن يثبت في مكانه، بأن يكون مصنوعا من النحاس و غيره من الأجسام الثقيلة نصبا على زوايا قوائم، و يعرف بمساواة الخطوط الواصلة بين رأس المقياس و محيط الدائرة من الجهات الثلاث أو أكثر في المقدار، ثمّ يرصد رأس الظلّ حال دخوله المحيط ممّا يلي المغرب، فيعلّم المدخل و كذا حال خروجه عنه ممّا يلي المشرق، فيعلّم المخرج أيضا، و يوصل بين العلامتين بخطّ مستقيم يحدث قوس شمالي و قوس جنوبي، ثمّ ينصّف ذلك القوس من أيّ جانب كان، ثمّ يخرج من ذلك المنتصف خطّا إلى المركز، و هذا هو خطّ نصف النهار الّذي ينتهي أحد طرفيه إلى نقطة الشمال و الآخر إلى نقطة الجنوب، فإذا انطبق ظلّ المقياس على هذا الخطّ كانت الشمس في وسط السماء و لم تزل بعد، و متى أخذ بالخروج عن هذا الخطّ فقد زالت.

هذا، و لكنّ الواجب تقييد القاعدة بكون هذا العمل لاستخراج خطّ نصف النهار، بكون الشمس في حالتي وصول الظلّ إلى محيط الدائرة للدخول في الدائرة و الخروج عنها على مدار واحد من المدارات اليوميّة الموازية لمعدّل النهار، ليتساوى الارتفاعان و يتساوى من جهة الظلّان في المقدار، و قد ذكروا أنّ اعتبار كون الشمس على مدار واحد يقتضي أن يكون هذا العمل عند ما يكون الشمس في الانقلاب الصيفي أو قريبا منه. و السرّ في

ص: 164


1- كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد 13:2 و الشهيد في روض الجنان 479:2.
2- المنتهى 41:4.

الاشتراط أنّ الخطّ المستخرج بهذا العمل إنّما يكون خطّ نصف النهار إذا كان منطبقا على الفصل المشترك بين دائرة نصف النهار و الافق أعني نقطة الشمال، و إنّما ينطبق عليه حينما كانت الشمس في حالتي دخول الظلّ في الدائرة و خروجه منها في مدار واحد.

قال الفاضل الشارح للدروس: و لا يخفى على المتثبّت في علم الهيئة أنّ الحكم بالزوال عند ابتداء ميل الظلّ عن خطّ نصف النهار إلى جهة المشرق إنّما يتمّ إذا كانت الشمس صاعدة من أوّل الجدي إلى آخر الجوزاء، أمّا لو كانت هابطة من أوّل السرطان إلى آخر القوس فلا يحكم بالزوال إلاّ بعد مضيّ وقت صالح، و لا يجوز المبادرة إلى الصلاة عند أوّل الميل المذكور، فإنّ الشمس يتبدّل مداراتها في كلّ آن فلا يكون الظلّان حال كون الشمس في نقطتين متساويتي البعد عن دائرة نصف النهار متساويين، بل الشمس ما دامت صاعدة يكون في النقطة الثانية أقرب إلى سمت الرأس منها في الاولى، فيكون الظلّ حال كونها في الثانية أقصر منه حال كونها في الاولى، فلا يخرج حتّى يصير بعد الظلّ عن دائرة نصف النهار أزيد من بعدها الأوّل فيها و بالجملة حتّى يتجاوز الشمس النقطة الثانية، أمّا إذا كانت في النصف الهابط فإنّها يكون في النقطة الثانية أبعد عن سمت الرأس منها حال كونها في النقطة الاولى، فيكون الظلّ حال كونها في الثانية أطول منه حال كونها في الاولى، فيخرج قبل صيرورة بعد الشمس عن دائرة نصف النهار مساويا لبعدها الأوّل، و بالجملة قبل وصول الشمس إلى النقطة الثانية(1) انتهى.

أقول: و كأنّ مبنى كلامه رحمه اللّه على كون خطّ نصف النهار في موضوع هذه القاعدة هو الخطّ المستخرج بالدائرة الهنديّة سواء انطبق على دائرة نصف النهار و لازمه الانطباق على الفصل المشترك بينها و بين الافق أو لا، بل كان مائلا عن الفصل المشترك إمّا بميل نصفه الشمالي إلى جهة المشرق و نصفه الجنوبي إلى جهة المغرب - كما لو استخرج فيما بين أوّل الجدي إلى آخر الجوزاء أو بميل نصفه الشمالي إلى جهة المغرب و نصفه الجنوبي إلى جهة المشرق، كما لو استخرج فيما بين أوّل السرطان إلى آخر القوس، و حينئذ فالأمر كما ذكره من اختصاص الحكم بالزوال عند ابتداء ميل الظلّ عن خطّ نصف النهار بما لو كانت الشمس صاعدة من أوّل الجدي إلى آخر الجوزاء، و التعميم بالنسبة إلى جميع هذه المدّة

ص: 165


1- شرح الدروس 534:1-535.

باعتبار أنّ ميل الظلّ عن الخطّ إلى جهة المشرق في غير الانقلابين ممّا هو من أيّام الصعود يستلزم ميل الشمس عن دائرة نصف النهار إلى جهة المغرب لا محالة، و إن كان هذا الميل في كثير الأيّام إنّما تحقّق قبل ميل الظلّ كما هو واضح.

أمّا لو اريد بخطّ نصف النهار الخطّ المنطبق على دائرة نصف النهار، و المفروض أنّه لا ينطبق عليها إلاّ إذا استخرج حال كون الشمس في أحد الانقلابين و لا سيّما الانقلاب الصيفي، فلا يتفاوت الحال في الحكم بالزوال بمجرّد ميل الظلّ عن هذا الخطّ إلى جهة المشرق بين أيّام صعود الشمس و أيّام هبوطها، لوضوح أنّ الظلّ لا يقع على هذا الخطّ إلاّ عند كون الشمس على دائرة نصف النهار، و لازمه أنّه لا يميل عنه إلى جهة المشرق إلاّ بميل الشمس عن الدائرة نحو المغرب. و لعلّ إطلاق كلام الأصحاب في الرجوع إلى هذه العلامة على ذلك مع بناء كلامهم في هذا العمل المستخرج للخطّ على مراعاة أحد الانقلابين بل الانقلاب الصيفي لكون ضوء الشمس في الصيف أبين منه في الشتاء، مع خلوّ الجوّ عن العوارض المانعة عن تبيّن الضوء الّذي عليه مدار وجود الظلّ ، و اللّه العالم.

العلامة الثالثة: ميل الشمس إلى الحاجب الأيمن للمتوجّه إلى نقطة الجنوب كما يشهد به الاعتبار القطعي، فإنّ دائرة نصف النهار و الافق على ما بيّنّاه يتقاطعان بنقطتين هما نقطتا الجنوب و الشمال، و إذا كانت الشمس في وسط السماء تكون على دائرة نصف النهار لا محالة، و يلزمه أن يكون بين حاجبي مستقبل نقطة الجنوب. فإذا زالت بالميل عن الدائرة إلى المغرب لزمه ميلها عمّا بين الحاجبين إلى الحاجب الأيمن لا محالة، و إنّما يعرف نقطة الجنوب باستخراج خطّ نصف النهار بطريق الدائرة الهنديّة حسبما تقدّم بيانه.

نعم معرفة أوائل الميل هنا ليعرف من جهته أوّل الوقت في غاية الصعوبة، كما اعترف به العلاّمة البهبهاني في شرح المفاتيح(1) و بالجملة إنّما يظهر الميل غالبا بعد مدّة من الزوال و لا يظهر ابتداؤه في الغالب عند ابتداء الزوال. و هذه العلامة مع مساعدة الاعتبار عليها مصرّح بها في فتاوي الأصحاب، غير أنّ عباراتهم في بيانها على أنحاء:

فإنّها بين معبّرة بنحو ما عبّرناه كما في المفاتيح(2) و شرحه(3) و الجواهر(4) و معبّرة

ص: 166


1- مصابيح الظلام 489:5.
2- المفاتيح 94:1.
3- مصابيح الظلام 489:5.
4- الجواهر 174:7.

بالميل إلى الحاجب الأيمن لمن يستقبل القبلة كما في الشرائع(1) و الإرشاد(2) و عن التحرير(3) و معبّرة به مع تقييد القبلة بقبلة العراق كما في كثير من مصنّفاتهم(4). و حمل إطلاق القبلة في الكتب الثلاث أيضا على قبلة العراق، لأنّها المعهود من قبلة المحقّق و العلاّمة، و في كلام جماعة(5) تقييد العراق في كلام من اعتبر استقبال قبلة العراق بأطرافه الغربيّة كالموصل و ما والاه تعليلا بأنّ التحقيق أنّ قبلتهم نقطة الجنوب إخراجا لأواسطه كالكوفة و المشهدين الشريفين و الحلّة و بغداد و أطرافه الشرقيّة، فإنّ قبلتهم منحرفة عن نقطة الجنوب نحو المغرب، فلا يميل الشمس إلى الحاجب الأيمن لمستقبل القبلة في هذه الأماكن إلاّ بعد مدّة كثيرة من الزوال.

أقول: هذا لا يقدح إلاّ في معرفة ابتداء الزوال بظهور ميل الشمس، و إلاّ ففائدة الحكم بتحقّق الزوال بذلك حاصلة قطعا، و ربّما يعبّر في المقام باستقبال الركن العراقي في مكّة.

و هذه العبارات مع اختلافها بأجمعها متّفقة في المعنى ظاهرا، و هو جعل المناط استقبال نقطة الجنوب لأنّه الّذي يساعد عليه الاعتبار، و إنّما عبّر في كثير من العبائر باستقبال القبلة مطلقة أو مقيّدة، مراعاة لأحوال غالب الناس من عدم تيسّر معرفة نقطة الجنوب بطريق آخر غير معرفة القبلة، فإذا كانت القبلة نقطة الجنوب بالنسبة إلى العراق مطلقا أو في الجملة كانت نقطة الجنوب معلومة لأهاليها بمعلوميّة القبلة، فاكتفي عنها بها، و اللّه العالم.

ص: 167


1- شرائع الإسلام 61:1.
2- إرشاد الأذهان 242:1-243.
3- تحرير الأحكام 178:1.
4- كالمعتبر 49:2، و الذكرى 321:2، و البيان: 49، و جامع المقاصد 13:2، و المنتهى 43:4.
5- كالمدارك 66:3، و الذخيرة: 220.
[ينبوع: أوّل وقت العشاء]

ينبوع

قد ظهر من تضاعيف المباحث المتقدّمة نصّا و فتوى أنّ آخر وقت الظهرين غروب الشمس، و هو أوّل وقت المغرب بلا خلاف يعرف بين الأصحاب، بل عن كشف(1)الالتباس لا خلاف فيه، و في المعتبر(2) كما عن التذكرة(3) هو إجماع العلماء، و عن المنتهى(4) هو قول كلّ من يحفظ عنه العلم لا نعرف فيه خلافا و عليه الإجماع عن الخلاف(5) و الغنية(6) و نهاية الإحكام(7) و الذكرى(8) و كشف اللثام(9) و غيرها.

و بالجملة كون أوّل وقت المغرب هو الغروب إجماعيّ محصّلا و منقولا في حدّ الاستفاضة بل فوق حدّ الاستفاضة. و ربّما يدّعى(10) فيه ضرورة الدين، و ليس ببعيد.

و النصوص به مع ذلك متواترة بل بالغة فوق حدّ التواتر. فهذا الحكم ممّا لا إشكال فيه كما لا خلاف فيه.

نعم، إنّما وقع الخلاف فيما يتحقّق به الغروب الّذي هو علامة يعرف بها تحقّقه، فالمعروف من مذهب الأصحاب أنّه ذهاب الحمرة عن المشرق و سقوطها عن وسط السماء، و عزي إلى الشيخ في التهذيب(11) و النهاية(12) و الفاضلين(13) و الشهيدين(14)و أكثر المتأخّرين(15) و هو الأشهر كما في كلام غير واحد(16) و عليه الأكثر كما في كلام

ص: 168


1- كشف الالتباس: 83 كتاب الصلاة (مخطوط).
2- المعتبر 40:2.
3- التذكرة 310:2.
4- المنتهى 63:4.
5- الخلاف 261:1.
6- الغنية: 69-70.
7- نهاية الإحكام 311:1.
8- الذكرى 340:2.
9- كشف اللثام 157:1.
10- الجواهر 179:7.
11- التهذيب 29:2.
12- النهاية 279:1.
13- العلاّمة في المنتهى 64:4.
14- الشهيد الثاني في روض الجنان 485:2، و المسالك 140:1، و الشهيد الأوّل في الذكرى 340:2.
15- كما في المدارك 53:3، الكفاية: 15، المفاتيح 94:1.
16- الشرائع 61:1، الذكرى 340:2.

جماعة(1) و هو المشهور كما عن جمع(2) و هو مذهب الأكثر كما عن كاشف اللثام(3)و عليه العمل كما عن التذكرة(4) و عليه عمل الأصحاب كما في المعتبر(5) و هو يؤذن بدعوى الإجماع عليه.

و قيل: إنّه استتار القرص في الافق، كما عن الشيخ في المبسوط(6) و الاستبصار(7)و السيّد المرتضى(8) و ابن بابويه في كتاب علل الشرائع(9) و ظاهره في الفقيه(10) حيث أورد فيه الأخبار الدالّة عليه فقط، و عزي أيضا إلى ابن الجنيد(11) و ظاهر سلاّر(12) و القاضي(13) ابن البرّاج و مال إليه جماعة من المتأخّرين كصاحب المدارك(14) و صاحب الذخيرة(15)و الكاشاني(16) و صاحب المعالم(17) و تلميذه(18). و قد يعزى ذلك إلى ابن أبي عقيل(19) من قدماء أصحابنا نظرا إلى قوله «أوّل وقت المغرب سقوط القرص» و يأباه ما بعده من قوله «و علامة ذلك أن يسودّ افق السماء من المشرق» و ذلك إقبال الليل و تقوية الظلمة في الجوّ و اشتباك النجوم و لذلك عدّه في الذخيرة(20) قولا ثالثا في المسألة، و إن كان لا يخلو عن نظر، فإنّه إن لم يكن نصّا في الموافقة للمشهور فلا أقلّ من كونه أظهر في الموافقة منه في المخالفة، نظرا إلى أنّ ذهاب الحمرة عن المشرق بالمرّة في كلام المعظم يستلزم هذه العلامات، و عليه أمكن حمل استتار القرص و ما يرادفه في كلام هؤلاء المتوهّم مخالفتهم للمشهور على إرادة ذلك، أعني الاستتار الّذي لزمه هذه العلامات اللازمة لذهاب الحمرة أيضا بالمرّة، بناء على أن يكون مرادهم من الاستتار استتاره عن نظر كلّ مكلّف بالنسبة

ص: 169


1- كما في المنتهى 64:4، جامع المقاصد 17:2، و المدارك 50:3، و المفاتيح 94:1.
2- كشف الالتباس: (مخطوط) 83، و غاية المرام 10 و روض الجنان 485:2، و كفاية الأحكام: 15، و مجمع الفائدة البرهان 22:2.
3- كشف اللثام 33:3.
4- التذكرة 310:2.
5- المعتبر 51:2.
6- المبسوط 74:1.
7- الاستبصار 16/265:1، ب 149.
8- المسائل الميافارقيّات (رسائل المرتضى) 274:1.
9- علل الشرائع 6/350:2، ب 60.
10- الفقيه 655/218:1.
11- نقله عنه العلاّمة في المختلف 40:2.
12- المراسم: 73.
13- المهذّب 69:1.
14- المدارك 53:3.
15- الذخيرة: 193.
16- المفاتيح 94:1، الوافي 3/267:7.
17- منتقى الجمان 414:1 و 416.
18- نقله عنه في مفتاح الكرامة 79:5.
19- نقله عنه العلاّمة في المختلف 39:2.
20- الذخيرة: 193.

إلى جميع الآفاق و في جميع الأماكن و النواهي، لا استتاره عن نظر خصوص المكلّف بالنسبة إلى افقه الّذي يراه إذا لم يكن هناك حائل إن لم يستتر عن نظر غيره في افقه الّذي يراه هذا الغير.

و الّذي يرشد إلى ذلك عبارات جمع من القدماء و المتأخّرين المتضمّنة لتفسير غيبوبة الشمس و مرادفاتها بذهاب الحمرة المشرقيّة، أو ما يلازمه مثل ما سمعت عن ابن أبي عقيل.

و في نهاية الشيخ «و أوّل وقت صلاة المغرب عند غيبوبة الشمس، و علامته سقوط القرص، و علامة سقوطه عدم الحمرة من ناحية المشرق»(1).

و في الوسيلة «و وقت المغرب غروب الشمس و علامته زوال الحمرة من ناحية المشرق»(2).

و في السرائر «و أوّل وقت المغرب عدم الحمرة من ناحية المشرق ثمّ قال بعد ذلك بفاصلة عند تفصيل وقتي الاختصاص و الاشتراك لكلّ فريضة: و كذلك إذا غربت الشمس فقد دخل وقت المغرب من غير اشتراك إلى أن يمضي مقدار ما يصلّي فيه الفريضة... الخ»(3).

و في القواعد «و أوّل وقت المغرب غيبوبة الشمس المعلومة بذهاب الحمرة المشرقيّة إلى أن يذهب الشفق»(4).

و في الوسائل باب «أنّ أوّل وقت المغرب غروب الشمس المعلوم بذهاب الحمرة المشرقيّة»(5) بناء على أنّ المعلوم من ديدنه في الوسائل أنّ ما يعنون به الباب في جميع أبواب الكتاب هو الّذي أفتى به. هذا مضافا إلى ما عن ظاهر الحلّي في السرائر(6) من نسبة الموافقة للمشهور إلى الشيخ في جميع كتبه، مع أنّ المعروف منه في جملة من كتبه مصيره إلى استتار القرص أو غيبوبة الشمس أو نحو ذلك، مع ما عرفت عن المعتبر(7) بالنسبة إلى المشهور من دعوى عمل الأصحاب عليه مؤذنا بالإجماع عليه، و يحتمله ما في التذكرة «من أنّ عليه العمل»(8). مع أنّ الاكتفاء بمجرّد استتار القرص و غيبوبة الشمس مذهب العامّة كافّة، كما في التذكرة و هم كانوا يعرفون الشيعة بخلاف ذلك كما يعرفونهم بطهارتهم و صلاتهم.

و بالجملة كون مذهب الشيعة في المغرب هو اعتبار ذهاب الحمرة ممّا يعرفه المخالف

ص: 170


1- النهاية 278:1.
2- الوسيلة: 83.
3- السرائر 196:1 و 200.
4- القواعد 246:1.
5- الوسائل 831:3.
6- السرائر 195:1.
7- المعتبر 195:1.
8- التذكرة 310:2.

و المؤالف، و كان الشيعة عند ملل العامّة يعرفون بذلك. فكلّ هذه الامور و غيرها شاهد، بأنّ كلّ من أطلق من أصحابنا في وقت المغرب استتار القرص أو غيبوبة الشمس أو نحو ذلك، فمراده ما يلازم الذهاب لا مطلقا، لأنّه المعنى المعهود لديهم.

لكن يشكل إجراء هذا الحمل في بعض عباراتهم و لا سيّما عبارة الشيخ في المبسوط قائلا: «و وقت المغرب غيبوبة الشمس... إلى أن قال: و علامة غيبوبة الشمس هو أنّه إذا رأى الآفاق و السماء مصحيّة و لا حائل بينه و بينها و رآها قد غابت عن العين علم غروبها، و في أصحابنا من يراعي زوال الحمرة من ناحية المشرق، و هو الأحوط، فأمّا على القول الأوّل إذا غابت الشمس عن البصر و رأى ضوءها على جبل يقابلها أو مكان عال مثل منارة اسكندريّة أو شبهها فإنّه يصلّي و لا يلزمه حكم طلوعها بحيث طلعت، و على الرواية الاخرى لا يجوز ذلك حتّى يغيب في كلّ موضع تراه، و هو الأحوط»(1) انتهى.

فإنّ هذا صريح في وقوع الخلاف في أصحابنا. و معه يبعد دعوى عود الاختلاف في كلماتهم لفظيّا فقط و إن لم يكن صريحا في مخالفة الشيخ في المبسوط للمشهور كما عزي إليه، بل لا يبعد دعوى ظهوره في الموافقة، بناء على كون مراده من الأحوط الاحتياط الوجوبي، و عبارته المنقولة عن الاستبصار أظهر في الموافقة للمشهور إن لم نقل بكونها صريحة فيها.

و بالجملة فليفرض المسألة خلافيّة سواء كان المخالف هو الشيخ أو غيره، فنقول: إنّ الأقوى الأظهر فيها هو المشهور المنصور، لنا عليه - بعد الأصل، و هو أصالة عدم دخول وقت المغرب ما لم يذهب الحمرة المشرقيّة بالمرّة، مع قاعدة الاشتغال المستدعية ليقين البراءة الّذي لا يحصل إلاّ بمراعاة الذهاب المعتضدين بالشهرة العظيمة المحقّقة و المحكيّة البالغ حكايتها فوق حدّ الاستفاضة - الروايات المنجبر ضعفها أو قصورها بالشهرة و عمل المعظم و مخالفة العامّة:

مثل مرسلة ابن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «وقت سقوط القرص و وجوب الإفطار أن تقوم بحذاء القبلة و تتفقّد الحمرة الّتي ترتفع من المشرق، إذا جازت قمّة الرأس، فقد وجب الإفطار و سقط القرص»(2).

ص: 171


1- المبسوط 74:1.
2- الوسائل 4/173:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 516/185:4.

و مرسلة عليّ بن أحمد بن أشيم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: وقت المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق، و تدري كيف ذلك ؟ قلت: لا، قال: لأنّ المشرق مطلّ على المغرب هكذا، و رفع يمينه فوق يساره، فإذا غابت هاهنا ذهبت الحمرة من هاهنا»(1).

و رواية عليّ بن سيف عن محمّد بن علي قال: «صحبت الرضا عليه السّلام في السفر فرأيته يصلّي المغرب إذا أقبلت الفحمة من المشرق يعني السواد»(2).

و رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّما أمرت أبا الخطّاب أن يصلّي المغرب حين زالت الحمرة من مطلع الشمس، فجعل هو الحمرة الّتي هي من قبل المغرب، و كان يصلّي حين يغيب الشفق»(3) ذمّه على خطائه في الفهم أو مخالفته في الحكم.

و رواية محمّد بن شريح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن وقت المغرب ؟ فقال: إذا تغيّرت الحمرة في الافق، و ذهبت الصفرة، و قبل أن تشتبك النجوم»(4).

و رواية عبد اللّه بن وضّاح قال: «كتبت إلى العبد الصالح عليه السّلام يتوارى القرص و يقبل الليل ثمّ يزيد الليل ارتفاعا، و تستتر عنّا الشمس، و ترتفع فوق الليل حمرة، و يؤذّن عندنا المؤذّنون، أ فاصلّي حينئذ و افطر إن كنت صائما؟ أو أنتظر حتّى يذهب الحمرة الّتي فوق الليل ؟ فكتب إليّ : أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة، و تأخذ بالحائطة لدينك»(5) و أمره عليه السّلام بالاحتياط إرشاد إمّا إلى التحفّظ في الانتظار عن اطّلاع أهل الخلاف، أو إلى ما يعتذر به لهم على تقدير اطّلاعهم إذا ترتّب عليه منهم ضرر على الفاعل، أو على الآمر و هو الإمام عليه السّلام.

و صحيحة بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا غابت الحمرة من هذا الجانب يعني من المشرق فقد غابت الشمس من شرق الأرض و غربها»(6) و ظاهر سوقها كونه عليه السّلام

ص: 172


1- الوسائل 3/173:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 83/29:2.
2- الوسائل 8/175:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 86/29:2.
3- الوسائل 10/175:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 1033/259:2.
4- الوسائل 12/176:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 1024/257:2.
5- الوسائل 14/176:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 1031/259:2.
6- الوسائل 1/172:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 1019/257:2.

بصدد بيان الغروب الّذي انيط به وقت المغرب، فجعله عبارة عن غيبوبة الشمس من شرق الأرض و غربها مريدا به غيبوبتها من جميع الآفاق و هي الغيبوبة من الافق الحقيقي، و جعل الضابط فيها غيبوبة الحمرة من المشرق، و هذه الرواية كأكثر ما تقدّم وردت بطريقين آخرين لا صحّة فيهما.

هذا كلّه، مضافا إلى ما دلّ من الروايات الصحيحة على عدم جواز الإفاضة من عرفات قبل الغروب و جوازها بعده مع انضمام ما دلّ من المعتبرة على عدم جوازها قبل ذهاب الحمرة و جوازها بعده، كصحيحة معاوية بن عمّار قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ المشركين كانوا يفيضون من قبل أن تغيب الشمس، فخالفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأفاض بعد غروب الشمس، فإذا غربت الشمس فأفض مع الناس»(1).

و صحيحة مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل أفاض من عرفات قبل غروب الشمس قال: «إن كان جاهلا فلا شيء عليه، و إن كان متعمّدا فعليه بدنة»(2).

و موثّقة يونس بن يعقوب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: متى الإفاضة من عرفات ؟ قال:

إذا ذهبت الحمرة من هاهنا و أشار بيده إلى المشرق و إلى مطلع الشمس»(3) و هذا كما ترى ينهض تفسيرا للغروب الوارد في الصحيحتين.

و توهّم: أنّ مراعاة ذهاب الحمرة على ما استفيد من هذه الروايات لعلّها حكم مخصوص بالإفاضة من عرفات و التعدّي منها إلى ما نحن فيه قياس، يدفعه: أنّ مبنى الاستدلال على جعل الموثّقة قرينة كاشفة عن كون المراد من إطلاق غروب الشمس الوارد في روايات أهل البيت عليهم السّلام ما يلازم زوال الحمرة المشرقيّة.

و بالجملة فالمستفاد من النصوص المذكورة و غيرها على كثرتها و صحّة بعضها و اعتبار البعض الآخر و انجبار غيرهما بالشهرة و غيرها، أنّ الغروب الّذي انيط به وقت المغرب ليس إلاّ ما يلازم زوال الحمرة المشرقيّة، فتنهض تلك بيانا لمطلقات الروايات الّتي اطلق فيها غروب الشمس و غيبوبتها أو ما يرادفهما. و سقط بذلك الاستدلال على القول الآخر

ص: 173


1- الوسائل 1/556:4، ب 22 من أبواب إحرام الحجّ ، التهذيب 619/186:5.
2- الوسائل 1/558:13، ب 23 من أبواب إحرام الحجّ ، التهذيب 620/186:5.
3- الوسائل 2/557:13، ب 22 من أبواب إحرام الحجّ ، التهذيب 618/186:5.

بتلك الروايات:

مثل رواية عبد اللّه بن سنان قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: وقت المغرب إذا غربت الشمس فغاب قرصها»(1).

و رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «إذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب و العشاء»(2).

و رواية داود بن أبي يزيد قال: «قال الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام: إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب»(3).

و رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «وقت المغرب إذا غاب القرص، فإن رأيت بعد ذلك و قد صلّيت أعدت الصلاة، و مضى صومك، و تكفّ عن الطعام إن كنت أصبت منه شيئا»(4).

و رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا غربت الشمس دخل وقت الصلاتين إلى نصف الليل»(5).

و روايته الاخرى أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا غربت الشمس دخل وقت الصلاتين إلاّ أنّ هذه قبل هذه»(6).

و روايته الاخرى «منها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلاّ أنّ هذه قبل هذه»(7).

و رواية عبد اللّه بن سنان «وقت المغرب حين تجبّ الشمس إلى أن تشتبك النجوم»(8).

و رواية داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتّى يصلّي المصلّي ثلاث ركعات... الخ»(9).

و رواية عمر بن أبي نصر قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: في المغرب إذا توارى

ص: 174


1- الوسائل 16/178:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 81/28:2.
2- الوسائل 1/183:4، ب 17 من أبواب المواقيت، التهذيب 54/19:2.
3- الوسائل 21/179:4، ب 16 من أبواب المواقيت، أمالي الصدوق: 11/74.
4- الوسائل 17/178:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 1039/261:2.
5- الوسائل 24/181:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 78/27:2.
6- الوسائل 11/186:4، ب 17 من أبواب المواقيت، التهذيب 78/27:2.
7- الوسائل 4/157:4، ب 10 من أبواب المواقيت، التهذيب 72/25:2.
8- الوسائل 26/182:4، ب 17 من أبواب المواقيت، التهذيب 1023/257:2.
9- الوسائل 4/184:4، ب 17 من أبواب المواقيت، التهذيب 82/28:2.

القرص كان وقت الصلاة»(1).

و رواية ليث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يؤثر على صلاة المغرب شيئا إذا غربت الشمس حتّى يصلّيها»(2).

و رواية أبي اسامة الشحّام قال: «قال رجل لأبي عبد اللّه عليه السّلام: اؤخّر صلاة المغرب حتّى تستبين النجوم ؟ قال: فقال: خطّابيّة إنّ جبرئيل عليه السّلام نزل بها على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين سقط القرص»(3).

و رواية أرسلها الصدوق قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: وقت المغرب إذا غاب القرص»(4).

قال: «و قال الصادق عليه السّلام: إذا غابت الشمس فقد حلّ الإفطار و وجبت الصلاة... الخ»(5) إلى غير ذلك ممّا هو من هذا القبيل و يقف عليه المتتبّع، و قد ادّعي فيها مع روايات اخر ستسمعها التواتر.

و أنت خبير بأنّها لو لم تكن بأنفسها ظاهرة في القول المشهور - بناء على ظهور غروب الشمس و مرادفاته الواردة في هذه الروايات في غيبوبة الشمس من الافق الحقيقي لا مجرّد غيبوبتها من الافق الحسّي كما قد يدّعى - فلا أقلّ من عدم ظهورها في القول الآخر، لأنّ دعوى ظهورها في الغروب الحسّي غير مسموعة.

فهي حينئذ إمّا مجملات بناء على الاشتراك لفظا فتنهض النصوص المتقدّمة بيانا، أو مطلقات بناء على الاشتراك معنى فتنهض تقييدا فتحمل على إرادة ما يلازم زوال الحمرة حملا للمطلق على المقيّد.

مع أنّها على فرض الدلالة على ما يخالف ذلك مقتولة بكثرتها و صحّة أسانيد أكثرها بعد ملاحظة إعراض المعظم، و لا سيّما ثقة الإسلام و شيخ الطائفة في كتبهما الثلاث عنها لأنّه يكشف عن أنّ فيها من حيث الصدور أو من حيث جهة الصدور شيئا يمنع عن الاطمئنان و الوثوق بصحّة مضمونها، و مع الغضّ عن ذلك أيضا فهي لموافقتها مذهب العامّة

ص: 175


1- الوسائل 30/183:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 77/27:2.
2- الوسائل 9/189:4، ب 18 من أبواب المواقيت، التهذيب 123/39:2.
3- الوسائل 18/191:4، ب 18 من أبواب المواقيت، التهذيب 98/32:2.
4- الوسائل 18/179:4، ب 16 من أبواب المواقيت، الفقيه 655/141:1.
5- الوسائل 19/179:4، ب 16 من أبواب المواقيت، الفقيه 662/142:1.

كافّة منصرفة إلى التقيّة، محمولة على إرادة ظاهرها إن كانت التقيّة للفاعل، أو خلاف ظاهرها و هو القول المشهور إن كانت التقيّة للقائل، هذا كلّه على تقدير تسليم الدلالة و إلاّ فقد عرفت منعها.

نعم إنّما تسلّم الدلالة في روايات اخر:

مثل رواية عليّ بن الحكم عمّن حدّثه عن أحدهما «أنّه سئل عن وقت المغرب ؟ فقال:

إذا غاب كرسيّها؟ قلت: و ما كرسيّها؟ قال: قرصها، فقلت: متى تغيب قرصها؟ قال: إذا نظرت إليه فلم تره»(1).

و رواية داود بن فرقد قال: سمعت أبي سأل أبا عبد اللّه الصادق عليه السّلام متى يدخل وقت المغرب ؟ فقال: «إذا غاب كرسيّها»(2) إلى آخر ما في الخبر الأوّل.

و رواية سماعة بن مهران قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا ربما صلّينا و نحن نخاف أن تكون الشمس باقية خلف الجبل، أو قد سترها منّا الجبل، قال: فقال: ليس عليك صعود الجبل»(3).

و رواية حريز عن أبي اسامة أو غيره قال: «صعدت مرّة جبل أبي قبيس و الناس يصلّون المغرب، فرأيت الشمس لم تغب إنّما توارت خلف الجبل عن الناس، فلقيت أبا عبد اللّه عليه السّلام فأخبرته بذلك، فقال لي: و لم فعلت ذلك ؟ بئس ما صنعت، إنّما تصلّيها إذا لم ترها خلف جبل، غابت أو غارت ما لم يتجلّلها سحاب أو ظلمة تظلّها، و إنّما عليك مشرقك و مغربك، و ليس على الناس أن يبحثوا»(4).

و رواية جارود قال: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا جارود ينصحون فلا يقبلون، و إذا سمعوا بشيء نادوا به، أو حدّثوا بشيء أذاعوه، قلت لهم: مسّوا بالمغرب قليلا فتركوها حتّى اشتبكت النجوم، فأنا الآن اصلّيها إذا سقط القرص»(5).

و رواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: صحبني رجل كان يمسي بالمغرب

ص: 176


1- الوسائل 25/181:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 79/27:2.
2- الوسائل 25/181:4، ب 16 من أبواب المواقيت، أمالي الصدوق: 10/74.
3- الوسائل 1/198:4، ب 20 من أبواب المواقيت، التهذيب 17/29:2.
4- الوسائل 2/198:4، ب 20 من أبواب المواقيت، التهذيب 1053/264:2.
5- الوسائل 15/177:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 1032/259:2.

و يغلس بالفجر، و كنت أنا اصلّي المغرب إذا وجبت الشمس، و اصلّي الفجر إذا استبان لي الفجر، فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ؟ فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا و تغرب عنّا و هي طالعة على آخرين بعد، قال: فقلت: إنّما علينا أن نصلّي إذا وجبت الشمس عنّا، و إذا طلع الفجر عندنا، ليس علينا إلاّ ذلك، و على اولئك أن يصلّوا إذا غربت عنهم»(1).

و رواية أبان بن تغلب، و ربيع بن سليمان، و أبان بن أرقم و غيرهم قالوا: «أقبلنا من مكّة حتّى كنّا بواد الأخضر إذا نحن برجل يصلّي، و نحن ننظر إلى شعاع الشمس، فوجدنا في أنفسنا، فجعل يصلّي و نحن ندعو عليه (حتّى صلّي ركعة و نحن ندعو عليه) و نقول: هذا من شباب أهل المدينة، فلمّا أتيناه إذا هو أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد، فنزلنا و صلّينا معه و قد فاتتنا ركعة، فلمّا قضينا الصلاة قمنا إليه فقلنا: جعلنا فداك، هذه الساعة تصلّي ؟ فقال: إذا غابت الشمس فقد دخل الوقت»(2).

لكنّ الخطب فيها سهل بعد ملاحظة رجحان معارضاتها عليها، فهي إمّا مطروحة أو محمولة على التقيّة، و هو الأظهر لوجود أماراتها في جملة منها، فلاحظ عتابه عليه السّلام لأبي اسامة في صعوده الجبل بقوله «و لم فعلت ذلك» و ذمّه على صعوده بقوله «بئسما صنعت» فإنّه لو لا صعوده في معرض عثور المخالفين عليه الموجب لإصابتهم إيّاه أو إمامه عليه السّلام أو سائر الشيعة بسوء لم يكن لذلك العتاب و هذا الذمّ جهة، إذ الصعود استظهارا لو لم يكن راجحا من جهة الاحتياط الراجح على كلّ حال فلا أقلّ من كونه أمرا جائزا، و إنّما يتّجه العتاب و الذمّ إذا كان صعوده مخالفة لخطاب إلزامي، و لا يعقل فيه ذلك إلاّ كونه مخالفة للتقيّة الواجبة.

و ربّما يستظهر من ذيل هذا الخبر الدلالة على المختار من باب بيان الواقع، و إن كان صدره للإرشاد إلى مراعاة التقيّة، لوضوح أنّه لو لا وجوب مراعاة زوال الحمرة من المشرق لم يكن لذكر المشرق مع المغرب فائدة إلاّ على احتمال كونه لبيان ضابط وقت الصبح، و هو بعيد لعدم سبق ذكر الصبح في الخبر.

ص: 177


1- الوسائل 22/179:4، ب 16 من أبواب المواقيت، أمالي الصدوق: 15/75.
2- الوسائل 23/180:4، ب 16 من أبواب المواقيت، أمالي الصدوق: 16/75.

و لاحظ أيضا رواية جارود كيف ضاق صدره عليه السّلام عن ضعفاء شيعته لعدم محافظتهم على التقيّة في مظانّها و إذاعتهم خصائص مذهبهم الّتي امروا بإخفائها، و منها وقت صلاتهم الّذي أذاعوه بكثرة تأخيرهم إيّاه، و قوله عليه السّلام: «فأنا الآن اصلّيها إذا سقط القرص» صريح في عدوله عليه السّلام عمّا كان عليه أوّلا إلى ما يقتضيه التقيّة تلبيسا لأمر الوقت على المخالفين و صرفا لهم عمّا اعتقدوا فيه عليه السّلام أو في الشيعة من المخالفة في الوقت.

و لاحظ أيضا رواية أبان و صاحبيه، فإنّ قولهم «و نحن ندعو عليه» صريح في أنّ فعل الصلاة في هذه الساعة على ما هو طريقة المخالفين خلاف الواقع، و لذا استحقّ فاعله الدعاء عليه عندهم، و لا يكون إلاّ من جهة أنّ المعهود من مذهب الشيعة المأخوذ من أئمّتهم غير ذلك، فلا يكون صلاته عليه السّلام فيها إلاّ لضرب من التقيّة، و كذلك فعله عليه السّلام في رواية زرارة المتقدّمة عليها.

و العجب عن المستدلّين بهذه الروايات كيف غفلوا عن المراتب المذكورة مع وضوحها، و أعجب منه احتجاجهم برواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي المغرب حتّى تغيب الشمس حيث يغيب حاجبها أو حاجها»(1)على اختلاف نسخ الرواية في هذا اللفظ مع ظهورها في المشهور المنصور لأنّ حواجب على ما عن صاحب الصحاح نواحيها و لا معنى محصّل له إلاّ ضوءها، و على نسخة الحاج فهو صريح في الضوء على ما فسّر به، فالمسألة على القول المشهور بحمد اللّه واضحة.

و أمّا ما عن بعضهم من حمل روايات المشهور على الاستحباب، ففيه - مع أنّه ينافي فضيلة أوّل الوقت الثابتة بالنصوص المستفيضة، و استحباب المسارعة إلى فعل الصلاة الّذي هو من فعل الخير الثابت بالكتاب و السنّة بل الأدلّة الأربعة -: أنّه بعد ما عرفت ممّا لا داعي إليه، مع أنّ الاستحباب المذكور معناه كون الفضيلة في تأخيرها إلى زوال الحمرة، و مرجعه إلى التأخير طلبا لفضلها. و أمكن بذلك اندراجه في النهي الوارد في النصوص، ففي رواية رواها الصدوق في الأمالي على ما حكي قال: «و قال الصادق عليه السّلام: ملعون ملعون من أخّر المغرب طلبا لفضلها، قال: و قيل له: إنّ أهل العراق يؤخّرون المغرب حتّى تشتبك

ص: 178


1- الوسائل 27/182:4، ب 17 من أبواب المواقيت، التهذيب 1025/258:2.

النجوم، فقال: هذا من عمل عدوّ اللّه أبي الخطّاب»(1).

و رواية محمّد بن أبي حمزة عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ملعون من أخّر المغرب طلب فضلها»(2) مع أنّه ينافي ما رواه ليث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يؤثر على صلاة المغرب شيئا إذا غربت الشمس حتّى يصلّيها»(3).

ثمّ إنّ ظاهر إطلاق كلام الأصحاب أنّه لا يعتبر في تحقّق المغرب و لا في معرفته أمر آخر وراء زوال الحمرة المشرقيّة، و هو المستفاد من أكثر نصوص الباب، لكن في بعضها ما يوهم خلاف ذلك، من كون العبرة برؤية كوكب أو اشتباك النجوم المفسّر بظهور جميع النجوم.

ففي رواية بكر بن محمّد المتقدّمة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه سأله سائل عن وقت المغرب، فقال: إنّ اللّه يقول في كتابه لإبراهيم فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأىٰ كَوْكَباً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي (4) و هذا أوّل الوقت و آخر ذلك غيبوبة الشفق»(5).

و رواية شهاب بن عبد ربّه قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا شهاب، إنّي احبّ إذا صلّيت المغرب أن أرى في السماء كوكبا»(6).

و رواية محمّد بن شريح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن وقت المغرب ؟ فقال: إذا تغيّرت الحمرة في الافق، و ذهبت الصفرة، و قبل [أن](7) تشتبك النجوم»(8).

و تحقيق المقام أنّ اشتباك النجوم - على معنى ظهور جميعها الملازم لزوال الحمرة المغربيّة - ممّا ينبغي القطع بعدم اعتباره في تحقّق المغرب، و إنّما اعتبر ذلك منتهى لوقت المغرب الّذي مبدؤه زوال الحمرة المشرقيّة في النصوص المستفيضة القريبة من التواتر

ص: 179


1- الوسائل 6/188:4 و 7، ب 18 من أبواب المواقيت، أمالي الصدوق: 14/74.
2- الوسائل 20/192:4، ب 18 من أبواب المواقيت، التهذيب 100/33:2.
3- الوسائل 9/189:4، ب 18 من أبواب المواقيت، علل الشرائع: 5/350.
4- الأنعام: 76.
5- الوسائل 6/174:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 88/30:2.
6- الوسائل 9/175:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 1040/261:2.
7- أثبتناه من المصدر.
8- الوسائل 12/176:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 1024/257:2.

المحمولة في كلام الأصحاب على وقت الفضيلة، بل الانتظار في وقت المغرب لاشتباك النجوم ممّا نهي عنه في عدّة من الأخبار:

كخبر زيد الشحّام قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من أخّر وقت المغرب حتّى تشتبك النجوم من غير علّة فأنا إلى اللّه منه بريء»(1).

و خبر ذريح قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ اناسا من أصحاب أبي الخطّاب يمسون بالمغرب حتّى تشتبك النجوم، قال: برأت إلى اللّه ممّن فعل ذلك متعمّدا»(2).

و حينئذ فما في رواية محمّد بن شريح المتقدّمة لا بدّ من اطراحه، أو حمله على إرادة منتهى وقت المغرب الفضيلي، أو على إرادة الشروع في الاشتباك و لو برؤية كوكب بناء على التلازم الغالبي بينها و بين زوال الحمرة كما ادّعي، لعدم قائل بظاهرها من أصحابنا عدى ما يوهمه العبارة المتقدّمة لابن أبي عقيل من قوله «و ذلك إقبال الليل و تقوية الظلمة في الجوّ و اشتباك النجوم»(3) و لعلّه لذا أخذه بعض الأصحاب كصاحب الذخيرة(4) قولا ثالثا في المسألة، فإمّا أن يؤوّل بحمله على إرادة الشروع في الاشتباك أو استعداد النجوم للاشتباك، أو لا يلتفت إليه لشذوذه و شهادة النصوص بخلافه.

و أمّا رؤية الكوكب و لو واحدا فإن ثبت التلازم الغالبي بينها و بين ذهاب الحمرة، فورودها في عدّة من الروايات غير مضرّ بكون علامة المغرب ذهاب الحمرة لأنّها تحمل حينئذ على الغالب، و إلاّ فإنّ توقّف اليقين بذهابها عليها كما لو اشتبه ذهابها لمانع عن استعلامه فلا محيص من مراعاتها، تحصيلا لليقين بدخول الوقت، و إلاّ فيبقى القطع بعدم اعتبارها شرعا في الوقت، لا على أنّها محقّقة له، و لا على أنّها علامة عليه.

و الروايتان المتقدّمتان لا يلتفت إليهما إلاّ إذا حملتا على التلازم الغالبي أو غيره ممّا يقبله المقام، و لا يبعد كونهما من الموضوعات كما ربّما يومئ إليه صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «أمّا أبو الخطّاب فكذب، و قال: إنّي أمرته أن لا يصلّي هو و أصحابه المغرب حتّى يروا كوكب كذا يقال له: القيداني، و اللّه أنّ ذلك الكوكب

ص: 180


1- الوسائل 8/189:4، ب 18 من أبواب المواقيت، أمالي الصدوق: 1/320.
2- الوسائل 12/189:4، ب 18 من أبواب المواقيت، التهذيب 102/33:2.
3- نقله عنه في المختلف 21:2.
4- الذخيرة: 193.

ما أعرفه»(1). و اللّه العالم.

ثمّ إنّ وقت المغرب - الّذي أوّله غروب الشمس و علامته زوال الحمرة المشرقيّة - يمتدّ إلى أن يبقى لانتصاف الليل مقدار أداء العشاء إتماما أو قصرا، أو ينقسم هذا المقدار إلى وقت الفضيلة و هو ما بين زوال الحمرة المشرقيّة و زوال الحمرة المغربيّة، و وقت الإجزاء و هو ما بعد وقت الفضيلة إلى آخر الوقت. و لك أن تقول: إنّ لتفضيلها وقتين: من الغروب إلى ذهاب الحمرة المغربيّة، و منه إلى ربع الليل، و ما بعدهما وقت الإجزاء. و هذه الأحكام قد علمت في تضاعيف المباحث السابقة، و لا سيّما مباحث وقتي الفضيلة و الإجزاء المنعقدة لإبطال القول بوقتي الاختيار و الاضطرار قبالا للمشهور، فلا حاجة إلى بسط آخر هنا، و إعادة ما مرّ على وجه الاختصار ثمّة.

ثمّ يختصّ من الوقت المذكور بصلاة المغرب مقدار أدائها طال أو قصر، و يشترك ما بعده بينها و بين العشاء إلى أن يبقى لانتصاف الليل مقدار أداء العشاء فيختصّ بالعشاء، و هذا الحكم أيضا يعلم بمراجعة تضاعيف مسألة الاختصاص و الاشتراك بالنسبة إلى الظهرين و إن كان عنوان المسألة خاصّا بهما، فإنّ جهة الكلام و مناطه و الخلاف فيها بالنسبة إليهما و إلى العشاءين واحد، كما أنّ دليل المختار و طريق الاستدلال واحد. و بالجملة الكلام الكلام و النقوض و الإبرامات من الطرفين أيضا مشتركة بين المقامين، فلا حاجة أيضا إلى الإعادة.

ص: 181


1- الوسائل 23/193:4، ب 18 من أبواب المواقيت، رجال الكشّي 407/492:2.

ينبوع الحقّ أنّ أوّل وقت العشاء عند الفراغ عن المغرب و لو قبل زوال الشفق، كما عن ابن بابويه(1) و الشيخ في الاستبصار(2) و الجمل(3) و السيّد المرتضى(4) و ابن الجنيد(5)و أبي الصلاح(6) و ابن البرّاج(7) و ابن زهرة(8) و ابن حمزة(9) و ابن إدريس(10) و سائر المتأخّرين و «هو المشهور بين الأصحاب» كما في كلام جماعة منهم جامع المقاصد(11)و المسالك(12) و الذخيرة(13) و عن الروض(14) «أنّه أشهر» و عن كشف الرموز(15) «أنّه مذهب الأكثر» و عن الغنية(16) و السرائر(17) «الإجماع عليه» و عن المختلف «لا فرق بين الظهرين و العشاءين فمن قال بالاشتراك عند الفراغ من الظهر قال بالاشتراك عند الفراغ من المغرب»(18) و عن غاية المرام(19) أنّه بعد ما نسبه إلى بعض المتقدّمين قال: «و عليه المتأخّرون».

و في مقابله قول الشيخين(20) و ابن أبي عقيل(21) و سلاّر(22) «إنّ أوّل وقتها سقوط الشفق المفسّر في النصّ و الفتوى بالحمرة المغربيّة و هو آخر وقت فضيلة المغرب» و عن نهاية(23) الشيخ التصريح بجواز تقديم العشاء قبل الشفق في السفر و عند الإعذار، و عن

ص: 182


1- الهداية: 130.
2- الاستبصار 272:1.
3- الجمل و العقود: 59 فصل 2 في ذكر المواقيت.
4- المسائل الناصريّات: 197.
5- نقله عنه في المختلف 24:2.
6- الكافي في الفقه: 137.
7- المهذّب 69:1.
8- الغنية: 70.
9- الوسيلة: 670
10- السرائر 195:1-196.
11- جامع المقاصد 18:2.
12- المسالك 142:1.
13- الذخيرة: 197.
14- روض الجنان 486:2.
15- كشف الرموز 126:1.
16- الغنية: 70.
17- السرائر: 195-196.
18- المختلف 25:2.
19- غاية المرام 119:1.
20- المفيد في المقنعة: 93 و الشيخ في النهاية: 59، و الخلاف 85:1، و المبسوط 75:1.
21- نقله عنه في المختلف 24:2.
22- المراسم: 62.
23- النهاية: 59.

تهذيبه(1) تقديمها إذا علم أو ظنّ أنّه إذا لم يصلّ في هذا الوقت لم يتمكّن منه بعده.

و استدلّ على المشهور بعد الروايات بأنّه يجوز فعلها عند الضرورة قبل ذهاب الشفق، و لو لا أنّه وقت لاستحال فعلها فيه كما لا يجوز تقديم المغرب على الغروب. و ضعفه غير خفيّ لمنع الملازمة إن اريد الوقت على الإطلاق، و عدم جدواه في ثبوت المطلوب إن اريد الوقت بالنسبة إلى حال الضرورة، إذ لا محذور في كون ذلك الوقت خاصّا بالمعذور دون غيره، كما هو قضيّة ما عرفت عن الشيخ في النهاية(2).

فالعمدة الاستدلال بالروايات المستفيضة:

كرواية زرارة في الموثّق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالناس المغرب و العشاء الآخرة قبل الشفق من غير علّة في جماعة، و إنّما فعل ذلك ليتّسع الوقت على امّته»(3).

و روايته في الموثّق أيضا قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام و أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصلّي العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق ؟ فقالا: لا بأس به»(4).

و موثّقة عبيد اللّه و عمران ابني عليّ الحلبيّين قالا: «كنّا نختصم في الطريق في الصلاة صلاة العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق، و كان منّا من يضيق بذلك صدره، فدخلنا على أبي عبد اللّه عليه السّلام فسألناه عن صلاة العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق ؟ فقال: لا بأس بذلك، قلنا و أيّ شيء الشفق ؟ فقال: الحمرة»(5).

و موثّقة إسحاق بن عمّار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام يجمع بين المغرب و العشاء في الحضر قبل أن يغيب الشفق من غير علّة ؟ قال: لا بأس»(6).

و يؤيّدها رواية عبيد اللّه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس أن تؤخّر المغرب في السفر حتّى يغيب الشفق، و لا بأس بأن تعجّل العتمة في السفر قبل أن يغيب الشفق»(7).

ص: 183


1- التهذيب 35:2 ذيل ح 60، ب 4 من أبواب المواقيت.
2- النهاية: 59.
3- الوسائل 2/202:4، ب 22 من أبواب المواقيت، التهذيب 1046/263:2.
4- الوسائل 5/203:4، ب 22 من أبواب المواقيت، التهذيب 104/34:2.
5- الوسائل 6/203:4، ب 22 من أبواب المواقيت، التهذيب 105/34:2.
6- الوسائل 8/204:4، ب 22 من أبواب المواقيت، التهذيب 1047/263:2.
7- الوسائل 1/202:4، ب 22 من أبواب المواقيت، التهذيب 180/35:2.

و موثّقة جميل بن درّاج قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما تقول في الرجل يصلّي المغرب بعد ما يسقط الشفق ؟ فقال: لعلّه لا بأس، قلت: فالرجل يصلّي العشاء الآخرة قبل أن يسقط الشفق ؟ قال: لعلّه لا بأس»(1).

و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «لا بأس بأن تعجّل العشاء الآخرة في السفر قبل أن يغيب الشفق»(2).

و رواية إسحاق البطيخي قال: «رأيت أبا عبد اللّه عليه السّلام صلّى العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق»(3).

و أظهر الروايات دلالة رواية داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتّى يمضي مقدار ما يصلّي ثلاث ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب و العشاء الآخرة حتّى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، و إذا بقى مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب و بقي وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل»(4).

و مرسلة الفقيه: قال: «قال الصادق عليه السّلام: إذا غابت الشمس فقد حلّ الإفطار و وجبت الصلاة، و إذا صلّيت المغرب فقد دخل وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل»(5).

و استدلّ أيضا بصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر و العصر، و إذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب و العشاء الآخرة»(6).

و صحيحة عبيد بن زرارة «منها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلاّ أنّ هذه قبل هذه»(7).

و رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا غربت الشمس دخل وقت الصلاتين

ص: 184


1- الوسائل 13/196:4، ب 19 من أبواب المواقيت، التهذيب 101/33:2.
2- الوسائل 4/203:4، ب 22 من أبواب المواقيت، التهذيب 107/35:2.
3- الوسائل 7/204:4، ب 22 من أبواب المواقيت، التهذيب 106/34:2.
4- الوسائل 4/184:4، ب 17 من أبواب المواقيت، التهذيب 82/28:2.
5- الوسائل 2/184:4، ب 17 من أبواب المواقيت، الفقيه 662/142:1.
6- الوسائل 1/183:4، ب 17 من أبواب المواقيت، الفقيه 648/140:1.
7- الوسائل 4/157:4، ب 10 من أبواب المواقيت، التهذيب 78/25:2.

إلاّ أنّ هذه قبل»(1).

و كأنّ مبناه على القول بالاشتراك، و إلاّ فدخول الوقتين معا دفعة واحدة غير ممكن، إلاّ أن يراد بهما الواحد المشترك، و هو مع مخالفته الظاهر مناف للقول بالاختصاص و الاشتراك كما هو واضح، فوجب الحمل على دخولهما على التدريج، و معه لا يتفاوت الحال بين تأخّر دخول وقت العشاء عن سقوط الشفق أو تقدّمه عليه، لصدق قضيّة الرواية على التقديرين.

حجّة القول الآخر عدّة روايات:

مثل رواية عمران بن عليّ الحلبي المختلف في صحّتها بثعلبة بن ميمون قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: متى تجب العتمة ؟ قال: إذا غاب الشفق و الشفق الحمرة، فقال عبيد اللّه:

أصلحك اللّه إنّه يبقى بعد ذهاب الحمرة ضوء شديد معترض، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الشفق إنّما هو الحمرة، و ليس الضوء من الشفق»(2).

و صحيحة بكر بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «و أوّل وقت العشاء ذهاب الحمرة، و آخر وقتها إلى غسق الليل نصف الليل»(3).

و روايته المرويّة عن قرب الإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن وقت صلاة المغرب ؟ فقال: إذا غاب القرص، ثمّ سألته عن وقت العشاء الآخرة ؟ فقال: إذا غاب الشفق»(4).

و روايته الاخرى أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه سأله سائل عن وقت المغرب ؟ فقال: إنّ اللّه يقول في كتابه لإبراهيم: فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأىٰ كَوْكَباً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي (5) و هذا أوّل الوقت، و آخر ذلك غيبوبة الشفق، و أوّل وقت العشاء الآخرة ذهاب الحمرة، و آخر وقتها إلى غسق الليل يعني نصف الليل»(6).

و عن الشيخ(7) حمل الروايات السابقة على الضرورة، و لا ريب في بعده بل عدم قبول

ص: 185


1- الوسائل 11/186:4، ب 17 من أبواب المواقيت، الكافي 12/281:3.
2- الوسائل 1/204:4، ب 23 من أبواب المواقيت، الكافي 11/280:3.
3- الوسائل 6/185:4، ب 17 من أبواب المواقيت، التهذيب 88/30:2.
4- الوسائل 3/25:4، ب 23 من أبواب المواقيت، قرب الإسناد: 18.
5- الأنعام: 76.
6- الوسائل 6/174:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 88/30:2.
7- التهذيب 30:2.

أكثرها لذلك الحمل، و المتعيّن هو التصرّف في هذه الروايات، و المعروف بينهم حملها على الفضيلة.

و التحقيق أن يقال: إنّ أوّل وقت العشاء الوارد فيها إمّا بمعنى أوّل وقت فضيلتها، أو بمعنى أوّل وقت يمكن أن يقع فيه العشاء بعد أداء المغرب بآدابها و نافلتها من دون تعرّض للفضيلة إثباتا لها بالنسبة إلى العشاء و لا نفيا لها بالنسبة إلى المغرب، أو بمعنى أوّل وقت لا يشاركها فيه المغرب في الفضيلة و إن شاركتها في الإجزاء و شاركت هي المغرب فيما قبله في الإجزاء بل في الفضيلة أيضا.

و يلزمه تقدّم وقت فضيلة العشاء على زوال الشفق و عدم تأخّر وقت فضيلة المغرب عنه، و عموم أفضليّة أوّل الوقت مع استحباب المبادرة إلى فعل العبادة يساعد إلى الأخير، و هما مع ما تقدّم من تعدّد وقت فضيلة المغرب تساعد على الأوسط، و ظاهر لفظ «يجب» في قول السائل «متى يجب العتمة» في الصحيح المتقدّم بعد صرفه إلى إرادة الاستحباب يساعد على الأوّل.

و لعلّه الأقرب ليطرد وجه الجمع في جميع الروايات المعارضة لروايات المشهور، غير أنّه يوجب التخصيص في عمومات أفضليّة أوّل الوقت، و عمومات استحباب المبادرة إلى العبادة. و لو حملناه على التقيّة لأنّ كون أوّل وقت العشاء سقوط الشفق قول الجمهور على ما ذكره في التذكرة(1) حملا لباقي الأخبار على أوسط الوجوه سلم المقام عن هذا المحذور، مع كون هذا الوجه بنفسه أقرب الوجوه ذوقا، بملاحظة أنّ المغرب بآدابها و نافلتها لا تقع في أقلّ ممّا بين زوال الحمرة المشرقيّة و سقوط الحمرة المغربيّة. و يحتمل التقيّة في جميع هذه الروايات.

و نقل الاحتجاج لهذا القول أيضا بأنّ الإجماع واقع على أنّ ما بعد الشفق وقت للعشاء و لا إجماع على ما قبله فوجب الاحتياط، و بأنّها عبادة موقّتة محتاجة إلى ابتداء مضبوط و أداء المغرب غير منضبط فلا يناط به وقت العبادة.

و يندفع الأوّل: بأنّ الاحتياط لا يعيّن الأوّل بل هو على تقدير كونه في مجراه لبيان كيفيّة العمل، مع أنّه بعد ملاحظة النصوص المتقدّمة ليس في مجراه، لحصول الجمع بينها

ص: 186


1- التذكرة 313:2.

و بين معارضها بما تقدّم و عدم العجز عن علاج التعارض، و لا يلزم من انتفاء الإجماع على ما قبل الشفق عدم كونه وقتا بعد وجود دليل آخر عليه من طريق السنّة.

كما يندفع: بأنّ خروج أوّل وقت العشاء عن الانضباط لعدم انضباط أداء المغرب استبعاد، أو اعتبار ظنّي لا يلتفت إليه بعد مساعدة الدليل عليه، مع أنّه يرد نحوه على العصر الّتي أوّل وقتها عند الفراغ عن الظهر، مع أنّ قضيّة قاعدة الاختصاص و الاشتراك في كلّ من العصر و العشاء هو الالتزام بكون أوّل وقتيهما عند الفراغ عن الظهر و المغرب، فبعد تسليم هذه القاعدة في العصر لا بدّ و أن تسلّم في العشاء أيضا، إذ لا مانع هنا إلاّ عدم الانضباط و قد لغى في العصر. و إنكار أصل القاعدة حتّى في العصر رجوع إلى مسألة الاختصاص و الاشتراك، و فيه - مع تقدّم الكلام في إبطاله مشروحا - أنّه يقتضي كون أوّل وقت العشاء هو أوّل وقت المغرب، على معنى اشتراك الوقت من الغروب بين الصلاتين لا كون أوّله ما بعد الشفق.

ص: 187

ينبوع في وقت الصبح، و قد تقدّم البحث في آخره و أنّ الحقّ فيه ما هو المشهور من امتداده للمختار و المضطرّ إلى طلوع الشمس، خلافا لما عليه جماعة من امتداده إليه للمضطرّ خاصّة، فأمّا المختار فيمتدّ بالنسبة إليه إلى طلوع الحمرة المشرقيّة، كما عن ابن أبي عقيل(1)و غيره(2) أو إلى أن يسفر الصبح كما عن الشيخ في الخلاف(3). و مستندهم الجمع بين الأخبار المتعارضة بحمل الدالّ منها على طلوع الشمس على الاضطرار، و الدالّ منها على إسفار الصبح أو ظهور الحمرة المشرقيّة على الاختيار. و قد عرفت ما فيه، و أنّ الأولى في الجمع إبقاء الأوّل على ظاهره فيكون ما ذكر وقت الإجزاء، و التصرّف في الثاني بحمله على الفضيلة، و هذا كلّه ممّا لا يحتاج إلى الإعادة. و قد بقي الكلام في تحقيق أوّله من حيث الحكم و الموضوع.

فنقول: إنّ أوّله طلوع الفجر الثاني المستطير في الافق بإجماع علمائنا بل بإجماع العلماء كافّة كما في المدارك(4) و عن المعتبر(5) و المنتهى(6) و التذكرة(7) و شرح الرسالة لنجيب الدين(8) و بالإجماع كما عن الذكرى(9) و إرشاد الجعفريّة(10) و بلا خلاف كما عن الخلاف(11) و كشف الالتباس(12) و غاية المرام.(13)

ص: 188


1- نقله عنه في المختلف 31:2.
2- المحقّق في المعتبر 45:2، و الشهيد في الدروس 140:1، و روض الجنان 448:2، و ابن حمزة في الوسيلة: 83.
3- الخلاف 267:1.
4- المدارك 61:3.
5- المعتبر 44:2.
6- المنتهى 88:4.
7- التذكرة 316:2.
8- نقله عنه في مفتاح الكرامة 101:5.
9- الذكرى 349:2.
10- المطالب المظفّرية: في وقت الصبح.
11- الخلاف 267:1.
12- كشف الالتباس: 83.
13- غاية المرام 120:1.

و أمّا الموضوع: فالمراد بالفجر الثاني الوارد في النصّ و الفتوى هو البياض المستطير في الافق، و عن الصحاح استطار الفجر انتشر، فهو البياض المنتشر في الافق، و لذا قد يفسّر بالمعترض المتّصل بالافق. و يسمّى بالصبح الصادق لأنّه صادق في إخباره بالصبح، و يقابله الفجر الأوّل المسمّى بالصبح الكاذب لكذبه في حكايته عن الصبح، و هو البياض المستدقّ المستطيل نحو الفوق يشبه بذنب السرحان، قيل: الّذي يتوسّط بينه و بين الافق ظلمة.

و في كشف الغطاء: و مبدؤه ظهور البياض المستطير في أسفل الافق و هي المرتبة الأخيرة في البياض، فإنّ الشمس إذا غربت و أخذت في الدوران لم يزل ينقص ضوءها من جانب المغرب في دورانها فتنتهي إلى المنتصف فتتساوى نسبتها إلى المشرق و المغرب و يعتدل حال الجانبين و ينتصف الليل، و به يعتدل ضوء الشمس من الجانبين فإذا أخذت بالميل إلى المشرق أخذ الافق المشرقي بالإضاءة خفيّا حتّى يبقى مقدار ثلث الليل أو أقلّ فيبدو ظاهرا، ثمّ لم يزل يشتدّ و يقوّي حتّى يسمّى حينئذ ب «الفجر الكاذب و ذنب السرطان» ثمّ يعترض في أسفل الافق بياض كأنّه مقام الذنب السرحان و هو الصبح و الفجر الصادق، و المعبّر عنه ب «الخيط الأبيض» و ينتهي بظهور جزء من الشمس»(1) انتهى.

ص: 189


1- كشف الغطاء: 221.
المبحث الثاني في أوقات النوافل
اشارة

و فيه مسائل:

[المسألة الاولى: وقت نافلتي الظهر و العصر]

المسألة الاولى: في وقت نافلتي الظهر و العصر، و في كونه من الزوال إلى أن يصير الفيء قدمين لنافلة الظهر و أربعة أقدام لنافلة العصر - كما عن الشيخ في النهاية(1) و موضع من التهذيب(2) و جمع من الأصحاب(3) بل هو المشهور بينهم كما في كلام جماعة(4) و في الشرائع(5) «أنّه أشهر» و عن كشف الرموز(6) «أنّه مذهب الأكثر» - أو إلى أن يبلغ المثل في الظهر و المثلين في العصر، أو إلى أن يبقى لصيرورة الفيء مثل الشاخص مقدار ما يصلّى فيه فريضة الظهر و لصيرورته مثليه مقدار ما يصلّى فيه فريضة العصر - كما عن الشيخ في المبسوط(7) و الخلاف(8) و الجمل(9) و السيّد أبي المكارم(10) و الحلّي(11) و تبعهم جماعة من المتأخّرين كالمعتبر(12) و المنتهى(13) و التحرير(14) و التذكرة(15) و التبصرة(16) و جامع المقاصد(17) و حاشية الميسي(18) و عن حاشية الإرشاد(19) «أنّه أظهر» و عن الجعفريّة(20)و شرحها(21) «أنّه أقوى» و عن الروض(22) «أنّه متّجه» و في الروضة «فيه قوّة» و يناسبه

ص: 190


1- النهاية: 60.
2- التهذيب 248:2.
3- كما في المدارك 68:3.
4- كما في حاشية الإرشاد: 20 و الكفاية: 15 و الروضة 488:1، و روض الجنان 489:2.
5- الشرائع 62:1.
6- كشف الرموز 126:1.
7- المبسوط 76:1.
8- الخلاف 256:1.
9- الجمل و العقود: 59-60.
10- الغنية: 71.
11- السرائر 199:1.
12- المعتبر 48:2.
13- المنتهى 95:4.
14- التحرير 179:1.
15- التذكرة 316:2.
16- التبصرة: 20.
17- جامع المقاصد 20:2.
18- نقله عنه في مفتاح الكرامة 107:5.
19- حاشية الإرشاد: 20.
20- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) كتاب الصلاة 100:1.
21- المطالب المظفّريّة: في وقت نافلة الظهر.
22- روض الجنان 489:2.

المنقول من فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة عليهم السّلام و غيرهم من السلف من صلاة نافلة العصر قبل الفريضة متّصلة بها، و على ما ذكروه من الأقدام لا يجتمعان أصلا لمن أراد صلاة العصر في وقت الفضيلة انتهى(1) - أو أنّ وقتها يمتدّ بامتداد وقت الفريضة، كما نقله في الشرائع(2)أقوال، ثالثها غير معلوم القائل كما نصّ عليه جماعة(3) لكن في كلام غير واحد(4) نسبته إلى الحلبي(5) لكن قيل: إنّ آخر وقت الفريضة عنده الأربعة للمختار و المثل للمضطرّ، فلا اختلاف بينه و بين أحد القولين الأوّلين في المعنى. نعم يظهر الميل إليه من العلاّمة البهبهاني في شرح المفاتيح(6) و حاشية المدارك(7).

و اعلم أنّ التعبير بالقدمين و الأربعة أقدام في النصّ و الفتوى، بناء على اعتبار قامة الإنسان في الفيء أو شاخص يساوي قامة الإنسان في المقدار، أو أنّهما كنايتان عن سبعي الشاخص و أربعة أسباعه إن كان النظر فيهما إلى مطلق الشاخص، بناء على كون قامة الإنسان في الأغلب سبعة أقدامه، و أخبار حائط مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ربّما تساعد على الأوّل أو الثاني و لا سيّما خبر إسماعيل الجعفي الآتي.

و كيف كان فالمعتمد هو القول الأوّل، لما رواه ابن بابويه في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن وقت الظهر؟ فقال: ذراع من زوال الشمس، و وقت العصر ذراع من وقت الظهر، فذاك أربعة أقدام من زوال الشمس. ثمّ قال: إنّ حائط رسول اللّه مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قامة، و كان إذا مضى منه ذراع صلّى الظهر، و إذا مضى منه ذراعان صلّى العصر. ثمّ قال: أ تدري لم جعل الذراع و الذراعان ؟ قلت لم جعل ذلك ؟ قال: لمكان النافلة لك أن تتنفّل من زوال الشمس إلى أن يمضي ذراع، فإذا بلغ فيئك ذراعا من الزوال بدأت بالفريضة و تركت النافلة، و إذا بلغ فيئك ذراعين بدأت بالفريضة و تركت النافلة»(8).

و ما رواه ثقة الإسلام في الحسن بل الصحيح عن محمّد بن مسلم قال: قلت

ص: 191


1- الروضة 488:1.
2- الشرائع 62:1.
3- كما في المدارك 63:3.
4- كما في مفتاح الكرامة 111:5، و كشف اللثام 55:3.
5- الكافي في الفقه: 158.
6- مصابيح الظلام 465:5.
7- حاشية المدارك 311:2.
8- الوسائل 3/141:4 و 4، ب 8 من أبواب المواقيت، الفقيه 653/217:1.

لأبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا دخل وقت الفريضة أتنفّل أو أبدأ بالفريضة ؟ قال: إنّ الفضل أن تبدأ بالفريضة. و إنّما أخّرت الظهر ذراعا من عند الزوال من أجل صلاة الأوّابين»(1).

و في معناهما روايات اخر يقف عليها المتتبّع، فإنّ ظاهر الصحيحين و غيرهما أنّ بلوغ الفيء ذراعا أو ذراعين - الّذي وقع التحديد به - منتهى وقت النافلة، فلا ينافي تقدّم وقت الفريضة عليه و كونه من زوال الشمس لا أنّه مبتدأ وقت الفريضة لئلاّ ينافي تأخّر وقت النافلة عنه حتّى أنّها لو وقعت بعد أداء الفريضة لوقعت في وقتها أداء. بل قوله عليه السّلام: «بدأت بالفريضة و تركت النافلة» كالصريح في خلاف ذلك.

فما في شرح المفاتيح بعد نقل الصحيحة الاولى من قوله «و مقتضى الرواية أنّ ذلك وقت تقديم النافلة على الفريضة لا أنّه وقت نفس النافلة، و لذا بعد هذا الوقت يقدّم الفريضة على النافلة لا أنّها تترك»(2) ليس على ما ينبغي، فإنّ فعل النافلة بعد الفريضة ليس من جهة الأمر الأوّل لكونه موقّتا سقط بخروج وقته، بل بأمر آخر فيكون قضاء.

فإن قلت: إنّ هذا إنّما يصحّ إذا كان العلّة الباعثة على الترك المأمور به عند بلوغ الذراع و الذراعين فقد المقتضي و هو الأمر الاستحبابي المفروض كونه موقّتا، و لعلّه موضع منع لجواز استناده إلى وجود المانع و هو الأمر بالفريضة، كما ربّما يومئ إليه عدم جواز فعل النافلة فيما بعد ذلك مطلقا ما لم يحصل أداء الفريضة و جوازه بعد حصول أدائها، فإنّ ذلك يعطي كون عدم الجواز في الأوّل من جهة وجود المانع و الجواز في الثاني لأجل ارتفاعه.

قلت: هذا كلام مرجعه إلى دعوى اشتراط الأمر بالنافلة بفراغ الذمّة عن الفريضة، و لو صحّ ذلك لوجب اشتراطه به من حين الزوال و إلاّ لزم كونه مستعملا في المطلق و المشروط معا و هو باطل، و فرض الاشتراط على الوجه المذكور ينفيه دليل الخلف الناشئ من فرض صحّة التنفّل قبل الفريضة ما لم يبلغ الفيء ذراعا و ذراعين.

و أمّا على المختار فيلزم ورود أمرين بالنافلة أدائي و قضائي، و الأوّل و إن كان موقّتا إلاّ أنّه بالقياس إلى فراغ الذمّة عن الفريضة مطلق، و الثاني مشروط و لا محذور فيه. فهذا القول مع وضوح دليله أحوط، لشبهة التطوّع في وقت الفريضة الغير المأذون فيه يقينا إلاّ

ص: 192


1- الوسائل 2/230:4 و 3، ب 36 من أبواب المواقيت، الكافي 5/289:2.
2- مصابيح الظلام 465:5.

في القدمين و الأربع.

و أمّا القول الثاني: فلم نقف له على مستند واضح، نعم في المعتبر بعد ما ذكر رواية زرارة المتقدّمة(1) قال: و هذا يدلّ على بلوغ المثل و المثلين، لأنّ التقدير أنّ الحائط ذراع، فحينئذ ما روي من القامة و القامتين جار هذا المجرى، و يدلّ عليه ما روى عليّ بن حنظلة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «في كتاب عليّ عليه السّلام القامة ذراع»(2) و عنه عليه السّلام «قلت: كم القامة ؟ قال: ذراع إنّ قامة رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم(3) كانت ذراعا»(4) فبهذا الاعتبار يعود اختلاف كلام الشيخ رحمه اللّه لفظيا(5) انتهى.

و اعترض عليه في الذكرى قائلا بعد نقل عبارة المعتبر: و قد أخذه من تأويلات الشيخ في التهذيب لما اختلف من الأخبار هنا و تبعه في التذكرة، و هو منظور فيه من وجهين:

أحدهما: منع الدلالة على المدّعى، لأنّه بناء على أنّ القامة ذراع و استشهد بما ذكر، و من أين يعلم أنّ هذه القامة مفسّرة لتلك القامة، و الظاهر تغايرهما بدليل قوله عليه السّلام: «فإذا مضى من فيئه ذراع و ذراعان» و لو كان الذراع نفس القامة لم يكن للفظ «من» هنا معنى، بل و لا للتقدير بالذراع و الذراعين.

و يؤيّد أنّ المراد بالقامة قامة الإنسان قوله عليه السّلام: «فإذا بلغ فيئك ذراعا و ذراعين» تطبيقا لبعض الكلام على بعض، و يدلّ عليه خبر إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا كان فيء الجدار ذراعا صلّى الظهر، و إذا كان ذراعين صلّى العصر، فقلت له: إنّ الجدار يختلف بعضها قصير و بعضها طويل، فقال: كان جدار مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يومئذ قامة»(6) و هذا يأبى عن حمل القامة على الذراع(7) إلى آخر ما ذكره قدّس سرّه.

و التحقيق في دفعه: أنّ حمل القامة في الرواية على الذراع خلاف ظاهر لا يصار إليه إلاّ

ص: 193


1- الوسائل 3/141:4 و 4، ب 8 من أبواب المواقيت، الفقيه 653/140:1.
2- الوسائل 26/147:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 995/251:2.
3- الرحل: ما يوضع على ظهر الحيوان كالسرج، و يركب عليه (لسان العرب 274:11).
4- الوسائل 16/145:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 66/23:2.
5- المعتبر 48:2.
6- الوسائل 10/143:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 58/211:2.
7- الذكرى 359:3.

لشاهد، أمّا أوّلا: فلظهور القامة بنفسها حيث تطلق في قامة الإنسان، لأنّه المعنى المعهود منها المنساق إلى الذهن في متفاهم العرف، و ليست القامة من المتشابهات، و لا ممّا لم يتعيّن معناه لغة أو عرفا، و لا من الألفاظ الّتي تصرّف فيها الشارع بنقل أو ارتجال.

و أمّا ثانيا: فلأنّ تفسير الذراعين بأربعة أقدام - على ما هو في صدر الرواية - إنّما يناسب كون التقدير بالذراع و الذراعين لملاحظة قامة الإنسان، لظهور الأقدام في أقدام الإنسان.

و أمّا ثالثا: فلقوله عليه السّلام «فإذا بلغ فيئك ذراعا» بل هذا لصراحته في اعتبار قامة الإنسان يأبى عن الحمل المذكور، و الروايات المتكفّلة لتفسيرها بالذراع كخبر ابن حنظلة و غيرها - مع شذوذها و عدم عامل بها من الأصحاب و ضعف أسانيدها - معارضة بما هو أقوى منها من الروايات المؤيّدة بالرضوي «إنّما سمّي ظلّ القامة قامة لأنّ حائط مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قامة»(1) الّتي هي بين ظاهرة و صريحة في إرادة قامة الإنسان من القامة حيث تطلق في الباب:

كموثّقة إسماعيل الجعفي المتقدّمة في عبارة الذكرى، فإنّ التحديد بالذراع في قوله عليه السّلام «إذا كان فيء الجدار ذراعا» و بالقامة في قوله عليه السّلام «كان جدار مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يومئذ قامة»(2) دون الذراع في المقامين و لا القامة فيهما يوجب ظهور المغايرة.

و موثّقة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن صلاة الظهر؟ فقال: إذا كان الفيء ذراعا، قلت: ذراعا من أيّ شيء؟ قال: ذراعا من فيئك»(3) فإنّ قوله عليه السّلام «ذراعا من فيئك» بصريح الإضافة إلى المخاطب في معنى قوله «ذراعا من فيء قامتك» و ينهض هذا شاهدا بأنّ المراد من الذراع حيثما اطلق ذراع من فيء قامة الإنسان، بل بأنّ المراد من القامة حيثما حدّ جدار مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بها قامة الإنسان، هذا.

و لكنّ الإنصاف أنّه يظهر بالتتبّع في الأخبار و الآثار المرويّة عن الأئمّة الأطهار أنّ القامة كانت تطلق عندهم على الظلّ ، بل هو صريح مرسلة يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عمّا جاء في الحديث أن صلّ الظهر إذا كانت الشمس قامة

ص: 194


1- فقه الرضا: 76.
2- الذكرى 359:3.
3- الوسائل 18/145:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 996/251:2.

و قامتين، و ذراعا و ذراعين، و قدما و قدمين، من هذا و من هذا، و متى هذا؟ و كيف هذا؟ و قد يكون الظلّ في بعض الأوقات نصف قدم ؟ قال: إنّما قال: ظلّ القامة و لم يقل: قامة الظلّ ، و ذلك أنّ ظلّ القامة يختلف مرّة يكثر و مرّة يقلّ ، و القامة قامة أبدا لا تختلف، ثمّ قال: ذراع و ذراعان و قدم و قدمان فصار ذراع و ذراعان تفسيرا للقامة و القامتين في الزمان الّذي يكون فيه ظلّ القامة ذراعا و ظلّ القامتين ذراعين، فيكون ظلّ القامة و القامتين و الذراع و الذراعين متّفقين في كلّ زمان معروفين، مفسّرا أحدهما بالآخر مسدّدا به، فإذا كان الزمان يكون فيه ظلّ القامة ذراعا كان الوقت ذراعا من ظلّ القامة، و كانت القامة ذراعا من الظلّ ، و إذا كان ظلّ القامة أقلّ أو أكثر كان الوقت محصورا بالذراع و الذراعين، فهذا تفسير القامة و القامتين، و الذراع و الذراعين»(1).

غير أنّه يحتمل كون هذا الإطلاق مجازا من باب تسمية المسبّب باسم السبب و مع هذا نقول: إنّ القامة حيث تطلق على الظلّ كانت عبارة عن الذراع، و لا يلزم منه كونها عبارة عن الذراع أيضا حيث تطلق على ذي الظلّ فيكون معنى قوله عليه السّلام القامة ذراع في الروايات المتقدّمة أنّ القامة بمعنى الظلّ ذراع، و لا يلزم منه كون القامة في الصحيحة المتقدّمة الّتي اطلقت فيها على الجدار الّذي هو من قبيل ذي الظلّ أيضا ذراعا.

و دعوى: أنّ القامة في عرف الأئمّة عليهم السّلام صارت اصطلاحا في مقدار الذراع سواء اخذت بمعنى الظلّ أو ذي الظلّ ، غير مسموعة، و لا يفي بإثباتها شيء من الأخبار. و ربّما يحتمل أن يكون معنى قوله عليه السّلام «القامة ذراع» ظلّ القامة ذراع بتقدير المضاف، مع أنّها حيث اطلقت على الظلّ لم تتعيّن للذراع بل هي بمعنى الظلّ كانت تطلق عليه و على ما دونه و على ما زاد عليه حتّى المثل، و مع هذا فليس في النصوص المفسّرة للقامة بالذراع أنّ قامة حائط المسجد كانت ذراعا، بل يحتمل أنّ القامة الّتي وردت في الروايات أنّها من فيء الزوال للظهر و ضعفها للعصر كانت ذراعا. و بالجملة فبناء التمسّك بالصحيحة المتقدّمة لهذا القول على تفسير القامة الواردة فيها بالذراع ليرجع التحديد بها إلى اعتبار المثل و المثلين غير جيّد، فالاستدلال بها غير ناهض.

و أمّا نقل الإجماع المحكيّ عن ابن زهرة على المثل و المثلين، فيوهنه أنّه لا معنى

ص: 195


1- الوسائل 34/150:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 67/24:2.

للإجماع مع شهرة خلافه.

و أمّا ما تقدّم عن الروضة من التمسّك بفعل النبيّ و الأئمّة، ففيه: أنّه إنّما يتمّ على تقدير عدم تقدّم فضيلة العصر على انتهاء المثل، بأن يكون أوّل وقتها من حين بلوغ المثل، و هو على ما تقدّم تحقيقه من أفضليّة أوّل الوقت لكلّ صلاة و استحباب المبادرة إلى فعل العبادة و نحو ذلك موضع منع. و عليه ففعل نافلة العصر قبل الفريضة متّصلة بها مع اعتبار الأقدام لا ينافيان فعل العصر في وقت الفضيلة بل يجتمعان معه.

و قد يستدلّ لهذا القول بإطلاق الأمر بالنافلة المتناول لما بعد الذراع و الذراعين إلى بلوغ المثل و المثلين، و بأخبار السبحة المصرّحة بجواز التقصير فيها و جواز التطويل المتناول إطلاقه لما بعد القدمين و الأربعة أقدام، كخبر ابن مسكان عن الحارث بن المغيرة و عمر بن حنظلة و منصور بن حازم جميعا قالوا: «كنّا نقيس الشمس بالمدينة بالذراع، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أ لا انبّئكم بأبين من هذا، إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر إلاّ أنّ بين يديها سبحة، و ذلك إليك إن شئت طوّلت و إن شئت قصّرت»(1).

و خبر محمّد بن أحمد بن يحيى قال: «كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن عليه السّلام روي عن آبائك القدم و القدمين و الأربع و القامة و القامتين و ظلّ مثلك و الذراع و الذراعين ؟ فكتب عليه السّلام:

لا القدم و لا القدمين، إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين، و بين يديها سبحة و هي ثمان ركعات، فإن شئت طوّلت و إن شئت قصّرت، ثمّ صلّ الظهر فإذا فرغت كان بين الظهر و العصر سبحة، و هي ثمان ركعات إن شئت طوّلت و إن شئت قصّرت، ثمّ صلّ العصر»(2)و في معناهما روايات اخر.

و في الأوّل منع إطلاق الأوامر المطلقة بالنوافل بالقياس إلى ما نحن فيه لورودها لإعطاء أصل مشروعيّة النوافل من غير نظر فيها إلى أوقاتها المعيّنة في الواقع، كيف ؟ و لو صحّ هذا الإطلاق لقضى بامتداد وقت النافلة على حسب امتداد وقت الفريضة من غير إشعار فيها بالمثل و المثلين، فهي بالقول الثالث أنسب. و توهّم: تقييد ذلك الإطلاق بهما مع وضوح المقيّد من الروايات و غيرها، فاسد. كيف ؟ و لو كان هناك ما يصلح مقيّدا صحّ بنفسه

ص: 196


1- الوسائل 1/131:4، ب 5 من أبواب المواقيت، التهذيب 63/22:2.
2- الوسائل 13/134:4، ب 5 من أبواب المواقيت، التهذيب 990/249:2.

مستندا لهذا القول، و قد عرفت منع وضوحه، مع أنّه لو صحّ توهّم التقييد لوجب تقييده بالذراع و الذراعين لنهوض الصحيحة المتقدّمة لذلك التقييد.

و في الثاني أيضا منع الإطلاق النافع للمقام، لظهور الروايات المذكورة بحسب سياقاتها و الأسئلة الواقعة فيها في الورود لرفع توهّم عدم وقوع الفريضة قبل بلوغ الذراع و الذراعين بزعم عدم دخول وقتها إلاّ بعدهما، فرفع الأئمّة عليهم السّلام هذا التوهّم بقولهم: «إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر أو وقت الصلاتين». فمعنى قولهم: «إن شئت طوّلت و إن شئت قصّرت» أنّه إن شئت طوّلت السبحة إلى انتهاء الذراع و الذراعين حتّى تأتي بالفريضة بعدهما، و إن شئت قصّرتها حتّى تفرغ عنها قبل بلوغ الذراع و الذراعين، فتأتي بالفريضة قبل بلوغهما أيضا.

نعم يحسن التمسّك لهذا القول بموثّقة زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن وقت صلاة الظهر في القيظ؟ فلم يجبني... إلى أن قال عليه السّلام: إذا كان ظلّك مثلك فصلّ الظهر، و إذا كان ظلّك مثليك فصلّ العصر»(1).

و قويّة ابن بكير قال: «دخل زرارة على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: إنّكم قلتم لنا في الظهر و العصر على ذراع و ذراعين، ثمّ قلتم: أبردوا بها في الصيف، فكيف الإبراد بها؟... إلى أن قال: و دخل أبو بصير على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: إنّ زرارة سألني عن شيء فلم اجبه، و قد ضقت من ذلك، فاذهب أنت رسولي إليه فقل صلّ الظهر في الصيف إذا كان ظلّك مثلك، و العصر إذا كان مثليك»(2).

و قد سبق تمام الروايتين في مباحث وقت فضيلة الظهرين لظهور انطباقهما على هذا القول بناء على أنّ الأمر بتأخير الفريضتين إلى المثل و المثلين ليس إلاّ لأجل نافلتهما، و لذا أنّ سيّد الرياض بعد ما رجّح القول الأوّل قال: «و إن كان القول الثاني ليس بذلك البعيد، لظاهر الموثّق»(3) و ذكر الموثّقة المذكورة هذا.

و لكنّ الخطب فيهما بعد تسليم البناء المذكور سهل، لظهور سؤال القويّة حيث قال

ص: 197


1- الوسائل 13/144:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 62/22:2.
2- الوسائل 33/149:4، ب 8 من أبواب المواقيت، رجال الكشّي 226/355:1.
3- الرياض 49:3.

السائل: «إنّكم قلتم لنا في الظهر و العصر على ذراع و ذراعين» في كون المعهود ثمّة لدى أصحاب الأئمّة عليهم السّلام اعتبار الذراع و الذراعين فهي على طبق المشهور.

مع تطرّق المنع إلى البناء المذكور بالنسبة إلى الأمر بالتأخير عن المثل و المثلين، لكونها بمقتضى السؤال عن الإبراد كالصريح في أنّ العلّة الباعثة على التأخير هو الإبراد المأمور به، و هو تأخير الصلاة إلى هذا المقدار لانكسار الحرّ و زوال اشتداده، بناء على أن يكون الإبراد من البرودة كما نقل القول بذلك في المجمع، و لذا خصّ بالصيف. و لعلّ الحكمة في ذلك أنّ اشتداد الحرّ في وسط النهار في الصيف كان يمنعهم عن الإقبال إلى الصلاة أو الحضور فيها، أو الاجتماع في الجامع من أوّل الزوال أو غير ذلك، فاذن لهم في التأخير إلى المقدار المذكور لأنّ الحرّ ينكسر و اشتداده يرتفع بمضيّ هذا المقدار.

و هذا ممّا لا إشعار فيه بامتداد وقت النافلة إلى المثل و المثلين، مع أنّ القول بذلك مطلق و الروايتان مقيّدتان بالصيف فلا تنطبقان عليه.

مع أنّ قوله عليه السّلام «إذا كان ظلّك مثلك فصلّ الظهر...» الخ و كذا قوله عليه السّلام: «صلّ الظهر إذا كان ظلّك مثلك...» الخ محتمل لإرادة صلّ فيما بينه و بين الزوال ليكون بيانا لوقت الفضيلة و امتداده إلى المثل و المثلين، فليحمل عليه و إن كان خلاف الظاهر جمعا بينه و بين ما تقدّم من النصوص بامتداد وقت الفضيلة في الظهرين إليهما.

و يؤيّده ما أشرنا إليه سابقا من الإجماع على عدم تأخّر الفضيلة عنهما و عدم زيادة وقتها عليهما، فالأمر بتأخير الفريضة عنهما من دون علّة مرجّحة له تفويت للفضيلة و هو غير سائغ، فإمّا أن يحمل على المعنى المذكور، أو يجعل العلّة المرجّحة له الإبراد بالمعنى المتقدّم، و هو الأظهر بملاحظة ما استظهرناه من القويّة.

ثمّ عن الشيخ في المبسوط(1) و الجمل(2) استثناء قدر إيقاع الفرضين عن المثل و المثلين، و عن المحقّق الثاني(3) الموافقة له.

و في المدارك(4) كما عن الذكرى(5) أنّ الأخبار لا تساعده.

و عن المسالك(6) «ظاهر الأصحاب أنّ هذا الوقت بأجمعه للنافلة و يحتمل استثناء قدر

ص: 198


1- المبسوط 76:1.
2- الجمل و العقود: 174.
3- جامع المقاصد 20:2.
4- المدارك 70:3.
5- الذكرى 360:2.
6- المسالك 143:1.

الفريضة من آخره».

و اعترضه في مفتاح الكرامة «أنّ القائل بوقت الاختيار و الاضطرار كيف يجوّز فعل النافلة قبل الفريضة إلى آخر وقت الاختيار، إذ يلزم تأخير الفريضة عنه من غير اضطرار»(1).

و يمكن دفعه: بحمل العذر في كلام الشيخ و نحوه من أهل القول بالاختيار و الاضطرار على ما يعمّ المشاغل للإنسان فيكون التشاغل للنافلة حينئذ عذرا.

و أمّا عدم مساعدة الأخبار فهو كما ذكره المدارك و الذكرى إن اريد بالأخبار صحيحة زرارة المتقدّمة على تأويل المعتبر، و ما ذكرناه من الخبرين موثّقة زرارة و قويّة ابن بكير.

و يظهر الثمرة فيما لو بقى من المثل و المثلين قدر النافلة فهل يؤثر ذلك للنافلة و يؤخّر الفريضة، أو يؤثر للفريضة و يؤخّر النافلة ؟

و ينبغي تحقيق المقام بملاحظة الأقوال في المثل و المثلين، فإن لم نجعلهما وقتي المختار و لا وقتي الفضيلة فالمتّجه عدم استثناء قدر إيقاع الفريضتين، و إن جعلناهما وقتي المختار فالمتّجه استثناؤه لئلاّ يتأخّر الفريضة عن وقتها بالنسبة إلى المختار إلاّ أن يعمّم العذر على وجه يشمل الاشتغال للنافلة، و إن جعلناهما وقتي الفضيلة فيدور الأمر بين فضيلة أداء النافلة في مقابلة قضائها و فضيلة الفريضة في مقابلة إيقاعها في وقت الإجزاء، و يرجّح الثاني لأنّ فضيلة الأداء للنافلة مع إمكان أصل النافلة قضاء لا تكافئ فضيلة الفريضة، للتأكيد الوارد في أوقات الفضيلة في النصوص المتواترة.

و أمّا القول الثالث: فمستنده على ما احتمله في المدارك حسنة محمّد بن عذافر قال:

«قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: صلاة التطوّع بمنزلة الهديّة متى ما اتي بها قبلت، فقدّم منها ما شئت و أخّر ما شئت»(2).

و مرسلة عليّ بن الحكم عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال لي: صلاة النهار ستّ عشر ركعة أي النهار شئت، إن شئت في أوّله، و إن شئت في وسطه، و إن شئت في آخره»(3).

ص: 199


1- مفتاح الكرامة 111:5.
2- الوسائل 8/233:4، ب 37 من أبواب المواقيت، التهذيب 1066/267:2.
3- الوسائل 6/233:4، ب 37 من أبواب المواقيت، التهذيب 1064/267:2.

و نحوهما رواية عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال: اعلم أنّ النافلة بمنزلة الهديّة متى ما اتي بها قبلت»(1).

و رواية عبد الأعلى قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن نافلة النهار؟ قال: شئت عشرة ركعة متى ما نشطت، إنّ عليّ بن الحسين عليه السّلام كانت له ساعات من النهار يصلّي فيها، فإذا شغله صنيعة أو سلطان قضاها، إنّما النافلة مثل الهديّة متى ما اتي بها قبلت»(2).

و رواية القسم بن الوليد الغساني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: جعلت فداك صلاة النهار صلاة النوافل في كم هي ؟ قال: ستّ عشرة ركعة في أيّ ساعات النهار شئت أن تصلّيها صلّيتها، إلاّ أنّك إذا صلّيتها في مواقيتها أفضل»(3).

و يرد على الحسنة و ما في معناها من روايات الهديّة: أنّ مقبوليّة النافلة متى ما اتي أمر مسلّم لا ينكر، غير أنّه لا ينافي كونها في بعض النهار أداء و في غيره قضاء: و لا تعرّض في الرواية للأداء و القضاء، و لا دلالة لها على أنّها قبلت أداء متى ما اتي بها.

كما يرد على المرسلة و ما في معناها أيضا: أنّها ترخيص في فعل النافلة في أيّ ساعة من ساعات النهار، و هذا أيضا لا ينافي كونها في بعض الساعات أداء و في الباقي قضاء.

و بالجملة هذه الروايات لا دلالة فيها على كون إيقاعها في أيّ ساعة أداء، بل في رواية عبد الأعلى تصريح بالقضائيّة. و لا ينافيه ما في رواية ابن الوليد من كون فعلها في مواقيتها أفضل، إذ لا ريب في أنّ الأداء في النوافل أفضل مع جواز العدول فيها إلى القضاء، بل قوله عليه السّلام: «مواقيتها» يقتضي أنّ لها من ساعات النهار أوقات معيّنة و ليس حكم جميع الساعات واحدا. و لعلّه لذا كلّه لم يلتفت الأصحاب إلى هذه الروايات مع كثرتها و استفاضتها ليصيروا إلى القول المذكور استنادا إليها، و بقي القول شاذّا و قائله مجهولا.

ثمّ بقي ممّا يتعلّق بنافلتي الظهر و العصر أمران:

أحدهما: عن الشيخ(4) و أتباعه(5) أنّه إن خرج وقت النافلة و لم يتلبّس منها بشيء قدّم

ص: 200


1- الوسائل 3/232:4، ب 37 من أبواب المواقيت، الكافي 14/454:3.
2- الوسائل 7/233:4، ب 37 من أبواب المواقيت، التهذيب 1065/267:2.
3- الوسائل 5/233:4، ب 37 من أبواب المواقيت، التهذيب 1063/267:2.
4- النهاية: 60، المبسوط 128:1.
5- ابن البرّاج في المهذّب 71:1، و العلاّمة في الإرشاد 243:1، و العاملي في المدارك 71:3.

الفريضة ثمّ قضاها، و إن تلبّس منها بشيء و لو ركعة واحدة زاحم بها الفريضة و أتمّها مخفّفة ثمّ صلّى الفريضة، و هذا كما في الحدائق(1) و مفتاح الكرامة(2) هو المشهور بين الأصحاب، بل عن مجمع البرهان(3) كونه المجمع عليه، و أفتى به المحقّق(4) و العلاّمة(5) و الشهيد(6) في كتبهم و كذا غيرهم(7) ممّن تأخّر عنهم. و بالجملة لم نجد فيه مخالفا و لا نقل قول بالخلاف.

و الأصل فيه موثّقة عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «للرجل أن يصلّي الزوال ما بين زوال الشمس إلى أن يمضي قدمان، و إن كان قد بقي من الزوال ركعة واحدة أو قبل أن يمضي قدمان أتمّ الصلاة حتّى يصلّي تمام الركعات، فإن مضى قدمان قبل أن يصلّي ركعة إذا زالت الشمس بدأ بالاولى و لم يصلّ الزوال إلاّ بعد ذلك، و للرجل أن يصلّي من نوافل الاولى ما بين الاولى إلى أن تمضي أربعة أقدام، فإن مضت الأربعة أقدام و لم يصلّ من النوافل شيئا فلا يصلّي النوافل، و إن كان قد صلّى ركعة فليتمّ النوافل حتّى يفرغ منها، ثمّ يصلّي العصر. و قال: للرجل أن يصلّي إن بقى عليه شيء من صلاة الزوال إلى أن يمضي بعد حضور الاولى نصف قدم، و للرجل إذا كان قد صلّى من نوافل الاولى شيئا قبل أن تحضر العصر فله أن يتمّ نوافل الاولى إلى أن يمضي بعد حضور العصر قدم. و قال:

القدم بعد حضور العصر مثل نصف قدم بعد حضور الاولى في الوقت سواء»(8).

و دلالتها على المطلوب في كلّ من نافلتي الظهر و العصر واضحة، و لا حاجة إلى ضمّ عدم القول بالفصل، كما صنعه في الذخيرة(9) بزعم عدم وضوح دلالتها بالنسبة إلى نافلة الظهر. و الطعن على السند لاشتماله على جماعة من الفطحيّة، ثمّ دعوى اعتضادها بأنّه محافظة على سنّة لم يتضيّق وقت فريضتها كما في المعتبر(10) و استجوده في المدارك(11)بعد ملاحظة كونه موثّقا و انجباره مع ذلك بالعمل ليس على ما ينبغي.

و أمّا المحافظة على سنّة لم يتضيّق وقت فريضتها لوضوح ضعفها، فلا تصلح عاضدة لها

ص: 201


1- الحدائق 215:6.
2- مفتاح الكرامة 213:5.
3- مجمع الفائدة و البرهان 19:2.
4- المعتبر 58:2، الشرائع 62:1، المختصر: 22.
5- المنتهى 135:4، تحرير الأحكام 28:1، نهاية الإحكام 330:1.
6- الدروس: 22 و 23، الذكرى 365:2، البيان: 52.
7- كما في الكفاية: 15، و المفاتيح 97:1.
8- الوسائل 2/245:4، ب 40 من أبواب المواقيت، التهذيب 1086/273:2.
9- الذخيرة: 198.
10- المعتبر 58:2.
11- المدارك 71:3.

لو بنى على عدم اعتبار السند، إذ لا مستند لها في تأسيس الحكم الشرعي بها سوى قاعدة التسامح في السنن، و هي مع قيام احتمال المنع لشبهة التطوّع في وقت الفريضة ليست في مجراها، هذا على ما اختاره من منع النافلة في وقت الفريضة، و أمّا على المختار كما سنقرّره فلا إشكال.

و أمّا ما في الجواهر(1) من الاستدلال على الإتمام في صورة التلبّس بركعة بقوله عليه السّلام:

«من أدرك من الوقت ركعة فقد أدرك الوقت كلّه»(2) ففيه: أنّ هذا و نحوه مسوق لبيان كون ما أدرك ركعة منه في الوقت و باقيه في خارجه أداء أو في حكم الأداء، و موضوعه ما جاز في حكم الشرع إتمامه في خارج الوقت بعد التلبّس به في الوقت كالفريضة، و لا بدّ من إحرازه في النافلة بعد ملاحظة شبهة التطوّع في وقت الفريضة بدليل آخر، و الرواية المذكورة و ما بمعناها غير صالحة لإحرازه كما لا يخفى.

و أمّا اعتبار فعلها مخفّفة كما في الشرائع(3) و عن جماعة(4) فظاهر معتبريه وجوبه، و المراد به على ما في كلام غير واحد الاقتصار على أقلّ ما يجزئ فيها كقراءة الحمد وحدها و تسبيحة واحدة في الركوع و السجود.

و عن بعض المتأخّرين(5) «أنّه لو تأدّى التخفيف بالصلاة جالسا آثره على القيام لإطلاق الأمر بالتخفيف» و عن المسالك(6) التأمّل فيه «من إطلاق الأمر بالتخفيف و من الحمل على المعهود و كون الجلوس اختيارا خلاف الأصل».

و في الوجهين معا ما لا يخفى، أمّا إطلاق الأمر بالتخفيف فأقصاه جواز الجلوس لا تعيّنه. و أمّا الحمل على المعهود فلأنّ معهوديّة القيام في النافلة إن سلّمناها بالغلبة غير مانعة عن الجلوس فيها بعد ورود الرخصة فيه اختيارا في مطلق النوافل في النصوص على ما تقدّم تحقيقه في محلّه. و بذلك يعلم ما في دعوى كون الجلوس اختيارا خلاف الأصل،

ص: 202


1- الجواهر 291:7.
2- لم نعثر على رواية بهذا اللفظ: بل أرسله في المدارك 93:3.
3- الشرائع 48:1.
4- منهم الشهيد في المسالك 15:1، و النراقي في المستند 241:1، و البحراني في الحدائق 216:6، و القاضي في المهذّب 72:1، و الطباطبائي في الرياض 82:3.
5- كالفاضل الهندي في كشف اللثام 169:1، و البحراني في الحدائق 216:6، و العاملي في المدارك 3: 71، و الطباطبائي في الرياض 82:3.
6- المسالك 15:1.

لمنع مخالفته الأصل إن اريد به القاعدة المقرّرة في الشريعة، لفرض ثبوت الرخصة فيه مطلقا في النوافل.

و أمّا وجوب أصل التخفيف على ما هو ظاهر الجماعة فدليله غير واضح، بل إطلاق الموثّقة المتقدّمة ربّما يأباه، و لعلّه لورود النصّ به و إن لم نقف عليه، كما يشير إليه تعليل إيثار الجلوس بإطلاق الأمر بالتخفيف، على ما عرفت عن المسالك و بعض المتأخّرين.

و ربّما أمكن دعوى الإشارة إلى وجوبه في ذيل الموثّقة حيث قيّد الحكم بمضيّ نصف قدم عن حضور الاولى و مضيّ قدم من حضور العصر، لكنّ الّذي يمكن أن يعوّل عليه في وجوب التخفيف من باب التسليم إنّما هو قاعدة الاقتصار في الحكم المخالف، لعموم المنع عن التطوّع في وقت الفريضة بعد خروج وقت النافلة على القدر المقطوع بخروجه عن العموم، و هذا يقضي بمراعاة التخفيف حتّى إيثار الجلوس على القيام لو كان أخفّ .

و في الذكرى(1) كما عن البيان(2) و الدروس(3) و تبعه جماعة منهم شارح الدروس(4) أنّ الأقرب أنّه يصلّيها أداء تنزيلا لها منزلة صلاة واحدة أدرك منها ركعة واحدة. و يشكل بعدم ثبوت ذلك التنزيل بالدليل، و عدم تعرّض النصّ الوارد في المسألة للأداء و القضاء، فالأحوط إذا أن لا يتعرّض لهما في النيّة.

ثمّ إنّ ظاهر النصّ و الفتوى(5) كصريح غير واحد اعتبار الركعة التامّة في الركعة المتلبّس بها، و يتحقّق تمام الركعة بتمام السجدة الثانية و إن لم يرفع رأسه، فلو تلبّس منها بما دون الركعة التامّة حتّى أنّه لو خرج الوقت و هو في الركوع أو السجدة الاولى من الركعة الاولى، فلا مزاحمة اقتصارا على الظاهر أو القدر المتيقّن من مورد النصّ . قال في جامع المقاصد:

«و لا يكفي للمزاحمة إدراك الركوع، لأنّ في الرواية اعتبار إدراك ركعة»(6) و قضيّة هذا كلّه تعيّن قطع النافلة فيما دون الركعة التامّة.

و هل يعتبر في المزاحمة الاشتغال بالنافلة أو يكفي فيها بقاء مقدار ركعة واحدة من

ص: 203


1- الذكرى 365:2.
2- البيان: 52.
3- الدروس: 22-23.
4- شرح الدروس 554:1.
5- كما في حاشية المحقّق الثاني في فوائد الشرائع: 27 و في المسالك 143:1، و الروض 49:2.
6- جامع المقاصد 41:2.

وقت النافلة و إن لم يتشاغل بها بعد، فيجوز له الشروع فيها حينئذ و إتمامها بعد خروج الوقت ظاهر الفتاوي، و حيث عبّر فيها بالتلبّس هو الأوّل بل هو ظاهر النصّ أيضا. و يحتمل الثاني بناء على أنّ المناط إدراك ركعة واحدة لا مضيّ الوقت بعد إدراكها، و هو مشكل، و الوقوف مع ظاهر النصّ و الفتوى أولى و أحوط، و لم نقف على من تعرّض لذلك الفرع.

و في جامع المقاصد كما عن الروض «أنّه لو ظنّ ضيق الوقت فصلّى الفرض ثمّ تبيّن بقاؤه، فالظاهر أنّ وقت النافلة باق»(1).

و استشكله في الرياض «فيما لو كانت نافلة الظهر إذ فعلها بعد فريضتها فعل نافلة في وقت فريضة لم يعلم استثناؤه، لاختصاص المستثنى لها من النصّ و الفتوى بحكم التبادر بفعلها في وقتها قبل فريضتها لا مطلقا»(2).

و يدفعه: أنّ استثناءها إنّما ثبت بدليل التوقيت لها المتضمّن للإذن في فعلها في الوقت الممتدّ إلى قدمين أو أربعة أقدام، فيكون ذلك المقدار من وقت الفريضة مخرجا عن عموم المنع من التطوّع في وقت الفريضة، و قضيّة خروجه عن حكم وقت الفريضة جواز إيقاع النافلة فيه مطلقا، غاية الأمر اعتبار تقديم النافلة على الفريضة و هو حكم آخر ثبت بالدليل من غير مدخليّة له في الوقت المضروب لها المخرج عن حكم وقت الفريضة، فإذا أخلّ بذلك الحكم خطأ أو نسيانا بتقديم الفريضة مع كون ما بعدها إلى انتهاء القدمين ممّا يسع للنافلة لم يلزم خروجه عن كونه وقتا لها و قضيّة كونه وقتا لها، تضمّنه الرخصة في إيقاعها فيه و لو صدق عليها أنّها نافلة في وقت الفريضة، إلاّ أن يقال باختصاص التوقيت و لو من جهة انصراف دليله بغير محلّ البحث، و لا يخفى بعده، و مع ذلك فالأحوط تأخيرها إلى الفراغ من العصر ليأتي بها قضاء.

ثمّ إنّ ظاهر النصّ حيث ذكر فيه الاولى و العصر اختصاص المزاحمة بغير صلاة الجمعة و هو المصرّح به في كلام جماعة كالذكرى(3) و روض الجنان(4) و غيرهما(5) استنادا إلى كثرة الأخبار بتضيّق وقتها الّتي منها: صحيحة زرارة قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ من الامور امورا مضيّقة و امورا موسّعة، و إنّ الوقت وقتان، الصلاة ممّا فيه السعة، فربّما

ص: 204


1- جامع المقاصد 41:2.
2- الرياض 82:3.
3- الذكرى 365:3.
4- روض الجنان 491:2.
5- كمستند الشيعة 242:1، و الدروس 140:1.

عجّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ربّما أخّر إلاّ صلاة الجمعة، فإنّ صلاة الجمعة من الأمر المضيّق، إنّما لها وقت واحد حين تزول، وقت العصر يوم الجمعة وقت الظهر في سائر الأيّام»(1).

و في تسرّي الاختصاص إلى يوم الجمعة لمن لا يصلّي الجمعة احتمال ذكره في روض الجنان(2) على ما حكي عنه استنادا إلى صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن وقت الظهر؟ فقال: بعد الزوال بقدم أو نحو ذلك، إلاّ في يوم الجمعة أو في السفر، فإنّها حين تزول»(3) و هو ضعيف و الرواية ظاهر الانطباق على الصحيحة الاولى، فالأظهر المزاحمة في يوم الجمعة مع انتفاء صلاتها عملا بإطلاق النصّ ، و إن كان عدمها فيه خروجا عن شبهة الحرمة أحوط.

و ثانيهما: أنّ في جواز تقديم النوافل النهاريّة على الزوال مطلقا، أو عدمه كذلك، أو الجواز لعذر لمن علم أنّه إن لم يقدّمها اشتغل عنها و لم يتمكّن من قضائها، احتمالات، أوّلها:(4) المشهور بين الأصحاب كما في الذخيرة(5) و غيرها(6). و في الذكرى(7) كما عن الدروس(8) جعل الثاني وجها، و عن الأردبيلي(9) استظهاره و يظهر الميل إليه من المدارك(10)و البهبهاني في حاشية المدارك(11) بل في شرح المفاتيح(12) و اختاره في الذخيرة(13)و الحدائق(14). و الثالث مختار الشيخ في التهذيب(15) و تبعه الفاضل في شرح الدروس(16).

و مستند المشهور أنّ الصلاة وظيفة شرعيّة فيقف إثباتها على مورد النقل، و المنقول فعلها بعد الزوال في غير يوم الجمعة، فلا يكون تقديمها عليه مشروعا.

و يدلّ ظاهر عدّة روايات: كرواية عمر بن اذينة - في الحسن بل الصحيح - عن عدّة أنّهم سمعوا أبا جعفر عليه السّلام يقول: «كان أمير المؤمنين عليه السّلام لا يصلّي من النهار شيئا حتّى تزول

ص: 205


1- الوسائل 3/316:7، ب 8 صلاة الجمعة و آدابها، التهذيب 46/13:3.
2- روض الجنان 491:2.
3- الوسائل 11/144:4، ب 8 من أبواب المواقيت، التهذيب 59/21:2.
4- كذا في الأصل: و الصواب: ثانيها.
5- الذخيرة: 199.
6- كما في الحدائق 217:6.
7- الذكرى 361:2.
8- الدروس: 22.
9- مجمع الفائدة و البرهان 32:2.
10- المدارك 72:3.
11- حاشية المدارك 314:2.
12- مصابيح الظلام 470:5.
13- الذخيرة: 199.
14- الحدائق 219:6.
15- التهذيب 267:2 ذيل ح 103.
16- شرح الدروس 552:1.

الشمس، و لا من الليل بعد ما يصلّي العشاء الآخرة حتّى ينتصف الليل»(1).

و رواية زرارة في الصحيح على الأظهر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان عليّ عليه السّلام لا يصلّي من الليل شيئا إذا صلّى العتمة حتّى ينتصف الليل، و لا يصلّي من النهار شيئا حتّى تزول الشمس»(2).

و رواية زرارة قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يصلّي من النهار شيئا حتّى تزول الشمس فإذا زال النهار قدر نصف إصبع صلّى ثماني ركعات»(3).

فإنّ استمرارهم عليهم في التأخير عن الزوال يكشف عن عدم مشروعيّة التقديم مطلقا أو بلا عذر، هذا مضافا إلى النصوص الواردة بالتوقيت للنوافل الظاهرة في عدم مشروعيّة تقديمها على أوقاتها المعيّنة المضروبة لها.

حجّة القول الثاني عدّة روايات، تقدّم ذكرها في مستند القول بامتداد وقت النافلة على حسب امتداد الفريضة، مثل رواية محمّد بن عذافر و مرسلة علي بن الحكم و رواية عمر بن يزيد و رواية عبد الأعلى و رواية القسم بن الوليد(4) و حملها الشيخ «على من علم من حاله أنّه إن لم يقدّمها اشتغل عنها و لم يتمكّن من قضائها»(5).

فأمّا مع ارتفاع الأعذار فلا يجوز تقديمها مستدلاّ عليه رواية محمّد بن مسلم قال «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يشتغل عن الزوال أ يعجّل من أوّل النهار؟ فقال: نعم إذا علم أنّه يشتغل فيعجّلها في صدر النهار»(6).

و يقرب منها رواية إسماعيل بن جابر قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي أشتغل، قال:

فاصنع كما نصنع، صلّ ستّ ركعات إذا كانت الشمس في مثل موضعها من صلاة العصر يعني ارتفاع الضحى الأكبر، و اعتدّ بها من الزوال»(7). و بذلك ظهر مستند القول الثالث.

ص: 206


1- الوسائل 5/230:4، ب 36 من أبواب المواقيت، التهذيب 1060/266:2.
2- الوسائل 6/231:4، ب 36 من أبواب المواقيت، التهذيب 1061/266:2.
3- الوسائل 7/231:4، ب 36 من أبواب المواقيت، التهذيب 1045/262:2.
4- الوسائل 232:4 و 3/233 و 5 و 6 و 7 و 8، ب 37 من أبواب المواقيت، التهذيب 1063/267:2 و 1064 و 1065 و 1066.
5- التهذيب 267:2.
6- الوسائل 1/231:4، ب 37 من أبواب المواقيت، الكافي 1/450:3.
7- الوسائل 4/232:4، ب 37 من أبواب المواقيت، التهذيب 1062/267:2.

و يشكل - مع عدم وضوح دلالة بعض هذه الروايات على إرادة الرواتب - بأنّ هذا الحمل معارض باحتمال حملها على إرادة النهار و ساعاته ممّا بعد الزوال لا ممّا قبله، مع أنّ الحمل كما أنّه تخصيص في هذه الروايات فكذلك يوجب التخصيص في نصوص التوقيت بحمله على كون الوقت المضروب لنوافل الظهرين على كونه وقتا لمن لا عذر له، بل يوجب التخصيص في خبر عمر بن اذنية و تالييه(1) كما هو واضح، إلاّ أن يمنع عمومها بدعوى ظهورها في انتفاء العذر لكنّ التخصيص في روايات التوقيت لازم البتّة، فأمّا على الحمل الّذي ذكرناه فهي سليمة عن هذا التخصيص.

نعم يشكل الحال في رواية محمّد بن مسلم الظاهرة في مشروعيّة التقديم مع العذر، فلا بدّ من اطراحها أو التأويل فيها إن كانت قابلة لها.

فالإنصاف أنّها لمخالفتها المشهور و عدم ظهور عامل بها من أساطين الأصحاب عدى الشيخ في التهذيب - على ما عرفت - مع احتمال عدم كون عمله بها على جهة الإفتاء بمضمونها، بل بناء على أنّه ذكر شاهد لما احتمله في الروايات العامّة المتقدّمة لمجرّد الجمع بينها و بين نصوص التوقيت و غيرها ممّا يأبى جواز التقديم و رفع التنافي الظاهري عمّا بين روايات أهل العصمة كما هو ديدنه في كتابيه التهذيب و الاستبصار، لا تورث اطمئنانا يكفي في رفع اليد عن ظواهر أدلّة التوقيت و الخروج عن عمومها بالقياس إلى المعذور و غيره، إن اريد بالمعذور ما يكون عذره عرفيّا، و أمّا المعذور بالعذر العقلي أو الشرعي المانع عن فعل النافلة فالالتزام بسقوط تكليفه بالنافلة أهون من التزام جواز تقديمها على الزوال الّذي مرجعه إلى التقديم على الوقت، هذا كلّه بالقياس إلى ما عدى يوم الجمعة.

و أمّا فيه فينبغي القطع بجواز تقديم نوافله على الزوال بل استحبابه مع زيادة أربع على ستّة عشر ركعة، و التفريق في فعلها بإيقاع ستّ عند انبساط الشمس و ستّ عند ارتفاعها و ستّ قبل الزوال و ركعتان عند الزوال، و لعلّه مذهب الأكثر كما عن كاشف اللثام(2) بل المشهور بين الأصحاب كما في كلام جماعة منهم جامع المقاصد قائلا: «و أمّا

ص: 207


1- الوسائل 5/230:4 و 7، ب 36 من أبواب المواقيت، التهذيب 1060/266:2 و 1045.
2- كشف اللثام 300:4.

النوافل فالمشهور بين الأصحاب استحباب عشرين ركعة و أنّ الأفضل تقديمها، و يجوز تأخير جميعها إلى بعد العصر»(1) و عن السرائر «عليه عمل الطائفة»(2) و عن الغنية «الإجماع عليه»(3).

و في مفتاح الكرامة عند شرح عبارة القواعد «و يجوز إيقاعها بعده قال: أي بعد الزوال مقدّمة على الفرضين أو متأخّرة عنهما أو متوسّطة بينهما أو بالتفريق كما في الروض»(4)(5)و للقول في تفاصيل هذه المراتب و الخلافات الواقعة محلّ آخر يأتي في باب الجمعة إن شاء اللّه.

[المسألة الثانية: وقت نافلة المغرب]

المسألة الثانية: أوّل وقت نافلة المغرب بعد الفراغ عن الفريضة و يمتدّ إلى ذهاب الحمرة المغربيّة، و الظاهر أنّ هذا المقدار إجماعي، و عليه ينزل الإجماع المنقول عن الغنية(6) و المنتهى(7) و ما في المعتبر(8) من قوله «و هو مذهب العلماء». و ما في المدارك(9)من قوله: «هذا مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفا».

و هل ينقطع عنده أو لا؟ المشهور الأوّل، و عن البيان(10) و الروضة(11) «أنّه المشهور» و عن الدروس(12) «أنّه المشهوريين المتأخّرين» و في جامع المقاصد(13) «قاله الشيخ و الجماعة».

و عن الذكرى(14) و الدروس(15) الميل إلى أنّه يمتدّ بامتداد وقت الفريضة و إن كان الأفضل المبادرة إليها، و في المدارك(16) هو متّجه، و عن كاشف اللثام(17) أنّه جيّد، و يظهر الميل من جماعة من متأخّري المتأخّرين.

و استدلّ في المعتبر(18) على المشهور «بأنّه وقت يستحبّ فيه تأخير العشاء فكان الإقبال فيه على النافلة حسنا و عند ذهاب الحمرة يقع الاشتغال بالفرض فلا يصلح للنافلة... إلى أن قال: و يدلّ على أنّ آخر وقتها ذهاب الحمرة ما روي من منع النافلة في وقت الفريضة روى ذلك جماعة منهم محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا دخل

ص: 208


1- جامع المقاصد 434:2.
2- السرائر 301:1.
3- الغنية: 72.
4- روض الجنان 491:2.
5- مفتاح الكرامة 164:3.
6- الغنية: 72.
7- المنتهى 96:4.
8- المعتبر 53:2.
9- المدارك 73:3.
10- البيان: 49.
11- الروضة 491:1.
12- الدروس 141:1.
13- جامع المقاصد 20:2.
14- الذكرى 367:2.
15- الدروس 141:1.
16- المدارك 74:3.
17- كشف اللثام 57:3.
18- المعتبر 53:2.

وقت الفريضة فلا تطوّع»(1).

و تنظّر فيه صاحب المدارك بأنّ «من المعلوم أنّ النهي عن التطوّع وقت الفريضة إنّما يتوجّه إلى غير الرواتب، للقطع باستحبابها في أوقات الفرائض و إلاّ لم يشرع نافلة المغرب عند من قال بدخول وقت العشاء بعد مضيّ مقدار ثلاث ركعات من أوّل وقت المغرب، و لا نافلة الظهرين عند الجميع»(2) انتهى، و تبعه فيه في الذخيرة.(3)

و يمكن دفعه: بأنّه إن اريد بعدم توجّه النهي عن التطوّع وقت الفريضة إلى الرواتب عدم شمول النهي الوارد في النصوص لها، و مرجعه إلى إنكار العموم في تلك النصوص بحيث يتناول الرواتب، ففيه: أنّه مجازفة لا ينبغي الإصغاء إليها، كيف و ما تقدّم من الأصحاب في المسألة المتقدّمة من منع الشروع في نافلة الظهرين إذا خرج وقتها و لم يتلبّس منها بركعة مبنيّ على عموم المنع عن النافلة في وقت الفريضة، بل الدعوى المذكورة يكذّبها الأخبار المستفيضة المعلّلة لتحديد الظهرين بما بعد القدم و القدمين أو الذراع و الذراعين أو القدمين و الأربعة أقدام، بأن لا يكون تطوّع في وقت الفرض.

و إن اريد به عدم الشمول من جهة الاستثناء المخرج للرواتب عن النهي العامّ ، ففيه: أنّ القدر المسلّم الثابت إنّما هو استثناء الرواتب في أوقاتها المضروبة لها شرعا، و كون ما بعد الحمرة المغربيّة من وقت نافلة المغرب أوّل المسألة، فإمّا أن ينكر التوقيت في تلك النافلة و هو دفع للضرورة، أو يثبت كون ما بعد الحمرة أيضا وقتا، و أنّى له بذلك ؟ أو يلتزم بما ذكره المعتبر.

و أمّا ما عن كاشف اللثام(4) في دفعه أيضا من أنّ المراد من الأخبار النهي عن فعل النوافل عند تضيّق الفرائض، ففيه: أنّ هذا تقييد يحتاج إلى دليل.

و أمّا الاعتراض عليه أيضا بما عن الذكرى(5) من «أنّ هذا يتمّ على مذهب الشيخ القائل بعدم دخول العشاء إلاّ بعد الحمرة أمّا على قوله و قول الأكثر من دخولها بعد الفراغ عن المغرب فلا يتمّ » ففيه أيضا أنّ ما بين الفراغ عن المغرب و زوال الحمرة و إن كان على هذا

ص: 209


1- الوسائل 3/227:4، ب 35 من أبواب المواقيت، التهذيب 661/167:2.
2- المدارك 74:3.
3- الذخيرة: 199.
4- كشف اللثام 57:3.
5- الذكرى 367:2.

القول وقتا للعشاء، غير أنّه مستثنى من عموم النهي عن التطوّع وقت الفريضة بالإجماع و غيره، و لا دليل على كون ما بعد الحمرة أيضا من المستثنى.

و عن المنتهى الاحتجاج للمشهور بما رواه ابن بابويه عن أبي جعفر عليه السّلام في صفة صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «فإذا آبت الشمس و هو أن تغيب صلّى المغرب ثلاثا، و بعد المغرب أربعا، ثمّ لا يصلّي شيئا حتّى يسقط الشفق، فإذا سقط صلّى العشاء»(1) قال: و هذا يدلّ على أنّ آخر وقتها غيبوبة الحمرة كما قلنا، لأنّ اشتغال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالعشاء في ذلك الوقت إنّما يكون بعد دخول وقت العشاء و حينئذ لا تطوّع انتهى.(2)

و فيه نظر، لعدم دلالته على عدم دخول وقت العشاء فيما قبل ذلك، و عدم دلالته أيضا على أنّ هذا الوقت غير صالح للنافلة.

و استشهد في المدارك(3) لما استوجهه من قول الذكرى و الدروس بصحيحة أبان بن تغلب قال: «صلّيت خلف أبي عبد اللّه عليه السّلام المغرب بالمزدلفة، فقام فصلّى المغرب ثمّ صلّى العشاء الآخرة و لم يركع بينهما، ثمّ صلّيت خلفه بعد ذلك بسنة فلمّا صلّى المغرب قام فتنفّل بأربع ركعات ثمّ أقام فصلّى العشاء الآخرة»(4). و أضاف إليها البهبهاني في حاشية المدارك(5) رواية رجاء بن أبي ضحّاك «أنّ الرضا عليه السّلام كان إذا صلّى المغرب و سلّم و جلس في مصلاّه يسبّح اللّه و يحمده و يكبّره و يهلّله ما شاء اللّه، ثمّ يسجد سجدتي الشكر ثمّ يرفع رأسه و لم يتكلّم حتّى يقوم فيصلّي أربع ركعات بتسليمتين...»(6) الخ.

و دلالتهما على المطلوب غير بعيدة، بناء على ظهور الاولى في كون الأربع نافلة المغرب مع كون هذه الصلاة في أيّام الموسم، غير أنّ الاولى مندفعة بمعارضة ما ورد في أخبار عديدة، من أنّ المفيض من عرفات إذا صلّى المغرب في المزدلفة أخّر النافلة إلى ما بعد العشاء، كما يندفع الثانية بالضعف الغير المنجبر مع مخالفتهما الشهرة و إعراض معظم الأصحاب عن العمل بهما، فلا تورثان الاطمئنان الكافي في مقام الاستنباط.

ص: 210


1- الوسائل 6/61:4، ب 14 من أبواب أعداد الفرائض، الفقيه 678/146:1.
2- المنتهى 96:4.
3- المدارك 74:3.
4- الوسائل 1/224:4، ب 33 من أبواب المواقيت، التهذيب 1050/263:2.
5- حاشية المدارك 289:2.
6- الوسائل 24/55:4، ب 13 من أعداد الفرائض.

و أمّا الاستدلال عليه أيضا بالنصوص الواردة باستحباب نافلة المغرب بعدها، كما أومأ إليه السيّد قدّس سرّه في الرياض(1) بناء على شمول البعديّة لما بعد الحمرة أيضا.

ففيه: منع الإطلاق فيها بالنظر إلى الوقت بعد ملاحظة ورودها لإثبات أصل الاستحباب من دون تعرّض للوقت أصلا، فالأولى بل الأحوط الوقوف مع المشهور اقتصارا فيما خالف عموم المنع على مورد اليقين، و ليس إلاّ ما بين زوال الحمرة و الفراغ من المغرب للشكّ في شمول الإجماع لما بعدها.

و عليه فلو زالت الحمرة و لم يتلبّس بشيء من النافلة بدأ بالفريضة، و إن تلبّس بركعتين منها ففي كلام جماعة(2) من المتأخّرين و متأخّريهم أنّه أتمّهما اوليين كانتا أو اخريين.

و عن ابن إدريس «أنّه إن شرع في الأربع أتمّها و إن ذهب الشفق»(3) و مستنده غير واضح، عدى ما قد يحتمل من كونه قياسا على نوافل الظهر في كفاية التلبّس بركعة واحدة منها في الإتمام، و دفع بحرمة القياس في الشرع و كونه هنا مع الفارق لوجهين، كون مزاحمة كلّ منهما ثمّة لفريضتها و هنا لفريضة اخرى، و كون مناط المزاحمة ثمّة إتمام ركعة واحدة و هنا مجرّد الشروع، فيها. و من هنا ظهر جواب آخر يمنع الحكم في المقيس عليه لو اريد القياس في كفاية مجرّد الشروع و يعلم وجهه بملاحظة ما سبق.

و أمّا ما ذكره في الاشتغال بركعتين فعلّلوه بالنهي عن إبطال العمل، و زاد عليه في جامع المقاصد وجهين آخرين حيث إنّه بعد ما ذكر الحكم المذكور قال: «للنهي عن إبطال العمل و هو في النافلة للكراهة، و لأنّ الصلاة على ما افتتحت عليه، و لأنّ الأصل بقاء الصحّة فيستصحب»(4).

و يشكل الأوّل بمنع صدق الإبطال على فرض تسليم عموم تحريمه النوافل فيما نحن فيه بعد ملاحظة تحريم التنفّل في وقت الفريضة، فإنّه يقضي بالبطلان و معه لا إبطال. و بذلك يظهر ما في استصحاب الصحّة إلاّ أن يمنع عموم النهي عن التنفّل لما نحن فيه، بدعوى ظهور النصوص الواردة به في ابتداء النافلة فلا تشمل ما خرج وقتها و صادفت وقت

ص: 211


1- الرياض 50:3.
2- كالشهيدان في الذكرى 367:2، و روض الجنان 491:2، و الكركي في جامع المقاصد 21:2، و البحراني في الحدائق 223:6.
3- السرائر 202:1.
4- جامع المقاصد 21:2.

الفريضة في الأثناء، أو يقال: باختصاصها بصورة تضيّق الفريضة، أو بمنع شمولها للرواتب.

و الأوّل غير بعيد وفاقا للسيّد في الرياض(1) و حينئذ فلا إشكال في نهوض تحريم الإبطال لو لا انتقاضه بما ذكروه في نافلتي الظهرين من قصر إكمال ما خرج وقتها بعد التلبّس بركعة منها على تمام الركعة و عدم كفاية ما دونها، فإنّ تحريم الإبطال يجري فيما دون الركعة أيضا، إلاّ أن يعتذروا بظهور النصّ ثمّة و هو موثّقة عمّار المتقدّمة في عدم مزاحمة ما دونها الموجب لخروجه عن عموم تحريم الإبطال و هو كذلك، غير أنّ الرواية حينئذ تكشف عن دخول ما دخل وقت الفريضة في أثنائه في تحريم النافلة في وقت الفريضة و إن قصر عن إفادته النصوص الواردة فيه.

و أمّا أنّ الصلاة على ما افتتحت عليه فضعيف أيضا، و استصحاب الصحّة أضعف، إذ لا معنى للصحّة بعد انكشاف البطلان كما عرفت، أو لسريان الشكّ فيه إلى زمان اليقين بناء على القول بالمنع و أمّا على ما سنحقّقه من إثبات المشروعيّة فلا إشكال فتعيّن الإتمام فالمسألة محلّ إشكال، و للتوقّف فيها مجال.

و أشكل منها ما لو علم في وقت النافلة بالمزاحمة في الأثناء لو شرع في النافلة بسبب خروج وقتها، فهل يشرع له الشروع فيها على قول الجماعة في المسألة المذكورة أو لا؟ فعلى ما ذكره الجماعة يتّجه الجواز لابتنائه على عدم تناول النهي عن النافلة في وقت الفريضة للمزاحمة الأثنائيّة، و على ما ذكرناه فالإشكال، و لعلّ الأقوى المنع لتعدّد قصد القربة مع الشكّ في المشروعيّة.

[المسألة الثالثة: وقت الوتيرة]

المسألة الثالثة: وقت الوتيرة بعد العشاء و يمتدّ بامتداد وقت الفريضة بلا خلاف أجده، و عن شرح(2) رسالة صاحب المعالم «و كأنّه لا خلاف فيه» و في المعتبر(3) «و عليه علماؤنا» و عن المنتهى(4) «و هو مذهب علمائنا أجمع» و علّل بأنّها نافلة للعشاء فتكون مقدّرة بوقتها، و عن الشيخين في المقنعة(5) و النهاية(6) و أتباعهما(7) أنّه ينبغي أن يجعلهما خاتمة نوافله، و في شرح الدروس للفاضل «و هو مشهور بين الأصحاب»(8) و لا بأس به

ص: 212


1- الرياض 83:3-84.
2- نقله عنه في مفتاح الكرامة 115:5.
3- المعتبر 54:2.
4- المنتهى 97:4.
5- المقنعة: 118.
6- النهاية: 60.
7- كابن حمزة في الوسيلة: 83.
8- شرح الدروس 557:1.

من جهة التسامح و إن صرّح به غير واحد من المتأخّرين و متأخّريهم(1) بعدم معلوميّة مستنده، و لو جعلنا فتوى الشيخ في النهاية رواية مرسلة اتّضح المستند.

و يستحبّ القراءة في ركعتي الوتيرة بالواقعة في الاولى و التوحيد في الثانية، كما في كلام جماعة(2) لما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن أبي عمير قال: «كان أبو عبد اللّه عليه السّلام يقرأ في الركعتين بعد العشاء الواقعة و التوحيد»(3).

[المسألة الرابعة: وقت صلاة الليل]

المسألة الرابعة: وقت صلاة الليل من انتصاف الليل إلى طلوع الفجر كلّما قرب من الفجر كان أفضل.

أمّا الحكم الأوّل: فلا خلاف فيه بين علمائنا كما في كلام غير واحد(4) و في المعتبر(5)«و عليه علماؤنا أجمع» و عن المنتهى(6) «ذهب إليه علماؤنا أجمع» و في جامع المقاصد «هذا مذهب الأصحاب. ثمّ قال: و نقل الشيخ في الخلاف(7) و المحقّق(8) نجم الدين عليه الإجماع»(9) و في المدارك(10) هو مذهب علمائنا أجمع، للنصوص المستفيضة الّتي تقدّم جملة منها عند ذكر عدد النوافل، ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال:

«و تصلّي بعد المغرب ركعتين، و بعد ما ينتصف الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر و منها ركعتا الفجر...»(11) الخ.

و رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا صلّى العشاء آوى إلى فراشه و لم يصلّ شيئا حتّى ينتصف الليل. قال: و قال أبو جعفر عليه السّلام: وقت صلاة الليل ما بين نصف الليل...»(12) إلى آخره.

و صحيحة ابن اذينة عن عدّة أنّهم سمعوا أبا جعفر عليه السّلام يقول: «كان أمير المؤمنين لا يصلّي من النهار حتّى تزول الشمس، و لا من الليل بعد ما يصلّي العشاء حتّى ينتصف الليل»(13).

ص: 213


1- الحدائق 223:3.
2- كالمدارك 75:3، و الحدائق 84:3.
3- الوسائل 1/112:6، ب 45 أبواب القراءة، التهذيب 433/116:2.
4- كالسرائر 195:1، و تحرير الأحكام 27:1، و البيان 49 و الروضة 491:1 و الروض 492:2.
5- المعتبر 54:2.
6- المنتهى 97:4.
7- الخلاف 118:1.
8- المعتبر 54:2.
9- جامع المقاصد 21:2.
10- المدارك 76:3.
11- الوسائل 1/59:4، ب 14 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 13/7:2.
12- الوسائل 1/248:4 و 2، ب 43 من أبواب المواقيت، الفقيه 1378/302:1 و 1379.
13- الوسائل 5/230:4، ب 36 من أبواب المواقيت، التهذيب 1060/266:2.

و صحيحة فضيل عن أحدهما عليهما السّلام «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي بعد ما ينتصف الليل ثلاث عشرة ركعة»(1).

و رواية محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا صلّى العشاء الآخرة آوى إلى فراشه فلا يصلّي شيئا إلاّ بعد انتصاف الليل لا في شهر رمضان و لا في غيره»(2).

و المرسل عن أبي جعفر عليه السّلام في صفة صلاة رسول اللّه «ثمّ آوى رسول اللّه إلى فراشه، و لم يصلّ شيئا حتّى يزول نصف الليل، فإذا زال نصف الليل صلّى ثمان ركعات، و أوتر في الربع الأخير من الليل بثلاث ركعات»(3).

و رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان عليّ عليه السّلام لا يصلّي من الليل شيئا إذا صلّى العتمة حتّى ينتصف الليل، و لا يصلّي من النهار حتّى تزول الشمس»(4).

و الروايات المخالفة لها في الدلالة على أنّ وقتها آخر الليل(5) أو السحر(6) أو الثلث(7)الباقي أو نحو ذلك فمحمولة على الفضيلة، كما حمل عليه أيضا ما عن الصدوق في الهداية(8)من أنّ وقت صلاة الليل الثلث الأخير من الليل، كما أنّ الدالّة منها على جواز إيقاعها قبل انتصاف(9) الليل محمولة على الرخصة في التقديم لمن تفوته لو أخّرها كما ستعرفه.

ثمّ إنّ ظاهر فتاوي(10) الأصحاب و معاقد الإجماعات(11) المصرّح به في كلام غير واحد أنّ المراد بالفجر هو الثاني، و ربّما نسب إلى الأكثر أيضا. و ربّما يكون في صحيحة

ص: 214


1- الوسائل 3/248:4، ب 43 من أبواب المواقيت، التهذيب 442/117:2.
2- الوسائل 4/248:4، ب 43 من أبواب المواقيت، التهذيب 443/118:2.
3- الوسائل 6/61:4، ب 14 من أبواب أعداد الفرائض، الفقيه 678/146:1.
4- الوسائل 6/231:4، ب 36 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 1061/266:2.
5- الوسائل 6/256:4، ب 45 من أبواب المواقيت، التهذيب 1382/335:2.
6- الوسائل 23/54:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض، عيون الأخبار الرضا عليه السّلام 1/123:2.
7- الوسائل 4/272:4، ب 54 من أبواب المواقيت، التهذيب 1401/339:2.
8- الهداية: 35.
9- الوسائل 13/253:4، ب 44 من أبواب المواقيت، التهذيب 1392/337:2.
10- كما هو صريح السرائر 202:1 و التحرير 178:1 و المختلف 35:2 و جامع المقاصد 21:2.
11- كما في الخلاف 533:1 و المعتبر 54:2 و المنتهى 97:4.

إسماعيل بن سعد الأشعري قال: «سألت الرضا عليه السّلام عن أفضل ساعات الليل ؟ قال: الثلث الباقي»(1) إشارة إلى ذلك لكن عن السيّد المرتضى في الجمل «أنّ وقت صلاة الليل و الشفع و الوتر إلى طلوع الفجر الأوّل»(2).

و وجّهه في الذكرى «بأنّه لعلّ السيّد نظر إلى جواز ركعتي الفجر حينئذ، و الغالب أنّ دخول وقت صلاة يكون بعد خروج وقت اخرى»(3).

ثمّ يزيّفه بالشهرة بالفجر الثاني بين الأصحاب، و برواية إسماعيل بن سعد المشار إليها، و بما مرّ من الأخبار يعني ما مرّ منها في كلامه. لكن ليس فيها تصريح بخلاف ما ذكره السيّد.

و أمّا الحكم الثاني فهو المعروف من مذهب الأصحاب و عن المفاتيح «أنّه المشهور»(4)و عن مجمع البرهان «أنّه لا خلاف فيه»(5) و يشمله ما تقدّم في الحكم الأوّل عن المعتبر(6)و المنتهى(7) و جامع المقاصد(8) و عن الناصريّة(9) و الخلاف(10) و ظاهر التذكرة(11) و حاشية المدارك(12) الإجماع، و استدلّوا عليه بقوله تعالى: وَ بِالْأَسْحٰارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (13) مدحهم تعالى بالاستغفار في الأسحار، و السحر على ما نصّ عليه أهل اللغة(14) «ما قبل الفجر»، و قد صحّ عن الصادق عليه السّلام «أنّه قال: إنّ المراد بالاستغفار هنا الاستغفار في قنوت الوتر»(15).

و صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن ساعات الوقت ؟ فقال: أحبّها إليّ الفجر الأوّل، و سألته عن أفضل ساعات الليل ؟ قال: الثلث الباقي، و سألته عن الوتر بعد الصبح ؟ قال: نعم كان أبي ربّما أوتر بعد ما انفجر الصبح»(16).

ص: 215


1- الوسائل 4/272:4، ب 54 من أبواب المواقيت، التهذيب 1401/339:2.
2- لم نعثر عليه في كتاب جمل العلم و العمل، نعم يكون في كتاب الناصريّات: 230 المسألة: 76.
3- الذكرى 371:2.
4- المفاتيح 93:1.
5- مجمع الفائدة و البرهان 33:2.
6- المعتبر 54:2.
7- المنتهى 97:4.
8- جامع المقاصد 21:2.
9- الناصريّات: 230.
10- الخلاف 533:1.
11- التذكرة 318:2.
12- حاشية المدارك 316:2.
13- آل عمران: 17.
14- الصحاح 678:2 و القاموس المحيط 45:2.
15- الوسائل 7/280:4، ب 10 من أبواب القنوت بلفظ آخر، التهذيب 130:2 و 498.
16- الوسائل 4/272:4، ب 54 من أبواب المواقيت، التهذيب 1401/339:2.

و رواية مرازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: متى اصلّي صلاة الليل ؟ فقال: صلّها آخر الليل، قال: فقلت: فإنّي لا أنتبه فقال: تنتبه مرّة فتصلّيها و تنام و تقضيها، فإذا اهتممت بقضائها بالنهار استنبهت»(1).

و لو لا اشتهار الحكم و الإجماعات المنقولة عليه لأشكل إثباته على الوجه المذكور بهذه النصوص لقصورها عن الدلالة عليه بل أقصاها الدلالة على أفضليّة آخر الليل و لا سيّما بالقياس إلى الوتر.

و مثلها في القصور غيرها كقوله في خبر أبي بصير: «و أحبّ صلاة الليل إليهم آخر الليل»(2).

و قوله عليه السّلام في خبر زرارة: «و ثلاث عشرة ركعات آخر الليل»(3).

و قوله في خبر سليمان بن خالد: «فثمان ركعات من آخر الليل»(4).

و قوله في خبر أعمش: «و ثمان ركعات في السحر، و هي صلاة الليل، و الشفع ركعتان، و الوتر ركعة...»(5) الخ. و قوله في خبر الفضل بن شاذان: «و ثمان ركعات في السحر، و الشفع و الوتر ثلاث ركعات، تسلّم بعد الركعتين، و ركعتا الفجر»(6).

و ربّما يتوهّم المنافاة لأفضليّة ما قرب من الفجر ممّا مرّ من المستفيضة في صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ عليه السّلام الدالّة على أنّهما كانا يصلّيان بعد انتصاف الليل و يبعد أن يكون خلاف الأفضل، و ممّا رواه عمر بن يزيد في الصحيح أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إنّ في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلّي و يدعو اللّه فيها إلاّ استجاب له في كلّ ليلة، قلت:

فأصلحك اللّه فأيّة ساعة من الليل، قال: إذا مضى نصف الليل إلى الثلث الباقي»(7).

و يمكن الذبّ عن الأوّل: بأنّ المراد ممّا بعد الانتصاف في النصوص المشار إليها

ص: 216


1- الوسائل 6/256:4، ب 45 من أبواب المواقيت، التهذيب 1382/335:2.
2- الوسائل 1/59:4، ب 14 من أعداد الفرائض، التهذيب 13/7:2.
3- الوسائل 59/3:4، ب 14 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 12/7:2.
4- الوسائل 16/51:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 8/5:2.
5- الوسائل 25/57:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض، الخصال: 9/603.
6- الوسائل 23/54:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/123:2.
7- الوسائل 1/69:4، ب 26 من أبواب الدعاء، التهذيب 209/117:2.

ما يقابل قبله، و سوقها ظاهر في نفي وقتيّة ما قبل الانتصاف، و إثباتها لما بعده استنادا إلى مواظبة الرسول و عليّ عليهما السّلام على ما بعده، و هو لا ينافي مواظبتهما عليها في آخر الليل لأنّه أيضا ممّا بعد الانتصاف بهذا المعنى.

و عن الثاني: بقوّة احتمال دخول الغاية في المغيّا، بناء على كون المراد بكلمة «إلى» الانتهاء بمعنى ما يبلغه و لا يتجاوزه على ما حقّقناه في الاصول، مع أنّه لا صراحة في الخبر بكون المراد من الصلاة في الخبر خصوص صلاة الليل، و لعلّه صلاة اخرى كصلاة الحاجة، و كون ساعة ممّا بين الانتصاف و الثلث الباقي أو الثاني - على اختلاف النسخ - ممّا يستجاب فيه الدعاء و يستحبّ فيه هذه الصلاة لا يلازم المطلوب كما هو واضح.

و عن ابن الجنيد:(1) أنّه يستحبّ الإتيان بصلاة الليل في ثلاثة أوقات، و قد يعبّر عنه باستحباب التفريق أربعا و أربعا و ثلاث، لقوله تعالى: وَ مِنْ آنٰاءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرٰافَ اَلنَّهٰارِ (2) و لما رواه معاوية بن وهب في الصحيح قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول و ذكر صلاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: كان يأتي بطهور فيخمّر عند رأسه، و يوضع سواكه عند فراشه ثمّ ينام ما شاء اللّه، فإذا استيقظ جلس، ثمّ قلّب بصره في السماء، ثمّ تلا الآيات من آل عمران إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ... (3) الآية ثمّ يستنّ و يتطهّر، ثمّ يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته ركوعه، و سجوده على قدر ركوعه، يركع حتّى يقال: متى يرفع رأسه ؟ و يسجد حتّى يقال: متى يرفع رأسه ؟ ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء اللّه، ثمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران، و يقلّب بصره في السماء، ثمّ يستنّ و يتطهّر، و يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات كما ركع قبل ذلك، ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء اللّه ثمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران، و يقلّب بصره في السماء ثمّ يستنّ و يتطهّر، و يقوم إلى المسجد فيوتر و يصلّي الركعتين ثمّ يخرج إلى الصلاة»(4). [و متى يستنّ يستاك](5)، و لا يخفى مخالفة هذا القول لما تقدّم من قول الأصحاب كمخالفة الرواية المذكورة لما تقدّم من روايات الباب، و إن كانت قد تحمل على كون مضمونها من خواصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 217


1- نقله عنه في المختلف 36:2.
2- آل عمران: 190.
3- طه: 130.
4- الوسائل 1/269:4، ب 53 من أبواب المواقيت، التهذيب 1377/334:2.
5- ما بين المعقوفتين ليس في مصدر الرواية.

و قد يجمع أيضا بأنّ من أراد فعلها دفعة فالأفضل له فعلها آخر الليل، و من أراد فعلها مفرّقة كان الأولى في حقّه مراعاة فعل النبيّ تأسّيا. و قد يحتمل الجمع بأنّ لكلّ من التفريق و آخر الوقت فضلا يختلف باختلاف الترجيح و الاعتبار.

و في المدارك بعد ما ذكر الرواية قال: «و يستفاد من هذه الرواية استحباب فعل النافلة في المسجد»(1).

و فيه نظر: لظهورها في إرادة مسجد البيت لا المعنى المعهود من المسجد، بل قوله عليه السّلام في ذيل الرواية: «ثمّ يخرج إلى الصلاة» مريدا به صلاة الصبح مع الجماعة صريح في ذلك، إلاّ أن يريد من استحبابه في المسجد استحبابه في مسجد البيت.

ثمّ إنّ قضيّة تحديد وقت صلاة الليل بانتصاف الليل عدم جواز تقديمها عليه رخصة و إجزاء، ضرورة عدم جواز الموقّت قبل الوقت.

نعم يجوز تقديمها للعذر كمسافر يصدّه جدّه أو شابّ يمنعه رطوبة رأسه أو غير ذلك من الأعذار الّتي لا يتمكّن معها من فعلها بعد النصف، كما عن الشيخ(2) و جماعة(3) و في المدارك «مذهب أكثر الأصحاب»(4) و عن الخلاف(5) «الإجماع عليه» خلافا لسرائر الحلّي(6)فمنعه مطلقا تعليلا بعدم جواز الصلاة قبل الوقت، و عزى إلى العلاّمة في التذكرة(7)و المختلف(8) و نقل أيضا عن زرارة بن أعين(9) و يظهر من المصابيح(10) قصر الجواز على الشيخ و الشابّ و خائف البرد و الاحتلام و النوم و المسافر و المريض استنادا إلى النصّ و الإجماع.

و العجب عن العلاّمة في المختلف فإنّه على ما حكي من إطلاقه المنع أجاب عن صحيحة معاوية(11) بن وهب الآتية «باختصاصها بمن لا يتمكّن الانتباه و القضاء»(12) فإنّ

ص: 218


1- المدارك 78:3.
2- النهاية 61:1.
3- كالشهيد في البيان: 51، و العلاّمة في التحرير 182:1 و ابن البرّاج في المهذّب 72:1.
4- المدارك 78:3.
5- الخلاف 537:1.
6- السرائر 203:1.
7- التذكرة 85:1.
8- المختلف 51:2.
9- الوسائل 7/256:4، ب 45 من أبواب المواقيت، التهذيب 448/119:2.
10- مصابيح الأحكام: 133.
11- الوسائل 1/255:4 و 2، ب 45 من أبواب المواقيت، التهذيب 447/119:2.
12- المختلف 52:2.

المجوّزين أيضا لا يريدون الجواز في أزيد من صورة العذر الرافع للتمكّن، فإمّا أن يستكشف بذلك موافقة المختلف للأكثر و إن أطلق المنع في العبارة، أو يقال بإنشاء ما ذكره على فرضه محلّ النزاع في صورة عدم التمكّن من الأداء مع التمكّن من القضاء.

و كيف كان فالأقوى ما عليه الأكثر للنصوص، ففي صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: إنّ من نسائنا الجارية تحبّ الخير و أهله، و تحرص على الصلاة فيغلبها النوم، فربّما قضت و ربّما ضعفت عن قضائه، و هي تقوى عليه أوّل الليل، فرخّص لهنّ في الصلاة أوّل الليل إذا ضعفن و ضيّعن القضاء»(1).

و صحيحة ليث المرادي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في الصيف في الليالي القصار، صلاة الليل في أوّل، قال: نعم، نعم ما رأيت، و نعم ما صنعت. قال: و سألته عن الرجل يخاف الجنابة في السفر، أو في البرد فيعجّل صلاة الليل و الوتر في أوّل الليل ؟ قال: نعم»(2).

و صحيحة يعقوب الأحمر قال: «سألته عن صلاة الليل في الصيف و الليالي القصار في أوّل الليل، فقال: نعم ما رأيت، و نعم ما صنعت. ثمّ قال: إنّ الشابّ يكثر النوم فأنا آمرك به»(3).

و صحيحة أبان بن تغلب قال: «خرجت مع أبي عبد اللّه عليه السّلام فيما بين مكّة و المدينة فكان يقول: أمّا أنتم فشابّ تؤخّرون و أمّا أنا فشيخ اعجّل، فكان يصلّي صلاة الليل أوّل الليل»(4).

و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إن خشيت أن لا تقوم في آخر الليل أو كانت بك علّة أو أصابك برد فصلّ و أوتر في أوّل الليل في السفر»(5).

و روايته الاخرى قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن صلاة الليل و الوتر في أوّل الليل في السفر إذا تخوّفت البرد أو كانت علّة ؟ فقال: لا بأس، أنا أفعل إذا تخوّفت»(6).

و رواية عليّ بن سعيد قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن صلاة الليل و الوتر في أوّل الليل

ص: 219


1- الوسائل 1/255:4 و 2، ب 45 من أبواب المواقيت، التهذيب 447/119:2.
2- الوسائل 1/249:4، ب 44 من أبواب المواقيت، التهذيب 446/118:2.
3- الوسائل 17/254:4، ب 44 من أبواب المواقيت، التهذيب 669/168:2.
4- الوسائل 18/254:4، ب 44 من أبواب المواقيت، التهذيب 579/227:2.
5- الوسائل 2/250:4، ب 44 من أبواب المواقيت، التهذيب 578/227:2.
6- الوسائل 8/251:4، ب 44 من أبواب المواقيت، التهذيب 664/168:2.

إذا لم يستطع أن يصلّي في آخره قال: نعم»(1) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و عليها يحمل مطلقات الروايات المرخّصة في التقديم مطلقا، كرواية محمّد بن عيسى قال: «كتبت إليه أسأله يا سيّدي روي عن جدّك أنّه قال: لا بأس بأن يصلّي الرجل صلاة الليل في أوّل الليل، فكتب: في أيّ وقت صلّى فهو جائز إن شاء اللّه»(2).

و رواية الحسين بن عليّ بن بلال قال: «كتبت إليه في وقت صلاة الليل، فكتب عند زوال الليل و هو نصفه أفضل، فإن فات فأوّله و آخره جائز»(3).

و رواية سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بصلاة الليل من أوّل الليل إلى آخره إلاّ أنّ أفضل ذلك إذا انتصف الليل»(4).

و ربّما مال غير واحد من متأخّري المتأخّرين كصاحب الذخيرة(5) و الفاضل الشارح للدروس(6) إلى جواز التقديم مطلقا لأجل هذه الأخبار، و لا يخفى ضعفه.

ثمّ إنّه يظهر من عدّة روايات كون قضائها بالنهار أفضل من فعلها في أوّل الليل لعذر إذا دار الأمر بينهما، و قد أفتى به أيضا جماعة(7) من الأصحاب، بل في شرح الفاضل المتقدّم «هذا الحكم مشهور بين الأصحاب»(8) و نقل دعوى الشهرة عن الذكرى(9) و إرشاد الجعفريّة(10) بل في المدارك(11) نصّ الأصحاب عليه مؤذنا بدعوى الإجماع، بل عن كاشف اللثام(12) التصريح بالإجماع. و من الروايات الدالّة عليه:

رواية محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما قال: «قلت: الرجل من أمره القيام بالليل يمضي عليه الليلة و الليلتان و الثلاث لا يقوم، فيقضي أحبّ إليك أم يعجّل الوتر أوّل

ص: 220


1- الوسائل 4/250:4، ب 44 من أبواب المواقيت، التهذيب 670/169:2.
2- الوسائل 14/253:4، ب 44 من أبواب المواقيت، التهذيب 1393/337:2.
3- الوسائل 13/253:4، ب 44 من أبواب المواقيت، التهذيب 1392/337:2.
4- الوسائل 9/252:4، ب 44 من أبواب المواقيت، التهذيب 607/233:3.
5- الذخيرة: 200.
6- شرح الدروس 557:1.
7- كالسيّد في الرياض 77:3 و الشيخ في النهاية: 61 و العلاّمة في المختلف 52:2.
8- شرح الدروس 559:1.
9- الذكرى 370:2.
10- إرشاد الجعفريّة 65: (المطالب المظفريّة).
11- المدارك 80:3.
12- كشف اللثام 117:3.

الليل ؟ قال: لا بل يقضي و إن كان ثلاثين ليلة»(1).

و رواية معاوية بن وهب في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت: إنّ رجلا من مواليك من صلحائهم شكى إليّ ما يلقى من النوم، فقال: إنّي اريد القيام للصلاة بالليل فيغلبني النوم حتّى اصبح فربّما قضيت صلاة الشهر المتتابع و الشهرين أصبر على ثقله، قال: قرّة عين له و اللّه، و لم يرخّص له في الصلاة في أوّل الليل، و قال: القضاء بالنهار أفضل.

قلت: فإنّ من نسائنا...»(2) الخ و قد تقدّم نقل هذا الذيل في أوّل أحاديث الرخصة في التقديم مع العذر.

ثمّ إنّه إذا طلع الفجر على المتلبّس للنافلة فلا يخلو إمّا أن لا يتلبّس قبله من صلاة الليل بشيء أو تلبّس منها بما دون أربع ركعات، أو تلبّس بأربع، فالصور ثلاث:

أمّا الصورة الاولى: و هي ما طلع عليه و لم يتلبّس منها قبله بشيء فالمعروف بين الأصحاب أنّه يبدأ بفريضة الصبح بعد ما صلّى ركعتي الفجر، و أنّه لا يزاحمها صلاة الليل حينئذ. و بالجملة لا يجوز الابتداء في هذه الصورة بنافلة الليل على أشهر الروايتين كما عن المنتهى(3) و المشهور كما عن الذكرى(4) و جامع المقاصد(5) و إرشاد الجعفريّة(6) و هو مذهب علمائنا كما في المعتبر(7) و مستنده على ما في كلام جماعة صحيحة إسماعيل بن جابر قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أوتر بعد ما يطلع الفجر؟ قال: لا»(8).

قالوا: و إذا امتنع الوتر بعد الفجر امتنع ما قبله بطريق أولى، و تنظّر فيه صاحب الذخيرة(9) لمنع الأولويّة. أقول: و لعلّ وجه الأولويّة، أنّ الوتر لكونه آخر صلاة الليل، فوقته أقرب من طلوع الفجر بل الفضل فيه إيقاعه بين الطلوعين، و إذا لم يجز فعل ما قرب وقته من طلوع الفجر بعد طلوعه ففعل ما بعد وقته منه بعده أولى بعدم الجواز.

و الأولى في وجه الدلالة أن يقال: إنّ الظاهر عدم كون سؤال الراوي عن الإيتار بعد

ص: 221


1- الوسائل 5/256:4، ب 45 من أبواب المواقيت، التهذيب 1295/338:2.
2- الوسائل 1/255:4، ب 45 من أبواب المواقيت، التهذيب 447/119:2.
3- المنتهى 138:4.
4- الذكرى 373:2.
5- جامع المقاصد 41:2.
6- المطالب المظفريّة: 65.
7- المعتبر 60:2.
8- الوسائل 6/259:4، ب 46 من أبواب المواقيت، التهذيب 479/126:2.
9- الذخيرة: 200.

الفجر مع إيقاع ما قبل الوتر قبل الفجر، و إلاّ لم يكن لمنعه عنه وجه، على ما ستعرفه من جواز إكمالها بعد الفجر لمن تلبّس بأربع منها قبله فتوى و نصّا فضلا عن التلبّس بأزيد من الأربع، فيكون سؤالا عن الإيتار بعده في صورة عدم التلبّس بشيء من صلاة الليل قبله، و التعرّض للسؤال عن الإيتار دون ما قبله يعطي كون عدم جواز ما قبله بعد الفجر مفروغا عنه لدى السائل، معلوما عنده من إمامه المسئول عليه السّلام.

و أولى منه في وجه الدلالة ضمّ عدم القائل بالفصل جزما كما صنعه السيّد في الرياض.(1)

و أولى من الرواية المذكورة بالاستدلال صحيحة سعد بن سعد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يكون في بيته و هو يصلّي و هو يرى أنّ عليه ليلا ثمّ يدخل عليه الآخر من الباب، فقال: قد أصبحت، هل يصلّي الوتر أم لا، أو يعيد شيئا من صلاته ؟ قال: يعيد إن صلاّها مصبحا»(2).

و أصرح منهما دلالة رواية مفضّل بن عمر قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أقوم و أنا أشكّ في الفجر، فقال: صلّ على شكّك، فإذا طلع الفجر فأوتر و صلّ الركعتين، و إذا أنت قمت و قد طلع الفجر فابدأ بالفريضة و لا تصلّ غيرها، فإذا فرغت فاقض ما فاتك، و لا يكون هذا عادة، و إيّاك أن تطلع على هذا أهلك فيصلّون على ذلك و لا يصلّون بالليل»(3) و لو لا ضعفها بالمفضّل كانت أوضح دليلا على الحكم المذكور، غير أنّه يمكن دعوى انجبارها بالشهرة مع اعتضادها بعموم المنع عن النافلة في وقت الفريضة.

و استدلّ عليه في المعتبر(4) بصحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن صلاة الليل و الوتر بعد طلوع الفجر؟ فقال: صلّها بعد الفجر حتّى تكون في وقت تصلّي الغداة في آخر وقتها، و لا تعمّد ذلك في كلّ ليلة، و قال: أوتر أيضا بعد فراغك منها»(5)و كأنّه لشيوع إطلاق الفجر على فريضة الصبح كشيوع إطلاق الظهر و العصر و المغرب و العشاء على فرائضها، و هو حسن لو لا قوله عليه السّلام: «حتّى تكون... الخ» الظاهر في الغاية

ص: 222


1- الرياض 86:3.
2- الوسائل 7/259:4 ب 46 من أبواب المواقيت، التهذيب 1402/339:2.
3- الوسائل 4/262:4، ب 48 من أبواب المواقيت، التهذيب 1402/339:2.
4- المعتبر 59:2.
5- الوسائل 1/261:4، ب 48 من أبواب المواقيت، التهذيب 480/126:2.

و الانتهاء، و مفاده الرخصة في فعلها بعد الفجر إلى آخر وقت صلاة الغداة.

و السرّ في التقييد بذلك أنّ النافلة في موضع مزاحمة الفريضة إنّما تزاحمها ما لم يتضيّق وقتها، و مع تضيّقه يتعيّن الإتيان بها لا غير، و قضيّة ذلك كون المراد من الفجر هو الطالع الّذي وقع السؤال عن صلاة الليل و الوتر بعد طلوعه.

و محصّل جوابه عليه السّلام الترخيص في فعلها بعد طلوع الفجر و قبل الفريضة إلى أن يتضيّق وقت الفريضة، و لو لا الحمل على هذا المعنى كانت كلمة «حتّى» و ما بعدها لغوا سواء اريد بها الانتهاء و الغاية أو معنى اللام كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل، و لعلّه رحمه اللّه لم يلحظها في الرواية فزعم دلالتها على عدم المزاحمة بناء على التوجيه المتقدّم.

و بذلك يظهر ضعف ما في الذخيرة قائلا: فإنّ قوله عليه السّلام «صلّها بعد الفجر» محتمل لأمرين:

أحدهما: أن يكون المراد صلّها بعد صلاة الفجر كما فهمه المحقّق.

و ثانيهما: أن يكون المراد به صلّها بعد طلوع الفجر كما فهمه بعض المتأخّرين و يزعم دلالتها على جواز الإتيان بها بعد طلوع الفجر، و الحقّ أنّ ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر بحيث يصلح للدلالة محلّ تأمّل(1) انتهى. فالإنصاف أنّ ما فهمه بعض المتأخّرين كصاحب المدارك(2) من الرواية هو الحقّ الّذي لا محيص عنه من معنى الرواية، فإنّها بملاحظة ما قرّرناه كالصريحة في ذلك.

و قضيّة ذلك عدّ هذه الرواية في عداد الروايات الدالّة بالإطلاق أو بالصراحة على الرخصة في فعلها بعد الفجر و قبل الفرض المعارضة لما تقدّم المخالفة للمشهور الّتي منها هذه الرواية.

و منها: رواية عمر بن يزيد أيضا قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أقوم و قد طلع الفجر، فإن أنا بدأت بالفجر صلّيتها في أوّل وقتها، و إن بدأت بصلاة الليل و الوتر صلّيت الفجر في وقت هؤلاء، فقال: ابدأ بصلاة الليل و الوتر، و لا تجعل ذلك عادة»(3).

و صحيحة سليمان بن خالد قال: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: ربّما قمت و قد طلع الفجر

ص: 223


1- الذخيرة: 201.
2- المدارك 82:3.
3- الوسائل 5/262:4، ب 48 من أبواب المواقيت، التهذيب 477/126:2.

فاصلّي صلاة الليل و الوتر و الركعتين قبل الفجر ثمّ اصلّي الفجر قال: قلت: أفعل أنا ذا؟ قال:

نعم، و لا يكون منك عادة»(1).

و رواية إسحاق بن عمّار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أقوم و قد طلع الفجر و لم اصلّ صلاة الليل ؟ قال: صلّ صلاة الليل و أوتر و صلّ ركعتي الفجر»(2).

و قد يجمع بينها و بين ما تقدّم بحملها على المزاحمة بشرط عدم العادة، كما في الحدائق(3)و الذخيرة(4). و يظهر القول بهذا التفصيل من الصدوق حيث قال: «و قد رويت رخصة في أن يصلّي الرجل صلاة الليل بعد طلوع الفجر المرّة بعد المرّة و لا يتّخذ ذلك عادة»(5).

و عن الشيخ(6) الجمع بينهما بكون هذه رخصة لمن أخّرها لاشتغاله بشيء من العبادات و لا خفاء بعده.

و في المعتبر(7) أنّ اختلاف الفتوى دليل التخيير، يعني التخيير بعد طلوع الفجر بين فعلها قبل الفرض و بعده، و استحسنه في المدارك(8) و غيره، و مراده من اختلاف الفتوى اختلاف فتوى أبي عبد اللّه عليه السّلام في روايتي عمر بن يزيد. و قد ظهر بما بيّنّاه آنفا أنّه لا اختلاف بينهما بل هما بمعنى واحد، ثمّ يكفي في ضعف التخيير أنّه فرع على جواز التعويل على هذه الروايات. و ربّما احتمل إرادة الفجر الأوّل من الفجر كما عن المنتهى(9) في خصوص رواية إسحاق بن عمّار.

و يحتمل صلاة الليل في غير رواية عمر بن يزيد إرادة ما بقي منها بعد التلبّس بأربع قبل الفجر، و هو أيضا بعيد. غير أنّه يكفي في ضعف التعويل على هذه الروايات مع كثرتها و صحّة أسانيد أكثرها و وضوح دلالتها عدم التفات الأكثر إليها، بل في شرح المفاتيح(10)«لكنّ الكلّ مخالف لفتوى الأصحاب» مؤذنا بانعقاد الإجماع على خلافها، فالوقوف مع المشهور لتوقيفيّة العبادة و خروجا عن شبهة حرمة النافلة في وقت الفريضة أولى، بل متعيّن، مع أنّه أحوط.

ص: 224


1- الوسائل 3/261:4، ب 48 من أبواب المواقيت، التهذيب 1403/339:2.
2- الوسائل 6/262:4، ب 48 من أبواب المواقيت، التهذيب 478/126:2.
3- الحدائق 236:6.
4- الذخيرة: 200.
5- الفقيه 486:1 ذيل الحديث 1401.
6- النهاية: 121، التهذيب 126:2.
7- المعتبر 60:2.
8- المدارك 82:3.
9- المنتهى 138:4.
10- مصابيح الظلام 474:5.

و أمّا الصورة الثانية: و هي ما لو طلع الفجر و قد تلبّس منها بما دون الأربع ففي الذكرى(1) «أنّ الحكم فيه كعدم التلبّس» و نحوه في النافع(2) حيث قال: «بدأ بالفريضة و قضى نافلة الليل» و هو ظاهر الشرائع(3) و صريح المعتبر(4) بل فيه «أنّه مذهب علمائنا» و في الحدائق(5) «ظاهرهم الاتّفاق على البدءة بالفريضة» و صرّح بعدم الفرق بين عدم التلبّس و التلبّس بما دون الأربع في جامع المقاصد(6) و لك أن تقول: إنّ من جوّز الابتداء في صورة عدم التلبّس لزمه أن يجوّز الاستدامة هنا بطريق أولى، كما يظهر دعوى الأولويّة من مصابيح(7) السيّد الطباطبائي قدّس سرّه. و من هنا ربّما يورد على المحقّق تهافت كلاميه حيث جوّز الابتداء فيما تقدّم لبنائه على التخيير و منع الإكمال هنا، فتأمّل.

و كيف كان فمستند الحكم لعلّه مفهوم رواية الأحول الآتية، أو عموم النهي عن النافلة في وقت الفريضة اقتصارا فيما خالفه على مورد النصّ و هو التلبّس بالأربع، فإنّه يقضي بالمنع حتّى في صورة التلبّس بالأربع، غير أنّها خرجت عنه بالنصّ و بقى الباقي و منه ما نحن فيه.

و يمكن الاستدلال عليه أيضا بصحيحة سعد بن سعد المتقدّمة(8) فإنّ الأمر بإعادة ما صلّى منها مصبحا يقضي بعدم الرخصة في فعل ما بقي منها بعدم الصبح كما لا يخفى، و هذا و إن كان يشمل صورة التلبّس بأربع منها قبل الصبح، غير أنّه خرج بالنصّ و الإجماع. هذا إذا لم يكن في أثناء الركعتين، و إلاّ ففي وجوب القطع كما هو مقتضى إطلاق فتوى الأصحاب في عنوان هذه الصورة بعدم المزاحمة و البدءة بالفريضة أو إكمالهما وجهان:

من عموم المفهوم المشار إليه المؤيّد بأنّ وجه المنع عن الإتمام في غير أثناء الركعتين إنّما هو مزاحمة الفريضة و هي حاصلة في أثنائهما أيضا.

و من عموم النهي عن إبطال العمل، و قيل: إنّ هذا الفرع لم يتعرّض له الأكثر، نعم ذكره صاحب الرياض و المجمع من دون ترجيح.

و أمّا الصورة الثالثة: و هي ما لو طلع عليه الفجر و قد تلبّس منها بأربع فحكمها أنّها

ص: 225


1- الذكرى 372:2.
2- النافع: 23.
3- الشرائع 174:1.
4- المعتبر 60:2.
5- الحدائق 235:6.
6- جامع المقاصد 41:2.
7- مصابيح الأحكام: 51.
8- تقدّم في الصفحة: 222 الرقم 2.

تزاحم الفريضة فيكملها مطلقة أو مخفّفة على ما في كلام جماعة(1) و أصل الحكم هو المعروف من مذهب الأصحاب، و عن الشيخ نجيب الدين(2) و كاشف اللثام(3) أنّه المشهور، و عن مجمع الفائدة(4) و البرهان «كأنّه لا خلاف فيه بينهم» و في المدارك(5) «هو مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفا» و عن المنتهى(6) «على ذلك عمل الأصحاب».

و الأصل فيه رواية أبي جعفر الأحول يقال له المؤمن الطاق قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

إذا كنت صلّيت أربع ركعات من صلاة الليل قبل طلوع الفجر، فأتمّ الصلاة طلع أو لم يطلع»(7) و ضعفها بجهالة أبي الفضل النحوي الراوي عن أبي جعفر ينجبر بالعمل.

و أمّا رواية يعقوب البزّاز قلت له: «أقوم قبل الفجر بقليل فاصلّي أربع ركعات، ثمّ أتخوّف أن ينفجر الفجر، أبدأ بالوتر أو اتمّ الركعات ؟ قال: فقال: لا بل أوتر و أخّر الركعات حتّى تقضيها في صدر النهار»(8).

فاختلفت الأنظار فيها من حيث فهم التعارض ثمّ علاجه بالجمع أو الترجيح و عدمه، ففي الذكرى(9) و جامع المقاصد(10) تبعا للشيخ في التهذيبين(11) حملها على الأفضليّة، و ربّما تبعهم غيرهم ممّن تأخّر عنهم، و عن المنتهى(12) أنّها لكونها مضمرة فيترجّح عليها رواية أبي جعفر، و عن كاشف اللثام كما في الحدائق(13) أيضا منع منافاتها المشهور و مخالفتها رواية أبي جعفر معلّلا في كلام محكيّ عنه «بأنّه عليه السّلام إنّما أمر فيه بتقديم الوتر ليدركه في الليل لتظافر الأخبار بالإتيان في الليل كما نطقت بأنّ : من قام آخر الليل و لم يصلّ صلاته و خاف أن يفاجأه الصبح أوتر، و القضاء في صدر النهار أعمّ من فعلها قبل فريضة الصبح و بعدها، فلا اضطرار إلى حمله على أنّ الأفضل التأخير انتهى»(14).

ص: 226


1- كالشهيد في الدروس: 23، و كالشيخ في النهاية 60، و ابن البرّاج في المهذّب 72:1.
2- نقله عنه في مفتاح الكرامة 218:5.
3- كشف اللثام 113:3.
4- مجمع الفائدة و البرهان 36:2.
5- المدارك 82:3.
6- المنتهى 137:4.
7- الوسائل 1/260:4، ب 47 من أبواب المواقيت، التهذيب 475/125:2.
8- الوسائل 1/26:4، ب 47 من أبواب المواقيت، التهذيب 476/125:2.
9- الذكرى 272:2.
10- جامع المقاصد 41:2.
11- التهذيب 476/125:2، و الاستبصار 1/282:1.
12- المنتهى 137:4.
13- الحدائق 234:6.
14- كشف اللثام 113:3.

و ملخّص ما أفاده قدّس سرّه: أنّ مورد رواية الأحول كما هو مفروض المسألة ما لو طلع الفجر بعد الفراغ عن الأربع، و مورد رواية البزّاز ما خيف طلوعه بعد الفراغ عن الأربع مع القطع باتّساع ما بقى من الليل للوتر دون الزائد عليه، و الأمر بالإيتار حينئذ لأجل استحباب إيقاع الوتر فيما بقي من الليل إذا لم يتّسع لغيره على ما ورد به النصوص المستفيضة و أفتى به بعض الأصحاب، ففي رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يقوم من آخر الليل و هو يخشى أن يفاجأه الصبح، أ يبدأ بالوتر أو يصلّي على وجهها حتّى يكون الوتر آخر ذلك ؟ قال: بل يبدأ بالوتر، و قال: أنا كنت فاعلا ذلك»(1) و في معناها غيرها. فمفاد مجموع هذه الروايات مع رواية البزّاز إلى استحباب تقديم الوتر على سائر ركعات صلاة الليل الّتي لا يتّسع لها ما بقى من الليل، سواء فعل منها شيء قبله كما هو مورد رواية البزّاز أو لا كما هو مورد المستفيضة، و هو جيّد.

ثمّ إنّه لا فرق في ظاهر النصّ و الفتوى بين كون التأخير لضرورة أو لغيرها، كما أنّ قضيّة ظاهريهما كون المراد بصلاة الليل الّتي هذا حكمها ما يعمّ ركعتي الشفع و مفردة الوتر، و قد نصّ على كلا الأمرين في حاشية الميسي(2) و المسالك.(3)

و أمّا اعتبار التخفيف فقد ذكره في الشرائع(4) و تبعه غير(5) واحد ممّن تأخّر، و لعلّ مستنده الاحتياط بناء على الاقتصار في الحكم المخالف للنهي عن النافلة في وقت الفريضة على موضع اليقين. و هو حسن لو لا إطلاق رواية الأحول، كأنّه لذا تركه الأكثر.

و قد يستدلّ بخبر إسماعيل بن جابر أو عبد اللّه بن سنان قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

إنّي أقوم آخر الليل و أخاف الصبح، قال: اقرأ الحمد و اعجل اعجل»(6) لأولويّة ما بعد الصبح بالقياس إلى ما قبله. و ضعفه غير خفيّ فإنّ استحباب التخفيف و التعجيل في آخر الليل محافظة على الوقت لإدراك فضيلته لا يلازم استحبابهما في ما بعد الوقت فضلا عن كونه أولى.

و بقي في المقام تقسيم آخر: و هو أنّه إذا قام المتنفّل في آخر الليل، فإمّا أن يظنّ اتّساع

ص: 227


1- الوسائل 2/257:4، ب 46 من أبواب المواقيت، التهذيب 274/125:2.
2- نقله عنه في مفتاح الكرامة 218:5.
3- المسالك: 137.
4- الشرائع 172:1.
5- كالشهيد في الدروس: 22، و البحراني في الحدائق 233:6.
6- الوسائل 1/257:4، ب 46 من أبواب المواقيت، التهذيب 273/124:2.

الوقت لتمام صلاة الليل، أو يظنّ ضيقه عن التمام، أو يشكّ في السعة و الضيق.

فإن ظنّ الاتّساع و شرع في الصلاة فإن صحّ ظنّه فلا إشكال، و إن انكشف فساد ظنّه فإن كان قد صلّى أربعا أو أزيد أتمّ صلاته بعد الفجر كما عرفت لشمول العنوان المتقدّم هذا الفرض فتوى و نصّا، و إن كان صلّى أقلّ من الأربع بدأ بالفريضة و أخّرها إلى ما بعد الفرض كما اتّضح ذلك في الصورة الثانية لشمول عنوان هذه الصورة لمثل ذلك، لكن قد يذكر لذلك وجوه: أحدها: الاستمرار. و ثانيها: قطع الصلاة و الإتيان بها بعد الفريضة. و ثالثها: أن يصلّي الوتر و ركعتي الفجر و يؤخّر الباقي. و رابعها: أن يضيف إلى ما فعل ما يكمله وترا، و يقضي صلاة الليل كلّها بعد الفريضة، و قد يوجد في الروايات ما يساعد على بعض هذه الوجوه، لكن عمل الأصحاب ظاهرا على ثاني الوجوه كما عرفت.

و إن ظنّ الضيق يبدأ في الصلاة و يستمرّ عليها إن كان قد صلّى أربعا قبل الفجر و إلاّ أخّر الباقي إلى ما بعد الفرض، و قد يذكر هنا وجوه كثيرة كما في المصابيح(1) لا جدوى في بيانها هنا.

و من هنا تعلم الحكم في صورة الشكّ أيضا، من حيث الابتداء بصلاة الليل ثمّ الإكمال أو تأخير الباقي إلى ما بعد الفريضة، و اللّه العالم.

[المسألة الخامسة: وقت ركعتي الفجر]

المسألة الخامسة: في وقت ركعتي الفجر، و لا خلاف ظاهرا في كون ما بين الفجرين وقتا لها، بل في مصابيح السيّد «و أمّا ركعتا الفجر فما بين الفجرين وقت لهما بالإجماع و النصوص»(2) و إنّما الخلاف في مقامين:

المقام الأوّل في أوّل وقتهما: فالمشهور بين الأصحاب المحكيّ فيه الشهرة في كلام جمع من الأساطين أنّه عند الفراغ عن صلاة الليل و إن كان ذلك قبل طلوع الفجر الأوّل كما عن الصدوق(3) و الشيخين في المقنعة(4) و النهاية(5) و الجمل(6) و ابن البرّاج(7)و ابن حمزة(8) و ابن زهرة(9) و ابن إدريس(10) و عامّة المتأخّرين(11) و عن ظاهر السرائر(12)

ص: 228


1- مصابيح الأحكام: 133.
2- مصابيح الأحكام: 134.
3- الفقيه 493:1.
4- المقنعة: 91.
5- النهاية: 61.
6- الجمل و العقود: 60.
7- المهذّب 70:1.
8- الوسيلة: ينابيع الفقهيّة 577:4.
9- الغنية: 72.
10- السرائر 195:1.
11- كالعلاّمة في التذكرة 77:1 و الشهيد في الذكرى، و السيّد في المدارك 83:3 و الشهيد الثاني في روض الجنان 493:2.
12- السرائر 203:1.

و الغنية(1) و المنتهى(2) الإجماع عليه، لكن عن الصدوق(3) «أنّه كلّما قرب من الفجر كان أفضل» و عن المعتبر(4) «أنّ تأخيرها حتّى يطلع الفجر الأوّل أفضل».

خلافا لجماعة كالسيّد المرتضى(5) و السلاّر بن عبد العزيز(6) و الشيخ في المبسوط(7)فجعلوا أوّله بعد طلوع الفجر الأوّل، و هو ظاهر الشرائع(8) و إن قال فيه: «و يجوز أن يصلّيهما قبل ذلك» لكونه محمولا على إرادة الرخصة في التقديم كما ثبت نظيره في صلاة الليل حيث رخّص تقديمها على انتصاف الليل للمعذور.

و المعتمد ما هو المشهور المنصور، لشهادة المستفيض من النصوص المعتبرة.

ففي صحيح أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: «سألت الرضا عليه السّلام عن ركعتي الفجر؟ قال:

احشوا بهما صلاة الليل»(9).

و صحيح ابن أبي نصر أيضا قال: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام: ركعتي الفجر اصلّيهما قبل الفجر و بعد الفجر؟ فقال: قال أبو جعفر عليه السّلام: احش بهما صلاة الليل، و صلّهما قبل الفجر»(10).

و الحسن لإبراهيم بن هاشم بل الصحيح عن زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: الركعتان اللتان قبل الغداة، أين موضعهما؟ فقال: قبل طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر فقد دخل وقت الغداة»(11).

و صحيح محمّد بن مسلم قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: صلّ ركعتي الفجر قبل الفجر و بعده و عنده»(12).

و صحيح ابن أبي يعفور قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ركعتي الفجر متى اصلّيهما؟ فقال: قبل الفجر و معه و بعده»(13).

ص: 229


1- الغنية: 72.
2- المنتهى 100:4.
3- الفقيه 493:1.
4- المعتبر 55:2.
5- نقله عنه العلاّمة في المختلف 36:2، و المحقّق في المعتبر 56:2.
6- المراسم: 81.
7- المبسوط 76:1.
8- الشرائع 175:1.
9- الوسائل 1/263:4، ب 50 من أبواب المواقيت، التهذيب 511/132:2.
10- الوسائل 6/265:4، ب 50 من أبواب المواقيت، التهذيب 516/133:2.
11- الوسائل 7/265:4، ب 50 من أبواب المواقيت، التهذيب 1389/336:2.
12- الوسائل 1/268:4، ب 52 من أبواب المواقيت، التهذيب 518/133:2.
13- الوسائل 2/268:4، ب 52 من أبواب المواقيت، التهذيب 519/134:2.

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّما على أحدكم إذا انتصف الليل أن يقوم فيصلّي صلاته جملة واحدة ثلاث عشر ركعة، ثمّ إن شاء جلس فدعا، و إن شاء نام، و إن شاء ذهب حيث شاء»(1).

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «و بعد ما ينتصف الليل ثلاث عشر ركعة منها الوتر»(2).

و صحيح الحارث النضري «و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي ثلاث عشرة ركعة من الليل»(3).

و موثّقة زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «و ثلاث عشر ركعة من آخر الليل منها الوتر و ركعتا الفجر»(4).

و صحيح محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن أوّل وقت ركعتي الفجر؟ قال:

سدس الليل الباقي»(5) و لعلّ الوجه في ذلك أنّ الفضل في صلاة الليل إيقاعها في السدس الباقي من الليل.

و رواية ابن بابويه مرسلا عن أبي جعفر عليه السّلام في صفة صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «و يصلّي ركعتي الفجر قبل الفجر و عنده و بعيده، ثمّ يصلّي ركعتي الصبح و هي الفجر إذا اعترض الفجر و أضاء حسنا»(6).

و رواية رجاء بن أبي ضحّاك في صفة صلاة الرضا عليه السّلام «فإذا قرب الفجر قام فصلّى ركعتي الفجر، و يقرأ في الاولى الحمد و قل يا أيّها الكافرون، و في الثانية الحمد و قل هو اللّه أحد، فإذا طلع الفجر أذّن و أقام و صلّى الغداة بركعتين...»(7) الخ إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و ليس في باقي نصوص الباب ما يعارض الأخبار المذكورة عدى صحيحة عبد الرحمن ابن الحجّاج قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: صلّهما بعد ما يطلع الفجر»(8). و رواية يعقوب بن

ص: 230


1- الوسائل 2/495:6، ب 35 من أبواب التعقيب، التهذيب 533/137:2.
2- الوسائل 3/156:4، ب 10 من أبواب التعقيب، التهذيب 1045/262:2.
3- الوسائل 9/48:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 16/9:2.
4- الوسائل 3/59:4، ب 14 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 12/7:2.
5- الوسائل 5/265:4، ب 50 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 515/133:2.
6- الوسائل 6/61:4، ب 14 من أبواب أعداد الفرائض، الفقيه 678/146:1.
7- الوسائل 24/55:4، ب 13 من أبواب أعداد الفرائض، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 180/181:2.
8- الوسائل 5/267:4، ب 51 من أبواب المواقيت، التهذيب 523/134:2.

سالم البزّاز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال: صلّهما بعد الفجر و اقرأ في الاولى قل يا أيّها الكافرون، و في الثانية قل هو اللّه أحد»(1).

و حمل الفجر فيهما على الفجر الأوّل ليناسبا ما تقدّم، و في كلام جماعة(2) احتمال كونهما مستند السيّد و الشيخ في القول بكون وقتهما بعد الفجر الأوّل.

و قد يحمل الخبران بعد حمل الفجر على الأوّل على أنّ الأفضل تأخيرهما حتّى يطلع الفجر الأوّل.

و يزيّفه - مع أنّ هذا الحمل لا يتمشّى في رواية أبي بكر الحضرمي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام فقلت: متى اصلّي ركعتي الفجر؟ فقال: حين يعترض الفجر و هو الّذي يسمّيه العرب بالصديع»(3) بناء على أنّ الصديع هو الصبح -: ظهور الفجر حيثما اطلق في أخبار أهل البيت عليهم السّلام في الفجر الثاني، بل هو المعنى المعهود لدى أصحاب الأئمّة على ما يظهر من ملاحظة رواياتهم، بل عند عامّة المتشرّعة.

فالعدول عنه إلى غيره لا بدّ له من شاهد مفقود في المقام، كيف و لا داعي إليه إلاّ توهّم الجمع.

و يدفعه منع التعارض رأسا، لوضوح أنّ الفعل إذا كان موسّعا صحّ الأمر به في كلّ جزء من أجزاء وقته، و ستعرف امتداد وقت هذه النافلة إلى طلوع الحمرة المشرقيّة. فالنظر في النصوص المتقدّمة إنّما هو في أوائل وقتها، و في الخبرين و غيرهما في أواخره. و لعلّ اختلاف النظر لاختلاف حال الرواة السائلين، و من جملة ذلك ابتلاء بعضهم بموجب التقيّة.

و قد قيل(4): إنّ مذهب جمهور العامّة و أكثرهم تأخير هاتين الركعتين إلى ما بعد طلوع الفجر الثاني، فمن الجائز كون تعيين ما بعد طلوع الفجر في الخبرين، و رواية أبي بكر الحضرمي للجمع بين وظيفتي الوقت و التقيّة، إذ به تتأدّى النافلة في وقتها و يتأدّى موجب التقيّة أيضا.

و ربّما يستشهد للتقيّة برواية أبي بصير قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: متى اصلّي ركعتي

ص: 231


1- الوسائل 6/267:4، ب 51 من أبواب المواقيت، التهذيب 521/134:2.
2- منهم السبزواري في الذخيرة: 201، و العاملي في المدارك 85:3.
3- الوسائل 10/268:4، ب 51 من أبواب المواقيت، التهذيب 517/133:2.
4- الذخيرة: 201.

الفجر؟ قال: فقال لي: بعد طلوع الفجر، قلت له: إنّ أبا جعفر أمرني أن اصلّيهما قبل طلوع الفجر، فقال: يا أبا محمّد إنّ الشيعة أتوا أبي مسترشدين فأفتاهم بمرّ الحقّ ، و أتوني شكّاكا فافتيهم بالتقيّة»(1).

و ربّما أمكن أن يستفاد من هذه الرواية - مضافا إلى ما سيأتي - كون ما قبل الفجر بالقياس إلى هاتين الركعتين أفضل إن لم يشكل مجامعته لما تقدّم من أفضليّة الوتر فيما بين الفجرين.

و أمّا كون ما قرب من الفجر أفضل كما عرفت عن ابن بابويه(2) أو كون تأخيرهما حتّى يطلع الفجر الأوّل أفضل كما عرفت عن المعتبر(3) فمستندهما من جهة النصوص غير واضح، و لعلّه مستفاد من دليل أفضليّة الوتر فيما بين الفجرين، إذ الوتر لا يتأتّى في وقت فضيلته إلاّ بتأخيرهما إلى أن يطلع الفجر الأوّل، فيلزم من أفضليّة الأوّل أفضليّة الثاني، فتأمّل لتطرّق المنع إلى الصغرى و الكبرى معا. نعم استند في المعتبر(4) لما اختاره بالجمع بين ما دلّ على فعلهما في الليل عقيب صلاة الليل، و ما دلّ على فعلهما بعد طلوع الفجر كالخبرين المتقدّمين، فيحمل الأوّل على الجواز و الثاني على الاستحباب، مع حمل الفجر فيه على الثاني، و فيه ما عرفت.

المقام الثاني في آخر وقتهما: فالمشهور بين الأصحاب كما في كلام جماعة منهم جامع المقاصد(5) و المدارك(6) و الذخيرة(7) و شرح الدروس(8) «أنّه يمتدّ إلى طلوع الحمرة المشرقيّة» و عن ظاهر الغنية(9) و السرائر(10) الإجماع عليه، و ظاهر المحكيّ عن ابن الجنيد(11) انتهاء الوقت بطلوع الفجر الثاني، حيث قال «وقت صلاة الليل و الوتر و الركعتين من انتصاف الليل إلى طلوع الفجر على الترتيب» و في كلام جماعة(12) «أنّه ظاهر اختيار الشيخ في كتابي الأخبار».

و المعتمد هو المشهور عملا بما تقدّم من النصوص الآمرة بفعلهما قبل الفجر و معه

ص: 232


1- الوسائل 2/264:4، ب 50 من أبواب المواقيت، التهذيب 526/135:2.
2- الفقيه 493:1.
3- المعتبر 55:2.
4- المعتبر 55:2.
5- جامع المقاصد 22:2.
6- المدارك 86:3.
7- الذخيرة: 201.
8- شرح الدروس 562:1.
9- الغنية: 72.
10- السرائر 196:1.
11- نقله عنه في المختلف 36:2.
12- منهم العاملي في مفتاح الكرامة 121:5، و السبزواري في الذخيرة: 201.

و بعده، فإنّ إطلاق البعد يتناول طلوع الحمرة أيضا، مضافا إلى ما سمعت من صحيح ابن الحجّاج و صحيح ابن سالم و رواية الحضرمي و رواية الحسين بن أبي العلاء قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يقوم و قد نوّر بالغداة، قال: فليصلّ السجدتين اللتين قبل الغداة ثمّ ليصلّ الغداة»(1) و رواية إسحاق بن عمّار عن الصادق عليه السّلام «عن الركعتين اللتين قبل الفجر؟ قال: قبل الفجر و معه و بعده، قلت: و متى أدعهما حتّى أقضيهما؟ قال: إذا قال المؤذّن: قد قامت الصلاة»(2).

و أمّا الانتهاء بطلوع الحمرة فلصحيحة عليّ بن يقطين قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل لا يصلّي الغداة حتّى يسفر و يظهر الحمرة، و لم يركع ركعتي الفجر أ يركعهما أو يؤخّرهما؟ قال: يؤخّرهما»(3).

و مستند الشيخ صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن ركعتي الفجر قبل الفجر أو بعد الفجر؟ فقال: قبل الفجر أنّهما من صلاة الليل ثلاث عشرة ركعة صلاة الليل، أ تريد أن تقايس ؟ لو كان عليك من شهر رمضان أ كنت تطوّع إذا دخل عليك وقت الفريضة ؟ فابدأ بالفريضة»(4) و قد يضاف إليها صحيحة ابن أبي نصر(5) و حسنة زرارة(6)المتقدّمتان في المقام الأوّل.

فيجمع بينها و بين ما سبق من الروايات الآمرة بما بعد الفجر بحمل الفجر فيها على الفجر الأوّل، فيراد بما بعد الفجر ما بعد الفجر الأوّل.

و فيه: أنّه ليس بأولى من حمل الأمر بما قبل الفجر في هذه الروايات على الأفضليّة، بل هذا أولى و أظهر لعدم استلزامه الاختلاف في الأخبار المعبّرة بلفظ «الفجر» بإرادة الأوّل منه تارة و إرادة الثاني اخرى، مع ما عرفت من مخالفة الحمل على الأوّل للظاهر الّذي لا يصرف عنه إلاّ لشاهد يصحّ عليه التعويل، و مجرّد الجمع مع معارضته بما ذكرناه و عدم استلزامه الخروج عن نحو هذا الظهور غير صالح له، مع عدم تحمّل بعضها لذلك الحمل

ص: 233


1- الوسائل 4/267:4، ب 51 من أبواب المواقيت، التهذيب 525/135:2.
2- الوسائل 5/269:4، ب 51 من أبواب المواقيت، التهذيب 1408/340:2.
3- الوسائل 1/266:4، ب 51 من أبواب المواقيت، التهذيب 1409/340:2.
4- الوسائل 3/264:4، ب 50 من أبواب المواقيت، التهذيب 513/133:2.
5- تقدّم في الصفحة: 229، الرقم 10.
6- تقدّم في الصفحة: 229، الرقم 11.

كرواية ابن عمّار و غيرها.

نعم، قد يشكل الحال في الحمل على بيان الأفضل من جهة صحيحة زرارة المتقدّمة في مستند قول الشيخ، باعتبار تضمّنها استدلال الإمام عليه السّلام لزرارة على الأمر بما قبل الفجر بوجهين:

أحدهما: كون هذه النافلة من ثلاث عشر ركعة صلاة الليل بقوله: «إنّهما من صلاة الليل...» الخ المقتضي لتعيّن وقوعها في الليل.

و ثانيهما: قياسها على صوم التطوّع الّذي لا يسوغ لمن اشتغل ذمّته بقضاء شهر رمضان بقوله عليه السّلام: «لو كان عليك من شهر رمضان أ كنت تطوّع» بناء على ظهور كون الاستفهام إنكارا، ثمّ بيّن له وجه الحكم في المقيس عليه بقوله: «إذا دخل عليك وقت الفريضة فابدأ بالفريضة» فإنّ هذا كالوجه الأوّل يعطي عدم صلاحية ما بعد الفجر لهذه النافلة.

و في هذه الرواية إشكال آخر خارج عن أصل المسألة، من جهة استدلاله عليه السّلام بالقياس مع أنّه محرّم في مذهب أهل البيت عليهم السّلام و لكنّ الخطب في ذلك سهل باعتبار أنّه صورة قياس اطلق عليها القياس و ليس من القياس المحرّم المعمول به عند العامّة، بل هو في الحقيقة من اتّحاد طريق المسألتين، فمرجع استدلاله عليه السّلام إلى تنظير مسألة مجهولة بمسألة معلومة لدى السائل، لاتّحاد طريقهما و هو حرمة التطوّع على من عليه فريضة صوما كانت أو صلاة، كما يشير إليه قوله عليه السّلام: «إذا دخل عليك وقت فريضة...» الخ، فإنّه في الحقيقة بيان لوجه الحكم في المقيس و المقيس عليه معا لا المقيس عليه فقط، و مثل هذا لا يعدّ قياسا بالمعنى المحرّم.

و أمّا الإشكال الأوّل الوارد على أصل المسألة، فيمكن الذبّ عنه بأنّ استدلاله عليه السّلام بالوجهين لعلّه ردّ على العامّة في قولهم بتعيّن ما بعد الفجر لهذه النافلة بطريق المعارضة، فكأنّهم استندوا في ذلك إلى استحسان و قياس.

أمّا الأوّل: فباعتبار تسمية هذه النافلة بركعتي الفجر، فإنّ إضافتهما إلى الفجر تستدعي إيقاعهما بعد الفجر.

و أمّا الثاني: فلقياسهما باعتبار إضافتهما إلى فريضة الفجر على نوافل سائر الفرائض في اتّحاد وقتها مع وقت فرائضها، و إن اختلفت في وقوع بعضها قبل فريضتها و البعض الآخر

ص: 234

بعد فريضتها، و إذا اتّحد وقت النافلة و الفريضة في سائر النوافل و الفرائض فوجب أن يتّحد في هذه النافلة و فريضتها قياسا، و كأنّه عليه السّلام استظهر من حال زرارة أنّه مضمر للمجادلة له في أمره بما قبل الفجر بما عهده من العامّة في تعيين ما بعد الفجر من الاستناد إلى الاستحسان و القياس المذكورين، كما يومئ إليه قوله عليه السّلام: «أ تريد أن تقايس» فإنّه عتاب عليه بما أضمره فدفع عليه السّلام سؤاله و جداله بالمعارضة بمثل ما أضمره، فاستحسن أوّلا بتعليله عليه السّلام بكونهما من صلاة الليل أتى بالقياس ثانيا. فمعنى قوله عليه السّلام: «أ تريد أن تقايس» أنّه إذا أردت المقايسة فقس هذه النافلة على صوم التطوّع فكما أنّه لا يقع في وقت الفريضة فكذلك النافلة هنا.

فمثل هذا الاستدلال الوارد في مقام ردّ الخصم و دفع حجّته على تعيين ما بعد الفجر لا ينافي صلاحية ما بعد الفجر كما قبله لهذه النافلة، و لا كون أمره عليه السّلام بما قبل الفجر للإرشاد إلى ما هو أفضل الوقتين. و بالتأمّل فيما ذكرناه يظهر أنّ كون هذه النافلة من صلاة الليل لا ينافي صلاحية وقوعها بعد الفجر، و لا أنّ كونها نافلة الفجر ينافي صلاحية وقوعها في الليل، فإنّ الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة. و إن شئت قلت: إنّ هذه النافلة مشتركة بين طرفي الليل و النهار، فمن الليل طرفه الآخر و من النهار طرفه الأوّل، و بهذا الاعتبار صحّ إضافته تارة إلى الليل بإدراجها في صلاة الليل، و اخرى إلى الفجر بالتعبير عنها بركعتي الفجر فليتدبّر.

ثمّ عن الشيخ(1) و جماعة(2) من الأصحاب أنّ الأفضل إعادتهما بعد طلوع الفجر الأوّل إذا صلاّهما قبله، استنادا إلى ما قصر دلالته عليه من وجوه شتّى، كصحيحة حمّاد بن عثمان قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ربّما صلّيتهما و عليّ ليل فإن نمت و لم يطلع الفجر أعدتهما»(3) و موثّقة زرارة بابن بكير قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام: يقول: إنّي لاصلّي صلاة فأفرغ من صلاتي و اصلّي الركعتين فأنام ما شاء اللّه قبل أن يطلع الفجر، فإن استيقظت عند الفجر أعدتهما»(4).

ص: 235


1- المبسوط 132:1.
2- كالشهيد في البيان: 151، و الأردبيلى في مجمع الفائدة 38:2.
3- الوسائل 8/267:4، ب 51 من أبواب المواقيت، التهذيب 527/135:2.
4- الوسائل 9/267:4، ب 51 من أبواب المواقيت، التهذيب 528/135:2.

و نوقش فيهما تارة باختصاصهما بصورة النوم بعدهما قبل طلوع الفجر فالاستدلال بهما على الاستحباب مطلقا غير سديد، و اخرى بظهور الفجر في الفجر الثاني فحمله على الأوّل غير سديد، و في الاولى بعدم تعيّن كون المضمر ركعتي الفجر.

و في كلام غير واحد(1) أنّه يستفاد من الروايتين عدم كراهة النوم بعد صلاة الليل، و هو كذلك غير أنّه عن الشيخ القطع بالكراهة استنادا إلى رواية سليمان بن حفص المروزي قال: «قال أبو الحسن الأخير عليه السّلام: إيّاك و النوم بين صلاة الليل و الفجر و لكن ضجعة بلا نوم، فإنّ صاحبه لا يحمد على ما قدّم من صلاته»(2) و حيث إنّ المسألة من السنن فالعمل بمضمون الرواية أولى و إن كان في سندها ضعف.

ص: 236


1- منهم العاملي في مفتاح الكرامة 123:5، و السيّد السند في المدارك 85:3.
2- التهذيب 137:2 ذيل الحديث: 301.
المبحث الثالث في الأحكام ينبوع
[ينبوع: يجوز قضاء الفرائض اليوميّة و أداء سائر الفرائض في كلّ وقت ما لم يتضيّق وقت الحاضرة]

يجوز قضاء الفرائض اليوميّة و أداء سائر الفرائض حتّى صلاة الأموات في كلّ وقت ما لم يتضيّق وقت الحاضرة، بلا خلاف في شيء من ذلك أجده بين أصحابنا، و قد تكاثر نفي الخلاف في ذلك بل دعوى الإجماع(1) عليه في كلماتهم. و مع ذلك فالنصوص به بالغة فوق حدّ الاستفاضة:

ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر فيمن فاته صلاة قال: «يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها من ليل أو نهار، فإذا دخل وقت صلاة و لم يتمّ ما قد فاته فليقض ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الصلاة الّتي قد حضرت و هذه أحقّ بوقتها فليصلّها، فإذا قضاها فليصلّ ما قد فاته ممّا قد مضى، و لا يتطوّع بركعة حتّى يقضي الفريضة كلّها»(2).

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «أربع صلوات يصلّيها الرجل في كلّ ساعة صلاة فاتتك فمتى ذكرتها أدّيتها، و صلاة ركعتي طواف الفريضة، و صلاة الكسوف، و الصلاة على الميّت هذه يصلّيهنّ الرجل في الساعات كلّها»(3).

و صحيحة معاوية بن عمّار قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: خمس صلوات لا يترك على كلّ حال، إذا طفت بالبيت، و إذا أردت أن تحرم، و صلاة الكسوف، و إذا نسيت فصلّ إذا ذكرت، و الجنازة»(4) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

ص: 237


1- كما في المعتبر 60:2، و المنتهى 139:4، و المدارك 87:3.
2- الوسائل 3/284:4، ب 61 من أبواب المواقيت، التهذيب 1057/265:2.
3- الوسائل 1/240:4، ب 39 من أبواب المواقيت، الفقيه 1265/278:1.
4- الوسائل 4/241:4، ب 39 من أبواب المواقيت، التهذيب 683/172:2.
ينبوع في التطوّع لمن عليه فريضة

و الكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في فعل النافلة في وقت الفريضة الحاضرة، قال في المدارك: «و قد قطع الشيخان(1) و أتباعهما(2) و المصنّف(3) بالمنع من قضاء النافلة مطلقا، و فعل ما عدى الراتبة من النوافل في أوقات الفرائض»(4) و عزي أيضا إلى الوسيلة(5) و السرائر(6) و كتب المحقّق(7) و أكثر كتب العلاّمة(8) و في جامع المقاصد(9) كما عن الروض(10) «هو المشهور بين متأخّري الأصحاب» و في حاشية المدارك(11) دعوى الشهرة العظيمة فيه، و ربّما يظهر من المعتبر(12) كونه مذهب علمائنا.

لكن في الدروس(13) «الأشهر انعقاد النافلة في وقت الفريضة أداء كانت النافلة أو قضاء» مع اختياره الجواز فيه، و في الذكرى(14) كما في جامع المقاصد(15) و حاشية الإرشاد(16) و حاشية الميسي(17) و المسالك(18) و الذخيرة(19) و شرح الدروس(20) و عن

ص: 238


1- المفيد في المقنعة: 23، و الشيخ في النهاية: 62، و المبسوط 76:1.
2- كالقاضى ابن البرّاج في المهذّب 127:1، و ابن حمزة في الوسيلة: 84.
3- المعتبر 60:2.
4- المدارك 188:3.
5- الوسيلة: 84.
6- السرائر 276:1.
7- الشرائع 63:1، و المعتبر 60:2، و المختصر النافع: 23.
8- كالتذكرة 364:2، و المنتهى 139:4، و إرشاد الأذهان 244:1.
9- جامع المقاصد 23:2.
10- روض الجنان 496:2.
11- حاشية المدارك 317:2.
12- المعتبر 60:2.
13- الدروس 142:1.
14- الذكرى 402:2.
15- جامع المقاصد 24:2.
16- حاشية الإرشاد: 11 (مخطوط).
17- حاشية الميسي: نقله عنه في مفتاح الكرامة 125:5.
18- المسالك 145:1.
19- الذخيرة: 202.
20- شرح الدروس 562:1.

مجمع الفائدة و البرهان(1) و المفاتيح(2) و الكفاية(3) و نسبه في الذخيرة إلى ابن الجنيد من قدماء أصحابنا، و يظهر الميل من سيّد المدارك(4) و عن بعض هؤلاء التنصيص على الكراهية، و احتمله صاحب المدارك في الروايات المانعة. و عن التذكرة(5) نفي العلم بالخلاف عن عدم كراهية التنفّل قبل العصر و الصبح لمن لم يصلّهما و هو تطوّع في وقت فريضة، و في مفتاح الكرامة(6) «و قد يفهم ذلك من إجماع الخلاف(7) هناك و شهرة المنتهى(8) القريبة من الإجماع»(9).

ثمّ ينبغي أن يعلم أنّه لا خلاف في عدم جواز النافلة أداء و قضاء مع ضيق وقت الفريضة لتعيّنه لها إجماعا، و وجهه بعد ملاحظة أنّ الواجب لا يترك بالمستحبّ واضح، مع شهادة بعض النصوص كموثّقة سماعة الآتية بذلك، مضافا إلى ظاهر المرويّ في الوسائل عن محمّد بن الحسين الرضيّ في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض. قال: و قال عليه السّلام: إذا أضرّت النوافل بالفرائض فارفضوها»(10).

كما أنّه لا خلاف أيضا في جواز النوافل المرتّبة في أوقاتها المضروبة لها و إن كانت هذه الأوقات أوقات فرائضها أيضا، كنوافل الظهر و العصر و نافلة المغرب بالقياس إلى العشاء على التحقيق المتقدّم من دخول وقتها بالفراغ عن المغرب، فإنّها مستثناة عن عمومات المنع بالنصوص و الإجماع، فانحصر محلّ الخلاف في قضاء النوافل المرتّبة و غيرها و فعل النوافل المبتدأة في وقت فضيلة الفريضة أو وقت إجزائها ما لم يتضيّق، و لذا خصّ النزاع في المدارك(11) و الذخيرة(12) و غيرهما بفعل النوافل الغير الراتبة و قضاء النافلة و إن كانت راتبة.

ثمّ كون المراد بالمنع في كلام المانعين هو المنع التشريعي بناء على عدم ورود الأمر بالنافلة في وقت الفريضة أداء و لا قضاء، أو على عدم شمول عمومات النوافل و عمومات

ص: 239


1- مجمع الفائدة و البرهان 40:2.
2- المفاتيح 97:1.
3- الكفاية: 15.
4- المدارك 88:3-89.
5- التذكرة 334:2.
6- الخلاف 321:1.
7- مفتاح الكرامة 126:5.
8- المنتهى 139:4، لم نجد في المنتهى الشهرة الّتي ادّعاها في مفتاح الكرامة.
9- مفتاح الكرامة 126:5.
10- الوسائل 7/286:4 و 8، ب 61 من أبواب المواقيت، نهج البلاغة 161:3 و 39/221 و 279.
11- المدارك 87:3.
12- الذخيرة: 202.

قضاء النوافل لها في وقت الفريضة و إن كان محتملا، إلاّ أنّ كلماتهم أظهر في إرادة المنع الوضعي أعني عدم صحّة النافلة و عدم انعقادها في وقت الفريضة و إن استلزم ذلك المنع التشريعي أيضا، و في عبارة الدروس(1) المتقدّمة القائلة: «بأنّ الأشهر انعقاد النافلة في وقت الفريضة» شهادة بذلك.

و أمّا احتمال المنع الشرعي على معنى الحرمة الذاتيّة التابعة للمفسدة النفس الأمريّة لتكون النافلة في وقت الفريضة منهيّا عنها بالنهي النفسي الذاتي فهو بمراحل عن كلماتهم، و أكثر روايات المانعين أيضا قاصرة عن إفادته.

و أمّا على ما استظهرناه فوجه عدم الصحّة و عدم الانعقاد لعلّه توهّم كون فراغ الذمّة عن الفريضة من شروط صحّة النافلة أداء و قضاء، إمّا بكونه شرطا للأمر أو قيدا في المأمور به، و عليه فالأصل الّذي يرجع إليه في الموارد المشتبهة مع المجوّزين، لأنّ اشتراط الأمر أو المأمور به بما ذكر مع تسليم الإطلاق بالنسبة إليهما في الروايات الواردة في النوافل و قضاءها خلاف الأصل، لأنّ الأصل هو الإطلاق و عدم التقييد، فلا يصار إلى الاشتراط بأحد الوجهين إلاّ بدليل واضح، و كلامهم في المقام بالنسبة إلى المعنى المراد من المنع وجهته غير محرز.

و كيف كان فحجّة المانعين عدّة روايات قاصرة الدلالات مع قصور أسانيد أكثرها:

كرواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال لي رجل من أهل المدينة: يا أبا جعفر ما لي لا أراك تطوّع بين الأذان و الإقامة كما يصنع الناس ؟ قال: فقلت: إنّا إذا أردنا أن نتطوّع كان تطوّعنا في غير وقت فريضة، فإذا دخلت الفريضة فلا تطوّع»(2).

و رواية سيف بن عميرة عن أبي بكر عن جعفر بن محمّد عليه السّلام قال: «إذا دخل وقت صلاة مفروضة فلا تطوّع»(3).

و رواية أديم بن الحرّ قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا يتنفّل الرجل إذا دخل وقت فريضة، قال: و قال: إذا دخل وقت فريضة فابدأ بها»(4).

ص: 240


1- الدروس 71:1.
2- الوسائل 3/227:4، ب 35 من أبواب المواقيت، التهذيب 661/167:2.
3- الوسائل 7/228:4، ب 35 من أبواب المواقيت، التهذيب 660/167:2.
4- الوسائل 6/228:4، ب 35 من أبواب المواقيت، التهذيب 663/167:2.

و صحيحة زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: اصلّي نافلة و عليّ فريضة أو في وقت فريضة ؟ قال: لا، أنّه لا تصلّي نافلة في وقت فريضة، أ رأيت لو كان عليك من شهر رمضان أ كان لك أن تتطوّع حتّى تقضيه ؟ قال: قلت: لا، قال: فكذلك الصلاة، فقال: فقايسني و ما كان يقايسني»(1).

و رواية معاوية بن عمّار عن نحية قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: تدركني الفريضة و يدخل وقتها فأبدأ بالنافلة ؟ قال: فقال أبو جعفر عليه السّلام: لا، و لكن ابدأ بالمكتوبة و اقض النافلة»(2).

و رواية زياد أبي عتاب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: إذا حضرت المكتوبة فابدأ بها، فلا تضرّك أن تترك ما قبلها من النافلة»(3).

و رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا تصلّ من النافلة شيئا في وقت الفريضة، فإنّه لا تقضى نافلة في وقت فريضة»(4).

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث طويل قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا دخل وقت مكتوبة فلا صلاة نافلة حتّى تبدأ بالمكتوبة»(5).

و يشكل الاستناد إليها في الحكم المخالف للأصل، لما أشرنا إليه من قصور أسانيد أكثرها مع قصور دلالات جميعها.

و توهّم: أنّ قصور الأسانيد ينجبر بالشهرة كما في حاشية المدارك(6) يدفعه - بعد منع تحقّق الشهرة في المنع إن لم ندّع الشهرة في الجواز، خصوصا بين المتأخّرين و متأخّريهم كما عرفت - أنّ الشهرة إنّما تنهض جابرة حيث لم يعلم فساد مستندها من جهة الدلالة، و هي في المقام ناشئة عن الدلالة القاصرة في هذه الروايات، بل الظاهرة عند التحقيق في الجواز و لو بملاحظة الروايات الاخر، فإنّ الظاهر أنّ المراد بوقت الفريضة في رواية محمّد ابن مسلم حيث قال: عليه السّلام «كان تطوّعنا في غير وقت الفريضة...»(7) الخ إنّما هو وقت إرادة

ص: 241


1- مستدرك الوسائل 3: ب 46 من أبواب المواقيت.
2- الوسائل 5/227:4، ب 35 من أبواب المواقيت، التهذيب 662/167:2.
3- الوسائل 4/227:4، ب 35 من أبواب المواقيت، التهذيب 984/247:2.
4- الوسائل 8/228:4، ب 35 من أبواب المواقيت، السرائر: 480.
5- الوسائل 6/285:4، ب 61 من أبواب المواقيت، الذكرى: 134.
6- حاشية المدارك 317:2.
7- الوسائل 3/227:4، ب 35 من أبواب المواقيت، التهذيب 661/167:2.

فعل الفريضة إذا دار الأمر بينها و بين النافلة قضاء أو أداء في غير الراتبة في التقديم و التأخير.

و محصّله أن لا يكون للمكلّف صارف عن الابتداء بالفريضة و لو نحو انتظار انعقاد الجماعة أو حضور الإمام أو نحو ذلك بوجود الداعي له إلى الابتداء بها، و هو يريد التطوّع مع ذلك بشيء من النافلة أداء أو قضاء قبلها.

و الّذي يشهد بذلك صحيحة عمر بن يزيد «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرواية الّتي يروون أنّه لا يتطوّع في وقت فريضة، ما حدّ هذا الوقت ؟ قال: إذا أخذ المقيم في الإقامة، فقال له: إنّ الناس يختلفون في الإقامة، فقال: المقيم الّذي يصلّي معه»(1).

و في معناها موثّقة إسحاق بن عمّار قال: «قلت: اصلّي في وقت فريضة ؟ قال: نعم في أوّل الوقت إذا كنت مع إمام يقتدى به، فإذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة»(2) فإنّ التفصيل بين الوحدة و كونه مع إمام يقتدى به لا جهة له إلاّ أنّ انتظاره لحضور الإمام أو قيامه بالصلاة ليصلّي معه جماعة صارف عن الابتداء بالفريضة حال كونه مريدا للنافلة، بخلافه إذا كان وحده فإنّه لا صارف له حينئذ عن الابتداء بالفريضة و تقديمها على النافلة فتكون أولى بالتقديم.

و بالجملة مورد الرواية بشهادة الروايتين المذكورتين ما لو زاحمت النافلة الفريضة في التقديم و التأخير، و لا ريب في أنّ الفريضة حينئذ أولى بالتقديم.

و السرّ فيه أنّ الفريضة مشتملة على مصلحة ملزمة، و النافلة مشتملة على مصلحة غير ملزمة، و واضح في نظر العقل المستقلّ أنّ ما له مصلحة ملزمة أولى بالتقديم ممّا له مصلحة غير ملزمة عند دوران الأمر بينهما في التقديم و التأخير، و على هذا المعنى يحمل وقت الفريضة في الروايات المشتملة عليها، فيكون الأمر بالبدأة بالفريضة في أكثر الروايات المذكورة للإرشاد إلى هذه الأولويّة الّتي يستقلّ بإدراكها العقل.

و تتأكّد الأولويّة فيما إذا كانت الفريضة في وقت الفضيلة و لزم من تقديم النافلة عليها فوات فضيلتها بخروج وقتها، و هذا كلّه كما ترى لا ينافي جواز البدأة بالنافلة أيضا، و لا فعلها إذا كان له صارف عن البدأة بالفريضة في وقت يريد فيه فعل النافلة لا غير، و هذا

ص: 242


1- الوسائل 9/228:4، ب 35 من أبواب المواقيت، التهذيب 841/283:3.
2- الوسائل 2/226:4، ب 35 من أبواب المواقيت، التهذيب 1052/264:2.

هو معنى الأفضليّة الّتي حملت عليها الروايات المذكورة في كلام المجوّزين.

و ممّا يدلّ على جميع ما ذكرناه أيضا موثّقة سماعة قال: «سألته عن الرجل يأتي المسجد و قد صلّى أهله أ يبتدئ بالمكتوبة أو يتطوّع ؟ فقال: إن كان في وقت حسن فلا بأس بالتطوّع قبل الفريضة، و إن كان خاف الفوت من أجل ما مضى من الوقت فليبدأ بالفريضة و هو حقّ اللّه ثمّ ليتطوّع ما شاء (الأمر)(1) موسّع أن يصلّي الإنسان في أوّل دخول وقت الفريضة النوافل، إلاّ أن يخاف الفريضة، و الفضل إذا صلّى الإنسان وحده أن يبدأ بالفريضة إذا دخل وقتها ليكون فضل أوّل الوقت للفريضة، و ليس بمحظور عليه أن يصلّي النوافل من أوّل الوقت إلى قريب من آخر الوقت»(2).

و قد رويت هذه الرواية بطرق متكرّرة، و في مواضع منها دلالة على الجواز و أنّه ثابت مطلقا ما لم يتضيّق وقت الفريضة، كما أنّ في ذيلها دلالة على أنّ الأفضل في صورة دوران الأمر بينهما من حيث التقديم و التأخير إنّما هو الابتداء بالفريضة، و لذا فرض موضوعه ما إذا صلّى الإنسان وحده، فإنّ التقييد بالوحدة إنّما هو لفرض انتفاء الصارف عن الابتداء بالفريضة على معنى انتفاء الداعي إلى تأخيرها من انتظار حضور إمام أو انعقاد جماعة أو نحوهما، كما أنّ جعل الفضل في البدأة بالفريضة تعليلا بأن يكون فضل أوّل الوقت لها قرينة واضحة على أنّ المراد بالنوافل ما عدى الرواتب في أوقاتها المضروبة لها، لكون الأفضل نصّا و فتوى في أوقات الرواتب البدأة بها لا غير، و في معناها من حيث الدلالة على أنّ الأفضل عند الدوران في التقديم و التأخير في غير وقت الراتبة إنّما هو تقديم الفريضة و تأخير النافلة.

و حسنة محمّد بن مسلم قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إذا دخل وقت الفريضة أتنفّل أو ابدأ بالفريضة ؟ فقال: إنّ الفضل أن تبدأ بالفريضة، و إنّما أخّرت الظهر ذراعا من عند الزوال من أجل صلاة الأوّابين»(3) و المراد بدخول وقت الفريضة في كلام السائل إمّا دخول وقت فضيلة الفريضة بعد خروج وقت النافلة الراتبة، أو حضور وقت يراد فيه الإتيان بالفريضة مع حصول الداعي إلى التنفّل على وجه دوران الأمر بينهما من حيث التقديم و التأخّر.

ص: 243


1- في الكافي بدلها: إلاّ هو 3/288:3.
2- الوسائل 1/226:4، ب 35 من أبواب المواقيت، التهذيب 1051/264:2.
3- الوسائل 2/230:4 و 3، ب 36 من أبواب المواقيت، الكافي 5/298:3.

و في معنى الروايات المذكورة من حيث الدلالة على جواز النافلة مع وجود الداعي إلى تأخير الفريضة المرويّ عن الخصال عن عليّ عليه السّلام في حديث الأربعمائة قال: «من أتى الصلاة عارفا بحقّها غفر له، لا يصلّي الرجل نافلة في وقت فريضة إلاّ من عذر، و لكن يقضي بعد ذلك إذا أمكنه القضاء، قال اللّه تعالى: اَلَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ دٰائِمُونَ (1) يعني الّذين يقضون ما فاتهم من الليل بالنهار، و ما فاتهم من النهار بالليل لا يقضي النافلة في وقت فريضة، ابدأ بالفريضة ثمّ صلّ ما بدا لك»(2).

و بالجملة فالروايات المذكورة بملاحظة الشواهد المزبورة من النصوص لا دلالة فيها على المنع من التطوّع فيما كان هناك صارف عن البدأة بالفريضة، و لا على المنع منه مع وجود الداعي إلى البدأة بها، و لا على أولويّة ترك النافلة و رجحانه بالقياس إلى فعلها في المقامين، بل غايتها الدلالة على أولويّة البدأة بالفريضة عند دوران الامر بين البدأة بها أو بالنافلة، و هي لا تنافي صحّة النافلة و انعقادها في المقامين.

و عليه فالأمر بالبدأة بها في كلّ ما اشتمل عليه من الروايات يحمل على بيان الأولويّة، و النهي عن التطوّع أو التنفّل في كلّ ما اشتمل عليه يحمل على مرجوحيّة البدأة بالنافلة بالإضافة إلى البدأة بالفريضة الغير المستلزمة لمرجوحيّة فعلها بالإضافة إلى تركها، و نفي التطوّع في مثل قوله عليه السّلام «لا تطوّع» على تقدير كونه اسما يحمل على نفي الكمال عن البدأة بالنافلة عند الدوران بينها و بين البدأة بالفريضة، و مرجعه إلى التنبيه على كونها خلاف الأولى.

و أمّا قياس النافلة هنا على تطوّع الصوم لمن عليه قضاء شهر رمضان في المنع على ما تقدّم في صحيحة زرارة الظاهرة في المنع هنا أيضا، فلعلّه لضرب من التقيّة لاحتمال وقوع السؤال في محضر بعض العامّة، فاستعمل عليه السّلام في جوابه القياس تقيّة من دون أن يقصد تعدية المنع الثابت في تطوّع الصوم إلى النافلة، مع احتمال كون مراده عليه السّلام القياس في مجرّد المرجوحيّة و إن كانت هنا إضافيّة بالقياس إلى البدأة بالفريضة في مقام الدوران غير منافية لرجحان الفعل إذا دار الأمر بينهما.

و بالتأمّل فيما نقلنا من الروايات - الظاهرة كالصريحة في الجواز الكاشفة عن حقيقة

ص: 244


1- المعارج: 23.
2- الوسائل 10/228:4، ب 35 من أبواب المواقيت، الخصال: 638.

المراد من الروايات المتوهّم دلالتها على المنع - يعلم أنّه لا مجال لتوهّم أن يقال: إنّ صحّة النافلة في مفروض المسألة و انعقادها في وقت الفريضة فرع على ورود الأمر هنا و لو عموما و هذا موضع منع لأنّه الّذي ينكره المانع، إذ لا يعني من الجواز المكشوف عنه بالروايات المذكورة إلاّ المشروعيّة الّتي لا تكون إلاّ بالأمر الاستحبابي، مع أنّ الروايات العامّة الآمرة بقضاء النوافل المتناولة بعمومها لمثل ما نحن فيه مستفيضة بل قريبة من التواتر.

ففي صحيحة حسّان بن مهران قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قضاء النوافل ؟ قال:

ما بين طلوع الشمس إلى غروبها»(1).

و صحيحة ابن أبي يعفور قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: صلاة النهار يجوز قضاؤها أيّ ساعة شئت من ليل أو نهار»(2).

و حسنة الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «اقض صلاة النهار أيّ ساعة شئت من ليل أو نهار»(3).

و رواية محمّد بن يحيى بن حبيب قال: «كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام تكون عليّ الصلاة النافلة متى أقضيها؟ فكتب: في أيّ ساعة شئت من ليل أو نهار»(4).

و موثّقة أبي بصير قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إن فاتك شيء من تطوّع النهار و الليل فاقضه عند زوال الشمس و بعد الظهر عند العصر و بعد المغرب و بعد العتمة و من آخر السحر»(5).

و رواية عليّ بن جعفر المرويّة عن قرب الإسناد للحميري عن أخيه موسى عليه السّلام «و سألته عن رجل نسي صلاة الليل و الوتر و يذكر إذا قام في صلاة الزوال ؟ قال: ابتدأ بالزوال، فإذا صلّى صلاة الظهر صلّى صلاة الليل و اوتر ما بينه و بين صلاة العصر، أو متى أحبّ »(6) و في معناهما صحيحة محمّد بن مسلم قال: «سألته عن الرجل يفوته صلاة النهار؟ قال: يقضيها إن شاء بعد المغرب و إن شاء بعد العشاء»(7).

ص: 245


1- الوسائل 9/242:4، ب 39 من أبواب المواقيت، التهذيب 1084/272:2.
2- الوسائل 12/243:4، ب 39 من أبواب المواقيت، التهذيب 692/174:2.
3- الوسائل 13/243:4، ب 39 من أبواب المواقيت، التهذيب 691/173:2.
4- الوسائل 3/24:4، ب 39 من أبواب المواقيت، التهذيب 1083/272:2.
5- الوسائل 10277/:4، ب 57 من أبواب المواقيت، التهذيب 642/163:2.
6- الوسائل 1/263:4، ب 49 من أبواب المواقيت، قرب الإسناد: 93.
7- الوسائل 6/241:4، ب 39 من أبواب المواقيت، التهذيب 640/163:2.

و حسنة الحلبي قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل فاتته صلاة النهار متى يقضيها؟ قال:

متى ما شاء، إن شاء بعد المغرب، و إن شاء بعد العشاء»(1) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و يمكن أن يستدلّ عليه بما تقدّم في مواقيت النوافل من النصوص المستفيضة المصرّحة بأنّ النافلة بمنزلة الهديّة متى ما اتي بها قبلت. و يمكن أن يستدلّ على ما يعمّ قضاء الرواتب و أداء غيرها بحسنة محمّد بن عذافر قال: «قال أبو عبد اللّه: صلاة التطوّع بمنزلة الهديّة متى ما اتي بها قبلت، فقدّم منها ما شئت، و أخّر منها ما شئت»(2).

و توهّم أنّ هذه العمومات يخصّصها ما تقدّم من روايات المنع، يدفعه ما عرفت من عدم نهوض هذه الروايات للمنع حتّى تنهض لتخصيص العمومات.

و يمكن أن يستأنس الجواز و المشروعيّة أيضا من النصوص المتفرّقة الواردة باستحباب عدّة صلوات وردت في أوقات الفرائض، كالواردة بين الظهر و العصر خصوصا يوم الجمعة، و بين المغرب و العشاء كصلاة الغفيلة و غيرها ممّا تقدّم، و صلاة الرغائب الواقعة بينهما، و جملة من نوافل ليالي رمضان أيضا فيما بينهما، و صلاة امّ داود الواردة بين الظهرين إلى غير ذلك ممّا اشتمل عليه كتب الأدعية و غيرها. و كذلك النصوص الواردة في صلاة الاحتياط المصرّحة بكونها نفلا و تطوّعا على تقدير عدم النقص في الفريضة المؤدّاة.

و بالجملة يستأنس من مجموع هذه النصوص المتفرّقة عدم كون مبنى النوافل مطلقة في الشريعة على عدم المشروعيّة و لا على الحرمة.

ثمّ إنّه يظهر من تضاعيف كلمات السيّد في الرياض الطعن على الروايات المجوّزة بعدّة من الموهنات المسقطة لها عن درجة الاعتبار على ما توهّمه، مثل وضوح دلالة الأخبار المانعة و أسنادها و اعتضادها بعمل الأصحاب، و بما تقدّم عن المعتبر من النسبة إلى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع و مخالفتها العامّة على ما يستفاد من رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة لمكان قوله: «كما يصنع الناس» و المراد بهم العامّة كما لا يخفى على المتتبّع لأخبار الأئمّة عليهم السّلام ثمّ قوله عليه السّلام: «إنّا إذا أردنا... الخ» حيث جعل ذلك من خواصّهم، و ربّما يومئ إليه الصحيحان المتقدّمان المتضمّنان لقياس الصلاة بالصيام، فإنّ الظاهر أنّ المقصود

ص: 246


1- الوسائل 7/241:4، ب 39 من أبواب المواقيت، التهذيب 639/163:2.
2- الوسائل 8/233:4، ب 37 من أبواب المواقيت، التهذيب 1066/267:2.

منه إنّما هو إثبات ما هم عليه على هؤلاء العبدة للأصنام جدلا معهم بمقتضى مذهبهم في العمل بالقياس، و بذلك يقوى احتمال حمل الأخبار المتقدّمة على تقدير تسليم دلالتها على التقيّة»(1).

و في الجميع ما ترى:

أمّا وضوح الدلالة فلتعيّن الخروج عنها بشهادة ما تقدّم، فإنّ من المقرّر أنّ أخبار الأئمّة عليهم السّلام يفسّر بعضها بعضا. و أمّا وضوح الأسانيد، فيدفعه: أنّ أسانيدها ليست بأوضح من أسانيد الأخبار المجوّزة مع ما عرفت من قصور أسانيد أكثرها. و أمّا اعتضادها بعمل الأصحاب فيدفعه: أنّ عمل الأصحاب إن اريد به الإجماع على العمل بها فمنعه بعد ملاحظة مخالفة ابن الجنيد من المتقدّمين و أكثر المتأخّرين واضح، و إن اريد به الشهرة فقد عرفت ما فيها من عدم كونها بمثابة يعتدّ بها في المقام و لا سيّما مع اشتهار خلافها بين المتأخّرين.

و أمّا الإيذان بدعوى الإجماع في المعتبر فيمكن الاسترابة فيه بمنع شمول ما ادّعاه في المعتبر لمحلّ البحث، لأنّه قال فيه: «و يصلّي الفرائض أداء و قضاء ما لم يتضيّق الحاضرة، و النوافل ما لم يدخل وقت الفريضة و هو مذهب علمائنا» و من الجائز اختصاص ذلك بما عدى الحكم الأخير.

و يؤيّده أنّه قدّس سرّه بعد هذه العبارة أخذ بذكر دليل الحكمين، فقال: «فأمّا الفرائض فعليه إجماع أهل العلم و لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأورد رواية من طرق العامّة و اخرى من طرق الخاصّة. ثمّ قال: و أمّا النوافل فلما رويناه من الأحاديث المانعة من النافلة في وقت الفريضة انتهى»(2)فإنّ تعقيب الفرائض بإجماع أهل العلم دون النوافل ربّما يعطي رجوع ما ادّعاه أوّلا من مذهب أصحابنا إلى جواز فعل الفرائض في وقت الحاضرة فتأمّل، لجواز كون الحكم الأوّل ممّا أجمع عليه الفريقان فلذا خصّه بإجماع العلماء المتناول لغير أصحابنا أيضا، و كون الحكم الأخير ممّا انفرد به أصحابنا و لذا لم يعقّبه بإجماع العلماء، و عليه فيكون قوله «و هو مذهب علمائنا» راجعا إلى حكم النوافل خاصّة.

و حينئذ فالوجه في القدح أن يقال: إنّه على تقدير تسليم إفادته الإجماع المصطلح و هو الكاشف عن الحجّة، و تسليم عدم قدح خلاف ابن الجنيد و استظهار خلافه بين المتأخّرين

ص: 247


1- الرياض 94:3.
2- المعتبر 60:2.

في انعقاد الإجماع الكاشف ليس إلاّ إجماعا نقله العدل، و التحقيق في الإجماع المنقول كخبر الواحد أنّه إنّما يعمل به حيث أفاد الوثوق و الاطمئنان بصدور مؤدّاه عن الحجّة، و هو مع ما عرفت من النصوص المستفيضة الواضحة الدلالة في المشروعيّة الكاشفة عن حقيقة المراد في الأخبار المانعة لا يفيد شيئا من ذلك.

و أمّا مخالفتها العامّة فإنّما تسلم على تقدير سلامة دلالاتها، و قد منعناها بما لا مزيد عليه، و حمل الأخبار المجوّزة على التقيّة ليتوصّل به إلى سلامة دلالة الأخبار المانعة المحرزة فيها المخالفة لمذهب العامّة خروج عن قاعدتهم المقرّرة المتّفق عليها، من أنّ الرجوع إلى المخالفة و الموافقة و الترجيح من جهتهما الّذي مرجعه إلى الترجيح من حيث السند. و الحمل على التقيّة الّذي مرجع إلى الترجيح من حيث جهة الصدور إنّما هو بعد عدم إمكان الجمع و لو من جهة عدم شاهد على الجمع المحتمل، و مع العجز عن الترجيح من حيث الدلالة، و قد عرفت إمكان الجمع بشاهد موجود في النصوص، و وجود الدلالة المعتبرة الكاشفة عن حقيقة المراد من النصوص المانعة، و معه لا معنى للحمل على التقيّة.

و لا ينافيه قوله في رواية محمّد بن مسلم: «إنّا إذا أردنا... الخ» جاعلا لما ذكره عليه السّلام من خواصّهم لأنّ كون الفريضة أولى بالتقديم من النافلة في صورة الدوران، و استحباب البدأة بها حكم مخصوص بهم عليهم السّلام قبالا للعامّة حيث إنّهم لا يراعون هذه الأولويّة و لا يجعلون البدأة بالفريضة أفضل، و هذه المخالفة بين الفريقين لعلّها كافية في توجيه قوله عليه السّلام: «إنّا إذا أردنا... الخ».

المقام الثاني في جواز التنفّل لمن عليه فائتة، ففي الأكثر على ما في الذخيرة(1) المنع عنه، و نسبه فيه أيضا إلى المختلف(2) و أكثر المتأخّرين(3).

و عن ابن الجنيد(4) الجواز، و عزي إلى ابن بابويه(5) حيث جوّز تقديم قضاء ركعتي الفجر على قضاء الغداة استنادا إلى صحيح ابن سنان(6) و خبر أبي بصير(7) الصريحين

ص: 248


1- الذخيرة: 204.
2- المختلف 59:2.
3- كما في الذكرى 42:2، جامع المقاصد 23:2-24، الروض 496:2.
4- نقل عنه في المختلف 21:3.
5- المقنع: 33.
6- الوسائل 1/283:4، ب 61 من أبواب المواقيت، التهذيب 1058/265:2.
7- الوسائل 2/284:4، ب 61 من أبواب المواقيت، التهذيب 1057/265:2.

بذلك، و اختاره الشهيدان(1) و صاحب الذخيرة(2) و الفاضل الشارح للدروس(3) و المولى الأردبيلي(4).

و قد يحتمل كونه ظاهر الأكثر حيث اعتبروا في الرخصة عدم دخول وقت الفريضة الظاهر في وقت الحاضرة، بل عن كاشف اللثام(5) الاعتراف بذلك، و ربّما عزي إلى ظاهر الكليني(6) و غيره(7) حيث أورد روايات نوم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الآتية كالصدوق مع تعقيبه توجيهها بأنّ اللّه تعالى أنام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن صلاة الصبح رحمة للامّة. و هذا هو الأقوى، لعموم أوامر النوافل المتناولة لمن عليه الفائتة و غيره، بل عموم ما تقدّم من نصوص قضاء النوافل المتناولة لمن عليه الفائتة أيضا، و خصوص صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رقد فغلبته عيناه فلم يستيقظ حتّى آذاه حرّ الشمس، ثمّ استيقظ، فعاد ناديه ساعة فركع ركعتين ثمّ صلّى الصبح»(8) فإنّ الظاهر أنّ الركعتين هما ركعتا الفجر.

و صحيح سعيد الأعرج قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ اللّه تبارك و تعالى أنام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن صلاة الفجر حتّى طلعت الشمس، ثمّ قام فبدأ فصلّى الركعتين اللتين قبل الفجر ثمّ صلّى الفجر... الخ»(9).

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا دخل صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتّى تبدأ بالمكتوبة، قال: فقدمت الكوفة، فأخبرت الحكم بن عتيبة و أصحابه فقبلوا ذلك منّي، فلمّا كان في القابل أتيت أبا جعفر عليه السّلام فحدّثني أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عرّس(10) في بعض أسفاره، و قال: من يكلؤنا؟(11) فقال بلال: أنا، فنام بلال و ناموا حتّى طلعت الشمس، فقال: يا بلال، ما أرقدك ؟ فقال: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ بنفسي

ص: 249


1- الذكرى 360:2-361، روض الجنان: 184.
2- الذخيرة: 204.
3- شرح الدروس: 562.
4- مجمع الفائدة 41:2.
5- كشف اللثام 162:1.
6- الكافي 9/294:3.
7- الفقيه 1031/358:1، ب أحكام السهو في الصلاة.
8- تقدّم في الصفحة 248 الرقم 6.
9- الفقيه 1031/358:1.
10- التعريس: نزول المسافر آخر الليل للنوم و الاستراحة، مجمع البحرين 86:4.
11- يكلؤنا: يحفظنا، مجمع البحرين 360:1.

ما أخذ بأنفاسكم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قوموا فتحوّلوا عن مكانكم الّذي أصابكم فيه الغفلة، و قال: يا بلال أذّن، فأذّن، فصلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ركعتي الفجر، ثمّ قام فصلّى بهم الصبح. ثمّ قال: من نسي شيئا من الصلاة فليصلّها إذا ذكرها، فإنّ اللّه تعالى عزّ و جلّ يقول:

أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِذِكْرِي (1) قال زرارة: فحملت الحديث إلى الحكم و أصحابه، فقال: قد نقضت حديثك الأوّل، فقدمت على أبي جعفر عليه السّلام فأخبرته بما قال القوم، فقال: يا زرارة أ لا أخبرتهم أنّه قد فات الوقتان جميعا، و أنّ ذلك كان قضاء من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(2).

و موثّقة أبي بصير أو صحيحه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن رجل نام على الغداة حتّى طلعت الشمس، فقال: يصلّي ركعتين ثمّ يصلّي الغداة»(3).

و عن الشيخ حمل هذا الخبر و سابقه على «أنّه إنّما يجوز التطوّع بركعتين ليجتمع الناس الّذين فاتتهم الصلاة ليصلّوا جماعة كما فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأمّا إذا كان الإنسان وحده فلا يجوز له أن يبدأ بشيء من التطوّع أصلا»(4).

و فيه: أنّ هذا التأويل مع كونه في غاية البعد ممّا لا شاهد عليه و لا داعي إليه أيضا، إلاّ توهّم الجمع بين الأخبار المتعارضة.

و يزيّفه: أنّه ليس بأولى من حمل هذه الأخبار على رجحان فعل النافلة على تركها إذا دار الأمر بينهما عند وجود الصارف عن الابتداء بالفريضة الّذي منه انتظار الجماعة، و رجحان الابتداء بالفريضة الفائتة إذا دار الأمر بينه و بين الابتداء بالنافلة مع حصول الداعي إلى الابتداء بالفائتة، و هو لا ينافي رجحان فعل النافلة بالقياس إلى تركها.

نعم، ربّما يشكل التعويل على ما عدى الخبر الأخير من جهة اشتماله على نوم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الفريضة، و لعلّه غير مناسب لمقام عصمته عليه السّلام. لكن عن الشهيد في الذكرى «لم نقف على رادّ للخبر من حيث توهّم القدح في العصمة انتهى»(5).

و هو كذلك فإنّه غير قادح في العصمة، لا لما قيل: من أنّ النوم أمر مشترك بين المعصوم و غيره فلا يكون نقصا في المعصومين و لا يوجب عيبا عليهم، و إنّما النقص و العيب هو

ص: 250


1- طه: 14.
2- الوسائل 6/285:4، ب 61 من أبواب المواقيت، الذكرى 422:2.
3- الوسائل 2/284:4، ب 61 من أبواب المواقيت، التهذيب 1057/265:2.
4- التهذيب 265:2.
5- الذكرى 423:2.

السهو كما عن المفيد في رسالة نفي السهو قال: في كلام محكيّ له لسنا ننكر أن يغلب النوم على الأنبياء في أوقات الصلاة حتّى يخرج الوقت فيقضوها بعد ذلك و ليس عليهم في ذلك عيب و لا نقص لأنّه ليس ينفكّ بشر من غلبة النوم و لأنّ النائم لا عيب عليه، و ليس كذلك السهو لأنّه نقص عن الكمال في الإنسان... إلى آخر ما ذكره. ليرد عليه أنّ نوم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو أحد من المعصومين صلوات اللّه عليهم عن الواجب سيّما آكد الفرائض نقص عليهم، ينفيه ما دلّ من أخبارهم على كمالهم و كمال عناية اللّه تعالى بهم في تبعيدهم من الزلل، بل الظاهر بعد التأمّل أنّ هذا أنقص من سهو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الركعتين في الصلاة و ما ذكره في رسالة نفي السهو فممنوع، بل العقل و العقلاء يشهدون بكون السهو عن الركعتين في الصلاة أهون من النوم عن فريضة الصبح، و أنّ هذا النائم أحقّ بالتعبير من ذلك الساهي بل ذاك لا يستحقّ تعييرا، و كون نفس السهو نقصا دون نفس النوم لا ينافي كون هذا الفرد من النوم أنقص، لكشفه عن تقصير صاحبه و لو في المقدّمات.

بل لأنّ النوم عن الواجب إنّما يكون نقصا إذا كان من القوّة البهيميّة المودعة في الإنسان، لا من فعل اللّه عزّ و جلّ بأن يكون اللّه تعالى أنام نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن صلاة الصبح لمصلحة خفيّة رآها فيه، و لعلّها لكسر عظم النوم عنها في نظر أصحابه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنّ فيه كمال البينونة بينه و بين الإيمان، أو لردعهم عمّا زعموا من عدم وقوع التطوّع ممّن عليه الفائتة أو غير ذلك ممّا لا نعقله، و هذا هو السبب الداعي إلى عدم ردّ الأصحاب للخبر المذكور كما عرفته أيضا عن الكليني(1) و نسب أيضا إلى الصدوق(2) بل نصّ عليه في خبر ابن سنان كما عرفت.

حجّة المانعين: قوله عليه السّلام في صحيحة زرارة الواردة فيمن فاته شيء من الصلوات:

«و لا يتطوّع بركعة حتّى يقضي الفريضة كلّها»(3).

و صحيحته السابقة المشتملة على مقايسة التطوّع من الصلاة في وقت الفريضة على تطوّع الصوم ممّن عليه قضاء شهر رمضان القاضية بكون القضاء مانعا عن النافلة(4).

ص: 251


1- تقدّم في الصفحة 249، الرقم 6.
2- الفقيه 358:1 /ذيل ح 1031.
3- الوسائل 3/284:4، ب 61 من أبواب المواقيت، التهذيب 1059/266:2.
4- الوسائل 3/264:4، ب 50 من أبواب المواقيت، التهذيب 513/133:2.

و المرسل المنقول عن المبسوط و الخلاف «لا صلاة لمن عليه صلاة» «و لا نافلة لمن عليه صلاة فريضة»(1).

و صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل ينام عن الغداة حتّى تبزغ(2) الشمس، أ يصلّي حين يستيقظ، أو ينتظر حتّى تنبسط الشمس ؟ فقال: يصلّي حين يستيقظ، قلت: يوتر أو يصلّي الركعتين ؟ قال: بل يبدأ بالفريضة»(3).

و في الجميع ما ترى:

أمّا الاولى: فقد عرفت الكلام في نظيرها من تعيّن حمل النهي على المرجوحيّة عند التعارض و الدوران في التقديم و التأخير الغير المنافية لرجحان فعل النافلة على تركها، و مع الغضّ عن ذلك فالأمر دائر بين التأويل فيما تقدّم بحمله على منتظر الجماعة، و التأويل في هذا الخبر بحمل النهي فيه على الإرشاد إلى المرجوحيّة الإضافيّة الغير المنافية للرجحان الذاتي، و هذا أولى من الأوّل في مقام الجمع لشيوع إطلاق نواهي الكتاب و السنّة كأوامرهما في الإرشاد و لا سيّما ما تعلّق منها بالعبادات، بل الأصل في الأوامر و النواهي المتعلّقة بالعبادات على ما تقرّر في الاصول كونها للإرشاد.

و أمّا الثانية: فمع ظهور الرواية في الحاضرة و عدم تناولها الفائتة بقرينة التعبير «بوقت الفريضة» قد عرفت علاج المقايسة فيها بحملها على التقيّة، بكون المقصود إعمال صورة القياس إظهارا للموافقة العامّة في الطريقة من العمل بالقياس من دون قصد إلى تعدية حكم المقيس عليه إلى المقيس، أو أنّ المقصود منها بيان المشاركة في مجرّد المرجوحيّة و لو كانت في المقيس إضافيّة و في المقيس عليه ذاتيّة.

و أمّا الثالثة: فمع أنّه لا قائل بعمومها كما هو واضح عدم ثبوت هذه الروايات في طرق أصحابنا كما اعترف به الشهيد الثاني في كلام محكيّ عن الروض قائلا: «بأنّه لم يثبته الأصحاب من طريقهم و إنّما أورده الشيخ في المبسوط و الخلاف و لم يذكره في كتابي الأخبار»(4) مع أنّ حمل النفي فيها على نفي الكمال إرشادا إلى المرجوحيّة الإضافيّة أولى

ص: 252


1- المبسوط 127:1، الخلاف 386:1، المسألة 139، و مستدرك الوسائل 2/160:3.
2- بزغت الشمس: شرقت أو البزوغ ابتداء الطلوع، القاموس المحيط 102:3.
3- الوسائل 4/284:4 ب 61 من أبواب المواقيت، التهذيب 1056/265:2.
4- روض الجنان 499:2.

في مقام الجمع من حمل ما تقدّم على منتظر الجماعة.

و أمّا الرابعة: فمع عدم وضوح سندها ليس فيها إلاّ الأمر بالبدأة بالفريضة، و لا إشكال في كونها أولى و أفضل من البدأة بالنافلة الفائتة، فليحمل الأمر عليه جمعا لكونه أولى من حمل ما تقدّم على منتظر الجماعة، فالإنصاف أنّ شيئا من هذه الروايات لا يصلح مستندا للمانعين.

و الظاهر أنّ العمدة من مستندهم البناء على المضايقة في القضاء، كما عليه الأكثر و عليه مبنى نسبة القول بالمنع إلى الأكثر، كما يظهر من عبارة شارح الدروس حيث قال: «و قد ظهر ممّا ذكرنا جواز النافلة ممّن عليه فائتة خلافا لأرباب المضايقة المانعين من جواز التنفّل على ذلك التقدير... الخ»(1).

و بعد بناء منع المانعين على ذلك فالالتزام به إنّما يتّجه بعد إحراز مقدّمتين: كون أوامر القضاء فوريّة، و كون الأمر بالشيء نهيا عن الضدّ الخاصّ . و الثانية مسألة اصوليّة و التحقيق فيها على ما تقرّر في الاصول المنع، و الاولى مسألة فرعيّة و التحقيق فيها موكول إلى محلّه.

فصار نتيجة الكلام في المقامين مشروعيّة النافلة لمن عليه فريضة، سواء كانت النافلة قضاء للرواتب أو غيرها أو أداء لغيرها، و الفريضة من الفرائض اليوميّة الحاضرة أو الفائتة أو غيرها من الصلوات الواجبة بأصل الشرع أو لعارض كما لو وجبت بنذر أو إجارة أو غيرهما.

و على القول بالمنع لمن عليه الفائتة يجب القطع باختصاصه بغير فائتة الغير الّتي تحملها الإنسان بإجارة أو نحوها، و هل يعمّ المنع لما وجب من القضاء على وليّ الميّت ؟ وجهان، أقربهما الثاني لظاهر النصّ و الفتوى المقتضي لاختصاص الحكم بما فات من المكلّف نفسه. و ينبغي القطع بأنّه لو وجب التطوّع بنذر أو غيره من الأسباب كان خارجا عن عنوان المسألة. فعلى القول بالمنع فالمتّجه هو الجواز و المشروعيّة إذا ورد عليه النذر مطلقا و كان واقعا قبل فوات الفائتة، و أمّا لو قيّده بوقت الفريضة أو وقع ممّن عليه فائتة، فالوجه بقاء المنع لعدم انعقاد هذا النذر لاشتراطه بالمشروعيّة المنتفية هنا قبل النذر.

ص: 253


1- شرح الدروس 564:1.
[ينبوع: صور حصول الأعذار المانعة من التكليف بالصلاة للمكلّف، كالجنون أو الإغماء أو الحيض]

إذا حصل للمكلّف أحد الأعذار المانعة من التكليف بالصلاة، كالجنون أو الإغماء أو الحيض أو غيرها فله صور:

الاولى: أن يكون العذر مستوعبا للوقت بحصوله في جميع الوقت، و حكمه سقوط الفرض أداء و قضاء، أمّا سقوطه أداء فلأنّه قضيّة مانعيّة هذه الأعذار من التكليف بالصلاة.

أمّا مانعيّة الجنون، فللعقل المستقلّ بكون العقل من شروط التكليف و الإجماع الضروري بل الضرورة من الدين.

و أمّا مانعيّة الإغماء فلاستقلال العقل بقبح التكليف بغير المقدور، بل الإجماع عليه أيضا معلوم بالضرورة، و لفحوى النصوص المستفيضة النافية للقضاء عن المغمى عليه مطلقا أو في الجملة.

و أمّا مانعيّة الحيض، فللإجماع بل الضرورة و النصوص المستفيضة القريبة من التواتر الناهية عن صلاة الحائض و النفساء المتقدّم ذكرها مستوفاة في بحث الحيض من الطهارة.

و أمّا سقوطه قضاء: على معنى عدم وجوب قضاء ما فات من الصلاة لأحد الأعذار المذكورة، فوجهه على القول بكون القضاء تابعا للأداء واضح، لانتفاء الأمر بالأداء في مفروض المسألة، فالقائل بذلك مستريح عن تكلّف إثبات الدليل على السقوط هنا.

و أمّا على القول بكونه بفرض جديد كما هو الحقّ المحقّق في الاصول فللأصل المحرز موضوعه بمنع تناول عمومات القضاء لنحو المقام حسبما نشير إليه، مضافا إلى ظهور الإجماع و المستفيضة من الإجماعات المنقولة في كلام الأصحاب في الجنون، و تيقّن الإجماع مع المستفيض من الإجماعات المنقولة في الحيض، مضافا إلى المستفيض من النصوص الفارقة بين صلاة الحائض و صومها بإثبات القضاء للثاني

ص: 254

و نفيه في الاولى، و الشهرة المستفيض حكايته في الإغماء، مضافا إلى النصوص المعتبرة المستفيضة من الصحاح و غيرها النافية للقضاء عن المغمى عليه المعارضة بنصوص اخر آمرة بالقضاء فيه عن جميع ما فاته من الصلوات أو قضاء صلاة ثلاثة أيّام أو قضاء اليوم الّذي أفاق فيه أو الليلة الّتي أفاق فيها أو قضاء ما أفاق في وقتها، على اختلافها المحمولة عند المعظم على الندب.

و في مقابل القول المشهور قولان آخران:

أحدهما: ما عن المقنع من وجوب قضاء جميع ما فاته، قائلا: «و اعلم أنّ المغمى عليه يقضي جميع ما فاته من الصلوات»(1) عملا بالروايات القاضية به.

و الآخر: ما عن بعض الأصحاب(2) من أنّه يقضي آخر أيّام إفاقته إن أفاق نهارا و آخر ليلتها إن أفاق ليلا، و تفصيل القول في ذلك يأتي في باب القضاء فانتظر له.

ثمّ إنّ قضيّة النصّ و الفتوى في الحيض عدم الفرق بين حصوله من فعلها أو غيره حتّى لو فعلت لترك الصلاة.

و أمّا الجنون: ففي محكيّ الذكرى أنّه «أفتى الأصحاب بأنّه لو زال عقل المكلّف بشيء من قبله يجب عليه القضاء لأنّه مسبّب عن فعله» و نحوه ما في محكيّه في الإغماء من «أنّه إذا تعمّد ما يؤدّي إلى الإغماء وجب عليه القضاء و به أفتى الأصحاب»(3) و ظاهره فيهما دعوى الأصحاب(4) و نصّ عليه فيهما جماعة ممّن تأخّر عنه. لكن في محكيّ شرح الإرشاد لفخر الإسلام «أنّه إذا علم أنّ هذا الغذاء يورث الجنون كان أكله حراما، لكن لا يجب عليه قضاء ما فاته»(5) و نحوه ما في محكيّه في الإغماء. و الأوفق بعمومات القضاء المعلّقة على صدق قضيّة الفوات في المقامين - بعد منع الإطلاق في نصوص الإغماء بدعوى انصرافها إلى ما كان لمرض أو آفة سماويّة - هو الأوّل.

و وجهه: أنّ الفوات مفهوم عرفي يدرك بظاهر الوجدان، و هو الّذي يعبّر عنه في الفارسيّة بقولهم «از كيسه رفتن» و هو بهذا المعنى لا يعتبر في صدقه سبق الوجوب في

ص: 255


1- المقنع: 122.
2- راجع المبسوط 125:1، المراسم: 92، المعتبر 404:2.
3- الذكرى 429:2.
4- راجع المبسوط 126:1، المراسم: 92، السرائر: 59.
5- نقله عنه في كشف اللثام 122:3.

الوقت، و إن كان لا يكفي فيه عدم حصول الفعل في الوقت على جميع تقاديره، بل يعتبر فيه كون الفعل في معرض الحصول و لم يحصل، و إنّما يكون كذلك على تقدير عدم سبق الوجوب إذا اشتمل على المقتضي لحصوله و هو المصلحة المرجّحة له، و إنّما لم يحصل لمنع مانع عقلي أو شرعي.

و توضيح ذلك: أنّ عدم وجوب الشيء المستتبع لعدم حصوله قد يستند إلى فقد المقتضي لوجوبه المستتبع لحصوله - كأن يكون خاليا عن مصلحة مرجّحة لحصوله اشتمل على مفسدة مرجّحة لعدم حصوله كصلاة الحائض أو لا - و قد يستند إلى وجود مانع عن حصوله مع وجود المقتضي له بحيث لو لا وجوده كان حاصلا كصلاة النائم في الوقت، و هذا هو الّذي في معرض الحصول بخلاف القسم الأوّل لعدم كون الفعل بحكم الفرض فيه في معرض الحصول، و هذا هو الّذي لا يصدق على عدم حصوله الفوات بالمعنى المذكور كما يصدق على عدم حصول ما هو في معرض الحصول. و حينئذ حصل الفرق في صلاة المجنون و المغمى عليه بين ما لم يكن الجنون و الإغماء بسبب منهما و ما لو كان بسبب منهما لصدق الفوات مع الثاني دون الأوّل.

و السرّ فيه: أنّ عروض الجنون أو الإغماء لأنفسهما لا بسبب من المكلّف ممّا يكشف عن خلوّ الصلاة بالنسبة إلى المجنون و المغمى عليه عن المقتضي لرجحانها و المصلحة المرجّحة لحصولها في نفس الأمر، و حصولهما بسبب من المكلّف يكشف عن اشتمالها في حدّ ذاتها و بحسب نفس الأمر على المصلحة المرجّحة لحصولها، إلاّ أنّه زاحمها في اقتضاء الحصول ما أوجده، و قضيّة ذلك حصول الفرق بينهما في وجوب القضاء في الثاني عملا بعمومات الأمر به المعلّقة على الفوات دون الثاني، أخذا بموجب الأصل المحرز موضوعه بعدم تناول العمومات المذكورة.

الثانية: ما إذا حصل العذر و قد مضى من الوقت مقدار أداء الفريضة بالطهارة مطلقا أو مع سائر الشروط أيضا، و الظاهر أنّه لا خلاف كما لا إشكال في وجوب القضاء حينئذ بعد زوال العذر. و في المدارك «أمّا وجوب القضاء إذا حصل الأعذار المانعة من الصلاة بعد أن يمضي من الوقت مقدار الصلاة و شرائطها المفقودة من الطهارة و غيرها فهو مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفا»(1) و ادّعى عليه الإجماع غير واحد في باب أحكام الحيض

ص: 256


1- المدارك 91:3.

من كتاب الطهارة، و عن كشف اللثام(1) ثمّة نسبته إلى الأصحاب. و ظاهرهم عدم الفرق من هذه الجهة بينه و بين أخويه الجنون و الإغماء، و الأصل فيه في الجميع عمومات القضاء المعلّقة على قضيّة الفوات الصادقة هنا، كما يظهر وجهه بالتأمّل فيما قرّرناه من ضابط صدق الفوات و عدم صدقه، مضافا في الحيض إلى خصوص الروايات القاضية بذلك، ففي موثّقة يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «في امرأة إذا دخل وقت الصلاة و هي طاهرة فأخّرت الصلاة حتّى حاضت، قال: يقضي إذا طهرت»(2) و رواية عبد الرحمن بن الحجّاج قال: «سألته عن المرأة تطمث بعد ما تزول الشمس و لم تصلّ الظهر هل عليها قضاء تلك الصلاة ؟ قال: نعم»(3).

و هذا بخلاف ما لو حصل العذر و قد مضى من الوقت أقلّ من مقدار أداء الفريضة على الوجه المتقدّم، فإنّه لا يجب عليه قضاء هذه الفريضة على المشهور المنسوب إلى الأكثر في المدارك(4) و الأشهر في الكفاية(5) و عن الخلاف(6) الإجماع عليه، للأصل السالم عن مزاحمة عمومات القضاء لعدم صدق الفوات في الصورة المفروضة كما يظهر بالتأمّل فيما تقدّم.

و عن العلاّمة في المنتهى(7) الاستدلال بأنّ وجوب القضاء تابع لوجوب الأداء و هو منتف، فإنّ التكليف يستدعي وقتا و إلاّ لزم تكليف ما لا يطاق. هذا على ما اختاره في المسألة الاصوليّة حسن، و أمّا على المذهب الحقّ فالوجه هو ما بيّنّاه من منع تناول عمومات القضاء، فيرجع إلى الأصل النافي للتكليف المشكوك فيه.

و في مقابل المشهور القول باعتبار خلوّ أوّل الوقت من العذر بمقدار أكثر الصلاة و الاكتفاء في وجوب القضاء بذلك المحكيّ عن ظاهر المرتضى(8) و ابن بابويه في الفقيه(9)و المقنع(10) و ابن الجنيد(11). و في المدارك «لم نقف لهم على مستند»(12).

ص: 257


1- كشف اللثام 132:2.
2- الوسائل 6/360:2، ب 48 من أبواب الحيض، التهذيب 1211/392:1.
3- الوسائل 5/360:2، ب 48 من أبواب الحيض، التهذيب 1221/394:1.
4- المدارك 91:3.
5- الكفاية: 27.
6- الخلاف 88:1.
7- المنتهى 107:4.
8- جمل العلم و العمل (رسائل المرتضى) 38:3.
9- الفقيه 93:1 ذيل الحديث 198.
10- المقنع: 49.
11- نقله عنه في المختلف 31:3.
12- المدارك 92:3.

و قد يقال: إنّ مأخذه خبر أبي الورد قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المرأة الّتي تكون في صلاة الظهر، و قد صلّت ركعتين ثمّ ترى الدم ؟ قال: تقوم من مسجدها و لا تقضي الركعتين، و إن كانت رأت الدم و هي في صلاة المغرب و قد صلّت ركعتين فلتقم من مسجدها، فإذا تطهّرت فلتقض الركعة الّتي فاتتها من المغرب»(1).

و عن مختلف العلاّمة حملها على كونها فرّطت في المغرب دون الظهر قال: «و إنّما يتمّ قضاء الركعة بقضاء الباقي، و يكون إطلاق الركعة على الصلاة مجازا»(2).

أقول: و هذا الحمل ممّا لا إشعار به في الخبر، إلاّ أن يراد به مجرّد دفع التنافي الظاهري عمّا بين الروايات. و أمّا حمله على مذهب الجماعة بقرينة التفصيل فليس بذلك البعيد و إن كان قد يخدشه أيضا أنّه لو كان مبنى التفصيل على بيان الفرق بين مضيّ مقدار أكثر الصلاة و مضيّ مقدار غيره لم يكن لفرض الأكثريّة في المغرب وجه، بل كان المناسب فرضها في الظهر الّتي هي مورد السؤال بأن يقول: إذا رأت الدم و قد صلّت ثلاث ركعات... الخ، مع أنّ الخبر ظاهر كالصريح في وجوب قضاء الركعة الباقية، و حملها على الصلاة التامّة مجازا بعيد. فالوقوف في هذا الخبر بعد كون سنده مستحقّا للقبول و إحالة علمه إليهم عليهم السّلام مع ملاحظة إعراض الأكثر عن العمل بظاهره على تسليم كونه التفصيل المتقدّم أولى.

و قد يحمل على التقيّة نظرا إلى قول بعض الشافعيّة(3) بأنّه إن مضى من الوقت أقلّ من أداء الفريضة ثمّ حاضت وجب القضاء كما لو أدركت من آخر الوقت، و لا خفاء في بعده لعدم انطباق تفصيل الخبر في أحد شقّيه على هذا القول فهو باعتباره على خلاف التقيّة.

ثمّ : بقى الكلام في صورة مضيّ مقدار أداء الفريضة على الوجه المتقدّم أمران:

أحدهما: أنّ المحقّق في الشرائع(4) اعتبر في عنوان المسألة مضيّ مقدار الطهارة و أداء الفريضة و لم يعتبر مضيّ مقدار باقي الشرائط المفقودة و تبعه على ذلك جماعة(5)على ما حكي، خلافا للمدارك(6) كما عن الذكرى(7) و الموجز(8) و جامع المقاصد(9) و فوائد

ص: 258


1- الوسائل 3/360:2، ب 48 من أبواب الحيض، التهذيب 1210/392:1.
2- المختلف 370:1.
3- المجموع 66:3، فتح العزيز 79:3-81.
4- الشرائع 30:1.
5- كالعلاّمة في المنتهى 372:2، و الشهيد في الدروس 101:1، و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 336:1، و السبزواري في الكفاية: 5.
6- المدارك 91:3.
7- الذكرى 356:2.
8- الموجز الحاوي: 47.
9- جامع المقاصد 336:1.

الشرائع(1) و كشف الالتباس(2) و المسالك(3) و غيرها(4) فاعتبروا باقي الشرائط أيضا.

و يظهر الثمرة في صورة فقدانها و لم يمض من الوقت زيادة على مقدار الطهارة و أداء الفريضة مقدار تحصيلها فطرأ العذر، فعلى الأوّل يجب قضاء هذه الصلاة بخلافه على الثاني.

و لعلّ الوجه في نظر معتبري سائر الشرائط أيضا أنّ القضاء إن كان تابعا للأمر بالأداء فهو فرع على التمكّن من الصلاة التامّة الجامعة للشرائط، و إن كان بالفرض الجديد فصدق الفوات معلّق على التمكّن منها، و مع انتفاء التمكّن فلا أمر بالأداء كما لا صدق للفوات.

و يدفعه: أنّه و إن لم يتمكّن من الفعل الاختياري لعدم اتّساع ما مضى من الوقت لتحصيل الشرائط الاختياريّة كالساتر و إزالة الخبث و غيرهما، إلاّ أنّه متمكّن من الفعل الاضطراري الّذي هو مع حصول الطهارة خاليا عن الشرائط الاختياريّة صحيح و مبرئ الذمّة من لم يتمكّن من تحصيل هذه الشرائط.

و قضيّة ذلك كونه لمجرّد مضيّ مقدار الطهارة و أداء الفريضة مكلّفا بالصلاة و قد فاتت منه فوجب قضاؤها كما حقّقه كاشف اللثام في كلام محكيّ عنه ستعرفه، و هذا متّجه لو لا لزوم الاكتفاء بمضيّ مقدار التيمّم أيضا لأنّه بدل اضطراري للمائيّة و لعلّهم يلتزمون به و إن أطلقوا في كلامهم اعتبار الطهارة، كما نبّه على الالتزام به كاشف اللثام في المحكيّ عنه قائلا حيث إنّه بعد كلمات جماعة من الأصحاب و خلوّ كلمات المتقدّمين عن التعرّض لغير الطهارة قال: و الّذي يقوّى في نفسي اعتبار الطهارة في أوّل الوقت و آخره و عدم اعتبار غيرها من الشروط، و الفرق أنّ الصلاة لا يمكن فعلها بدون الطهارة بخلاف غيرها فإنّها تسقط في الضرورة.

و منها ضيق الوقت فإنّ من زال عذره في آخر الوقت و لا يجد ساترا و لا غيره من الشروط الاختياريّة تعيّن عليه الصلاة بدونها فكيف يجوز اعتبار إمكانها أجمع.

أمّا أوّل الوقت فهو بمنزلة آخره لأنّ عروض العذر بعده يكشف عن أنّ وقت الصلاة كان منحصرا، فالمكلّف بالنسبة إلى هذا المقدار من أوّل الوقت بمنزلته بالنسبة إلى الآخر المضيّق، فانقدح من هذا أنّه ينبغي أن لا يشترط اتّساع الوقت إلاّ للصلاة و التيمّم إلاّ أنّ

ص: 259


1- فوائد الشرائع: 13.
2- كشف الالتباس: 40.
3- المسالك 62:1-63.
4- الرياض 398:1.

النصّ عارض ذلك بالنسبة إلى آخر الوقت و هو رواية عبيد بن زرارة و رواية الحلبي الآتيتين.

و أمّا أوّل الوقت فلم يرد فيه ما يدلّ على ذلك بل عموم الأخبار الآمرة بقضاء ما أدرك وقتها يقتضي القضاء و لو لم تدرك مقدار الطهارة المائيّة، و لم أر ممّن قبل الفاضلين من تعرّض في أوّل الوقت للطهارة و لعلّه لإطلاق تلك الأخبار(1) انتهى ملخّصا.

و يمكن الإيراد عليه: بأنّ القدرة على الفعل الاضطراري إنّما تكفي في بقاء التكليف، كما لو طرأ العذر المانع من الفعل الاختياري في آخر الوقت و لو من جهة الضيق، و لا يلزم منه كونها كافية في حدوث التكليف كما فيما نحن فيه، فدعوى أنّ أوّل الوقت هنا بمنزلة آخره عارية عن البيّنة.

و يدفعه: أنّه يكفي في حدوث التكليف بالفعل الاختياري عموم الأمر بالصلاة بالقياس إلى المكلّفين خرج منه المعذور من أوّل الوقت بالعذر المستوعب و من بحكمه كالّذي لم يتّسع ما مضى من وقته قبل طروء العذر للصلاة و بقى الباقي، و منه المكلّف الّذي طرأه العذر بعد مضيّ مقدار فعل الصلاة من الوقت، فإن كان ما مضى من الوقت قبل العذر بحيث يتّسع للصلاة مع الطهارة و سائر الشروط الاختياريّة كشف ذلك عن تنجّز التكليف عليه بالنسبة إلى الفعل الاختياري، و إن كان بحيث لم يتّسع إلاّ لها مع الطهارة دون سائر الشرائط كشف ذلك عن تنجّز التكليف عليه بالنسبة إلى الفعل الاضطراري، كيف و لو لا كفاية القدرة على الفعل الاضطراري في حدوث التكليف به لزم فيما لو كان المكلّف في تمام الوقت معذورا عن الفعل الاختياري بأن تعذّر عليه تحصيل الشرائط الاختياريّة من أوّل الوقت إلى آخره أن لا يكون مكلّفا بالفعل الاضطراري، و لا نظنّ أحدا يلتزم بذلك بل هو دفع للضرورة.

مع أنّ منع حدوث التكليف بالفعل الاختياري بمجرّد القدرة عليه إنّما يقدح في وجوب القضاء على مقالة من يراه تابعا للأداء، و أمّا على مقالة غيره فلا لصدق الفوات الّذي لا يعتبر فيه سبق الوجوب في الوقت، فإنّ الصلاة و لو باعتبار إمكان تحقّقها في ضمن الفرد الاضطراري في الصورة المفروضة كانت في معرض الحصول و لم تحصل فيصدق على عدم حصولها الفوات بالمعنى المتقدّم.

نعم، ربّما يشكل الحال في المقام من جهة أنّ الفائت إنّما هو الفعل الاضطراري، و الّذي

ص: 260


1- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 242.

يتدارك في مقام القضاء على تقدير وجوبه ليس إلاّ الفعل الاختياري و ليس بفائت لعدم كونه في معرض الحصول، هذا مع ما قيل بالنسبة إلى الحيض أنّ المستفاد من الأدلّة عدم قضاء كلّ صلاة كان فوتها مستندا إلى الحيض، و ملخّصه عدم وجوب تدارك ما فات لأجل الحيض، و المفروض في المقام استناد فوت الفعل الاختياري إلى الحيض فلا مقتضي لوجوب تداركه بل لا معنى له بعد ما عرفت.

و يمكن الذبّ عنه: بوضوح صدق الفوات باعتبار عدم حصول المأمور به الكلّي الممكن حصوله في الوقت المفروض و لو في ضمن الفعل الاضطراري، و إذا ثبت وجوب قضائه بعموم أوامر القضاء المعلّقة على صدق الفوات، فالأمر في وقت القضاء يدور بين الاكتفاء بما أمكن حصوله في وقت الفوات و هو الفعل الاضطراري، أو وجوب مراعاة ما يمكن حصوله في زمن القضاء و هو الفعل الاختياري، لكن ظاهر مجموع أدلّة الاختيار و الاضطرار بل ظاهر إجماعهم أنّه لا يعدل عن الفعل الاختياري ما دام ممكنا أداء أو قضاء إلى الفعل الاضطراري، سواء كان الفائت على تقدير هو الكلّي المأمور به في ضمن الفعل الاختياري، أو هو في ضمن الفعل الاضطراري.

و بالجملة المختار لا يعدل إلى وظيفة المضطرّ لا في الأداء و لا في القضاء حيثما ثبت وجوب القضاء إجماعا، و منه ما عن إرشاد الجعفريّة في غير المقام من «أنّ وجوب رعاية الهيئات وقت الفعل لا وقت الفوات أمر إجماعي لا خلاف لأحد من أصحابنا فيه»(1).

و أمّا حديث أنّ المستفاد من الأدلّة عدم وجوب قضاء ما فات لأجل الحيض، فيدفعه:

أنّ المستفاد منها عدم وجوب ما فات من كلّي المأمور به لأجل الحيض المستوعب لجميع الوقت، أو لما لم يتّسع زمن الخلو عن الحيض من أوّل الوقت لفعل الصلاة مع الطهارة لا مطلقا. و بالتأمّل فيما ذكرناه ظهر أنّه لو مضى من أوّل الوقت مقدار فعل الصلاة مع التيمّم أيضا ثمّ طرأ العذر كفى في وجوب القضاء كما ظهر الالتزام به من عبارة كاشف اللثام(2).

فالأقوى حينئذ اعتبار مضيّ مقدار الطهارة و لو ترابيّة مع أداء الفريضة في وجوب القضاء من دون اعتبار سائر الشرائط المفقودة، مع أنّه أحوط أيضا.

و ثانيهما: أنّ قضيّة ما قرّرناه من ضابط صدق الفوات كفاية إدراك أقلّ الواجب قبل

ص: 261


1- المطالب المظفّريّة: 135.
2- كشف اللثام 125:3.

طروء العذر، فلو شرع فيها في أوّل الوقت و طوّلها حتّى طرأ العذر في الأثناء و قد مضى مقدار صلاة خفيفة وجب القضاء وفاقا لجماعة كالتذكرة(1) و نهاية الإحكام(2) و الذكرى(3)و جامع المقاصد(4) على ما حكي عنهم في الحيض، ضرورة صدق الفوات على عدم حصولها مع كونها في معرض الحصول مخفّفة. و من هنا ظهر أنّه لو كان في موضع التخيير بين القصر و الإتمام كفى مضيّ مقدار وقت المقصورة و إن شرع فيها تامّة.

و من جميع ما ذكر يعلم أنّه لو لم يمض إلاّ مقدار أداء الصلاة و لو مخفّفة دون الطهارة و لو ترابيّة لم يجب القضاء لعدم صحّة الصلاة بدون الطهارة، نعم لو كان متطهّرا قبل ذلك لم يعتبر مضيّ وقت الطهارة كما عن التذكرة(5) و التحرير(6) و نهاية الإحكام(7) و الذكرى(8)و فوائد الشرائع(9) و جامع المقاصد(10) و المسالك.(11)

و من طريق الكلام في الصورتين يتّضح الحكم في الأثناء، فلو أفاق المجنون أو المغمى عليه في أثناء الوقت ثمّ عاد الجنون أو الإغماء فيه بنى وجوب القضاء و عدمه على اتّساع زمن الإفاقة للطهارة و لو مائيّة، و أداء الفريضة و لو مخفّفة و عدمه فإن اتّسع لهما وجب و إلاّ فلا.

الثالثة: ما لو زال المانع في آخر الوقت و أدرك منه ما يسع الطهارة و ركعة لزمه أداؤها، فلو أهمل و لم يفعلها حتّى خرج الوقت لزمه قضاؤها، و الحكم الثاني مع ما فيه من نسبته إلى المشهور عن الكفاية(12) و نفي الخلاف فيه عن التذكرة(13) و دعوى الإجماع عليه عن كاشف اللثام(14) متفرّع على الحكم الأوّل، و الظاهر أنّه إجماعي كما نصّ عليه في المدارك(15) قائلا: «و هذا الحكم أعني الاكتفاء في آخر الوقت بإدراك ركعة مع الشرائط المفقودة مجمع عليه بين الأصحاب بل قال: في المنتهى(16) أنّه لا خلاف فيه بين أهل العلم» انتهى(17) أو عن الخلاف(18) بلا خلاف بين أهل العلم في العصر و العشاء و الصبح و عزي نقل الإجماع تارة و نفي الخلاف اخرى إلى غيرهما أيضا.

ص: 262


1- التذكرة 274:2 و 326.
2- نهاية الإحكام 317:1.
3- الذكرى 352:2.
4- جامع المقاصد 352:1.
5- التذكرة 327:2.
6- التحرير 180:1.
7- نهاية الإحكام 123:1.
8- الذكرى 352:2.
9- فوائد الشرائع: 13.
10- جامع المقاصد 45:2
11- المسالك 62:1.
12- الكفاية: 5.
13- التذكرة 325:2-326.
14- كشف اللثام 137:2.
15- المنتهى 108:4.
16- المنتهى 108:4.
17- المدارك 92:3.
18- الخلاف 271:1 المسألة 13.

و الأصل فيه عدّة روايات عامّيّة و خاصّيّة كالمرويّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة»(1) و في لفظ آخر «من أدرك من الوقت ركعة فقد أدرك الوقت»(2) و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر»(3).

و من طرق الأصحاب ما رواه الشيخ باسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من أدرك ركعة من الغداة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامّة»(4).

و موثّقة عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «فإن صلّى ركعة من الغداة ثمّ طلعت الشمس فليتمّ الصلاة و قد جازت صلاته. و في آخر عنه أيضا بعد قوله عليه السّلام:

و قد جازت صلاته، و إن طلعت الشمس قبل أن يصلّي ركعة فليقطع الصلاة، و لا يصلّي حتّى تطلع الشمس و يذهب شعاعها»(5).

و ضعف ما ضعف من هذه الروايات ينجبر بعمل الأصحاب.

قال في المدارك: «و هذه الروايات و إن ضعف سندها إلاّ أنّ عمل الطائفة عليها، و لا معارض لها فتعيّن العمل بها. ثمّ قال: و الفرق بين أوّل الوقت و آخره واضح، لتمكّن المكلّف في آخر الوقت من إتمام الصلاة بغير مانع بخلاف أوّل الوقت، إذ لا سبيل إلى ذلك»(6).

و مراده قدّس سرّه بيان السرّ في الفرق المستفاد من الروايات و كلمات الأصحاب بين أوّل الوقت و آخره في كون إدراك مقدار ركعة من الوقت في الثاني مصحّحا للتكليف بالصلاة دون الأوّل، و ملخّصه لزوم التكليف بغير المقدور في الأوّل لعدم التمكّن من الفعل في وقت لا يسعه دون الثاني، لكن يشترط فيه بقاؤه على صفة التكليف كما في جامع المقاصد(7)و المسالك(8) و غيرهما. فلو تجدّد العذر بعد مضيّ مقدار الركعة بحيث لا يمكنه إكمالها قبله لم يجب القضاء.

ص: 263


1- صحيح مسلم 607/423:1، صحيح البخاري 151:1، سنن النسائي 274:1.
2- لم نعثر على رواية بهذا اللفظ، لعلّ المحقّق في المعتبر أبدل كلمة الصلاة بالوقت و إلاّ فالموجود في الخلاف (من أدرك من الصلاة ركعة).
3- صحيح مسلم 608/424:1، صحيح البخاري 155:1، سنن النسائي 257:1.
4- الوسائل 2/217:4، ب 30 من أبواب المواقيت، التهذيب 119/38:2.
5- الوسائل 3/217:4، ب 30 من أبواب المواقيت، التهذيب 1044/262:2.
6- المدارك 93:3.
7- جامع المقاصد 336:1.
8- المسالك 146:1.

ثمّ إنّ الموجود في كلام الفاضلين في الشرائع(1) و القواعد(2) في عنوان هذه المسألة هنا و في باب أحكام الحيض الاقتصار على إدراك قدر الطهارة مع أداء الركعة من دون اعتبار سائر الشرائط المفقودة، و عزي ذلك إلى الشيخ(3) و ابن حمزة(4) و ابن إدريس(5)و جماعة(6). لكن في المدارك(7) و المسالك(8) و جامع المقاصد(9) كما عن الدروس(10)و الموجز(11) و فوائد الشرائع(12) و كشف الرموز(13) للصيمري و الروض(14) و الروضة(15)و غيرها(16) اعتبار التمكّن من سائر الشروط المفقودة أيضا.

و ربّما يوجّه إطلاق الأوّلين بحمله على المثال جريا فيه على طريقة التنبيه على أنّ إدراك الشرط معتبر أيضا. و قد يحتمل كونه محمولا على الغالب من فقدان الطهارة و وجدان سائر الشرائط.

أقول: الأولى أن يقال: إنّ تعبيرهم بإدراك الطهارة و أداء ركعة من الفريضة جرى هنا على نحو هذا التعبير في باب أحكام الحيض، و الظاهر أنّ المنتفي من الشرائط ثمّة عن الحائض بعد ارتفاع حيضها في آخر الوقت ليس في الغالب إلاّ الطهارة، و يمكن أن يراد من الطهارة ما يعمّ الحدثيّة و الخبثيّة كما هو الغالب انتفاؤه في حقّ الحائض أيضا. و كيف كان فعلى تقدير تحقّق الخلاف في البين فلعلّ مستند الأوّلين أنّ مفاد الروايات المتقدّمة تنزيل مدرك الركعة من آخر الوقت منزلة مدرك تمام الصلاة في الوقت، و كما أنّ مدرك تمام الصلاة في الوقت إذا لم يتمكّن من الشرائط الاختياريّة كان وظيفته الفعل الاضطراري فكذلك مدرك الركعة من آخر الوقت.

و بالجملة مفاد الروايات إلحاق مدرك ركعة من آخر الوقت بمدرك تمام الوقت في كلّ من الفعل الاختياري و الاضطراري، فالمتمكّن من الشرائط الاختياريّة في المقامين يكلّف

ص: 264


1- الشرائع 30:1.
2- القواعد 218:1.
3- المبسوط 76:1.
4- الوسيلة: 59.
5- السرائر 276:1.
6- كما في التحرير 180:1 و الكفاية: 5 و جامع المقاصد 336:1 و نهاية الإحكام 317:1 و كشف اللثام 125:3.
7- المدارك 91:3.
8- المسالك 62:1-63.
9- جامع المقاصد 336:1.
10- الدروس 101:1.
11- الموجز الحاوي: 47.
12- فوائد الشرائع: 13.
13- كشف الالتباس: 40.
14- الروض 501:2.
15- الروضة 388:1.
16- الرياض 398:1.

بالفعل الاختياري، و غيره فيهما يكلّف بالفعل الاضطراري، فكلّ مكلّف بما هو وظيفته على حسب مقتضى حاله.

و يشكل ذلك بأنّ مفاد الروايات المذكورة على ما سنقرّره إنّما هو إلحاق الصلاة المدرك ركعة منها في آخر الوقت بالصلاة المدرك بتمامها في الوقت في كونها أداء و مناطا للثواب و العقاب و غيره من أحكام الأداء، من غير نظر فيها إلى تعميم و لا تخصيص بالنظر إلى الشرائط. و على هذا فالقدر المتيقّن من موردها و من معاقد الإجماعات المنقولة خصوصا مع ملاحظة ما عرفت من التصريح في كلام أكثرهم باعتبار الشرائط المفقودة أيضا إنّما هو الركعة الجامعة للشرائط، بل لا يبعد دعوى ظهور قوله عليه السّلام: «ركعة من الصلاة أو ركعة من العصر أو ركعة من الغداة أو ركعة من الوقت» في الركعة التامّة الجامعة للشرائط. و عليه فالمتّجه إنّما هو قول الجماعة من اعتبار التمكّن من الطهارة و سائر الشرائط المفقودة أيضا.

نعم، ينبغي القطع بكفاية مقدار أقلّ الواجب من الركعة على معنى الركعة المخفّفة كما في محكيّ العلاّمة عن التذكرة قائلا: «يشترط إدراك ركعة تامّة الأفعال الواجبة خاصّة، و قد تحصل بإدراك النيّة و تكبيرة الإحرام و الفاتحة و أخفّ السور إن قلنا بوجوبها، و الركوع ذاكرا فيه أقلّ الواجب و السجدتين»(1).

ثمّ قضيّة هذه العبارة كون الركعة إنّما تتمّ بالسجدة الثانية و هو كذلك وفاقا لجماعة(2)من أساطين الطائفة و لعلّه ممّا لا خلاف فيه. نعم احتمل في الذكرى(3) «الاجتزاء فيها بالركوع للتسمية لغة و عرفا و لكونه المعظم». و فيه: منع واضح، و لذا استبعده في المدارك.(4)

ثمّ إنّ في كون هذه الصلاة المدرك ركعة منها في الوقت أداء - كما عليه الأكثر بل هو المشهور بين الأصحاب، كما عن جامع المقاصد(5) بل عن الخلاف(6) تارة الإجماع عليه كما عن المفاتيح(7) أيضا و اخرى أنّه لا خلاف فيه - أو قضاء كما عن السيّد المرتضى(8) أو

ص: 265


1- التذكرة 324:2.
2- كما في جامع المقاصد 297:2، و في السرائر 245:1، و في النهاية 317:1 و في الكافي في الفقه: 119، و الذكرى 355:2.
3- الذكرى 356:2.
4- المدارك 92:3.
5- جامع المقاصد 30:2.
6- الخلاف 268:1.
7- المفاتيح 95:1.
8- المسائل الرسيّة (رسائل الشريف المرتضى) 350:2.

ملفّقا منهما كما عن بعض الأصحاب(1) أقوال، أضعفها الأخير كما نصّ عليه جماعة.(2)

و أظهرها من جهة النصوص المتقدّمة الأوّل، نظرا إلى أنّ القضاء شرعا و في عرف المتشرّعة عبارة عن تدارك ما فات كما نصّ عليه جماعة، و ظاهر قوله عليه السّلام «فقد أدرك الصلاة» أو «أدرك الوقت» أو «أدرك العصر» أو «أدرك الغداة تامّة» بنفي الفوات إمّا لأنّ الإدراك يقال: على ما يقابل الفوات، أو لقيام قرينة المقام القاضية بكفاية إدراك ركعة من الصلاة في الوقت في خروج إتيانها على هذا الوجه عن عنوان تدارك ما فات.

و على هذا اتّجه أن يقال: إنّ القضاء ما وقع بأجمعه في خارج الوقت، و الأداء ما وقع في الوقت و لو بركعة منه. و هذا أولى من الالتزام بكون ما بعد الركعة المدركة في الوقت وقتا اضطراريّا، لأصالة عدم تعدّد جعل الوقت مع ظهور الأدلّة المتكفّلة لبيان أوقات الفرائض في انحصارها في وقت واحد يتساوى فيه المختار و المضطرّ. و ممّا يؤيّد ما ذكرناه ما سيأتي من صحّة صلاة من صلاّها بظنّ دخول الوقت فانكشف فساده بوقوع بعضها قبل الوقت.

حجّة السيّد على ما حكي: «أنّ خروج الجزء يوجب خروج المجموع، و لأنّ الركعة المدركة وقعت عند التحليل في وقت الركعة الثانية في الثنائيّة و الرابعة في الرباعيّة، و لصدق عدم فعلها في الوقت مع ملاحظة التمام بل بها يصدق الفوات أيضا»(3).

و الجواب عن الكلّ : أنّها اجتهادات في مقابلة النصّ فلا يعبأ بها، و هذا هو الجواب عن حجّة القول الثالث المنحلّ إلى أنّ ما وقع في الوقت أداء و ما وقع في خارجه قضاء، و هو وجود معنى الأداء و القضاء فيهما، و قد يعبّر عن ذلك بإعطاء ما وقع في الوقت و خارجه حكمه كما في المسالك(4).

و بالجملة الروايات المتقدّمة حجّة عليهما. و ممّا يزيّف قول السيّد قدّس سرّه أنّ القضاء إن كان تابعا للأمر بالأداء فلا أمر بالنسبة إلى المعذور كما هو مفروض المسألة سوى الأمر المستفاد من النصوص الواردة فيها، و إن كان بالفرض الجديد فهو فرع على صدق الفوات،

ص: 266


1- نقله في المبسوط 72:1.
2- منهم المحقّق الثاني في جامع المقاصد 30:2 و السيّد العاملي المدارك 94:3.
3- حكاه عنه في الجواهر 416:7، و كشف اللثام 82:3.
4- المسالك 146:1.

و هو غير صادق فيمن لم يتمكّن من تمام الصلاة في الوقت لمانع شرعي أو عقلي، و لو جعل الفرض الجديد الأمر المستفاد من الروايات المذكورة، فجعل ذلك الأمر كاشفا عن كونه قضاء ليس بأولى من جعله كاشفا عن كونه أداء، مع ما عرفت من ظهورها في الأدائيّة.

و ممّا يضعّف القول الثالث أيضا: أنّه لم يعهد في الشريعة ما تركّب من الأداء و القضاء.

و لا يرد على المختار كونه أمرا بالفعل في وقت يقصر عنه لأنّه إنّما يتوجّه لو كان مبنى الأدائيّة على إيقاع الصلاة التامّة في مقدار ركعة واحدة و قد عرفت أنّه ليس كذلك.

و هل هذه الروايات في الدلالة على الأمر المذكور من باب التأسيس، أو القرينة الكاشفة عن شمول الأمر بالصلاة العامّ لجميع المكلّفين لمدرك ركعة من آخر الوقت ؟ وجهان.

ثمّ إنّ قضيّة إطلاق النصّ و الفتوى و معاقد الإجماعات عموم الحكم لسائر ذوي الأعذار كالنائم و الغافل و الصغير، فلو استيقظ النائم و التفت الغافل و بلغ الصبيّ و قد بقى من آخر الوقت مقدار أداء الصلاة بشرائطها وجب أداؤها بعد تحصيل الشرائط المفقودة، و مع الإهمال وجب القضاء، بل وجب القضاء هاهنا أظهر منه في المجنون و المغمى عليه و الحائض كما لا يخفى.

و هل يعمّ هذا الحكم للمؤخّر صلاته من غير عذر إلى أن يبقى لانقضاء الوقت مقدار ركعة تامّة جامعة للشرائط أو لا؟ و لم نقف من الأصحاب على نصّ في ذلك سوى ما في قواعد العلاّمة من قوله: «و لو ضاق الوقت إلاّ عن الطهارة و ركعة صلّى واجبا مؤدّيا للجميع على رأي»(1) فإنّه بإطلاقه يتناول المؤخّر عصيانا، بل الظاهر بقرينة تعرّضه لأحكام الحيض و الجنون و الإغماء فيما بعد ذلك قائلا بعد بيان جملة من أحكامها: «و لو زال و قد بقى مقدار الطهارة و ركعة وجب الأداء»(2) اختصاص العبارة المذكورة بالمؤخّر عصيانا.

و يظهر عموم الحكم أيضا من كاشف الغطاء قائلا: «إنّ مدرك الركعة من الفرائض اليوميّة و صلاة الجمعة من آخر الوقت مدرك للفريضة، و لو طهرت الحائض و النفساء أو عقل المجنون أو بلغ الصبيّ و قد بقى من الوقت قدر الطهارة و ركعة وجبت الصلاة... إلى أن قال:

ص: 267


1- القواعد 248:1.
2- القواعد 250:1.

و الأقوى أنّه يكون مؤدّيا لا قاضيا و لا ملفّقا. و لو تمكّن من إدراك الركعة من الفريضة الثانية مع التقصير في الاولى في مواضع التخيير تعيّن، و هو في حقّ المعذور رافع للإثم و مصحّح للحكم، و في غير المعذور لا يرفع الإثم و إن صحّ الحكم. انتهى»(1).

و يمكن بناء المسألة في العموم و عدمه على ما تقدّم الإشارة إليه من كون مبنى الروايات على جعل الوقت الاضطراري فيختصّ بالمعذورين، أو على بيان كون الأداء ما وقع في الوقت و لو بركعة منه فيعمّ غيرهم ممّن أخّر عصيانا.

و مع الغضّ عن ذلك فدعوى العموم من جهة التعبير بالموصول المتضمّن لمعنى الشرط غير بعيدة، و إن احتمل المنع أيضا لمكان التعبير بقوله: «أدرك» المشعر بإرادة ابتداء الإدراك و حدوثه، بناء على أن يكون المراد من الإدراك التمكّن من الإتيان بالركعة في الوقت، و العاصي في تأخيره قد أدرك جميع الوقت أو تمام الصلاة في الوقت و سامح في الامتثال.

لكن لا يذهب عليك أنّه لا نجد كثير فائدة في عموم هذا الحكم له و عدمه، إذ غاية ما يلزم من عدم عمومه له سقوط الأمر بالأداء عنه بمجرّد شروع ما بقى من الوقت في القصور عن الفعل لئلاّ يلزم من بقائه تكليف ما لا يطاق، لكن عموم الأمر بالقضاء شامل له على كلّ حال لصدق الفوات بالنسبة إليه مطلقا. و هل يشرع في القضاء حينئذ من حينه أو ينتظر خروج هذا المقدار من الوقت ؟ وجهان:

من أنّ الأمر بالقضاء يتنجّز عند سقوط الأمر بالأداء، و من أنّ القضاء تدارك ما فات في الوقت في خارج الوقت. و الأحوط هو الانتظار لمنع مشروعيّة تركّب القضاء من الوقت و خارجه.

ثمّ إنّ الخلاف المتقدّم في الأداء و القضاء لم يظهر له فائدة يعتدّ بها عدى ما في كلام جماعة(2) من ظهورها في النيّة، و عليها مبنيّ ما عن تذكرة العلاّمة بعد تردّده في المسألة من قوله: «فإن قلنا: إنّ الواقع خارجا قضاء فهل ينوي القضاء أو لا؟ الأقرب العدول بالنيّة إليه»(3) و عدى ما في الذكرى(4) من أنّها تظهر أيضا «في الترتيب على الفائتة السابقة» فعلى القضاء يترتّب دون الأداء.

ص: 268


1- كشف الغطاء: 223.
2- كما في جامع المقاصد 30:2 و الذكرى 355:2
3- التذكرة 325:2-326.
4- الذكرى 355:2.

و يضعّف الاولى بما هو المحقّق من عدم وجوب التعرّض للأداء و القضاء في النيّة بل يكفي فيها توجّه النفس إلى ما في الذمّة، و من هنا ذكر كاشف اللثام(1) على ما حكي أنّ الأولى أن لا ينوي أداء و لا قضاء بل ينوي صلاة ذلك اليوم أو الليل و إن كان مبنيّ هذا الكلام على تردّده في المسألة.

و يضعّف الثانية على ما في المدارك «بأنّ الإجماع منعقد على وجوب تقديم الصلاة الّتي قد أدرك من وقتها مقدار ركعة مع الشرائط على غيرها من الفوائت»(2).

ثمّ بقى في المقام فرعان آخران تعرّض لهما الفاضلان في الشرائع(3) و القواعد:(4)

أحدهما: أنّه لو أدرك قبل الغروب أو قبل انتصاف الليل مقدار أربع ركعات وجبت العصر و العشاء خاصّة. أمّا عدم وجوب الصلاتين معا، فلاستحالة التكليف بالفعلين في وقت لا يسعهما معا. و أمّا عدم وجوب الظهر مكان العصر و عدم وجوب المغرب مكان العشاء، فلخروج وقتيهما و اختصاص هذا المقدار من آخر الوقت بالعصر و العشاء على ما سبق تحقيقه. نعم، على القول بالاشتراك فالوقت و إن كان صالحا لكلّ منهما على الانفراد إلاّ أنّ اللازم فيه من الظهرين ينبغي أن يكون هو الظهر لتقدّمها في الوضع الشرعي المتذكّر كما جزم بذلك صاحب المدارك(5) قائلا: «إن قلنا بالاشتراك فاللازم هو الاولى لتقدّمها و إلاّ فالثانية» و أمّا في العشاءين فقضيّة الاشتراك مع ما تقدّم من كفاية إدراك مقدار ركعة في وجوب الصلاة وجوب الفرضين معا.

ثمّ إنّ التعبير ب «مقدار أربع ركعات» في عنوان هذا الفرع كما في القواعد أيضا مثال، أو بناء على ما هو الغالب من وجوب الأربع، و إلاّ فبالنسبة إلى من وظيفته القصر فينبغي القطع بكفاية إدراك مقدار ركعتين في كلّ من العصر و العشاء.

ثمّ إنّه ينبغي القطع بأنّه يعتبر اتّساع الوقت للطهارة، و هل يعتبر اتّساعه لسائر الشرائط أم لا؟ ظاهر الفاضلين(6) العدم، و هو الأقرب لكفاية القدرة على الفعل الاضطراري في تنجّز التكليف به مع عدم التمكّن من الفعل الاختياري.

ص: 269


1- كشف اللثام 82:3.
2- المدارك 94:3.
3- الشرائع 63:1.
4- القواعد 248:1.
5- المدارك 94:3.
6- الشرائع 63:1، القواعد 248:1.

ثانيهما: أنّه لو أدرك قبل الغروب مقدار خمس ركعات مع الطهارة وجب عليه الفرضان وفاقا للفاضلين(1) كما عن الشهيدين(2) و ثاني المحقّقين(3) و الصيمري(4) و غيرهم(5) و عن الخلاف(6) نفي الخلاف فيه، لعموم من أدرك ركعة. و الظاهر أنّه لا فرق فيه بين القول بالاختصاص و القول بالاشتراك إلاّ في التمسّك بالعموم المذكور، إذ على الأوّل يتمسّك به فيهما معا، و على الثاني لا حاجة إليه إلاّ في الثانية، فعلى الأوّل كانت كلّ من الصلاتين من الصلاة المدرك ركعة منها في الوقت، و على الثاني كانت الثانية خاصّة من الصلاة المدرك ركعة منها في الوقت. و أمّا الاولى فهي بتمامها مدركة في الوقت.

و من هنا اتّجه أن يقال: إنّ في كون الركعة الاولى من الأربع الاولى للظهر خاصّة و الثلاث الباقية الّتي تتبعها للعصر و قد زاحمها فيها الظهر، أو أنّ الأربع الاولى بأجمعها للظهر و الخامسة خاصّة للعصر، وجهين مبنيّين على الاختصاص و الاشتراك. و بذلك يظهر التحقيق في الخلاف الواقع في هذا المقام الّذي نقله جماعة منهم: صاحب المدارك حيث قال: «ثمّ إنّ الركعة الاولى من الخمس للاولى بغير إشكال، و هل الثلاثة الّتي يتبعها لها، أم للعصر لكن يزاحمها الظهر فيها كما تزاحم العصر المغرب بثلاث لو أدرك من وقتها مقدار ركعة ؟(7) قيل بالأوّل لاستئثار الاولى بالسبق و وجوب تقديمها عند إمكان الجمع، و قيل بالثاني و هو خيرة العلاّمة في المختلف(8) لأنّ الأربع وقت للعصر مع عدم الخامسة فكذا معها، لاستحالة صيرورة ما ليس بوقت وقتا»(9) فإنّ مرجع هذا الخلاف ما نبّهنا عليه من كون كلّ من الصلاتين من الصلاة المدرك ركعة منها في الوقت أو كون الثانية خاصّة منها. فالأقوى على القول بالاختصاص - كما هو الأصحّ على ما تقدّم تحقيقه - هو الأوّل كما هو خيرة العلاّمة في المختلف، لأنّ معنى الاختصاص اختصاص مقدار أربع من آخر الوقت بالعصر كاختصاص مقدار أربع من أوّله بالظهر، و قضيّة ذلك تعيّن كون الثلاث التابعة للاولى وقتا للعصر و قد زاحمها فيها الظهر، و هذا هو معنى حجّة العلاّمة من أنّ الأربع وقت للعصر مع عدم

ص: 270


1- الشرائع 63:1، القواعد 248:1.
2- الذكرى 353:2 و روض الجنان: 178 و المسالك 147:1.
3- جامع المقاصد 31:2.
4- غاية المرام 123:1.
5- كالعلاّمة في التذكرة 273:2 و قطب الدين في الإصباح: 59 و المحقّق في الشرائع 63:1.
6- الخلاف 237:1، المسألة 14.
7- كما في الذكرى 354:2.
8- المختلف 55:2.
9- المدارك 95:3.

الخامسة فكذا معها، إذ لا جهة لكونها لها مع عدم الخامسة إلاّ البناء فيها على الاختصاص.

و العجب أنّ صاحب المدارك مع بنائه في مسألة الاختصاص و الاشتراك على الاختصاص ضعّف هذه الحجّة، حيث إنّه بعد ذكر وجهي القولين حسبما عرفت قال:

«و ضعف الوجهين ظاهر»(1) مع ابتنائها على ما اختاره من القول بالاختصاص. و بما بيّنّاه سقط ما قيل(2) في المقام «من أنّ فائدة الاحتمالين منتفية في الظهرين، لأنّهما تجبان على التقديرين، و إنّما تظهر فائدتهما في العشاءين، فإن قلنا الأربع للظهر تجب العشاءان بإدراك أربع، لأنّها حينئذ بمنزلة الخمس في الظهرين، و إن قلنا: إنّها للعصر و إنّما يزاحمها الظهر فيها اختصّت الأربع بالعشاء لأنّها بقدرها»(3) فإنّ وجوب العشاءين معا في صورة إدراك أربع من الوقت مبنيّ على القول بالاشتراك، و إلاّ فعلى القول بالاختصاص فالأربع مختصّة بالعشاء فلا تجب معها المغرب لتزاحمها في بعض من وقتها، نعم لو كانت العشاء مقصورة زاحمتها المغرب على هذا القول فوجوب العشاءين معا و عدمه من فوائد القولين بالاشتراك و الاختصاص لا من فوائد الخلاف المتقدّم، كما أنّ هذا الخلاف كان من فوائدها فمسألة العشاءين في عرض مسألة الظهرين لا في طولها.

ثمّ إنّ في صورة إدراك مقدار خمس من وقت الظهرين قبل الغروب المتقدّم حكمه من وجوبهما معا شيئا لا يخلو عن إشكال، و هو أنّ المدرك للخمس بعد اشتغاله بالاولى قد يتّفق له في الأثناء خلل يوجب تلافي ما فات فيها من الأجزاء المنسيّة أو صلاة الاحتياط، كما لو شكّ في الأربع و الثلاث و نحوه، أو سجود السهو، أو التروّي للشكّ في الأثناء على وجه يؤدّي العمل بموجب ذلك الخلل في كلّ من صوره إلى فوات قدر ركعة العصر من الوقت و هو الركعة الخامسة، فلا يمكن الجمع بينهما في إدراك الركعة من كلّ منهما في الوقت.

و مرجعه إلى التنافي بينهما في ذلك الحكم من حيث العمل لاستلزام الاولى ما ينافي الثانية، فهل يتعيّن طرح الاولى بإبطالها و الشروع في الثانية بدعوى انكشاف عدم شمول حكم عنوان الصلاة المدرك ركعة منها في الوقت للاولى، أو طرح الثانية بإتمام الاولى مع القيام بلوازمها الشرعيّة المفوّتة للركعة الاولى من الثانية بدعوى كشف الفرض عن عدم شمول حكم العنوان المذكور لها؟ احتمالان، مرجعهما إلى تخصيص أدلّة هذا الحكم من

ص: 271


1- المدارك 95:3.
2- كما في جامع المقاصد 32:2.
3- المدارك 95:3.

الروايات و الإجماعات المنقولة المتقدّمتين بإحدى الصلاتين.

و لك أن تقول بعدم لزوم التزام التخصيص، بدعوى اندراج المفروض في عنوان تزاحم فردين من أفراد العامّ ، فإمّا أن يخيّر بينهما في الأخذ و الطرح، أو يرجّح إحداهما بما معها من المرجّح كسبق الاولى، أو وجوب تقديمها على الثانية حينما أمكن الجمع بينهما على القول بالاشتراك، أو ترجيح صاحبة الوقت و هي الثانية لاختصاص الوقت المذكور بها على القول بالاختصاص، فبعد الشروع في المختار على التخيير أو ذي المرجّح على الترجيح يسقط الأمر عن الاخرى لئلاّ يلزم من بقائه التكليف بالمحال من غير أن يلزم تصرّف في الأدلّة بتخصيص و لا غيره.

و لم نقف من الأصحاب على نصّ في ذلك، و لا على من تعرّض لهذا الفرع عدى كاشف الغطاء في عبارة صريحة في إبطال الاولى حيث قال: «و من أدرك مقدار الخمس ثمّ تكاسل حتّى لم يسع الوقت إلاّ قدر الركعة، أو اشتغلت ذمّته بصلاة احتياطيّة أو أجزاء منسيّة أو سجود سهو أو اشتغل بالاولى فظهر له الضيق عن الركعة قطع و دخل في الثانية... الخ»(1).

و عدى مفتاح الكرامة المصرّح بإتمام الاولى مع لوازمها و إن أدّت إلى فوات الثانية قائلا: «و ينبغي التنبيه على فرع، و هو ما إذا شرع في الظهر ثمّ شكّ فيها بين الثلاث و الأربع، فلو أتى بركعة الاحتياط لم يدرك الركعة للعصر تامّة، فقد احتمل احتمالات كثيرة، و أصحّها أنّه يحتاط و لو فاتت العصر، لأنّ الأربع للظهر و قد وجب عليه أن يأتي بجميع واجباتها، بل لو قلنا: إنّ الثلاث من العصر لكان الواجب ذلك، إذ الشأن فيه كالشأن فيما إذا قرأ الحمد و السورة ثمّ شكّ في قراءتهما قبل أن يركع و علم أنّه لو رجع إليهما لم يدرك ركعة العصر تامّة فإنّا لا نظنّ أنّ أحدا من علمائنا يقول بأنّه يجب عليه قطع الظهر حينئذ و الشروع في العصر، و لا فرق بين القراءة و الجزء المنسيّ قبل تجاوز محلّه و ركعة الاحتياط، إذ الكلّ من واجبات صلاة الظهر انتهى»(2).

أقول: إنّ ما اختاره من وجوب إتمام الاولى و إن ضعف تعليله - لمنع كون الأربع بمجموعها للظهر بناء على القول بالاختصاص و منع الحكم في المقيس عليه بعد مساعدة الدليل على الإبطال بالقياس إلى الجزء المنسيّ و ركعة الاحتياط - لكنّه في النظر القاصر

ص: 272


1- كشف الغطاء: 221.
2- مفتاح الكرامة 155:5.

أقوى ممّا ظهر اختياره من كاشف الغطاء، لما نبّهنا عليه سابقا من اشتراط وجوب ما أدرك ركعة منه في الوقت ببقاء المكلّف على شرائط التكليف، فطروء العذر في الأثناء أو قبل الشروع كاشف عن عدم تعلّق الوجوب أو سقوطه على تقدير ثبوت تعلّقه. و لا ريب أنّ الاشتغال بالظهر مع القيام بواجباتها المفوّتة لركعة العصر عذر شرعي رافع للتمكّن من الإتيان بالعصر على وجه وقع ركعة منها في الوقت، إذ المفروض تعلّق الوجوب بالظهر لعموم قوله عليه السّلام: «من أدرك...» الخ فوجب إتمامها لحرمة إبطال العمل المتأكّدة باستصحاب الصحّة الّذي مرجعه إلى استصحاب الأمر، و المانع إنّما طرأ بالقياس إلى العصر فكشف طروئه عن عدم اندراجها في العموم.

و توهّم: عدم اندراج الظهر فيه من أنّ قضيّة قاعدة الاختصاص أن لا يزاحم الظهر العصر فيما يختصّ بها من مقدار أربع ركعات من آخر الوقت خرجنا عنها في ثلاث منها لعموم «من أدرك...» الخ، فإذا كانت الظهر بحيث لزمها المزاحمة في مجموع الأربع لم يظهر اندراجها في العموم فتكون باقية تحت القاعدة.

يدفعه: أنّ قوله عليه السّلام: «من أدرك ركعة...» الخ علم بالقياس إلى الظهر المدرك ركعة منها في الوقت المشترك بلا شبهة، و المزاحمة للعصر في مجموع أربع ركعاتها إنّما حصلت لعارض طروء الخلل للظهر المقتضي لطول زمان الفراغ عنها بجميع واجباتها، و هذا ممّا لا يصلح رافعا لأثر العموم المذكور، كما لو اتّفق نظير ذلك في العصر بعد الشروع فيها في الوقت بأن يقع فيها خلل يقتضي طول زمان الفراغ منها بجميع واجباتها، و مرجعه إلى حكومة عموم «من أدرك» على قاعدة الاختصاص، و هذا العموم و إن كان باعتبار الوضع أو العرف قائما بالنسبة إلى العصر أيضا إلاّ أنّ طروء العذر الرافع للتمكّن منها يوجب خروجها عن حكم هذا العامّ ، مع إمكان منع اندراجها في العموم بحسب الوضع و المفهوم بناء على أن يكون المراد من إدراك ركعة التمكّن من الإتيان بها في الوقت كما هو الظاهر، فالمكلّف في نحو الصورة المفروضة غير مدرك لركعة من العصر في الوقت.

و بجميع ما ذكر ظهر أنّه لا أثر لكونها صاحبة الوقت في هذا المقام كما لا يخفى، كما أنّه يظهر أنّه لا قضاء لها أيضا في نحو هذه الصورة في حقّ المعذور الّذي زال عذره في آخر الوقت لعدم التمكّن من الأداء بالذات فلا يشمله الأمر المعلّق على الفوات، لكنّ الأحوط مراعاة القضاء، و اللّه العالم.

ص: 273

[ينبوع: لو بلغ الصبيّ في أثناء العمل]

ينبوع

إذا بلغ الصبيّ المتطوّع بوظيفة الوقت في أثناء صلاته بما لا يبطل الطهارة كالسنّ و الإنبات، و قد بقى من الوقت مقدار الصلاة مع الطهارة و سائر شرائطها المفقودة، ففي الشرائع(1) و القواعد(2) و المدارك(3) كما عن الخلاف(4) و جملة من كتب العلاّمة(5) و كتب الشهيد(6) و غيرها(7) من كتب متأخّري أصحابنا و متأخّريهم أنّه يستأنف الصلاة و لا يعتدّ بما فعله قبل البلوغ، و نسبه في المدارك إلى أكثر الأصحاب، و هو المعتمد.

خلافا لظاهر الشيخ في المبسوط(8) قائلا: «بأنّه إن بلغ الصبيّ في أثناء الصلاة بما لا يفسدها أتمّ » و ظاهره الوجوب، و قد يحمل ذلك على إرادة الاستحباب الغير النافية لإيجاب الإعادة مع اتّساع الوقت ليكون على طبق ما عن تذكرة العلاّمة(9) من «أنّه لو بلغ في أثناء الصلاة بغير المفسد استحبّ له أن يتمّ و يعيد بعد ذلك إن كان الوقت متّسعا» و في المدارك «ربّما بني الخلاف في هذه المسألة على أنّ عبادة الصبيّ شرعيّة أو تمرينيّة، ثمّ قال: و هو غير واضح»(10).

و لعلّ نظره في ذلك إلى منع البناء على تقدير الشرعيّة إذ لم يظهر عموم حرمة إبطال العمل للمندوبات، أو منعه على تقدير التمرينيّة بما يكلّفه جامع المقاصد(11) من أنّ صورة كافية في صيانتها عن الإبطال. و كيف كان فاحتجّ في المدارك للأكثر «بأنّه بعد البلوغ مخاطب بالصلاة و الوقت باق فيجب عليه الإتيان بها، و ما فعله أوّلا لم يكن واجبا فلا يقع به الامتثال»(12).

ص: 274


1- الشرائع 63:1.
2- القواعد 250:1.
3- المدارك 96:3.
4- الخلاف 306:1 المسألة 53.
5- المختلف 56:2 و التذكرة 332:2.
6- البيان: 52 و الدروس 147:1.
7- كما في كشف اللثام 126:3 و الموجز الحاوي: 65 و جامع المقاصد 46:2 و كشف الالتباس: 714.
8- المبسوط 73:1.
9- التذكرة 332:2.
10- المدارك 96:3.
11- جامع المقاصد 47:2.
12- المدارك 96:3.

أقول: السرّ في كونه بعد البلوغ مخاطبا بالصلاة خروجه عن عنوان الصبيّ و دخوله في موضوع البالغ، فيشمله عموم الأمر بالصلاة المتوجّه إلى البالغين الواجدين لسائر شرائط التكليف، و لو اتّفق لهم الوجدان في بعض الوقت المتّسع للصلاة بشرائطها المعتبرة في الصحّة. و بذلك ظهر سقوط التمسّك بالاستصحاب لالتزام عدم الوجوب لاستحالة الاستصحاب مع تبدّل موضوع المستصحب، و أمّا عدم وقوع الامتثال بما فعله أوّلا، فلوضوح عدم قضاء امتثال الأمر الاستحبابي على تقدير تسليمه بناء على شرعيّة عبادة الصبيّ بالإجزاء عن الأمر الإيجابي خصوصا مع تأخّر حدوث الأمر الإيجابي عن امتثال الأمر الاستحبابي، مع أنّ متعلّق الأمر الاستحبابي موضوع غير ما هو موضوع الأمر الإيجابي و قد خرج هذا المكلّف عن الأوّل و دخل في الثاني، و من المستحيل كون حصول امتثال أمر موضوع مجزئا عن الأمر في موضوع آخر.

هذا، لكن لا يخفى عليك أنّ هذه الحجّة مع تحريرنا إيّاها إنّما تتمشّى أن لو اريد إثبات وجوب الإعادة بعد الفراغ عن الصلاة الّتي دخل فيها الصبيّ قبل البلوغ تطوّعا، و لا تفي بحكم الاستيناف المبنيّ على وجوب قطع هذه الصلاة أو جوازه إذا طرأ البلوغ في أثنائها كما هو مفروض المسألة، و لعلّه قدّس سرّه اكتفى لإثبات هذا المطلب مع أنّه العمدة في المقام بما يذكره بعد ذلك في جواب حجّة قول الشيخ في المبسوط فإنّها على ما حكاها عن العلاّمة في المختلف «أنّها صلاة شرعيّة فلا يجوز إبطالها لقوله تعالى: وَ لاٰ تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ (1) و إذا وجب إتمامها سقط به الفرض، لأنّ امتثال الأمر يقتضي الإجزاء»(2)فقال: «و الجواب بعد تسليم دلالة الآية على تحريم إبطال مطلق العمل أنّ الإبطال لم يصدر من المكلّف بل من حكم الشارع، سلّمنا وجوب الإتمام لكن لا نسلّم سقوط الفرض بها، و الامتثال إنّما يقتضي الإجزاء بالنسبة إلى الأمر الوارد بالإتمام لا بالنسبة إلى الأوامر الواردة بوجوب الصلاة»(3).

و التحقيق في الجواب - بعد الغضّ عمّا عرفته و ما ستعرفه - منع كون قطع هذه الصلاة إبطالا و لا بطلانا، بل هو لسقوط الأمر الاستحبابي بتبدّل موضوعه بالبلوغ، فإنّ المخاطب به إنّما هو هذا المكلّف بوصف كونه صبيّا و قد ارتفع ذلك بالبلوغ، و من المستحيل بقاء

ص: 275


1- محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: 33.
2- المختلف 56:2.
3- المدارك 96:3.

الأمر إيجابا أو ندبا بعد ارتفاع موضوعه، و المفروض عدم شمول الأمر الاستحبابي المتعلّق بالصبيّ قضيّة شرعيّة عباداتهم للبالغ فهذه الصلاة ممّا لا مسوّغ لإتمامها فيكون البقاء عليها إلى الفراغ تشريعا محرّما، فالمحرّم حينئذ إنّما هو الإتمام لا القطع بتوهّم كونه إبطالا للعمل و قد نهي عنه في الآية.

و بذلك اندفع توهّم وجوب صيانتها عن الإبطال على التمرينيّة أيضا اكتفاء فيها بصورة الصلاة، كما احتمله المحقّق الثاني في جامع المقاصد(1) لارتفاع موضوع التمرينيّة أيضا بالبلوغ فتأمّل.

هذا كلّه مع توجّه المنع إلى حرمة إبطال نحو هذا العمل، و لو سلّم فليس هنا إلاّ النهي عن الإبطال و هو يقتضي الإتمام، و امتثاله لا يفيد الإجزاء عن أمر آخر، و كون أصل هذه الصلاة من البدو إلى الختم امتثالا للأمر الاستحبابي على تقدير الشرعيّة لا يفيد الإجزاء بالنسبة إلى الأمر الإيجابي، كما عرفت سابقا، و لو سلّم أنّ النهي المذكور يتولّد منه الأمر بالإتمام فغاية ما هنالك حصول إجزاء الأمر بالإتمام بحصول امتثاله و هو لا يقضي بالإجزاء عن الأمر الإيجابي بالصلاة.

ثمّ إنّ تقييد العنوان بكون البلوغ بما لا يفسد الطهارة لإخراج البلوغ بالإنزال أو الحيض، إذ على الأوّل تعيّن الاستيناف قولا واحدا و لو على الشرعيّة لبطلان الصلاة بوقوع الحدث في الأثناء.

و أمّا الكلام في كفاية هذه الطهارة الحاصلة قبل البلوغ و بنائها على شرعيّة عبادة الصبيّ و تمرينيّتها، كما في المدارك(2) و غيره(3) فلعلّه غير جيّد بعد البناء على شرعيّة صلاته، لأنّ الصلاة لا تصير مشروعة و لو مندوبة إلاّ بالطهارة الرافعة للحدث، فشرعيّة صلاته تلازم كون طهارته أيضا شرعيّة.

نعم مع البناء على عدم شرعيّة صلاته فالاكتفاء بهذه الطهارة مشكل و إن قلنا بالشرعيّة في سائر عباداته، لأنّها قضيّة ثبتت على طريقة المهملة و لا دليل يقتضي العموم فيها، فالمتعيّن حينئذ إعادة الطهارة أيضا، بل الأحوط على تقدير شرعيّة صلاته أيضا إعادة

ص: 276


1- جامع المقاصد 47:2.
2- المدارك 96:3.
3- التذكرة 332:2 و المسالك 147:1 و فوائد الشرائع: 27.

الطهارة على تقدير اتّساع الوقت لها.

و بجميع ما ذكر من البدو إلى الختم ظهر الحكم فيما لو بلغ في الوقت بعد الفراغ عن الصلاة، فإنّ الواجب حينئذ إعادة الصلاة أيضا بلا إشكال، بل الظاهر عدم الخلاف في الإعادة، و لعلّ الخلاف المتقدّم أيضا ليس خلافا في إعادة الصلاة بل في قطع الصلاة المتلبّس بها.

ثمّ إنّه يكفي في حكم المسألتين من الاستيناف و الإعادة بقاء مقدار ركعة من الوقت مع الشرائط المفقودة على ما تقدّم تحقيقه، و عن العلاّمة في المنتهى التصريح بوجوب الإعادة «فيما لو بلغ بعد الفراغ من الصلاة إذا أدرك ركعة من الوقت مع الشرائط المفقودة»(1)و استحسنه في المدارك(2) فلو بلغ و قد بقى من الوقت دون الركعة فلا يجب عليه إعادة هذه الصلاة أداء و لا قضاء بلا خلاف أجده.

و أمّا هذه الصلاة المتلبّس بها ففي الشرائع(3) و القواعد(4) أنّها أتمّها ندبا و عزي إلى غيرهما(5) أيضا، و لم أقف على وجه له، و لعلّه احتياط للخروج عن شبهة حرمة الإبطال، و إلاّ فالبناء على عموم النهي عن الإبطال يقتضي وجوب الإتمام. و توهّم: ابتنائه على استصحاب الأمر الاستحبابي المتعلّق بهذه الصلاة قبل البلوغ، يدفعه: انقلاب موضوع المستصحب كما نبّهنا عليه سابقا، و لو قيل بالاستحباب اعتمادا على فتوى هؤلاء لأجل التسامح أو عملا بالاحتياط لم يكن بعيدا. و الصبيّة كالصبيّ في جميع الأحكام المذكورة.

ص: 277


1- المنتهى 114:4.
2- المدارك 97:3.
3- الشرائع 63:1.
4- القواعد 250:1.
5- كما في المسالك 147:1، و جامع المقاصد 47:2 و البيان: 51 و كشف اللثام 127:3.
[ينبوع: حرمة تقديم و تأخير الفريضة عن وقتها]

ينبوع

قضيّة التوقيت بالقياس إلى كلّ فريضة أن لا يجوز تأخيرها عن الوقت اختيارا و لا تقديمها عليه كذلك تكليفا و وضعا، فيعصي إذا أخّرها أو قدّمها عمدا و بلا عذر.

أمّا الأوّل: فلأنّ تأخير الموقّت عن وقته المضروب له ترك له رأسا فيكون ممنوعا منه بمقتضى وجوبه في الوقت، و أمّا الثاني فللتشريع المحرّم، و عليهما يحمل التحريم في عبارة العلاّمة في القواعد(1) حيث قال: «و يحرم تأخير الفريضة عن وقتها و تقديمها عليه» فيراد به في الأوّل المنع الّذي تضمّنه الوجوب و في الثاني المنع التشريعي، و إلاّ فالتحريم بمعنى المنع الشرعي و نهي الشارع عنه بالخصوص غير واضح إلاّ أن يستند فيه إلى موثّقة سماعة الآتية.

و كيف كان فعدم جواز تقديم الفريضة على وقتها إجماعي(2) بل قيل(3) هو ضروريّ ، و عن المنتهى «لا يجوز الصلاة قبل دخول وقتها بإجماع أهل العلم كافّة»(4) و نحوه عن المعتبر(5) نعم عن ابن عبّاس «في مسافر صلّى الظهر قبل الزوال أنّه يجزئه»(6) و نحوه عن الحسن و الشعبي(7) لكن عن المنتهى الاعتذار له «بأنّ خلاف هؤلاء قد انقرض فلا تعويل عليه»(8).

و ليس في النصوص ما يخالف ذلك إلاّ خبر الحلبي و ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا صلّيت في السفر شيئا من الصلوات في غير وقتها فلا يضرّك»(9) و هو لعدم كون

ص: 278


1- القواعد 248:1.
2- كما في جامع المقاصد 28:2، و روض الجنان 505:2.
3- الجواهر 450:7.
4- المنتهى 128:4.
5- المعتبر 62:2.
6- المغني لابن قدامة 407:1.
7- المغني لابن قدامة 407:1.
8- المنتهى 128:4.
9- الوسائل 9/168:4، ب 13 من أبواب المواقيت، التهذيب 551/141:2.

ظاهره معمولا به بين الأصحاب مطروح أو مؤوّل، فعن الشيخ حمله على تأخيرها لعذر فتصير قضاء، و في الوسائل الأقرب حملها على تأخيرها عن وقت الفضيلة و الإتيان بها في وقت الإجزاء، و يحتمل الحمل على النوافل(1) أقول: و يحتمل التقيّة أيضا.

فأمّا عدم جواز تقديمها وضعا: فمعناه أنّها تبطل لو قدّمها على الوقت عالما أو جاهلا أو ناسيا، أمّا في العالم العامد فالحكم مع وضوحه إجماعي كما نقله جماعة(2) أيضا، و الظاهر عدم الفرق في الإجماع بين مصادفة دخول الوقت في الأثناء و عدمها، بل عن التذكرة(3) الإجماع على عدم الفرق، و عن المختلف(4) نفي الخلاف في ذلك. و أمّا عبارة النهاية الموهمة لخلاف ذلك حيث قال: «من صلّى الفرض قبل الوقت عامدا أو ناسيا ثمّ علم بعد ذلك وجب عليه إعادة الصلاة، فإن كان في الصلاة لم يفرغ منها بعد ثمّ دخل وقتها فقد أجزأت عنه»(5) فقد تأوّلها الأصحاب، فعن المختلف(6) إرجاع التفصيل إلى الناسي، و عن جماعة(7) حمل العامد على إرادة الظانّ لأنّه عامد أيضا.

و كيف كان فوجه البطلان أنّ هذا الفعل لا يجزئ عن نفسه و لا عن غيره من الفعل في الوقت، أمّا الأوّل فلانتفاء الأمر، و من المستحيل حصول الإجزاء مع عدم صدق الامتثال.

و أمّا الثاني فلامتناع الإجزاء مع عدم الإتيان بالمأمور به و لا ببدله كما هو مفروض المقام، و يدلّ عليه موثّقة سماعة بن مهران قال: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: إيّاك أن تصلّي قبل أن تزول، فإنّك تصلّي في وقت العصر خير لك من أن تصلّي قبل أن تزول»(8).

و أمّا تعليل البطلان بأنّها عبادة منهيّ عنها و النهي في العبادة يقتضي الفساد، كما في المدارك(9) و الذخيرة(10) و تبعهما غيرهما(11) ففيه: أنّ تعليل البطلان بانتفاء الأمر كما هو المفروض مع قطع النظر عن النهي أولى من تعليله بالنهي الّذي اقتضاؤه الفساد، على القول به إنّما هو لكشفه عن انتفاء الأمر، و لو من جهة استحالة ورودهما على محلّ واحد.

ص: 279


1- المنتهى 129:4.
2- كما في المهذّب 301:1، و في جامع المقاصد 28:2.
3- التذكرة 380:2.
4- المختلف 47:2.
5- النهاية: 62.
6- المختلف 47:2.
7- منهم السيّد العاملي في المدارك 102:3، و البحراني في الحدائق 285:6، و السبزواري في الذخيرة: 209.
8- الوسائل 6/167:4، ب 13 من أبواب المواقيت، التهذيب 549/141:2.
9- المدارك 102:3.
10- الذخيرة: 209.
11- كما في جامع المقاصد 29:2.

و أمّا في الجاهل فبطلان صلاته قبل الوقت مذهب الأكثر كما عن المهذّب البارع(1)و روض الجنان(2) و عن السيّد(3) أنّه مذهب محصّلي أصحابنا و محقّقيهم.

و عن التذكرة(4) الإجماع عليه، و دليله عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه لانتفاء الأمر أوّلا و انتفاء الشرط ثانيا فلا يصدق معه الامتثال فلا رافع للتكليف بعد دخول الوقت، و اللازم من ذلك بقاء في العهدة إلى أن يحصل الامتثال، و ظاهر فتوى الأصحاب كما هو صريح معقد إجماع التذكرة عدم الفرق بين وقوع الكلّ قبل الوقت أو وقوع البعض، و هو مقتضى الدليل المذكور، فإنّ شرط الكلّ شرط للبعض، فالإخلال به في كلّ منهما مفوّت للامتثال و مع عدم الامتثال يجب الإعادة، خلافا للمنقول عن أبي الصلاح الحلبي(5) من صحّة صلاته. و لا أرى له وجها عدى توهّم الأمر الظاهري المجعول للجاهل المقتضي للإجزاء عن الأمر الواقعي.

و يدفعه: امتناع جعل الحكم للجاهل ما لم يلتفت المكلّف المحكوم عليه بذلك الحكم في موضوعه، و المكلّف الجاهل ما دام جاهلا يستحيل التفاته إلى كونه جاهلا.

و تمام الكلام في تحقيق هذا المرام في الاصول، فالجاهل في عمله المذكور كما أنّه لا أمر له بذلك العمل واقعا، فكذلك لا أمر له ظاهرا إلاّ أن يجعل الوقت شرطا عمليّا مخصوصا بالعالم، و هو خلاف مقتضى الأدلّة و النصوص.

و أمّا موضوع الجاهل فهو على ما في كلام جماعة أعمّ من جهل الحكم و هو اشتراط الصلاة بالوقت فصلّى في غير الوقت، و من جهل الوقت مع علمه بالحكم فصلّى في غير الوقت، و من غفل عن مراعاة دخوله مع علمه بالحكم و الوقت فصلّى في غير الوقت أيضا داخل في الجاهل، و لعلّه مراد الشهيد في الذكرى(6) على ما حكي عنه من تفسيره «بجاهل اعتبار الوقت» بل الظاهر أنّ الشاكّ في دخوله الّذي صلّى في غير الوقت لمجرّد تجويز دخوله أيضا مندرج فيه. و يمكن دخول الغافل في الناسي على ما يساعد عليه تفسيره الآتي.

ص: 280


1- المهذّب 302:1.
2- روض الجنان 506:2.
3- نقل عنه العلاّمة في المختلف 46:2، رسائل الشريف المرتضى 350:2.
4- التذكرة 380:2.
5- الكافي في الفقه: 138.
6- الذكرى 393:2.

و أمّا من جهل دخوله فصلّى لأمارة على ما احتمله الشهيد في الذكرى(1) فهو ليس من أفراد الجاهل بالمعنى المبحوث عنه، بل هو من الظانّ المخطئ في ظنّه و هو عنوان آخر أفردوه بالبحث و سيأتي التعرّض له.

و هل يدخل فيه الجاهل بالجهل المركّب كما لو اعتقد دخول الوقت فصلّى فانكشف فساد اعتقاده أو لا؟ و الأوّل غير بعيد، و لو لم يدخل فيه موضوعا فلا إشكال في دخوله في حكمه، ضرورة عدم صدق الامتثال المقتضي للإجزاء و اعتقاد المأمور به في المأتيّ به لا يحدث فيه الأمر على ما حقّق في محلّه.

و لو صلّى الجاهل بالحكم أو بالوقت فصادف الوقت فالأصحّ الإجزاء على تقدير تحقّق قصد القربة، وفاقا للمدارك(2) و كاشف اللثام(3) و المحقّق الأردبيلي(4) على ما حكي عنه في المدارك، لأنّ العلم بالحكم أو الوقت أو دخوله إنّما يعتبر مقدّمة علميّة للعلم بأداء المأمور به المعتبر في العقل و الشرع للاطمئنان بالإطاعة المأمور بها في العقل و الشرع، فالغرض الأصلي من اعتباره إنّما هو إحراز الإطاعة بحصول أداء المأمور به في الخارج لا لدخله في المأمور به و قد حصل، و تمام الكلام في تحقيقه في الأصول.

و عن العلاّمة(5) و كذلك كلّ من فعل ما هو في نفس الأمر و إن لم يعرف كونه كذلك، و نحوه ما عن المحقّق الأردبيلي قائلا: و كذا البحث في كلّ «من أتى بما هو الواجب في نفس الأمر و إن لم يكن عالما بحكمه»(6) و استجوده في المدارك(7) و هو حسن إن لم يكن جهله مخلاّ بالقربة المعتبرة في العبادة أو كان مفروضا في غير العبادات، و الأوّل مع الجهل بالحكم مشكل إلاّ أن يراد به غير التكليف كالجهل بشروط المكلّف به و اشتراطه بها مع العلم بأصل التكليف.

و يظهر من صاحب الذخيرة تبعا للشهيد في الذكرى المنع من الصحّة، و زعم كونها مخالفة للقواعد العدليّة ثمّ قال: و ليس المقام محلّ تفصيله لكن أقول إجمالا أنّ أحد الجاهلين إن صلّى في الوقت و الآخر في غير الوقت فلا يخلو إمّا أن يستحقّا العقاب أو

ص: 281


1- الذكرى 392:2.
2- المدارك 102:3.
3- كشف اللثام 81:3.
4- مجمع الفائدة و البرهان 54:2.
5- لم نعثر عليه فى كتبه الموجودة.
6- مجمع الفائدة و البرهان 54:2.
7- المدارك 102:3.

لم يستحقّا أصلا أو يستحقّ أحدهما دون الآخر، و على الأوّل يثبت المطلوب لأنّ استحقاق العقاب إنّما يكون لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه، و على الثاني يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا، و لو انفتح هذا الباب لجرى الكلام في كلّ واحد واحد من أفعال الصلاة و يفضي الأمر إلى ارتفاع جلّ التكاليف و هذا مفسدة واضحة لا يشرع لأحد الاجتراء عليها و معلوم فسادها ضرورة، و على الثالث يلزم خلاف العدل لاستوائهما في الحركات الاختياريّة الموجبة للمدح أو الذمّ ، و إنّما حصل مصادفة الوقت و عدمه لضرب من الاتّفاق من غير أن يكون لأحد منهما فيه ضرب من التعمّد و السعي، و تجويز مدخليّة الاتّفاق الخارج عن المقدور في استحقاق المدح أو الذمّ ممّا هدم بنيانه البرهان و عليه إطباق العدليّة في كلّ زمان»(1).

و فيه من الخلط و الاشتباه ما لا يخفى، فإنّا نختار الوجه الثالث و نقول باستحقاق الثواب فيمن صادف الوقت و استحقاق العقاب فيمن لم يصادفه إذا التفت في الوقت و ترك الإعادة، و ليس فيه مخالفة للقواعد العدليّة إذ ليس الاستحقاقين من لوازم المصادقة و عدمها الغير الاختياريّين، بل إنّما يترتّبان على فعل المأمور به و تركه الاختياريّين، و كذلك مع عدم التفات الغير المصادف إذا لم يكن جهله في نظر العقل عذرا، كما لو قصّر في جهله فإنّه يستحقّ العقاب لتركه المأمور به المسبّب عن جهله المسبّب عن اختياره، و إنّما يقبح الذمّ و العقاب على ما لا يرجع بالأخرة إلى القدرة و الاختيار، و أمّا ما يرجع بالأخرة إليهما فيصحّ الذمّ و العقاب عليه.

نعم لو كان جهله بحيث يعدّ في نظر العقل عذرا كما في صورة القصور و العجز عن العلم فالمتّجه عدم استحقاقه العقاب مع استحقاق المصادف الثواب، أو لكون الأوّل كالثاني آتيا بالمأمور به بل لكونه تاركا له بالعذر الرافع للعقاب، و مرجع ذلك إلى اختيار الوجه الثاني و لا يفضي ذلك إلى خروج الواجب عن كونه واجبا، أمّا بالنسبة إلى المصادف فلفرض إتيانه بالواجب، و أمّا بالنسبة إلى غيره فلكون تركه عن عذر و الواجب ما استحقّ تاركه إلى بدل و لا عن عذر العقاب.

و أمّا في الناسي فقد نصّ على بطلان صلاته جماعة من المتأخّرين و متأخّريهم، و عن السيّد رحمه اللّه «أنّه لا يصحّ صلاته»(2) و عن المختلف «أنّه نصّ الحسن بن أبي عقيل و ظاهر

ص: 282


1- الذخيرة: 209-210.
2- رسائل الشريف المرتضى 350:2.

ابن الجنيد»(1) و عن الروض(2) «أنّه أشهر» و في الذخيرة(3) «اختاره المصنّف و أكثر المتأخّرين» و عن السيّد «أنّه مذهب المحقّقين و المحصّلين من أصحابنا»(4) و عن التذكرة(5) الإجماع على بطلان صلاته إذا قدّمها أو بعضها، و عن ظاهر كلام الشيخ في النهاية(6) صحّة صلاته، و عن المختلف(7) «أنّها نصّ كلام أبي الصلاح في الكافي و ظاهر كلام ابن البراج» و ربّما نسب الصحّة إلى البيان(8).

و ظاهر إطلاق المبطلين و صريح جماعة كما هو صريح معقد إجماع التذكرة(9) عدم الفرق بين ما إذا وقعت الصلاة بأسرها قبل الوقت أو دخل و هو متلبّس بها، و في كلام غير واحد تخصيص القول بالصحّة بالصورة الثانية، و عليه فيكون البطلان في الصورة الاولى موضع وفاق. و كيف كان فالمعتمد هو البطلان مطلقا لما تقدّم من عدم الامتثال المفيد للإجزاء لعدم كون المأتيّ به قبل الوقت كلاّ أو بعضا من المأمور به، فيستحيل إفادته الإجزاء بالنسبة إلى الوقت، هذا مضافا إلى النصوص المستفيضة القاضية بالبطلان هنا و في المقامين السابقين.

ففي موثّقة أبي بصير المرويّة بطريقين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من صلّى في غير وقت فلا صلاة له»(10).

و رواية الحسن العطّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لأن اصلّي الظهر في وقت العصر أحبّ إليّ من أن اصلّي قبل أن تزول الشمس، لأنّي إذا صلّيت قبل أن تزول الشمس لا تحسب لي، و إذا صلّيت في وقت العصر حسبت لي»(11).

و مرسلة الصدوق قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: لأن اصلّي بعد ما يمضي الوقت أحبّ إليّ من اصلّي و أنا في شكّ من الوقت و قبل الوقت»(12) و إطلاق هذه الروايات كما ترى يتناول العالم العامد و الجاهل و الناسي.

و أمّا القول بالصحّة فمستنده غير واضح، و لعلّه توهّم الأمر الظاهري للناسي، أو توهّم كون الوقت من الشروط العلميّة، و أيّا ما كان فمحلّ منع على ما عرفت في الجاهل.

ص: 283


1- المختلف 48:2.
2- روض الجنان 506:2.
3- الذخيرة: 209.
4- رسائل الشريف المرتضى 350:2.
5- التذكرة: 380.
6- النهاية: 62.
7- المختلف 48:2.
8- البيان: 51.
9- التذكرة: 380.
10- الوسائل 7/168:4، ب 13 من أبواب المواقيت، التهذيب 1005/254:2.
11- الوسائل 8/168:4، ب 13 من أبواب المواقيت، التهذيب 1006/254:2.
12- الوسائل 11/169:4، ب 13 من أبواب المواقيت، الفقيه 670/144:1.

ثمّ المراد بالناسي على ما نصّ عليه جماعة ناسي مراعاة الوقت، و عن الشهيد في الذكرى(1) أنّه أطلقه على من جرت منه الصلاة حال عدم حضور الوقت بالبال، و لعلّه راجع إلى الأوّل و إلاّ فكونه ناسيا موضع نظر، و لذا قال في محكيّ جامع المقاصد(2): «إن كان مراده به غير المعنى الأوّل ففي إطلاق الناسي عليه شيء» و عن كاشف اللثام(3) تفسيره بالناسي لمراعاة الوقت أو للظهر مثلا أو اختصاص الوقت بها و لا ضير فيه.

ثمّ إنّ ناسي مراعاة الوقت إذا صادف صلاته الوقت ففي صحّتها كما هو خيرة المدارك(4)و عن مجمع البرهان(5) و كشف اللثام(6). و العدم كما في الذكرى(7) و جامع المقاصد(8) و عن حاشية الإرشاد(9) قولان، أجودهما الأوّل. و يظهر وجهه بملاحظة ما مرّ في الجاهل. و أمّا القول الآخر فلم يظهر وجهه عدى ما أشار إليه في الذكرى من عدم تحقّق الدخول الشرعي في الصلاة حيث قال: «تنبيه، لو صادف الوقت صلاة الناسي أو الجاهل بدخول الوقت أو الحكم، ففي الإجزاء نظر: من عدم الدخول الشرعي، و من مطابقة العبادة ما في نفس الأمر، و الأوّل أقوى. و أولى بالبطلان تارك الاجتهاد مع القدرة عليه، أو تارك التقليد مع العجز عن الاجتهاد لعصيانهما. و لو لم يتذكّر الاجتهاد و التقليد فكالأوّل انتهى»(10).

و فيه: أنّ عدم شرعيّة الدخول إمّا للنهي عن الدخول أو لانتفاء الأمر أو لانتفاء قيد من قيود المأمور به، و الكلّ خلاف الفرض، و ليس في المقام إلاّ النسيان و الجهل الّذي ليس عدمه من شروط الأمر و لا من قيود المأمور به، و سبق العلم بالوقت أو بالحكم و ما يقوم مقامه ليس واجبا نفسيّا و لا غيريّا بحيث يكون معتبرا في الصحّة كإزالة النجاسة مثلا، بل هو واجب غيري اعتبر مقدّمة علميّة للعلم بإحراز المأمور به و هو الصلاة في الوقت، فإذا اتّفق حصول إحرازه من غير جهة العلم سقط اعتباره، ضرورة سقوط المقدّمة بتحقّق ذيها في الخارج. نعم لو كان مفروض المسألة بحيث لم يكن جازما عند شروعه يكون ما يشرع فيه هو المأمور، كالجاهل الشاكّ في الوقت مع دخوله فيها لمجرّد تجويز لم يكن مجزئا لانتفاء القربة كما أشرنا إليه سابقا غير أنّه خارج عمّا نحن فيه.

ص: 284


1- الذكرى 394:2.
2- جامع المقاصد 28:2.
3- كشف اللثام 79:3.
4- المدارك 102:3.
5- مجمع الفائدة و البرهان 54:2.
6- كشف اللثام 80:3.
7- الذكرى 394:2.
8- جامع المقاصد 28:2.
9- حاشية الإرشاد: 11، نقله عنه في مفتاح الكرامة 143:5.
10- الذكرى 394:2.
[ينبوع: يجب مراعاة الوقت قبل الدخول فيها إمّا بتحصيل العلم أو بتحصيل الظنّ أو بالتقليد: إذا كان للمكلّف طريق إلى العلم بالوقت من غير جهة التأخير لا يجوز له التعويل على الظنّ ]

ينبوع

قضيّة عدم جواز الصلاة قبل الوقت بل بطلانها مطلقا وجوب مراعاة الوقت قبل الدخول فيها إمّا بتحصيل العلم، أو بتحصيل الظنّ به إذا عجز عن العلم، أو بالتقليد إذا فقد الظنّ أيضا فهاهنا مقامات:

المقام الأوّل: إذا كان للمكلّف طريق إلى العلم بالوقت من غير جهة التأخير لا يجوز له التعويل على الظنّ إجماعا، كما عن مجمع البرهان(1) و المفاتيح(2) و كشف اللثام(3) و غيره(4)و هو مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفا كما في المدارك(5). و هذا عند التحليل يتضمّن حكمين:

أحدهما: جواز الاعتماد على العلم، و هذا من الواضحات الّتي لا تحتاج إلى الاستدلال، حيث إنّ العلم بنفسه طريق إلى الواقع و لا يحتاج طريقيّته إلى جعل من الشارع، ضرورة أنّ العلم بالشيء عبارة عن انكشاف الواقع و إذا انكشف الوقت للمكلّف جاز له الأخذ به بالدخول في الصلاة فيه، فالتعويل على العلم بالشيء معناه الأخذ بالمعلوم على ما هو في الواقع، و هو لا يحتاج إلى دليل آخر أزيد من أدلّة اعتبار ذلك المعلوم، فجواز التعويل على العلم بالوقت لا يحتاج إلى أزيد من أدلّة الوقت و اشتراط الصلاة به.

و ثانيهما: عدم جواز التعويل على الظنّ مع إمكان العلم، و هذا أيضا ممّا يستقلّ به العقل بعد ملاحظة عدم الملازمة بين الظنّ بالشيء و كون المظنون ما هو ذلك الشيء في الواقع، و مقتضى أدلّة اعتبار الوقت اشتراط الصلاة بما هو وقت في الواقع، و الظنّ بالوقت لا يلازم كون المظنون هو الوقت الواقعي، فمرجع دوران الأمر بين العلم و الظنّ حينئذ إلى دوران

ص: 285


1- مجمع الفائدة و البرهان 52:2.
2- المفاتيح 95:1.
3- كشف اللثام 81:3.
4- كما في المنتهى 132:4، و الذكرى 394:2.
5- المدارك 97:3.

الأمر بين انكشاف الواقع ما يحتمل غير الواقع، و مرجع ذلك إلى دوران الأمر بين الأخذ بالواقع و الأخذ بما يحتمل غير الواقع أيضا.

و لا ريب أنّ العدول عن الأوّل مع إمكانه إلى الثاني من دون جهة مجوّزة له - و هو ترخيص المولى في الأخذ بما يحتمل كونه غير الواقع أيضا، و مرجعه إلى التخيير في امتثال أمر المولى بين الواقع و غيره بدلا عنه - قبيح، على معنى كون فاعله مستحقّا للذمّ عند العقلاء و في نظر المولى، و هذا هو معنى احتجاج العلاّمة في المنتهى «بأنّ العلم يؤمن معه الخطأ و الظنّ لا يؤمن معه ذلك و ترك ما يؤمن معه الخطأ قبيح»(1) و في معناه ما في التذكرة «لا يجوز التعويل في دخول الوقت على الظنّ مع القدرة على العلم، لقضاء العقل بقبح سلوك طريق لا يؤمن معه الضرر مع التمكّن من سلوك ما يتيقّن معه الأمن»(2).

و وجهه أنّ الظنّ ليس بدائم المصادفة للواقع، فالتعويل عليه مكان العلم أخذ بما يحتمل كونه غير الواقع بدلا عن الواقع و هو - مع عدم قيام الدليل على بدليّة غير الواقع عن الواقع - قبيح عقلا. و كون الوقت المضروب للصلوات أعمّ من الوقت الواقعي و غيره خلاف مقتضى الأدلّة المنصرفة بحكم الوضع، و متفاهم العرف إلى الوقت الواقعي.

و العجب أنّ صاحب المدارك غفل عن هذا المعنى فأورد على الحجّة المذكورة بقوله:

«و هو ضعيف جدّا، إذ العقل لا يقضي بقبح التعويل على الظنّ هنا بل يأباه لو قام عليه دليل، ثمّ قال: و الأجود الاستدلال عليه بانتفاء ما يدلّ على ثبوت التكليف مع الظنّ للمتمكّن من العلم، و يؤيّده عموم النهي عن اتّباع الظنّ الخ»(3).

فإنّ مبنى الحجّة على تقدير عدم قيام الدليل على التعويل على الظنّ ، و معه لا خفاء في قبحه عقلا، و أيّ قبيح أقبح من الإغماض عن الواقع و الأخذ بما يحتمل كونه غيره بدلا عنه مع عدم قيام دليل على بدليّة غيره عنه، و يدلّ على عدم كفاية الظنّ أيضا أنّ المظنون إذا احتمل كونه غير الوقت لا جزم معه بكون المأتيّ به فيه هو المأمور به، فيمتنع الصحّة حينئذ لعدم إمكان القربة و قصد امتثال الأمر المعتبر في صحّة العبادة، و إنّما يمكن القصد لو قام الدليل على تنجّز التكليف مع ظنّ الوقت أيضا، و مرجعه إلى قيام الدليل ببدليّة غير ما هو وقت في الواقع عنه و المفروض عدمه.

ص: 286


1- المنتهى 132:4.
2- التذكرة 381:2.
3- المدارك 97:3.

و يدلّ أيضا على اعتبار العلم و عدم كفاية الظنّ عدّة من الروايات كرواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام «في الرجل يسمع الأذان فيصلّي الفجر فلا يدري أطلع الفجر أم لا، غير أنّه يظنّ لمكان الأذان أنّه طلع ؟ قال: لا يجزئه حتّى يعلم أنّه طلع»(1).

و قول أبي جعفر الثاني عليه السّلام في رواية عليّ بن مهزيار: «الفجر هو الخيط الأبيض المعترض، و ليس هو الأبيض صعدا فلا تصلّ في سفر و لا حضر حتّى تبيّنه، فإنّ اللّه تبارك و تعالى لم يجعل خلقه في شبهة من هذا، فقال: كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ (2) فالخيط الأبيض هو المعترض الّذي يحرم به الأكل و الشرب في الصوم، و كذلك هو الّذي يوجب به الصلاة»(3).

نعم، في مصحّح ابن أبي عمير عن إسماعيل بن رباح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا صلّيت و أنت ترى أنّك في وقت و لم يدخل الوقت فدخل الوقت و أنت في الصلاة فقد أجزأت عنك»(4) و هذا بناء على ظهور الرأي فيه في الظنّ - كما في كلام غير واحد - بإطلاقه يتناول صورة التمكّن من العلم، و لأجل ذا تردّد في المسألة صاحب الذخيرة(5).

و لكنّ الّذي سهل الخطب من جهته عدم ظهور عامل من الأصحاب بهذا الإطلاق، بل ظهور خلافه بملاحظة ما عرفت من الإجماعات، مضافا إلى الشهرة الّتي حكاها في الذخيرة فيتوهّن به الإطلاق، و يتقيّد بصورة عدم التمكّن من العلم.

نعم، ظاهر المحكيّ عن الشيخين ربّما يوهم المصير إلى مقتضى الإطلاق المذكور، فعن المقنعة «من ظنّ أنّ الوقت قد دخل فصلّى ثمّ علم بعد ذلك أنّه صلّى قبله أعاد الصلاة إلاّ أن يكون الوقت دخل و هو في الصلاة لم يفرغ منها بعد فيجزئه ذلك»(6) و عن النهاية «و لا يجوز لأحد أن يدخل في الصلاة إلاّ بعد حصول العلم بدخول وقتها أو يغلب على ظنّه ذلك»(7) و الأمر فيهما أيضا سهل لكونهما محمولين على صورة عدم التمكّن من العلم.

و عن ظاهر المحقّق في المعتبر جواز التعويل على أذان الثقة الّذي يعرف منه الاستظهار

ص: 287


1- الوسائل 4/280:4، ب 58 من أبواب المواقيت، مسائل عليّ بن جعفر: 249/161.
2- البقرة: 187.
3- الوسائل 4/210:4، ب 27 من أبواب المواقيت، التهذيب 115/36:2.
4- الوسائل 1/206:4، ب 25 من أبواب المواقيت، التهذيب 110/35:2.
5- الذخيرة: 208.
6- المقنعة: 94.
7- النهاية: 62.

مع التمكّن من العلم استنادا إلى قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المؤذّن مؤتمن»(1) و لأنّ الأذان مشروع للإعلام بالوقت فلو لم يجز تقليده لما حصل الغرض به(2).

و عن الشهيد الاعتراض عليه بأنّه يكفي في صدق الأمانة تحفّظها بالنسبة إلى ذوي الأعذار و «شرعيّة الأذان للإعلام لتقليدهم خاصّة و لتنبيه المتمكّن على الاعتبار»(3).

و تردّد هنا أيضا صاحب الذخيرة، بل يظهر أخيرا منه الميل إلى موافقة المحقّق، نظرا إلى اختلاف الروايات ففي الصحيح عن ذريح قال: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: صلّ الجمعة بأذان هؤلاء فإنّهم أشدّ شيء مواظبة على الوقت»(4). و في الصحيح عن ابن أبي عمير عن حمّاد بن عثمان عن محمّد بن خالد القسري قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخاف أن نصلّي الجمعة قبل أن تزول الشمس فقال: إنّما ذاك على المؤذّنين»(5) قال: «و فيهما دلالة على قول المحقّق رحمه اللّه و يخالفه رواية عليّ بن جعفر السابقة(6) و لا يبعد ترجيح قول المحقّق، و حمل رواية عليّ بن جعفر على الكراهة توفيقا بين الأخبار»(7).

أقول: غير واحد من إطلاقات الأذان و إن كان يقضي بالاعتماد على الأذان مطلقا لكن في غير واحد من نصوصه أيضا ما يقيّد هذا الإطلاق، و يدلّ على أنّ الأذان إنّما يعتمد عليه في موضع العلم بوقوعه بعد دخول الوقت باعتبار العلم من عادة المؤذّن بأنّه لا يؤذّن إلاّ بعد دخوله، ففي موثّقة موسى بن بكر عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «هذا ابن امّ مكتوم و هو يؤذّن بليل، فإذا أذّن بلال فعند ذلك فامسك يعني في الصوم»(8). و صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «لا تنتظر بأذانك و إقامتك إلاّ دخول وقت الصلاة و احدر(9) إقامتك حدرا، قال: و كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مؤذّنان

ص: 288


1- الوسائل 2/378:5، ب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، التهذيب 1121/282:2، سنن أبي داود 1: 517/143.
2- المعتبر 63:2.
3- الذكرى 395:2.
4- الوسائل 1/378:5، ب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، التهذيب 38/284:2.
5- الوسائل 379:5، ب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، التهذيب 39/284:2.
6- الوسائل: 4/280/4، ب 58 من أبواب المواقيت، مسائل عليّ بن جعفر: 249/161.
7- الذخيرة: 208.
8- الوسائل 4/389:5، ب 8 من أبواب الأذان و الإقامة، الكافي 1/98:4.
9- احدر إقامتك حدرا: أي أسرع بها من غير تأمّل و ترتيل (مجمع البحرين 260:3).

أحدهما بلال و الآخر ابن امّ مكتوم، و كان ابن امّ مكتوم أعمى و كان يؤذّن قبل الصبح، و كان بلال يؤذّن بعد الصبح، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ ابن امّ مكتوم يؤذّن بليل فإذا سمعتم أذانه فكلوا و اشربوا حتّى تسمعوا أذان بلال...»(1) الخ. و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان بلال يؤذّن للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ابن امّ مكتوم، و كان أعمى يؤذّن بليل، و يؤذّن بلال حين يطلع الفجر»(2).

فإنّ التفصيل و الفرق بين أذان ابن امّ مكتوم بالإذن في الأكل و الشرب تعليلا بأنّه «كان يؤذّن بالليل» و أذان بلال بالأمر بالإمساك تعليلا بأنّه «كان يؤذّن بعد الصبح» صريح في أنّ الأذان ليس أمارة اعتبرها الشارع من باب الموضوعيّة، بل اعتبارها إنّما هو من باب الكشف لكن لا بحيث يعوّل عليه مطلقا حتّى ما أفاد منه الظنّ بدخول الوقت، بل يعوّل عليه حيث علم من عادة صاحبه أنّه لا يؤذّن إلاّ بعد دخول الوقت، و مرجعه إلى تقييد الأذان في التعويل عليه بموضع يفيد فيه العلم بالوقت. و لا يقدح اختصاص النصوص المذكورة بالصوم، لعدم قائل بالفرق بينه و بين الصلاة كما في كلام جماعة(3).

و يشير إلى عدم الفرق بينهما أيضا صحيحة معاوية حيث عنون الحكم أوّلا بالأذان و الإقامة للصلاة ثمّ ساق الحديث بحكاية قضيّة ابن امّ مكتوم و بلال المختصّة بالصوم. و إلى المعنى المستفاد من هذه النصوص يشير قوله عليه السّلام: «صلّ الجمعة بأذان هؤلاء فإنّهم أشدّ شيء مواظبة على الوقت» في خبر ذريح.

و أمّا قوله عليه السّلام: «إنّما ذاك على المؤذّنين» في خبر ابن خالد القسري بناء على كون ذاك إشارة إلى صلاة الجمعة قبل الوقت مرادا به كون وزر ذلك و عقوبته على المؤذّنين كما هو الظاهر فلا يخلو عن شيء، إذ الأذان إن كان طريقا يعوّل عليه شرعا فوجب أن لا يكون وزر و لا عقوبة في التعويل عليه على أحد، و إلاّ فيكون الوزر و العقوبة على المصلّي لتعويله على ما لا ينبغي التعويل عليه لا على المؤذّنين لثبوت الرخصة لهم في الأذان، إلاّ أن يكون ذلك لتقصيرهم في مراعاة دخول الوقت، أو يجعل ذلك إشارة إلى مراعاة دخول الوقت على معنى أنّ مراعاة دخوله تكليف على المؤذّنين لا على المصلّي الّذي تكليفه

ص: 289


1- الوسائل 1/388/5 و 2، ب 8 من أبواب الأذان و الإقامة، الفقيه 876/185:1.
2- الوسائل 3/389:5، ب 8 من أبواب الأذان و الإقامة، الكافي 3/98:4.
3- كما في ظاهر الذخيرة: 209.

اتّباع الأذان لا غير.

و ربّما يحتمل التقيّة في هذا الخبر و نحوه بملاحظة أنّ من العامّة من جوّز تقليد المؤذّن مطلقا لأنّ الأذان بمنزلة الإخبار بالوقت فيجب قبوله(1) و منهم من فصّل فجوّزه في الصحو لأنّه إنّما يؤذّن عن مشاهدة و علم فيقلّد دون الغيم لأنّه إنّما يؤذّن عن اجتهاد فلا يقلّد(2)حكاهما في التذكرة(3) عن الشافعيّة.

و بما بيّنّاه يظهر الحكم في صياح الديكة فإنّه لا يعوّل عليه أيضا إلاّ في موضع إفادته العلم بالوقت و لو من جهة العلم بأنّ من عادتها أنّها لا يصيح إلاّ في الوقت، و الروايات الواردة فيها ظاهرة في ذوي الأعذار الغير المتمكّنين من العلم و لا الاجتهاد كالأعمى و المحبوس و غيرهما، و ظاهر الصدوق العمل بها حيث أورد في الفقيه(4) روايتي عبد اللّه الفرّاء و الحسين بن المختار الواردتين في اشتباه الوقت في يوم غيم.

و في الذخيرة(5) «عن ظاهر أكثر الأصحاب جواز الاعتماد على أخبار العدلين لكونه شهادة اعتبرها الشارع» ثمّ استشكل في إثبات كلّيّة هذه القضيّة و هو في محلّه، لعدم وضوح الدليل على عموم حجّيّة البيّنة و شهادة العدلين، مع التأمّل في الصغرى و هو كون الإخبار بالوقت شهادة.

و توهّم الدلالة على عموم حجّيّة خبر العدل و إن لم يكن شهادة من آية التثبّت موضع منع، كما قرّر في محلّه، فالأقرب عدم التعويل عليه ما لم يفد العلم، و أولى منه بعدم التعويل خبر العدل الواحد إلاّ مع احتفافه بقرائن توجب العلم، و منه ظهر الحكم في خبر الفاسق أو مجهول الحال. و في التذكرة «لو أخبره العدل بدخول الوقت عن علم و لا طريق سواه بنى عليه، و لو كان له طريق لم يعوّل على قوله، لأنّ الظنّ بدل عن العلم فيشترط عدم الطريق إليه كالمبدل»(6).

المقام الثاني: إذا لم يكن له طريق إلى العلم بالوقت لغيم و نحوه يجوز له الاجتهاد و التعويل على الأمارات المفيدة للظنّ و لا يكلّف بالصبر و التأخير حتّى تتيقّن على المشهور

ص: 290


1- المجموع 74:3، فتح العزيز 59:3، مغني المحتاج 127:1.
2- المجموع 74:3، فتح العزيز 59:3، مغني المحتاج 127:1.
3- التذكرة 383:2.
4- الفقيه 669/221:1-670.
5- الذخيرة: 209.
6- التذكرة 382:2.

بين الأصحاب كما حكاها جماعة كالذخيرة(1) و شرح المفاتيح(2) و غيرهما(3) و في المدارك «هو أحد القولين في المسألة و أشهرهما بل قيل إنّه إجماع» و عزي حكاية الإجماع أيضا إلى التنقيح(4) و غيره خلافا لابن الجنيد القائل: «بأنّه ليس للشاكّ يوم الغيم و لا غيره أن يصلّي إلاّ عند يقينه بالوقت و صلاته في آخر الوقت مع اليقين خير من صلاته مع الشكّ »(5) و يظهر الميل إليه من صاحب المدارك حيث قال: «فالمسألة محلّ تردّد و قول ابن الجنيد لا يخلو عن قوّة»(6) انتهى. و ربّما احتمل صدر العبارة الكراهة بقرينة ذيلها.

و اعلم أنّ ظاهر العلاّمة في القواعد أنّ في المقام عنوانين مرتّبين:

أحدهما: التعويل على الظنّ عند العجز عن العلم، و ثانيهما: التعويل على الاجتهاد عند العجز عن العلم و الظنّ ، حيث عبّر عن الأوّل بقوله: «فإن ظنّ الدخول و لا طريق إلى العلم صلّى فإن ظهر الكذب استأنف» و عن الثاني بقوله: «لو عجز عن تحصيل الوقت علما أو ظنّا صلّى بالاجتهاد، فإن طابق فعله الوقت أو تأخّر عنه صحّ و إلاّ فلا، إلاّ أن يدخل الوقت قبل فراغه»(7).

قال في جامع المقاصد في شرح العبارة الاولى: «فإذا تعذّر العلم جاز التعويل على الأمارات المفيدة للظنّ مثل الأوراد المفيدة لذلك من صلاة، أو درس علم، أو قراءة قرآن، أو صنعة، و مثله تجاوب الديكة، لروايتين عن الصادق عليه السّلام. و في شرح العبارة الثانية: المراد بالعلم: ما حصل من سبب يفيد القطع، و الظنّ ما حصل بأمارة كورد و صنعة من غير تجشّم مشقّة الكسب. و الاجتهاد: هو استفراغ الوسع في تحصيل ظنّ دخول الوقت بأمارة فالحاصل به ظنّ مع مشقّة الكسب. و يجوز التمسّك بالظنّ في دخول الوقت و إن كان بحيث لو صبر لتيقّن دخوله لعموم الأخبار»(8).

قال في مفتاح الكرامة بعد حكاية ذلك: «و حاصله، أنّ الظنّ الحاصل بالاجتهاد ظنّ ضعيف لا يمكنه سواه، و ليس هو شكّا و لا وهما»(9).

ص: 291


1- الذخيرة: 209.
2- مصابيح الظلام 19:2.
3- كما في جامع المقاصد 43:2، و مجمع الفائدة و البرهان 52:2، و كشف الالتباس: 84، البيان: 51.
4- التنقيح الرائع 171:1: المختلف 3: و حاشية المدارك 320:2.
5- نقله عنه في المختلف 47:2.
6- المدارك 98:3-99.
7- القواعد 248:1-249.
8- جامع المقاصد 29:2، 43.
9- مفتاح الكرامة 224:5.

و لكنّا لم نقف على وجه هذا الاعتبار، و ظاهر الأدلّة يساعد على عدم الترتّب، و لذا ترك اعتباره الأكثر، و إن اختلفت عباراتهم بين جواز التعويل على الظنّ تارة، و جواز الاجتهاد اخرى، المفسّر في كلام جماعة بالتعويل على الأمارات المفيدة للظنّ .

و عليه فعنوان المسألة حينئذ طلب الظنّ بالنظر في الأمارات المفيدة له سواء تضمّن مشقّة في الطلب و الكسب أو لا. و دعوى: أنّ كلّما تضمّن طلبه مشقّة فهو ظنّ ضعيف و كلّما لم يتضمّنها فهو ظنّ قويّ ، غير واضحة الوجه.

و يجوز أن يراد من الاجتهاد المقابل للظنّ استفراغ الوسع في تحصيل الأمارات المفيدة للظنّ ليعوّل عليها على معنى التعويل على السبب لا على المسبّب لمكان تعذّر حصوله، و هو بعيد، و أبعد منه احتمال كون اعتبار الظنّ في كلام المشهور من باب الموضوعيّة ليكون مفاده جعل وقت كلّ صلاة وقتين، أحدهما: الوقت المعيّن الواقعي المحدود في أوّله و آخره، و ثانيهما: الوقت المظنون باعتبار كونه مظنونا، فالأوّل للعالم و من بحكمه و هو القادر على تحصيل العلم، و الثاني للعاجز عن العلم الظانّ بدخوله. و من ثمرات موضوعيّة الوقت المظنون كون الصلاة فيه مجزئة عن المأمور به الواقعي مطلقا و إن وقعت بتمامها قبل الوقت الواقعي المضروب للعالم.

و بذلك يظهر وجه بعد الاحتمال المذكور بل فساده، بدليل كون صلاة الظانّ الواقعة بتمامها قبل الوقت محكوما عليها فتوى و نصّا بالبطلان، و هذا آية كون اعتباره عند معتبريه من باب الطريقيّة، و من حكمه عدم الإجزاء على تقدير ظهور الفساد. نعم على تقدير عدم ظهور فساده يحكم عليها بالإجزاء الظاهري المتحقّق معه الإجزاء الواقعي أيضا على تقدير مصادفة الظنّ الوقت الواقعي، بخلافه على تقدير عدم المصادفة في الواقع فإنّه حينئذ إجزاء ظاهري صرف، و فائدته عدم الخطاب بالإعادة و القضاء و إن تضمّن التعويل عليه حينئذ مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع، و تمام الكلام في تحقيق ذلك في الاصول.

ثمّ إنّ فرض المسألة في موضع الخلاف الدائر بين المشهور و مذهب ابن الجنيد في صورة إمكان حصول العلم بالتأخير، يقضي بعدم الخلاف في جواز التعويل على الظنّ بل تعيّنه فيما لو انحصر الطريق في الظنّ و لم يمكن العلم حتّى بالتأخير و لو باعتبار دوران

ص: 292

الأمر بين الصلاة قبل الوقت و الصلاة بعد خروجه، كما قد يتّفق بالقياس إلى صلاة الجمعة باعتبار ضيق وقتها، و حينئذ فإذا ظنّ دخول الوقت تعيّن التعويل عليه بلا خلاف ظاهر، أو نحوه في الخروج عن محلّ الخلاف ما لم يكن له طريق إلى الظنّ أيضا، أو لم يحصل له ظنّ ممّا قام عنده من أمارته، و أمكن حصول العلم له بالتأخير فإنّه أخرج بلا خلاف يظهر حتّى يحصل له العلم، فلو توقّف حصول الظنّ له على التأخير مع إمكان حصول العلم بأزيد من التأخير المحصّل للظنّ ، فالظاهر على المذهب المشهور تعيّن التأخير حتّى يحصل الظنّ و الاكتفاء به و عدم وجوب انتظار العلم.

و عن البيان «أنّه لو لم يحصل له بالاجتهاد ظنّ بل كان شاكّا أخّر حتّى يعلم أو يظنّ »(1)و قيل «بل هو ظاهر الجميع و وجهه واضح»(2).

و كيف كان فحجّة المشهور موثّقة سماعة بن مهران قال: «سألته عن الصلاة بالليل و النهار إذا لم تر الشمس و لا القمر و لا النجوم ؟ قال: اجتهد رأيك و تعمّد القبلة جهدك» هذا على ما في التهذيب. و في الفقيه «فقال تجتهد رأيك و تعتمد القبلة بجهدك»(3) قالوا(4): و هذا يشمل الاجتهاد في الوقت و القبلة.

و فيه نظر: فإنّ شمول قوله عليه السّلام: «اجتهد رأيك» للاجتهاد في الوقت لا جهة له إلاّ قاعدة ترك الاستفصال القاضية بعموم الجواب لجميع محتملات السؤال، فالدلالة في مجاري هذه القاعدة مبنيّة على الظهور. و تعقيب قوله عليه السّلام: «اجتهد رأيك» بتخصيص القبلة بالذكر يمنع الظهور كما هو واضح، بل ربّما يدلّ ذلك على أنّه عليه السّلام استفاد من حال السائل كون تحيّره في القبلة لا في الوقت، و لعلّه لذا تأمّل جماعة في دلالة الرواية.

و الأولى الاستدلال له بصحيحة زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: وقت المغرب إذا غاب القرص، فإن رأيته بعد ذلك و قد صلّيت أعدت الصلاة، و مضى صومك، و تكفّ عن الطعام إن كنت أصبت منه شيئا»(5).

و رواية أبي الصباح الكناني قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل صام ثمّ ظنّ أنّ

ص: 293


1- البيان: 51.
2- الجواهر 432:7.
3- الوسائل 2/308:4، ب 6 من أبواب القبلة، التهذيب 147/46:2.
4- كما في المدارك 99:3، و الذكرى 390:2، و كشف اللثام 77:3.
5- الوسائل 17/178:4، ب 16 من أبواب المواقيت، التهذيب 818/271:2.

الشمس قد غابت و في السماء علّة فأفطر، ثمّ إنّ السماء انجلى فإذا الشمس لم تغب ؟ فقال:

قد تمّ صومه و لا يقضيه»(1).

و إذا جاز التعويل على الظنّ في الإفطار جاز في الصلاة أيضا، لعدم قائل بالفرق.

و المناقشة في سند الثانية تندفع بالشهرة الجابرة، كما أنّ المناقشة في دلالة الاولى باحتمال أن يراد من مضيّ الصوم فساده لا يصغى إليها، لظهور هذا اللفظ في الأخبار و كلام العلماء الأخيار في الصحّة و الإجزاء، مضافا إلى أنّ الاحتمال المذكور يأباه الفرق بين الصلاة و الصوم بالأمر بإعادة الاولى و عدم الأمر بقضاء الثاني. و في قوله عليه السّلام: «و تكفّ عن الطعام» أيضا إشعار بالصحّة إن لم نقل بكونه دلالة واضحة بناء على أنّ الصوم مطلق غير مقيّد بكونه في شهر رمضان.

و في الرواية دلالة على حكم الصلاة من جهة اخرى غير مبنيّة على انضمام مقدّمة عدم القول بالفرق إليها فإنّ قوله عليه السّلام: «فإن رأيته بعد ذلك...» الخ، يدلّ باعتبار المفهوم على عدم وجوب إعادة الصلاة على تقدير عدم رؤية القرص بعد الصلاة، و إطلاقه يتناول ما لو وقعت الصلاة بحسب الواقع في الوقت أو قبله إن لم نقل بكونه نفيا في الثاني بقرينة فرض المنطوق.

كما أنّ فرض الرواية بعد الصلاة المبنيّ على فرض وقوع الصلاة عن اعتقاد الغيبوبة يتناول بإطلاقه الاعتقاد الجزمي المخالف للواقع من باب الجهل المركّب، و الاعتقاد الظنّي المخالف له إن لم نقل بظهوره في الثاني بملاحظة الغالب، أو لأنّ حصول الظنّ بعد الغيبة عن نظر المكلّف أقرب و حصول الجزم مع التخلّف أبعد، كما ذكره المحقّق البهبهاني في شرح المفاتيح.(2)

و لا يشكل ذلك بخروج الرواية حينئذ عن معقد المسألة، و هو صورة عدم التمكّن من العلم، لأنّ الغيبة عن نظر المكلّف قد تكون لغيم يمنع من الرؤية ثمّ انجلى القرص بعد الصلاة باعتقاد الغروب الواقعي و لو ظنّا فانكشف فساد الاعتقاد، و لا بدّ من تنزيل الرواية على نحو هذه الصورة إخراجا لها عن وصمة مخالفة الإجماع، و عليه فتكون من معقد

ص: 294


1- الوسائل 3/123:10، ب 51 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، التهذيب 9/270:4.
2- مصابيح الظلام 505:5.

المسألة.

و يمكن الاستدلال أيضا بما تقدّم في المقام الأوّل من مصحّح إسماعيل بن رباح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا صلّيت و أنت ترى أنّك في وقت و لم يدخل الوقت فدخل الوقت و أنت في الصلاة فقد أجزأت عنك»(1) بعد تقييدها بصورة عدم التمكّن من العلم بالإجماع و نحوه، بناء على ظهور الرأي في الظنّ كما ذكره جماعة، قال في المعتبر: «و الرؤية تحمل على الظنّ لاستحالة تنزيلها على العلم أو على رؤية العين»(2).

و استدلّ أيضا بموثّقة عبد اللّه بن بكير عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: إنّي ربّما صلّيت الظهر في يوم غيم فانجلت، فوجدتني صلّيت حين زوال النهار؟ فقال: لا تعد و لا تعد»(3) و لنا فيه تأمّل بملاحظة النهي عن الاعتياد فإنّه يقضي بمرجوحيّة ما صنعه الراوي، فلعلّه فرض المسألة فيما لو صلّى يوم الغيم من دون مراعاة الوقت فاتّفق وقوعها في الوقت، و عليه فالرواية خارجة عمّا نحن فيه و لو أن فرض السائل في صورة الظنّ بالوقت فيمكن حمل النهي على الكراهة، فيدلّ على مرجوحيّة التعويل على الظنّ مع إمكان اليقين بالوقت بالتأخير. و يلزم منه كون الأفضل هو الصبر و التأخير، و ليس ببعيد و إن لم نقف على مصرّح به.

و يدلّ على المشهور أيضا روايات الديكة المخصوصة بصورة الاشتباه، لأنّ أقصى ما يحصل من أصوات الديكة الّتي علم من عادتها الصياح في الوقت إنّما هو الظنّ ، و قد يكون ذلك علما عاديّا كما في صورة الغفلة عن احتمال الخلاف من جهة عدم الالتفات إلى منشائه و هو إمكان التخلّف عن العادة.

و قد يستدلّ أيضا بما تقدّم من روايات الأذان كصحيحة ذريح المحاربي(4) و رواية محمّد بن خالد(5). و ليس بسديد، لاختصاص موردهما بصلاة الجمعة، فتخرجان عن معقد المسألة، و هو التعويل على الظنّ في مقابلة اليقين بالصبر و التأخير كما هو واضح. نعم لو ايّد بها المطلب و أدلّته فليس بذلك البعيد. فظهر أنّ الأقوى قول المشهور، و الأحوط

ص: 295


1- الوسائل 1/206:4، ب 25 من أبواب المواقيت، التهذيب 110/35:2.
2- المعتبر 63:2.
3- الوسائل 16/129:4، ب 4 من أبواب المواقيت، التهذيب 979/246:2.
4- تقدّم في الصفحة: 288 الرقم 4.
5- تقدّم في الصفحة: 288 الرقم 5.

ما قاله ابن الجنيد بل هو أفضل، كما نبّهنا عليه من موثّقة ابن بكير.

تذنيب: لو صلّى ظانّا فظهر الكذب، فإن وقعت الصلاة بأسرها قبل الوقت أعادها على ما هو المعروف من مذهب الأصحاب، و في شرح المفاتيح(1) «فالظاهر عدم الخلاف في وجوب إعادتها بل الظاهر إجماع العلماء عليه» و في المدارك(2) وجب عليه الإعادة لإجماع العلماء، و عزى الإجماع إلى المهذّب البارع(3) و الروضة(4) و كشف اللثام(5) أيضا، و عن السرائر(6) و مجمع البرهان(7) نفي الخلاف فيه.

و وجهه بعد ملاحظة ما قدّمناه من عدم كون اعتبار الظنّ هاهنا على وجه الموضوعيّة واضح، فإنّ الصحّة و الإجزاء فرع على الامتثال بأداء المأمور به و لم يحصل، لأنّ المأمور به هو الصلاة في الوقت المخصوص و لم تحصل فيكون باقيا تحت عهدة التكليف هذا، مضافا إلى الروايات المتقدّمة القاضية بعمومها ببطلان الصلاة في غير الوقت الّتي منها: موثّقة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من صلّى في غير وقت فلا صلاة له»(8) و هذا منه.

و يدلّ عليه أيضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «في رجل صلّى الغداة بليل، غرّه من ذلك القمر، و نام حتّى طلعت الشمس، فاخبر أنّه صلّى بليل قال:

يعيد صلاته»(9) و استضعف صاحب الذخيرة(10) دلالتها تعليلا «لظهورها في صورة التمكّن من العلم» و ردّه في شرح المفاتيح(11) بأنّه متمكّن من العلم بالتأخير لا حين إرادة الصلاة و ما ذكر متفرّع على المذهب المشهور لا على رأي ابن الجنيد».

و إن دخل الوقت و هو متشاغل بالصلاة و لو قبل التسليم، فلا إعادة على الأصحّ كما عن الشيخ(12) في أكثر كتبه، و عليه الأكثر كما عن جماعة(13) و هو المشهور كما عن آخرين(14).

ص: 296


1- مصابيح الظلام 507:5.
2- المدارك 100:3.
3- المهذّب البارع 301:1.
4- الروضة 499:1.
5- كشف اللثام 78:3.
6- السرائر 200:1.
7- مجمع الفائدة 53:2.
8- تقدّم في الصفحة: 283، الرقم 10.
9- الوسائل 5/167:4، ب 13 من أبواب المواقيت، التهذيب 1008/254:2.
10- الذخيرة: 209.
11- مصابيح الظلام 507:5.
12- كما في المبسوط 74:1 و النهاية: 62.
13- كما في كشف اللثام 78:3، و غاية المرام 123:1، و المفاتيح 95:1.
14- كما في التنقيح الرائع 171:1، و جامع المقاصد 29:2، و المسالك 148:1.

خلافا للمرتضى(1) و ابني الجنيد(2) و أبي عقيل(3) فأوجبوا الإعادة كما لو وقعت بأسرها قبل دخول الوقت، و نسب اختياره أيضا إلى المختلف(4) محتجّا برواية أبي بصير المتقدّمة و بأنّه مأمور بإيقاع الصلاة في وقتها و لم يحصل الامتثال، و استجوده في المدارك(5) و عزي اختياره أيضا إلى أبي العبّاس في الموجز(6) و الصيمري(7) في كشفه و الأردبيلي في مجمعه(8) و غيرهم(9).

و ظاهر المحقّق في المعتبر(10) كما عن ظاهر المهذّب البارع(11) و غاية المرام(12)و الكفاية(13) التردّد، حيث بنى المسألة على رواية إسماعيل بن رباح المتقدّمة المصرّحة بالإجزاء في نحو مفروض المسألة قائلا: «إنّ ما اختاره الشيخ أوجه بتقدير تسليم الرواية، و ما ذكره المرتضى أوجه بتقدير اطراحها» و استحسنه في المدارك ثمّ قال: «لكن الإطراح متعيّن لضعف السند»(14) و في معنى عبارة المعتبر ما في محكيّ المختلف من «أنّ إسماعيل ابن رباح لا يحضرني حاله، فإن كان ثقة تعيّن العمل بخبره و إلاّ فلا»(15) انتهى.

فظهر أنّ الوجه في مخالفة هؤلاء للأكثر إنّما هو استضعاف الرواية المذكورة التفاتا منهم إلى جهالة الراوي، كما ظهر أنّ مستند الأكثر هو هذه الرواية لا غير بحيث لولاها لتعيّن المصير إلى البطلان و وجوب الإعادة، لقوّة دليله المتقدّم إليه الإشارة.

و أمّا الاحتجاج له بأنّه متعبّد بظنّه خرج منه ما إذا لم يدرك شيئا من الوقت بالإجماع فيبقى الباقي، فضعفه بناء على كون التعبّد به من حيث الطريقيّة واضح، فإنّ الظنّ المتعبّد به لم يحدث منه أمر في مقابلة الأمر بالمأمور به الواقعي، و المفروض عدم حصول امتثال ذلك الأمر بعدم إدراك تمام الوقت و هو من المأمور به، فالأولى الاقتصار في المستند على الرواية.

و أمّا توهّم الضعف بجهالة الراوي، فيندفع: بالشهرة الجابرة، و بوجود الرواية في كتب

ص: 297


1- رسائل الشريف المرتضى 350:2، المسائل الرسيّة.
2- نقله عنه في المختلف 49:2.
3- نقله عنه في المختلف 49:2.
4- المختلف 49:2.
5- المدارك 101:3.
6- الموجز الحاوي: 65.
7- كشف الالتباس: 84 (مخطوط).
8- مجمع الفائدة و البرهان 53:2.
9- كالمفاتيح 95:1، و كشف الرموز 129:1، و التنقيح الرائع 171:1.
10- المعتبر 63:2.
11- المهذّب البارع 304:2.
12- غاية المرام 122:1.
13- الكفاية: 15.
14- المدارك 101:3.
15- المختلف 51:2.

المشايخ الثلاث، و ظاهرهم الاعتماد عليها و العمل بها، مع أنّ السند إلى ابن أبي عمير صحيح و هو من أصحاب إجماع العصابة فلا يلتفت إلى من قبله و هو ممّن لا يروي إلاّ عن ثقة، فربّما يكون روايته من أجل ذلك رافعة لجهالة الراوي، و مع الغضّ عنه فلا ريب في إفادته الوثوق بالرواية، مع أنّه لا معارض لها يكون نصّا في خلاف مؤدّاها. و لأجل ذا كلّه قال الوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح: «و هذه الرواية لا تقصر عن الصحيح لو لم تكن أقوى»(1) و عليه فالمعتمد هو المشهور المنصور، نعم الأحوط الإعادة.

المقام الثالث: إذا تعذّر له العلم و الظنّ بدخول الوقت معا بفقد الطرق العلميّة و الأمارات الظنّية أو العجز عن استعمالها و الاجتهاد فيها كالأعمى و المحبوس في مكان مظلم، و العامي الّذي لا يعرف وقتا و لا اجتهادا يقلّد غيره، فمن أخبر بالوقت صريحا أو ضمنا كأذان العارف المستظهر على ما نصّ عليه جماعة من أساطين الطائفة كالشيخ في المبسوط(2) و المحقّق في المعتبر(3) و العلاّمة في التذكرة(4) و الشهيد في الذكرى(5) قال في محكيّ المبسوط: «الأعمى يقلّد غيره في دخول الوقت، فإن انكشف أنّه صلّى قبل الوقت أعاد، و لو تبيّن أنّها بعده كان جائزا و لا يجوز مع سلامة الحاسّة تقليد الغير»(6) و يستظهر إذا لم يكن له معرفة حتّى يغلب على ظنّه دخول الوقت حكاه في المعتبر، و ظاهره الارتضاء به. و عليه يمكن أن ينزّل قوله قبيل ذلك: «لو سمع الأذان من ثقة يعلم منه الاستظهار قلّده، لقوله عليه السّلام: (المؤذّن مؤتمن) و لأنّ الأذان مشروع للإعلام بالوقت فلو لم يجز تقليده لما حصل الغرض به»(7).

فيندفع عنه ما اعترضه الشهيد عليه فيما تقدّم. قال في التذكرة: «لو فقد العلم بالدخول و الظنّ كالأعمى و المحبوس في موضع مظلم يجوز له التقليد، لتعذّر علم الوقت و ظنّه و هو أحد وجهي الشافعيّة(8) و قال بعيد ذلك: لو سمع الأذان من ثقة عارف جاز أن يقلّده في موضع جوازه، لقوله عليه السّلام: المؤذّن مؤتمن. ثمّ قال بعيد ذلك أيضا: التعويل على المؤذّن الثقة إنّما هو للأعمى الغير المتمكّن من الاجتهاد أو البصير كذلك. و قال بعض الشافعيّة: يجوز

ص: 298


1- مصابيح الظلام 508:5.
2- المبسوط 74:1.
3- المعتبر 63:2.
4- التذكرة 383:2.
5- الذكرى 395:2.
6- المبسوط 74:1.
7- المعتبر 63:2.
8- المجموع 72:3، فتح العزيز 58:3.

تقليد المؤذّن مطلقا، لأنّ الأذان بمنزلة الإخبار بالوقت فيجب قبوله، و قال بعضهم: يجوز في الصحو دون الغيم لأنّه في الصحو إنّما هو يؤذّن عن مشاهدة و علم، و في الغيم عن اجتهاد فيقلّد في الأوّل دون الثاني. ثمّ قال: لو صلّى المحبوس أو الأعمى من غير اجتهاد و لا تقليد أعاد الصلاة و إن وافقا الوقت و به قال الشافعي»(1).

قال في الذكرى: «الأعمى يقلّد العدل العارف بالوقت، لظهور عذره و قصوره عن العلم و الظنّ ، و يكتفي بأذان العدل. و كذا العامي الّذي لا يعرف الوقت. أو الممنوع من عرفانه بحبس أو غيره. أمّا غيرهما فلا يجوز له التقليد مع إمكان العلم، لأنّه مخاطب بعلم الوقت، و التقليد لا يفيد العلم، و لو تعذّر العلم فأخبره عدل عن علم بأذان أو غيره، فالظاهر أنّه كالممنوع من عرفانه، فيكتفي بقوله. و يمكن المنع(2) لأنّ الاجتهاد في حقّه ممكن، و هو أقوى من التقليد...»(3) إلى آخر ما ذكره.

و ظاهر هذه العبارات بل صريح أكثرها مغايرة التقليد للاجتهاد المورث للظنّ المغاير للعلم، و قضيّة الترتّب بين هذه الثلاث كون الوقت باعتبار اختلاف أحوال المكلّفين له مراتب ثلاث:

أوّلها: ما يحرز بالعلم، و هو وظيفة المتمكّن من الطرق العلميّة.

و ثانيها: ما يحرز بالظنّ ، و هو وظيفة العاجز من العلم المتمكّن من الأمارات الظنّية المفيدة للظنّ الّتي منها الأذان و إخبار العدل و غيره لمن تفيد له الظنّ ، فإنّ النظر فيها لتحصيل ظنّ الوقت نوع من الاجتهاد المفيد له لمن وظيفته الاجتهاد.

و ثالثها: التقليد، و هو التعويل على قول الغير من حيث إنّه قول الغير لا لإفادته الظنّ ، و هو وظيفة العاجز عن العلم و الظنّ معا.

و العجب عن جماعة من المتأخّرين(4) و متأخّريهم أنّهم أهملوا المرتبة الأخيرة مع تعرّضهم للمرتبتين الاوليين. و توهّم: أنّ التقليد و هو التعويل على خبر الغير أيضا نوع من

ص: 299


1- التذكرة 382:2-383.
2- في الأصل: العلم، ما أثبتناه من المصدر.
3- الذكرى 394:2.
4- كما في القواعد 249:1، جامع المقاصد 43:2، المدارك 97:3، المفاتيح 95:1، المستند 90:4، الرياض 249:2.

الاجتهاد لمن حصل عنده الخبر المفيد للظنّ الّذي منه أذان الثقة يأباه العبارات المتقدّمة.

مع أنّ اعتبار الظنّ على وجه الطريقيّة على ما نبّهنا عليه مرادا ممّا يأبى الفرق بين أسبابه الّتي منها الخبر المفيد له، فإنّ الظنّ الطريقي كالعلم المعتبر على وجه الطريقيّة ممّا لا يقبل التخصيص.

و قد يحمل الاجتهاد و التقليد المقابل له في كلام الشهيد(1) على عموم المانع عن العلم و خصوصه مع كون كلّ منهما من أفراد الظنّ ، فكلّ ممنوع بمانع عامّ لسائر الخلق كالغيم و نحوه يجتهد، و الممنوع بمانع خاصّ من العمى و الحبس و عدم المعرفة و نحوها يقلّد.

فاعترض عليه - مع منافاته لإطلاقهم اعتبار الاجتهاد أو الظنّ مع تعذّر العلم من غير فرق بين أسباب التعذّر، و أنّه لا دليل على هذا التفصيل بل ظاهر الأدلّة السابقة خلافه - بأنّ الاعتماد على قول الغير مع انحصار طرق الظنّ فيه نوع من الاجتهاد لا أنّه تقليد.

و فيه: من الغفلة الواضحة ما لا يخفى، فإنّ إمعان النظر في كلماتهم السابقة يقضي بمقابلة التقليد للعلم و الظنّ المستحصل بالاجتهاد، فيكون مبناه على العجز عنهما معا.

و بالجملة فالخبر المفيد للظنّ لمن أفاده داخل في أسباب الظنّ ، فالنظر فيه لاستحصال الظنّ مندرج في الاجتهاد، و هذا لا ينافي أن يكون له فرض يقصر عن إفادة الظنّ كما يقصر عن إفادة العلم، و إنّما خصّ فرضه بالأعمى و المحبوس و غير العارف بالوقت لأنّ غير هؤلاء يتمكّن غالبا من سائر أسباب الظنّ .

و نحن بعد هذه اللتيّا و الّتي نأخذ المسألة فرضيّة، و نفرض صورة انحصر طريق المكلّف فيها بالنسبة إلى إحراز الوقت في التقليد و هو التعويل على قول الغير على أنّه قول الغير لا على أنّه مفيد للظنّ ، لأنّ المفروض تعذّر الظنّ كما أنّ المفروض تعذّر العلم.

فنقول: إنّ العاجز عن العلم و الظنّ معا يقلّد غيره ممّن أخبر بالوقت، و لم نقف على دليل واضح عليه من كلام معتبريه و لعلّه الإجماع مع انضمام العقل إليه، و تقريره: أنّ الأمر في هذا المكلّف دائر بين أن لا يكون عليه تكليف بالصلاة رأسا، أو بمراعاة الوقت، أو يكون مكلّفا بالعلم أو الظنّ بالوقت، أو يقلّد غيره في إحراز الوقت، و الأوّل كالثاني باطل، إذ لا يظنّ من الأصحاب قائل بهما، و كذا الثالث ضرورة استحالة التكليف بالمحال، فتعيّن

ص: 300


1- الذكرى 394:2.

الرابع و هو المطلوب.

ثمّ إن لم ينكشف فساد تقليده أو انكشف صحّته بالصلاة في الوقت فلا إشكال في الإجزاء، و إن انكشف فساده بوقوعها أو وقوع بعضها قبل الوقت فالوجه عدم الإجزاء المقتضي للإعادة، كما في عبارة المبسوط المتقدّمة و كذا الذكرى، لكن فيها «أنّه لو صلّى المقلّد بالتقليد في الوقت فانكشف الفساد فالأقرب أنّه كالظانّ فيلحقه أحكامه لتعبّده بذلك...»(1) الخ.

و في إطلاق هذا الإلحاق نظر، لأنّ من أحكام الظانّ صحّة صلاته لو دخل الوقت و هو متلبّس بها، و هذا على ما تقدّم حكم مخالف لقاعدة الإجزاء أثبته النصّ ، فوجب الاقتصار على مورده، و التعدّي منه إلى المقلّد قياس لا نقول به. و الاستناد فيه إلى التعبّد بالتقليد، يدفعه: أنّ التعبّد به إنّما ثبت على وجه الطريقيّة كما في الظنّ لا على وجه الموضوعيّة.

فالوجه ما ذكرناه من إطلاق البطلان على تقدير ظهور فساد التقليد بأحد الوجهين أخذا بموجب القاعدة مع انتفاء مخرج عنها.

ثمّ إنّ قضيّة إطلاق محكيّ المبسوط(2) عدم اعتبار شيء في الغير الّذي يقلّده العاجز عن العلم و الظنّ ، و اعتبر العلاّمة كونه «ثقة عارفا»(3) و الشهيد كونه «عدلا عارفا»(4)و يجوز أن يراد من الثقة في عبارة العلاّمة ما يتضمّن العدالة. و كيف كان فالأقرب هو اعتبار الوصفين معا كما هو قضيّة اعتبار التقليد على وجه الطريقيّة، فإنّ العدل العارف أقرب إلى الواقع، و إذا لم يمكنه العدل جاز التعويل على غيره.

لو أخبر العدل العارف بدخول الوقت و أخبر آخر بعدم الدخول ففي الذكرى «أنّهما إن تساويا أو كان الأوّل أرجح فلا التفات، و إن كان الثاني أرجح فحكمه حكم التعارض في القبلة»(5).

ص: 301


1- الذكرى 396:2.
2- المبسوط 74:1.
3- المنتهى 133:4.
4- الذكرى 394:2
5- الذكرى 394:2
[ينبوع: الترتيب بين الفرائض]

ينبوع

الصلوات قد يترتّب بعضها على بعض فلا يجزئ اللاحقة قبل أداء السابقة، و يندرج فيه ثلاث مسائل: ترتّب الفوائت بعضها على بعض في القضاء، و ترتّب الحاضرة على الفائتة على الخلاف فيهما و الموضع المناسب لتحقيق الكلام في هاتين المسألتين له مقام آخر يأتي في باب القضاء إن شاء اللّه تعالى، و ترتّب الحواضر بعضها على بعض في الأداء كترتّب العصر على الظهر و العشاء على المغرب فلا يجزئ الثانية قبل أداء الاولى فيهما عمدا نصّا و فتوى. و أمّا نسيانا فله صور ثلاث:

الصورة الاولى: ما لو اشتغل بالعصر قبل أداء الظهر نسيانا أو بظنّ أدائها ثمّ تذكّر العدم في الأثناء و لو قبل التسليم و إن قلنا باستحبابه عدل بنيّته إلى الظهر، و هو أن ينوي كون هذه الصلاة بمجموعها ممّا مضى منها و ما بقي هي الظهر، و العدول على الوجه الّذي سمعته ما صرّح به جماعة(1) من غير نقل خلاف فيه، و منهم من استند فيه مع الأخبار الآتية إلى الإجماع المنقول كما في جامع المقاصد(2) و المدارك(3) و الذخيرة(4) و شرح المفاتيح(5)و غيرها(6).

و لعلّ ناقله الشيخ كما أومأ إليه في جامع المقاصد(7) بقوله: «و الأصل في العدول قبل الإجماع المنقول في كلام الشيخ»(8) و في جامع المقاصد «و لا فرق بين أن يكون اشتغاله بالعصر في الوقت المشترك أو في الوقت المختصّ »(9) و نحوه ما في المدارك قائلا:

«و لا فرق في جواز العدول بين وقوع الثانية في الوقت المختصّ بالاولى أو المشترك و من

ص: 302


1- كما في جامع المقاصد 33:2، المسالك 148:1، السرائر 274:1.
2- جامع المقاصد 34:2، 44.
3- المدارك 115:3.
4- الذخيرة: 210.
5- مصابيح الظلام 512:5.
6- كما في الخلاف 310:1 المسألة 59، الغنية: 99.
7- جامع المقاصد 34:2.
8- الخلاف 59:1 المسألة 6.
9- جامع المقاصد 44:2.

ثمّ أطلق هنا و فصّل بعد ذلك»(1) يعني إطلاق المحقّق في عنوان العدول في الأثناء و تفصيله في العنوان الآتي في تذكّر نسيان الظهر بعد الفراغ من العصر بين وقوعها في الوقت المختصّ فيعيدها بعد أن يصلّي الظهر أو في الوقت المشترك فلا يعيدها.

و ناقش في حاشية المدارك فيما ذكره من عدم الفرق «بأنّ الوقوع في الوقت المختصّ مع ظنّ الإتيان بالاولى من الفروض البعيدة، و الأخبار واردة على الفروض الشائعة المتعارفة»(2) قلت: كأنّ وجه التعميم كما يقتضيه إطلاق غيرهما أيضا استنباط مناط من الأخبار جار في الوقت المختصّ أيضا، و هو أنّ العدول بالنيّة تصير اللاحقة سابقة و العصر ظهرا فتكون هذه الصلاة حينئذ ظهرا وقعت في وقتها كما أومأ إليه في جامع المقاصد بقوله: «و المقتضي لفسادها - إذا وقعت في المختصّ و لم يتذكّر حتّى فرغ - عدم إجزائها عن الظهر بفقد النيّة، و لا عن العصر لوقوعها قبل وقتها، بخلاف ما لو تذكّر في الأثناء فعدل، فإنّ النيّة تؤثّر فيما مضى»(3).

و كيف كان فالأصل في الحكم المذكور - على ما في كلام الجماعة بعد الإجماع المنقول المعتضد بعدم ظهور الخلاف و ما عن المنتهى من «أنّه لا نعلم خلافا بين أصحابنا في جواز العدول»(4) المحمول على إرادة الوجوب، بناء على أنّ العدول إذا جاز وجب إجماعا - ما رواه الحلبي في الحسن بإبراهيم بن هاشم بل الصحيح على الصحيح قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أمّ قوما في العصر فذكر و هو يصلّي بهم أنّه لم يكن صلّى الاولى ؟ قال: فليجعلها الاولى الّتي فاتته و يستأنف العصر و قد قضى القوم صلاتهم»(5).

و ما رواه زرارة في الصحيح أيضا عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال عليه السّلام: «إذا نسيت الظهر حتّى صلّيت العصر فذكرتها و أنت في الصلاة أو بعد فراغك فانوها الاولى ثمّ صلّ العصر، فإنّما هي أربع مكان أربع، و إن ذكرت أنّك لم تصلّ الاولى و أنت في صلاة العصر و قد صلّيت منها ركعتين فانوها الاولى ثمّ صلّ الركعتين الباقيتين و قم فصلّ العصر...»(6) الخ.

و عن الشيخ حمل قوله عليه السّلام: «أو بعد فراغك» على ما قارب الفراغ و لو قبل التسليم،

ص: 303


1- المدارك 115:3.
2- حاشية المدارك 324:2.
3- جامع المقاصد 44:2.
4- المنتهى 110:7.
5- الوسائل 3/292:4، ب 63 من أبواب المواقيت، التهذيب 777/197:2.
6- الوسائل 1/290:4، ب 63 من أبواب المواقيت، التهذيب 340/158:3.

و لا يخفى بعده، كبعد ما عن كاشف اللثام «من احتمال إرادة كونه في نيّة الصلاة أو بعد فراغه من النيّة»(1) مع كون ظاهره خلاف المعروف بين الأصحاب و خلاف المعتبرة من الأخبار المعمول بها عندهم، و إحالة علم نحو ذلك إليهم عليهم السّلام أولى.

و ظاهرهم كما هو المصرّح به في كلام غير واحد(2) عدم الفرق في الحكم المذكور بين الظهرين و العشاءين، فلو اشتغل بالعشاء قبل المغرب نسيانا أو ظنّا لفعلها ثمّ ذكر في الأثناء عدل بنيّته أيضا إلى المغرب مع الإمكان كما في كلام غير واحد، و هو على ما في جامع المقاصد «حيث لا يتحقّق زيادة ركوع على عدد السابقة، فلو كانت ثلاثا كما في ما نحن فيه ثمّ ركع في الرابعة، ثمّ تذكّر الفائتة في الأثناء امتنع العدول لزيادة الركن بخلاف ما قبل الركوع، لوقوع زيادة ذلك على ما في ذمّته سهوا و هي غير مبطلة»(3).

و الأصل في العدول هنا أيضا الروايات كقول أبي جعفر عليه السّلام في صحيحة زرارة المتقدّمة:

«و إن كنت ذكرتها و قد صلّيت من العشاء الآخرة ركعتين أو قمت في الثالثة فانوها المغرب ثمّ سلّم ثمّ قم فصلّ العشاء الآخرة»(4).

و رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل نسي صلاة حتّى دخل وقت صلاة اخرى ؟ فقال: إذا نسي الصلاة أو نام عنها صلّى حين يذكرها، فإذا ذكر و هو في صلاة بدأ بالّتي نسي، و إن ذكرها مع إمام في صلاة المغرب أتمّها بركعة ثمّ صلّى المغرب ثمّ صلّى العشاء بعدها، و إن كان صلّى العتمة وحده فصلّى منها ركعتين ثمّ ذكر أنّه نسىّ المغرب أتمّها بركعة، فتكون صلاته للمغرب ثلاث ركعات، ثمّ يصلّي العتمة بعد ذلك»(5).

و في رواية الحسن بن زياد الصيقل ما ينافي ذلك قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل نسي الاولى حتّى صلّى ركعتين من العصر؟ قال: فليجعلها الاولى و ليستأنف العصر، قلت:

فإنّه نسي المغرب حتّى صلّى ركعتين من العشاء ثمّ ذكر، قال: فليتمّ صلاته ثمّ ليقض بعد المغرب، قال: قلت له: جعلت فداك، قلت: حين نسي الظهر ثمّ ذكر و هو في العصر يجعلها

ص: 304


1- كشف اللثام 86:3.
2- كما في السرائر 274:1.
3- جامع المقاصد 34:2.
4- الوسائل 1/290:4، ب 63 من أبواب المواقيت.
5- الوسائل 2/291:4، ب 63 من أبواب المواقيت، التهذيب 1071/269:2.

الاولى ثمّ يستأنف، و قلت: لهذا يتمّ صلاته بعد المغرب ؟ فقال: ليس هذا مثل هذا، إنّ العصر ليس بعدها صلاة و العشاء بعدها صلاة»(1).

و في شرح المفاتيح «أنّها محمولة على التقيّة»(2) و في الوسائل «هذا محمول على تضيّق وقت العشاء دون العصر لما تقدّم، لأنّ ذلك أوضح دلالة و أوثق و أكثر و هو الموافق لعمل الأصحاب»(3) و في الذكرى «حمله هنا على مغرب أمسه أولى لرواية زرارة عن أبي جعفر الدالّة على العدول»(4).

و عن كاشف اللثام تكلّف تأويله بجعل قوله عليه السّلام «بعد المغرب» نصبا، أي فليتمّ صلاته الّتي هي المغرب بعد العدول إليها ثمّ ليقض العشاء بعد المغرب، و لذا قال السائل: «قلت لهذا يتمّ صلاته بعد المغرب» و السائل إنّما سأل الوجه في التعبير بالقضاء و الاستئناف في العصر، فأجاب عليه السّلام: بأنّ العصر منفردة لا يتبعها صلاة، ثمّ عنه أنّه قال: و يجوز ابتناء الخبر على خروج وقت المغرب إذا غاب الشفق، و عدم دخول وقت العشاء قبله، فإذا شرع في العشاء لم يعدل إلى المغرب، بناء على عدم وجوب العدول من الحاضرة إلى الفائتة، فيكون بعد المغرب مضموما و المغرب منصوبا ليقض، و كلام السائل «قلت: لهذا يتمّ صلاته» و قلت: «بعد المغرب» و الجواب بيان العلّة في استمرار الظهر إلى قريب انقضاء وقت العصر، و في المغرب إلى قريب انقضاء وقت العشاء، و الحمل على ضيق وقت العشاء بعيد جدّا.(5)

و أورد عليه بأنّ ما ذكره أيضا أبعد أو مساو له فالأولى ردّ الخبر إلى أهله كما أمرنا به.

الصورة الثانية: ما لو تذكّر بعد الفراغ من الثانية و قد صلاّها في الوقت المختصّ بالاولى، و حكمه أنّه يجب إعادتها بعد الإتيان بالاولى على المشهور المنصور من اختصاص الظهر من أوّل الوقت بمقدار أدائها، و على القول بالاشتراك اتّجه الإجزاء بلا إعادة للعصر، كما لو وقعت في الأثناء كما هو ثمرة القول بالاختصاص و الاشتراك على ما تقدّم في محلّه.

و ربّما توهّم من إطلاق الأخبار الآتية عدم وجوب إعادتها مطلقا، و هذا على تقدير

ص: 305


1- الوسائل 5/293:4، ب 63 من أبواب المواقيت، التهذيب 1075/270:2.
2- مصابيح الظلام 512:5.
3- الوسائل 293:4.
4- الذكرى 418:2.
5- كشف اللثام 85:3-86.

تسليم الإطلاق و عدم منعه باعتبار الندرة كما تقدّم عن شرح المفاتيح يخرج عنه بأدلّة الاختصاص، و عليه فلا إشكال في الحكم نصّا و لا فتوى. و ما عن بعضهم من احتمال العمل بالإطلاق، غير جيّد.

نعم قد يشكل الحال فيما لو دخل الوقت المشترك و هو فيها فتذكّر بعد الفراغ، و قد وقع فيه خلاف كما أشار إليه صاحب المدارك لكن قال: «و مرجعه إلى الخلاف فيمن صلّى ظانّا دخول الوقت فدخل و هو في الأثناء»(1) انتهى. و عليه فارتفع الإشكال هنا أيضا، لما عرفت من أنّ الأقوى فيه الصحّة للنصّ المخرج عن الأصل.

الصورة الثالثة: ما لو صلّى الثانية عصرا أو عشاء في الوقت المشترك، ثمّ تذكّر نسيان الاولى بعد الفراغ، و حكمه على ما نصّ عليه جماعة من غير نقل خلاف الاجتزاء بها مع فعل الاولى المنسيّة بعدها من دون إعادة لها، و لا يقدح فيه اختلال الترتيب الخاصّ لكونه مغتفرا في حقّ الناسي، كما تقدّم في مباحث الاختصاص و الاشتراك. و يدلّ عليه من صحاح الأخبار صحيحة زرارة «و إن كنت صلّيت العشاء الآخرة و نسيت المغرب فقم فصلّ المغرب»(2).

و استدلّ أيضا في المدارك و غيره بصحيحة صفوان «و قد سأله عن رجل نسي الظهر حتّى غربت الشمس، و قد كان صلّى العصر؟ فقال: إن أمكنه أن يصلّيها قبل أن يفوته المغرب بدأ بها، و إلاّ صلّى المغرب ثمّ صلاّها»(3).

ص: 306


1- المدارك 117:2.
2- الوسائل 290:4، ب 63 من أبواب المواقيت، التهذيب 340/158:3.
3- الوسائل 7/289:4، ب 62 من أبواب المواقيت، التهذيب 1073/269:2.
[ينبوع: أوّل الوقت في كلّ صلاة أفضل من غيره إلاّ في مواضع]

ينبوع

أوّل الوقت في كلّ صلاة أفضل من غيره نصّا كتابا و سنّة و إجماعا على ما نقله جماعة(1) أمّا الكتاب فالعمومات الآمرة بالمسارعة و الاستباق، و أمّا السنّة فالروايات المستفيضة المصرّحة بأفضليّة أوّل الوقت، و قد يدّعى تواترها و قد قدّمنا تحرير المسألة و ذكرنا مداركها المشار إليها، و أكثر نصوصها على وجه أغنى عن الإعادة هنا.

نعم، بقى الكلام في المستثنيات عن هذه الكلّيّة، فإنّه استثني عنها في النصّ و الفتوى مواضع كثيرة قال في الروضة: «أنّها ترتقي إلى خمسة و عشرين ذكر أكثرها المصنّف في النفليّة(2) و حرّرناها مع الباقي في شرحها»(3) و أرقاها في الحدائق(4) إلى أربعة و عشرين بأدلّة غير تامّة في كثير منها ناظرا في جملة منها.

و عمومات أفضليّة أوّل الوقت كتابا و سنّة محكّمة لا يخرج عنها إلاّ بدليل تامّ معتبر صالح للتخصيص، و لا يمكن التعويل هنا فيما لم يكن عليه دليل تامّ من المستثنيات على قاعدة التسامح في السنن الّتي يكتفى فيها بخبر ضعيف أو فتوى الفقيه، لرجوعه إلى تخصيص العمومات المعتبرة بنحو الخبر الضعيف أو فتوى الفقيه و هو كما ترى.

و ليقتصر من تلك المواضع على ما صحّ دليله:

فمن جملة ذلك المغرب و العشاء للمفيض من عرفات، فإنّه يستحبّ تأخيرهما إلى جمع بكسر الميم المعبّر عنه بالمزدلفة بكسر اللام و هي مشعر الحرام، و إن ذهب ربع الليل أو ثلثه، و عن منتهى العلاّمة «نقل إجماع أهل العلم عليه»(5) و دليله من الروايات

ص: 307


1- نقل في الناصريّات: 230، المسألة 75، و المدارك 111:3، المبسوط 77:1، الوسيلة: 81.
2- النفليّة: 105.
3- الروضة 496:1 /
4- الحدائق 326:6-331.
5- المنتهى 723:2.

صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: «لا تصلّ المغرب حتّى تأتي جمعا و إن ذهب ثلث الليل»(1).

و منها: العشاء، فإنّه يستحبّ تأخيرها إلى أن يذهب الشفق الأحمر، و دليله صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام متى تجب العتمة ؟ قال: إذا غاب الشفق و الشفق الحمرة»(2) و صحيحة بكر بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «و أوّل وقت العشاء ذهاب الحمرة، و آخر وقتها إلى غسق الليل نصف الليل»(3) و قد تقدّم أنّ الشيخين احتجّا بهما على أوّل وقت العشاء، و حملنا على وقت الفضيلة جمعا بين الأدلّة.

و منها: المتنفّل في الظهرين يؤخّر الفريضة حتّى تأتي بالنافلة، و قد سبق تحقيقه و دليله من النصوص.

و منها: المستحاضة يؤخّر الظهر و المغرب إلى آخر وقت فضيلتهما فتجمع بينهما و بين العصر و العشاء بغسل واحد، و دليله روايات: كصحيحة معاوية بن عمّار في المستحاضة «اغتسلت للظهر و العصر تؤخّر هذه و تعجّل هذه، و للمغرب و العشاء غسلا واحدا تؤخّر هذه و تعجّل هذه»(4) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و منها: تأخير المغرب للصائم إذا كان من يتوقّع إفطاره أو نازعته نفسه إلى الإفطار فيؤخّرها إلى ما بعد الإفطار لرفع الانتظار على الأوّل أو لحصول الإقبال على الثاني، لصحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه سأله عن الإفطار قبل الصلاة أو بعدها؟ قال: إن كان معه قوم يخشى أن يحبسهم عن عشائهم فليفطر معهم، فإن كان غير ذلك فليصلّ ثمّ ليفطر»(5).

و في رواية سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الصلاة تحضرني و قد وضع الطعام قال: «إن كان أوّل الوقت فابدأ بالطعام، و إن خاف تأخير الوقت فابدأ بالصلاة»(6).

و عن الغوالي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إذا وضع عشاء أحدكم و اقيمت الصلاة فابدأ بالعشاء

ص: 308


1- الوسائل 1/12:14، ب 5 من أبواب الوقوف بالمشعر، التهذيب 2/188:5.
2- الوسائل 1/204:4، ب 23 من أبواب المواقيت، التهذيب 103/34:2.
3- الوسائل 6/185:4، ب 17 من أبواب المواقيت، التهذيب 1041/261:2.
4- الوسائل 1/371:2، ب 1 من أبواب الاستحاضة، التهذيب 277/106:1.
5- الوسائل 1/1497:10، ب 7 من أبواب الصائم، التهذيب 517/186:4.
6- الوسائل 1/373:24، ب 70 من أبواب آداب المائدة، التهذيب 433/100:9.

و لا يعجّل حتّى يفرغ»(1) و ظاهر هذا الخبر استحباب تقديم العشاء على الصلاة صونا لمنازعة النفس في أثنائها و إن لم يكن صائما، و يؤيّده ما دلّ على الاهتمام التامّ في حضور القلب و طمأنينته و عدم مشغوليّة الخاطر بالأفكار.

و منها: تأخير الصبح ليكمل صلاة الليل لمن أدرك منها أربعا في الليل، و قد مرّ بيانه و دليله من النصوص.

و منها: المدافع للأخبثين يستحبّ له التأخير ليخرجهما، لصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا صلاة لحاقن و لا لحاقنة و هو بمنزلة من هو في ثيابه»(2) و في المنقول في الحدائق مكان قوله عليه السّلام: «لحاقن و لا لحاقنة» لحاقن و لا لحاقب، قال: و الحاقن بالنون حابس البول و الحاقب بالباء حابس الغائط(3).

و في رواية الحضرمي عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لا تصلّ و أنت تجد شيئا من الأخبثين»(4) و ظاهر الخبرين الحرمة، و حملتا على الكراهة للإجماع على عدم الحرمة مع التمكّن من الصبر، و لعلّ الحمل على الاستحباب لفهم العرف الملازمة بين كراهة الصلاة و الحال هذه، و استحباب تأخيرها لإخراجهما، و لو جعلنا الحكمة مصادمة حبسهما للإقبال المرغوب فيه للصلاة فوجه الاستحباب واضح.

و من هنا ما عن بعض الأصحاب من إلحاق الريح بالأخبثين لمنافاته الإقبال، و قيل بل كلّ شيء يكون كذلك فحكمه كذلك. و في شرح المفاتيح «أنّ هذا الحكم مشروط بسعة الوقت للصلاة»(5) و قيل: و لو عرضت المدافعة في أثناء الصلاة فلا كراهة في الإتمام.

و منها: التأخير إذا كان مشتملا على صفة كمال، كحضور المسجد، أو انتظار الجماعة بحضور الإمام أو المأموم، أو انتظار كثرة الجماعة، أو لحصول التوجّه و الإقبال و فراغ البال، أو التمكّن من استيفاء أفعالها على الوجه الأكمل.

و استدلّ عليه في المصابيح بفحوى ما دلّ على تأخير الظهر للإبراد، و تأخير الصائم

ص: 309


1- عوالي اللآلئ 77/146:1.
2- الوسائل 2/251:7، ب 8 من أبواب قواطع الصلاة، التهذيب 1372/333:2.
3- الحدائق 328:6.
4- الوسائل 3/252:2، ب 8 من أبواب قواطع الصلاة، التهذيب 1333/326:2.
5- مصابيح الظلام 430:5.

المغرب في الصورتين المتقدّمتين، و تأخير المدافع للأخبثين، و الخبر عن وقت المغرب فقال: «إذا كان أرفق بك، و أمكن لك في صلاتك، و كنت في حوائجك، فلك أن تؤخّرها إلى ربع الليل»(1).

و في صحيح عمر بن يزيد قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أكون في جانب المصر فتحضر المغرب، فإن أنا أخّرت الصلاة حتّى اصلّي في المنزل كان أمكن لي و أرفق، أ فاصلّي في بعض المساجد؟ قال: صلّ في منزلك»(2).

و في موثّقة ابن عمّار قال: «قلت: اصلّي في وقت فريضة ؟ قال: نعم في أوّل الوقت إذا كنت مع إمام يقتدى به فإذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة» فإنّ التفصيل بين الوحدة و كونه مع إمام يقتدى به(3) لا جهة له إلاّ أنّ الانتظار لانعقاد الجماعة أمر راجح. و في المدارك(4)تقييد عنوان المسألة بعدم خروج وقت الفضيلة. لكنّ الأدلّة على ما عرفت مطلقة بل خبر عمر بن يزيد الأوّل الّذي ذكره مستندا للحكم ناصّ بخلافه، إلاّ أن يجعل وقت الفضيلة ممتدّا إلى ربع الليل كما عرفت في محلّه، لكن فتاوي غيره من الأصحاب مطلقة.

و منها: الظهر يستحبّ تأخيرها في الحرّ لمن يصلّي جماعة في المسجد للإبراد بها على معنى طلب برودة الهواء، لما رواه معاوية بن وهب في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«كان المؤذّن يأتي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في صلاة الظهر، فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أبرد أبرد»(5) قالوا:

«و أقلّ مراتب الأمر الاستحباب»(6) و الإبراد المذكور في الرواية و إن كان مجملا غير أنّه يبيّنه المرويّ عن كتاب رجال الكشّي باسناد عن ابن بكير قال: «دخل زرارة على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: إنّكم قلتم لنا في الظهر و العصر على ذراع و ذراعين، ثمّ قلتم: أبردوا بها في الصيف، فكيف الإبراد بها؟ و فتح ألواحه ليكتب ما يقول فلم يجبه أبو عبد اللّه عليه السّلام بشيء، فأطبق ألواحه فقال: إنّما علينا أن نسألكم و أنتم أعلم بما عليكم و خرج، و دخل أبو بصير

ص: 310


1- الوسائل 8/195:4، ب 19 من أبواب المواقيت، التهذيب 94/31:2.
2- الوسائل 14/197:4، ب 19 من أبواب المواقيت، التهذيب 92/31:2.
3- الوسائل 2/226:4، ب 35 من أبواب المواقيت، التهذيب 1052/264:2.
4- المدارك 114:3.
5- الوسائل 1/247:4، ب 42 من أبواب المواقيت، الفقيه 671/144:1.
6- المدارك 114:3.

على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: إنّ زرارة سألني عن شيء فلم اجبه و قد ضقت من ذلك، فاذهب أنت رسولي إليه فقل: صلّ الظهر في الصيف إذا كان ظلّك مثلك، و العصر إذا كان مثليك، و كان زرارة هكذا يصلّي في الصيف، و لم أسمع أحدا من أصحابنا يفعل ذلك غيره»(1).

و عليه فما عن الصدوق(2) من حمل الإبراد على تعجيلها و المسارعة في فعلها من البريد لمن يسرع في المشي، ليس بجيّد. و في كلام غير واحد(3) أنّ التأخير هنا رخصة لا أنّه عزيمة ليكون مستحبّا، و منه ما عن الشيخ في الخلاف(4) من أنّ تقديم الظهر في أوّل وقتها أفضل، و إن كان الحرّ شديدا جاز تأخيرها قليلا رخصة. و هو خلاف ظاهر الخبرين خصوصا إذا كانت الحكمة مراعاة التوجّه و الإقبال و فراغ البال الّتي يصادمها اشتداد الحرّ، و أمّا ما عرفته من القيود فهو على ما في كلام جماعة(5) غير أنّه لم نقف على مستندها بل ربّما يأباه إطلاق خبر ابن بكير، فالأجود عدم اعتبار الكون في المسجد، و لا كون الصلاة مع الجماعة خصوصا مع ملاحظة الحكمة المذكورة.

ص: 311


1- الوسائل 33/149:4، ب 8 من أبواب المواقيت، رجال الكشّي 226/355:1.
2- الفقيه 672/223:1.
3- نهاية الإحكام 328:1، و الوسيلة: 84، و الجامع للشرائع: 62.
4- الخلاف 96:1.
5- المبسوط 77:1 و المدارك 114:3.
[ينبوع: تكره النوافل المبتدئة عند طلوع الشمس و عند غروبها و عند قيامها و بعد صلاة الصبح و بعد صلاة العصر]

ينبوع

يكره النوافل المبتدئة عند طلوع الشمس و عند غروبها و عند قيامها - و هو وصولها إلى دائرة نصف النهار - و بعد صلاة الصبح و بعد صلاة العصر على ما هو مذهب أكثر الأصحاب كما في المدارك(1) و الذخيرة(2) و على المشهور بين الأصحاب كما في الرياض(3) و عن جماعة(4) و فيه بل لعلّه عليه عامّة متأخّريهم، و في جامع المقاصد «كراهية النوافل المبتدئة في هذه الأوقات عليه أكثر علماء الإسلام» و عن المنتهى «أنّه مذهب أكثر أهل العلم(5)» و في الغنية(6) كما عن الخلاف(7) «الإجماع عليه» و هو ظاهر التذكرة(8) و في الحدائق «اتّفق الأصحاب على كراهية النوافل في الأوقات الخمسة المشهورة في الجملة»(9).

و في مقابله عبارات مختلفة لجماعة من أعيان علمائنا توهم الخلاف في المسألة، ففي المحكيّ عن المفيد(10) تخصيص الكراهة بوقت الطلوع و الغروب مع تعميمها بالنسبة إلى المبتدئة و ذات السبب.

و في النهاية: «من فاته شيء من النوافل فليقضها أيّ وقت شاء من ليل أو نهار ما لم يكن وقت فريضة، أو عند طلوع الشمس أو غروبها، فإنّه يكره صلاة النوافل و قضاؤها في هذين الوقتين و قد وردت رواية(11) بجواز النوافل في الوقتين اللذين ذكرناهما، فمن عمل بها لم يكن مخطئا، لكنّ الأحوط ما ذكرنا»(12).

ص: 312


1- المدارك 105:3.
2- الذخيرة: 204.
3- الرياض 96:3.
4- مجمع الفائدة و البرهان 46:2، و المفاتيح 98:1.
5- المنتهى 139:4.
6- الغنية: 72.
7- الخلاف 521:1.
8- التذكرة 333:2.
9- الحدائق 313:6.
10- المقنعة: 35.
11- الوسائل 2/240:4، ب 39 من أبواب المواقيت، الفقيه 1032/235:1.
12- النهاية: 62.

و في محكيّ الخلاف التفصيل، و محصّله: أنّ ما نهى عنه لأجل الفعل و هو بعد الفجر إلى طلوع الشمس و بعد العصر إلى غروبها فإنّما يكره ابتداء الصلاة فيه نافلة، فأمّا كلّ صلاة لها سبب عن قضاء فريضة أو نافلة أو تحيّة مسجد أو صلاة زيارة أو صلاة إحرام أو صلاة طواف أو نذر أو صلاة كسوف أو جنازة فإنّه لا بأس به و لا يكره، و أمّا ما نهي فيه لأجل الوقت و هو عند طلوع الشمس و عند قيامها و عند غروبها فالأيّام و البلاد و الصلاة فيه سواء إلاّ يوم الجمعة، فإنّ له أن يصلّي عند قيامها النوافل.(1)

و في الناصريّات - بعد ذكر عبارة جدّه الناصر - و لا بأس بالتطوّع بعد الفجر و بعد العصر قال: عندنا أنّه لا يجوز التطوّع بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس إلاّ في يوم الجمعة لا يجوز التطوّع بعد صلاة العصر إلى أن قال: دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه من منع التنفّل في الأوقات الّتي ذكر هنا ما روي عنه عليه السّلام من قوله: «لا صلاة بعد الصبح حتّى تطلع الشمس، و لا صلاة بعد العصر حتّى تغرب الشمس»(2) و في حديث الصباح «أنّه نهى عن الصلاة في وقت الطلوع و استواء الشمس و غروبها»(3) و أمّا الدليل على جواز ذلك في يوم الجمعة، فهو بعد إجماع الفرقة المحقّة ما رواه أبو هريرة(4) قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الصلاة نصف النهار حتّى تزول الشمس إلاّ يوم الجمعة»(5).

و ظاهر هذه العبارة المنع، كما هو ظاهر عبارة ابن أبي عقيل «لا نافلة بعد طلوع الشمس إلى الزوال و بعد العصر إلى أن تغيب الشمس إلاّ قضاء السنّة فإنّه جائز فيهما و إلاّ يوم الجمعة»(6) و عزي المنع أيضا إلى ظاهر الصدوق في العلل لأنّه قال: «باب العلّة الّتي من أجلها لا يجوز الصلاة حين طلوع الشمس و عند غروبها»(7) الخ، لكن عن كشف الرموز «أنّ التحريم منفيّ بالاتّفاق»(8) و لعلّه لذا حملت العبارات المذكورة على إرادة الكراهة لأنّهم كثيرا ما يعبّرون عنها بنحو هذه العبارات.

ص: 313


1- الخلاف 520:1 المسألة 263.
2- صحيح البخاري 52/300:1، سنن النسائي 276:1، سنن البيهقي 452:2.
3- صحيح البخاري 548/299:1، سنن النسائي 277:1، سنن البيهقي 454:2.
4- مسند الشافعي: 63، كنز العمّال 19597/418:7.
5- الناصريّات: 199-201.
6- نقله عنه في المختلف 58:2.
7- علل الشرائع 343:2، ب 47.
8- كشف الرموز 129:1.

و في محكيّ كاشف اللثام إطلاق القول بالحرمة أخذا بظاهر النهي الوارد في المقام قائلا: «لمّا ورد النهي و لا معارض له كان الظاهر الحرمة، و لا نسلّم مخالفة الإجماع، و لا يعارض النهي استحباب الذكر و القراءة و الركوع و السجود للّه تعالى مطلقا، لجواز حرمة الهيئة المخصوصة بنيّة الصلاة مع حرمة السجود و الركوع تجاه صنم، و في مكان مغصوب، فلا يستحبّان مطلقا. و بالجملة فعسى أن يكون الصلاة في هذه الأوقات كالحجّ في غير وقته، فمن أتى بها بنيّة الصلاة كانت فاسدة محرّمة انتهى»(1) و ربّما وقع بين صدر كلامه و ذيله تهافت لتغاير المنع الشرعي كما هو مفاد ظاهر النهي، و المنع التشريعي كما هو مفاد ذيل العبارة.

و ربّما عزي(2) إلى ظاهر الصدوق التوقّف في هذا الحكم من أصله فإنّه قال: و قد روي نهي عن الصلاة عند طلوع الشمس و عند غروبها لأنّ الشمس تطلع بين قرني شيطان و تغرب بين قرني شيطان، إلاّ أنّه روى لي جماعة من مشايخنا عن أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي رضى اللّه عنه أنّه ورد عليه فيما ورد من جواب مسائله عن محمّد بن عثمان العمري قدّس اللّه روحه «و أمّا ما سألت من الصلاة عند طلوع الشمس و عند غروبها، فلئن كان كما يقول الناس: إنّ الشمس تطلع بين قرني شيطان و تغرب بين قرني شيطان، فما أرغم أنف الشيطان بشيء أفضل من الصلاة، فصلّها و ارغم أنف الشيطان»(3).

و استظهر في شرح المفاتيح من كلامه هذا الميل إلى عدم المنع و عدم الكراهة و وافقه في الميل إليهما قائلا - بعد نقل استدلالات القائلين بالكراهة و سائر كلماتهم المتعلّقة بالمقام - قال: «و فيها ما لا يخفى على اولي الألباب فإنّ الشيطان على فرض أن يكون له قرن يطلع و يغرب الشمس بينه كيف يناسب هذا منع بني آدم عن الصلاة قربة إلى اللّه تعالى بل المناسب الأمر بها حينئذ كما ورد منهم، فإنّ الصدوق بعد ما ذكر بعض تلك الروايات قال: إلاّ أنّه روى جماعة من مشايخنا... إلى أن قال: و لا يخفى أنّه يظهر من كلام الصدوق رحمه اللّه اشتهار هذه الرواية بين مشايخه على وجه التلقّي بالقبول، مع أنّ السند صحيح و معلّل بعلّة واضحة معلومة و مطابق للعمومات و الإطلاقات و الأدلّة العقليّة و الأخبار

ص: 314


1- كشف اللثام 89:3.
2- في المدارك 108:3، و في الرياض 98:3، و في الحدائق 312:6.
3- الفقيه 1430/315:1.

الواردة في الأمر بالأخذ بما خالف العامّة... إلى أن قال: و من هذا مال الصدوق إلى عدم المنع و عدم الكراهة كما يظهر من كلامه لا أنّه متوقّف»(1).

و عزي الميل إليهما فيه و في الذخيرة أيضا إلى الطبرسي في الاحتجاج(2) و مال إليهما أيضا صاحب الذخيرة قائلا - بعد نقل كلام الصدوق - «و لا يبعد العمل بهذا الخبر، فإنّ قوله: روى جماعة من مشايخنا، يدلّ على استفاضته عنده و محمّد بن جعفر الأسدي ثقة، و من الظاهر أنّ الجواب من الإمام لا من محمّد بن عثمان على ما هو معلوم من دأبهم، و قد صرّح بذلك في كتاب إكمال الدين(3) و كذا الطبرسي في كتاب الاحتجاج... إلى أن قال:

فحينئذ تحمل أخبار النهي على التقيّة لموافقتها لمذهب العامّة و أخبارهم»(4).

و يظهر الميل إليه أيضا من الشيخ الثقة الجليل أبو جعفر محمّد بن محمّد بن النعمان حيث إنّه أكثر في كتابه المسمّى ب «افعل و لا تفعل»(5) من التشنيع على العامّة في روايتهم ذلك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: «إنّهم كثيرا ما يخبرون عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتحريم شيء و بعلّة تحريمه، و تلك العلّة خطأ لا يجوز أن يتكلّم بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يحرّم اللّه من قبلها شيئا، فمن ذلك ما أجمعوا عليه من النهي عن الصلاة في وقتين عند طلوع الشمس حتّى يلتئم طلوعها و عند غروبها، فلو لا علّة النهي أنّها تطلع و تغرب بين قرني الشيطان - لعنه اللّه - لكان ذلك جائزا، فإذا كان آخر الحديث موصولا بأوّله و آخره فاسد فسد الجميع، و هذا جهل من قائله، و الأنبياء لا تجهل، فلمّا بطلت هذه الرواية بفساد آخر الحديث ثبت أنّ التطوّع جائز فيهما انتهى»(6).

و يظهر ذلك أيضا من صاحب الوسائل حيث إنّه بعد ما نقل أخبار النهي قال: «حمل الشيخ هذه الأحاديث على الكراهة لما مرّ من أحاديث الجواز و جوّز حملها على التقيّة لما مرّ من حديث العمري، و هو الأقرب»(7).

ص: 315


1- مصابيح الظلام 542:5-543.
2- الاحتجاج: 479.
3- إكمال الدين 49/520:2.
4- الذخيرة: 205.
5- قال في الذريعة (261:2): هذا الكتاب ليس للشيخ المفيد، و الصحيح أنّه لمؤمن الطاق، لأنّ اسمه محمّد بن عليّ بن النعمان من أصحاب الإمام الصادق و اسم المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان، و لعلّ التوهّم وقع من سقوط اسم عليّ فتذكّر.
6- نقله عنه السيّد في المدارك 109:3.
7- الوسائل 239:4.

فظهر بجميع ما عرفت: أنّ أقوال المسألة ثلاثة أو أزيد: القول بالكراهة مطلقا أو في الجملة و هو المشهور، و القول بالمنع و الحرمة في الجملة أو مطلقا، و القول بعدم المنع و عدم الكراهة.

ثمّ إنّ ظاهر القائلين بالكراهة أنّهم لا يريدون بها الكراهة المصطلحة المتضمّنة لمطلوبيّة الترك و رجحانه على الفعل المستلزم لمرجوحيّة الفعل مطلقا، بل أقلّيّة الثواب الغير المنافية للصحّة على معنى كون الصلاة في هذه الأوقات مع رجحانها الذاتي المقتضي لمطلوبيّة فعلها أقلّ ثوابا منها في سائر الأوقات، و قضيّة ذلك انعقاد النافلة و لو مبتدئة في الأوقات المذكورة و صحّتها و انعقاد نذرها.

خلافا لما في تذكرة العلاّمة من استشكاله في الانعقاد قائلا: «في انعقاد النوافل في هذه الأوقات إشكال: ينشأ من النهي فأشبهت صوم يوم العيد، و من الترغيب في الصلاة مطلقا، و هذه الأوقات قابلة للصلاة في الجملة لصحّة الفرائض فيها فصارت كالصلاة في الحمّام، و للشافعيّة وجهان(1). إذا ثبت هذا، فلو نذر أن يصلّي في هذه الأوقات انعقد إن قلنا بانعقاد الصلاة و إلاّ فلا»(2).

و بالجملة فالمعنى المعهود للكراهة هنا من مذهب الأكثر هو ما ذكرناه، و يومئ إلى أنّها بالمعنى المذكور هو مذهب الأكثر عبارة الحدائق عند توجيه ما سمعته عن التذكرة «فلعلّ العلاّمة في هذا الموضع اختار خلاف ما صرّح به هو و غيره ممّا عليه القول المشهور من الجواز على كراهية»(3) فإنّ الجواز على كراهية في العبادات ليس له معنى محصّل إلاّ أقلّيّة الثواب الغير المنافية للرجحان الذاتي المقتضي لمطلوبيّة الفعل، هذا مع أنّه مصرّح به في كلام جماعة من الفحول مثل أوّل الشهيدين في الذكرى(4) و ثانيهما في المسالك(5)و المحقّق الثاني في جامع المقاصد(6) و الكاظمي في شرح الدروس(7) فقال في الذكرى:

«لو أوقع النافلة المكروهة في هذه الأوقات، فالظاهر انعقادها إن لم نقل بالتحريم، إذ الكراهية لا تنافي الصحّة كالصلاة في الأمكنة المكروهة»(8) انتهى، فإنّ الكراهية الغير

ص: 316


1- المجموع 181:4، فتح العزيز 128:3.
2- التذكرة 338:3.
3- الحدائق 317:6.
4- الذكرى 387:2.
5- المسالك: 149.
6- جامع المقاصد 37:2.
7- شرح الدروس 567:1.
8- الذكرى 387:2.

المنافية لصحّة العبادة لا تتحمّل الكراهة المصطلحة، ضرورة تنافي الرجحان مطلقا المرجوحيّة كذلك، فلا تجتمعان في الفعل و الترك، مضافا إلى استحالة توارد طلب الفعل و الترك على شيء واحد لامتناع امتثالهما معا.

و في المسالك «و معنى كراهة العبادة في هذه المواضع و نظائرها كونها خلاف الأولى، فينقص ثوابها عن فعلها في غير هذه الأوقات لا الكراهة المتعارفة»(1).

و في جامع المقاصد «و ليس هذه الكراهية للتحريم، فتنعقد النافلة المبتدئة حينئذ، لعدم منافاة الكراهية للانعقاد، إذ المراد بالكراهية في العبادات كونها على خلاف الأولى فعلى هذا ينعقد نذرها»(2).

و في شرح الدروس «و المراد بكراهة النافلة هنا كونها خلاف الأولى أي أقلّ ثوابا كباقي العبادات المذكورة، فتنعقد لو وقعت لعدم المنافاة و ينعقد نذرها»(3).

ثمّ الأصل الروايات المستفيضة، كصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«يصلّى على الجنازة في كلّ ساعة أنّها ليست بصلاة ركوع و سجود، و إنّما يكره الصلاة عند طلوع الشمس و عند غروبها الّتي فيها الخشوع و الركوع و السجود لأنّها تغرب بين قرني شيطان و تطلع بين قرني شيطان»(4).

و صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا صلاة في نصف النهار إلاّ يوم الجمعة»(5).

و رواية الحسين بن زيد عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي قال:

«و نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الصلاة عند طلوع الشمس و عند غروبها و عند استوائها»(6)رواها الصدوق في الفقيه و المجالس.

و مرسلة الفقيه أيضا قال: «و قد روي نهي عن الصلاة عند طلوع الشمس و عند غروبها لأنّ الشمس تطلع بين قرني شيطان و تغرب بين قرني شيطان»(7).

ص: 317


1- المسالك: 149.
2- جامع المقاصد 37:2.
3- شرح الدروس 567:1.
4- الوسائل 2/108:3، ب 20 من أبواب صلاة الجنازة، التهذيب 24/321:3.
5- الوسائل 6/317:7، ب 8 من أبواب صلاة الجمعة و آدابها، التهذيب 59/247:3.
6- الوسائل 6/236:4، ب 38 من أبواب المواقيت، الفقيه 1/5:4.
7- الوسائل 7/236:4، ب 38 من أبواب المواقيت، الفقيه 1430/315:1.

و رواية سليمان بن جعفر الجعفري المرويّة عن العلل قال: «سمعت الرضا عليه السّلام يقول:

لا ينبغي لأحد أن يصلّي إذا طلعت الشمس، لأنّها تطلع بقرني شيطان(1) فإذا ارتفعت و صفت فارقها، فتستحبّ الصلاة ذلك الوقت و القضاء و غير ذلك، فإذا انتصفت النهار قارنها، فلا ينبغي لأحد أن يصلّي في ذلك الوقت، لأنّ أبواب السماء قد غلقت فإذا زالت الشمس و هبّت الريح فارقها»(2).

و رواية محمّد بن الفضيل المنقري المنقولة عن مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي قال: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام: إنّ يونس كان يفتي الناس عن آبائك عليهم السّلام أنّه لا بأس بالصلاة بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس و بعد العصر إلى أن تغيب الشمس، فقال: كذب لعنه اللّه على أبي أو قال على آبائي»(3).

و رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا صلاة بعد العصر حتّى تصلّي المغرب، و لا صلاة بعد الفجر حتّى تطلع الشمس»(4).

و رواية محمّد الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا صلاة بعد الفجر حتّى تطلع الشمس، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ الشمس تطلع بين قرني الشيطان و تغرب بين قرني الشيطان، و قال: لا صلاة بعد العصر حتّى تصلّي المغرب»(5).

و رواية عليّ بن بلال قال: «كتبت إليه في قضاء النافلة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و من بعد العصر إلى أن تغيب الشمس، فكتب: لا يجوز ذلك إلاّ للمقتضي فأمّا لغيره فلا»(6) قيل في معنى قوله «إلاّ للمقتضي» يعني «لا يجوز الصلاة في هذين الوقتين إلاّ لمن يقضي نافلة أو فريضة»(7).

و هذه الروايات كما ترى لا ينبغي التأمّل في أسانيدها لانجبار قصور أكثرها بالاستفاضة، و بموافقة صحيحها و بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع إن لم تكن إجماعا.

ص: 318


1- في هامش الأصل: نسخة بدل «على قرني الشيطان».
2- الوسائل 9/237:4، ب 38 من أبواب المواقيت، علل الشرائع: 1/343.
3- الوسائل 14/239:4، ب 38 من أبواب المواقيت، مستطرفات السرائر: 44/63.
4- الوسائل 2/235:4، ب 38 من أبواب المواقيت، التهذيب 695/174:2.
5- الوسائل 1/234:4، ب 38 من أبواب المواقيت، التهذيب 694/174:2.
6- الوسائل 3/235:4، ب 38 من أبواب المواقيت، التهذيب 696/175:2.
7- الحدائق 305:6.

و أمّا من حيث الدلالة فهي بين ظاهرة في المنع المقتضي للفساد و ظاهرة في نفس الفساد، و مع ذلك فهي من باب العموم الأزماني في هيأتي النهي و النفي ظاهرة في جميع الأيّام حتّى يوم الجمعة، و من باب العموم الإطلاقي في مادّة الصلاة ظاهرة في جميع الصلوات حتّى للفرائض أداء و قضاء فلها ظهورات ثلاث، و قد تطرّق إليها التصرّف في الجميع.

أمّا في الأوّل: فلكونها مصروفة إلى الكراهة بل إلى الكراهة الغير المتعارفة، و مرجعه إلى حملها على الإرشاد إلى نقص ثواب الصلاة في هذه الأوقات لخصوصيّة فيها بالقياس إلى الثواب المعدّ لأصل طبيعة الصلاة.

و أمّا في الثاني: فلتطرّق التخصيص إليها بالقياس إلى يوم الجمعة بالاستثناء الموجود في صحيحة ابن سنان و بغيره ممّا سنذكره.

و أمّا في الثالث: لتخصيصها بالنوافل المبتدئة و إخراج الفرائض أداء و قضاء و النوافل المرتّبة عنها، و وجه هذا التخصيص في الجملة واضح، فإنّ هذه الروايات أخصّ مطلقا بالقياس إلى مجموع أدلّة مجموع الصلوات من الفرائض أداء و قضاء و النوافل مرتّبة و مبتدئة، لأنّها عامّة في جميع الأوقات، و هي خاصّة في الأوقات الخمس المتقدّمة.

و قضيّة ذلك ورود التخصيص إلى الجميع، لكن القدر المتيقّن من هذا التخصيص المتسالم فيه عند المعظم بل المتّفق عليه عند الأصحاب في الجملة وروده على عمومات النوافل المبتدئة، فإذا خرجت هذه الأوقات عن عمومات سائر الصلوات انقلبت النسبة بينها و بين هذه الروايات إلى العموم من وجه، لأنّها عامّة في الأوقات و هي عامّة في الصلوات.

و لا بدّ في نحوه لعلاج التعارض من تخصيص في أحد العامّين يحتاج تعيينه لأحدهما إلى شاهد داخلي أو خارجي، و من الشاهد الداخلي كون أحدهما أظهر في العموم فيؤخذ بعمومه، و يحمل الآخر على ما عدى محلّ التعارض تقديما للأظهر على الظاهر.

و من جملة موجبات أظهريّة أحد العامّين كون عمومه وضعيّا، و عموم صاحبه عقليّا باعتبار الإطلاق الّذي مرجعه إلى السكوت في معرض البيان، فيحكم العقل بملاحظته بإرادة الإطلاق صونا لكلام الحكيم عن وصمة الخطاب بما له ظاهر و إرادة خلافه، لما تقرّر في محلّه من أنّ الوضع أقوى السببين لإحراز الظهور.

و قضيّة هذا كلّه إرجاع التخصيص فيما نحن فيه إلى هذه الروايات، لكون عمومها للصلوات من جهة الإطلاق، و عموم نصوص سائر الصلوات على ما ستعرفها من جهة

ص: 319

الوضع، فمرجع التعارض في مفروض المسألة إلى تعارض الأظهر و الظاهر، و من الواجب تقديم الأوّل على الثاني.

و لك إرجاع المسألة إلى تعارض التخصيص و التقييد، و من المقرّر ترجيح الثاني على الأوّل، و الوجهان متقاربان بل متّحدان في الحقيقة، لأنّ مبنى ترجيح التقييد على التخصيص أيضا على تقديم الأظهر على الظاهر.

فما في كلام جماعة(1) في وجه إخراج ذوات الأسباب من النوافل عن هذه الروايات من أنّ شرعيّة ذي السبب عامّة و إذا تعارض العمومات وجب الجمع و الحمل على غير ذوات الأسباب وجه جمع غير سديد، لأنّ مجرّد كون ذلك وجه جمع لا يكفي في رجوع الحمل و التأويل إلى أحد العامّين المتعارضين على التعيين، لامتناع نهوض الجهة الجامعة قرينة معيّنة. و لذا نوقش في البيان المذكور بأنّ التوفيق بين الأخبار كما يمكن بما ذكره كذا يمكن بتخصيص عموم ذوات السبب بما دلّ على كراهية الصلاة في تلك الأوقات، لأنّ بينها عموما من وجه، فتقديم أحدهما يحتاج إلى مرجّح.

و أمّا على ما قرّرناه في وجه الجمع المذكور و من بيان المرجّح المزبور فلا يرد هذا السؤال، و لا حاجة في دفعه إلى تكلّف أن يقال بأنّه يكفي في المرجّح تطرّق التخصيص إلى عموم ما دلّ على الكراهة بمطلق الفرائض و قضاء النوافل و اعتضاد عموم شرعيّة ذي السبب بإطلاق ما دلّ على رجحان الصلاة، كما صنعه في المدارك و غيره كما لا يخفى.

نعم، ربّما يشكل الحال بأنّ التعارض بمعنى تنافي مدلولي الدليلين بين عموم هذه الروايات و بين سائر العمومات مطلقا أو من وجه لا يتأتّى إلاّ على تقدير الأخذ بظهورها الأوّل من الظهورات الثلاث المتقدّمة، أو حملها على الكراهة المصطلحة لأنّ المنافي للمشروعيّة الّتي هي جهة جامعة بين الوجوب و الاستحباب إنّما هو المنع أو الكراهة بالمعنى المذكور، و أمّا على ما هو المشهور من حملها على قلّة الثواب فلا تعارض شيئا من عمومات الصلاة حتّى عمومات النوافل المبتدئة لعدم تعرّضها بالدلالة اللفظيّة للثواب و لا كثرته، ضرورة أنّ مدلول الأمر بحسب اللفظ باعتبار الوضع أو القرينة ليس إلاّ المشروعيّة الدائرة بين الوجوب و الاستحباب من دون تعرّض فيه بحسب اللفظ، و باعتبار الدلالة اللفظيّة لترتّب

ص: 320


1- منهم الشهيد في الذكرى 386:2.

الثواب على الفعل. نعم هو مدلول له بالالتزام من باب الإشارة، و مع ذلك فلا تعرّض فيه لبيان مقداره و تعيين مرتبته، بل غايته الدلالة من باب الإشارة على ترتّب ثواب في الجملة.

فإذا دلّ دليل على قلّة ثواب بعض أفراد مورده بالقياس إلى الثواب المعدّ لأصل الطبيعة بحسب الواقع لم يكن منافيا له في دلالته على مشروعيّة الطبيعة المستلزمة لمشروعيّة جميع أفرادها و إنّما ينافيه لو كان مخرجا لمورده عن أصل المشروعيّة، و المفروض على ما هو مبنى كلامهم خلافه، لما عرفت سابقا من بنائهم على انعقاد النافلة في الأوقات المكروهة.

و عليه فمرجع دليل قلّة الثواب إلى إثبات حكم آخر لبعض أفراد الطبيعة غير مناف للمشروعيّة، نظير زيادة الثواب في بعض أفرادها بالقياس إلى الثواب المستمرّ لها اللازمة من خصوصيّة مكان كالصلاة في المسجد، أو زمان كالصلاة في أوّل الوقت حسبما دلّ عليه أدلّة فضيلة المسجد و أدلّة فضيلة أوّل الوقت، و كما لا يعدّ ذلك من المعارض بالقياس إلى أدلّة أصل المشروعيّة فكذا ما نحن فيه.

و عليه فقضيّة عموم الروايات بالقياس إلى الصلوات عموم الكراهة بمعنى قلّة الثواب لجميع الصلوات حتّى للفرائض أداء و قضاء في الأوقات الخمس، فلا بدّ لمدّعي تخصيص هذا الحكم بالنوافل المبتدئة من دليل آخر صالح للتخصيص غير قاعدة تعارض العامّين من وجه، و الجمع بين المتعارضين. فما في كلامهم من الاستناد إلى هذه القاعدة، غير سديد. و هذا الإشكال ممّا لم نقف على من تفطّن به و لا على من تعرّض لدفعه.

و هاهنا إشكال آخر، و هو أنّ صرف هذه الروايات الظاهرة في الحرمة و الفساد إلى غيرهما لا بدّ له من صارف، و لم نقف على من تعرّض لذكره، و لا يصلح له ما في صحيحة محمّد بن مسلم من التعبير عن الحكم بلفظ «الكراهة» كما توهّم، لمنع ظهور الكراهة في أخبار الأئمّة عليهم السّلام فيما عدى الحرمة، بل قد يقال: إنّ الشائع في هذه اللفظة في الأخبار ككلام قدماء الأصحاب إطلاقها في الحرمة.

نعم يمكن الاستناد في الصرف إلى الإجماع و لو منقولا كما تقدّم إن لم يكن مسترابا فيه بظهور عبائر جماعة من القدماء حسبما عرفت في المنع في الجملة، مضافا إلى التعبير في خبر الجعفري المتقدّم بلفظ «لا ينبغي» بناء على أنّه أظهر في الكراهة من النهي و النفي في المنع و عدم الصحّة، مضافا إلى خبر محمّد بن فرج المنجبر بالشهرة قال: «كتبت إلى العبد الصالح عليه السّلام أسأله عن مسائل ؟ فكتب إليّ : و صلّ بعد العصر من النوافل ما شئت، و صلّ بعد

ص: 321

الغداة من النوافل ما شئت»(1) فإنّ قضيّة الجمع بينها و بين ما تقدّم هو الإذن في الفعل و رجحانه ذاتا مع مرجوحيّته بالقياس إلى الأفراد الاخر الموجبة لقلّة الثواب.

و الأولى أن يقال: إنّ اشتهار الحكم بين الأصحاب شهرة قريبة من الإجماع، مع ظهور أخبار الباب على كثرتها في غيره لا يكون إلاّ عن مستند يعوّل عليه، و ينهض بالقياس إلى الأخبار قرينة صارفة لها إلى ذلك الحكم، و إن لم نعلم بذلك المستند بالخصوص، و مرجعه إلى أنّ الشهرة مع عدم ظهور فساد مدركها تكشف عن وجود القرينة المعتبرة الكاشفة لهم عن كون المراد من الأخبار خلاف ظاهرها، فالشهرة جابرة لغير صحيحة ابن مسلم دلالة و لها سندا و دلالة، و كما أنّها تصرف النهي و النفي الواردين فيها عن الحرمة و الكراهة المصطلحة و البطلان إلى المعنى المذكور، و كذلك تصرف الصلاة المأخوذة عنوانا فيها عن الإطلاق إلى التقييد بإرادة خصوص النافلة المبتدئة، و لو سلّم عدم نهوضها للصرف، فلا أقلّ من إيجابها التشكيك الّذي يؤخذ معه بالقدر المتيقّن من الجابر و المنجبر، و قضيّة ذلك أيضا عدم ثبوت هذا الحكم لغير النافلة المبتدئة من الفرائض و النوافل أداء و قضاء.

و يؤيّده النصوص المستفيضة الواردة في كلّ من الفرائض و قضاء النوافل المصرّحة بوقوعها في كلّ وقت شاءه المكلّف.

فمن الاولى: صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «أربع صلوات يصلّيها الرجل في كلّ ساعة، صلاة فاتتك فمتى ما ذكرتها أدّيتها، و صلاة ركعتي طواف الفريضة، و صلاة الكسوف، و الصلاة على الميّت، هذه يصلّيهنّ الرجل في الساعات كلّها»(2). و صحيحة معاوية بن عمّار قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: خمس صلاة لا تترك على حال، إذا طفت بالبيت، و إذا أردت أن تحرم، و صلاة الكسوف، و إذا نسيت فصلّ إذا ذكرت، و صلاة الجنازة»(3). و صحيحة حمّاد بن عثمان «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل فاته شيء من الصلوات فذكر عند طلوع الشمس و عند غروبها؟ قال: فليصلّ حين يذكر»(4). و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «أنّه سئل عن رجل صلّى بغير طهور أو نسي صلاة لم يصلّها أو

ص: 322


1- الوسائل 5/235:4، ب 38 من أبواب المواقيت، التهذيب 688/173:2.
2- الوسائل 1/240:4، ب 39 من أبواب المواقيت، الكافي 3/288:3.
3- الوسائل 4/241:4، ب 39 من أبواب المواقيت، التهذيب 673/172:2.
4- الوسائل 2/240:4، ب 39 من أبواب المواقيت، الفقيه 1032/235:1.

نام عنها؟ فقال: يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها من ليل أو نهار»(1). و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «خمس صلوات تصلّيهنّ في كلّ وقت، صلاة الكسوف، و الصلاة على الميّت، و صلاة الإحرام، و صلاة الّتي تفوت، و صلاة الطواف من الفجر إلى طلوع الشمس و بعد العصر إلى الليل»(2).

و من الثانية: رواية حبيب قال: «كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام تكون عليّ الصلاة النافلة متى أقضيها؟ فكتب عليه السّلام: في أيّ ساعة شئت من ليل أو نهار»(3). و حسنة الحسين بن أبي العلاء أو صحيحه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «اقض صلاة النهار أيّ ساعة شئت من ليل أو نهار كلّ ذلك سواء»(4). و صحيحة ابن أبي يعفور قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: صلاة النهار يجوز قضائها أيّ ساعة شئت من ليل أو نهار»(5). و رواية جميل بن درّاج قال:

«سألت أبا الحسن الأوّل عليه السّلام عن قضاء صلاة الليل بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ؟ قال: نعم و بعد العصر إلى الليل فهو من سرّ آل محمّد المخزون»(6). و صحيحة أحمد بن نصر و أحمد بن محمّد بن أبي نصر في بعض إسناديهما قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن القضاء قبل طلوع الشمس و بعد العصر؟ فقال: نعم فاقضه فإنّه من سرّ آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(7) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و قد يستدلّ بهذه الأخبار على استثناء مطلق ذات السبب.

و نوقش بأنّها خاصّة بقضاء النوافل و لا تتناول غيرها من ذوات الأسباب. و نحن على ما قرّرناه في غنية عن هذا الاستدلال، إذ الإطلاق المتقدّم في الأخبار الناهية و النافية يتوهّن بإعراض المعظم عنه و عدم أخذهم بموجبه، فلا عموم فيها لتمسّ الحاجة إلى تخصيصها بما لا يكاد يسلم عن المناقشة.

ص: 323


1- الوسائل 1/274:4، ب 39 من أبواب المواقيت، التهذيب 673/172:2.
2- الوسائل 5/241:4، ب 39 من أبواب المواقيت، التهذيب 682/171:2.
3- الوسائل 3/240:4، ب 39 من أبواب المواقيت، الكافى 17/454:3.
4- الوسائل 13/243:4، ب 39 أبواب المواقيت، التهذيب 691/173:2.
5- الوسائل 12/243:4، ب 39 أبواب المواقيت، التهذيب 692/174:2.
6- الوسائل 14/243:4، ب 39 أبواب المواقيت، التهذيب 689/173:2.
7- الوسائل 17/244:4، ب 30 أبواب المواقيت، التهذيب 693/174:2.

الفصل الثالث في القبلة و فيه مباحث:

المبحث الأوّل في ماهيّة القبلة
ينبوع

في كلام جماعة منهم الشيخ البهائي في الحبل المتين «أنّ القبلة في اللغة هي الحالة الّتي عليها الإنسان حال استقباله الشيء، و قضيّة هذا البيان أنّ القبلة بحسب اللغة ليست هو الشيء المستقبل بل الهيئة الحاصلة للإنسان باعتبار استقباله لذلك الشيء، ثمّ نقلت في العرف إلى ما يجب على المكلّف استقبال عينه أو جهته في الصلاة المفروضة»(1) و كأنّ تقييد الصلاة بذلك للتنبيه على عدم وجوب الاستقبال في النوافل كما سيأتي البحث في تحقيقه، و كأنّ عدم الاكتفاء عنه بقضيّة «يجب» بناء على عدم معقوليّة وجوب الشرط مع عدم وجوب المشروط لدفع توهّم إرادة الوجوب الشرطي الغير المنافي لاشتراط القبلة في النافلة مع عدم كونه كذلك في الواقع.

و لا ينبغي أن يراد بالعرف هنا العرف العامّ لعدم عموم إطلاق لفظ على المعنى المذكور لغير أهل الشرائع بل لغير أهل هذه الشريعة، بل التعيّن إرادة عرف المتشرّعة أو عرف الشارع، بناء على ثبوت الحقيقة الشرعيّة في هذه اللفظة كما هو الأظهر، لأنّ المعهود من استعمالات الشارع كتابا و سنّة و أصحابه و تابعيه في زمان الوحي هو إرادة هذا المعنى

ص: 324


1- حبل المتين: 190.

و إرادة غيره غير معهودة، و لا أقلّ من غلبة استعماله فيه، و هي كافية في الالتزام بالوضع الشرعي، كما هي ملاك إثبات الحقائق الشرعيّة على ما تقرّر في الاصول.

ثمّ إنّ في كون ما يجب استقبال عينه أو جهته هو بيت اللّه الحرام المسمّى بالكعبة المعظّمة، أو الفضاء المنطبق عليه الممتدّ من تخوم الأرض إلى عنان(1) السماء قولين: ففي كلام جماعة(2) الأوّل و لعلّه المشهور.

و ذهب شيخنا البهائي في الكتاب المتقدّم ذكره إلى الثاني، قال: و ذلك عند التحقيق هو الفضاء الواقع فيه البيت - شرّفه اللّه تعالى - الممتدّ منه إلى السماء، فيجب على القريب القادر على مشاهدة الكعبة و من بحكمه التوجّه إلى عين هذا الفضاء، و على البعيد التوجّه إلى جهته. و قد ورد في بعض الروايات الّتي لا تخلو من اعتبار التنبيه على أنّ ذلك الفضاء الممتدّ إلى السماء هو القبلة كما رواه الشيخ في آخر باب الزيادات من كتاب الصلاة من التهذيب عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سأله رجل قال: صلّيت فوق أبي قبيس العصر فهل يجزئ ذلك و الكعبة تحتي ؟ قال: نعم أنّها قبلة من موضعها إلى السماء»(3) إلى أن قال: و الحاصل أنّ نفس البناء ليس هو القبلة، فلو فرض نقل البيت شرّفه اللّه تعالى إلى مكان آخر لم تصحّ الصلاة إليه، إذ ليس المعتبر هو البناء بل الفضاء المشغول بذلك البناء النازل في تخوم الأرض الصاعد إلى عنان السماء، و لهذا صحّت صلاة من نزل في بئر زمزم إذا تمكّن من السجود، كما صحّت صلاة من صعد إلى أبي قبيس. و قد يطلق على ذلك الفضاء اسم الكعبة فيقال لهذين مثلا أنّهما مستقبلان الكعبة، و ربّما يطلقون عليه اسم الجهة فيقولون: لو زال البيت و العياذ باللّه وجب استقبال جهته لبقاء القبلة حقيقة(4) انتهى.

و يظهر الموافقة له في القول بأنّ القبلة هي الفضاء لا البناء و في إطلاق القبلة على

ص: 325


1- تخوم الأرض حدّها، و عنان السماء صحائفها. منه.
2- منهم السيّد المرتضى في جمل العلم و العمل: 59 و المحقّق في المعتبر 65:2 و النافع: 23 و الشهيد في الدروس 158:1 و البيان: 53 و العلاّمة في المنتهى 162:4 و التحرير 185:1 و الصيمري في كشف الالتباس: 287 و الشهيد الثاني في روض الجنان 513:2.
3- الوسائل 1/339:4، ب 18 من أبواب القبلة، التهذيب 7/387:2.
4- حبل المتين: 190.

الفضاء من صاحبي المدارك(1) و الذخيرة(2) و غيرهما(3) بل فيهما التصريح بنفي الخلاف عن ذلك، ففي الذخيرة: أنّ جهة الكعبة هي القبلة لا البنية، فلو زالت البنية صلّى إلى جهتها كما يصلّي من هو أعلى موقفا أو أخفض محلاّ منها، فالقبلة محلّها من تخوم الأرض إلى عنان السماء، و هذا ممّا لا خلاف فيه بين العلماء، و يدلّ عليه - مضافا إلى ذلك - الآية و ما رواه الشيخ في آخر أبواب الزيادات من كتاب الصلاة في التهذيب في الموثّق للطاطري عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و ذكر الخبر المتقدّم، و أضاف إليه صحيحة عبد اللّه بن مسكان عن خالد بن أبي إسماعيل قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يصلّي على أبي قبيس مستقبل القبلة، قال: لا بأس»(4) انتهى(5) و نحوه في جميع ما ذكر ما في المدارك(6).

و قد سبقهم في هذا القول المحقّق في الشرائع حيث قال: «جهة الكعبة هي القبلة لا البنية، فلو زالت صلّى إلى جهتها كما يصلّي من هو أعلى موقفا منها»(7) بناء على أنّ المراد بالجهة هنا هو الفضاء المشغول بالبناء كما هو قضيّة التفريع. و يظهر الموافقة له من المحقّق الشيخ عليّ في حاشية الشرائع(8) و من الوحيد البهبهاني في حاشية المدارك(9).

أقول: نفي القبلة عن البنية و نفس الكعبة خلاف مقتضى الأدلّة من الكتاب و السنّة، و يمكن دعوى الضرورة عند المتشرّعة فيه، فلذا لو نفي كونها قبلة عند العوامّ كان مستنكرا لديهم، حتّى أنّ المتشرّعة يلقّنون به موتاهم بل يأخذه أحياؤهم في معارفهم الّتي يجب الاعتقاد بها، و ربّما ورد ذكره في بعض الأدعية، و لا يلزم من كونها قبلة صحّة صلاة من توجّه إليها فيما لو نقلت من موضعها إلى مكان آخر لأنّها قبلة حال كونها في موضعها المعهود لا مطلقا.

و لا ينافيه الموثّق المتقدّم، إذ ليس فيه ما يدلّ على النفي بل هو صريح في الإثبات لمكان قوله عليه السّلام: «أنّها قبلة من موضعها إلى السماء» غاية الأمر أنّه مع دلالته على كونها قبلة يدلّ على كون الفضاء أيضا قبلة، فهو على خلاف مطلوب الشيخ أدلّ .

ص: 326


1- المدارك 121:3.
2- الذخيرة: 215.
3- الجواهر 513:7، الشرائع 184:1.
4- الوسائل 2/339:4، ب 18 من أبواب القبلة، التهذيب 1565/376:2.
5- الذخيرة: 215.
6- المدارك 121:3.
7- الشرائع 184:1.
8- الشرائع (حاشية الشيخ عليّ الكركي): 18.
9- حاشية المدارك 324:3.

و لا ينافي في الدلالة على كون الفضاء أيضا قبلة مذهب المشهور القائلين بكون القبلة عين الكعبة أو جهتها، لجواز أن يكون مرادهم من جهة هو الفضاء بالمعنى الأعمّ من الفضاء الطولي المنطبق على الكعبة الممتدّ إلى السماء، و الفضاء العرضي المنبسط في الأرض المتّسع على حسبما يساعد عليه الأمارات الشرعيّة المنصوبة لتشخيص جهة القبلة، كما يفصح عنه ما نقله الشيخ البهائي من إطلاقهم الجهة على الفضاء في المثال المتقدّم، و تصريحهم بصحّة صلاة من صلّى في بئر زمزم، و صحّة صلاة من صلّى على أبي قبيس، و ما عرفت من صاحب الذخيرة من إطلاقه الجهة على الفضاء، و ليس في صحيحة عبد اللّه بن مسكان أيضا دلالة على خلاف ما ذكرناه، إذ غاية ما فيها إطلاق القبلة في كلام الراوي على الجهة بمعنى الفضاء و هو لا يلازم نفيها عن عين الكعبة، كما أنّه ليس في الآية دلالة على ما ينافي ما ذكرناه لكونها متكفّلة لبيان البعيد و هو الجهة باعتبار كونها مدينة نازلة في المدينة الطيّبة فلا تنفي كون الكعبة أيضا قبلة للبعيد، هذا كلّه.

و لكنّ الإنصاف: أنّ مخالفة هؤلاء الأساطين في غاية الإشكال، لما عرفت عن صاحبي المدارك و الذخيرة من نفي الخلاف عن كون القبلة هي الفضاء المشغول بالبناء الممتدّ إلى السماء لا نفس البناء. و يظهر عدم الخلاف فيه من المحقّق الثاني في حاشية الشرائع حيث اقتصر على شرح عبارة الشرائع المتقدّمة من غير مخالفة له و لا إشارة إلى وقوع الخلاف فيه، و لا ينافيه ما نقلناه عن كلام غير هؤلاء من التصريح بكون الكعبة أو جهتها هي القبلة لجواز كون مرادهم من الكعبة هي الجهة بمعنى الفضاء كما يكشف عنه عبارة المحقّق في الشرائع حيث إنّه - بعد ما وافق أكثر القدماء في القول بأنّ القبلة عين الكعبة لمن كان في المسجد، و المسجد لمن كان في الحرم، و الحرم لمن خرج عنه - صرّح في عبارته المتقدّمة «بأنّ جهة الكعبة هي القبلة لا البنية»(1).

و قضيّة ذلك أن يكون كلّ من عبّر بأنّ الكعبة هي القبلة إنّما أراد به الجهة بمعنى الفضاء.

و لا ينافيه مقابلة الجهة للكعبة بهذا المعنى في كلام المتأخّرين، لأنّ للجهة على هذا التقدير معنيين أحدهما الفضاء المشغول بالبناء، و ثانيهما السمت المختلف فيه الّذي سيأتي الإشارة إليه، فالوجه حينئذ هو ما ذكروه من عدم كون البنية قبلة، و لا ينافيه مقتضى الأدلّة

ص: 327


1- الشرائع 184:1.

المصرّحة بكون الكعبة قبلة - على ما ذكرناه - سابقا - لأنّ ما في الأدلّة أخذ الكعبة عنوانا للقبلة، و هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: اعتبار الكعبة على وجه الموضوعيّة، بأن تكون موضوعة للقبلة و أحكامها.

و ثانيهما: اعتبارها على وجه المعرفيّة، على معنى أنّ القبلة في علم اللّه سبحانه لمّا كانت هو الفضاء المعهود المشغول بالبناء فعرّفه للمكلّفين بالكعبة لأنّ التوجّه إليها توجّه إليه، و لئن سلّمنا ظهورها في الوجه الأوّل، فلا بدّ من صرفها عن هذا الظهور، بحملها على إرادة اعتبار الكعبة على الوجه الثاني، بقرينة فهم الأصحاب الّذي يكشف عنه عدم الخلاف المصرّح به في كلام من عرفت الكاشف عن بلوغ قرينة إليهم في ذلك.

و أمّا الضرورة المشار إليها فهي أيضا غير ناهضة بموضوعيّة الكعبة للقبلة و أحكامها، لأنّ وجه اعتبار الضرورة في مواردها هو وجه اعتبار الإجماع، فإنّما تعتبر لكشفها عن كون معقدها ممّا جاء به النبيّ ، و هي هاهنا بملاحظة ما عرفت من عدم الخلاف بين العلماء في عدم اعتبار الكعبة على وجه غير كاشفة عن ذلك، فليس فيها حينئذ إلاّ اعتقاد عوامّ المتشرّعة و لا عبرة به في مقام الاستنباط.

و أمّا حديث تلقين الموتى و غيره، فيحمل على ما حمل عليه كلام المصرّحين من الأصحاب بكون الكعبة قبلة. و يمكن استظهار عدم مدخليّة البنية في القبلة من موثّقة عبد اللّه بن سنان المتقدّمة، بتقريب أنّ الإمام عليه السّلام قال فيها: «إنّها قبلة من موضعها إلى السماء» و ظاهر ذلك كون القبلة في تمام هذه المسافة أعني ما بين الأرض و السماء بتمامه هي الكعبة، و هذا لا يصدق إلاّ بكون الكعبة مرتفعة على وجه يكون ارتفاعها كما بين الأرض و السماء، بأن تكون نظير منارة فرضت على سطح الأرض يكون ارتفاعها كما بين الأرض و السماء، بأن يكون قاعدتها على الأرض و رأسها متّصلا بالسماء، و المفروض عدم كونها كذلك، فوجب التصرّف في الرواية بحمل الضمير المراد منه الكعبة على إرادة الفضاء المشغول بها الممتدّ من موضع البيت إلى السماء، صونا لكلام المعصوم عن وصمة الكذب هذا، لكنّ المسألة ممّا لا ثمرة بها يعتدّ بها.

ثمّ : يبقى الكلام في أنّ القبلة في المعنى المنقول إليه باعتبار الوضع الشرعي هل هو على الاتّحاد أو على الاشتراك بين شيئين أو ثلاث لفظا أو معنى ؟ احتمالات، و قضيّة الاختلاف الآتي فيما يجب استقباله وقوع الخلاف في ذلك. فعلى مذهب أكثر

ص: 328

المتأخّرين(1) و جماعة من القدماء(2) كونها على الاشتراك بين شيئين الكعبة وجهتها، و على مذهب أكثر القدماء(3) و بعض المتأخّرين(4) كونها على الاشتراك بين ثلاث الكعبة و المسجد و الحرم. و على صحّة رجوع القول الثاني إلى الأوّل - كما زعمه جماعة(5) من المتأخّرين حيث جمعوا بينهما بإرجاع الثاني إلى الأوّل - تعيّن الاشتراك بين شيئين عند الجميع، و لا يبعد كونه باعتبار المعنى بكونها وضعا للقدر الجامع بين الكعبة و الجهة، و هو ما تعيّن استقباله و التوجّه إليه في الصلاة الصادق على الفضاء الطولي المشغول بالبيت المتصاعد إلى السماء، و الفضاء العرضي المنبسط المتّسع حسبما تساعد عليه الأمارات الشرعيّة المنصوبة لتشخيص الجهة.

و الأظهر كونها على الاتّحاد على معنى وضعها للكعبة بمعنى الفضاء المشغول بها خاصّة، و استعمالها في أصل البنية إنّما يكون لضرب من المجاز، و لعلّه لعلاقة المجاورة باعتبار كونها شاغلة للفضاء، كما أنّ استعمالها في الجهة بمعنى السمت لضرب من المجاز باعتبار احتمال وجود الفضاء فيه، و لم نقف في كلامهم على تحرير لهذا المقام عدى ما في كلام بعض مشايخنا من قوله: «و الظاهر اتّحاد المعنى المنقول إليه بشهادة عرف المتشرّعة الّذين لا يعرفون غير الكعبة قبلة، حتّى أنّهم يلقّنون بذلك موتاهم، بل هو من الضروريّات عندهم، فيكون عند الشرع كذلك لأنّه عنوان لمثله، كما حرّر في الاصول، فاحتمال تعدّده - فيكون مشتركا لفظيّا بينها و بين بنية المسجد و الحرم - في غاية الضعف، كاحتمال الاشتراك معنى بين الثلاثة المزبورة فإنّها مخالف للاستعمال عرفا و سنّة، و إطلاق القبلة على الجهة عرفا على ضرب من التجوّز باعتبار احتمال وجود القبلة فيها، كما لا يخفى على من دقّق النظر في استعمالات العرف»(6) انتهى.

ص: 329


1- كما في القواعد 26:1 و المحقّق الثاني في جامع المقاصد 48:2 و الشهيدان في البيان: 114 و روض الجنان 512:2، المدارك 119:3، الذخيرة: 213، المفاتيح 112:1، مجمع الفائدة و البرهان 57:2، الكفاية: 15، و الرياض 254:2.
2- كالمفيد في المقنعة: 95، و المرتضى في جمل العلم و العمل 29:3، و ابن زهرة في الغنية: 68 و الحلّي في السرائر 204:1، و الحلبي في الكافي: 138، و الإسكافي حكاه عنه في المختلف 61:2.
3- كالشيخ في المبسوط 77:1، و ابن حمزة في الوسيلة: 85، و الديلمي في المراسم: 6، و القاضي في المهذّب 84:1، و المحقّق في الشرائع 65:1، و الصدوق في الفقيه 177:1.
4- كما في كشف الرموز 131:1.
5- كالشهيد في الذكرى 159:3 و السيّد الطباطبائي في الرياض 256:2.
6- الجواهر 514:7.
[ينبوع: يجب الاستقبال في الصلاة المفروضة]
اشارة

ينبوع

يجب الاستقبال في الصلاة المفروضة، يوميّة كانت أو غيرها أدائيّة أو قضائيّة، و شرط في صحّتها بلا خلاف فيه بين علماء الإسلام، و في المعتبر «أنّه إجماع العلماء كافّة»(1) بل هو من ضروريّات الدين.

و الأصل فيه الكتاب العزيز قال عزّ من قائل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (2) بناء على تفسير المسجد الحرام بالكعبة المعظّمة، كما عليه أصحاب أوّل القولين المشار إليهما، أو بالحرم كما عليه أصحاب ثانيهما، و النصوص على ما ستعرفه تساعد على الأوّل.

مضافا إلى السنّة المستفيضة بل المتواترة معنى الّتي منها صحيحة زرارة المرويّة في الفقيه عن أبي جعفر عليه السّلام «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة الطهور و الوقت و القبلة و الركوع و السجود»(3) و هذه كالصحيحة الآتية و إن كانت لا تقضي بالوجوب بل غايتها الدلالة على الشرطيّة، لكنّ الوجوب تثبت بقاعدة المقدّميّة على ما تقرّر في الاصول.

و صحيحته الاخرى قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الفرض في الصلاة ؟ فقال: الوقت و الطهور و القبلة و التوجّه و الركوع و السجود و الدعاء، قلت: ما سوى ذلك ؟ فقال: سنّة في فريضة»(4).

و صحيحته المرويّة عن الفقيه عن أبي جعفر عليه السّلام «ثمّ استقبل القبلة بوجهك، و لا تقلّب بوجهك عن القبلة فيفسد صلاتك، فإنّ اللّه تعالى عزّ و جلّ يقول لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الفريضة:

فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ... الآية»(5).

ص: 330


1- المعتبر 64:2.
2- البقرة: 150.
3- الوسائل 1/312:4، ب 9 من أبواب القبلة، الفقيه 857/181:1.
4- الوسائل 1/297:4، ب 1 من أبواب القبلة، التهذيب 955/241:2.
5- الوسائل 3/312:4، ب 9 من أبواب القبلة، الفقيه 856/180:1.

و حسنته عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا استقبلت القبلة بوجهك، فلا تقلّب وجهك عن القبلة فتعيد(1) صلاتك، فإنّ اللّه تعالى قال لنبيّه: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ »(2).

و صحيحته الاخرى عن أبي جعفر عليه السّلام «أنّه قال: لا صلاة إلاّ إلى القبلة، قلت له: أين حدّ القبلة ؟ قال: ما بين المشرق و المغرب قبلة كلّه»(3) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع و يتلى كثير منها في تضاعيف الباب.

و الآية باعتبار المورد خاصّة باليوميّة و باعتبار المتن ليس فيها ما يفيد عموم الحكم لغير اليوميّة. و لفظ «الصلاة» فيما عدى الصحيحة الأخيرة و إن كان مطلقا إلاّ أنّه ينصرف إلى فرده المعهود الشائع، و لا ريب أنّ المعهود من أفراد الصلاة الحاضر في الأذهان إنّما هو اليوميّة فلا عموم فيها لغيرها، نعم الصحيحة الأخيرة عامّة و هي كافية في إثبات عموم الدعوى مضافة إلى إطلاق معقد إجماع المعتبر هذا.

ثمّ الظاهر اعتبار الاستقبال وجوبا و شرطا في صلاة الاحتياط و أجزاء الفريضة المنسيّة و سجدتي السهو - على ما تسمعه في محلّه - و شرطا في الفريضة المعادة للاحتياط أو لتحصيل فضيلة الجماعة.

نعم يسقط الاستقبال في بعض صور الفريضة كصلاة المطاردة و الصلاة حالة الخوف و غيرها ممّا سيتلى عليك، فظهر أنّ الأصل - بمعنى القاعدة المستنبطة من الأدلّة الشرعيّة - هو اعتبار القبلة تكليفا و وضعا في الصلوات المفروضة إلاّ ما خرج بالدليل.

و إنّما قيّدنا الصلاة هاهنا و في عنوان المسألة بالمفروضة لوقوع الخلاف في النوافل، فقيل بعدم وجوب الاستقبال فيها مطلقا، كما عليه العلاّمة في الإرشاد(4) و عنه في التلخيص(5) و عزي إلى ابن حمزة(6) و أبي العبّاس في المهذّب(7) و حكي نسبته أيضا إلى الموجز(8) و كشف الالتباس(9) و مجمع البرهان(10) و علم الهدى(11) و الشيخ في

ص: 331


1- هكذا في الأصل و لكن في الكافي و التهذيب (لتفسد).
2- الكافي 6/300:3، التهذيب 1146/286:2.
3- الوسائل 2/312:4، ب 9 من أبواب القبلة، الفقيه 855/180:1.
4- إرشاد الأذهان 244:1.
5- تلخيص المرام (ينابيع الفقهيّة) 558:27.
6- الوسيلة: 86.
7- المهذّب البارع 305:1.
8- الموجز الحاوي: 67.
9- كشف الالتباس: 90.
10- مجمع الفائدة و البرهان 60:2.
11- جمل العلم و العمل (وسائل الشريف المرتضى): 47.

الخلاف(1) و عن الذكرى(2) في مكان المصلّي نسبته إلى كثير، و ربّما يظهر اختياره من الشرائع(3).

و قيل(4) بوجوبه على معنى كونه شرطا في صحّة النوافل، و لعلّه المشهور بل في كلام بعض مشايخنا «كونه مشهورا نقلا و تحصيلا(5) مع نقله القول بكونه المصرّح به في كتب جميع الأصحاب(6) إلاّ ما قلّ »(7) و مرجع القولين إلى أنّ الأصل في النوافل عدم اشتراط الاستقبال فيها إلاّ ما ثبت اشتراطه بالدليل، أو أنّ الأصل اشتراطه إلاّ ما خرج بالدليل.

و يظهر فائدة الخلاف في الصلاة مع الاستقرار في الأرض حضرا و سفرا لما ستعرفه من جواز فعلها إلى غير القبلة راكبا أو ماشيا في السفر بل الحضر أيضا حتّى عند القائلين بالاشتراط.

ثمّ الخلاف إنّما هو في الحكم الوضعي أعني الشرطيّة الّذي يتبعه الاستحباب الغيري، و أمّا الحكم التكليفي أعني استحباب الاستقبال فيها لنفسه فمحلّ وفاق، كما صرّح به العلاّمة في الإرشاد(8) و المحقّق في الشرائع(9) قائلا: «و أمّا النوافل فالأفضل استقبال القبلة بها» و كيف كان فالقول الأوّل لا يخلو عن وجه إلاّ أنّ الأقوى هو القول الثاني.

أمّا الأوّل: فلأصالة عدم الاشتراط - على معنى أصالة عدم تعرّض الشارع لجعل القبلة شرطا للنافلة و أخذها من قيود المأمور به بالأمر الاستحبابي - و لا يعارضها أصالة التوقيف في العبادات، بدعوى: أنّ العبادات توقيفيّة متلقّاة من الشارع و لم ينقل فعل النافلة إلى غير القبلة مع الاستقرار، فيكون فعلها كذلك تشريعا محرّما لورود الأصل المذكور على أصالة التوقيف و قاعدة التشريع، إذ المفروض ثبوت مشروعيّة النافلة بورود الأمر الاستحبابي بها مع وقوع الشكّ في شرطيّة القبلة في صحّتها. و إذا نفى احتمال الشرطيّة بالأصل المذكور المتلقّى من الشارع مع فرض عدم ورود دليل بالشرطيّة ثبت مشروعيّة النافلة بهذه الكيفيّة و يحصل به التوقيف، و يرتفع به موضوع التشريع.

ص: 332


1- الخلاف 439:1 المسألة 186.
2- الذكرى 86:3.
3- الشرائع 67:1.
4- كما في غاية المراد 117:1.
5- نقلت الشهرة في كشف اللثام 175:1.
6- قال به الشيخ في المبسوط 77:1 و ابن سعيد في الجامع للشرائع: 64 و العلاّمة في التذكرة 15:3 و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 60:2.
7- الجواهر 6:8.
8- إرشاد الأذهان 244:1.
9- الشرائع 67:1.

و إنّما يلزم التشريع لو لم يكن فعل النافلة بهذه الكيفيّة ممّا ساعده دليل و لا أصل من الاصول المعتبرة المتلقّاة من الشارع لنظائر المقام. و بما ذكرناه ظهر سقوط الاستدلال على القول الثاني بأصالة التوقيف و قاعدة التشريع كما في جامع المقاصد(1) و المدارك(2) و غيرهما.

نعم يمكن دفع الأصل المذكور بأصالة عدم تعرّض الشارع لإسقاط اعتبار القبلة في النوافل.

و بيانه: أنّ الفرض و النفل بالنسبة إلى الصلاة ليسا من قيود الماهيّة و فصولها المنوّعة، بل من أحوالها الطارئة لها على البدل باعتبار ورود الأمر الإيجابي أو الاستحبابي بها، و المفروض بمقتضى الأدلّة المتقدّمة المقامة على وجوب الاستقبال في الفرائض تعرّض الشارع لتقييد تلك الماهيّة بالقبلة.

و إنّما وقع الشكّ في تعرّضه لإسقاط اعتبارها فيما أمر به استحبابا و الأصل عدمه، و هذا وارد على الأصل المذكور.

و لكن يزيّفه: أنّه إنّما يستقيم على القول الضعيف في العبادات من كونها للصحيحة حتّى بالقياس، و أمّا على ما هو الأقوى من كونها للأعمّ خصوصا بالقياس إلى الشرائط فالماهيّة المخترعة بالقياس إلى الشرائط مطلقة، و كلّما ثبت اعتباره منها بالدليل فإنّما هو على وجه كونه قيدا في المأمور به لا في أصل الماهيّة المخترعة، و حينئذ فأقصى ما ثبت اعتبار القبلة في الفرائض بمقتضى الأدلّة المتقدّمة فمعناه كونها قيدا في المأمور به بالأمر الإيجابي، و أمّا هي مع قطع النظر عن الأمر الإيجابي فعلى إطلاقها، و يشكّ في أخذ القبلة من قيود المأمور به بالأمر الاستحبابي أيضا و الأصل عدمه، و لا وارد عليه من الاصول.

و أمّا الثاني: فلقوله عليه السّلام في صحيحة زرارة المتقدّمة: «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» فإنّه عامّ لجميع الصلوات حتّى للنوافل، و المخصّص له بالنسبة إلى ما نحن فيه غير ثابت. و يؤيّده الاستنكار في نظر المتشرّعة لو صلاّها مستدبرا مع الاستقرار، هذا مضافا إلى روي عن عليّ بن إبراهيم في قوله تعالى: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ (3) من قوله: قال «العالم عليه السّلام: إنّها نزلت في صلاة النافلة فصلّها حيث توجّهت إذا كنت في سفر»(4) بتقريب أنّ قوله عليه السّلام:

ص: 333


1- جامع المقاصد 60:2.
2- المدارك 147:3.
3- البقرة: 115.
4- تفسير عليّ بن إبراهيم: 59، بحار الأنوار 1/47:84، ب 32 من كتاب الصلاة.

«فصلّها» للإذن و الرخصة، لامتناع الوجوب و الاستحباب، إذ لم يقل أحد بكون التوجّه إلى غير القبلة في النافلة في السفر واجبا أو مندوبا. فيفيد باعتبار مفهوم الشرط انتفاء الإذن في غير السفر، لكون المعنى إذا لم تكن في السفر فلا تصلّها حيث توجّهت.

إلاّ أن يناقش فيه باحتمال كون قوله: «فصلّها...» الخ كلام عليّ بن إبراهيم فلا يصلح للاستدلال به حينئذ. و يدفعها: كونه خلاف الظاهر، لظهور صوغ الكلام في كون الجميع من الإمام عليه السّلام خصوصا مع مخالفة الصدر للذيل، و التقييد بالسفر فلا يناسب شأن مثل عليّ بن إبراهيم اعتبار هذا القيد مع سكوت الإمام عليه السّلام عنه.

نعم، يشكل الحال من حيث وقوع التعارض بينه باعتبار المنطوق و بين الصحيحة باعتبار العموم فإنّ قوله: «إذا كنت في سفر» بإطلاقه يتناول حالة السير و حالة الاستقرار، و قوله: «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» النافي لصحّة الصلاة إلى غير القبلة حال الاستقرار، بناء على تخصيصه بصلاة الراكب و الماشي سفرا و حضرا بعموم يشمل الحضر و السفر فبينهما عموم من وجه، لكنّ الأمر فيه سهل لمنع إطلاق الأوّل بظهوره بحكم الانصراف العرفي في حالة السير. و لو سلّم الإطلاق فالأمر دائر بين تخصيص العامّ المخصّص و تقييد المطلق، و لعلّ الثاني أهون خصوصا مع اعتضاد عموم الأوّل بالشهرة و فهم الأكثر.

و استدل عليه أيضا بوجوه اخر غير تامّة، منها: قوله عزّ و جلّ : وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (1). و فيه: أنّه عامّ في الأمكنة و المطلوب عمومه في أفراد الصلاة حتّى الصلاة، و يكفي في صدق الأوّل وجوب الاستقبال في الفريضة في جميع الأمكنة حتّى السفر و حالاته و لا مقتضى للعموم الثاني.

و توهّم: العموم الإطلاقي من جهة حذف المتعلّق، يدفعه - بعد الغضّ عن منع إطلاق الصلاة بإمكان الانصراف إلى غير النوافل -: أنّ المحذوف كما يحتمل كونه الصلاة كذلك يحتمل كونه الفريضة، و لا مرجّح للأوّل مع إمكان ترجيح الثاني بملاحظة بعض النصوص، كصحيحة زرارة المتقدّمة عن أبي جعفر «ثمّ استقبل القبلة بوجهك و لا تقلّب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك فإنّ اللّه عزّ و جلّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الفريضة: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ الآية(2) فالخطاب بمقتضى هذه الرواية مخصوص بالفريضة.

و مع الغضّ عن ذلك أيضا نقول: إنّ وجوب الاستقبال لو ثبت شرعي و الأمر في الآية

ص: 334


1- البقرة: 144.
2- الوسائل 3/312:4، ب 9 من أبواب القبلة، الفقيه 856/180:1.

ظاهر في الوجوب الشرعي، غاية الأمر كونه غيريّا ليلازم الشرطيّة. و الوجوب الشرعي في النوافل محال، و حمله على الإرشاد إلى الشرطيّة ليعمّ النوافل أيضا مجاز لا يصار إليه إلاّ لقرينة مفقودة في المقام.

و منها: قوله عليه السّلام: «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة...» الخ فإنّ الصلاة مطلق في الفريضة و النافلة.

و فيه - بعد تسليم الإطلاق -: أنّ قوله عليه السّلام: «لا تعاد الصلاة» و إن كان جملة خبريّة إلاّ أنّها في معنى الإنشاء، فتكون ظاهرة في الوجوب على ما تقرّر في الاصول، فلا تشمل النوافل.

و منها: التأسّي، فإنّ المعلوم من فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة عليهم السّلام استقبال القبلة بالنوافل، فيجب متابعتهم للتأسّي.

و فيه: أنّ من المقرّر في باب التأسّي الّذي عليه المحقّقون، أنّه لو صدر من المعصوم فعل و علم منه قصد القربة به و لم يعلم وجهه أ هو الوجوب أو الندب ؟ فلا يجب التأسّي حينئذ بل يستحبّ هذا. و مع ذلك نقول: إنّ غاية ما علم أنّه عليه السّلام كان يستقبل، و أمّا أنّه على وجه شرطيّة الاستقبال أو لاستحبابه النفسي فغير معلوم، فلا معنى للتأسّي على وجه الشرطيّة.

و منها: ما تقدّم من قاعدة التوقيف و التشريع في العبادات، و قد عرفت منعه.

و منها: قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «صلّوا كما رأيتموني اصلّي»(1) أمر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمثل فعله، و وجوب مراعاة المماثلة يقتضي وجوب مراعاة الاستقبال.

و فيه: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمر بمثل فعله على أن يكون ذلك الفعل بيانا للمجمل، و قضيّة وقوعه بيانا أن لا يكون فيه إجمال بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من الأجزاء و الشرائط، و أمّا أنّه كان فريضة أو نافلة أو صورة صلاة قصد بها كونها بيانا للفريضة أو النافلة أو مطلق الصلاة، فهو بالنسبة إلى هذه الجهات مجمل في نظرنا، إن لم نقل بظهور كونه فريضة أو بيانا للفريضة بملاحظة الأمر الظاهر في الوجوب.

و حمله على الإرشاد إلى مدخليّة جميع ما اشتمل عليه فعله من الأفعال و الصفات في الصحّة - مع أنّه مجاز لا يصار إليه إلاّ لقرينة - ممّا يقطع ببطلانه، للعلم الضروري بعدم اقتصاره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الواجبات بل اشتماله على المستحبّات أيضا، مع أنّ قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «صلّوا»

ص: 335


1- عوالي اللآلئ 8/197:1 الفصل التاسع من المقدّمة، صحيح البخاري 162:1.

إمّا أن يراد منه الوجوب الشرعي المطلق، أو الوجوب الشرعي المشروط - على معنى وجوب مراعاة المماثلة في الصلاة إن فعلها - أو الوجوب الشرطي الّذي مرجعه إلى الإرشاد بالمعنى المتقدّم.

فالخطاب على الأوّل لا يتناول النوافل، لاستحالة وجوب الكيفيّة مطلقا مع استحباب الأصل. و على الثاني لا يتناول الفرائض، إذ الأصل إذا كان واجبا مطلقا فالكيفيّة أيضا واجبة مطلقا، و هو باطل، لأنّا لو لم نقل باختصاصه بالفرائض فلا أقلّ من عدم اختصاصه بالنوافل. و الثالث قد عرفت فساده من حيث اشتمال فعله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على مستحبّات بل و شروط كمال أيضا.

فالأظهر في معنى الرواية - و اللّه أعلم - حمل الأمر بمقتضى الأصل و الظهور على الوجوب الشرعي المطلق مرادا به الإرشاد إلى الصورة النوعيّة، على معنى إرادة بيان المجمل باعتبار صورتها النوعيّة، مع إيكال معرفة تفاصيل واجباته و مستحبّاته و شروط صحّته و شروط كماله إلى البيانات الخارجيّة، و حينئذ فلا يمكن إثبات جزئيّة شيء و لا شرطيّة شيء للصحّة في الصلاة بهذه الرواية، و إن علم باشتمال فعله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليهما.

و ليس للقول الآخر إلاّ الأصل، و قوله عزّ و جلّ : فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ (1) بانضمام ما استفاض من النقل و الأخبار، كما عن المعتبر(2) و كشف اللثام(3) بأنّها نزلت في النافلة.

و يندفع الأوّل بوجوب الخروج عنه بما تقدّم من دليل الاشتراط، كما يندفع الثاني باستفاضة النصوص أيضا باختصاص الآية بالنافلة في السفر، كالمرويّ عن عليّ بن إبراهيم(4) في تفسيره عن العالم عليه السّلام، و المرويّ عن نهاية الشيخ عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا الآية «من أنّ هذا في النوافل خاصّة في حال السفر»(5) بناء على ما هو المعهود من طريقة الشيخ في النهاية من أنّه يفتي بمتون الروايات، و المرويّ عن مجمع البيان عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام في قوله تعالى: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا الآية «أنّها ليست بمنسوخة، و أنّها مخصوصة بالنوافل في حال السفر»(6) هذا.

ص: 336


1- البقرة: 115.
2- المعتبر 65:2.
3- كشف اللثام 152:3.
4- تفسير عليّ بن إبراهيم 59:10 ذيل الآية.
5- الوسائل 19/332:4، ب 15 من أبواب القبلة، النهاية: 64.
6- الوسائل 18/332:4، ب 15 من أبواب القبلة، مجمع البيان 228:1 ذيل الآية 144 من سورة البقرة.

و لكنّ الإنصاف أنّ هذه الآية بانضمام النصوص المفسّرة لها بالنافلة في السفر لا تخلو عن معارضة ما سبق من عموم قوله عليه السّلام: «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» و لو بعد تخصيصه بالنافلة حال السير ركوبا أو مشيا في حضر أو سفر، لأنّ معناه حينئذ اشتراط القبلة في كلّ صلاة حتّى النافلة لكن في حال الاستقرار في سفر أو حضر، و المفروض أنّ النافلة في السفر على ما هو مفاد النصوص المفسّرة للآية مطلق بالنسبة إلى حالتي السير و الاستقرار، غاية الأمر انقلاب تعارض التباين الكلّي بينهما كما هو مع قطع النظر عن ورود التخصيص بهما إلى تعارض التباين الجزئي، و هو تعارض العموم من وجه.

فلا بدّ إمّا من منع العموم عن النافلة في السفر بدعوى أنّ السفر باعتبار وضعه الأفرادي و إن كان مطلقا بالنسبة إلى حالتي السير و الاستقرار إلاّ أنّ المنساق عرفا من صوغ الكلام باعتبار الهيئة التركيبيّة إنّما هو حالة السير ركوبا أو مشيا، أو من تحكيم عموم النافلة حالة الاستقرار على النافلة في السفر بإرجاع التخصيص إليه و حمله على حالة السير في السفر ترجيحا للعموم الأحوالي على العموم الإطلاقي من باب تقديم الأظهر على الظاهر المعتضد بفهم الأكثر.

و يمكن أن يقال: بمنع نهوض النصوص المفسّرة للآية بتخصيصها بالنافلة في السفر، على معنى كونها كاشفة عن المراد من لفظ الآية، بل غاية ما فيها التعرّض لبيان سبب نزول الآية و أنّه النافلة في السفر من غير نظر فيها إلى عموم و لا خصوص، فتبقى الآية باعتبار لفظها عامّة ثمّ ينهض الصحيحة المصرّحة «بأنّه لا صلاة إلاّ إلى القبلة» المخصّصة بالنسبة إلى النافلة بحالة السير، بضابطة جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد مخصّصة للآية كاشفة عن أنّ المراد منها بيان حكم للنافلة حال السير سفرا و حضرا، و إن كان سبب نزولها أحد فردي هذا المعنى فليتدبّر.

و استدلّ عليه أيضا بفحوى ما دلّ على جواز فعل النافلة على الراحلة أو حال المشي من غير استقبال، فإنّ ترك الاستقبال في النافلة إذا لم يكن مبطلا مع الركوب و المشي فلئلاّ يكون مبطلا مع الاستقرار طريق الأولويّة، و مرجعه إلى أنّ في الأوّل تفويت شرطين الاستقرار و الاستقبال، و في الثاني تفويت شرط واحد، فإذا جاز الأوّل لزم منه جواز الثاني بطريق أولى.

و قد يقرّر الأولويّة بأنّ الصلاة مع الاستقرار إلى القبلة أرجح منها مع الحركة إلى القبلة،

ص: 337

و لا تفاوت بينهما إلاّ في الاستقرار و عدمه، فإذا جاز ترك الاستقبال في الثاني جاز تركه في الأوّل بطريق أولى، لبقاء الرجحان فيه من جهة الاستقرار.

و فيه ما لا يخفى من القياس الباطل، لتطرّق المنع إلى الأولويّة بوجود الفارق بين المقيس و المقيس عليه، فإنّ الشارع بعد ما رخّص المكلّف في فعل النافلة على الراحلة أو حال المشي أسقط عنها اعتبار الاستقبال تسهيلا للأمر عليه، لكون مراعاة الاستقبال في جميع حالات الركوب و المشي ممّا يشقّ و يصعب عليه، بل هي كثيرا ما فيما كان المقصد إلى غير جهة القبلة متعذّرة، و لا يلزم منه سقوط اعتباره مع الاستقرار لفقد مقتضيه.

لا يقال: قضيّة أدلّة جواز النافلة على الراحلة و في حال المشي أنّ كلّ نافلة جاز فعلها ركوبا و مشيا فيلزم منه بحكم الملازمة بين جواز ترك الاستقرار و جواز ترك الاستقبال جواز فعل كلّ نافلة إلى غير القبلة، لمنع ثبوت الملازمة بين جواز ترك الاستقرار و جواز ترك الاستقبال، بل غايته ثبوتها بين ترك الاستقرار و جواز ترك الاستقبال، فيؤول الأمر إلى أن يقال: إنّ اشتراط الاستقبال في النافلة و وجوب مراعاة القبلة فيها مشروط باختيار الاستقرار في فعلها.

و استدلّ أيضا باستحباب التنفّل في الكعبة و النهي عن الفريضة فيها للاستدبار، فيعلم منه أنّ الاستدبار غير مضرّ في النافلة و لو حال الوقوف.

و فيه من الضعف ما لا يخفى، لتطرّق المنع إلى النهي تحريما عن الفريضة جوف الكعبة، بل الأظهر كما عن الأكثر المحكيّ فيه الشهرة جوازها مع حصول الاستقبال فيها و في النافلة، بناء على عدم كون المعتبر في استقبال القبلة استقبال جميع البنية و لا جميع الفضاء لتعذّره، بل استقبال البعض كائنا ما كان و هو حاصل في الصلاة في جوف الكعبة أيضا.

و لو سلّم التحريم في الفريضة فيتوجّه المنع إلى كون علّته الاستدبار، حيث لا دلالة للنصّ الوارد فيه عليه، فيجوز كون التحريم بحكمة اخرى مخصوصا بالفريضة و إن لم نعرفها بالخصوص.

و مع الغضّ عن ذلك أيضا فهذا لا يقضي بجواز الاستدبار في النافلة مطلقا، لأنّ في التنفّل جوف الكعبة استدبار البعض مع استقبال بعض آخر، و الإجماع المركّب أو عدم القول بالفصل غير واضح. هذا مع إمكان المنع عن استحباب مطلق النافلة في الكعبة، لعدم وضوح دليل عليه. قال في محكيّ كشف اللثام: «لم أظفر بنصّ على استحباب كلّ نافلة

ص: 338

و إنّما الأخبار باستحباب التنفّل لمن دخلها في الأركان و بين الاسطوانتين»(1) انتهى. فلعلّه كصلاة هديّة المسجد نافلة مخصوصة لم يعتبر الشارع فيها القبلة. و لو سلّم إطلاق الاستحباب بقول هذا مخرج عن الأصل بالدليل، إذ ذكرنا سابقا أنّ مرجع القول باشتراط القبلة في النافلة إلى أنّ الأصل فيها وجوب الاستقبال إلاّ ما خرج بالدليل، و من الجائز كون النافلة كائنة ما كانت في خصوص الكعبة باعتبار خصوصيّته في هذا المكان ممّا خرج بالدليل.

و استدلّ : أيضا بما حكي عن مسائل عليّ بن جعفر «أنّه سأل أخاه عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته ؟ فقال: إذا كان الفريضة و التفت إلى خلفه فقد قطع صلاته، و إن كانت نافلة لم يقطع ذلك صلاته و لكن لا يعود»(2).

و فيه - بعد الإغماض عن قصور الرواية سندا و مقاومة لمعارضة ما تقدّم في دليل الاشتراط - منع الدلالة، إذ الالتفات بالوجه كما هو ظاهر السؤال غير الاستدبار و غير الصلاة إلى غير القبلة كما هو واضح، و لعلّ عدم كونه قاطعا للصلاة حكم خاصّ بالنافلة فلا يلزم بذلك عدم اشتراط القبلة فيها رأسا كما هو المطلوب. و بهذا ظهر منع الاستدلال بقول أبي عبد اللّه عليه السّلام في صحيح الحلبي المرويّ في التهذيب في باب زيادات كيفيّة الصلاة: «إذا التفت في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشا»(3) الخ و إن قيل في بيان وجه الدلالة أنّ تقييد الصلاة بالمكتوبة يدلّ على أنّ الالتفات في النافلة و لو كان فاحشا لا يقتضي الإعادة. و إذا ثبت جواز الالتفات الفاحش في أثناء النافلة ثبت جواز إتيان مجموعها معه، لانتفاء الفارق ظاهرا.

ثمّ إنّ المحقّق الثاني في جامع المقاصد بعد ما وافق الأصحاب في القول باشتراط الاستقبال في النافلة قال: «فاعلم أنّ للأصحاب القائلين بوجوب الاستقبال في النافلة اختلافا، فأوجب ابن أبي عقيل الاستقبال فيها مطلقا كالفريضة إلاّ في موضعين حال الحرب، و المسافر يصلّي أينما توجّهت به دابّته، كذا حكي عنه في المختلف(4) و جوّز الشيخ(5) فعلها للراكب و الماشي في السفر و الحضر، و هو الأصحّ ، لرواية حمّاد بن عثمان

ص: 339


1- كشف اللثام 305:3 و الحاكي النجفي في الجواهر 559:7.
2- مسائل عليّ بن جعفر: 574/243.
3- التهذيب 178/323:2.
4- المختلف 73:2.
5- المبسوط 79:1-80.

عن الكاظم عليه السّلام(1) و الحسين بن المختار عن الصادق عليه السّلام»(2) انتهى(3) أقول: ما جعله أصحّ هو الأصحّ . و الكلام في تحقيق المسألة يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في جواز فعلها للراكب و على الراحلة اختيارا في سفر أو حضر بلا خلاف فيه في الأوّل، و عن المعتبر «أنّ عليه اتّفاق علمائنا سواء كان السفر طويلا أو قصيرا»(4)و حكي نقل الإجماع عن الخلاف(5) و المنتهى(6) و الذكرى(7) بل عن الخلاف الإجماع عليه في الثاني أيضا، و لعلّه لعدم الاعتداد بالمخالف فيه كابن أبي عقيل على ما ظهر من محكيّ جامع المقاصد(8) عن المختلف(9) لشذوذه، للنصوص المستفيضة الدالّة عليه فيهما عموما و خصوصا كصحيحة الحلبي «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن صلاة النافلة على البعير و الدابّة ؟ فقال: نعم حيث كان متوجّها، و كذلك فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(10) و عن الكافي أنّه رواها لكن بطريق ضعيف لمحمّد بن سنان، و فيه «فقال: نعم، حيث ما كنت متوجّها، قال: فقلت:

أستقبل القبلة إذا أردت التكبير؟ قال: لا، و لكن يكبّر حيث ما كان متوجّها، و كذلك فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(11).

و صحيحة معاوية بن وهب قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كان أبي يدعو بالطهور في السفر و هو في محمله فيؤتى بالتور فيه الماء، فيتوضّأ ثمّ يصلّي الثماني و الوتر في محمله، فإذا نزل صلّى الركعتين و الصبح»(12).

و صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام «في الرجل يصلّي النافلة على دابّته في الأمصار قال: لا بأس»(13).

و حسنة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن عليه السّلام «في الرجل يصلّي في الأمصار

ص: 340


1- الوسائل 10/330:4، ب 15 من أبواب القبلة، التهذيب 589/229:3.
2- الوسائل 6/335:4، ب 16 من أبواب القبلة، المعتبر 77:2.
3- جامع المقاصد 60:2.
4- المعتبر 75:2-76.
5- الخلاف 299:1 المسألة 45.
6- المنتهى 185:4.
7- الذكرى 192:3.
8- جامع المقاصد 60:2.
9- المختلف 73:2.
10- الوسائل 6/329:4-7، ب 15 من أبواب القبلة، التهذيب 581/228:3.
11- الكافي 5/440:3.
12- الوسائل 11/331:4، ب 15 من أبواب القبلة، التهذيب 604/232:3.
13- الوسائل 10/330:4، ب 15 من أبواب القبلة، التهذيب 589/229:3.

و هو على دابّته حيث توجّهت به ؟ قال: نعم لا بأس»(1).

و صحيحة يعقوب بن شعيب قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصلّي على راحلته ؟ قال: يومئ إيماء، يجعل السجود أخفض من الركوع»(2).

و الموثّق عن زرعة قال: «سألته عن الصلاة في السفر... إلى أن قال: و ليتطوّع بالليل ما شاء إن كان نازلا، و إن كان راكبا فليصلّ على دابّته و هو راكب، و لتكن صلاته إيماء، و ليكن رأسه حيث يريد السجود أخفض من ركوعه»(3).

و صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «سألته عن صلاة النافلة في السفر على ظهر الدابّة إذا خرجت قريبا من أبيات الكوفة أو كنت مستعجلا بالكوفة ؟ فقال: إن كنت مستعجلا لا تقدر على النزول له و تخوّفت فوت ذلك إن تركته و أنت راكب، فنعم، و إلاّ فإنّ صلاتك على الأرض أحبّ إليّ »(4) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

المقام الثاني: في جواز فعلها للماشي اختيارا في سفر أو حضر، كما عليه جماعة من أساطين أصحابنا كالعلاّمة في المنتهى(5) و المحقّق الثاني في جامع(6) المقاصد و صاحب المدارك(7) و الذخيرة(8) و عن الذكرى(9) و الدروس(10) و المحقّق الأردبيلي(11) و العلاّمة في التحرير(12) و المختلف(13) بعد نقله عن الشيخ(14) و عن الخلاف(15) الإجماع عليه في السفر، و في المنتهى(16) أيضا «ذهب إليه علماؤنا» من غير تقييد و إطلاقه يتناول السفر و الحضر، بل لم نقف على مخالف سيّما بالنسبة إلى السفر عدى ما عرفت عن محكيّ المختلف عن ابن أبي عقيل الظاهر في المنع عنه ماشيا.

و مستنده من الأخبار في السفر صحيحة يعقوب بن شعيب قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام

ص: 341


1- الوسائل 1/328:4، ب 15 من أبواب القبلة، التهذيب 591/230:3.
2- الوسائل 15/332:4، ب 15 من أبواب القبلة، الكافي 7/440:3.
3- الوسائل 14/331:4، ب 15 من أبواب القبلة، الكافي 1/439:3.
4- الوسائل 11/331:4، ب 15 من أبواب القبلة، التهذيب 605/232:3.
5- المنتهى 192:4.
6- جامع المقاصد 64:2.
7- المدارك 147:3.
8- الذخيرة: 215.
9- الذكرى 193:3.
10- الدروس 161:1.
11- مجمع الفائدة و البرهان 61:2.
12- التحرير 192:1.
13- المختلف 73:2.
14- المبسوط 79:1-80.
15- الخلاف 298:1.
16- المنتهى 192:4.

عن الصلاة في السفر و أنا أمشي ؟ قال: اومئ إيماء و اجعل السجود أخفض من الركوع»(1).

و صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بأن يصلّي الرجل صلاة الليل في السفر و هو يمشي، فلا بأس إن فاتته صلاة الليل أن يقضيها بالنهار و هو يمشي يتوجّه إلى القبلة ثمّ يمشي و يقرأ، فإذا أراد أن يركع حوّل وجهه إلى القبلة و ركع و سجد ثمّ مشى»(2). و المرويّ عن الكافي عن حريز عمّن ذكره عن أبي جعفر عليه السّلام «أنّه لم يكن يرى بأسا أن يصلّي الماشي و هو يمشي و لكن لا يسوق الإبل»(3).

و في الحضر ذيل صحيح يعقوب بن شعيب المتقدّم في المقام الأوّل قلت: «يصلّي و هو يمشي ؟ قال: نعم يومئ إيماء و ليجعل السجود أخفض من الركوع»(4). فإنّه بإطلاقه يشمل الماشي في الحضر أيضا. مضافا إلى المرويّ عن المعتبر(5) و المختلف(6) عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي عن حمّاد عن الحسين بن المختار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سألته عن الرجل يصلّي و هو يمشي تطوّعا؟ قال: نعم»(7).

و اعتمد عليه المحقّق الثاني(8) أيضا كما عن الذكرى(9) و اعتماد هؤلاء الأعاظم و غيرهم كاف في التعويل عليها من حيث السند، مع أنّ حمّادا من أصحاب الإجماع بل البزنطي أيضا، فلا يلتفت إلى الحسين بن المختار(10) على تقدير تسليم التأمّل في شأنه، مع أنّه عن حواشي السيّد الداماد على الكشّي «أنّ الرجل من أعيان الثقات و عيون الآيات»(11) و عن الإرشاد «أنّه من خاصّة الكاظم عليه السّلام و ثقاته و أهل الورع و العلم و الفقه من شيعته»(12) نعم ربّما رمي بالوقف، و هذا - مع أنّه لا يمنع من الاعتماد عليه لأنّ الخبر على تقديره يكون من الموثّق - يدفعه ما قيل(13) فيه: من أنّه روى جماعة من الثقات عنه نصّا على الرضا عليه السّلام، و عن العيون عنه قال: «خرج إلينا ألواح من أبي إبراهيم عليه السّلام و هو في الحبس

ص: 342


1- الوسائل 3/335:4، ب 16 من أبواب القبلة، التهذيب 588/229:3.
2- الوسائل 1/334:4، ب 16 من أبواب القبلة، التهذيب 585/229:3.
3- الوسائل 5/335:4، ب 16 من أبواب القبلة، الكافي 9/441:3.
4- الوسائل 15/332:4، ب 15 من أبواب القبلة، الكافي 7/440:3.
5- المعتبر 7:2.
6- المختلف 74:2.
7- الوسائل 6/335:4، ب 16 من أبواب القبلة، المعتبر 77:2.
8- جامع المقاصد 64:2.
9- الذكرى 193:3.
10- معجم رجال الحديث 86:6.
11- اختيار معرفة الرجال 63:2.
12- إرشاد المفيد 247:2.
13- إرشاد المفيد 247:2.

عهدي إلى أكبر ولدي»(1) فإنّ فيه شهادة على عدم وقفه هذا.

فروع

الأوّل: أنّه قد ظهر أنّ عنوان المسألة تتضمّن حكمين:

أحدهما: الرخصة في فعل النافلة في حال الركوب و المشي سفرا و حضرا، و ثانيهما:

الرخصة في فعلها إلى غير القبلة. أمّا الحكم الأوّل فلا إشكال فيه في شيء من الصور الأربع فتوى و نصّا، لوضوح الدليل عليه من جهة الأخبار في الجميع، مضافا إلى الإجماع المنقول في أكثرها. و كذا لا إشكال في الحكم الثاني بالنسبة إلى صورتي الركوب لوضوح الدليل عليه أيضا من جهة الأخبار لمكان قوله عليه السّلام: «نعم حيث كان متوجّها» في صحيحة الحلبي(2) و قوله عليه السّلام: «نعم - بعد قول الراوي - و هو على دابّته حيث توجّهت به» في حسنة عبد الرحمن(3) و قوله: «لا، و لكن يكبّر حيث ما كان متوجّها» في رواية الحلبي(4) بطريق الكافي.

و أمّا بالنسبة إلى صورتي المشي ففيه إشكال، لعدم وضوح دليله حيث لا تعرّض في الأخبار المرخّصة في النافلة ماشيا للترخيص في ترك الاستقبال صراحة.

و ربّما يتمسّك لذلك بإطلاق هذه الأخبار المفيد للعموم من جهة ترك الاستفصال كما نبّه عليه في جامع المقاصد بعد استدلاله لحكم صورتي المشي بخبر حسين بن المختار قائلا: «و تقريبه ما سبق» مشيرا إلى ما ذكره في تقريب الاستدلال برواية حمّاد بن عثمان المتقدّم في حكم النافلة على الدابّة من قوله: «و لم يستفصل عليه السّلام عن انحراف الدابّة و عدمه فيكون الحكم للعموم»(5) و لعلّه مستند غيره من الأصحاب في هذا الحكم.

و لنا فيه تأمّل من ورود الإطلاق سؤالا و جوابا مورد بيان حكم آخر، و هو الرخصة في فعل النافلة ماشيا، فلم يظهر من تلك الأخبار كون النظر إلى حكم الاستقبال أيضا، إلاّ أن يستظهر ذلك من صحيحة معاوية بن عمّار لمكان قوله عليه السّلام: «يتوجّه إلى القبلة ثمّ يمشي

ص: 343


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 30:1، ب 4.
2- الوسائل 7/329:4، ب 15 من أبواب القبلة، الكافي 5/440:3.
3- الوسائل 1/338:4، ب 15 من أبواب القبلة، الكافي 8/440:3.
4- الكافي 5/440:3.
5- جامع المقاصد 64:2.

و يقرأ...» الخ، فإنّه مضافا إلى ما سبق في دليل حكم القبلة في صورتي الركوب يشعر بكون أخبار الباب مسوقة لإعطاء حكمين سواء نصّ بكليهما أو بأحدهما.

و يؤيّده الاعتبار الجاري بملاحظة كون الغالب في الأحوال الأربع يعتبر مراعاة القبلة في تمام الفعل بل تعذّرها في كثير من فروضها إن لم نقل به في أكثرها، و كأنّه إليه يشير الاعتبار المذكور في منتهى العلاّمة من «أنّ التنفّل محلّ الترخّص، فابيحت هذه كغيرها طلبا للمداومة على فعل النافلة، و كثرة التشاغل بالعبادة»(1).

و يؤيّده أيضا ظهور عدم مخالف في استثناء النافلة في هذه الأحوال عن أصالة اشتراط القبلة فيها إلاّ ابن أبي عقيل حيث خصّ الاستثناء بحالة الركوب في السفر.

و يمكن التمسّك أيضا بقوله عزّ و جلّ : فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ (2) بانضمام ما ورد في تفسيرها من أنّها نزلت في النافلة في السفر فيشمل حالة المشي أيضا. و يشكل - مع أنّه أخصّ لاختصاصها حينئذ بالسفر - بأنّ في غير واحد من الأخبار أيضا نزولها في النافلة سفرا على الراحلة كالمحكيّ عن كنز العرفان من قوله: «و عن الباقر و الصادق(3) عليهما السّلام أنّ هذه في النافلة سفرا حيث توجّهت الراحلة»(4) و عن الطبرسي - بعد نقل أنّها نزلت في التطوّع على الراحلة حيث توجّهت حال السفر - أنّ هذا مرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام(5).

إلاّ أن يقال: بملاحظة ما أشرنا إليه سابقا من أنّ غاية ما في النصوص المفسّرة للآية بيان شأن نزول الآية و مورده لا التعرّض لتخصيصها بذلك المورد، فتبقى باعتبار لفظها على عمومها، غاية الأمر أنّه خرج منه الفريضة مطلقا و النافلة حال الاستقرار مطلقا، و بقى غيره و هو النافلة حال السير مطلقا و يندرج فيه ما نحن فيه فتأمّل.

الثاني: أنّ المحمل كالراحلة في جواز النافلة فيه إلى غير القبلة و لو اختيارا بلا إشكال فيه نصّا و فتوى، بناء على أنّ المراد من الراحلة في فتاوي الأصحاب ما يعمّ المحمل أيضا، و يكفي من النصوص صحيحة معاوية بن وهب المتقدّمة، مضافة إلى رواية إبراهيم الكرخي المرويّة عن الفقيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال له: «إنّي أقدر أن أتوجّه نحو القبلة في

ص: 344


1- المنتهى 192:4.
2- البقرة: 115.
3- الوسائل 18/332:4، ب 15 من أبواب القبلة.
4- كنز العرفان 90:1.
5- مجمع البيان 228:1.

المحمل، فقال: هذا الضيق، أما لكم في رسول اللّه اسوة ؟!»(1) و روي ذلك عن زيادات التهذيب باختلاف يسير حيث قال: قلت له: «إنّي أقدر على أن أتوجّه إلى القبلة في المحمل، فقال: ما هذا الضيق أما لك برسول اللّه اسوة»(2).

و ليس في سندها من يتأمّل في شأنه إلاّ إبراهيم الكرخي حيث لم يذكر في الرجال بتوثيق و لا مدح، لكن رواية ابن أبي عمير و صفوان بن يحيى و الحسن بن محبوب عنه ربّما يشعر بوثاقته و لا سيّما رواية الأوّلين، لما عن شيخ الطائفة في العدّة(3) من أنّهما لا يرويان إلاّ عن ثقة، و قيل(4) في شأنه أيضا أنّه كثير الرواية، و هذا أيضا من أمارات الوثاقة، مع كون هؤلاء الثلاثة من الجماعة الّذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم على ما ذكره الكشّي(5) فلا يلتفت إلى من قبلهما، فتكون الرواية في الاعتبار كالصحيح و إن لم تكن صحيحة في الاصطلاح.

الثالث: أنّ في لحوق السفينة بالمحمل أو الراحلة في جواز النافلة فيها و ترك الاستقبال فيها و لو اختيارا اسما على معنى كون المراد من الراحلة ما يعمّها أو حكما على معنى اتّحاد الحكم فيهما إشكال، لبعد احتمال دخولها في الاسم و عدم الوقوف على نصّ من الأصحاب بحكمها في النوافل عدى المحكيّ عن الوسيلة من «أنّه يجوز له أن يصلّي النافلة في السفينة و إن راعى القبلة كان أفضل»(6) مع ما احتمل فيه من بنائه على مذهبه في النافلة من عدم اشتراط الاستقبال فيها مطلقا.

نعم، لا يبعد دعوى الاتّحاد في الحكم بل هو الأظهر، من جهة أنّ المستفاد من إشارات النصوص المرخّصة في فعل النوافل إلى غير القبلة للراكب و الماشي، و إشعاراتها كون نظر الشارع إلى توسعة الأمر للمكلّف و رفع الضيق عنه في فعل النوافل حالة السير سفرا و حضرا ركوبا و مشيا، و إن شئت لاحظ ما تقدّم في رواية الكرخي من قوله عليه السّلام: «ما هذا الضيق» مع صحيحة عليّ بن مهزيار قال: «قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمّد إلى أبي الحسن عليه السّلام اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في ركعتي الفجر في السفر،

ص: 345


1- الوسائل 2/329:4، ب 15 من أبواب القبلة، الفقيه 1295/285:1.
2- التهذيب 586/229:3.
3- عدّة الاصول 386:1.
4- رجال النجاشي 97:1 الرقم 24.
5- رجال الكشّي: 559.
6- الوسيلة: 115.

فروى بعضهم أن صلّهما في المحمل، و روى بعضهم لا تصلّهما إلاّ على الأرض، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك ؟ فوقّع عليه السّلام: موسّع عليك بأيّة عملت»(1) فيكون ذلك هو المناط و يجري في السفينة أيضا.

و مع هذا يدلّ عليه أيضا صحيحة زرارة «أنّه سأل أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يصلّي النوافل في السفينة ؟ قال: يصلّي نحو رأسها»(2) فإنّ إطلاقه باعتبار ترك الاستفصال يتناول ما لو تمكّن من استقبال القبلة.

و يعضدها المرويّ عن تفسير محمّد بن مسعود العيّاشي عن زرارة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الصلاة في السفر في السفينة و المحمل سواء؟ قال: النافلة كلّها سواء، تومئ إيماء أينما توجّهت دابّتك و سفينتك، و الفريضة تنزل لها عن المحمل إلى الأرض إلاّ من خوف، فإن خفت أومأت، و أمّا السفينة فصلّ فيها قائما و توخّ القبلة بجهدك، فإنّ نوحا عليه السّلام قد صلّى الفريضة فيها قائما متوجّها إلى القبلة و هي مطبقة عليهم، قال: قلت: و ما كان علمه بالقبلة فيتوجّهها و هي مطبقة عليهم ؟ قال: كان جبرئيل عليه السّلام يقوّمه نحوها، قال: قلت:

فأتوجّه نحوها في كلّ تكبيرة ؟ قال: أمّا في النافلة فلا، إنّما تكبّر على غير القبلة اللّه أكبر، ثمّ قال: كلّ ذلك قبلة للمتنفّل: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ (3) »(4).

و مضمر سليمان بن خالد «يصلّي النافلة و هو مستقبل صدر السفينة إذا كبّر، ثمّ لا يضرّه حيث دارت»(5).

و يمكن الاستدلال عليه بقوله تعالى: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا... الخ كما نبّه في ذيل رواية زرارة.

و يجوز أن يكون عدم تعرّض أكثر الأصحاب لها في النوافل مع تعرّضهم لحكم الفريضة فيها على ما ستعرفه وضوح الحكم في النوافل فيها من جهة بنائهم على لحوقها بالراحلة و اتّحادهما في الحكم هذا.

لكنّ الأحوط مراعاة القبلة فيها مهما أمكن من غير مشقّة، و لو ترك هذا الاحتياط فالأحوط مراعاة استقبال صدر السفينة لاحتمال الشرطيّة من الصحيحة المذكورة، و لو ترك

ص: 346


1- الوسائل 8/330:4، ب 15 من أبواب القبلة، التهذيب 583/228:3.
2- الوسائل 2/320:4، ب 13 من أبواب القبلة، الفقيه 1326/292:1.
3- البقرة: 115.
4- الوسائل 17/324:4، ب 13 من أبواب القبلة، تفسير العياشي 81/56:1.
5- الوسائل 10/506:5، ب 14 من أبواب القيام، التهذيب 4/171:3.

هذا الاحتياط أيضا فالأحوط مراعاة استقبال الصدر، لاحتمال الشرطيّة من المضمرة المذكورة.

الرابع: لا يجب استقبال القبلة بتكبيرة الإحرام عملا بإطلاق الآية و الأخبار المتقدّمة، مضافا إلى صحيحة صفوان الجمّال قال: «كان أبو عبد اللّه عليه السّلام يصلّي صلاة الليل بالنهار على راحلته حيث توجّهت به»(1). و صحيحة سيف التمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في جملة حديث قال: «إنّما فرض اللّه على المسافر ركعتين لا قبلهما و لا بعدهما شيء إلاّ صلاة الليل على بعيرك حيث توجّه بك»(2) المعتضد بما في رواية العيّاشي المتقدّمة من قوله: «فأتوجّه نحوها في كلّ تكبيرة ؟ قال: أمّا في النافلة فلا، إنّما تكبّر على غير القبلة...» الخ. و قوله عليه السّلام:

«لا، و لكن تكبّر حيث ما كنت متوجّها، و كذلك فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد قول الراوي:

أستقبل القبلة إذا أردت التكبير؟»(3) في رواية الحلبي بطريق الكافي.

خلافا لابن إدريس(4) فقطع بوجوبه بالتكبير، و نقله عن جماعة من الأصحاب إلاّ من شذّ، و ربّما نسب(5) هذا إليه و إلى الاقتصاد(6) و المصباح(7) و مختصره(8) و الجامع(9)و ابن فهد(10) في خصوص الراكب، كما قد ينسب أيضا في الراكب و الماشي معا إلى ظاهر المبسوط(11) و الجامع(12).

و يشهد له في الراكب صحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الصلاة بالليل في السفر في المحمل ؟ قال: إذا كنت على غير القبلة فاستقبل القبلة، ثمّ كبّر و صلّ حيث ذهب بك بعيرك»(13) كما يشهد له في الماشي ما تقدّم في صحيحة معاوية ابن عمّار من قوله عليه السّلام: «يتوجّه إلى القبلة ثمّ يمشي و يقرأ...»(14) الخ، و هما لعدم نهوضهما

ص: 347


1- الوسائل 3/92:4، ب 26 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 41/15:2.
2- الوسائل 3/84:4، ب 23 من أبواب أعداد الفرائض، التهذيب 43/16:2.
3- الوسائل 7/330:4، ب 15 من أبواب القبلة، الكافي 5/440:3.
4- السرائر 336:1.
5- الناسب هو النجفي في الجواهر 18:8.
6- الاقتصاد: 257.
7- المصباح: 25.
8- مختصر المصباح (مخطوط): 50.
9- الجامع للشرائع: 64.
10- لم نعثر عليه.
11- المبسوط 79:1.
12- الجامع للشرائع: 64.
13- الوسائل 13/331:4، ب 15 من أبواب القبلة، التهذيب 606/233:3.
14- الوسائل 1/334:4، ب 16 من أبواب القبلة، التهذيب 585/229:3.

لتقييد ما مرّ بإعراض معظم الأصحاب عن العمل بهما محمولان على الاستحباب، هذا مع تعذّر الوجوب الشرعي، و الحمل على الوجوب الشرطي ليس بأولى من الحمل على الندب لاشتراكهما في المجازيّة بل ربّما يتعيّن الثاني لكونه أشيع و أقرب. و ممّا يوهن احتمال الوجوب و الشرطيّة ما في صحيحة ابن عمّار من قوله عليه السّلام: «حوّل وجهه إلى القبلة و ركع و سجد ثمّ مشى»(1) لعدم قائل من الأصحاب بهما في الركوع و السجود، و إنّما ذكر(2) ذلك قولا للشافعي فلا بدّ من حمله على الندب مع احتماله التقيّة.

الخامس: أنّ المحقّق في الشرائع(3) حكم بالكراهة المتأكّدة في النافلة على الراحلة في الحضر، و لم نقف على موافق له في ذلك، و كأنّ مراده بالكراهة كونه أقلّ ثوابا كما هو الأصل في كراهة العبادات، و عليه فيرجع ذلك إلى ما قطع به جماعة(4) من كون النافلة على الأرض مع الاستقرار في الحضر أفضل منها على الراحلة، و مستنده ما تقدّم في رواية عبد الرحمن بن الحجّاج في الصحيح من قوله عليه السّلام: «و إلاّ فإنّ صلاتك على الأرض أحبّ إليّ »(5). و يظهر من المدارك(6) كونه أفضل في الحضر و السفر معا.

ص: 348


1- الوسائل 1/334:4، ب 16 من أبواب القبلة، التهذيب 585/229:3.
2- المنتهى 187:4، المجموع 237:3، الامّ 97:1.
3- الشرائع 67:1.
4- كالمحقّق في الشرائع 67:1 و السيّد العاملي في المدارك 149:3 و العلاّمة في المنتهى 188:4.
5- الوسائل 12/331:4، ب 15 من أبواب القبلة، التهذيب 605/232:3.
6- المدارك 149:3.
[ينبوع: لا يجوز الفريضة على الراحلة اختيارا]

ينبوع

لا يجوز أن يصلّي شيئا من الفرائض على الراحلة إلاّ في حال الضرورة، و حينئذ فإن أمكنه استقبال القبلة في تمام الصلاة وجب ذلك، و إن لم يمكنه وجب استقبالها بما أمكن من صلاته، و إن لم يمكنه إلاّ الاستقبال بتكبيرة الإحرام وجب ذلك، و ان لم يمكنه ذلك أيضا سقط عنه فرض الاستقبال و أجزأته الصلاة إلى حيث توجّهت به راحلته، فهاهنا مسائل:

المسألة الاولى: أنّه لا يجوز الفريضة على الراحلة اختيارا إذا أدّى إلى عدم استيفاء جميع أفعال الصلاة و شروطها بلا خلاف كما في التذكرة(1) بل إجماعا كما في الذكرى(2)بل بإجماع المسلمين كما في كلام بعض مشايخنا(3) و في معناه ما في المعتبر(4) «من أنّه مذهب العلماء كافّة» و ما في المنتهى(5) «من أنّه ذهب إليه كلّ من يحفظ عنه العلم».

و الأصل فيه بعد الإجماع بقسميه المستفيض من الروايات، ففي الصحيح عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يصلّي على الدابّة الفريضة إلاّ مريض يستقبل به القبلة، و تجزئه فاتحة الكتاب، و يضع بوجهه في الفريضة على ما أمكنه من شيء، و يومئ في النافلة إيماء»(6) و في خبر عبد اللّه بن سنان قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أ يصلّي الرجل شيئا من المفروض راكبا؟ فقال: لا، إلاّ من ضرورة»(7).

و قد وصفه في المدارك(8) «بالموثّق» مع أنّ في طريقه أحمد بن هلال و هو من الضعفاء، و قال العلاّمة في الخلاصة(9): «أنّه ورد فيه ذمّ كثير من سيّدنا أبي محمّد الحسن

ص: 349


1- التذكرة 16:3.
2- الذكرى 188:3.
3- الجواهر 3:8.
4- المعتبر 75:2.
5- المنتهى 183:4.
6- الوسائل 1/325:4، ب 14 من أبواب القبلة، التهذيب 952/308:3.
7- الوسائل 4/326:4، ب 14 من أبواب القبلة، التهذيب 954/308:3.
8- المدارك 139:3.
9- خلاصة الأقوال: 320.

العسكري... إلى أن قال: و عندي روايته غير مقبولة» إلى غير ذلك ممّا قيل في شأنه، و هو أعرف بما قال، و كأنّه خلط من سند خبر آخر عن عبد اللّه بن سنان بسند موثّق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تصلّ شيئا من المفروض راكبا»(1).

ثمّ إنّه لا فرق في إطلاق فتاوي الأصحاب في الفريضة بين اليوميّة و غيرها من الفرائض الواجبة بحسب أصل الشرع كما هو المصرّح به في كلام جمع من أساطين(2) الطائفة، و يساعد عليه أيضا إطلاق معاقد الإجماعات المنقولة، و في كلام غير واحد(3) دعوى مساعدة إطلاق الروايات عليه أيضا، و للتأمّل فيه مجال واسع لقوّة احتمال انصراف إطلاق الفريضة فيها إلى الفرد المعهود الشائع الحاضر في الأذهان و هو اليوميّة.

نعم، لو ادّعي العموم من «شيء» في الموثّقة باعتبار كونه نكرة في سياق النفي كما في كلام بعضهم فليس بذلك البعيد، إلاّ أنّه أيضا لا يخلو عن تأمّل لمكان تقييده في الخبر «بالمفروض» الّذي يجري فيه احتمال الانصراف أيضا، إلاّ أن يدّعى الفرق في ذلك بين لفظي «الفريضة» و «المفروض» بتسليم الانصراف في الأوّل و بمنع في الثاني، و ليس ببعيد ظاهرا.

و ربّما يستظهر عموم الفريضة من مقابلة النافلة لها في خبر منصور بن حازم قال: «سأله أحمد بن النعمان فقال: اصلّي في محملي و أنا مريض ؟ قال: فقال: أمّا النافلة فنعم، و أمّا الفريضة فلا»(4) و هذا إنّما يتّجه على تقدير إطلاق النافلة لغير الرواتب و لعلّه موضع لإمكان دعوى انصرافها إلى الرواتب هذا، و لكنّ الظاهر عدم الحاجة إلى تجشّم هذه الدعاوي في إثبات عموم الحكم، لكفاية إطلاق الإجماعات المعتضد بظهور الإجماع على عدم الفرق في ذلك.

و إنّما المعضل إثبات عموم الحكم لما يجب لعارض كالمنذورة، فإنّ فيه إشكالا و إن ذهب جماعة إلى العموم كالعلاّمة في التذكرة(5) و التحرير(6) و الشهيد في الذكرى(7)

ص: 350


1- الوسائل 7/326:4، ب 14 من أبواب القبلة، التهذيب 599/231:3.
2- كما في المدارك 139:3 و الذكرى 188:3 و التحرير 192:1 و المبسوط 80:1.
3- كما في المدارك 139:3 و الرياض 287:3.
4- الوسائل 90/327:4، ب 14 من أبواب القبلة، التهذيب 953/308:3.
5- التذكرة 16:3.
6- التحرير 192:1.
7- الذكرى 188:3.

و بعض(1) من تأخّر عنهما و عزي إلى الشيخ في المبسوط(2) بل في الذكرى «سواء نذرها راكبا أو مستقرّا على الأرض قال: لأنّها بالنذر اعطيت حكم الواجب»(3) قال في التذكرة:

«و لا تصلّي المنذورة على الراحلة لأنّها فرض عندنا و للشافعي وجهان مبنيّان على أنّ المنذور يسلك بها مسلك الواجبات أو يحمل على أقلّ ما يتقرّب به، و عن أبي حنيفة أنّ الصلاة الّتي نذرها على وجه الأرض لا تؤدّى على الراحلة، و الّتي نذرها و هو راكب تؤدّى عليها»(4) انتهى.

و منشأ الإشكال عدم وضوح دليل عليه يعتمد عليه، إذ غاية ما ذكر من الدليل عليه إطلاق الفريضة في النصّ و الفتوى و معقد الإجماع و قد يوجّه الاستدلال بإطلاق النصّ بوجهين، أحدهما: من جهة ترك الاستفصال في المفروض الواقع في السؤال في خبر عبد اللّه بن سنان بين كونه منذورا و غيره، فيفيد شمول الحكم لهما. و الثاني: من جهة النكرة المنفيّة في الموثّق المفيدة للعموم بل في الخبر الأوّل أيضا، لأنّ تقدير قوله عليه السّلام: «لا» في الجواب «لا يصلّي شيئا من المفروض».

و يخدشه - بعد الإغماض عن ضعف سند هذا الخبر - منع الإطلاق لمكان الانصراف إمّا إلى اليوميّة بالخصوص أو إلى مطلق ما وجب بالأصل، فلا يدخل الواجب لعارض في ذلك الإطلاق جزما، و يمكن دعوى الانصراف على الوجه الثاني في معقد الإجماع أيضا.

و مقابلة النافلة للفريضة في خبر منصور بن حازم أيضا مع ضعف سنده و كونه مضمرا غير مجدية في إثبات العموم بالقياس إلى ما نحن فيه، لما نبّهنا عليه من ظهور النافلة في الراتبة، و لذا مال جماعة من متأخّري المتأخّرين منهم صاحب المدارك و تبعه صاحب الذخيرة(5) إلى منع جريان حكم الفريضة هاهنا في المنذورة. قال في المدارك: و يمكن القول بالفرق و اختصاص الحكم بما وجب الأصل خصوصا مع وقوع النذر على تلك الكيفيّة، عملا بمقتضى الأصل و عموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالنذر، و يؤيّده رواية عليّ ابن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام قال: «سألته عن رجل جعل للّه عليه أن يصلّي كذا و كذا، هل يجزئه أن يصلّي ذلك على دابّته و هو مسافر؟ قال: نعم»(6) و في الطريق محمّد بن أحمد

ص: 351


1- كما في المدارك 139:3.
2- المبسوط 80:1.
3- الذكرى 188:3.
4- التذكرة 16:3.
5- الذخيرة: 215.
6- الوسائل 6/326:4، ب 14 من أبواب القبلة، التهذيب 596/231:3.

العلوي و لم يثبت توثيقه(1) انتهى.

أقول: و يساعد عليه استصحاب الحالة السابقة على النذر بالقياس إلى الصلاة و المكلّف معا، نظرا إلى أنّ عروض الوجوب لها بسبب النذر لا يوجب تبدّل موضوع المستصحب، ضرورة عدم دخول الوجوب العارض في قيود معروضة. فالقول بجواز المنذورة على الراحلة لا يخلو عن قوّة، و إن كان الأحوط فعلها على الأرض خروجا عن شبهة مخالفة الواقع، و تحصيلا ليقين البراءة.

و أمّا الفرائض الّتي عرضها وصف الاستحباب كالفريضة المعادة لتدارك فضيلة الجماعة أو في مواضع الاحتياط فقد ذكر لإلحاقها بالفريضة أو النافلة وجهان، إلاّ أنّ أقواهما الأوّل استصحابا للحالة السابقة على عروض الوصف، و لا سيّما أنّ صدق الإعادة و الاحتياط لا يتأتّى إلاّ بمراعاة الكيفيّة المعتبرة في الأصل و المحتاط فيه، هذا كلّه فيما لو استلزم فعل الفريضة على الراحلة عدم إمكان استيفاء جميع ما اعتبر فيها من الأفعال و الشروط على معنى استلزامه الفوات و الخلل في البعض. فأمّا إذا لم يستلزم ذلك بأن يتمكّن من استيفاء جميع الأفعال و الشروط من غير تفاوت فيه بين فعلها على الراحلة أو على الأرض، ففيه قولان:

المنع كما هو خيرة الشرائع(2) و الذكرى(3) و الدروس(4) و عن التحرير(5) و المسالك(6)و جامع المقاصد(7) و في المدارك(8) «هذا هو المشهور بين الأصحاب» و عن مجمع البرهان «يكاد أن لا يكون فيه خلاف»(9).

و الجواز كما اختاره في المدارك(10) و عزي إلى نهاية(11) العلاّمة. و استشكل في التذكرة(12) كما عن القواعد(13) أيضا. و في الاولى أنّه ينشأ من الإتيان بالمأمور به فيخرج عن العهدة و المنع للاختلال منتف لانتفاء سببه، و من عموم النهي على الراحلة، و عن المانعين كما في المدارك الاحتجاج بصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه المتقدّمة(14) و عن الشهيد الثاني في وجه الاستدلال بها «أنّها عامّة و وجه عمومها الاستثناء المذكور»(15).

ص: 352


1- المدارك 139:3.
2- الشرائع 189:1.
3- الذكرى 189:3.
4- الدروس 161:1.
5- التحرير 192:1.
6- المسالك 159:1.
7- جامع المقاصد 61:2-62.
8- المدارك 142:3.
9- مجمع الفائدة و البرهان 63:2.
10- المدارك 143:3.
11- نهاية الإحكام 404:1.
12- التذكرة 16:3.
13- القواعد 252:1.
14- تقدّمت في الصفحة 349 الرقم 6.
15- المسالك 159:1.

و اعترضه في المدارك بأنّ هذا العموم إنّما هو في الفاعل خاصّة، و أمّا الدابّة فمطلقة، و لا يبعد حملها على ما هو الغالب، أعني الّذي لا يتمكّن عليها من استيفاء الأفعال، ثمّ قال:

و احتجّ عليه فخر المحقّقين(1) أيضا بقوله تعالى: حٰافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوٰاتِ (2) قال: و المراد بالمحافظة عليها المداومة و حفظها من المفسدات و المبطلات، و إنّما يتحقّق ذلك في مكان اتّخذ للقرار عادة، فإنّ غيره كظهر الدابّة في معرض الزوال، و بقوله عليه السّلام: «جعلت لي الأرض مسجدا»(3) أي مصلّى، فلا تصحّ إلاّ فيما في معناها، و إنّما عدّيناه إليه بالإجماع و غيره لم يثبت، ثمّ قال: و ضعف الاستدلالين واضح، انتهى(4).

و استدلّ عليه في الذكرى بما ملخّصه «أنّ صحّة هذه الصلاة لا بدّ و أن يستند إلى مقتض و لا مقتضي لها إلاّ إطلاق الأمر بالصلاة، و يدفعه الانصراف إلى القرار المعهود، و هو ما كان على الأرض و ما في معناها، كالزورق المشدود على الساحل، لأنّه بمثابة السرير و الماء بمثابة الأرض و تحرّكه سفلا و صعدا كتحرّك السرير على وجه الأرض و ليست الدابّة للقرار عليها»(5).

و يرد على الأوّل: أنّ العموم المشار إليه غير مجد في المقام إذ العموم المطلوب هو عموم الصلاة على الدابّة لصورتي استيفاء واجبات الصلاة و شروطها و عدم استيفائها، و لا يكون ذلك إلاّ من جهة إطلاق قوله عليه السّلام: «لا يصلّي على الدابّة» و يدفعه الانصراف إلى ما لا يمكن استيفاء الواجبات و الشروط و لا أقلّ من الاستقبال و الاستقرار بل لا أقلّ من الاستقرار، لغلبة وقوعه في الخارج و معهوديّته في الأذهان فلا يدخل فيه مفروض المسألة.

و على الثاني: منع كون المراد من المحافظة على الصلوات حفظها عن المفسدات لو اريد بها القواطع، بل المراد بها - على ما يظهر من الروايات المستفيضة القريبة من التواتر - المحافظة على مواقيتهنّ بإتيانها فيها.

و لو سلّم عدم الاختصاص بذلك فالمراد بها المحافظة على واجباتها و أركانها و شروطها بعدم تعمّد الإخلال بها.

و لو سلّم شمولها المفسدات أيضا فهي ظاهرة في المحافظة عليها عن المفسدات

ص: 353


1- إيضاح الفوائد 79:1.
2- البقرة: 239.
3- الوسائل 8/345:5، ب 1 من أبواب ما يسجد عليه، التهذيب 926/235:2.
4- المدارك 142:3-143.
5- الذكرى 190:3.

الاختياريّة، و زوال الاستقرار هنا لو اتّفق فإنّما يحصل من غير اختيار بواسطة حركة الدابّة، مع أنّا نفرض المسألة فيما لو قطع أو اطمأنّ بعدم اتّفاق حركة لها، و حينئذ فلو اتّفقت في الأثناء أوجبت البطلان الموجب للإعادة، لا المنع من الشروع فيها ابتداء، بل لو فرض كونه ظانّا بعدم تحرّكها إلى الفراغ فلا مانع من الشروع أيضا، كما في صورة الظنّ بالسلامة عند الإتيان بالصلاة في أوّل الوقت، و كما في صورة الظنّ بعدم طروء المفسد أو القاطع كما في حقّ الغالب.

و توهّم عدم حصول نيّة التقرّب مع احتمال طروء الفساد أو فوات الشرط، يدفعه النقض بصورة الظنّ بالسلامة أوّلا، و بأنّ نيّة التقرّب لا معنى لها إلاّ قصد امتثال الأمر بالصلاة و هو ممكن الحصول بضرورة من الوجدان، و احتمال طروء المفسد يوجب احتمال طروء الفساد لا كون الداعي إلى الشروع في العمل غير الامتثال.

و على الثالث: منع كون المراد بالمسجد في الرواية هو المصلّى لظهوره في محلّ السجود، كيف و الرواية وردت في مقام الامتنان و لا يتمّ ذلك بإرادة المصلّى، لكون مكان صلاة جميع الأنبياء هو الأرض.

و على الرابع: منع انصراف إطلاق الأمر بالصلاة إلى القرار المعهود، كيف و القرار لا يدخل في الذهن عند إطلاقات الصلاة أصلا حتّى يدّعى فيه الانصراف.

فتحقيق المقام أنّ الصلاة على الراحلة مع استيفاء جميع الواجبات تتصوّر من وجوه:

الأوّل: أن يأتي بها على الدابّة على وجه يتحرّك فيها بنفسه، من دون استناده إلى حركة الدابّة.

الثاني: أن يأتي بها على وجه يتحرّك بواسطة حركة الدابّة.

الثالث: أن يأتي بها من دون تحرّك و لكن مع سير الدابّة.

الرابع: أن يأتي بها كذلك و لكن مع وقوف الدابّة.

الخامس: أن يأتي بها كذلك و لكن مع وقوع الدابّة على الأرض كالبعير المعقول و ما أشبهه.

و ذكر الأوّلين في وجوه محلّ البحث مسامحة لاستيفاء الصور، و إلاّ فهما مندرجان فيما تقدّم ممّا استلزم عدم استيفاء جميع الواجبات و الشروط لفوات الاستقرار الّذي هو من المشروط فيهما، فلا إشكال حينئذ في بطلان الصلاة فيهما.

و أمّا الثلاث الباقية فلا نرى وجها للمنع فيها و لا سيّما الأخيرين، لأنّ وجه المنع إمّا

ص: 354

توهّم فقد المقتضي للصحّة، فيدفعه كفاية إطلاق الأمر بالصلاة المقتضي للإجزاء عند الإتيان بها على وجهه، كما هو مفروض المسألة.

أو توهّم وجود المانع و هو وقوع الخلل في بعض ما اعتبر فيها، و يدفعه الخروج عن الفرض، لأنّ الكلام فيما لم يستلزم ذلك أصلا.

أو توهّم وجوده و هو كون عدم كون الصلاة على الراحلة بنفسه من شروط الصحّة، و يدفعه المنع لعدم دليل عليه مع عدم قائل به من المانعين فالأصل يقتضي العدم.

أو توهّم وجود الدليل على المنع، و يدفعه المنع أيضا لما عرفت من انحصار مستند المانعين في الوجوه المذكورة الّتي قد ظهر ما في الجميع.

فالقول بالجواز حينئذ لا يخلو عن قوّة لوجود المقتضي و فقد المانع، لكنّ الأحوط هو الترك خصوصا في الصورة الاولى من الصور لإمكان دعوى ظهور الأدلّة و إطلاقات أوامر الصلاة في ايقاعها في مكان واحد على معنى اتّحاد المجلس فيها و فعلها على الراحلة السائرة يوجب فوات ذلك.

و بما ذكر ظهر الحكم في الارجوحة المعلّقة بالحبال، فإنّ جواز الصلاة عليها موقوف على عدم تحرّك المصلّي و لو بحركة الارجوحة، و لعلّها المراد من الرفّ المعلّق بين نخلتين في صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل هل يصلح له أن يصلّي على الرفّ المعلّق بين نخلتين ؟ قال: إن كان مستويا يقدر على الصلاة عليه فلا بأس»(1) و لذا استشهد بها للجواز في المدارك(2) و لكن ينبغي تقييدها بما لم يستلزم الحركة المفوّتة للاستقرار.

المسألة الثانية: أنّه يجوز الإتيان بالفريضة على الراحلة مع الضرورة و الاضطرار إجماعا كما نقله غير واحد(3) و في المعتبر «و هو مذهب علمائنا»(4) للنصوص المستفيضة:

منها: ما تقدّم في صحيحة عبد الرحمن(5) بن أبي عبد اللّه من استثناء المريض، و ما في رواية عبد اللّه بن سنان المتقدّمة من قوله عليه السّلام: «لا إلاّ من ضرورة»(6).

ص: 355


1- الوسائل 1/178:5، ب 35 من أبواب مكان المصلّي، التهذيب 1553/373:2.
2- المدارك 143:3.
3- كما في الخلاف 300:1 المسألة 47، و المنتهى 184:4.
4- المعتبر 75:2.
5- تقدّمت في الصفحة 349 الرقم 6.
6- تقدّم في الصفحة 338 الرقم 6.

و صحيحة جميل بن درّاج قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الفريضة في المحمل يوم و حل و مطر»(1).

و صحيحة الحميري قال: «كتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام: روى جعلني اللّه فداك مواليك عن آبائك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى الفريضة على راحلته في يوم مطر، و يصيبنا المطر و نحن في محاملنا و الأرض مبتلّة و المطر يؤذي، فهل يجوز لنا يا سيّدي أن نصلّي في هذه الحال في محاملنا أو على دوابّنا الفريضة إن شاء اللّه ؟ فوقّع عليه السّلام: يجوز ذلك مع الضرورة الشديدة»(2).

و صحيحة زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: الّذي يخاف اللصوص و السبع يصلّي صلاة المواقفة إيماء على دابّته. ثمّ قال: و يجعل السجود أخفض من الركوع، و لا يدور إلى القبلة، و لكن أينما دارت دابّته غير أنّه يستقبل القبلة بأوّل تكبيرة حين يتوجّه»(3).

و صحيحة أبي بصير قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام إن كنت في أرض مخافة فخشيت لصّا أو سبعا فصلّ الفريضة و أنت على دابّتك»(4).

و رواية مندل بن عليّ قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على راحلته الفريضة في يوم مطير»(5).

و رواية محمّد بن عذافر في حديث قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل يكون في وقت الفريضة لا يمكنه الأرض من القيام عليها و لا السجود عليها من كثرة الثلج و الماء و المطر و الوحل، أ يجوز له أن يصلّي الفريضة في المحمل ؟ قال: نعم هو بمنزلة السفينة، إن أمكنه قائما و إلاّ قاعدا، و كلّ ما كان من ذلك فاللّه أولى بالعذر يقول اللّه عزّ و جلّ : بَلِ اَلْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (6)»(7).

و المرويّ عن احتجاج الطبرسي عن محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري عن صاحب

ص: 356


1- الوسائل 327:4، ب 14 من أبواب القبلة، التهذيب 602/232:3.
2- الوسائل 5/326:4، ب 14 من أبواب القبلة، التهذيب 600/231:3.
3- الوسائل 8/441:8، ب 3 من أبواب صلاة الخوف و المطاردة، الفقيه 1348/295:1.
4- الوسائل 10/442:8، ب 3 من أبواب صلاة الخوف و المطاردة، التهذيب 381/172:3.
5- الوسائل 8/327:4، ب 14 من أبواب القبلة، التهذيب 599/231:3.
6- القيامة: 14.
7- الوسائل 2/325:4، ب 14 من أبواب القبلة، التهذيب 603/232:3.

الزمان عليه السّلام «أنّه كتب إليه يسأله عن رجل يكون في محمله و الثلج كثير بقامة رجل، فيتخوّف إن نزل الغوص فيه، و ربّما يسقط الثلج و هو على تلك الحال، و لا يستوي له أن يلبّد شيئا منه لكثرته و تهافته، هل يجوز أن يصلّي في المحمل الفريضة ؟ فقد فعلنا ذلك أيّاما، فهل علينا فيه إعادة أم لا؟ فأجاب: لا بأس به عند الضرورة و الشدّة»(1).

و قضيّة مجموع روايات الباب أن يكون المراد من الضرورة أعمّ ممّا يتضرّر به في ماله أو نفسه أو عضوه، و منه البرودة المفرطة الّتي تؤدّي إلى هلاك النفس أو ضرر العضو، و منه الانقطاع عن الرفقة المستتبع لإصابة لصّ أو سبع أو نحو ذلك. و يعتبر في هذا القسم خوف التضرّر و لا يكفي فيه احتماله من غير خوف، و المشقّة الشديدة الّتي لا تتحمّل عادة لمرض أو مطر أو ماء أو وحل أو ثلج أو برودة أو نحو ذلك. و يعتبر فيه تحقّق سببه و لا يكفي احتمال تحقّقه، و لا المشقّة اليسيرة الّتي يتحمّلها العقلاء عادة اقتصارا في الجميع على القدر المتيقّن من مورد النصّ و الإجماع في الحكم المخالف للأصل، مضافا إلى وصف الضرورة في غير واحد من الروايات بالشدّة، و عطف الشدّة في بعضها على الضرورة هذا.

المسألة الثالثة: في أنّه يجب استقبال القبلة في الصلاة المؤدّاة على الراحلة لداعي الضرورة المسوّغة بما يمكنه، فإن أمكنه في جميع الصلاة فبالجميع و إلاّ فبما أمكنه و لو كان هو تكبيرة الإحرام، حتّى أنّه لو انحرفت الدابّة عن القبلة وجب صرفها إليها مع الإمكان فلو تركه بطلت صلاته، كما أنّها تبطل لو صرفها عن القبلة إلى غيرها، وفاقا للفاضلين(2) و من تأخّر عنهما(3) و لعلّه ممّا لا خلاف فيه في الجملة بل مطلقا كما أومأ إليه في الجواهر(4) و ربّما يظهر من العلاّمة في المنتهى الإجماع عليه قائلا: «لو اضطرّ إلى صلاة الفريضة على الراحلة صلّى عليها و استقبل القبلة بما يمكنه ذهب إليه علماؤنا أجمع»(5). بناء على رجوعه إلى الحكمين معا كما هو الظاهر لا على اختصاصه بأوّلهما كما هو محتمل.

و كيف كان فلا إشكال في هذا الحكم مع إمكان الاستقبال بالجميع لوضوح دليله و هو

ص: 357


1- الوسائل 11/327:4، ب 14 من أبواب القبلة، الاحتجاج: 488.
2- العلاّمة في القواعد 253:1، و فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد 80:1.
3- كالمحقّق الثاني في جامع المقاصد 66:2، و الفاضل الهندي في كشف اللثام 159:34، و الشهيد الثاني في المسالك 158:1.
4- الجواهر 679:7.
5- المنتهى 184:4.

جميع ما دلّ على وجوب الاستقبال في الفرائض من الأدلّة المتقدّمة كتابا و سنّة.

و يكفي من الأوّل عموم قوله تعالى: وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (1) و من الثاني عموم قوله عليه السّلام: «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» و لا يعارضها قوله تعالى: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ (2) لما تقدّم من اختصاصه بالنوافل، و لا ينافيه أيضا إطلاق الأخبار المتقدّمة المرخّصة في فعل الفريضة على الراحلة مع الضرورة، لمنع الإطلاق المتوهّم باعتبار عدم كونها مسوقة لبيان حكمها من حيث الاستقبال، بل هي مسوقة لبيان حكمها من حيث فعلها على الراحلة مع السكوت عن الاستقبال فيها بإثبات و نفي، فيرجع لمعرفة حكمها من حيث الاستقبال إلى عمومات وجوبه في الفرائض كما عرفت.

نعم في بعض الأخبار ما ربّما يوهم سقوط الاستقبال هنا مطلقا إلاّ بتكبيرة الإحرام، كما في صحيحة زرارة المتقدّمة من قوله عليه السّلام: «و لا يدور إلى القبلة، و لكن أينما دارت دابّته غير أنّه يستقبل القبلة بأوّل تكبيرة حين يتوجّه»(3) و يدفعه: أنّ المورد بمقتضى صلاة المواقفة ما تعذّر فيه الاستقبال بجميع الصلاة، فإنّ المواقفة على ما عن القاموس مفاعلة من الوقوف و هو «أن تقف معه و يقف هو معك في الخصومة و الحرب»(4) و إنّما يكون كذلك إذا توجّه إليه اللصّ أو السبع فيقف هو معه لحفظ نفسه مثلا و يقف اللصّ أو السبع للظفر به، و حينئذ فلا بدّ و أن يتّبع في صلاته دابّته أينما دارت مراعاة لمصلحة المواقفة و معه يتعذّر مراعاة الاستقبال بجميع الصلاة.

مع أنّه قد يقال: إنّ الغالب في خائف اللصّ و السبع الّذي صلاته صلاته المواقفة عدم التمكّن من أن يدور إلى القبلة كلّما انحرفت دابّته، مع أنّها لا تتحرّك إلى جهة إلاّ و هو محتاج إليه غالبا، نعم ربّما يتيسّر له ذلك في أوّل الصلاة فيستقبل حينئذ و يبقى مستمرّا إلى حال عدم التمكّن، كما أنّه لا إشكال أيضا فيه بالقياس إلى ما لو لم يتمكّن من الاستقبال إلاّ بتكبيرة الإحرام عملا بظاهر هذه الصحيحة حسبما بيّنّاه.

نعم يبقى الإشكال فيه بالقياس إلى ما هو واسطة بين الصورتين، و هو ما لو تمكّن من الاستقبال بما عدى التكبير أيضا من أفعال الصلاة غير الجميع، لعدم وضوح دلالة عليه من

ص: 358


1- البقرة: 144.
2- البقرة: 115.
3- تقدّمت في الصفحة 356 الرقم 3.
4- القاموس المحيط 206:3 (وقف).

أخبار الباب، و لعلّه لذا اقتصر العلاّمة في محكيّ الإرشاد كما عن القواعد(1) أيضا على الصورتين الاوليين قائلا في الأوّل: «و المضطرّ على الراحلة يستقبل القبلة بجميع صلاته ان تمكّن و إلاّ فبالتكبير»(2) لكنّه في غير هذين الكتابين(3) كالمحقّق(4) و غيره من المتأخّرين(5) و متأخّريهم(6) اعتبر الواسطة أيضا، و المعهود فيما بينهم الاحتجاج له بعموم قوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (7) و كأنّ وجهه أنّ الآية بظاهرها و إن دلّت على اشتراط القبلة بجميع الصلاة، إلاّ أنّ المستفاد من أدلّة الشروط أنّ شرط الكلّ شرط لكلّ جزء من أجزائه، كما هو قضيّة اعتبار المقارنة للعمل من أوّله إلى الفراغ منه.

و حينئذ فأقصى ما لزم من دليل عدم إمكان الاستقبال هو كونه مغتفرا فيما لا يمكن الاستقبال به من أفعال الصلاة، و بقى في غيره ممّا يمكن به الاستقبال على مقتضى دليل الاشتراط. و من ذلك أمكن التمسّك بالاستصحاب أيضا لأنّ هذا البعض ممّا وجب بالوجوب الشرطي استقبال القبلة به حال التمكّن من الاستقبال بالجميع و إذا طرأه عدم التمكّن منه ببعض أفعالها صار ذلك رافعا لوجوبه الشرطي عنه، فإذا شكّ كونه رافعا له أيضا عن هذا البعض الّذي هو موضوع المسألة بنى على عدمه استصحابا للحالة السابقة، و لأصالة عدم الرفع هذا، مضافا إلى قاعدة الاشتغال القاضية بوجوب يقين البراءة مع يقين الاشتغال.

و يؤيّده أيضا عموم قوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور»(8). و توهّم عدم جريانه في قيود المأمور به و اختصاصه بالأجزاء، يدفعه: ما قرّرناه في غير موضع من عدم الفرق بينهما في متفاهم العرف، لوضوح صدق الميسور على الاستقبال بالبعض، قبالا للمعسور الّذي هو الاستقبال بالجميع فيتناوله عموم قوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور».

و قد يستدلّ أيضا بقوله: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(9) و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا أمرتكم

ص: 359


1- القواعد 253:1.
2- إرشاد الأذهان 245:1.
3- التحرير 192:1، المنتهى 190:4.
4- المعتبر 75:2.
5- كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد 66:2، و الشهيد الأوّل في الذكرى 192:3، و الشهيد الثاني في روض الجنان 520:2.
6- كالسيّد العاملي في المدارك 141:3، و الفاضل الهندي في كشف اللثام 159:3.
7- البقرة: 144.
8- عوالي اللآلئ 58:4.
9- بحار الأنوار 31:22، و عوالي اللآلئ 58:4.

بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(1). و فيه منع واضح، لعدم شمول الأوّل ما نحن فيه بقرينة كلّه الّذي هو لعموم الأجزاء، و أمّا الثاني فلأنّه لو لم نقل بظهوره في غير ما نحن فيه فلا أقلّ من عدم ظهوره فيه فيكون مجملا، و تمام الكلام فيه أوردناه في الاصول.

فظهر بما قرّرناه أنّ الأقوى هو القول بوجوب الاستقبال بما أمكن الاستقبال به، و العمدة من دليله الآية على ما وجّهناه. و بذلك يندفع المناقشة في الاستدلال بها بما في الذخيرة من «أنّ المستفاد من الآية بمعونة بعض الأخبار وجوب الاستقبال في كلّ الصلاة لا في كلّ جزء جزء، فإذا تعذّر المكلّف به فإثبات شيء آخر بدل له يحتاج إلى دليل خاصّ . و قال: هذا بناء على أنّ التكليف بالكلّ ليس تكليفا بالأجزاء أصالة» انتهى(2)، فإنّا نقول: إنّ المستفاد من الآية بمعونة أدلّة الشروط أنّ شرط الكلّ شرط لكلّ جزء جزء فإذا سقط اعتباره بالنسبة إلى بعض الأجزاء لعدم التمكّن من مراعاته فيه لم يلزم سقوط اعتباره بالنسبة إلى الباقي عملا بدليل كونه شرطا له، و هذا ليس من باب إثبات اليد ليحتاج إلى دليل خاصّ بل هو نفس المكلّف به الّذي تعذّر الشرط بالنسبة إلى بعض أجزائه، و ليس مبنى المسألة على ما ذكرناه على كون التكليف بالكلّ تكليفا بالأجزاء أصالة.

و من طريق الاستدلال بالآية ظهر أنّه لو لم يتمكّن من الاستقبال في الابتداء ثمّ تمكّن منه في الأثناء فالوجه أنّه مأمور به بالاستقبال حينئذ، كما نصّ عليه العلاّمة في المنتهى(3)بل ظاهره عدم الخلاف فيه عند أصحابنا حيث خصّ المخالفة إلى بعض الجمهور، استنادا إلى أنّه قد سقط عنه فرض الاستقبال في الابتداء فكذا في الأثناء. و فيه: أنّ السقوط في الأوّل إنّما هو لمانع عدم التمكّن، و هو مفقود هنا.

المسألة الرابعة: أنّه لو تعذّر عليه الاستقبال مطلقا سقط اعتباره بلا إشكال و لا خلاف يظهر، للنصوص المعتبرة الّتي يكفي منها الصحيح المرويّ عن الكافي عن عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يلقى السبع و قد حضرت الصلاة و لا يستطيع المشي مخافة السبع، فإن قام يصلّي خاف في ركوعه و سجوده السبع، و السبع أمامه على غير القبلة، فإن توجّه إلى القبلة خاف أن يثب عليه الأسد كيف يصنع ؟ قال:

ص: 360


1- بحار الأنوار 31:22، و عوالي اللآلئ 58:4.
2- الذخيرة: 219.
3- المنتهى 190:4.

يستقبل الأسد و يصلّي و يومئ برأسه إيماء و إن كان الأسد على خلاف القبلة»(1).

و حينئذ فهل يجب التوجّه إلى الأقرب إلى القبلة فالأقرب لأنّ للقرب أثرا عند الشارع و لهذا افترقت الجهات في الاستدراك لو ظهر خطأ في الاجتهاد، أو لا للخروج عن القبلة فتتساوى الجهات، أو يجب تحرّي ما بين المشرق و المغرب دون باقي الجهات لتساويها في الاستدراك لو ظهر خطأ الاجتهاد و لقولهم عليهم السّلام: «ما بين المشرق و المغرب قبلة»(2) أو يجب جعل صوب الطريق بدلا من القبلة لأنّ المصلّي لا بدّ أن يستمرّ على جهة واحدة لئلاّ يتوزّع فكره و لمّا كان الطريق في الغالب من معاطف يلقاها السالك يمنة و يسرة فيتبعه كيف كان للحاجة ؟ وجوه، قيل: بالأوّل(3) و قيل: بالثاني(4) و الثالث ما قوّاه في المدارك(5) و تبعه في الذخيرة(6) و الرابع محكيّ عن النهاية(7) و استحسنه في المدارك قال: «إلاّ أنّ وجهه لا يبلغ حدّ الوجوب»(8). و الكلّ ضعيف ما عدى الثاني مدافع للأصل و إطلاق النصوص فلا يلتفت إليها، و الوجوه المذكورة اعتبارات و استحسانات لا يمكن التعويل عليها في الخروج عن الأصل، و رواية ما بين المشرق و المغرب محمولة على غير ما نحن فيه، و هو من أخطأ في اجتهاده فصلّى إلى ما عدى القبلة ممّا بين المشرق و المغرب، فالتعدّي عنه إلى ما نحن فيه مع عدم اشتباه القبلة فيه قياس.

المسألة الخامسة: في أنّ الماشي في الفريضة كالراكب في أكثر الأحكام المتقدّمة فلا يجوز له الإتيان بالفريضة حال المشي اختيارا قولا واحدا، و في المنتهى «عند أهل العلم كافّة» و لو اضطرّ إليه لخوف عن اللصّ أو السبع أو العدوّ أو ضرورة اخرى جاز فعلها ماشيا مراعيا للأفعال و الشروط بأجمعها حتّى الاستقبال مهما أمكن عدى الاستقرار لعدم إمكانه حال المشي، و الركوع و السجود فيومئ لهما إيماء، و يجعل السجود أخفض من الركوع، فلو تعذّر الاستقبال مطلقا سقط اعتباره. و في المنتهى بعد ذكر هذه الأحكام «ذهب إليه علماؤنا أجمع»(9).

ص: 361


1- الوسائل 2/439:8، ب 3 من أبواب صلاة الخوف، الكافي 7/459:3.
2- الوسائل 1/314:4، ب 10 من أبواب القبلة، الفقيه 846/179:1.
3- كما في الذكرى 192:3.
4- كما في المنتهى 172:4.
5- المدارك 141:3.
6- الذخيرة: 218.
7- نهاية الإحكام 405:1.
8- المدارك 141:3.
9- المنتهى 191:4.

و المستند في أصل الجواز مع الاضطرار بعد الإجماع قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجٰالاً أَوْ رُكْبٰاناً (1) أي إن خفتم لصّا أو سبعا أو غير ذلك فصلّوا راجلين أو راكبين، مضافا إلى إطلاق صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يخاف من لصّ أو سبع كيف يصلّي ؟ قال: يكبّر و يؤمي برأسه»(2) و أمّا المستند في مراعاة الاستقبال بما أمكن، فعموم قوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (3) و أمّا سقوطه مع العجز فوجهه واضح.

ثمّ قضيّة إطلاق الآية و الروايات في كلّ من الراكب و الماشي كإطلاق فتاوي الأصحاب عدم الفرق في الرخصة بين سعة الوقت و ضيقه سيّما مع ملاحظة ترك الاستفصال في الروايات. خلافا للشرائع(4) فقيّد الرخصة في الماشي بضيق الوقت مع أنّه أطلق في الراكب، و وجهه غير واضح، و كون مبناه على عدم جواز البدار لذوي الأعذار و وجوب الانتظار لضيق الوقت - على تقدير صحّته - يقتضي عدم الفرق بين المقامين، و لذا قد يحتمل فيه البناء على الاحتياط و الأولويّة.

فالحقّ جواز البدار و عدم وجوب الانتظار سواء علم بعدم زوال العذر في تمام الوقت أو بزواله فيما بعد أو شكّ فيهما عملا بإطلاق النصوص و ترك الاستفصال في أكثرها، خصوصا ما في صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة من قوله عليه السّلام: «يستقبل الأسد و يصلّي و يومئ برأسه إيماء» بعد ما في السؤال من قوله: «و قد حضرت الصلاة» مع ظهوره في حضور وقت الصلاة على معنى كونه في ابتداء الوقت، فترخيصه عليه السّلام من غير استفصال يقتضي ما ذكرناه من الإطلاق.

و لو دار الأمر بين فعل الفريضة راكبا أو ماشيا مع التمكّن منهما ففي التخيير بينهما عملا بإطلاق قوله تعالى: فَرِجٰالاً أَوْ رُكْبٰاناً (5) أو ترجيح المشي لحصول ركن القيام، أو ترجيح الركوب لكون الراكب مستقرّا بالذات و إن تحرّك بالعرض بخلاف الماشي، أو تقديم أكثرهما استيفاء للأفعال، و مع التساوي فالتخيير، وجوه.

ص: 362


1- البقرة: 239.
2- الوسائل 9/442:8، ب 3 من أبواب صلاة الخوف، الكافي 6/457:3.
3- البقرة: 144.
4- الشرائع 67:1.
5- البقرة: 239.

استجود في المدارك(1) الأخير، و ليس ببعيد، و ربّما يشهد له الصحيحة المرويّة عن الكافي عن محمّد بن إسماعيل قال: «سألته فقلت: أكون في طريق مكّة فننزل للصلاة في مواضع فيها الأعراب، أ نصلّى المكتوبة على الأرض فنقرأ امّ الكتاب وحدها؟ أم نصلّي على الراحلة فنقرأ فاتحة الكتاب و السورة ؟ فقال: إذا خفت فصلّ على الراحلة المكتوبة و غيرها و إذا قرأت الحمد و سورة أحبّ إليّ و لا أرى بالّذي فعلت بأسا»(2) رجّح عليه السلام الركوب مراعاة لدرك الحمد و السورة ترجيحا له على قراءة الحمد وحدها، غير أنّه لا يقضي بتعيّنه بل غايته الرجحان لمكان قوله عليه السّلام: «أحبّ إليّ » و ربّما يستفاد منه التخيير مع رجحان ما ذكر لمكان قوله عليه السّلام: «و لا أرى بالّذي فعلت بأسا» لظهوره في أنّ ما فعله السائل عند الابتلاء خلاف ما رجّحه عليه السّلام. فالأقوى حينئذ هو التخيير مع رجحان تقديم الأكثر استيفاء للأفعال مع أنّه أحوط.

المسألة السادسة: في فعل الفريضة في السفينة. و قبل الخوض في نقل الخلاف و الوفاق ينبغي أن يعلم أنّ السفينة التي يصلّى فيها الفريضة إمّا سائرة أو واقفة، و على التقديرين فالمصلّي إمّا أن يكون مأمونا عن الحركة الفاحشة المنافية للاستقرار أو لا، و على التقادير فإمّا أن يتمكّن من استيفاء سائر أفعال الصلاة و شروطها حتّى الاستقبال أو لا، و على التقادير فإمّا أن يكون مختارا أو مضطرّا، ففي المقام ستّة عشر صور أو أزيد.

و قد اختلف الأصحاب في جواز الفريضة في السفينة، فقيل بجوازها اختيارا كما عن ابن بابويه(3) و ابن حمزة(4) و عزي إلى ظاهر العلاّمة(5) في أكثر كتبه، و اختاره صاحب المدارك(6) و الذخيرة(7). و قيل بالمنع إلاّ لضرورة كما عن أبي الصلاح(8) و ابن إدريس(9)و استقر به الشهيد في الذكرى و حكى فيها عن كثير من الأصحاب أنّهم نصّوا على الجواز و لم يذكروا الاختيار(10) لكن قد يقال: إنّه يلوح من الجمل(11) و المراسم(12) و الكافي(13)

ص: 363


1- المدارك 142:3.
2- الوسائل 1/449:8، ب 6 من أبواب صلاة الخوف، الكافي 5/457:3.
3- الهداية: 148، المقنع: 37.
4- الوسيلة: 115.
5- القواعد 253:1، و المنتهى 202:4، و التذكرة 34:3.
6- المدارك 144:3.
7- الذخيرة: 217.
8- الكافي في الفقه: 147.
9- السرائر 336:1.
10- الذكرى 191:3.
11- جمل العلم و العمل (رسائل الشريف المرتضى) المجموعة الثالثة: 47.
12- المراسم: 76.
13- الكافي في الفقه: 147.

و الغنية(1) و السرائر(2) اختصاصه بحال الضرورة، بل في محكيّ الدروس «إنّ ظاهر الأصحاب أنّ الصلاة في السفينة مقيّدة بالضرورة»(3).

فظهر أنّها في حال الضرورة بجميع صورها الثمانية خارجة عن محلّ الخلاف لاتّفاق الأصحاب على الجواز فيها مطلقا، لكن ينبغي أن يقيّد بوجوب مراعاة الأفعال بقدر الإمكان و مراعاة الشروط حتّى الاستقبال بما أمكن، فلا يعدل مع الإمكان عن القيام إلى القعود و عن الركوع و السجود بالطريق المعهود إليهما إيماء و لا عن الاستقبال إلى غير القبلة.

و أمّا الاختيار فإطلاق المجوّزين على ما تقدّم يقتضي عدم الفرق فيه بين صوره الثمانية، كما أنّ إطلاق منع المانعين يقتضي المنع في الجميع، اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّه يظهر من استدلالهم على المنع بأنّ القرار ركن في القيام و حركة السفينة تمنع عن ذلك و بكثرة الحركات الخارجة عن الصلاة كما في الذكرى(4) و المسالك(5) و عن حاشية الميسي(6)و روض الجنان(7) و مجمع البرهان(8).

و دفع المجوّزين لذلك بأنّها حركة عرضيّة و المصلّي ساكن بالذات أنّ منعهم إنّما هو في صورة فوات الاستقرار بسبب حركة السفينة، سواء كان المراد بحركتها ما هو في حال السير أو أعمّ منها و ممّا كان حال الوقوف على وجه الماء باعتبار كونها مضطربة، فإذا منعوا عنها لمجرّد فوات الاستقرار فلو استلزمت فوات سائر الأفعال كالركوع و السجود أو سائر الشرائط كالاستقبال و لو بالبعض فهو أولى بالمنع.

و قرينة المقابلة مع صون النزاع عن خروجه لفظيّا يقتضي كون نظر المجوّزين أيضا في صورة فوات الاستقرار بسبب حركة السفينة مع اتّفاقهم مع المانعين على المنع في صورة فوات الاستقبال أو سائر الأفعال غير الاستقرار كاتّفاق المانعين مع المجوّزين على الجواز في صورة وقوف السفينة بل سيرها أيضا مع أمن المصلّي من الحركة المانعة عن الاستقرار و تمكّنه من استيفاء الأفعال و الشروط حتّى الاستقبال بالجميع كما ينبّه عليه ما في جامع المقاصد(9) من دعوى الاتّفاق على الجواز في السفينة الواقعة مع عدم الحركات الفاحشة.

و ممّا ينبّه كون محلّ النزاع هو صورة حركة السفينة الموجبة لعدم استقرار المصلّي

ص: 364


1- الغنية: 92.
2- السرائر 336:1.
3- الدروس 161:1.
4- الذكرى 191:3.
5- المسالك 159:1.
6- حاشية الميسي: نقله عنها في مفتاح الكرامة 356:5.
7- روض الجنان 520:2.
8- مجمع الفائدة و البرهان 65:2.
9- جامع المقاصد 64:2.

عبارة المسالك حيث إنّه بعد ما اختار القول بعدم جواز الفريضة على الراحلة اختيارا و استدلّ عليه بصحيحة عبد الرحمن المتقدّمة قال: «و في حكمها السفينة المتحرّكة مع التمكّن من مكان مستقرّ في غيرها، و لو اضطرّ إلى الصلاة فيها فكالدابّة في وجوب مراعاة الاستقبال و استيفاء الأفعال بحسب الإمكان»(1).

و يظهر من جامع المقاصد أنّ محلّ النزاع هو السفينة السارية و أنّ منشأه الاختلاف في استلزامها الحركات الكثيرة للمصلّي و عدمه، و يلزمه الاتّفاق على الجواز على تقدير عدم حصولها و على عدم الجواز على تقدير حصولها، فالنزاع حينئذ في الصغرى، بل ربّما يوهم عبارته كون النزاع لفظيّا حيث إنّه - بعد عبارة القواعد «و يجوز في السفينة السائرة و الواقفة» - قال: المراد اختيارا بشرط عدم الانحراف عن القبلة و عدم الحركة المخلّة بالطمأنينة، و هذا أصحّ القولين لقول الصادق عليه السّلام و قد قال جميل بن درّاج له: تكون السفينة قريبة من الجدد فأخرج فاصلّي ؟ فقال: «صلّ فيها أما ترضى بصلاة نوح عليه السّلام»(2) و غيرها(3)و لأنّ المصلّي مطمئنّ في نفسه لأنّه المفروض متمكّن في مكانه و إن كان منتقلا تبعا لانتقال مكانه، و لأنّ المعتبر في الصلاة و هو الطمأنينة حاصل فأشبه الصلاة على السرير، و منع شيخنا(4) من الصلاة في السفينة السائرة اختيارا، معلّلا بحصول الحركات الكثيرة الخارجة من الصلاة، و لقول الصادق عليه السّلام: «إن استطعتم أن تخرجوا إلى الجدد فاخرجوا»(5) و الأمر للوجوب. و جوابه: أنّ المفروض في محلّ النزاع عدم الحركات الكثيرة، و يحمل الأمر هنا على الاستحباب جمعا بين هذه الرواية و غيرها. أمّا السفينة الواقفة فيجوز اتّفاقا مع عدم الحركات الفاحشة، و معها لا يجوز مطلقا إلاّ عند الضرورة، لوجود المنافي، انتهى(6).

بل هذه العبارة أظهر في لفظيّة النزاع لأنّ المجوّز يجوّز بفرض عدم الحركة للمصلّي النافية للطمأنينة، و المانع يمنع بتوهّم حصول الحركات الكثيرة له، و هو بعيد جدّا إلاّ أن يوجّه بأنّ كلامهم مفروض فيما لم يتحقّق هناك حركتان، إحداهما حركة السفينة و الاخرى حركة المصلّي المعلولة من حركة السفينة، نظير حركة اليد مع حركة المفتاح اللتين لهما

ص: 365


1- المسالك 159:1.
2- الوسائل 3/320:4، ب 13 من أبواب القبلة، الفقيه 1323/291:1.
3- الفقيه 1324/291:1.
4- الذكرى 190:3.
5- الوسائل 14/323:4، ب 13 من أبواب القبلة، التهذيب 374/17:3.
6- جامع المقاصد 63:2-64.

وجودان، و اولاهما علّة للاخرى، بل كانت حركة واحدة يصحّ إسنادها إلى السفينة أصالة و إلى المصلّى تبعا، و هي حركة واحدة يصحّ إسنادها إلى الجالس أيضا بواسطتها من دون أن يكون هو أيضا متحرّكا بحركة اخرى مغايرة للحركة الاولى.

و يمكن أن يحمل الحركة العرضيّة في كلام المجيب عن استدلال المانع بما تقدّم، على إرادة هذا المعنى أيضا، فمرجع النزاع حينئذ إلى كون هذه الحركة التبعيّة أيضا مخلّة بصحّة الصلاة على معنى اشتراطها بعدم تلك الحركة و عدمه. فنتصوّر في محلّ النزاع وجهان، أحدهما: كون النزاع في الحركة العرضيّة العارضة للمصلّي بواسطة حركة السفينة المسبّبة عنها، فالمجوّز يدّعي أنّها مغتفرة في الصلاة و المانع يمنعه. و ثانيهما: كون النزاع في الحركة التبعيّة، و هي الحركة الواحدة المسندة إلى السفينة أصالة و إلى المصلّي تبعا، فالمانع يدّعي كونها أيضا قادحة و المجوّز يمنعه.

و يظهر كون النزاع في هذا المعنى من السيّد الكاظمي في شرحه للدروس قائلا:

«و الأصحّ جواز الفريضة اختيارا بشرط الأمن من الانحراف عن القبلة و عدم الحركة المخلّة بالطمأنينة، و أمّا أصل الحركة الحاصلة من سير السفينة فهي غير مخلّة بالطمأنينة لكونها عرضيّة بالنسبة إلى المصلّي كما قاله العلاّمة(1) و إنّما المخلّ بها الحركات الحاصلة عند تلاطم الأمواج و الرياح مثلا، قال: و بما ذكرنا يندفع الدليل العقلي الّذي ذكره على المنع»(2) يعني الشهيد في الذكرى(3).

و قد يقال في المقام: إنّ المراد بالصلاة في السفينة الّتي لا يعلم فوات الأفعال المزبورة منها ابتداء، أمّا المعلومة فلا إشكال في عدم الجواز فيها اختيارا لما ذكر، و حينئذ فالشارع في الصلاة في السفينة برجاء التمكّن منها تامّة الأفعال إذا عرض له في الأثناء ما لا يتمكّن معه من ذلك انقلب تكليفه، لاضطراره بالتلبّس بالصلاة المحرّم قطعها، و لمعلوميّة مراعاة حالي الاختيار و الاضطرار في كلّ جزء من الصلاة، فالصحيح لو عرض له ما يقتضي الجلوس في الأثناء جلس، كما أنّ المريض يقوم لو اتّفق له الصحّة لذلك، و ليس في هذا معارضة لوجوب هذه الأفعال انتهى(4).

ص: 366


1- القواعد 253:1.
2- شرح الدروس 705:1.
3- الذكرى 191:3.
4- الجواهر 699:7.

و هذا الكلام يحتمل وجهين، أحدهما: كون محلّ النزاع ما لم يعلم فوات بعض ما يعتبر في الصلاة من الاستقرار و الاستقبال و الركوع و السجود بفعلها في السفينة، فالمجوّز يدّعي جواز ذلك لا غير و المانع يمنعه. و ثانيهما: أن يكون مراد المجوّزين تجويزه في هذه الصورة لا غير، و المانعين منعها في صورة علم ابتداء فواتها.

و قضيّة هذا الوجه كون النزاع لفظيّا أيضا، و لا خفاء في بعده كبعد الوجه الأوّل، لما عرفت من أنّ ظاهر كلماتهم في الاستدلال و ردّه و النقض و الإبرام، كون النزاع في صورة العلم بفوات الاستقرار في ابتداء الصلاة، هذا مع تطرّق المنع من جواز الشروع فيها في السفينة، و رجاء التمكّن منها تامّة الأفعال، لجواز القول باشتراط كون الشروع في الصلاة في مكان يطمئنّ المكلّف باستيفاء تمام أفعالها، و لا يكفي فيه مجرّد رجاء ذلك و احتماله، و لو سلّم جوازه بدون الاطمئنان فيتوجّه المنع إلى انقلاب التكليف بعروض ما يوجب عدم التمكّن في الأثناء.

و دعوى: حصول الاضطرار بسبب التلبّس بالصلاة المحرّم قطعها، يدفعها: أنّ الاضطرار حينئذ لا يتأتّى إلاّ على تقدير تحريم قطعها، و هو ممنوع لأنّ قضيّة اشتراط الاستقرار أو الاستقبال في الصلاة بطلانها بفواته إلاّ في حقّ المضطرّ، و ببطلانها تنقطع الصلاة قهرا، لا أنّه قطع من المكلّف اختيارا ليكون محرّما.

و بالجملة هذا بعد فوات الشرط بطلان لا إبطال، فصيرورته مضطرّا حينئذ فرع على تحريم القطع، و هو في مفروض المسألة منتف بمقتضى دليل الاشتراط. و لا يقاس ما نحن فيه على الصحيح الّذي عرضه في أثناء الصلاة مرض يوجب عدوله عن القيام إلى القعود، لأنّه ثبت بالأدلّة كون المرض الموجب لعدم التمكّن من القيام مثلا عذرا، سواء عرض قبل الشروع في الصلاة أو في أثنائها، و نحوه غير موجود في المقام، لأنّ كون طروء عدم التمكّن من الاستقرار أو الاستقبال في أثناء الصلاة في السفينة عذرا مسقطا لاعتبارهما في حقّ هذا المكلّف أوّل المسألة.

فالأظهر في موضع النزاع هو الّذي قرّرناه بأحد الوجهين، و الأقرب بل الأظهر فيه المنع بكلّ من الوجهين، للصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن حمّاد بن عيسى قال:

«سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يسأل عن الصلاة في السفينة ؟ فيقول: إن استطعتم أن تخرجوا إلى

ص: 367

الجدد فاخرجوا، فإن لم تقدروا فصلّوا قياما، فإن لم تستطيعوا فصلّوا قعودا، و تحرّوا القبلة»(1). و يؤيّده رواية عليّ بن إبراهيم قال: «سألته عن الصلاة في السفينة ؟ قال: يصلّي و هو جالس إذا لم يمكنه القيام في السفينة، و لا يصلّي في السفينة و هو يقدر على الشط»(2).

و لا داعي لحمل الأمر في الأوّل على الاستحباب، و النهي في الثاني على الكراهة كما صنعه المجوّزون، إلاّ توهّم الجمع بينهما و بين معارضهما و ستعرف منع المعارضة.

و احتجّ المجوّزون بصحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه قال له: يكون السفينة قريبة من الجدد فأخرج فاصلّي ؟ فقال صلّ فيها، أما ترضى بصلاة نوح عليه السّلام»(3).

و رواية جميل بن درّاج أيضا بسند غير نقي بعليّ بن السندي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في السفينة ؟ فقال: إنّ رجلا أتى أبي فقال إنّي أكون في السفينة و الجدد منّي قريب فأخرج فاصلّي عليه ؟ فقال له أبو جعفر عليه السّلام: أما ترضى أن تصلّي بصلاة نوح عليه السّلام»(4).

و فيه: أنّ من الواضحات أنّ صلاة نوح عليه السّلام في السفينة كانت اضطراريّة، فاستدلال الإمام عليه السّلام بها لمحلّ السؤال لا يصحّ إلاّ بكونه أيضا من محلّ الاضطرار، و عليه فيكون المراد من كون السفينة قريبة من الجدد كونها في حال السير على الماء مع قرب وصولها إلى الجدد، و وجه السؤال حينئذ كون الأمر في نظر الراوي دائرا بين فعل الفريضة من حينه على تلك الحالة أو تأخيرها و الصبر عنها للوصول إلى الجدد حتّى يخرج و يصلّيها على الأرض، و مرجعه إلى مسألة ذوي الأعذار و دوران الأمر فيها بين البدار أو الانتظار لزوال العذر، فالسؤال في الحقيقة وقع عن جواز البدار أو وجوب الانتظار، فشبهة السائل إنّما كانت فيه مع اعتقاده بعدم جواز الفريضة في السفينة من غير عذر و بجوازها مع العذر.

و ممّا يشهد بذلك من النصوص صحيحة أبي أيّوب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا ابتلينا و كنّا في سفينة فأمسينا و لم نقدر على مكان نخرج فيه، فقال أصحاب السفينة: ليس نصلّي يومنا ما دمنا نطمع في الخروج، فقال: إنّ أبي كان يقول: تلك صلاة نوح عليه السّلام أو ما ترضى أن تصلّي صلاة نوح عليه السّلام ؟ فقلت: بلى جعلت فداك، قال: لا يضيقنّ صدرك، فإنّ

ص: 368


1- الوسائل 14/323:4، ب 13 من أبواب القبلة، التهذيب 374/170:3.
2- الوسائل 8/321:4، ب 13 من أبواب القبلة، التهذيب 375/170:3.
3- الوسائل 3/320:4، ب 13 من أبواب القبلة، الفقيه 1323/291:1.
4- الوسائل 10/322:4، ب 13 من أبواب القبلة، التهذيب 897/296:3.

نوحا عليه السّلام قد صلّى في السفينة، قال: قلت: قائما أو قاعدا؟ قال: بل قائما، قال: قلت: فإنّي ربّما استقبلت القبلة فدارت السفينة قال تحرّ القبلة بجهدك»(1).

فإنّ هذه الرواية تكشف بصراحتها عن صحّة ما قلناه في معنى الصحيحة، بضابطة: أنّ أخبار الأئمّة عليهم السّلام تفسّر بعضها بعضا، مضافا إلى ظهور الصحيحة بنفسها في ذلك بقرينة استدلاله عليه السّلام بصلاة نوح عليه السّلام، فدلّت الروايتان على الحكم في مسألة ذوي الأعذار، و أنّه يجوز لهم البدار و لا يجب عليهم الانتظار، مع دلالتهما على كون معتقد الراويين فيهما وجوب الخروج من السفينة للفريضة على الأرض إذا لم يكن هناك عذر، و تقرير الإمام عليه السّلام لهما على ذلك المعتقد يدلّ على صحّته و مطابقته الواقع.

و ليس لأصحاب القول بالجواز دليل آخر سوى جملة من الروايات الاخر غير واضحة الدلالة و غير نقيّة السند، فيما كان دلالته واضحة مثل ما في المدارك(2) حيث إنّه بعد الاستدلال بالصحيحة المذكورة استدلّ أيضا بصحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «قال: سألته عن صلاة الفريضة في السفينة و هو يجد الأرض يخرج إليها غير أنّه يخاف السبع و اللصوص، و يكون معه قوم لا يجتمع آرائهم على الخروج و لا يطيعونه، و هل يضع وجهه إذا صلّى أو يومئ إيماء أو قاعدا أو قائما؟ فقال: إن استطاع أن يصلّي قائما فهو أفضل، و إن لم يستطع صلّى جالسا، و قال: لا عليه أن لا يخرج، فإنّ أبي سأله عن مثل هذه المسألة رجل، فقال: أ ترغب عن صلاة نوح عليه السّلام»(3).

و صحيحة معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في السفينة ؟ فقال:

تستقبل القبلة بوجهك ثمّ تصلّي كيف دارت، تصلّي قائما فإن لم تستطع فجالسا تجمع الصلاة فيها إن أراد، و يصلّي على القير و القفر و يسجد عليه»(4).

و حسنة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه سئل عن الصلاة في السفينة ؟ فقال:

يستقبل القبلة، فإذا دارت فاستطاع أن يتوجّه إلى القبلة فليفعل، و إلاّ فليصلّ حيث توجّهت به، قال: فإن أمكنه القيام فليصلّ قائما و إلاّ فليقعد ثمّ يصلّي»(5).

ص: 369


1- الوسائل 9/506:5، ب 14 من أبواب القيام، التهذيب 376/170:3.
2- المدارك 144:3.
3- الوسائل 4/505:5، ب 14 من أبواب القيام، التهذيب 893/295:3.
4- الوسائل 8/506:5، ب 14 من أبواب القيام، التهذيب 895/295:3.
5- الوسائل 13/322:4، ب 13 من أبواب القبلة، التهذيب 903/297:3.

و في الجميع ما لا يخفى:

أمّا الاولى: فلاختصاصها صدرا و ذيلا بالمضطرّ، أمّا الصدر فلمكان الخوف عن السبع و اللصوص، و أمّا الذيل فلمكان الاستدلال بصلاة نوح عليه السّلام. و أمّا الأخيرتان فلتضمّنهما بيان الكيفيّة الكاشف عن وقوع السؤال عن ذلك لا غير، و أمّا أنّه كان مختارا أو مضطرّا فلا تعرّض فيهما لذلك أصلا إن لم نقل بظهورهما في الثاني.

و نحوه الجواب عن الاستدلال بالصحيح المرويّ في الفقيه عن عليّ بن جعفر و عن زيادات التهذيب عن عليّ بن يقطين عن الكاظم عليه السّلام «عن الرجل يكون في السفينة هل يجوز له أن يضع الحصير على المتاع أو القتّ (1) و التبن و الحنطة و الشعير و غير ذلك ثمّ يصلّي عليه ؟»(2) فإنّ الجواب إذا ورد على طبق السؤال فلا يحصل له إطلاق بالقياس إلى غير محلّ السؤال. و اعتقاد الراويين بالجواز مع تقرير الإمام عليه السّلام على معتقدهما لا يجدي نفعا في ثبوته لحال الاختيار، لجواز كون محلّ السؤال من صور الاضطرار.

و نحوه الكلام في صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بالصلاة في جماعة في السفينة(3)» بظهوره في بيان حكم الصلاة في جماعة في السفينة لا بيان حكم الصلاة في السفينة، فيبقى بالنسبة إليه مجملا.

نعم في المرويّ في الفقيه عن يونس بن يعقوب، و عن زيادات التهذيب عن مفضّل بن صالح «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في الفرات، و ما هو أصغر منه من الأنهار في السفينة، و هو يقدر على الجدّ؟ قال: نعم لا بأس»(4) و له باعتبار الإطلاق دلالة واضحة، بل ربّما يكون صريحا في الاختيار، لكن في طريق الأوّل على ما قيل محمّد بن سنان، و في طريق الثاني كما عرفت مفضّل(5) بن صالح، و هو ضعيف و من الكذّابين، كما قيل بنحوه في شأن الأوّل(6).

ص: 370


1- القتّ : الفصفصة إذا يبست و يقال له بالفارسيّة اسفست (يونجه).
2- الفقيه 1327/458:1، التهذيب 896/296:3.
3- الوسائل 9/322:4، ب 13 من أبواب القبلة، التهذيب 899/296:3.
4- الوسائل 5/321:4، ب 13 من أبواب القبلة، الفقيه 1327/292:1، التهذيب 905/298:3.
5- انظر معجم رجال الحديث 284:18.
6- انظر معجم رجال الحديث 383:16، تنقيح المقال 124:3.

و قد ظهر من تضاعيف الكلام في المسألة، أنّه لا إشكال فتوى و دليلا في جواز الفريضة في السفينة إذا اضطرّ إليه، لكن يجب حينئذ مراعاة الأفعال و الشروط بقدر الإمكان، فلا يجزئ القعود مع التمكّن من القيام، و لا الإيماء بالركوع و السجود مع التمكّن منهما، و لا الانحراف عن القبلة مع التمكّن من استقبالها.

و يدلّ عليه - مع عمومات أدلّة هذه الأفعال خصوصا عموم قوله عليه السّلام: «لا صلاة إلاّ إلى القبلة»(1) بالقياس إلى الاستقبال - ما رواه في الفقيه في الصحيح باسناده عن الحلبي «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في السفينة ؟ فقال: يستقبل القبلة، و يصفّ رجليه، فإذا دارت و استطاع أن يتوجّه إلى القبلة و إلاّ فليصلّ حيث توجّهت به، و إن أمكنه القيام فليصلّ قائما، و إلاّ فليقعد ثمّ يصلّي»(2).

و المرويّ عن الكافي و زيادات التهذيب - في الصحيح أو الحسن المتقدّم - عن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه سئل عن الصلاة في السفينة فقال: يستقبل القبلة، فإذا دارت فاستطاع أن يتوجّه إلى القبلة فليفعل، و إلاّ فليصلّ حيث توجّهت به، قال: فإن أمكنه القيام فليصلّ قائما، و إلاّ فليقعد ثمّ ليصلّ »(3).

و بالتأمّل فيهما يظهر ترجيح الاستقبال على الاستقرار الّذي بحركته الاختياريّة زائدة على الحركة الاضطراريّة العارضة من جهة السفينة عند دوران الأمر بينهما فيما إذا استقبل القبلة في أوّل الاشتغال ثمّ انحرفت السفينة عنها، و حينئذ يجب عليه أن يدور إلى القبلة كيف ما دارت السفينة إذا أمكن، و لا يكتفي بالاستقبال في أوّل الاشتغال.

و يدلّ عليه مضافا إليهما، ما تقدّم في صحيحة أبي أيّوب من قوله: «فإنّي ربّما استقبلت القبلة فدارت السفينة، قال: تحرّ القبلة بجهدك»(4).

و رواية سليمان بن خالد قال: «سألته عن الصلاة في السفينة ؟ فقال: يصلّي قائما فإن لم يستطع القيام فليجلس و يصلّي و هو مستقبل القبلة، فإن دارت السفينة فليدر مع القبلة إن قدر على ذلك، و إن لم يقدر على ذلك فليثبت على مقامه»(5).

ص: 371


1- الوسائل 9/300:4، ب 2 من أبواب القبلة، الفقيه 855/180:1.
2- الوسائل 1/320:4، ب 13 من أبواب القبلة، الفقيه 1322/291:1.
3- الوسائل 13/323:4، ب 13 من أبواب القبلة، الكافي 2/441:3، التهذيب 903/297:3.
4- الوسائل 9/506:5، ب 14 من أبواب القيام، التهذيب 376/170:3.
5- الوسائل 10/506:5، ب 14 من أبواب القيام، التهذيب 377/171:3.

و في بعض الروايات ما يدلّ على الاكتفاء به في أوّل الاشتغال، مثل صحيحة معاوية بن عمّار المتقدّمة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في السفينة ؟ فقال: تستقبل القبلة بوجهك، ثمّ تصلّي كيف دارت»(1).

و موثّقة يونس بن يعقوب المرويّة عن الزيادات قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة المكتوبة في السفينة و هي تأخذ شرقا و غربا؟ فقال: استقبل القبلة، ثمّ كبّر، ثمّ اتّبع السفينة و در معها حيث دارت بك»(2).

و هما - مع إمكان منع دلالتهما على خلاف ما تقدّم، و لا سيّما الموثّقة لقوّة احتمال عود الضمير إلى القبلة - محمولتان على الاضطرار و عدم القدرة على الدور مع القبلة هذا، مع اعتضاد ما تقدّم بالكثرة و صراحة الدلالة، و موافقة العمومات و الاعتبار و غير ذلك.

ص: 372


1- الوسائل 8/506:5، ب 14 من أبواب القيام، التهذيب 895/295:3.
2- الوسائل 6/321:4، ب 13 من أبواب القبلة، الفقيه 1328/292:1.
المبحث الثاني في تعيين ما يجب استقباله
اشارة

هل هو الكعبة للقريب المتمكّن من العلم بها من غير مشقّة كثيرة عادة كالمصلّي في بيوت مكّة وجهتها للبعيد أو الكعبة لأهل المسجد، و المسجد لأهل الحرم، و الحرم لمن كان خارجا عنه ؟

فيه قولان: ذهب إلى ثانيهما الشيخ في المبسوط(1) و النهاية(2) و الخلاف(3) على ما حكي، و عزي إلى جماعة منهم سلاّر(4) و ابن البرّاج(5) و ابن حمزة(6) و ربّما عزي(7) إلى أكثر قدماء الأصحاب، و اختاره المحقّق في الشرائع(8) و عن الطبرسي في مجمع البيان(9)نسبته إلى الأصحاب، مؤذنا بدعوى الإجماع، بل عن الخلاف(10) الإجماع عليه، و ربّما عزي(11) المصير إلى المفيد(12) إن سلم عن المناقشة.

و إلى أوّلهما السيّد المرتضى(13) و ابن الجنيد(14) و أبي الصلاح(15) و ابن إدريس(16)

ص: 373


1- المبسوط 77:1.
2- النهاية: 62.
3- الخلاف 295:1.
4- المراسم: 60.
5- المهذّب 84:1.
6- الغنية: 68.
7- كالشهيدان في الذكرى 159:3 و روض الجنان 513:2.
8- الشرائع 65:1.
9- مجمع البيان 227:1.
10- الخلاف 295:1.
11- كالعلاّمة في المختلف 60:2، و ابن فهد في المهذّب البارع 307:1.
12- المقنعة: 95.
13- الجمل و العقود: 61.
14- نقله عنه في المختلف 61:2.
15- الكافي في الفقه: 138.
16- السرائر 204:1.

و المحقّق في المعتبر(1) و النافع(2) و أكثر المتأخّرين(3) بل قيل(4) عامّة المتأخّرين، و عن كنز العرفان(5) الإجماع عليه، و في المعتبر(6) إجماع العلماء على وجوب استقبالها لمن هو مشاهد لها، و في الذخيرة(7) الظاهر أنّه لا خلاف بين الفريقين في وجوب التوجّه إلى الكعبة للمشاهد و من هو بحكمه و إن كان خارج المسجد، و قد صرّح به من أصحاب القول الثاني الشيخ في المبسوط(8) و ابن زهرة في الغنية(9).

و مستند القول الأوّل - بعد قاعدة الشغل اليقيني المقتضي ليقين البراءة الّذي لا يحصل إلاّ بذلك - موثّقة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سأله رجل، قال: صلّيت فوق أبي قبيس العصر، فهل يجزئ ذلك و الكعبة تحتي ؟ قال: نعم إنّها قبلة من موضعها إلى السماء»(10) صرّح عليه بكونها قبلة، و إطلاقه يشمل من كان في المسجد و من خرج عنه، كما في مورد الرواية، مضافا إلى تقريره عليه السّلام السائل على معتقده من كون الكعبة قبلة مطلقا كما هو ظاهر السؤال.

و رواية عليّ بن إبراهيم بإسناده إلى الصادق عليه السّلام «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى بمكّة إلى بيت المقدس ثلاث عشر سنة، و بعد هجرته صلّى بالمدينة إليه سبعة أشهر ثمّ وجّهه اللّه إلى الكعبة، و ذلك أنّ اليهود كانوا يعيّرون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقولون له أنت تابع لنا أن تصلّي إلى قبلتنا، فاغتمّ لذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و خرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من اللّه عزّ و جلّ في ذلك أمرا، فلمّا أصبح و حضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين، فنزل جبرئيل عليه السّلام فأخذ بعضده و حوّله إلى الكعبة، و أنزل عليه قَدْ نَرىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّمٰاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضٰاهٰا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (11) و كان قد صلّى ركعتين إلى بيت المقدس و ركعتين

ص: 374


1- المعتبر 65:2.
2- المختصر النافع: 23.
3- كالشهيد في البيان: 53، و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 48:2، و الشهيد الثاني في المسالك 1: 21 و روض الجنان 513:2. و الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 66، و كشف الالتباس (مخطوط) 87 و المدارك 119:3 و مجمع الفائدة و البرهان 57:2 و كفاية الأحكام: 15 و الرياض 111:3.
4- الجواهر 517:7، و مستند الشيعة 156:4.
5- كنز العرفان 85:1.
6- المعتبر 65:2.
7- الذخيرة: 213.
8- المبسوط 77:1.
9- الغنية: 68.
10- الوسائل 1/339:4، ب 18 من أبواب القبلة، التهذيب 1598/383:2.
11- البقرة: 144.

إلى الكعبة»(1). و نحوه ما أرسله الفقيه مع تفاوت يسير في بعض ألفاظه.

و موثّقة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت: متى صرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الكعبة ؟ فقال: بعد رجوعه من بدر»(2) و في طريق هذه الرواية عليّ بن الحسن الطاطري و هو واقفي إلاّ أنّه ثقة.

و موثّقة أبي بصير عن أحدهما عليهما السّلام «في قوله تعالى: سَيَقُولُ اَلسُّفَهٰاءُ (3) إلى أن قال:

إنّ بني عبد الأشهل أتوهم و هم في الصلاة قد صلّوا ركعتين إلى بيت المقدس، فقيل لهم إنّ نبيّكم قد صرف إلى الكعبة فتحوّل النساء مكان الرجال، و الرجال مكان النساء، و جعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلّوا صلاة واحدة إلى قبلتين، فلذلك سمّي مسجدهم مسجد القبلتين»(4) و في سند هذه الرواية وهب عن أبي بصير يروي عنه الطاطري الثقة، و هو و إن كان مشتركا بين الثقة و المجهول على ما قيل إلاّ ما عن الشيخ في الفهرست(5) من النصّ على أنّ الطاطري روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم، و روايتهم يقتضي كونه الثقة.

و حسنة الحلبي بإبراهيم بن هاشم بل صحيحه على الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سألته هل كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي إلى بيت المقدس ؟ قال: نعم، فقلت: كان يجعل الكعبة خلف ظهره، فقال: أمّا إذا كان بمكّة فلا و أمّا إذا كان هاجر إلى المدينة فنعم، حتّى حوّل إلى الكعبة»(6).

و المرويّ عن الفضل بن شاذان - في الرسالة الموسومة بإزاحة العلّة في معرفة القبلة - عن معاوية بن عمّار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: متى صرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الكعبة ؟ قال: بعد رجوعه من بدر، و كان يصلّي في المدينة إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا ثمّ اعيد إلى الكعبة»(7).

و المرويّ عن رسالة المحكم و المتشابه للمرتضى بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في أوّل مبعثه يصلّي إلى بيت المقدس جميع أيّام مقامه بمكّة و بعد

ص: 375


1- تفسير القمّي 63:1، الوسائل 12/301:4، ب 2 من أبواب القبلة، الفقيه 845/274:1.
2- الوسائل 1/297:4، ب 2 من أبواب القبلة، التهذيب 135/43:2.
3- البقرة: 142.
4- الوسائل 2/297:4، ب 2 من أبواب القبلة، التهذيب 138/43:2.
5- الفهرست: 216.
6- الوسائل 4/298:4، ب 2 من أبواب القبلة، الكافي 12/286:3.
7- الوسائل 298/3:4، ب 2 من أبواب القبلة، إزاحة العلّة: 2. (رسالة أبو الفضل شاذان بن جبرئيل القمّي).

هجرته إلى المدينة بأشهر، فعيّرته اليهود و قالوا: إنّك تابع لقبلتنا فأحزنه ذلك، فأنزل اللّه عزّ و جلّ و هو يقلّب وجهه في السماء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضٰاهٰا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (1) »(2).

و مرسلة الفقيه قال: «صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى بيت المقدس بعد النبوّة ثلاثة عشر سنة بمكّة و تسعة عشر شهرا بالمدينة، ثمّ عيّرته اليهود فقالوا له: إنّك تابع لقبلتنا فاغتمّ لذلك غمّا شديدا، فلمّا كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء فلمّا أصبح صلّى الغداة، فلمّا صلّى الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال: قَدْ نَرىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّمٰاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضٰاهٰا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ (3) الآية ثمّ أخذ بيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحوّل وجهه إلى الكعبة و حوّل من خلفه وجوههم حتّى قام الرجال مقام النساء و النساء مقام الرجال، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة، و بلغ ذلك الخبر مسجدا بالمدينة و قد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو الكعبة، فكان أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة فسمّى ذلك المسجد مسجد القبلتين»(4).

و المرويّ عن احتجاج الطبرسي بإسناده عن العسكري عليه السّلام في احتجاج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المشركين قال: «إنّا عباد اللّه مخلوقون مربوبون نأتمر له فيما أمرنا و ننزجر عمّا زجرنا - إلى أن قال - فلمّا أمرنا أن نعبده بالتوجّه إلى الكعبة أطعناه ثمّ أمرنا بعبادته بالتوجّه نحوها في سائر البلدان الّتي نكون بها فأطعناه، فلم نخرج في شيء من ذلك من اتّباع أمره»(5) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع. و وضوح دلالتها على كون المعتبر في القبلة هو الكعبة عينا وجهة فظاهر، و كثرتها فوق حدّ الاستفاضة تغني عن النظر في أسانيدها، مع ما عرفت من اشتمالها على موثّق و حسن بل صحيح على الصحيح.

و احتمال كون ذكر الكعبة فيها مسامحة في التعبير مرادا بها الحرم تسمية للكلّ باسم أشرف أجزائه و أعظمها، و يؤيّده كون الكعبة قبلة عند جمهور العامّة فلعلّه عليه السّلام سامح في

ص: 376


1- البقرة: 144.
2- الوسائل 11/300:4، ب 2 من أبواب القبلة، رسالة المحكم و المتشابه: 12.
3- البقرة: 144.
4- الوسائل 12/301:4، ب 2 من أبواب القبلة، الفقيه 845/274:1.
5- الوسائل 14/302:4، ب 2 من أبواب القبلة، الاحتجاج: 27.

التأدية لئلاّ يخالف ظاهر كلامه عليه السّلام ما عليه الجمهور لكونه أقرب إلى الاحتياط و التقيّة.

يدفعه: أصالة عدم التقيّة، مع أنّ من الأخبار ما لا يتحمّلها باعتبار كونه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو عن أمير المؤمنين عليه السّلام أو وروده في تفسير الآية الّذي لا يلائمه إلاّ بيان حقيقة المراد من القبلة بعبارة واضحة، مع عدم ثبوت مخالفة مذهب الأئمّة عليهم السّلام لما عند الجمهور، و التعارض إنّما يقتضي حمل الخبر الموافق عليها على تقدير صلاحية الخبر المخالف للمعارضة و ستعرف منعه.

و حينئذ نقول: إنّ أكثر الأخبار المذكورة إن لم نقل كلّها وردت في قبلة البعيد، و من الواضح تعذّر استقبال العين له فلا بدّ من الحمل على إرادة الجهة، فيدور الأمر بينه و بين إرادة الحرم، و يعيّن الأوّل كونه أقرب في متفاهم العرف لكونه المتبادر بعد ملاحظة تعدّد الحقيقة، و لفظة «النحو» في خبر الاحتجاج لأنّه هنا عبارة عن الجانب.

و التعبير في الآية بالشطر الّذي هو على ما نصّ عليه جماعة السمت و الجانب، بناء على أنّ أصحاب القول بالحرم لا يعتبرون الجهة كما ستعرفه، مضافا إلى أنّه أقرب بالاعتبار بملاحظة ما علم ضرورة من كون قبلة البلاد المتباعدة واحدة، و يرجع لمعرفتها إلى أمارة واحدة و لا يستقيم ذلك إلاّ على تقدير كونها متّسعة، و لا اتّساع لها بحيث لم يخرج المصلّي في شيء من البلاد عن القبلة إلاّ على تقدير كونها جهة الكعبة إذ ليس الحرم في الاتّساع بمثابتها كما لا يخفى.

و لذا اعترض عليهم الشهيد في الذكرى «من أنّ قبلة كلّ إقليم واحدة و معلوم خروج سعتهم عن سعة الحرم»(1) قال في المدارك: «إنّ التكليف بإصابة الحرم يستلزم بطلان صلاة البلاد المتّسعة بعلامة واحدة للقطع بخروج بعضهم عن الحرم»(2) و قالوا(3) أيضا يلزم عليهم خروج بعض الصفّ المستطيل عن سمت القبلة، و هذا كلّه تشهد بأنّ أصحاب القول بالحرم لا يعتبرون الجهة و إلاّ كانت جهة الحرم أوسع من جهة الكعبة.

لكن في الذخيرة دعوى ظهور كونهم متّفقين على أنّ فرض النائي اعتبار الجهة لا التوجّه إلى عين الحرم و إن لم يصرّحوا بذلك، قال: «للاتّفاق على وجوب التعويل على الأمارات

ص: 377


1- الذكرى 158:3.
2- المدارك 119:3.
3- كالتذكرة 11:3، و الذكرى 158:3، و جامع المقاصد 48:2، و الجواهر 536:7.

عند تعذّر المشاهدة، و من الظاهر عند كلّ أحد أنّ الأمارات لا تفيد العلم بالمقابلة الحقيقيّة خصوصا مع تصريحهم بموافقة أمارات البلاد المتباعدة كعراق و خراسان و غيرهما، ثمّ قال: لكن المتأخّرين فهموا من كلام أصحاب هذا القول عدم اعتبارهم الجهة»(1) انتهى.

و ممّا يدلّ على اعتبار الجهة في الجملة صحيحة زرارة عن الباقر عليه السّلام «أنّه قال: لا صلاة إلاّ إلى القبلة، قلت: و أين حدّ القبلة ؟ فقال: ما بين المشرق و المغرب قبلة كلّه»(2) قال الشهيد في الذكرى: «و هذا نصّ على الجهة»(3) و بملاحظة جملة من النصوص المتقدّمة المصرّحة بالكعبة في تفسير الآية المصرّحة باستقبال جهة المسجد للنائي، تعرف كون الآية أيضا ممّا يوافق هذا القول، لكون المراد من المسجد الحرام حينئذ هو الكعبة.

و يندفع به ما قيل في منع الاستدلال بها تعليلا بأنّ ظاهرها و هو اعتبار جهة المسجد مطلقا لا يوافق شيئا من القولين، فيحمل على أنّ المراد بالمسجد الكعبة لكونها مسجدا و الحرام صفة لها في قوله تعالى: «البيت الحرام» أو تسمية للجزء باسم الكلّ ، لأنّ عنوان المسجد أحقّ برعاية التكريم و أنسب باستحقاق التعظيم من عنوان البيت، فيطابق القول الأوّل.

أو يحمل على أنّ المراد به الحرم تسمية للكلّ باسم أشرف أجزائه إشعارا بالتعظيم أو لمشاركته المسجد في وجوب الاحترام أو لكونه مسجدا في الحقيقة كما نقل عن ابن عبّاس و عن عطاء و عنه في قوله تعالى: فَلاٰ يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرٰامَ (4) أنّ المراد بالمسجد الحرام الحرم(5) و عن ابن عبّاس أنّ المراد بالمسجد هاهنا الحرم(6) و قيل(7) بذلك في قوله تعالى: سُبْحٰانَ اَلَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ (8) لإحاطته بالمسجد و شدّة التباسه به فيطابق القول الثاني، و الترجيح لا يخلو عن إشكال كما في الذخيرة(9) فإنّ الرواية المذكورة الكاشفة عن كون المراد به الكعبة لا غير كافية عن مئونة التكلّف في ترجيح الأوّل على الثاني و لا إشكال معه إن شاء اللّه، فظهر أنّه المعتمد في

ص: 378


1- الذخيرة: 213.
2- الوسائل 9/300:4، ب 2 من أبواب القبلة، الفقيه 855/180:1.
3- الذكرى 160:3.
4- التوبة: 28.
5- تفسير الدرّ المنثور 151:4، الكشّاف 261:2.
6- الكشاف 647:2، التفسير الكبير 117:20.
7- تفسير الطبري 9:15، الكشّاف 647:2.
8- الإسراء: 1.
9- الذخيرة: 213.

المسألة هو هذا القول.

و مستند القول الثاني - بعد إجماع الفرقة كما ادّعاه الشيخ في الخلاف(1) - ما رواه في الفقيه عن مولانا الصادق عليه السّلام «إنّ اللّه تبارك و تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد، و جعل المسجد قبلة لأهل الحرم، و جعل الحرم قبلة لأهل الدنيا»(2) و ما رواه في التهذيب عن عبد اللّه بن محمّد الحجّال عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «إنّ اللّه تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد و جعل المسجد قبلة لأهل الحرم، و جعل الحرم قبلة لأهل الدنيا»(3) و ما رواه أيضا باسناده عن بشر بن جعفر الجعفي عن جعفر بن محمّد عليه السّلام قال: «سمعته يقول البيت قبلة لأهل المسجد، و المسجد قبلة لأهل الحرم، و الحرم قبلة للناس جميعا»(4)مضافا إلى أنّ المحذور في استقبال عين الكعبة لازم لمن أوجب استقبال جهتها، فإنّ لكلّ مصلّ جهة، و الكعبة لا تكون في الجهات كلّها و لا كذلك التوجّه إلى الحرم، لأنّه طويل يمكن أن يكون كلّ واحد متوجّها إلى جزء منه.

و الجواب: أنّ الإجماع في محلّ الخلاف ممّا لا معنى له، و الروايات لضعف أسانيدها لا تقاوم لمعارضة ما تقدّم، و مخالفتها لمذهب العامّة إنّما تصلح مرجّحة لها بعد اعتبارها من حيث السند لا مطلقا، لأنّها إنّما اعتبرت مرجّحة في الخبرين المتعارضين، و التعارض فرع على حجّيّتهما الذاتيّة، و اعتضادها بالشهرة المتقدّمة معارضة بالشهرة المتأخّرة في جانب ما تقدّم مضافا إلى موافقة الكتاب و مساعدة الاعتبار و كثرته القريبة من التواتر، و اشتماله على ما هو معتبر لذاته، مع إمكان حملها على ما ذكره الشهيد «من كون المراد بالمسجد و الحرم جهتهما، تنبيها على اعتبار جهة الكعبة، و إنّما ذكرهما على سبيل التقريب إلى أفهام المكلّفين إظهارا لسعة الجهة»(5).

و ربّما يؤيّده الخبر المرويّ عن العلل بإسناده عن أبي عزّة قال: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:

البيت قبلة المسجد، و المسجد قبلة مكّة، و مكّة قبلة الحرم، و الحرم قبلة الدنيا»(6) فتأمّل.

ص: 379


1- الخلاف 295:1.
2- الوسائل 3/304:4، ب 3 من أبواب القبلة، الفقيه 841/177:1.
3- الوسائل 1/303:4، ب 3 من أبواب القبلة، التهذيب 139/44:2.
4- الوسائل 2/304:4، ب 3 من أبواب القبلة، التهذيب 140/44:2.
5- الذكرى 159:3.
6- الوسائل 4/304:4، ب 3 من أبواب القبلة، علل الشرائع: 2/318.

و لذا قال بعض المحقّقين - على ما حكي -: إنّه لا نزاع هنا و لا اختلاف بين أحاديث هذا الباب و الّذي قبله، لأنّ جهة المحاذاة مع البعد متّسعة، و هذه الأحاديث و ما دلّ على التياسر و ما دلّ على أنّ ما بين المشرق و المغرب قبلة و ما دلّ على استقبال المسجد الحرام من الآية و الرواية و غير ذلك كلّه إشارة إلى اتّساع جهة المحاذاة و تسهيل الأمر و دفع الوسواس، و يؤيّده الاكتفاء شرعا لأهل إقليم عظيم بعلامة واحدة. و ما ذكر من أنّ المحذور لازم في إيجاب استقبال الجهة، مدفوع بما ذكره الشهيد رحمه اللّه «من إنّا نعني بالجهة السمت الّذي اقتضى التوجّه إليه» رعاية الأمارات الشرعيّة لا نفس البنية و ذلك من الاتّساع بمكان، على أنّ الإلزام في الكعبة لازم في الحرم و إن كان طويلا(1).

ثمّ إنّ الاحتمال المذكور في معنى الروايات من إرادة الجهة من المسجد و الحرم ربّما يجري في كلام أصحاب هذا القول، و من هنا ربّما يحكم بلفظيّة النزاع.

و من مشايخنا من احتمله تعليلا بأنّ أقصى ما يتصوّر من الثمرة بين القولين هو جواز استقبال غير الكعبة من المسجد و الحرم لمن تمكّن منها على الثاني و عدمه على الأوّل، و وجوب استقبال المسجد و الحرم لغير المشاهد على الثاني، و جهة الكعبة على الأوّل.

و يندفع الثمرة الاولى بما عن جماعة من أهل القول الثاني كالشيخ في مبسوطه(2)و جمله(3) و المحكيّ من مصباحه(4) و عن القاضي في مهذّبه(5) و الكيدري في إصباحه(6)و أبي الصلاح في الكافي(7) من التصريح بوجوب استقبال العين للمتمكّن منها... إلى أن قال: و لعلّه لذا استدلّ عليه في المعتبر(8) «بإجماع العلماء» و في التذكرة(9) «الكعبة القبلة مع المشاهدة إجماعا» و عن النهاية(10) «إجماعنا على ذلك» و عن شرح(11) الشيخ نجيب الدين «القبلة عين الكعبة المشرّفة لمن أمكنه علمها بالإجماع كأهل مكّة» و عن كنز العرفان(12)«الإجماع عليه» و عن الغنية(13) «نفي الخلاف عنه» إلى أن قال: و من ذلك يعرف اندفاع الثانية أيضا لاحتمال إرادة الجهة من المسجد و الحرم، و إنّما ذكروا ذلك على سبيل التقريب

ص: 380


1- نقل الشهيد في الروض 514:2 عن المعتبر 66:2.
2- المبسوط 77:1-78.
3- الجمل و العقود: 61.
4- مصباح المتهجّد: 24.
5- المهذّب 84:1.
6- إصباح الشيعة: 61-62.
7- الكافي في الفقه: 138.
8- المعتبر 65:2.
9- التذكرة 6:3.
10- نهاية الإحكام 391:1.
11- نقله عنه في مفتاح الكرامة 267:5.
12- كنز العرفان 85:1.
13- الغنية: 68.

إلى الافهام إظهارا لسعة الجهة، حتّى المحقّق منهم لما ذكره فيما بعد من «أنّ أهل كلّ اقليم يتوجّهون إلى سمت الركن الّذي على جهتهم»(1) فإنّ هذا لا ينطبق إلاّ على الجهة»(2).

ثمّ إنّ في المقام مسائل مهمّة:

[المسألة الاولى: فرض القريب و من بحكمه في مشاهدة الكعبة التوجّه إلى عين الكعبة بلا فرق بين كونه في المسجد أو في الحرم أو في خارجهما]

المسألة الاولى: في أنّه بعد ما ثبت أنّ فرض القريب و من بحكمه في مشاهدة الكعبة، أو التمكّن من مشاهدتها التوجّه إلى عين الكعبة، فلا فرق فيه بين كونه في المسجد أو في الحرم أو في خارجهما، فوجب على الجميع تحصيل العين، إمّا بالمشاهدة حال الصلاة أو وضع محراب تيقّن معه محاذاة العين، و لا يكفي فيه الاجتهاد و لا التعويل على الأمارات الظنّيّة إلاّ للمحبوس و من بحكمه في عدم إمكان تيقّن محاذاة العين.

و لو توقّف ذلك على الصعود على سطح أو على جبل وجب، و إن تضمّن مشقّة قليلة أو كثيرة تتحمّل عادة، وفاقا للعلاّمة(3) و الشيخ(4) في بعض كتابيهما على ما حكي، عملا بالنصوص المتقدّمة الظاهرة في التوجّه إلى العين، خرجنا عنه في البعيد العين المتمكّن من تحصيل العين للعذر، و بقى الباقي تحته و منه ما نحن فيه، مضافا إلى قاعدة الشغل اليقيني.

خلافا للمدارك(5) في الجبل فاستبعد وجوب الصعود عليه للحرج، و استوجهه شارح الروضة(6) المحقّق الخوانساري استنادا إلى ظاهر الآية الدالّة بإطلاقها على توجّه الشطر الّذي هو الجانب. و فيه منع الحرج بالصعود على الجبل مرّة واحدة ثمّ وضع محراب توجّه إليه دائما، و إنّما يلزم الحرج لو تعيّن الصعود في كلّ صلاة، و منع ظهور الآية من جهة الإطلاق لأنّ المنساق من قوله: وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (7) إنّما هو بيان الاكتفاء بالجهة للبلاد النائية، نعم لو استلزم الصعود على الجبل مشقّة كثيرة لا تتحمّل عادة سقط اعتبار تحصيل العين، و يكتفي فيه بالجهة.

[المسألة الثانية: قضيّة كون فرض القريب التوجّه إلى الكعبة وجوب التوجّه إلى ما يقطع كونه من البيت]

المسألة الثانية: قضيّة كون فرض القريب و من بحكمه التوجّه إلى الكعبة وجوب التوجّه إلى ما يقطع كونه من البيت، فلا يجزئ التوجّه إلى ما يشكّ كونه منه و لا إلى ما يظنّ كونه منه ما لم يستند الظنّ إلى أمارة شرعيّة معتبرة بالخصوص، عملا بالقاعدة القطعيّة المستنبطة من العقل و العرف و الشرع، و هو عدم حصول الإجزاء و امتثال الأمر إلاّ بأداء

ص: 381


1- الشرائع 65:1.
2- الجواهر 519:7-521.
3- التذكرة 12:3.
4- المبسوط 78:1.
5- المدارك 122:3.
6- حاشية الروضة: 173.
7- البقرة: 144.

ما يقطع كونه من المأمور به، مضافا إلى استصحابي الأمر و الاشتغال، و قاعدة الشغل المقتضية ليقين البراءة الّذي لا يحصل إلاّ بمراعاة ما يقطع كونه من البيت.

و توهّم: أنّ المقام من الشكّ في الشرط فيرجع إلى الأصل، يدفعه بأنّه ليس من الشكّ في شرطيّة شيء للمأمور به، بل من الشكّ في كون شيء من الشرط المعلوم شرطيّته، و هو كالشكّ في تحقّق الشرط ممّا لا يرجع فيه إلى الأصل.

و من فروع هذه القاعدة عدم كون التوجّه إلى حجر إسماعيل مجزئا للشكّ من جهة الخلاف في كونه من البيت و عدمه، و إن قيل فيه: المشهور أنّه من البيت كما عن الدروس(1)أو ظاهر كلام الأصحاب أن الحجر من الكعبة كما عن الذكرى(2) أو عندنا أنّه من الكعبة كما عن التذكرة(3) أو يجوز أن يستقبله لأنّه كالكعبة عندنا و قيل: إنّه من الكعبة كما عن نهاية الإحكام(4) فإنّ أقصى ما يفيده هذه الامور على تقدير التسليم إنّما هو الظنّ ، و هو لكونه من الظنون المطلقة لا اعتداد به في الموضوعات. و الاستدلال على كونه من البيت بوجوب إدخاله في الطواف، يدفعه أنّه أعمّ لجواز كونه محافظة على احترام هذا الموضع باعتبار كونه مدفن امّ إسماعيل أو مدفن الأنبياء لئلاّ يوطأ حال الطواف، نعم عن الذكرى أنّه «قد دلّ عليه النقل و أنّه كان منها في زمن إبراهيم عليه السّلام و إسماعيل عليه السّلام إلى أن بنت قريش الكعبة فأعوزتهم الآلات فاختصروها بحذفه، و كان ذلك في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نقل عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الاهتمام بإدخاله في بناء كعبة، و بذلك احتجّ ابن الزبير حيث أدخله فيها ثمّ أخرجه الحجّاج بعده و ردّه إلى مكانه»(5).

لكن يتطرّق المناقشة إلى طريق هذا النقل لعدم كونه منقولا عن اصول أصحابنا، و لذا في محكيّ كشف اللثام «أنّه إنّما رأيناه في كتب العامّة»(6) مع أنّه يعارضه عدّة من أخبارنا كالصحيح عن معاوية بن عمّار «أنّه سأل الصادق عليه السّلام عن الحجر أ من البيت هو؟ فقال: لا، و لا قلامة ظفر، لكنّ إسماعيل عليه السّلام دفن امّه فيه، فكره أن يوطأ فجعل عليه حجرا و فيه قبور أنبياء»(7) و نحوه روايات اخر ذكرها في الجواهر(8).

ص: 382


1- الدروس 113:1.
2- الذكرى 169:3.
3- التذكرة 22:3.
4- نهاية الإحكام 392:1.
5- الذكرى 169:3.
6- كشف اللثام 130:3.
7- الوسائل 1/353:13، ب 30 من أبواب الطواف.
8- الجواهر 525:7.

و كما لم يثبت كون كلّه من البيت كذلك لم يثبت كون بعضه منه، و إن نقل عن الفقيه و الكافي أنّه أرسل «أنّه كان طول بناء إبراهيم عليه السّلام ثلاثين ذراعا و طولها الآن خمس و عشرون ذراعا»(1).

و عن التذكرة أيضا: «أنّه كان لاصقا بالأرض، و له بابان شرقي و غربي، فهدّمه السيل قبل مبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعشر سنين، و أعادت قريش عمارته على الهيئة الّتي هو عليها اليوم، و قصرت الأموال الطيّبة و الهدايا و النذور عن عمارته، فتركوا من جانب الحجر بعضا، و قطعوا(2) الركنين الشاميّين من قواعد إبراهيم، و ضيّقوا عرض الجدار من الركن الأسود إلى الشامي الّذي يليه، فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعا، و هو الّذي سمّي الشاذروان»(3).

و عن الحدائق: أنّ الظاهر أنّ هذه الرواية من طرق المخالفين فإنّهم رووا عن عائشة أنّها قالت: «إنّي نذرت اصلّي ركعتين في البيت، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: صلّ في الحجر فإنّ فيه ستّة أذرع من البيت»(4)-(5).

[المسألة الثالثة: فرض البعيد الغير المتمكّن من مشاهدة العين إنّما هو التوجّه إلى جهة الكعبة]

المسألة الثالثة: قد علم من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ فرض البعيد الغير المتمكّن من مشاهدة العين إنّما هو التوجّه إلى جهة الكعبة. و الدليل عليه من العقل قضاء العقل المستقلّ بكون المراد من الكعبة في النصوص المطلقة بالنسبة إلى البعيد لا بدّ و أن يكون جهة الكعبة لتعذّر التوجّه له إلى العين، و لا يلزم بذلك استعمال اللفظ في النصوص المذكورة في معنيين، لجواز كون المراد بالكعبة ما هو القدر المشترك بين العين و الجهة، و هو ما تعيّن استقباله في الصلاة على وجه التواطؤ و الاشتراك المعنوي إن كانت في الوضع الشرعي موضوعة لهذا القدر المشترك على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيها، أو على وجه عموم المجاز على تقدير عدم ثبوت الوضع الشرعي فيها.

و من النقل ما في مرسلة الفقيه المتقدّمة من قوله: «و بلغ ذلك الخبر مسجدا بالمدينة، و قد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو الكعبة»(6) و ما في ذيل خبر الاحتجاج المتقدّم من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ثمّ أمرنا بالتوجّه نحوها في سائر البلدان الّتي تكون بها فأطعنا»(7)

ص: 383


1- الكافي 4/217:4، الفقيه 2322/247:2.
2- في المصدر بدلها: و خلّفوا.
3- التذكرة 86:8.
4- فتح العزيز 297:7.
5- الحدائق 386:6.
6- الوسائل 12/301:4، ب 2 من أبواب القبلة، الفقيه 845/272:1.
7- الوسائل 14/302:4، ب 2 من أبواب القبلة، الاحتجاج: 27.

فهذا ممّا لا إشكال فيه.

و إنّما الكلام في تشخيص الجهة و تعريفها و قد ذكر الأصحاب لها تعاريف متشتّتة بعبارات مختلفة لا يكاد يسلم شيء منها عن شيء، و الّذي يترجّح في النظر القاصر كونها بحسب المفهوم أمرا عرفيّا يرجع لمعرفته إلى العرف كما في سائر موضوعات الأحكام، كما صرّح بذلك جماعة كصاحبي المدارك(1) و الذخيرة(2) و الوحيد البهبهاني في شرحه للمفاتيح(3) و منه ما في حاشية الروضة للخونساري من قوله «و الأولى أن يراد بالسمت السمت الواحد عرفا و هو ما لا يكون أزيد من ربع الدور»(4) انتهى.

و الأظهر أنّها و مرادفاتها من الشطر و النحو و الجانب عرفا بحسب المفهوم عبارة عن السمت الّذي يصدق على التوجّه إليه مقابلة الكعبة عرفا، و لا يعتبر فيه بعد إحراز صدق المقابلة عرفا كون التوجّه إليه بحيث لو أخرج من موقفه خطّ على الاستقامة لوقع على عين الكعبة، و لا كونه بحيث تقاطع الخطّ المخرج من موقفه مع خطّ الكعبة بحيث يحدث قائمتان، بل لو لم يقع الخطّ عليها أو حدث من تقاطعه مع خطّ الكعبة حادّة و منفرجة مع صدق المقابلة المذكورة لم يقدح في صدق الجهة عرفا.

و بذلك ظهر ضعف ما عن المقداد «من أنّ جهة الكعبة الّتي هي القبلة للنائي خطّ مستقيم يخرج من المشرق و المغرب الاعتداليّين و يمرّ بسطح الكعبة، فالمصلّي حينئذ يفرض من قطره خطّا يخرج إلى ذلك الخطّ فإن وقع عليه على زاوية قائمة فذاك هو الاستقبال، و إن كان على حادّة و منفرجة فهو إلى ما بين المشرق و المغرب»(5) و ما عن المحقّق الثاني في شرح الألفيّة من أنّها ما يسامت الكعبة عن جانبيها بحيث لو خرج خطّ مستقيم من موقف المستقبل تلقاء وجهه وقع على خطّ جهة الكعبة بالاستقامة، بحيث تحدث عن جنبيه زاويتان قائمتان، فلو كان الخطّ الخارج من موقف المصلّي واقعا على خطّ الجهة لا بالاستقامة بحيث يكون إحدى الزاويتين حادّة و الاخرى منفرجة فليس مستقبلا لجهة الكعبة»(6).

و الظاهر أنّ منشأهما اتّباع علماء الهيئة لظهور كلامهم في اعتبار المحاذاة المحصّلة

ص: 384


1- المدارك 121:3.
2- الذخيرة: 214.
3- مصابيح الظلام 397:6.
4- حاشية الروضة: 173.
5- التنقيح الرائع 178:1.
6- شرح الألفيّة (رسائل الكركي 3):242.

لعين الكعبة و لذا قال بعضهم: في تعريف سمت القبلة أنّه نقطة في الافق إذا وجّهها الإنسان كان مواجها للكعبة»(1) و قيل في شرحه: «إنّها النقطة الّتي تقاطعت فيها دائرة افق البلد و الدائرة المارّة لسمت رأسه و مكّة في جهتها، و الخطّ الخارج من مركز افق البلد إلى تلك النقطة يسمّى خط سمت القبلة و هو الّذي يبنى عليه أساس المحراب»(2).

و يكفي في بطلانه ظهور الإجماع على عدم اعتبار إصابة عين الكعبة في القبلة بمعنى الجهة، و لذا ذكر جماعة منهم ثاني الشهيدين «أنّه ليست الجهة للبعيد محصّلة عين الكعبة و إن كان البعد عن الجسم يوجب اتّساع جهة محاذاته و ذلك لا يقتضي استقبال العين، إذ لو أخرجت خطوط متوازية من مواقف البعيد المتباعدة المتّفقة الجهة على وجه يزيد على حرم الكعبة لم يتّصل الخطوط أجمع بالكعبة ضرورة و إلاّ لخرجت عن كونها متوازية. قال في الروضة عقيب هذه العبارة: «و بهذا يظهر الفرق بين العين و الجهة و يترتّب عليه بطلان صلاة بعض الصفّ المستطيل زيادة عن قدر الكعبة لو اعتبر مقابلة العين»(3).

و ممّا يرشد إلى بطلان القول باعتبار إصابة العين أنّ القطع بها ممّا لا يمكن حصوله لجميع آحاد المكلّفين البعيدين، مع أنّ ما يفيد القطع بالإصابة على ما يظهر من كلامهم مقصور على امور في كونها مفيدة للقطع كلام يأتي، مع أنّه ممّا لا يجامع اعتبار أمارة واحدة علامة للجهة في البلاد المتباعدة. و في المدارك(4) و الذخيرة(5) و غيرهما دعوى الاتّفاق على أنّ فرض البعيد رعاية الأمارات الشرعيّة و التوجّه إلى ما عيّنته، مع أنّه قد عرفت أنّ ذلك يستلزم بطلان صلاة أكثر أشخاص الصفّ المستطيل الّذي يزيد طوله على طول الكعبة.

و بالجملة في الجهة صدق المقابلة عرفا و إن لم تتضمّن إصابة العين، و الجهة بهذا المعنى كما ترى أمر واقعي لا يدخل فيه العلم و لا الظنّ و لا الاحتمال، كما هو الأصل في سائر الألفاظ حيث لا يدخل شيء من ذلك وضعا في معانيها.

فما قيل في تعريف الجهة: من أنّها السمت الّذي يقطع بعدم خروج الكعبة عن مجموعة مع احتمالها في كلّ جزء جزء منه كما في كلام غير واحد(6) و ما في التذكرة من تعريفها

ص: 385


1- روض الجنان 515:2.
2- حبل المتين: 196.
3- الروضة البهيّة 82:1.
4- المدارك 121:3.
5- الذخيرة: 214.
6- كما في كشف اللثام 131:3، و المسالك 151:1، و الروضة البهيّة 82:1، و روض الجنان 517:2.

«بأنّها ما يظنّ أنّه الكعبة حتّى لو ظنّ خروجه عنها لم يصحّ »(1) و ما عن نهاية الإحكام من «أنّها ما يظنّ به الكعبة حتّى لو ظنّ خروجه عنها لم يصحّ »(2) و ما في الذكرى(3) و عن الجعفريّة من «أنّها السمت الّذي يظنّ كون الكعبة فيه»(4) ليس بسديد، فإنّ القطع و الظنّ و الاحتمال من عوارض شخص الجهة الموجود في الخارج و هو الّذي يحرزه المكلّف للتوجّه إليه في صلاته، فإنّه قد يحرزه بطريق القطع، و قد يحرزه بطريق الظنّ ، و قد لا يتمكّن من إحرازه بشيء من الطريقين، إذا فقد الطرق العلميّة و الظنّيّة كالعامي فوظيفته تقليد العارف بها، و المتحيّر فوظيفته الصلاة إلى الجوانب أو التخيير على الخلاف فيه.

و ممّا ينبّه على ما ذكرنا من ضابط الجهة في الجملة الاستقبال الّذي يضاف إلى الجهة في قولهم: فرض البعيد جهة الكعبة، باعتبار مدلوله الهيئي و المادّي فإنّه عبارة عن طلب المقابلة فيكون استقبال الجهة في حاصل المعنى عبارة عن أن يطلب الإنسان بالتوجّه إليه مقابلة الكعبة فليتدبّر، هذا كلّه في الجهة بحسب المفهوم.

و أمّا هي بحسب المصداق و هو على ما عرفت ما يستعمله المكلّف ليتوجّه إليه في صلاته، فهي تتعدّد على حسب المكلّفين و الأمكنة و البلدان و هي الّتي وضعت لمعرفتها - علما أو ظنّا - الطرق و العلامات في علم الهيئة، و في الشرع من محراب معصوم و غيره و غيرهما ممّا سيتلى عليك، و هي معقد الاتّفاق المتقدّم على أنّ فرض البعيد الرجوع إلى العلامات، و لعلّه إلى ذلك يشير ما في صحيحة زرارة من قوله عليه السّلام: «ما بين المشرق و المغرب قبلة كلّه»(5) بعد سؤال الراوي بقوله: «أين حدّ القبلة» بناء على أنّ السؤال عن حدّ الشيء ظاهر فيه عمّا يشخّصه و يعيّن شخصه، و قوله عليه السّلام: «ما بين المشرق و المغرب قبلة كلّه» معناه أنّها ليست شخصا واحدا معيّنا بل هي ممّا يتعدّد و يتكثّر أشخاصه على حسب تعدّد و تكثّر الأمكنة و البلدان الواقعة بين المشرق و المغرب.

[المسألة الرابعة: أهل كلّ إقليم يتوجّهون إلى سمت الركن الّذي في جهتهم]

المسألة الرابعة: أهل كلّ إقليم يتوجّهون إلى سمت الركن الّذي في جهتهم، فأهل العراق إلى العراقي و هو الّذي فيه الحجر، و أهل الشام إلى الشامي، و أهل المغرب إلى الغربي،

ص: 386


1- التذكرة 6:3.
2- نهاية الإحكام 392:1.
3- الذكرى 160:3.
4- الجعفريّة (رسائل الكركي 1):103.
5- الوسائل 9/300:4، ب 2 من أبواب القبلة، الفقيه 855/180:1.

و اليمن إلى اليماني كما في الشرائع(1) و في معناه ما في المعتبر(2) و جملة من كتب العلاّمة كالتذكرة(3) و المنتهى(4) و القواعد(5) و ذكرى الشهيد(6) لكن في بعضها كما في القواعد التعبير «بالركن» لا سمته، و كأنّه مسامحة في العبارة لوضوح المطلب كما سنشير إليه، و في المعتبر «كلّ إقليم يتوجّهون إلى سمت الركن الّذي يليهم لما بيّنّاه من وجوب استقبال الكعبة ما أمكن، و الّذي يمكن أن يستقبل أهل كلّ إقليم الركن الّذي يليهم»(7).

و إنّما اعتبر سمت الركن الّذي في جهة أهل كلّ إقليم أو يليهم لأنّه الّذي يصدق على التوجّه إليه مقابلة ذلك الركن، و إنّما عبّر بالركن لأنّ الكعبة لا تسامت كلّ إقليم بجميع أركانها الحاصلة من أضلاعها الأربع بانتهاء كلّ ضلع منها إلى مثله بل بواحد منها، و المراد بالإقليم كما نصّ عليه في جامع المقاصد(8) «هو الجهة و الناحية».

و اعترض في المدارك على ما في الشرائع «بأنّ المعتبر عند المصنّف في البعيد استقبال الحرم و عن آخرين الجهة، و هما أوسع من ذلك فلا يتمّ الحكم بوجوب التوجّه إلى سمت الركن نفسه - و محصّله أنّه لا يوافق شيئا من المذهبين لكون كلّ من الحرم و الجهة أوسع من الركن - و على ما في المعتبر بأنّه غير جيّد أيضا، إذ الّذي سبق منه وجوب استقبال جهة الكعبة للبعيد لا نفس الكعبة»(9).

و يندفع الأوّل بأنّه اعتبر التوجّه إلى سمت الركن لا نفسه، و السمت عبارة عمّا يرادف الجهة، و لذا أخذه الأكثر في جنس تعريفاتهم للجهة، نعم له وجه بالنسبة إلى ما في القواعد من قوله: «و أهل كلّ إقليم يتوجّهون إلى ركنهم» لتعبيره بالركن لا سمته، غير أنّه أيضا يندفع بوضوح كون المراد سمته و جهته، و لذا ذكر في جامع المقاصد عند شرح هذه العبارة «أنّ المراد بتوجّه أهل كلّ إقليم إلى ركنهم توجّههم إلى جهة الركن الّذي يليهم، لأنّ البعيد لمّا كان قبلته الجهة و كونها أوسع من الكعبة بمراتب أمر معلوم، فلا بدّ من أن يراد بتوجّههم إلى الركن توجّههم إلى جهته»(10).

ص: 387


1- الشرائع 66:1.
2- المعتبر 69:2.
3- التذكرة 12:3.
4- المنتهى 170:4.
5- القواعد 251:1.
6- الذكرى 161:3.
7- المعتبر 69:2.
8- جامع المقاصد 53:2.
9- المدارك 126:3-127.
10- جامع المقاصد 53:2.

و قد يعترض على اعتبار الركن أيضا بأنّ هذا إنّما يناسب إذا كان أساس البيت قبلة، و قد تقدّم نقل الاتّفاق منهم على عدمه، و أنّها فضاء البيت لا نفسه.

و فيه ما تقدّم تحقيقه، من أنّ الكعبة عندهم عبارة عن الفضاء المنطبق على البيت المتصاعد من تخوم الأرض إلى عنان السماء، و قد سبق في سابق عبارة الشرائع(1)التصريح بأنّ جهة الكعبة هي القبلة لا البنية مريدا بها الفضاء المذكور، و التعبير بالركن لتعريف الفضاء لا على وجه الموضوعيّة.

و عن بعض الأفاضل أيضا الاعتراض على ما في الشرائع في تفسيره «الركن العراقي بما فيه الحجر»(2) «بأنّ الركن العراقي و هو الّذي فيه الحجر ليس قبلة أهل العراق كما قاله الأكثر، بل أنّه قبلة أهل الهند و ما وراء النهر، فإنّه إذا استقبل الركن العراقي يصير المغرب قبلة، و انحراف أهل العراق إلى المغرب بيسير، فإنّهم ينحرفون من خطّ نصف النهار إلى المغرب من ثلاثين درجة إلى أربعين و ما يقرب منهما. قال: و أكثر العامّة يسمّون الركن الّذي على يمين الباب بالركن العراقي لا الركن الّذي فيه الحجر، و هو أقرب إلى التحقيق، و الظاهر أنّه قبلة لأهل الموصل و من والاها» انتهى(3).

و في رسالة قبلة الآفاق للفاضل القزويني(4) أنّ تسمية ركن الحجر بالعراقي كما صرّحوا به غير مناسبة و إن ذكر الشهيد الثاني في إصلاح عبارة الشرائع «أنّه على سبيل التقريب و إلاّ فأهل العراق يستقبلون الباب و ما قاربه»(5) و أهل الشام يستقبلون ما بين الميزاب و الركن، فإنّ وضع الكعبة على ما علم بالمشاهدة هو أنّ ركن الحجر الأسود منحرف قليلا عن محاذاة المشرق الاعتدالي إلى جانب الجنوب على وجه يكون مشرق الاعتدال محاذيا لما بين الباب و الحجر. و على فرض الموافقة و عدم الانحراف فالتوجّه إلى ركن الحجر أو إلى الباب أو إلى جزء آخر من هذا الضلع يكون أقرب إلى ركن الحجر منه إلى الركن الآخر يستلزم لا محالة استقبال جزء من القوس الّذي بين الجنوب و المغرب يكون أقرب إلى المغرب منه إلى الجنوب، مع أنّه لا خلاف بينهم في أنّ قبلة جميع بلاد عراقي العرب و العجم أقرب إلى الجنوب بل قبلة بعضها كالموصل عين الجنوب، و معه كيف يجوز أن يكون قبلة العراق ركن الحجر أو الباب أو ما يقرب منهما؟ انتهى.(6)

ص: 388


1- الشرائع 186:1.
2- الشرائع 186:1.
3- مطالع الأنوار 106:1.
4- آقا رضي القزويني، منه.
5- حاشية الشرائع: 75.
6- رسالة قبلة الآفاق: لم نعثر عليه.

و فيه من الاشتباه ما لا يخفى، إذ المحذور المذكور على تقدير كون قبلة العراق ركن الحجر من لوازم مساواة طوله لطول الكعبة أو قلّة التفاوت بينهما على تقدير كون طوله أكثر من طولها كما في بلاد الهند، فإنّما يلزم ذلك في البلاد العراقيّة لو كانت مساوية للكعبة في العرض أو أكثر عرضا منها بقليل مع كونها أكثر طولا، فعلى الأوّل يلزم الانحراف عن الجنوب إلى عين المغرب كما في بعض بلاد الهند، و على الثاني الانحراف إلى ما يقرب من المغرب كما في بعض الآخر من بلاد الهند، مع أنّها ليست كذلك، و الوجه فيه شهادة الحسّ و العيان بأنّه كلّما ازداد كثرة عرض البلد على عرض الكعبة مع كونها أكثر منها طولا قلّ انحراف المتوجّه إليها عن الجنوب نحو المغرب، و كلّما قلّ كثرة عرضه على عرضها كثر انحرافه عن الجنوب نحو المغرب إلى أن ينتهي حدّ المساواة فيصير الانحراف إلى عين المغرب، و هذا بخلاف الطول فإنّه كلّما ازداد كثرة طول البلد على طول الكعبة مع كونها أكثر منها عرضا ازداد انحرافه عن الجنوب نحو المغرب، و كلّما قلّ كثرة طوله على طولها قلّ الانحراف نحو المغرب إلى أن ينتهي حدّ مساواة الطولين فيزول الانحراف بالمرّة و يصير القبلة حينئذ عين الجنوب كما في الموصل، و من الواضح كون البلاد العراقيّة أكثر عرضا من الكعبة بكثير، و حينئذ فلا يلزم من توجّه أهلها إلى ركن الحجر زيادة انحراف عن الجنوب على وجه يستلزم استقبال جزء من القوس يكون أقرب إلى المغرب منه إلى الجنوب.

ثمّ إنّ الفاضل المذكور ذكر في الرسالة المذكورة «أنّه وضع لاستعلام نسبة البلاد إلى جهة الكعبة آلة كرويّة سمّاها كرة مجمع البلاد، فاستخرج منها تفصيلا لجهة الكعبة بالقياس إلى البلاد ذكره قبيل ما تقدّم نقله، و هو أنّ من الحجر الأسود إلى الباب الّذي يقرب من سدس الضلع الطولي موضع توجّه أهل بعض بلاد الهند كبهلوازة و حواليه، و فضاء الباب الّذي هو أيضا يقرب من السدس موضع توجّه أهل الصين و بافرس و منصورة سند و اكره و دهلا و هرموز و تهامة و حواليها، و من الباب إلى منتصف هذا الضلع الّذي هو نهاية السدس الثالث موضع توجّه أهل لحسا و لهادر و مولتان و القطيف و البحرين و قندهار و كشمير و بست و سيستان و كرمان و بدخشان و تبّت و خان بالق و شيراز و بلخ و فارياب.

و السدس الرابع موقع توجّه أهل هرات و ختن و پيش بالغ و يزد و مرو و قراقوم و ترشيز

ص: 389

و تون و سمرقند و كاشغر و سرخس و كشر و خجند و بخارى و رامهرمز و طوس و بناكت و المالق و سبزوار.

و السدس الخامس موقع توجّه أهل أصفهان و البصرة و سمنان و كاشان و استرآباد و كركانج و قم و ري و ساري و قزوين و ساوه و لاهيجان و همدان.

و السدس السادس الّذي ينتهي إلى الركن الثاني موضع توجّه أهل كوپا و مدينة روس و شماحي و بلغار و باب الأبواب و بردعة و تفليس و اردبيل و تبريز و بغداد و الكوفة و السامرّة. قال: فموضع توجّه أهل عراق العرب في غاية القرب من الركن الثاني، و موضع أهل عراق العجم أيضا أقرب بهذا الركن من سائر الأركان، و هذا هو الوجه في تسمية هذا الركن بالركن العراقي و من هذا الركن إلى الركن الغربي ضلع عرضي، و السدس الأوّل منه موضع توجّه أهل موصل و ارزنة الروم و حواليهما إلى آخر ما ذكره. ثمّ قال: لا يخفى على العارف بوضع الكرة المذكورة أنّ استنباط هذا النحو من الامور منها في مرتبة المشاهدة و العيان فلا ينبغي الاعتماد على خلاف ما يستنبط منها خصوصا مع التفاوت الفاحش، مثل ما ذكره الفضل بن شاذان في رسالة القبلة من أنّ قبلة مولتان و كابل و قندهار ما بين الركن اليماني و ركن الحجر الأسود(1). و من هذا القبيل ما توهّمه بعضهم من أنّ توجّه أهل العراق إنّما هو إلى ركن الحجر الأسود و لذا سمّي ذلك بالعراقي»(2).

أقول: ليس هذا ممّا توهّمه بعضهم كما توهّم، بل ذكره جمع كثير من أساطين الطائفة كالمحقّق في كتبه(3) و العلاّمة في جملة من كتبه(4) و الشهيد في الذكرى(5) و ثاني المحقّقين(6) و ثاني الشهيدين(7) و غيرهما(8) بل هو المشهور إن لم نقل بكونه المجمع عليه فتخطئة هؤلاء الأساطين جرأة عظيمة. بل الصحيح هو ما ذكروه، لأنّ توجّه أهل العراق إلى السدس الخامس أو السادس إلى الركن الثاني الّذي هو الركن العراقي عند بعض العامّة من الضلع الطولي الّذي فيه الحجر لا ينافي توجّههم إلى ركن الحجر، لما هو المعلوم بطريق

ص: 390


1- بحار الأنوار 81:81.
2- رسالة قبلة الآفاق: لم نعثر عليه.
3- الشرائع 186:1.
4- المنتهى 170:4، التحرير 186:1، نهاية الإحكام 394:1.
5- الذكرى 166:3.
6- جامع المقاصد 53:2.
7- المسالك 153:1.
8- كالمفيد في المقنعة: 96، الفاضل الهندي في كشف اللثام 141:3، و المحقّق الثاني في فوائد الشرائع: 29.

الحسّ أنّ كلّ بعيد في العراق إذا تمكّن من التوجّه إلى أحد السدسين تمكّن من التوجّه إلى السدس الأوّل إلى ركن الحجر لا محالة.

و إنّما يحصل التفاوت في كثرة الانحراف عن الجنوب نحو المغرب و قلّته، فإنّ من توجّه إليهما أكثر انحرافا ممّن توجّه إلى ركن الحجر بالضرورة، و حينئذ فقول الجماعة بكون توجّه أهل العراق إلى ركن الحجر و لذا سمّوه بالركن العراقي إمّا لبيان أنّه منتهى ما يجزئ التوجّه إليه من أجزاء البيت أهل العراق، أو بناء منهم على أنّه الّذي يساعد عليه الأمارات المنصوبة من الشارع، أو لمراعاة قلّة الانحراف عن الجنوب في التوجّه إليه عملا بما تقدّم من عدم الخلاف في أنّ قبلة بلاد عراقي العرب و العجم أقرب إلى الجنوب.

و ربّما أمكن كون وجهه أنّ التوجّه إلى الحجر أفضل و إن لم نقف على نصّ بذلك في كلامهم، و بالجملة الاعتراض عليهم غير متّجه.

[المسألة الخامسة: علامات قبلة البعيد الّتي يرجع إليها في معرفتها]

المسألة الخامسة: في علامات قبلة البعيد الّتي يرجع إليها في معرفتها و هي أنواع:

النوع الأوّل العلامات الأرضيّة، و هي امور:

منها: إخبار المعصوم، و هذا غير متيسّر في أزمنة الغيبة.

و منها: الصلاة مع المعصوم، و هذا أيضا غير متيسّر في هذه الأزمنة.

و منها: المحراب الّذي نصبه المعصوم أو صلّى فيه، و ممّا نصبه على ما روي محراب مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالمدينة، و روي مرسلا «أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أراد نصبه زويت(1) له الأرض فجعله بازاء الميزاب».

و محراب مسجد الكوفة و روي «أنّه نصبه أمير المؤمنين عليه السّلام و صلّى فيه ثمّ بعده الحسن و الحسين عليهما السّلام»(2) و قيل: إنّه(3) لم يتغيّر عن وضعه إلى الآن و أنّه موافق لجعل الجدي خلف المنكب كما عن المحقّق الأردبيلي رحمه اللّه(4).

و ممّا صلّى فيه المعصوم محراب مسجد البصرة صلّى فيه أمير المؤمنين عليه السّلام على ما روي.

و من المحاريب المنسوبة إلى المعصوم محراب مسجد قبا، و مسجد الشجرة و غيرهما من المساجد الّتي بناها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو صلّى فيها، و محراب مسجد سرّ من رأى فإنّه نسب

ص: 391


1- زويت الشيء: جمعته و قبضته، الصحاح 2369:6 (زوا).
2- صحيح مسلم 2889/2215:4، سنن أبي داود 4252/97:4، مسند أحمد 284/278:5.
3- حاشية الروضة: 175.
4- مجمع الفائدة و البرهان 73:2.

إلى الهادي عليه السّلام، و مسجد بخراسان ينسب إلى الرضا عليه السّلام به محراب على وفق قبلة الإماميّة كما ذكره غير واحد(1).

و ظاهر جماعة(2) و صريح بعض كون المحراب المنسوب إلى المعصوم بالنصب أو الصلاة فيه مفيدا للعلم بالقبلة، و منه من يناقش فيه.

و ضابط إفادتها القطع بالجهة كون نسبة نصبها أو الصلاة فيها إلى المعصوم متواترة، مع العلم ببقائها على الوضع الّذي كان عليه ثمّة من غير تطرّق تغيير إليها و العلم بعدم تياسره و لا تيامنه حينما صلّى إليها، و العلم بانتفاء التقيّة أيضا إذا كان المعصوم المصلّي فيها غير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و دون إثبات هذه الشروط أصعب من خرط القتاد.

النوع الثاني: العلامات السماويّة، و هي النجوم الّتي نقتصر منها على ما يختصّ بالعراق، و هو على ما ذكره الفاضلان(3) و الشهيد(4) و غيرهم(5) ممّن تأخر عنهم ثلاث علامات:

الأوّل: جعل الجدي خلف المنكب الأيمن، و هو على ما في كلام جماعة(6) مجمع العضد و الكتف، و الأصحّ أنّه ما بين الكتف و العنق، و يؤيّده جعل القطب بحذاء الاذن اليمنى على ما صرّح به غير واحد(7).

الثاني: جعل المغرب على يمينه و المشرق على يساره، و في كلام جماعة(8) تقييدهما بمغرب الاعتدال و مشرقه و إن أطلقهما الفاضلان(9) و الشهيد(10).

ص: 392


1- جامع المقاصد 52:2.
2- كالعلاّمة في النهاية 393:1، و المحقّق الثاني في جامع المقاصد 52:2 و السيّد العاملي في المدارك 131:3-132، و المجلسي في البحار 82:81، و الشهيد في الذكرى 167:3.
3- كالعلاّمة في نهاية الإحكام 394:1، و المحقّق في الشرائع 186:1 و المختصر النافع: 23 و المعتبر 2: 69.
4- الذكرى 163:3.
5- كالشهيد الثاني في روض الجنان 529:2-530 و الفاضل الهندي في كشف اللثام 142:3 و السيّد العاملي في المدارك 128:3.
6- كالشهيد في روض الجنان 529:2، و السيّد العاملي في المدارك 128:3، و المحقّق الأردبيلي في زبدة البيان: 64 و مجمع الفائدة و البرهان 74:2.
7- كالمحقّق في المعتبر 69:2 و الفاضل الهندي في كشف اللثام 144:3.
8- كالسرائر 208:1، و البيان: 53، و التنقيح الرائع 174:1، و المدارك 128:3، و جامع المقاصد 54:2.
9- كالعلاّمة في القواعد 251:1، و المحقّق في الشرائع: 18، المختصر النافع: 23.
10- الذكرى 163:3.

الثالث: جعل عين الشمس عند الزوال على الحاجب الأيمن، و الظاهر كما صرّح به جماعة(1) أنّ ما عدى العلامة الاولى مأخوذ من علم الهيئة إذ المنصوص منها العلامة الاولى مع قصور النصّ الوارد فيها سندا و دلالة حيث لم يصل إلينا في ذلك إلاّ روايتان:

إحداهما: ما رواه الشيخ في الموثّق عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: «سألته عن القبلة ؟ قال: ضع الجدي في قفاك و صلّه»(2) و إنّما حملوه على قبلة العراق لكون الراوي كوفيّا، و الرواية منقولة عن كتاب عليّ بن الحسن الطاطري في القبلة، و هو على ما عن الشيخ في الفهرست(3) كتاب معتمد عليه، و لذا عدّوها من الموثّق.

و ثانيتهما: مرسلة الفقيه قال: «و قال رجل للصادق عليه السّلام: إنّي أكون في السفر و لا أهتدي إلى القبلة بالليل، قال: أ تعرف الكوكب الّذي يقال له جدي ؟ قلت: نعم، قال: اجعله على يمينك، و إذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك»(4) و قصور السند الأوّل إن كان مع ضعف الثاني بالإرسال مجبور بعمل الأصحاب، كما أشار إليه في الذخيرة(5).

و يعضدهما الآية وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (6) بملاحظة ما ورد في تفسيره، كالمرويّ عن تفسير العيّاشي عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ قال: هو جدي، لأنّه لا يزول، و عليه بناء القبلة و به يهتدي أهل البرّ و البحر»(7) و المرويّ عنه أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: وَ عَلاٰمٰاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ قال: «ظاهر و باطن الجدي عليه بني القبلة و به يهتدى أهل البرّ و البحر لأنّه نجم لا يزول»(8).

و لا خفاء في قصور دلالة الخبرين بالإجمال، فإنّ القفا في الخبر الأوّل أعمّ من خلف المنكب الأيمن، كما أنّ اليمين في الخبر الثاني أعمّ من خلف الأيمن، و فيه إجمال من جهة اخرى باعتبار الدلالة على تعيين ذلك للعراقي فيه، إلاّ أنّ الأصحاب حملوها على

ص: 393


1- كما في المدارك 128:3، و الجواهر 574:7، و البهائي في حبل المتين: 192.
2- الوسائل 1/306:4، ب 5 من أبواب القبلة، التهذيب 143/45:2.
3- الفهرست: 216.
4- الوسائل 2/306:4، ب 5 من أبواب القبلة، الفقيه 860/181:1.
5- الذخيرة: 220.
6- سورة النحل: 16.
7- الوسائل 3/307:4، ب 5 من أبواب القبلة، تفسير العيّاشي 12/256:2.
8- الوسائل 4/307:4، ب 5 من أبواب القبلة، تفسير العيّاشي 13/256:2 و الفاضل الهندي في كشف اللثام 142:3 و رسائل المحقّق الكركي (شرح الألفيّة): 242.

ما يساعد عليه الاعتبار المأخوذ من علم الهيئة من إرادة خلف المنكب الأيمن من القفاء و اليمين، و في شرح الدروس «لمّا كان جعل الجدي على اليمين ممّا يناسب المواضع الشرقيّة عن مكّة شرّفها اللّه تعالى - كالعراق و ما والاها ذكره بعض علمائنا في علامات قبلتهم» انتهى(1)و عليه فعمل الأصحاب كما ينهض جابرا لقصور سند الخبرين فكذلك ينهض جابرا لقصور دلالتهما أيضا. و لكن لا يخفى أنّ مرجع هذه العلامة بالآخرة أيضا إلى علم الهيئة.

ثمّ الجدي أصله على ما ذكره جماعة(2) مكبّر، و إنّما صغّر للتميّز بينه و بين البرج، و هو نجم مضيء يدور مع الفرقدين حول قطب العالم الشمالي المقابل للقطب الجنوبي، و هما نقطتان متقابلتان يدور عليهما الفلك، و في الذخيرة(3) و غيرها(4) «أنّه نجم مضيء في جملة النجم بصورة سمكة تقرب من القطب الشمالي، و الجدي رأسها و الفرقدان ذنبها». و ظنّي أنّها لو شبّهت بخنجر يكون الجدي طرفه الأسفل و الفرقدان طرفه الأعلى كان أوفق.

و قد شرط جماعة(5) في هذه العلامة كون الجدي في غاية ارتفاعه أو انخفاضه، فإنّه على ما عرفت يدور مع الفرقدين حول القطب الشمالي كلّ يوم و ليلة دورة كاملة، و غاية ارتفاعه و انخفاضه أن يكون على دائرة نصف النهار على معنى كونه في إحدى الحالتين عليها، و علامته أن يكون إلى جهة السماء و الفرقدان إلى الأرض أو عكس ذلك، فالأوّل غاية ارتفاعه و الثاني غاية انخفاضه كما ذكره جماعة.

منهم: ثاني الشهيدين في عبارته المحكيّة عن شرح الإرشاد، فإنّه في توجيه الشرط المذكور و بيان وجه الاشتراط قال: «لمّا كان الجدي ينتقل عن مكانه مشرقا و مغربا و ارتفاعا و انخفاضا لم يكن علامة دائما بل إنّما يكون علامة في حال غاية ارتفاعه بأن يكون إلى جهة السماء و الفرقدان إلى الأرض أو غاية انخفاضه عكس الأوّل كما قيّده بذلك المصنف رحمه اللّه(6) و غيره(7) و أمّا إذا كان أحدهما إلى جهة المشرق و الآخر إلى المغرب

ص: 394


1- شرح الدروس: 690.
2- كالشهيد الثاني في روض الجنان 529:2، و الشهيد الأوّل في الذكرى 163:3، و المحقّق الثاني في جامع المقاصد 54:2 و السيّد العاملي في المدارك 128:3.
3- الذخيرة: 220.
4- جامع المقاصد 54:2، و الذكرى 162:3، و روض الجنان 529:2.
5- كالمحقّق الثاني في جامع المقاصد 55:2 و الشهيد الثاني في روض الجنان 529:2.
6- التذكرة 13:3، نهاية الإحكام 395:1.
7- كالشهيد في الذكرى 163:3، و المحقّق الثاني في جامع المقاصد 55:2.

فالاعتبار بالقطب و هو نجم خفيّ في وسط الأنجم الّتي بصورة السمكة لا يكاد يدركه إلاّ حديد البصر، و هو علامة دائما، كالجدي حال استقامته، و لا يتغيّر عن مكانه إلاّ يسيرا لا يكاد يتبيّن للحسّ فلا يؤثّر في الجهة، و حركته اليسيرة دورة لطيفة حول قطب العالم الشمالي. قال: و إنّما شرط في الجدي الاستقامة لكونه في تلك الحال على دائرة نصف النهار فإنّها تمرّ بقطبي العالم و تقطع الافق على نقطتين هما نقطتا الجنوب و الشمال، فإذا كان القطب مسامتا لعضو من المصلّي كان الجدي على تلك الحالة مسامتا له أيضا لكونهما على دائرة واحدة بخلاف ما لو كان منحرفا نحو المشرق و المغرب»(1).

كذا نقله في الذخيرة(2) و عنه أيضا في المدارك «أنّ أقرب الكواكب إلى القطب هو ذلك النجم الخفيّ الّذي لا يدركه إلاّ حديد البصر يدور حوله كلّ يوم و ليلة دورة لطيفة لا تكاد تدرك، و يطلق على هذا النجم القطب مجازا لمجاورته القطب الحقيقي و هو علامة لقبلة العراق... إلى أن قال: و ما ذكره مشهور بين الأصحاب و ممّن صرّح به المصنّف في المعتبر(3) و العلاّمة في المنتهى(4) و الشهيد في الذكرى(5).

ثمّ نقل عن المحقّق الأردبيلي أنّه نقل عن بعض محقّقي أهل ذلك العلم أنّ هذا الشرط غير جيّد، لأنّ الجدي في جميع أحواله أقرب إلى القطب الحقيقي من ذلك النجم الخفيّ ، و لهذا كان أقلّ حركة منه كما يظهر بالامتحان و هذه الحركة إنّما هي للفرقدين لا للجدي فإنّ حركته يسيرة جدّا(6). و قد اعتبرنا ذلك فوجدناه كما أفاد.

ثمّ نقل عن المحقّق في المعتبر أنّه اعتبر لأهل المشرق أوّلا جعل الجدي خلف المنكب الأيمن، ثمّ قال: إنّ الجدي ينتقل، و الدلالة القويّة القطب الشمالي، فإذا حصّله العراقي جعله خلف اذنه اليمنى دائما فإنّه لا يتغيّر و إن تغيّر كان يسيرا(7) قال: و بين الكلامين تخالف و اعتبار محراب مسجد الكوفة يساعد على الأوّل»(8).

و في حاشية الروضة للخونساري عن المحقّق الأردبيلي عن المحقّق الشيخ عليّ «أنّه اعتبر الكتف و جعل قبلة خراسان و أكثر بلاد العجم على وضع الجدي خلف الكتف»(9)و غيّر ما كان على غير ذلك إليه، و استبعده، قال المحشيّ : «و لا يخفى أنّ اعتبار الكتف و إن

ص: 395


1- روض الجنان 529:2-530.
2- الذخيرة: 220.
3- المعتبر 69:2.
4- المنتهى 170:4.
5- الذكرى 163:3.
6- مجمع الفائدة و البرهان 72:2.
7- المعتبر 69:2.
8- المدارك 128:3-129.
9- مجمع الفائدة و البرهان 74:2.

كان أقرب إلى العلامة الاولى يعني جعل المغرب على الأيمن و المشرق على الأيسر، و كذا إلى رواية محمّد بن مسلم، و كذا إلى الاعتبار في بعض البلاد المائلة عن أوساط العراق إلى المغرب لكن في أوساط العراق و أطرافه الشرقيّة الأقرب إلى الاعتبار هو اعتبار المنكب، و كذا ما في سمتها من بلاد خراسان بل الأقرب فيها لكونها مائلة إلى الشرق جدّا جعل الجدي على المنكب الأيمن لا خلفه فكيف بخلف الكتف»(1).

ثمّ إنّ إطلاق المشرق و المغرب في كلام من أطلقهما عند بيان العلامة الثانية لعلّه إشعار بإرادة ما يتبادر منهما عرفا و هو المعمول عند عامّة الناس من مطلع الشمس في كلّ يوم من أيّام السنة و مغربها في ذلك اليوم، فيكون المراد من هذه العلامة جعل مشرق كلّ يوم على اليسار و مغرب ذلك اليوم على اليمين، كما احتمله في الذخيرة(2) و لعلّه المراد ممّا احتمله الشهيد في الروضة(3) «من إرادة الجهتين العرفيتين». و لذا فسّرهما في حاشية الروضة «بتمام القوس الّذي فيه مطالع الشمس في السنة و ما فيه مغاربها كذلك»(4) و ربّما فسّرتا بما بين نقطتي الجنوب و الشمال، و فساده غير خفيّ .

و احتمل في الروضة أيضا إرادة الجهتين اصطلاحا من الإطلاق، و فسّرهما بالجهتين المتقابلتين المقاطعتين لجهتي الجنوب و الشمال بخطّين بحيث يحدث منهما زوايا قوائم، و إنّما ذكر ذلك بعد ما احتمل فيه إرادة الاعتداليين، و ظاهره موافقتهما للجهتين اصطلاحا في تقاطع المشرق و المغرب للجنوب و الشمال بخطّين يحدث منهما زوايا قوائم، و لذا فسّرهما المحقّق السلطان في الحاشية المنسوبة إليه «بالمتحاذيين لليمين و اليسار عند استقبال نقطة الجنوب في البلاد الموافقة في الطول المختلفة في العرض»(5).

و لذا أيضا نقل المحقّق الخونساري في حاشية الروضة عن شرح التذكرة للعلاّمة الخفري «بأنّهما نقطتا تقاطع الافق و المعدّل فيما لم يكن الافق رحويّا أي منطبقا على المعدّل، فإنّ في غير الرحوي ينصّف الافق المعدّل بنقطتين متقابلتين إحداهما في جهة الشرق و تسمّى نقطة المشرق و مطلع الاعتدال، و الاخرى في جهة الغرب و تسمّى نقطة المغرب و مغيب الاعتدال، و الخطّ المستقيم الواصل بينهما يسمّى خطّ المشرق و المغرب، و نقطتا تقاطع نصف النهار، و الافق تسمّيان نقطتي الشمال و الجنوب، و الخطّ المستقيم

ص: 396


1- حاشية الروضة: 175.
2- الذخيرة: 220.
3- الروضة البهيّة 509:1.
4- حاشية الروضة: 176.
5- الروضة البهيّة 507:1.

الواصل بينهما يسمّى خطّ نصف النهار و هو مقاطع للخطّ الأوّل على قوائم في سطح الافق.

ثمّ قال: و منه يظهر أنّ الاعتداليّين لا يغايران ما ذكره من الجهتين اصطلاحا كما هو ظاهر عبارته، و كأنّه رحمه اللّه لم يرد بالاعتداليّين، ما هو مصطلحهم بل أراد بهما مطلع الشمس و مغربها في أحد الاعتدالين، و حينئذ يظهر بينهما و بين الجهتين اصطلاحا تفاوت يسير فإنّه إذا كان مطلع الشمس في أوّل الربيع مثلا نقطة أوّل الحمل كان مغربها في ذلك مائلا عن النقطة المقابلة لها الّتي هي نظيرتها بقدر ما يقتضيه حركتها الثانية في ذلك اليوم، فالاعتداليان حينئذ هما تلك النقطة، و نقطة أوّل الحمل و الجهتان اصطلاحا هما نقطتا أوّل الحمل و نظيرتها» انتهى(1).

و اعلم أنّ علماء الهيئة بعد ما سمّوا قطبي الافق سمتي الرأس و القدم، قسّموا الافق باعتبار الخطّ المستقيم الواصل بينهما إلى المستقيم و الرحوي و المائل.

و الأوّل: ما كان طرفا ذلك الخطّ فيه واقعين على المعدّل، و لازمه انطباق المعدّل على السمتين. و الثاني: ما كان طرفاه فيه واقعين على قطبي المعدّل أعني القطب الشمالي و القطب الجنوبي، و لازمه انطباق الافق على المعدّل. و الثالث: ما لم يكن هذا و لا ذلك، هكذا أفاد الشارح(2) الجغميني.

و أمّا ما استظهره من عبارة الروضة من إرادة ما يغاير الجهتين اصطلاحا فغير جيّد، لبناء كلامه على إرادة ما يوافقهما، لكون غرضه في المقام إبداء المخالفة في علامات القبلة بين جعل الجدي حال غاية ارتفاعه أو انخفاضه خلف المنكب الأيمن، و بين جعل المشرق على الأيسر و المغرب على الأيمن، بأنّ جعلهما كذلك يقتضي جعل الجدي في الحالة المذكورة بين الكتفين لا على خلف المنكب الأيمن، سواء اريد بالمشرق و المغرب الجهتان اصطلاحا أو الاعتداليان، و هذا لا يتحمّل إرادة خلاف مصطلحهم من الاعتداليين، لأنّ جعل المشرق و المغرب الاعتداليين بغير المصطلح و هو الّذي ذكره المحشّي على الأيسر و الأيمن لا يقتضي جعل الجدي بين الكتفين حقيقة، بدليل اقتضائه الانحراف عن نقطة الجنوب يسيرا على ما ذكره من التفاوت اليسير بينهما و بين الجهتين اصطلاحا. غاية الأمر كون انحرافه أقلّ من الانحراف اللازم من جعل الجدي خلف المنكب الأيمن.

و كيف كان فهاهنا إشكال معروف أورد على الجمع بين العلامات الثلاث لجهة واحدة،

ص: 397


1- حاشية الروضة: 175.
2- شرح الچغميني: 52.

لمخالفة العلامة الاولى - و هو جعل الجدي خلف المنكب الأيمن - للباقيتين، لأنّ الجدي حال استقامته يكون على دائرة نصف النهار، و جعل المشرق و المغرب على الوجه المذكور على الأيسر و الأيمن، كجعل الشمس عند الزوال على الحاجب الأيمن ممّا يلي الأنف يوجب جعل الجدي في الحالة المذكورة بين الكتفين، كما هو قضيّة تقاطع خطّ نصف النهار و خطّ المشرق و المغرب، و تقاطع جهتي المشرق و المغرب لجهتي الجنوب و الشمال بخطّين يحدث منهما زوايا قوائم، و جعل الجدي خلف المنكب الأيمن يقتضي الانحراف بالوجه عن نقطة الجنوب نحو المغرب كثيرا، و يلزم بواسطته انحراف الأيمن عن المغرب نحو الشمال و الأيسر عن المشرق نحو الجنوب، فلا يصحّ جعلهما معا علامة لجهة واحدة.

قال في الروضة: «إلاّ أن يدّعى اغتفار هذا التفاوت و هو بعيد خصوصا مع مخالفة العلامة للنصّ و الاعتبار، قال: فهي إمّا فاسدة الوضع أو مختصّة ببعض جهات العراق و هو أطرافه الغربيّة كالموصل و ما والاها، فإنّ التحقيق أنّ جهتهم نقطة الجنوب»(1).

أقول: هذا إشارة إلى ما نسب إلى محقّقي أصحابنا المتأخّرين(2) من تقسيمهم العراق إلى أقسام ثلاث جمعا بين العلامات الثلاث، فخصّوا ما عدى العلامة الاولى بأطرافه الغربيّة كالموصل و بلاد الجزيرة، و الاولى بأواسطه كبغداد و الكوفة و المشهدين، لانحراف قبلتهم عن نقطة الجنوب نحو المغرب، و أمّا أطرافه الشرقيّة كالبصرة و ما والاها فيحتاجون إلى زيادة انحراف، و لذلك حكموا بأنّ علامتها جعل الجدي على الحذاء الأيمن، و في الذخيرة «و يقرب منها تبريز و أردبيل و قزوين و همدان و ما والاها من بلاد خراسان»(3)و في شرح الدروس «هذا التقسيم هو الموافق لقواعد الهيئة، فإنّ طول بغداد على ما ذكره المحقّق نصير الملّة و الدين قدّس سرّه يزيد على طول مكّة شرّفها اللّه تعالى بثلاث درج فقبلتها منحرفة يسيرا عن نقطة الجنوب لاتّحاد نصف نهارهما، و أمّا البصرة فيزيد طولها على طول مكّة بسبع درج ففي قبلتها زيادة انحراف إلى المغرب عن قبلة بغداد فجعلوا علامتها وضع الجدي على الخدّ الأيمن»(4).

أقول: موافقة العلامة الثانية للثالثة في كونهما علامتين لجهة واحدة كما هو الظاهر من المتعرّضين لهذا التقسيم المصرّح به في كلام غير واحد منهم موضع نظر، لأنّ زوال الشمس

ص: 398


1- الروضة البهيّة 508:1-509.
2- روض الجنان 532:2، و الذخيرة: 220.
3- الذخيرة: 220.
4- شرح الدروس 691:1.

عبارة عن ميلها عن دائرة نصف النهار نحو المغرب، فهي قبل أن تأخذ بالميل تكون على دائرة نصف النهار، و لازمه كونها حينئذ مجازيّة لنقطة الجنوب، فتكون حينئذ على ما بين الحاجبين من مستقبل هذه النقطة، و الموافق للعلامة الثانية هو هذه الحالة، و ميلها عن دائرة نصف النهار يقتضي ميلها عمّا بين الحاجبين إلى الحاجب الأيمن، لا كونها على الحاجب الأيمن و بلوغها إلى حيث تكون عليه يقتضي مضيّ زمان من الزوال.

فلو اريد من ذلك أن يصير عند الزوال إلى أن يبلغ الشمس إلى حيث تكون على الحاجب الأيمن ثمّ يتوجّه إلى ما يحاذيه الحاجب الأيمن، فإنّ هذا هو الجهة المطلوبة في العراق، فيلزم الانحراف على هذه العلامة عن الجنوب نحو المغرب، فتكون هذه قريبة من العلامة الاولى بل موافقة لها لا للعلامة الثالثة، و لعلّ نظر من ذكرها مع العلامة الاولى إلى إرادة نحو هذا المعنى، و إن كان لا يساعد عليه ظاهر العبارة.

و لو اريد من كونها على الحاجب الأيمن عند الزوال كونها عليه على وجه الحقيقة، فهذا يقتضي الانحراف يسيرا عن الجنوب نحو المشرق، فتكون هذه العلامة مخالفة للعلامتين معا بل تخرج حينئذ عن كونها علامة لقبلة العراق لأنّها على ما ظهر من التقسيم غير خالية عن كونها نقطة الجنوب أو منحرفة عنها، فاعتبار الموافقة للعلامة الأخيرة يقتضي اعتبار كون الشمس حال كونها على دائرة نصف النهار على ما بين الحاجبين لا على الحاجب الأيمن عند الزوال، و إلاّ لزم الانحراف المخرج لها عن موافقة العلامتين إلاّ أن يراد من كلمة المقارنة معنى البعديّة فيوافق العلامة الاولى كما ذكرنا.

و ربّما احتمل كون مبنى الفرض على الحاجبين المتواصلين مع كون المراد من الحاجب الأيمن مبدأه، كما ربّما يومئ إليه ما في كلام جماعة(1) من تقييده بما يلي الأنف فيوافق العلامة الثالثة، و اعتبار الزوال حينئذ، لأنّ محاذاة الجنوب حال كون الشمس على الحاجب الأيمن ممّا يلي الأنف لا يعرف إلاّ بكونها كذلك عند الزوال، فلا بدّ من معرفة الزوال من غير جهة معرفة القبلة ليكون ما ذكر علامة لها.

و ربّما جعل من علامات العراق أيضا سهيل عند غاية ارتفاعه فإنّه حينئذ يكون مسامتا لنقطة الجنوب كما في غاية ارتفاع كلّ كوكب، و حينئذ فكيفيّة العلم به عكس الجدي، ضرورة كونه حينئذ في أواسط العراق مقابلا للمنكب الأيسر، و في شرقيّة للخدّ الأيسر،

ص: 399


1- كما في المنتهى 170:4.

و في غربيّة بين العينين.

و قد يجعل منها أيضا منازل القمر كما في الذكرى(1) و جملة من كتب العلاّمة كالتذكرة(2)و المنتهى(3) و المسالك و غيرها(4) من كتب متأخّري المتأخّرين، قال في المسالك:

و أمّا القمر فإنّه يكون ليلة السابع من الشهر في قبلة العراق أو قريبا منها عند المغرب، و ليلة الرابع عشر منه نصف الليل، و ليلة الحادي و العشرين عند الفجر، إلاّ أنّ ذلك كلّه تقريبي لا يستمرّ على وجه واحد، لاختلاف حركات القمر، فلذلك اشترط التعويل عليها بفقد العلامات الثانية كالجدي»(5) انتهى.

و قد يجعل منها الرياح الأربع، و هي الجنوب و الشمال و الدبور و الصبا.

قيل: «إنّ الجنوب: محلّها ما بين مطلع سهيل إلى مطلع الشمس في الاعتدالين، و الدبور:

من مغرب الشمس إلى سهيل و هي مقابلة للصبا، و الشمال: محلّها ما بين الجدي إلى مغرب الشمس في الاعتدال و تمرّ إلى مهبّ الجنوب، كما أنّ الجنوب تمرّ إلى مهبّ الشمال، و الصبا: محلّها ما بين مطلع الشمس إلى الجدي»(6) و في المجمع قيل الصبا هي الّتي تجيء ظهرك إذا استقبلت، و الدبور عكسها... إلى أن قال: و عن بعض أهل التحقيق أنّ الصبا محلّها ما بين مطلع الشمس و الجدي في الاعتدال و الشمال، محلّها من الجدي إلى مغرب الشمس في الاعتدال، و الدبور من سهيل إلى المغرب، و الجنوب من مطلع الشمس إليه.

و فيه أيضا «أنّ العرب تزعم أنّ الدبور تزعج السحاب و تشخصه في الهواء ثمّ تسوقه، فإذا علا كشفت عنه و استقبلته الصبا فوزّعت بعضه على بعض حتّى يصير كسفا واحدا، و الجنوب تلحق روادفه و تمدّه، و الشمال تمزّق السحاب»(7).

و كيفيّة جعلها علامة ما ذكره في التذكرة بقوله: «و أمّا الرياح فكثيرة يستدلّ منها بأربع تهبّ من زوايا السماء، فالجنوب تهبّ من الزاوية الّتي بين القبلة و المشرق، مستقبلة بطن كتف المصلّي الأيسر ممّا يلي وجهه إلى يمينه، و الشمال مقابلها تهبّ من الزاوية الّتي بين المغرب و الشمال مارّة إلى مهبّ الجنوب، و الدبور تهبّ من الزاوية الّتي بين المغرب و اليمين مستقبلة شطر وجه المصلّي الأيمن مارّة إلى الزاوية المقابلة لها، و الصبا مقابلها

ص: 400


1- الذكرى 164:3.
2- التذكرة 13:3.
3- المنتهى 170:4.
4- مستند الشيعة 185:4 و المدارك 132:3 و مجمع الفائدة و البرهان 66:2.
5- المسالك 156:1.
6- الذكرى 162:3-163.
7- مجمع البحرين 1008:2.

تهبّ من ظهر المصلّي» انتهى(1).

و اعترض بأنّ هذه الرياح إنّما تصلح لإفادة المظنّة عند معرفتها، و هي موقوفة على معرفة الجهات الأربع، و عند معرفتها لا يفتقر إلى الرياح، و ردّ بأنّه قد يتّفق العلم بها للماهرين من غير العلم بالجهة بل بعلامات اخر كالحرارة و اليبوسة و البرودة و الرطوبة و إثارة السحاب.

و على هذا نبّه بعض مشايخنا بقوله: «و لعلّ معرفتها مع فرض عدم معرفة القبلة و عدم العلم بمطلع الشمس و مغربها مثلا يحصل برطوبة بعضها و عدمه في آخر، و إثارته التراب و عدمه، و حصول الغيم به و عدمه، و غير ذلك فحينئذ يجعل مهبّ كلّ منها على ما علم من حال العراقي إن كان عراقيّا و الشامي إن كان شاميّا، لكنّ الحقّ أنّه لا يعرف ذلك إلاّ آحاد من الناس كما اعترف به في المسالك(2) و غيرها(3)، و عن منظومة(4) السيّد الطباطبائي:

و في الرياح للجهات الأربع *** شواهد لعارف مطّلع»(5)

تذنيب: لتمهيد ضابط كلّي لمعرفة القبلة بالجهة المختلفة بحسب اختلاف النواحي و البلاد الموقوفة على معرفة أمرين:

أحدهما: معرفة الجهات الأربع الجنوب و الشمال و المشرق و المغرب.

و ثانيهما: معرفة الأطوال و العروض المقرّرة للبلاد مع معرفة طول مكّة و عرضها، فنقول:

ليعلم أوّلا أنّ المعروف بين الأصحاب اتّحاد قبلة خراسان لقبلة العراق و عزاه في الذكرى إلى أكثر الأصحاب(6) قائلا: «أكثر الأصحاب ذكر خراسان في قبلة أهل العراق، و حكم باتّحاد العلامات و بلغني أنّ بها محرابا للإمام أبي الحسن الرضا عليه السّلام، فإن صحّ النقل فلا عدول عنه، و إلاّ فالأولى جواز الاجتهاد في التيامن و التياسر و إن كان الاستقبال إلى الركن العراقي و كلام الأصحاب لا ينافيه» انتهى(7). و يظهر من بعض العبارات كون الاتّحاد وفاقيّا، و قضيّة ذلك انقسام خراسان كالعراق إلى الأقسام الثلاث المتقدّمة، كما يظهر ذلك من عبارة المحقّق الخونساري المتقدّمة عن حاشية الروضة(8).

ص: 401


1- التذكرة 14:3.
2- المسالك 17:1.
3- روض الجنان 521:2.
4- الدرّة النجفيّة: 90.
5- الجواهر 594:7-595.
6- راجع المقنعة: 14، النهاية: 63 و المراسم: 61.
7- الذكرى 166:3.
8- حاشية الروضة: 176.

لكن في كلام بعض الأجلّة في كتابه - الموسوم بمطالع الأنوار - أنّ المحكيّ عن الفاضلين أعلى اللّه مقامهما أنّ قبلة الكوفة و خراسان واحدة، و كأنّهما على تقدير صحّة النسبة أرادا بالكوفة مطلق العراق، و إلاّ فما ذكراه واضح الفساد لاختلاف أكثر بلاد خراسان مع الكوفة في الطول و العرض، و معه كيف يمكن كون قبلتهما واحدة ؟ و لذا أورد بعض الأجلّة - المتقدّم ذكره - بأنّه غير صحيح، لأنّ من جملة بلاد خراسان سبزوار و طولها إحدى و تسعون درجة و عرضها سبع و ثلاثون درجة، و منها نيشابور و طوس و ترشيز و طبس و تون فإنّ الطول في جميع ذلك اثنتان و تسعون درجة، و منها قائن و طولها ثلاث و تسعون درجة، و العرض في الأوّل ستّ و ثلاثون، و في الثاني سبع و ثلاثون، و في الثالث خمس و ثلاثون، و في الخامس أربع و ثلاثون، و في الرابع و السادس ثلاث و ثلاثون، و طول كوفة قد عرفت تسع و سبعون يزيد على طول مكّة بدرجتين، فلو كان هذا المقدار من التفاوت يوجب مقدارا من الانحراف من نقطة الجنوب إلى المغرب فكيف لا يوجبه سبعة مقدار هذا التفاوت أو ثمانية مقداره ؟ كما فيما نحن فيه، فإنّ الأطوال في البلاد المذكورة تزيد على طول مكّة بأربع عشرة أو بخمس عشرة أو بستّ عشرة درجة كما عرفت، فلا بدّ أن يكون انحراف القبلة إلى المغرب في البلاد المذكورة أكثر بكثير، فكيف يمكن الحكم باتّحاد القبلة في الكوفة و خراسان ؟ و احتمال الاغتفار و جواز المسامحة إلى هذا المقدار مستبعد جدّا، ثمّ ذكر أنّه أخذ الأطوال و العروض المذكورة في هذا الباب من الزيج الجديد المنسوب إلى لالغ بيك» انتهى(1).

و اعلم: أنّ طول البلد عبارة عن بعده عن مبدأ العمارة، و عرضها عبارة عن بعده عن خطّ الاستواء، و قد مرّ شرح خطّ الاستواء و بيان مبدأ العمارة و منتهاها و مقدار طولها، و طول مكّة شرّفها اللّه تعالى على ما ادّعى الاتّفاق عليه سبعة و سبعون درجة و عشرة دقائق، و عرضها إحدى و عشرون درجة و أربعون دقيقة، و حينئذ فالبلد مع مكّة إمّا يوافقان طولا و يخالفان عرضا بكون عرض البلد أقلّ أو أكثر، أو يوافقان عرضا و يخالفان طولا بكون طول البلد أقلّ أو أكثر، أو يخالفان طولا و عرضا بكون طول البلد أقلّ و عرضه أكثر، أو بالعكس، أو كلّ من عرضه و طوله أقلّ أو أكثر، فصور التقسيم ثلاثة، و الأقسام الحاصلة

ص: 402


1- مطالع الأنوار 109:1.

منها ثمانية.

و أمّا الصورة الرابعة المتصوّرة و هي كونهما موافقين في الطول و العرض معا فهي غير متحقّقة أو أنّها نفس مكّة و قبلتها عين الكعبة، و لذا لم يلتفت إليها أكثر من تعرّض للتقسيم، و المستفاد من كلام جماعة(1) انقسام سمت القبلة باعتبار اختلاف أقسام هذا التقسيم إلى كونه نقطة الشمال كما في القسم الأوّل، أو نقطة الجنوب كما في القسم الثاني، فلا حاجة فيهما إلى أزيد من استخراج النقطتين بطريق الدائرة الهنديّة أو مشرق الاعتدال كما في القسم الثالث، أو مغربه كما في القسم الرابع، فلا حاجة فيهما أيضا إلى أزيد من استخراج المشرق و المغرب أو ما بين الجنوب و المشرق كما في القسم الخامس، أو ما بين الشمال و المغرب كما في القسم السادس، أو ما بين المشرق و الشمال كما في القسم السابع، أو ما بين المغرب و الجنوب كما في القسم الثامن، فيحتاج في هذه الأربع إلى طريق آخر يستعلم منه مقدار انحراف القبلة عن الجنوب إلى المشرق أو عن الشمال إلى المغرب أو عن الشمال إلى المشرق أو عن الجنوب إلى المغرب.

و فيه بالقياس إلى القسم الثالث و الرابع نظر واضح، لأنّ ذلك إنّما يتمّ فيما لو كان مكّة مع البلد تحت خطّ الاستواء، و بعبارة اخرى أن لا يكون لهما عرض فحينئذ يكون القبلة إمّا مشرق الاعتدال أو مغربه إن اريد بهما نقطتا تقاطع الافق مع المعدّل، و حينئذ فلو بعدا عن خطّ الاستواء و تساويا في البعد فلا محالة ينحرف القبلة عن المشرق إلى الشمال أو عن المغرب إلى الشمال أيضا.

و من أفاضل علماء الهيئة من برهن فساد ما توهّمه الجماعة، بأنّ اتّفاق بلدين في العرض الشمالي أو الجنوبي عبارة عن تساوي بعد سمت رأسهما أو سمت قدمهما عن معدّل النهار الّذي هو مبدأ العرض، و هذا البعد لا محالة كمال انفراج أوّل سموت البلد عن المعدّل، فلو كان البلدان المتوافقان في العرض تحت أوّل سموت واحد لزم أن يكون لأوّل السموت المذكور المقاطع للمعدّل في قطبي نصف النهار اللذين هما نقطتا المشرق و المغرب في جهة واحدة كما لا انفراج و بطلانه ظاهر، و عليه فكلّ بلد وافق المكّة المعظّمة في العرض لا يمكن أن يكون معها تحت أوّل سموت واحد حتّى يكون قبلته في هذه

ص: 403


1- كما في حاشية الروضة: 176.

الصورة مشرق الاعتدال أو مغربه، بل قبلة البلاد الشرقيّة لمكّة لا بدّ أن تكون منحرفة عن مغرب الاعتدال إلى الشمال، و البلاد الغربيّة لها لا بدّ و أن تكون منحرفة عن مشرق الاعتدال إلى الشمال، و كلّما ازداد تفاوت الطولين ازداد الانحراف لا محالة فإنّ سوس الأقصى الّتي من البلاد الغربيّة البعيدة و دار الملك الصين الّتي من البلاد البعيدة الشرقيّة مع قرب اتّفاق كلّ معها في العرض قبلتهما تنحرف عن مشرق الاعتدال و مغربه بدرجات، فظهر مسيس الحاجة في القسم الثالث و الرابع أيضا بعد تعيين جهتي المشرق و المغرب إلى طريق آخر يستخرج به قدر الانحراف، و قد ذكر علماء الهيئة لذلك عدّة طرق مضبوطة في مظانّها، و لا يخلو شيء منها عن شيء و من يطلبها يراجع مظانّها.

و الأولى الاقتصار على بيان مقادير انحراف البلاد المنحرفة عن الجنوب إلى المغرب أو إلى المشرق أو عن الشمال إلى المشرق أو إلى المغرب المنقسمة بهذا الاعتبار إلى أقسام أربع حسبما ضبطها بعض أفاضل الفنّ في رسالة قبلة(1) الآفاق.

المقسم الأول: البلاد الشرقيّة المنحرفة عن الجنوب إلى المغرب و هي خمسة و سبعون بلدا و هي:

بانارس الهند و انحرافها عن الجنوب نحو المغرب ستّة و ثمانون درجة، و اكره أربعة و ثمانون درجة، و دهلي ثلاثة و ثمانون درجة، و ديبل ثلاثة و ثمانون درجة أيضا، و منصورة سند إحدى و ثمانون درجة، و لهادر خمسة و سبعون درجة، و تهامة ثلاثة و سبعون درجة، و هرموز اثنان و سبعون درجة، و مولتان أيضا اثنان و سبعون درجة، و خان بالق واحد و سبعون درجة، و كشمير تسعة و ستّون درجة، و قطيف أيضا تسعة و ستّون درجة، و لحسا ثمانية و ستّون درجة، و قندهار أيضا ثمانية و ستّون درجة، و بست خمسة و ستّون درجة، و تبّت أربعة و ستّون درجة، و سيستان اثنان و ستّون درجة، و بدخشان أيضا اثنان و ستّون درجة، و پيش بالغ إحدى و ستّون درجة، و قراقرم أيضا إحدى و ستّون درجة، و بحرين ستّون درجة، و بلخ تسعة و خمسون و ختن ثمانية و خمسون درجة، و كرمان أيضا ثمانية و خمسون درجة، و فارياب ستّة و خمسون درجة، و كاشغر أربعة و خمسون درجة، و مرو اثنتان و خمسون درجة، و هرات إحدى و خمسون درجة، و شيراز أيضا إحدى و خمسون

ص: 404


1- لم نعثر عليه.

درجة، و كش خمسون درجة، و سمرقند تسعة و أربعون درجة، و بخارى أيضا تسعة و أربعون درجة، و خجند ثمانية و أربعون درجة، و تون أيضا ثمانية و أربعون درجة، و ترشيز أيضا ثمانية و أربعون درجة، و سرخس سبعة و أربعون درجة، و بناكت ستّة و أربعون درجة، و المانع أيضا ستّة و أربعون درجة، و نيشابور أربعة و أربعون [درجة] و طوس ثلاثة و أربعون درجة، و سبزوار اثنتان و أربعون درجة، و طراز أيضا اثنتان و أربعون درجة، و يزد أيضا اثنتان و أربعون درجة، و رامهرمز أربعون درجة، و أصفهان تسعة و ثلاثون درجة، و دامغان ثمانية و ثلاثون درجة، و سمنان سبعة و ثلاثون درجة، و كركانج أيضا سبعة و ثلاثون درجة، و استرآباد ستّة و ثلاثون درجة، و بصرة أيضا ستّة و ثلاثون درجة، و كاشان خمسة و ثلاثون درجة، و قم اثنتان و ثلاثون درجة، و شوشتر أيضا اثنتان و ثلاثون درجة، ري إحدى و ثلاثون درجة، و ساري أيضا إحدى و ثلاثون درجة، و ساوه ثمانية و عشرون درجة، و قزوين سبعة و عشرون درجة، و آبه خمسة و عشرون درجة، و شهرزاد أربعة و عشرون درجة، و كوبا مدينة روس أيضا أربعة و عشرون درجة، و لاهيجان ثلاثة و ثلاثون درجة، و همدان اثنتان و عشرون و شماخي عشرون درجة، و باكوبة أيضا عشرون درجة، و بلغار تسعة عشر درجة، و باب الأبواب ثمانية عشر درجة، و اردبيل أيضا ثمانية عشر درجة، و تبريز ستة عشر درجة، و تفليس أيضا ستّة عشر درجة، و مراغه خمسة عشر درجة، و بغداد ثلاثة عشر درجة، و نخجوان اثنتي عشر درجة، و كوفة اثنتي عشر درجة، و سرّ من رأى سبع درجات»(1).

و الظاهر أنّ غرضه من التقدير بهذه المقادير هو التقريب لا التحقيق و إلاّ لم يكن وجه لترك التعرّض لضبط التفاوت بالدقائق مع تحقّقه بالضرورة، و ممّن تعرّض لضبطها مع بيان تفاوت الدقائق صاحب الحدائق(2) و تبعه بعض مشايخنا(3) و غيره(4) مع اختلاف بيّن بينه و بين ما عرفت، و لنقتصر على هذا القدر لخروج الزيادة عليه عن وضع الفنّ مع عدم فائدة مهمّة تترتّب عليه بعد ملاحظة عدم جواز الاعتداد و التعويل على تقديرات أهل الهيئة لعدم إفادتها العلم و لا الظنّ الّذي يطمئنّ به النفس.

ص: 405


1- رسالة قبلة الآفاق (مخطوط).
2- الحدائق 391:6-393.
3- الجواهر 59:7-592.
4- كالمحقّق النراقي في المستند 179:4-182.
[المسألة السادسة: قد يكون وظيفة المكلّف العلم بالجهة و قد يكون الاجتهاد المؤدّي إلى الظنّ بها و قد يكون تقليد الغير و قد يكون غير هذه الثلاث]

المسألة السادسة: في أنّ المصلّي المكلّف بالاستقبال من البعيد قد يكون وظيفته العلم بالجهة، و قد يكون الاجتهاد المؤدّي إلى الظنّ بها، و قد تكون تقليد الغير، و قد تكون غير هذه الثلاث. فالكلام في مقامات:

المقام الأوّل: في أنّ من علم الجهة أو تمكّن من العلم بها لا يجزئه الاجتهاد و لا يجوز له التعويل على الظنّ ، بل مع التمكّن من العلم وجب عليه تحصيله قولا واحدا، كما نبّه عليه العلاّمة في التذكرة بقوله: «القادر على معرفة القبلة يقينا لا يجوز له الاجتهاد عند علمائنا، كما أنّ القادر على العمل بالنصّ في الأحكام لا يجوز له الاجتهاد»(1) و في الحدائق «الظاهر انّه لا خلاف بين الأصحاب في وجوب العلم بالقبلة مع إمكانه»(2).

و يدلّ عليه من الكتاب قوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (3) بتقريب أنّ الشطر عبارة عن السمت و الجانب الواقعي على ما هو الأصل في باب الألفاظ، من كونها للمعاني الواقعيّة بلا شطريّة العلم و لا شرطيّته، فلا بدّ في العمل بالحكم المعلّق عليها من إحرازها بطريق العلم حيثما أمكن، نظرا إلى أنّ العلم عبارة عن انكشاف الواقع.

و من السنّة قوله عليه السّلام في صحيحة زرارة عن الباقر عليه السّلام: «يجزئ التحرّي أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة»(4) فإنّه باعتبار المفهوم يعطي عدم إجزاء التحرّي إذا علم وجه القبلة أي أمكن العلم به، مضافا إلى مرسلة الصدوق(5) المتقدّمة و المرويّ عن تفسير النعماني(6)مضافا إلى العقل المستقلّ بقبح التعويل على الظنّ في إحراز الواقع من دون ترخيص من الشارع كما مرّ تفصيل بيان ذلك في باب الأوقات، هذا كلّه في كبرى المسألة.

و أمّا الكلام في صغراها المقصود به بيان أسباب العلم بالجهة فمن مشكلات المقام، إذ لم نقف على شيء من تلك الأسباب إلاّ ما يوجد في كلام جماعة من المحراب الّذي نصبه المعصوم أو صلّى فيه و قبور المعصومين، و قد أشرنا إلى ما يخدش في إفادتها العلم بها، لابتنائها على مقدّمات عديدة غير محرزة.

و المناقشة في كون الجدي و غيره ممّا تقدّم من أسباب العلم بها أوضح كما يظهر وجهها

ص: 406


1- التذكرة 22:3.
2- الحدائق 393:6.
3- البقرة: 144.
4- الوسائل 1/307:4، ب 6 من أبواب القبلة، التهذيب 146/45:2.
5- الوسائل 2/306:4، ب 5 من أبواب القبلة، التهذيب 143/45:2.
6- الوسائل 4/308:4، ب 6 من أبواب القبلة، تفسير النعماني: 9.

بأدنى تأمّل، و إن ذكر في الذخيرة(1) كون العلامات المنضبطة النجوميّة مفيدة للعلم بجهة القبلة، حتّى أنّه لأجل ذا حمل الأمارات المفيدة للظنّ في عبارتي المعتبر(2) و المنتهى(3)على ما عدى هذه العلامات، و إن كان لا يساعد عليه ظاهرهما، بل ربّما يأباه بل عبارة العلاّمة في التذكرة ظاهرة كالصريح في خلاف ذلك حيث، قال: «فاقد العلم يجتهد بالأدلّة الّتي وضعها الشارع علامة، فإن غلب على ظنّه الجهة للأمارة بنى عليه بإجماع العلماء»(4)و هو ظاهر عبارته في القواعد قائلا: «و يجب الاستقبال مع العلم بالجهة فإن جهلها عوّل على ما وضعه الشارع أمارة»(5) بناء على أنّ مراده فيهما من الأمارات الّتي وضعها الشارع هي العلامات النجوميّة.

لكن في كلام جامع المقاصد ما يعطي كونها مفيدة للقطع بالجهة في الجملة قائلا:

«فاعلم أنّ البعيد إن علم الجهة قطعا، أو تمكّن منه تعيّن عليه استقبالها و لا يجوز له الاجتهاد حينئذ، كما أنّ القادر على العمل بالنصّ في الأحكام لا يجوز له الاجتهاد لإمكان الخطأ، فعلى هذا لو تمكّن من القطع بنفس الجهة بمحراب المعصوم، لا يجوز له الاكتفاء بقبلة المسلمين الحاصلة لمحاريبهم و قبورهم لإمكان الخطأ في اليمنة و اليسرة، و الأمارة هي ما يفيد الظنّ و أكثر ما سبق من العلامات يفيد القطع بالجهة في الجملة، فلا يقصر عن محاريب المسلمين المنصوبة في مساجدهم و طرقهم كالجدي و نحوه، فكان حقّ العبارة أن يقول: فإن جهلها عوّل على ما يفيد القطع من العلامات ثمّ على ما يفيد الظنّ . و يمكن أن يقال: العلامات المذكورة و إن أفاد بعضها القطع بالجهة في الجملة، فإنّها بالإضافة إلى نفس الجهة إنّما تفيد الظنّ ، لأنّ محاذاة الكواكب المخصوصة على الوجه المعيّن مع شدّة البعد إنّما يحصل به الظنّ ، فيندرج الجميع فيما وضعه الشارع أمارة» انتهى(6).

و نحوه عبارته المحكيّة عن فوائد القواعد(7) و المحكيّة عن فوائد الشرائع(8)، و نحو هذه العبارة عبارة المسالك في شرح عبارة الشرائع «فإن جهلها عوّل على الأمارات المفيدة للظنّ » قال: ليس المراد بالأمارات ما هو مذكور في كتب الفقه لتحصيل الجهة كالجدي

ص: 407


1- الذخيرة: 218.
2- المعتبر 70:2.
3- المنتهى 172:4.
4- التذكرة 22:3.
5- القواعد 253:1.
6- جامع المقاصد 68:2-69.
7- فوائد القواعد: 49 (مخطوط).
8- فوائد الشرائع: 30 (مخطوط).

و نحوه، فإنّ تلك مفيدة للعلم بالجهة إذا حرّرت على وجهها، بل المراد بالأمارات المفيدة للظنّ ، الرياح الأربع و منازل القمر و نحوهما ممّا لا ينضبط غالبا، فإنّهم جوّزوا التعويل عليها عند تعذّر غيرها من الأمارات المفيدة للعلم بالجهة كالكواكب انتهى»(1).

أقول: و كأنّهم أرادوا من كونها مفيدة للعلم بالجهة مطلقا أو في الجملة كونها كذلك للأوحدي من العلماء العارفين بأوضاع الكواكب و قواعد الهيئة المتمكّنين من تحريرها و إعمالها على وجه يقيّد لهم القطع بالجهة الواقعيّة لا مطلقا، حتّى بالنسبة إلى العوامّ المقلّدين، نعم وظيفتهم تقليد علمائهم المحرزين للجهة بطريق القطع بواسطة الكواكب و نحوها في الرجوع إليها، فتصديق في حقّهم حينئذ عند الرجوع إليها أنّهم يعوّلون في معرفة القبلة على العلامات المفيدة للعلم بالجهة هي المحتملة و إن لم تفد لهم العلم بها بالفعل.

و كيف كان فظاهر كلام الأصحاب كما هو صريح جماعة منهم أنّها في معرفة القبلة و تحصيل الجهة مقدّمة على سائر الأمارات المفيدة للظنّ بها، و هذا هو معنى ما في كلام جماعة(2) من المتأخّرين من نقل الاتّفاق على أنّ فرض البعيد رعاية العلامات المقرّرة و التوجّه إلى السمت الّذي عيّنته تلك العلامات، و يكفيك هذا الاتّفاق المنقول في كلام الجماعة المعتضد بظهور كلام الأصحاب دليلا على ما ذكرناه من التقديم، و السرّ فيه إمّا لكونها مفيدة للعلم بالجهة مطلقا أو في الجملة كما جزم به من عرفت من الأساطين(3)، و لو بالمعنى الّذي نبّهنا عليه، أو لأنّها و إن كانت من أسباب الظنّ إلاّ أنّها معتبرة تعبّدا من الشارع من باب الظنّ الخاصّ الواقع في طرف العرض من العلم على وجه يكون المتمكّن من العلم بوجود الطرق العلميّة له مخيّرا بين تحصيله و الرجوع إليها، أو أنّها في إفادة الظنّ أقوى من سائر أسباب الظنّ لإفادتها ظنّا أقوى من غيره، و المكلّف بعد العجز عن العلم يجب عليه التحرّي في تحصيل الأقوى من الظنّ فالأقوى، و لا يجوز له التعويل على الظنّ القويّ مع وجود الأقوى، كما هو الأصل في العمل بالظنون المخالف للأصل، و لا سيّما في

ص: 408


1- المسالك 155:1-156.
2- كما في المدارك 121:3 و المعتبر 70:2 و المنتهى 172:4 و التحرير 192:1 و روض الجنان 521:2.
3- كما في جامع المقاصد 69:2 و روض الجنان 521:2.

الموضوعات الّتي منها المقام، و يظهر هذا الوجه من الوحيد البهبهاني في شرحه للمفاتيح(1).

و من مشايخنا من نفى البعد عن الوجه الثاني حيث قال: «بل لا يبعد في النظر عدم وجوب تقديم العلم حسّا عليها، لإطلاق دليل العمل بها، و ظهور اتّفاق الأصحاب على إرادتها من العلم المأمور به بالقبلة، و العلم القطعي بعدم الحرج على من كان في زمن التمكّن من استعلام المعصوم في العمل بهذه العلامات، و لغير ذلك ممّا يظهر بأدنى تأمّل...

إلى أن قال: و من هنا عمّم العلم للحسّي و الشرعي في كشف اللثام(2) في شرح قول الفاضل «و القادر على العلم لا يكفيه الاجتهاد المفيد للظنّ » لكن ظاهره أو صريحه في شرح ما قبل ذلك اشتراط جواز العمل بها بعدم التمكّن من العلم الحسّي الحاصل من إخبار معصوم أو محرابه، و هو و إن كان لا يخلو عن وجه إلاّ أنّ خلافه أيضا لا يخلو عن وجه لما عرفت. نعم لا عبرة بها لو خالفت ما اتّفق علم به من الجهة بقول معصوم مثلا أو فعله، لا أنّه يشترط جواز العمل بها بعدم التمكّن من سؤاله» انتهى(3).

و يشكل ما ذكره قدّس سرّه بظاهر مرسلة الصدوق المتقدّمة «قال رجل للصادق عليه السّلام: إنّي أكون في السفر و لا أهتدي إلى القبلة بالليل، فقال: أ تعرف الكوكب الّذي يقال له جدي ؟ قلت:

نعم، قال: اجعله على يمينك، و إذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك»(4). فإنّ تقدير الجواب بعد السؤال المذكور إذا كنت لا تهتدي إلى القبلة فاجعل الجدي على يمينك، و هذا يعطي الترتّب بين الرجوع إلى جدي و العجز عن العلم المعبّر عنه في الرواية بالاهتداء، و لا يتفاوت الحال في ذلك بين كون السؤال في كلام الراوي سؤالا عمّا يهتدي به إلى القبلة أو سؤال عن القبلة.

و أمكن ترجيح الثاني بدعوى ظهوره من سوق السؤال، بناء على أنّ الظاهر منه في متفاهم العرف في نظائر قوله: «لا أهتدي إلى القبلة» أنّه لا أعرف القبلة «فما أصنع في صلاتي ؟» و قوله عليه السّلام: «اجعل الجدي على يمينك» ظاهر في أنّ الفرض حينئذ جعل الجدي على اليمين، و إن حصل الفرق بينهما في كون مفاد الرواية على الأوّل اعتبار الأمارة على وجه الطريقيّة، و على الثاني اعتبارها على وجه الموضوعيّة على معنى كون مؤدّاها قبلة

ص: 409


1- مصابيح الظلام 104:2.
2- كشف اللثام 161:3.
3- الجواهر 616:7-617.
4- الوسائل 2/306:4، ب 5 من أبواب القبلة، التهذيب 143/45:2.

جعليّة جعله الشارع قبلة للعاجز عن العلم بها و إن خالف القبلة الواقعيّة.

و يمكن استفادة هذين الوجهين من المرويّ عن المرويّ عن رسالة المحكم و المتشابه عن تفسير النعماني بإسناده عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ (1) قال: «معنى شطره نحوه إن كان مرئيّا، و بالدلائل و الأعلام إن كان محجوبا»(2) فإنّ المرئيّ و المحجوب عبارتان عن المعلوم و المجهول، و قد جعل الرجوع إلى الدلائل و الأعلام على تقدير الجهل بالنحو و هو السمت و الجانب، و مبنى الوجهين على كون قوله عليه السّلام: «و بالدلائل و الأعلام» من تتمّة الخبر في قضيّة قوله عليه السّلام:

«معنى شطره نحوه» بأن يكون عطفا على مقدّر، تقديره «أنّ معنى شطره نحوه» فيحرز بالرؤية إن كان مرئيّا، و بالدلائل و الأعلام إن كان محجوبا، أو من تتمّة المبتدأ في تلك القضيّة ليكون خبرا بعد خبر، فيكون التقدير أنّ معنى شطره نحوه إن كان نحوه معلوما، و ما يحرز بالدلائل و الأعلام إن كان نحوه مجهولا.

فعلى الأوّل يتّجه احتمال الطريقيّة، لأنّ مفاد الرواية حينئذ أنّ القبلة نحو المسجد الحرام، و هو أمر واحد يحرز تارة بالرؤية بمعنى العلم، و اخرى بالدلائل و الأعلام و هي العلامات، و على الثاني يتّجه احتمال الموضوعيّة لأنّ مفادها حينئذ كون ما يحرز بالأمارات في الطرف المقابل من نحوه. و يلزم منه أنّ الشارع جعل قبلتين إحداهما نحو المسجد الحرام و هو لمن تمكّن من العلم به، و الاخرى ما يساعد عليه العلامات و هو لمن يعجز من العلم بنحوه. و يمكن ترجيح ذلك بأنّ الوجه الأوّل يستدعي تقديرا و إضمارا في الرواية و هو جملة يحرز بالرؤية ليكون بالدلائل أيضا من متعلّقاتها و الأصل ينفيه، و يدفعه المعارضة بالمثل لأنّ الوجه الثاني أيضا يستلزمهما و هو تقدير موصول وصلته بعد الواو ليكون عطفا على الخبر، نعم يمكن ترجيحه بظهور الواو في متفاهم العرف في العطف على المذكور و هو الخبر لا المقدّر.

المقام الثاني: في أنّ من عجز عن العلم بالجهة بفقدان أسبابه اجتهد في معرفة الجهة، و يبني على مؤدّى اجتهاده، و هو تحمّل المشقّة في تحصيل ما يفيد الظنّ بالجهة من

ص: 410


1- البقرة: 144.
2- الوسائل 4/308:4، ب 6 من أبواب القبلة، رسالة المحكم و المتشابه: 127.

الأمارات الغير المنضبطة أو أعمّ منها، و من المنضبطة النجوميّة على الخلاف المتقدّم في كونها مفيدة للعلم و عدمه كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، و في المعتبر «فاقد العلم يجتهد فان غلب على ظنّه جهة القبلة لأمارة بنى عليه و هو اتّفاق أهل العلم»(1) و في المنتهى «و لو فقد العلم اجتهد فإن غلب على ظنّه جهة القبلة لأمارة من الأمارات عوّل عليه و هو قول أهل العلم»(2) و في التذكرة «فاقد العلم يجتهد بالأدلّة الّتي وضعها الشارع علامة، فإن غلب على ظنّه الجهة للأمارة بنى عليه بإجماع العلماء»(3).

خلافا للشيخ في المبسوط(4) و الخلاف(5) على ما حكي فخصّ الاجتهاد بصورة الاضطرار الحاصل عن تعذّر الصلاة إلى أربع جهات، و أمّا مع الاختيار يقدّم الصلاة إلى أربع على الاجتهاد، و ربّما عزي ذلك إلى صريح ابن حمزة(6) و عليه حمل ما عن المقنعة من «أنّه إذا أطبقت السماء بالغيم فلم يجد الإنسان دليلا عليها بالشمس و النجوم فليصلّ على أربع جهات، فإن لم يقدر على ذلك بسبب من الأسباب المانعة من الصلاة أربع مرّات فليصلّ إلى أيّ جهة شاء»(7) فحمل الشقّ الثاني على صورة العجز عن الصلاة إلى أربع و عن الاجتهاد المتأخّر عنها عند الشيخ كما صنعه في المبسوط(8) على ما حكي. أقول:

و هذا ليس بأولى من حمل كلامه بكلا شقّيه على صورة العجز عن الاجتهاد المتقدّم على الصلاة إلى أربع عند المعظم، بأن يكون مراده من الدليل في قوله «لم يجد الإنسان دليلا عليها» على ما يعمّ المفيد للعلم و المفيد للظنّ ، و إن كان خلاف المصطلح لاختصاص المفيد للظنّ في الموضوعات باسم الأمارة.

و كيف كان فدليل الحكم على مذهب المعظم - مضافا إلى ما عرفت من نقل الإجماعات - صحيحة زرارة المتقدّمة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «يجزئ التحرّي أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة»(9) و المناقشة فيه بما في الذخيرة(10) من عدم دلالته على الوجوب يندفع بعدم القول بالفصل لأنّ كلّ من قال بالإجزاء قال بالوجوب، و كلّ من نفى الوجوب كالشيخ نفى الإجزاء أيضا. و موثّقة سماعة قال: «سألته عن الصلاة بالليل و النهار إذا لم تر

ص: 411


1- المعتبر 70:2.
2- المنتهى 172:4.
3- التذكرة 22:3.
4- المبسوط 79:1.
5- الخلاف 302:1 المسألة 42.
6- الوسيلة: 86.
7- المقنعة: 91.
8- المبسوط 78:1.
9- الوسائل 1/307:4، ب 6 من أبواب القبلة، التهذيب 146/45:2.
10- الذخيرة: 218.

الشمس و لا القمر و لا النجوم، قال: تجتهد رأيك و تعمّد القبلة جهدك»(1) مضافا إلى روايات اخر تعرفها في تضاعيف المباحث الآتية.

حجّة الشيخ ما رواه بطريقين عن خراش عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قلت له: جعلت فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون إذا أطبقت السماء علينا أو أظلمت فلم يعرف السماء كنّا و أنتم سواء في الاجتهاد فقال: ليس كما يقولون، إذا كان كذلك فليصلّ لأربع وجوه»(2).

فيحمل ما تقدّم من أخبار التحرّي على صورة الضرورة، و هو عدم سعة الوقت لأربع صلوات و نحوه، و هذه على صورة الاختيار جمعا. و ردّ بأنّ الجمع فرع المقاومة و الرواية ضعيفة السند بالإرسال، و جهالة المرسل و هو خراش مع جهالة الراوي عنه و هو إسماعيل ابن عبادة، و دفع بإمكان جبر ضعف السند بأنّ الشيخ رواها في التهذيب بطريق صحيح عن عبد اللّه بن المغيرة عن إسماعيل بن عبادة عن خراش، و صحّة الطريق إلى ابن المغيرة كافية في الاعتبار لأنّه ممّن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

و الأولى في الجواب أن يقال: إنّ هذا الحمل مع بعده عن الأذهان ممّا لا داعي إليه، لإمكان الجمع بحمل رواية خراش على صورة عدم إمكان التحرّي بفقد أسباب الظنّ مطلقا، و لا ريب في ظهور روايات التحرّي في صورة إمكانه، فلا ينافيه تعيّن الصلاة إلى أربع مع عدم إمكانه، و رواية خراش إن لم تكن ظاهرة في صورة عدم إمكانه، فليست بظاهرة في خلافها أيضا، و غايتها الإطلاق فيحمل على صورة عدم إمكانه.

و هاهنا طريق آخر للجمع و هو حمل الأمر في قوله عليه السّلام: «فليصلّ لأربع» على الإباحة المطلقة بوروده في مقام توهّم الحظر المستفاد من قول المخالفين «كنّا و أنتم سواء في الاجتهاد» لظهوره في تعيّن الاجتهاد الموهم لعدم مشروعيّة الأربع مع إمكان الاجتهاد، فرفعه عليه السّلام بالإذن في الأربع أيضا، ردّا عليهم في مصيرهم إلى تعيّن الاجتهاد حينئذ بقوله عليه السّلام:

«ليس كما يقولون» أن تعيّن الاجتهاد ليس كما يقولون و ينسبونه إلينا، و لكن هذا الوجه مبنيّ على كون النزاع بين المعظم و الشيخ في تعيّن الصلاة إلى أربع مع إمكانها و إمكان

ص: 412


1- الوسائل 2/308:4، ب 6 من أبواب القبلة، التهذيب 147/46:2.
2- الوسائل 5/311:4، ب 8 من أبواب القبلة، التهذيب 144/45:2.

التحرّي و عدمه، لا في تعيّن الأربع و تعيّن التحرّي، و سنورد الكلام في ذلك إن شاء اللّه.

و عن الشيخ الاستشهاد لما زعمه من الجمع برواية عمرو بن يحيى قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل صلّى على غير القبلة، ثمّ تبيّنت له القبلة، و قد دخل في وقت صلاة اخرى، قال: يعيدها قبل أن يصلّي هذه الّتي قد دخل وقتها»(1) و رواية اخرى مثلها عن معمّر بن يحيى إلاّ أنّ فيها بدل «يعيدها» يصلّيها، بتقريب أنّه لو لم يحمل أحاديث التحرّي على حال الاضطرار لم يكن لإيجاب الإعادة بعد خروج الوقت حسبما تضمّنه هذان الخبران معنى، لأنّ ظاهرها يقتضي أنّه متى تحرّى القبلة و صلّى ثمّ خرج الوقت فإنّه أجزأته صلاته.

و فيه ظهور الخبرين فيمن صلّى على غير القبلة من دون تحرّ مع إمكانه، و على فرض عدم ظهورهما فيه وجب حملهما عليه جمعا، فإنّ حمل أحاديث التحرّي على حال الاضطرار بعيد جدّا، و حملهما على صورة ترك التحرّي ليس بذلك البعيد قطعا. و ربّما يحتمل فيهما الحمل على من وجب عليه الصلاة إلى أربع لتساوي الجهات عنده و عدم حصول ظنّ بالتحرّي و مع ذلك اكتفى بواحدة، فيجب عليه الإعادة بعد تبيّن الخطأ، و ينبغي التنبيه على امور:

الأوّل: ظاهر المحقّق و العلاّمة و غيرهما في المعتبر(2) و الشرائع(3) و النافع(4) و التذكرة(5)و المنتهى(6) و الإرشاد(7) و غيرها(8) كون الاجتهاد لمن فقد العلم بالجهة على وجه الوجوب المقتضي للمنع من الصلاة إلى أربع جهات مع إمكانه، و هو الّذي فهمه صاحب المدارك من عبارة الشرائع «و يجب الاستقبال في الصلاة مع العلم بجهة القبلة، فإن جهلها عوّل على الأمارات المفيدة للظنّ »(9) حيث أخذ بشرح هذه العبارة فقال: «أمّا وجوب الاستقبال مع العلم بجهة القبلة فظاهر... إلى أن قال: و أمّا وجوب التعويل لفاقد العلم على الأمارات المفيدة للظنّ ، فقال المصنّف في المعتبر(10): إنّه اتّفاق أهل العلم»(11).

ص: 413


1- الوسائل 5/313:4، ب 9 من أبواب القبلة، التهذيب 149/46:2.
2- المعتبر 70:2.
3- الشرائع 56:1.
4- النافع: 24.
5- التذكرة 22:3.
6- المنتهى 172:4.
7- إرشاد الأذهان 245:1.
8- كما في روض الجنان 522:2، و في كشف الرموز 132:1.
9- الشرائع 56:1.
10- المعتبر 70:2.
11- المدارك 131:3-132.

و يظهر كون الحكم على الوجوب أيضا من صاحب الذخيرة(1) حيث ناقش في خبر زرارة المتقدّم بعدم دلالته على الوجوب، بل عن بعضهم - و لعلّه كاشف اللثام(2) - التصريح بكونه إجماع المسلمين كما نقله في الرياض عن بعض الأجلّة قائلا حيث قال: «و هل له الاجتهاد إذا أمكنه الصلاة إلى أربع جهات ؟ الظاهر إجماع المسلمين على تقديمه وجوبا على الأربع قولا و فعلا، و إن فعل الأربع حينئذ بدعة...» إلى آخر ما ذكره.(3) و يظهر من السيّد الارتضاء به حيث إنّه بعد نقل العبارة قال: «و نعم ما قال». و فهمه من معاقد الإجماعات المنقولة على التعويل على الأمارات عند فقد العلم المحقّق الخونساري جمال الملّة و الدين في حاشية الروضة، قائلا: «و إذا لم يتمكّن من العلم فادّعوا الإجماع على وجوب الاجتهاد و التعويل على الأمارات المفيدة للظنّ ثمّ حكى عن المحقّق في المعتبر(4)ما نقله من اتّفاق أهل العلم. و العجب أنّه مع تصريحه هنا بما عرفت أجاب عن الشيخ في استناده لإيجاب الأربع حال الاختيار إلى خبر خراش باحتمال حمله «على الاستحباب مع ضعف سنده»(5).

و كيف كان فالمسألة غير خالية عن الإشكال لمخالفة الوجوب المذكور المتضمّن لنفي مشروعيّة الأربع، لقاعدة اليقين بالبراءة عن الصلاة إلى القبلة الواقعيّة الّذي يحصل مع الأربع، و لا يحصل مع الصلاة إلى الجهة المظنونة، مع قصور دلالة مستند الحكم، إذ العمدة فيه صحيحة زرارة و موثّقة سماعة المتقدّمتين(6) و ليس في الاولى إلاّ قوله عليه السّلام: «يجزئ التحرّي» و هو لا ينفي مشروعيّة الأربع، فغاية ما ينساق منها أنّه عليه السّلام نفى الحاجة مع التحرّي إلى أربع صلوات لما فيها من المشقّة الغير المناسبة للشريعة السمحة السهلة، و ليس في الثانية إلاّ الأمر بالاجتهاد في تحصيل الرأي و هو الظنّ و طلب القبلة قدر الجهد و هو الوسع، و هو محتمل للورود في مقام توهّم الحظر فلا يفيد أزيد من الإذن في التعويل على الظنّ و هو أعمّ من الوجوب.

و يرد على الحكم بكونها بدعة - كما عرفته عن بعض أجلّة الرياض(7) - أنّ تجويزها

ص: 414


1- الذخيرة: 218.
2- كشف اللثام 162:3.
3- الرياض 273:2.
4- المعتبر 70:2.
5- حاشية الروضة: 177.
6- تقدّما في الصفحة: 410 الرقم 9 و الرقم 1 من الصفحة 411.
7- الرياض 273:2.

بعنوان الاحتياط المحصّل ليقين البراءة ليس بدعة، لما تقرّر في محلّه من ورود الاحتياط على عنوان التشريع، و المفروض أيضا عدم كونها ممّا نفاه النصّ كما عرفت، إلاّ أن يقال بأنّها ممّا ينفيه الإجماع و به ينجبر قصور دلالة النصّ أيضا لكشفه عن وجود قرينة عندهم أوجبت فهم الوجوب.

و بالجملة فمخالفة القاعدة العقليّة المشار إليها المعتضدة بعدم ظهور نصوص الباب في خلافها مشكل، و مخالفة ظهور فتاوي الأصحاب المعتضد بفهم جماعة للوجوب و نقل الإجماع عليه في كلام غير واحد أشكل.

إلاّ أن يدفع الإشكال الأوّل: بمنع اتّفاق العلم بالصلاة إلى القبلة بواسطة الصلاة إلى الجوانب الأربع إلاّ في صورة نادرة، و هي ما لو علم إجمالا بعدم خروج القبلة الواقعيّة عن إحدى الجهات المردّد فيها، و إلاّ فكثيرا ما يحتمل إصابة الصلوات الأربع إلى ما بين المشرق و القبلة، و ما بين المغرب و القبلة، و ما بين المشرق و خلاف القبلة، و ما بين المغرب و خلاف القبلة، فيلزم الانحراف عنها لا محالة يمنة أو يسرة، فلا يقين و لا ظنّ بإصابة القبلة الواقعيّة مع الأربع غالبا، بخلاف التعويل على الظنّ لما فيه من دوام ظنّ الإصابة، فدار الأمر بين ظنّ البراءة و احتمالها، و لا ريب في رجحان الأوّل مع فقد يقين البراءة.

و توهّم: أنّ الانحراف اليسير كما لو كان إلى ما بين القبلة و المشرق أو المغرب مغتفر في الشريعة، فاحتماله لا ينافي يقين البراءة و إن كان ينافي يقين إصابة القبلة الواقعيّة، كما سيأتي في صحّة صلاة من صلّى ثمّ بان الخطأ بوقوعها منحرفة بأحد الوجهين.

يدفعه: منع ثبوت الاغتفار بقول مطلق، بل القدر المسلّم منه ثبوته في المجتهد الظانّ أو هو مع المتحيّر الغير المتمكّن من الاجتهاد إن قلنا به في الثاني، و سنتكلّم فيه إن شاء اللّه، فيقين البراءة غير حاصل مع التمكّن من الاجتهاد بالأربع بخلاف الصلاة إلى القبلة المظنونة فإنّها مبرئة قطعا لقضاء الإجماع الصريح و النصّ الصحيح بذلك.

و من هنا قال العلاّمة في التذكرة في فروع مسألة الاجتهاد: «لو اجتهد فأدّى اجتهاده إلى جهة فصلّى إلى غيرها لم تصحّ صلاته، و إن ظهر أنّها القبلة - و به قال أبو حنيفة و الشافعي(1) - لأنّه لم يفعل المأمور به و هو التوجّه إلى ما أدّى إليه اجتهاده فيبقى في عهدة التكليف، و قال الشيخ في المبسوط(2) - و به قال أبو يوسف(3) -: يجزئه، لأنّ المأمور به هو

ص: 415


1- شرح فتح القدير 236:1 و بدائع الصنائع 119:1.
2- المبسوط 80:1.
3- شرح فتح القدير 236:1 و بدائع الصنائع 119:1.

التوجّه إلى القبلة و قد فعل كمن شكّ في إناءين فتوضّأ بأحدهما من غير اجتهاد ثمّ بان له أنّه الطاهر أجزأه، و هو غلط فإنّه إن بان له ذلك بعد دخوله في الصلاة لم تصحّ صلاته، و إن كان قبله جاز، و الفرق ظاهر بين الطهارة و الصلاة، فإنّ الطهارة تقع قبل وجوبها، و إنّما الواجب منها ما صحّت به الصلاة، فإذا علمها في حال وجوبها أجزأه و لم يضرّه الشكّ قبل ذلك» انتهى(1).

و إن كان فيما ذكره من الفرق بين الطهارة و الصلاة ضعف واضح بعد ملاحظة كون الوضوء عبادة، فإنّ الشكّ في الإناء يوجب الشكّ في حصول الطهارة المأمور بها إيجابا أو ندبا، و معه يستحيل إحراز القربة المشترط بها صحّة العبادة، فالوجه في كلّ من الطهارة و الصلاة هو البطلان للشكّ في الامتثال فيهما و إن حصلت الطهارة قبل وجوبها، إذ لا بدّ لإحراز صحّتها قبل الوقت من إحراز أمر ندبي بها.

نعم إنّما يتّجه الصحّة مع تبيّن طهارة الإناء بعد الاستعمال في الطهارة عن الخبث لعدم اشتراط القربة فيها.

و بالجملة فالإنصاف في محلّ الإشكال أنّ الوقوف مع النصّ المنجبر قصور دلالته بالإجماع، و فهم الأصحاب أولى، إذ لا معنى للاجتهاد في مقابلة النصّ . و يبقى الكلام في توجيه البدعة على ما في كلام بعض الأجلّة، مع ما تقرّر من ورود قاعدة الاحتياط على قاعدة التشريع، و لعلّه لأجل ما نبّهنا عليه من عدم العلم الإجمالي بإصابة إحدى الجهات للقبلة الواقعيّة، و العبادة لا تشرع إلاّ بعد الفراغ عن إحراز أمر بها معلوم تفصيلا أو إجمالا، و هو غير محرز بالنسبة إلى شيء من الجهات بل المعلوم ظاهرا انتفاؤه بالنسبة إليها أجمع، و معه لا يجري الاحتياط، فلا يبقى للامتثال و يقين البراءة - و لو ظاهرا - طريق إلاّ متابعة الظنّ المنصوص به المجمع عليه.

الثاني: أنّ محلّ الاجتهاد المتقدّم على الأربع جهات، هل هو خصوص الأمارات الكلّيّة المنضبطة المفيدة للظنّ المعنونة في كتب الأصحاب ؟ كالرياح الأربع على ما مرّ بيانها، و منازل القمر على ما تقدّم الإشارة إليه، من اعتبار العراقي بالقمر في الليلة السابعة عند المغرب، و الليلة الرابعة عشر عند انتصاف الليل، و ليلة إحدى و عشرين عند الصبح، فإنّها

ص: 416


1- التذكرة 24:3-25.

في هذه الأوقات يطابق قبلة العراقي.

و محاريب المسلمين و قبورهم و ما أشبه ذلك، فلا اجتهاد في القرائن الجزئيّة و الامور الغير المنضبطة مع انحصار طريق الظنّ فيها، بل لا بدّ في هذه الحال من مراعاة الأربع جهات أو يعمّها و سائر أسباب الظنّ و إن لم ينضبط أو لم تذكر في كتب الأصحاب ممّا يختلف الحال فيها بخصوصيّات المكان و الزمان و حالة المكلّف. و بالجملة كلّ ما يفيد الظنّ كلّيّة أو جزئيّة منضبطة أو غيرها احتمالان.

ظاهر المحقّق في الشرائع حيث قال: «و إذا اجتهد فأخبره غيره بخلاف اجتهاده، قيل(1)يعمل على اجتهاده، و يقوى عندي أنّه إذا كان ذلك الخبر أوثق في نفسه عوّل عليه»(2) هو الثاني، لظهوره في إناطة الحكم بالأوثقيّة بحسب نظر المكلّف و هو ظاهر المدارك(3) أيضا إن لم نقل صريحه، و كذلك غيره(4) و صرّح به المحقّق الخونساري في حاشية الروضة قائلا: «و الظاهر عندي أنّ مع إمكان تحصيل العلم بالعين أو الجهة وجب العمل على ذلك، و إلاّ فالتعويل عليه على غلبة الظنّ مطلقا بأيّ جهة كانت من غير فرق بين العلامات الكلّيّة و غيرها، و لو تعذّر ذلك أيضا و تساوت الجهات أو المتعدّد منها ففيه الخلاف الآتي، قال:

و الظاهر أنّ مراد الأكثر أيضا هو ذلك(5)» و يظهر تعميم الحكم من تضاعيف عبارات الوحيد البهبهاني أيضا في شرحه للمفاتيح(6).

لكن عن المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد(7) أنّه يظهر منه أنّه فهم من كلام الأكثر الأوّل، و أنّ مذهبهم أنّ مع عدم التمكّن من العلم عليه الاجتهاد بالقرائن المنصوبة لمعرفة القبلة، و مع تعذّرها فحكمه ما ذكروه من حكم من لم يتمكّن من الاجتهاد من الأقوال.

و الأقوى هو الثاني: لعموم روايات التحرّي الّذي هو عبارة عن طلب الحري و اللائق للاتّباع، فيعمّ كلّ ما يوجب غلبة الظنّ كلّيّا أو جزئيّا، و كذلك الأمر باجتهاد الرأي و تعمّد القبلة بقدر الجهد فإنّه أيضا مطلق في كلّما يفيد الظنّ و هو الّذي يساعد عليه الاعتبار، إذ المرجع إذا كان إلى غلبة ظنّ القبلة فلا يعقل الفرق بين أسبابه بل تجوّز بعضها و المنع من البعض تحكّم بحت فتأمّل، و العمدة هو إطلاق الروايات فهو الحجّة من غير دافع لها.

ص: 417


1- كالشيخ في المبسوط 78:1، و ابن البرّاج في المهذّب 85:1، و ابن زهرة في الغنية: 69.
2- الشرائع 187:1.
3- المدارك 133:3.
4- كما في الذخيرة: 218.
5- حاشية الروضة: 178.
6- مصابيح الظلام 104:2.
7- مجمع الفائدة و البرهان 67:2.

و بما بيّنّاه ظهر أنّ الوجه في الآلات المصنوعة لتشخيص القبلة عند الاشتباه المسمّى بعضها بالقطب و البعض الآخر بقبلة نماء، المأخوذة من قواعد الهيئة هو الاعتماد إذا أفادت الظنّ و فقد ما هو أقوى منها. و كذلك المخبر عن القبلة إذا كان مسلما عادلا كان أو فاسقا، حرّا كان أو رقّا، رجلا كان أو امرأة، كبيرا كان أو صغيرا، بل و إذا كان كافرا أيضا، فإنّ الوجه في الجميع هو القبول، و مناطه حصول الظنّ بقوله كائنا من كان.

نعم يشترط في جميع هذه الأقسام بعد إحراز الظنّ فقد ما هو أقوى و أوثق في النفس و أكثر اطمئنانا، و إلاّ وجب طلب الأقوى و التعويل عليه عملا بظاهر التحرّي الّذي هو عبارة عن طلب الأحرى فالأحرى، و ظاهر قوله عليه السّلام: «تعمّد القبلة جهدك» المقتضي لوجوب بذل تمام الوسع في تحصيل القبلة، لوضوح أنّه مع إمكان حصول الأقوى لم يصدق مع الاكتفاء بالأضعف تعمّد القبلة بقدر الجهد الظاهر في بذل تمام الوسع، و لذا نصّ بوجوب تحرّي أقوى الظنّين جماعة منهم صاحب المدارك قال فيه: «و بالجملة:

فحيث ثبت جواز التعويل على الظنّ في هذا الباب وجب دوران الحكم معه، لكن كما يجب تقديم العلم على الظنّ كذا يجب تقديم أقوى الظنّين على الآخر»(1) حتّى أنّه مع رجاء حصول أقوى الظنّين في آخر الوقت لا يجوز له البدار في الصلاة بالاعتماد على أضعفهما بل يجب الانتظار لآخر الوقت كما عن بعض الأصحاب(2).

و قد ظهر من جميع ذلك نوع محاكمة في بعض الخلافات الواقعة في بعض الأقسام المذكورة، مثل ما لو أخبره غيره بخلاف اجتهاده، و ما لو أخبره كافر و لم يكن له طريق آخر إلى الاجتهاد، فإنّ الوجه فيهما عدم القبول من حيث هو و القبول من حيث إفادته، ففي صورة تعارض الخبر و الاجتهاد يقدّم الأقوى، و مناطه الظنّ الفعلي فإذا اتّفق مع الخبر بحيث زال الظنّ الحاصل من الاجتهاد تعيّن التعويل عليه و إلاّ فلا. و من هنا ظهر أنّ ما أطلقه العلاّمة في القواعد من «أنّه لو تعارض الاجتهاد و إخبار العارف رجع إلى الاجتهاد»(3) ليس بسديد، إلاّ بحمله على صورة عدم مصادمة الأخبار لمؤدّى الاجتهاد، كما هو ظاهر تعليله بأنّه ليس من أهل التقليد، فالوجه ما ذكره الشهيد في الذكرى من «أنّ

ص: 418


1- المدارك 135:3.
2- كما في قول السيّد المرتضى في الناصريّات: 225 المسألة 51 و جمل العلم و العمل 25:3، و الشهيد الأوّل في الذكرى 172:3.
3- قواعد الأحكام 253:1.

رجوعه إلى أقوى الظنّين قريب لأنّه راجح»(1).

و من جملة ذلك أيضا خلافهم في قبول قول الغير المعبّر عنه في كلامهم هنا بالتقليد للعاجز عن الاجتهاد كالأعمى، فإنّ المحقّق في الشرائع(2) أطلق القول بوجوبه إطلاقا متناولا للممنوع منه لعارض لغيم أو حبس و نحوه، و الجاهل بدلائل القبلة و علائمها الغير المتمكّن من التعلّم و لو لضيق الوقت، و العالم الّذي لا يساعده الوقت على الاعتبار و غيره.

و في المدارك: و بهذا التعميم قطع الشيخ في المبسوط(3) و قيل(4) على المشهور في الأعمى نقلا(5) و تحصيلا(6)، و عن الشيخ في الخلاف(7) المنع من التقليد للأعمى و غيره، و وجوب الصلاة إلى الجهات الأربع مع السعة، و التخيير المقتضي للاكتفاء بواحدة مع الضيق(8)و قيل(9) يظهر ذلك من الألفية(10) و يلوح من المقنعة(11) و النهاية(12) و المراسم(13)و الوسيلة(14) و السرائر(15).

حجّة الشيخ: أنّ الأعمى و من لا يعرف أمارات القبلة إذا صلّيا إلى أربع جهات برئت ذمّتهما بالإجماع، و ليس على براءة ذمّتهما إذا صلّيا بواحدة دليل، و على التخيير مع الضرورة أنّ وجوب القبول من الغير لم يقم عليه دليل، و الصلاة إلى الجهات الأربع منفيّ حال الضرورة فيثبت التخيير، فإنّ قول الغير إن لم يفد الظنّ أصلا فلا إشكال في عدم قبوله و لو في الأعمى لعدم نهوض دليل عليه، فيندرج في دليل الأربع و التخيير، و عليه ينزّل منع الشيخ(16) و استدلاله، و إن أفاده فلا ينبغي التأمّل في تعيّن قبوله لعموم الأمر بالتحرّي و تعمّد القبلة بقدر الجهد، و هذا نوع من المعاجز عن غيره ممّا هو أقوى منه.

مضافا إلى الأخبار الواردة في خصوص الأعمى، كصحيح الحلبي عن الصادق عليه السّلام «لا بأس أن يؤمّ الأعمى القوم و إن كانوا هم الّذين يوجّهونه»(17).

ص: 419


1- الذكرى 171:3.
2- الشرائع 66:1.
3- المبسوط 79:1.
4- الجواهر 633:7.
5- كما في روض الجنان 526:2، و الحدائق 403:6-404.
6- كما في المبسوط 79:1، و المهذّب 86:1، و البيان: 54 و المفاتيح 114:1.
7- الخلاف 100:1.
8- المدارك 134:3.
9- مفتاح الكرامة 381:5.
10- الألفيّة: 53.
11- المقنعة: 96.
12- النهاية: 63.
13- المراسم: 61.
14- الوسيلة: 86.
15- السرائر 205:1.
16- الخلاف 302:1.
17- الوسائل 1/310:4، ب 7 من أبواب القبلة، التهذيب 105/30:3.

و خبر السكوني عنه عليه السّلام «قال أمير المؤمنين عليه السّلام - في حديث -: لا يؤمّ الأعمى في الصحراء إلاّ أن يوجّه إلى القبلة»(1).

و حسن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث «قلت له: اصلّي خلف الأعمى ؟ قال: نعم إذا كان له من يسدّده و كان أفضلهم»(2) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع، و عليه ينزّل إطلاق المحقّق(3) و غيره(4). نعم يبقى الكلام في إطلاق التقليد على نحوه، و لكنّ الأمر فيه سهل بعد تنزيله على إرادة غير المعنى المصطلح عليه لقرينة عدم الدليل عليه.

ثمّ إذا كان مناط العمل بقول المخبر عن القبلة للأعمى و غيره هو الظنّ الحاصل من خبره، فلا يتفاوت الحال فيه بين المخبر عن علم و المخبر عن اجتهاد. فما يلوح من بعض(5) العبائر من الفرق بينهما فلا يقبل في الثاني، غير واضح الوجه، إلاّ إذا رجع الشرط إلى الموضوع لا الحكم، على معنى عدم حصول الظنّ بخبر المخبر عن اجتهاد لجواز خطائه في الاجتهاد و إطلاقه موضع منع.

و الظاهر عدم الفرق في عدم قبول قول الغير من حيث إنّه خبر بين كون المخبر عادلا أو فاسقا أو مستورا، و لا بين كونه واحدا أو متعدّدا ما لم يندرج في صورة التعدّد في ضابط البيّنة، و هي شهادة عدلين بإخبارهما عن علم، و أمّا إذا اندرج فيها ففي جامع المقاصد(6)و حاشية الروضة(7) أنّه يلوح من عبارة الشهيد في قواعده(8) أنّه لا خلاف في الرجوع إليها في القبلة و الوقت معا، و استظهر في حاشية الروضة و قوّاه في جامع المقاصد تعليلا «بأنّها حجّة شرعيّة» و هو محلّ إشكال لعدم وضوح دليل على عموم حجّيّتها شرعا، و قد سبق بعض الكلام عليها في الوقت، و الاحتياط فيها بمراعاة الظنّ ممّا لا ينبغي تركه.

الثالث: أنّه يجوز التعويل على قبلة بلد المسلمين المعلومة من محاريب مساجدهم و قبورهم ما لم يعلم بناؤها على الغلط كما نصّ عليه الفاضلان(9) و الشهيدان(10) و غيرهم من

ص: 420


1- الوسائل 3/310:4، ب 7 من أبواب القبلة، الكافي 4/375:3.
2- الوسائل 2/310:4، ب 7 من أبواب القبلة، الكافى 2/375:3.
3- الشرائع 66:1.
4- كما في إرشاد الأذهان 245:1، و التحرير 178:1-179، و الجامع للشرائع: 64، و الدروس 159:1.
5- كما في الذكرى 174:3.
6- جامع المقاصد 70:2.
7- حاشية الروضة: 179.
8- القواعد: 253:1.
9- الشرائع 66:1، و إرشاد الأذهان 245:1.
10- الذكرى 168:3، و الدروس 160:1، و البيان: 54، و المسالك 157:1، و روض الجنان 526:2.

أرباب التصانيف من المتأخّرين(1) و متأخّريهم(2) بالإجماع المنقول في التذكرة(3) الّذي لم يناقش فيه أحد من المتعرّضين لحكايته عنه بنقل خلاف في المسألة و لا حكاية نقله، و السيرة القطعيّة من المسلمين في جميع الأعصار و الأمصار الكاشفة عن تقرير أئمّتهم عليهم السّلام، و بالإذن المعلومة من صاحب الشرع في بناء المحاريب في المساجد و غيرها و تقريره عليه، مع عدم معقوليّة فائدة قصدت منه إلاّ أن يعوّل عليها المكلّفون في إحراز القبلة المعتبرة في صلواتهم، فلا اجتهاد مع معلوميّة قبلة البلد، و لا يجب الرجوع إلى الأمارات المفيدة للظنّ و لا العلامات الشرعيّة في طلب الجهة و إن تمكّن منهما.

قال في المدارك: «و قد قطع الأصحاب بعدم جواز الاجتهاد و الحال هذه، لأنّ الخطأ في الجهة مع استمرار الخلق و اتّفاقهم ممتنع»(4).

و يمكن القدح في التعليل بأنّ استمرار الخلق و اتّفاقهم ينشأ غالبا عن اتّباع كلّ لاحق لسابقه قولا أو فعلا من دون اعتبار و لا اجتهاد، تعويلا على ما يحصل منهما من العلم العادي أو الظنّ الكافي في أمر القبلة حتّى ينتهي إلى واحد و ما يقرب منه هو المشخّص لها و لا امتناع في خطائه.

و الأولى في وجه المنع أن يقال: إنّ مجرى العادات في تشخيص قبلة البلد لتكون مرجعا لعامّة الناس هو مباشرة أهل التحقيق و التدقيق من العلماء العارفين لدلائل القبلة و علاماتها المنضبطة و غيرها الماهرين في قواعد الهيئة، و إذا كان الحال فيها ذلك فلا يحتمل فيها الخطأ بالنسبة إلى أصل الجهة، و لذا ذكر جماعة(5) أنّ الجهة في قبلة بلاد المسلمين قطعيّة و في كلام غير واحد أنّ كلامهم يعطي ذلك.

نعم ربّما يحتمل فيها الخطأ بالنسبة إلى التيامن و التياسر فيجوز الاجتهاد من هذه الجهة، و البناء على مؤدّى الاجتهاد عند المخالفة كما جزم به جماعة(6) و جعله في الذكرى أقرب

ص: 421


1- الموجز الحاوي: 66، جامع المقاصد 72:2.
2- المفاتيح 114:1، و المدارك 133:3.
3- التذكرة 25:3.
4- المدارك 134:3.
5- كما في المعتبر 66:2، و نهاية الإحكام 392:1، و التذكرة 7:3، و روض الجنان 528:2، و جامع المقاصد 49:2.
6- كما في جامع المقاصد 72:2، و الدروس 16:1، و البيان: 54، و المفاتيح 114:1، و الكفاية: 16، و المسالك 157:1.

و علّله «بأنّ الخطأ في التيامن و التياسر غير بعيد»(1). و استدلّ عليه في المدارك بعموم الأمر بالتحرّي(2) و احتمل المنع منه أيضا في الذكرى قال: «و وجه المنع أنّ احتمال إصابة الخلق الكثير أقرب من احتمال إصابة الواحد» و زيّفه بجواز ترك الخلق الكثير الاجتهاد في ذلك لعدم وجوبه عليهم و جواز التعويل على قبلة البلد و إن كانت قرية صغيرة نشأ فيها قرون من المسلمين، فلا يدلّ مجرّد صلاتهم على تحريم اجتهاد غيرهم. ثمّ نقل أنّه قد وقع في زماننا اجتهاد بعض علماء الهيئة في قبلة مسجد دمشق و أنّ فيها تياسرا عن القبلة مع انطواء الأعصار الماضية على عدم ذلك. و نقل أيضا «عن عبد اللّه(3) بن المبارك أنّه أمر أهل المرو بالتياسر بعد رجوعه من الحجّ »(4).

و تحقيق المقام أنّ الاجتهاد في التيامن و التياسر بعد العلم أو الظنّ بالجهة غير واجب لعدم الدليل عليه، بل الدليل على خلافه كما هو قضيّة قولهم إنّ القبلة بالجهة لا يعتبر فيها إصابة عين الكعبة، و وجوب الاجتهاد فيهما إنّما يتّجه على تقدير اعتبار إصابة العين.

و توهّم الدلالة عليه من عموم التحرّي - كما عرفته عن صاحب المدارك - ضعيف لمنع العموم، فإنّ الأمر بالتحرّي في صحيحة زرارة معلّق على عدم العلم بوجه القبلة و هو سمتها وجهتها، و المفروض كون الجهة معلومة، و الأمر باجتهاد الرأي و تعمّد القبلة بقدر الجهد في موثّقة سماعة أيضا مفروض لصورة الجهل بالجهة، كما هو ظاهر قول الراوي إذا لم تر الشمس و لا القمر و لا النجوم فلا يتناول مفروض المقام.

و أمّا إذا اجتهد فعلم بالتيامن أو التياسر فهل يجب مراعاته في الصلاة أو يكتفي بالجهة من دون تيامن أو تياسر؟ وجهان: من إطلاق قولهم بعدم اعتبار إصابة العين في الجهة، و من قاعدة الشغل اليقيني المستدعية ليقين البراءة و هو الأقرب، و يتوهّن الإطلاق المذكور بظهوره في صورة الجهل بهما و عدم تناوله لصورة العلم بأحدهما، فيبقى القاعدة سليمة عمّا يرد عليها، مع إمكان دعوى ظهور الإجماع من تضاعيف كلامهم على وجوب مراعاته في الصلاة إذا علم أو ظنّ به.

ثمّ لا إشكال في عدم جواز التعويل على قبلة البلد إذا علم بناؤها على الغلط في الجهة، بل يجب تحصيل معرفة الجهة علما بمراجعة الطرق العلميّة للمتمكّن منها أو ظنّا

ص: 422


1- الذكرى 168:3.
2- المدارك 134:3.
3- فتح العزيز 224:3.
4- الذكرى 168:3.

بالاجتهاد في الأمارات الظنّيّة لغير المتمكّن من العلم لعموم الأمر بالتحرّي و الاجتهاد، كما لا إشكال في وجوب التعويل عليها إذا علم إصابتها الجهة الواقعيّة، و كذلك إذا ظنّ الإصابة لمن لم يتمكّن من العلم بها، و لا يجب الاجتهاد أيضا لعموم معقد الإجماع المنقول و السيرة القطعيّة و عدم تناول الأمر بالتحرّي و الاجتهاد لمثل ذلك لفرض حصول الظنّ الّذي لا يقصد من الاجتهاد أزيد منه. و إنّما الإشكال في صور ثلاث:

الاولى: إذا ظنّ الإصابة مع التمكّن من العلم بالقبلة فهل يعوّل على الظنّ أو يجب تحصيل العلم ؟

الثانية: ما لو شكّ في الإصابة و العدم مع التمكّن من العلم أو الظنّ بالقبلة بالاجتهاد، فهل يعوّل على قبلة أيضا، أو يجب تحصيل العلم بالقبلة مع التمكّن و إلاّ فالظنّ؟

الثالثة: ما لو ظنّ بالاجتهاد كونها على الغلط، أو ظنّ به كون القبلة جهة معيّنة مخالفة لقبلة، فهل يعوّل على قبلة البلد أيضا؟ أو يتّبع الظنّ المذكور؟ ففي جميع هذه الصور وجهان: من إطلاق معقد الإجماع المنقول كما توهّمه جماعة منهم صاحب المدارك، و من إطلاق قولهم: «فإن جهلها عوّل على الأمارات المفيدة للظنّ »(1) منطوقا و مفهوما، و هذا أيضا من معاقد الإجماع كما تقدّم. فباعتبار المفهوم ينفي جواز التعويل على القبلة المظنونة، مضافا إلى الإجماعات المنقولة على وجوب تحصيل العلم للمتمكّن منه، و باعتبار المنطوق يقضي بوجوب الاجتهاد و التعويل على ظنّه، مضافا إلى عموم الأمر بالتحرّي و الاجتهاد بالقياس إلى الصورة الثانية.

و أمّا السيرة فهي مجملة بالقياس إلى جميع الصور، و القدر المتيقّن منها التعويل على قبلة البلد في صورة العلم بالإصابة أو الظنّ بها مع عدم التمكّن من العلم بالقبلة أو الشكّ في الإصابة مع عدم التمكّن من العلم و الظنّ بالقبلة معا. فلا بدّ من تحكيم معقد أحد الإجماعين على معقد الآخر، نظرا إلى أنّ بينهما باعتبار الإطلاق عموما من وجه، فيتعارضان فيما نحن فيه، و ضابطه معلوميّة قبلة البلد من دون العلم بإصابتها الجهة الواقعيّة ظنّ بها مع التمكّن من العلم بالجهة أو لا.

لكنّ الإنصاف أنّه ليس في معقد كلامهم في قبلة البلد إطلاق يتناوله بحيث يطمئنّ به

ص: 423


1- المدارك 134:3.

النفس، بل ظاهر عباراتهم كما فهمه جماعة منهم المحقّق الخونساري في حاشية الروضة(1) بناء الحكم في قبلة بلاد المسلمين على فرض كون الجهة فيها قطعيّة كما عرفت، و على فرض تسليم إطلاق معقد إجماع التذكرة(2) فالتعارض المشار إليه يوجب إجمالا في معقدي الإجماعين، مضافا إلى اضطراب كلمات كثير منهم في المقام القادح في أصل انعقاد الإجماع على عموم الحكم، فيبقى إطلاق الأمر بالتحرّي و الاجتهاد سليما عمّا يوجب الخروج.

ثمّ إنّه لا عبرة بمحاريب بلد الكفّار و المشركين و لا بقبورهم و لا بمحاريب و قبور البلاد المجهولة، و لو دخل بلدا خرابا فوجد فيه مساجد و محاريب و قبورا و لم يعلم الواضع لم يجز الصلاة إليها بل يجب الاجتهاد، لجواز أن يكون بناء المشركين قاله في التذكرة. نعم إن علم أنّه من بناء المسلمين فقال في التذكرة: «أنّه لم يلزمه الاجتهاد»(3) و في إطلاقه الإشكال بل المنع المتقدّم. و إن وجد في بلد المسلمين محرابا مهجورا أو قبرا أو قبرين لم يجز التعويل عليه، لجواز كون هجرهم تبيّن كونه على الخطأ عندهم، و عدم اتّفاق العلم بإصابة الجهة بالقبر و القبرين، و لا يقبل قول صاحب البيت أو المنزل في الإخبار بقبلة البلد، إلاّ إذا حصل العلم بصدقه باحتفافه بقرائن الصدق. و لا فرق في بلد المسلمين بين الكبير و الصغير، و في حكمه القرية و المحاريب المنصوبة في جوار الطرق المسلوكة الّتي يكثر مرور المسلمين فيها. و يعتبر في الجميع عدم العلم بوضعها على الغلط، و لو علم الغلط في محراب مخصوص لم يجز التعويل عليه كما عرفت، و لو علم الغلط إجمالا في بلد أو قطر كما في خراسان على ما قيل وجب الاجتهاد، و لم يجز التعويل على شيء من محاريب هذا البلد أو القطر إلاّ ما خرج عن طرف العلم الإجمالي بالعلم بالإصابة فيه بالخصوص. و كذا يجب الاجتهاد في قبلة طريق يندر مرور المسلمين به.

المقام الثالث: في أنّه إذا عجز عن العلم و الظنّ معا بفقد أسبابهما، فالمعروف من مذهب الأصحاب أنّه مع سعة الوقت يصلّي إلى أربع جهات، و في الذخيرة(4) هذا هو المشهور،

ص: 424


1- حاشية الروضة: 177.
2- التذكرة 25:3.
3- التذكرة 25:3.
4- الذخيرة: 218.

و إليه ذهب الشيخان(1) و ابن إدريس(2) و أكثر المتأخّرين(3) قال في المختلف:(4) و هو الظاهر من كلام ابن الجنيد(5) و أبي الصلاح(6) و سلاّر(7) و في كلام بعض مشايخنا(8) «على المشهور بين الأصحاب نقلا و تحصيلا بين القدماء و المتأخّرين شهرة عظيمة» و في المعتبر(9) «و هو مذهب علمائنا» و في المنتهى(10) و التذكرة(11) «ذهب إليه علماؤنا» مؤذنين بدعوى الإجماع، و نقله صريحا في الغنية(12) قائلا: «و لم يعلم جهة القبلة و لا ظنّها توجّه بالصلاة إلى أربع جهات بالإجماع المذكور و طريقة الاحتياط» خلافا لابن أبي عقيل(13)فذهب إلى الاكتفاء بصلاة واحدة حيث شاء مستقبل القبلة و غير مستقبلها و لا إعادة عليه إذا علم بعد ذهاب وقتها أنّه صلّى لغير القبلة، و عزي اختياره إلى ظاهر ابن بابويه(14) و إلى المختلف(15) نفي البعد عنه، و إلى الذكرى(16) الميل إليه، و اختاره غير واحد من المتأخّرين كصاحبي المدارك(17) و الذخيرة(18) و غيرهما(19).

و هاهنا قول ثالث نقل عن السيّد رضي الدين بن طاووس(20) و هو الرجوع إلى القرعة و العمل بمقتضاها. و هذا أضعف الأقوال حيث لم يوافقه غيره، و لعلّ مستنده عموم «القرعة لكلّ أمر مشكل»(21) و فيه - مع أنّ عمومات القرعة لا يعمل بها إلاّ مع جابر و هو منحصر في عمل الأصحاب أو معظمهم و هو هنا في خلافها - أنّه بعد مساعدة الإجماع العقل و النصّ على وجوب الأربع حسبما تعرفه لا إشكال يندرج به المورد في عموم «القرعة لكلّ أمر مشكل».

ص: 425


1- المقنعة: 96، و النهاية: 63، و المبسوط 78:1.
2- السرائر 205:1.
3- كما في كشف اللثام 174:3، و الحدائق 400:6، و مجمع الفائدة و البرهان 67:2، و المدارك 136:3.
4- المختلف 62:2.
5- نقله عنه في المختلف 62:2.
6- الكافي في الفقه: 139.
7- المراسم: 61.
8- الجواهر 655:7.
9- المعتبر 70:2.
10- المنتهى 172:4.
11- التذكرة 28:3.
12- الغنية: 69.
13- نقله عنه في المختلف 67:2.
14- من لا يحضره الفقيه 846/276:1.
15- المختلف 68:2.
16- الذكرى 171:3-172.
17- المدارك 126:3.
18- الذخيرة: 218.
19- جامع المقاصد 71:2، إرشاد الأذهان 245:1، و المسالك 157:1، و مجمع الفائدة و البرهان 7:2، و حاشية الروضة: 180.
20- الأمان من أخطار الزمان: 93-94.
21- عوالي اللآلئ 69/512:3.

و أقواها الأوّل، لضعف مستند الثاني و هو عدّة روايات ساقطة عن درجة الاعتبار لجهات عديدة، و إن صحّت أسانيدها مثل ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن زرارة و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «يجزئ المتحيّر أبدا أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة»(1)و ما رواه أيضا في الصحيح عن معاوية بن عمّار «أنّه سئل عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا، فقال: قد مضت صلاته فما بين المشرق و المغرب قبلة»(2) و نزلت هذه الآية في قبلة المتحيّر وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ (3) و ما رواه الكليني في الصحيح عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قبلة المتحيّر؟ فقال: يصلّي حيث يشاء»(4).

و فيها أوّلا: إعراض معظم الأصحاب عن العمل بها، و هذا مع صحّة أسانيدها يدلّ على أنّ فيها شيئا من موانع الاعتماد.

و ثانيا: موافقتها لمذهب جماعة من العامّة، كداود فقال: «يصلّي إلى أيّ جهة شاء»(5)و أبي حنيفة و أحمد فقالا: «يصلّي ما بين المشرق و المغرب و يتحرّى الوسط»(6) ثمّ لا يعيد لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما بين المشرق و المغرب قبلة» فيقوّى فيها الورود على وجه التقيّة. و في قوله عليه السّلام:

«فما بين المشرق و المغرب قبلة» إشعار واضح بذلك لموافقته ما عرفت عن أبي حنيفة.

و ثالثا: القدح في متن الأوّلين بقوّة احتمال التحريف في المتحيّر بكونه تحريفا عن التحرّي أو المتحرّي، فيوافق هذه الصحيحة لما تقدّم من صحيحة زرارة في التحرّي. و ممّا يؤيّد هذا الاحتمال أنّ ظاهر الرواية متروك بما تقدّم من وجوب التحرّي على من لم يعلم أين وجه القبلة، و قوّة احتمال كون قوله «و نزلت هذه الآية» الخ من كلام الصدوق، بل هو الظاهر من صوغ العبارة لاقتضاء كونه من تتمّة الحديث ركاكة في التعبير كما يجدها الذوق السليم. و ممّا يقرب ذلك أيضا ما تقدّم في مباحث النافلة في السفر و على الراحلة من تفسير الآية نصّا و فتوى بالنافلة في السفر على الراحلة، و على فرض تسليم كونه من تتمّة الراحلة ينبغي حمله على التقيّة أو اطراحه لعدم مقاومته ما تقدّم من التفسير.

ص: 426


1- الوسائل 2/311:4، ب 8 من أبواب القبلة، الفقيه 847/276:1.
2- الوسائل 1/314:4، ب 10 من أبواب القبلة، الفقيه 848/276:1.
3- البقرة: 115.
4- الوسائل 3/311:4، ب 8 من أبواب القبلة، الكافي 10/286:3.
5- المحلّى 230:3.
6- المغني 491:1.

و رابعا: قصور دلالتها أمّا الاولى، فلأنّ قوله عليه السّلام: «أينما توجّه» لا يدلّ على مطلوبهم إلاّ إذا كان تقديره أينما توجّه بصلاة واحدة، و يحتمل قويّا أن يكون تقديره أينما توجّه بالأربع، و يكون المراد به التخيير في الأربع بين الجهات الكثيرة المردّد فيها القبلة في نظر المتحيّر، و إنّما لم يصرّح به تقيّة، و معه يسقط ظهوره في الأوّل.

و أمّا الثانية: فلأنّ غاية ما فيها الدلالة على مضيّ الصلاة فيما فرضه السائل من تبيّن الانحراف عن القبلة يمينا أو شمالا و يحتمل قويّا إرادة يمين القبلة و يسارها لا يمين المصلّي و يساره، فيكون مورده فوات التيامن و التياسر في الجهة المعلومة أو المظنونة المنحرفة يمنة أو يسرة، و ليس في الرواية ما ينفي التحرّي و الاجتهاد عن المورد و لا ما يدلّ على كون الغرض هو السؤال عن حكم المتحيّر العاجز عن العلم و الاجتهاد، و سيأتي أنّ المجتهد في القبلة إذا صلّى بموجب اجتهاده فانكشف الانحراف إلى ما يبلغ المشرق أو المغرب فصلاته صحيحة مطلقا. و ظنّي أنّ الرواية أظهر في ذلك ممّا زعمه الجماعة، و الكلام في بقيّة ما في ذيل الرواية نظير ما عرفت من ظهوره في كونه للصدوق.

و أمّا الثالثة: فلأنّ قوله عليه السّلام: «يصلّي حيث يشاء» يحتمل قويّا نظير ما تقدّم من كون تقديره يصلّي الأربع حيث يشاء، و إنّما لم يصرّح بذكره تقيّة. و في حاشية الروضة تأييد القول المذكور بعد ما اختاره محتجّا بما عرفت بعدّة روايات اخر كصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا صلّيت و أنت على غير القبلة و استبان لك أنّك صلّيت على غير القبلة و أنت في وقت فأعد، و إن فاتك الوقت فلا تعد»(1) و روايته الاخرى مثلها. و صحيحته الاخرى المرويّة في الفقيه «أنّه سأل الصادق عليه السّلام عن رجل أعمى صلّى على غير القبلة ؟ فقال: إن كان في وقت فليعد، و إن كان قد مضى الوقت فلا يعد، قال:

و سألته عن رجل صلّى و هي متغيّمة ثمّ انجلت فعلم أنّه صلّى إلى غير القبلة ؟ فقال: إن كان في وقت فليعد، و إن كان الوقت قد مضى فلا يعد»(2). قال: وجه التأييد أنّ الظاهر من السؤال أنّه صلّى صلاة واحدة، و قد قرّره عليه السّلام و بيّن حكمه، فالظاهر إجزاء الصلاة الواحدة، و هذا و إن أمكن حمله على صورة التحرّي لكن ترك الاستفصال لا يخلو عن ظهور في

ص: 427


1- الوسائل 1/315:4، ب 11 من أبواب القبلة، التهذيب 151/47:2، و الكافي 3/284:3.
2- الوسائل 8/318:4، ب 11 من أبواب القبلة، الفقيه 844/179:1.

الإجزاء مطلقا. و رواية محمّد بن الحصين قال: «كتبت إلى عبد صالح الرجل يصلّي في يوم غيم في فلات من الأرض، و لا يعرف القبلة فيصلّي حتّى إذا فرغ من صلاته بدت له الشمس، فإذا هو صلّى لغير القبلة أ يعتدّ بصلاته أم يعيدها؟ فكتب يعيدها ما لم يفته الوقت، أو لم يعلم أنّ اللّه يقول و قوله الحقّ : فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ (1)-(2) وجه التأييد مثل ما ذكر في سابقتها، مع زيادة أنّ حملها على صورة التحرّي كأنّه لا يخلو عن بعد، و أيضا زيادة ما يظهر منها من تفسير الآية الكريمة موافقة لما في صحيحة معاوية بن عمّار. انتهى(3).

و فيه: أنّه لا كلام لأحد في إجزاء صلاة واحدة في التحرّي، و في المتحيّر إذا لم يسعه الوقت إلاّ من واحدة، و الرواية محتملة لكلّ منهما، و غيرها محتمل للأوّل و عموم الحكم في الجميع للمتحيّر في سعة الوقت إن سلّمناه و لو من جهة ترك الاستفصال فيما عدى الاولى موهون بمصير المعظم إلى خلافه، و احتماله التقيّة كما يشعر به التعليل في الرواية الأخيرة.

و بعد جميع اللتيّا و الّتي فجميع هذه الروايات و غيرها ممّا تقدّم لعمومها صورتي اتّساع الوقت للأربع و عدم اتّساعها قابلة للتخصيص.

و دليل مذهب المعظم لاختصاصه بصورة الاتّساع صالح لأنّ يخصّصها بصورة عدم الاتّساع، و هو رواية خراش المرويّة عن التهذيب بسندين عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: جعلت فداك أنّ هؤلاء المخالفين لنا يقولون: إذا أطبقت علينا السماء أو أظلمت فلم تعرف السماء كنّا و أنتم سواء في الاجتهاد، فقال: ليس كما يقولون إذا كان ذلك فليصلّ الأربع وجوه»(4).

و ضعفها بالإرسال و الجهالة منجبرة باشتهار العمل، و عبد اللّه بن المغيرة في أحد سنديها، و الطعن عليها بمتروكيّة الظاهر لقضائها بسقوط الاجتهاد رأسا، يدفعه، منع الظهور في نفي الاجتهاد الّذي يقول به الأصحاب لاحتماله الاجتهاد بالمعنى الّذي التزمه أبو حنيفة و أحمد في المتحيّر، و هو تحرّي الوسط فيما صارا إليه من أنّه يصلّي ما بين المشرق و المغرب. و ربّما يحتمل إرادة الحدس من الاجتهاد، و هو أن يتحدّس عند التحيّر فيصلّي

ص: 428


1- البقرة: 115.
2- الوسائل 4/316:4، ب 11 من أبواب القبلة، التهذيب 160/49:2.
3- حاشية الروضة: 180-181.
4- الوسائل 5/311:4، ب 8 من أبواب القبلة، التهذيب 144/45:2.

إلى جهة انقدحت للنفس فإنّه أيضا نحو اجتهاد عند العامّة هذا.

مضافا إلى اعتضادها بموافقة الاعتبار القاضي بوجوب إحراز الموافقة القطعيّة عند اشتغال الذمّة بالاستقبال، و هي و إن كانت تقضي بمراعاة أزيد من الأربع حيث تساوت الجهات في نظر المكلّف إلاّ أنّ النصّ قد دلّ على أنّ الشارع اكتفى عنها بالموافقة الاحتماليّة المتحقّقة في ضمن الأربع لا أقلّ ، فلا ينتقض ذلك بالموافقة الاحتماليّة اللازمة بواحدة أو اثنتين أو ثلاث، مع استقلال العقل بأنّه بعد سقوط اعتبار الموافقة القطعيّة شرعا أو عقلا عند اليقين بالتكليف و اشتباه المكلّف به وجب مراعاة ما كان احتمال الموافقة من مراتب الموافقة الاحتماليّة فيه أزيد، و هذه القاعدة أيضا و إن كانت تقتضي مراعاة أزيد من الأربع أيضا إلاّ أنّ الشارع نصّ بالاكتفاء بما تضمّنه الأربع فوجب الاقتصار عليه.

و القول بأنّا لا نسلّم وجوب الاستقبال مع الجهل كما في حاشية الروضة(1) و غيرها يدفعه عموم قوله تعالى: وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (2). و قوله عليه السّلام: «لا صلاة إلاّ إلى القبلة(3)» عامّ لصورة الجهل أيضا مع العلم الإجمالي و لا مخرج عن عمومه هنا.

و توهّم نهوض الأخبار المذكورة لتخصيصه، واضح الضعف بمنع العمل بالأخبار المذكورة حسبما عرفت.

ثمّ إنّ قضيّة النصّ و الفتوى هو التخيير في تعيين الجهات الأربع عمّا بين الجهات الكثيرة المتساوية إلاّ الأربع المعيّنة الّتي يعلم إجمالا بكون أحدها جهة القبلة في الواقع فتتعيّن، و قيّدها في الروضة(4) كما عن المقنعة(5) و السرائر(6) و جمل(7) العلم و العمل بأربع جهات متقاطعة على زوايا قوائم، و هذا الاعتبار ممّا لا دليل عليه فينفيه إطلاق النصّ و الفتوى، فالقول بالاجتزاء بالأربع كيفما اتّفقت أجود.

و عن البيان «اعتبار التباعد بين كلّ جهتين بحيث لا تعدّان جهة واحدة لقلّة الانحراف و إلاّ لم يفد المتعدّد»(8) و هذا حسن عملا بظاهر النصّ و الفتوى المقتضي للجهات المتغايرة بحيث تعدّ كلّ واحدة جهة مغايرة للاخرى، لكن ينبغي تقييد الاجتزاء بالأربع المطلقة مع

ص: 429


1- حاشية الروضة: 181.
2- البقرة: 144.
3- الوسائل 2/312:4، ب 9 من أبواب القبلة، الفقيه 855/180:1.
4- الروضة البهيّة 517:1.
5- المقنعة: 96.
6- السرائر 205:1.
7- جمل العلم و العمل (رسائل الشريف المرتضى 3):29.
8- البيان: 55-56.

مراعاة التباعد المذكور بعدم الاكتفاء فيه بمقدار يقطع بخروج القبلة عنها.

و بالجملة لا بدّ في إحراز التباعد مراعاة ما لا يقطع بخروج القبلة عن الأربع حذرا عن المخالفة القطعيّة، و لا يلزم بذلك الالتزام بما عرفته عن الجماعة من اعتبار تقاطع الجهات على زوايا قوائم الّذي مرجعه استواء الخطّ الواصل بين كلّ جهتين متقابلتين.

فلا يتوجّه ما قد يقال انتصارا له: من أنّه إذا كان بعد كلّ جهة عن الاخرى بقدر سدس الدور مثلا فلا تعدّان قبلة واحدة، إذ لا يسع لمن كان قبلته إحداهما الانحراف إلى أن يبلغ إلى الاخرى، و إذا كان كذلك فيعدّان قبلتين، فإذا صلّى إلى أربع جهات كذلك فيمكن أن تكون القبلة خارجة عنها منحرفة بما يبلغ اليمين و اليسار، كما إذا كانت القبلة هي الجنوب و إحدى الجهات الّتي صلّى إليها المشرق ثمّ ينحرف عنه بقدر سدس الدور إلى الشمال ثمّ هكذا إلى أن يكون الرابعة هي المغرب. فالظاهر أنّ أقرب الجهات إلى قبلته حينئذ هو المشرق و المغرب و انحرافهما عنها يبلغ اليمين و اليسار، فالصواب جعل الجهات كما فرضه في الروضة(1).

و فيه: أنّ احتمال الخروج غير مضرّ لعدم إصابة الجهة الواقعية بالصلاة إلى الأربع. لعدم إمكان رفع احتمال كونها بين جهتين كما ذكروه، و إنّما يضرّ القطع بالخروج، و هذا ليس بلازم من عدم مراعاة التقاطع على قوائم كما هو واضح، لكنّ الأحوط مراعاته خروجا عن شبهة مخالفة الواقع.

ثمّ عن صريح ابن فهد(2) و ثاني الشهيدين(3) في شرح الإرشاد، كما هو ظاهر جملة من العبائر(4) بل معاقد بعض(5) الإجماعات أنّه لو اجتمع فرضان في وقت واحد كالظهرين مثلا لم يجز الشروع في الثانية منهما حتّى يصلّي الاولى إلى الأربع ليحصل يقين البراءة من الاولى عند الشروع في الثانية، كالصلاة في ثوبين أحدهما نجس و اشتبه بالآخر، فيصير صلاة الفريضة أربع مرّات إلى الأربع بمنزلة فعلها مرّة عند اتّضاح القبلة.

و يتفرّع على ذلك أنّه لو أدرك من آخر وقت الظهرين مقدار أربع رباعيّات تعيّنت

ص: 430


1- الروضة البهيّة 517:1.
2- الموجز الحاوي (رسائل العشر): 66.
3- روض الجنان 524:2.
4- كشف الالتباس: 89، و المسالك 158:1.
5- المبسوط 79:1، و الذكرى 171:3، و كشف اللثام 163:3.

للعصر، لأنّ الجميع مقدار أدائها على تلك الحال، و حكي ذلك عن الموجز(1) و شرحه(2)و المسالك(3) و المقاصد(4) العليّة أيضا، خلافا لجماعة كحاشية الروضة و المحكيّ عن نهاية(5) الإحكام و المدارك(6) قال في حاشية الروضة: «الظاهر أنّه لا يجب إلاّ تقديم الاولى إلى كلّ جهة على الاخرى إليها، و أمّا تقديم أربع الاولى على الشروع في الثانية فليس بلازم لعدم دليل عليه، و جعل الأربع بمنزلة صلاة واحدة على ما ذكره في شرح الإرشاد ممّا لا شاهد له و لا حجّة عليه و مثله القول في الصلاة في الثوبين المشتبهين»(7).

أقول: الأقوى في بادئ الأمر هو القول الأوّل و يكفي في دليله دليل وجوب الترتيب بينهما لقضائه بأنّه لا يسوغ الشروع في الثانية إلاّ بعد الفراغ عن إحراز الاولى المأمور بها الواقعي و هي بمجرّد الصلاة إلى جهة واحدة غير محرزة قطعا، مع أنّه ما لم يقطع بفراغ الذمّة من الاولى لا يمكن الجزم و لا إحراز القربة عند الشروع في الثانية لعدم العلم بمشروعيّة ذلك الشروع. و فيهما نظر ذكرنا وجهه في الاصول، فالأقوى في ثاني النظر هو القول الثاني للأصل و عدم دليل يرد عليه، و تمام الكلام في الاصول.

و هل يجوز إيقاع الثانية إلى أربع جهات اخرى مخالفة لأربع الاولى، كما عن الشيخ نجيب الدين(8) أو يجب إيقاعها إلى أربع الاولى ؟ احتمالان: أحوطهما الثاني إن لم نقل بكونه أقوى، و إن كان الأوّل أيضا لا يخلو عن قوّة بالنظر إلى إطلاق النصّ و الفتاوي.

تذنيب: إن ضاق الوقت عن الأربع صلّى ما يحتمله الوقت ثلاث مرّات أو مرّتين، و إن ضاق إلاّ عن واحدة صلّى الواحدة إلى أيّ جهة شاء كما هو المشهور بين الأصحاب بل لم نجد فيه مخالفا، و كذا الحكم فيما لو منعه من الأربع ضرورة من تقيّة أو مرض أو خوف لصّ أو عدوّ أو سبع أو انقطاع رفقة أو نحو ذلك، كما نصّ عليه في المعتبر(9) فوجب الاقتصار على ما لا ضرورة إلى تركه من دون فرق بين التقصير في التأخير و غيره، و السرّ في ذلك كلّه ما أشرنا إليه في تضاعيف المسألة من استقلال العقل بعدم سقوط التكليف رأسا بسبب سقوط اعتبار الموافقة القطعيّة عقلا أو شرعا اكتفاء بالموافقة الاحتماليّة مهما

ص: 431


1- الموجز الحاوي: 66.
2- كشف الالتباس: 89.
3- المسالك 158:1.
4- المقاصد العليّة: 2.5.
5- نهاية الإحكام 397:1.
6- المدارك 359:2.
7- حاشية الروضة: 181.
8- نقله عنه في مفتاح الكرامة 398:5.
9- المعتبر 7:2.

أمكن فيراعى منها ما كان الاحتمال فيه أكثر.

[المسألة السابعة: في أحكام الخلل الواقعة في الصلاة من جهة الاستقبال]
اشارة

المسألة السابعة: في أحكام الخلل الواقعة في الصلاة من جهة الاستقبال، فلو صلّى إلى جهة ظانّا بالاجتهاد أو لضيق الوقت ثمّ تبيّن خطؤه بعد الفراغ عن الصلاة فلأصحابنا فيه أربعة أقوال:

أحدها: ما استقرّ عليه مذهب المتأخّرين(1) و متأخّريهم(2) من أنّه إن صلّى إلى ما بين المشرق و المغرب فالصلاة ماضية و لا إعادة عليه مطلقا، و في الشرائع(3) و التذكرة(4) التعبير بالانحراف اليسير، و حمل على ما بينهما، و إن صلّى إلى المشرق و المغرب يعيدها في الوقت لا في خارجه، و إن كان مستدبرا يعيدها مطلقا، و عن كاشف اللثام(5) لم أظفر بقائل صريحا بعدم الإعادة مطلقا قبل الفاضلين(6).

و ثانيها: ما اختاره العلاّمة في المختلف قائلا: «و الوجه عندي أنّه إن كان بين المشرق و المغرب فلا إعادة مطلقا، لما رواه معاوية بن عمّار في الصحيح عن الصادق عليه السّلام قال:

«قلت: الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا و شمالا؟ قال: قد مضت صلاته، و ما بين المشرق و المغرب قبلة»(7) و إن كان قد صلّى إلى المشرق و المغرب أو مستدبرا أعاد في الوقت لا خارجه أمّا الإعادة في الوقت فهي وفاق... إلى آخر كلامه»(8).

و ثالثها: أنّه إن كان في الوقت يعيدها، و إن كان في خارجه لم يعدها إلاّ إذا استدبر فيعيدها مطلقا، اختاره الشيخ في المبسوط(9) و جعل الإعادة مع الاستدبار و انقضاء الوقت على الصحيح من المذهب. ثمّ حكي عن قوم من أصحابنا(10) أنّ المستدبر مع انقضاء الوقت

ص: 432


1- الشرائع 67:1-68، و إرشاد الأذهان 245:1، و المعتبر 74:2، و الشهيد في الدروس 160:1.
2- كجامع المقاصد 73:2-74، و المدارك 151:3، و كفاية الأحكام: 16، روض الجنان 542:2، و المفاتيح 114:1.
3- الشرائع 67:1-68.
4- التذكرة 32:3.
5- كشف اللثام 178:3.
6- المعتبر 72:2، و المنتهى 195:4.
7- الوسائل 1/314:4، ب 10 من أبواب القبلة، التهذيب 157/48:2.
8- المختلف 69:2.
9- المبسوط 80:1.
10- و هو مختار السيّد في الناصريّات: 202، و المحقّق في الشرائع 67:1 و 68، و اليوسفي في كشف الرموز 133:1-134، و العلاّمة في التذكرة 29:3، و الشهيد في الدروس: 31، و الذكرى 180:3.

لا يعيد، و عزي إليه أيضا في الخلاف(1) مدّعيا عليه الإجماع، و إلى المقنعة(2) و جمل السيّد(3) و هو خيرة المراسم و الغنية، قال في الأوّل: «و من صلّى إلى جهة واحدة ثمّ ظهر له أنّه أخطأ القبلة فإن كان الوقت باقيا أعاد على كلّ حال، و إن كان الوقت قد خرج و ظهر له أنّه كان استدبرها أعاد أيضا، و إن لم يكن استدبرها و قد خرج الوقت فلا يعيدنّ »(4) و في الثاني: «و من توجّه مع الظنّ ثمّ يتبيّن له أنّ توجّهه كان إلى غير القبلة أعاد الصلاة إن كان وقتها باقيا، و لم يعد ان كان قد خرج إلاّ أن يكون استدبر القبلة فإنّه يعيد على كلّ حال»(5).

و رابعها: الإعادة في الوقت مطلقا و عدمها في خارجه كذلك، و هذا خيرة السيّد في الناصريّات حيث إنّه بعد نقل عبارة جدّه الناصر - من أخطأ القبلة و علم به قبل مضيّ وقت الصلاة فعليه إعادتها، فإن علم بعد مضيّ وقتها فلا إعادة عليه - قال: هذا صحيح، و عندنا أنّه إذا تحرّى في القبلة فأخطأ، ثمّ تبيّن له الخطأ أنّه يعيد ما دام في الوقت و لا إعادة عليه بعد خروج الوقت.

و قد روي «أنّه إن كان أخطأ يمينا و شمالا أعاد ما دام الوقت باقيا، فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه، فإن استدبر القبلة أعاد على كلّ حال»(6) و الأوّل هو المعوّل عليه، و وافقنا فيما ذهبنا إليه مالك.(7)

و قال أبو حنيفة و أصحابه: «أنّ صلاته ماضية و لا إعادة عليه على كلّ حال»(8) و قال الشافعي في الجديد: «إنّ من أخطأ القبلة ثمّ تبيّن له خطؤه لزمه إعادة الصلاة»(9) و قوله في القديم مثل قول أبي حنيفة(10) دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المقدّم ذكره، قوله تعالى: وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (11) فأوجب التوجّه على كلّ مصلّ إلى شطر البيت، فإذا لم يفعل ذلك كان الأمر عليه باقيا فيلزمه الإعادة.

فإن قيل: الآية تقتضي وجوب التوجّه على كلّ مصلّ ، و ليس فيها دلالة على أنّه إذا

ص: 433


1- الخلاف 304:1، المسألة 51.
2- المقنعة: 97.
3- جمل العلم و العمل (رسائل الشريف المرتضى 3):29.
4- المراسم: 61.
5- الغنية: 69.
6- التهذيب 12/45:2-18.
7- المدوّنة الكبرى 92:1-93.
8- شرح فتح القدير 237:1، و المجموع شرح المهذّب 243:3.
9- المجموع شرح المهذّب 243:3، و حلية العلماء 74:2.
10- المجموع شرح المهذّب 225:3، حلية العلماء 74:2.
11- البقرة: 144.

لم يفعل لزمه الإعادة.

قلنا: لم نحتجّ بالآية على وجوب القضاء، و إنّما بيّنّا بالآية وجوب التوجّه على كلّ مصلّ ، فإذا لم يأت بالمأمور به فهو باق في ذمّته فيلزمه فعله. و ليس لأحد أن يقول هذه الآية إنّما يصحّ أن يحتجّ بها الشافعي، لأنّه يوجب الإعادة على كلّ حال، في الوقت و بعد خروج الوقت، و أنتم تفصّلون بين الأمرين، و ظاهر الآية تقتضي أن لا فصل بينهما، فلا دليل لكم على مذهبكم في الآية.

قلنا: إنّما أمر اللّه تعالى كلّ مصلّ للظهر - مثلا - بالتوجّه إلى شطر البيت ما دام في الوقت، و لم يأمره بالتوجّه بعد خروج الوقت، لأنّه إنّما أمر بأداء الصلاة لا بقضائها، و الأداء ما كان في الوقت و القضاء ما خرج عن الوقت، فهو إذا تحرّى القبلة و صلّى إلى جهة ثمّ تبيّن له الخطأ و تيقّن أنّه صلّى إلى غير القبلة و هو في الوقت لم يخرج عنه فحكم الأمر باق عليه، و وجوب الصلاة متوجّها إلى القبلة باق في ذمّته، و ما فعله غير مأمور به، و لا سقط عنه الفرض، فيجب أن تصلّي ما دام في الوقت الصلاة المأمور بها، و هي الّتي تكون إلى جهة الكعبة، لأنّه قادر عليها و متمكّن منها، و بعد خروج الوقت لا يقدر على فعل المأمور به بعينه، لأنّه قد فات بخروج الوقت، و القضاء في الموضع الّذي يجب فيه إنّما نعلمه بدليل غير دليل وجوب الأداء، و هذا الموضع قد بيّنّاه في مسائل اصول الفقه(1).

و ليس لأحد أن يقول: إنّ المصلّي في حال اشتباه القبلة عليه لا يقدر على التوجّه إلى القبلة، فالآية مصروفة على من يقدر على ذلك لأنّ هذا القول تخصيص لعموم الآية بغير دليل، و لأنّه إذا تبيّن له الخطأ في الوقت بعد زوال الاشتباه، فيجب أن تكون الآية متناولة له، و يجب أن تفعل الصلاة إلى جهة القبلة، فإن تعلّقوا بما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:

«رفع عن امّتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه»(2).

فالجواب عن ذلك إنّا نقول: إنّ خطأه مرفوع، فإنّه غير مؤاخذ به، و إنّما يجب عليه الصلاة بالأمر الأوّل، لأنّه لم يأت بالمأمور به، فإن تعلّقوا بما روي «من أنّ قوما أشكلت

ص: 434


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 116:1-120.
2- عوالي اللآلئ 131/232:1، سنن الدارقطني 33/171:4، سنن ابن ماجه 2043/659:1، كنز العمّال 34458/155:12.

عليهم القبلة لظلمة عرضت فصلّى بعضهم إلى جهة و بعضهم إلى غيرها، و علّموا ذلك، فلمّا أصبحوا و رأوا تلك الخطوط إلى غير القبلة و قدموا من سفرهم سألوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك فسكت، و نزل قوله تعالى: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ (1) فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أجزأكم صلاتكم»(2).

و الجواب عن ذلك: أنّا نحمل هذا الخبر على أنّهم سألوه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك بعد خروج الوقت، و هذا صريح في الخبر، لأنّه كان سؤالهم بعد قدومهم من السفر، فلم يأمرهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالإعادة لأنّ الإعادة على مذهبنا لا تلزم بعد خروج الوقت، و أصحاب(3) الشافعي يتأوّلون الخبر على أنّه كان في صلاة التطوّع، و يروون عن ابن عمر «أنّه قال: نزلت هذه الآية في التطوّع خاصّة»(4) و التأويل الّذي ذكرناه يغني عن هذا(5) انتهى كلامه رفع مقامه.

و إنّما نقلناه بطوله لغير واحد من الفوائد، و وافقه على ما اختاره الحلّي في التحرير(6)و تكلّم بمثل كلامه، و يظهر اختياره من نهاية الشيخ(7) و إن جعل ما روي «أنّه إذا كان صلّى إلى استدبار القبلة ثمّ علم بعد خروج الوقت وجب عليه إعادة الصلاة»(8) أحوط و بنى على العمل عليه.

و ينبغي التكلّم على قول المتأخّرين لتضمّنه شقوقا ثلاث علّق عليها أحكام ثلاث و النظر في دليله فان تمّ في جميع شقوقه وجب الإذعان به و إلاّ فبأحد الأقوال الاخر حسبما ساعد عليه الدليل، فالكلام يقع في مراحل:

[فالكلام يقع فى مراحل]
[المرحلة الاولى: لو كان الخطأ من جهة الاستقبال فيما بين المشرق و المغرب]

المرحلة الاولى: فيما لو كان الخطأ فيما بين المشرق و المغرب، و قضيّة الأصل المقرّر في الاصول بالنسبة إلى المأمور به الظاهري الشرعي فيه عدم الإجزاء مطلقا المقتضي لوجوب الإعادة و القضاء، و قول المتأخّرين: بعدم الإعادة مطلقا مع التزامهم بشرطيّة القبلة الواقعيّة لصحّة الصلاة لا بدّ من توجيهه، بأنّ الشارع جعل الجهة المظنونة مثلا بدلا

ص: 435


1- البقرة: 115.
2- سنن الدارقطني 3/271:1 و 4، سنن الترمذي 345/172:2، السنن الكبرى للبيهقي 10:2.
3- المجموع شرح المهذّب 243:3-244.
4- سنن الترمذي 2958/189:5، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 80:2.
5- الناصريّات: 202-205.
6- التحرير 189:1.
7- النهاية: 64.
8- الوسائل 10/318:4، ب 11 من أبواب القبلة، النهاية: 64.

اضطراريّا عن القبلة الواقعيّة للمجتهد في القبلة خاصّة إذا أخطأ في اجتهاده بما بين المشرق و المغرب مطلقا، أو أنّه جعل الصلاة إلى الجهة المظنونة الواقعة فيما بين المشرق و المغرب بدلا اضطراريّا عن الصلاة إلى القبلة الواقعيّة، كما أنّه جعل الصلاة بالترابيّة بدلا اضطراريّا عن الصلاة بالمائيّة و هذا الفرض إن صحّ فدليله حاكم على أدلّة القبلة الواقعيّة.

و الظاهر أنّه ممّا لا ينبغي الاسترابة في صحّته، و الدليل على ذلك: رواية معاوية بن عمّار المتقدّمة(1) في الصحيح، فإنّها نصّ فيما بين المشرق و المغرب، مع قضاء قوله عليه السّلام:

«قد مضت صلاته و ما بين المشرق و المغرب قبلة» بالبدليّة، لأنّ القبلة المنحرف عنها في كلام السائل ليس عبارة إلاّ عن القبلة الواقعية.

و الحكم بكون الجهة المنحرف إليها قبلة باعتبار عموم «ما بين المشرق و المغرب قبلة» ممّا لا معنى له، إلاّ على تقدير إرادة القبلة الجعليّة، و إلاّ بطل ما اعتقده السائل من الانحراف، و لم يقرّره الإمام عليه السّلام على معتقده، مع قضاء أدلّة القبلة كتابا و سنّة بأنّ القبلة الواقعيّة واحدة لا تتحقّق في الجهات المتعدّدة المتغايرة، و لذا وضعت لها دلائل و علامات.

و أمّا اختصاص البدليّة بالمجتهد فلا بدّ من استفادته من دليل آخر كالإجماع على أنّ العالم بالقبلة الواقعيّة أو المتمكّن من العلم بها إذا صلّيا إلى ما بين المشرق و المغرب لم يصحّ صلاتهما، و كذا المتمكّن من الاجتهاد إذا صلّى من غير اجتهاد هذا.

مضافا إلى غير واحد من الروايات الاخر كموثّقة عمّار عن الصادق عليه السّلام «في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم و هو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته، قال: إن كان متوجّها فيما بين المشرق و المغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم، و إن كان متوجّها إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمّ يفتتح الصلاة»(2) بناء على عدم الفرق في ذلك بين الكلّ و البعض.

و رواية موسى بن إسماعيل بن موسى المرويّة عن نوادر الراوندي «من صلّى على غير القبلة، فكان إلى غير المشرق و المغرب فلا يعيد الصلاة»(3).

ص: 436


1- تقدّم في الصفحة: 425، الرقم 2.
2- الوسائل 4/315:4، ب 10 من أبواب القبلة، الكافي 8/285:3.
3- مستدرك الوسائل 1/184:3، بحار الأنوار 26/69:84.

و رواية الحسن بن ظريف عن أمير المؤمنين عليه السّلام المرويّة عن قرب الإسناد «من صلّى على غير القبلة و هو يرى أنّه على القبلة ثمّ عرف بعد ذلك، فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق و المغرب»(1) و هذه نصّ في المطلوب لظهور السؤال في صورة الظنّ ، و الجواب فيما بين المشرق و المغرب.

و في كلام غير واحد أيضا الاستدلال بصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت له:

أين حدّ القبلة ؟ قال: ما بين المشرق و المغرب قبلة كلّه، قلت: فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت ؟ قال: يعيد»(2).

قال بعض الأجلّة: وجه الاستدلال من وجوه:

الأوّل: أنّ قوله فمن صلّى لغير القبلة بعد حكمه عليه السّلام «بأنّ ما بين المشرق و المغرب قبلة» يدلّ على أنّ المراد من غير القبلة ما عدى بين المشرق و المغرب، و الظاهر منه أنّه اعتقد صحّة الصلاة الواقعة فيما بينهما بحيث لا يفتقر إلى السؤال و قرّره عليه السّلام.

الثاني: أنّ الحكم بقبليّة ما بينهما يستلزم صحّة الصلاة إليها، و ذلك مع العلم و الشعور غير متحقّق، فلو لم يتحقّق فيما نحن فيه لم يتحقّق أصلا فتأمّل.

و الثالث: أنّ قوله عليه السّلام بعد السؤال عن حدّ القبلة «ما بين المشرق و المغرب قبلة» يدلّ على صحّة الصلاة إلى ما بينهما مطلقا و لو متعمّدا، خرج ذلك بالدليل و بقى غيره مندرجا تحت العموم فيجب العمل، و هو أولى الوجوه المذكورة»(3) انتهى.

و عندي أنّ هذا الاستدلال غير جيّد لعدم تعلّق الرواية بما نحن فيه:

أمّا أوّلا: فلأنّ القبلة في قوله عليه السّلام: «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» عبارة عن القبلة الواقعيّة، و قول السائل «أين حدّ القبلة» سؤال عن حدّ القبلة الواقعيّة، و حدّ الشيء عبارة عمّا يحدّه أي ما يمنع عن دخول غيره فيه، و حاصله ما يعيّنه و يميّزه عمّا عداه بحيث لم يجز تجاوزه، لعدم جواز التعدّي عن حدود اللّه بنصّ الكتاب و السنّة، فلا محمل له إلاّ كونه سؤالا عن المصداق الخارجي هي القبلة و هو السمت الشخصي الّذي يجب على كلّ مكلّف في كلّ

ص: 437


1- الوسائل 5/315:4، ب 10 من أبواب القبلة، قرب الإسناد: 54.
2- الوسائل 2/312:4، ب 9 من أبواب القبلة، الفقيه 855/180:1.
3- مطالع الأنوار 130:1.

مكان التوجّه إليه في صلاته، و من البيّن أنّه يتعدّد و يتكثّر بحسب تعدّد و تكثّر الأمكنة و الأصقاع الواقعة فيما بين المشرق و المغرب، و قوله عليه السّلام «ما بين المشرق و المغرب قبلة كلّه» إشارة إلى هذا المعنى.

و حاصله أنّ القبلة الواقعيّة المحدودة بحدّها الواقعي بحسب الشخص ليس أمرا واحدا، بل يتعدّد بحسب الأمكنة و الأصقاع الواقعة فيما بين المشرق و المغرب، فلا يندرج فيه ما أخطأه المكلّف باجتهاده.

و أمّا ثانيا: فلأنّ قوله «فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت» من حيث إنّه خصّ الصلاة في يوم غيم بالصلاة في غير الوقت، يدلّ على وقوعها لغير القبلة في غير يوم غيم، و هو يعطي وقوعها لغير القبلة من دون عذر و لا مانع من معرفتها علما أو ظنّا، و إلاّ كان المناسب أن يفرض الصلاة في الغيم الّذي هو الباعث على الخطأ بالقياس إلى كلّ من القبلة و الوقت فليتدبّر.

[المرحلة الثانية: لو كان الخطأ في نفس المشرق و المغرب]

المرحلة الثانية: فيما لو كان الخطأ في نفس المشرق و المغرب، و الحكم فيه وجوب الإعادة في الوقت إذا تبيّن الخطأ فيه دون خارجه بلا خلاف بل الإجماع عليه محصّل، مضافا إلى الإجماعات المنقولة المستفيضة لاتّفاق الأقوال الأربع المتقدّمة على التفصيل المذكور بالنسبة إلى هذه الصورة، و اختلافها إنّما هو بالنسبة إلى الصورة الاولى و الثالثة.

و دليله بعد ما عرفت النصوص المعتبرة، كصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا صلّيت و أنت على غير القبلة و استبان لك أنّك صلّيت على غير القبلة في وقت فأعد و إن فاتك الوقت فلا تعد»(1).

و صحيحة سليمان بن خالد قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يكون في قفر من الأرض في يوم غيم فيصلّي لغير القبلة، ثمّ تصحى فيعلم أنّه صلّى لغير القبلة، كيف يصنع ؟ قال: إن كان في وقت فليعد صلاته، و إن كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده»(2).

و صحيحة يعقوب بن يقطين قال: «سألت عبدا صالحا عليه السّلام عن رجل صلّى في يوم سحاب على غير القبلة، ثمّ طلعت الشمس و هو في وقت أ يعيد الصلاة إذا كان قد صلّى

ص: 438


1- الوسائل 1/315:4، ب 11 من أبواب القبلة، التهذيب 151/47:2.
2- الوسائل 6/317:4، ب 11 من أبواب القبلة، التهذيب 152/47:2.

على غير القبلة و إن كان قد تحرّى القبلة بجهده أ تجزئه صلاته ؟ فقال: يعيد ما كان في وقت، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليه»(1) و هذه و إن كانت مطلقة بالقياس إلى ما بين المشرق و المغرب و نفس المشرق و المغرب و دبر القبلة، إلاّ أنّه لا بدّ من تخصيصها بأوسط هذه الصور بإخراج طرفيه عنها بمخرج معتبر، أمّا المخرج للطرف الأوّل فالنصوص المستفيضة المتقدّمة في المرحلة الاولى، لاختصاصها صراحة بما بين المشرق و المغرب الّذي هو الطرف الأوّل.

و أمّا المخرج للطرف الثاني فما تقدّم في ذيل موثّقة عمّار المتقدّمة من قوله عليه السّلام: «و إن كان متوجّها إلى دبر القبلة...» الخ بناء على ما عرفت من عدم الفرق في الحكم بالبطلان إلى دبر القبلة بين البعض و الكلّ ، مضافا إلى ما سيأتي.

و قد يتوهّم تعارض العموم من وجه بين هذه النصوص و النصوص السالفة، إذ المستفاد من هذه النصوص أنّ انكشاف الخطأ في الوقت يوجب الإعادة، سواء كانت الصلاة إلى ما بين المشرق و المغرب أو إلى غيره، و من النصوص السالفة «أنّ وقوع الصلاة إلى ما بين المشرق و المغرب لا يوجب الإعادة سواء تبيّن في الوقت أو خارجه»(2) و كما يمكن تخصيص الاولى بغير ما بين المشرق و المغرب كذلك يمكن تخصيص الثانية بتبيّن الخطأ في خارج الوقت، فلا بدّ من مرجّح.

و فيه: أنّه لو قيل من صلّى إلى غير القبلة يعيد كان عامّا موضوعا و حكما، و لو قيل من صلّى إلى غير القبلة يعيد في الوقت دون خارجه كان عامّا موضوعا و خاصّا حكما، و لو قيل من صلّى إلى ما بين المشرق و المغرب يعيد كان خاصّا موضوعا و عامّا حكما، و لو قيل من صلّى إلى ما بين المشرق و المغرب يعيد في الوقت كان خاصّا موضوعا و حكما فما بين المشرق و المغرب في الأخبار السالفة من جملة موضوع القضيّة و انكشاف الخطأ في الوقت في هذه الأخبار من جملة حكم القضية، و القانون المقرّر في باب التعارض أن يقابل خصوص موضوع دليل لعموم موضوع دليل آخر، و خصوص حكم دليل لعموم حكم دليل آخر، و لا يقابل خصوص حكم دليل لعموم موضوع دليل آخر، و لا خصوص

ص: 439


1- الوسائل 2/316:4، ب 11 من أبواب القبلة، التهذيب 155/48:2.
2- الوسائل 1/314:4 و 2 و 5، ب 10 من أبواب القبلة.

موضوع دليل لعموم حكم دليل آخر.

و لذا لم يتوهّم بين قولنا «أكرم العلماء في النهار» و قولنا «لا تكرم الاشتقاقيّين» تعارض العموم من وجه، بتوهّم أنّ العلماء يعمّ الاشتقاقين و غيرهم، و لا تكرم يعمّ النهار و الليل بل يعدّ ان من تعارض العموم و الخصوص مطلقا فيخصّص أكرم العلماء في النهار و يحمل على وجوب إكرام ما عدى الاشتقاقيّين، و يحكم على حرمة إكرام الاشتقاقيّين نهارا و ليلا، و حينئذ فليس بين الأخبار السالفة و اختيار المسألة إلاّ تعارض العموم و الخصوص مطلقا.

فيخصّص المسألة موضوعا بالصلاة إلى نفس المشرق و المغرب لكون الأخبار السالفة أخصّ منها موضوعا، و لا يلاحظ مع نسبة العموم و الخصوص بين موضوعيهما نسبة العموم و الخصوص أيضا بين حكميهما ليرجع تعارض العموم و الخصوص مطلقا إلى تعارض العموم و الخصوص من وجه و هذا واضح لا سترة عليه فلا حاجة إلى تحرّي المرجّح.

و مرجع الفرق المذكور بين الوقت و خارجه إلى بدليّة الصلاة إلى اليمين، أو اليسار المظنون كونه قبلة بالاجتهاد عن الصلاة إلى القبلة الواقعيّة لمن استمرّ عذره إلى خارج الوقت دون ما لم يستمرّ.

[المرحلة الثالثة: لو كان الخطأ في دبر القبلة بأن يصلّي مستدبرا بظنّ أنّه قبلة]

المرحلة الثالثة: فيما لو كان الخطأ في دبر القبلة بأن يصلّي مستدبرا بظنّ أنّه قبلة، و لا إشكال في وجوب الإعادة إن ظهر ذلك قبل خروج الوقت بل هو أيضا محلّ وفاق.

و إنّما الإشكال في وجوب القضاء كما هو المشهور لعدم وضوح مستنده على وجه ينهض لتخصيص الأخبار المطلقة المفصّلة في إيجاب الإعادة بين الوقت و خارجه، إذ المعتبر من مستنده ما تقدّم في موثّقة عمّار السابقة من قوله عليه السّلام «و إن كان متوجّها إلى دبر القبلة فليقطع ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمّ يفتتح الصلاة» و دلالته على خارج الوقت لا تخلو عن قصور و لذا ردّ الاستدلال بها بأنّها صريحة في ظهور الخطأ في أثناء الصلاة، و الظاهر منه بقاء الوقت، و الكلام فيما إذا ظهر ذلك بعد الصلاة و بعد خروج الوقت.

و يمكن دفعه: بمنع ظهور يطمئنّ به النفس لها في ذلك بدعوى إطلاقه بالقياس إلى من أدرك ركعة من الوقت و ما يقرب منها ممّا لم يصلّ إلى أربع ثمّ شرع في الصلاة ثمّ ظهر له ذلك في الأثناء بعد ما خرج الوقت.

ص: 440

فالظاهر أنّ إطلاق الأمر بالقطع ثمّ الافتتاح بعد تحويل الوجه إلى القبلة يتناوله، و لا ريب أنّ الصلاة الّتي يفتتح بها حينئذ ليست إلاّ قضاء ثمّ يتمّ في باقي الفروض بعدم القول بالفصل، و لو كان في الإطلاق المذكورة قصور ينجبر بالشهرة و فهم الأكثر، ثمّ يتقوّى ذلك بإطلاق رواية عمرو بن يحيى قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل صلّى على غير القبلة، ثمّ تبيّنت له القبلة، و قد دخل في وقت صلاة اخرى ؟ قال: يعيدها قبل أن يصلّي هذه الّتي قد دخل وقتها»(1) و مثلها رواية معمّر بن يحيى(2) و هذا الإطلاق لضعف سنديهما لا يقاوم ما سبق من أخبار المرحلتين السابقتين، مع إمكان تقييده بهما لكونها أخصّ فليتدبّر. فالأقوى إذن هو المشهور، و يعضده قاعدة عدم الإجزاء و عموم قضاء ما فات.

ثمّ إنّه بناء على مذهب السيّد(3) فكلّ ما خرج عن القبلة فهو ملحق باليمين و اليسار و هما ملحقان بدبر القبلة، ففي الجميع يعيد في الوقت لا خارجه، و لا يتفاوت الحال في ذلك بين كون ما خرج عنهما ملحقا بدبر القبلة أو كون ما خرج عن دبر القبلة ملحقا بهما، كما أنّه كذلك في لحوق ما خرج عن القبلة بهما على مذهب الشيخ(4) و أتباعه(5) و في عدم التفاوت على مذهب العلاّمة في المختلف(6) و على المشهور فما خرج عن اليمين و اليسار نحو القبلة ملحق بها، كما أنّه كذلك على مذهب العلاّمة فيه. و أمّا ما خرج عن دبر القبلة إلى أن يصل إلى اليمين و اليسار فقد نصّ الشهيد الثاني في الروضة بلحوقه بهما على المشهور، حيث قال: «و على المشهور كلّ ما خرج عن دبر القبلة إلى أن يصل إلى اليمين أو اليسار يلحق بهما و ما خرج عنهما نحو القبلة يلحق بها»(7) و في معناه ما عن المسالك من قوله: «المراد بالاستدبار ما قابل جهة القبلة، بمعنى أنّ كلّ خطّ يمكن فرض أحد طرفيه جهة لها فالطرف الآخر استدبار، فلو فرض وقوع خطّ مستقيم على هذا الخطّ بحيث يحدث عنهما أربع زوايا قائمة فالخطّ الثاني خطّ اليمين و اليسار، فلو فرض خطّ آخر على الخطّ الأوّل بحيث يحدث عنهما زوايا منفرجة و حادّة فما كان منه بين اليمين و اليسار و خطّ القبلة فهو الانحراف المغتفر، و ما كان منه بين خطّ الاستدبار و خطّ اليمين و اليسار

ص: 441


1- الوسائل 5/313:4، ب 9 من أبواب القبلة، التهذيب 149/46:2.
2- التهذيب 150/46:2.
3- الناصريّات: 202.
4- المبسوط 80:1، و النهاية: 64.
5- المهذّب 85:1، الغنية: 69، الوسيلة: 98.
6- المختلف 69:2.
7- الروضة البهيّة 524:1.

فهو بحكم اليمين و اليسار لا الاستدبار، قال: و إنّما كان كذلك لأنّ الخبر(1) الدالّ على إعادة المستدبر مطلقا عبّر فيه بلفظ دبر القبلة و هو لا يتحقّق إلاّ بما ذكر»(2).

و من مشايخنا من جزم بدخول ما جاوز اليمين أو اليسار نحو دبر القبلة في الاستدبار و حكاه أيضا عن كاشف اللثام(3) استنادا إلى صدق الخروج عن القبلة و الاستدبار لغة و عرفا و خبر ابن عمّار المتقدّم(4).

و الأوّل أظهر لظهور القبلة في الواقعيّة، و دبرها في الخبر المشار إليه عبارة عن عقبها فلا يكون إلاّ النقطة المقابلة لها، و هذا هو القدر المتيقّن ممّا خرج من الأخبار المطلقة المفصّلة في الإعادة بين الوقت و خارجه. نعم لو عمّمنا القبلة المذكورة في الخبر بالقياس إلى البدل الشرعي أيضا كان المتّجه هو القول الثاني، لأنّ كلّ نقطة فيما بين المشرق و المغرب إذا فرضت قبلة بحسب الجعل فالنقطة المقابلة لها من طرف الشمال إلى المشرق أو المغرب دبر القبلة، لكنّه خلاف التحقيق، لأنّ البدليّة بحسب الحكم لا تقتضي دخول البدل في المبدل بحسب الاسم كما هو واضح.

ص: 442


1- الوسائل 4/315:4، ب 10 من أبواب القبلة، و الكافي 8/285:3، التهذيب 159/48:2.
2- المسالك 160:1-161.
3- كشف اللثام 182:3.
4- الجواهر 54:8.

الفصل الرابع في لباس المصلّي

اشارة

و فيه مطالب:

المطلب الأوّل في جنسه
[يجوز الصلاة في كلّما يستر البدن بل العورة عدا أنواع:]
اشارة

فنقول: يجوز الصلاة في كلّما يستر البدن بل العورة عدى أنواع:

[النوع الأوّل: لا يجوز الصلاة في الثوب النجس نجاسة غير معفوّة]

النوع الأوّل: ما يكون نجسا بالنجاسة الغير المعفوّ عنها، و قد أشبعنا الكلام فيه و في فروعه في أحكام النجاسات من كتاب الطهارة، و لا حاجة هنا إلى الإعادة.

[النوع الثاني: لا يجوز الصلاة في جلد الميتة]
اشارة

النوع الثاني: ما كان من جلد الميتة، فإنّه ممّا لا يجوز و لا يصحّ الصلاة فيه، و إن كان من مأكول اللحم دبغ و لو سبعين مرّة أو لم يدبغ بإجماع أصحابنا المستفيض نقله في كلام جماعة من الأساطين(1) استفاضة قريبة من التواتر على وجه يظهر منهم عدم وجود مخالف فيه من أصحابنا عدى ما ربّما يظهر من كلام الذكرى قائلا: «تجوز الصلاة في كلّما يستر العورة عدى امور، منها جلد الميتة بإجماعنا إلاّ من شذّ»(2) لقضاء استثناء من شذّ بوجود المخالف من أصحابنا، و احتمل جماعة(3) كونه الشلمغاني، و هو محمّد بن عليّ الشلمغاني يكنّى أبا جعفر و يعرف بابن أبي عذافر، و كان متقدّما في أصحابنا من الموجودين في الغيبة الصغرى معاصرا لأبي القسم بن روح، و علّلوه بأنّه كان يقول بأنّ دباغ جلد الميتة ذكاته و أنّه يطهر بالدبغ.

و فيه نظر من وجهين:

الأول: منع كون الشلمغاني من أصحابنا المعتنين بهم، لما قيل فيه من أنّه في بدو أمره

ص: 443


1- الجواهر 81:8.
2- الذكرى 28:3.
3- الجواهر 82:8.

و إن كان على الطريقة المستقيمة، إلاّ أنّ حسده على أبي القسم بن روح حمله على الخروج عن المذهب و الدخول في المذاهب الرديئة، فتغيّرت حاله و انحرف عن الاستقامة، و ظهرت منه أقوال رديئة و مقالات منكرة، و خرجت فيه توقيعات فأخذه السلطان و قتله و صلبه و لذا هجرت كتبه.

الثاني: منع الملازمة بين القول بطهارة جلد الميتة بالدبغ، و القول بجواز الصلاة فيه بعد الدبغ، إلاّ بأن يكون الجهة المانعة عن الصلاة في جلد الميتة نجاسته ليرتفع المنع بالدبغ، على القول بإفادته الطهارة لا كونه ميتة و إن فرض طهارته - كما في المغصوب و الحرير و غيره من جهات المنع الغير المرتبطة بالنجاسة - و هو موضع منع، إذ الظاهر من كلام الأصحاب و معاقد الإجماعات(1) و نصوص الباب(2) و رواياته المعتضد بتصريح جماعة(3)من الفحول أنّ الميتيّة جهة اخرى للمنع غير مرتبطة بالنجاسة، حتّى أنّه لو قيل بالطهارة بالدبغ كانت الجهة المذكورة قائمة بالمنع، و من هنا ما عن الصدوق(4) و ابن الجنيد(5) من مصيرهما إلى طهارته بالدبغ مع عدم تجويزهما الصلاة فيه.

و ممّا يرشد إلى ذلك - مضافا إلى ما عرفت - إفراد المنع من الصلاة في جلد الميتة بالذكر، بعد التعرّض لبيان المنع في الثوب النجس عدى ما استثني في أحكام النجاسات من كتاب الطهارة، كما صنعه جماعة(6) أو في باب لباس المصلّي من كتاب الصلاة كما صنعه غير واحد(7) فإنّه يغني عن التعرّض لبيان المنع في جلد الميتة، لو كان جهته النجاسة لا غير.

هذا مع تصريح جماعة على ما تعرفه بعدم جواز الصلاة في جلد الميتة و إن كان ممّا لا يتمّ به الصلاة، و كون الجهة المانعة فيه هو النجاسة يقضي بجوازها فيما لا يتمّ به الصلاة، لأنّه على ما تقرّر في محلّه من أحكام النجاسة. و حينئذ فعلى القول بعدم طهارته بالدبغ - كما هو الأقوى - يجتمع فيه جهتان للمنع، و على تقدير كونه من غير مأكول اللحم يجتمع

ص: 444


1- في النهاية: 96، و السرائر 262:1، و القواعد 255:1، و المهذّب 74:1-75، و المعتبر 77:2، و جامع المقاصد 80:2.
2- الوسائل 343:4، ب 1 من أبواب لباس المصلّي.
3- مجمع الفائدة و البرهان 93:2.
4- المقنع: 6-7.
5- نقله عنه في المختلف 501:1.
6- كما في الجواهر 345:6، الشرائع 159:1، كشف اللثام 424:1، التذكرة 237:2.
7- كما في نهاية الإحكام 372:1-373، و القواعد 255:1، و الغنية: 66، و جامع المقاصد 81:2.

فيه جهات ثلاث للمنع.

و قد يتوهّم اجتماع هذه الجهات فيه و إن فرض كونه من الحيوان المأكول اللحم، لأنّ الميتة أيضا لا يؤكل لحمه، و ضعفه واضح لانصراف غير مأكول اللحم - الّذي هو أيضا جهة منع فتوى و نصّا - إلى ما لا يؤكل لحمه لذاته لا لعارض الموت و إن كان الحيوان لذاته محلّل الأكل.

و كيف كان فالأصل في المسألة - بعد ما عرفت من الإجماع - النصوص المستفيضة المدّعى تواترها في عبارة جامع المقاصد(1)، ففي صحيحة محمّد بن مسلم قال: «سألته عن الجلد الميّت أ يلبس في الصلاة إذا دبغ ؟ فقال: لا، و لو دبغ سبعين مرّة»(2) و صحيحة محمّد بن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الميتة قال: لا تصلّ في شيء منه و لا(3) شسع»(4)-(5) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه و يتلى جملة منها في تضاعيف الباب.

و هاهنا مسائل مهمّة ينبغي التعرّض لها من باب التفريع:

المسألة الاولى: في أنّ من الجلود ما يعلم كونه مذكّى، و هذا لا إشكال فيه إذا كان من مأكول اللحم، و يلحق به ما يؤخذ من يد مسلم على ما ستعرفه، فإنّ يد المسلم كسوق المسلمين أمارة شرعيّة لكون الجلد مذكّى، و هذه حاكمة على أصالة عدم التذكية.

و منها: ما يعلم كونه ميتة: و هذا أيضا ممّا لا إشكال فيه، و يلحق به ما يؤخذ من يد الكافر بلا خلاف يظهر بل ظاهر كلامهم كونه من المسلّمات عندهم، و لذا لم يخالف فيه من خالف في القسم الآتي، و هو مع ذلك مستفاد من النصوص المستفيضة المعتبرة و غيرها الدالّة عليه منطوقا و مفهوما - على ما ستعرفه - و في كون ذلك من جهة كون يد الكافر أمارة شرعيّة لكون الجلد ميتة، كما أنّ يد المسلم أمارة شرعيّة لكونه مذكّى، ثمّ يعضدها أصالة عدم التذكية، أو أنّه مبنيّ على اعتبار أصالة عدم التذكية بالاستقلال، و أنّ يد الكافر

ص: 445


1- جامع المقاصد 80:2.
2- الوسائل 1/345:4، ب 1 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 794/203:2.
3- الوسائل 2/345:4، ب 1 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 793/203:2.
4- شسع النعل: هو السير الّذي يشدّ به في ظهر القدم (لسان العرب 180:8).
5- الشسع: بكسر الشين المعجمة و سكون المهملة ما يشتدّ به النعل، و عن القاموس الشسع قبال النعل قال: القبال ككتاب زمام بين الأصبع الوسطى و الّتى يليها منه رحمه اللّه.

ممّا لا أثر لها في نظر الشارع و يكون وجودها بمنزلة وجودها(1) احتمالان، لا يترجّح شيء منهما من جهة روايات الباب و لا كلمات الأصحاب، مع أنّه لا يترتّب عليهما فائدة ظاهرة.

و منها: ما يشكّ في كونه ميتة أو مذكّى كالجلد المطروح الّذي لم يحرز فيه يد مسلم و لا يد كافر، ففي إلحاقه بالأوّل فيجوز الصلاة فيه كما عليه جماعة، منهم صاحبا المدارك(2) و الذخيرة(3) أو بالثاني فلا يجوز الصلاة فيه كما عليه آخرون(4) و لعلّه المشهور كما قيل(5) خلاف.

و ليس مبناه على النظر في أنّ كون الجلد ميتة مانع عن الصلاة أو أنّ كونه مذكّى شرط فيه، لأنّ هذا البناء لا يثمر لو بنى رفع الشبهة على الرجوع إلى الأصل، إذ لا أصل هنا إلاّ أصالة عدم التذكية، و مفادها وجود المانع و انتفاء الشرط، فوجب أن لا يصحّ الصلاة على التقديرين، إلاّ أن يقال: إنّه على التقدير الأوّل لم يتحقّق المانع في الجلد المفروض، فيرجع في جواز الصلاة فيه إلى عمومات اللباس، و على الثاني لم يتحقّق فيه الشرط و لازمه عدم صحّة الصلاة فيه لضابطة استلزام الشكّ في الشرط الشكّ في المشروط، و لكنّه إنّما يتّجه على تقدير عدم مرجعيّة الأصل و هو خلاف التحقيق.

و عليه فلا فرق بل مبناه على أنّ الجلود الّتي يصلّي فيها هل يعتبر فيها العلم بكونها مذكّاة، فما لم يعلم تذكيته فلا يجوز الصلاة فيه، سواء علم كونه ميتة أو يشكّ أو يكفي فيه عدم العلم بكونه ميتة سواء علم كونه مذكّى أو لا؟

و الأقوى هو الأوّل فلا يجوز الصلاة في الجلد المشكوك، لأصالة عدم التذكية القاضية بجريان أحكام الميتة فيه الّتي منها عدم جواز الصلاة فيه، و إن قصرت عن إثبات كون هذا الموضوع الخارجي المشتبه ميتة لبطلان الاصول المثبتة.

و ناقش فيها في المدارك «بأنّها لا تفيد القطع بالعدم، لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم، و جاز أن لا يدوم، فلا بدّ لدوامه من دليل سوى دليل الثبوت، و بالجملة فالفارق بين الجلد و الدم المشتبهين استصحاب عدم التذكية في الجلد دون الدم، و مع انتفاء حجّيّته يجب القطع

ص: 446


1- كذا في الأصل، و الظاهر: عدمها.
2- المدارك 159:3-160.
3- الذخيرة: 232.
4- المنتهى 205:4، و الدروس 80:1، و الذكرى 28:3، و روض الجنان 570:2، و المسالك 285:1.
5- كما في روض الجنان 570:2، الجواهر 95:8.

بالطهارة فيهما معا لأصالة عدم التكليف باجتنابهما و أصالة عدم نجاسة الملاقي لهما»(1)انتهى.

و فيه ما لا يخفى، فأوّل ما يرد عليه: أنّ قوله «ما ثبت جاز...» الخ إنّما ينهض ردّا على طريقة من يستند في حجّيّة الاستصحاب إلى أنّ ما ثبت دام كما عليه العامّة و بعض قدماء الخاصّة، و هذه على ما حقّق في الاصول طريقة ضعيفة لا يمكن تتميم الاستصحاب بها، و أمّا على الطريقة المستقيمة الّتي عليها محقّقو أصحابنا و هي إثباته من جهة الأخبار المستفيضة المعتبرة الناهية لنقض اليقين بالشكّ أو إلاّ بيقين مثله فلا، و هو العمدة في باب الاستصحاب، و مقتضاه دوام أحكام ما ثبت و استمرارها إلى أن يحصل اليقين بانقطاعه لا دوام نفسه ليحتاج إلى دليل غير دليل ثبوته، و إن اريد من دوامه ما يعمّ دوام أحكامه فيكفي في دليله الأخبار و هي غير دليل ثبوته، و لا حاجة معها إلى دليل آخر.

و ثاني ما يرد عليه: أنّ الفارق بين الجلد و الدم المشتبهين، هو أنّ الدم يجري فيه أصالة الطهارة المستنبطة من النصوص المستفيضة، و هي فيه أصل شرعي لا وارد عليه من الاصول الموضوعيّة، بخلاف الجلد فإنّ أصالة عدم التذكية فيه أصل موضوعي وارد فيه على الأصل المذكور، و معه لا يمكن القطع بطهارته. و دعوى انتفاء حجّيّته، مدفوعة، بثبوت حجّيّته من جهة الأخبار.

و ثالث ما يرد عليه: أنّ قوله «فيجب القطع بطهارتهما» ممّا لا يجدي فيما نحن فيه بالنسبة إلى الجلد إلاّ إذا كانت الجهة المانعة من الصلاة فيه هي النجاسة و قد ظهر منعه، فطهارته حينئذ ممّا يجامع الجهة المانعة فيه، و قضيّة الجمع بين الأصلين على فرض تسليمه بعد إثبات حجّيّة استصحاب عدم التذكية هو الحكم بطهارته و كونه ميتة فوجب أن لا يجوز الصلاة فيه.

و رابع ما يرد عليه: ضعف الأصلين المتمسّك بهما لإثبات القطع بالطهارة، أمّا أصالة طهارة الملاقي فمع أنّه لا معنى لها إلاّ استصحاب الطهارة، و قد نفى حجّيّته أنّ إثبات طهارة الملاقي بالأصل المذكور على ما عرفت لا يجدي نفعا في رفع الجهة المانعة من الصلاة في الجلد الملاقي الغير المرتبطة بنجاسته، و أمّا أصالة عدم التكليف باجتناب الجلد

ص: 447


1- المدارك 158:3-159.

فلا معنى له إلاّ أصالة البراءة عن وجوب اجتناب، فهو إنّما يصلح لنفي الوجوب النفسي الناشئ عن الحرمة الذاتيّة في استعمال الميتة و الانتفاع بها.

و أمّا الوجوب الغيري بالإضافة إلى الصلاة المتولّد عن مدخليّته عدم كونه ميتة أو كونه مذكّى في صحّة الصلاة المشترطة بهما فلا، لأنّ قاعدة الاشتغال بالصلاة المستدعية ليقين البراءة يقتضي وجوب الاجتناب عنه في الصلاة، إذ المفروض ثبوت مدخليّة أحد الأمرين في صحّتها، و معه لا مجرى لأصالة البراءة عن وجوب الاجتناب لورود القاعدة المذكورة في نحو المفروض عليها.

و بالتأمّل في بعض ما قرّرناه يندفع ما أورده صاحب الذخيرة على أصالة عدم التذكية بقوله: «و فيه ضعف قويّ لأنّه مبنيّ على اعتبار الاستصحاب، و تعميمه حتّى في غير الأحكام الشرعيّة و هو ضعيف جدّا، مع أنّه على تقدير التسليم كانت غاية ما يحصل منه الظنّ بعدم التذكية، و اعتبار الظنّ في مثله محلّ النظر»(1).

و توضيح الاندفاع أنّه لا ينبغي الاسترابة في اعتبار الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة و في موضوعاتها من جهة الأخبار - كما حقّق في محلّه - و هو تعبّد شرعي لا ينوط بقطع و لا ظنّ ، بل قضيّة التعبّد اعتباره و لو مع الظنّ بالتذكية. و على تقدير تسليم إناطة اعتباره بالظنّ بالبقاء، فالظنّ بعدم التذكية الحاصل من جهة الاستصحاب ظنّ خاصّ ثبت اعتباره بالخصوص في مثل المقام من جهة الأخبار فلا محلّ للنظر.

و هاهنا مناقشة ثالثة: ربّما تذكر في منع الاستناد إلى أصالة عدم التذكية، و هي معارضة ذلك الأصل بأصالة عدم الموت حتف الأنف. و هذه أضعف من سابقتيها، لأنّ الموت قد تحقّق قطعا و الشكّ إنّما هو في استناده إلى التذكية و سبقها عليه، و الظاهر أنّ الموت حتف الأنف لا يستدعي أمرا زائد على الموت، بخلاف الموت لأجل التذكية فإنّه يستدعي أمرا زائدا عليه، و هو تحقّق التذكية الشرعيّة و الأصل عدمها، و أصالة عدم الموت حتف الأنف ممّا لا يتعقّل لها معنى إلاّ بإرجاعها إلى أمر آخر زائد على الموت، و قد عرفت انتفاءه، و معه بطل الأصل المذكور. فأصالة عدم التذكية ممّا لا معارض له من الاصول.

و أمّا المناقشة فيها بالمعارضة بأصالة بقاء طهارة الجلد الثابتة في حال الحياة - كما في

ص: 448


1- الذخيرة: 232.

كلام غير واحد - ففيها: أنّ موضوع الطهارة على ما علم من الأدلّة أحد الأمرين من الحيّ أو المذكّى، و الأوّل غير باق و الثاني غير محرز، و استصحاب الطهارة بدونهما محال، و مع الغضّ عن ذلك فأصالة عدم التذكية واردة عليه، لكون الشكّ في بقاء طهارة الجلد مسبّبا عن الشكّ في وقوع التذكية عليه.

و ممّا يدلّ على المختار - بعد الأصل المذكور - عدّة روايات، منها الموثّق كالصحيح بابن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال عليه السّلام: «فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكي و قد ذكّاه الذبح»(1) و رواية عليّ بن أبي حمزة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام و أبا الحسن عليه السّلام عن لباس الفراء و الصلاة فيها؟ فقال: لا تصلّ فيها إلاّ ما كان منه ذكيّا، قال: قلت: أو ليس الذكيّ ما ذكّي بالحديد؟ قال: إذا كان ممّا يؤكل لحمه»(2) الخ بناء على ظهور الذكيّ فيما يكون ذكيّا في الواقع فلا بدّ من إحرازه بطريق العلم أو ما يقوم مقامه. و ما أرسله بعض مشايخنا(3)واصفا له بالحسن عن الصادق عليه السّلام «يكره الصلاة في الفراء إلاّ ما صنع في أرض الحجاز أو ما علمت منه ذكاة»(4) بناء على ظهور الكراهة في الأخبار و كلام قدماء أصحابنا الأخيار فيما يرادف الحرمة.

و في مقابل هذه الروايات أخبار اخر كموثّقة عليّ بن مسكان عن أبي حمزة «إنّ رجلا سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن الرجل يتقلّد السيف و يصلّي فيه ؟ قال: نعم، فقال الرجل:

إنّ فيه الكيمخت، فقال: و ما الكيمخت ؟ فقال: جلود دوابّ منه ما يكون ذكيّا و منه ما يكون ميتة، فقال: ما علمت أنّه ميتة فلا تصلّ فيه»(5) و موثّقة سماعة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تقليد السيف في الصلاة فيه الفراء و الكيمخت ؟ فقال: لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة»(6).

و بينهما عموم من وجه، لأنّ ما تقدّم بعموم مفهوم رواية ابن بكير و عموم النفي في

ص: 449


1- الوسائل 1/345:4، ب 2 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 26/209:2.
2- الوسائل 2/348:4، ب 3 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 5/203:2.
3- الجواهر 86:8.
4- الوسائل 1/462:4، ب 61 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 4/398:3.
5- الوسائل 2/456:4، ب 55 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 62/368:2.
6- الوسائل 12/493:3، ب 50 من أبواب النجاسات، التهذيب 8/205:2.

الخبرين الآخرين يقضي بعدم جواز الصلاة فيما لا يعلم كونه مذكّى فيعمّ المشكوك فيه، و ما ذكر من الخبرين بعموم المفهوم فيهما يقضي بجواز الصلاة فيما لم يعلم كونه ميتة فيعمّ المشكوك فيه. لكنّ الخطب في ذلك سهل، لإمكان الجمع بينهما إمّا بإرجاع التخصيص إلى الثاني بإخراج المشكوك فيه عن عموم المفهوم لموافقة الأوّل للأصل و الشهرة بناء على جواز ترجيح الدلالة بهما - و فيه إشكال، لأنّ الأصل ممّا لا تعرّض فيه للواقع فلا يصلح لإحراز الدلالة الناظرة إلى الواقع، و الشهرة إن قلنا بصلوحها للترجيح فهي من المرجّحات السنديّة و لا تصلح مرجّحة للدلالة، إلاّ إذا كشفت عن فهم الأكثر العموم من الأخبار المتقدّمة لقرينة معتبرة بلغتهم على تخصيص معارضاتها بحيث لو ظفرنا بها لالتزمنا بموجبها و هي فيما نحن فيه ليست بهذه المثابة - أو بحمله على ما اخذ من أسواق المسلمين بناء على كون سوقهم أمارة شرعيّة على التذكية، فتقوم مقام العلم بها و هو المتعيّن.

و الشاهد عليه نصوص مستفيضة. مثل صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخفاف الّتي تباع في السوق ؟ فقال: اشتر و صلّ فيها حتّى تعلم أنّه ميتة»(1).

و صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أ ذكيّة أم غير ذكيّة، أ يصلّي فيها أم لا؟ قال: نعم ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر عليه السّلام كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم لجهالتهم، أنّ الدين أوسع من ذلك»(2).

و صحيحته الاخرى أيضا عن الرضا عليه السّلام قال: «سألته عن الخفّاف يأتي السوق فيشتري الخفّ لا يدري أ ذكيّ هو أم لا؟ ما تقول في الصلاة فيه و هو لا يدري أ يصلّي فيه ؟ قال: نعم أنا أشتري الخفّ من السوق و يصنع لي و اصلّي فيه و ليس عليكم المسألة»(3).

و صحيحة الحلبي قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الخفاف عندنا في السوق نشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال: صلّ فيها حتّى يقال لك إنّها ميتة»(4).

و رواية سهل عن بعض أصحابه عن الحسن بن الجهم قال: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام:

أعترض السوق فأشتري خفّا لا أدري أ ذكيّ هو أم لا؟ قال: صلّ فيه، قلت: فالنعل، قال:

ص: 450


1- الوسائل 2/427:4، ب 38 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 920/234:2.
2- الوسائل 1/455:4، ب 55 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1529/368:2.
3- الوسائل 6/492:3، ب 50 من أبواب النجاسات، التهذيب 77/371:2.
4- الكافي 28/403:3.

مثل ذلك، قلت: أنا أضيق من هذا، قال: أ ترغب عمّا كان أبو الحسن يفعله»(1).

و موثّقة إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه السّلام قال: «لا بأس بالصلاة في الفرو اليماني و فيما صنع في أرض الإسلام، قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام، قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس»(2) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

فظهر بما قرّرناه أنّ الأصل فيما لم يعلم تذكيته الحكم عليه بكونه ميتة و ترتيب آثار الميتة عليه إلاّ ما خرج بالدليل، و الّذي خرج منه بالنصوص المذكورة إنّما هو ما يوجد في سوق المسلمين. و قضيّة ذلك كون سوق المسلمين أمارة شرعيّة على التذكية، لكن ينبغي أن يعلم أنّ السوق في أكثر النصوص المذكورة و إن ذكر مطلقا غير أنّه يتقيّد بالمسلمين أو يجب تقييده به.

أمّا الأوّل: فلانصراف السوق في الروايات المطلقة إلى سوق المسلمين و لو بملاحظة بلد الأسئلة الواقعة فيها، فإنّه لا يخلو عن كونه الكوفة أو المدينة و كلاهما من بلاد الإسلام، و كون بلد السؤال من بلاد الإسلام يستلزم كون سوقه سوق المسلمين. و لا يقدح فيه وجود أهل الكفر فيهما أيضا، لأنّ المعتبر في صدق الإضافة في بلد المسلمين و سوقهم غلبة المسلم فيهما، و لو لا ذلك لم يتحقّق لبلد المسلمين و سوقهم مصداق بعد، إذ لم يوجد في البلاد بلد لم يوجد فيه كافر أصلا.

لا يقال: إنّ السوق المذكور في الروايات إنّما ذكر في كلام السائل لا في كلام الإمام المسئول، فيتوجّه المنع إلى اعتباره شرعا فضلا عن التزام انصرافه إلى سوق المسلمين.

لأنّا نقول: قد عرفت أنّ الأصل فيما لم يعلم تذكيته جريان أحكام الميتة عليه إلاّ ما خرج بالدليل ممّا أذن الشارع في استعماله و الصلاة فيه، و القدر المتيقّن ممّا أذن فيه الشارع بمقتضى الروايات المذكورة إنّما هو ما يوجد في السوق المذكور في كلام السائلين المنصرف إطلاقه إلى سوق المسلمين، فيبقى غيره تحت الأصل سليما عمّا يخرجه.

و أمّا الثاني: فلقوله عليه السّلام في الموثّقة: «و فيما صنع في أرض الإسلام» فإنّه يقضي بكون إذن الشارع مقصورة على ما صنع في أرض الإسلام، مضافا إلى قوله عليه السّلام: «إذا كان الغالب

ص: 451


1- الوسائل 9/492:3، ب 50 من أبواب النجاسات، التهذيب 129/234:2.
2- الوسائل 3/456:4، ب 55 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1532/368:2.

عليها المسلمين فلا بأس» و صحيحة الفضلاء «أنّهم سألوا أبا جعفر عليه السّلام عن شراء اللحم من الأسواق و لا يدرون ما صنع القصّابون ؟ قال: كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين و لا تسأل عنه»(1) و رواية زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن شراء اللحم من السوق و لا يدري ما يصنع القصّابون ؟ قال: فقال: إذا كان في سوق المسلمين فكل و لا تسأله عنه(2)» و لا قصور فيهما من حيث ورودهما في اللحم بعد ملاحظة عدم القول بالفصل بينه و بين الجلد، فإنّها بالمفهوم يدلّ على عدم كفاية مطلق السوق في الحكم بالتذكية فيحمل عليه إطلاقه في سائر الروايات.

و في اعتبار الغلبة في الموثّقة شهادة على ما ذكرناه - في دفع السؤال المتقدّم - من كفاية غلبة المسلم في البلد في صدق الإضافة في بلد الإسلام و سوق المسلمين، لوضوح أنّ غلبة المسلمين في الأرض ليست بنفسها من الأمارات الشرعيّة على شيء، و لا أنّها شرط اعتبار أرض الإسلام في الحكم بتذكية الجلود الموجودة فيها، بل إنّما اعتبرت على أنّها محقّقة للإضافة المذكورة المأخوذة في أرض الإسلام.

ثمّ إنّه قد شاع في كلام الأصحاب ذكر يد المسلم و سوق المسلمين، و الحكم بالأمارة تارة على الاولى و اخرى على الثاني، فهل هما متّحدان و لو باعتبار التلازم الخارجي أو متغايران ؟ ظاهر كلام الأصحاب هو الثاني، بل ظهور كلام جماعة منهم في ذلك بمثابة يقرب من الصراحة.

و من جملة ذلك عبارة العلاّمة في التذكرة قائلا: «يكفي في الحكم بالتذكية انتفاء العلم بموته، و وجوده في يد مسلم لا يستبيح جلد الميتة، أو في سوق المسلمين، أو في بلد الغالب فيه المسلمون، لقول العبد الصالح، فذكر الموثّقة المتقدّمة، ثمّ قال: و إنّما اعتبرنا في المسلم انتفاء استباحته ليحصل الظنّ بالتذكية، إذ لا فرق في انتفاء الظنّ بين المستبيح من المسلم و الكافر إذ الأصل الموت و لا معارض له حينئذ، أمّا من لا يستبيح الميتة فإنّ إسلامه يمنعه من الإقدام على المحرّم غالبا. و لو جهل حال المسلم فإشكال، ينشأ من كون المسلم مظنّة للتصرّفات الصحيحة، و من أصالة الموت و لو جهل إسلامه لم يجز استباحته» انتهى(3).

ص: 452


1- الوسائل 1/70:24، ب 29 من أبواب الذبائح، التهذيب 307/72:9.
2- الكافي 2/237:6، و التهذيب 306/72:9.
3- التذكرة 464:2-465.

و لا يذهب عليك أنّ الواو في عطف يد المسلم على انتفاء العلم بموته يجب حملها على معنى «مع» بقرينة ما ذكره في تعليل اعتبار انتفاء الاستباحة في المسلم، فيدلّ على أنّ كفاية انتفاء العلم بموته في الحكم بالتذكية مشروطة بالظنّ بالتذكية المتوقّف حصوله على أحد الامور الثلاث المتعاطفة بكلمة التنويع، فلا يتوجّه إليه ظهور الواو في العطف أيضا في المغايرة، فيلزم كون كلّ من الأنواع الثلاث قسيما لانتفاء العلم بالموت مع كونه جهة جامعة بين الجميع و غيره، فالاكتفاء به ممّا يغني عن ذكرها برأسه، و كيف كان فعطف قوله أو في سوق المسلمين على يد المسلم بكلمة «أو» ظاهر كالصريح في المغايرة.

و هل هي على التباين، أو العموم و الخصوص من وجه، أو مطلق ؟ احتمالات، و التحقيق أنّهما باعتبار المفهوم على التباين، و باعتبار التحقّق الخارجي على العموم و الخصوص من وجه، فيجتمعان فيما يوجد في سوق المسلمين في يد مسلم، و يفترقان فيما يوجد في يد مسلم في غير السوق كمفازة و نحوها، و ما يوجد في سوق المسلمين في يد مجهول الإسلام، و لا إشكال في اعتبار سوق المسلمين في كلّ من مادّتي اجتماعه مع يد المسلم و افتراقه عنها لعموم النصوص المذكورة، مضافا إلى إجماع المسلمين بل الضرورة من دينهم و أمّا يد المسلم في مادّة افتراقها فإثبات اعتبارها من جهة النصوص دونه خرط القتاد.

لكن ظاهر كلام الأصحاب في هذا المقام و مقامات اخر كونه موضع وفاق عندهم و من مسلّماتهم الّتي لم يختلف فيه أحد منهم إلاّ فيما لو كان من مستحلّ جلد الميتة للخلاف الآتي فيه، و في كلام غير واحد دعوى الإجماع عليه. و لا يبعد دعوى الضرورة فيه من غير فرق في المسلم بين الإمامي و غيره، لقيام السيرة القطعيّة من الإماميّة في كلّ عصر و مصر على اشتراء الجلود و ما يتّخذ منها من أهل الخلاف في أسواقهم و غيرها من غير نكير الكاشفة عن تقرير أئمّتهم.

و خصوص رواية أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في الفراء؟ قال: كان عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليه رجلا صردا(1) لا يدفئه فراء الحجاز لأنّ دباغها بالقرظ(2) فكان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه

ص: 453


1- صرد: بفتح الصاد و كسر الراء المهملة: من يجد البرد سريعا (مجمع البحرين 85:3).
2- القرظ: بالتحريك ورق السلم يدبغ به الأديم، و في الخبر (أتى بهديّة في أديم مقروظ) أي مدبوغ بالقرظ (مجمع البحرين 289:4).

و ألقى القميص الّذي تحته الّذي يليه، فكان يسأل عن ذلك ؟ فقال: إنّ أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة، يزعمون أنّ دباغه ذكاته»(1). فإنّ ظاهره بمقتضى التعليل كون الفر و الّذي يؤتى به من العراق ممّا اشترى من أهل الخلاف و من سوقهم، فلو لا كفاية يدهم في الحكم بالتذكية لم يلبسه الإمام عليه السّلام لحرمة الانتفاع بالميتة مطلقا من دون اختصاص لها بحالة الصلاة، و لا ينافيه إلقاؤه عليه السّلام إيّاه في حال الصلاة لوجوب حمله على كونه ضربا من الفضيلة أو نحوا من الاحتياط نظرا إلى احتمال الميتة المنبئ عن الجهل إن جوّزناه في الموضوعات الخارجيّة في حقّ الإمام عليه السّلام.

نعم ينبغي القطع بعدم الاعتبار شرعا بسوق أهل الكفر و يد الكافر في سوقهم أو في غير سوق المسلمين، فيحكم على الجلد الّذي يوجد في أحد هذه الأقسام بكونه ميتة، للأصل السليم عمّا يخرج عنه، مضافا إلى ظهور الإجماع بل المقطوع به في الجميع، مع النصّ الصريح بالمفهوم في سوقهم كما في الصحيح المتقدّم و ما بعده من الرواية و الموثّقة.

و ربّما يشكل الحال فيما يوجد في يد مسلم في سوق الكفّار، و ما يوجد في يد كافر في سوق المسلمين، فهل يحكم بالتذكية فيهما ترجيحا لجانب الإسلام يدا أو سوقا، أو بعدمها فيهما عملا بالأصل لمكان الشكّ في شمول أدلّة يد المسلم و سوقه لهما، أو يحكم على الأوّل بالتذكية حملا لتصرّفات المسلم على الصحّة، و على الثاني بعدمها عملا بالأصل السليم عن شمول دليل سوق المسلمين، مضافا إلى ما في كلام بعض الأجلّة من أنّ الظاهر من جماعة منهم أنّ الحكم بالنجاسة مع تحقّق الجلد في يد الكافر كأنّه لا كلام لهم في ذلك ؟ وجوه، أحوطها الثاني، و أجودها الأخير.

و هل يعتبر السؤال عن تذكيته فإذا أخبر بها قبل قوله، أو وجد أنّه مستعملا له فيما لا يستعمل فيه المسلم إلاّ المذكّى كالصلاة فيه بل مطلق لبسه و عدم تحرّزه عن ملاقاته برطوبة دفعا لاحتمال كونه إنّما أخذه لإلقائه أو يبيعه من مستحلّي الميتة ؟ وجهان، أحوطهما بل أجودهما الأوّل، أخذا بظاهر خبر إسماعيل بن عيسى قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أ يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف ؟ قال: عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين

ص: 454


1- الوسائل 2/462:4، ب 61 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 2/397:3.

يبيعون ذلك، و إذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه»(1).

فإنّه يدلّ على أنّ الفراء إذا كانت ممّا يبيعه المشركون اعتبر في اشترائها من المسلم أحد الأمرين من السؤال أو رؤية أنّ المسلمين يصلّون فيها، دفعا لاحتمال أنّه إنّما أخذها لغرض البيع من المشركين، و مورد الخبر إمّا سوق المشركين أو بتناوله حكم الخبر بطريق الفحوى، و عليه يحمل خبر محمّد بن الحسين الأشعري قال: «كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني عليه السّلام ما تقول في الفرو يشترى من السوق ؟ فقال: إذا كان مضمونا فلا بأس»(2) أي إذا ضمن ذكاته البائع المسلم.

و هل يشترط في المسلم أن يكون ممّن لا يستحلّ الميتة بالدباغ و لا ذبائح أهل الكتاب ؟ كما عليه العلاّمة في التذكرة(3) و عنه في المنتهى(4) تبعا للشيخ في النهاية على ما حكي قائلا: «و لا يجوز شرائها ممّن يستحلّ أو كان متّهما فيه»(5) و إطلاقهما يتناول صورتي أخبار المستحلّ ذكاته و عدمه و تبعهما الشهيد في الدروس(6) أو لا يشترط ذلك ؟ فيجوز الشراء من المسلم و إن لم يخبر بذكاته كما في صريح المدارك(7) و الذخيرة(8) و عن ظاهر المحقّق في المعتبر(9) و عن الفاضل الأردبيلي(10) في شرحه للإرشاد نسبته إلى المشهور في الفتاوي و الأخبار أو يفصّل بين ما لو أخبر بذكاته فيقبل و يشتري منه و عدمه فلا، أقوال.

عزي ثالثها إلى الشهيد في الذكرى(11) و البيان(12) لكن عبارته في الذكرى غير صريحة و لا ظاهرة فيه إن لم نقل بظهور مجموع كلماته في الميل إلى إطلاق المنع من المستحلّ كما عرفته عن الدروس، و أمّا عبارته في البيان فلم تحضرنا لنلاحظها، و لم نقف للأوّلين على مستند سوى الأصل، كما نصّ عليه في التذكرة بقوله في عبارته المتقدّمة «و إنّما اعتبرنا في المسلم انتفاء استباحته ليحصل الظنّ بالتذكية، إذ لا فرق في انتفاء الظنّ بين

ص: 455


1- الوسائل 7/492:3، ب 50 من أبواب النجاسات، التهذيب 1544/371:2.
2- الوسائل 3/463:4، ب 61 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 7/398:3.
3- التذكرة 264:2.
4- المنتهى 206:4.
5- النهاية: 98.
6- الدروس 80:1.
7- المدارك 158:3-159.
8- الذخيرة: 232.
9- المعتبر 78:2.
10- مجمع الفائدة و البرهان 95:2.
11- الذكرى 29:3.
12- البيان: 57.

المستبيح من المسلم و الكافر إذ الأصل الموت و لا معارض له حينئذ»(1).

و يزيّفه أوّلا: النقض بسوق المسلمين إذا كانوا مستبيحين للميتة لجريان ما ذكر فيه: مع أنّه لم يعتبر انتفاء الاستباحة فيه حيث ذكره مطلقا إلاّ أن يلتزم به فيه أيضا و ان لم يصرّح به في العبارة.

و ثانيا: منع اعتبار الظنّ في الأمارات الشرعيّة الّتي منها يد المسلم و سوق المسلمين لدلالة النصّ و الإجماع على كونهما أمارتين بقول مطلق، و تقييدهما بالظنّ بالتذكية لا بدّ له من شاهد صادق و ليس، نعم لا نضائق كون حكمة الجعل فيهما غلبة الانكشاف الظنّي بالإسلام المأخوذ فيهما، و لا يلزم منه اعتبار الظنّ الفعلي في مواردهما على وجه ينوط به اعتبارهما وجودا و عدما، و منه يعلم ما في دعواه عدم المعارض للأصل المذكور، فإنّ إطلاق النصوص المتقدّمة و لو من جهة ترك الاستفصال المتحقّق فيها و إطلاق معاقد الإجماعات المنقولة كاف في الخروج عن الأصل.

و قد يتمسّك لهم برواية أبي بصير المتقدّمة في قضيّة مولانا عليّ بن الحسين، بتوهّم أنّه لو لا اشتراط عدم الاستباحة لما ألقى عليه السّلام فروه في الصلاة، تعليلا باستحلال أهل العراق جلود الميتة.

و رواية عبد الرحمن بن الحجّاج قال: «قلت لأبي عبد اللّه: إنّي أدخل سوق المسلمين أعني هذا الخلق الّذين يدّعون الإسلام، فأشتري منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها أ ليس هي ذكيّة ؟ فيقول بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكيّة ؟ فقال: لا و لكن لا بأس أن تبيعها و تقول و قد شرط لي الّذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة، قلت: و ما أفسد ذلك ؟ قال: استحلال أهل العراق للميتة، و زعموا أنّ دباغ جلد الميتة ذكاته، ثمّ لم يرضوا أن يكذّبوا في ذلك إلاّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(2) فإنّه لو لا اشتراط عدم الاستباحة في الحكم بالتذكية لما منع عليه السّلام من البيع بشرط الذكاة تعليلا باستحلال أهل العراق.

و فيهما مع ضعف سنديهما جدّا منع الدلالة، أمّا في الاولى فلما مرّ من أنّ لبسه عليه السّلام دليل على عدم الحكم بما يشتري من المستبيح بالميتة، و إلاّ امتنع لبسه و لو في غير حال الصلاة،

ص: 456


1- التذكرة 464:2.
2- الوسائل 4/503:3، ب 61 من أبواب النجاسات، التهذيب 798/204:2.

و قد عرفت الوجه في عدم منافاة إلقائه عليه السّلام حال الصلاة، فهي على المذهب المشهور أدلّ .

و أمّا الثانية فلأنّها أيضا على المشهور أدلّ لظهورها سؤالا - في أنّ الراوي اعتقد جواز اشتراء تلك الجلود للتجارة مع ظهوره في كون سوق المسلمين الوارد فيه هو سوق أهل الخلاف - و جوابا في تقرير الإمام عليه السّلام إيّاه على معتقده مع تصريحه عليه السّلام قولا ببيعها مع الأخبار بما شرط له بائعها الأوّل من ذكاتها، فإمّا أن يقال: إنّه لم يظهر من الرواية كونه مستحلاّ للميتة، أو أنّها تدلّ على عدم اشتراط عدم استحلاله على تقدير كونه منه و إلاّ وجب المنع عن اشترائه و بيعه مطلقا، لأنّ الميتة ممّا لا يجوز التكسّب بها أصلا و إنّما منع عليه السّلام عن بيعها بشرط الذكاة تحرّزا عن الكذب.

و فساد البيع فيما كان المبيع مشروطا بصفة لم تكن محرزة فيه، نظرا إلى أنّ الّذي يسأل عن الذكاة عند الاشتراء و شرطها على البائع فإنّما يقصد بها الذكاة الواقعيّة و ليس للبائع طريق إلى إحرازها عند البيع إلاّ إخبار البائع الأوّل بها، و هو لا يفيد العلم بها فيحتمل كونه من غير المذكّى في الواقع كما نبّه عليه عليه السّلام في تعليل الإفساد المسئول عنه بقوله «استحلال أهل العراق للميتة و زعموا أنّ دباغ جلد الميتة ذكاته».

فروع
[الأوّل: المنع من جلد الميتة لا اختصاص له بحال الصلاة بل يعمّها و سائر الأحوال]

الأوّل: قد ظهر من تضاعيف كلماتنا المتقدّمة أنّ المنع من جلد الميتة لا اختصاص له بحال الصلاة بل يعمّها و سائر الأحوال، لظهور الإجماع المصرّح به في كلام جماعة منهم سيّد الرياض(1) و صحيحة عليّ بن أبي المغيرة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك، الميتة ينتفع منها بشيء؟ فقال: لا، قلت: بلغنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرّ بشاة ميتة فقال: ما كان على أهل هذه الشاة إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها؟ قال: تلك شاة لسودة بنت زمعة زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتّى ماتت، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما كان على أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها أي تذكّى»(2).

و مكاتبة الجرجاني إلى أبي الحسن عليه السّلام «سألته عن جلود الميتة الّتي يؤكل لحمها إن ذكّي ؟ فكتب: لا ينتفع من الميتة بشيء بإهاب و لا عصب»(3).

ص: 457


1- الرياض 296:2.
2- الوسائل 1/184:24، ب 34 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الكافي 7/259:6.
3- الوسائل 2/433:4، ب 41 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1500/362:2.
[الثاني: لا يختصّ المنع من جلد الميتة في حال الصلاة أو غيرها بما كان ملبوسا، بل يعمّه و المحمول]

الثاني: لا يختصّ المنع من جلد الميتة في حال الصلاة أو غيرها بما كان ملبوسا، بل يعمّه و المحمول أيضا بل يعمّ الساتر و غيره ممّا لا يتمّ به الصلاة بانفراده، لعموم «كلّ شيء منه» في صحيحة زرارة المتقدّمة، و عموم صحيحة ابن أبي عمير المتقدّمة «لا تصلّ في شيء منه» بل خصوص قوله عليه السّلام: «فيها و لا شسع» و روايات «الكيمخت في السيف الّذي يقلّده المصلّي» و هو ممّا لا يتمّ به الصلاة مع كونه من المحمول في الحقيقة، و توهّم صدق اللبس على تقليده ضعيف. و خصوص صحيحة عبد اللّه بن جعفر قال: «كتبت إليه يعني أبا محمّد عليه السّلام يجوز للرجل أن يصلّي و معه فارة مسك ؟ فكتب: لا بأس به إذا كان ذكيّا»(1)و صحيحة الحلبي المتقدّمة في الخفّ و «فيها صلّ فيها حتّى يقال لك إنّها ميتة».

و في مقابلها صحيحة إسماعيل بن الفضل قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن لباس الجلود و الخفاف و النعال و الصلاة فيها إذا لم يكن من أرض المسلمين ؟ فقال: أمّا النعال و الخفاف فلا بأس بها»(2) و لكنّها لا تقاوم لمعارضة ما سبق لكثرته و عدم عامل بها، فهي إمّا مؤوّلة بما اخذ من يد المسلم في سوق أهل الكفر، أو بما علم ذكاته من خارج، أو محمولة على التقيّة أو مطروحة.

[الثالث: اختصاص المنع من الميتة في حال الصلاة و غيرها بميتة ذي النفس]

الثالث: ظاهر المعتبر(3) و الذكرى(4) كما عن ظاهر المنتهى(5) و صريح المدارك(6) و شرح المفاتيح(7) و غيرهما(8) اختصاص المنع من الميتة في حال الصلاة و غيرها بميتة ذي النفس، و عن المحقّق الثاني في شرح(9) الألفيّة دعوى الإجماع على جواز الصلاة في ميتة السمك، خلافا لشيخنا البهائي في الحبل المتين على ما حكي، من تقويته العموم ناقلا للميل إليه عن والده(10) و جنح إليه صاحب الذخيرة(11).

و الأقوى الأوّل، لأصالة البراءة النافية لاحتمال حرمة الانتفاع بها مطلقا، و أصالة عدم المانعيّة و عدم الشرطيّة النافية لاحتمال اعتبار عدم الميتة أو وجود التذكية في صحّة الصلاة و اشتراطها بهما المعتضدة بطهارة ميتة غير ذي النفس، و عمومات اللباس، غاية

ص: 458


1- الوسائل 2/433:4، ب 41 من أبواب لباس المصلّي.
2- الوسائل 3/427:4، ب 38 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 922/234:2.
3- المعتبر 77:2.
4- الذكرى 28:3.
5- المنتهى 206:4.
6- المدارك 161:3.
7- مصابيح الظلام 265:6.
8- كالشهيد الثاني في روض الجنان 550:2.
9- رسائل المحقّق الكركي 236:3.
10- حبل المتين: 180.
11- الذخيرة: 233.

ما في الباب أنّه خرج منها ميتة ذي النفس بالنصّ و الإجماع و بقى ما سواها لعدم ظهور مخرج له من إجماع و لا نصّ .

أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فلأنّ النصوص الواردة في المنع من الميتة منها ما لا يحتمل ميتة ما لا نفس له، و منها ما لا ينصرف إليها إطلاقه.

و بهذا يظهر ضعف مستند القول بالتعميم إذ ليس له عدى إطلاق الميتة في الأخبار المانعة و عموم ترك الاستفصال في الأجوبة الموجودة فيها المسبوقة بإطلاق أسئلتها، فإنّ المطلق ينصرف إلى الشائع من أفراده و ليس إلاّ ميتة ما له نفس، و ترك الاستفصال إنّما يفيد العموم إذا لم يكن للسؤال فرد شائع ينصرف إليه إطلاقه و إلاّ ينصرف إليه إطلاق الجواب أيضا، فيبقى بلا مقتض للحمل على العموم، و يدلّ على بطلانه مؤيّدا للمختار بل دليلا على حقيقته الضرورة فيما يستصحبه المصلّي من جلود القمل و البراغيث و الذباب و النمل غالبا، مضافا إلى إجماع شرح الألفية(1) في ميتة السمك، لكنّ الاحتياط مهما أمكن حسن، و اللّه العالم بحقائق أحكامه.

[الرابع: الصلاة في الميتة مختصّ بما تحلّه الحياة من أجزائه أم لا؟]

الرابع: ظاهر كلام الأصحاب المصرّح به في عبائر جماعة اختصاص المنع من الصلاة في الميتة بما تحلّه الحياة من أجزائها و عدم المنع فيما لا تحلّه كالصوف و الشعر و الوبر و العظم و ما أشبه ذلك، بل في المعتبر و المنتهى و التذكرة دعوى الإجماع عليه ففي الأوّل «و الصوف و الشعر ممّا يؤكل لحمه يجوز الصلاة فيه، و إن أخذ من ميتة جزّا، و هو إجماع علمائنا، و قول أبي حنيفة و أحمد خلافا للشافعي»(2) و في الثاني «و الصوف و الشعر و الوبر ممّا يؤكل لحمه طاهر تجوز الصلاة فيه إذا جزّ منه في حياته أو بعد التذكية بلا خلاف بين العلماء فيه، أمّا إذا أخذ جزّا من الميّت فقد اختلف فيه، فالّذي عليه علماؤنا أجمع طهارته و صحّة الصلاة فيه، و به قال الحسن و ابن سيرين و مالك و الليث بن سعد و الأوزاعي و إسحاق و ابن المنذر و أصحاب الرأي و أحمد في إحدى الروايتين، و في اخرى أنّه نجس لا يصحّ الصلاة فيه و هو قول الشافعي»(3). و في الثالث «الصوف و الشعر و الوبر و الريش تابعة فإن كانت اصولها ممّا لا يؤكل لحمه لم تصحّ الصلاة فيه، و إن كانت ممّا يؤكل لحمه

ص: 459


1- رسائل المحقق الكركي 236:3.
2- المعتبر 83:2.
3- المنتهى 235:4.

صحّت عند علمائنا أجمع... إلى أن قال: و أمّا الجمهور فالقائلون بطهارته سوّغوا الصلاة فيه، و القائلون بنجاسته منعوا» انتهى(1).

خلافا لجماعة من القدماء كابن البرّاج و ابن حمزة و سلاّر في المهذّب(2) و الوسيلة و المراسم فمنعوا من الصلاة في الصوف و الشعر و الوبر من الميتة. ففي الثاني «اللباس ثلاثة أضرب إمّا ما يجوز فيه الصلاة أو تكره أو لا تجوز فيه، فالأوّل: عشرة أشياء، إلى أن قال:

و جلود ما يؤكل لحمه إذا كان مذكّى، و صوف ما يؤكل لحمه و شعره و وبره إذا لم يكن منتوفا عن حيّ أو ميّت... إلى أن قال: و الثالث: خمسة عشر شيئا، إلى أن قال: و الصوف و الشعر و الوبر إذا نتفت من الحيّ أو الميّت و إن كان ممّا يؤكل لحمه»(3). و في الثالث «فأمّا اللباس فعلى ثلاثة أضرب، منه ما يجوز الصلاة فيه، و منه ما تكره الصلاة فيه، و منه ما تحرم الصلاة فيه، فالأوّل: ثياب القطن... إلى أن قال: و جلود كلّ ما يؤكل لحمه و صوفه و شعره و وبره إذا كان مذكّى... إلى أن قال: و أمّا الثالث: فكلّ ما عدى ذلك»(4).

و لعلّ دعوى الإجماع المتقدّمة مع مخالفة هؤلاء لعدم الاعتناء بخلافهم لشذوذهم، أو لعدم قدحه في كون المسألة إجماعيّة لمعلوميّة نسبهم بناء على إرادة الإجماع على طريقة القدماء.

و يمكن دفع الخلاف عن البين بحمل كلام المخالف على ما كان من المذكورات منتوفا من الميتة كما يفصح عنه عبارة الوسيلة، مع كون الجهة المانعة عندهم نجاسته الحاصلة بملاقاة النجس حال الرطوبة.

و كيف كان فتفرض ذلك قولا محقّقا في المسألة، و تقول: إنّه يساعد بل يدلّ عليه المفهوم في موثّقة ابن بكير المتقدّمة «فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ »(5) و مفهومه أنّ الصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كلّ شيء منه غير جائز إذا لم تعلم أنّه ذكيّ .

و في مقابلها صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بالصلاة فيما كان من

ص: 460


1- التذكرة 466:2.
2- المهذّب 75:1.
3- الوسيلة: 87 و 88.
4- المراسم: 368.
5- الوسائل 1/345:4، ب 2 من أبواب لباس المصلّي.

صوف الميتة، إنّ الصوف ليس فيه روح»(1) يدلّ في الصوف بالنصوصيّة و في غيره ممّا لا تحلّه الحياة مطلقا بعموم التعليل على جواز الصلاة في الجميع لكونها ممّا لا تحلّها الحياة، فحصل التعارض.

و يمكن منع التعارض بحمل «كلّ شيء» في الموثّقة على إرادة ما عدى الامور المذكورة قبله، كما هو الظاهر المنساق من نظائر هذا التركيب من لحم الميتة و شحمه و عصبه و جلده مع إرجاع القيد إليه بقرينة ظهور ضمير أنّه في الرجوع إلى الأقرب، فالمفهوم ينفي جواز الصلاة فيما اريد من كلّ شيء من أجزاء الميتة، فلا يشمل غيره من المذكورات، و لكن يزيّفه إسناد الذكاة فإنّه إلى أصل الحيوان حقيقي و إلى أجزائه مجازي، فيكون ظاهرا في الأوّل و هو يقضي بظهور عود الضمير إلى الموصول فيما يؤكل لحمه.

و ربّما يتوهّم جعل النفي في المفهوم لرفع الإيجاب الكلّي الغير المنافي لجواز الصلاة في بعض الأشياء المذكورة و عدم جوازه في البعض الآخر، و لا خفاء في ضعفه إذ النفي إنّما يرجع إلى الأشياء المذكورة بأعيانها إذا لم يعلم كون الحيوان مذكّى لا إلى العامّ ، من حيث إنّه اريد منه الأشياء المذكورة ليجري فيه النفي الوارد على العامّ المفيد لسلب العموم.

و مع الغضّ عن ذلك فأصل هذا التوهّم فاسد، لما تقرّر في محلّه، من وجوب موافقة المفهوم المنطوق كمّا، فمفهوم الإيجاب الكلّي سلب كلّي لا رفع للإيجاب الكلّي.

و قد يعالج التعارض بحمل المفهوم بالنسبة إلى الصوف و الشعر و غيرهما ممّا هو من محلّ الكلام على التقيّة، لما عرفت من كون جماعة من العامّة على المنع، و هو أيضا بعيد لمكان الخلاف بين العامّة و أكثرهم على الجواز، فالمفهوم و إن وافق المانعين منهم إلاّ أنّه مخالف للمجوّزين منهم و هم أكثرهم، و هذا لا يلائم خروجه مخرج التقيّة لمجرّد موافقة بعضهم، مع أنّ كون الحكم العامّ بالنسبة إلى بعض أفراد موضوعه للتقيّة و بالنسبة إلى البعض الآخر لبيان الواقع كما ترى، و لا سيّما إذا كان مفادا للقضيّة المعقولة.

فالأولى تسليم التعارض و علاجه بالتخصيص بتحكيم عموم التعليل على عموم المفهوم بإخراج نحو الشعر و الصوف و غيرهما ممّا لا روح فيه عن المفهوم، لكون التعليل بالنسبة إليه نصّا في الجواز بل للصحيحة بالنسبة إلى الصوف نصّ حقيقة، مع اعتضاده بفهم المعظم

ص: 461


1- الوسائل 1/457:4، ب 56 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1530/368:2.

و الإجماعات المنقولة، و ضعف عموم المفهوم بإعراض الأكثر إن لم نقل إعراض الكلّ عنه هذا.

مضافا إلى روايات اخر دالّة على جواز الصلاة فيما لا يحلّه الحياة من أجزاء الميتة، منها الصحيح المرويّ من الكافي عن حريز قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لزرارة و محمّد بن مسلم: اللبن و اللباء(1) و البيضة و الشعر و الصوف و القرن و الناب و الحافر، و كلّ شيء يفصل من الشاة و الدابّة فهو ذكيّ و إن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله و صلّ فيه»(2) و اللّه العالم.

[النوع الثالث: حكم الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات]
اشارة

النوع الثالث: جلد ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات فإنّه أيضا ممّا لا يجوز الصلاة فيه بالإجماع المستفيض، نقله في كلام كثير من أساطين الأصحاب(3) سواء ذكّي أو لا، دبغ أو لا و سواء فيما يقبل التذكية و يطهر بها و غيره، مضافا إلى النصوص المستفيضة المعتبرة بالصحّة و نحوها الّتي لا يقدح اختصاص بعضها بالسباع في إثبات عموم الحكم بعد انضمام عدم القول بالفصل كما نصّ عليه غير واحد من الأجلّة(4).

فمنها: المفهوم في ذيل خبر عليّ بن أبي حمزة المتقدّم في جلد الميتة «سأل أبا عبد اللّه و أبا الحسن عليهما السّلام عن لباس الفراء و الصلاة فيها؟ فقال: لا تصلّ إلاّ فيما كان منه ذكيّا، قلت:

أو ليس الذكيّ ما ذكّي بالحديد؟ فقال: بلى إذا كان ممّا يؤكل لحمه»(5).

و منها: الموثّق كالصحيح بعبد اللّه بن بكير باعتبار كونه ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه و إن كان فطحي المذهب إلاّ أنّه كان ثقة في مذهبه قال: «سأل زرارة عن أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في الثعالب و الفنك و السنجاب و غيره من الوبر؟ فأخرج كتابا زعم أنّه إملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله، فالصلاة في وبره و شعره و جلده و روثه و ألبانه و كلّ شيء منه فاسدة لا يقبل اللّه تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ اللّه أكله، ثمّ قال: يا زرارة إنّ هذا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاحفظ ذلك يا زرارة، و إن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و البانه و كلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكّاه الذبح، و إن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله و حرّم عليك

ص: 462


1- اللبأ: أوّل اللبن بعد الولادة، و هو بعد لزج ثخين القوام (الصحاح 70:1).
2- الوسائل 3/180:24، ب 33 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الكافي 4/258:6.
3- الجواهر 106:8، و المستند 307:4.
4- الجواهر 106:8.
5- الوسائل 2/345:4، ب 2 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 797/203:2.

أكله فالصلاة في كلّ شيء منه فاسدة ذكّاه الذبح أو لم يذكّه»(1).

و منها: موثّقة سماعة قال: «سألته عن لحوم السباع و جلودها؟ فقال: أمّا لحوم السباع من الطير و الدوابّ فإنّا نكرهه، و أمّا الجلود فاركبوا عليها و لا تلبسوا منها شيئا تصلّون فيه»(2) قيل(3) و هذه الرواية و إن كانت مضمرة في التهذيب غير أنّها في الفقيه مسندة إلى الصادق عليه السّلام.

و منها: صحيحة إسماعيل بن سعد بن الأحوص «قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الصلاة في جلود السباع ؟ فقال لا تصلّ فيها»(4).

و منها: خبر الفضل بن شاذان المرويّ عن العيون عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون قال: «و لا يصلّي في جلود الميتة و لا في جلود السباع»(5).

و منها: خبر الأعمش المرويّ عن الخصال عن جعفر بن محمّد عليه السّلام في حديث شرائع الدين قال: «و لا يصلّي في جلود الميتة و إن دبغت سبعين مرّة و كذا في جلود السباع»(6).

و منها: خبر أنس بن محمّد عن أبيه عن جعفر بن محمّد عليه السّلام عن آبائه في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام «يا عليّ لا تصلّ في جلد ما لا يشرب لبنه و لا يؤكل لحمه»(7) هذا مضافا إلى فحوى المستفيضة في منع الصلاة في وبره و صوفه و شعره.

و في مقابل هذه النصوص عدّة روايات:

منها: موثّقة سماعة قال: «سألته عن جلود السباع فينتفع بها؟ فقال: إذا رميت و سمّيت فانتفع بها»(8) فإنّ إطلاقها يتناول حال الصلاة أيضا.

و صحيحة محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن جلود الثعالب أ يصلّي فيها؟

ص: 463


1- الوسائل 1/345:4، ب 2 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 818/209:2.
2- الوسائل 3/353:4، ب 5 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 802/205:2، الفقيه 801/169:1.
3- لم نعثر على قائله.
4- الوسائل 1/354:4، ب 6 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 801/205:2.
5- الوسائل 3/355:4، ب 6 من أبواب لباس المصلّي، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 123:2.
6- الوسائل 4/355:4، ب 6 من أبواب لباس المصلّي، الخصال: 604.
7- الوسائل 6/346:4، ب 2 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 824/265:4.
8- الوسائل 2/489:3، ب 49 من أبواب النجاسات، التهذيب 339/79:9.

فقال: لا احبّ أن اصلّي فيها»(1) لقضائها بالكراهة.

و صحيحة جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الصلاة في جلود الثعالب ؟ فقال:

إذا كانت ذكيّة فلا بأس»(2).

و صحيحة الحلبي قال: «سألته عن الفراء و السمور و السنجاب و الثعالب و أشباهه ؟ قال:

لا بأس بالصلاة فيه»(3).

و في الاولى أنّها عامّة تخصّص بما تقدّم ممّا هو أخصّ منها، و في البواقي أنّها لا تقاوم لمعارضة نصوص المنع المترجّحة عليها بعدّة من المرجّحات من الأكثريّة عددا و مخالفة مذاهب العامّة، و الاعتضاد بعمل الأصحاب و المستفيض من الإجماعات المنقولة القريبة من التواتر الّتي لو لم يكن نصّ على المنع لكفت في الالتزام به. فهذه الروايات حينئذ إمّا مطروحة أو محمولة على التقيّة كما نصّ عليه غير واحد(4) من الطائفة.

ثمّ قضيّة إطلاق الفتاوي و النصوص عموم المنع لما حرّم أكله لعارض كالجلاّل و موطوء الإنسان و هو المصرّح به في كلام بعض مشايخنا(5) بل لا ينبغي التأمّل في كونه مشمولا لعموم كلّ شيء حرام أكله في الموثّقة المتقدّمة.

ثمّ إنّ في المقام فروعا مهمّة تذكر في طيّ مسائل:

[مسائل مهمّة:]
[المسألة الاولى: حكم الصلاة في جلد ما لا يعلم كونه من مأكول اللحم أو...]

المسألة الاولى: أنّ من الجلود ما يعلم كونه من مأكول اللحم. و منها: ما يعلم كونه من غير المأكول. و لا إشكال فيهما.

و منها: ما يشكّ كونه من الأوّل أو من الثاني فهل يلحق بالأوّل فيجوز الصلاة فيه ؟ فيرجع البحث إلى جواز الصلاة في كلّ جلد إلاّ ما علم كونه من غير المأكول، أو يلحق بالثاني فلا يجوز الصلاة فيه ؟ فيؤول الكلام إلى عدم جواز الصلاة في الجلود إلاّ ما يعلم كونه من المأكول، و هذا البحث لا يختصّ بالجلد بل يجري في جميع أجزاء الحيوان حتّى الصوف و الشعر و الوبر و غيرها إذا شكّ في كونه من المأكول، بناء على ما ستعرفه من عدم

ص: 464


1- الوسائل 1/355:4، ب 7 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 803/205:2.
2- الوسائل 9/357:4، ب 7 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 809/206:2.
3- الوسائل 2/350:4، ب 4 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 825/210:2.
4- كالشيخ في الاستبصار 1449/382:1.
5- الجواهر 105:8.

اختصاص المنع من أجزاء غير المأكول في الصلاة بجلده و لا بما تحلّه الحياة من أجزائه بل يجري في غيره ممّا لا تحلّه الحياة.

و كيف كان فقال العلاّمة في المنتهى: «لو شكّ في كون الصوف و الشعر و الوبر من مأكول اللحم لم تجز الصلاة فيه لأنّها مشترطة بستر العورة بما يؤكل لحمه، و الشكّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط»(1).

و تنظّر فيه صاحب المدارك(2) ثمّ قال: و الجواز غير بعيد، للأصل، و صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كلّ شيء يكون فيه حرام و حلال فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه»(3).

و في التمسّك بهما من الضعف ما لا يخفى، أمّا الأصل فلأنّه ممّا لا محمل إلاّ أصل البراءة عن وجوب الاجتناب عن هذا المشتبه. و فيه: أنّه لا يجري فيما ليس له حرمة ذاتيّة «و المنع ممّا لا يؤكل لحمه ليس لحرمته الذاتيّة و لذا يختصّ المنع بحال الصلاة كما سنبيّنه، بل إنّما هو لاعتبار عدمه في صحّة الصلاة، و إن اوّل إلى الأصل الجاري في شروط العبادة للاكتفاء بها خالية عن المشكوك فيه الّذي نتيجته نفي العقاب المحتمل ترتّبه على مخالفة الواقع، و ترك المأمور به المحتمل تحقّقه في ضمن الإتيان بها خالية عن المشكوك فيه.

ففيه: أنّه بهذا المعنى إنّما يجري في مقام الشكّ في شرطيّة شيء المعتادة، لا في مقام الشكّ في تحقّق الشرط كما فيما نحن فيه.

و أمّا الرواية فلظهور الحلال و الحرام فيها في الحلّ و الحرمة الذاتيّين، و لذا اخذت من أدلّة أصل البراءة فلا تتناول محلّ البحث.

و بما قرّرناه يندفع أيضا ما قد يوجد في بعض الكلمات من الانتصار للقول بالجواز بمنع شمول النهي في نحو «لا تصلّ في جلد ما لا يؤكل لحمه» للمشتبه، لأنّ كونه ممّا لا يؤكل لحمه غير محرز فإنّه إنّما يتّجه أن لو كان النهي للتحريم النفسي، و نواهي الباب كلّها إرشاديّة لبيان المانعيّة. و ممّا هو ظاهر كالصريح في كون جزء غير مأكول اللحم مانعا قوله عليه السّلام - في موثّقة ابن بكير المتقدّمة -: «فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه

ص: 465


1- المنتهى 236:4.
2- المدارك 167:3.
3- الوسائل 1/87:17، ب 4 من أبواب ما يكتسب به، التهذيب 337/79:9.

و كلّ شيء منه فاسدة لا يقبل اللّه تلك الصلاة» و المانع ما كان عدمه من قيود المأمور به فالحكم بالبطلان إنّما هو للشكّ في تحقّق المأمور به المشتمل على هذا القيد بالفعل في هذا المشتبه فيستصحب عدمه السابق، لا من جهة النهي حتّى يستند في منعه إلى عدم شموله.

و قد ينتصر له أيضا بانصراف جلد أو وبر أو صوف ما لا يؤكل لحمه في قوله: «لا تصلّ فيه» إلى ما علم كونه كذلك. و ضعفه واضح بما تقرّر في محلّه من أنّ الألفاظ كما وضعت للمعاني النفس الأمريّة كذلك تنصرف إليها في حيّز الخطابات، و وقوعها في الخطاب لا يوجب انصرافها إلى ما دخل فيه العلم. فقوله: «لا تعمل بخبر الفاسق» يقضي بمنع العمل بخبر الفاسق النفس الأمري، فشرط جواز القبول انتفاء الفسق النفس الأمري و لا يجوز إلاّ بإحراز العدالة، و لذا صار القائلون من أصحابنا بالتعبّد بخبر الواحد إلى اشتراط عدالة الراوي في قبوله.

فالأقوى إذا هو المنع من الصلاة في المشتبه جلدا أو شعرا أو غيرهما. و لكن تعليل العلاّمة له بما عرفت أيضا عليل:

أمّا أوّلا: فلأنّ المسألة ليست مقصورة على ستر العورة بما اخذ ممّا اشتبه بين المأكول و غيره، بل أعمّ منه و من لباس آخر زائد على ساتر العورة من جنس آخر، و ممّا ليس من نوع اللباس، و ما كان ملاصقا للباس من شعر مشتبه و نحوه، فنفرض الكلام فيما ستر عورته بما يحلّ و استصحب معه شيئا من المشتبه و الدليل غير جار فيه. و التمسّك بعدم القول بالفصل فيما ثبت أحد شطري الإجماع المركّب بالأصل مشكل، من عدم ثبوت الملازمة بين الشطرين في الحكم الظاهري، و الدليل القائم على الملازمة بينهما في الحكم و هو الإجماع إنّما يفيدها في الحكم الواقعي، فلا مانع حينئذ من اختلافهما في الحكم الظاهري إن ساعد على حكم الشطر الآخر أصل آخر مخالف للأصل الأوّل في المؤدّى، و تمام الكلام في تحقيق هذه المسألة في الاصول.

و أمّا ثانيا: فلأنّ مؤدّى أدلّة الباب - من الروايات و الإجماعات - في منع الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه و ما بحكمه ليس شرطيّة ما يؤكل لحمه بل مانعيّة ما لا يؤكل لحمه و الفرق بينهما أنّ الشرط ما كان وجوده معتبرا في المأمور به، و المانع ما كان عدمه معتبرا فيه، و اللازم من كليهما و إن كان هو تقييد المأمور به إلاّ أنّ القيد على الأوّل أمر وجودي

ص: 466

و على الثاني أمر عدمي، و القطع حاصل بأنّ كون الساتر أو اللباس أو الملاصق له من مأكول اللحم ليس من قيود الصلاة، لأنّها تتمّ بدون ذلك ممّا هو من غير المتّخذ من الحيوان، بل القيد المأخوذ فيها عدم استصحاب المصلّي ما كان من أجزاء غير المأكول بستر عورة أو لبس أو لصوق و نحوه.

نعم لا مانع من إطلاق الشرط على هذا القيد العدمي لشيوع إطلاقه في كلامهم على عدم المانع كما يساعد عليه أيضا صدق تعريف الشرط عليه، و حينئذ فالوجه في الاستدلال على المنع أن يقال: إنّ الصلاة مشترطة بعدم استصحاب المصلّي ما هو من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، و الشكّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط على معنى الشكّ في تحقّق الصلاة المأمور بها بفعلها في ذلك المشتبه و خروجها عن الذمّة و دخولها في ظرف الخارج، و الأصل عدمه على معنى استصحاب الحالة السابقة على هذا الفعل، و قضيّة هذا الأصل عدم الاجتزاء به و وجوب إعادتها في غير ذلك المشتبه، و هذا هو معنى البطلان و عدم جواز الصلاة فيه.

لا يقال: إنّ هاهنا أصلا آخر واردا على الأصل المذكور، و هو أصالة عدم تحقّق المانع مع المصلّي في هذا المشتبه، فإنّه لم يكن متحقّقا معه قبل استصحابه له بلبس و نحوه قطعا فيستصحب فيما بعده أيضا فيحكم بصحّة الصلاة الواقعة فيه.

و وجه وروده على الأصل المذكور أنّ الشكّ في تحقّق المأمور به في الخارج مسبّب عن الشكّ في تحقّق المانع، لمنع كون الشكّ المذكور مسبّبا عن الشكّ في تحقّق المانع بل إنّما هو مسبّب عن الشكّ في كون ما استصحبه المصلّي من الجلد المشتبه و نحوه من جنس المانع أو من جنس غيره، فأصالة عدم تحقّق المانع لا ينهض واردا على أصالة عدم تحقّق المأمور به، إلاّ إذا أفادت كون ما استصحبه المصلّي من جنس المأكول، و هو موضع منع لبطلان الاصول المثبتة.

و ممّا يشعر ببطلان الصلاة فيه إن لم نقل بدلالته عليه ما في الموثّقة من قوله عليه السّلام:

«لا يقبل اللّه تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ اللّه أكله» فإنّ تقييد غيره بما أحلّ اللّه أكله لرفع توهّم القبول في المشكوك من إطلاق غيره، و إلاّ فالكلام بدونه كان تماما.

و قد يستدلّ لإلحاق المشكوك بما لا يؤكل لحمه بقاعدة الإلحاق، التفاتا إلى أنّ المأكول

ص: 467

من الحيوان محصور و غير المأكول غير محصور، و الظنّ يلحق المشتبه بالأعمّ الأغلب.

و فيه: القدح في الصغرى، لأنّ المثمر لإلحاق المشتبه من الجلد و الوبر و الصوف و الشعر بأجزاء غير المأكول إنّما هو وجود الغلبة في هذه الأجناس، بأن يكون الغالب من الجلود و الأوبار و الأصواف و الأشعار المتداولة بين الناس ما كان من غير المأكول، و الضرورة قاضية بانتفاء هذه الغلبة، و غلبة غير المأكول من الحيوان غير كافية في إلحاق ما هو من أفراد الغلبة المنتفية.

نعم ربّما يثمر هذه الغلبة في أجزاء الحيوان الخاصّ المشتبه بين المأكول و غيره، و حينئذ تتطرّق المنع إلى كبرى القاعدة، فإنّ قصارى ما يحصل بالغلبة هو الظنّ باللحوق و هو ظنّ في الموضوع الخارجي، و حجّيّته محلّ كلام و الأقوى خلافه، نعم لا ضير في أخذه مؤيّدا للأصل.

فالعمدة من مدرك المسألة حينئذ هو الأصل المعتضد بإشعار الرواية و شهادة ظنّ الغلبة في بعض فروض المسألة، و عليه اعتماد المعظم في مصيرهم إلى المنع على ما عزي إليهم، بل ربّما يظهر من كلام بعضهم كونه إجماعيّا كما في محكيّ المحقّق الثاني في الجعفريّة «و لو جهل و لم يعلم كون ذلك الجلد و الشعر و العظم من جنس ما يصلّى فيه، فقد صرّح الأصحاب بوجوب الإعادة مطلقا لو صلّي في شيء منها»(1) و الظاهر أنّه أراد بقوله:

«مطلقا» تعميم الحكم بالقياس إلى صورتي ظهور كونه من جنس ما يصلّى فيه بعد الصلاة و عدمه، كما فهمه شارح الجعفريّة قائلا - على ما حكي -: «يعني أنّ الحكم بوجوب الإعادة في هذه الصورة إجماعي للأصحاب، و إن تبيّن أنّه من جنس ما يصلّى فيه»(2).

و ربّما يظهر دعوى إجماع الأصحاب عليه من صاحب المدارك في باب الخلل الواقع في الصلاة حيث إنّه في شرح عبارة الشرائع «إذا لم يعلم أنّه من جنس ما يصلّى فيه فصلّى أعاد»(3) نسب القطع بذلك الحكم إلى الأصحاب قائلا: «هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب»(4).

[المسألة الثانية: المنع من الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه يعمّ ما لا تحلّه الحياة من أجزائه]

المسألة الثانية: أنّه قد ظهر في تضاعيف المسألة السابقة أنّ المنع من الصلاة في أجزاء

ص: 468


1- رسائل الكركي 115:1.
2- المطالب المظفريّة: 120.
3- الشرائع 114:1.
4- المدارك 214:4.

ما لا يؤكل لحمه يعمّ ما لا تحلّه الحياة من أجزائه كالوبر و الشعر و الصوف و نحوها و إن اخذت من مذكّى، قال في المدارك: «هذا مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفا منهم»(1)و في التذكرة «عند علمائنا أجمع»(2) و في المنتهى «و هو إجماع علمائنا»(3) و في المعتبر «أنّه قول علمائنا»(4) و في الذخيرة «الظاهر أنّه أيضا في غير الموضع المستثناة إجماعي و نقل الإجماع جماعة منهم»(5).

و بالجملة فالإجماعات المنقولة كالروايات المصرّحة به مستفيضة، ففي موثّقة ابن بكير المتقدّمة ما عرفت من قوله عليه السّلام: «فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كلّ شيء منه فاسدة... الخ»(6).

و رواية محمّد بن إسماعيل بإسناده يرفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام المرويّة عن العلل قال:

«لا تجوز الصلاة في شعر و وبر ما لا يؤكل لحمه، لأنّ أكثرها مسوخ»(7).

و رواية الحسن بن عليّ الوشّاء قال: «كان أبو عبد اللّه يكره الصلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه»(8).

و رواية عليّ بن مهزيار قال: «كتب إليه إبراهيم بن عقبة: عندنا جوارب و تكك تعمل من وبر الأرانب، فهل تجوز الصلاة في وبر الأرانب من غير ضرورة و لا تقيّة ؟ فكتب عليه السّلام:

لا تجوز الصلاة فيها»(9).

و رواية أحمد بن إسحاق الأبهري قال: «كتبت إليه: جعلت فداك عندنا جوارب و تكك تعمل من وبر الأرانب، فهل يجوز الصلاة في وبر من غير ضرورة و لا تقيّة ؟ فكتب عليه السّلام:

لا تجوز الصلاة فيها»(10).

و رواية إبراهيم بن محمّد الهمداني قال: «كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوبر و الشعر ممّا

ص: 469


1- المدارك 164:3.
2- التذكرة 496:2.
3- المنتهى 210:4.
4- المعتبر 81:2.
5- الذخيرة: 233.
6- الوسائل 1/345:4، ب 2 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 818/209:2.
7- الوسائل 7/347:4، ب 2 من أبواب لباس المصلّي، علل الشرائع: 1/342.
8- الوسائل 5/346:4، ب 2 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 820/209:2.
9- الوسائل 3/356:4، ب 7 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 822/210:2.
10- الوسائل 5/356:4، ب 7 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 805/206:2.

لا يؤكل لحمه من غير تقيّة و لا ضرورة ؟ فكتب: لا يجوز الصلاة فيه»(1).

قال في المعتبر - بعد ذكر رواية ابن بكير و رواية إبراهيم بن محمّد و رواية الوشّاء و رواية الأبهري -: و هذه الأخبار و إن كانت ما بين مرسل أو بين ضعيف لكنّ الفتوى بها مشهورة بين فقهاء أهل البيت اشتهارا ظاهرا فالعمل بها لازم»(2) انتهى.

و محصّله انجبار ضعفها بشهرة العمل بها، مع أنّها مستفيضة، فاستفاضتها ربّما توجب الوثوق بصدق بعضها، مع أنّ رواية ابن بكير موثّقة و هي بنفسها حجّة، و ابن أبي عمير الّذي في سندها لا يروي إلاّ عن ثقة، و ابن بكير أيضا من أصحاب الإجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم، مع اعتضادها بالمستفيض من الإجماعات المنقولة، فلا ينبغي التأمّل في حكم المسألة من جهة الروايات.

ثمّ الصلاة في الوبر و الشعر و نحوهما ممّا لا يؤكل لحمه قد يكون في الثوب المنسوج من هذه الأشياء محضا أو ممتزجا بغيرها، و قد يكون في المنسوج منها ممّا لا يتمّ به الصلاة كالتكّة و القلنسوة و الجورب و نحوها، و قد تكون في غير المنسوج منها كالشعر المتساقط على لباس المصلّي و نحوه ممّا يستصحبه حال الصلاة، و لا إشكال بل لا خلاف في المنسوج الّذي يتمّ به الصلاة.

نعم ربّما يشكل الحال في مواضع:

الموضع الأوّل: عموم المنع من الصلاة فيها لما لا يتمّ به الصلاة من المنسوج منها و عدمه، و يجري هذا البحث في المتّخذ من الجلد الّذي لا يتمّ به الصلاة، فإنّ ظاهر إطلاق النصوص و الفتاوي و معاقد الإجماعات هو المنع - و هو الأقوى - خلافا للشيخ في التهذيب لما يظهر منه من عدم المنع فيما لا يتمّ به الصلاة من الجلد حيث إنّه بعد ما روى خبر جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الصلاة في جلود الثعالب ؟ فقال: إذا كان ذكيّة فلا بأس»(3) قال: فيحتمل أن يكون أراد أنّه لا بأس به إذا كان على مثل القلنسوة أو ما أشبهها ممّا لا يتمّ الصلاة بها... إلى أن قال: و يجوز أيضا أن يكون الخبر ورد لضرب من

ص: 470


1- الوسائل 4/346:4، ب 2 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 819/209:2.
2- المعتبر 82:2.
3- الوسائل 9/357:4، ب 7 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 809/206:2.

التقيّة. و يحتمل أيضا أن يكون المراد ب «في» في الخبر «على» فكأنّه عليه السّلام قال: لا بأس بالوقوف عليه في حال الصلاة(1).

و لم نقف له على مستند فيما ظهر منه إلاّ رواية محمّد بن عبد الجبّار قال: «كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام أسأله هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكّة حرير أو تكّة من وبر الأرانب ؟ فكتب عليه السّلام: لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض و إن كانت الوبر ذكيّا حلّت الصلاة فيه إن شاء اللّه»(2). و عنه أيضا في المبسوط(3) تجويز الصلاة في القلنسوة و التكّة من وبر ما لا يؤكل لحمه على كراهية استنادا إلى هذا الخبر. خلافا له في النهاية(4) فمنع عنهما أيضا كما عن الأكثر. و يظهر من المعتبر(5) احتمال عدم المنع، و نفى عنه البعد في المدارك(6).

و كيف كان فهو محجوج عليه بما تقدّم من عموم الروايات و خصوصها في الجوارب و التكك و إطلاق الفتاوي و معاقد الإجماعات. و الخبر المذكور بل الخبران مع عدم مقاومتهما لمعارضة ما سبق محمولان على التقيّة لموافقتهما العامّة كما احتملها ثانيا في الخبر الأوّل. ربّما كان في قوله: «إن شاء اللّه» في الخبر الثاني إشعار بالتقيّة بناء على إرادة التعليق بالمحال.

و احتجّ العلاّمة للشيخ في المختلف «بأنّه قد ثبت للتكّة و القلنسوة حكم مغاير لحكم الثوب من جواز الصلاة فيهما و إن كانا نجسين أو من حرير محض، فكذا يجوز و لو كانا من وبر الأرانب و غيرها، و لأنّ الملزوم للمدّعى وجودا و عدما إن كان ثابتا ثبت المطلوب، و كذا إن كان منفيّا، قال: و الجواب عن الأوّل: بالفرق بين كونهما نجسين و كونهما من وبر ما لا يحلّ الصلاة في وبره و قد بيّنّاه فيما مضى، و عن الثاني: بالمنع من استلزام نفي الملزوم حالتي وجوده و عدمه المطلوب لجواز كون النفي راجعا إلى الذات لا إلى وجودها مع فرض استلزامها وجودا و عدما»(7).

و مراده ممّا بيّنه في ما مضى في الفرق بين كونهما نجسين و كونهما من وبر ما لا يحلّ

ص: 471


1- التهذيب 206:2-207.
2- الوسائل 4/377:4، ب 14 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 810/207:2.
3- المبسوط 84:1.
4- النهاية: 98.
5- المعتبر 83:2.
6- المدارك 167:3.
7- المختلف 84:2.

الصلاة في وبره ما ذكره في جواب احتجاج الشيخ لما جوّزه من الصلاة في التكّة و القلنسوة المعمولتين من حرير محض «بأنّ تسويغ الصلاة فيهما مع النجاسة و إخراجهما عن عموم حكم الثياب في ذلك يستلزم تسويغ الصلاة فيهما إذا كانا من إبريسم محض لاشتراكهما في المصلحة المطلوبة من الصلاة فيهما و إخراجهما من حكم الثياب، فأجاب عنه: بأنّ الفرق بين الحرير و النجس ظاهر، لأنّ المانع في النجس عارضي و في الأبريسم ذاتي»(1) انتهى.

و يبقى الكلام في فهم حقيقة المراد من ثاني وجهي الاحتجاج و حقيقة المراد من الجواب الّذي ذكره العلاّمة عنه، و الظاهر أنّ الوجه الثاني من الحجّة كما أفاده بعض الأعلام(2) في الجواب عن السؤال عن معنى هذه الحجّة مأخوذ عن الشبهة المشهورة - بين أرباب المغالطة بشبهة حماريّة زيد - المقرّرة بأنّ كلّ ما يستلزم وجوده و عدمه حماريّة زيد هل هو موجود أو معدوم ؟ و على أيّ التقديرين يلزم كون زيد حمارا، و عليه فتوجيه الحجّة المذكورة هو أنّ ما يستلزم وجوده و عدمه جواز الصلاة في التكّة و القلنسوة المعمولتين من وبر الأرانب إمّا موجود أو ليس بموجود، و على التقديرين يثبت المطلوب و هو جواز الصلاة فيهما.

و توضيح الجواب يظهر من الجواب عن الشبهة المذكورة و هو اختيار الشقّ الثاني من الترديد، بأن يقال: إنّ ما يستلزم وجوده و عدمه حماريّة زيد ليس موجودا، و هذه قضيّة سالبة، و من حكم السالبة أنّ السلب فيها قد يكون باعتبار انتفاء المحمول مع تحقّق الموضوع في الواقع، و قد يكون باعتبار انتفاء الموضوع و تصدق على التقديرين.

و حاصله أنّ صدق السالبة لا يقتضي موضوعا محقّقا في الخارج على خلاف الموجبة الّتي لا تصدق إلاّ على تقدير تحقّق موضوعها، و لذا تنقسم إلى السالبة المنتفية المحمول و السالبة المنتفية الموضوع، و حينئذ نقول: إنّ السلب في هذه السالبة إنّما هو باعتبار انتفاء موضوعها، إذ لا تحقّق في الواقع لما يستلزم وجوده و عدمه لوجود شيء آخر، لامتناع استلزام كلّ من وجود شيء و عدمه وجود شيء آخر لأدائه إلى اجتماع النقيضين.

و السرّ فيه أنّ كون شيء لازما لشيء آخر يقتضي علاقة بينهما يعبّر عنها باللزوم،

ص: 472


1- المختلف 80:2-81.
2- جامع الشتات 744:2.

فمعنى استلزام وجود شيء و عدمه معا لوجود شيء آخر، أنّ وجود الشيء الثاني لازم لكلّ من وجود الشيء الأوّل و عدمه، و لا يستقيم ذلك إلاّ بأن يكون بين وجود الشيء الثاني و بين وجود الشيء الأوّل علاقة و بينه و بين عدمه أيضا علاقة، و هو محال، لأنّه يلزم من وجود العلاقة بينه و بينهما عدم وجودها بينه و بينهما، لأنّ اللازم من استلزام كلّ من وجود الشيء الأوّل و عدمه لوجود الشيء الثاني أنّه يوجد في الخارج سواء وجد معه الشيء الأوّل أو لم يوجد، و هذا يقتضي عدم مدخليّة شيء من وجوده و عدمه في وجوده و هذا نفي للعلاقة، و المفروض ثبوتها فيلزم من وجودها عدمها، فلا بدّ و أن لا يكون علاقة أصلا أو يكون العلاقة في جانب وجود الشيء الأوّل فقط، و لازمه أن يلزم من عدمه عدم الشيء الثاني، أو في جانب عدمه فقط و لازمه أن يلزم من وجوده عدم الشيء الثاني.

و لا ينتقض ما ذكرناه باللازم الأعمّ لملزومين كلّ منهما أخصّ منه إذا وجد أحدهما و انتفى الآخر، كالحرارة اللازمة تارة من النار و اخرى من الشمس إذا وجدت الشمس و انتفت النار، بتوهّم أنّه يلزم من كلّ من وجود النار و عدمها وجود الحرارة، و لا يستقيم ذلك إلاّ بوجود العلاقة على التقديرين، لأنّ الحرارة على تقدير عدم النار و وجود الشمس ليست من لوازم عدم النار بل من لوازم وجود الشمس، فالعلاقة ثابتة بين وجود الحرارة و كلّ من وجود النار و وجود الشمس، لا بين وجود الحرارة و كلّ من وجود النار و عدمها، فليتدبّر.

و هذا هو معنى جواب العلاّمة فإنّ ملخّص قوله: «منع استلزام نفي الملزوم...» الخ إنّا نختار الشقّ الثاني و هو أنّ ما يستلزم وجوده و عدمه لجواز الصلاة في التكّة و القلنسوة من وبر الأرانب و الثعالب ليس بموجود، و قولكم «يثبت المطلوب» أيضا ممنوع، و قوله:

«لجواز كون النفي راجعا إلى الذات» بيان لسند المنع، و محصّله جواز رجوع السلب في القضيّة إلى موضوعها، فإنّ الذات عبارة عن موضوع القضيّة و ما يستلزم وجوده و عدمه معا جواز الصلاة فيهما غير متحقّق في الواقع بل لا يمكن تحقّقه فلم يثبت المطلوب.

الموضع الثاني: عموم المنع لغير المنسوج من الشعرات الملقاة على ثوب المصلّي و عدمه، قال في المدارك: الظاهر اختصاص المنع من الصلاة في هذه الأشياء بالثوب المنسوج من ذلك و لو ممتزجا بغيره، فلو لم يكن كذلك كالشعرات الملقاة على الثوب

ص: 473

لم تمنع الصلاة فيه، و به قطع الشهيد في الذكرى(1) و جدّي قدّس سرّه في جملة من كتبه(2). و يدلّ عليه - مضافا إلى الأصل السالم عمّا يصلح للمعارضة - صحيحة محمّد بن عبد الجبّار قال:

«كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام أسأله هل تصلّي في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكّة حرير أو تكّة من وبر الأرانب ؟ فكتب: لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض فإن كان الوبر ذكيّا حلّت الصلاة فيه إن شاء اللّه»(3) و صحيحة عليّ بن ريّان قال: «كتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام هل يجوز الصلاة في ثوب يكون فيه شعر الإنسان و أظفاره قبل أن ينفضه و يلقيه عنه ؟ فوقّع: يجوز»(4) و ربّما ظهر من كلام بعض الأصحاب(5) المنع من ذلك مطلقا، لرواية إبراهيم بن محمّد الهمداني، و هي ضعيفة جدّا(6).

و فيه: أنّ الأصل يخرج عنه بما سنذكره من دليل المنع و الصحيحة الاولى على ما تقدّم محمولة على التقيّة، و الصحيحة الثانية سؤالا و جوابا مخصوصة بشعر الإنسان، و الّذي يمنع من نحو الشعر يخصّصه بغير أجزاء الإنسان و ستعرف دليله. فالأقوى إذا المنع مطلقا وفاقا لظاهر(7) الأكثر و صريح(8) جماعة من أساطين الطائفة، و وجه الظهور من الأكثر تطابق فتاويهم بعبارة «لا يجوز الصلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه و صوفه» فإنّ إطلاق العبارة شامل لما نحن فيه، فلو لا مرادهم ذلك لوجب التعبير بأنّه لا يجوز الصلاة في الثوب المعمول من الوبر و نحوه، فنسبة ظهور المنع إلى كلام بعضهم ليست على ما ينبغي.

لنا بعد إطلاق معاقد الإجماعات إطلاق قوله عليه السّلام في موثّقة ابن بكير: «فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كلّ شيء منه فاسدة» فإنّ كلمة الظرفيّة للاشتمال و هو فيما كان المظروف من قبيل الأفعال لا يتأتّى إلاّ باشتمال المظروف على الظرف أعني اشتمال الفعل على الخصوصية الحاصلة بسبب إضافة الظرف إليه زمانا كان أو مكانا أو ثوبا أو غيرهما، و الظرفيّة في الحقيقة كناية عن تلك الخصوصيّة الّتي يشتمل عليها الفعل.

ص: 474


1- الذكرى 52:3.
2- روض الجنان 574:2، و المسالك 23:1.
3- الوسائل 4/377:4، ب 14 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 810/207:2.
4- الوسائل 2/382:4، ب 18 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1526/367:2.
5- منهم المحقّق الكركي في جامع المقاصد 86:1.
6- المدارك 165:3-166.
7- المعتبر 81:2، المنتهى 210:4، المبسوط 1، 82، و الذخيرة: 234.
8- كفاية الأحكام: 16، و المجلسي في البحار 221:80، و الخوانساري في حاشية الروضة: 187.

فحاصل معنى قولك «صلّيت في المسجد أو يوم الجمعة أو في الثوب الفلاني» أنّه صلّيت صلاة مشتملة على الخصوصيّة الحاصلة من جهة المسجد أو يوم الجمعة أو الثوب الفلاني، و هذا المعنى يصدق في الصلاة مع الشعرة الّتي يصحبها المصلّي لاشتمال الصلاة على الخصوصيّة الحاصلة من جهة تلك الشعرة، فقوله عليه السّلام: «فالصلاة في وبره و شعره...» الخ باعتبار هذا المعنى المتبادر من الظرفيّة في متفاهم العرف يعمّ كلا من الثوب المتّخذ من الوبر و الشعر، و نفس الوبر و الشعر الملقى على ثوب المصلّي.

و مع الغضّ عن ذلك نقول: إنّ الظرفيّة الواردة في الكلام متساوية النسبة إلى جميع الأشياء المذكورة فيه الّتي منها البول و الروث لكون الجميع على نسق واحد، فأيّ معنى يحمل عليه الظرفيّة حقيقة كان أو مجازا، فصدقه على البول و الروث الّذي يصحبه المصلّي باعتبار كونه على ثوبه أو بدنه ليس بأظهر من صدقه على نحو الشعرة الّتي تكون على ثوبه أو بدنه. فدلالة الرواية على عموم المنع واضحة لا ينبغي الاسترابة فيه.

و يؤيّدها رواية إبراهيم بن محمّد «في ثوب يسقط عليه الوبر و الشعر ممّا لا يؤكل لحمه» المصرّحة بعدم جواز الصلاة فيه إن لم نعتبرها دليلا مستقلاّ باعتبار الطعن عليها بضعف السند، مع أنّه بناء على ما ذكره بعض الأجلّة لا يخلو عن أمارة اعتبار، و بالتقريب الّذي ذكرناه في معنى الموثّقة يعلم عموم المنع للمنسوج الممتزج بغير الوبر لصدق الظرفيّة بالمعنى المذكور على الصلاة فيه.

و العجب عن العلاّمة في التذكرة في استشكاله في الثوب المنسوج ممّا يؤكل لحمه و ما لا يؤكل لحمه بالنظر إلى «إباحة الممتزج من الحرير و الكتّان»(1) و فيه: أنّ الحكم ثمّة ثبت بدليل لا يجري فيما نحن فيه فالتعدّي إليه قياس، و هو لا يوجب إشكالا في المسألة بعد مساعدة الدليل عليه، بل الظاهر بالنظر إلى عموم الرواية عدم الفرق في المنع بين ما كان من الشعر ملاصقا لثوب المصلّي و بدنه و ما كان محمولا عليه في غير ثوبه و بدنه، كما لو كان الشعر و الوبر و نحوهما في أنبوبة أو مقلمة في جيب المصلّي.

و العجب عن بعض الأجلّة في مطالع الأنوار(2) فخصّ المنع بالأوّل استنادا إلى وجوب الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن، و ظاهر أدلّة المنع غير ما نحن فيه، فإنّ

ص: 475


1- التذكرة 466:2.
2- مطالع الأنوار 147:1.

الظرفيّة في الرواية لمّا تعذّر حقيقتها وجب حملها على أقرب المجازات، و هو ما إذا كان الشعر مثلا في نفس الثوب و البدن، و فيه ما فيه.

فرعان:

أحدهما: أنّه لو حمل المصلّي الحيوان الغير المأكول حيّا فالأقرب عدم بطلان الصلاة به، كما نصّ عليه كاشف(1) الغطاء و عزى التصريح به عن جماعة(2) و يظهر الميل إليه عن المستند(3) استنادا إلى موثّقة الساباطي «لا بأس أن تحمل المرأة صبيّها و هي تصلّي، و ترضعه و هي تتشهّد»(4) و ما روي من «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حمل امامة و هو يصلّي»(5) و ما روي أيضا «أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي و ركب الحسين على ظهره و هو ساجد»(6).

و لا خفاء في ضعف هذا الاستدلال لجواز كون الإنسان مستثنى عن المنع لو ساعد عليه في حمل نفس الحيوان دليل كاستثناء أجزائه عن حكم أجزاء غيره من غير المأكول و استثناء فضلاته إن قلنا بالمنع في فضلات سائر غير المأكول، فهذه الروايات لا تنهض لعموم الجواز.

و توهّم عدم القول بالفصل، موضع منع، لعدم ثبوته بل ثبوت خلافه، فالعمدة هو التمسّك بالأصل و عدم شمول الأدلّة المانعة فتوى و نصّا لما نحن فيه، لاختصاصهما بأجزائه المنفصلة الغير المتناولة لنفس الحيوان. نعم يبقى توهّم أولويّة، و هي موهونة بظهور كلام الأكثر و صريح جماعة في عدم التعدّي، فلا يحصل بها قطع و لا ظنّ يطمئنّ به النفس هذا، و لكنّ الأحوط هو التحرّز.

و ثانيهما: أنّه لو اتّخذ من وبر ما لا يؤكل لحمه أو صوفه و شعره فرش و نحوه، فالظاهر عدم بطلان الصلاة عليه، للأصل و عدم تناول الفتاوي و النصوص للصلاة عليه لظهور الصلاة فيه المأخوذة فيها فيما يستصحبه المصلّي لا مطلق ما يجاوره.

ثمّ إنّ في عموم المنع لأجزاء ما لا نفس له من غير المأكول و عدمه قولان، ظاهر الأكثر الأوّل، ذهب إليه شيخنا البهائي(7) على ما حكي و عزي الميل إليه إلى والده، و هو الأجود،

ص: 476


1- كشف الغطاء 27:1.
2- كما في التذكرة 481:2.
3- المستند 319:4.
4- الوسائل 1/280:7، ب 24 من أبواب قواطع الصلاة، التهذيب 1355/330:2.
5- صحيح مسلم 385:1.
6- مسند أحمد 513:2، المناقب 71:4.
7- حبل المتين: 180.

لأنّ ما لا يؤكل لحمه في النصّ و الفتوى و معاقد الإجماع عامّ بالقياس إلى غير ذي النفس فيعمّه الأدلّة. و دعوى: عدم انصراف المطلقات إليه أو انصرافها إلى غيره، ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه، مع «أنّ كلّ شيء حرام أكله» في موثّقة ابن بكير من ألفاظ العموم الّتي لا تتمشّى فيها قاعدة الانصراف. نعم ينبغي القطع بعدم عموم المنع لما لا لحم له من أنواع غير المأكول كالعقارب و الخنفساء و الزنبور و النحل و النمل و القمل و البقّ و البرغوث و الذباب و ما أشبه ذلك، للأصل، و عدم الدليل على المنع منه و بطلان الصلاة فيه. و الإطلاق المتوهّم من «الشيء» في كلّ شيء حرام أكله في الموثّقة، يندفع بظهور سياق الرواية في ذي اللحم، مضافا إلى قرينة المقابلة من جهة قوله عليه السّلام: «يا زرارة و إن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كلّ شيء منه جائز».

و كما لا يبطل الصلاة بهذه الحيوانات و بأجزائها فكذلك لا تبطل بفضلاتها، للأصل أيضا، مضافا إلى السيرة القطعيّة على عدم التجنّب عن فضلات جملة منها كالقمل و البقّ و البراغيث و الذباب، و لزوم العسر و الحرج العظيم في التجنّب عنها كما هو واضح، و النصوص المستفيضة الّتي منها: صحيحة الحلبي «عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه ؟ قال: لا و إن كثر»(1) و المرويّ عن نوادر الراوندي عن الصلاة في الثوب الّذي فيه أبوال الخنافس و دماء البراغيث ؟ فقال: «لا بأس»(2) و صحيحة عليّ بن مهزيار «عن الصلاة في القرمز و أنّ أصحابنا يتوقّفون فيه ؟ فكتب: لا بأس»(3) قيل: و قد ذكروا «انّ القرمز صبغ أرمني يكون من عصارة دود يكون في آجامهم»(4) و يتأيّد ذلك أيضا بجواز الصلاة في الحرير و الأبريسم في الجملة مع أنّه أيضا من فضلات دود مخصوص.

و من فروع المسألة عدم بطلان الصلاة بالشمع يكون على الثوب أو البدن و هو أيضا من فضلات النحل و كذلك العسل، و ربّما ايّد ذلك بإطلاق جواز التلبيد في إحرام الحجّ و تلبيد الشعر أن يجعله فيه شيء من صمغ أو خطمي أو غيرهما عند الإحرام لئلاّ يشعث و يقمل إبقاء على الشعر. و عن النهاية «و إنّما يلبّد من يطول مكثه في الإحرام»(5).

ص: 477


1- الوسائل 4/436:3، ب 23 من أبواب النجاسات، التهذيب 753/259:1.
2- بحار الأنوار 9/260:80.
3- الوسائل 1/435:4، ب 44 من أبواب لباس المصلّي.
4- مجمع البحرين 31:4.
5- النهاية 224:4.

و بجميع ما بيّنّاه في ذي اللحم من غير المأكول الّذي لا نفس له يظهر حكم الصدف، فإنّه على ما ذكره في المستند حيوان له لحم و لا يؤكل لحمه، و استشهد له بصحيحة عليّ «عن اللحم الّذي يكون في أصداف البحر و الفرات أ يؤكل ؟ قال: ذلك لحم الضفادع لا يحلّ أكله»(1).

و عن الأطبّاء في كتبهم التصريح بكونه حيوانا و أثبتوا للحمه خواصّا و عن التجّار و الغوّاص أنّهم أخبروا عنه أيضا(2) غاية الأمر أنّه لا نفس له فيندرج في عموم المنع عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه و إن لم يكن له نفس المستفاد من قوله عليه السّلام: «كلّ شيء حرام أكله» فإنّ كلّ شيء عامّ و هو مبتدأ متضمّن لمعنى الشرط بقرينة كلمة الفاء في خبره المفيدة للجزاء، و قضيّة الشرطيّة سببيّة حرمة أكل لحم الحيوان لبطلان الصلاة في كلّ شيء منه، و يشمل ذلك للصدف و غلافه و ما يؤخذ منه و يعمل في السكين.

و توهّم: أنّ ذكر الوبر و الشعر و الجلد في الجزاء يوجب انصراف المبتدأ إلى ما له وبر و شعر و جلد، فتكون الرواية مسوقة لإعطاء حكم لنحو هذه الحيوانات فلا تتناول نحو ما نحن فيه.

يدفعه: منع تأثير ذلك في الانصراف المذكور، أ لا ترى أنّه لو قيل كلّ رجل ارتدّ فداره و عبده و سيفه و فرسه و كلّ شيء منه ينتقل إلى وارثه، لا يذهب إلى الوهم عدم شمول العامّ لمن لا دار و لا عبد و لا سيف و لا فرس له و لكن كان له دراهم و دنانير مثلا و ليس ذلك إلاّ من جهة أنّ العامّ مع تعقّبه لأشياء مختصّة ببعض أفراده في متفاهم العرف على عمومه.

و السرّ في ذلك أنّ المراد الأشياء المذكورة المختصّة ببعض أفراد العامّ بعده في الكلام يجري مجرى المثال و هو ممّا لا يخصّص العامّ ، و لأجل ذلك كلّه ما عن بعضهم «من الاستشكال في الصلاة في اللؤلؤ المستخرج من الصدف لكونه جزء منه أو كونه ممّا شمله عموم كلّ شيء منه، لكن يمكن دفعه مع إمكان منع جزئيّته بعدم معلوميّة كون أصل اللؤلؤ من الصدف لما اشتهر من أنّه قطرة مطر تدخل في جوفه فيستحيل لؤلؤا بأنّه بعد تسليم جزئيّته مستثنى من عموم المنع.

و دليله أوّلا: قوله تعالى تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهٰا (3) فإنّها تعمّ اللؤلؤ

ص: 478


1- الوسائل 1/146:24، ب 16 من أبواب الأطعمة المحرّمة، التهذيب 46/12:9.
2- المستند 319:4-320.
3- النحل: 14.

أيضا»(1) فتدلّ على جواز لبسه لكن يمكن المناقشة بقصور الدلالة، إذ جواز التحلّي به لا يستلزم جواز الصلاة فيه كما هو حكم غيره ممّا لا يؤكل لجواز الانتفاع به بلبس و نحوه في غير حال الصلاة.

و ثانيا: بما روي «من أنّه كان لسيّدة النساء عليها السّلام قلادة فيها سبعة لآلئ»(2) و يمكن المناقشة في دلالته بنحو ما ذكر، إذ لا يظهر من الرواية أنّها عليها السّلام كانت تستصحبها في حال الصلاة أيضا.

و ثالثا: بالعلم الضروري بشيوع التحلّي بها في أعصار الأئمّة عليهم السّلام مع عدم ورود منع عنهم عليهم السّلام و إلاّ لنقل إلينا، و مرجعه إلى تقريرهم الكاشف عن الرضا.

و رابعا: سيرة المسلمين في جميع الأعصار و الأمصار على التحلّي بها، و استصحابها في حال الصلاة من غير نكير من العلماء و غيرهم من الخاصّة و العامّة، فتكشف عن الرضا.

و خامسا: صحيح عليّ بن جعفر «سأل أخاه عليه السّلام هل يصلح للرجل أن يصلّي و في فيه الخرز و اللؤلؤ؟ قال: إن كان يمنعه من قراءته فلا، و إن كان لا يمنعه فلا بأس»(3).

ثمّ إنّ المنع من أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة لا يختصّ بنحو وبره و شعره و صوفه بل يعمّ سائر رطوباته و فضلاته من لعاب فمه و دمعه و ألبانه و ما أشبه ذلك لظاهر كلّ شيء منه في الموثّقة فإنّه يعمّ المذكورات قطعا، و صدق الظرفيّة المتضمّنة للاشتمال.

و الاستصحاب مع الصلاة في الثوب أو البدن عليهما البول أو الروث ليس بأظهر من صدقها معها في الثوب أو البدن عليهما رطوبة الفم أو اللبن أو غيرهما. مع أنّ ذكر البول و الروث في عداد أجزائه المانعة من الصلاة قرينة واضحة على تعلّق الغرض بتعميم الحكم لنحو الرطوبات و الفضلات أيضا.

و لا ينافيه نجاسة هذين عمّا بين الرطوبات و الفضلات بتوهّم كونها الجهة المانعة، لأنّا نقول بالمنع لذات البول و الروث من حيث كونهما من غير المأكول لا لوصفهما، حتّى أنّه لو فرضنا انتفاء النجاسة فيهما لالتزمنا بالمنع لنفس هذه الرواية.

مضافا إلى المفهوم في قوله عليه السّلام: «فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله

ص: 479


1- البحار 172:80.
2- البحار 189:45، و المنتخب للطريحي: 64.
3- الوسائل 2/461:4، ب 60 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 775/164:1.

و شعره و البانه و كلّ شيء منه جائز» فإنّه يقضي بأنّه إن لم يكن ممّا يؤكل فالصلاة في ألبانه غير جائزة، ثمّ يتمّ بالنسبة إلى غير الألبان من الرطوبات الاخر بعدم القول بالفصل.

و لا يذهب عليك أنّ ما عدى البول من الرطوبات ليس كالبول فإنّه لنجاسته يتأثّر منه المحلّ بقبول النجاسة فلا يرتفع المنع بجفاف البول بل يحتاج إلى غسله على الوجه المعتبر شرعا بخلاف سائر الرطوبات فإنّها إذا جفّت ارتفع المنع إلاّ إذا بقى منها بعد الجفاف عين في المحلّ كما في اللبن إذا كان غليظا و حينئذ فيكفي في ارتفاع المنع فركه و نحوه إلى أن يزول العين و لا حاجة إلى غسله على كلّ حال.

و هل يعمّ المنع لأجزاء الإنسان من شعره و ظفره و سنّه و غيرهما و رطوباته من البصاق و الدمعة و العرق و المخاط و اللبن و الوسخ و المذي و الوذي من نفسه أو من غيره أو لا؟ وجهان: من عموم «كلّ شيء حرام أكله» في الموثّقة و غيره ممّا لا يؤكل لحمه في النصوص و معاقد الإجماع، و من أنّ المتبادر منها ما عدى الإنسان و هو الأجود الأقوى.

و على تقدير تسليم العموم المذكور فلا بدّ من استثناء أجزاء الإنسان و رطوباته للنصوص المستفيضة، ففي صحيح عليّ بن ريّان قال: «كتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام هل يجوز الصلاة في ثوب يكون فيه شعر من شعر الإنسان و أظفاره من قبل أن ينفضه و يلقيه عنه ؟ فوقّع عليه السّلام: يجوز»(1).

و في خبر آخر سأل عليّ بن ريّان بن الصلت أبا الحسن الثالث عليه السّلام «عن الرجل يأخذ من شعره و أظفاره ثمّ يقوم إلى الصلاة من غير أن ينفضه من ثوبه ؟ فقال: لا بأس»(2).

و في المرويّ عن التهذيب و مكارم الأخلاق عن الحسين بن زرارة عن الصادق عليه السّلام قال:

«سأله أبي و أنا حاضر عن الرجل يسقط سنّه فيأخذ سنّ إنسان ميّت فيجعله مكانه»(3)و من البعيد كونه بحيث يقلع في أوقات الصلاة.

و ربّما استدلّ بأخبار مستفيضة دالّة على جواز الصلاة في ثوب عرق فيه الجنب(4) أو

ص: 480


1- الوسائل 2/382:4، ب 18 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1526/367:2.
2- الوسائل 1/382:4، ب 18 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 812/172:1.
3- مكارم الأخلاق: 109، التهذيب 67/78:9.
4- الوسائل 12/447:3، ب 27 من أبواب النجاسات.

الحائض(1) و في ثوب أصابه المذي و الوذي(2) و المحاق و نحو ذلك.

و عندي أنّه غير سديد لأنّها بظاهر سياقاتها مسوقة لبيان انتفاء مانع النجاسة عن هذه الأشياء، و الظاهر أنّ منع النجاسة على تقدير ثبوتها يجامع جفاف هذه الأشياء و زوال أعيانها و لا ينوط ببقائها على حال الرطوبة، و عليه فلم يظهر منها حكم عدم المنع فيها من حيث كونها من غير المأكول إلاّ إذا دلّت على جواز الصلاة فيها مطلقا حتّى في حال الرطوبة، و لا محرز لهذه الدلالة إلاّ ما قد يسبق إلى الوهم من الإطلاق.

و يزيفه وروده مورد بيان حكم آخر فلا حجّيّة فيه على ما حقّق في محلّه، و حينئذ فإثبات الاستثناء على وجه العموم حتّى في غير الشعر و الظفر و السنّ كما هي مورد النصوص المتقدّمة في غاية الإشكال، فالأولى في إثبات عموم الجواز و عدم المنع هو الاستناد إلى الأصل مع انضمام عدم الدلالة المخرجة عنه، لظهور مطلقات النصوص المعلّقة لحكم المنع بما لا يؤكل لحمه حتّى الموثّقة كإطلاق الفتاوي و معاقد الإجماع في غير ما نحن فيه، فإنّ هذه الدعوى ليست خروجا عن الإنصاف، ثمّ يدلّ النصوص المتقدّمة بالنسبة إلى مواردها و تخرج مؤيّدة لعمومه بالقياس إلى غيرها، فليتدبّر.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ مرجع مانعيّة أجزاء ما لا يؤكل لحمه من الصلاة إلى اشتراط صحّة الصلاة بخلوّ المصلّي عن هذه الأشياء، و الظاهر أنّه شرط واقعي لا يتفاوت الحال في مدخليّته في صحّة الصلاة بين حالتي التذكّر و النسيان و لا بين العالم و الجاهل بالحكم أو الموضوع، لأنّه الأصل في باب الشروط على ما حقّق في محلّه، و لأنّه الظاهر من قوله عليه السّلام:

«فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كلّ شيء منه فاسدة لا يقبل اللّه تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ اللّه أكله» خصوصا إطلاق قوله: «لا يقبل اللّه حتّى يصلّي في غيره» فإنّه يعمّ جميع الحالات.

و قد يستشكل: من عموم رفع القلم عن الناسي و أنّ وجه البطلان كون الصلاة مع تلك الأشياء منهيّا و النهي في العبادة يستدعي الفساد فلا يشمل الناسي لقبح توجيه الخطاب إليه.

و ليس في محلّه، لأنّ رفع القلم محمول على رفع قلم المؤاخذة و العقوبة، و هو لا ينافي

ص: 481


1- الوسائل 4/450:3، ب 28 من أبواب النجاسات، التهذيب 793/269:1.
2- الوسائل 2/276:1، ب 12 من أبواب نواقض الوضوء، التهذيب 52/21:1.

الشرطيّة المقتضية للبطلان و كون البطلان من جهة النهي واضح المنع بل باعتبار المانعيّة و الشرطيّة المستفادتين من النصوص و لا سيّما الموثّقة الّتي هي العمدة في روايات الباب و لا نهي فيها و هي ناصّة بالفساد الّذي هو حكم وضعي لا يتفاوت الحال فيه بين حالتي التذكرة و النسيان و غيرهما.

[المسألة الثالثة: مستثنيات قاعدة منع الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، الخزّ]

المسألة الثالثة: في مستثنيات قاعدة منع الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، و هي من محلّ الوفاق و محلّ الخلاف امور:

أحدها: الخزّ فليعلم أنّ في الخزّ في روايات الباب و كلام الأصحاب اطلق على الوبر و الجلد، و الوبر إمّا خالص أو ممتزج، و الممتزج إمّا ممتزج بوبر الأرانب و الثعالب و غيرهما ممّا لا يؤكل لحمه أو بغيره من القطن أو الكتّان أو الحرير، فما كان منه وبرا خالصا فالصلاة فيه جائزة قولا واحدا، و الإجماعات المنقولة فيه بالغة فوق حدّ الاستفاضة، و ربّما قيل(1)بكونها متواترة. و الأصل فيه - بعد ما عرفت - الروايات المستفيضة المعتبرة و غيرها.

ففي صحيح سليمان بن جعفر الجعفري قال: «رأيت أبا الحسن الرضا عليه السّلام يصلّي في جبّة خزّ»(2).

و صحيح عليّ بن مهزيار قال: «رأيت أبا جعفر الثاني عليه السّلام يصلّي الفريضة و غيرها في جبّة خز طاروي(3) و كساني جبّة خزّ و ذكر أنّه لبسها على بدنه و صلّى فيها و أمرني بالصلاة فيها»(4).

و صحيح زرارة قال: «خرج أبو جعفر عليه السّلام يصلّي على بعض أطفالهم و عليه جبّة خزّ صفراء و مطرف خزّ أصفر»(5).

و موثّق معمّر بن خلاّد قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الصلاة في الخزّ؟ فقال:

صلّ فيه»(6).

ص: 482


1- الجواهر 141:8.
2- الوسائل 1/359:4، ب 8 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 832/212:2.
3- في الأصل: طاروني و هو ضرب من الخزّ (لسان العرب 265:13)، و الطاروي نسبة إلى طاريّة قرية باليمن (مجمع البحرين 275:1).
4- الوسائل 2/359:4، ب 8 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 803/170:1.
5- الوسائل 3/359:4، ب 8 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 1/450:6.
6- الوسائل 5/360:4، ب 8 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 829/212:2.

و خبر أبي يعفور قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه رجل من الخزّازين، فقال له: جعلت فداك ما تقول في الصلاة في الخزّ؟ فقال: لا بأس بالصلاة فيه، فقال له الرجل:

جعلت فداك إنّه ميّت و هو علاجي و أنا أعرفه، فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: أنا أعرف به منك، فقال له الرجل: إنّه علاجي و ليس أحد أعرف به منّي ؟ فتبسّم أبو عبد اللّه عليه السّلام ثمّ قال له:

أ تقول إنّه دابّة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فتخرج فإذا فقد الماء مات ؟ فقال الرجل:

صدقت جعلت فداك هكذا هو، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فإنّك تقول إنّه دابّة تمشي على أربع و ليس هو في حدّ الحيتان فتكون ذكاته خروجه من الماء، فقال له الرجل: اي و اللّه هكذا أقول، فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: فإنّ اللّه تعالى أحلّه و جعل ذكاته موته كما أحلّ الحيتان و جعل ذكاتها موتها»(1).

و أمّا جلده فالمشهور(2) بين الأصحاب جواز الصلاة فيه أيضا، و حكاية الشهرة في كلامهم(3) فيه مستفيضة، خلافا للحلّي(4) و العلاّمة في المنتهى(5) و السرائر(6) فمنعاه مع أنّ العلاّمة في التذكرة(7) جوّزه. و الأقوى هو المشهور المنصور، لإطلاق النصوص المتقدّمة بل عموم جملة منها بملاحظة ترك الاستفصال إن لم نقل بظهورها في الجلد خاصّة، بملاحظة أنّ المعهود في الجبّة اتّخاذها من الجلد، مضافا إلى صحيحة سعد بن سعد قال: «سألت الرضا عليه السّلام عن جلود الخزّ؟ فقال: هو ذا نلبس الخزّ، فقلت: جعلت فداك ذاك الوبر، فقال: إذا حلّ وبره حلّ جلده»(8) وجه الدلالة أنّها صريحة في الملازمة بين حلّية الوبر و حلّية الجلد، و حيث ثبت جواز الصلاة بالإجماع و النصّ ثبت جوازها في الجلد أيضا بحكم هذه الملازمة، مضافا إلى ترك الاستفصال المفيد للعموم.

ص: 483


1- الوسائل 4/354:4، ب 8 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 828/211:2.
2- كشف الالتباس: 97 (مخطوط)، الذكرى 36:3.
3- المختلف 77:2، الدروس 150:1، الذكرى 36:3، البيان: 58، التنقيح الرائع 178:1، جامع المقاصد 78:2، كشف الالتباس: 97، روض الجنان 552:2، المسالك 163:1، المدارك 169:3، مجمع الفائدة و البرهان 97:2، المفاتيح 109:1.
4- التحرير 30:1.
5- المنتهى 238:4.
6- السرائر 261:1-262.
7- التذكرة 469:2.
8- الوسائل 14/366:4، ب 10 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1547/372:2.

و حجّة المانع عموم المنع من الصلاة في جلود ما لا يؤكل لحمه و أجزائه خرج منه الوبر بالنصّ و الإجماع و بقى الجلد. و فيه ما عرفت من أنّ مخرج الوبر عن العموم صالح لأن يخرج الجلد أيضا، مع ما عرفت من الصحيحة المختصّة بالجلد.

و أمّا الوبر المغشوش بوبر الأرانب و الثعالب فالمعروف من مذهب الأصحاب على ما في كلام بعض الأجلّة(1) عدم جواز الصلاة فيه، بل في المحكيّ عن الخلاف إجماع الفرقة عليه قائلا: «لا يجوز الصلاة في الخزّ المغشوش بوبر الأرانب و خالف جميع الفقهاء في ذلك، و دليلنا إجماع الفرقة»(2).

فالمتعيّن هو عدم الجواز، لعموم المنع من الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، و خصوص مرفوعة أحمد بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الخزّ الخالص أنّه لا بأس به، فأمّا الّذي يخلط فيه وبر الأرانب أو غير ذلك ممّا يشبه هذا فلا تصلّ فيه» و مرفوعة أيّوب ابن نوح مثلها(3).

و في مقابلهما خبر داود الصرمي قال: «سألته عن الصلاة في الخزّ يغشّ بوبر الأرانب ؟ فكتب: يجوز ذلك»(4).

و عنه أيضا قال: «سأل رجل أبا الحسن الثالث عليه السّلام عن الصلاة في الخزّ يغشّ بوبر الأرانب ؟ فكتب يجوز ذلك»(5).

و لا يصلح لمعارضة ما مرّ، لضعف السند، و إعراض الأصحاب عن العمل بمضمونه، و موافقته العامّة فيحمل على التقيّة. قال في المعتبر: «الوجه ترجيح الروايتين الاوليين لاشتهار العمل بهما بين الأصحاب، و دعوى أكثرهم الإجماع على مضمونهما، انتهى»(6).

و يؤيّدهما المرويّ عن الاحتجاج عن محمّد بن عبد اللّه الحميري عن صاحب الزمان عليه السّلام «أنّه كتب إليه: روي لنا عن صاحب العسكر عليه السّلام أنّه سئل عن الصلاة في الخزّ الّذي يغشّ بوبر الأرانب ؟ فوقّع: يجوز» و روي عنه أيضا «أنّه لا يجوز، فبأيّ الخبرين نعمل ؟

ص: 484


1- مطالع الأنوار 153:1.
2- الخلاف 512:1.
3- الوسائل 1/361:4، ب 9 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 26/403:3.
4- الوسائل 2/362:4، ب 9 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 834/212:2.
5- الوسائل 2/362:4، ب 9 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 805/170:1.
6- المعتبر 85:2.

فأجاب عليه السّلام: إنّما حرّم في هذه الأوبار و الجلود، فأمّا الأوبار وحدها فكلّ حلال»(1).

و أمّا المغشوش بغير ما ذكر فلا ينبغي التأمّل في الجواز بل بطريق أولى بالقياس إلى الخالص حتّى في المغشوش بالإبريسم، لما سيأتي من جواز الصلاة في الحرير الممتزج بما يحلّ الصلاة فيه مطلقا و منه الخزّ. و في رواية زرارة دلالة عليه بالخصوص، قال:

«سمعت أبا جعفر عليه السّلام ينهى عن لباس الحرير للرجال و النساء إلاّ ما كان من حرير مخلوط بخزّ لحمته أو سداه خزّ أو كتان أو قطن، و إنّما يكره الحرير المحض للرجال و النسوان»(2).

ثمّ يبقى الكلام في تحقيق موضوع الخزّ ففي كلام جماعة كالمعتبر(3) و روض الجنان(4)و المسالك(5) و الروضة(6) و جامع المقاصد(7) و حاشية الشرائع(8) و غيرها(9) أنّه دابّة بحريّة ذات أربع تصاد من الماء و يموت لفقده، و هو ظاهر الشهيد في الذكرى(10) بل يظهر منه فيما تسمع كونه المشهور بين الأصحاب. و في كلام غير واحد(11) منهم أنّ ذكاتها كذكاة السمك.

و يشهد لهم في جميع ما وصفوه ما في رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة من قوله عليه السّلام: «إنّه دابّة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فتخرج فإذا فقد الماء مات... إلى أن قال: فإنّ اللّه تبارك و تعالى أحلّه و جعل ذكاته موته كما أحلّ الحيتان و جعل ذكاتها موتها». و يشهد لهم تصديق السائل إيّاه عليه السّلام فيما وصفه بقوله: «صدقت جعلت فداك هكذا هو» لكونه من أهل الخبرة بالخزّ حيث قال: «إنّه علاجي و ليس أحد أعرف به منّي».

فلا ينبغي التأمّل في هذا التفسير فتوى و نصّا إلاّ باعتبار ضعف سند الرواية و تضمّنها ما لا يقول به الأصحاب من حلّيّة هذه الدابّة الظاهرة في حلّيّة لحمها كما أشار إليه في المعتبر بقوله: «و عندي في هذه الرواية توقّف لضعف محمّد بن سليمان و مخالفتها لما اتّفقوا عليه من أنّه لا يؤكل من حيوان البحر إلاّ السمك و من السمك إلاّ ما له فلس»(12).

و لكنّ الخطب في ذلك سهل، لإمكان جبر السند باشتهار مضمونها بين الأصحاب و قوّة

ص: 485


1- الوسائل 15/366:4، ب 10 من أبواب لباس المصلّي، الاحتجاج: 492.
2- الوسائل 5/374:4، ب 13 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1524/367:2.
3- المعتبر 84:2.
4- روض الجنان 552:2.
5- المسالك 163:1.
6- الروضة البهيّة 527:1.
7- جامع المقاصد 78:2.
8- حاشية الشرائع: (مخطوط).
9- كالمدارك 167:3، و الذخيرة: 225، و التنقيح الرائع 178:1.
10- الذكرى 36:3.
11- كما في المسالك 163:1، و السرائر 102:3، حاشية المختصر: 29.
12- المعتبر 84:2.

احتمال إرادة حلّ الاستعمال في الصلاة و اللبس و غيرهما لا من جميع الجهات حتّى الأكل، كما أشار إليهما الشهيد في الذكرى عند ردّ تضعيف المعتبر بقوله:

قلت: «مضمونها مشهور بين الأصحاب فلا يضرّ ضعف الطريق، و الحكم بحلّه جاز أن يستند إلى حلّ استعماله في الصلاة و إن لم يذكّ ، كما أحلّ الحيتان بخروجها من الماء حيّة، فهو تشبيه للحلّ بالحلّ لا في جنس الحلال»(1) الخ.

أقول: و يوافقها في الدلالة على كونه حيوانا بحريّا يموت بفقد الماء صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: «سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام رجل و أنا عنده عن جلود الخزّ؟ فقال:

ليس بها بأس، فقال الرجل: جعلت فداك أنّها في بلادي و إنّما هي كلاب تخرج من الماء، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا، قال:

فلا بأس»(2) و على هذا فلا ينبغي التأمّل من جهة سند النصّ أيضا.

و لا ينافيهما المرويّ عن الكافي عن حمران بن أعين قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الخزّ؟ فقال: سبع يرعى في البرّ و يأوي الماء»(3) من حيث دلالته على أنّه يعيش في خارج الماء أيضا، لجواز التوفيق بأنّ المراد من عدم عيشه في غير الماء عدم بقائه حيّا لو انقطع عن الماء بالمرّة بحبس و نحوه، كما ربّما يومئ إليه التعبير عن عنوان هذا الوصف في النصّ و الفتوى بفقده الماء الظاهر في الانقطاع و الحبس عن الماء، و هذا لا ينافي بقاءه حيّا في الرعي في البرّ لعدم تحقّق فقده الماء بالمعنى المذكور.

و يشهد لهذا الحمل من كلام أئمّة ما في المجمع في ترجمة الخزّ من قوله: «هو بتشديد الزاء دابّة من دوابّ الماء تمشي على أربع تشبه الثعلب و ترعى من البرّ و تنزل البحر، و لها وبر يعمل منه الثياب، تعيش بالماء و لا تعيش في خارجه، و ليس على حدّ الحيتان، و ذكاتها إخراجها من الماء حيّة، قيل: و قد كانت في أوّل الإسلام إلى وسطه كثيرة جدّا» انتهى(4). و هذا يوجب مزيد قوّة للتفسير المذكور.

ص: 486


1- الذكرى 36:3.
2- الوسائل 1/362:4، ب 10 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 6، 3/451.
3- الوسائل 2/191:24، ب 39 من أبواب الأطعمة المحرّمة، التهذيب 205/49:9.
4- مجمع البحرين 18:4 مادّة (خزز).

ثمّ إنّ ظاهر الصحيحة المذكورة من جهة التقرير كونه كلب الماء بناء على كون استفصاله عليه السّلام عن تعيّشها خارجة من الماء استفصالا عن وصف الكلاب الّتي زعمها السائل خزّا لا ردّا له فيما اعتقده، ببيان أنّ الخزّ من صفته أنّه لا يعيش خارجا من الماء بخلاف الكلاب فإنّها تعيش خارجة من الماء، و عليه فيوصف عدم العيش في خارج الماء وصف توضيحي.

و يمكن كونه تنبيها على انقسام كلاب الماء إلى ما تعيش خارجا من الماء و ما لا يعيش، و الخزّ الّذي لا بأس به هو القسم الثاني و إن كان من نوع الكلب. و ربّما يومئ إلى كونه من الكلب الحكم عليه بكونه سبعا في رواية ابن أعين، بل يدلّ عليه صريحا رواية اخرى لابن أبي يعفور قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أكل لحم الخزّ؟ قال: كلب الماء إن كان له ناب فلا تقربه، و إلاّ فاقربه»(1).

و يؤيّدها ما في الذكرى عن بعض الناس من «أنّه زعم أنّه كلب الماء»(2) و لعلّه المراد من القندس فيما حكاه في المعتبر «بقوله: حدّثني جماعة من التجّار أنّه القندس»(3) و نحوه ما عن السرائر من «أنّ كثيرا من أصحابنا المسافرين يقولون: إنّه القندس، و لا يبعد هذا القول من الصواب» انتهى(4). لكن عن الشهيد في حواشي القواعد «سمعت بعض مداومي السفر يقول: إنّ الخزّ هو القندس، قال: و هو قسمان ذو إلية و ذو ذنب، فذو الإلية الخزّ و ذو الذنب الكلب»(5).

و هذا ينافي كونه كلبا إلاّ أن يجمع بأنّ كلاّ من ذي الإلية و ذي الذنب من نوع الكلب إلاّ أنّ القسم الأوّل خصّ باسم الخزّ دون الثاني.

و قد ظهر من جميع ما عرفت من الروايات و البيانات أنّ الخزّ الّتي يحلّ استعماله و لبسه يعتبر فيه - مضافا إلى كونه دابّة بحريّة - ذات أربع أوصاف ثلاث:

منها: كونه لا يعيش خارجا من الماء.

و منها: أنّه لا ناب له.

ص: 487


1- الوسائل 3/191:24، ب 39 من أبواب الأطعمة المحرّمة، التهذيب 205/49:9.
2- الذكرى 36:3.
3- المعتبر 84:2.
4- السرائر 102:3.
5- نقله عنه في كشف اللثام 191:3.

و منها: أنّه ذو إلية. و لعلّ الأخيرين غير ثابتين، لعدم الاعتداد بما يدلّ عليهما. و هل يحلّ أكل لحمه أو لا؟ فقد يتوهّم الأوّل من رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة(1) على ما عرفت، و أفتى به صاحب الحدائق(2) استنادا إلى تلك الرواية بناء على مذاقه من أنّه لا يعتبر ضعف الروايات.

و ربّما يدلّ عليه أيضا ما في روايته الاخرى من قوله عليه السّلام: «و إلاّ فاقربه» بعد السؤال عن أكل لحم الخزّ، و فيه ما عرفت عن المحقّق «من كون حلّ اللحم خلاف ما اتّفق عليه الأصحاب»(3) فالرواية الاولى مؤوّلة بحلّ ما عدى الأكل كما عرفت عن الشهيد(4) و يمكن تأويل الثانية أيضا بنحو ذلك بأن يكون المراد من قوله عليه السّلام: «فاقربه» قربه في سائر الاستعمالات ما عدى الأكل. و ربّما يحتمل ذلك التقيّة كما يشعر بها تغيير الاسلوب في الجواب، حيث سأل الراوي عن الأكل و أجاب عليه السّلام بالقرب ليصبح إرادة خلاف الظاهر و يحصل به مصلحة التقيّة.

و ممّا يرشد إليها أيضا رواية زكريّا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام فقلت: إنّ أصحابنا يصطادون الخزّ فآكل من لحمه ؟ قال: فقال: إن كان له ناب فلا تأكله، قال: ثمّ مكث ساعة فلمّا هممت بالقيام، قال: أمّا أنت فإنّي أكره لك أكله، فلا تأكله»(5) فإنّ في سكوته عليه السّلام آية وجود موجب التقيّة في المجلس، و منعه بعد ساعة السكوت لعلّه لارتفاع موجبها، و إنّما تعرّض له ردّا للسائل عمّا لعلّه فهم من مفهوم الشرطيّة المتقدّمة.

و هل هذا الحيوان من ذوات النفس أو لا؟ و لم يظهر من النصّ و الفتوى كونه ذا نفس إلاّ على تقدير كونه كلبا بناء على ما ذكره الشهيد في الذكرى «من أنّ الظاهر أنّه حينئذ ذو نفس سائلة»(6) و على تقديره جاز كون ذكاته الخروج من الماء كما في النصّ و الفتوى، إلاّ أنّ الشهيد استشكل فيها بدون الذبح، و لعلّه في غير محلّه، لجواز كون ذكاة بعض ما له سائلة غير الذبح اتّباعا للدليل، و إن احتمل كون بناء الدليل على عدم كونه كلبا أو عدم كون كلب الماء ذا نفس سائلة.

ص: 488


1- تقدّم في الصفحة 482 الرقم 1.
2- الحدائق 67:7.
3- المعتبر 84:2.
4- تقدّم في الصفحة 485 الرقم 1.
5- الوسائل 1/191:24، ب 39 من أبواب الأطعمة المحرّمة، التهذيب 207/50:9.
6- الذكرى 36:3.

ثمّ إنّه ربّما يشكل الحال في جريان حكم الخزّ في الخزّ الموجود في أمثال زماننا، إذا لم يظهر كونه هو الخزّ الموجود في زمان صدور الحكم المفسّر في الفتاوي و النصوص بما عرفت، لكنّ الأمر فيه هيّن لاندفاع الإشكال بالحكم على هذا الخزّ الموجود هنا بكونه الخزّ الموجود ثمّة بضميمة أصالة عدم النقل، و هذا أصل معوّل عليه مجمع على العمل به في نظائر المقام، فلا يلتفت إلى ما استشكله المجلسي في كلام محكيّ له عن البحار.

قائلا - بعد كلام في المقام: «إذا عرفت هذا - فاعلم أنّ جواز الصلاة في الجلد المشهور في هذا الزمان بالخزّ و شعره و وبره إشكالا، للشكّ في أنّه هل هو الخزّ المحكوم عليه بالجواز في عصر الأئمّة عليهم السّلام أم لا؟ بل الظاهر أنّه غيره لأنّه يظهر من الأخبار أنّه مثل السمك يموت بخروجه من الماء و ذكاته إخراجه، و المعروف بين التجّار أنّ الخزّ المعروف الآن دابّة تعيش في البرّ، و لا تموت بالخروج من الماء، إلاّ أن يقال: إنّهما صنفان برّي و بحري و كلاهما يجوز الصلاة فيهما، و هو بعيد. و يشكل التمسّك بعدم النقل و اتّصال العرف من زماننا إلى زمانهم عليهم السّلام و القدح في الأخبار بالضعف إذ اتّصال العرف غير معلوم إذ وقع الخلاف في حقيقته في أعصار علمائنا السالفين أيضا، و كون الأصل عدم النقل في مثل ذلك حجّة في محلّ المنع فالاحتياط في عدم الصلاة فيه» انتهى(1). و استجوده في الحدائق(2) و عن الفاضل الاسترابادي(3) موافقته.

و فيه: أنّه لم يظهر ممّا حكاه عن تجّار زمانه ما ينافي ما يظهر من الأخبار في شرح الخزّ، إذ لم يظهر منها أنّه يموت بمجرّد خروجه من الماء كالسمك، بل الّذي ظهر منها كما عرفت أنّه لا يعيش خارج الماء إذا فقده و يموت بحبسه من الماء و عدم رجوعه إليه، و ما نقله عن التجّار لا يقتضي أزيد من ذلك كما هو واضح للمتأمّل، فلا ينبغي الاسترابة في أصالة عدم النقل، إذ لم يعلم كون الموجود في هذه الأزمنة يغاير المعهود في الأزمنة السالفة و أعصار الأئمّة. و لا يعتبر في مجراها العلم بالاتّحاد إذ العلم به على تقدير اتّفاقه يغني عن التشبّث بها، ضرورة أنّه أصل اخذ في موضوعه الشكّ ، و الظنّ هنا في حكم الشكّ ، و لا يقدح الظنّ بعدم الاتّحاد على فرض اتّفاقه فليتدبّر.

و ثانيها: جلد السنجاب و وبره، و قد اختلف الأصحاب في جواز الصلاة فيه و عدمه على

ص: 489


1- البحار 220:80.
2- الحدائق 66:7.
3- نقله عنه في الجواهر 149:8.

قولين، فعن الشيخ في المبسوط(1) و صلاة النهاية(2) و أكثر المتأخّرين كالمحقّق في كتبه(3)و العلاّمة في جملة كتبه(4) و الشهيدين(5) و غيرهما(6) الجواز، و عن المنتهى(7) نسبته إلى الأكثر، و في الذخيرة(8) إلى المشهور بين المتأخّرين، و في الرياض «نسبته إلى عامّتهم عدى الفاضل في التحرير(9) و القواعد(10) و فخر الدين في شرحه(11) و الصيمري(12) لظهور كلامهم في التردّد، لاقتصارهم على نقل القولين من دون ترجيح»(13) و عن المبسوط «نفي الخلاف عن جواز الصلاة فيه و في الحواصل»(14) و عزي إلى الصدوق في المقنع(15) بل عنه في الأمالي «أنّ من دين الإماميّة الرخصة فيه و الفنك و السمور»(16).

خلافا للشيخ في الخلاف(17) و كتاب أطعمة النهاية(18) و ابني البرّاج(19) و إدريس(20)فمنعوه و عزي إلى ظاهر ابن الجنيد(21) و المرتضى(22) و أبي الصلاح(23) و عن العلاّمة في المختلف(24) اختياره، و عن الشهيدين في الذكرى(25) و روض الجنان(26) نسبته إلى الأكثر، إلاّ أنّ الأوّل إلى ظاهرهم، و عن ظاهر الغنية(27) الإجماع عليه، و عن ابن حمزة(28) المصير إلى الكراهة، و احتملها عبارة والد الصدوق و إن كانت ظاهرة في المنع على ما نقل حكايتها عن الفقيه قائلا: «و قال أبي في رسالته إليّ : لا بأس بالصلاة في شعر و وبر كلّ ما اكل لحمه و إن كان عليك من سنجاب أو سمور أو فنك و أردت الصلاة فيه فانزعه، و قد روي فيه رخص» انتهى(29).

ص: 490


1- المبسوط 82:1-83.
2- النهاية: 97.
3- الشرائع 97:1، و المختصر النافع: 24، و المعتبر 85:2-86.
4- المنتهى 218:4، إرشاد الأذهان 246:1.
5- الذكرى 38:3، الدروس 150:1، اللمعة: 29.
6- جامع المقاصد 79:2، التنقيح الرائع 179:1، الكفاية: 16، و الوسيلة: 367.
7- المنتهى 218:4.
8- الذخيرة: 226.
9- التحرير 195:1.
10- القواعد 255:1.
11- إيضاح الفوائد 83:1.
12- غاية المرام 132:1.
13- الرياض 314:2.
14- المبسوط 82:1-83.
15- المقنع: 79.
16- أمالي الصدوق: 513، المجلس الثالث و التسعون.
17- الخلاف 511:1.
18- النهاية: 586-587.
19- المهذّب 74:1.
20- السرائر 262:1.
21- نقله عنه في المختلف 75:2.
22- جمل العلم و العمل (رسائل الشريف المرتضى 3):28.
23- الكافي في الفقه: 140.
24- المختلف 76:2.
25- الذكرى 37:3.
26- روض الجنان 553:2.
27- الغنية: 66.
28- الوسيلة: 87.
29- الفقيه 262:1 ذيل 805.

حجّة القول الأوّل بعد الأصل روايات مستفيضة:

كصحيحة أبي عليّ بن راشد قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: ما تقول في الفراء أيّ شيء يصلّى فيه ؟ فقال: أيّ الفراء؟ قلت: الفنك و السنجاب و السمور، قال: فصلّ في الفنك و السنجاب، و أمّا السمور فلا تصلّ فيه، قلت: فالثعالب يصلّى فيها؟ قال: لا و لكن تلبس بعد الصلاة، قلت: اصلّي في الثوب الّذي يليه، قال: لا»(1).

و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الفراء و السمور و السنجاب و الثعالب و أشباهه ؟ قال: لا بأس بالصلاة فيه»(2).

و رواية بشر بن بشّار قال: «سألته عن الصلاة في الفنك و الفراء و السنجاب و السمور و الحواصل الّتي تصاد ببلاد الترك أو بلاد الإسلام أن اصلّي فيه لغير تقيّة ؟ قال: فقال: صلّ في السنجاب و الحواصل الخوارزميّة، و لا تصلّ في الثعالب و لا السمّور»(3).

و رواية مقاتل بن مقاتل قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الصلاة في السمور و السنجاب و الثعالب ؟ فقال لي: لا خير في ذا كلّه ما خلا السنجاب، فإنّه دابّة لا تأكل اللحم»(4).

و رواية عليّ بن أبي حمزة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام و أبا الحسن عليه السّلام عن لباس الفراء و الصلاة فيها؟ فقال: لا تصلّ فيها إلاّ فيما كان منه ذكيّا... إلى أن قال: لا بأس بالسنجاب فإنّه دابّة لا تأكل اللحم، و ليس هو ممّا نهى عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ نهى عن كلّ ذي ناب و مخلب»(5) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع من الروايات الضعيفة.

و لا ينبغي التأمّل في الصحيحتين من حيث تضمّن الاولى حلّ الصلاة في الفنك، و القائل به من أصحابنا غير معلوم على ما في كلام غير واحد، و الأولى على ما ستعرفه أن يقال: إنّ القائل به شاذّ. و تضمّن الثانية لجوازها في الثعالب و القائل به من أصحابنا شاذّ، لأنّ غايته أن لا يعمل بهما فيهما و لا تخرجان عن الحجّيّة بالقياس إلى السنجاب كما قرّر في محلّه، و عليه طريقة أهل الاستدلال تنظيرا له على العامّ المخصّص الّذي خروجه عن الحجّيّة

ص: 491


1- الوسائل 5/349:4، ب 3 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 822/210:2.
2- الوسائل 2/350:4، ب 4 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 825/210:2.
3- الوسائل 2/348:4، ب 3 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 823/210:2.
4- الوسائل 2/348:4، ب 3 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 16/401:3.
5- الوسائل 3/348:4، ب 3 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 797/203:2.

بالإضافة إلى بعض الأفراد بواسطة التخصيص لا يقدح في حجّيّته بالقياس إلى الباقي.

حجّة القول الثاني: العمومات المانعة عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه، و موثّقة ابن بكير المتقدّمة قال: «سأل زرارة أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في الثعالب و الفنك و السنجاب و غيره من الوبر؟ فأخرج كتابا و زعم أنّه إملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كلّ شيء منه فاسد... الخ»(1).

و الجواب عن الأوّل: بأنّه إن وجد في الأخبار المانعة عامّ يشمل ما نحن فيه غير ما نحن فيه فهو قابل للتخصيص، فيخصّص بما عداه بواسطة الأخبار المستفيضة المتقدّمة المجوّزة الّتي فيها الصحاح المعتضدة بغيرها من الضعاف.

و أجاب المحقّق في المعتبر عن الثاني «بأنّ خبر أبي عليّ بن راشد خاصّ و الخاصّ مقدّم على العامّ »(2) و مرجعه إلى «أنّ كلّ شيء حرام أكله» في الموثّقة عامّ قابل للتخصيص، فيخصّصه صحيحة ابن راشد لكونه خاصّا.

و ردّه الشهيد في الذكرى بقوله: «يدفع عمومه و يجعله خاصّا معارضا في صدره» انتهى(3). و توضيحه: أنّ السائل في صدر الرواية سئل عن السنجاب، و العامّ الوارد في الجواب بالنسبة إليه نصّ ، لإفادته القطع بدخوله في العموم المراد منه، فيكون كالخاصّ في النصوصيّة فلا يسوغ تخصيصه بخاصّ آخر لإفضائه إلى التناقض، و هذا هو معنى قولهم لا يجوز تخصيص العامّ بالمورد، و علّلوه بكون العامّ بالقياس إلى المورد نصّا و النصّ ممّا لا يقبل التخصيص، و تبعه في هذا الردّ غير واحد(4).

و دفعه الفاضل النراقي في مستنده «بأنّ دعوى جماعة(5) صراحة الموثّقة في المنع عن السنجاب - لابتناء الجواب العامّ فيها عليه لسبق السؤال الّذي يصيّره كالنصّ في المسئول عنه - غير صحيحة، كما صرّح به طائفة، منهم والدي رحمه اللّه لإمكان تخصيص السنجاب في الجواب بأن يقال: كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره مثلا حرام إلاّ السنجاب الّذي سألت عنه، و حيث جاز التخصيص متّصلا جاز منفصلا لعدم الفرق، و جريان أدلّة حمل

ص: 492


1- الوسائل 1/345:4، ب 2 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 818/209:2.
2- المعتبر 86:2.
3- الذكرى 38:3.
4- كما في المدارك 171:3.
5- كما في المدارك 171:3، و الذخيرة: 226، و الحدائق 69:7.

العامّ على الخاصّ »(1).

أقول: الفرق بين صورتي اتّصال المخصّص و انفصاله واضح، فإنّ المتكلّم ما دام متشاغلا بالكلام لا دلالة للفظه على مراده على وجه يحصل التصديق به للسامع لا على طريق النصوصيّة و لا على طريق الظهور، لجواز أن يأتي في آخر كلامه بما يصرفه عن ظاهره، فإذا فرغ و لم يأت به تمّت دلالته التصديقيّة نصوصيّة أو ظهورا.

و حينئذ فلو قال عقيب السؤال عن السنجاب «كلّ حيوان لا يؤكل لحمه لا يجوز الصلاة في أجزائه إلاّ السنجاب» لم يكن به بأس، بل نحو هذا الاستثناء صحيح و فصيح في غاية الفصاحة لعدم تماميّة دلالة العامّ على المورد بنحو النصوصيّة قبل الاستثناء لئلاّ يصحّ إخراجه به، بخلاف صورة انفصال المخصّص فإنّ العامّ بعد فراغ المتكلّم عن الكلام دلّ على دخول المورد في المراد بطريق النصوصيّة، فلا يصحّ تخصيصه بالمنفصل على وجه أوجب القطع للسامع بعدم دخوله في المراد، ضرورة استحالة التناقض.

نعم يمكن الفرق حينئذ بين ما لو كان المورد أمرا واحدا أو امورا متعدّدة كما في الموثّقة، و يقال بجواز التخصيص ببعض هذه الامور كالسنجاب، و وجهه منع نصوصيّة العامّ بالنسبة إلى جميع الامور المتعدّدة بل إنّما يسلّم نصوصيّته في الجملة، فلا مخرج لإخراج بعضها لكونه إخراجا عن الظاهر لا عن النصّ ، فليتأمّل فإنّه دقيق.

قد يجاب عن الاستدلال - على تقدير تسليم نصوصيّة العامّ في المورد المانعة عن إخراج المورد عنه - بالتخصيص، فيكونان خاصّين تعارضا فلا بدّ من الترجيح، و هو مع أدلّة الجواز لأكثريّة العدد و أصحيّة السند و موافقة الأصل الّذي عليه المعوّل. و عندي أنّه خلاف التحقيق، إذ مرجع الترجيح في الأخبار المتعارضة إلى الأخذ و الطرح، و لا ريب أنّ الطرح يتعلّق بالسند و الدلالة تابعة له، و طرح السند في الموثّقة مع فرض العمل بها في سائر ما لا يؤكل لحمه محال، و تبعّضه على الدلالة بطرحه بالنسبة إلى بعضها و الأخذ به في الباقي غير معقول، و إرجاعه إلى الدلالة فقط ممّا لا محصّل له إلاّ التخصيص فعاد الإشكال، فالوجه هو عدم الالتزام بالإشكال بمنع النصوصيّة المانعة عن التخصيص.

و توهّم لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة، يندفع كون كلّ مقام السؤال وقت الحاجة

ص: 493


1- المستند 330:4.

إلى العمل، بل ربّما كان السؤال لغرض تعلّم الحكم ليعمل بموجبه في وقت الحاجة، فلا مانع من تأخير حينئذ إلى مجيء زمان الحاجة، فمن الجائز صدور الأخبار الخاصّة عند وقت الحاجة أو قبل مجيئه، فتأمّل.

و بجميع ما بيّنّاه ظهر أنّ الأقوى هو القول بالجواز لكنّ الاحتياط في الاجتناب حال الصلاة خروجا عن شبهة الخلاف، و لا يبعد القول بالكراهة تسامحا في أدلّة السنن بالنظر إلى فتوى الفقيه(1) كما عرفت عن ابن حمزة(2) مضافا إلى الرضوي(3) النافي لجوازه تارة و الآمر بنزعه اخرى حيث قال: «و لا يجوز الصلاة في سنجاب و سمور و فنك، فإذا أردت الصلاة فانزع عنك»(4).

و المرويّ عن العلل «و علّة أن لا يصلّى في السنجاب و السمّور و الفنك قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(5).

و رواية أبي حمزة «عن أكل لحم السنجاب و الفنك و الصلاة فيهما، فقال أبو خالد: إنّ السنجاب يأوي الأشجار، قال: فقال: إن كان له سبلة كسبلة السنّور و الفار فلا يؤكل لحمه، و لا يجوز الصلاة فيه، ثمّ قال: أمّا أنا فلا آكله و لا احرّمه»(6).

و أمّا موضوع السنجاب فلم أقف على من شرحه إلاّ صاحب المجمع، فقال: هو - على ما فسّر - حيوان على حدّ اليربوع أكبر من الفارة، شعره في غاية النعومة يتّخذ من جلده الفراء يلبسه المتنعّمون، و هو شديد الختل إن أبصر الإنسان صعد الشجرة العالية و هو كثير في بلاد الصقالبة و الترك و أحسن جلوده الأزرق الأملس»(7).

و ثالثها مع رابعها: السمور و الفنك، استثناهما الصدوق في المجالس و المقنع و الأمالي على ما هو صريح عباراته المحكيّة عن هذه الكتب، ففي محكيّ الأوّل: «و لا بأس بالصلاة في شعر و وبر كلّ ما اكل لحمه، و ما لا يؤكل لحمه فلا يجوز الصلاة في شعره و وبره إلاّ ما رخّصه الرخصة، و هي الصلاة في السنجاب و الفنك و الخزّ، و الأولى أن لا يصلّي فيها بل من صلّى فيها جازت صلاته»(8).

و في محكيّ الثاني: «لا بأس بالصلاة في السنجاب و السمور و الفنك، لما روي في ذلك

ص: 494


1- الفقيه 262:1.
2- الوسيلة: 87.
3- فقه الرضا عليه السّلام: 157.
4- فقه الرضا عليه السّلام: 16.
5- علل الشرائع 31:2.
6- الوسائل 1/192:24، ب 41 من أبواب الأطعمة المحرّمة، التهذيب 206/50:9.
7- مجمع البحرين 433:2 (س ن ج ب)
8- الأمالي: 643 /المجلس 93.

من الرخص»(1).

و في محكيّ الثالث: «ما لا يؤكل لحمه فلا يجوز الصلاة في شعره و وبره إلاّ ما رخّصه الرخصة، و هي الصلاة في السنجاب و السمور و الفنك و الخزّ، و الأولى أن لا يصلّي فيها و من صلّى فيها جازت صلاته، و أمّا الثعالب فلا رخصة فيها إلاّ في حال التقية»(2).

و يظهر من المحقّق في المعتبر الميل إليه حيث - إنّه - بعد ما ذكر صحيحة الحلبي(3)المتقدّمة و صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن عليه السّلام في السمور و الفنك و الثعالب و جميع الجلود قال: لا بأس بذلك(4) - قال: لو عمل بهما عامل جاز و إن كان الاحتياط للعبادة المنع»(5).

و لم نقف في أصحابنا على قائل به غيرهما، و لذا أسند القول بالمنع في الذكرى إلى الأشهر في الروايات و الفتاوي(6) و هو الأقوى، لعموم روايات المنع، و ندرة القائل بالجواز، و الروايتان موهونتان بمخالفتهما لعمل المعظم فلا تعويل عليهما لأجل ذا، مع احتمالهما التقيّة بل جزم في الذكرى صراحتهما فيها قائلا: هذان الخبران مصرّحان بالتقيّة لقوله في الاولى: «و أشباهها» و في الثاني: «و جميع الجلود» و هذا العموم لا يقول به الأصحاب(7).

و ربّما يشهد بها المرويّ عن مستطرفات السرائر عن كتاب مسائل الرجال لمولانا الهادي عليه السّلام لمحمّد بن عليّ بن عيسى من طريق أحمد بن محمّد بن عبّاس الجوهري و عبد اللّه بن جعفر الحميري عن أحمد بن محمّد بن زياد و موسى بن محمّد عن محمّد بن عيسى قال: «كتبت إلى الشيخ - أعزّه اللّه و أيّده - أسأله عن الصلاة في الوبر أيّ أصنافه أصلح ؟ فأجاب: لا احبّ الصلاة في شيء منه، قال: فرددت الجواب، إنّا مع قوم في تقيّة و بلادنا بلاد لا يمكن لأحد أن يسافر فيها بلا وبر و لا يأمن على نفسه إن هو نزع وبره و ليس يمكن الناس كلّهم ما يمكن الأئمّة و الّذي ترى أن نعمل به في هذا الباب ؟ قال:

فرجع إليّ الجواب، تلبس الفنك و السمور»(8).

فصدور الجواب بالرخصة بعد السؤال عن التقيّة آية وروده لها، و ربّما احتمل كونها

ص: 495


1- المقنع: 24.
2- الأمالي الصدوق: 513 المجلس 93.
3- الوسائل 2/350:4، ب 4 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 825/210:2.
4- الوسائل 1/352:4، ب 5 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 826/211:2.
5- المعتبر 87:2.
6- الذكرى 38:3.
7- الذكرى 38:3.
8- الوسائل 3/351:4، ب 4 من أبواب لباس المصلّي، السرائر 583:3 (المستطرفات).

للضرورة أولهما معا، و أيّا كان فظاهرها انتفاؤها حيث انتفى الأمران إلاّ أن يستظهر كون المنع المستفاد منها للتنزيه من قوله في الجواب الأوّل «لا احبّ » لظهوره في الكراهة فتدبّر.

و أمّا موضوع السمّور فهو كتنّور و هو على ما ذكره في المجمع «دابّة معروفة يتّخذ من جلدها فراء مثمنة تكون ببلاد الترك تشبه النمر و منه أسود لامع و أشقر، حكى البعض أنّ أهل تلك الناحية يصيدون الصغار فيخصون الذكر و يتركونه يرعى، فإذا كان أيّام الثلج خرجوا للصيد فمن كان خصيّا استلقى على قفاه فأدركوه و قد سمن و حسن شعره»(1).

و عن الشهيد الثاني في حاشية المسالك «إنّه حيوان يشبه السنّور»(2) و عن المصباح المنير «حيوان ببلاد الروس و يشبه النمس و منه أسود لامع و أشقر»(3) و عن التحفة «حيوان يشبه الدلق و أسود منه»(4).

و النمس بالكسر «دويبة بمصر تقتل الثعبان»(4) «و الدلق ما يسمّى بالفارسيّة بدله»(6)و الفنك بالفتح - على ما عن المصباح المنير - «نوع من الثعلب الرومي»(5) و عن القاموس «دابّة فروتها أطيب أنواع الفراء»(6) و عن التحفة «أنّ جلده يكون أبيض و أشقر و أبلق، و حيوانه أكبر من السنجاب و يؤخذ من بلاد الروس و الترك»(9) و في المجمع «دويبة برّيّة غير مأكولة اللحم يؤخذ منها الفرو، و يقال: إنّ فروها أطيب من جميع أنواع الفراء، يجلب كثيرا من بلاد الصقالبة، و هو أبرد من السمور و أعدل من السنجاب، صالح لجميع الأمزجة المعتدلة، و يقال إنّه من جراء الثعلب الرومي»(7).

و خامسها: الحواصل جمع حوصل، و هو - على ما في المجمع - طير كبير له حوصلة عظيمة يتّخذ منه الفرو، و قيل: «هذا الطائر يكون بمصر كثيرا، و هو صنفان أسود و أبيض، و هو كريهة الرائحة لا يكاد يستعمل، و الأبيض أجوده، و حرارته قليلة و رطوبته كثيرة، و هو قليل البقاء»(8) و في جواز الصلاة فيها و عدمه، قولان: صريح الذكرى(9) كظاهر الأكثر

ص: 496


1- مجمع البحرين 416:2 (سمر).
2- نقله عنه في المستند 332:4.
3- المصباح المنير: 288. (4و6و9) لم نعثر عليه.
4- القاموس المحيط 266:2.
5- المصباح المنير: 481.
6- القاموس المحيط 327:3.
7- مجمع البحرين 431:3. (فنك)
8- مجمع البحرين 524:1 (حصل).
9- الذكرى 37:3.

المنع. و قيل بالجواز كما عن المراسم(1) و النهاية(2) و الإصباح(3) و الجامع(4) و نفي الخلاف عنه في المبسوط(5) كما عرفت في السنجاب.

و دليله عموم موثّقة ابن بكير(6). و دليل الجواز روايات: كرواية ريّان بن الصلت قال:

«سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن لبس فراء السمور و السنجاب و الحواصل و ما أشبهها...

إلى أن قال: لا بأس بهذا كلّه إلاّ الثعالب»(7).

و رواية بشر بن بشّار(8) المتقدّمة، لكن فيها تقييد الحواصل بالخوارزميّة.

و التوقيع «و إن لم يكن لك ما يصلّى فيه فالحواصل جائز لك أن تصلّي فيه»(9)و الشرطيّة محمولة على الكراهة بناء على أنّه لو لم يجز الصلاة فيه لم يجز مع عدم الساتر أيضا. و المسألة محلّ إشكال و الرجوع إلى الأصل غير بعيد، و حسن الاحتياط مهما أمكن غير خفيّ .

[النوع الرابع: للحرير أحكام أربع: الحكم الأوّل: عدم جواز الصلاة و بطلانها به سواء كان هو الساتر أو لا]

النوع الرابع: ما يكون حريرا محضا للرجال، و اعلم أنّه لا يجوز الصلاة للرجال في الحرير المحض، بل يحرم عليهم لبسه مطلقا حتّى في غير حال الصلاة، إلاّ في حال الحرب لضرورة فيجوز لبسه حتّى في حال الصلاة. و يجوز للنساء مطلقا.

فهاهنا أحكام أربع:

الحكم الأوّل: عدم جواز الصلاة و بطلانها به سواء كان هو الساتر أو لا، و عليه إجماع علمائنا كما نصّ عليه جماعة منهم المحقّق فقال - بعد ما ادّعى اتّفاق علمائنا عليه -:

و وافقنا بعض الحنابلة إذا كان ساترا للعورة، و أطبق الباقون على صحّتها(10).

و الأصل فيه بعد الإجماع النصوص المستفيضة:

ففي صحيحة إسماعيل بن سعد الأحوص قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام... إلى أن

ص: 497


1- المراسم: 64.
2- النهاية: 97.
3- الإصباح (سلسلة الينابيع الفقهيّة) 612:4.
4- الجامع للشرائع: 66.
5- المبسوط 83:1.
6- الوسائل 1/345:4، ب 2 من أبواب لباس المصلّي.
7- الوسائل 2/352:4، ب 5 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1533/369:2.
8- الوسائل 4/348:4، ب 3، من أبواب لباس المصلّي.
9- مستدرك الوسائل 1/197:3، ب 3 من أبواب لباس المصلّي، الخرائج و الجرائح 18/702:2.
10- المعتبر 87:2.

قال: و سألته هل يصلّي الرجل في ثوب ابريسم ؟ فقال: لا»(1).

و صحيحة محمّد بن عبد الجبّار قال: «كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام أسأله هل يصلّي في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج ؟ فكتب: لا تحلّ الصلاة في حرير محض»(2).

و صحيحته الاخرى «هل اصلّي في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكّة حرير أو تكّة من وبر الأرانب ؟ فكتب: لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض»(3).

و صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري قال: «سألته عن الثوب الأبريسم هل يصلّي فيه الرجال ؟ قال: لا»(4).

و في المدارك: أمّا البطلان فهو على تقدير كونه ساترا للعورة ظاهر، لاستحالة اجتماع الواجب و الحرام في الشيء الواحد، و أمّا إذا كانت العورة مستورة بغيره فللنهي عن الصلاة فيه و هو يقتضي الفساد. أمّا الثانية فلاستحالة كون الفعل الواحد مأمورا به و منهيّا عنه، فمتى كان منهيّا عنه لا يكون مأمورا به و هو معنى الفساد. و أمّا الاولى فلقوله - في صحيحة محمّد بن عبد الجبّار: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض»(5).

و من الأجلّة من اعترض على تعليله الفساد على تقدير كونه ساترا للعورة «بأنّ ستر العورة من شرائط الصلاة و النهي عن الشرط إنّما يقتضي بطلان المشروط إذا كان عبادة كالطهارة إذ حينئذ يلزم بطلان الشرط فيلزم بطلان المشروط، و أمّا إذا لم يكن كذلك فلا يلزم البطلان في الشرط و المشروط كإزالة النجاسة بالماء المغصوب أو بالآلة الغصبيّة»(6).

و محصّله أنّ ستر العورة في الصلاة واجب توصّلي و هو يجتمع مع الحرام، و معنى اجتماعه مع الحرام أنّ الحرام يوجب سقوط الواجب منه و هو ما كان بغير الحرير عن الذمّة لحصول الغرض و هو أصل الستر، و الأولى أن يقال: إنّ عدم كون الستر مأمورا به بواسطة الحرمة لا يستلزم انتفاء الشرط، فإنّ الشرط في الحقيقة هو تستّر العورة لا الستر، و الفرق بينهما واضح. كما أنّ الشرط في مثال إزالة النجاسة هو الطهارة لا الإزالة، و كون الإزالة محرّمة لا ينافي حصول الطهارة بسببها.

ص: 498


1- الوسائل 1/367:4، ب 11 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 801/205:2.
2- الوسائل 2/368:4، ب 11 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 812/207:2.
3- الوسائل 4/377:4، ب 14 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 810/207:2.
4- التهذيب 813/207:2.
5- المدارك 174:3.
6- مطالع الأنوار 156:1.

و التحقيق أنّ البطلان إنّما هو باعتبار انفهام مانعيّة الحرير عن صحّة الصلاة من النهي عن الصلاة فيه، لما تقرّر في محلّه من أنّ الأوامر و النواهي المتعلّقة بالعبادات و المعاملات لأمر خاصّ في متفاهم العرف باعتبار قرينة المقام إرشاديّة، فالأمر إرشاد إلى الجزئيّة أو الشرطيّة، و النهي إرشاد إلى المانعيّة، و هي توجب تخصيص مقتضى الصحّة بما خلى عن المانع، و هو كون اللباس حريرا ساترا للعورة كان أو غيره.

الحكم الثاني: حرمة لبسه للرجال مطلقا، و هو من إجماعيّات علماء الإسلام محصّله و منقوله، ففي المعتبر(1) و الذكرى(2) عليه علماء الإسلام، و في التذكرة(3) بإجماع علماء الإسلام، و في المنتهى(4) ذهب إليه علماء الإسلام. و مع ذلك فروايات الفريقين عليه متطابقة.

فمن طريق العامّة ما رواه [البخاري و] أبو داود و الترمذي باسناده عن عمر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تلبسوا الحرير، فإنّ من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة»(5)و ما رواه أبو موسى قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «حرّم لباس الحرير و الذهب على ذكور امّتي و احلّ لاناثهم»(6) و ما رواه حذيفة قال: «نهانا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن نشرب في آنية الذهب و الفضّة و أن نأكل منها، و أن نلبس الحرير و الديباج و أن نجلس عليه»(7).

و من طريق أصحابنا ما رواه الصدوق في الفقيه باسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعليّ عليه السّلام: إنّي احبّ لك ما احبّ لنفسي، و أكره لك ما أكره لنفسي فلا تتختّم بخاتم ذهب، فإنّه زينتك في الآخرة... إلى أن قال: و لا تلبس الحرير فيحرق اللّه جلدك يوم تلقاه»(8) و فيه أيضا أنّه «لم يطلق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لبس الحرير لأحد من الرجال إلاّ لعبد الرحمن بن عوف، و ذلك لأنّه كان رجلا قمّلا(9) و يستفاد ذلك من مفهوم أخبار استثناء الحرب كما تسمعها.

الحكم الثالث: جواز لبسه في الحرب و في حال الضرورة، أمّا في الحرب ففي المعتبر(10)

ص: 499


1- المعتبر 87:2.
2- الذكرى 40:3.
3- التذكرة 470:2.
4- المنتهى 219:4.
5- صحيح البخاري 194:7.
6- سنن أبي داود 4057/50:4، سنن الترمذي 1720/217:4.
7- صحيح البخاري 193:7.
8- الوسائل 5/368:4، ب 11 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 82:1.
9- الوسائل 4/369:4، ب 12 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 82:1.
10- المعتبر 88:2.

أنّه اتّفاق علمائنا، و في الذكرى(1) باتّفاق علمائنا، و عزي(2) دعوى الاتّفاق إلى جماعة أيضا.

و النصوص به مع ذلك متكاثرة، ففي موثّقة سماعة بن مهران قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن لباس الحرير و الديباج ؟ فقال: أمّا في الحرب فلا بأس به، و إن كان فيه تماثيل»(3).

و مرسلة ابن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يلبس الرجل الحرير و الديباج إلاّ في الحرب»(4). و رواية إسماعيل بن الفضل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يصلح للرجل أن يلبس الحرير إلاّ في الحرب»(5).

و قضيّة إطلاق النصّ و الفتوى عدم الفرق فيه بين الضرورة كالبرودة الشديد و نحوها و حال الاختيار، بل هو صريح المنتهى(6) و هل يختصّ الجواز بالحرب في سبيل اللّه كما جزم به بعض الأجلّة(7) و نسب إلى كاشف اللثام(8) أو يعمّه و ما جاز منه لدفع ضرر عن النفس أو المال أو غيرهما كما جزم به بعض مشايخنا(9) أو يعمّهما و كلّ حرب باطل من معركة الامراء و غيرها كما هو قضيّة إطلاق الفتاوي في بادئ النظر؟

لكن ينبغي القطع بانصرافها كإطلاق النصوص إلى كلّ حرب مشروع و عدم تناولهما للحروب المحرّمة، و دعوى انصرافهما إلى الحرب في سبيل اللّه غير بعيدة، و لكنّه ليس في مرتبة الظهور الّذي يطمئنّ به النفس، فالوجه حينئذ ما عليه بعض مشايخنا عملا بإطلاق الروايات.

و هل يجوز للمحارب أن يصلّي فيه أو لا؟ و لا ينبغي الإشكال في الجواز مع الضرورة الّتي منها مشقّة النزع بحيث لا يتحمّل عادة، و أمّا مع عدمها فينبغي القطع بعدم الجواز، عملا بإطلاق الأدلّة المانعة من الصلاة فيه و اختصاص الروايات المرخّصة فيه بحالة الحرب و عدم تناولها غيرها. فالقدر المتيقّن ممّا خرج من عموم المنع هو هذه الحالة.

ص: 500


1- الذكرى 45:3.
2- الجواهر 190:8.
3- الوسائل 3/372:4، ب 12 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 806/208:2.
4- الوسائل 2/372:4، ب 12 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 1/453:6.
5- الوسائل 1/371:4، ب 12 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 4/453:6.
6- المنتهى 222:4.
7- مطالع الأنوار 157:1.
8- كشف اللثام 219:3.
9- الجواهر 191:8.

و قد يتوهّم تعارض العموم من وجه بين أخبار الرخصة في الحرب و أخبار المنع من الصلاة فيه فيراعى التراجيح. و فيه منع واضح، نعم ينبغي القطع بالجواز في الصلاة حال الحرب، لإطلاق الروايات المرخّصة فيه و عدم تناول إطلاق روايات منع الصلاة فيه لنحو هذه الصلاة لندرتها فلا تعارض أيضا.

و من طريق الاستدلال على منع الصلاة في غير حال الحرب يظهر أنّ الوجه في غير حال التشاغل بالحرب و غير حال الصلاة هو وجوب النزع مع عدم مشقّة لا تتحمّل عادة، اقتصارا فيما خالف عمومات الحرمة على القدر المتيقّن ممّا خرج منها.

و أمّا في حال الضرورة فقد ادّعى عليه في المعتبر اتّفاق علمائنا(1) و في الذخيرة نقل عليه الإجماع جماعة كثيرة(2) و في الذكرى: يجوز لبسه مع الضرورة إجماعا، كالبرد الشديد المانع من نزعه أو الحرّ مع عدم غيره و كدفع القمّل، و في صحيح مسلم عن أنس «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رخّص لعبد الرحمن بن عوف و الزبير بن العوام في القميص الحرير في السفر من حكّة كانت بهما أو وجع كان فيهما»(3) و في رواية عنه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «و لم يذكر السفر»(4) و في رواية اخرى عنه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أنّهما شكيا القمّل، فرخّص لهما في قميص الحرير في غزاة لهما»(5) و الظاهر تعدّي هذه الرخصة، لأنّ مناطها الضرورة، انتهى»(6).

أقول: و الظاهر أنّ المراد بالضرورة ما يقابل الاختيار و هو ما يتضرّر المكلّف بترك لبسه ضررا لا يتحمّل اختيارا أو يتضمّن تركه مشقّة لا تتحمّل عادة بالاختيار، و عليه فيمكن الاستدلال على الجواز معها بالعمومات المتلقّاة بالقبول، كالأدلّة النافية للعسر و الحرج، و المرويّ مرسلا من قولهم عليهم السّلام «ليس شيء ممّا حرّم اللّه إلاّ و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه»(7)و قولهم عليهم السّلام: «كلّ ما غلب اللّه عليه فاللّه أولى بالعذر»(8) و قوله عليه السّلام: «رفع عن امّتي الخطأ

ص: 501


1- المعتبر 88:2.
2- الذخيرة: 227.
3- مسند أحمد 215:3، صحيح مسلم 2076/1646:3، سنن أبي داود 4056/50:4.
4- صحيح البخاري 50:4، صحيح مسلم 2076/1646:3، سنن ابن ماجه 3592/188:2.
5- صحيح البخاري 50:4، صحيح مسلم 2076/1646:3، مسند أحمد 192:3.
6- الذكرى 46:3.
7- الوسائل 6/842:5 و 7، ب 1 من أبواب القيام، التهذيب 945/306:3.
8- الوسائل 3/259:8، ب 3 من أبواب قضاء الصلوات، الفقيه 1042/237:1.

و النسيان و ما اكرهوا عليه و ما لا يطيقون و ما اضطرّوا إليه»(1).

و هذه العمومات و أشباهها حاكمة على الأدلّة الخاصّة الواردة في تحريم المحرّمات و إيجاب الواجبات، و من الضرورة بالمعنى المذكور البرودة الشديدة و الحرارة المفرطة و غلبة القمّل و الحكّة و مرض آخر و غيره، فيعتبر في الجميع حصول مشقّة لا تتحمّل عادة بالاختيار، اقتصارا فيما خالف عمومات المنع على مورد اليقين.

نعم ربّما يسبق إلى الوهم في القمّل عدم اعتبار المشقّة المذكورة، لإطلاق ما ورد فيه من الرخصة في بعض الروايات كما عرفت، و يزيّفه منع الإطلاق في مورد الخبر المذكور و هو قضيّة ابن عوف و الزبير لأنّه حكاية حال، و لعلّها كانت في حدّ المشقّة المذكورة، و لأجل قيام هذا الاحتمال كانت الحكاية مجملة، و لذا قيل: إنّ حكايات الأحوال إذا تطرّق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال و يسقط بها الاستدلال، مع أنّه قد سمعت عن الشهيد فيما تقدّم أنّه جعل مناطها الضرورة، و لا ضرورة مع عدم المشقّة المذكورة.

و هل يعتبر في محلّ الرخصة من الامور المذكورة انحصار طريق دفع الضرورة في الحرير أو لا؟ وجهان: من إطلاق الفتاوى و معاقد الإجماع، و من الاقتصار فيما خالف العمومات على مورد اليقين، و هذا أجود لتطرّق القدح إلى صدق الضرورة مع عدم انحصار طريق الدفع. و منه يظهر عدم جواز الصلاة فيه للقمّل كما تنبّه عليه بعض(2) تعليلا بعدم خوف ضرر القمّل بلبس غيره حال الصلاة خاصّة، بخلاف البرودة الّتي يتضرّر بها بنزعه و لو حال الصلاة خاصّة.

نعم لو فرض الأمن من ضررها بنزعه حال الصلاة و لو بالاقتصار فيها على أقلّ واجباتها.

و ليس من الضرورة المسوّغة للبسه في الصلاة عدم ساتر غيره، بل يصلّي عريانا لمشروعيّتها مع انحصار الساتر فيما هو أهون منه كالنجس، وفاقا لجماعة(3) لم يظهر مخالف لهم في ذلك، بل في عبارة الذكرى ما يؤذن بدعوى الإجماع فيه حيث قال: «و لو

ص: 502


1- الوسائل 2/249:8، ب 30 من أبواب الخلل، الخصال: 9/417.
2- كما في الجواهر 193:8.
3- كالعلاّمة في التذكرة 458:2 و ابن فهد في الموجز (رسائل العشر): 69، و الشهيد في الدروس 81:1، و الكركي في الجعفريّة (رسائل الكركي) 101:1.

لم يجد المصلّي إلاّ الحرير و لا ضرورة في التعرّي صلّى عاريا عندنا»(1) و من مشايخنا(2)من نفى الخلاف فيه و لو كان للمصلّي ثوبان حرير و نجس و اضطرّ إلى أحدهما صلّى في النجس كما نصّ عليه في الذكرى و غيره(3)، لكون المانع العارضي أهون من المانع الذاتي، مضافا إلى أنّ طهارة الثوب شرط علمي و الخلوّ عن الحرير على ما هو ظاهر أدلّته شرط واقعي، و إذا دار الأمر بين تفويت الشرط العلمي و الشرط الواقعي فالأوّل أولى بالتفويت لكونه أهون.

و منه ظهر الحكم فيما لو اضطرّ إلى أحد الأمرين من الثوب النجس أو المتّخذ من الميتة أو ما لا يؤكل لحمه فيقدّم النجس. و لو اضطرّ إلى أحد الأمرين من الحرير أو الميتة أو ما لا يؤكل لحمه فهل يجب الترجيح أو يخيّر؟ وجهان، مبناهما على استظهار كون أحدهما أشدّ مبغوضا للّه تعالى من أدلّة منعه و عدمه، فعلى الأوّل يتعيّن ترجيح ما هو أضعف مبغوضيّة، و على الثاني تعيّن التخيير. و لا يبعد القول بكون الحرير أشدّ مبغوضا استظهارا له من توعيد النار الوارد فيه في الرواية المتقدّمة و عدم ورود نحوه في الآخرين، فيندرج ليس الأوّل بذلك في المعاصي الكبيرة، و قضيّة ذلك كونه أشدّ مبغوضا.

الحكم الرابع: جواز لبسه للنساء و لو اختيارا و من غير ضرورة، و هو في غير حال الصلاة إجماعيّ ، بل ضروري من المذهب، بل الدين(4)، و الإجماعات المنقولة عليه بالغة فوق حدّ الاستفاضة، بل قريبة من التواتر إن لم نقل بكونها متواترة. و أمّا في حال الصلاة ففيه خلاف و إن كان الأكثر على الجواز أيضا بل هو المشهور(5) شهرة عظيمة تبلغ الإجماع، لشذوذ المخالف و متروكيّة قوله فيمن تأخّر عنه إذ لم يعرف الخلاف إلاّ من الصدوق في الفقيه قائلا: «و قد وردت الأخبار بالنهي عن لبس الديباج و الحرير و الأبريسم المحض و الصلاة فيه للرجال، و وردت الرخصة في لبس ذلك للنساء و لم ترد بجواز صلاتهنّ فيه، فالنهي عن الصلاة في الأبريسم المحض على العموم للرجال و النساء حتّى

ص: 503


1- الذكرى 47:3.
2- الجواهر 194:8.
3- كالمدارك 178:3، و الذخيرة: 228.
4- الجواهر 197:8.
5- ممّن قال بذلك: الشيخ في النهاية: 97 و ابن ادريس في السرائر 263:1، المحقّق في النافع: 24، و الشهيد في البيان: 57.

يخصّهنّ خبر بالإطلاق لهنّ بالصلاة فيه كما خصّهنّ بلبسه» انتهى(1).

و ملخّص مرامه التمسّك بعموم ما ورد من النهي عن الصلاة في الحرير المحض المتناول للرجال و النساء، و لعلّ مراده بالعموم كما فهمه غيره من أساطين(2) الأصحاب عموم صحيحتي محمّد بن عبد الجبّار ففي إحداهما بعد السؤال عن الصلاة في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» و في اخراهما بعد السؤال عن الصلاة في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكّة وبر «لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض»(3) و ربّما استدلّ له أيضا برواية زرارة قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام ينهى عن لباس الحرير للرجال و النساء إلاّ ما كان من حرير مخلوط بخزّ لحمته أو سداه خزّ أو كتّان أو قطن، و إنّما يكره الحرير المحض للرجال و النساء»(4) و خبر الجابر الجعفي المرويّ عن الخصال «يجوز للمرأة لبس الحرير و الديباج في غير صلاة و إحرام»(5).

و الأقوى هو المشهور المنصور، للأصل المعتضد بما عرفت من الشهرة العظيمة، بل هي بنفسها لقربها من الإجماع و إفادتها لذلك ظنّ الاطمئنان تصلح دليلا، سيّما مع ما عرفت من متروكيّة قول الصدوق فتوى و عملا، و من هنا ما عن الذكرى «من أنّ عليه فتوى الأصحاب»(6) و ما عن الوحيد البهبهاني في حاشية المدارك «من أنّ عليه عمل الناس في الأعصار و الأمصار»(7) هذا.

مضافا إلى موثّقة ابن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «النساء يلبس الحرير و الديباج إلاّ في الإحرام»(8) و موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا ينبغي للمرأة أن تلبس الحرير المحض و هي محرمة، فأمّا في الحرّ و البرد فلا بأس»(9) فإنّ حصر الاستثناء في الاولى في الإحرام يدلّ على دخول الصلاة في المستثنى منه و إلاّ وجب استثناؤها أيضا، كما أنّ تقييد المنع في الثانية بحالة الإحرام يدلّ بالمفهوم على أن لا منع

ص: 504


1- الفقيه 811/263:1.
2- كما في الجواهر 198:8.
3- الوسائل 2/368:4 و 4/377.
4- الوسائل 5/374:4، ب 13 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1524/367:2.
5- الوسائل 6/380:4، ب 16 من أبواب لباس المصلّي، الخصال: 12/588.
6- الذكرى 44:3.
7- حاشية المدارك 363:2.
8- الوسائل 3/379:4، ب 16 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 8/454:6.
9- الوسائل 4/380:4، ب 16 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 12/455:6.

في سائر الأحوال الّتي منها حال الصلاة.

و أمّا الجواب عن عموم خبري ابن عبد الجبّار، فبأنّه يتوهّن بإعراض المعظم عن العمل به، و استقراء عمل المسلمين بخلافه فيخرج بذلك عن الحجّيّة، و مع الغضّ عن ذلك فالشهرة العظيمة و السيرة الظنّيّة إن لم نقل بكونها قطعيّة المعتضدتين الموثّقتين تنهضان لتخصيصه، لاشتمالهما على ما هو مناط الحجّيّة و هو الظنّ الاطمئناني، فتكشفان عن عدم إرادة العموم المتوهّم في المقام، و لو سلّم التعارض بينهما و بين الموثّقتين فهو من تعارض العموم من وجه، لافتراقهما في صلاة الرجال و غير صلاة النساء، و اجتماعهما في صلاة النساء و هو محلّ التعارض، فيخصّص الأوّلان بالرجال تحكيما للموثّقتين بشهادة الشهرة و السيرة الظنّيّة، و لا يعارض ذلك بصحّة سندي الأوّلين لأنّ المرجّحات السنديّة إنّما يرجع إليها مع العجز عن الترجيح من حيث الدلالة. و بما ذكرناه كلّه ظهر الجواب عن خبر زرارة إن سلّمنا سلامة سنده، و أمّا خبر الجعفي فمع عدم وضوح حال سنده غير قابل لمعارضة ما تقدّم فوجب اطراحه.

فرعان:

أحدهما: أنّ الخنثى هل تلحق بالرجال فيحرم عليها لبسه حتّى في غير الصلاة، كما عن جماعة(1) أخذا بالاحتياط حكي نسبته إليهم عن الروض(2) أو بالنساء فيجوز حتّى في حال الصلاة كما عن الشهيد في الذكرى(3) و البيان(4) و اللمعة(5) و لعلّه المشهور للأصل ؟

و ربّما يتوهّم شهادة عموم بعض الروايات للأوّلين، فإنّ الأخبار المأثورة عن أهل العصمة الواردة في الباب ثلاثة أنواع، الأوّل: ما يدلّ على المنع في خصوص الرجال، و الثاني: ما يدلّ على الجواز في خصوص النساء، و الثالث: ما هو عامّ في الأدلّة على المنع، مثل ما في النبوي «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة»(6) و المرسل المرويّ عن الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام «لا يصلح لبس الحرير و الديباج، فأمّا بيعهما فلا بأس»(7)

ص: 505


1- كما في المستند 344:4، و التذكرة 471:2، و الذكرى 46:3، و جامع المقاصد 83:2، و المسالك 1: 164.
2- روض الجنان 555:2.
3- الذكرى 43:3.
4- البيان: 58-59.
5- اللمعة: 29.
6- صحيح البخاري 194:7.
7- الوسائل 3/468:4، ب 11 من أبواب لباس المصلّي.

و هذان يعمّان الرجال و النساء و الخناثى، غاية الأمر خرج عنهما النساء بالدليل و بقى الباقي و منه الخناثى لأصالة عدم التخصيص.

و فيه - مع قصور دلالتهما -: منع جريان أصالة عدم التخصيص هنا، لعدم كون الخنثى نوعا ثالثا من الإنسان، بل هي في الواقع إمّا من الرجال أو من النساء، و أصالة عدم التخصيص إنّما تجري في فرد بدخوله في العامّ يقلّ التخصيص و بخروجه عنه يكثر التخصيص، و المفروض ورود تخصيص واحد هنا بالقياس إلى النساء، و الخنثى في الواقع إمّا داخلة في المخرج عن العامّ فلا يلزم كثرة تخصيص، أو في الباقي تحت العامّ فلا يلزم قلّة التخصيص، و حيث إنّ حالها مشتبهة فلا يدري شمول حكم العامّ إيّاه أو اندارجه في حكم المخصّص، فوجب الرجوع في حكمها إلى الاصول العمليّة.

فتحقيق المقام أنّه لا ينبغي التأمّل في الجواز لها في غير حال الصلاة، لأصلي البراءة و الإباحة في نحوه. و أمّا في حال الصلاة فربّما يسبق إلى الوهم المنع عنه، لأصالة الاشتغال المستدعية ليقين البراءة الّذي لا يتأتّى إلاّ بالتجنّب عنه في حال الصلاة.

و لكن يزيّفه - ما تقرّر في محلّه - من أنّ المرجع في نحو مفروض المسألة و هو الشكّ في المانعيّة لشبهة موضوعيّة بل الحكميّة أيضا أصل البراءة، و معه لا مجرى لأصل الاشتغال، فالأجود هو الجواز للخنثى مطلقا إلاّ أنّ الاحتياط للصلاة ممّا ينبغي مراعاته.

و ثانيهما: أنّه لا يحرم على الصبيّ لبس الحرير بلا خلاف، لانتفاء التكليف و رفع القلم عنه، و هل يجب على الوليّ منعه كما عن بعضهم(1) أو لا كما عليه جماعة(2) و لعلّه المشهور؟ قولان، أجودهما الثاني، للأصل السالم عمّا يخرج عنه. و نحوه الحكم في مكلّف آخر غير الوليّ .

و هل يحرم تمكينه من لبسه ؟ قيل(3) نعم، و احتمله ثاني الشهيدين في روض الجنان(4)لقوله: «هذان حرام على ذكور امّتي»(5) مشيرا إلى الذهب و الحرير، و قول جابر «كنّا ننزعه

ص: 506


1- المعتبر 91:2.
2- كالشهيد في روض الجنان 554:2، و النجفي في الجواهر 8، 200.
3- المعتبر 91:2.
4- روض الجنان 555:2.
5- مستدرك الوسائل 1/209:3، ب 16 من أبواب لباس المصلّي، سنن ابن ماجه 3595/1189:2، مسند أحمد 752/755:1.

عن الصبيان و نتركه على الجواري»(1).

و ضعفه ظاهر، لأنّ الخبر إنّما يقتضي حرمة اللبس على الصبيّ لصدق الذكور لا حرمة التمكين على الوليّ ، و المفروض انتفاء التكليف عن الصبيّ فلا يستفاد منه حكم فيما نحن فيه. و لا دلالة لقول الجابر على اللزوم، لقوّة احتمال كونه للتنزّه و المبالغة في التورّع.

و لو سلّم كونه منه على وجه اللزوم فهو يدلّ على وجوب المنع لا حرمة التمكين إلاّ أن يدّعى التلازم بينهما، و يرد عليه حينئذ أنّه لا حجّيّة لفعل غير المعصوم.

ثمّ بقى من أطراف المسألة امور مهمّة ينبغي التعرّض لها:

الأمر الأوّل: أنّ منع الرجال عن الحرير في النصّ و الفتوى إنّما هو إذا كان محضا، و أمّا إذا كان ممتزجا بغيره ممّا صحّ فيه الصلاة كالخزّ و القطن و الكتّان و الوبر فلبسه و الصلاة فيه جائز لهم بلا خلاف بل بالإجماع المستفيض نقله في كلام جمع(2) من أساطين الطائفة، للنصوص المستفيضة الّتي منها: صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: «سأل الحسين ابن قياما أبا الحسن عليه السّلام عن الثوب الملحّم بالقزّ و القطن و القزّ أكثر من النصف أ يصلّى فيه ؟ قال: لا بأس، قد كان لأبي الحسن عليه السّلام منه جبّات»(3).

و مقبولة عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بلباس القزّ إذا كان سداه أو لحمته من قطن أو كتّان»(4).

و رواية إسماعيل بن الفضل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الثوب يكون فيه الحرير؟ فقال: إن كان فيه خلط فلا بأس»(5).

و رواية زرارة المتقدّمة قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام ينهى عن لباس الحرير للرجال و النساء إلاّ ما كان من حرير مخلوط بخزّ لحمته أو سداه خزّ أو قطن أو كتّان، و إنّما يكره الحرير المحض للرجال و النساء»(6).

ص: 507


1- سنن أبي داود 4059/50:4، المغني و الشرح الكبير 664:1.
2- الجواهر 224:8، و مفتاح الكرامة 505:5.
3- الوسائل 1/373:4، ب 13 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 11/455:6.
4- الوسائل 2/374:4، ب 13 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 10/454:6.
5- الوسائل 4/374:4، ب 13 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 14/455:6.
6- الوسائل 5/374:4، ب 13 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1524/367:2.

و رواية يوسف بن إبراهيم «لا بأس بالثوب أن يكون سداه و زرّه و علمه حريرا، و إنّما يكره الحرير المبهم»(1) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

مضافا إلى أنّ المنع في كثير من النصوص المانعة معلّق على الحرير المحض، فينتفي عن غيره بالمفهوم، كما يشعر بإرادته الرواية السابقة أو بحكم الأصل.

و بذلك ظهر أنّ ضابط المنع و انتفاءه صدق المحوضة و عدم صدقها، و حينئذ فلا يتفاوت الحال في انتفاء المنع بين مساواة الحرير و الخليط، و كون الأوّل أقلّ أو أكثر و لو كان الخليط عشرا بل أقلّ كما هو قضيّة إطلاق الخلط في خبر ابن الفضل و الفتاوي و معقد الإجماعات، بل نصّ عليه المحقّق في المعتبر(2) و صاحب المدارك(3) و غيرهما(4) و الشيخ في محكيّ الخلاف(5) مع التصريح بإجماع الفرقة بعده كما في المعتبر(6) أيضا. بل في صحيحة البزنطي المتقدّمة «و القزّ أكثر من النصف» و هو يتناول جميع مراتب الأكثريّة.

نعم يجب أن لا يكون الخليط في القلّة على وجه يكون مستهلكا في جنب الحرير بحيث يصدق عليه الحرير أو الأبريسم المحض. و من ذلك ظهر أنّه لو خيط الحرير بغيره لم يخرج عن المنع، لعدم خروجه بذلك عن صدق المحض.

و قضيّة إناطة الضابط المذكور وجودا و عدما بالاستهلاك و عدمه أن لا يفترق الحال بين كون الخليط لحمة الثوب أو سداه أو بعض من لحمته أو سداه أو كليهما، و هو أيضا قضيّة إطلاق الأكثر في رواية البزنطي كما عرفت.

نعم لو كان بطانة الثوب وحدها أو ظهارته كذلك حريرا محضا فالظاهر فيه المنع كما نصّ عليه جماعة(7) من غير نقل خلاف فيه، لصدق الحرير المحض على إحداهما، بل في المدارك جعل المنع هنا أظهر منه في الحرير الّذي خيط بغيره. و المناقشة فيه بعدم معلوميّة الثوب و اللباس في النصوص المعلّقة للمنع بأحدهما إليهما و لا سيّما الاولى، يدفعها: بأنّ

ص: 508


1- الوسائل 6/375:4، ب 13 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 817/208:2.
2- المعتبر 90:2.
3- المدارك 175:3.
4- التذكرة 474:2، المسالك 164:1، الذكرى 44:3، جامع المقاصد 83:2.
5- الخلاف 505:1.
6- المعتبر 90:2.
7- كما في المبسوط 82:1، و المعتبر 91:2، المنتهى 228:4، الذكرى 44:3، جامع المقاصد 87:2، المدارك 175:3.

قوله عليه السّلام: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» يتناولهما قطعا و إن لم يصدق عليهما الثوب و اللباس.

نعم إنّما المعضل حكم الثوب المحشوّ بالإبريسم أو القزّ بأن يكون أحدهما مكان القطن في حشو الثوب و خلاله مع كون الظهارة و البطانة من غير الحرير، فإنّ فيه خلافا بين الأصحاب على قولين، المنع كما عليه الصدوق في الفقيه(1)، و هو ظاهر الشيخ في التهذيب(2) و اختاره الفاضلان في المعتبر(3) و التذكرة(4) و المنتهى(5) و الشهيد في الدروس(6)و عن جامع المقاصد(7) و فوائد الشرائع(8) و المسالك(9) و الروض(10) و العزّيّة(11) و الجعفريّة(12)استنادا إلى عموم المنع.

و عدمه كما يظهر الميل إليه من الشهيد في الذكرى(13) و اختار صاحب المدارك(14)و شارح الدروس(15) و هو ظاهر الذخيرة(16) لو لا شبهة الإجماع على المنع.

و هو في ظاهر النظر قويّ جدّا، لأصلي البراءة و عدم المانعيّة و عدم وضوح تناول أدلّة المنع لما في الحشو، لعدم صدق الثوب عليه ليتناوله النصوص المعلّقة للمنع عليه، و عدم انسباقه إلى الذهن من إطلاق المنع من الصلاة في الحرير المحض. و خصوص الصحيح المرويّ عن زيادات التهذيب عن الحسن بن سعيد قال: «قرأت كتاب محمّد بن إبراهيم إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام يسأله عن الصلاة في ثوب حشوه قزّ؟ فكتب إليه فقرأته: لا بأس بالصلاة فيه»(17).

و الخبر المرويّ عن الفقيه عن إبراهيم بن مهزيار «أنّه كتب إلى أبي محمّد عليه السّلام في الرجل يجعل في جبّته بدل القطن قزّا هل يصلّي فيه ؟ فكتب: نعم، لا بأس به»(18) و رواية ريّان بن الصلت قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن لبس فراء السمور و السنجاب... إلى أن قال:

ص: 509


1- الفقيه 263:1 ذيل ح 811.
2- التهذيب 208:2.
3- المعتبر 91:2.
4- التذكرة 475:2.
5- المنتهى 228:4.
6- الدروس 150:1.
7- جامع المقاصد 86:2.
8- فوائد الشرائع: 31.
9- المسالك 164:1.
10- روض الجنان 554:2.
11- العزيّة: نقله عنه في مفتاح الكرامة 510:5.
12- الجعفريّة (رسائل الكركي) 101:1.
13- الذكرى 45:3.
14- المدارك 175:3-176.
15- شرح الدروس 637:1.
16- الذخيرة: 227.
17- الوسائل 1/444:4، ب 47 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1533/396:2.
18- الوسائل 4/444:4، ب 47 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 807/171:1.

و المحشوّ بالقزّ؟ قال: لا بأس بهذا كلّه»(1).

و عن الصدوق حمل القزّ في الخبر الأوّل على قزّ الماعز و هو وبر المعز دون قزّ الأبريسم(2) و في المعتبر استضعافه باستناد الراوي إلى ما وجده في كتاب لم يسمعه من محدّث(3) و دفع الأوّل بخروجه عن الحقيقة و كمال بعده، و الثاني بأنّ إخبار الراوي بصيغة الجزم و المكاتبة المجزوم بها في قوّة المشافهة كما في الذكرى(4) و المدارك(5).

أقول: الأولى في دفعه أن يقال: بأنّ كلام الراوي ظاهر كالصريح في أنّه قرأ نفس المكاتبة الّتي جرت بين الإمام عليه السّلام و محمّد بن إبراهيم، و ربّما كان في قوله: «فقرأته» دلالة على كونه حاضرا في مجلس كتابة الجواب، لا أنّه أخذها من كتاب حديث لم يعرف محدّثه.

فدليل القول المذكور بحسب ظاهر قواعد الاجتهاد في غاية المتانة، غير أنّ الموجب لإعضال المسألة هو أنّ الّذي يعطيه النظر في كلمات الأصحاب(6) هو كون هذا القول محدثا من الشهيد و من تبعه ممّن تأخّر عنه و عدم وجوده في أصحابنا قبله فيكون كالخارق للإجماع السابق، كما يشير إليه قرائن تظهر للفقيه بالتتبّع.

منها: أنّ الفاضلين في المعتبر(7) و التذكرة(8) و المنتهى(9) بعد مصيرهما إلى المنع لم يسند القول بالجواز إلاّ إلى الشافعي.

و منها: أنّ العلاّمة في المختلف(10) الّذي آخر تصانيفه و وضعه لبيان خلافيّات الشيعة من دون تعرّض لأقوال العامّة لم يتعرّض لمسألة الحشو أصلا، و هذا كسابقة يعطي عدم معهوديّة ما عدى القول بالمنع ثمّة فيما بين أصحابنا.

و منها: ما عرفت عن الصدوق من تأويل القزّ في الخبر المتقدّم بما هو في البعد بمثابة لا يرتكبه أصحاب الحديث إلاّ لإخراج الخبر عن مخالفة الإجماع، و يظهر من الشيخ في التهذيب ارتضاؤه بذلك حيث نقله عن الصدوق و لم يطعن فيه قائلا - بعد ذكر الخبر -: ذكر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي إنّ المعنيّ في هذا الخبر قزّ الماعز دون قزّ

ص: 510


1- الوسائل 2/444:4، ب 47 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1533/369:2.
2- الفقيه 263:1.
3- المعتبر 91:2.
4- الذكرى 45:3.
5- المدارك 175:3.
6- كما في المستند 341:4.
7- المعتبر 91:2.
8- التذكرة 475:2.
9- المنتهى 225:4.
10- المختلف 79:2.

الأبريسم(1).

و هذا - مع إنكار الشيخين الجليلين لمضمون الأخبار المذكورة مع قوّة أسانيدها و فهمهما مع فهم الفاضلين و غيرهما عموم المنع من النصوص المانعة، و عدم تعرّضهم لنقل قول بالجواز إلاّ عن الشافعي - ينجبر قصور دلالة تلك النصوص على منع يندرج فيه المقام، و يضعّف التعويل على أخبار الجواز، مع قوّة احتمال خروجها مخرج التقيّة لشهادة موافقة مضمونها لمذهب الشافعي. فالقول بالمنع أقوى، كما أنّه أحوط خصوصا بالقياس إلى الصلاة و إن كان القول بالجواز أيضا لا يخلو عن قوّة.

ثمّ إنّه لو خيط ثوب من قطعات متواصلة بعضها من حرير و الآخر من غيره - من كرباس و نحوه - ففي المنع منه بناء على أنّ الصلاة فيه بالنسبة إلى القطعة الحريريّة صلاة في حرير محض فيتناوله عموم قوله عليه السّلام: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» و عموم قوله:

«و إنّما يكره الحرير المحض» و عدم تناول النصوص المجوّزة في غير الحرير المحض لاختصاصها بما كان منسوجا من الأبريسم أو القزّ و غيرهما بأن يكون الأبريسم أو القزّ لحمته أو سداه، و عدمه بناء على أنّه ليس لباس الحرير و لا ثوب الحرير المحض فلا يعمّه المنع المعلّق على الثوب الحرير و لباس الحرير، قولان: أجودهما الأوّل، لأقوائيّة دليله من عموم المنع عن الحرير المحض و الحرير المبهم من دون أخذ عنوان الثوب و اللباس فيه، و لا ينافيه ما اخذ فيه أحد العنوانين كما هو واضح.

مضافا إلى خصوص رواية إسماعيل بن الفضل المتقدّمة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الثوب يكون فيه الحرير؟ فقال: إن كان فيه خلط فلا بأس» فإنّ قول الراوي «في الثوب الّذي فيه الحرير» ظاهر في نحو مفروض المسألة، و الضمير المجرور في قوله عليه السّلام: «إن كان فيه خلط فلا بأس» ظاهر في العود إلى الحرير، فيدلّ بالمفهوم على ثبوت البأس بما ليس فيه خلط.

و منه ينقدح الحكم في فرع آخر و هو ما لو نسج ثوب و عمل فيه بالنسج خطوط متوازية بعضها إبريسم أو قزّ محض لحمة و سدى، و بعضها مخلوط من أحدهما و غيره بأن يكون لحمته أو سداه، فإنّ المتّجه فيه المنع أيضا، لصدق الحرير المحض على الخطّ الّذي لحمته و سداه قزّ أو إبريسم، فيصدق بالإضافة إليه الصلاة في الحرير المحض، و إن

ص: 511


1- التهذيب 364:2.

لم يصدق الصلاة في الثوب الحرير أو لباس الحرير، لكنّه لا يخلو عن بعد إلاّ أن يتمسّك برواية إسماعيل لاندراج المفروض في إطلاق السؤال، فيشمله إطلاق الجواب و لو بضميمة ترك الاستفصال، فيدلّ بالمفهوم على عدم الجواز فيما نحن فيه أيضا.

و يدلّ عليه أيضا المرويّ عن احتجاج الطبرسي عن محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان عليه السّلام «أنّه كتبت إليه يتّخذ باصفهان ثياب فيها عتابية على عمل الوشي من قزّ و إبريسم، هل تجوز الصلاة فيها أم لا؟ فأجاب عليه السّلام: لا تجوز الصلاة إلاّ في ثوب سداه أو لحمته قطن أو كتّان»(1) يفيد حصر محلّ الرخصة من الحرير فيما كان أحد جزءيه من السدي و اللحمة قطنا أو كتّانا.

فيندرج أقسام ستّ لأنّه إذا كان سداه قطنا مثلا فلحمته إمّا أن تكون بأجمعها قزّا أو مخلوطا من قزّ و غيره، كأن يكون خيط قزّا و خيط قطنا و هكذا إلى أن تتمّ ، أو تكون خطّا منها بقدر ما يساوي إصبعا أو إصبعين أو ثلاثة أصابع أو أربعة أصابع مثلا قزّا، و خطّا منها كذلك قطنا و هكذا إلى أن تتمّ ، و إذا كان لحمته قطنا مثلا فسداه أيضا امّا بأجمعه قزّ أو مخلوط من قزّ و غيره على نحو ما فرض في اللحمة أو خطّ منه قزّ و خطّ آخر قطن على نحو ما فرض أيضا في اللحمة فالصلاة في جميع هذه الأقسام جائزة بمقتضى الاستثناء و إطلاقه.

و ما عداها أقسام كثيرة مندرجة في عموم المستثنى منه المحكوم عليه بعدم الجواز، ككون كلّ من سداه و لحمته قزّا محضا، أو سداه قزّا محضا و لحمته مخلوطا من خيط قزّ و خيط قطن و هكذا، أو خطّ منها نحو إصبع أو إصبعين أو أزيد قزّا و خطّ منها كذلك قطنا و هكذا، أو لحمته قزّا محضا و سداه مخلوطا على نحو ما ذكر، أو خطّ منه قزّا و خطّ آخر قطنا على ما ذكر أيضا، أو كلّ من سداه و لحمته مخلوطا بأن يكون خيط قزّا و خيط قطنا و هكذا، و خطّ من كلّ منهما قزّا و خطّ قطنا و هكذا إلى آخر الأقسام المتصوّرة.

و يندرج فيها ما فرضناه في الفرع الثاني، فقضيّة عموم المستثنى منه عدم جواز الصلاة في شيء منها، غير أنّه لا يقبله ذوق الفقاهة في جملة منها، فالالتزام به مشكل، و الخروج عن عموم الدليل من دون مخرج معتبر أشكل، إلاّ أن يكون هناك إجماع على إخراج

ص: 512


1- الوسائل 8/375:4، ب 13 من أبواب لباس المصلّي، الاحتجاج: 492.

ما عدى القسم الأوّل منها أو جملة منها عن العموم، و دون إثباته خرط القتاد.

نعم يمكن التشبّث في الإخراج بالنصوص الدالّة على إناطة المنع بصفة المحوضة بعبائر مختلفة مثل «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» كما في رواية «و لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض» كما في اخرى، «و إنّما يكره الحرير المحض» كما في ثالثة «و إنّما كره الحرير المبهم كما في رابعة» و «إنّما يكره الحرير المصمت» كما في خامسة. و لا ريب أنّ شيئا من الأقسام المذكورة ما عدى القسم الأوّل لا يصدق عليه المحض و لا المبهم و لا المصمت.

و توهم: أنّ الحرير المحض يصدق في أكثرها على كلّ موضع من الثوب يكون المجموع من سداه و لحمته قزّا نظرا إلى أنّه لم يؤخذ في شيء من العبائر المذكورة عنوان الثوب و لا اللباس لئلاّ يصدق من جهته على الموضع من الثوب.

يدفعه: أنّ أحد العنوانين و إن لم يصرّح به في العبارة غير أنّه المنساق و المتبادر منها في متفاهم العرف، و قضيّة ذلك كون المنع في العبائر المذكورة معلّقا على ثوب أو لباس يكون حريرا محضا فينتفي عمّا ليس محضا، و الروايات المشار إليها في إفادة هذا المعنى أخصّ من المستثنى منه العامّ في رواية الاحتجاج، فتنهض مخصّصة له بالحرير المحض و هو أحد الأقسام المذكورة.

و لكن يشكل الحال بالقياس إلى ما فرضناه في الفرع الأوّل من الثوب المخيط من قطعات متواصلة بعضها حرير و بعضها غير حرير الّذي بنينا فيه على المنع، و نحوه الثوب المخيط من حرير محض نصفه من طرف العرض أو الطول و غير حرير نصفه الآخر كذلك و ثوب أحد أذياله حرير و الآخر غير حرير، و ثوب كماه حرير و ما عداهما غير حرير، أو كماه غير حرير و ما عداهما حرير، فإنّ شيئا من هذه ليس ثوب الحرير المحض فينبغي الجواز في الجميع أيضا بمقتضى التخصيص المذكور، و دون الالتزام به خرط القتاد، إذ لا يظنّ بفقيه تجويزه.

و لذا اختلفوا في المكفوف و صار المعظم إلى استثنائه من عموم المنع، و كثير منهم قدّره بما يساوي أربعة أصابع مضمومة، مع أنّ قضيّة ما ذكر من عموم التخصيص هو الجواز أيضا في المكفوف من دون حاجة إلى تجشّم الاستدلال عليه و لا إلى تعيين مقدار، و لم يكن معنى للنقض و الإبرام في دليله و الطعن عليه تارة من جهة السند، و اخرى من جهة الدلالة - على ما ستعرفه -.

ص: 513

و هذا كلّه يصادم عموم التخصيص المذكور بالقياس إلى الأقسام المذكورة أخيرا إلاّ أن يمنع عموم المخصّص لها بتقريب أنّه كما ينساق من العبائر الخمس المتقدّمة كون الحرير المحض المعلّق عليه المنع ثوبا أو لباسا، فكذلك ينساق منها عرفا كونه منسوجا، فتدلّ على عدم المنع في ثوب يكون بالنسج مشتملا على القزّ و الأبريسم، و لا تتناول ما اشتمل بالخيط على حرير و غير حرير لا بنفي و لا بإثبات، فتبقى الأقسام المذكورة مندرجة في عموم المنع المستفاد من خبر الاحتجاج و عموم المفهوم في مقبولة إسماعيل بن الفضل.

و قضيّة ذلك هو المنع في الثوب المكفوف بالحرير أيضا، و هو ما جعل الحرير في الخياطة على أطرافه و جوانبه من رءوس الأكمام و جوانب الأذيال و حول الزيق و هو ما أحاط بالعنق و حوالي الجيب المعبّر عنه باللبنة كما عزى إلى ظاهر القاضي ابن البرّاج(1)و القطع به إلى المرتضى(2) في بعض مسائله، و ربّما مال إليه جماعة من متأخّري(3)المتأخّرين منهم البهائي، و تردّد فيه صاحب المدارك(4).

خلافا للشيخ(5) و أتباعه(6) على ما في المنتهى(7) فجوّزوه. و هذا الحكم مشهور كما في كلام بعض الأجلّة(8) و عليه المتأخّرون كما عن المفاتيح(9) و أنّ هذا الحكم مقطوع به في كلام المتأخّرين كما في المدارك(10) و به أفتى الأصحاب كما في الذكرى(11) مؤذنا بدعوى الإجماع، و لعلّها لشذوذ المخالف أو عدم تبيّن مخالفته من جهة عدم ظهور صدق النسبة.

و مستنده من طريق الأصحاب ما رواه جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه كان يكره أن يلبس القميص المكفوف بالديباج»(12) حملا للكراهة على معناها المصطلح عليها. و من طريق العامّة ما روي عن عمر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أنّه نهى عن الحرير إلاّ موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع»(13) و ما روي في الصحاح عن أسماء «أنّه كان للنبيّ جبّة

ص: 514


1- المهذّب 75:1.
2- نقله عنه في الرياض 332:2.
3- مجمع الفائدة و البرهان 85:2-86، كشف اللثام 223:3، حبل المتين: 184.
4- المدارك 180:3-181.
5- النهاية: 96، المبسوط 168:1.
6- الوسيلة: 87، المهذّب 75:1.
7- المنتهى 227:4.
8- مطالع الأنوار 162:1.
9- المفاتيح 110:1.
10- المدارك 180:3.
11- الذكرى 42:3.
12- الوسائل 10/370:4، ب 11 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 42/364:2.
13- صحيح مسلم 15/143:3، سنن الترمذي 1721/217:4، سنن أبي داود 4042/47:4.

كسراويّة لها لبنة ديباج، و فرجاها مكفوفان بالديباج و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلبسها، قالت أسماء:

فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها»(1) نقلهما الشهيد في الذكرى، و قال بعد الثانية: «اللبنة الجيب»(2).

و مستند القول بالمنع عموم قوله عليه السّلام: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» استضعافا للرواية المذكورة الدالّة على الجواز سندا بعدم توثيق جرّاح المدائني و الراوي عنه و هو القسم بن سليمان، و دلالة بشيوع استعمال الكراهة في الأخبار في التحريم خصوصا روايات الباب الّتي في كثير منها التعبير عن التحريم بها كما عرفت، و خصوصا هذه الرواية المتضمّنة لقوله: «و يكره لباس الحرير» بعد قوله: «كان يكره أن يلبس القميص المكفوف بالديباج» فحملها على المعنى المصطلح يقتضي قرينة.

أقول: و يمكن جبر الضعف سندا و دلالة بالشهرة، فإنّ الّذي يظهر بالتتبّع كونها استناديّة فتكشف عن أمارة الصدور، و قرينة الظهور عثروا بهما فعوّلوا بهما في الأخذ بالسند و فهم المعنى المصطلح فليتأمّل، فالأقوى إذا هو القول بالجواز لكن على كراهية، فالأحوط هو الاجتناب و لا سيّما للصلاة.

نعم ينبغي القطع بالجواز في ثوب زرّه و علمه من القزّ و الأبريسم، لرواية يوسف بن إبراهيم المتقدّمة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بالثوب أن يكون سداه و زرّه(3) و علمه حريرا، و إنّما كره الحرير المبهم»(4).

و الرواية و إن لم تكن صحيحة بعدم توثيق يوسف مع كونه طاطريّا، غير أنّها في الاعتبار كالصحيحة بالراوي عنه و هو صفوان بن يحيى الّذي ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه و قبله الحسين بن سعيد، مع عدم الحاجة إلى الاهتمام في إصلاح الرواية لظهور عدم الخلاف فيهما و في القيطان و الخيوط الأبريسميّة الّتي خيط بها الثوب، و ما ينسج من الأبريسم و يوضع على أطراف الكمّ ، مع إمكان دعوى الضرورة في جميع ذلك، مع تطرّق المنع إلى شمول عمومات المنع لنحو هذه الأشياء فيسلّم الأصل عمّا يخرج عنه.

ص: 515


1- مسند أحمد 347:6، صحيح مسلم 2069/1641:3، سنن أبي داود 4054/49:4.
2- الذكرى 42:3.
3- زرّ بالكسر: دكمه.
4- الوسائل 6/375:4، ب 13 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 817/208:2.

الأمر الثاني: فيما لا يتمّ الصلاة فيه منفردا كالتكّة و القلنسوة و الكمرة و نحوها، و للأصحاب في المنع و الجواز فيه قولان، و لم يتحقّق الشهرة في شيء من الجانبين، و إن نقل عن الوافي جعل الجواز أشهر(1) و عن حاشية الإرشاد لولد العليّ نسبته إلى أجلاّء الأصحاب(2).

و دليل المانعين عموم الأخبار المانعة من الصلاة في الحرير، و خصوص صحيحة محمّد ابن عبد الجبّار قال: «كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام أسأله هل يصلّي في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج ؟ فكتب: لا تحلّ الصلاة في حرير محض»(3). و صحيحه الآخر أيضا قال:

«كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام أسأله هل يصلّي في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكّة حرير أو تكّة من وبر الأرانب ؟ فكتب: لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض»(4).

و دليل المجوّزين رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «كلّ ما لا يجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه، مثل التكّة الأبريسم و القلنسوة و الخفّ و الزنّار يكون في السراويل و يصلّي فيه»(5).

و لعلّ الداعي للمجوّزين مع كونهم من أجلاّء الأصحاب إلى العدول عن الصحيحين مع اعتبار سنديهما إلى العمل بالرواية المذكورة مع ضعف سنده - على ما عرفت - أحد الوجوه من منع استفادة الحرمة بالخصوص من النفي في قوله: «لا تحلّ ».

بناء على أنّ الجملة الخبريّة في محلّ التأويل بالإنشاء ليست صريحة و لا ظاهرة في الحرمة، بل المسلّم من مفادها المرجوحيّة المطلقة و هي أعمّ من الكراهة، أو أنّ نفي الحلّيّة لا يلازم الحرمة بل أعمّ منها و من الكراهة، أو أنّ الظرفيّة المفيدة للاشتمال في قوله:

«لا تحلّ الصلاة في حرير» لا تشمل مورد السؤال لأنّ الاشتمال يقتضي إحاطة الحرير المحض لتمام البدن و هي منتفية في نحو القلنسوة، أو أنّ الحرير المحض على ما قيل لغة هو الثوب المتّخذ من الأبريسم فلا يتناول القلنسوة و نحوها، أو أنّ إطلاق الحرير المحض في متفاهم العرف في مطلقات الروايات ينصرف إلى الثوب و اللباس و هما لا يصدقان على

ص: 516


1- الوافي 425:7.
2- نقله عنه في الجواهر 202:8.
3- الوسائل 1/376:4، ب 14 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 10/399:3.
4- الوسائل 4/377:4، ب 14 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 810/207:2.
5- الوسائل 2/376:4، ب 14 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1478/357:2.

نحو القلنسوة، أو أنّ كلّ عامّ قابل للتخصيص حتّى بالقياس إلى المورد. و القول بعدم جوازه تعليلا بكونه نصّا بالنسبة إلى المورد غير مسلّم لمنع النصوصيّة، بل غايته كونه فيه أظهر بالقياس إلى سائر الأفراد.

و في الكلّ ما ترى:

أمّا الأوّل: فلما تقرّر في محلّه من كون الجملة الخبريّة المؤوّلة بالانشاء ظاهرة في التحريم، فلا يعدل عنه بدون قرينة.

و أمّا الثاني: فلأنّ إطلاق الحلّ ينصرف إليه بالمعنى الاعمّ ، و لا ريب أنّ نفيه يلازم الحرمة، و إنّما لا يلازمها نفي الإباحة بالمعنى الأخصّ ، و حمله في الرواية عليها بعيد لا شاهد له.

و أمّا الثالث: فلأنّ ما ذكر من اقتضاء الاشتمال لإحاطة الظرف بجميع المظروف على فرض تسليمه إنّما يتمّ فيما لو اعتبر البدن مظروفا للظرف، كما لو قيل: «زيد في الثوب» مثلا، و مظروف الظرف في الرواية هو الصلاة لا المصلّي، و تأويله بما يقضي بكون المصلّي مظروفا لا يستقيم إلاّ بجعل الصلاة للمعنى المصدري و الظرف مستقرّا في موضع النصب على أن يكون حالا مبنيّا لهيئة فاعل المصدر، و فيه من التكلّف الّذي لا شاهد عليه ما لا يخفى، و مع عدم الشاهد فالظاهر هو الحجّة، و هو يقتضي ظرفيّة الحرير للصلاة.

و قد أشرنا في مباحث الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه أنّ الاشتمال المستفاد من الظرفيّة فيما كان المظروف من قبيل الأفعال لا الأعيان عبارة عن اشتمال المظروف على الظرف، و معناه اشتماله على الخصوصيّة الحاصلة من إضافة المظروف إلى الظرف، فالصلاة في الحرير المحض بهذا المعنى ممّا يصدق بالقياس إلى القلنسوة و نحوها أيضا.

و أمّا الرابع: فلمنع صحّة القول المذكور، مع أنّه يكذّبه عبارة السؤال من قوله: «في قلنسوة حرير محض» فلو أنّ الحرير المحض لغة خصوص الثوب المتّخذ من الأبريسم لم يصحّ إضافة القلنسوة إليه.

و أمّا الخامس: فلأنّ المتبادر من الحرير المحض بقرينة السؤال ما يلبس من الحرير و لو نحو القلنسوة، و لا ريب أنّ اللبس بالمعنى المصدري ممّا يصدق على لبس القلنسوة و إن كانت لا يصدق عليها اللباس بالمعنى الاسمي و لا ملازمة.

و أمّا السادس: فلمنع جواز تخصيص العامّ بالمورد لكونه نصّا بالقياس إليه و لو بمعونة

ص: 517

وجوب مطابقة الجواب للسؤال، و أنّه لولاه لقبح الجواب، و إنّما أتى فيه بصيغة العامّ قصدا إلى بيان ما يكون قاعدة كلّيّة يرجع إليها السائل موارد حاجته و لم يكن حاجته ماسّة بالسؤال عن حكم كلّ واقعة واقعة بالخصوص. و حينئذ الجواب العامّ بالقياس إلى مورد السؤال خاصّ و الرواية المذكورة أيضا خاصّة فيتعارضان، فلا بدّ إمّا من إعمال قواعد الترجيح إن وجد مرجّح، أو الرجوع إلى قاعدة التعادل من التخيير كما هو المختار، أو التساقط و الرجوع إلى الاصول، أو التوقّف و الرجوع إلى الاصول على الخلاف.

و لكن هذا كلّه على تقدير الحجّيّة الذاتيّة في الخبرين لوضوح عدم تعقّل معارضة غير الحجّة للحجّة، و هذا في محلّ البحث غير متحقّق، لضعف سند الرواية المجوّزة بوقوع أحمد بن هلال العبرتائي فيه، فإنّه على ما عن الفهرست «كان غاليا متّهما في دينه»(1).

و عن النجاشي «الرواية يعرف منها و ينكر و قد روي فيه ذموم من سيّدنا أبي محمّد العسكري عليه السّلام»(2).

و عن الخلاصة «غال، و ورد فيه ذمّ كثير من سيّدنا أبي محمّد العسكري... إلى أن قال:

و عندي أنّ روايته غير مقبولة»(3).

و عن الكشّي «عليّ بن محمّد بن قتيبة، قال: حدّثني أبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، قال: ورد على القسم بن العلاء نسخة ما كان خرج من لعن ابن هلال، و كان ابتداء ذلك أن كتب عليه السّلام إلى أقوامه بالعراق: احذروا الصوفي المتصنّع... إلى أن قال: و قد كان رواة أصحابنا بالعراق لقوه و كتبوا منه و أنكروا ما ورد في مذمّته، فحملوا القسم بن العلاء على أن يراجع في أمره، فخرج إليه: قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنّع ابن هلال لا رحمه اللّه بما قد علمت لم يزل لا غفر اللّه له ذنبه و لا أقاله عثرته يدخل في أمرنا بلا إذن منّا و لا رضى...

إلى أن قال: و أعلم الإسحاقي - سلّمه اللّه و أهل بيته - بما أعلمناك من حال هذا الفاجر»(4).

و عن التعليقة عن الصدوق في إكمال الدين(5) حدّثنا شيخنا محمّد بن الحسن بن الوليد رحمه اللّه قال: «سمعت سعد بن عبد اللّه، يقول: ما رأينا و لا سمعنا بمتشيّع رجع عن التشيّع

ص: 518


1- الفهرست: 97/36.
2- رجال النجاشي 218:1.
3- خلاصة الأقوال في معرفة الرجال: 320.
4- الكشّي: 535-536.
5- إكمال الدين: 76.

إلى النصب إلاّ أحمد بن هلال، و كانوا يقولون: أيّما تفرّد بروايته أحمد بن هلال فلا يجوز استعماله»(1).

و عن الخلاصة أيضا «و توقّف الغضائري في حديثه إلاّ فيما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتاب المشيخة و محمّد بن أبي عمير من نوادره، و قد سمع هذين الكتابين جلّ أصحاب الحديث و اعتمدوه فيها»(2).

و عن الحاوي «لعلّ قبول الغضائري و الجماعة لما يرويه من الكتابين لتواترهما عندهم و شهرتهما، و حينئذ فلا يضرّ ضعف الطريق إليهما».

و بالجملة فالرواية ضعيفة جدّا، فلا تعويل عليها إلاّ لجابر و هو غير متحقّق، و عمل الجماعة بها مع كونهم من الأجلاّء إنّما ينهض جابرا و كاشفا عن أمارة الوثوق لو لا إعراض الآخرين عنها، مع عدم بلوغ ذهاب الجماعة إلى درجة الشهرة المحقّقة، مع أنّ الّذي يظهر بالتتبّع في كلماتهم أنّ الأمارة الّتي دعتهم إلى التعويل عليها ما عرفت من قول الغضائري بالعمل على حديث يرويه من الكتابين و هما من الكتب المعتمدة المعوّل عليها، بناء على أنّه روى هذه الرواية عن ابن أبي عمير عن أبان عن الحلبي.

و يزيّفه أنّه لم يتحقّق كونها من روايات كتاب النوادر فلعلّه أسندها إلى ابن أبي عمير كذبا، و هذا الاحتمال ممّا لا رافع له من الاصول و الظواهر. فالأقوى إذن هو المنع.

و منه يظهر أنّ الوجه في العمامة و الشال من الحرير الّذي يشدّ على الوسط و المنطقة الحريريّة المحضة هو المنع، لعموم المنع من الصلاة في حرير محض و إنّما يكره الحرير المحض المتناول لما نحن فيه.

الأمر الثالث: في حمل الحرير و الركوب عليه و الافتراش و الاتّكاء و التوسّد به و الالتحاف و التدثّر به. و أمّا حمله و استصحابه فالظاهر جوازه بلا خلاف يظهر، لأصلي البراءة و عدم المانعيّة بالقياس إلى الصلاة، نظرا إلى عدم تناول الأدلّة المانعة للمحمول حتّى نحو قوله عليه السّلام: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» لأنّ المتبادر منه خصوصا بعد ملاحظة مورد السؤال ما كان من جنس الملبوس.

و توهّم العموم من قوله في النبوي: «هذان حرامان على ذكور امّتي» و قوله عليه السّلام: «إنّما

ص: 519


1- تعليقة الوحيد البهبهاني: 22.
2- خلاصة الأقوال: 320.

يكره الحرير المحض» و غيره ممّا يرادفه، يندفع بأنّ التحريم المضاف إلى الأعيان ينصرف إلى الفعل الغالب فيها المقصود للعقلاء منها و هو بالقياس إلى الحرير ليس إلاّ لبسه، كما أنّه بالنسبة إلى الذهب ليس إلاّ التحلّي و التزيّن به، و أنّ المتبادر ممّا اسند إليه الكراهة بمعنى التحريم إنّما هو لبس الحرير لا غير.

و لا يتفاوت الحال في المحمول بعد جواز استصحابه في الصلاة و في غيرها بين المنسوج و غيره، و في المنسوج بين كونه بانفراده ممّا يتمّ فيه الصلاة و غيره، و لا بين كونه ظاهرا أو مستورا كالعصابة و المنديل و ما أشبه ذلك إذا كان في الجيب.

و أمّا الافتراش به و الوقوف عليه فالمشهور المعروف بين الأصحاب على ما في كلام جماعة(1) جوازه، و عن المختلف(2) نسبته القول بالمنع إلى بعض المتأخّرين. و تردّد فيه المحقّق في المعتبر(3) و جعل منشأه عموم تحريمه على الرجال، و منعه واضح، لاختصاص تحريمه عليهم بلبسه، فلا يتناول نحو الافتراش.

فالأقوى إذن هو الجواز للأصل، مضافا إلى المرويّ عن زيادات تهذيب الشيخ في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام قال: «سألته عن فراش حرير و مثله من الديباج و مصلّى حرير و مثله من الديباج يصلح للرجل النوم عليه و التكأة و الصلاة ؟ قال:

يفرشه و يقوم عليه و لا يسجد عليه»(4) قوله عليه السّلام «و يقوم عليه» بعد سبق السؤال عن الصلاة ظاهر في القيام عليه في الصلاة، و المنع عن السجود عليه لعدم كونه ممّا يصحّ السجود عليه.

و توهّم حمله على إرادة الصلاة تسمية للكلّ باسم الجزء، مجاز لا يصار إليه من غير قرينة، و لذا لم نقف من المجوّزين للافتراش على قول بمنع الصلاة عليه.

فيدلّ ذلك حينئذ و لو بطريق الفحوى على جواز جميع أنواع الانتفاعات ممّا عدى السجود عليه الّتي منها الركوب عليه و الاتّكاء به و التوسّد به و الالتحاف به، مضافا إلى الأصل في الجميع، و لذا ذكر في المدارك «الحق التوسّد و الالتحاف بالافتراش»(5).

لكن ربّما يستفاد من بعض الروايات المنع عن الركوب عليه، كرواية جرّاح المدائني

ص: 520


1- كما في المهذّب 326:1-327، الذكرى 42:3، روض الجنان 555:2، المدارك 179:3، القواعد 256:1.
2- المختلف 82:2.
3- المعتبر 90:2.
4- الوسائل 1/378:4، ب 15 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1553/373:2.
5- المدارك 180:3.

المتقدّمة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه كان يكره أن يلبس القميص المكفوف بالديباج، و يكره لباس الحرير و لباس الوشي و يكره المثيرة الحمراء فإنّها مثيرة إبليس»(1) و في رواية أبي الجارود المتقدّمة «لا تركب بمثيرة الحمراء فإنّها من مراكب إبليس»(2) و عن القاموس:

«المثيرة كهيئة المرفقة يتّخذ للسرج من الحرير و الديباج»(3) و عن النهاية(4) و غيرها(5)«أنّها من مراكب العجم تعمل من حرير أو ديباج».

و لكنّ الّذي يهوّن الخطب في ذلك - بعد الإغماض عن قصور سندي الخبرين، و اختصاص المنع المستفاد منها بالحمراء، فيندرج غيرها تحت الأصل - أنّه لم يظهر عامل بهما من الأصحاب، فحملهما على الكراهة غير بعيد كما صنعوه في المكفوف. و ربّما يومئ إليه التعليل بكونها مثيرة إبليس و من مراكبه، فإنّه و نظائره يناسب التنزيه، و لا يصلح جهة مقتضية للتحريم كما يظهر بأدنى تأمّل.

و أمّا التدثّر بالحرير ففي المدارك «أنّ الأظهر تحريمه»(6) و في الذخيرة(7) «فيه تردّد» و عن المحقّق الأردبيلي «احتمال التحريم في التدثّر و الالتحاف كليهما، لصدق اللبس على لبس اللحاف و نحوه»(8) و به علّل المنع في المدارك.

و ردّ بأنّه على تقدير شمول اللبس له يمكن أن يقال: إنّ المتبادر من اللبس الوارد في الأخبار هو الفرد الشائع منه و هو لبس الثياب على الوجه المعهود، فالحكم بتحريم جميع ما يصدق عليه لا يخلو عن إشكال.

أقول: إن لم نقل بظهور قوله عليه السّلام: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» و قوله عليه السّلام: «إنّما يكره الحرير المحض» في غير ما نحن فيه من الالتحاف و التدثّر و الصلاة معهما فلا أقلّ من عدم ظهوره فيما نحن فيه، فيكون بالقياس إليه مجملا فيندرج بذلك فيما اشتبه التكليف التحريمي في غير الصلاة و المكلّف به بالقياس إليها للشكّ في المانعيّة لإجمال النصّ ، و من المقرّر في محلّه أنّ المرجع في المسألتين معا هو أصل البراءة النافي للعقاب المحتمل ترتّبه على مخالفة الواقع.

ص: 521


1- الوسائل 9/370:4، ب 11 من أبواب لباس المصلّي.
2- الوسائل 5/368:4، ب 11 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 774/164:1.
3- قاموس المحيط 152:2.
4- النهاية 150:5.
5- مجمع البحرين 509:3.
6- المدارك 180:3.
7- الذخيرة: 228.
8- مجمع الفائدة و البرهان 85:2.

و منه يظهر الحكم في الاتّزار بإزار الحرير لعدم صدق اللبس عليه و لا اللباس و الثوب على الإزار. و إطلاق الثوب عليه في بعض الأحيان كما في ثوبي الإحرام و أثواب كفن الميّت مجاز، بدليل عدم إطلاق الثوب عليه إلاّ بالإضافة فيكون كالمضاف من الماء قبالا للمطلق، و على فرض تسليم الصدق فلا ينصرف إلى نحوه الإطلاق جزما، غاية الأمر كون الخطاب الوارد في المنع عن لبس الحرير و الصلاة فيه بالقياس إلى ما نحن فيه مجملا، فيندرج في موضوع أصل البراءة حسبما ذكرناه هذا، و لكنّ الاحتياط فيه و في التدثّر واضح، بل لا ينبغي تركه بالقياس إلى الصلاة.

النوع الخامس: ما كان ذهبا أو مموّها بالذهب من لباس أو خاتم،
اشارة

و الكلام هاهنا تارة في الحكم التكليفي و هو تحريم لبس الذهب على الرجال، و اخرى في الحكم الوضعي و هو بطلان الصلاة به، فهاهنا مقامان:

أمّا المقام الأول: فالظاهر أنّ تحريم لبس الذهب و التختّم به على الرجال خاصّة محلّ وفاق بين الأصحاب، قال في الحدائق: «أمّا تحريم لبس الذهب على الرجال فلا خلاف فيه بين الأصحاب»(1) و في المستند «أنّه ممّا لا خلاف فيه كما في حبل المتين(2)و البحار(3) و المفاتيح(4) بل قيل(5) إنّه ضروري الدين»(6) و في كلام بعض مشايخنا «لا يجوز لبس الذهب إجماعا أو ضرورة»(7).

هذا مضافا إلى الروايات كالنبويّ المتقدّم «هذان محرّمان على ذكور امّتي»(8) و النبوي العامّي أيضا «حلّ الذهب و الحرير للاناث من امّتي و حرّم على ذكورها»(9).

و موثّقة عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الرجل يصلّي و عليه خاتم حديد؟ قال: لا، و لا يتختّم به الرجل فإنّه من لباس أهل النار، و قال: لا يلبس الرجل الذهب، و لا يصلّي فيه لأنّه من لباس أهل الجنّة»(10).

و رواية موسى بن أكيل النميري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الحديد أنّه حلية أهل النار،

ص: 522


1- الحدائق 102:7.
2- حبل المتين: 185.
3- البحار 251:80.
4- حكاه الوحيد البهبهاني عن المفاتيح في شرحه 85:20.
5- مصابيح الظلام 85:20.
6- المستند 356:4.
7- الجواهر 180:8.
8- مسند أحمد 66:1، سنن ابن ماجة 3595/1189:2.
9- سنن النسائي: 190:8.
10- الوسائل 4/413:4، ب 30 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1548/372:2.

و الذهب أنّه حلية أهل الجنّة، و جعل اللّه الذهب في الدنيا زينة النساء فحرّم على الرجال لبسه و الصلاة فيه، و جعل اللّه الحديد في الدنيا زينة الجنّ و الشياطين فحرّم على الرجل أن يلبسه في الصلاة إلاّ أن يكون قتال عدوّ فلا بأس به»(1).

و الروايات الناهية عن التختّم بالذهب بالغة حدّ الاستفاضة، ففي موثّقة روح بن عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأمير المؤمنين عليه السّلام: لا تختّم بالذهب فإنّه زينتك في الآخرة»(2).

و رواية حنان بن سدير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام:

إيّاك أن تتختّم بالذهب فإنّه حليتك في الجنّة»(3).

و رواية الجرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تجعل في يدك خاتما من ذهب»(4).

و رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام «إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعليّ عليه السّلام: إنّي احبّ لك ما احبّ لنفسي، و أكره لك ما أكره لنفسي، لا تتختّم بخاتم ذهب فإنّه زينتك في الآخرة... الخ»(5).

و رواية عبيد اللّه بن عليّ الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال عليّ عليه السّلام: نهاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - و لا أقول نهاكم - عن التختّم بالذهب...»(6) الخ.

و رواية البراء بن عازب قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن سبع و أمر بسبع، نهانا أن نتختّم بالذهب، و عن الشرب في آنية الذهب و الفضّة، و قال: من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة... الخ»(7).

و رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيه «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهاهم عن سبع، منها التختّم بالذهب»(8) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع. و هذه الروايات و إن

ص: 523


1- الوسائل 5/414:4، ب 20 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 894/227:2.
2- الوسائل 1/412:4، ب 30 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 5/468:6.
3- الوسائل 11/416:4، ب 30 من أبواب لباس المصلّي، قرب الإسناد: 47.
4- الوسائل 2/413:4، ب 30 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 7/469:6.
5- الوسائل 6/414:4، ب 30 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 774/164:1.
6- الوسائل 7/414:4، ب 30 من أبواب لباس المصلّي، معاني الأخبار: 1/301.
7- الوسائل 8/415:4، ب 30 من أبواب لباس المصلّي، الخصال: 2/340.
8- الوسائل 9/415:4، ب 30 من أبواب لباس المصلّي، قرب الإسناد: 34.

ضعف أسانيد أكثرها، غير أنّ كثرتها مع حجّيّة الموثّق منها تغني عن التعرّض لإصلاح أسانيدها، لأنّها تؤثّر في الوثوق و الاطمئنان بصدور بعضها و فيه الكفاية في التزام الحكم المخالف للأصل و هو التحريم، مضافا إلى ما عرفت عن جماعة من نفي الخلاف المعتضد بدعوى غير واحد للضرورة. مع أنّه لم نقف على مستشكل فيه لا بالنسبة إلى اللباس و لا بالنسبة إلى الخاتم.

نعم ربّما يستشمّ من بعض الروايات ما يخالفه في الخاتم، كرواية ابن قدّاح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تختّم في يساره بخاتم من ذهب، ثمّ خرج على الناس، فطفق الناس ينظرون إليه، فوضع يده اليمنى على خنصره اليسرى حتّى رجع إلى البيت فرمى به فما لبسه»(1) و هذه الرواية - مع قصور سندها بسهل بن زياد المختلف في توثيقه، و جعفر بن محمّد الأشعري الغير المصرّح بتوثيقه - ليست صريحة و لا ظاهرة في عموم الجواز، و لذا حملت على النسخ لما في آخرها، أو على كونه من خصائص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لذلك كتمه لئلاّ يقتدى به.

و أمّا المقام الثاني: فالظاهر أنّه لا خلاف عندهم في بطلان الصلاة في اللباس منه في الجملة، و إن اختلفوا في اشتراط كونه ساترا و عدمه و غيره من جهات الخلاف الّتي تقف عليها، قال في شرح الدروس: «لا كلام في تحريم لبس الذهب فتبطل الصلاة فيه لو كان في ثوب أو نحوه»(2) و في المستند «إنّه مذهب الأكثر، بل يشعر كلام حبل المتين(3)و البحار(4) بعدم الخلاف فيما يتمّ الصلاة فيه وحده»(5) و عن الشيخ نجيب الدين «يشترط أن لا يكون لباس الرجل في الصلاة ذهبا بلا خلاف»(6).

و يدلّ عليه مع ذلك موثّقة عمّار المتقدّمة لمكان قوله عليه السّلام: «و لا يصلّي فيه» المعتضدة برواية ابن اكيل لمكان قوله: «فحرّم على الرجال لبسه و الصلاة فيه» فإنّ النهي عن العبادة تقتضي الفساد و لو باعتبار استفادة المانعيّة منه المقتضية لكون عدم ذهبيّة لباس المصلّي و غيره من قيود الصلاة المأمور بها، فيدور عليه الصحّة وجودا و عدما.

ص: 524


1- الوسائل 3/413:4، ب 30 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 9/476:6.
2- شرح الدروس 638:1.
3- حبل المتين: 185.
4- بحار الأنوار 251:80.
5- المستند 359:4.
6- نقله عنه في مفتاح الكرامة 443:5.

و إنّما المعضل إثبات بطلان الصلاة في الخاتم من الذهب لخلوّ الرواية المذكورة عن الدلالة عليه صراحة و ظهورا، و لذا وقع فيه الخلاف بين أصحابنا، فمنهم من قرّب العدم كالمحقّق في المعتبر قائلا: «لو صلّى و في يده خاتم من ذهب ففي فساد الصلاة تردّد، أقربه أنّه لا يبطل لما قلناه في الخاتم المغصوب، و منشؤه رواية موسى بن أكيل النميري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إلى آخر الرواية»(1) و قد تقدّمت.

و ملخّص ما ذكره في الخاتم المغصوب: أنّ النهي عنه متعلّق بأمر خارج عن الصلاة و ليس عن فعل من أفعالها و لا عن شرط من شروطها.

و منهم من قرّب البطلان كالعلاّمة في المنتهى قائلا: «و في بطلان الصلاة لمن لبس خاتم ذهب تردّد، أقربه البطلان، خلافا لبعض الجمهور، لنا أنّ الصلاة فيه استعمال له و هو محرّم، و قد عرفت أنّ النهي في العبادات يدلّ على الفساد، ثمّ أيّده برواية موسى بن أكيل»(2)و نسب إليه الجزم بالبطلان في التذكرة(3): للنهي عن الكون فيه، و لقول الصادق عليه السّلام: «جعل اللّه الذهب حلية أهل الجنّة...»(4) إلى آخر الحديث و إن لم نجده في النسخة الحاضرة عندنا. و حكم به في التحرير مستشكلا حيث قال: «تبطل الصلاة في خاتم ذهب على إشكال، و كذا المنطقة و الثوب المنسوج بالذهب و المموّه به للرجال خاصّة و هل يجوز افتراشه ؟ فيه إشكال، أقربه التحريم»(5).

و يظهر اختياره من الشهيد في الذكرى قائلا: و الصلاة فيه - أي في الذهب - حرام على الرجال فإن موّه به ثوبا فصلّى فيه بطلت بل لو لبس خاتما منه فصلّى فيه بطلت صلاته، قاله الفاضل: لقوله عليه السّلام: «جعل اللّه الذهب حلية لأهل الجنّة فحرّم على الرجال لبسه و الصلاة فيه» رواه موسى بن أكيل النميري عنه، و فعل المنهيّ عنه مفسد للعبادة...(6) الخ.

أقول: العمدة في المقام بيان مستند البطلان، و هو لا يخلو عن غموض، إذ قد عرفت من نقل الكلمات المتقدّمة أنّ العمدة من مستند المبطلين إنّما هو النهي عن لبس خاتم الذهب الوارد في الروايات، و هو إنّما يلازم البطلان إذا تعلّق بالصلاة في خاتم الذهب نظرا إلى قضائه حينئذ بمانعيّة هذا الذهب، و قضيّة المانعيّة كون عدمه من قيود المأمور فيبطل بسبب

ص: 525


1- المعتبر 92:2.
2- المنتهى 231:4.
3- التذكرة 476:2.
4- التهذيب 894/227:2.
5- التحرير 197:1.
6- الذكرى 47:3.

الإخلال بذلك القيد العدمي. أو إذا تعلّق بأمر خارج مفارق عن الصلاة متّحد معها في الوجود كالغصب المنهيّ عنه المتّحد مع الصلاة في المكان المغصوب، بناء على امتناع اجتماع الأمر و النهي كما هو الحقّ المحقّق في محلّه، و المفروض عدم كون النهي هاهنا على أحد شيء من الوجهين، لوضوح عدم تعلّقه في الروايات المتقدّمة بالصلاة في الخاتم، و عدم كون لبسه في الصلاة متّحد الكون معها، بل هو شيء خارج عن الصلاة مفارق لها غير متّحد معها في الوجود، و إنّما هو كالنظر إلى الأجنبيّة المنهيّ عنه حال الصلاة، و هو على ما حقّق في محلّه لا يلازم البطلان.

و لبعض ما ذكرناه أجراه في المعتبر مجرى الصلاة في الخاتم المغصوب.

و أمّا ما وجّهه العلاّمة في المنتهى «من أنّ الصلاة فيه استعمال له و هو محرّم، قال: و قد عرفت أنّ النهي في العبادات يدلّ على الفساد»(1). ففيه: أنّ النهي إنّما تعلّق بلبسه و التختّم به، و هو استعمال له و الصلاة فيه حال هذا الاستعمال ليس استعمالا له، بل هي مقارنة غير متّحدة معه في الوجود، فلم يتعلّق النهي بها من حيث إنّها استعمال له ليقتضي فسادها.

و أمّا ما وجّهه في التذكرة من «أنّ النهي عن الكون فيه»(2). ففيه: أنّه إن أراد به أنّ الصلاة فيه كون فيه و هو منهيّ عنه فيرجع ذلك النهي بالأخرة إلى الصلاة من حيث إنّها كون فيه، فهو بمعزل عن التحقيق لمنع تعلّق النهي بالكون فيه، و إنّما هو متعلّق بلبسه و هو عنوان آخر يلازم الكون فيه، لا أنّه نفسه، فالكون فيه من لوازم المنهيّ عنه لا أنّه عينه.

و إن أراد به أنّ الكون الصلاتي متّحد مع الكون فيه في الوجود و هو محرّم فيبطل به الصلاة المتّحدة معه بضابطة امتناع اجتماع الأمر و النهي.

فيدفعه أوّلا: منع كون الكون فيه منهيّا عنه كما عرفت، و ثانيا: منع اتّحاده مع كون الصلاة فإنّ كون الصلاة عبارة عن الحركات و السكنات المخصوصة الّتي هي أفعالها من القيام و الركوع و الجلوس و غير ذلك، و الكون فيه عبارة عن الكون بالمعنى اللغوي الّذي هو من لوازم الجسم، و هو من مقارنات كون الصلاة لا من المتّحدات معه في الوجود.

فالوجه: أن يستنبط البطلان من موثّقة عمّار المتقدّمة إن تمّ حيث إنّه عليه السّلام «في الرجل يصلّي و عليه خاتم حديد؟ قال: لا و لا يتختّم به الرجل، فإنّه من لباس أهل النار، و قال:

ص: 526


1- المنتهى 231:4.
2- التذكرة 476:2.

لا يلبس الرجل الذهب و لا يصلّي فيه أنّه من لباس أهل الجنّة» بتقريب ظهور الذهب لقرينة سبق ذكر الخاتم في الخاتم من الذهب أو فيما يعمّه، و النهي عن الصلاة فيه نهي عن الصلاة في خصوص الخاتم منه أو فيما يعمّه و هو يقتضي الفساد.

و لا ينبغي القدح في سند الرواية لكونها موثّقة، و لا في دلالتها بملاحظة النهي السابق عن الصلاة في خاتم الحديد المحمول على الكراهة، لمنع نهوض ذلك قرينة على إرادة الكراهة منه عن الصلاة في الذهب، لأنّ التجوّز في أحد اللفظين الواردين في الكلام بقرينة لا يصلح قرينة عليه في اللفظ الآخر، بل هو على حقيقته حتّى يقوم قرينة اخرى على التجوّز فيه، فالأقوى إذن بطلان الصلاة في الخاتم من الذهب أيضا.

[فروع]:
[الأوّل: هل المنع من لبس الذهب و الصلاة فيه مخصوص بما كان ساترا أو عامّ لمطلق الملبوس]

فروع:

الأوّل: في أنّ المنع من لبس الذهب و الصلاة فيه هل يكون مخصوصا بما كان ساترا للعورة أو عامّا لمطلق الملبوس ؟ و هل هو على الثاني مخصوص بما يكون بحيث يتمّ الصلاة فيه أو يعمّه و غيره ممّا لا يتمّ كالقلنسوة و المنطقة و التكة و الجورب و ما أشبه ذلك ؟ و على التقادير فهل هو مختصّ بما يكون ممحّضا بأن يكون كلّ من سدى الثوب و لحمته ذهبا أو يعمّه و غير الممحّض بأن يكون أحدهما ذهبا؟ و على الثاني: فهل يعمّ الخليط من الذهب في موضع من الثوب بالنسج و المخيط منه في أطراف الثوب و جوانبه كالمعمول من كلابتون في نحو العباية و ما أشبهها؟

و تحقيق المقام أنّ مستند المنع لبسا و صلاة إن كان هو الإجماع لا غيره، فالّذي ينبغي أن يقطع به هو الاختصاص بالممحّض من الساتر للعورة خاصّة، لأنّه القدر المتيقّن من معقد الإجماع، و عدم ثبوت الإجماع في غيره من الفروض، و لذا تردّد العلاّمة في المنتهى(1) في غير الساتر منه، و منهم من استشكل فيه.

و صرّح أبو الصلاح في العبارة المحكيّة عنه بالكراهة في غير الممحّض، حيث قال:

«و تكره الصلاة في الثوب المصبوغ و آكده كراهية الأسود ثمّ الأحمر المشبّع و الموشّح و المذهّب و الملحّم بالحرير و الذهب»(2).

و احتمال إرادة التحريم من الكراهة جريا على ما هو الغالب في كلام القدماء من شيوع

ص: 527


1- المنتهى 231:4.
2- الكافي في الفقه: 140.

إطلاقها على الكراهة يبعّده الثوب المصبوغ، ثمّ تأكيد الكراهة في الأسود و الأحمر منه لكون التحريم فيها خلاف الإجماع بل الضرورة.

كما أنّ احتمال إرادة القدر الجامع بينه الكراهة المصطلحة مع رجوعه إلى الملحّم مثلا يبعّده أنّ حمل الكراهة بعد صرفها عن التحريم على القدر الجامع ليس بأولى من حملها على المعنى المصطلح عليه، مع أنّه يبعّده ترك ذكر الممحّض فإنّه على تقدير إرادة ما يعمّ التحريم كان أولى بالذكر، لكونه القدر المقطوع به من محلّ التحريم، و حينئذ فيرجع فيما عدى القدر المتيقّن من معقد الإجماع من الفروض المذكورة و غيرها، إلى الاصول السليمة عمّا يخرج عنها، من أصل الإباحة و أصالة عدم المانعيّة و أصل البراءة بالقياس إلى الصلاة و غيرها.

و إن كان مستنده الروايات كقوله عليه السّلام في موثّقة عمّار: «لا يلبس الرجل الذهب و لا يصلّي فيه» فلا بدّ و أن يلاحظ مقدار دلالته عموما و خصوصا و يحكم على حسبه، و يرجع فيما عداه إن خرج عن العموم إلى الاصول المذكورة، و عليه فلا ينبغي التأمّل في عمومه للملبوس ساترا و غيره محضا و غيره تمّ فيه الصلاة أو لا.

و يؤيّده كون مورد الرواية هو الخاتم، و هو ليس بساتر و لا ممّا يتمّ فيه الصلاة. و يؤيّده أيضا بل يدلّ عليه تعليل المنع من الخاتم في موثّقة روح بن عبد الرحمن «بأنّه زينتك في الآخرة» فإنّه بمفهومه يدلّ على المنع من كلّ ما يعدّ من الذهب زينة في الدنيا.

و لا ريب أنّه في الجميع يعدّ في الدنيا زينة بل قضيّة ذلك عموم المنع لجميع الفروض المشار إليها في عنوان الفرع و غيرها ممّا يجعله الرجل على اللباس من الذهب، كنصب قطعة منه على المنطقة و نصب زرّة الذهب على الثوب و ما أشبه ذلك، و منه الكلابتون المخيط على الثوب، و العباء و نحوه.

نعم: يشترط فيه كونه ظاهرا و واضحا في الأنظار، لأنّ الزينة إنّما تتحقّق بذلك، و أمّا ما كان لقلّته خفيّا و لم يكن لخفائه واضحا سواء كان مستهلكا أو لا فلا بأس به، لعدم تحقّق الزينة به إلاّ أن يقال على تقدير عدم الاستهلاك يصدق لبس الذهب و الصلاة فيه عليه.

و ينبغي القطع بعدم شمول المنع للمحمول من الذهب و ما يستصحبه في جيبه من الدنانير المسكوكة و غيرها من حلي النسوان و غيرها، و المنسوج من الذهب و غيره،

ص: 528

ما لم يكن ملبوسا و لا معدودا مع الرجل زينة له.

[الثاني: حكم الصلاة في المموّه من الثوب و الخاتم]

الثاني: أنّ في المموّه من الثوب و الخاتم و هو المذهّب أعني المطلّى بماء الذهب خلافا، و كلام أبي الصلاح المتقدّم صريح في الجواز على كراهية، و ربّما احتمله المحكيّ عن الغنية «تكره الصلاة في المذهّب و الملحّم بالذهب بدليل الإجماع المشار إليه»(1).

خلافا للعلاّمة في التذكرة(2) و الشهيد الأوّل في الذكرى و الشهيد(3) و المحقّق(4) الثانيين على ما حكي عنهما فصاروا إلى المنع و بطلان الصلاة فيه أيضا، و علّله في الذكرى بصدق الذهب عليه حيث قال: «لو موّه الخاتم بذهب فالظاهر تحريمه لصدق اسم الذهب عليه، نعم لو تقادم عهده حتّى اندرس و زال مسمّاه جاز، و مثله الأعلام على الثياب من الذهب و المموّه به في المنع من لبسه و الصلاة فيه»(5) انتهى.

و ربّما فصّل بين الثوب فالمنع، و الخاتم فالجواز، كما في المستند قائلا: «الظاهر أنّ حكم المنسوج من المموّه بالذهب حكم الذهب، لأنّ ماء الذهب ذهب، فيصدق لبس الذهب و الصلاة فيه... إلى أن قال: و أمّا الخاتم المموّه، فالظاهر فيه عدم التحريم، لأنّ المركّب من الذهب و غيره ليس بذهب»(6).

و في كلّ من تعليل الذكرى و هذا التعليل المفرّق نظر، و ذلك لأنّ صدق اسم الذهب على ما حصل في الثوب و الخاتم بالطلي ممّا لا ينبغي التأمّل فيه، و لكنّه لا يجدي نفعا في شمول مطلقات المنع لهما، إلاّ إذا صدق الإضافة و النسبة في لبس الذهب و الصلاة فيه، و التختّم بالذهب على لبس هذا الثوب و التختّم بهذا الخاتم و الصلاة بأن يصدق لبس الذهب و الصلاة فيه و التختّم بالذهب عليهما، و العمدة إنّما هو إثبات هذا الصدق، و لا ملازمة بين الصدقين فلا يتّجه الحكم بالمنع بمجرّد صدق اسم الذهب على الموجود فيهما.

ثمّ إنّ تركّب الذهب و غيره في الخاتم إن صلح مانعا من شمول أدلّة خاتم الذهب فهو بعينه موجود في الثوب المموّه، لأنّه أيضا مركّب من الذهب و غيره، و إن كان الوجه في شمول أدلّة المنع من الثوب صدق الإضافة و النسبة في الثوب المموّه على معنى صدق لبس الذهب و الصلاة فيه على لبس هذا الثوب و الصلاة فيه وجب الالتزام بصدقهما في

ص: 529


1- الغنية: 66.
2- التذكرة 471:2.
3- المقاصد العليّة: 174.
4- رسائل الكركي 67:1.
5- الذكرى 47:3-48.
6- المستند 360:4.

الخاتم المموّه أيضا، و الفرق تحكّم إلاّ أن يقال: إنّ المتعارف في ثوب الذهب إنّما هو المركّب حتّى في غير المركّب، إذ لا وجود لغير المركّب منه فلا محمل لقوله: لا يلبس الرجل الذهب و لا يصلّي فيه إلاّ لبس المركّب و الصلاة فيه بخلاف خاتم الذهب، فإنّه ظاهر في الخالص منه لأنّه المعهود المتعارف الغالب الوجود منه، فلا يتناول إطلاقه غير الخالص.

و كيف كان فلا بدّ في التزام المنع في المموّه من إثبات صدق الإضافة ليصدق معه لبس الذهب و التختّم به و الصلاة فيه، و هو لا يخلو عن إشكال.

و ربّما يؤيّد العدم رواية الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السرير فيه الذهب أ يصلح إمساكه في البيت ؟ فقال: إن كان ذهبا فلا، و إن كان ماء الذهب فلا بأس»(1)فإنّ الذهب و إن كان خارجا عن عنوان المسألة إلاّ أنّ الرواية تدلّ على وقوع فرق ما بين الذهب و المذهّب، مع إمكان القول بكون الحكم في موردها في طرفي النفي و الإثبات هو الكراهة لا الحرمة بدليل ظهور «لا يصلح» في الكراهة.

و كيف كان فالمرجع في محلّ الإشكال هو الاصول، لكنّ الاحتياط ممّا ينبغي مراعاته خروجا عن مخالفة النصّ و الشهرة المتوهّمة، بل الإجماع المتوهّم من عبارة الغنية المتقدّمة، بناء على احتمال إرادة الحرمة من الكراهة، بل الاحتياط في الصلاة ممّا لا يترك.

[الثالث: في جواز الافتراش بالثوب المنسوج بالذهب أو المموّه به]

الثالث: صرّح جماعة بجواز الافتراش بالثوب المنسوج بالذهب أو المموّه به، بل لم أقف فيه على قول بالمنع، نعم تردّد فيه العلاّمة في المنتهى إلاّ أنّه قرّب الجواز قائلا:

«هل يجوز افتراش الثوب المنسوج بالذهب و المموّه به تردّد؟ و أقربه الجواز» انتهى(2).

و يقتضيه الاصول و العمومات السليمين عمّا يخرج عنهما لعدم تناول عمومات المنع المعلّقة له على لبس الذهب و الصلاة، و هذا ليس لبسا مع عدم شمول الصلاة فيه على الصلاة عليه، و منه يعلم الحكم في المخدّة المعمولة من الذهب نسجا و خيطا فيجوز الاتّكاء به للرجل للأصل و العمومات، و كذا الحكم في سائر ما أشبه ذلك ممّا ليس من جنس اللباس و الخاتم، و ربّما يدلّ رواية الفضيل المتقدّمة على الجواز على كراهية في المذهّب، و الجواز لا على كراهية في المذهّب، لأنّ السرير أيضا من أفراد هذا العنوان.

ص: 530


1- الوسائل 1/510:3، ب 67 من أبواب النجاسات، الكافي 10/476:6.
2- المنتهى 232:2.

نعم ربّما يدخل في الوهم المنع من عموم مفهوم التعليل في قوله: «زينتك في الآخرة» لكن يبعّده الإضافة المفيدة للاختصاص، لظهورها في أن يكون للزينة مزيد اختصاص بالرجل و لا يكون إلاّ في ثوبه أو مطلق ملبوسه و منه خاتمه، و هذا المفروض بجميع افراده زينة البيت لا زينة الرجل، و لا دليل على المنع من مطلق الزينة.

[الرابع: لا بأس بتحلية السيف و الخنجر و ما أشبهه بالذهب]

الرابع: في حاشية الروضة «قالوا: لا بأس بتحلية السيف بالذهب»(1) أقول: و نحوه في الحكم الخنجر و ما أشبهه، و المصحف و كتب الحديث و التفسير و الدعاء و غيرها، و لم أقف على قول بالمنع هنا أيضا، و لا على حكايته. و دليله بعد الأصل و العمومات عدّة من الروايات، كحسنة عبد اللّه بن سنان - بإبراهيم بن هاشم - عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ليس بتحلية السيف بالذهب و الفضّة بأس»(2) و رواية داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«ليس بتحلية المصاحف و السيوف بالذهب و الفضّة بأس»(3) و بهما يخصّص عموم مفهوم التعليل المتقدّم إن سلّمناه، و إلاّ يتطرّق المنع إلى عمومه بالبيان المتقدّم. نعم ربّما يشكل الحال في الصلاة مع السيف المحلّى بالذهب و ما أشبهه، لصدق الصلاة في الذهب حينئذ.

فالأقرب هو المنع من الصلاة معه مع أنّه أحوط.

[الخامس: حكم الخنثى و الصبيّ في لبس الذهب و التختّم به]

الخامس: حكم الخنثى و الصبيّ هنا كما تقدّم في الحرير من عدم المنع فيهما من لبس الذهب و التختّم به، للأصل في الخنثى باعتبار شبهة الموضوع، و أمّا الصبيّ فلا تكليف له ليتناوله عمومات المنع، و لا يجب على الوليّ منعه أيضا للأصل، و عدم الدليل عليه إلاّ توهّم وجوب النهي عن المنكر، و يزيّفه أنّه ليس بمنكر في حقّ الصبيّ بل لا يحرم عليه تمكينه عن لبسه للأصل أيضا.

و يؤيّده صحيحة أبي الصباح قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الذهب يحلّى به الصبيان قال: كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام يحلّي ولده و نساءه بالذهب و الفضّة»(4) و صحيحة داود بن سرحان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الذهب يحلّى به الصبيان ؟ فقال: إنّه كان أبي ليحلّي

ص: 531


1- حاشية الروضة: 198.
2- الوسائل 1/104:5، ب 64 من أبواب أحكام الملابس، الكافي 5/475:6.
3- الوسائل 3/105:5، ب 64 من أبواب أحكام الملابس، الكافي 7/475:6.
4- الوسائل 1/103:5، ب 63 من أبواب أحكام الملابس، الكافي 1/475:6.

ولده و نساءه بالذهب و الفضّة فلا بأس»(1).

النوع السادس: ما كان مغصوبا، و تمام الكلام فيه يقع في مقامات:
[المقام الأوّل: الصلاة في الثوب المغصوب مع العلم بالغصبيّة]

المقام الأوّل: في الصلاة في الثوب المغصوب مع العلم بالغصبيّة، و لا خلاف في تحريمها، و الإجماعات المنقولة عليه في كلام الأصحاب بالغة فوق حدّ الاستفاضة، و يعمّه عموم تحريم التصرّف في ملك الغير بغير إذنه، و منه التوقيع المرويّ عن الوسائل «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(2) و في محمّد بن زيد الطبري «لا يحلّ مال إلاّ من وجه أحلّه اللّه»(3).

و يظهر من عبارة المنتهى تواتر النقل به عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلا: «و تحرم الصلاة في الثوب المغصوب إذا كان عالما بالغصب، و هو إجماع أهل العلم كافّة لما ثبت من تحريم التصرّف في ملك الغير بغير إذنه تواترا عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(4) فهذا ممّا لا ينبغي التكلّم فيه.

و إنّما الكلام في بطلان الصلاة في الثوب المغصوب إلاّ أنّه أيضا إجماعيّ في الجملة بين أصحابنا، بل في كلام جماعة نقل الإجماع عليه بقول مطلق و من غير تفصيل، كما في الناصريات(5) و الغنية(6) و المنتهى قائلا عقيب عبارته المتقدّمة: «و اختلف العلماء في بطلان الصلاة فيه، فالّذي عليه علماؤنا بطلان الصلاة فيه»(7) و التذكرة قائلا: «يشترط في الثوب الملك أو الإباحة صريحا أو فحوى، فلا تصحّ الصلاة في الثوب المغصوب مع العلم بالغصب عند علمائنا أجمع»(8) و نهاية الإحكام قائلا: «لا تصحّ الصلاة في الثوب المغصوب مع العلم بالغصبيّة عند علمائنا أجمع»(9) و عزي دعواه إلى جماعة آخرين.

و ظاهر إطلاق هؤلاء عدم الفرق فيه بين كونه الساتر للعورة أو غيره بل هو صريح عبارة نهاية الإحكام قائلا - عقيب كلامه المتقدّم -: «و لا فرق بين أن يكون هو الساتر أو غيره، بل لو كان معه خاتم أو درهم أو غيرهما مغصوب و صلّى مستصحبا له بطلت صلاته»(10). و ممّن صرّح بعدم الفرق الشهيد في البيان على ما حكي من قوله: «و لا تجوز

ص: 532


1- الوسائل 2/103:5، ب 63 من أبواب أحكام الملابس، الكافي 2/475:6.
2- الوسائل 3/234:24، ب 63 من أبواب الأطعمة و الأشربة، إكمال الدين 49/520، الاحتجاج: 479.
3- الوسائل 2/538:9، ب 3 من أبواب الأنفال، التهذيب 395/139:4.
4- المنتهى 229:4.
5- الناصريّات: 205.
6- الغنية: 66.
7- المنتهى 229:4.
8- التذكرة 476:2.
9- نهاية الإحكام 378:1.
10- نهاية الإحكام 378:1.

الصلاة في الثوب المغصوب و لو خيطا فيبطل الصلاة مع علمه بالغصب»(1) و عزي التصريح به أيضا إلى الدروس(2) و فوائد الشرائع(3) و الموجز(4) و الجعفريّة(5) و غيرها(6) بل عن المقاصد العليّة(7) نسبته إلى الأكثر.

خلافا للمحقّق في المعتبر فخصّ البطلان بالساتر منه و شرك معه ما يسجد عليه و ما قام فوقه، و تبعه جماعة ممّن تأخّر عنه منهم ثاني الشهيدين في شرح الإرشاد(8) و صاحب المدارك(9) قال في المعتبر - بعد ما نسب القول بالبطلان إلى الثلاثة و أتباعهم -: ثمّ اعلم أنّي لم أقف على نصّ عن أهل البيت عليهم السّلام بإبطال الصلاة و إنّما هو شيء ذهب إليه المشايخ الثلاثة منّا و أتباعهم و الأقرب أنّه إن كان ستر به العورة أو سجد عليه أو قام فوقه كانت الصلاة باطلة، لأنّ جزء الصلاة يكون منهيّا عنه و تبطل الصلاة بفواته، أمّا لو لم يكن كذلك لم تبطل و كان كلبس خاتم مغصوب. انتهى(10).

و قوّاه الشهيد في الذكرى - حيث إنّه بعد ما نقل قول المحقّق، و نقل كلام العلاّمة في النهاية، و ذكر في مستنده - «أنّ هذا كلّه بناء على أنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه، و أنّ النهي في العبادة مفسد، سواء كان عن أجزائها أو عن وصف لا تنفكّ عنه، قال: لا تخلو هذه المقدّمات من نظر، فقول المحقّق لا يخلو من قوّة، و إن كان الاحتياط للدين الإبطال كيف كان» انتهى(11). و عن الشهيد الثاني في شرح الإرشاد(12) دعوى الإجماع على البطلان في الصور الثلاث.

و هاهنا قول ثالث و هو برزخ بين القولين اختاره المحقّق الخوانساري في حاشية الروضة، و هو البطلان في الساتر و غيره إذا استلزم فعل الصلاة فيه تصرّفا زائدا على لبسه الّذي هو تصرّف فيه حيث قال: «و التحقيق أنّ كون النهي في العبادة مقتضيا للفساد محلّ كلام - كما فصّلنا الكلام فيه في الاصول - إلاّ أن يثبت الإجماع على اقتضائه شرعا كما هو ظاهر الأصحاب. و إذا ثبت ذلك فالظاهر الحكم بالبطلان مطلقا في الساتر و غيره، إذا

ص: 533


1- البيان: 58.
2- الدروس 151:1.
3- فوائد الشرائع: 31.
4- الموجز الحاوي (رسائل العشر): 69.
5- الجعفريّة (رسائل الكركي) 102:1.
6- كمجمع الفائدة و البرهان 78:2.
7- المقاصد العليّة: 99.
8- روض الجنان 547:2.
9- المدارك 181:3.
10- المعتبر 92:2.
11- الذكرى 48:3-49.
12- روض الجنان 547:2.

استلزم شيء من أجزاء الصلاة تصرّفا جديدا فيه غير لبسه كالسجود عليه أو قبضه و بسطه في الحالات. و أمّا إذا لم يستلزم ذلك كعمامة مغصوبة على رأسه لا يحصل بالصلاة فيها تصرّف زائد على لبسه فالظاهر عدم البطلان، إذ النهي إنّما تعلّق باللبس و هو خارج عن الصلاة، و لم يتعلّق بشيء من أجزاء الصلاة، و مجرّد كونه ساترا كأنّه لا يوجب البطلان، إذ الظاهر أنّ الستر ليس من أجزاء الصلاة بل من المقدّمات الخارجة كطهارة الثوب، فكما أنّ تطهير الثوب أو البدن بالماء المغصوب لا يقتضي بطلان الصلاة، فأمكن أن يكون الستر بالمغصوب أيضا كذلك»(1) إلى آخر ما ذكره.

و تحقيق المقام أنّ الصلاة في المغصوب لم يتعلّق بها نهي بالخصوص، كما تعلّق بها في جلد الميتة و جلد ما لا يؤكل لحمه و الحرير و الذهب ليتمسّك في إبطالها باقتضاء النهي في العبادة الفساد، و لو باعتبار اقتضاء المانعيّة و حينئذ فلا بدّ في إبطالها من الرجوع إلى مسألة اجتماع الأمر و النهي في واحد شخصي.

فعلى القول بامتناعه كما هو الحقّ المحقّق في الاصول اتّجه البطلان، بشرط أن يكون أفعال الصلاة الّتي هي عبارة عن الحركات المخصوصة متّحد الوجود مع الغصب المنهيّ عنه الّذي هو عبارة عن التصرّف العدواني، و التصرّف في ملك الغير بغير إذنه، بأن تكون أفعال الصلاة أو شيء منها في جميع الحالات أو في بعضها من حيث وقوعه في المغصوب بعينه هو الغصب و التصرّف في ملك الغير، و حيث إنّه بهذا الاعتبار منهيّ عنه امتنع كونه باعتبار أنّه جزء الصلاة مأمورا به، و لا يعني من البطلان إلاّ هذا، لأنّ الصحّة موافقة الأمر و حيث لا أمر لا صحّة.

و على هذا فلا يتفاوت الحال في البطلان بين كون المغصوب مشغولا بستر العورة أو لا، و لا بين كونه بحيث يتمّ فيه الصلاة أو لا، حتّى ما يكون خيطا في ثوب.

نعم يبقى الكلام في العمامة و القلنسوة و ما أشبه ذلك ممّا لم يحصل بالصلاة فيه تصرّف زائد على لبسه حسبما زعمه الخوانساري، فهل تبطل الصلاة فيه أيضا - كما هو قضيّة إطلاق القول الأوّل المدّعى عليه الإجماع - أو لا كما جزم به الخوانساري ؟ وجهان، بل

ص: 534


1- حاشية الروضة: 186.

قولان. أقواهما الأوّل، و يمكن الاستدلال عليه بأحد الوجوه:

الأوّل: أنّ تفريغ المغصوب و إيصاله إلى صاحبه واجب فوري و الصلاة فيه مكانه ضدّ له، و الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ، و هو إذا كان الضدّ عبادة يقتضي الفساد، و هذا إن تمّ لقضى بالبطلان في مطلق المحمول المغصوب و إن لم يكن ملبوسا بل في مطلق المغصوب إذا كان تحت يد المصلّي و إن لم يكن مصحوبا له حال الصلاة.

الثاني: أنّ الانحناء للركوع و السجود و رفع الرأس عنهما و الأخذ بالقيام بعد السجود تحريك للرأس و غيره من العضو الشاغل لنحو هذه الأشياء، و هو علّة لتحريك هذه الأشياء الّتي على الرأس أو العضو الآخر، و هو من حيث كونه تصرّفا في ملك الغير بغير إذنه محرّم، فيحرم علّته بضابطة حرمة مقدّمة الحرام، و هي من حيث كونها من أجزاء الصلاة فالنهي فيها يقتضي الفساد.

الثالث: أنّ الصلاة في الشيء تصرّف في ذلك الشيء عرفا على معنى صدقه عليها في العرف و إن لم يحصل بها حركة فيه و لا تقلّب من قبض أو بسط أو غيرهما، و لذا يصدق التصرّف في المكان أو الفرش على الصلاة فيهما مع عدم استلزامها تحرّكا و لا تقلّبا فيهما، بل نقول: إنّ صدق التصرّف في ملك الغير في الصلاة في الثوب ساترا أو غيره إنّما هو باعتبار كون الصلاة فيه بنفسها تصرّفا من دون مدخليّته لما يعرضه في الحالات من القبض و البسط و غيرهما في ذلك الصدق، على معنى أنّه ليس محقّقا لصدق التصرّف على الصلاة فيه، بل هو حيثما حصل فمن المقارنات الاتّفاقيّة، فملاك صدق قضيّة قولنا «تصرّف فيه» صدق قولنا «صلّى فيه» و لا ريب في صدق الصلاة فيه على الصلاة في هذه الأشياء و هي بعينها تصرّف فيها فيكون منهيّا عنه، و معه يستحيل الصحّة بناء على امتناع اجتماع الأمر و النهي.

و هذا أوجه الوجوه، لإمكان المناقشة في الأوّلين، أمّا في الأوّل منهما: فتارة بمنع الأمر بالتفريغ إن اريد اعتباره من جهة كون التفريغ تخلّصا من الحرام و هو الغصب و هو واجب، لعدم كون التخلّص من الحرام عنوانا آخر امر به شرعا، بل هو مفهوم منتزع عن ترك الحرام، و مطلوبيّته باعتبار مطلوبيّة الترك المأخوذة في ماهيّة الحرمة فلا تزيد على أصل الحرمة، فلا تعدّ من الأمر بالشيء ليترتّب عليه أحكامه الّتي منها اقتضاء النهي عن الضدّ على ما هو مبنى الاستدلال، إلاّ أن يدّعى الأمر المذكور من جهة الإجماع على إيصال مال

ص: 535

الغير إلى صاحبه، أو يقال: إنّ التفريغ و الإيصال ممّا استقلّ العقل بوجوبه، و هو استحقاق فاعله المدح و تاركه الذمّ ، بناء على التحسين و التقبيح العقليّين كردّ الوديعة، و هذا هو الوجوب العقلي الّذي يثبت به الأمر الشرعي بحكم الملازمة بين العقل و الشرع. و اخرى بمنع اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه كما حقّقناه في الاصول، لأنّ أقوى أدلّة القول به قاعدة وجوب المقدّمة بناء على كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل المأمور به، و هو بمعزل عن التحقيق على ما بيّنّاه في محلّه.

و أمّا في الثاني منهما: فلمنع عروض حركة اخرى لما على الرأس و نحوه مغايرة لحركة الرأس، و إنّما هي حركة واحدة قائمة بالرأس، نعم يصحّ إسنادها إليه ثانيا و بالعرض و على سبيل المجاز، نظير حركة جالس السفينة اللاحقة به بواسطة السفينة، فأفعال الصلاة تحريك للرأس و لا يحدث به تحريك آخر لما على الرأس.

فرعان: أحدهما: أنّه لا يبطل الصلاة بمغصوب لا يستصحبه المصلّي في صلاته، إذ لا مقتضي لبطلانها سوى توهّم الأمر بالشيء المقتضي للنهي عن الضدّ، و قد عرفت ما فيه.

و في بطلانها بالمحمول الّذي لا يتحرّك في حالات الصلاة، إشكال، لعدم وضوح صدق التصرّف فيه على الصلاة معه. و الأقرب العدم، و الأحوط هو النزع حال الصلاة.

و ثانيهما: أنّ غصب المنفعة في العين المستأجرة أو الموصى بمنافعها أو المشروط بها في ضمن العقد اللازم كغصب العين في اقتضاء البطلان. و توهّم أنّ الصلاة تصرّف في العين و هي مملوكة لا في المنفعة، يدفعه أنّ التصرّف في المنفعة عبارة عن استيفائها و الصلاة في العين استيفاء لها فتكون باطلة، فغصب اللباس المقتضي لبطلان الصلاة أعمّ من كونه في العين و المنفعة أو في أحدهما، و إن كان تصويره في العين وحده لا يخلو عن إشكال، لأنّ مملوكيّة المنفعة بالإجارة و نحوها تتضمّن الرخصة في التصرّف في العين، و الأولى إسقاط هذا القسم.

[المقام الثاني: الصلاة في المغصوب جهلا]

المقام الثاني: في الجاهل بالغصب فلا تبطل صلاته في المغصوب حال الجهل، بلا خلاف أجده سواء استمرّ جهله أو زال في الوقت أو خارجه، فلا إعادة على الأوّل لتحقّق الامتثال، و لا قضاء على الثاني لعدم الفوات، فإنّ المقتضي للبطلان إمّا الإجماع فلا إجماع مع الجهل إن لم ندّع الإجماع على عدم البطلان بل في كلام بعضهم نفي الخلاف

ص: 536

فيه، و ربّما تشعر كلمات بعضهم بكون المسألة إجماعيّة. أو النهي الممتنع اجتماعه مع الأمر و لا نهي مع الجهل بالموضوع.

و الظاهر كما هو قضيّة إطلاق الفتاوي عدم الفرق فيه بين الجهل الساذج - و هو الغفلة عن الغصبيّة رأسا - و غيره من صور الشكّ فيها أو الظنّ بعدمها أو الظنّ بها.

أمّا الأوّل: فلقبح تكليف الغافل عقلا، فإنّ البطلان إنّما هو من جهة انتفاء الأمر لمنع النهي، فإذا نفى المانع بالعقل بقى الأمر على حاله، و بعبارة اخرى أنّ بطلان الصلاة في المغصوب إنّما هو لخروجها عن عموم الأمر بالصلاة بالتخصيص، و مخصّصه النهي فإذا نفي المخصّص بالعقل المستقلّ بقى المورد تحت العموم.

و أمّا الثاني: فلأصلي الإباحة و البراءة النافيين لاحتمال التحريم عند الشكّ الّذي في حكمه الظنّ الغير المستند إلى سبب شرعي، فإذا نفي المانع بالأصل بقى المورد تحت عموم الأصل، و الفرق بينه و بين سابقه أنّ المانع في السابق ينفى بالأصل العقلي القطعي و هنا ينفى بالأصل الشرعي.

لا يقال: إنّ قضيّة أدلّة بطلان الصلاة في المغصوب كون إباحة اللباس شرطا في صحّة الصلاة و من الظاهر أنّ الشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط و اللازم من ذلك كون المقام من مجاري أصل الاشتغال المقتضي لترتيب أحكام البطلان و آثاره الّتي منها وجوب الإعادة و القضاء، لأنّ الإباحة هنا ليست على حدّ غيرها من شروط الصحّة الّتي هي قيود للمأمور به كالطهارة حدثا و خبثا و غيرها، بل هي شرط للأمر، و عبارة عن عدم الحرمة لكون الحرمة مانعة عن الأمر، و لا ريب أنّ عدم المانع يحرز بالأصل، و لو كان المانع هو الحرمة و الأصل المحرز لعدمه أصل البراءة.

و ما ذكر من أنّ الشكّ في الشرط يستلزم الشكّ في المشروط و من حكم الشرط أنّه لا يحرز وجوده بالأصل، فإنّما هو في الشروط الوجوديّة الّتي هي من قيود المأمور به فهذا كلّه ممّا لا كلام فيه لأحد.

و إنّما الكلام في ناسي الغصب بعد علمه به، فهل يلحق بالجاهل في عدم بطلان صلاته في المغصوب مطلقا أو في الجملة أو لا؟ فإنّ فيه خلافا بين الأصحاب على أقوال:

ص: 537

أحدها: ما عزي إلى ابن إدريس(1) و العلاّمة في المنتهى(2) و جماعة(3) و لعلّهم الأكثر، من أنّه كالجاهل، إذ لا تحريم في حقّه أيضا، فلا بطلان فلا عليه إعادة و لا قضاء.

و ثانيها: ما اختاره العلاّمة في القواعد(4) و التذكرة(5) من بطلان صلاته الموجب للإعادة عليه بعد تذكّره مطلقا في الوقت و خارجه، استنادا إلى أنّه مفرّط لقدرته على التكرار الموجب للتذكار فالإخلال به تفريط، و لأنّه لمّا علم بالغصب كان حكمه المنع عن الصلاة فالأصل بقاؤه، و زواله بالنسيان يحتاج إلى دليل و ليس.

و ثالثها: ما اختاره العلاّمة و الشهيد في المختلف(6) و الدروس(7) و الذكرى(8) من أنّه يوجب الإعادة في الوقت لقيام السبب و هو الوقت، و عدم تيقّن الخروج عن العهدة لا في خارجه، لأنّ القضاء يجب بأمر جديد، و تحقّقه هاهنا غير ظاهر.

و الأقوى هو الأوّل، لكون النسيان كالجهل عذرا عقليّا يستحيل معه توجّه النهي، فلا مانع من الصحّة المسقطة للتدارك إعادة و قضاء. و دعوى كونه مفرّطا، على إطلاقها ممنوعة، لكثرة ما ينشأ النسيان من غير تقصير في الحفظ و هو حيثما تحقّق لا يصحّح توجّه النهي إلى الناسي إلاّ على القول بعدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار، و على خلاف التحقيق على ما بيّنّاه في محلّه.

و استصحاب المنع السابق على طروء العذر غير صحيح، لتبدّل موضوع المستصحب، إذ العالم موضوع و الناسي غيره، و من المستحيل انسحاب حكم موضوع إلى موضوع آخر غيره هذا، مضافا إلى انتفاض المنع السابق باليقين الحاصل من استقلال العقل بكون النسيان عذرا مانعا عن الخطاب الإلزامي حدوثا و بقاء.

و القول بكون الوقت سببا لوجوب الإعادة في دليل القول الثالث، يزيّفه منع سببيّة الوقت لذلك، بل سببه النهي المانع عن الأمر المقتضي امتثاله لسقوط الإعادة، و المفروض انتفاؤه و مع عدم الانتفاء لا فرق بين الوقت و خارجه. و الخروج عن عهدة التكليف بعد نفي

ص: 538


1- السرائر 207:1.
2- المنتهى 230:4.
3- كجامع المقاصد 89:2، البيان: 58، حاشية الإرشاد (مخطوط): 24، المطالب المظفريّة: 71 (مخطوط).
4- القواعد 256:1.
5- التذكرة 477:2.
6- المختلف 94:2.
7- الدروس 151:1.
8- الذكرى 49:3.

المانع و هو النهي متيقّن لا غير كما عرفت، و بذلك ظهر الوجه في سقوط القضاء و هو حصول الأداء فلا فوت لا مجرّد أنّه يجب بأمر جديد و تحقّقه غير ظاهر كما ذكره في المختلف.

[المقام الثالث: في الجاهل بحكم الغصب]

المقام الثالث: في الجاهل بحكم الغصب، و هو تحريم الصلاة في المغصوب و بطلانها مع العلم بالغصبيّة، فالمعروف من مذهب الأصحاب أنّه غير معذور و لا تصحّ صلاته. و في حاشية الروضة «فالمشهور بين الأصحاب عدم عذره و وجوب الصلاة عليه في الوقت و خارجه، لتقصيره في التعلّم مع وجوبه عليه»(1).

و ربّما يؤذن عبارة المنتهى في المكان المغصوب بدعوى الإجماع عليه، حيث قال: «أمّا لو كان عالما بالغصبيّة و جاهلا بالتحريم فإنّه لا يكون معذورا و لا تصحّ صلاته عندنا»(2).

و عن المحقّق الأردبيلي(3) الميل إلى عذر الجاهل هنا أيضا، و نفى عنه البعد تلميذه في المدارك(4) و يظهر الميل إليه من الخونساري في حاشية الروضة تعليلا «بأنّه لا نهي و لا تحريم فيه أيضا و عند ذلك فيتحقّق الامتثال بما فعله أوّلا و الإعادة يحتاج إلى دليل»(5) انتهى.

و ربّما يستشمّ من بعض عباراتهم كون النزاع هنا صغرويّا، إذ القائلون بعدم العذر يعلّلونه بتقصيره في التعلّم كما عرفت، و منه ما في الذكرى(6) و كلام شارح الدروس من الاستدلال عليه «بوجوب التعلّم عليه، فيكون قد جمع بين الجهل و التقصير في التعلّم فلا يكون معذورا»(7) و هذا يقتضي كون كلامهم في الجاهل المقصّر. و في المدارك «لا يبعد اشتراط العلم بالحكم أيضا لامتناع تكليف الغافل فلا يتوجّه إليه النهي المقتضي للفساد».

و هذا يقتضي كون كلام القائلين بالعذر في الجاهل القاصر، لأنّ الغافل الّذي يمتنع تكليفه هو الّذي فيما يرتكبه من الغصب مع العلم بالغصبيّة لا يحتمل التحريم، و لا مصداق له في الخارج إلاّ إذا لم يعلم إجمالا بالأحكام الإلزاميّة، و لم يكن له علم إجمالي بالواجبات و المحرّمات، و هذا على تقدير تحقّقه لا يكون إلاّ قاصرا.

و تحقيق المقام: أنّ التكلّم في وجود القاصر فيما بين الجاهلين بالأحكام الواقعيّة من

ص: 539


1- حاشية الروضة: 186.
2- المنتهى 298:4.
3- مجمع الفائدة و البرهان 80:2.
4- المدارك 182:3.
5- حاشية الروضة: 186.
6- الذكرى 49:3.
7- شرح الدروس 640:1.

المسلمين ليس من وظيفة الفقه، و ان كان وجوده في بيضة الإسلام و فيمن يعاشر المسلمين في غاية البعد بل لا يكاد يتعقّل، إذ كلّ أحد قرع سمعه الإسلام يعلم بالإجمال علما ضروريّا بأنّ فيه أحكاما إلزاميّة و واجبات و محرّمات، فهو لا محالة في جهله بتفاصيلها مقصّر في التعلّم و تارك له عن تقصير، و على تقدير وجوده فهو نادر و أغلبهم المقصّرون.

و عليه فيتوجّه إلى استدلال صاحب المدارك أحد الأمرين: من منع تحقّق الغفلة مع العلم بالغصبيّة، و من أنّه على فرض تسليم تحقّقها فلا ينحصر موضوع المسألة في الغافل، بل هو مفروض إمّا في المقصّر فقط أو ما يعمّه و القاصر.

و كيف كان فالجاهل بالتحريم إن كان غافلا - بحيث لم يحتمل فيما يرتكبه من الغصب التحريم أصلا و لم يكن مقصّرا في جهله - فلا ينبغي التأمّل في عذره و صحّة صلاته، لعدم توجّه النهي إليه، بضابطة قبح تكليف الغافل عقلا و هو المانع من صحّة الصلاة، و إذا انتفى فلا محيص عن الصحّة المسقطة لوجوب التدارك.

و إن لم يكن غافلا بسبب احتماله التحريم فيما يرتكبه من الغصب المستند إلى علمه الإجمالي بأنّ في دين الإسلام واجبات و محرّمات و إنّما قصّر في تحصيله العلم بتفاصيلها مع تمكّنه منه لقلّة مبالاته و تسامحه و تساهله في أمر دينه، فلا ينبغي التأمّل في عدم كونه معذورا، و هو معاقب على مخالفته الأحكام الواقعيّة المستندة إلى جهله بها الناشئ من تقصيره، لتوجّه النهي إليه فعلا و تنجّز التكليف عليه.

لنا على ذلك: أنّ التكليف الفعلي و تنجّزه على المكلّف على وجه يكون شاغلا لذمّته و يكون مخاطبا بامتثاله و معاقبا على مخالفته و إن كان مشروطا بالعلم، إلاّ أنّه - على ما تقرّر في محلّه - يكفي فيه العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي، و هذا الشرط حاصل في الجاهل المقصّر فوجب حصول مشروطه، فإذا ثبت النهي في حقّه لزمه عدم العذر في مخالفته و بطلان صلاته قضيّة لامتناع اجتماع الأمر و النهي. هذا كلّه في الجهل بالتحريم و البطلان معا.

و أمّا الجهل بالبطلان دون التحريم أو بالتحريم دون البطلان، فعدم عذره و بطلان صلاته واضح، لا يحتاج إلى البيان و لا إقامة البرهان. و هاهنا شيء يعجبني ذكره، و هو أنّ العلاّمة في المنتهى احتجّ لمختاره من عدم معذوريّة الجاهل بالتحريم «بأنّ التكليف ليس مشروطا

ص: 540

بالعلم بالتكليف و إلاّ لزم الدور المحال»(1).

و كذا ما في كلام شارح الدروس(2) بعد استدلاله المتقدّم.

و السرّ في لزوم الدور حسبما تخيّلوه أنّ العلم المتوسّط بين التكليف المشروط به و التكليف المتعلّق له، من حيث كونه شرطا للتكليف متقدّم طبعا على التكليف، و من حيث تعلّقه بالتكليف متأخّر طبعا عنه، بضابط تأخّر المتعلّق - بالكسر - عن المتعلّق بالفتح طبعا فيلزم تقدّم العلم على نفسه و تأخّره عن نفسه، و هو الدور.

و لا يخفى ما فيه من الضعف و شبهة المغالطة، لاستحالة عدم اشتراط التكليف بالعلم، بل هو كغيره من شروط التكليف الّتي منها القدرة شرط عقلي لا يمكن التكليف بدونه أصلا، نعم يكفي فيه العلم الإجمالي كما أشرنا إليه، و لا دور في اشتراطه به سواء اعتبرناه الإجمالي أو التفصيلي.

أمّا على الأوّل فلوضوح أنّ الشرط هو العلم الإجمالي بالأحكام الإلزاميّة الواقعيّة الحاصل من الضرورة و نحوها، و هو لا يتوقّف على التكليف الفعلي المتوقّف عليه.

و أمّا على الثاني فلأنّ شرط التكليف ليس هو العلم بالتكليف بل العلم بالحكم الواقعي، و هو المعنى الانشائي المأخوذ في صيغة «افعل» وضعا و استعمالا، و يوجد المتكلّم بها عند اجتماع شرائط صحّة الخطاب، و لا ريب أنّ هذا المعنى الانشائي بمجرّده لا ينعقد تكليفا فعليّا شاغلا لذمّة المكلّف، ما لم يحتو الشروط الأربع العقليّة الّتي منها العلم، فمتعلّق العلم هو الحكم الواقعي بهذا المعنى لا التكليف، فالتكليف لاشتراطه به متأخّر عنه و هو لتعلّقه بالحكم الواقعي متأخّر عنه، و هو ليس متأخّرا عن التكليف ليئول إلى تقدّم الشيء على نفسه و تأخّره عن نفسه فليتدبّر.

و أمّا ناسي الحكم بعد علمه به، فالظاهر أنّه كما هو صريح جماعة(3) ملحق بالجاهل المقصّر، لأنّه بعد نسيانه سامح في تحصيله تقصيرا مع إمكانه.

و في حاشية الروضة احتمل فيه وجهين: كون عذره أوضح من عذر الجاهل، و كون عذر الجاهل أوضح من عذره قائلا: «و أمّا ناسي الحكم الشرعي أو الوضعي فالظاهر أنّه

ص: 541


1- المنتهى 230:4.
2- شرح الدروس 640:1.
3- كما في روض الجنان 548:3، المقاصد العليّة: 99، كشف الالتباس: 192، البيان: 58.

بحكم الجاهل، و ربّما كان عذره أوضح، باعتبار عدم تقصيره في التعلّم، و النسيان ليس باختياره، و ربّما كان عدمه أوضح، بناء على أنّ النسيان بعد العلم مستند إلى تقصير في التذكار ليس مثله في صورة الجهل بالغصب» انتهى(1).

و الأقوى عدم عذره لما عرفت من تقصيره و لو بعد النسيان، فإنّه أيضا كان محتملا للتحريم و متمكّنا من العلم به بعد ما علم إجمالا محرّمات الشرع، فالنهي بعد النسيان على حاله لتحقّق شرطه. نعم لو انجرّ النسيان به إلى حدّ لم يبق عنده احتمال التحريم أيضا حتّى اندرج بذلك في عنوان الغافل وجب القطع بعذره، قضيّة لقبح تكليف الغافل. و كون غفلته مستندة إلى تقصيره لا يؤثّر إلاّ في إدراج عذره في الامتناع بالاختيار، و قد عرفت سابقا أنّه ينافي الاختيار خطابا و عقابا، و لا ينافيه استحقاقه العقوبة على تقصيره أو تسامحه في التحفّظ على منسيّه قبل طروء النسيان كما هو واضح.

فروع:

الأوّل: لو علم الغصبيّة في أثناء الصلاة وجب نزعه في الحال، ثمّ إن كان عليه ثوب آخر ساتر لعورته أتمّ صلاته، و إلاّ قطعها و ستر العورة و استأنف الصلاة، و إن ضاق الوقت صلّى عاريا.

الثاني: هل المقبوض بالبيع الفاسد و الصلاة فيه في حكم المغصوب تكليفا و وضعا؟ ظاهر كلام الأصحاب في مسألة ما لو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد المحكوم عليه، بأنّه لم يملكه و كان مضمونا عليه ذلك، و لذا أجمعوا على ضمان عينه و منافعه الّتي استوفاها، نعم لهم كلام في ضمان منافعه الفائتة بيده من دون استيفاء لها و عدمه، و لا ريب أنّ ضمان المنافع المستوفاة يكشف عن كونه ممنوعا من جميع التصرّفات و كافّة الانتفاعات.

و من هنا ما يوجد في بعض العبارات من التصريح بكون يده عليه يد عادية، و قد يقال:

إنّ تصرّفه فيه استيلاء لليد على مال الغير من غير إذن من الشارع و لا من المالك، أمّا الأوّل فلأنّه حكم بفساد العقد، و هو سلب لجميع أحكامه الّتي منها جواز التصرّف، و أمّا الثاني فلأنّ إذن المالك كانت مقيّدة بعنوان البيعيّة، فإذا انتفى القيد انتفى المقيّد.

و الأولى أن يقال: إنّ إذن المالك على تقدير تحقّقها ممّا لم يمضه الشارع حيث لم يمض

ص: 542


1- حاشية الروضة: 187.

أصل العقد فكان وجودها كعدمه، و العمدة هو المنع الشرع الّذي يتضمّنه الحكم بفساده.

و من هنا أيضا قد يفسّر القبض في عنوان المسألة المشار إليها بالاستيلاء الغصبي، فهذه العين إن لم تكن مغصوبة ففي حكم المغصوبة من حيث المنع من التصرّفات و الانتفاعات فيها، فالصلاة فيها حينئذ تصرّف فيها و نوع انتفاع بها فتكون منهيّة و لزمه البطلان قضيّة لامتناع اجتماع الأمر و النهي.

خلافا للفاضل النراقي في المستند قائلا: «إنّ الظاهر صحّة الصلاة في المبيع فاسدا، سواء جهل كلّ من المتبايعين بالفساد أو علما أو جهل أحدهما دون الآخر، لتحقّق الإذن، و عدم صدق الغصبيّة. نعم لو علم المشتري دون البائع و احتمل لأجل ذلك عدم رضاه اتّجه المنع و البطلان»(1) انتهى.

و في دعواه تحقّق الإذن أنّه إن اريد بها إذن الشارع فقد عرفت خلافها، و إن اريد بها إذن المالك فعلى فرض حصولها لم يمضها الشارع فكان كإذن الصبيّ و المجنون. و عدم صدق الغصبيّة على تقدير تسليمه لا يلازم عدم المنع من التصرّف، فالصلاة فيه تصرّف منهيّ عنه.

و في عبارة جامع المقاصد ما ربّما يؤذن بدعوى الإجماع عليه قائلا: «و إذا علم بالفساد لم يجز له التصرّف عندنا، لأنّه فرع الملك و لم يحصل»(2).

و بالجملة لباس المصلّي لا بدّ أن يكون مملوكا أو مأذونا فيه من مالكه الحقيقي و الصوري، و الكلّ منتف و معه لا محيص من بطلان الصلاة. و هذا في صورتي علم المتبايعين بالفساد أو علم المشتري فقط دون البائع.

و أمّا لو جهلا أو جهل المشتري فقط فقد يسبق إلى الوهم كونهما كالجاهل بالغصب في عذره و صحّة صلاته، فإنّه على التقديرين إن لم يكن مغصوبا فلا يكون أسوأ حالا من المغصوب، و لك أن تقول: إنّ الجاهل بالفساد هنا كالجاهل بحكم الغصب المتقدّم في المقام الثالث لأنّ الفساد أيضا حكم، فكما أنّ جاهل حكم الغصب لم يكن معذورا فكذلك جاهل فساد العقد هنا.

و يمكن دفعه: بأنّ الجاهل بحكم الغصب إذا كان جاهلا بالغصب أيضا كان معذورا

ص: 543


1- المستند 366:4-367.
2- جامع المقاصد 61:4.

بالإجماع لجهله بالغصب، و محلّ البحث إمّا مغصوب حقيقة أو عنوان آخر في حكم المغصوب من حيث ممنوعيّة التصرّفات و الانتفاعات المتعلّقة به، و الجهل بالحكم على الأوّل يستلزم الجهل بالغصب فيكون معذورا لأجل ذلك، و كذلك على الثاني لأنّ الجهل بالغصب إنّما يغتفر لكونه جهلا بالموضوع، و الجاهل بالموضوع في جميع الموارد معذور، و الجهل بالحكم على الثاني أيضا يستلزم الجهل بالعنوان الّذي هو موضوع الحكم فيكون معذورا. فصار المتّجه في هذا الفرع هو التفصيل بين صورتي علم المشتري بالفساد فلا يكون معذورا و لم تصحّ صلاته، و صورتي جهله به فيكون معذورا و تصحّ صلاته، لكنّ الأحوط فيهما إعادة الصلاة في الوقت و خارجه.

الثالث: لو أذن المالك في الصلاة في ثوبه المغصوب يتبع الجواز و عدمه لمحلّ الإذن و غيره، فإن أذن للغاصب جاز له دون غيره، و إن أذن لغيره جاز له دون الغاصب، و إن أذن لهما جاز لهما، و إن أطلق في الإذن أو عمّم كأن يقول: أذنت لكلّ أحد في الصلاة في ثوبي، جاز لغير الغاصب مطلقا. و أمّا الغاصب فالمصرّح به في كلام جماعة(1) عدم الجواز له، و علّلوه بمقتضى ظاهر الحال المستفاد من العادة بين أغلب الناس من الحقد على الغاصب و ميل النفس إلى مؤاخذته و الانتقام منه، فيكون هذا الظاهر بمنزلة المقيّد العادي للمطلق و المخصّص للعامّ حتّى لو فرض انتفاء ذلك وجب العمل بمقتضى الإطلاق و العموم.

أقول: ربّما يوجب هذا الظاهر على تقدير عدم نهوضه للتقييد و التخصيص لإجمال المطلق و العامّ بالقياس إلى محلّ الشكّ و هو الغاصب، فوجب الرجوع إلى استصحاب المنع السابق على هذا الإذن المعتضد بأصالة الاشتغال، و عليه فالمتعيّن للغاصب أيضا عدم الصلاة فيه.

خاتمة: فيما اختلف من الملابس في جواز الصلاة فيه و عدمه.

و اعلم أنّ ما يلبس على الرجل ثلاثة أنواع:

الأوّل: ما لا يستر تمام ظهر القدم و إن ستر بعضه، كالنعل العربيّة.

الثاني: ما يستر تمام ظهر القدم دون المفصل بين القدم و الساق و شيء من الساق، كالنعل

ص: 544


1- كما في القواعد 27:1، المنتهى 230:4، نهاية الإحكام 378:1، تحرير الأحكام 196:1، الجواهر 253:8.

السنديّة و الشمشك، بضمّ الأوّل و الثاني و سكون الثالث و قيل(1) بضمّ الأوّل و كسر الثاني و سكون الثالث على ما مثّلوا بهما، و في المجمع(2) ليس في الشمشك نصّ من أهل اللغة.

الثالث: ما يستر مع تمام ظهر القدم المفصل و شيئا من الساق، كالجورب و الخفّ و الجرموق، قيل: الجرموق خفّ واسع قصير يلبس فوق الخفّ .

أمّا النوع الأوّل: فلا إشكال في جواز الصلاة فيه، بل استحبابها في خصوص النعل العربيّة فتوى(3) و نصّا، فإنّ الإجماعات(4) عليه منقولة، و الروايات(5) بالاستحباب المذكور مستفيضة.

كما أنّه لا إشكال أيضا في جوازها في النوع الثالث نصّا و فتوى، للإجماع(6)و خصوص الروايات(7) المستفيضة الصحيحة و غيرها بجوازها في الخفّ .

و أمّا النوع الثاني: ففيه خلاف، فعن الشيخين في المقنعة(8) و النهاية(9) و ابن البرّاج(10)و السلاّر(11) المنع، و هو خيرة المحقّق في كتبه الثلاث(12) و العلاّمة في جملة من كتبه كالتذكرة(13) و القواعد(14) و الإرشاد(15) و الشهيد في البيان(16) و الدروس(17) و اللمعة(18)و عن البيان كونه أشهر، و في الروضة(19) و عن المسالك(20) كونه على المشهور. و ربّما يظهر اختلاف بين هؤلاء أيضا، حيث إنّ الشيخين و غيرهما من القدماء خصّوا المنع بالنعل السنديّة و الشمشك، و عمّمه المحقّق و من تبعه بالقياس إلى كلّ ما لا يستر غير تمام ظهر القدم.

ص: 545


1- كما في المدارك 183:3، و روض الجنان 574:2.
2- مجمع البحرين 277:5 (شمشك).
3- كما في المعتبر 93:2، المنتهى 234:4، الذكرى 67:3.
4- كما في جامع المقاصد 107:2.
5- الوسائل 4/424:4 و 5 و 7، ب 37 من أبواب لباس المصلّي.
6- كما في التذكرة 498:2، نهاية الإحكام 389:1، كشف اللثام 255:3.
7- الوسائل 1/427:4 و 2 و 3 و 4، ب 38.
8- المقنعة: 153.
9- النهاية: 98.
10- المهذّب 75:1.
11- المراسم: 65.
12- المعتبر 93:2، الشرائع 69:1، المختصر النافع: 25.
13- التذكرة: 498:3.
14- القواعد 257:1.
15- إرشاد الأذهان 247:1.
16- اللمعة: 29.
17- الدروس 151:1.
18- البيان: 121.
19- الروضة البهيّة 529:1.
20- المسالك 165:1.

و عن الشيخ في المبسوط(1) و ابن حمزة في الوسيلة(2) الجواز على كراهية، و عليه أكثر المتأخّرين(3) و متأخّريهم(4). و في محكيّ الوسيلة - بعد اختيار الكراهة في الشمشك و النعل السنديّة -: و روي أنّ الصلاة محظورة في النعل السنديّة و الشمشك(5) و لا مستند للقول بالمنع إلاّ ما في كلام المتأخّرين(6) من فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عمل الصحابة و التابعين و الأئمّة الصالحين عليهم السّلام فإنّهم لم يصلّوا في هذا النوع و لا نقله عنهم أحد، و لو وقع منهم لنقل إلينا لعموم البلوى. و ربّما احتمل الاستناد إلى مرسلة ابن حمزة، و إلى الشهرة محقّقة و محكيّة.

و الكلّ ضعيف، أمّا الأوّل: فلمنع عدم صلاتهم في هذا و لا يقضي العادة بنقله إلينا لجواز إحالة معرفة الحكم و هو الجواز إلى الأصل، و عليه فلو منعوا عن الصلاة فيه أو لم يصلّوا فيه على وجه اللزوم لنقل إلينا لعموم البلوى به. و لو سلّم عدم صلاتهم فيه فلعلّه لعدم كون لبسه معتادا لهم مطلقا، قيل(7): بل هو الظاهر لعدم كونه من ألبسة العرب و أهل الحجاز. و لو سلّم هذا أيضا فعدم صلاتهم أعمّ من التحريم، لجواز كون نزعهم إيّاه حال الصلاة للاستحباب أو كراهة الصلاة فيه. مع أنّه لو نقل نحو ذلك في الجواز لوجب التزام المنع في كلّ شيء لم ينقل عنهم، و هو واضح البطلان.

و أمّا الثاني: فلضعف الرواية بالإرسال و عدم معلوميّة حال راويها، و يؤكّد ضعفها أنّ المرسل لها لم يعمل بها، مع عدم وضوح جابر لها، و مجرّد موافقة مضمونها لقول الجماعة غير صالح له، و كونها مستندهم في ذلك القول أيضا غير واضح، مع احتمال كون مراد ناقلها من الرواية قول هؤلاء لا الرواية المصطلحة.

و أمّا الثالث: فلمنع تحقّق الشهرة بمجرّد ذهاب الستّة أو السبعة أو الثمانية. و لو سلّم فمخالفة أكثر المتأخّرين و متأخّريهم إن لم تنعقد شهرة متأخّريّة متقدّمة عليها فلا أقلّ من

ص: 546


1- المبسوط 83:1.
2- الوسيلة: 88.
3- كما في المدارك 184:3، الذخيرة: 235، كفاية الأحكام: 16.
4- كما في الحدائق 160:7.
5- الوسائل 7/438:4، ب 38 من أبواب لباس المصلّي، الوسيلة: 88.
6- كما في المعتبر 93:2، التذكرة 498:2، المستند 368:4.
7- كما في جامع المقاصد 106:2.

نهوضها موهنة لها، فلا تفيد ما هو مناط حجّيّتها و هو الاطمئنان بالحكم، و يؤكّده في الوهن احتمال كون مستندها الاعتبار الضعيف المتقدّم ضعفه.

فالأقوى إذن هو الجواز، للأصل، و التوقيع المرويّ عن الاحتجاج «هل يجوز للرجل أن يصلّي و في رجليه بطيط لا يغطّي الكعبين أم لا يجوز؟ أجاب عليه السّلام: جائز»(1) و عن القاموس: «البطيط رأس الخفّ بلا ساق»(2) و لكن في دلالته نظر لابتنائها على كون المراد بالكعبين قبّتي طرفي الساق لا العظمين النابتين في ظهر القدمين، و هو غير واضح. و في الأصل كفاية.

و أمّا الكراهة: فلا نضائقها تسامحا، و مع هذا كلّه فالأحوط هو النزع و ترك الصلاة فيه، خروجا عن شبهة الخلاف.

(3) المعتبر 99:2.

ص: 547


1- الوسائل 4/427:4، ب 38 من أبواب لباس المصلّي، الاحتجاج: 485/484.
2- قاموس المحيط 351:2 (بط).
المطلب الثاني في حكم ستر العورة تكليفا و وضعا، و موضوع العورة، و أحكام خلل الستر
اشارة

ففيه مباحث:

المبحث الأوّل يجب ستر العورة عن كلّ ناظر محترم في غير حال الصلاة

- و قد تقدّم بيانه مع أدلّته مشروحا في آداب التخلّي من كتاب الطهارة - كما يجب سترها في الصلاة مطلقا بالإجماع المستفيض نقله في كلام جماعة من الفحول، منهم: المعتبر و المنتهى و الذكرى، ففي الأوّل «و ستر العورة واجب و شرط في صحّة الصلاة، أمّا الوجوب فعليه علماء الإسلام، و أمّا كونها شرطا فعليه علماؤنا» (1).

و في الثاني «أجمع علماء الإسلام على أنّ ستر العورة واجب في الصلاة، و اختلفوا في فصلين، أحدهما: أنّه هل هو شرط أم لا؟ و الثاني: أنّ العورة ما هي ؟ أمّا الأول: فقد أجمع علماؤنا على أنّه شرط في الصلاة كما أنّه واجب، و به قال الشافعي(1) و أبو حنيفة(2)و أحمد(3) و قال بعض أصحاب مالك: إنّه شرط مع الذكر دون النسيان(4) و قال باقي أصحابه، إنّه واجب و ليس بشرط»(5)-(6).

ص: 548


1- المغني 651:1، المجموع 167:3، الام 89:1.
2- المغني 651:1، المجموع 167:3، المبسوط للسرخسي 197:1.
3- المغني 651:1، المجموع 167:3، الإنصاف 448:1.
4- المغني 651:1، المجموع 167:3، بلغة السالك 104:1.
5- المغني 651:1، المجموع 167:3، بداية المجتهد 114:1.
6- المنتهى 265:4.

في الثالث «أجمع العلماء على وجوب ستر العورة في الصلاة، و عندنا و عند الأكثر أنّه شرط في الصحّة، فلو أخلّ به فصلّى متكشّف العورة بطلت صلاته»(1).

أقول: أمّا وجوب الستر فيها فيكفي في دليله - بعد إجماع العلماء - قوله تعالى: يٰا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (2) بناء على ما قيل كما حكاه في الذكرى(3) و جامع المقاصد(4) من «أنّه اتّفق المفسّرون على أنّ الزينة هنا ما يواري به العورة للصلاة و الطواف، لأنّهما المعبّر عنهما بالمسجد و الأمر للوجوب»(5).

مضافا إلى ما رواه الشيخ في الصحيح عن صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه السّلام قال:

«كتبت إليه أسأله عن رجل كان معه ثوبان، فأصاب أحدهما بول و لم يدر أيّهما هو و حضرت الصلاة و خاف فوتها و ليس عنده ماء كيف يصنع ؟ قال: يصلّي فيهما جميعا»(6)فإنّ قضيّة قاعدة الشبهة المحصورة وجوب الاجتناب عن المشتبهين جميعا، و الأمر بالصلاة فيهما جميعا ليس إلاّ لوجوب الاحتياط في الصلاة، و لا يكون إلاّ لوجوب الستر بالطاهر المشتبه بغيره هذا، مضافا إلى روايات كثيرة تقف عليها في تضاعيف المبحث.

و العمدة في المقام إنّما هو التكلّم في الحكم الوضعي، و هو شرطيّة الستر لصحّة الصلاة و لا بدّ من التكلّم فيه في جهات:

الجهة الاولى: في أصل الشرطيّة، و استدلّوا عليه - بعد إجماع أصحابنا عليها - بروايات:

منها: الصحيحة المتقدّمة، استدلّ بها في المنتهى قال - بعد ذكر الرواية -: و الأمر للوجوب، فلو لم يكن ستر العورة شرطا لما أوجب عليه الصلاة الاخرى، ثمّ قال: و في الاستدلال به نظر(7). و كأنّ وجه النظر أنّ وجوب الصلاة الاخرى إنّما هو لوجوب الاحتياط، و هو أعمّ من كونه احتياطا للستر بالساتر الطاهر أو الصلاة المشترطة بالستر بالطاهر، و الأعمّ لا يدلّ على الأخصّ .

ص: 549


1- الذكرى 5:3.
2- الأعراف: 31.
3- الذكرى 5:3.
4- جامع المقاصد 93:2.
5- انظر مجمع البيان 413:2، التفسير الكبير 60:14-61، الكشّاف 76:2.
6- الوسائل 1/505:3، ب 64 من أبواب النجاسات، التهذيب 887/225:2.
7- المنتهى 266:4.

و يمكن دفعه: بأنّ قوله: «و حضرت الصلاة و خاف فوتها و ليس عنده ماء كيف يصنع ؟» يدلّ على أنّ تحيّر السائل إنّما كان بالقياس إلى الصلاة لا بالقياس إلى أصل الستر فيها، و هذا يعطي كونه معتقدا بوجوب الستر بالطاهر لأمر يرجع إلى الصلاة لا لنفسه، و قد قرّره الإمام عليه السّلام على معتقده، و أمره بالاحتياط بالصلاة فيهما جميعا، لأنّه محصّل ليقين الصلاة بالساتر الطاهر و محقّق للشرط.

و منها: ما رواه الشيخ - في الصحيح - عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام قال:

«سألته عن رجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقى عريانا، و حضرت الصلاة كيف يصلّي ؟ قال: إن أصاب حشيشا يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع و السجود، و إن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ و هو قائم»(1).

وجه الدلالة على ما في المدارك(2) و غيره(3) «أنّه عليه السّلام أسقط عن العاري الّذي لا يتمكّن من تحصيل الساتر الركوع و السجود، و لو لا كونه شرطا في الصحّة لما ثبت ذلك». و الأولى أن يقال في وجه الاستدلال: إنّ قوله «و حضرت الصلاة كيف يصلّي ؟» يدلّ على اعتقاد السائل بعدم كون وجوب الستر لنفسه بل لأجل الصلاة، و إلاّ لما سئل عن كيفيّة الصلاة عريانا، لأنّ الواجب لنفسه يسقط وجوبه عند تعذّره على وجه لم يكن خفي ذلك على نحو عليّ بن جعفر الّذي هو فقيه زمانه على ما يظهر من تتبّع رواياته.

و منها: ما رواه الشيخ - في الصحيح - عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سألته عن قوم صلّوا جماعة و هم عراة ؟ قال: يتقدّمهم الإمام بركبتيه و يصلّي بهم جلوسا و هو جالس»(4).

وجه الدلالة على ما في المنتهى(5) و غيره(6) «أنّ القيام واجب و شرط في الصلاة على ما يأتي، و قد جاز تركه مع عدم اللباس، فمع وجوده يكون واجبا، فالستر شرط في القيام الّذي هو شرط في الصلاة».

ص: 550


1- الوسائل 1/448:4، ب 50 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1515/365:2.
2- المدارك 190:3.
3- كما في جامع المقاصد 93:2.
4- الوسائل 1/450:4، ب 51 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1513/365:2.
5- المنتهى 366:4.
6- كما في الجواهر 294:8.

و فيه نظر، لجواز كون تجويز ترك القيام للتحفّظ عن الناظر المحترم الموجود بالفرض، فمع وجود اللباس يجب القيام لإمكان التحفّظ عنه بستر العورة باللباس الموجود بالفرض، فهذا لا يلازم الشرطيّة للصلاة أيضا.

و منها: مصحّح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام «في الرجل يصلّي في قميص واحد إذا كان كثيفا فلا بأس»(1).

وجه الدلالة على ما في جامع المقاصد(2) و غيره(3) «أنّه دلّ باعتبار المفهوم على ثبوت البأس مع عدم الكثافة» قال في الجواهر: «إذ ليس البأس الثابت في المفهوم إلاّ الفساد و لو بمعونة الإجماع السابق»(4).

ثمّ الظاهر بعد ثبوت الشرطيّة عدم الفرق فيها بين الصلاة و أجزائها المنسيّة المتداركة بعد الصلاة و الركعات الاحتياطيّة و سجود السهو، لأنّه تدارك خلل واقع في الصلاة فيكون كالجزء. و أمّا سجدتي الشكر و التلاوة فالأقرب عدم وجوبه لهما و لا كونه شرطا فيهما.

و أمّا النافلة بجميع أنواعها فالظاهر اشتراط صحّتها أيضا به، لقضاء الاستقراء و تتبّع الروايات و كلمات الأصحاب باشتراكها مع الفريضة في جميع ما اعتبر فيها من الأجزاء و الشرائط إلاّ ما خرج بالدليل. و في كلام بعض الأجلّة(5) «الظاهر أنّه لا خلاف فيه بين الأصحاب أي في اشتراط الستر في النافلة».

و ظاهر كلماتهم يعطي إجماعهم على عدم الفرق في هذا الشرط بين سائر الفرائض من اليوميّة أداء و قضاء و غيرها عدى صلاة الجنازة، للأصل، و إطلاق أوامر هذه الصلاة. خلافا للمحكيّ عن الذكرى(6) و جامع المقاصد(7) من القول أو الميل إلى اشتراطها به أيضا، تعليلا بأنّها صلاة حقيقة. و فيه منع مقرّر وجهه في محلّه من عدم دخولها في حقيقة الصلاة بل هي دعاء محض، و لا دلالة على اشتراطها بالستر، و لذا قال العلاّمة في التذكرة(8): «ليس الستر شرطا في صلاة الجنازة، لأنّها دعاء خلافا للشافعي»(9).

ص: 551


1- الوسائل 7/406:4، ب 28 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 63/217:2.
2- جامع المقاصد 93:2.
3- كما في التذكرة 444:2.
4- الجواهر 293:8.
5- مطالع الأنوار 175:1.
6- الذكرى 428:1.
7- جامع المقاصد 103:2 و 413:1.
8- التذكرة 462:2.
9- المجموع 222:5، فتح العزيز 185:5، المغني 344:1.

الجهة الثانية: في أنّ شرطيّة الستر مخصوصة بحال التمكّن من الساتر بشرائطه، فلا يسقط التكليف بالصلاة مع العجز عنه. و لذا قال في المعتبر «لا يسقط فرض الصلاة مع عدم الساتر عند علماء الإسلام، لأنّه شرط مع التمكّن فلا يسقط المشروط بفواته»(1) و في المنتهى «الفاقد للساتر لا يسقط عنه فرض الصلاة و هو مذهب علماء الإسلام لأنّه شرط للصلاة حال المكنة فلا يسقط المشروط مع العجز كالاستقبال»(2). و في الذكرى «لا تسقط الصلاة لعدم الساتر إجماعا»(3) و في جامع المقاصد عند شرح عبارة القواعد «و هو شرط فيها»: لو قيّد شرطيّته بحال القدرة كان حسنا و لم يرد حينئذ أنّ الإخلال بالشرط يقتضي بطلان المشروط على كلّ حال، و ليس الستر كذلك، لصحّة الصلاة بدونه مع العجز عنه، فلا يكون شرطا، لأنّه إذا كان شرطا في حال دون حال إنّما يلزم الفساد بالإخلال به في حال شرطيّته لا مطلقا، انتهى(4).

و يكفي في دليل التقييد - مضافا إلى ما عرفت من الإجماعات - النصوص المرخّصة لفاقد الساتر في الصلاة عاريا و غيرها ممّا ستقف عليها.

الجهة الثالثة: في أنّ الشرطيّة مع المكنة المتضمّنة للزوم انتفاء المشروط بانتفاء الشرط مطلقة أو مقيّدة بالعمد و الذكر؟ و في عبارات الأصحاب في هذه المسألة نوع اختلاف بل تشويش و اضطراب.

ففي محكيّ ابن الجنيد «لو صلّى و عورتاه مكشوفتان غير عامد أعاد في الوقت فقط»(5).

و في محكيّ الشيخ في المبسوط «فإن انكشف عورتاه في الصلاة وجب عليه سترهما و لا تبطل صلاته سواء كان ما انكشف عنه قليلا أو كثيرا بعضه أو كلّه»(6).

و في المعتبر «لو انكشفت العورة و لم يعلم سترها و لم تبطل صلاته، تطاولت المدّة قبل علمه أو لم تطل، كثيرا كان التكشّف أو قليلا، لسقوط التكليف مع عدم العلم»(7).

و في المنتهى «لو انكشفت عورته في أثناء الصلاة و لم يعلم صحّت صلاته، لأنّه مع عدم العلم غير مكلّف... إلى أن قال: لو علم بانكشاف عورته في أثناء الصلاة سترها و لم تبطل صلاته، تطاولت المدّة قبل علمه أو لم تطل، كثيرا كان الكشف أو قليلا، و سواء أدّى ركنا

ص: 552


1- المعتبر 103:2.
2- المنتهى 279:4.
3- الذكرى 17:3.
4- جامع المقاصد 92:2.
5- نقله عنه في المختلف 99:2.
6- المبسوط 87:1.
7- المعتبر 106:2.

من الصلاة حالة الكشف أو لم يؤدّ»(1).

و عن مختلف(2) العلاّمة الميل إلى كلام الشيخ، و حمله على عدم العلم.

و قوّى الشهيد في الذكرى(3) كما عن البيان(4) أيضا الفرق بين نسيان الستر ابتداء و عروض التكشّف في الأثناء، فالصحّة في الثاني دون الأوّل. و استحسنه في المدارك(5).

و ليس في النصوص ما له تعلّق بالمسألة إلاّ ما رواه الشيخ رحمه اللّه في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: «سألته عن الرجل يصلّي و فرجه خارج لا يعلم به، فهل عليه الإعادة ؟ قال: لا إعادة عليه و قد تمّت صلاته»(6).

ثمّ الصور المتصوّرة للمسألة ستّ ، لأنّ المصلّي قد يكون قبل الصلاة مكشوف العورة و لا يلتفت إليه فيدخل في الصلاة على تلك الحالة و هو لا يعلم بها، و قد يكون قبل الصلاة مكشوف العورة و التفت إليه فنسي سترها فدخل في الصلاة على تلك الحالة و هو لا يعلم بها، و قد يكون قبل الصلاة مستور العورة و دخل فيها كذلك ثمّ انكشف الساتر عن عورته في الأثناء و هو غير ملتفت إليه و المراد بالأثناء ما يعمّ أوائل الصلاة.

و على التقادير الثلاث فالالتفات إلى الانكشاف إمّا يحصل في الصلاة، أو بعد الفراغ عنها. و إطلاق عبارة ابن الجنيد حيث عقّبه بإيجاب الإعادة في الوقت الظاهر في كون الالتفات حاصلا بعد الفراغ يتناول ثلاثة من هذه الصورة، و عبارة المبسوط و المعتبر و المختلف متعرّضة لواحدة منها، و عبارة المنتهى متعرّضة لصورتين منها، و عبارة الذكرى في الفرق بين نسيان الستر و عروض التكشّف في الأثناء بإطلاقها بالنسبة إلى كلا الطرفين متعرّضة لأربعة منها، و أمّا عبارة السؤال في الرواية و هي قوله: «يصلّي و فرجه خارج لا يعلم به» بإطلاقها تتناول كلاّ من الصور الثلاث الأوّليّة، و قوله عليه السّلام: «لا إعادة عليه و قد تمّت صلاته» ظاهر في كون مفروض السؤال حصول الالتفات إلى خروج الفرج بعد الفراغ عن الصلاة، و إطلاقه مع انضمام ترك الاستفصال إليه يعمّ الصور الثلاث جميعا، و لا يعمّ بدلالته المنطوقيّة ما لو حصل الالتفات في الصلاة بصورة الثلاث.

و يمكن إثبات تعميم الحكم استنادا إلى إحدى الطرق الثلاث:

ص: 553


1- المنتهى 283:4-284.
2- المختلف 99:2.
3- الذكرى 16:3.
4- البيان: 60.
5- المدارك 191:3.
6- الوسائل 1/404:4، ب 27 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 851/216:2.

الاولى: عدم القول بالفصل، و هو غير واضح، مع ملاحظة اختلاف عبارات الأصحاب حسبما عرفت مع ما عرفت من تفصيل الذكرى، فإنّه في الجملة ينافي دعوى عدم القول بالفصل.

الثانية: دعوى الأولويّة، بتقريب أنّ الصحّة في صورة الالتفات بعد الفراغ المستلزم لوقوع كثير من أفعال الصلاة أو معظمها في انكشاف العورة يوجب الصحّة في صورة الالتفات حال الصلاة مع استلزامه لوقوع بعض أفعالها أو قليل منها من غير تستّر العورة بطريق أولى. غير أنّها كما ترى أولويّة ظنّيّة، و ظنّها غير بالغ حدّ الاطمئنان.

الثالثة: تنقيح المناط الّذي ينقّحه الرواية باعتبار أنّها لدلالتها على الصحّة في الصور الثلاث الّتي هي من صور الإخلال في ستر العورة من دون عمد يعطي مدخليّة العمد في شرطيّة ستر العورة، فلا يكون شرطا في غير صورة العمد. فالأقرب حينئذ كون الشرطيّة مقيّدة بالعمد و الذكر مطلقا، و إن كان الأحوط في صورة نسيان مراعاة الستر من ابتداء الصلاة هو الاستيناف مع الالتفات حال الصلاة، و الإعادة مع الالتفات بعد الفراغ في الوقت أو خارجه.

و يرد على ابن الجنيد في فرقه بين الإعادة و القضاء: أنّه فرق بلا فارق، لأنّ إيجاب الإعادة إن كان باعتبار فوات الشرط مع شرطيّته فهو يعطي وجوب القضاء أيضا، و إن قلنا بكونه بفرض جديد لصدق قضيّة الفوات، كما أنّ نفي القضاء إن كان لحصول أداء المأمور به على وجهه في الوقت فهو يعطي سقوط الإعادة أيضا.

إلاّ أن يقال بأنّ مبنى الفرق على اشتباه حال هذا الشرط في نظره من حيث الإطلاق و التقييد، و هو يوجب الشكّ في الوقت في حصول أداء المأمور به، و في خارجه في صدق فوات المأمور به، فقضيّة أصالة الاشتغال في الأوّل مراعاة الإعادة، و أصالة البراءة في الثاني عدم اشتغال الذمّة بالقضاء، فليتدبّر.

ص: 554

المبحث الثاني في بيان العورة الّتي يجب سترها عن الناظر و في الصلاة
و فيه مقامان:
المقام الأوّل: في عورة الرجل،

و قد اختلف فيها الأصحاب بين قائل «بأنّها القبل و الدبر» كما هو المعروف بين الأصحاب(1) و نسبه في المنتهى(2) إلى أكثر علمائنا و الشيخين(3) و السيّد المرتضى(4) و أتباعهم(5) و استفاضت حكاية الشهرة فيه، و عن الخلاف(6) و ابن إدريس(7) نقل إجماع فقهاء أهل البيت عليهم السّلام. و في المعتبر «و ليست الركبة من العورة بإجماع علمائنا»(8).

و قائل «بأنّها السرّة إلى الركبة» كما عن ابن البرّاج(9).

و قائل «بأنّها السرّة إلى نصف الساق» كما عن أبي الصلاح(10).

و قد نصّ جماعة(11) «بكون القبل هو القضيب و الانثيين و الدبر نفس المخرج» و عن الذكرى(12) أنّه المشهور.

ص: 555


1- كما في الذكرى 7:3، كشف الالتباس: 92، روض الجنان 576:2، الروضة البهيّة 524:1، المسالك 1: 167 و البحار 177:83، كشف اللثام 230:3، الجامع للشرائع: 65، القواعد 256:1، البيان: 59-60.
2- المنتهى 267:4.
3- المفيد في المقنعة، نقله عنه في المعتبر 100:2 و الشيخ في المبسوط 87:1.
4- رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثالثة): 28.
5- المراسم: 64، الوسيلة: 89، السرائر 260:1.
6- الخلاف 298:1.
7- السرائر 260:1.
8- المعتبر 100:2.
9- المهذّب 83:1.
10- الكافي في الفقه: 139.
11- الذكرى 7:3، البيان: 60، جامع المقاصد 93:2، المسالك 167:1، المدارك 191:3، الكفاية: 16.
12- الذكرى 7:3.

و عن حاشية الإرشاد للمحقّق الثاني «الحاق العجّان بهما في وجوب الستر»(1) و هو ما بين الانثيين و الدبر، و دليله غير واضح.

و كيف كان فالأقوى ما عليه الأكثر، للأصل و عدّة من الروايات.

أمّا الأصل: فأصالة براءة ذمّة صاحب العورة عن وجوب ستر ما زاد على القبل و الدبر، و أصالة براءة ذمّة الناظر عن حرمة النظر إلى الزائد عليهما، و أصالة عدم شرطيّة ستر الزائد عليهما للصلاة.

و أمّا الروايات: فما رواه الشيخ عن عليّ بن إسماعيل الميثمي عن محمّد بن حكيم في القويّ «قال الميثمي: لا أعلمه إلاّ قال: رأيت أبا عبد اللّه عليه السّلام أو من رآه متجرّدا و على عورته ثوب، فقال: إنّ الفخذ ليست من العورة»(2).

و مرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام قال:

«العورة عورتان: القبل و الدبر، و الدبر مستور بالأليتين، فإذا سترت القضيب و البيضتين فقد سترت العورة»(3).

و في الذخيرة(4): و رواه الكليني أيضا بزيادة قوله عليه السّلام: «و أمّا القبل فاستره بيدك بعد قوله و الدبر مستور بالأليتين»(5) قال: و في رواية اخرى «فأمّا الدبر فقد سترته الإليتان، و أمّا القبل فاستره بيدك»(6).

و عن الصدوق قال الصادق عليه السّلام: «الفخذ ليست من العورة»(7) و في خبر آخر «أنّ الركبة ليست من العورة»(8).

ص: 556


1- حاشية الإرشاد: 22 (مخطوط).
2- الوسائل 1/34:2، ب 4 من أبواب آداب الحمام، التهذيب 1150/374:1.
3- الوسائل 2/34:2، ب 4 من أبواب آداب الحمام، التهذيب 1151/374:1.
4- الذخيرة: 235.
5- الكافي 26/501:6.
6- الوسائل 3/34:2، ب 4 من أبواب آداب الحمام، الكافي 26/501:6.
7- الوسائل 4/35:2، ب 4 من أبواب آداب الحمام، الفقيه 253/67:1.
8- التهذيب 8/374:1.

و في المرويّ عن قرب الإسناد «سأل عليّ بن جعفر أخاه عليه السّلام عن الرجل بفخذه أو إليتيه الجرح، هل يصلح للمرأة أن تنظر أو تداويه ؟ قال: إذا لم يكن عورة فلا بأس»(1).

و رواية عبد اللّه الرافقي قال: «دخلت حمّاما بالمدينة فإذا شيخ كبير، و هو قيّم الحمّام، فقلت: يا شيخ لمن هذا الحمّام ؟ قال: لأبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام فقال: أ كان يدخل ؟ قال:

نعم، فقلت: كيف كان يصنع ؟ قال: كان يدخل فيبدأ فيطلي عانته و ما يليها، ثمّ يلفّ إزاره على أطراف إحليله، و يدعوني فأطلي له سائر جسده، فقلت له يوما من الأيّام: الّذي تكره أن أراه قد رأيته ؟ قال: كلاّ إنّ النورة سترته»(2).

و ضعف هذه الروايات منجبر بالشهرة العظيمة.

و ليس للقولين الآخرين إلاّ عمومات النهي عن دخول الحمام إلاّ بمئزر، و روايات ضعيفة أوردناها في باب آداب التخلّي من كتاب الطهارة، و عقّبناها بالجواب عن الجميع، فراجع ما ثمّة و تأمّل.

و ينبغي ختم المبحث بإيراد مسائل مهمّة:

الاولى: نصّ غير واحد على أنّه لا يجب على الرجل ستر ما عدى العورة، و هي الثلاث المتقدّمة. و في المدارك: و هو موضع وفاق بين العلماء، قال: و يدلّ عليه قوله عليه السّلام في صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة: «إن أصاب حشيشا يستر به عورته أتمّ به صلاته بالركوع و السجود»(3). و لا ينافي ذلك ما رواه زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «أدنى ما يجزئك أن تصلّي فيه بقدر ما يكون على منكبيك مثل جناحي الخطّاف»(4) لأنّها محمولة على الفضيلة و الكمال جمعا بين الأدلّة(5).

الثانية: قال في الذكرى: «الستر يراعى من الجوانب و من فوق، و لا يراعى من تحت،

ص: 557


1- الوسائل 4/233:20، ب 130 من أبواب مقدّمات النكاح، قرب الإسناد 101-102.
2- الوسائل 2/29:2، ب 1 من أبواب آداب الحمّام، الكافي 7/497:6.
3- الوسائل 1/448:4، ب 50 من أبواب لباس المصلّي.
4- الوسائل 6/453:4، ب 53 من أبواب لباس المصلّي.
5- المدارك 191:3.

فلو كان على طرف سطح ترى عورته من تحته أمكن الاكتفاء، لأنّ الستر إنّما يلزم من الجهة الّتي جرت العادة بالنظر منها و عدمه - و هو الّذي اختاره الفاضل(1) - لأنّ الستر من تحت إنّما لا يراعى إذا كان على وجه الأرض لعسر التطلّع حينئذ، أمّا صورة الفرض فالأعين تبتدر لإدراك العورة، فلو قام على محترم لا يتوقّع ناظر تحته، فالأقرب أنّه كالأرض، لعدم ابتدار الأعين»(2) و ذكر نحوه في المدارك(3).

و ظاهرهما التردّد مع وجود الناظر من جهة التحت.

و تحقيق المقام أنّ ستر العورة ما اعتبره الشارع موضوعا لحكمين:

أحدهما: الوجوب النفسي، و هو معلّق على وجود الناظر.

و ثانيهما: الوجوب الغيري لأجل الصلاة. و هاتان حيثيّتان بينهما عموم من وجه تجتمعان في مادّة و تفترقان في اخريين، فالستر عن الناظر قد يكون مع الصلاة، و قد يكون بدونها، و الستر لأجل الصلاة قد يكون مع وجود الناظر، و قد يكون مع عدمه. و لا يدرى أنّ نظر المتردّدين في مفروض المسألة كالشهيد(4) و صاحب المدارك(5) إلى حيثيّة النظر أو إلى حيثيّة الصلاة، و أيّا ما كان فالتردّد المنبئ عن التوقّف و عدم الترجيح، في غير محلّه، إذ على الحيثيّة الاولى - كما هو ظاهر التعليل بجريان العادة بالنظر و عسر التطلّع و ابتدار العيون لإدراك العورة - لا ينبغي التأمّل في وجوب سترها بحيث لا ترى من تحت أيضا مع وجود الناظر من جهة التحت، لأنّ ظاهر الفتاوى و الأدلّة الّتي منها قوله عليه السّلام: «لعن اللّه الناظر و المنظور إليه»(6) و قوله أيضا: «عورة المؤمن على المؤمن حرام»(7) كون عدم التحفّظ على العورة عن الناظر المحترم بطبيعته و ماهيّته مبغوضا للشارع. و قضيّة ذلك أن لا يتفاوت الحال بين حالات النظر إليها و التطلّع عليها من كونه من جهة الفوق أو من الجوانب أو من تحت. و على الحيثيّة الثانية يرد على التعليلات المذكورة أنّها لا تلائم مفروض المسألة من اعتبار الستر لأجل الصلاة، إذ لا مدخليّة للتطلّع و عدمه و ابتدار العيون

ص: 558


1- التذكرة 462:2.
2- الذكرى 20:3.
3- المدارك 197:3.
4- الذكرى 20:3.
5- المدارك 197:3.
6- الوسائل 5/33:2، ب 3 من أبواب آداب الحمّام، تحف العقول: 11.
7- الوسائل 1/37:2، ب 8 من أبواب آداب الحمّام، الكافي 8/497:6.

لإدراك العورة و عدمه في اعتبار الستر لتلك الحيثيّة، و لذا يجب حتّى مع الأمن من الناظر.

فالأقوى على هذا التقدير كفاية الستر من الجوانب و عدم قدح الانكشاف من تحت في صحّة الصلاة، لأنّه الطريق المتعارف من الستر المأمور به لأجل الصلاة المنصرف إليه إطلاق أدلّته من الإجماعات و الروايات، من غير فرق فيه بين كونه بحيث تطلّع على عورته الغير من تحت و عدمه، غاية الأمر أنّه في الصورة الاولى يحرم عليه أن يدعها بحيث ينظر إليها الناظر المحترم، لعموم حرمة كشف العورة للناظر المتناول لنحو هذه الصورة أيضا، و هو لا يقدح في صحّة الصلاة، لكونه من النهي المتعلّق بأمر خارج عن العبادة، كالنظر إلى الأجنبيّة في الصلاة.

الثالثة: اختلف الأصحاب في جواز ستر العورة بورق الشجر و الحشيش و بالطين اختيارا مع إمكان الستر بالثوب و عدمه على أقوال:

أحدها: أنّه يجوز الستر بكلّ ما يستر العورة من ثوب أو ورق و حشيش أو طين على وجه التخيير بين الجميع، كما يظهر من الفاضلين في النافع و الإرشاد، ففي الأوّل «يجوز الاستتار في الصلاة بكلّ ما يستر به العورة كالحشيش و ورق الشجر و الطين»(1) و في الثاني «يجب سترهما مع القدرة عليه و لو بالورق و الطين»(2).

و ثانيها: أنّه يستتر بالثوب، فإن تعذّر فبالورق و الحشيش أو الطين مخيّرا بينهما، كما هو ظاهر المحقّق في الشرائع(3) و عن الشيخ(4) و ابن إدريس(5) و العلاّمة(6) في أكثر كتبه، و الشهيد في البيان(7) و في الذخيرة(8) «هو قول الأكثر صراحة أو ظهورا».

و ثالثها: أنّه يستتر بالثوب أو الحشيش و الورق مخيّرا بينهما، فإن تعذّرا فبالطين. ذهب إليه الشهيد في الذكرى(9).

و رابعها: أنّه يستتر بالثوب، فإن تعذّر فبالحشيش أو الورق، فإن تعذّر فبالطين.

ص: 559


1- المختصر النافع: 25.
2- إرشاد الأذهان 247:1.
3- الشرائع 70:1.
4- المبسوط 87:1.
5- السرائر 260:1.
6- كما في المنتهى 279:4، التحرير 204:1، نهاية الإحكام 367:1.
7- البيان: 60.
8- الذخيرة: 235.
9- الذكرى 17:3.

و ربّما يوجد في المسألة أقوال متشتّة اخرى تقف عليها في تضاعيفها.

و ملخّص الأقوال أنّها متّفقة على بدليّتها عدى الثوب عنه في الجملة، و الخلاف إنّما هو في كونه بدلا اختياريّا أو اضطراريّا معلّقا على تعذّر المبدل.

و لا بدّ في تحقيقها من النظر في مقتضى الأصل، ثمّ مقتضى عمومات الستر، ثمّ مقتضى الروايات الخاصّة، و حيث إنّ شبهة المسألة إنّما هي في كفاية الستر بما عدى الثوب عن الستر المأمور به لأجل الصلاة، و مرجعها إلى الشكّ في شرطيّة كون الساتر ثوبا فمقتضى الأصل هو الكفاية، إذ الشرطيّة الّتي يرجع فيها عند الشكّ إلى أصل البراءة على ما حقّق في محلّه لا فرق فيها بين شرطيّة شيء للعبادة أو شرطيّة شيء لشرط العبادة، لأنّ شرط شرط الشيء بالأخرة شرط لذلك الشيء.

فما في كلام بعض الأجلّة: من التمسّك بأصل الاشتغال لنفي القول بجواز الستر بما عدى الثوب اختيارا، لأنّ الاشتغال اليقيني بالصلاة يستدعي البراءة اليقينيّة و لا تحصل إلاّ بالستر بالثوب(1) يدفعه: أنّ أصل البراءة في مسألة الشكّ في الشرطيّة حاكم على أصل الاشتغال.

نعم لو فرضت الشبهة بحيث رجعت إلى الشكّ في تحقّق ستر العورة بالتستّر بذلك الشيء كما قد يتصوّر ذلك بالنسبة إلى الطين فيما لو استعمله بطريق الطلي الّذي يستر اللون دون الحجم كان التمسّك بأصل الاشتغال متّجها، لضابطة أنّ الشكّ في الشرط يستلزم الشكّ في المشروط، و هو من الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف، و من حكمه أن لا يجري فيه أصل البراءة، لكن كون مبنى المسألة في جميع فروضها على ذلك إن صحّحناه في الطين غير واضح، بل محلّ منع.

و قد يتوهّم من المطلقات الآمرة بستر العورة للصلاة الدلالة على اشتراط كون الساتر ثوبا، لعدم انفهام غيره من الساتر عند الإطلاق.

و يدفعه: أنّ ظهور المطلقات على تقدير وجودها في الباب و لو في معاقد الإجماعات في الساتر و لو بحكم الانصراف و إن كان مسلّما و لكنّه إنّما هو لأجل أنّ المعتاد المتعارف

ص: 560


1- مطالع الأنوار 175:1.

في ستر العورة إنّما هو سترها بالثوب، و لكنّه لا ينفي كفاية غيره مع الاختيار ليلزم منه شرطيّة كون الساتر ثوبا، بل غايته كون غيره ممّا ليس بمعتاد مشكوك الحال، فيرجع فيه إلى الأصل، إذ لا مخرج عنه من جهة الإطلاقات.

و أمّا الروايات الخاصّة فليس فيها ما يرتبط بالمسألة إلاّ صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة عن أخيه موسى عليه السّلام «عن رجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقى عريانا، و حضرت الصلاة كيف يصلّي ؟ قال: إن أصاب حشيشا يستر عورته أتمّ صلاته بالركوع و السجود، و إن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ و هو قائم»(1).

و هذه الرواية هي مطرح الأنظار و منشأ اختلاف الأقوال، لاختلاف الأنظار في الفهم.

فقيل(2) في وجه الاستدلال بها على تقديم الثوب على غيره: إنّه يظهر من السائل مع جلالة قدره اعتقاد عدم التخيير بين الثوب و غيره، حيث سأل عن كيفيّة الصلاة عند تعذّر الثوب، فلو لا مطابقة هذا الاعتقاد للواقع لردعه الإمام عليه السّلام في الجواب.

و فيه: منع ظهور اعتقاده بذلك، لاحتمال كون تحيّره الداعي إلى السؤال عن كيفيّة لغفلته عن إمكان الستر بغير الثوب من حشيش أو ورق أو طين، فأجاب الإمام عليه السّلام بما رفع تحيّره من أمره بالستر بالحشيش و نحوه على تقدير إصابته، و التعبير «بالشيء» منكّرا في قوله «و إن لم يصب شيئا» تنبيه على أنّ ذكر الحشيش في الشرطيّة الاولى مثال، فيعمّ بحسب ما في ضميره عليه للورق و الطين أيضا إن أفاد سترا.

و قضيّة ذلك ثبوت التخيير بين الحشيش و غيره، إنّما الكلام في قضاء الشرطيّة الاولى بالتخيير بين الحشيش و ما بحكمه و الثوب حيثما أمكن و عدمه، ففيه وجهان:

من ورود الجواب في مفروض السؤال من تعذّر الثوب فيوهم ذلك ترتّب إيجاب التستّر بالحشيش على تعذّر الثوب، و يلزم منه كون الحشيش بدلا اضطراريّا عن الثوب، و عليه مبنى فهم الأكثر(3).

و من وصف الحشيش المنكّر في الجواب بستر العورة به، فإنّه يشعر بكون المناط في

ص: 561


1- الوسائل 1/448:4، ب 50 من أبواب لباس المصلّي.
2- لم نعثر على قائله.
3- كما في الدروس 148:1، غاية المرام 135:1، روض الجنان 578:2، المسالك 167:1، المدارك 192:3.

شرط الصلاة كون العورة مستورة و هو يتحقّق بالحشيش و نحوه، و كذلك الشيء المنكّر يستر العورة به، و هو يعطي كون الحشيش و نحوه بدلا اختياريّا للثوب.

و لعلّ ذلك هو الأقوى، لأنّ فرض السؤال في تعذّر الثوب المتعقّب للجواب بالستر بالحشيش، مع احتمال غفلة السائل عن إمكان الستر بغير الثوب أيضا لا ينهض في متفاهم العرف لتقييد الجواب بحالة تعذّر الثوب، فيبقى الوصف المذكور في إفادته المناط المذكور سليما عمّا يزاحمه.

إلاّ أن يقال: إنّ ذلك على فرض تسليمه إشعار لا يبلغ حدّ الظهور الّذي عليه المعوّل في استفادة شيء من الخطاب لا على ما دونه، و لكنّه خلاف الإنصاف على ما يساعد عليه الذهن الصافي من انفهام كون المناط مستوريّة العورة بأيّ شيء حصل من دون مدخليّة لخصوص الساتر من الوصفين.

و أمّا التوقّف في الرواية من جهة السند من أنّها و إن كانت في المشهور موصوفة بالصحّة و لكنّه محل وقف، بناء على أنّ الشيخ نقلها عن محمّد بن عليّ بن محبوب عن العمركي عن عليّ بن جعفر و الشائع المتعارف وجود الواسطة بين ابن محبوب و العمركي، فلا يبعد سقوط الواسطة سهوا و هذا من عادة الشيخ، و الواسطة بينهما في الأكثر محمّد بن أحمد العلوي و هو مجهول الحال، فالحديث إذن معلّل.

و فيه - على تقدير كون الواسطة الساقطة في هذا الحديث هو الرجل المذكور -: منع جهالة حاله، لوجود عدّة من أمارات الوثوق، منها: ما ذكره النجاشي(1) في ترجمة العمركي من «أنّه روى عنه شيوخ أصحابنا» و هذا يقتضي كون محمّد بن أحمد الراوي عنه من شيوخ أصحابنا الموثوق بهم.

و منها: رواية الأجلاّء عنه، مثل محمّد بن علي بن محبوب و محمّد بن أحمد بن يحيى على ما عن التعليقة، و أحمد بن إدريس و محمّد بن عليّ بن محبوب على ما عن المشتركات(2).

و منها: عدم استثناء رواية(3) محمّد بن الحسن بن الوليد رواية محمّد بن عليّ بن محبوب عن محمّد بن أحمد في استثنائه لرواياته عن جماعة لكونهم ضعفاء، و هذا يعطي

ص: 562


1- رجال النجاشي 161:2.
2- منتهى المقال 328:5-329.
3- كذا في الأصل.

عدم كون أنّ أحمد من الضعفاء.

و منها: تصحيح العلاّمة للروايات الّتي هذا الرجل في طريقها في جملة من كتبه، كالمنتهى(1) و المختلف(2) و مع الغضّ عن جميع ذلك فعمل الأصحاب بهذا الحديث ينهض جابرا لقصور سنده من جهة هذا الرجل.

ثمّ الظاهر أنّ قوله عليه السّلام: «و إن لم يصب شيئا...» الخ مفهوم الشرطيّة المذكورة تعرض له صراحة، و بذلك يتّضح ما بيّناه من كون الحشيش في تلك الشرطيّة مثالا، فيكون الشرط في الحقيقة إصابة شيء يستر العورة، و هو يعمّ ورق الشجر و غيره ممّا أفاد ستر العورة حتّى الطين لو وضع بحيث ستر اللون و الحجم، و إلاّ كان المناسب في الشرطيّة الثانية أن يعبّر بقوله: «إن لم يصب حشيشا» لوجوب اتّحاد موضوعي المنطوق و المفهوم.

و عليه فالرواية واضحة الدلالة على القول الأوّل، فهو الأقوى، إلاّ أنّ الأحوط متابعة المشهور من عدم العدول عن الثوب إلى غيره مع الاختيار، و أحوط منه مراعاة الترتيب بين الجميع حسبما ذكره في الدروس(3).

نعم يبقى الإشكال في استعمال الطين بطريق الطلي كطلي النورة بحيث ستر اللون دون الحجم، و الظاهر أنّه لا يكفي عن الستر الواجب مع الاختيار، لعدم اندراجه في إطلاق الستر الوارد في النصّ ، و معاقد الإجماع الظاهر في ستر الحجم الملازم لستر اللون.

و هل يجب مراعاته عند العجز عن ساتر غيره أو لا؟ إشكال: من الأصل، و إطلاق النصوص المرخّصة في الصلاة عريانا عند تعذّر الساتر.

و من: أنّ النورة سترة على ما في رواية عبد اللّه الرافقي المتقدّمة(4) و أنّه كان متمكّنا عن الساتر بقدر الإمكان كما استدلّ به في المنتهى(5) على وجوب الستر بالطين، و عموم قوله عليه السّلام: «الميسور لا يسقط بالمعسور»(6) فإنّ الساقط للعذر إنّما هو وجوب ستر الحجم و لا يسقط معه ستر اللون.

و في الكلّ ما لا يخفى:

أمّا الأوّل: فبعد الغضّ عن ضعف الرواية أقصى ما تفيدها كفاية نحو هذا الستر في الستر

ص: 563


1- المنتهى 281:4.
2- المختلف 82:2-99.
3- الدروس 79:1.
4- الوسائل 1/53:2، ب 18 من أبواب آداب الحمّام.
5- المنتهى 280:4.
6- عوالي اللآلئ 208/58:4.

عن الناظر و لا تدلّ على وجوب مراعاته للصلاة.

و أمّا الثاني: فلأنّ الساتر إن اريد به ما يكفي في الستر عن الناظر فالتمكّن منه مسلّم، و لكنّه لا يجدي نفعا فيما نحن، لأنّ التمكّن من ساتر اللون فقط لا يلازم وجوب الستر به للصلاة. و إن اريد به ما يعتبر في الصلاة فالتمكّن منه بمجرّد التمكّن من ساتر اللون ممنوع، و الظاهر أنّ موضوع كلام المنتهى في الاستدلال إنّما هو وضع الطين على وجه يستر الحجم أيضا كما ستعرفه.

و أمّا الثالث: فلأنّ مورد الرواية هو المركّب الخارجي إذا تعذّر أحد أجزائه الخارجيّة، كما هو كذلك في قوله: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(1) و الستر ليس مفهوما مركّبا خارجيّا، بل هو مفهوم بسيط ينحلّ عند العقل إلى ستر الحجم و ستر اللون، فلم يظهر اندراج نحوه في عموم الرواية إن لم ندّع ظهور خلافه.

نعم يمكن أن يتمسّك بالاتفاق الظاهر من فتاوي الأصحاب في تضاعيف المسألة، فإنّها متّفقة على بدليّة الستر بالطين، و إن اختلفت في الاختياريّة و الاضطراريّة، و لذا لم يسندوا القول بعدم وجوب الستر به [إلاّ] إلى بعض العامّة، فهذا يكفي في إثبات وجوبه في الجملة، غاية الأمر أنّه لعدم كونه سترا تامّا لا يصلح بدلا اختياريّا عن الستر التامّ المأمور به للصلاة. و هذا حسن لو لا مرادهم من إطلاق الستر بالطين، وضعه بحيث يستر الحجم و اللون كما يومئ إليه عبارة الشهيد في الذكرى: و لو لم يجده - يعني الحشيش - و أمكن وضع طين بحيث يستر الحجم و اللون وجب. نعم ذكر بعد ذلك: لو ستر اللون فقط لا مع إمكان ستر الحجم وجب، لما روى ابن بابويه عن عبد اللّه الرافقي عن قيّم حمّام الباقر عليه السّلام أنّه قال: «النورة سترة»(2) و لكنّه لا يقضي بأنّ مراد المطلقين هذه الصورة و لا ما يعمّها.

فالالتزام بوجوب مراعاته و اعتباره في صحّة الصلاة لا يخلو عن إشكال، و إن كان الاحتياط الشديد في مراعاته.

ثمّ على تقدير الوجوب، فهل يسقط به الإيماء المأمور به للعاري ؟ إشكال، قال في الذكرى: «و في سقوط الإيماء هنا نظر، من حيث إطلاق الستر عليه - يعني في الرواية - و من إباء العرف»(3).

ص: 564


1- عوالي اللآلئ 208/58:4.
2- الذكرى 17:2.
3- الذكرى 17:2.

أقول: لعلّ الأقوى العدم، لمنع كون الإطلاق حقيقة مع إباء العرف خصوصا مع قرينة المقام من إرادة الستر عن الناظر، و لا ملازمة بينه و بين كفايته في تحقّق الستر المعتبر في الصلاة، و الأحوط هنا تكرار الصلاة، فمرّة بالإيماء و اخرى بالركوع و السجود.

فروع:

أحدها: أنّ العاري الغير المتمكّن من الساتر لو وجد وحلا أو ماء كدرا لو نزل فيهما لاستتر عورته، ففي وجوبه خلاف، ففي الذكرى(1) و الدروس(2) و جامع المقاصد الوجوب، إلاّ أنّ ظاهر الأخير كونهما في مرتبة واحدة، حيث قال: «و لو وجد وحلا أو ماء راكدا يستر عورته لو نزله وجب مع عدم الضرر و تعذّر غيره - ممّا سبق - و يركع و يسجد إن أمكن، و إلاّ أومأ»(3) و ظاهر الذكرى تقديم الوحل قائلا: «و لو وجد وحلا و لا ضرر فيه تلطّخ به، و لو لم يجد إلاّ ماء كدرا استتر به مع إمكانه» و في الدروس اقتصر على الماء الكدر.

و في المعتبر(4) و المدارك(5) عدم الوجوب، و علّله في الأوّل بالضرر و المشقّة، و نحوه في المنتهى إلاّ أنّه استحسن إناطة الحكم بالمشقّة و عدمها، فقال - بعد ما نفى الوجوب معلّلا بما عرفت -: و لو اعتبرت المشقّة فيجب النزول مع عدمها و عدم النزول مع وجودها كان حسنا(6).

أقول: إن كان نظرهم في هذا الفرع إلى صورة وجود الناظر فالقول بالوجوب لا يخلو عن قوّة، لعموم أدلّة الستر عن الناظر، غير أنّه ممّا لا تعلّق له بالصلاة، و يظهر الثمرة فيما لو ترك النزول عصيانا و صلّى مومئا لصحّته حينئذ و إن حرم كشف العورة لتعلّق النهي بأمر خارج. و إن كان نظرهم إلى اعتبار نحو هذا الستر للصلاة على طريقة البدل الاضطراري عن الستر المأمور به لها فدليل الوجوب غير واضح، لعدم انصراف أدلّة شرطيّة ستر العورة إلى نحو هذا الستر قطعا، فالأصل سليم عمّا يخرج عنه، مع ما عرفت من أنّ الستر شرط مع التمكّن لا بدونه. نعم طريقة الاحتياط تقتضي رجحان مراعاته، إلاّ أنّه لا يبلغ حدّ اللزوم.

نعم لو فرض تمكّنه في الوحل و الماء من استيفاء الأفعال جميعا، فالمتّجه وجوبه من

ص: 565


1- الذكرى 18:2.
2- الدروس 79:1.
3- جامع المقاصد 100:2.
4- المعتبر 104:2.
5- المدارك 193:3.
6- المنتهى 285:4.

جهة أصل الاشتغال، إلاّ أنّ تصوير إمكان الركوع و السجود فيهما في غاية الإشكال خصوصا السجود. و بالجملة فالاحتياط ممّا لا ينبغي تركه على حال.

و ثانيها: لو وجد حفيرة لو دخلها استترت عورته و تمكّن من الركوع و السجود فيها، ففي وجوب التستّر به قولان، حكاهما في المدارك قائلا: و لو أمكن العاري ولوج حفيرة و الصلاة فيها قائما بالركوع و السجود قيل(1): يجب، لمرسلة أيّوب بن نوح، عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «العاري الّذي ليس له ثوب إذا وجد حفيرة دخلها فسجد فيها و ركع»(2) و قيل: لا استضعافا للرواية، و التفاتا إلى عدم انصراف لفظة الساتر إليه(3) انتهى.

القول بالوجوب خيرة المعتبر(4) و المنتهى(5) معلّلين بأنّه يحصل به الستر عن المشاهدة و هو واجب، و اختاره في جامع المقاصد(6) ناسبا له إلى صريح جمع من الأصحاب استنادا إلى حصول الستر و عدم ثبوت شرطيّة التصاق الساتر بالبدن، و نسب القول بالوجوب في المعتبر إلى الشيخ أيضا قائلا: «و قال الشيخ رحمه اللّه(7): يدخلها و يصلّي قائما، و لم يصرّح بالركوع و السجود و هو بناء على قوله بوجوب القيام مع أمن المطلع» انتهى(8).

أقول: فرض الحفيرة بحيث يتمكّن من الركوع و السجود فيها يقتضي عدم مستوريّة العورة للصلاة في الواقع و لا سيّما القبل، نعم إنّما يفيد الدخول فيها حينئذ التحفّظ عن مشاهدة الناظرين، و لا إشكال في وجوبه على تقدير وجودهم إلاّ أنّه لا يجدي نفعا في وجوبه للصلاة مع الأمن عن مشاهدتهم لعدم حصول الستر المعتبر في الصلاة، لا لاشتراط التصاق الساتر بالبدن بل لعدم تحقّق الستر حقيقة على وجه لا يرى عورته لو حضره الناظر قريبا من الحفيرة عند حافتها، كيف و ليس الدخول فيها إلاّ كالدخول في بيت ضيّق يستر عورته عن المشاهدة، فلو كان ذلك كافيا في تحصيل شرط الصلاة بالدخول فيها لكان كافيا بالدخول فيه، مع أنّهم لم يقولوا به فيه.

و المرسلة المذكورة لضعفها بالإرسال لا تصلح للاستناد إليها في التزام الحكم المخالف

ص: 566


1- جامع المقاصد 100:2.
2- الوسائل 2/448:4، ب 50 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1517/365:2.
3- المدارك 193:3.
4- المعتبر 106:2.
5- المنتهى 285:4.
6- جامع المقاصد 100:2.
7- المبسوط 87:1.
8- المعتبر 105:2-106.

للأصل، فالوجه حينئذ عدم الوجوب للأصل، و إن كان الاحتياط يقتضي رجحان الدخول.

و نحوه في الاحتياط ما لو وجد حفيرة ضيّقة لا يتمكّن فيها من الركوع و السجود، فإنّ الأحوط دخولها و الأحوط فيما يتمكّن من الركوع و السجود تكرار الصلاة إيماء و ركوعا و سجودا، و من جميع ذلك يظهر الحكم في الفسطاط الضيّق إذا لم يمكن لبسه و الحبّ و التابوت مع إمكان الركوع و السجود فيها و عدمه، فإنّ الراجح من جهة الاحتياط هو الدخول مطلقا، و تكرار الصلاة مع إمكانهما فليتدبّر.

و ثالثها: لو وجد ما يستر إحدى العورتين، فالمعروف بين الأصحاب المصرّح به في كلام جمع - كالمحقّق في المعتبر(1) و العلاّمة في جملة من كتبه(2) و الشهيد في الذكرى(3)و الدروس(4) و المحقّق الثاني في جامع المقاصد(5) و شارح الدروس(6) و غيرهم(7) من غير نقل خلاف، كما عن الشيخ(8) أيضا - وجوب سترها به.

و استدلّ عليه العلاّمة في المنتهى «بأنّ ستر العورتين واجب، فلا يسقط وجوب إحداهما بفوات الاخرى». و يمكن الخدشة فيه بأنّ وجوب إحداهما الّذي لا يسقط بفوات الاخرى لا بدّ له من موجب، فإن كان هو الأمر الأوّل المتعلّق بستر مجموع العورتين فقد سقط ذلك بتعذّر ستر المجموع، و إن كان بأمر آخر فهو يحتاج إلى دليل هذا.

و قد اعترض قدّس سرّه على نفسه بقوله: «لا يقال: الواجب ستر المجموع و ليس البحث فيه بل في أجزائه، ثمّ أجاب عنه: بأنّ وجوب ستره يستلزم وجوب ستر كلّ واحد من أجزائه، لأنّه لا يتمّ المجموع إلاّ به، و ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب. و لأنّ وجوب ستر كلّ واحد من العورتين ليس مشروطا بوجوب ستر الاخرى لأنّه إن عكس فدور، و إلاّ فترجيح من غير مرجّح، و لا بحصوله لا على صفة الوجوب و إلاّ لجاز ترك كلّ واحدة منهما لاشتراط وجوبه بشرط غير واجب التحصيل» انتهى(9).

و لا خفاء في ضعف الوجهين:

أمّا الأوّل: فلمنع مقدّميّة جزء الواجب - على ما حقّقناه في محلّه - و لو سلّم فوجوب

ص: 567


1- المعتبر 106:2.
2- النهاية 369:1.
3- الذكرى 16:3.
4- الدروس 79:1.
5- جامع المقاصد 95:2.
6- شرح الدروس 605:1.
7- كابن فهد في الموجز (رسائل العشر): 68 و الفاضل الهندي في كشف اللثام 234:3، و النراقي في المستند 237:4.
8- المبسوط 88:1.
9- المنتهى 286:4.

المقدّمة تابع لوجوب ذيها حدوثا و بقاء و سقوطا، و المفروض سقوطه عنه.

و أمّا الثاني: فلأنّ عدم اشتراط وجوب كلّ واحد منهما على وجوب الاخرى أو على حصولها لا على صفة الوجوب و إن كان مسلّما، غير أنّه لا يلازم وجوب كلّ واحد على تقدير كون الواجب ستر المجموع، بل هو إمّا ليس بواجب أصلا بناء على عدم مقدّميّته، أو وجوبه مشروط بوجوب المجموع على تقدير المقدّميّة، و المفروض سقوط وجوب المجموع فيتبعه سقوط كلّ واحد كما عرفت.

فالتحقيق في دليل الوجوب أن يقال: إنّ العورة بالقياس إلى القبل و الدبر إمّا كلّ ذي جزءين، أو كلّي ذي فردين، فعلى الأوّل يكفي في إثبات وجوب ستر أحد جزءيها بعد تعذّر الآخر عموم «الميسور لا يسقط بالمعسور»(1) و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(2)و على الثاني يكفي فيه الأمر الأوّل لإفادته مطلوبيّة جنس العورة المستلزمة لمطلوبيّة كلّ واحد من فرديه بالاستقلال. و من الظاهر أنّ التكليف بالجنس لا يسقط بتعذّر أحد أفراده، خصوصا مع كون كلّ مطلوبا بالاستقلال.

و بالجملة فالوجوب على أحد التقديرين من جهة الخطاب الأوّل، و على الآخر من جهة خطاب آخر و لعلّ الأوّل هو الصحيح بدليل تثنية العورة. و بعد ثبوت الوجوب فلو صلّى بلا ستر فالظاهر البطلان. و هو يخيّر في ستر أيّهما شاء، إذ لا أولويّة لإحداهما على الاخرى كما عن قوم، أو الأولى ستر القبل به لأنّه يستقبل به القبلة و لبروزه و الدبر مستور بالأليتين كما عن آخرين، أو الدبر أولى به لأنّه أفحش و ينفرج في الركوع و السجود كما عن آخرين، أقوال، حكاها في المنتهى(3).

و يزيف الثالث: بأنّ أفحشيّة الدبر على فرض تسليمه مجبورة بكونه مستورا بالأليتين، و انفراجه في الركوع و السجود مجبور بالإيماء. و أمّا أولويّة القبل و عدمها أيضا فوجهان مبنيّان على وجوب الإيماء في هذه الصلاة أيضا كما صرّح به في جامع المقاصد(4)و غيره(5) أو وجوب الركوع و السجود، فعلى الأوّل لا ينبغي التأمّل في تعيّن ستر القبل لأنّه

ص: 568


1- عوالي اللآلي 207/58:4.
2- عوالي اللآلي 208/58:4.
3- المنتهى 286:4.
4- جامع المقاصد 95:2.
5- كالشهيد في الذكرى 16:3 و الشهيد الثاني في روض الجنان 580:2، و السيد العاملي في المدارك 3: 195، و الفاضل الهندي في كشف اللثام 245:3.

أفحش و أبين للأنظار فالعقل مستقلّ بكونه أولى بالستر، و على الثاني لا ينبغي التأمّل في عدم الأولويّة لأنّ بروز القبل حال القيام حينئذ معارض بانفراج الدبر في حالتي الركوع و السجود.

و أمّا تحقيق هذه المسألة فالوجه هو وجوب الإيماء، لأنّ وجوب الركوع و السجود مشروط بالتمكّن من ستر مجموع العورتين و الشرط غير حاصل، و لا ينبغي معارضة ذلك بأنّ وجوب الإيماء مشروط بعدم ستر مجموع العورتين و الشرط غير حاصل، لمنع اشتراط وجوب الإيماء بذلك بل هو مشروط بعدم التمكّن من ستر المجموع و الشرط حاصل هذا، مضافا إلى عموم قوله عليه السّلام: «و إن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ و هو قائم»(1). و عليه فلو صلّى بالركوع و السجود بطلت صلاته، كما أنّه لو ستر الدبر مع تعيّن ستر القبل بطلت صلاته. هذا كلّه فيما لو كان الساتر المذكور صالحا لأن يستر به كلاّ من العورتين، و أمّا إذا كانت بحيث لم يصلح إلاّ لإحداهما المعيّنة فالمتعيّن حينئذ تخصيصه بها بلا إشكال و لا خلاف أجده.

و رابعها: لو تمكّن من تحصيل الساتر بالشراء أو بالاستيجار وجب الشراء و الاستيجار بلا خلاف، لتمكّنه بالفرض من الصلاة مع الساتر، فيجب مقدّمته من غير فرق بين شرائه بثمن المثل أو بما زاد عليه و لو بأضعافه ما لم يكن مضرّا بحاله، و يختلف ذلك على حسب اختلاف الأشخاص.

و لو أعاره المالك ساترا وجب القبول أيضا بلا خلاف، لأنّه بمجرّد الإعارة حصل له التمكّن من الصلاة مع الساتر، و القبول مقدّمتها فيجب.

و لو وهبه فالمشهور وجوب قبولها أيضا لعين ما عرفت، خلافا للتذكرة(2) فلا يجب لتضمّنه المنّة الّتي لا يجب تحمّلها.

و يضعّفه أنّ الوجه في عدم وجوب تحمّل المنّة على تقدير تسليم اطّراد لزومها إمّا قاعدة الضرر بناء على أنّ تحمّل المنّة يوجب انحطاط شأن و هو نوع ضرر على النفس فينفيه القاعدة، ففيه: أنّه ضرر يتسامح فيه في الغالب فاندراجه تحت أدلّة القاعدة غير

ص: 569


1- الوسائل 1/448:4، ب 50 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1515/365:2.
2- التذكرة 457:2.

واضح. أو قاعدة العسر و الحرج بناء على أنّه مشقّة نفسانيّة لكونه شاقّا على النفس، ففيه:

أنّه مشقّة تتحمّل في الغالب بل حصول الهبة أمر مطلوب مرغوب إليه في غالب النفوس فكيف يكون قبولها شاقّا عليها، مع أنّ حزازة المنّة هنا ترتفع بشدّة حزازة العار اللازم من عدم الستر عند وجود الناظر. فالوجه حينئذ وجوب القبول عملا بقاعدة مقدّمة الواجب.

و هل يجب استعارته أو استيهابه ؟ فالمصرّح به في كلام غير واحد(1) عدم الوجوب، و ربّما يخفى وجه الفرق بينه و بين قبول العارية أو الهبة، لأنّه إذا كان مناط وجوب القبول فيهما حصول التمكّن من الصلاة مع الساتر و هو حاصل في صورة الاستعارة أيضا، خصوصا إذا علم أو ظنّ بأنّه يجيبه. و يندفع بمنع حصول التمكّن الّذي هو مناط وجوب المقدّمة هنا، لوضوح الفرق بين التمكّن من الساتر و الصلاة معه، و التمكّن من تحصيل التمكّن من الساتر و الصلاة معه. و المتحقّق في العارية و الهبة هو الأوّل، لأنّه بمجرّد إعارة المالك و هبته للساتر المتضمّن لارتفاع المنع المالكي الملازم لارتفاع المنع الشرعي يحصل له التمكّن من الصلاة مع الساتر فيجب مقدّمتها الّتي هي الأخذ و القبول. و المتحقّق في الاستعارة و الاستيهاب هو الثاني كما هو واضح، فيندرج في عنوان القدرة على تحصيل شرط الوجوب في الواجبات المشروطة. و من الظاهر المجمع عليه عدم وجوبه من باب المقدّمة، لانتفاء الوجوب عن الواجب فإنّ مناط وجوبه حصول الشرط لا القدرة على تحصيله.

و خامسها: لا يجب على العاري تأخير الصلاة إلى آخر الوقت مطلقا وفاقا للشيخ(2)و الأكثر(3) لجواز البدار لذوي الأعذار. و عدم وجوب الانتظار، كما حقّقناه في محلّه و أشرنا إليه في غير موضع من مسائل الفروع.

خلافا للسيّد(4) و السلاّر(5) فأوجبا التأخير مطلقا، بناء على أصلهما في ذوي الأعذار من وجوب الانتظار عليهم و عدم جواز البدار.

و للفاضلين(6) و من تبعهما(7) من الفرق بين ظنّ حصول الساتر في الزمان المتأخّر

ص: 570


1- كما في روض الجنان 579:2، و الدروس 79:1.
2- النهاية: 130.
3- كالشهيد في روض الجنان 579:2، و المفيد في المقنعة: 36، و الحلبي في الكافي: 147، و ابن البرّاج في المهذّب 116:1.
4- جمل العلم و العمل: 85.
5- المراسم: 76.
6- المعتبر 108:2، التحرير 205:1.
7- التنقيح الرائع 184:1، المدارك 196:3.

فيجب التأخير و عدمه فلا يجب. و الأقوى ما ذكرناه حتّى مع الظنّ بل العلم بحصول الساتر.

المسألة الرابعة: في أنّه إذا لم يتمكّن من الساتر أصلا فلا خلاف بين الأصحاب في وجوب الصلاة عليه عاريا، لما عرفت من كون الساتر شرطا اختياريّا مختصّا شرطيّته بحالة التمكّن، فلا تسقط الصلاة مع العجز عنه و في المدارك «أجمع العلماء كافّة على أنّ الصلاة لا تسقط مع عدم الساتر، و اختلفوا في كيفيّة هذه الصلاة»(1) فعن السيّد «أنّه يصلّي قاعدا و لو مع الأمن و يومئ من المطّلع»(2) و عن الحلّي «أنّه يصلّي قائما و لو مع عدم الأمن من المطّلع يومئ»(3) و عن الشيخين(4) و الأكثر(5) «أنّه يصلّي قائما مع الأمن و قاعدا مع عدم الأمن و يومئ في الحالين».

و احتمل المحقّق في المعتبر(6) بعد ما استحسن تأويل الشيخين التخيير بين القيام و الجلوس استضعافا للرواية المفصّلة الآتية، و استحسنه في المدارك(7) كما استقربه في الذخيرة(8). و ربّما عزى(9) اختياره إلى جماعة(10) ممّن تأخّر عن المحقّق.

و منشأ اختلاف الأقوال اختلاف الروايات، فممّا يدلّ على قول السيّد حسنة زرارة - بإبراهيم بن هشام بل صحيحه على الصحيح - قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: رجل خرج من سفينة عريانا أو سلب ثيابه و لم يجد شيئا يصلّي فيه ؟ فقال: يصلّي إيماء، و إن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها، و إن كان رجلا وضع يده على سوأته، ثمّ يجلسان فيومئان إيماء و لا يسجدان و لا يركعان فيبدو ما خلفهما تكون صلاتهما إيماء برءوسهما... الخ»(11).

و استدلّوا أيضا بصحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن قوم صلّوا جماعة و هم عراة ؟ قال: يتقدّمهم الإمام بركبتيه، و يصلّي بهم جلوسا و هو جالس»(12).

ص: 571


1- المدارك 194:3.
2- جمل العلم و العمل: 80.
3- السرائر 260:1.
4- المفيد في المقنعة: 36، و الشيخ في النهاية: 130، و المبسوط 87:1، و الخلاف 142:1.
5- كما في المدارك 194:3، و الذكرى 21:3.
6- المعتبر 104:2.
7- المدارك 195:3.
8- الذخيرة: 236.
9- كما في مفتاح الكرامة 53:6.
10- منهم الشهيد في الدروس 149:1، و الشهيد الثاني في المسالك 167:1، و ابن فهد في الموجز الحاوي (رسائل العشر): 68، و السيوري في التنقيح الرائع 183:1، و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 2: 101، و الكاشاني في مفاتيح الشرائع 105:1.
11- الوسائل 6/449:4، ب 50 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 16/396:6.
12- الوسائل 1/450:4، ب 51 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1512/365:2.

قالوا: و الحكم بالجلوس مع الجماعة يقتضي جوازه مطلقا، إذ لا يعقل ترك الركن لتحصيل الفضيلة خاصّة.

و موثّقة إسحاق بن عمّار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قوم قطع عليهم الطريق، فاخذت ثيابهم فبقوا عراة، و حضرت الصلاة كيف يصنعون ؟ قال: يتقدّمهم إمامهم فليجلس و يجلسون خلفه فيومئ إيماء بالركوع و السجود، و هم يركعون و يسجدون خلفه على وجوههم»(1) وجه الدلالة ما سمعت، و فيه نظر، لاختصاص ورودهما بصورة وجود الناظر، و الرخصة في ترك الركن إنّما هي لهذه الحيثيّة لا من حيث تحصيل فضيلة الجماعة، و لا إطلاق فيهما لفظا يتناول صورة الأمن من الناظر كما هو واضح.

و ممّا يدلّ على القول الثاني: صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة المطلقة بأنّه «إن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ و هو قائم»(2).

و صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل ليس معه إلاّ سراويل ؟ قال: يحلّ التكّة منه فيطرحها على عاتقه و يصلّي، قال: و إن كان معه سيف و ليس معه ثوب فليتقلّد السيف و يصلّي قائما»(3).

و الأكثر جمعوا بين هذين النوعين بحمل روايات الجلوس على صورة عدم الأمن من الناظر، و روايات القيام على صورة الأمن من الناظر.

و الشاهد لهذا الجمع ما رواه الشيخ عن ابن مسكان عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في رجل يخرج عريانا فيدركه الصلاة ؟ قال: يصلّي عريانا قائما إن لم يره أحد، فإن رآه أحد صلّى جالسا»(4) و المرويّ عن محاسن البرقي في الصحيح عن عبد اللّه بن مسكان عن أبي جعفر عليه السّلام «في رجل عريانا ليس معه ثوب ؟ قال: إذا كان حيث لا يراه أحد فليصلّ قائما»(5).

و استضعاف المحقّق للصحيحة الاولى لا جهة له إلاّ الإرسال. و يندفع بكون ابن مسكان ممّن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه فلا يلتفت ما قبله من الضعف و موجبه،

ص: 572


1- الوسائل 2/451:4، ب 51 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1514/365:2.
2- تقدّم في الصفحة 558 الرقم 1.
3- الوسائل 3/452:4، ب 53 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1519/366:2.
4- الوسائل 3/449:4، ب 50 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1516/365:2.
5- الوسائل 7/450:4، ب 50 من أبواب لباس المصلّي، المحاسن: 135/372.

مضافا إلى اشتهار مضمونها بين الأصحاب كما صرّح به جماعة منهم العلاّمة في المختلف(1) و الشهيد في الذكرى(2).

فروع:

الأوّل: صريح صحيحة زرارة من روايات الجلوس و صحيحة عليّ بن جعفر من روايات القيام كون الركوع و السجود في حالتي الجلوس و القيام بالإيماء، و هو المصرّح به في كلام جماعة(3) بل هو المشهور من مذهب الأكثر(4) و لا ينافيه ما في موثّقة ابن عمّار من قوله عليه السّلام: «و هم يركعون و يسجدون» لجواز كون المراد بهما الإيماء بالوجه كما يشعر به التقييد بقوله: «على وجوههم».

و هاهنا قولان آخران:

أحدهما: ما عن السيّد ابن زهرة من أنّ القائم يركع و يسجد قائلا في المحكيّ عنه في كيفيّة صلاة المضطرّ و العريان: «إذا كان بحيث يراه أحد صلّى جالسا يومئ للركوع و السجود، و إن كان بحيث لم يره أحد صلّى قائما و ركع و سجد»(5).

و ثانيهما: ما حكاه الشهيد في الذكرى(6) عن شيخه السيّد عميد الدين، من أنّه كان يقوّي جلوس القائم ليومئ للسجود جالسا، استنادا إلى كونه حينئذ أقرب إلى هيئة الساجد فيدخل تحت «فأتوا منه ما استطعتم»(7).

و ما عرفت من الروايات الآمرة بالإيماء في الحالتين الظاهرة في إيماء القائم قائما حجّة عليهما، مع ضعف مستند الثاني، لعدم تعلّق «فأتوا منه ما استطعتم» بنحو ما نحن فيه كما ذكرنا في غير موضع من مسائل الاصول، و لو سلّم فيخصّصه دليل الإيماء لكونه خاصّا.

و عدم وضوح مستند الأوّل، و لعلّه قاعدة تعارض الجزء و الشرط فيما لو دار الأمر لعذر بين طرح أحدهما و الأخذ بالآخر القاضية بأولويّة طرح الشرط لكونه أهون، و هاهنا يدور الأمر بين مراعاة ستر المخرج بالأليتين و طرح الركوع و السجود و مراعاتهما و طرحه، و الثاني أولى لكون الستر المذكور من الشرط. و يزيّفه أنّ القاعدة و إن كان مسلّمة غير أنّها

ص: 573


1- المختلف 102:2.
2- الذكرى 22:3.
3- الذكرى 23:3، المدارك 195:3.
4- كما في جامع المقاصد 101:2 و المفاتيح 105:1، و مجمع البرهان 107:2، و التنقيح 183:1.
5- الغنية: 92.
6- الذكرى 23:3.
7- صحيح مسلم 1337/975:2، مسند أحمد 247:2.

قابلة للتخصيص فيخصّصها دليل الإيماء كما عرفت.

الثاني: نصّ في الذكرى(1) و المدارك(2) بوجوب كون الإيماء في الحالين للركوع و السجود بالرأس. و في الثاني: إن أمكن و إلاّ فبالعينين، و في الأوّل: و قد قال الفاضلان في المعتبر(3) و التذكرة(4) و النهاية(5) يومئ المريض برأسه، فإن تعذّر فبالعين. فهذا أولى، و يشهد لهما ذيل خبر زرارة(6) و لولاه كان العمل بإطلاق الروايات إلاّ أن يدّعى تبادر كون الإيماء بالرأس من الإطلاق، و ليس ببعيد. و حينئذ يشكل اعتبار كونه بالعين مع العذر على وجه اللزوم و إن كان هذا أحوط، و قد يستند له إلى الإجماع.

ثمّ قضيّة إطلاق الروايات كون الإيماء للركوع و السجود على نمط واحد، و في الذكرى وجوب كون إيماء السجود أخفض ناسبا له إلى الأصحاب بقوله: «قال الأصحاب: و ليكن السجود أخفض هنا و في المريض» مؤذنا بدعوى الإجماع.

و يعضده الاعتبار لكون مراعاته محافظة على الفرق بينه و بين الركوع في كون الانخفاض له أزيد منه للركوع، و النصوص المصرّحة بذلك في باب النافلة ماشيا أو على الراحلة، فالالتزام به غير بعيد، و إن كان العمل بإطلاق روايات الباب أقرب إلاّ أن يكون ما ذكره هنا إجماعا.

و استقرب في الذكرى وجوب أن يبلغ في الإيماء إلى حدّ لو زاد عليه لبدت العورة، و هو بعيد، لكونه تقييدا للروايات من غير شاهد.

و أبعد منه ما احتمله من وجوب وضع اليدين و الركبتين و إبهامي الرجلين على المعهود في الإيماء للسجود.

و أبعد من الجميع احتماله وجوب وضع شيء يسجد عليه بجبهته، قال: «فإن قلنا به و أمكن تقريب مرتفع إليه وجب و سجد عليه، و إن لم يمكن و كان هناك من يقرّب إليه شيئا فعل، و إن تعذّر إلاّ بيده سقط السجود عليها و قرّب المسجد بها لأنّ الجبهة أشرف أعضاء السجود» انتهى(7).

ص: 574


1- الذكرى 23:3.
2- المدارك 195:3.
3- المعتبر 160:2.
4- التذكرة 207:3.
5- نهاية الإحكام 441:1.
6- الوسائل 6/449:4، ب 50 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1512/365:2.
7- الذكرى 23:3-24.

و هذا كلّه كما ترى مخالفة للأصل و إطلاق النصوص، و لذا ترى أنّ كلام الأصحاب خلو عن جميع ذلك، مع أنّ إطلاق هذه الأحكام لا يجامع وظيفة القائم إلاّ أن ينزّل على ما حكاه عن شيخه السيّد عميد الدين، أو يحمل كلامه على وظيفة الجالس.

الثالث: ظاهر إطلاق أكثر نصوص الباب أنّه لا يجب على العاري في صورتي أمن المطّلع و عدمه أزيد من القيام و الجلوس و الإيماء للركوع و السجود في الحالتين حتّى وضع اليد على الفرج، و فتاوي الأكثر أيضا خالية عن إيجاب أزيد ممّا ذكر.

لكن عن السيّد المرتضى ظهور القول بوجوب وضع اليد على الفرج قائلا في عبارة محكيّة عنه: «العريان الّذي لا يتمكّن من ستر عورته يجب أن يؤخّر الصلاة إلى آخر أوقاتها طمعا في وجود ما يستر به، فإن لم يجد صلّى جالسا واضعا يده على فرجه»(1).

و لم نقف على من وافقه، و يساعده الأمر به في خبر زرارة المتقدّم الظاهر في الوجوب، و لكن عدم ظهور عمل المعظم بهذا الظهور ممّا يقرب حمله على الاستحباب و الأفضليّة، و يؤكّده أنّ نصوص الباب مسوقة لبيان كيفيّة صلاة العاري فلو كان وضع اليد معتبرا فيها على وجه اللزوم لم يكن لخلوّ أكثرها و لا سيّما مرسلة ابن مسكان المفصّلة عن بيانه معنى، فهذا يدلّ على عدم الاعتبار و يقتضيه الأصل أيضا، و لكنّ الأحوط مراعاته خروجا عن مخالفة النصّ .

الرابع: أنّ العاري قد يعلم عدم وجود الناظر، و قد يعلم وجوده، و قد يحتمل وجوده ظانّا به أو بعدمه أو على التساوي، و لا إشكال في وجوب القيام في الصورة الاولى، و لا في وجوب الجلوس في الثانية، و أمّا الثالثة فظاهر فتاوي الأكثر كونها ملحقة بالثانية في وجوب الجلوس فيها أيضا حيث عبّروا عن عنوان مسألتي القيام و الجلوس بالأمن عن المطّلع أو الناظر و عدم الأمن عنه لظهور الأمن في صورة العلم بعدم وجوده فيكون عدم الأمن أعمّ من صورتي العلم بوجوده و احتمال وجوده مطلقا.

و يشكل بعدم مساعدة نصوص الباب عليه و لا سيّما مرسلة ابن مسكان الّتي هي العمدة من مستند الأكثر في مصيرهم إلى الفرق بين صورتي الأمن و عدمه، لظهور قوله عليه السّلام: «إن لم يره أحد فإن رآه أحد...» الخ في صورتي العلم بوجود الناظر و العلم بعدم وجوده،

ص: 575


1- نقله عنه في المختلف 102:2، جمل العلم و العمل (رسائل الشريف المرتضى 3):49.

و لا تعرّض فيها لصورة الاحتمال أصلا إلاّ أن يستظهر إلحاقها بصورة العلم بالوجود من مفهوم قوله عليه السّلام: «إذا كان حيث لا يراه أحد فليصلّ قائما» في رواية محاسن البرقي، بتقريب ظهور قوله: «إذا كان حيث لا يراه أحد» في كونه حيث يعلم أنّه لا يراه أحد فيكون مفهومه إذا لم يكن حيث يعلم أنّه لا يراه أحد فلا يصلّ قائما، و عدم كونه حيث يعلم أنّه لا يراه أحد أعمّ من كونه حيث يعلم أنّه يراه أحد و كونه حيث لا يعلم أنّه يراه أحد أو لا يراه أحد، فالأقرب إذن لحوق صورة الاحتمال بصورة العلم بوجود الناظر، فيجب الجلوس في هذه الصورة أيضا.

الخامس: هل الحكم بوجوب الجلوس في الصلاة عند عدم الأمن من الناظر مختصّ بما لو كان الناظر ممّن يحرم عليه النظر في عورته أو يعمّه و من لا يحرم عليه النظر كزوجته و مملوكته الغير المزوّجة بالغير؟ وجهان: من عموم لفظ «أحد» في روايتي ابن مسكان، و من أنّ المتبادر منهما و من سائر الروايات كون الناظر من يحرم عليه النظر في عورته، فيجب عليه القيام مع وجود إحداهما أو كلتيهما.

السادس: إذا دخل في الصلاة قائما لعدم وجود ناظر، ثمّ وجد الناظر في الأثناء أو جالسا حال وجود الناظر، ثمّ خرج الناظر في الأثناء، فهل يجب إتمام الصلاة على هذه الحالة الّتي دخل فيها أو الجلوس في الأوّل و القيام في الثاني ؟ وجهان: من إطلاق الأمر بالقيام مع عدم وجوده و الجلوس مع وجوده، و من أنّ تركّب الصلاة من القيام و الجلوس هيئة غير مشروعة. أجودهما الأوّل عملا بالإطلاق المذكور، و هو كاف في مشروعيّة الهيئة الحاصلة من ركعة قياما و اخرى جلوسا.

[المقام الثاني: في عورة المرأة الحرّة البالغة]

المقام الثاني: في عورة المرأة الحرّة البالغة، فالمعروف بين الأصحاب كما في حاشية الروضة(1) و المشهور بينهم و عليه أكثرهم كما في شرح الدروس(2) أنّ بدن المرأة كلّها عدى ما استثني عورة، يجب سترها في الصلاة، و في المنتهى بلا خلاف بين كلّ من يحفظ عنه العلم(3) و في المعتبر بإجماع علماء الإسلام(4).

خلافا لابن الجنيد فسوّى في العورة الواجب سترها بين الرجل و المرأة قائلا: «الّذي

ص: 576


1- حاشية الروضة: 184.
2- شرح الدروس 606:1.
3- المنتهى 271:4.
4- المعتبر 101:2.

يجب ستره من البدن العورتان و هما القبل و الدبر من الرجل و المرأة، و عنه أيضا لا بأس أن تصلّي المرأة الحرّة و غيرها و هي مكشوفة الرأس حيث لا يراها غير ذي محرم لها»(1)و الأقوى الأوّل.

و عن الشيخ في الاقتصاد الاحتجاج بأنّ بدن المرأة كلّه عورة(2). و فيه مصادرة واضحة، و لذا اورد عليه بأنّه إن أراد وجوب ستره على الناظر المحترم فمسلّم، لكنّه غير محلّ النزاع. و إن أراد وجوب ستره في الصلاة فممنوع، و لا بدّ له من دليل.

فالعمدة في دليل المسألة روايات أهل بيت العصمة:

ففي صحيح زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن أدنى ما تصلّي فيه المرأة ؟ قال: درع و ملحفة فتنشرها على رأسها و تحلّل بها»(3).

و في صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «و المرأة تصلّي في الدرع و المقنعة إذا كان الدرع كثيفا»(4). و عن الصحاح الدرع: القميص(5).

و الموثّق عن ابن أبي يعفور قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: تصلّي المرأة في ثلاثة أثواب، إزار و درع و خمار، و لا يضرّها بأن تقنّع بالخمار، فإن لم تجد فثوبين تتّزر بأحدهما و تقنّع بالآخر، قلت: فإن كان درع و ملحفة ليس عليها مقنعة ؟ فقال: لا بأس إذا تقنّعت بملحفة، فإن لم تكفها فتلبسها طولا»(6).

و رواية معلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن المرأة تصلّي في درع و ملحفة ليس عليها إزار و لا مقنعة ؟ قال: لا بأس إذا التفت بها و إن لم تكن تكفيها عرضا جعلتها طولا، قال: و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ثمانية لا يقبل اللّه لهم صلاة، منهم المرأة المدركة تصلّي بغير خمار»(7) فإنّ المستفاد من مجموع هذه الروايات و غيرها(8).

ص: 577


1- نقله عنه في المختلف 96:2 و 98.
2- الاقتصاد: 258.
3- الوسائل 9/407:4، ب 28 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 853/217:2.
4- الوسائل 3/405:4، ب 28 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 1081/243:1.
5- القاموس المحيط 20:3، مجمع البحرين 26:2 (درع).
6- الوسائل 8/406:4، ب 28 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 856/217:2.
7- الوسائل 5/405:4، ب 28 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 1084/244:1.
8- كذا في الأصل، و الكلام ناقص.

و لم نقف لابن الجنيد على مستند لقوله الأوّل.

نعم نقل عنه الاحتجاج لكلامه الثاني بما رواه عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«لا بأس بالمرأة المسلمة الحرّة أن تصلّي و هي مكشوفة الرأس»(1) و عنه أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس أن تصلّي المرأة المسلمة و ليس على رأسها قناع»(2).

و هما لا تصلحان لمعارضة ما مرّ من وجوه شتّى، فإمّا مطروحة أو مؤوّلة.

و لذا أجاب عنهما الشيخ في التهذيب(3) بالحمل على الصغيرة أو على حالة الضرورة، و احتمل في الخبر الثاني أن يكون المراد بالمرأة المسلمة الأمة. و في المعتبر الحكم بإطراح الخبر الثاني بضعف عبد اللّه بن بكير: «فلا يترك لخبره الأخبار الصحيحة المتّفق على مضمونها»(4) و استحسنه في الذخيرة(5) كما استجوده شارح الدروس(6).

و في كلام جماعة من متأخّري المتأخّرين(7) أنّ أكثر عبارات الأصحاب خالية عن التعرّض لوجوب ستر شعر المرأة، نعم نصّ عليه الشهيد في الذكرى(8) و الدروس(9) بل في الروضة «به قطع المصنّف في كتبه قال: و في الألفيّة(10) جعله أولى»(11).

و ربّما نوقش في القول بوجوب ستره بعدم دخوله في مسمّى البدن، و جعل في حاشية الروضة ما في الألفيّة أولى(12).

و استدلّ للقول بوجوب ستره برواية الفضيل عن الباقر عليه السّلام قال: «صلّت فاطمة عليها السّلام و خمارها على رأسها ليس عليها أكثر ممّا وارت به شعرها و أذنيها»(13). و ردّت بضعف السند و قصور الدلالة على الوجوب، فمن الجائز استحباب ستره و هي عليها السّلام كانت لا تترك المستحبّ .

و المسألة غير خالية عن الإشكال، لعدم وضوح دليل على الوجوب من الروايات

ص: 578


1- الوسائل 5/410:4، ب 29 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 857/218:2.
2- الوسائل 6/410:4، ب 29 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 858/218:2.
3- التهذيب 218:2 ذيل ح 66.
4- المعتبر 102:2.
5- الذخيرة: 237.
6- شرح الدروس 606:1.
7- كما في المدارك 189:3، و البحار 180:83.
8- الذكرى 8:3.
9- الدروس 78:1.
10- الألفيّة: 50.
11- الروضة البهيّة 525:1.
12- حاشية الروضة: 184.
13- الوسائل 1/405:4، ب 28 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 785/167:1.

و معاقد الإجماعات، لما عرفت من عدم دخول الشعر في مسمّى البدن و لا الجسد ليناوله إطلاق معاقد الإجماعات.

إلاّ أن يستظهر كونه من العورة من الأمر الوارد في النصوص بستر الرأس بالخمار كما تنبّه عليه السيّد في الرياض قائلا «بأنّه لو كان مرادهم بالجسد ما يقابل الشعر، لما كان لأمرهم بالخمار وجه، لستر الشعر جلد الرأس جدّا، فكان فيه غنى عن الخمار الساتر قطعا، و مع ذلك النصوص مستفيضة - كادت تبلغ التواتر بل لعلّها متواترة - بلزوم سترهما عن الأجنبيّ ، و ليس الأمر بسترهما عن الأجنبيّ إلاّ لكونهما من العورة المأمورة لسترها في الصلاة بإجماع العلماء كافّة» انتهى(1). فالأقرب إذن وجوب ستره.

و يشكل الحال في الخنثى المشكل الّتي ألحقها الشهيد في الدروس بالمرأة(2) و استقربه العلاّمة في المنتهى بعد ما تردّد، قال: «الخنثى المشكل يجب عليه ستر فرجيه إجماعا و إن كان أحدهما زائدا، و هل يجب عليه ستر جميع جسده كالمرأة ؟ فيه تردّد ينشأ: من أصالة براءة الذمّة فيصار إليها، و من العمل بالاحتياط في وجوب ستر الجميع. و الأقرب الثاني، لأنّ الشرط بدون ستر الجميع لا تيقّن حصوله» انتهى(3).

و فيه: أنّ ما تيقّن شرطيّته تيقّن حصوله، و ما لم يتيقّن حصوله لم يتيقّن شرطيّته، فالأصل يقتضي العدم.

لا يقال: يشكّ في أنّ المأمور به في حقّ الخنثى هل يحصل بمجرّد ستر الفرجين فقط أو لا يحصل إلاّ بستر جميع البدن ؟ فيجب مراعاة الثاني لأنّ الشغل اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة و لا تحصل إلاّ به، لأنّ الّذي يترتّب على عدم ستر الجميع على تقدير وجوبه إنّما هو العقاب على المخالفة بعدم الإتيان بالمأمور به و هو غير متيقّن بل غايته الاحتمال و ينفيه أصل البراءة. فالأقرب هو عدم وجوب ستر الجميع، إلاّ أنّ الاحتياط لا ينبغي تركه.

ثمّ إنّه استثنى عن قاعدة وجوب ستر جميع البدن على المرأة الوجه و اليدان و القدمان في الجملة. أمّا الوجه فالظاهر أنّه لا خلاف في عدم وجوب ستره و الإجماعات المنقولة عليه مستفيضة، منها: ما في المعتبر(4) و المختلف(5) من إجماع علماء الإسلام عليه، و في المنتهى(6) «و هو قول كلّ من يحفظ عنه العلم». و ربّما استفيد عدم وجوب ستره مطلقا من

ص: 579


1- الرياض 385:2-386.
2- الدروس 78:1.
3- المنتهى 272:4.
4- المعتبر 101:2.
5- المختلف 98:2.
6- المنتهى 272:4.

الكتاب حيث قال عزّ من قائل: وَ لاٰ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّٰ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا (1) بناء على ما عن ابن عبّاس في قوله: إِلاّٰ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا الوجه و الكفّان(2). نعم ربّما توهّم من إطلاق الجمل و العقود(3) و الغنية(4) من حيث عدم استثنائهم عن بدن المرأة المحكوم بكونه عورة كلّه.

و دفع ببعد دخول الوجه في إطلاق تلك الكتب، و هو كذلك.

و أمّا الكفّان فالمشهور الّذي عليه الأكثر، و منهم: الشيخ في المبسوط(5) عدم وجوب سترهما أيضا، لعدم كونهما من العورة، كما هو قضيّة الآية أيضا على التفسير المذكور. بل في المنتهى «قال علماؤنا: الكفّان بمنزلة الوجه»(6) بل ظاهر الذكرى(7) كونه إجماع العلماء إلاّ نادر من العامّة، قائلا: «أجمع العلماء على عدم وجوب ستر وجهها، إلاّ أبا بكر بن هشام(8) و على عدم وجوب ستر الكفّين، إلاّ أحمد و داود»(9) و يظهر ذلك من عبارة جامع المقاصد قائلا: «و خالف أبو بكر بن عبد الرحمن(10) في استثناء الوجه، و بعض الفقهاء من العامّة(11) في استثناء الكفّين، و لا يلتفت إليهما»(12) لكن عبارة الشيخ في الاقتصاد(13) الّتي حكاها في المختلف صريحة في عدم استثناء غير الوجه قائلا: «فأمّا المرأة الحرّة فإنّ جميعها عورة يجب عليها ستره في الصلاة و لا تكشف غير الوجه فقط»(14) و عزي إيجاب ستر الكفّين أيضا إلى ظاهر الجمل و العقود(15) و الغنية(16).

و أمّا القدمان فظاهر هذه الكتب كصريح الاقتصاد(17) وجوب سترهما أيضا. و صريح المبسوط(18) و كتب المحقّق(19) و العلاّمة(20) و الشهيدان(21) و غيرهم(22) عدم الوجوب، لعدم كونهما من العورة. و عن جماعة دعوى الشهرة تارة و نسبته إلى الأكثر اخرى، و إن

ص: 580


1- النور: 31.
2- سنن البيهقي 225:2، الدرّ المنثور 41:5، المغني 672:1.
3- الجمل و العقود: 63.
4- الغنية: 65.
5- المبسوط 87:1.
6- المنتهى 272:4.
7- الذكرى 8:3.
8- المغني 672:1.
9- المغني 672:1.
10- المغني 672:1.
11- ذهب إليه أحمد كما في فتح العزيز 90:4.
12- جامع المقاصد 96:2.
13- الاقتصاد: 258.
14- المختلف 98:2.
15- الجمل و العقود: 63.
16- الغنية: 65.
17- الاقتصاد: 258.
18- المبسوط 87:1.
19- كما في المعتبر 101:2.
20- كما في القواعد 257:1.
21- كما في الذكرى 8:3، روض الجنان 582:2، المسالك 166:1.
22- كما في جامع المقاصد 97:2، الجامع للشرائع: 65.

اختلفوا من حيث التعميم و التخصيص بين مصرّح بظهر القدمين - و لعلّه أكثرهم - و مطلق القدمين، و مصرّح بوجوب ستر باطن القدمين.

و الأقوى: هو المشهور من عدم وجوب ستر الوجه و الكفّين و القدمين، استظهارا له - بعد الإجماعات المنقولة في الوجه بل الكفّين أيضا - من النصوص المصرّحة باجتزاء المرأة في ستر بدنها بالدرع مع المقنعة أو الخمار، فدلّ على عدم وجوب غيرهما مطلقا، و المقنعة و الخمار للرأس و لا يستران غيره، و الدرع أيضا في غالب أفراده لا يستر الكفّين و القدمين، بل الغالب فيه عدم ستر العقبين أيضا. فلو وجب ستر هذه المذكورات أو ستر شيء منها لأمر به في الروايات البتّة، لورودها مورد بيان الكيفيّة، فيمتنع خلوّها عن بيان بعض ما يعتبر فيها. و لو بقى بعد ذلك احتمال لكفى في نفيه الأصل.

نعم يبقى الكلام في تحديد هذه المواضع، ففي كلام غير واحد(1) تحديد الوجه بما يجب غسله في الوضوء أصالة، و ربّما استشكل فيه بعضهم كالذخيرة(2) و غيره و عن الشهيد في الذكرى(3) «و في الصدغين و ما لم يجب غسله من الوجه نظر، من تعارض العرف اللغوي و الشرعي». و تحديد الكفّين بمفصل الزندين، مع تصريح غير واحد(4) بعدم الفرق بين ظاهرهما و باطنهما. و تحديد القدمين بما تحت المفصل، مع تصريح جماعة بعدم الفرق بين ظاهرهما و باطنهما، و قد عرفت اختلاف كلماتهم في ذلك و لم نقف في كلماتهم على دليل هذه التحديدات، بل لا نظنّ دليلا لها سوى كونه الأخذ بالقدر المتيقّن ممّا دلّ من النصّ و الإجماع على جواز كشفها، فإنّ إطلاق الأدلّة القاضية بكون بدن المرأة كلّه عورة - من النصوص و معاقد الإجماعات - يعطي وجوب ستر كلّما يدخل في مسمّى البدن خرج منها المواضع المذكورة بالنصّ و الإجماع، و القدر المتيقّن منه الحدود المذكورة. و منه يترجّح الاقتصار في القدمين على ظهرهما، كما عزي إلى أكثر عباراتهم كعبارة الشيخ(5)و المحقّق(6) و العلاّمة(7) في عدّة من كتبه.

ثمّ إنّه نصّ الأصحاب كلمة واحدة على جواز كشف الرأس في الصلاة للأمة و الصبيّة،

ص: 581


1- كما في روض الجنان 582:2، و كشف الالتباس: 92 (مخطوط).
2- الذخيرة: 237.
3- الذكرى 8:3 و 12.
4- كما في جامع المقاصد 97:2، و روض الجنان 582:2.
5- المبسوط 87:1.
6- المعتبر 101:2.
7- التحرير 202:1.

و في كلام الفاضلين(1) و الشهيد(2) و غيرهما(3) إجماع علماء الإسلام عليه إلاّ الحسن البصري(4) فإنّه أوجب على الأمة الخمار إذا تزوّجت أو اتّخذها الرجل لنفسه.

و مستند الحكم في الأمة - بعد الإجماع - الصحاح المستفيضة، ففي صحيح عبد الرحمن ابن الحجّاج عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «ليس على الإماء أن يتقنّعن في الصلاة»(5). و صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت: الأمة تغطّي رأسها إذا صلّت ؟ قال: ليس على الأمة قناع»(6). و صحيحه الآخر المرويّ عن الكافي قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:

ليس على الأمة قناع في الصلاة، و لا على المدبّرة و لا على المكاتبة إذا شرطت عليها قناع في الصلاة و هي مملوكة حتّى تؤدّي جميع مكاتبتها»(7). و صحيحه الآخر أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: الأمة تغطّي رأسها؟ فقال: لا و لا على امّ الولد أن تغطّي رأسها إذا لم يكن لها ولد»(8).

و قضيّة إطلاق الفتوى و معقد الإجماع و ما عدى الخبر الأخير من النصوص كما صرّح به جماعة(9) عدم الفرق في الأمة بين القنّ و المدبّرة و المكاتبة المشروطة و المطلقة الّتي لم تؤدّ شيئا من مكاتبتها و امّ الولد مع حياة ولدها و موتها، بل هو صريح الصحيحة الثانية في غير امّ الولد. و ربّما يوهم الصحيحة الأخيرة اختصاص الحكم في امّ الولد بالّتي مات ولدها، فتدلّ بالمفهوم على وجوب ستر الرأس عليها مع حياة ولدها. و لذا احتمل في المدارك إلحاقها و الحال هذه بالحرّة استنادا إلى هذه الصحيحة، بناء على حجّيّة مفهوم الشرط. و احتمل أيضا حمله على الاستحباب، و قال: إلاّ أنّه يتوقّف على وجود المعارض»(10). أقول: و يكفي في وجود المعارض إطلاق ما عرفت من معاقد الإجماعات

ص: 582


1- المعتبر 103:2، المنتهى 274:4.
2- الذكرى 9:3.
3- جامع المقاصد 98:2، مفتاح الكرامة 32:6، التذكرة 448:2، الخلاف 396:1.
4- المجموع 169:3، المغني 674:1.
5- الوسائل 2/409:4، ب 29 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 854/217:2.
6- الوسائل 1/409:4، ب 29 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 855/217:2.
7- الوسائل 7/411:4، ب 29 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 2/394:3.
8- الوسائل 4/410:4، ب 29 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 859/218:2.
9- منهم العلاّمة في التذكرة 449:2، و المحقّق في المعتبر 103:2، و الكركي في جامع المقاصد 98:2، و السيّد العاملي في المدارك 199:3.
10- المدارك 199:3.

و أكثر الروايات، مع عدم ظهور عامل بهذا المفهوم صريحا، فيضعّف بذلك و يخرج عن صلاحية تقييد المطلقات.

فروع:

الأوّل: قالوا(1): إنّ العنق في الأمة يتبع الرأس فلا يجب ستره أيضا، و علّل بأنّه الظاهر من نفي وجوب التقنّع عليهنّ ، و لعسر ستره من دون ستر الرأس.

الثاني: اختلفوا في استحباب ستر الرأس لها على قولين، ففي المعتبر(2) كما عن النافع(3) و الغنية(4) و الوسيلة(5) و جملة من كتب العلاّمة(6) و ظاهر المهذّب(7) و المراسم(8)الاستحباب. و عن جماعة(9) من المتأخّرين نفيه.

و استدلّ على الاستحباب في المعتبر بأنّ الستر أنسب بالحفظ و الحياء و هو مراد من الحرّة و الأمة، و يؤيّده مفهوم الصحيحة المتقدّمة بناء على حمله على الاستحباب جمعا.

و للآخرين(10) عدم الدليل على الاستحباب و هو دليل العدم، و ما رواه أحمد بن محمّد ابن خالد البرقي في كتاب المحاسن بإسناده إلى حمّاد اللحّام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المملوكة تقنّع رأسها إذا صلّت ؟ قال: لا قد كان أبي إذا رأى الخادم تصلّي مقنّعة ضربها، لتعرف الحرّة من المملوكة»(11). و رواية أبي خالد القمّاط قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الأمة تقنّع رأسها؟ فقال: إن شاءت فعلت، و إن شاءت لم تفعل، سمعت أبي يقول: كنّ يضربن فيقال لهنّ : لا تشبّهن بالحرائر»(12).

و اجيب(13) بالحمل على التقيّة، بل ذيل الثانية ظاهر كالصريح فيها، لما عمّن عدى عطاء من العامّة نفيه، لما رووه عن عمر «كان ينهى الإماء عن التقنّع، و قال: إنّما القناع للحرائر، و ضرب أمة لآل أنس رآها بمقنعة، و قال: اكشفي و لا تشبّهي بالحرائر»(14). مع

ص: 583


1- كما في المدارك 199:3.
2- المعتبر 103:2.
3- النافع: 25.
4- الغنية: 65.
5- الوسيلة: 89.
6- كما في المنتهى 276:4، و التحرير 202:1، و التذكرة 448:2.
7- المهذّب 328:1.
8- المراسم: 64.
9- كما في المدارك 199:3، و الذكرى 10:3.
10- كما في المنتهى 276:4، و التحرير 202:1.
11- الوسائل 9/411:4، ب 29 من أبواب لباس المصلّي، المحاسن: 45/318.
12- الوسائل 11/412:4، ب 29 من أبواب لباس المصلّي، الذكرى 10:3.
13- الحدائق 19:7.
14- المغني 674:1، الشرح الكبير بهامش المغني 492:1.

اشتمال الاولى على ما لا يناسب منصب الإمامة و مقام العصمة من ضرب الخادمة بفعل ليس محرّما، فهذا من أمارات الوضع أو خروجها مخرج التقيّة أيضا. فالاستحباب أقرب.

الثالث: الأمة المبعّضة على ما هو المصرّح به في كلام الأصحاب(1) ملحقة بالحرّة، لظهور الروايات المتقدّمة في المحضة الّتي لم يتحرّر بعضها، فتندرج هذه في مطلقات المرأة المحكوم عليها بستر جميع البدن حتّى الرأس، و يشعر به أو يدلّ عليه ما في الصحيحة الأخيرة من النصوص المتقدّمة من قوله عليه السّلام: «و لا على المكاتبة إذا شرطت عليها...»(2) الخ. و في معناها المرويّ عن الصدوق عن محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السّلام «ليس على الأمة قناع في الصلاة، و لا على المدبّرة و لا على المكاتبة إذا شرط عليها مولاها حتّى تؤدّي جميع مكاتبتها»(3) فإنّ تخصيص المشروطة بالذكر لا جهة له إلاّ عدم قبولها التبعيض، و هذا يدلّ على أنّ ما يقبل التبعيض لا يجري فيه الحكم، ثمّ يتمّ في سائر أفراد المبعّضة بعدم الفرق.

الرابع: لو اعتقت الأمة و هي في الصلاة فله صور:

الاولى: إن لم تعلم به إلاّ بعد الفراغ عن الصلاة فيحتمل صحّة هذه الصلاة، لما ظهر من صحيحة عليّ بن جعفر في مسألة ما لو انكشف عورة المصلّي في أثناء الصلاة و هو لا يعلم به من كون الستر شرطا علميّا فيختصّ شرطيّته بالعالم بالموضوع، و هي في مفروض المسألة جاهلة بكونها حرّة.

و يشكل بأنّ غاية ما ظهر من دليل علميّة هذا الشرط سقوط اعتباره في حقّ الجاهل بمكشوفيّة العورة - كما في عنوان المسألة و مورد الرواية المشار إليهما - لا في حقّ الجاهل بمطلق الموضوع حتّى الجاهل بالحريّة الواقعيّة بالجهل المركّب مع العلم بالكشف كما فيما نحن فيه، فإنّ الجاهل على هذا الوجه ليس بداخل في عنوان الشرط العلمي، بالمعنى المستفاد من الرواية المذكورة.

نعم يمكن أن يقال: إنّه قد ثبت في المباحث السابقة اختصاص شرطيّة الستر بحالتي

ص: 584


1- كما في المنتهى 277:4، و جامع المقاصد 98:2، و المدارك 200:3، و روض الجنان 583:2، و الذكرى 10:3.
2- تقدّمت في الصفحة 579 الرقم 7.
3- الوسائل 7/411:4، ب 29 من أبواب لباس المصلّي، علل الشرائع: 1/345.

العمد و الاختيار، فالإخلال به عمدا أو اختيارا من المتمكّن منه يوجب انتفاء المشروط لا مطلقا.

و لا ريب أنّ الأمة بعد صيرورتها حرّة و إن أخلّت بستر الرأس غير أنّها لاعتقادها بكونها أمة ليست عامدة، أو أنّها ما دام هذا الاعتقاد ليست متمكّنة من ستر رأسها فلا يكون شرطا في حقّها، إذ ليس معنى اختصاص الشرط بحالة التمكّن عدم كونه شرطا لغير المتمكّن من الساتر فقط، بل معناه عدم كونه شرطا لغير المتمكّن من الستر سواء كان لفقد الساتر أو لتعذّر أصل الستر مع وجود الساتر فيندرج فيه ما نحن فيه. فالأقرب في هذه الصورة حينئذ صحّة الصلاة.

الثانية: ما لو علمت بالعتق في أثناء الصلاة و لكن لم تتمكّن من ستر الرأس مطلقا حتّى بقطع الصلاة، و لا ينبغي التأمّل حينئذ في وجوب إتمام الصلاة و صحّتها مكشوفة الرأس، لعدم تمكّنها من الستر، فلا يكون شرطا في حقّها.

الثالثة: ما لو علمت في الأثناء و تمكّنت من ستر الرأس من دون توقّف على فعل المنافي من استدبار القبلة و الفعل الكثير، و حينئذ لا ينبغي التأمّل في وجوب الستر و اعتباره في الصحّة، عملا بعموم كونه شرطا للمتمكّن، فلو أخلّت بإتمام الصلاة مكشوفة الرأس بطلت.

الرابعة: ما لو توقّف الستر في أثناء الصلاة على فعل المنافي، و لكنّها بعد القطع و ستر الرأس لا تتمكّن من فعل الصلاة في الوقت و لو ركعة منها، فهل يجب إتمام الصلاة مكشوفة الرأس أو استينافها في خارج الوقت بعد القطع و ستر الرأس ؟ فيدور الأمر بين تفويت الستر و تفويت الوقت و كلاهما من قبيل الشرط، وجهان:

أجودهما الأوّل: ترجيحا للوقت على سائر الشروط في مقام التعارض لما علم من طريقة الشارع من كون الوقت و الطهارة في شروط الصلاة أهمّ في نظره فيرجّح كلّ منهما في محلّ التعارض على غيرها، و رجع ذلك إلى سقوط اعتبار الستر في هذه الصورة أيضا لعدم التمكّن منه مع لزوم مراعاة الوقت.

الخامسة: ما لو تمكّنت بعد القطع و الستر من فعل الصلاة في الوقت، فهل يجب القطع و الاستيناف بعد الستر أو إتمام الصلاة مكشوفة الرأس ؟ وجهان، بل قولان: من أنّ الستر شرط مع الإمكان فيجب مراعاته لإمكانه بقطع الصلاة، و من عموم حرمة إبطال العمل.

ص: 585

و يرد على الثاني أنّه إن سلّم كون ستر الرأس شرطا مطلقا حتّى فيما لو توقّف تحصيله على قطع الصلاة فهو يقضي ببطلان الصلاة، و معه لا يكون قطعها إبطالا ليكون محرّما.

كما يرد على الأوّل: أنّه على تقدير عموم حرمة الإبطال حتّى في نحو الصورة المفروضة فالشرط متعذّر، لأنّ حرمة القطع مانع شرعي و هو كالمانع العقلي فهي غير متمكّنة من الستر، فسقط اعتباره في حقّها لاختصاصه بحالة التمكّن.

فتحقيق المقام أنّ هذه الصلاة مع مكشوفيّة الرأس إن كانت صحيحة فقطعها حرام لكونه إبطالا، و إن كانت باطلة فقطعها ليس إبطالا ليكون محرّما، فحرمة القطع موقوفة على صدق الإبطال عليه، و هو موقوف على صحّة الصلاة، و هي موقوفة على عدم كون الستر في هذه الحالة شرطا، فالشأن إنّما هو في إثبات الشرطيّة و نفيها و صدق الإبطال و عدمه مبنيّان عليهما.

و لا معنى للتمسّك بعموم «لا تبطلوا أعمالكم» مع الشكّ في شرطيّة الستر لكون أدلّة الشروط واردة على قاعدة حرمة إبطال العمل المستفادة من الآية، رافعة لموضوعها على تقدير الإخلال بالشرط، فالشكّ في الشرطيّة يوجب الشكّ في صدق الإبطال الّذي هو موضوع الحرمة على القطع، و معه لا يمكن التمسّك بعموم الآية. و الأظهر هو الشرطيّة عملا بعموم ما دلّ على «أنّ بدن المرأة الحرّة كلّه عورة و يجب ستره في الصلاة» و الأحوط إتمام هذه الصلاة ثمّ الإعادة بعد ستر الرأس. ثمّ إنّه لو اعتق بعض الأمة و هي في الصلاة فالصور المذكورة كلّها آتية فيه مع أحكامها، و لا حاجة إلى الإعادة و التكرار.

الخامس: لو بلغت الصبيّة في أثناء الصلاة بغير ما يفسد الصلاة كالحيض، ففي المعتبر(1)و الشرائع(2) و جملة من كتب العلاّمة(3) و غيرهما(4) أنّها كالأمة، و أطلق القول بالاستيناف في الذكرى(5) و المدارك(6) و الذخيرة(7) و غيرها(8).

و مقتضى القول الأوّل وجوب الاستمرار في الصلاة بعد الستر إذا أمكنها من غير توقّف

ص: 586


1- المعتبر 103:2.
2- الشرائع 70:1.
3- كما في المنتهى 279:4، نهاية الإحكام 396:1، التحرير 203:1.
4- كالشيخ في المبسوط 8988:1، الحلّي في السرائر 261:1.
5- الذكرى 11:3.
6- المدارك 200:3.
7- الذخيرة: 237.
8- المختلف 101:2-102، التذكرة 451:2، المسالك 168:1، جامع المقاصد 99:2.

على فعل المنافي، و هذا لا يخلو عن مدافعة لما صاروا إليه في مباحث المواقيت - في مسألة ما لو أدرك الصبيّ في أثناء الصلاة، و قد بقي من الوقت مقدار ما يصلّي فيه بشرائطها المقرّرة من الحكم - بوجوب الاستيناف بعد الطهارة، كما هو المشهور في حكم هذه المسألة شهرة عظيمة قريبا من الإجماع بل هو إجماع في الحقيقة، حيث لم يسندوا الخلاف ثمّة إلاّ إلى ظاهر الشيخ في المبسوط حيث قال: «إن بلغ الصبيّ في أثناء الصلاة بما لا يفسدها أتمّ »(1) و قد حملوه على إرادة الاستحباب الغير المنافية لإيجاب الإعادة مع اتّساع الوقت.

ففي إيجاب الاستمرار هاهنا و إيجاب الاستيناف ثمّة مدافعة واضحة، و يمكن بناء كلامهم هاهنا على القول بوجوب الإتمام ثمّة كما عرفته عن ظاهر المبسوط، و هو في غاية البعد، فالوجه في المقام ما عرفته عن الذكرى(2) و المدارك(3) و الذخيرة (4) من إطلاق القول بالاستيناف، و يظهر وجهه ممّا سلف في المسألة المشار إليها فراجع.

هذا إن اتّسع الوقت للستر و الصلاة بسائر شروطها، و إلاّ فلا تكليف بالاستيناف و لا بالإتمام لتبدّل الموضوع الموجب لارتفاع الحكم السابق، فلو انصرف عن الصلاة لم يكن إبطالا و لا بطلانا.

ص: 587


1- المبسوط 73:1.
2- الذكرى 11:3.
3- المدارك 200:3.
المطلب الثالث في مستحبّات لباس المصلّي و مكروهاته
اشارة

ففيه مبحثان:

المبحث الأوّل في المستحبّات

و هو يتضمّن مسائل:

المسألة الاولى: يستحبّ الصلاة في النعل العربي نصّ عليه جمع كثير من أساطين الطائفة، و أسنده في الذكرى إلى علمائنا(1) مؤذنا بدعوى الإجماع عليه، و الأصل فيه عدّة روايات صحيحة و غيرها، كصحيحة عبد اللّه بن المغيرة قال: «إذا صلّيت فصلّ في نعليك إذا كانت طاهرة، فإنّ ذلك من السنّة»(2). و صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا صلّيت فصلّ في نعليك إذا كانت طاهرة، فإنّ ذلك من السنّة»(3).

و رواية معاوية بن عمّار قال: «رأيت أبا عبد اللّه يصلّي في نعليه غير مرّة و لم أره ينزعها قطّ»(4).

و الظاهر أنّ تقييد النعل في الفتاوي بالعربي مع خلوّ الروايات عن القيد لأنّ المعهود المتعارف في زمان صدور الروايات من النعل هو العربي لا غير، أو لكون النعل بحسب

ص: 588


1- الذكرى 67:3.
2- الوسائل 5/425:4، ب 37 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 919/233:2.
3- الوسائل 1/424:4، ب 37 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 1573/358:1.
4- الوسائل 4/425:4، ب 37 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 916/233:2.

الأصل وضعا للعربي، و إطلاقه على غيره لو كان محدث، فلا يثبت الحكم لغيره لعدم مساعدة دليله عليه.

المسألة الثانية: نصّ جماعة منهم العلاّمة في القواعد(1) و الإرشاد(2) و الشهيد في الدروس(3) و الذكرى(4) و غيرهما(5) باستحباب ستر ما بين السرّة و الركبة للرجل، لأنّ فيه المحافظة على الاحتياط المخرج عن خلاف من قال فيهما بالوجوب، قالوا: و أفضل منه ستر جميع البدن و فسّر بستر ما يعتاد تغطيته منه لا مطلق الجسد.

و استدلّوا له بما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إذا صلّى أحدكم فيلبس ثوبيه فإنّ اللّه أحقّ أن يتزيّن له»(6) و روي «ركعة بسراويل تعدل أربعا بغيره»(7) و الظاهر أنّهم حملوا الثوبين على نحو القميص و السراويل [و] إلاّ لم يتمّ الاستدلال بخبر الثوبين، قال في الذخيرة(8) - بعد الاستدلال بالخبر المذكور -: و الرداء أفضل و أفضل من ذلك إضافة السروال و التعمّم فقد روي «ركعة بسراويل تعدل أربعا بغيره». و كذا روي في العمامة، هكذا قاله الشهيد في الذكرى(9).

أقول: لو جعل التسرول و التعمّم مستحبّا آخر كان أولى، عملا بظاهر الروايتين. و في الوسائل عن النبيّ «ركعتان مع العمامة خير من أربع ركعات بغير عمامة»(10).

و صرّحوا أيضا باستحباب ثلاثة أثواب للمرأة إزار و درع و خمار، و مستنده ما تقدّم في بحث عورة المرأة من موثّقة ابن أبي يعفور و في صحيح جميل بن درّاج قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تصلّي في درع و خمار؟ فقال: تكون عليه ملحفة تضمّها عليها»(11).

ص: 589


1- القواعد 256:1.
2- إرشاد الأذهان 247:1.
3- الدروس 77:1.
4- الذكرى 12:3.
5- كما في الخلاف 393:1، الغنية: 65، الوسيلة: 89، كشف اللثام 231:3.
6- سنن البيهقي 236:2.
7- الوسائل 2/465:4، ب 64 من أبواب لباس المصلّي، الذكرى 12:3.
8- الذخيرة: 238.
9- الذكرى 12:3.
10- الوسائل 1/464:4، ب 64 من أبواب لباس المصلّي، مكارم الأخلاق: 119.
11- الوسائل 11/407:4، ب 28 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 860/218:2.

و في الإرشاد التعبير عن ثلاثة أثواب المرأة «بالدرع و القميص و الخمار»(1) و لعلّه أراد من الدرع الإزار، و لكنّه خلاف اللغة لما عرفت أنّ الدرع هو القميص.

و في كلام جماعة(2) استحباب اللباس البيض في الصلاة. و استدلّ عليه برواية غير مختصّة بالصلاة، كموثّقة القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: البسوا البياض فإنّه أطيب و أطهر، و كفّنوا فيه موتاكم»(3) و قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «البسوا من ثيابكم البيض فإنّها خير ثيابكم»(4) و قيل في تقريب الاستدلال بها للصلاة: إنّ الصلاة يناسبها التعظيم فيتأكّد الاستحباب بالنسبة إليها. و يؤيّده قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه عزّ و جلّ أحقّ أن يتزيّن له»(5).

المسألة الثالثة: نصّ جماعة(6) بأنّه يستحبّ للرجل إذا صلّى مكشوف الظهر و المنكبين أن يضع شيئا على عاتقه و لو حبلا أو تكّة سراويل، كما دلّت عليه عدّة روايات، ففي صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما في حديث «إذا لبس السراويل فليجعل على عاتقه شيئا و لو حبلا»(7) و مرفوعة عليّ بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «عن رجل صلّى في سراويل ليس معه غيره ؟ قال: يجعل التكّة على عاتقه»(8). و خبر جميل قال: «سأل مرازم أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا معه حاضر عن الرجل الحاضر يصلّي في إزار مؤتزرا به ؟ قال: يجعل على رقبته منديلا أو عمامة يتردّى بها»(9).

و لو جعل المستحبّ هو الرداء كما صرّح به الشهيد في الذكرى(10) و الدروس(11)

ص: 590


1- إرشاد الأذهان 247:1.
2- الدروس 82:1، البيان 122، المراسم: 64، التذكرة 500:2، المنتهى 243:4، الذكرى 71:3.
3- الوسائل 1/41:3، ب 19 من أبواب التكفين، الكافي 1/445:6.
4- سنن أبي داود 4061/51:4، سنن الترمذي 994/319:3، مسند أحمد 247:1.
5- سنن البيهقي 236:2، شرح معاني الآثار 378:1.
6- كما في المنتهى 292:4، التذكرة: 452:2، نهاية الإحكام 367:1، المراسم: 64، السرائر 261:1، الدروس 79:1.
7- الوسائل 2/390:4، ب 22 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 852/216:2.
8- الوسائل 5/453:4، ب 53 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 5/395:3.
9- الوسائل 4/390:4، ب 22 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 6/395:3.
10- الذكرى 13:3.
11- الدروس 82:1.

و صاحب الحدائق(1) و شارح الدروس(2) و غيرهم(3) و أخذ هذه الأحاديث شاهدة عليه بكونها مسوقة لبيان أقلّ ما يتأدّى به السنّة، و هو جعل شيء على العاتق كان أولى كما فهموه.

و الرداء ثوب يجعل على المنكبين، و يدلّ عليه أيضا رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «أدنى ما يجزئك أن تصلّي فيه بقدر ما يكون على منكبيك مثل جناحي الخطّاف»(4)فإنّ المراد منه الرداء.

و رواية أبي بصير أنّه قال لأبي عبد اللّه عليه السّلام: «ما يجزئ الرجل من الثياب أن يصلّي فيه ؟ فقال: صلّى الحسين بن عليّ عليهما السّلام في ثوب قد قلّص عن نصف ساقه، و قارب ركبتيه ليس على منكبيه منه إلاّ قدر جناحي الخطّاف» و كان إذا ركع سقط عن منكبيه، و كلّما سجد يناله عنقه فيردّه على منكبيه بيده، فلم يزل ذلك دأبه و دأبه مشتغلا به حتّى انصرف»(5).

و رواية عبد اللّه بن سنان «أنّه سأل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل ليس معه إلاّ سراويل ؟ فقال: يحلّ التكّة منه فيضعها على عاتقه و يصلّي، و إن كان معه سيف و ليس معه ثوب فليقلّد السيف و يصلّي قائما»(6).

المسألة الرابعة: المعروف بين الأصحاب فتوى و عملا استحباب التحنّك للمتعمّم في الصلاة، و في عبارة شارح الدروس ما يؤذن بدعوى الإجماع عليه قائلا: «و الأصحاب على الاستحباب، و قال في آخر كلامه: «إنّ الحكم المذكور اشتهر بين متأخّري الأصحاب حتّى نقل بعضهم الاتّفاق عليه»(7).

و في عبارة الفقيه ما ظاهره الوجوب ناقلا له عن مشايخه، حيث قال: «و سمعت مشايخنا (رض) يقولون: لا تجوز الصلاة في الطابقيّة، و لا يجوز للمعتمّ أن يصلّي إلاّ و هو متحنّك»(8).

ص: 591


1- الحدائق 137:7.
2- شرح الدروس 609:1.
3- كما في الروضة 531:1، البحار 190:83.
4- الوسائل 6/453:4، ب 53 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 783/166:1.
5- الوسائل 10/392:4، ب 22 من أبواب لباس المصلّي، مسائل عليّ بن جعفر: 57/118.
6- الوسائل 3/452:4، ب 53 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1519/366:2.
7- شرح الدروس 609:1.
8- الفقيه 817/265:1.

و لعلّ مستنده من الروايات النبويّ المرويّ عن الغوالي و غيره عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من صلّى بغير حنك فأصابه داء لا دواء له فلا يلومنّ إلاّ نفسه»(1). و المرويّ عن شرح الإرشاد لفخر الإسلام عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من صلّى مقتعطا فأصابه داء لا دواء له، فلا يلومنّ إلاّ نفسه»(2) و المرويّ في الفقيه عن أهل الخلاف أنّه أمر بالتلحّي و نهى عن الاقتعاط(3) و عن المغرب: التلحّي إدارة العمامة تحت الحنك و الاقتعاط ترك ذلك(4).

و دلالة الروايتين على هذا التفسير على الاستحباب واضحة بقضائها بمرجوحيّة ترك التحنّك و هو يلازم رجحان فعله، و كذلك على التفسير المحكيّ عن القاموس(5)و الصحاح(6) «من أنّ الاقتعاط شدّ العمامة على الرأس من غير إدارة تحت الحنك» لأنّ مرجوحيّة التعمّم بغير إدارة تلازم رجحانه مع الإدارة. و لو لا هاتان العامّيّتان لأشكل إثبات الاستحباب في خصوص الصلاة، لأنّ الروايات الواردة في هذا الباب كلّها مطلقة غير مقيّدة بخصوص الصلاة.

ففي مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من تعمّم و لم يتحنّك فأصابه داء لا دواء له فلا يلومنّ إلاّ نفسه»(7).

و رواية عيسى بن حمزة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من تعمّم فلم يدر العمامة تحت حنكه فأصابه ألم لا دواء له، فلا يلومنّ إلاّ نفسه»(8).

و رواية عليّ بن الحكم رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من خرج من منزله معتمّا تحت حنكه يريد سفرا لم يصبه في سفره سرق و لا حرق و لا مكروه»(9).

و في الفقيه عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من خرج في سفر فلم يدر

ص: 592


1- مستدرك الوسائل 2/215:3، ب 21 من أبواب لباس المصلّي، عوالي اللآلئ 128/37:4.
2- حاشية الإرشاد لنيلي: 21 (مخطوط)، عوالي اللآلئ 6/214:2.
3- الفقيه 822/266:1.
4- المغرب: 422.
5- القاموس المحيط 381:2 (قعط) و 300:3 (حنك).
6- الصحاح 1581:4 (حنك) و 1154:3 (قعط).
7- الوسائل 1/401:4، ب 26 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 846/215:2.
8- الوسائل 2/401:4، ب 26 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 847/215:2.
9- الوسائل 3/402:4، ب 26 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 6/461:6.

العمامة تحت حنكه فأصابه ألم لا دواء له فلا يلومنّ إلاّ نفسه»(1).

و فيه أيضا قال الصادق عليه السّلام: «ضمنت لمن خرج من بيته معتمّا تحت حنكه أن يرجع إليهم سالما»(2) و قال عليه السّلام: «إنّي لأعجب ممّن يأخذ في حاجة و هو على وضوء كيف لا تقضى حاجته، و إنّي لأعجب ممّن يأخذ في حاجة و هو معتمّ تحت حنكه كيف لا تقضى حاجته»(3).

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الفرق بين المسلمين و المشركين التلحّي بالعمائم»(4) و ذلك في أوّل الإسلام و ابتدائه.

فإنّ المستفاد من هذه النصوص و غيرها استحباب التحنّك في نفسه لكلّ من لبس العمامة صلّى أو لم يصلّ ، كما صرّح به العلاّمة في المنتهى(5) و لذا قال في الذكرى: «إنّ استحباب التحنّك عامّ »(6).

ثمّ إنّ صريح جماعة(7) كما هو ظاهر الفتاوى و النصوص خصوصا روايتي ابن حمزة و الساباطي و النبوي الفارق بين المسلمين و المشركين بالتلحّي بالعمائم كون التحنّك عبارة عن إدارة جزء من العمامة تحت الحنك، سواء كان طرفها أو وسطها فلا تتأدّى السنّة بإدارة ما ليس منها.

فما في الذكرى من التوقّف في ذلك حيث قال: «و في الاكتفاء بالتلحّي بغيرها بحيث يضمّها نظر، من مخالفة المعهود، و من إمكان كون الغرض حفظ العمامة عن السقوط و هو حاصل»(8) ليس على ما ينبغي، لكون إرادة غيرها مخالفة لظاهر النصوص بل صريح جملة منها لا مجرّد المعهود. و كون الغرض حفظ العمامة عن السقوط ممنوع لمنع صغرى هذا الغرض تارة، و منع كبراه اخرى، لأنّه لا يقتضي التأكيد الكذائي الوارد في النصوص بكون تركه موجبا لإصابة داء لا دواء له، و كون فعله مؤثّرا في السلامة في الرجوع و في قضاء الحاجة، و أنّه لا يلائم كونه الفارق بين المسلمين و المشركين.

ص: 593


1- الوسائل 5/402:4، ب 26 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 814/173:1.
2- الوسائل 6/402:4، ب 26 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 815/173:1.
3- الوسائل 7/402:4، ب 26 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 816/173:1.
4- الوسائل 8/403:4، ب 26 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 817/173:1.
5- المنتهى 251:4.
6- الذكرى 13:3.
7- كما في روض الجنان 563:2، و المسالك 19:1، مجمع الفائدة و البرهان 90:2، المدارك 207:3، كشف اللثام 262:3.
8- الذكرى 14:3.

ثمّ إنّ في النصوص المستفيضة الاخر ما يدلّ على استحباب إسدال طرف العمامة على الصدر أو على الخلف، غير أنّه ليس فيها عموم لفظي يشمل غير الملائكة و النبيّ و الوصيّ عليهم السّلام لورودها في فعل هؤلاء، نعم إنّما يساعد على عموم الحكم لغيرهم قاعدة التأسّي. و عليه ربّما يقع التعارض بينها و بين ما تقدّم من الروايات الدالّة على استحباب الإدارة، لكنّ العمل على هذه النصوص لكونها بالقياس إلى قاعدة التأسّي الّتي هي مستند التعدّي من المذكورين إلى غيرهم خاصّا و القاعدة عامّة قابلة للتخصيص، فيخصّص استحباب الإسدال مطلقا أو في غير حال الصلاة بهم، كما رجّحه غير واحد من أفاضلي معاصرينا(1) و من قاربهم.

و الأحوط أن يجعل طرف العمامة المخرج للتحنّك طويلا بحيث يدار ثمّ يسدل بعد الإدارة مخيّرا بين جعل الزائد على الصدر أو بين الكتفين و لو قصيرا قدر أربع أصابع، فإنّه إذا فعل ذلك يرجى كونه عاملا بمجموع روايات الباب إن شاء اللّه.

ص: 594


1- لم نعثر عليهم.
المبحث الثاني في المكروهات الّتي تذكر أيضا في طيّ مسائل:
المسألة الاولى: يكره الصلاة في لباس سود

بل يكره اللباس السود مطلقا فتوى و نصّا، لورود الروايات بكلّ من الحكمين.

فمن الأوّل المرسل المرويّ عن الكافي قال: «و روي لا تصلّ في ثوب أسود، فأمّا الخفّ و الكساء و العمامة فلا بأس»(1). و المرسل المرويّ عنه(2) أيضا، و في الفقيه و التهذيب «عن الصلاة في القلنسوة السوداء؟ فقال: لا تصلّ فيها، فإنّها من لباس أهل النار»(3).

و من الثاني مرفوعة أحمد بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يكره السواد إلاّ في ثلاثة الخفّ و العمامة و الكساء»(4).

و رواية أحمد بن أبي عبد اللّه عن بعض أصحابه رفعه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يكره السواد إلاّ في ثلاثة الخفّ و العمامة و الكساء»(5) و المرسل في الفقيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال فيما علّم أصحابه: «لا تلبسوا السواد فإنّه لباس فرعون لعنه اللّه»(6).

و فيه أيضا مرسلا عن حذيفة بن منصور قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام بالحيرة، فأتى رسول أبي العبّاس الخليفة يدعوه فدعا بممطر أحد وجهيه أسود و الآخر أبيض فلبسه، ثمّ

ص: 595


1- الوسائل 4/383:4، ب 19 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 24/402:3.
2- الوسائل 1/382:4، ب 19 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 29/403:3.
3- الوسائل 1/386:4، ب 20 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 765/162:1، التهذيب 836/213:2.
4- الوسائل 1/382:4، ب 19 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 835/213:2.
5- الوسائل 2/383:4، ب 19 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 1/449:6.
6- الوسائل 5/383:4، ب 19 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 766/163:1.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أما أنّي ألبسه و أنا أعلم أنّه لباس أهل النار»(1). و عن القاموس «الممطر و الممطرة بكسرهما ثوب صوف يتوقّى به من المطر»(2).

و فيه أيضا مرسلا قال: «و روي أنّه هبط جبرئيل عليه السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قباء أسود و منطقة فيها خنجر، فقال: يا جبرئيل ما هذا الزيّ؟ فقال: زيّ ولد عمّك العبّاس يا محمّد، ويل لولدك من ولد عمّك العبّاس، فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى العبّاس، فقال: يا عمّ ويل لولدي من ولدك، فقال: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ فأجبّ نفسي ؟ قال: جرى القلم بما فيه»(3).

ثمّ قضيّة ثلاثة من الروايات المتقدّمة استثناء العمامة و الكساء و الخفّ من الكراهة، كما في كلام غير واحد من متأخّري(4) المتأخّرين، بل عزي استثناء الثلاثة إلى جماعة(5)ممّن تأخّر عنه.

لكنّ الموجود في كتب المحقّق(6) و جملة من كتب العلاّمة(7) و الشهيد(8) استثناء ما عدى الكساء، بل في الرياض(9) أكثر الأصحاب على عدم استثناء الكساء، بل قيل(10)كلّهم لم يستثنوه إلاّ ابن سعيد في الجامع(11) بل عن منتهى(12) العلاّمة الاقتصار على استثناء العمامة و الخفّ مدّعيّا عليه إجماع الإماميّة. و عليه فيشكل التزام خروجه عن الكراهة لتضمّنه مخالفة الأكثر، و لا يقدح استلزام عدمه الخروج عن مقتضى الروايات المذكورة لعدم وضوح جابر لها في خصوص الكساء، فالأصل يقتضي عدم الخروج، و المسألة بعد محلّ توقّف.

ص: 596


1- الوسائل 7/384:4، ب 19 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 770/163:1.
2- القاموس المحيط 135:2 (مطر).
3- الوسائل 6/384:4، ب 19 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 768/163:1.
4- كما في مجمع الفائدة و البرهان 87:2، الذكرى 54:3، روض الجنان 557:2، الروضة البهيّة 1: 208، الكفاية: 16، و جامع المقاصد 107:2.
5- كالحدائق 118:7، الرياض 344:2.
6- المعتبر 94:2، الشرائع 70:1.
7- المنتهى 243:4، القواعد 257:1، إرشاد الأذهان 246:1.
8- المسالك 168:1.
9- الرياض 345:2.
10- كما في كشف اللثام 256:3.
11- الجامع للشرائع: 65.
12- المنتهى 243:4.

ثمّ إنّ ظاهر جماعة حيث اقتصروا على السواد عدم كراهة ما عداه من الألوان، لكنّ المحقّق(1) و العلاّمة(2) و الشهيد(3) و جماعة(4) أضافوا إليه الأحمر و المعصفر و المزعفر، و ظاهر المحكيّ عن الشيخ في المبسوط حيث قال: «يكره لبس الثياب المفدمة(5) بلون من الألوان»(6) كراهة المصبوغ المشبع مطلقا سواء كان بحمرة أو غيرها، و عن أبي الصلاح(7)و ابن الجنيد(8) اختياره.

و المشبع و المفدم بفتح الباء و الدال بصيغة اسم المفعول بمعنى، و هو على ما في المعتبر(9) الشديد حمرة، و المعصفر المصبوغ بالعصفر، و هو نبت يصبغ به، و يقال بالفارسي «كل كافشه» و المزعفر المصبوغ بزعفران أو بلونه و إن لم يكن ما صبغ به هو الزعفران، و يقرب منه المضرّج فعن القاموس «ضرّجه لطّخه و ضرّج الثوب صبغه بالحمرة»(10).

و في المجمع «المضرّج بالزعفران أي الملطّخ به، من التضريج و هو التدمية و التلطيخ، يقال تضرّج بالدم أي تلطّخ به، و منه ضرّجت الثوب تضريجا إذا صبغته بالحمرة و هو دون المشبّع و فوق المورّد» انتهى(11).

و عليه فالنصّ يساعد على ما عرفت عن الجماعة لا على ما عن الشيخ، لرواية حمّاد ابن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يكره الصلاة في الثوب المصبوغ المشبع المفدم»(12).

و رواية عبد اللّه بن المغيرة عمّن حدّثه عن يزيد بن خليفة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه كره الصلاة في المشبع بالعصفر، و المضرّج بالزعفران»(13).

و رواية مالك بن أعين قال: «دخلت على أبي جعفر عليه السّلام و عليه ملحفة حمراء شديدة الحمرة، فتبسّمت حين دخلت، فقال: كأنّي أعلم لم ضحكت ضحكت من هذا الثوب الّذي

ص: 597


1- المعتبر 94:2.
2- المنتهى 245:4، التذكرة 501:3.
3- الذكرى 55:3.
4- الموجز الحاوى (رسائل العشر) 68، كشف الالتباس: 93 (مخطوط).
5- المفدم: يقال صبغ مفدم أي خاثر مشبع، المصبوغ بالحمرة المشبع (الصحاح 2001:5) فدم.
6- المبسوط 95:1.
7- الكافي في الفقه: 140.
8- نقله عنه في المختلف 82:2.
9- المعتبر 94:2.
10- القاموس المحيط 197:1-198.
11- مجمع البحرين 13:3.
12- الوسائل 2/460:4، ب 59 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 22/402:3.
13- الوسائل 3/461:4، ب 59 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1550/373:2.

هو عليّ إنّ الثقفيّة أكرهتني عليه، و أنا احبّها فأكرهتني على لبسها، قال: أما إنّا لا نصلّي في هذا و لا تصلّوا في المشبع المضرّج، قال: ثمّ دخلت عليه و قد طلّقها فقال: سمعتها تبرأ من عليّ عليه السّلام فلم يسعني أن امسكها و هي تبرأ منه»(1).

و يستفاد من الروايات كما هو ظاهر كلام الأصحاب المصرّح به في كلام جماعة عدم كراهة الألوان الضعيفة.

[المسألة الثانية: يكره الصلاة للرجل في الثوب الواحد الرقيق الّذي لا يحكي ما تحته]

المسألة الثانية: يكره الصلاة للرجل في الثوب الواحد الرقيق الّذي لا يحكي ما تحته، و أن يأتزر فوق القميص و أن يشتمل الصماء، أمّا الأوّل فلصحيح محمّد بن مسلم قال:

«رأيت أبا جعفر عليه السّلام صلّى في إزار واحد ليس بواسع قد عقده على عنقه، فقلت له: ما ترى الرجل يصلّي في قميص واحد؟ فقال: إذا كان كثيفا فلا بأس»(2). و في صحيح آخر «إذا كان عليه قميص صفيق لا بأس»(3). الصفيق و الكثيف بمعنى. و قول أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث الأربعمائة: «عليكم بالصفيق من الثياب، فإنّه من رقّ ثوبه رقّ دينه للنساء»(4).

و أمّا الثاني فللصحيح المرويّ عن الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«لا ينبغي أن يتوشّح بإزار فوق القميص و أنت تصلّي و لا تتّزر بإزار فوق القميص، إذا أنت صلّيت فإنّه من زيّ الجاهليّة»(5).

و في المدارك نقل الاستدلال عليه عن التهذيب بما رواه عن محمّد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السّلام قال: «الارتداء فوق التوشّح في الصلاة مكروه، و التوشّح فوق القميص مكروه»(6) و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا ينبغي أن تتوشّح بإزار فوق القميص إذا أنت صلّيت فإنّه من زيّ الجاهليّة»(7) و استضعفه بأنّ مقتضى الروايتين مع ضعف سندهما كراهة التوشّح فوق القميص و هو خلاف الايتزار(8). و تبعه في ذلك

ص: 598


1- الوسائل 1/460:4، ب 59 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 7/447:6.
2- الوسائل 1/389:4، ب 22 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 855/217:2.
3- الوسائل 2/390:4، ب 22 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 852/216:2.
4- الوسائل 5/389:4، ب 21 من أبواب لباس المصلّي، الخصال: 623 و 627.
5- الوسائل 1/395:4، ب 24 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 7/395:3.
6- الوسائل 3/396:4، ب 24 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 839/214:2.
7- الوسائل 1/395:4، ب 24 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 840/214:2.
8- المدارك 203:3.

صاحب الذخيرة(1).

و فيه: أنّ سند خبر أبي بصير على ما رواه في الكافي صحيح، لأنّه رواه عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن هشام بن سالم عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و هذا ممّا لا قصور فيه. و لعلّ الوجه في استضعاف ما في التهذيب أنّ الشيخ رواه عن الكليني عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم... الخ فقد أسقط الواسطة بين الكليني و أحمد بن محمّد، لأنّ الكليني لا يروي عن أحمد بن محمّد بن عيسى إلاّ بواسطة و هو مجهولة. و فيه: أنّ الواسطة الساقطة على ما عرفت ليس إلاّ محمّد بن يحيى العطّار، و هو من الأجلاّء الثقات.

و أمّا الطعن على الدلالة فيدفعه، أنّ الموجود في الكافي ما عرفت و هو يدلّ على كراهة كلّ من التوشّح فوق القميص و الايتزار فوقه، و كأنّ ما في التهذيب على إسقاط بعض الرواية على ما في الكافي و هو ما بين قوله «فوق القميص» و قوله «و أنت إذا صلّيت» و لكنّ المحقّق في المعتبر استوجه كراهة التوشّح فوق القميص و عدم كراهة الايتزار فوق القميص قائلا: «و الوجه أنّ التوشّح فوق القميص مكروه، و أمّا شدّ المئزر فليس بمكروه»(2)و استحسنه في الذخيرة(3) و استظهر كون كراهة التوشّح للروايتين السابقتين أعني مرسلة محمّد بن إسماعيل و رواية أبي بصير على ما نقل الاستدلال بهما في المدارك لدلالتهما بظاهر لفظ «لا ينبغي» على كراهة التوشّح دون الايتزار.

ثمّ دفع معارضة ما رواه الشيخ - في الحسن عن حمّاد بن عيسى قال: «كتب الحسن بن عليّ بن يقطين إلى العبد الصالح، هل يصلّي الرجل الصلاة و عليه إزار متوشّح به فوق القميص ؟ فكتب: نعم»(4) - لهما في اقتضاء عدم الكراهة بالحمل على مطلق الجواز الغير المنافي للكراهة، و قد عرفت وجود الدليل على كراهة الايتزار أيضا، فلا وجه للعدول عنه إلاّ ما في صحيحين تمسّك بهما في المدارك بعد ما عرفت منه من استضعاف الروايتين، قائلا: و الأصحّ عدم كراهة الايتزار فوق القميص كما اختاره في المعتبر تمسّكا بمقتضى الأصل، و ما رواه الشيخ في الصحيح عن موسى بن القسم البجلي قال: «رأيت أبا جعفر عليه السّلام

ص: 599


1- الذخيرة: 229.
2- المعتبر 96:2.
3- الذخيرة: 229.
4- الوسائل 7/397:4، ب 24 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 844/215:2.

يصلّي في قميص، و قد ائتزر فوقه بمنديل، و هو يصلّي»(1) و في الصحيح عن موسى بن عمر ابن بزيع قال: «قلت للرضا عليه السّلام: أشدّ الإزار أو المنديل فوق قميصي في الصلاة ؟ فقال:

لا بأس به»(2) ثمّ قال: و لا يبعد عدم كراهة التوشّح أيضا و استند له بما سمعت من حسنة حمّاد بن عيسى(3).

أقول: و قد عرفت عن الذخيرة(4) ما يدفع منافاة هذه للكراهة المستفادة من روايتي محمّد بن إسماعيل و أبي بصير، و بذلك يدفع أيضا منافاة الصحيحين للكراهة المستفادة من صحيح أبي بصير على ما في الكافي. فالوجه حينئذ كراهة كلّ من الايتزار فوق القميص و التوشّح فوقه، و يدلّ عليها في التوشّح أيضا خبر الهيثم المرويّ عن العلل عن الصادق عليه السّلام «انّه سئل ما العلّة الّتي من أجلها لا يصلّي الرجل في قميص متوشّحا؟ فقال: لعلّة التكبّر في موضع الاستكانة و الذلّ »(5).

و لكن عن ابن بابويه في الفقيه أنّه بعد أن روى الكراهة في التوشّح، قال: و قد رويت رخصة في التوشّح بالإزار فوق القميص عن العبد الصالح عليه السّلام و عن أبي الحسن الثالث و عن أبي جعفر الثاني عليهم السّلام و بها آخذ و افتي. انتهى(6). و هذا منه ظاهر في اختيار عدم الكراهة، و إن كان يمكن إرجاعه إلى ما لا ينافي اختيارها بجعل الرخصة في كلامه لمطلق الجواز، فتأمّل. هذا كلّه في الايتزار فوق القميص، و هو شدّ المئزر فوق القميص، فقد عرفت أنّ الأقوى كراهته.

و أمّا جعل المئزر تحت القميص ففي الذخيرة(7) عن العلاّمة(8) الإجماع على عدم كراهته، و لكن في رواية زياد بن المنذر الضعيفة عن أبي جعفر عليه السّلام دلالة عن كراهته أيضا قال: «سأله رجل و أنا حاضر عن الرجل يخرج من الحمّام أو يغتسل فيتوشّح و يلبس قميصه فوق إزاره فيصلّي و هو كذلك ؟ قال: هذا عمل قوم لوط، قال: قلت: فإنّه يتوشّح فوق

ص: 600


1- الوسائل 6/397:4، ب 24 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 843/215:2.
2- الوسائل 5/397:4، ب 24 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 842/214:2.
3- المدارك 203:3.
4- الذخيرة: 229.
5- الوسائل 11/398:4، ب 24 من أبواب لباس المصلّي، علل الشرائع: 3/329.
6- الفقيه 795/168:1.
7- الذخيرة: 229.
8- كما في التذكرة 504:3.

القميص ؟ فقال: هذا من التجبّر»(1) و لكنّها لضعفها لا تعارض الإجماع المنقول في خصوص الايتزار تحته فليتدبّر. و فيها دلالة على كراهة الايتزار فوق القميص كما احتمله في الذخيرة، بناء على كونه المراد من التوشّح، و لكنّه خلاف الظاهر كما لا يخفى.

و بقى الكلام في موضوع التوشّح فعن الصحاح و القاموس يقال: توشّح الرجل بثوبه و سيفه إذا تقلّد بهما(2) و عن صاحب الصحاح أنّه نقل عن بعض أهل اللغة أنّ التوشّح بالثوب هو إدخاله تحت اليد اليمنى و إلقاؤه على المنكب الأيسر كما يفعل المحرم. و نحوه ذكر في المجمع قال: «وشّح الرجل بثوبه أو بإزاره و هو أن يدخله تحت إبطه الأيمن و يلقيه على منكبه الأيسر كما يفعله المحرم، و كما يتوشّح الرجل بحمائل سيفه فتقع الحمائل على عاتقه اليسرى و تكون اليمنى مكشوفة»(3) و نسب هذا بعينه إلى المصباح المنير(4) أيضا.

و عن بعض العامّة تفسيره «بأنّه أخذ طرف الثوب الّذي ألقاه على المنكب الأيمن من تحت يده اليسرى و أخذ طرفه الّذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى ثمّ يعقدهما على صدره»(5). و ظاهر جماعة كون عمل الأصحاب بالأوّل.

و أمّا الثالث: أعني اشتمال الصمّاء، ففي الذخيرة «الظاهر أنّه لا خلاف فيه بين الأصحاب»(6) و في المدارك «أجمع العلماء كافّة على كراهته»(7) و قد يدّعى(8) استفاضة أو تواتر حكاية نفي الخلاف و الإجماع، و لعلّ الأصل فيه ما [رواه] زرارة في الصحيح قال:

«قال أبو جعفر عليه السّلام: إيّاك و التحاف الصمّاء، قلت: و ما التحاف الصمّاء؟ قال: أن تدخل الثوب من تحت جناحك فتجعله على منكب واحد»(9).

و هذا كما يدلّ على الحكم فكذلك متعرّض لتفسير موضوعه، و عمل به الشيخ حيث فسّره في المبسوط «بأن يلتحف بالإزار، و يدخل طرفيه تحت يده و يجمعهما على منكب

ص: 601


1- الوسائل 4/396:4، ب 24 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1542/371:2.
2- الصحاح 415:1، القاموس المحيط 255:1 (وشح).
3- مجمع البحرين 504:4 (و. ش. ح).
4- المصباح المنير: 661.
5- شرح صحيح مسلم (للنووي) 233:4، التمهيد (لهشام بن عروة) 210:22.
6- الذخيرة: 229.
7- المدارك 204:3.
8- كما في الجواهر 401:8.
9- الوسائل 1/399:4، ب 25 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 841/214:2.

واحد كفعل اليهود»(1) و عن الفاضل الأردبيلي(2) في شرحه للإرشاد نسبته إلى «المشهور بين الأصحاب» و أسنده الحلّي(3) في عبارته الآتية إلى الفقهاء، و هو يؤذن بكونه إجماعا، و يوافقه من تفاسير أهل اللغة ما عن الصحاح و القاموس في الجملة.

ففي محكيّ الأوّل: هو أن تجلّل جسدك بثوبك نحو شملة الأعراب بأكسيتهم، و هو أن يردّ الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى و عاتقه الأيسر، ثمّ يردّه ثانية من خلفه على يده اليمنى و عاتقه الأيمن فيغطّيهما جميعا، و ذكر أبو عبيدة(4) أنّ الفقهاء يقولون: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ثمّ يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه فيبدو منه فرجة، فإذا قلت «اشتمل فلان الصمّاء» كأنّك قلت «اشتمل الشملة الّتي تعرف بهذا الاسم» لأنّ الصمّاء ضرب من الاشتمال، انتهى(5).

و في الذخيرة: قريب منه كلام صاحب القاموس(6). و عن جماعة من أهل اللغة كابن فارس و الأصمعي و ابن الأثير(7) و غيرهم(8) تفسيره بمعنى ثالث «و هو أن يشتمل بثوب حتّى تجلّل به جسده و لا يرفع منه جانبا فيكون فيه فرجة يخرج منها يده، و قال بعض(9)منهم: و إنّما قيل صمّاء لأنّه إذا اشتمل به سدّ على يديه و رجليه المنافذ كلّها كالصخرة الصمّاء الّتي ليس فيها خرق و لا صدع(10) انتهى.

و المتّبع هو النصّ الموافق لتصريح غير واحد من معتبري أهل اللغة و المعمول به عند الأصحاب و هو المناسب لتعليل الكراهة بالتكبّر في خبر الهيثم المتقدّم.

و العجب عن الحلّي أنّه وافق القول الثالث من أقوال أهل اللغة فقال: و يكره السدل في الصلاة كما يفعل اليهود و هو أن يتلفّف بالإزار و لا يرفعه على كتفيه، و هذا تفسير أهل اللغة

ص: 602


1- المبسوط 83:1.
2- هنا سهو من قلمه الشريف لأنّ ما نقل هو كلام الشهيد في روض الجنان في شرح الإرشاد فراجع، روض الجنان 561:2.
3- السرائر 261:1.
4- غريب الحديث (للهروي) 118:2، لسان العرب 346:12 (صمم).
5- الصحاح 1968:5 (صمم).
6- القاموس المحيط 141:4.
7- النهاية (لابن الاثير) 54:3 (صمم).
8- الغريبين في القرآن و الحديث 1098:4، لسان العرب 346:12 (صمم).
9- الذكرى 61:3 قال بعضهم أي قال القتيبي.
10- الذخيرة: 229.

في اشتمال الصمّاء و هو اختيار السيّد المرتضى، و أمّا تفسير الفقهاء لاشتمال الصمّاء الّذي هو السدل، قالوا: هو أن يلتحف بالإزار، و يدخل طرفيه من تحت يده، و يجعلهما جميعا على منكب واحد، انتهى(1).

و هذا مع مخالفته لما عرفت يقتضي كون اشتمال الصمّاء هو السدل على معنى اتّحادهما معنى كالمترادفين، و الظاهر أنّه سهو بل الظاهر أنّه مكروه آخر وراء اشتمال الصمّاء، و لذا ذكر العلاّمة كراهته بعد الفراغ عن ذكر كراهة اشتمال الصمّاء، و هذا يقتضي المغايرة، و فسّره «بأن يلقي طرف الرداء من الجانبين و لا يردّ أحد طرفيه على الكتف الاخرى و لا يضمّ طرفيه»(2) بعد ما اختار من تفاسير اشتمال الصمّاء ما سمعت عن الشيخ في المبسوط تمسّكا بما فيه من النصّ .

و اختلف في تفسيره أيضا فعن المغرب «سدل الثوب سدلا من باب طلب إذا أرسله من غير أن يضمّ جانبيه و قيل أن يلقيه على رأسه و يرخيه على منكبيه»(3) قال الشهيد في النفلية على ما حكي «و السدل و هو أن يلتفّ بالإزار فلا يرفعه على كتفيه»(4).

لعلّ أصل السدل في اللغة الإرخاء كما فسّره به في القاموس(5) و قال الجوهري: «سدل ثوبه أي أرخاه»(6).

و قال ابن الأثير في النهاية: فيه نهي عن السدل في الصلاة، هو أن يلتحف بثوبه و يدخل يديه من داخل فيركع و يسجد و هو كذلك، و كانت اليهود تفعله فنهوا عنه، و هذا مطّرد في القميص و غيره من الثياب، و قيل: هو أن يضع وسط الإزار على رأسه و يرسل طرفيه عن يمينه و شماله من غير أن يجعلهما على كتفيه، و منه حديث عليّ عليه السّلام «أنّه رأى قوما يصلّون قد سدلوا ثيابهم فقال: كأنّهم اليهود» انتهى(7).

و كأنّ الّذي أوقعه على توهّم الاتّحاد كون ما اختاره من القول الثالث في تفسير اشتمال الصمّاء و هو أن يشتمل بثوب فيجلّل جسده كلّه به و لا يرفع جانبا يخرج منه يده، هو بعينه تفسير السدل على القول الأوّل الّذي هو مختار التذكرة، و في معناه ما عرفت في

ص: 603


1- السرائر 261:1.
2- التذكرة 503:3.
3- المغرب: 221، غريب الحديث 156:2 (سدل).
4- الفوائد المليّة لشرح النفليّة: 99.
5- القاموس المحيط 395:3.
6- الصحاح 1728:5.
7- النهاية 355:2.

محكيّ النهاية الأثيريّة من تفسيره «بأن يلتحف بثوبه و يدخل يديه من داخل فيركع و يسجد» و هو كذلك.

و كيف كان فالأصل في كراهة السدل ما رواه الصدوق في الصحيح عن زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: خرج أمير المؤمنين عليه السّلام على قوم فرآهم يصلّون في المسجد قد سدلوا أدريتهم، فقال لهم: ما لكم قد سدلتم ثيابكم كأنّكم يهود قد خرجوا من فهرهم ؟ يعني من بيعهم، إيّاكم و سدل ثيابكم»(1).

[المسألة الثالثة: يكره الصلاة في عمامة بغير تحنّك]

المسألة الثالثة: يكره الصلاة في عمامة بغير تحنّك و قد مرّ بيانه، و نقل النصوص الدالّة عليه في تضاعيف مسألة استحباب التحنّك. فلم يبق ما يتعلّق بالمقام شيء مهمّ إلاّ بعض الفروع الّتي منها: أنّه قد ظهر ثمّة كراهة التعمّم من غير حنك في غير حال الصلاة أيضا، فهل يتوقّف رفعها على استمرار التحنّك ما دامت العمامة على الرأس أو يكفي في ذلك حصوله حال شدّ العمامة فقط؟ وجهان.

قد يقال: إنّ أظهرهما الثاني استظهارا له من قوله: «من تعمّم و لم يتحنّك»(2) في مرسلة ابن أبي عمير المتقدّمة و قوله عليه السّلام: «من اعتمّ فلم يدر العمامة تحت حنكه»(3) الخ في رواية عيسى بن حمزة المتقدّمة قال: الظاهر حصول الامتثال بالتحنّك في أوّل الاعتمام و إن ترك فيما بعده، و لعلّ النفي ب «لم» الظاهرة في عدم وقوع الحدث في الماضي في الخبرين للإشارة إلى هذا المعنى، و قد يستظهر من مفهوم الاقتعاط المنهيّ عنه في النبوي بناء على ما فسّره صاحب الصحاح من «أنّه شدّ العمامة على الرأس من غير إدارة تحت الحنك»(4).

و فيه: أنّ الشرط يقلّب المضيّ مستقبلا فيفيد الاستمرار، و قوله: «تعمّم أو اعتمّ » ظاهر في أخذ العمامة على الرأس و لا يختصّ ذلك بابتداء شدّها، و تفسير الاقتعاط بما مرّ لا يفيد إلاّ رعاية أخذ إدارة الحنك حين الشدّ لا انتهاءه عند انتهائه فلا ينافي اعتبار الاستمرار.

ثمّ الظاهر من النصوص و تفاسير التحنّك بإدارة بعض العمامة تحت الحنك كفاية إدارته في تأدّي السنّة تحت الحنك فقط، من غير توقّف لها على إدارته على مجموع الرقبة ظهرا و بطنا.

ص: 604


1- الوسائل 3/399:4، ب 25 من أبواب لباس المصلّي، الفقيه 791/168:1.
2- الوسائل 1/401:4، ب 27 من أبواب لباس المصلّي.
3- الوسائل 2/40:4، ب 26 من أبواب لباس المصلّي.
4- الصحاح 1581:4 (حنك).
[المسألة الرابعة: يكره اللثام للرجل و النقاب للمرأة في الصلاة]

المسألة الرابعة: يكره اللثام للرجل و النقاب للمرأة في الصلاة على المشهور المستفيض حكاية الشهرة فيهما، و عن المختلف(1) في الأوّل «كونه مذهب جلّ علمائنا» بل عن الخلاف(2) «الإجماع عليه» و عن ظاهر المفيد(3) المنع حيث عبّر عن الحكم ب «لا يجوز» إلاّ أنّه محمول على إرادة الكراهة كما نصّ عليه في المعتبر(4).

كيف كان فمستند الكراهة من الروايات رواية سماعة في الموثّق قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصلّي فيتلو القرآن و هو متلثّم ؟ فقال: لا بأس به، و إن كشف عن فيه فهو أفضل، قال: و سألته عن المرأة تصلّي متنقّبة ؟ قال: إذا كشفت عن موضع السجود فلا بأس، و إن أسفرت فهو أفضل»(5) بناء على كون «لا بأس» مرادا به نفي الحرمة، و «أفضل» مرادا به المعنى المصدري و هو الفضيلة لا المعنى التفضيلي، فيكون محصّل المعنى حينئذ أنّ الفضيلة في كشف اللثام و الإسفار عن النقاب.

و قصور الدلالة مع ذلك على الكراهة كقصور السند إن كان، مجبور بعمل المعظم و فهمهم، و إلاّ فغاية ما ينساق من الرواية بعد التأويل المذكور إنّما هو استحباب الكشف و الإسفار لا كراهة التلثّم و التنقّب مع كشف موضع السجود.

ضرورة أنّ انتفاء الفضيلة فيهما لا يلازم عقلا مرجوحيّة فعلهما، لأنّ المباح أيضا ممّا لا فضيلة فيه. و لك أن تقول - بعد الالتزام باستحباب الكشف و الإسفار تمسّكا بهذه الرواية -: إنّه يثبت بها جواز التلثّم و التنقّب أيضا.

ثمّ يثبت كونه على وجه الكراهية بمصحّحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«قلت له: أ يصلّي الرجل و هو ملتثم ؟ فقال: أمّا على الأرض فلا، و أمّا على الدابّة فلا بأس»(6) إمّا في خصوص الحضر، أو فيه و في السفر معا، بناء على عدم القول بالفصل في أصل الكراهة بينهما، كما نصّ عليه غير واحد، و يساعد عليه إطلاق فتوى الأكثر.

و عليه فيحمل الفرق المستفاد من ظاهر هذه الرواية على اختلاف الكراهة فيهما بالشدّة و الضعف، فيكون المنفيّ بقوله «لا بأس» بالنسبة إلى الدابّة شدّة البأس لا أصله، و لعلّ

ص: 605


1- المختلف 90:2.
2- الخلاف 508:1-509.
3- المقنعة: 152.
4- المعتبر 99:2.
5- الوسائل 6/424:4، ب 35 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 904/230:2.
6- الوسائل 1/422:4، ب 34 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 899/229:2.

الوجه في انتفاء الشدّة في حقّه ما يغلب عليه من الحاجة إلى التلثّم لدفع الحرّ و البرد و الغبار و نحو ذلك.

هذا كلّه على تقدير عدم منع اللثام و النقاب مع عدم الكشف و الإسفار من القراءة و غيرها من الأذكار الواجبة، و إلاّ حرم كلّ منهما و بطلت الصلاة لو صلاّها و الحال هذه، لمكان الإخلال بالجزء الواجب بلا خلاف ظاهر.

و عليه يحمل ما في صحيح الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام هل يقرأ الرجل في صلاته و ثوبه على فيه ؟ فقال: لا بأس بذلك إذا سمع الهمهمة» و في صحيحة الحسن بن محبوب مثله إلاّ أنّه قال: «إذا سمع اذنيه الهمهمة»(1) و في غير واحد من الروايات إطلاق نفي البأس من غير تقييد بسماع الهمهمة.

[المسألة الخامسة: يكره الصلاة في قباء مشدود]

المسألة الخامسة: يكره الصلاة في قباء مشدود، و الإمامة بغير رداء.

أمّا الأوّل: فعلى المشهور بين الأصحاب على ما في كلام جمع من أساطين متأخّري الطائفة(2) و في مقابله القول بالحرمة المنسوب إلى الوسيلة(3) و المقنعة(4) حيث عبّرا عن الحكم ب «لا يجوز» الظاهر فيها، مع قبوله الحمل على موافقة المشهور كما احتمل جماعة(5).

و يشكل الحال هنا في شيء و هو بيان مستند الكراهة، و قد اعترف جماعة(6) بأنّه من جهة الأخبار غير معلوم حتّى عن شيخ الطائفة في التهذيب «أنّه ذكر ذلك عليّ بن حسين ابن بابويه رحمه اللّه و سمعناه من الشيوخ مذاكرة و لم أعرف به خبر مسندا»(7) نعم عن الشهيد في الذكرى(8) بعد نقل هذا الكلام تعريضا قلت: قد روى العامّة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لا يصلّي أحدكم و هو محزّم»(9) و هو كناية عن شدّ الوسط، و كرّهه في المبسوط(10).

و استبعده الفاضل الأردبيلي(11) في محكيّ شرح الإرشاد - بعد ما قال و ظاهر ذكره لهذا

ص: 606


1- الوسائل 3/423:4، ب 35 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 364/97:2.
2- كما في البيان: 98، و الروضة البهيّة 209:1، و المدارك 208:3، روض الجنان 565:2، و المسالك 169:1.
3- الوسيلة: 88.
4- المقنعة: 152.
5- كما في الجواهر 428:8.
6- كما في مجمع الفائدة و البرهان 91:2، و المدارك 208:3.
7- التهذيب 232:2.
8- الذكرى 65:3.
9- مسند أحمد 458:2، سنن أبي داود 3369/253:3.
10- المبسوط 83:1.
11- هنا سهو من قلمه الشريف لأنّ ما نقل هو قول الشهيد الثاني في روض الجنان في شرح الإرشاد: فراجعه!!

الحديث جعله دليلا على كراهة القباء المشدود - بقوله: «و هو بعيد، لكونه على تقدير تسليمه غير المدّعى»(1).

و ملخّصه أنّ الرواية تدلّ على كراهة شدّ الوسط، و المدّعى كراهة القباء المشدود.

و الظاهر أنّه غير متوجّه إليه، لظهور كلامه في تفسير مشدوديّة القباء بشدّ الوسط، فعلى تقدير صحّة التفسير كان مفاد الرواية عين المدّعى فلا اعتراض عليه، و الظاهر أنّ التفسير المذكور ممّا لا غائلة فيه بناء على أنّ شدّ القباء ممّا لا محمل له إلاّ ما هو متداول بين الناس في المعارك و الحروب و غيرها من الأعمال الصعبة الّتي يزاحمها انسدال أذيال القباء من أنّهم يجمعونها و يشدّون الوسط بها تفريغا للجوارح من الأيادي و الأرجل لكمال الاشتغال. و ممّا يشهد بإرادتهم ذلك من الشدّ استثناؤهم حال الحرب من كراهة الشدّ و تصريحهم بارتفاعها في هذه الحالة.

و أقوى من ذلك في الشهادة بصحّة هذا التفسير كلام الشيخ المحكيّ عن الخلاف «يكره أن يصلّي و هو مشدود الوسط و لم يكرّه ذلك أحد من الفقهاء، دليلنا إجماع الفرقة و طريقة الاحتياط»(2) بتقريب أنّه ليس في كلام الأصحاب عنوانان أحدهما مشدود القباء و الآخر شدّ الوسط مع كون كلّ منهما إجماعيّا، بل عنوان واحد يعبّر عنه تارة بمشدوديّة القباء و اخرى بشدّ الوسط، فهو الّذي يناسبه دعوى إجماع الفرقة على كراهته على ما عرفت من استفاضة حكاية و إرجاع كلام الوسيلة(3) و المقنعة(4) إليه.

و على هذا فكراهة الشدّ بهذا المعنى لا تنافي كراهة حلّ الأزرار في الصلاة على ما صرّح به غير واحد(5) و ورد به خبران دالاّن عليه أوردهما الشيخ في زيادات التهذيب(6)فلا اعتراض عليه حيث جمع بين حكمه بكراهة شدّ الوسط و نقله الخبرين الدالّين على كراهة حلّ الأزرار في الزيادات، لأنّ التنافي إنّما يلزم إذا كان أراد من شدّ الوسط شدّه بالأزرار لا غير، و قد عرفت خلافه. و حينئذ فلا حاجة إلى تكلّف الجمع بتخصيص كراهة الشدّ بما عدى الأزرار، أو تخصيص كراهة حلّ الأزرار بما إذا كان واسع الجيب كما ارتكبه

ص: 607


1- روض الجنان 565:2.
2- الخلاف 509:1.
3- الوسيلة: 88.
4- المقنعة: 152.
5- كالمجلسي في البحار 208:83، ذيل ح 1، و السبزواري في الذخيرة: 230.
6- التهذيب 1535/369:2، و 1542/371.

في الذخيرة(1) و غيره(2).

و بما قرّرناه ظهر أنّ ما عن بعضهم من حمل القباء المشدود في كلام الأصحاب على إرادة شدّه بالأزرار وارد على خلاف التحقيق، كما أنّه كذلك ما عن كاشف اللثام(3) في تفسير القباء من قوله: و القباء قيل(4) عربي من القبؤ، و هو الضمّ و الجمع، و قيل(5) معرّب، قال عيسى بن إبراهيم الرابعي في نظام الغريب: إنّه قميص ضيّق الكمّين، مفرّج المقدّم و المؤخّر(6).

ثمّ إنّه بملاحظة ما ذكرناه تعرف أنّه يكفي في مستند الكراهة استفاضة نقل الشهرة و إجماع الشيخ، و لا حاجة معه إلى طلب الخبر.

و أمّا الثاني: فعلى المشهور أيضا على ما في كلام جماعة(7) و قد يوصف الشهرة بالعظيمة الّتي كادت تكون إجماعا بل عن الذكرى(8) حكاية الإجماع عليه، و الأصل فيه ما رواه الشيخ و الكليني في الصحيح عن سليمان بن خالد قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أمّ قوما في قميص ليس عليه رداء؟ فقال: لا ينبغي إلاّ أن يكون عليه رداء أو عمامة يرتدي بها»(9) و دلالة «لا ينبغي» على الكراهة واضحة لا كلام فيها.

و إنّما الكلام في عمومها لجميع حالات عدم الرداء و عدم اختصاصها بمورد السؤال من الإمامة بقميص واحد بغير رداء، فقد يناقش في ذلك و يقال: إنّها إنّما تدلّ على كراهة الإمامة بدون الرداء في القميص وحده لا مطلقا، قيل(10) هذا التخصيص يؤيّده قول أبي جعفر عليه السّلام لمّا أمّ أصحابه في قميص بغير رداء «إنّ قميصي كثيف، فهو يجزئ أن لا يكون عليّ إزار و لا رداء»(11).

و فيه أنّ عبارة السؤال ظاهرة في كونه سؤالا عن الإمامة في القميص وحده من حيث

ص: 608


1- الذخيرة: 230.
2- كما في الجواهر 428:8، المدارك 209:3.
3- كشف اللثام 261:3.
4- المصباح المنير 489:1، لسان العرب 27:11 (قبأ).
5- المغرب: 310 (باب القاف).
6- نظام الغريب: 79.
7- كما في الجواهر 429:8.
8- الذكرى 54:3.
9- الوسائل 1/452:4، ب 53 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1521/366:2، الكافي 3: 3/394.
10- كما في المدارك 209:3، الذخيرة: 230، بحار الأنوار 1/190:83.
11- الوسائل 7/391:4، ب 22 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 15/280:2.

خلوّه عن الرداء لا من حيث خصوص القميصيّة و خصوص كونه قميصا و هو خال عن الرداء، فالعنوان المسئول عن حكمه إنّما هو الخلوّ عن الرداء لا غير، و على طبقه خرج الجواب بقوله عليه السّلام: «لا ينبغي» الخ، فلا قصور في دلالة الرواية على عموم الكراهة لجميع حالات عدم الرداء.

و لا ينافيه قول أبي جعفر، و لا فعله المحكيّ في الرواية الاخرى.

أمّا الأوّل: فلظهور قوله عليه السّلام «إنّ قميصي كثيف فهو يجزئ...» الخ بقرينة التعليل بكثافة القميص المقابلة للرقّة الحاكية عن بشرة العورة في الإجزاء عن الساتر الواجب المعتبر في ستر العورة للصلاة أو مطلقا، من دون تعرّض فيه لحكم بالنسبة إلى عدم الرداء.

و أمّا الثاني: فلمكان إجماله الناشئ من قاعدة حكايات الأحوال، إذا تطرّق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، فيسقط بها الاستدلال، لاحتمال قيام ضرورة داعية له عليه السّلام إلى ترك الرداء.

[المسألة السادسة: يكره أن يستصحب في الصلاة شيئا من الحديد]

المسألة السادسة: يكره أن يستصحب في الصلاة شيئا من الحديد البارز على المشهور المنسوب إلى أكثر الأصحاب(1) فظاهر المحكيّ عن المقنع و نهاية الشيخ و مهذّب ابن البرّاج يعطي المنع و البطلان. ففي الأوّل «لا تصلّ و في يدك خاتم حديد، و لا تجوز الصلاة في شيء من الحديد إلاّ إذا كان سلاحا»(2). و في الثاني «لا تجوز الصلاة إذا كان مع الإنسان شيء من حديد مشهّر مثل السكّين و السيف، فإن كان في غمد أو قراب فلا بأس بذلك، و المفتاح إذا كان مع الإنسان لفّه في شيء و لا يصلّي و هو معه مشهّر»(3) و في الثالث «أنّ ممّا لا تصحّ الصلاة فيه على حال، ثوب الإنسان إذا كان عليه سلاح مشهّر مثل سيف أو سكّين، و كذلك إذا كان في كمّه مفتاح حديد إلاّ أن يلفّه»(4).

و لعلّه لظاهر النهي في عدّة روايات غير نقيّة الأسانيد مثل ما رواه الصدوق و الكليني و الشيخ باسناد ضعيف عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لا يصلّي الرجل و في يده خاتم حديد»(5).

ص: 609


1- المختلف 89:2، المدارك 210:3، البحار 83، 251، المبسوط 84:1، السرائر 269:1، نهاية الإحكام 388:1، الذكرى 64:3، البيان: 59، الموجز الحاوي: 68.
2- المقنع: 82-83.
3- النهاية: 98.
4- المهذّب 75:1.
5- الوسائل 1/417:4، ب 32 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 103/227:2.

و ما رواه الكليني أيضا باسناد ضعيف عن محمّد بن أبي الفضل المدائني عمّن حدّثه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يصلّي الرجل و في تكّته مفتاح حديد»(1).

و ما رواه الشيخ باسناده في الموثّق عن عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الرجل يصلّي و عليه خاتم حديد؟ قال: لا، و لا يتختّم به الرجل فإنّه من لباس أهل النار»(2).

و ما رواه أيضا باسناد ضعيف عن موسى بن اكيل النميري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الحديد «أنّه حلية أهل النار... إلى أن قال: و جعل اللّه الحديد في الدنيا زينة الجنّ و الشياطين فحرّم على الرجل المسلم أن يلبسه في الصلاة إلاّ أن يكون قبال عدوّ فلا بأس به، قال: قلت فالرجل يكون في السفر معه السكّين في خفّه لا يستغني عنها أو في سراويله مشدودا و المفتاح يخشى إن وضعه ضاع، أو يكون في وسطه المنطقة من حديد؟ قال: لا بأس بالسكّين و المنطقة للمسافر في وقت ضرورة، و كذلك المفتاح إذا خاف الضيعة و النسيان، و لا بأس بالسيف و كلّ آلة السلاح في الحرب، و في غير ذلك لا تجوز الصلاة في شيء من الحديد، فإنّه نجس ممسوخ»(3).

و هذه الروايات عدى موثّقة عمّار لضعف أسانيدها لا تنهض لإثبات المنع و التحريم، فحملت على الكراهة مسامحة في دليلها، مع شهادة التعليل في ذيل رواية ابن اكيل النميري بضميمة ما دلّ على طهارة الحديد بذلك حملا للنجاسة على الكراهة أو معناها لغة و هو الاستخباث المناسب للكراهة.

قال المحقّق في المعتبر - بعد نقل الرواية - قد بيّنّا أنّ الحديد ليس بنجس بإجماع الطوائف، فإذا ورد التنجّس حملناه على كراهية استصحابه، فإنّ النجاسة قد تطلق على ما يستحبّ أن يجتنب.(4) و ذكر قريبا منه العلاّمة في التذكرة(5) و المنتهى(6).

و يدلّ على الكراهة أيضا التعليل بكون الحديد لباس أهل النار و بكونه زينة الجنّ و الشياطين، لمناسبة نحو هذه التعليلات للكراهة لا الحرمة. و بهذا ظهر حال الموثّقة فإنّها

ص: 610


1- الوسائل 2/418:4، ب 32 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 34/404:3.
2- الوسائل 5/418:4، ب 32 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 1548/372:2.
3- الوسائل 6/419:4، ب 32 من أبواب لباس المصلّي، التهذيب 894/327:2.
4- المعتبر 98:2.
5- التذكرة 505:2.
6- المنتهى 252:4.

أيضا تحمل على الكراهة، للتعليل بالوصف المناسب لها. و مع هذا يكفي في صرفها إليها كونها متروكة الظاهر عند جلّ أصحابنا المتأخّرين و متأخّريهم(1) بل القدماء أيضا، بناء على قيام الاحتمال في عبائر من تقدّم منهم. مضافا إلى ما في المرويّ عن احتجاج الطبرسي في مكاتبة محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه السّلام من التصريح بالجواز لأنّ فيها «و سأله عن الرجل يصلّي و في كمّه أو سراويله سكّين أو مفتاح حديد هل يجوز ذلك ؟ فكتب عليه السّلام: في الجواب: جائز»(2).

ثمّ ينبغي استثناء الحديد الصيني المعهود اتّخاذه فصّ خاتم على تقدير دخوله في موضوع الحكم و عنوان المسألة، و إلاّ فهو خارج موضوعا لاستحباب التختّم به المفتى به في كلام غير واحد من الأصحاب(3) المستفاد من بعض الروايات، كالمرويّ عن العلل باسناد ضعيف عن عبد خير قال: «كان لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام أربعة خواتيم يتختّم بها:

ياقوت لنبله، و فيروزج لنصره، و الحديد الصيني لقوّته، و عقيق لحرزه...»(4) الحديث.

ثمّ يبقى الكلام في وجه تقييد الحديد في عنوان المسألة بالبارز احترازا عن المستور المصرّح به في كلامهم(5) بزوال الكراهة عنه بسبب الستر، و علّلوه بالاقتصار في الحكم المخالف للأصل على القدر المتيقّن من موضع الوفاق. و هذا في ظاهر النظر لا ينهض لتقييد الروايات المطلقة المتناول إطلاقها للبارز و المستور معا كما لا يخفى، إلاّ أن يوجّه بأنّ الرواية الضعيفة المنجبرة بعمل الأصحاب إنّما يؤخذ من مدلولها بحسب مقدار الجابر و ليس إلاّ العمل، و القدر المتيقّن منه إنّما هو الكراهة في الحديد البارز، فيرجع فيما عداه إلى الأصل النافي للكراهة.

و ربّما أمكن كون مستند التقييد ما أرسله الكليني بقوله - بعد ما تقدّم نقله عنه من مرسلة المدائني -: «و روي إذا كان المفتاح في غلاف فلا بأس به»(6) مع انضمام عدم القول

ص: 611


1- كما في الرياض 361:3، و التذكرة 505:2.
2- الوسائل 11/420:4، ب 32 من أبواب لباس المصلّي، الاحتجاج: 483.
3- كما في الجواهر 441:8.
4- الوسائل 10/420:4، ب 32 من أبواب لباس المصلّي، علل الشرائع: 1/175.
5- كما في المعتبر 98:2، و المدارك 211:3.
6- الوسائل 3/418:4، ب 32 من أبواب لباس المصلّي، الكافي 35/404:3.

بالفصل، مضافا إلى المرويّ عن الشيخ عن عمّار الساباطي «أنّ الحديد إذا كان في غلاف فلا بأس بالصلاة فيه».

[المسألة السابعة: يكره الصلاة في ثوب يتّهم صاحبه بعدم التوقّي عن النجاسات]

المسألة السابعة: يكره الصلاة في ثوب يتّهم صاحبه بعدم التوقّي عن النجاسات، إمّا لكونه مذهبه عدم النجاسة أو لقلّة مبالاته في أمر النجاسة، على المشهور المحكيّ كونه مشهورا في كلام جماعة(1).

خلافا لمن يظهر منه المنع كالشيخ في المبسوط و ابن الجنيد و ابن إدريس.

ففي محكيّ الأوّل «إذا عمل كافر ثوبا لمسلم فلا يصلّي فيه إلاّ بعد غسله، و كذلك إذا صبغه له، لأنّ الكافر نجس سواء كان كافر الأصل أو كافر ردّة أو كافر ملّة»(2). و يؤكّد ظهور كلامه في المنع تشبيهه للثوب الّذي عمله الكافر بالثوب الّذي صبغه لا مجرّد تعليله بكون الكافر نجسا كما فهمه العلاّمة في المختلف، و قال: «تعليل الشيخ يؤذن بالمنع كما لا يخفى على المتأمّل»(3).

و في محكيّ الثاني «فإن كان استعاره من ذمّي أو ممّن الأغلب على ثوبه النجاسة أعاد خرج الوقت أو لم يخرج. لكن قيل: إنّ له قبل ذلك كلاما دالاّ بظاهره على استحباب التجنّب و وجوب الإعادة»(4) و فيه ما لا يخفى من عدم إمكان الجمع بين الحكمين بحسب القواعد.

و كيف كان فالمعتمد المشهور، جمعا بين الأخبار الظاهر بعضها في المنع الصريح، بعضها الآخر في الجواز، فمن الأوّل: صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الذمّي يعير ثوبه لمن يعلم أنّه يأكل الجرّي، و يشرب الخمر فيردّه، أ يصلّي فيه قبل أن يغسله ؟ قال: لا يصلّي حتّى يغسله»(5) و صحيحة عليّ بن جعفر «سأل أخاه عن رجل اشترى ثوبا من السوق للبس لا يدري لمن كان ؟ قال: إن اشتراه من مسلم فليصلّ فيه، و إن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتّى يغسله»(6) و صحيحة العيص بن القسم قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصلّي في ثوب المرأة و إزارها و يعتمّ بخمارها؟ قال: نعم

ص: 612


1- كما في المعتبر 98:2، نهاية الإحكام 388:1، الدروس 78:1، الحدائق 146:7.
2- المبسوط 84:1.
3- المختلف 98:2.
4- نقله عنه في المختلف 92:2.
5- الوسائل 2/521:3، ب 74 النجاسات، التهذيب 26/361:2.
6- الوسائل 1/490:3، ب 50 النجاسات، قرب الإسناد: 96.

إذا كانت مأمونة»(1) فبالمفهوم يدلّ على المنع إذا لم تكن مأمونة.

و من الثاني: صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر، إنّي اعير الذمّي ثوبي و أنا أعلم أنّه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اصلّي فيه ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: صلّ فيه و لا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إيّاه و هو طاهر و لم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه»(2).

و صحيحة معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الثياب السابريّة يعملها المجوس، و هم أخباث و هم يشربون الخمر و نساؤهم على تلك الحال، ألبسها و لا أغسلها و اصلّي فيها؟ قال: نعم، قال معاوية: فقطعت له قميصا و خطته و فتلت له أزرارا و رداء من السابريّ ، ثمّ بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار، و كأنّه عرف ما اريد فخرج فيها إلى الجمعة»(3).

و خبر المعلّى بن خنيس قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا بأس بالصلاة في الثياب الّتي يعملها المجوس و النصارى و اليهود»(4).

و صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في ثوب المجوسي ؟ فقال:

يرشّ بالماء»(5).

و رواية عبد اللّه بن جميل قال: «أخبرني أبي قال: سألت جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن الثوب يعمله أهل الكتاب اصلّي فيه قبل أن يغسل ؟ قال: لا بأس، و أن يغسل أحبّ إليّ »(6) و هذا أيضا يومئ بالكراهة و إن كان في بلوغه حدّ الظهور نظر، لأنّ غايته الدلالة على استحباب الغسل، و هو لا يلازم كراهة الصلاة بدون الغسل، إلاّ على القول بكون ترك المستحبّ مكروها، و هو خلاف التحقيق.

و في كلام جماعة(7) إلحاق من لا يتوقّى المحرّمات في الملابس و لا يجتنب عن

ص: 613


1- الوسائل 1/447:4، ب 49 لباس المصلّي، الكافي 19/402:3.
2- الوسائل 1/521:3، ب 74 النجاسات، التهذيب 27/361:2.
3- الوسائل 1/518:3، ب 73 النجاسات، التهذيب 1497/362:2.
4- الوسائل 2/519:3، ب 73 النجاسات، التهذيب 1496/261:2.
5- الوسائل 3/519:3، ب 73 النجاسات، التهذيب 1498/362:2.
6- الوسائل 5/519:3، ب 73 النجاسات، التهذيب 862/216:2.
7- كما في نهاية الإحكام 388:1، التذكرة 505:2، القواعد 28:1، إرشاد الأذهان 247:1، الدروس 78:1، الذكرى 62:3، البيان: 59، روض الجنان 568:2، المسالك 169:1.

الغصب فيها، و وجهه غير واضح و لعلّه لتوهّم تنقيح المناط. و ربّما يشير إليه ما دلّ على كراهة المعاملة مع الظالم و أخذ ماله.

[المسألة الثامنة: يكره الصلاة للنساء في خلخال لها صوت]

المسألة الثامنة: يكره الصلاة للنساء في خلخال لها صوت على المشهور(1). و ظاهر المحكيّ عن النهاية(2) لا يصلّي المرأة فيها المنع، و صريح مهذّب ابن البرّاج عدم الصحّة قائلا: «لا تصحّ الصلاة في خلاخل النساء إذا كان لها صوت»(3).

و ليس في المسألة من النصوص إلاّ صحيح عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام «أنّه سأله عن الخلاخل هل يصلح لبسها للنساء و الصبيان ؟ قال: إن كان صمّا فلا بأس، و إن كان لها صوت فلا تصلح»(4).

و لا خفاء في قصور دلالته على الحرمة، لظهور نفي الصلاحية في الكراهة، فلا تصلح مستندا للشيخ بل القاضي أيضا. بل دلالتها على المشهور أيضا قاصرة، لعدم تعرّض فيها سؤالا و جوابا للصلاة، فإنّ غايتها الدلالة على كراهة ذي الصوت من الخلخال في جميع الحالات الّتي منها حال الصلاة، و هو لا يلازم كراهة الصلاة الواقعة فيها.

و ربّما يبعّد احتمال كون قصد السائل استعلام حال الصلاة و إن لم يصرّح بها في الكلام عطف الصبيان على النساء الّذين لا صلاة عليهم، و إن كان الجواب الدالّ على الكراهة أيضا لا يتناولهم، لعدم الفرق في انتفاء التكليف عنهم بين الوجوب و الكراهة و غيرهما من الخمس المعهودة المعلّقة على شرائط التكليف.

لكن قد يدّعى ظهورها في الصلاة من جهة ملاحظة ما قبلها و ما بعدها، لاشتمالها على أسئلة كثيرة متعلّقة بالصلاة، و من ذلك السؤال المتأخّر بلا فصل «و سألته عن فارة المسك تكون مع الرجل في جيبه أو ثيابه ؟ قال: لا بأس بذلك»(5) لوضوح أنّ السؤال عن فارة المسك الّذي يصحبه الرجل إنّما هو لشبهة إخلالها بصحّة الصلاة هذا.

و لكنّ العمدة فهم المعظم الناشئ منه الشهرة فإنّها قد تنهض جابرة لقصور الدلالة أيضا إذا كان مستندها الرواية القاصرة دلالة، و التقييد بذي الصوت احتراز عن الأصمّ الّذي ليس

ص: 614


1- كما في المبسوط 84:1، السرائر 270:1، الجامع للشرائع: 66، الإرشاد 247:1.
2- النهاية: 99.
3- المهذّب 74:1-75.
4- الوسائل 1/463:4، ب 62 لباس المصلّي، الكافي 33/404:3.
5- الوسائل 1/433:4، ب 41 لباس المصلّي، الفقيه 775/164:1.

له صوت لانتفاء الكراهة فيه، كما صرّح به جماعة(1) و الصحيحة ناصّة فيه. و ربّما يعلّل الفرق باشتغال القلب عن الصلاة بذي الصوت دون غيره، فيكون المطلوب في الصلاة المطلوب فيها الحضور ترك الأوّل دون الثاني. و لا خفاء في ضعفه.

[المسألة التاسعة: يكره الصلاة في ثوب فيه تماثيل أو خاتم فيه صورة]

المسألة التاسعة: يكره الصلاة في ثوب فيه تماثيل أو خاتم فيه صورة على المشهور المصرّح بالشهرة فيه في كلام جماعة(2) بل عن المختلف نسبته إلى الأصحاب(3)مؤذنا بالإجماع، و في الذخيرة «و الظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب في رجحان الاجتناب عن ذلك»(4).

و إنّما عبّر بذلك لظهور كلام الشيخ في المبسوط و النهاية في المنع، لقوله في الأوّل:

«الثوب إذا كان فيه تمثال و صورة لا يجوز الصلاة فيه»(5) و كذا في الثاني(6) و في موضع آخر منه «و لا يصلّي في ثوب فيه تماثيل و لا في خاتم كذلك»(7).

و عن القاضي ابن البرّاج «أنّه حرّم الصلاة في الخاتم الّذي فيه صورة»(8) و لم يذكر الثوب.

و يساعد عليه ظاهر عدّة روايات معتبرة الأسانيد، ففي صحيح محمّد بن إسماعيل بن بزيع: «أنّه سأل الرضا عليه السّلام عن الثوب المعلّم ؟ فكره ما فيه التماثيل»(9).

و صحيحه الآخر قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الصلاة في ثوب ديباج ؟ فقال:

ما لم يكن فيه التماثيل فلا بأس»(10).

و صحيح عليّ بن جعفر المرويّ عن المحاسن عن أخيه عليهما السّلام قال: «و سألته عن الثوب يكون فيه التماثيل أو في علمه أ يصلّي فيه ؟ قال: لا يصلّي فيه»(11).

و موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث «عن الثوب يكون في علمه

ص: 615


1- كما في روض الجنان 568:2، المدارك 212:3، المنتهى 258:4، جامع المقاصد 112:2.
2- كما في الوسيلة: 87، المعتبر 98:2، المنتهى 255:4، نهاية الإحكام 388:1، الذكرى 57:3، الدروس 147:1.
3- المختلف 86:2-87.
4- الذخيرة: 231.
5- المبسوط 83:1-84 و 86.
6- النهاية: 99.
7- المبسوط 83:1-84 و 86.
8- المهذّب 74:1-75.
9- الوسائل 4/437:4، ب 45 لباس المصلّي، الفقيه 810/172:1.
10- الوسائل 10/370:4، ب 11 لباس المصلّي، التهذيب 815/208:2.
11- الوسائل 16/440:4، ب 45 لباس المصلّي، المحاسن: 49/617.

مثال طير أو غير ذلك أ يصلّي فيه ؟ قال: لا، و عن الرجل يلبس الخاتم فيه نقش مثال الطير أو غير ذلك ؟ قال: لا تجوز الصلاة»(1).

و خبر عبد اللّه بن سنان - الّذي لو لا محمّد بن عيسى عن يونس في سنده لكان حسنا بإبراهيم بن [هاشم] أو صحيحا - عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه كره أن يصلّي و عليه ثوب فيه تماثيل»(2).

و المعتمد هو القول بالكراهة، لأصلي الإباحة و عدم المانعيّة الراجع إلى أصالة عدم مدخليّة القيد العدمي في صحّة العبادة، مضافا إلى إطلاقات اللباس و الخاتم. و الروايات الظاهرة في المنع لقلّة العامل بظواهرها و إعراض الأكثر عنها لا تنهض مخرجة عنهما، لأنّ الشهرة المعتضدة بظهور نقل الإجماع و صريح نفي الخلاف المتقدّمين موهنة لها في هذه الدلالة، مضافا إلى أنّ في بعض الروايات أيضا ما يدلّ صريحا أو ظاهرا بعدم المنع، كرواية محمّد بن مسلم في الصحيح قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يصلّي و في ثوبه دراهم فيها تماثيل ؟ فقال: لا بأس بذلك»(3) و رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام المرويّة عن قرب الإسناد قال: «و سألته عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل سبع أو طير أ يصلّي فيه ؟ قال: لا بأس»(4). و صحيحة البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في حديث «أنّه أراه خاتم أبي الحسن عليه السّلام و فيه وردة و هلال في أعلاه»(5).

بناء على عموم التماثيل في عنوان المسألة لغير ذي الروح أيضا كما زعمه جماعة(6)فلا يبقى لها من الدلالة على وجه يطمئنّ بها إلاّ مطلق المرجوحيّة و القدر المتيقّن منه الكراهة، مضافا إلى أنّه مقتضى الجمع بينها و بين ما عرفت من النصوص المصرّحة بالجواز، مع أنّ الشهرة العظيمة المعتضدة بما تقدّم بنفسها تصلح قرينة صارفة لها عن

ص: 616


1- الوسائل 15/440:4، ب 45 لباس المصلّي، التهذيب 1548/372:2.
2- الوسائل 2/437:4، ب 45 لباس المصلّي، الكافي 17/401:3.
3- الوسائل 9/439:4، ب 45 لباس المصلّي، التهذيب 1507/363:2.
4- الوسائل 23/442:4، ب 45 لباس المصلّي، قرب الإسناد: 10/97.
5- الوسائل 1/443:4، ب 46 لباس المصلّي، الكافي 4/473:6.
6- كما في الجواهر 452:8، حاشية الإرشاد: 22، روض الجنان 568:2، الروضة البهيّة 531:1، الدروس 147:1، البيان: 122، جامع المقاصد 114:2.

الحرمة إلى إرادة الكراهة إذا كانت بحيث كشفت عن وجود قرينة موجبة لفهمها ثمّة بحيث لو بلغت إلينا لفهمناها أيضا.

ثمّ بقى الكلام في أنّ الكراهة هل تعمّ تماثيل ذي الروح و غيرها كالشجر و نحوه - كما نسب إلى ظاهر الأكثر(1) و عن المختلف نسبة إطلاق القول بذلك إلى ما عدى ابن إدريس(2) - أو تختصّ بذي الروح كما عن ابن إدريس قائلا: «إنّما تكره الصلاة في الثوب الّذي عليه الصور و التماثيل من الحيوان، فأمّا صور غير الحيوان فلا بأس»(3)؟ قولان.

و الظاهر أنّ محلّ الخلاف هو الثوب لتصريح جماعة بالاختصاص في الخاتم لوجود النصّ الصحيح الصريح في عدم الكراهة فيما عليه نقش الوردة كما سمعت.

و كيف كان فقد يستدلّ لقول ابن إدريس بما ورد عن أهل البيت عليهم السّلام في تفسير قوله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ (4) من أنّها كصور الأشجار»(5). و ضعّف - مع أنّه لا تعرّض فيه للصلاة - بأنّه لا ملازمة بين حصول الرخصة في شرع سليمان و حصولها في شرعنا.

و بما روي عن الصحاح «أنّ رجلا قال لابن عبّاس: إنّي اصوّر هذه الصور فأفتني فيها؟ فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: كلّ مصوّر في النار يجعل له لكلّ صورة صوّرها نفسا فيعذّبه في جهنّم، و قال: إن كنت لا بدّ فاعلا فاصنع الشجر و ما لا نفس له»(6).

و فيه - بعد ضعف السند الخالي عن الجابر - منع الدلالة من وجوه:

أمّا أوّلا: فلعدم تعرّضها لحال الصلاة.

و أمّا ثانيا: فلأنّ غاية ما فيها الدلالة على المنع تحريما أو تنزيها من عمل التصاوير و إحداثها، و هو لا يلازم المنع من لبس الثوب المعمول فيه التصاوير و الصلاة فيه، و لا ملازمة.

و أمّا ثالثا: فلأنّ التفصيل يقضي بالحرمة في ذي النفس و انتفائها في غيرها، و هو لا ينافي الكراهة فيه. و ربّما يومئ إليها تعليق الرخصة بقوله: «إن كنت لا بدّ فاعلا» لقضائه باختصاص الرخصة بصورة الحاجة أو الضرورة الّتي هي دون الحاجة، و قضيّة ذلك أن

ص: 617


1- كما في جامع المقاصد 114:2، الروض 568:2، البحار 243:83، المفاتيح 110:1.
2- المختلف 87:2، جامع المقاصد 114:2.
3- السرائر 263:1.
4- سبأ: 13.
5- الكافي 3/476:6، المحاسن 2580/458:2.
6- صحيح مسلم 2110/1670:3، مسند أحمد 2806/506:1.

لا رخصة و لو اريد بها نفي الكراهة مع عدمهما. و العمدة في إثبات العموم أو التخصيص هو النظر في أنّ التماثيل في النصوص المطلقة هل هو بحسب اللغة للمعنى العامّ أو الخاصّ؟ فإنّ فيه خلافا سيأتي ذكره في مكروهات المكان.

و ممّن نصّ باختصاص التماثيل بتصاوير اولي الروح مدّعيا في قوله عليه السّلام: «لا يدخل الملائكة بيتا فيه تماثيل أو تصاوير»(1) أنّه كان الشكّ فيه من الراوي، و أمّا قولهم «يكره التصاوير و التماثيل» فالعطف للبيان، و أمّا تماثيل الشجر فمجاز إن صحّ (2) انتهى.

هذا مع أنّ في بعض الروايات ما يدلّ على اختصاص الحكم بذي الروح كالمرويّ عن مكارم الأخلاق عن الصادق عليه السّلام قال: «قد اهديت إليّ طنفسة من الشام فيها تماثيل طائر فأمرت به فغيّرت رأسه فجعل كهيئة الشجر...»(3) الخ تدلّ على أنّ هيئة الشجر ممّا لا حكم له من حيث الكراهة و المرجوحيّة، و يؤيّده ما عرفت في تفسير الآية. فالأقوى إذن هو القول بالاختصاص و إن كان القول بالعموم أحوط، و سيأتي زيادة تحقيق في ذلك في نظير المسألة من فروع المكان.

[المسألة العاشرة: يكره أن تصلّي المرأة خالية عن الحليّ أو مجرّدا جيدها عن القلائد]

المسألة العاشرة: يكره أن تصلّي المرأة خالية عن الحلّي أو مجرّدا جيدها عن القلائد خاصّة، كما نصّ عليه جماعة منهم الشهيد في الدروس(4) و الذكرى(5) و مستنده الموثّق عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن عليّ عليهما السّلام قال: «لا تصلّ المرأة عطلا»(6) و المرويّ عن الكافي عن أبي مريم الأنصاري قال: «سمعت جعفر بن محمّد عليهما السّلام يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

يا عليّ مر نساءك لا يصلّين عطلا و لو تعلّقن في أعناقهنّ سيرا»(7) و المرويّ عن الفقيه قال الصادق عليه السّلام: «لا ينبغي للمرأة أن تعطّل نفسها و لو أن تعلّق في عنقها قلادة»(8).

و في المجمع «عطل بضمّتين: فقدان الحلي، و منه امرأة عاطل و قد عطّلت المرأة من الحليّ من باب قتل عطلا و عطولا إذا لم يكن عليها حلي»(9) و نحوه ما في محكيّ القاموس

ص: 618


1- الوسائل 2/175:5 ب 33 مكان المصلّي.
2- المغرب 257:2-258 (مثل).
3- الوسائل 7/309:5، ب 4 أحكام المساكن، مكارم الأخلاق: 132.
4- الدروس 78:1.
5- الذكرى 74:3.
6- الوسائل 1/459:4، ب 58 لباس المصلّي، التهذيب 1543/371:2.
7- الكافي 57/569:5، ب 97 النكاح.
8- الوسائل 2/459:4، ب 58 لباس المصلّي، الفقيه 283/70:1.
9- مجمع البحرين 203:3 (عطل).

«عطلت المرأة كفرح عطلا بالتحريك: إذا لم يكن عليها حليّ ، و هي عاطل و عطل بضمّتين»(1) لكن عن الصحاح «عطلت المرأة و تعطّلت: إذا خلى جيدها من القلائد»(2)و هذا أخصّ من الأوّل.

و يظهر من الشهيد البناء على هذا التفسير قائلا: «عطلا بضمّ العين و التاء و التنوين و هي الّتي خلى جيدها من القلائد»(3) و نحوه ما في شرح الدروس للكاظمي(4) و لكن ظاهر النصّ كالخبرين الأخيرين عدم اجتزاء السنّة بمحض الاشتمال على القلائد، فالوجه اعتبار الحليّ زائدا على القلائد.

[المسألة الحادية عشر: يكره أن يصلّي المختضب و عليه خضابه رجلا كان أو امرأة]

المسألة الحادية عشر: يكره أن يصلّي المختضب و عليه خضابه رجلا كان أو امرأة، ذكره الشهيد(5) و غيره(6) لصحيح أبي بكر الحضرمي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصلّي و عليه خضابه ؟ فقال: لا يصلّي و هو عليه و لكن ينزعه إذا أراد أن يصلّي، قلت: إنّ حنّاءه و خرقته نظيفة ؟ فقال: لا يصلّي و هو عليه، و المرأة أيضا لا تصلّي و عليها خضابها»(7)حملت على الكراهة جمعا بينها و بين المستفيضة المصرّحة بالرخصة، كالصحيح عن رفاعة قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن المختضب إذا تمكّن من السجود و القراءة أيضا أ يصلّي في خضابه ؟ قال: نعم إذا كانت خرقته طاهرة و كان متوضّئا»(8) و صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل و المرأة يختضبان، أ يصلّيان و هما بالحنّاء و الوسمة ؟ فقال: إذا برز الفمّ و المنخر فلا بأس»(9) و رواية سهل بن اليسع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته أ يصلّي الرجل في خضابه إذا كان على طهر؟ فقال: نعم»(10) و موثّقة عمّار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تصلّي و يداها مربوطتان بالحنّاء؟ فقال: إذا كانت توضّأت للصلاة قبل ذلك فلا بأس بالصلاة و هي مختضبة و يداه مربوطتان»(11).

ص: 619


1- القاموس المحيط 17:4 (عطل).
2- الصحاح 1767:5 (عطل).
3- الذكرى 69:3.
4- شرح الدروس 617:1.
5- الدروس 78:1.
6- كما في المستند 398:4.
7- الوسائل 5/430:4، ب 39 لباس المصلّي، الكافي 2/408:3.
8- الوسائل 2/429:4، ب 39 لباس المصلّي، التهذيب 1470/356:2.
9- الوسائل 1/429:4، ب 39 لباس المصلّي، التهذيب 1473/356:2.
10- الوسائل 3/430:4، ب 39 لباس المصلّي، التهذيب 1471/356:2.
11- الوسائل 4/430:4، ب 39 لباس المصلّي، التهذيب 1472/356:2.

الفصل الخامس في مكان المصلّي

اشارة

و اعلم أنّ للمكان في العرف إطلاقات كثيرة، و قد حصرها شيخنا البهائي قدّس سرّه على ما حكي في أربع:

الأوّل: الفراغ الّذي يشغله الجسم بكونه فيه، كما يقال: مكان الطائر جوّ الهواء، و مكان الحوت جوف الماء.

الثاني: الشيء الّذي يحيط بالجسم الملاصق لأكثر سطحه، كما يقال: الكوز مكان الماء، و الزقّ مكان الدهن.

الثالث: ما يكون ظرفا للجسم و إن لم تحصل الملاصقة المذكورة، كما يقال: البيت الفلاني مكان زيد، و المدرسة مكان عمرو.

الرابع: ما يستقرّ عليه الجسم و يلقي عليه ثقله و إن لم تحصل الإحاطة، كما يقال:

الكرسيّ مكان الأمير، و رأس النخلة مكان زيد.

ثمّ عنه أنّ المعنى الأوّل هو المكان عند المتكلّمين و حكماء الإشراق و إن اختلفوا، فالمتكلّمون على أنّه أمر موهوم لا وجود له، و حكماء الإشراق على أنّه بعد موجود جوهري هو برزخ بين المجرّدات و المادّيات. و المعنى الثاني قريب ممّا عرّفه المشّائيّون من أنّه السطح الباطن من الجسم الحاوي المماسّ للسطح الظاهر من الجسم المحوي. و في لسان الفقهاء يطلق تارة على ما يبحث عنه من حيث الإباحة و الغصبيّة، و اخرى على ما يبحث عنه من حيث الطهارة و النجاسة(1).

ص: 620


1- حبل المتين: 157.

و من الأوّل ما عن فخر المحقّقين في الإيضاح من تعريفه «بأنّه ما يستقرّ عليه المصلّي و لو بوسائط، و ما يلاقي بدنه و ثيابه و ما يتخلّل بين مواضع الملاقاة من موضع الصلاة ممّا يلاقي مساجده و يحاذي بطنه و صدره»(1).

و لا يخفى ما في هذا التعريف من عدم خلوّه عن حزازة، لاشتماله على قيد مستدرك تارة باعتبار أنّ ما يستقرّ عليه المصلّي أعمّ من استقراره عليه حال قيامه أو ركوعه أو سجوده أو جلوسه فيغني ذلك عمّا يلاقي بدنه و سوء تأدية، أو استعمال اللفظ في معنيين، و ذلك لأنّ قوله «ممّا يلاقي مساجده» إن كان بيانا لمواضع الملاقاة كما هو الظاهر، فقوله:

«و يحاذي بطنه و صدره» لا يصلح لكونه عطفا على صلة هذا الموصول لعدم تعلّقه بمواضع الملاقاة بل إنّما هو متعلّق بما يتخلّل بينها، و إن اريد إرجاع الجملة المعطوف عليها إلى مواضع الملاقاة و إرجاع الجملة المعطوفة إلى ما يتخلّل بينها لزم استعمال الموصول الثاني في معنيين فتارة بكونه بيانا لمواضع الملاقاة و اخرى بكونه بيانا لما يتخلّل بينها، و إن كان الجملة الثانية عطفا على جملة «يتخلّل» ليكون بيانا لما يلي هذه الجملة من الموصول لزم الفصل الزائد بين البيان و المبيّن مع عدم ضرورة دعت لإمكان التأدية هكذا «و ما يتخلّل ممّا يحاذي بطنه و صدره بين مواضع الملاقاة». هذا مع عدم خلوّ بيان مواضع الملاقاة بما يلاقي مساجده عن استدراك أيضا، لجواز الاكتفاء عن مواضع الملاقاة بمواضع مساجده.

و على هذا كلّه فالأولى أن يقال: مكان «ما يتخلّل...» إلى آخره، ما يتخلّل بين مواضع مساجده ممّا يحاذي بطنه و صدره، و الظاهر أنّ ذكر البطن و الصدر مثال فلا ينافي الاقتصار عليها كون ما بين إبهامي الرجلين و الركبتين حال السجود، و ما بين الصدر و الجبهة أيضا ممّا يتخلّل بين مواضع الملاقاة.

و كيف كان فنقض طرد التعريف بامور:

منها: ما يتوجّه إلى قوله: «ما يستقرّ عليه المصلّي و لو بوسائط» من أنّه إذا كان البيت الفوقاني غير مغصوب فيجوز الصلاة فيه و إن كان التحتاني مغصوبا فكيف يصحّ اشتراط كون المكان بالمعنى الّذي ذكره مباحا و غير مغصوب ؟

و يمكن دفعه: بأنّ المراد من كون مكان المصلّي غير مغصوب أن يكون مغصوبا

ص: 621


1- إيضاح الفوائد 86:1.

للمصلّي من حيث كونه مصلّيا، على معنى كون صلاته فيه غصبا لتناولها النهي عن الغصب المقتضي لفسادها، و صلاة مالك الفوقاني فيه ليست غصبا للتحتاني لعدم كونها تصرّفا فيه عرفا بل هي تصرّف في الفوقاني، و لذا ليس لمالك التحتاني أن يمنع مالك الفوقاني عن تصرّفاته لأجل كونها تصرّفا في التحتاني، فإنّه ليس إلاّ لعدم كونها تصرّفا فيه عرفا.

و لا يتفاوت الحال فيه بين كون التحتاني على فرض المغصوبيّة مغصوبا لغير المصلّي أو لعدم كون غصبه له لو فرض إلاّ كغصبه ملكا آخر لا تعلّق له بصلاته، فلا يضرّ غصبه هذا بصلاته أصلا.

و منها: أنّه يقتضي بطلان الصلاة بملاصقة الحائط المغصوب، لأنّه ممّا يلاقي بدن المصلّي، و كونه من مكان المصلّي أوّلا، ثمّ اقتضاؤه البطلان غير واضح.

و يمكن دفعه: بأنّ ما يلاقي بدن المصلّي بقرينة سبق ما يستقرّ عليه المصلّي ظاهر فيما يلاقيه ممّا يستقرّ عليه المصلّي كما في مواضع السجود، و ما ذكر من الملاقاة على وجه اللصوق ليس من استقرار المصلّي عليه في شيء.

و منها: ما استشكله في جامع المقاصد «من عدّ ما يلاقي ثياب المصلّي من المكان الّذي يعتبر إباحته لصحّة الصلاة، و كذا ما يتخلّل بين مواضع الملاقاة إذا لم يكن له هواء يتبعه، كثوب طرح محاذيا لصدره بين ركبتيه و جبهته، فإنّ عدّ ذلك من المكان غير واضح، حتّى لو كان مغصوبا، و وضع صدره عليه لا يتّجه البطلان حينئذ، لعدم اعتبار هذا الوضع في الصلاة، فهو فعل خارج عنها لا يبطلها النهي عنه، لأنّ الفعل إنّما يبطل إذا بلغ الكثرة» انتهى(1).

و الإنصاف أنّ المكان أمر عرفي يعرفه جميع آحاد أهل العرف، فمكان الصلاة هو الّذي يعبّر عنه بالفارسيّة «بجاى نماز» و مكان المصلّي بمعنى «جاى نمازگزار» و هذا معنى واضح معلوم مدرك بالوجدان و لا خفاء فيه أصلا حتّى يحتاج إلى تعريف و بيان.

و معنى كونه غير مغصوب أن لا يكون بحيث كان مباشرته بالصلاة أو ببعض أفعالها غصبا على معنى صدق الغصب عليها كلاّ أم بعضا، سواء سبقه وصف الغصبيّة من المصلّي أو من غيره أيضا، أو حصل ذلك الوصف بنفس الصلاة فيه.

و تمام البحث في المكان بهذا المعنى يقع في مباحث:

ص: 622


1- جامع المقاصد 115:2.
المبحث الأوّل في حكم مكان المصلّي من حيث الإباحة و الغصبيّة
اشارة

فنقول: إنّ المكان إمّا مباح أو مغصوب، أمّا المباح فيجوز الصلاة تكليفا و وضعا بالإجماع المعلوم ضرورة بل هو من ضروريّات عامّة الناس الّتي لا حاجة فيها إلى بيان و تجشّم استدلال، و إنّما اللائق هنا التعرّض لبيان موضوع المكان المباح لما في بعض أفراده من بعض الاشتباهات.

فنقول: إنّ المباح منه إمّا مباح بالملك أو مباح بإذن المالك، و الأوّل إمّا باعتبار مملوكيّة عينه و منفعته، أو باعتبار مملوكيّة منفعته فقط كالدار المستأجرة و الموصى بها للسكنى و الموقوفة لها و المحبوسة لها أيضا. و بالجملة فالمعتبر في المباح بالملك مملوكيّة منفعته مع مملوكيّة عينه أولا بإجارة أو وصيّة أو وقف أو حبس، فهو بجميع أقسامه ممّا لا كلام فيه، كما لا إشكال في حكمه من حيث جواز الصلاة.

و الثاني إمّا أن يكون مأذونا بالإذن الصريح أو بإذن الفحوى أو بإذن شاهد الحال.

و الإذن الصريح على ما يظهر من كلماتهم عبارة عن تنصيص المالك بخصوص الصلاة فيه، كأن يقول: صلّ فيه. و لك أن تقول: إنّ الصراحة في الإذن الصريح وصف للإذن لا للمأذون فيه و لا للمأذون له. و عليه فالأقسام من حيث الخصوص و العموم بالقياس إلى كلّ من المأذون له و المأذون أربع، كأن يقول: أذنت لك في الصلاة أو أذنت لك في كلّ تصرّف، أو أذنت لكلّ أحد في الصلاة أو أذنت لكلّ أحد في كلّ تصرّف، و هذه الأقسام كلّها من الإذن الصريح على ما تنبّه عليه بعض الأجلّة(1) و عليه فما في عبارة الشرائع من التمثيل للإذن الصريح بقول المالك: صلّ فيه(2) لا بدّ أن يحمل على إرادة المثال لا حصر الإذن الصريح فيه.

ص: 623


1- مطالع الأنوار 191:1-192.
2- الشرائع 71:1.

و أمّا الإذن بالفحوى: فقد مثّل له في الشرائع بإذنه في الكون فيه(1) و ناقشه في المدارك تبعا لجدّه في المسالك(2) «بأنّ تمثيله للفحوى بالإذن في الكون غير واضح، إذ المعهود من اصطلاحهم أنّ دلالة الفحوى هي مفهوم الموافقة، و هو التنبيه بالأدنى على الأعلى، أي كون الحكم في غير المذكور أولى منه في المذكور، باعتبار المعنى المناسب للمقصود، كالإكرام في منع التأفيف، و قد مثّل له هنا بإدخال الضيف المنزل للضيافة و هو إنّما يتمّ مع ظهور المعنى المناسب للمقصود من الإدخال، و كونه في غير المذكور و هو الصلاة مثلا أتمّ منه في المذكور»(3).

و توضيح المقام أنّ إذن الفحوى على البيان المذكور، عبارة عن رضا المالك في المسكوت عنه المستفاد من إذنه الصريح الحاصلة في المنطوق به بالدلالة المفهوميّة، من باب مفهوم الموافقة المأخوذ فيها أولويّة الحكم في المسكوت عنه، لكون الوصف المناسب للحكم المنوط به الحكم في المنطوق به فيه آكد و أتم و أقوى منه في المنطوق به، سواء كانت الأولويّة في جانب التصرّف أو المتصرّف أو فيهما معا.

فالأوّل: كأن يأذن في جلوس عالم في منزله للتبرّك و التشرّف أي ليتبرّك به المنزل، فيدلّ على رضاه بصلاته بطريق أولى.

و الثاني: كأن يأذن لمسلم عامّي في الصلاة في منزله لغرض التبرّك أيضا، فيدلّ على رضاه بصلاة العالم الصالح مثلا بطريق أولى.

و الثالث: كأن يأذن في جلوس عامّي صالح في منزله للتبرّك أيضا، فيدلّ على رضاه بصلاة العالم الصالح بطريق أولى، فالضابط كون الحكم في المنطوق واردا لمعنى مناسب موجود في المسكوت عنه على وجه أتمّ و أكمل.

و يشكل كون مرادهم بإذن الفحوى هو هذا المعنى بعدم مساعدة المثال الّذي ذكروه عليه، إذ ليس في إدخال الضيف المنزل إلاّ كونه فعلا من المالك يكشف عن رضاه بصلاة الضيف في المنزل كشفا علميّا، من دون أن يكون هنا لفظ و لا وصف مناسب انيط به الإذن في محلّ النطق موجود في غير محلّ النطق على وجه أتمّ و أكمل، و قضيّة ذلك أن يكون مرادهم بإذن الفحوى إذن المالك و رضاه بالتصرّف الخاصّ كالصلاة مثلا لعموم المتصرّفين أو لمتصرّف خاصّ المدلول عليه بفعل أو قول صادر من المالك، و لو كان ذلك القول إذنه

ص: 624


1- الشرائع 71:1.
2- المسالك 170:1.
3- المدارك 216:3.

في غير هذا التصرّف أو لغير ذلك المتصرّف من دون أن يصرّح المالك بالإذن في التصرّف الخاصّ أو للمتصرّف الخاصّ لا خصوصا و لا عموما.

و ممّا يرشد إلى إرادة هذا المعنى قرينة المقابلة بين إذن الفحوى و الإذن الصريح، بناء على كون الصراحة في الإذن الصريح وصفا للإذن لا التصرّف و لا المتصرّف كما عرفت، فإذن الفحوى حينئذ هو ما لم يصرّح المالك بالإذن و الرضا في هذا التصرّف أو لهذا المتصرّف لا خصوصا و لا عموما، فيندرج فيه المثال الّذي ذكره في الشرائع(1) فإنّ الإذن في الكون في المنزل بالمعنى الّذي هو من لوازم الجسم يدلّ عرفا على رضاه بصلاة هذا المأذون له فيه و إن لم يكن الصلاة من أفراد الكون المأذون فيه فلا اعتراض عليه.

و بالجملة يظهر من أمثلتهم لإذن الفحوى عدم كون بنائه هنا على الفحوى بالمعنى المصطلح الاصولي، و عليه فيعتبر في الدلالة المذكورة أن تكون قطعيّة فيما إذا استندت إلى فعل المالك و أمّا ما يستند إلى قوله فإن كان من الدلالات اللفظيّة المقصودة و لو بحسب العرف فيكفي فيها كونها ظنّيّة لحجّيّة دلالات الألفاظ و لو ظنّيّة من باب الظنّ الخاصّ ، و إلاّ فيعتبر فيه أيضا كونها قطعيّة على ما ستعرف.

و أمّا الإذن بشاهد الحال فهو على ما ذكره في الشرائع(2) و غيره(3) أن يكون هناك أمارة تشهد بعدم كراهة خصوص التصرّف الخاصّ كالصلاة مثلا، و حيث إنّ الأمارة في مصطلحهم عبارة عمّا يفيد الظنّ ، فيدلّ ذلك على أنّ المحقّق و غيره ممّن أخذ شهادة الأمارة في شاهد الحال كأن يكتفي بالظنّ برضا المالك المستند إلى أمارة، إلاّ أن يحمل الأمارة في كلامهم على إرادة ما يفيد القطع كما عن بعضهم(4) و هو احتمال لا شاهد عليه، إذ لم يعلم إجماعهم على عدم كفاية الظنّ بإذن المالك في خصوص التصرّف الصلاتي المستند إلى أمارة.

و عليه فوجه الاكتفاء بالظنّ هنا إمّا من جهة أنّ الظنّ في الموضوعات الخارجيّة حجّة إلاّ ما قام الدليل بخلافه، أو من جهة اعتضاد هذا الظنّ بالخصوص بالأصل و هو أصالة عدم كراهة المالك بناء على أنّ الرضا عبارة عن عدم الكراهة عمّن من شأنه الكراهة، أو من جهة قيام دليل خاصّ على هذا الظنّ بخصوصه و هو السيرة القطعيّة كما ادّعاها بعضهم(5)

ص: 625


1- الشرائع 71:1.
2- الشرائع 71:1.
3- كما في الرياض 253:3، كفاية الأحكام: 16، البحار 281:83، الذخيرة: 238.
4- كما في المدارك 216:3، الذخيرة: 238.
5- كما في الجواهر 467:8.

فيكون من الظنون الخاصّة المخرجة عن أصالة عدم حجّيّة الظنّ في الموضوعات.

و في الكلّ ما ترى:

أمّا الأوّل: فلأنّ القول بحجّيّة الظنّ في الموضوعات خلاف التحقيق.

و أمّا الثاني: فلأنّه لو كان أصالة عدم الكراهة أصلا يعوّل عليه لجاز التعويل عليه في المقام بلا انضمام الأمارة إليه، و لم يكن في إحراز الإذن حاجة إلى تكلّف تحصيل الأمارة كيف و هو من الاصول الغير المعتبرة بالإجماع بل الضرورة، لأنّه لو اعتبر لأمكن التوصّل به إلى حلّ التصرّف في أملاك الناس و أموالهم، و أنّه باطل بالضرورة.

و أمّا الثالث: فلمنع قيام دليل على هذا الظنّ بالخصوص، و السيرة القطعيّة المتوهّمة واضح المنع بالقياس إلى الأملاك الخاصّة من البيوت و الحجرات و البساتين المحوطة و ما ضاهاها. نعم ثبوتها في غير المذكورات من الصحاري المتّسعة و الدور المنهدمة و نحوها مع عدم لحوق ضرر على المالك بالتصرّف فيها مسلّم، لوجود أمارة الرضا، و عدم كراهة المالك في الجميع. فالأقوى عدم كفاية الأمارة الظنّيّة في إذن شاهد الحال، بل لا بدّ من كونها قطعيّة، و لعلّه المشهور.

أمّا المكان المغصوب ففيه مسائل:
المسألة الاولى: يحرم الصلاة في المكان المغصوب قولا واحدا للعلماء كافّة،

و في المنتهى «أجمع عليه كلّ من يحفظ عنه العلم»(1) و في المدارك «أجمع العلماء كافّة عليه»(2) إلى غير ذلك من الإجماعات الّتي بكثرتها تفيد القطع بالحكم.

و أمّا بطلانها فيه: فهو إجماع علمائنا كافّة(3) و الإجماعات المنقولة عليه أيضا متكاثرة، احتجّوا عليه على ما في المدارك و غيره «بأنّ الحركات و السكنات الواقعة في المكان المغصوب منهيّ عنها كما هو المفروض فلا يكون مأمورا بها، ضرورة استحالة كون الشيء الواحد مأمورا به و منهيّا عنه»(4) و هو في غاية المتانة.

و تمام الكلام في تحقيق مسألة امتناع اجتماع الأمر و النهي، و تحرير دليله و النقوض و الإبرامات الواردة عليه حرّرناه مشروحا في الاصول، و ظنّي أنّ المقام بعد تحقيق المسألة في الاصول لا يحتاج هنا إلى مزيد إطناب مع كون الحكم على ما عرفت إجماعيّا.

ص: 626


1- المنتهى 297:4.
2- المدارك 217:3.
3- كما في النهاية: 100، السرائر 270:1، الجامع للشرائع: 68، القواعد 258:1، نهاية الإحكام 340:1.
4- المدارك 217:3.

فظهر أنّ من شرط صحّة الصلاة إباحة المكان على معنى كونه مملوكا أو مأذونا فيه، بلا فرق بين اليوميّة و غيرها من الفرائض و لا بين الفرائض و النوافل. خلافا للمحقّق على ما حكي(1) عنه من تجويزه النافلة في المكان المغصوب «تعليلا بأنّ الكون ليس جزءا منها و لا شرطا»(2) و لعلّه نظر إلى أنّ الأفعال الواقعة فيه - من القيام و الركوع و السجود و غيرها - و إن كانت منهيّا عنها فتبطل، إلاّ أنّ بطلانها لا يوجب بطلان أصل النافلة، لعدم كونها من ماهيّة النافلة و لا أنّها معتبرة فيها، و لذا يجوز فعلها ماشيا مومئا و لو اختيارا بخلاف الفريضة، فلا يبقى معها بعد بطلان هذه الأفعال بالنهي إلاّ الكون اللغوي اللازم للجسم، و هو أيضا ليس جزءا و لا شرطا شرعيّا للصلاة.

و يزيّفه: أنّ الأفعال المذكورة و إن لم تكن معتبرة في ماهيّة النافلة، و لكنّها معتبرة في الفرد و هو الّذي يؤتى به حال الاستقرار المقابل للمشي، فإنّها حينئذ كالاستقبال معتبرة فيه، فبطلانها يوجب بطلانها جزما، مع أنّ من أجزاء الصلاة فرضا و نقلا القراءة و الأذكار الواجبة، و لا يتأتّى هذه إلاّ بتحريك اللسان و الشفتين ضمّا و فرجا، و هذا التحريك تصرّف في الهواء الداخل في الفم الّذي هو تبعا لملك الرقبة ملك لمالكها فيكون منهيّا عنه.

و من ذلك ظهر أنّه لا جدوى لتنزيل كلام المجوّز إلى صورة اختيار فعل النافلة في المكان المغصوب ماشيا، لا للخروج المأمور به فإنّها حينئذ لا بدّ و أن تقع صحيحة، إذ ليس فيها ممّا نهى عنه إلاّ الكون و هو ليس جزءا و لا شرطا، فمعنى جواز النافلة في المكان المغصوب أنّه يمكن وقوعها صحيحة في بعض فروضها، لا أنّها صحيحة في جميع الفروض، لأنّه لو سلّم عدم البطلان من هذه الجهة لا نسلّمه من جهة بطلان القراءة و الأذكار الواجبة.

و دعوى: أنّها أيضا خارجة عن حقيقة النافلة، ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه، إذ ليست حقيقتها عبارة عن مجرّد النيّة و الإخطار و غيرهما من الأفعال القلبيّة و لو مع الاختيار.

ثمّ عن العلاّمة في النهاية «أنّه لو أدّى الزكاة و قرأ القرآن المنذور في المكان المغصوب لم يجزئاه، أمّا الصوم فيه فصحيح لأنّه لا مدخل للكون»(3).

أقول: وجه الصحّة في الصوم واضح، لأنّه عبارة عن عدّة تروك لا تتضمّن فعلا يكون تصرّفا في ملك الغير، و لئن أرجعناها إلى أمر وجودي و هو الكفّ عن المفطرات أيضا لا يصدق عليه التصرّف، فلا يبقى معه ممّا نهي عنه إلاّ الكون و هو خارج عن حقيقته.

ص: 627


1- حكاه في كشف اللثام 274:3.
2- المعتبر 109:2.
3- نهاية الإحكام 342:1.

و أمّا عدم الصحّة في الزكاة و القراءة فغير واضح، و عزي القول بالبطلان في القراءة المنذورة إلى الدروس(1) و الموجز الحاوي(2) و الروض(3) و المقاصد العليّة(4) و لعلّ وجهه في القراءة ما أشرنا إليه في قراءة النافلة، من أنّ حقيقتها تحريك اللسان و ضمّ الشفتين و انفراجها، و هو تصرّف في الهواء المملوك للغير بدون إذنه فيكون غصبا منهيّا عنه.

و يمكن توجيه البطلان في الزكاة بأنّه دفع مال مخصوص إلى المستحقّ مقرون بالنيّة، و هذا الدفع من فعل الجارحة يقع في الهواء فيكون منهيّا عنه.

و يشكل بأنّ الدفع ليس هو ما يصدر من اليد بل هو أمر قلبي محقّقه أو كاشفه فعل الجارحة، فالنهي متعلّق بأمر خارج لا بنفس العبادة الّتي هي أمر قلبي و هو التخلية بين المال و المستحقّ و رفع المنع عنه، و لذا يتحقّق الدفع بأمر المالك المستحقّ بأخذ مال له موضوع على الأرض بقوله «خذ هذا زكاة» مقرونا بالنيّة.

فالمتّجه في الزكاة عدم البطلان و نحوه الخمس و الكفّارة، و أولى من الجميع في عدم البطلان أداء الدين وفاقا للمحكيّ عن نهاية(5) الإحكام و الدروس(6) و الموجز(7) فما عن الروض(8) و المقاصد العليّة(9) من التردّد في غير محلّه.

و أمّا الوضوء و نحوه الغسل، فالّذي صرّح به في المدارك(10) تبعا للمعتبر(11)و جماعة(12) صحّته في المكان المغصوب، تعليلا بأنّ المنهيّ عنه فيه هو الكون في المكان و هو ليس بجزء من الوضوء و لا شرط له.

و ربّما فصل في الوضوء بين غسلاته فلا يبطل - لأنّ الغسل الّذي هو جزء للوضوء عبارة عن إجراء الماء على الأعضاء الثلاث و إمرار اليد و نحوه إن احتيج إليه أمر خارج عن الوضوء و هو المنهيّ عنه لا غير - و مسحاته فتبطل، لأنّ المسح الّذي هو جزء آخر من العبادة، عبارة عن إمرار اليد على المواضع الثلاث، و هو تصرّف في فضاء الغير، فالنهي متعلّق بجزء العبادة فتبطل لأجل ذلك. و يظهر الفائدة فيما لو أتى بغسلات الوضوء في المكان المغصوب ثمّ خرج منه و مسح فلا بدّ من الصحّة على الفرق المذكور، و هذا الكلام بالنسبة إلى الغسلات يجري في الغسل أيضا.

ص: 628


1- الدروس: 153.
2- الموجز الحاوي: 70.
3- روض الجنان 587:2.
4- المقاصد العليّة: 184.
5- الدروس: 153.
6- نهاية الإحكام 342:1.
7- الموجز الحاوي: 70.
8- روض الجنان 578:2.
9- المقاصد العليّة: 184.
10- المدارك 218:3.
11- المعتبر 109:2.
12- كما في حبل المتين: 858، المنتهى 298:4.

و يشكل الجميع بأنّ المدار في موضوعات الأحكام على الصدق العرفي لا على الدقّة الفلسفيّة، و لا ريب أنّه يصدق على فعل الوضوء في المكان المغصوب أنّه تصرّف في ملك الغير على معنى كون أصل الوضوء تصرّفا، فليتأمّل.

هذا مع إمكان إبطاله باعتبار مقدّمة الحرام، بأن يقال: إنّ صبّ الماء المنفصل عن الأعضاء حين الغسل على أرض الغير و حركة هذا الماء حين النزول في الهواء تصرّف في ملك الغير فيكون محرّما، و هو مسبّب عن الوضوء فيكون محرّما للمقدّميّة، و معه لا يكون مأمورا به فيبطل، إذ لا فرق في امتناع اجتماع الأمر و النهي بين النهي النفسي و النهي الغيري المقدّمي. فالوجه في الوضوء و الغسل البطلان.

[المسألة الثانية: في حكم الجاهل و الناسي بالغصبيّة]

المسألة الثانية: في حكم الجاهل و الناسي، أمّا الأوّل: فإن كان جاهلا بالموضوع - و هو الغصبيّة - فلا ينبغي التأمّل في معذوريّته تكليفا و وضعا فلا إثم عليه و صحّت صلاته، و في المدارك «أنّه موضع وفاق»(1) و وجهه أنّه بجهله يدخل في عنوان الغافل و خطاب الغافل قبيح عقلا، فالنهي المقتضي للإثم و البطلان لم يتوجّه إليه.

و إن كان جاهلا بالحكم تكليفا و هو التحريم أو وضعا و هو البطلان أو هما معا مع علمه بالغصبيّة فالمعروف بين الأصحاب(2) أنّه غير معذور، و في المدارك «أنّه قطع الأصحاب به»(3) خلافا للمحقّق الأردبيلي(4) فعذّره. و الأوّل أقوى، لتوجّه النهي إليه بتحقّق شرط تنجّز التكليف في حقّه، و هو العلم الإجمالي المقرون بالتمكّن من العلم التفصيلي فيأثم و تبطل صلاته، فيجب عليه الإعادة في الوقت و القضاء في خارجه.

و إن كان جاهلا بالموضوع و الحكم معا، فقد يقال: إنّ الظاهر من كثير من إطلاقاتهم - حيث حكموا بعدم معذوريّة الجاهل بالحكم - عدم كونه معذورا لصدق الجاهل بالحكم عليه.

و فيه: منع الإطلاق، لظهور الجاهل بالحكم في كلامهم بقرينة المقابلة لجاهل الموضوع في إرادة ما يقابل الجاهل بالموضوع و هو الجاهل بالحكم العالم بالموضوع، و لو سلّم هذا الإطلاق فيعارضه إطلاقهم في الجاهل بالموضوع بكونه معذور، فلا بدّ من إرجاع أحد الإطلاقين إلى الآخر، و المتعيّن إرجاع الأوّل إلى الثاني لكون دليله عقليّا غير قابل

ص: 629


1- المدارك 219:3.
2- كما في المنتهى 298:4، و كشف اللثام 275:3، البيان: 63، الروضة البهيّة 533:1.
3- المدارك 219:3.
4- مجمع الفائدة و البرهان 110:2.

للتخصيص، و هو قبح تكليف الغافل، فهذا الجاهل لجهله بالغصبيّة غافل.

مع أنّ كون الجاهل بالغصبيّة مع علمه بالحكم معذورا يقتضي معذوريّته مع الجهل بالحكم، لأنّ الجهل بالحكم إن لم يكن مؤكّدا لمعذوريّة هذا المكلّف فلا أقلّ من عدم كونه موهنا لها، و كونه آثما بتركه التعلّم مع أنّه خلاف التحقيق لا ينافي معذوريّته من حيث الغصب تكليفا و وضعا فلا يأثم لأجل تعرّضه الغصب و لا مقتضي لبطلان صلاته.

و أمّا الثاني: ففي عدم كونه معذورا مطلقا كما عن إرشاد العلاّمة(1) أو كونه معذورا كذلك كما في شرائع المحقّق(2) و غيره(3) بل و لعلّه المشهور، أو التفصيل بين التذكّر في الوقت فالإعادة أو في خارجه فعدم القضاء كما عن الشهيد(4). أقوال: خيرها أوسطها، لأنّه بطروء النسيان دخل في عنوان الغافل، و لا فرق في قبح خطابه بين ابتداء الخطاب و استدامته، فالغفلة كما أنّها دافعة للخطاب فكذلك رافعة له. و ليس للقول بعدم المعذوريّة إلاّ توهّم تفريطه في الحفظ فلا يعذر، و فيه منع اطّراد الصغرى و منع الكبرى حيث سلّمت الصغرى، إذ لا موجب لعدم معذوريّة الناسي حينئذ إلاّ قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، و هو خلاف التحقيق كما قرّرناه في محلّه.

نعم لو نسي الحكم مع تذكّره الغصبيّة فلا يبعد لحوقه بجاهل الحكم، مع إمكان منعه، لوضوح الفرق بين الجهل الابتدائي و الجهل الطارئ، لأنّ الأوّل لا يعدّ عذرا في نظر العقل، و لا يبعد كون الثاني عذرا.

[المسألة الثالثة: في أحكام الاضطرار إلى المكان المغصوب]

المسألة الثالثة: في أحكام الاضطرار إلى المكان المغصوب، و له صور:

الاولى: ما لو اضطرّ إلى الكون في المكان المغصوب بحبس و نحوه، فإنّه لا يكون منهيّا عن هذا الكون فلا يكون آثما ما دام الاضطرار بلا خلاف أجده، لقضاء العقل المستقلّ بقبح التكليف بغير المقدور و الأفعال الاضطراريّة ليست مقدورة و لو بسبب عدم القدرة على الترك، و لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رفع عن امّتي تسعة...»(5) و عدّ منها ما اضطرّوا إليه.

و لا إشكال في صحّة الصلاة فيه إن صلاّها في ضيق الوقت، و كذلك إن صلاّها في السعة مع القطع بعدم تخلّصه عن هذا المكان في تمام الوقت.

ص: 630


1- إرشاد الأذهان 247:1.
2- الشرائع 71:1.
3- كما في كشف اللثام 276:3، و المدارك 219:3.
4- الذكرى 49:3.
5- الوسائل 1/369:15، ب 56، جهاد النفس، الخصال: 9/417.

و أمّا مع القطع بتخلّصه فيما بعد أو الظنّ به أو رجائه ففي صحّة الصلاة و بطلانها وجهان:

من أنّ هذا الكون ليس منهيّا عنه للاضطرار إليه فلا تكون الصلاة معه منهيّا عنها، و من أنّ الصلاة فيه حينئذ تصرّف آخر زائد على الكون فيه و لم يحصل الاضطرار إليه فيكون منهيّا عنه، و هو الأوجه فيجب تأخير الصلاة إلى أن يخرج أو يتضيّق الوقت.

الثانية: ما لو توسّط دار غيره غصبا فهو مأمور بالعقل و الشرع بالتخلّص عن الغصب، و طريقه المعتاد إنّما هو الخروج فيكون مضطرّا إليه اضطرارا شرعيّا من باب الاضطرار إلى فعل المقدّمة للتوصّل إلى امتثال الأمر بذي المقدّمة، فلا يكون منهيّا عن الخروج، و إلاّ لزم كون أحد التكليفين من الأمر بالتخلّص و المنع عن الخروج تكليفا بغير المقدور، لكون المنع عن الخروج مانعا شرعيّا عن امتثال الأمر بالتخلّص، و الأمر بالتخلّص مانعا شرعيّا عن امتثال المنع عن الكون، و المانع الشرعي كالمانع العقلي في منع صحّة التكليف بالممنوع الّذي يعبّر عنه بالممتنع، فلا محيص من التزام انتفاء أحدهما حذرا عن التكليف بالممتنع، و حيث إنّ الأمر ثابت قطعا تعيّن الالتزام بانتفاء النهي، فهذا تصرّف مأذون فيه من الشارع.

هذا مع إمكان القول بعدم موجب للنهي عن الخروج باعتبار كونه تخلّصا عن الغصب، لقيام الشاهد الحال القطعي بكون هذا الخروج تصرّفا مأذونا فيه من المالك، للعلم الضروري بأنّ كلّ مالك في ملكه المغصوب راض بخروج الغاصب عنه بعنوان التخلّص و رفع اليد عن ملكه، بل هو بحسب ما في ضميره طالب له حتما غير راض بتركه، و معه لا يعقل كونه كارها له.

فهذا التصرّف باعتبار الإذن المعلوم بشاهد الحال القطعي ليس غصبا لينظر في حكمه من حيث صحّة النهي عنه و عدمها. و في المسألة بالقياس إلى هذا الخروج المأمور به قولان آخران شاذّان زيّفناهما في الاصول.

ثمّ المأمور بالخروج ان أراد الصلاة فيه قبل الخروج فلا ينبغي التأمّل في تحريمها و بطلانها، لأنّها تصرّف غير مأذون فيه. نعم إذا كان الوقت مضيّقا و هو آخذ في الخروج صحّت صلاته حال الخروج مع وجوبها في هذه الحال و يومئ للركوع و السجود، بخلاف ما لو كان الوقت متّسعا فلا تصحّ الصلاة في هذه الحال أيضا، لعدم جواز فعل الفريضة

ص: 631

ماشيا بلا ضرورة دعت إليه و لا ضرورة هنا، نعم لا بأس بفعل النافلة في هذه الحالة، لجواز فعلها ماشيا و لو اختيارا.

و يبقى الكلام فيما في كلام جماعة - منهم صاحب المدارك - من اعتبار شروط هنا للخروج، كما أشار إليها في المدارك بقوله: «و لا يخفى أنّ الخروج من المكان المغصوب واجب مضيّق، و لا معصية فيه إذا خرج بما هو شرط في الخروج من السرعة و سلوك أقرب الطرق و أقلّها ضررا»(1) و وجه الأخير واضح لعموم النهي عن إضرار الغير، بدون إذنه على القدر المقطوع به.

و يشكل بأنّ الخطاب بالخروج ينزّل من حيث الكيفيّة و الطريق على الوجه المتعارف، فلا ضرورة دعت إلى مراعاة السرعة و أقرب الطرق إن كان المتعارف غيرهما، و لو جعلنا الخروج خارجا عن الغصب موضوعا باعتبار شهادة الحال بالإذن فيه من المالك كما نبّهنا عليه، فعدم اعتبار الضيق اللازم من اعتبار الشرطين أوضح.

الثالثة: ما لو حصل إنسان في ملك غيره بإذنه ثمّ أمره بالخروج أو منعه من البقاء، وجب عليه الخروج بلا مهلة، للنهي الناشئ من منع المالك. و لا يسوغ له الصلاة مع الاستقرار و لا حال الخروج إن كان الوقت واسعا لما مرّ في المسألة السابقة، و إن تضيّق الوقت خرج متشاغلا بالصلاة جمعا بين امتثالي الأمرين بالخروج و بالصلاة، هذا إذا كان الأمر بالخروج قبل التلبّس بالصلاة.

و أمّا إذا كان بعده ففي وجوب الإتمام مع الاستقرار كما عن الذكرى(2) و البيان(3) عملا باستصحاب الصحّة، و عموم حرمة إبطال العمل، و أنّ الصلاة على ما افتتحت عليه.

أو وجوب القطع مع السعة و الخروج متشاغلا مع الضيق كما عن ظاهر إطلاق الشيخ(4)و المحقّق(5) و اختاره صاحب المدارك(6) عملا بالنهي المنافي للصحّة في الأوّل، و جمعا بين الحقّين في الثاني.

أو وجوب إتمام الصلاة مستقرّا مطلقا إن كانت الإذن صريحة في خصوص الصلاة

ص: 632


1- المدارك 219:3.
2- الذكرى 79:3.
3- البيان: 64.
4- المبسوط 85:1.
5- المعتبر 110:2.
6- المدارك 220:3.

و القطع مع السعة و الخروج متشاغلا مع الضيق إن كانت مطلقة أي في مطلق الكون كما عن أكثر كتب العلاّمة(1) و ثاني الشهيدين في المسالك(2) أقوال.

أقواها في النظر أوّلها، لا للاستصحاب المشار إليه لبطلان استصحاب الصحّة عندنا - على ما حقّقناه في محلّه - و لا لحرمة إبطال العمل للشكّ في صدق الإبطال في مفروض المقام على القطع و معه لا يتناوله العموم، و لا لكون الصلاة على ما افتتحت لأنّه إنما يقتضي الصحّة أو وجوب الإتمام حيث لم يطرأها مفسد أو لم يشكّ في طروئه و النهي مفسد فإذا شكّ في طروئه فالصلاة على ما افتتحت لا ينفيه و لا يقتضي عدمه، كما هو واضح.

بل لأنّ منع المالك ما لم يؤثّر في توجّه النهي عن التصرّف المتحقّق ببقيّة الصلاة لم يؤثّر في البطلان، لأنّ المؤثّر في البطلان هو النهي لا مجرّد منع المالك. و كونه مؤثّرا في توجّه النهي فيما نحن فيه مع سبق الأمر بالإتمام و النهي عن الإبطال عليه غير معلوم، فيستصحب عدم النهي إلى الفراغ عن الصلاة المتشاغل بها.

و توهّم: كون الأمر بالإتمام كالنهي عن الإبطال مشروطا بعدم منع المالك فقد انتفى الشرط بحصول المنع.

يدفعه: منع كونه مشروطا بعدم منع المالك بل إنّما كان مشروطا بعدم نهي الشارع و حصوله مشكوك فيه، فيستصحب الشرط المتحقّق قبل المنع و هو عدم النهي.

و توهّم: أنّ بناء الشارع على تقديم حقوق الآدميّين على حقوقه، و قضيّة هذه القاعدة توجّه النهي عن التصرّف فيما بعد منع المالك و سقوط الأمر بالإتمام و النهي عن الإبطال.

يدفعه: أنّ هذه القاعدة إنّما تسلّم حيث لم يسبق التلبّس بأداء حقّ اللّه، و مفروض المسألة سبقه على منع المالك، و كون بناء الشارع على تقديم حقّ الآدمي على حقّه حتّى في نحو هذه الصورة غير واضح.

و توهّم: أنّ النهي عن التصرّف في ملك الغير من غير إذنه المدلول عليه بالعقل و النقل عامّ ، و عمومه يتناول ما نحن فيه لاندراجه في عنوان التصرّف في ملك الغير بغير إذنه، و معه لا يتّجه التمسّك بالاستصحاب المذكور لتصحيح هذه الصلاة، لرجوعه إلى تخصيص

ص: 633


1- كما في التذكرة 399:3، التحرير 209:1، نهاية الإحكام 342:1.
2- المسالك 172:1.

العامّ بالاستصحاب، و هو غير سائغ على ما حقّق في محلّه.

يدفعه: منع عموم في النهي المذكور بحيث يتناول التصرّف المسبوق بالأمر بالإتمام و النهي عن الإبطال، خصوصا إذا استفيد النهي المذكور من عقل أو إجماع، لضابطة أنّ الدليل اللبّي إذا طرأه جهة إجمال يقتصر فيه على القدر المتيقّن، و ما نحن فيه ليس منه.

فالقول بوجوب إتمام الصلاة المشغول بها حال منع المالك في غاية القوّة، لكنّ الاحتياط بإعادة هذه الصلاة بعد الخروج عن المكان ممّا لا يترك.

[المسألة الرابعة: لو كان سقف البيت مغصوبا و نحوه الخيمة المغصوبة]

المسألة الرابعة: لو كان سقف البيت مغصوبا و نحوه الخيمة المغصوبة، فكونه منهيّا عن الكون تحتهما مبنيّ على صدق التصرّف فيهما عليه، و حيث إنّ التصرّف بالنسبة إلى كلّ شيء على حسبه، و الكون تحتهما انتفاع بهما باعتبار التحفّظ عن الحرّ و البرد و المطر و نحوه، و الانتفاع بهما تصرّف فيهما عرفا، فيكون الكون باعتبار أنّه انتفاع و الانتفاع تصرّف منهيّا عنه.

و هل تبطل الصلاة تحتهما أيضا؟ مبنيّ على كونها انتفاعا آخر بهما زائدا على الانتفاع الكوني ليصدق عليها التصرّف فيهما، و هو مشكل، بل الأظهر عدمه. فالأجود صحّة الصلاة، لعدم كونها منهيّا عنها.

و على هذا القياس ما لو كان جدران البيت أو أحد جدرانها أو بعض من أحد جدرانه أو سقفه مغصوبا و لو كان آجرا أو لبنة أو خشبة منصوبة عليه أو داخلة فيه، فإنّ الأقرب في الجميع صحّة الصلاة، لعدم صدق كونها تصرّفا في هذه الأشياء، و لا انتفاعا بها زائد على ما حصل بالكون في البيت. و كذا الكلام في الحمّام إذا كان خزانته أو بيت ناره أو بيت تنويره غصبا. لكنّ الأحوط في الجميع ترك الصلاة و تأخيرها إلى أن يخرج.

[المسألة الخامسة: يجوز للمالك أن يصلّي في ملكه المغصوب]

المسألة الخامسة: يجوز للمالك أن يصلّي في ملكه المغصوب لانتفاء النهي بالنسبة إليه، و كذا لمن أذن له المالك و إن كان هو الغاصب لو أذنه في الصلاة صريحا، و أمّا لو عمّم أو أطلق في الإذن من دون أن يذكر الغاصب صريحا ففي شمول الإذن له إشكال، أظهره المنع، لشهادة الحال بأنّ المالك يكرهه و يكره تصرّفاته.

ص: 634

المبحث الثاني في حكم المكان من حيث محاذاة المرأة للرجل أو تقدّمها عليه حال كونهما في الصلاة بحيث لا يكون بينهما حائل و لا بعد عشرة أذرع
اشارة

و قد اختلف الأصحاب في ذلك بين قائل بالتحريم و بطلان صلاتيهما - كما عن الشيخين فقالا «لا يجوز أن يصلّي الرجل و إلى جانبه امرأة تصلّي سواء صلّت بصلاته مقتدية به أو لا، فإن فعلا بطلت صلاتهما»(1) و كذا إن تقدّمته، و عزي المصير إليه إلى ابن حمزة(2) و أبي الصلاح(3) أيضا، و نسبه في الرياض(4) إلى أكثر القدماء ناسبا إلى الخلاف(5)و الغنية(6) دعوى الإجماع عليه - و ذاهب إلى الجواز على كراهية كما عن المرتضى في المصباح(7) و ابن إدريس(8) و أكثر المتأخّرين(9).

حجّة الأوّلين عدّة روايات، كموثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه سئل عن الرجل يستقيم أن يصلّي و بين يديه امرأة تصلّي ؟ قال: لا يصلّي حتّى يجعل بينه و بينها أكثر من عشرة أذرع، و إن كانت عن يمينه و يساره جعل بينه و بينها مثل ذلك، فإن كانت تصلّي خلفه فلا بأس، و إن كانت تصيب ثوبه و إن كانت المرأة قاعدة أو قائمة في غير صلاة فلا بأس حيث كانت»(10).

ص: 635


1- المقنعة: 152، المبسوط 86:1، النهاية: 101.
2- الوسيلة: 89.
3- الكافي في الفقه: 120.
4- الرياض 9:3.
5- الخلاف 423:1.
6- الغنية: 82.
7- المصباح، نقله عنه فى السرائر 267:1.
8- السرائر 267:1.
9- كما في الشرائع 71:1، المعتبر 110:2، نهاية الإحكام 349:1، القواعد 258:1، الذكرى 82:3، البيان: 130، المدارك 221:3.
10- الوسائل 1/128:5، ب 7 مكان المصلّي، التهذيب 911/231:2.

و صحيحة محمّد عن أحدهما عليهما السّلام «قال: سألته عن المرأة تزامل الرجل في المحمل يصلّيان جميعا؟ فقال: لا، و لكن يصلّي الرجل فإذا فرغ الرجل صلّت المرأة»(1).

و صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام قال: «سألته عن إمام كان في الظهر فقامت امرأته بحياله تصلّي معه و هي تحسب أنّها العصر، هل يفسد ذلك على القوم ؟ و ما حال المرأة في صلاتها معهم و قد كانت صلّت الظهر؟ قال: لا يفسد ذلك على القوم. و تعيد المرأة»(2).

و مستند الآخرين بعد الأصل و إطلاق الأمر بالصلاة المقتضي للجواز و الإجزاء إلاّ ما خرج بالدليل، و خصوص(3) روايات معتبرة:

مثل صحيحة جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس أن تصلّي المرأة بحذاء الرجل و هو يصلّي»(4).

و روايته أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الرجل يصلّي و المرأة تصلّي بحذاه ؟ قال: لا بأس»(5).

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا كان بينها و بينه قدر ما يتخطّى أو قدر عظم الذراع فصاعدا فلا بأس صلّت بحذائه وحدها»(6).

و صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه سأله عن الرجل و المرأة يصلّيان في بيت واحد؟ فقال: إذا كان بينهما قدر شبر صلّت بحذاه وحدها و هو وحده لا بأس»(7).

و صحيحة عبد اللّه بن أبي يعفور قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: اصلّي و المرأة إلى جنبي و هي تصلّي ؟ فقال: لا، إلاّ أن تتقدّم هي أو أنت، فلا بأس أن تصلّي و هي بحذائك جالسة أو قائمة»(8).

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن المرأة تصلّي عند الرجل ؟ فقال:

ص: 636


1- الوسائل 2/124:5، ب 5 مكان المصلّي، التهذيب 907/231:2.
2- الوسائل 1/130:5، ب 9 مكان المصلّى، التهذيب 913/232:2.
3- كذا في الأصل، و الظاهر: خصوص.
4- الوسائل 4/122:5، ب 4 مكان المصلّى، الفقيه 749/159:1.
5- الوسائل 6/125:5، ب 5 مكان المصلّى، التهذيب 912/232:2.
6- الوسائل 8/125:5، ب 5 مكان المصلّى، الفقيه 748/159:1.
7- الوسائل 7/125:5، ب 5 مكان المصلّى، الفقيه 747/159:1.
8- الوسائل 4/124:5، ب 5 مكان المصلّى، التهذيب 909/231:2.

لا تصلّي المرأة بحيال الرجل إلاّ أن يكون قدّامها و لو بصدره»(1).

و صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام «في المرأة تصلّي عند الرجل ؟ قال: إذا كان ما بينهما حاجز فلا بأس»(2).

و صحيحة العلاء عن محمّد عن أحدهما عليهما السّلام قال: «سألته عن الرجل يصلّي في زاوية الحجرة و امرأته أو ابنته تصلّي بحذاه في الزاوية الاخرى ؟ قال: لا ينبغي ذلك فإن كان بينهما شبر أجزأه»(3).

و صحيحة حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في المرأة تصلّي إلى جنب الرجل قريبا منه ؟ فقال: إذا كان بينهما موضع رجل فلا بأس»(4) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و المتأمّل في هذه الأخبار يعطي كون القول الثاني أقوى و أظهر، لكون دلالاتها على الجواز و عدم الحرمة بطريق النصوصيّة، فإنّها بين صريح بنفي البأس الّذي هو نصّ في عدم المنع و التحريم و بين ما هو صريح بكفاية البعد بينهما بمقادير لا يجتزأ به المانعون من الخطوة و الذراع و الشبر و الصدر و الرجل و نحو ذلك، فيكون المجموع صريحا في نفي اعتبار التباعد بعشرة أذرع.

و غاية ما في روايات المنع - مع عدم كون ظاهر الموثّقة منها معمولا به - دلالتها عليه بطريق الظهور، و من الواجب تحكيم النصّ على الظاهر كوجوب تحكيم الأظهر عليه، فليحمل روايات المنع على الكراهة و مطلق المرجوحيّة بدون التباعد بعشرة أذرع، ثمّ يحمل التقييد بالمقادير المذكورة في أخبار الجواز على شدّة الكراهة بدون التباعد بها، و يكون اختلافها لاختلاف مراتب الكراهة و المرجوحيّة، إذ لم يقل أحد بالمنع بدونها و كفايتها في ارتفاع المنع.

لا يقال: ربّما يحكى(5) في المسألة قول بالمنع من محاذاة المرأة للرجل في الصلاة إلاّ مع البعد بينهما بقدر الذراع عن الجعفي، و من روايات الجواز صحيحة زرارة المتضمّنة

ص: 637


1- الوسائل 2/127:5، ب 6 مكان المصلّى، التهذيب 1582/379:2.
2- الوسائل 1/129:5، ب 8 مكان المصلّى، التهذيب 1553/373:2.
3- الوسائل 1/123:5، ب 5 مكان المصلّى، التهذيب 905/230:2.
4- الوسائل 11/126:5، ب 5 مكان المصلّى، الكافى 1/298:3.
5- الحاكي هو الشهيد في الذكرى 82:3.

لاعتبار الفصل بينهما بقدر «الخطوة أو عظم الذراع»(1) و هذا لا يدفع القول المذكور بل يساعد عليه، لأنّ هذا القول شاذّ فيكون مردودا بشذوذه، و مع ذلك يكفي في دفعه الروايات الاخر الناصّة بكفاية الفصل بأقلّ من الذراع.

لا يقال: هذه الروايات لا تنهض لدفع هذا القول و لا دفع القول بالمنع إلاّ مع الفصل بعشرة أذرع كما أنّ الصحيحة المشار إليها لا تنهض لدفعه لاحتمال كون المراد منها اعتبار تأخّر المرأة عن الرجل في المكان بالمقادير المذكورة، لأنّ جملة من هذه الروايات - كصحاح جميل و زرارة و معاوية بن وهب - لا تتحمّل هذا الحمل، لمكان التنصيص فيها بالمحاذاة، بل صحيحة ابن أبي يعفور المتضمّنة لقوله عليه السّلام: «إلاّ أن تتقدّم هي أو أنت» أيضا تأبى عن هذا الحمل و إلاّ جاز تقدّم المرأة على الرجل بحسب المكان و هم لا يقولون به بل يمنعونه. فلا بدّ و أن يحمل التقدّم هنا عليه من حيث الفعل فيه - أي الشروع فيه - فيكون هذا لضرب من الفضيلة لعدم قائل بلزومه.

مع أنّ حمل الروايات المذكورة على اعتبار تأخّر المرأة بالمقادير المذكورة فيها لا يوافق القول بالمنع إلاّ مع الفصل بعشرة أذرع، لظهور كلماتهم على ما قيل بعدم اكتفائهم في صورة التأخّر إلاّ بالتأخّر بقدر موضع السجود ممّا بين محلّ الجبهة و إبهامي الرجلين، بل هو صريح العبارة المحكيّة عن المفيد «تصلّي بحيث يكون سجودها تجاه قدميه في سجوده»(2) و هذا أيضا ظاهر موثّقة عمّار الناطقة بأنّها «إن كانت تصلّي خلفه فلا بأس و إن كانت تصيب ثوبه».

فإن قلت: إنّ العمدة من روايات القول بالجواز صحيحة جميل النافية للبأس مطلقا و دلالتها عليه عند التحقيق ضعيفة من وجهين، أحدهما: أنّ دلالتها على نفي اعتبار الفصل بعشرة أذرع إنّما هو بالإطلاق و هو قابل للتقييد، و الموثّقة المشار إليها المفصّلة بين الفصل بعشرة أذرع و عدمه تنهض لتقييده. و ثانيهما: أنّها مشتملة على تعليل لا يناسب الحكم الّذي اريد استفادته منها، لأنّ فيها «لا بأس أن تصلّي المرأة بحذاء الرجل و هو يصلّي، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي و عائشة مضطجعة بين يديه و هي حائض، و كان إذا أراد أن يسجد غمز برجليها فرفعت رجليها حتّى يسجد»(3) الخ، فإنّه يقتضي كون المراد من المحاذاة

ص: 638


1- الوسائل 13/126:5، ب 5 مكان المصلّي.
2- المقنعة: 152.
3- الوسائل 4/122:5، ب 4 مكان المصلي، الفقيه 749/159:1.

محاذاة المرأة للرجل ممّا بين يديه من غير أن تصلّي، فلا بدّ في تأليف التعليل مع الحكم المعلّل به من التزام أحد الأمرين في الرواية، من كون «تصلّي» مصحّفة من «تضطجع» كما ربّما يرشد إليه بعض النسخ من التعبير بهذه اللفظة مكان «تصلّي» أو عطف «و هو يصلّي» على مدخول «لا بأس» على أن تكون الواو عاطفة لا حاليّة، ليكون التقدير لا بأس أن يصلّي الرجل بحذاء المرأة، و على أيّ حال فالرواية خارجة عن موضوع المسألة.

قلت: احتمال التصحيف ينفيه الأصل، و شهادة بعض النسخ ينفيها أنّ الموجود في أصحّ النسخ و أشهرها إنّما هو «تصلّي» و العطف المذكور يأباه أنّ المعطوف جملة و المعطوف عليه باعتبار أن المصدريّة في معنى المفرد، فيلزم عطف الجملة على المفرد، مضافا إلى أنّ المعطوف في حكم المعطوف عليه، و «تصلّي» في جانب المعطوف عليه منصوب بأن فلا بدّ و أن يصحّ دخولها على «يصلّي» في المعطوف ليكون التقدير «لا بأس أن يصلّي الرجل بحذاء المرأة» و ضمير الفصل يأباه إلاّ أن يحكم بكونه زائدا أو كونه فاعلا ليصلّي قدّم عليه. و الكلّ تكلّف مخالف للأصل و لا ضرورة دعت إلى ارتكابه.

و توهّم: كون الداعي إليه التعليل الغير الملائم لظاهر الكلام، يدفعه، منع عدم الملائمة لجواز كون التعليل تنبيها على أنّه لا جهة تقتضي المنع من صلاتي الرجل و المرأة متحاذيين إلاّ محاذاة المرأة للرجل في حال صلاته، أو محاذاة الرجل للمرأة في حال صلاتها، و لا مدخليّة لكون هذه المحاذاة حاصلة في حال صلاتيهما معا أو كونها من أحد الجانبين، فلو كانت هناك جهة مانعة فإنّما هي نفس المحاذاة و إن حصلت من القدّام في غير حال صلاة أحدهما، و هي لا تصلح للمنع بدليل قصّة عائشة مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حال صلاته فليتأمّل.

ثمّ إنّ قضيّة إطلاق الفتاوي على القولين كما هو المصرّح به في كلام غير واحد(1) عدم الفرق في المرأة بين كونها صلّت بصلاته أو منفردة، و لا بين كونها أجنبيّة أو زوجة أو مملوكة أو غيرها من محارمه و هو قضيّة إطلاق أكثر الروايات أيضا و لو من حيث ترك الاستفصال.

ثمّ إنّ المسألة في كلام الأصحاب على القولين أيضا مطلقة، و مقتضى إطلاقها حرمة الصلاتين أو كراهتها مع المحاذاة أو تقدّم المرأة، سواء تقدّم أحدهما على الآخر أو اقترنا

ص: 639


1- كما في التذكرة 417:2، الذكرى 83:3، كشف الرموز 142:1، القواعد 259:1.

بتكبيرة الإحرام، و يشكل التحريم أو الكراهة بالنسبة إلى المتقدّم لسبق انعقاد صلاته فلا تقصير منه في المحاذاة أو تقدّم المرأة، فينبغي اختصاص النهي تحريما أو تنزيها بالمتأخّر.

و هل يبطل به صلاة المتقدّم على القول بالمنع و البطلان و إن لم يكن تحريم في حقّه وجهان ؟ مبنيّان على كون محاذاة المرأة للرجل في صلاتيهما أو تقدّمها عليه مانعا عن صحّة الصلاتين، ليكون عدمهما من قيود المأمور به و عدمه بل البطلان في موضع النهي لأجل النهي، و حيث لا نهي لا بطلان، و إثبات المانعيّة على الوجه المذكور على القول المذكور مشكل، و استبعده في جامع المقاصد(1) لعدم الدليل الدالّ عليه.

و ممّا ذكرنا ظهر حال ما لو صلّيا متحاذيين، أو مع تقدّم المرأة و لم يعلم أحدهما بالآخر، أو لمّا يعلما المحاذاة أو التقدّم أو نسياها عند الصلاة شروعا و ختما، فإنّ بطلان الصلاتين أو بطلان إحداهما إذا كان لمجرّد النهي لا الإخلال بشرط، فلا بطلان هنا، لقبح خطاب الغافل و تكليفه. و على تقدير المانعيّة المستلزمة لشرطيّة عدم المحاذاة و تقدّم المرأة، فمبنى البطلان و عدمه على كون هذا الشرط من الشروط الواقعيّة فيتساوى فيه العالم و الجاهل، أو العلميّة ليختصّ البطلان بالعالم بالحال. و في اختصاص البطلان بحالة الاختيار أو عمومه لحالة الاضطرار أيضا وجهان ؟ مبنيّان على اختصاص الشرطيّة بالمختار أو عمومه المضطرّ، و حيث إنّ المختار في أصل المسألة هو الكراهة و عدم البطلان رأسا فلا يهمّنا الخوض لتحقيق هذه الفروع.

نعم هاهنا فرع آخر ينبغي التعرّض له و هو أنّ المدار في الحرمة و الكراهة على صحّة الصلاتين معا لو لا المحاذاة على معنى عدم بطلانهما من جهة اخرى فلو بطلتا أو بطلت إحداهما لا حرمة و لا كراهة فتصحّ الصلاة الاخرى في الصورة الثانية، و مرجعه إلى اشتراط بطلان صلاة الرجل مثلا أو كراهتها بصحّة صلاة المرأة لو لا المحاذاة و بالعكس وفاقا للقواعد(2) و التذكرة(3) كما عن الذكرى(4) و البيان(5) و كشف الالتباس(6) و غاية المرام(7) و جامع المقاصد(8) و الجعفريّة(9) و إرشادها(10) و حاشية الإرشاد(11) و حاشية(12)

ص: 640


1- جامع المقاصد 121:2-122.
2- القواعد 259:1.
3- التذكرة 417:2.
4- الذكرى 82:3.
5- البيان: 64.
6- كشف الالتباس: 100.
7- غاية المرام 137:1.
8- جامع المقاصد 123:2.
9- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 102:1.
10- المطالب المظفّريّة: 74.
11- حاشية الإرشاد: 24.
12- نقله عنه في مفتاح الكرامة 167:6.

الميسي و فوائد القواعد(1) و المسالك(2) و المدارك(3) و غيرها(4). و عن صريح البحار(5) نسبته إلى الأكثر، لأنّها المتبادر من إطلاق الصلاة في الفتاوي و النصوص، فإنّ الظاهر المنساق منها فيهما الصلاة الّتي خوطب بها كلّ من الرجل و المرأة و امرا بالإتيان بها، و لا تكون إلاّ صحيحة جامعة لشرائط الصحّة، لامتناع خطاب الشارع و أمره بالفاسدة، مع أنّه لو كانت صلاة أحدهما باطلة كان وجودها كعدمها فكأنّه لا يصلّي، و قد حاذاه الآخر في صلاته الصحيحة، و هذا لا يؤثّر بالنسبة إلى هذه الصلاة منعا و لا كراهة و لا بطلانا.

و قد يحتمل إرادة الأعمّ كما في جامع المقاصد(6) و عن الإيضاح(7) و الروض(8) استنادا إلى غلبة إطلاق الصلاة على الفاسدة و امتناع تحقّق الشرط عند بطلان الصلاتين، و لا يجدي التقدير بلولا المحاذاة.

و فيه: أنّ غلبة الإطلاق على القول بالأعمّ مسلّمة، و هي لا تنافي التبادر الإطلاقي المدّعى في جانب الصحّة باعتبار قرينة المقام، كما أنّه يتبادر منها الصحّة في خبر طلب الشارع، و المانع من تحقّق الشرط و هو الصحّة إنّما هو البطلان السابق على النهي الناشئ عن المحاذاة المقتضي للبطلان، لا البطلان اللاحق الناشئ من هذا النهي.

و إن شئت قلت: إنّ المراد من الصحّة المجعولة شرطا للحرمة و الكراهة إنّما هو عدم بطلان الصلاتين من جهة اخرى غير المحاذاة المؤثّرة في النهي المقتضي للبطلان على معنى عدم موافقة الأمر.

و بهذا ظهر اندفاع مغالطة أمكن إيرادها في المقام، و هو أنّ وجود صحّة الصلاتين يستلزم انتفاء النهي، و وجود النهي يستلزم انتفاء الصحّة، فالصحّة مع النهي لا يجتمعان، و مرجعه إلى استلزام وجود الصحّة عدمها و هو محال. و وجه الاندفاع أنّ الصحّة بمعنى عدم بطلان الصلاتين من غير جهة المحاذاة يجامع النهي بالضرورة.

ثمّ إن صحّت الصلاتان في الواقع مع علم كلّ منهما بصحّة صلاة صاحبه فلا إشكال في الحرمة و الكراهة على القولين و البطلان على القول الأوّل، و إن فسدتا مع علمهما بالفساد

ص: 641


1- فوائد القواعد: 51.
2- المسالك 172:1.
3- المدارك 224:3.
4- كما في كشف اللثام 286:3.
5- بحار الأنوار 336:83.
6- جامع المقاصد 123:2.
7- إيضاح الفوائد 89:1.
8- روض الجنان 604:2.

فلا إشكال في عدم الصحّة و انتفاء النهي تحريما و تنزيها، و إن صحّتا في الواقع مع اعتقاد كلّ فساد صلاة الآخر فالوجه فيه صحّة الصلاة على تقدير تحقّق القربة مع الاعتقاد المذكور و انتفاء الحرمة و الكراهة لقبح تكليف الغافل، و لو انعكس الأمر ببطلان الصلاتين في الواقع مع اعتقاد كلّ بصحّة صلاة الآخر فلا إشكال في البطلان.

و هل يثبت هنا الحرمة و الكراهة ؟ فيه وجه مبنيّ على كون الاعتقاد مؤثّرا في حدوث الحكم، و هو خلاف التحقيق.

و أمّا لو شكّ كلّ منهما في صحّة صلاة الآخر فالأقرب جواز الدخول لكلّ منهما في الصلاة بلا حرمة و كراهة، لأصالة البراءة عن التكليف المشكوك فيه في الموضوع الخارجي المشتبه بشبهة موضوعيّة.

إلاّ أن يقال: بأنّ المرجع في نحو الصورة المفروضة إنّما هو أصالة الصحّة في فعل المسلم، و هي أصل موضوعي وارد على أصل البراءة، فلا بدّ أن يبني كلّ منهما على صحّة صلاة صاحبه، و لزمها الحرمة أو الكراهة من جهة المحاذاة، و البطلان على تقدير الحرمة.

و توهّم: أنّ أصالة الصحّة هنا معارض بمثله، إذ كما يشكّ في بطلان الصلاة من غير جهة المحاذاة يشكّ في بطلانها أيضا من جهة المحاذاة، و الصحّة من الجهة الاولى تستلزم البطلان من الجهة الثانية، و كما أنّ احتمال البطلان من الجهة الاولى ينفيه أصالة الصحّة، فيترتّب عليه البطلان من الجهة الثانية، فكذلك احتمال البطلان من هذه الجهة ينفيه أصالة الصحّة، و هذان الأصلان يتعارضان و يبقى أصل البراءة سليما عمّا يرد عليه.

يدفعه: أنّ الأوّل من الأصلين المذكورين وارد على ثانيهما لسببيّة شكّه، فلا معارض له.

نعم يمكن الخدشة فيه بأنّ التعويل عليه لإحراز الصحّة إنّما يتّجه لو كان المراد من الصحّة في شرط الحرمة أو الكراهية هو الصحّة الظاهريّة ليكفي في إحرازها الأصل المذكور، و أمّا إذا كان المراد الصحّة الواقعيّة فلا مانع من البناء على أصل البراءة. و أمّا كون المعتبر في الصحّة هنا هو الصحّة الواقعيّة أو الظاهريّة ؟ فوجهان: من مقتضى الدليل الّذي قرّرناه على اشتراط الصحّة و أنّ القدر المتيقّن من مورد الحكم المخالف للأصل - أعني الحرمة أو الكراهية - هو الصحّة الواقعيّة، و من أنّ المناط في أكثر الأحكام المترتّبة على الصحّة إنما هو الصحة الظاهريّة.

ص: 642

و لكنّ التحقيق أنّ الشرط المعلّق عليه الحرمة أو الكراهة بالنسبة إلى صلاة الرجل مثلا إنّما هو صحّة صلاة المرأة في الواقع و هكذا في العكس، غير أنّ الصحّة الواقعيّة قد تحرز بطريق علمي، و قد تحرز بطريق شرعي قائم مقام الطريق العلمي ما لم ينكشف خلافه، و من الطرق الشرعيّة المحرزة للصحّة الواقعيّة بحسب الشرع أصالة الصحّة في فعل المسلم، و معه لا مسرح لأصل البراءة.

و عليه فلو عوّل الرجل على أصالة الصحّة في صلاة المرأة و دخل في الصلاة بطريق المحاذاة أو تقدّم المرأة و الحال هذه و أتمّها، ثمّ علم بعد الفراغ فساد صلاتها في الواقع فانكشاف كون صلاته صحيحة أو باطلة على القول بالحرمة، و كونها غير مكروهة أو مكروهة على القول بالكراهة مبنيّ على إحرازه قصد القربة في صلاته و عدمه ؟

فعلى الأوّل: اتّجه الحكم بالصحّة و عدم الكراهة، و إن كان تأتّي إحراز القربة مع العلم بالمحاذاة و حكمها من حيث إيجابها الحرمة و البطلان في غاية الإشكال.

و لعلّه من هنا ما عن غير واحد من إطلاق القول بأنّه يعتبر في رفع المنع حرمة أو كراهة العلم بالفساد قبل الشروع، فلو علم بعد الفراغ لم يؤثّر في الصحّة و عدم الكراهة لصيرورتها باطلة أو مكروهة بالمحاذاة عنده، أمّا الأوّل فلعدم تأتّي نيّة القربة الّتي هي شرط الصحّة و الحلّية، و أمّا الثاني فلإقدامه على فعل المكروه و المرجوح. نعم يرد عليه منع الكراهة بحسب نفس الأمر - على القول بها - مع فرض انكشاف الفساد، لانكشاف كون ما قبل الكشف تخيّل كراهية.

و أمّا ما عن الحدائق «من بناء هذا الفرع على مسألة اخرى، و هي أنّ الصلاة إذا كانت صحيحة بحسب الواقع و نفس الأمر، و إن كانت بالنظر إلى الظاهر باطلة، فهل يحكم بصحّتها باعتبار ما كانت عليه في الواقع أو يحكم بالبطلان بالنظر إلى الظاهر؟ المشهور الثاني، و عليه يتّجه ما ذكره الأصحاب هنا... إلى أن قال: و أمّا على ما ذهب إليه جمع من الأصحاب من القول الأوّل في تلك المسألة، و منهم السيّد في المدارك(1) في مسألة الصلاة قبل الوقت جاهلا أو ناسيا فالوجه الصحّة»(2).

ففيه: فساد البناء و منع المبنى، أمّا الأوّل: فلأنّ كلام الأصحاب هنا مفروض في العالم

ص: 643


1- المدارك 102:3.
2- الحدائق 186:7-187.

بالمحاذاة و حكمها تكليفا و وضعا، و حكمهم بالفساد مبنيّ على فرض عدم تأتّي قصد القربة لا على ما ذكره. و أمّا الثاني: فلأنّ كون الصلاة صحيحة بحسب الواقع إنّما هو إذا حازت جميع شرائط الصحّة الّتي منها القربة، فمع صحّة التقدير كيف يعقل البحث في الصحّة و البطلان، إذ البطلان لا يكون إلاّ لخلل في بعض شرائط الصحّة و التقدير خلافه. ثمّ الظاهر أنّ عروض المفسد في الأثناء لا ينفع في صحّة ما لم يعرضه مفسد آخر بعد ما فسدت بالمحاذاة قبل عروض المفسد المذكور.

فما قيل: من أنّه لو حدث الفساد فيه بعروض مبطل في الأثناء ففي البطلان به و عدمه وجهان: ينشآن من أنّه كالمنكشف فساده بالأخرة، و من تحقّق الحكم بالمحاذاة واقعا قبل عروض المفسد، و هو كاف في حصول الفساد، لعدم الدليل على اعتبار الإتمام صحيحة لو لا المحاذاة في مانعيّة المحاذاة، بل ظاهر الأدلّة خلافه، و أنّ المدار على تحقّق المحاذاة و لو في بعض صلاة صحيحة لو لا المحاذاة(1) ليس على ما ينبغي.

نعم يبقى الكلام في رجوع الرجل إليها استعلاما لصحّة صلاتها أو بطلانها، فإن أخبرت بالصحّة يبني على بطلان صلاته، و إن أخبرت بالبطلان يبني على صحّة صلاته، و كذا في العكس. ظاهر العلاّمة في القواعد(2) كما عن التذكرة(3) و نهاية الإحكام(4) التوقّف حيث تنظّر فيه، و عزي ذلك إلى إرشاد الجعفريّة(5) أيضا.

و استقرب في جامع المقاصد(6) وجوب رجوع كلّ منهما إلى إخبار الآخر، كما عن الإيضاح(7) و الروض(8) و كشف اللثام(9) و عن حواشي الشهيد عن نسخة مقروءة على العلاّمة «أنّ الأقرب قبول إخبارها بعدم طهارتها استنادا إلى أصلين عدمها و صحّة صلاة الرجل لا بطهارتها استنادا إلى خلافهما طهارتها و بطلان صلاته»(10).

و منشأ النظر على ما قرّره في جامع المقاصد «من أنّ من أخبر بفساد صلاته قبل منه قطعا، لأنّ إقرار العقلاء على أنفسهم جائز(11) و لأنّ المفسد من فعله - و ربّما كان خفيّا -

ص: 644


1- لم نعثر على القائل.
2- القواعد 259:1.
3- التذكرة 418:2.
4- نهاية الإحكام 349:1.
5- المطالب المظفّريّة: 79.
6- جامع المقاصد 124:2.
7- إيضاح الفوائد 89:1.
8- روض الجنان 603:2.
9- كشف اللثام 287:3.
10- نقله عنه في مفتاح الكرامة 169:6-170.
11- عوالي اللآلئ 104/223:1 و 5/257:2.

لا يطّلع عليه إلاّ من قبله، و لأنّ عدم الرجوع إليهما مع اشتراط صحّة الصلاتين لو لا المحاذاة في البطلان بها لا يجتمعان، و الثاني ثابت - لأنّ الكلام على تقديره - فينتفي الأوّل، بيان التنافي: أنّ الصحّة لا نعلم إلاّ من قبل المصلّي لتوقّفها على امور قلبيّة و أفعال خفيّة لا يعلمها إلاّ اللّه و المصلّي، فلو تعلّق بها تكليف مكلّف و لم يقبل فيها قول المصلّي لزم تكليف ما لا يطاق»(1).

و من أنّه شهادة على الغير فلا يقبل. و ردّ هذا الوجه في جامع المقاصد «بأنّ إخبار المكلّف بصحّة صلاة نفسه و فسادها إخبار عن فعل نفسه، فإذا حكم بقبوله لزم منه صحّة صلاة الآخر أو فسادها، فلا يكون شهادة على الغير و لا إقرارا عليه، بعد ما دفع الأخير من وجوه احتمال القبول بأنّ الشرط إن كان هو الصحّة ظاهرا فيكفي فيها الاستناد إلى أصالة صحّة فعل المسلم حتّى يعلم المبطل، و قد يعلم لا من قبل المصلّي، فلا يلزم تكليف ما لا يطاق، و إن كان هو الصحّة بحسب الواقع لم يكف الرجوع إلى المصلّي لإمكان الفساد بوجه لا يعلمه»(2) انتهى.

أقول: لا يظهر من كلماتهم هذه أنّ مفروض المسألة في كلامهم هل هو قبل الشروع في الصلاة أو بعد الفراغ عنها؟

فإن كان الأوّل: فلا نرى وجها لوجوب قبول قول المخبر بحال صلاته المستدعي لوجوب السؤال و الاستفسار إلاّ مقدّمة لإحراز الرجل مثلا لشرائط الصحّة الّتي منها عدم محاذاة المرأة له في صلاة صحيحة لصلاته حتّى يشرع له الدخول فيها بناء على كون محاذاتها في صلاة مانعا ليكون عدمه من قيود صلاة الرجل، فإن كان المحقّق للمانع المحكوم عليه بكونه شرطا للحرمة و الكراهة هو صحّة صلاة المرأة بحسب الظاهر، فيكفي في إحرازها أصالة الصحّة في فعل المسلم، فيجب على الرجل حينئذ ترك محاذاتها إحرازا لشرط صحّة صلاته. و القول بوجوب السؤال عن صحّة صلاتها و فسادها، دفع لإطلاق أدلّة هذا الأصل بلا موجب، بل دفع لإطلاق كلمات الأصحاب في مجاري هذا الأصل، لأنّهم لا يزالون يتمسّكون به و لم يقولوا بوجوب الفحص و السؤال في غير هذا الموضع و لو مع إمكانه، مع أنّها لو أخبرت بصحّة صلاتها فلا يفيد أزيد ممّا أفاده الأصل من

ص: 645


1- جامع المقاصد 124:2.
2- جامع المقاصد 124:2.

الصحّة بحسب الظاهر، مع عدم وضوح دليل يعتمد عليه على وجوب قبوله. و ما تمسّكوا به من الوجوه المتقدّمة كلّها مدخولة بما أشار إليه المحقّق الخوانساري في حاشية الروضة(1). و إن أخبرت ببطلان صلاتها فهو لا يزيل الشكّ في الصحّة الّذي موضوع الأصل المعلّق على عدم العلم بالفساد، فأيّ شيء يوجب الخروج عن الأصل بالتزام قبوله، إذ قد عرفت أنّ أدلّة قبوله كلّها مدخولة. إلاّ أن يقال: إنّ القول أقوى دلالة من الفعل، فاذا اقتضت حكمة الشارع اعتبار الأضعف اقتضت اعتبار الأقوى بطريق أولى. و فيه: منع العليّة، ثمّ منع الأولويّة على وجه يطمئنّ بها النفس، فيبقى الشكّ في الشرط المستلزم للشكّ في المشروط المعتضد بأصالة الصحّة، فالأقرب حينئذ عدم جواز الدخول له في الصلاة حال كونها مصلّيّة و إن كان صحّة صلاتها بحسب الواقع، فهي لا تحرز بإخبارها أيضا، إذ ليس مبنى كلامهم على الخبر المفيد للعلم و إلاّ لم يحتج إثبات جواز قبوله إلى تكلّف الاستدلال بوجوه مدخولة، و مع الغضّ عن ذلك يتوجّه المنع إلى كون مدار الحكم على الصحّة بحسب الواقع.

و إن كان الثاني: كما لو صلّى غافلا أو بزعم الفساد ثمّ احتملت الصحّة بعد الفراغ، ففيه:

أنّه من باب الشكّ بعد الفراغ فلا عبرة به، و مع هذا الأصل لا حاجة إلى الرجوع إلى إخبارها، إلاّ أنّ هذا الأصل يعارضه أصالة الصحّة في فعل المسلم، و لا يمكن العمل بهما، لأنّ من آثار صحّة صلاته بطلان صلاتها، و من آثار صحّة صلاتها بطلان صلاته، و الرجوع إليهما إنّما هو لترجيح أحد الأصلين، فإن أخبرت بالفساد فهو مرجّح لأصالة الصحّة في فعله، و إن أخبرت بالصحّة فهو مرجّح لأصالة الصحّة في فعلها، فالأقرب حينئذ هو الرجوع و القبول.

و ينبغي ختم المسألة ببيان امور:
[أحدها: إن صلّت المرأة خلف الإمام بطلت صلاة من إلى جانبيها و من يحاذيها من خلفها و لا تبطل صلاة غيرهم، و إن صلّت بجنب الإمام...]

أحدها: قال الشيخ في المبسوط على ما حكي: «إن صلّت خلف الإمام بطلت صلاة من إلى جانبيها و من يحاذيها من خلفها و لا تبطل صلاة غيرهم، و إن صلّت بجنب الإمام بطلت صلاتها و صلاة الإمام و لا تبطل صلاة المأمومين الّذين هم وراء الصف الأوّل»(2) قال في المعتبر و المنتهى و الذكرى: «و يلزم على قوله أن تبطل صلاة من يحاذيها من ورائها»(3).

ص: 646


1- حاشية الروضة: 226.
2- المبسوط 86:1.
3- المعتبر 111:2، المنتهى 308:4، الذكرى 83:3.

و هذا لا يخلو عن غموض و إشكال:

أمّا الأوّل: فلأنّ ظاهر العبارة في الفرع الأوّل اختصاص البطلان بالنسبة إلى من عن جانبيها بشخصين أحدهما من عن يمينها و الآخر من عن يسارها، و يكون المراد من غيرهم من عدى هذين الشخصين و من يحاذيها من خلفها من أهل الصفّين. و يشكل بأنّ الوجه في صحّة صلاة من عدى الشخصين من الصفّ الأوّل وجود حائل بينها و بينهم و هو الشخصان، و هذا على تقدير كفايته غير متحقّق في الصفّ الثاني بالنسبة إلى من عدى من يحاذيها من خلفها، لمكان تقدّمها عليهم أيضا من دون حائل بينها و بينهم، إلاّ أن يخصّ التقدّم الموجب للبطلان بتقدّمها على الرجل على وجه المحاذاة، بدعوى أنّ الموجب للبطلان محاذاتها للرجل إمّا من قدّامه أو من أحد جانبيه، و هذا غير واضح من أهل القول بالتحريم و البطلان في صورتي محاذاة المرأة و تقدّمها.

أو يقال: إنّ المراد ممّن يحاذيها من خلفها أعمّ من المحاذاة الحقيقيّة و غيرها، فيتناول البطلان جميع الصفّ الثاني، و هذا خلاف ظاهر العبارة كما لا يخفى، إلاّ أن يستكشف إرادته من قوله «و لا تبطل صلاة المأمومين الّذين هم وراء الصف الأوّل» بجعله من تتمّة الفرع الأوّل، و هذا أيضا خلاف ظاهر صوغ العبارة.

و أمّا الثاني: فلأنّ صحّة [صلاة] هؤلاء المأمومين بناء على الفرع الثاني مع بطلان صلاة الإمام غير واضحة، لكون صحّة صلاة الإمام معتبرة في صحّة صلاة المأموم. و قد يوجّه بحمله على صورة عدم علم هؤلاء المأمومين بالحال من محاذاة المرأة للإمام المؤثّرة في بطلان صلاتها، اكتفاء في إحراز شرط صلاتهم بالصحّة الظاهريّة و هي صحّة صلاة الإمام في معتقدهم.

و فيه: أنّه إنّما يجدي ما لم ينكشف الحال بعد الفراغ من الصلاة، و أمّا بعد انكشاف بطلان صلاته عندهم اتّجه بطلان صلاتهم أيضا المقتضي للإعادة أو القضاء، و ظاهر عبارته صحّة صلاتهم بقول مطلق، و كان مبناه على المصير إلى الإجزاء في الأمر الظاهري العقلي.

و هاهنا إشكال آخر بناء على بطلان صلاة جميع الصفّ الأوّل، لأنّ من شروط صحّة صلاة الصفّ المتأخّر صحّة صلاة الصفّ المتقدّم، فمع فرض بطلان صلاة الصفّ الأوّل كيف يحكم بصحّة صلاة الصفّ المتأخّر. و بالجملة كلامه قدّس سرّه في الفرعين غير مستقيم.

[ثانيها: يزول المنع حرمة و كراهة بوجود حائل بينهما]

ثانيها: أنّ المعروف من مذهب الأصحاب أنّ المنع حرمة و كراهة يزول بوجود حائل

ص: 647

بينهما أو بعد عشرة أذرع، و في المعتبر «لو كان بينهما حائل أو قدر عشرة أذرع سقط المنع إجماعا منّا»(1) و في المنتهى «لو صلّت قدّامه أو إلى أحد جانبيه و بينهما حائل أو بعد عشرة أذرع فما زاد لم تبطل صلاة واحد منهما إجماعا»(2) و عن البحار «كأنّه لا خلاف في زوال المنع بتوسّط الحائل»(3).

و إنّما ذكر عدم الخلاف احتمالا لما عن جماعة من تركهم ذكر الحائل كالنهاية(4)و الخلاف(5) و الوسيلة(6) و الغنية(7) و السرائر(8) بل في مفتاح الكرامة(9) تركهم ذكر عشرة أذرع أيضا عدى السرائر فإنّه لم يتركه فيه، و عليه فوجه ما عرفته عن المعتبر و المنتهى من الإجماع لعلّه لأجل استفادتهما مذهب هؤلاء من خارج. و كيف كان فالبحث هاهنا تارة في زوال المنع بوجود الحائل، و اخرى في زواله بعشرة أذرع فما زاد.

أمّا الأوّل: فمستنده - بعد الأصل المحرز موضوعه، بأنّ القدر المقطوع به من دليل المنع هو ما لم يتحقّق معه شيء من الأمرين المعتضد بمنقول الإجماع - صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة عن أبي جعفر عليه السّلام «في المرأة تصلّي عند الرجل ؟ قال: إذا كان بينهما حاجز فلا بأس»(10) و يؤيّده المرويّ عن قرب الأسناد عن عبد اللّه بن الحسين عن عليّ بن جعفر «أنّه سأل أخاه عن الرجل، هل يصلح له أن يصلّي في مسجد قصير الحائط و امرأته قائما تصلّي و هو يراها و تراه ؟ قال: إن كان بينهما حائط طويل أو قصير فلا بأس»(11).

و ربّما قيّد الحائل بكونه جسما مانعا عن نظر أحدهما إلى الآخر كالحائط و الستر كما في المدارك(12) و عن حاشية الميسي(13) و المسالك(14) و الروض(15) و الروضة(16) و لعلّه لأنّ المتبادر من الحاجز و الحائل في النصّ و الفتوى و معقد الإجماع و لا غائلة فيه.

و هل يقوم الظلمة و العمى و تغميض البصر مقام الحائل ؟ قولان في بعضها: فجماعة منهم

ص: 648


1- المعتبر 111:2.
2- المنتهى 307:4.
3- البحار 336:83.
4- النهاية: 100-101.
5- الخلاف 423:1-424.
6- الوسيلة: 89.
7- الغنية: 82.
8- السرائر 283:1.
9- مفتاح الكرامة 159:6.
10- الوسائل 2/129:5، ب 8، مكان المصلّي، التهذيب 1580/379:2.
11- الوسائل: 4/130:5، ب 8، مكان المصلّي، قرب الاسناد: 95.
12- المدارك 224:3.
13- حاشية الميسي، نقلة عنه في مفتاح الكرامة 158:6.
14- المسالك 172:1.
15- روض الجنان 602:2.
16- الروضة البهيّة 555:1.

المدارك(1) العدم، و عن ثاني الشهيدين(2) نعم في الأوّلين، و عن أوّلهما(3) و كاشف اللثام(4)احتماله فيهما، و عن التحرير نعم أيضا في الثاني مع استشكاله في الثالث قائلا: «لو كان الرجل أعمى فالوجه الصحّة و إن غمّض الصحيح عينيه فإشكال»(5).

و الأقوى في الجميع المنع، إذ ليست الجهة المقتضية للتحريم و البطلان هو النظر، ليعالج بأحد الامور المذكورة بل نفس المحاذاة و تقدّم المرأة، و لذا قال في محكيّ نهاية الإحكام:

«ليس المقتضي للتحريم أو الكراهة النظر، لجواز الصلاة و إن كانت قدّامه عارية، و لمنع الأعمى و من غمّض عينيه»(6).

و أمّا الثاني: فمستنده مع ما عرفت مضافا إلى الإجماع المنقول عن جامع المقاصد(7)و إرشاد الجعفريّة(8) من الروايات غير واضح، عدى المرويّ عن قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر «أنّه سأل أخاه عليه السّلام عن الرجل يصلّي الضحى و أمامه امرأة تصلّي بينهما عشرة أذرع ؟ قال: لا بأس ليمضي في صلاته»(9) و موثّقة عمّار المتقدّمة و فيها «أكثر من عشرة أذرع»(10)و احتمل كونه المراد به عشرة و ما زاد.

و كيف كان فالحكم لمّا كان إجماعيّا فقصور النصّ سندا أو دلالة غير ضائر، و العمدة في المقام هو الإجماع إن تحقّق، و مع عدمه ففي الأصل كفاية.

و في الروضة(11) و المدارك(12) كما عن الروض(13) و البحار(14) اعتبار هذه المسافة من موقفيهما. و ربّما احتمل مع تقدّمها اعتبارها من موقفها و موضع سجوده، و هذا أحوط و إن كان الأوّل أجود بالنظر إلى إطلاق كلامهم و تبادر الموقفين من التقدير، و وجه الأحوطيّة نقصان المقدار حال سجوده، لأنّه يسقط عن مقدار العشرة حال سجوده مسقط جسده فلا يبلغ البعد حينئذ بين رأسه و موقفها هذا المقدار.

و عن الروض «أنّها لو كانت في إحدى الجهات الّتي يتعلّق بها الحكم، و كانت على مرتفع بحيث لا يبلغ من موقفه إلى أساس الحائط المرتفع عشرة أذرع، و لو قدّر إلى موقفها

ص: 649


1- المدارك 224:3.
2- روض الجنان 602:2.
3- البيان: 64.
4- كشف اللثام 283:3.
5- التحرير 210:1.
6- نهاية الإحكام 349:1.
7- جامع المقاصد 121:2.
8- المطالب المظفّريّة: 75.
9- الوسائل 2/128:5، ب 7 مكان المصلّى، قرب الإسناد: 94.
10- الوسائل 1/128:5، ب 7 مكان المصلّي.
11- الروضة البهيّة 555:1.
12- المدارك 224:3.
13- روض الجنان 603:2.
14- البحار 336:83.

إمّا مع الحائط مثلا أو ضلع المثلّث الخارج من موقفه إلى موقفها بلغها، ففي اعتباراتها نظر»(1) و نحوه في المدارك(2).

و عن كاشف اللثام «إن كانت على مرتفع أمامه، اعتبر كون ضلع المثلّث الّذي ساقاه من موقفه إلى أصل ما هي عليه من البناء، و من أصله إلى موقفها عشرا، و كذا إذا كانت بجنبه و كان أحدهما كذلك كان الزاوية الّتي بين البناء و الأرض قائمة أو حادّة أو منفرجة، و احتمل سقوط المنع حينئذ بناء على أنّه لا يتبادر من الإمام و المحاذاة و نحوهما»(3).

و التحقيق أنّ منع شمول أدلّة المنع فتوى و نصّا لمثل هذه الهيئة متّجه، لعدم تبادرها من إطلاق المحاذاة و التقدّم و الأمام و القدّام، فالأصل يقتضي عدم المنع حينئذ تحريما و تنزيها.

و لو سلّم شموله لها و لو باعتبار الإجماع على عدم الفرق على تقدير ثبوته فالمتّجه في التباعد اعتبار البعد المذكور بين موقفيهما على قياس ضلع المثلّث الّذي هو الوتر، لأنّه المتبادر من التقدير بذلك، كما فهمه الفاضل.

ثالثها في بيان عدّة مسائل:
[الاولى: لو صلّت متأخّرة عنه سقط المنع، نعم يتكلّم في مقدار تأخّرها عنه]

الاولى: أنّها لو صلّت متأخّرة عنه سقط المنع حرمة و كراهة على ما هو المصرّح به في كلام جماعة(4) بل هو مذهب أكثر علمائنا كما عن غاية المراد(5) بل الظاهر أنّه إجماعي كما عن البحار(6) و ظاهر المنتهى نقل الإجماع عليه حيث إنّه بعد نقل الإجماع على صحّة صلاتيهما مع الحائل و الأذرع، قال: «و كذا لو صلّت متأخّرة عنه و لو بشبر أو قدر مسقط الجسد»(7) و نحوه عن المعتبر(8).

فأصل الحكم ممّا لا إشكال و لا كلام فيه نعم ربّما يتكلّم في مقدار تأخّرها عنه، فهل يكفي مطلقه و لو بقدر شبر أو أكثر أو يعتبر فيه التأخّر بتمام البدن بأن لا يحاذي جزء من بدنها لجزء من بدنه في شيء من حالات الصلاة ؟

و ضابطه محاذاة رأسه حال السجود لباطن قدميه في هذه كما هو ظاهر من عبّر بالوراء و الخلف، و عليه يحمل عبارة الشرائع «و لو كانت وراءه بقدر ما يكون موضع سجودها محاذيا لقدمه سقط المنع»(9) بإرادة محاذاة باطن قدميه حال سجوديهما.

ص: 650


1- روض الجنان 603:2.
2- المدارك 224:3.
3- كشف اللثام 284:3.
4- كما في الخلاف 423:1.
5- غاية المراد 125:1.
6- البحار 336:83.
7- المنتهى 307:4.
8- المعتبر 111:2.
9- الشرائع 72:1.

و كذا عبارة المقنعة «تصلّي بحيث يكون سجودها تجاه قدميه»(1) و عبارة اللمعة «فلو حاذى سجودها قدمه»(2) و عبارة النافع(3) و فوائد الشرائع(4) و حاشية الإرشاد(5) المقتصرة على مسقط الجسد، بناء على أن يكون المراد من مسقط الجسد ما بين موضع إبهامي الرجلين و موضع الجبهة حال السجود، فلا مخالفة في عبارات هؤلاء كما قد يتوهّم.

فجميع هذه العبارات موافقة لما عن حاشية الميسي(6) و الروض(7) و الروضة(8)و المسالك(9) من الجزم بأنّه لا بدّ من التأخّر بدون محاذاة أصلا و القول بكفاية التأخّر بمقدار الشبر ظاهر المنتهى(10) في عبارته المتقدّمة، و عزي نحوه إلى المعتبر(11) و إلى ظاهر الشيخ في كتابي الحديث(12) و عن الكفاية «الأقرب الاكتفاء بشبر»(13).

و الأقرب عدم الاكتفاء إلاّ بالتأخّر بتمام البدن، عملا بظاهر موثّقة عمّار الّتي هي العمدة من مستند القائلين بالمنع المحمولة لدى القائلين بالكراهة عليها و على الاستحباب، و فيها «فإن كانت تصلّي خلفه فلا بأس، و إن كانت تصيب ثوبه» لأنّ المتبادر من الخلف هو التأخّر بتمام البدن و يؤكّد إرادته قوله: «و إن كانت تصيب ثوبه» فتدبّر.

[الثانية: لو حصلا في مكان واحد ضيق لا يمكنهما التباعد و لا تأخّر المرأة و لا حائل]

الثانية: لو حصلا في مكان واحد ضيق لا يمكنهما التباعد و لا تأخّر المرأة و لا حائل أيضا كالمحمل و نحوه، تقدّم أحدهما على الآخر في الصلاة، و إذا فرغ صلّى الآخر وجوبا على القول بمنع المحاذاة، أو استحبابا على القول بالكراهة على ما هو المعروف المصرّح به في كلامهم(14) و لعلّه ممّا لا خلاف فيه، و المرويّ تقدّم الرجل و هو محمول على الاستحباب.

ففي صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما قال: «سألته عن المرأة تزامل الرجل في المحمل أ يصليّان جميعا؟ فقال لا: و لكن يصلّي الرجل فإذا فرغ الرجل صلّت المرأة»(15)هذا إذا كان الوقت متّسعا.

ص: 651


1- المقنعة: 152.
2- اللمعة: 31.
3- المختصر النافع: 26.
4- فوائد الشرائع: 33.
5- حاشية الارشاد: 25.
6- نقله عنه في مفتاح الكرامة 164:6.
7- روض الجنان 603:2.
8- الروضة البهيّة 555:1.
9- المسالك 173:1.
10- المنتهى 307:4.
11- المعتبر 111:2.
12- التهذيب 230:2، الاستبصار 398:1.
13- كفاية الأحكام: 16.
14- كما في المبسوط 86:1، الشرائع 72:1، نهاية الإحكام 349:1، المعتبر 111:2، المنتهى 4: 307، التذكرة 417:2، التحرير 210:1، البيان: 64، الذكرى 83:3، جامع المقاصد 122:2، كشف اللثام 286:3، روض الجنان 603:2.
15- الوسائل 1/131:5، ب 10 مكان المصلّي، التهذيب 907/231:2.

و أمّا مع ضيقه فالمصرّح به في كلام جماعة سقوط الوجوب و الاستحباب، و استشكله المحقّق الكركي بما حاصله «أنّ التحاذي إن كان مانعا من الصحّة منع مطلقا، و لا دليل على اختصاص الإبطال بموضع دون موضع»(1) لعموم النصّ و الفتوى. و حينئذ فعلى الحرمة إن كان المكان لأحدهما اختصّ به و لا يجوز إيثار الآخر له، و إن كان لهما أو استويا فيه أمكن القول بالقرعة فيصلّي من خرج اسمه و يقضي الآخر.

و ضعفه واضح لترجيح الوقت عمّا بين شروط الصلاة على غيره عند التعارض، و كونه أهمّ عند الشارع على ما ظهر بالاستقراء، حتّى أنّه في الأهمّيّة بحيث إذا لم يمكن الجمع بينه و بين الطهور يقدّم عليه و يعدل إلى التيمّم.

[الثالثة: المنع حرمة و كراهة يختصّ بالبالغين المكلّفين]

الثالثة: أنّ المنع حرمة و كراهة يختصّ بالبالغين المكلّفين، لأنّه المتبادر من الرجل و المرأة و الزوجة في الفتوى و النصّ . و لا ينافيه ورود الابنة في بعض الروايات، لظهور الابنة أيضا بقرينة إسناد الصلاة إليها في البالغة. فلا منع و لا كراهة في صلاة الرجل بمحاذاة الصبيّة أو تقدّمها و لا في صلاة المرأة بمحاذاة الصبيّ و لا في صلاة الصبيّ و الصبيّة متحاذيين أو مع تقدّم الصبيّة بناء على شرعيّة عباداتهما.

و يكفي في مستند الاختصاص على القول بالبطلان في الرجل و المرأة بعد منع شمول الأدلّة الشكّ في المانعيّة.

و منه يظهر عدم جريان الحكم تكليفا و وضعا في محاذاة الخنثى للرجل أو المرأة أو تقدّمها عليهما و محاذاتها لمثلها، لعدم تناول الأدلّة، فيشكّ في المانعيّة و الأصل عدمها، و الاستقراء القاضي بأنّ الرجل و المرأة و الصبيّ و الصبيّة و الخنثى في شرائط الصلاة سواء غير تامّ ، و لا مؤثّر في ظنّ اللحوق مع كثرة التخلّف، فتأمّل.

[الرابعة: لا يشترط في المنع اتّحاد الصلاتين في الفرض و النفل و لا في الأداء و القضاء]

الرابعة: أنّه لا يشترط في المنع حرمة و كراهة في محاذاة الرجل المرأة أو تقدّمها عليه اتّحاد الصلاتين في الفرض و النفل و لا في الأداء و القضاء، و لا في الفرد الاختياري و الاضطراري، و لا في الإتمام و القصر، عملا بظاهر إطلاق النصّ و الفتوى. فلو كان أحدهما مفترضا و الآخر متنفّلا، أو أحدهما مؤدّيا و الآخر قاضيا، أو أحدهما قائما و الآخر جالسا، أو أحدهما حاضرا و الآخر مسافرا كان المنع ثابتا، و بطلت صلاتهما على القول بالتحريم.

ص: 652


1- جامع المقاصد 121:2.
المبحث الثالث فيما يتعلّق بمكان المصلّي من حيث الطهارة و النجاسة

و اعلم أنّ المراد بالمكان في هذا المقام ما يلاصق بدن المصلّي و ثوبه، قيل هذا التعريف اصطلاح لهم في المكان باعتبار خصوصيّة الطهارة كما عن الإيضاح(1) و جامع المقاصد(2)و إرشاد الجعفريّة(3) و استجوده في مفتاح الكرامة و بذلك اعترض على ما حكاه عن المقاصد العليّة من «أنّ الظاهر أنّ إطلاق المكان على هذا المعنى مجاز، لئلاّ يلزم بطلان صلاة ملاصق الحائط و الثوب المغصوب و غيرهما و لو بحال من الأحوال بحيث لا يستلزم التصرّف فيه» انتهى(4) بقوله: و أنت خبير بأنّه لو وقف على ما في الإيضاح و جامع المقاصد و إرشاد الجعفريّة، من أنّ هذا اصطلاح لهم باعتبار خصوصيّة طهارته مع قطع النظر عن إباحته و عدمها لما قال: إنّه يلزم منه بطلان صلاة ملاصق الحائط... الخ(5).

و كيف كان فالمعروف من مذهب الأصحاب أنّه إذا كان موضع الجبهة من مكان المصلّي طاهرا يجوز الصلاة فيه، و إن كان فيه نجاسة غير متعدّية فلا يشترط طهارة ما عدى موضع الجبهة.

و هذا يتضمّن حكمين، أحدهما: اشتراط طهارة موضع الجبهة، و مستنده ظاهرا الإجماع، قال في المدارك: «لنا على طهارة موضع السجود اتّفاق العلماء، فإنّ كلّ من اعتبر الطهارة في الصلاة اعتبر طهارة موضع السجود»(6) و عزي نقل الإجماع عليه أيضا عن جماعة كالغنية(7)

ص: 653


1- إيضاح الفوائد 90:1.
2- جامع المقاصد 128:2.
3- المطالب المظفّريّة: 73.
4- المقاصد العليّة: 182.
5- مفتاح الكرامة 119:6-120.
6- المدارك 225:3.
7- الغنية: 66.

و المعتبر(1) و المختلف(2) و المنتهى(3) و الذكرى(4) و جامع المقاصد(5) و إرشاد الجعفريّة(6)و مجمع البرهان(7) و شرح الشيخ(8) نجيب الدين. و قد يناقش فيه بما تقدّم في كتاب الطهارة في باب مطهّرية الشمس عن الراوندي و الإسكافي من منعهما طهارة الأرض و الحصر و البارية بالشمس إذا جفّفتها مع تجويزهما السجود عليها، بدعوى: أنّ هذه الثلاث إذا أصابها البول فجفّفتها الشمس حكمها حكم الطاهر في جواز السجود عليها، و قد يوجّه بالإجماع على اشتراط الطهارة فيما عدى ذلك. و في المدارك بعد ما عرفت عنه من نقل الاتّفاق و تبعه في الذخيرة(9) «أنّه إن تمّ الإجماع هنا فهو الحجّة و إلاّ أمكن المناقشة في هذا الحكم، لعدم الظفر بدليله»(10) و سيأتي تمام الكلام فيه في مباحث ما يصحّ السجود عليه إن شاء اللّه تعالى.

و ثانيهما: عدم اشتراط طهارة ما عدى موضع الجبهة إذا لم تكن ما عليه من النجاسة متعدّية إلى الثوب و البدن، و هو قول الأكثر كما في المدارك(11) و عن جماعة(12) و هو المشهور كما في المختلف(13) و عن جماعة آخرين(14) و هو أشهر كما عن الكفاية(15).

و في مقابل المشهور قولان آخران:

أحدهما: ما عن السيّد(16) من اشتراط طهارة جميع مكان المصلّي.

و ثانيهما: ما عن أبي الصلاح الحلبي من اشتراط طهارة مواضع الأعضاء السبع المعتبرة في السجود(17).

و في كلام جماعة كالمدارك(18) و غيرها(19) الاعتراف بعدم الوقوف على دليل للحلبي.

ص: 654


1- المعتبر 433:1.
2- المختلف 114:2.
3- المنتهى 369:4.
4- الذكرى 150:3.
5- جامع المقاصد 126:2.
6- المطالب المظفّريّة: 74.
7- مجمع الفائدة و البرهان 115:2.
8- نقله عنه في مفتاح الكرامة 128:6.
9- الذخيرة: 239.
10- المدارك 225:3-226.
11- المدارك 225:3-226.
12- كما في كشف اللثام 287:3، و التذكرة 400:2، و إيضاح الفوائد 90:1، و المنتهى 369:4، جامع المقاصد 126:2.
13- المختلف 114:2.
14- كما في الرياض 17:3، و الذكرى 81:3، روض الجنان 590:2، و مجمع الفائدة و البرهان 115:2، و البحار 285:83.
15- الكفاية: 16.
16- كما في إيضاح الفوائد 90:1، المدارك 225:3.
17- الكافي في الفقه: 140.
18- المدارك 226:3.
19- كما في الرياض 17:3.

نعم ربّما قيل:(1) إنّ مستنده حمل المسجد في جميع ما دلّ على اشتراط طهارته على ما يعمّ موضع الجبهة من المساجد(2). و ضعّف بأنّه لا دليل عليه سوى الإجماع إن تمّ و لم ينعقد إلاّ في خصوص موضع الجبهة.

و المعتمد هو المشهور المنصور، للأصل و الإطلاقات المعتضدين بالشهرة محصّلة و محكيّة، و صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام «أنّه سأله عن البيت و الدار لا تصيبهما الشمس، و يصيبهما البول و يغتسل فيهما من الجنابة، أ يصلّي فيهما إذا جفّا؟ قال: نعم»(3).

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن الشاذكونة(4) تكون عليها الجنابة أ يصلّي عليها في المحمل ؟ قال: لا بأس بالصلاة عليها»(5).

و موثّقة عمّار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن البارية يبلّ قصبها بماء قذر؟ هل يجوز الصلاة عليها؟ قال: إذا جفّت فلا بأس بالصلاة عليها»(6) بناء على إرادة الجفاف بغير الشمس كما هو الظاهر سؤالا و جوابا.

و نحوه في وجه الدلالة صحيحة عليّ بن جعفر قال: «سألته عن البواري يصيبها البول هل يصلح الصلاة عليها إذا جفّت من غير أن يغسل ؟ قال: نعم لا بأس»(7).

و عن السيّد(8) الاحتجاج بنهيه عليه السّلام عن الصلاة في المجزرة و المزبلة و الحمّامات(9).

و هي مواطن النجاسات فتكون الطهارة معتبرة، و قد [يقال] في مستنده موثّقة عمّار «سأله عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس، و لكنّه قد يبس الموضع القذر؟ قال: لا يصلّي عليه، و أعلم موضعه حتّى تغسله»(10) و رواية ابن بكير عن

ص: 655


1- كما في كشف اللثام 288:3، و الرياض 18:3.
2- الوسائل 2/229:5، ب 24 أحكام المساجد.
3- الوسائل 1/453:3، ب 30 أبواب النجاسات، الفقيه 737/158:1.
4- الشاذكونة: ثياب غلاظ مضربة تعمل باليمن القاموس المحيط 239:4 (شذك).
5- الوسائل 3/454:3، ب 30 أبواب النجاسات، التهذيب 1537/369:2.
6- الوسائل 5/454:3، ب 30 أبواب النجاسات، التهذيب 1539/370:2.
7- الوسائل 3/451:3، ب 29 أبواب النجاسات، التهذيب 1551/373:2.
8- المدارك 226:3.
9- سنن ابن ماجه 746/246:1.
10- الوسائل 4/452:3، ب 29 أبواب النجاسات، التهذيب 1548/372:2.

الصادق عليه السّلام في «الشاذ كونه يصيبها الاحتلام أ يصلّي عليها؟ قال: لا»(1).

و الجواب عن الأوّل - بعد منع الملازمة المدعاة بالنسبة إلى الحمّامات لارتفاع نجاساتها بالغسل فلا وجه لإطلاق النهي عن الصلاة فيها إلاّ جهة اخرى غير النجاسة و لذا حمل على الكراهة - أنّ النهي المذكور لعلّه لما غلب في المواطن المذكورة من كون النجاسات الموجودة فيها رطبة متعدّية إلى بدن المصلّي و إزاره، و إطلاقه ينصرف إلى هذا الغالب، و لا كلام لأحد في عدم جواز الصلاة بل بطلانها في مكان فيها نجاسة متعدّية. مع أنّ ما ذكر من النواهي لا تقاوم لمعارضة روايات المشهور لجهات شتّى، منها: اعتضادها بالشهرة المحقّقة و المحكيّة فوق حدّ الاستفاضة. و حملها على الكراهة طريق حفظها عن الإطراح و إلاّ فالمتعيّن اطراحها. و بهذا يظهر الجواب عن الخبرين.

و قد يجاب: بأنّه بعد تسليم التعليل يجوز أن يكون علّة النهي ما في هذه الأماكن من الاستخباث و الاستقذار الدالّة على مهانة نفس من يستقرّ بها، و إذا اختصّت بمزيد الاستقذار و الاستهانة، فلم يلزم من المنع من الصلاة فيها المنع من غيرها ممّا لا ينتهي في الاستقذار إلى حدّها. مع أنّ النهي عن الصلاة في هذه الأماكن للكراهة لا للتحريم.

ثمّ بقى الكلام في تقييد النجاسة في عنوان الحكم على المشهور بكونها غير متعدّية، و ظاهر عباراتهم يعطي إجماعهم على عدم الجواز مع النجاسة المتعدّية، بل هو صريح إجماع العلاّمة في التذكرة(2) كما عن نهاية الإحكام قائلا: «يشترط طهارة المكان من النجاسات المتعدّية ما لم يعف عنها إجماعا»(3) و في كلام بعض مشايخنا «يعتبر عدم كون النجاسة متعدّية إلى ثوبه و بدنه و نحوهما ممّا يعتبر طهارته في الصلاة بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه»(4).

و يدلّ عليه مع ذلك مفهوم الشرط في موثّقة عمّار المتقدّمة، و مع الغضّ عن ذلك فوجه اعتبار عدم التعدّي معلوم من أدلّة اشتراط صحّة الصلاة بطهارة بدن المصلّي و ثيابه، و لا حاجة معه إلى تجشّم الاستدلال بدليل آخر.

و من هنا ينقدح وجوب تقييد النجاسات المتعدّية بما لا يعفى عنه في الصلاة، لعدم قدح

ص: 656


1- الوسائل 6/455:3، ب 30 أبواب النجاسات، التهذيب 1539/369:2.
2- التذكرة 400:2.
3- نهاية الإحكام 324:1.
4- الجواهر 551:8.

المعفوّ عنها في الصلاة كدون الدرهم من الدم، و قد عرفت التقييد به عن عبارتي التذكرة و نهاية الإحكام، و جزم بذلك صاحب المدارك(1) و غيره(2) و حكي التصريح به عن ذكرى الشهيد قائلا: «و لو كان المكان نجسا بما عفي عنه كدون الدرهم دما و يتعدّى فالظاهر أنّه لا يزيد على ما هو على المصلّي»(3).

لكن عن فخر المحقّقين في شرح القواعد أنّه نقل عن والده أنّه «قال: الإجماع منّا واقع على اشتراط خلوّ المكان من نجاسة متعدّية و إن كانت معفوّا عنها في الثوب و البدن»(4).

و فيه ما لا يخفى، من كونه مدفوعا بما عرفت من الكتابين، مع أنّ عموم المنع من النجاسة المتعدّية و إن كانت ممّا عفي عنها إمّا لأجل كون الخلوّ عنها شرطا في المكان، أو بدن المصلّي و ثيابه، و الأوّل خال عن الدليل فيرجع إلى الأصل، و الثاني مدفوع بعموم أدلّة العفو. و تخصيصها بما لم يكن النجاسة فيهما حاصلة بالتعدّي عن المكان لا بدّ له من شاهد و ليس، فلا يسمع دعواه.

ص: 657


1- المدارك 226:3.
2- كما في البيان: 64، المسالك 174:1، مجمع الفائدة و البرهان 114:2، روض الجنان 589:2، كشف اللثام 289:3.
3- الذكرى 81:3.
4- إيضاح الفوائد 90:1.
المبحث الرابع في الأمكنة المكروهة - أي الّتي يكره الصلاة فيها -
اشارة

و هي مواضع:

[الموضع الأوّل: الحمّام]

الموضع الأوّل: الحمّام، و كراهة الصلاة فيه هو المشهور المدّعى فيه الشهرة كما عن المختلف(1) و التلخيص(2) و البحار(3) و المحكوم عليه بكونه مذهب الأكثر كما عن المنتهى(4) و الذكرى(5) و جامع المقاصد(6) بل المنقول عليه الإجماع كما عن الخلاف(7)و الغنية(8) و المسالك(9).

و ظاهر العبارة المحكيّة عن الحلبي الحرمة مع التردّد في الفساد حيث عبّر عن الحكم ب «لا تحلّ » ثمّ قال: «و لنا في فسادها نظر»(10) و شذوذه ينادي بضعفه.

و المعتمد الأوّل، للنهي الوارد في رواية عبد اللّه بن الفضيل عمّن حدّثه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - المحمول لضعف سندها على الكراهة - قال: «عشرة مواضع لا يصلّي فيها الطين، و الماء، و الحمّام، و القبور، و مساق الطرق، و قرى النمل، و معاطن الإبل، و مجرى الماء، و السبخ، و الثلج»(11).

ص: 658


1- المختلف 103:2.
2- تلخيص المرام (الينابيع الفقهيّة) 559:27.
3- البحار 306:83.
4- المنتهى 310:4.
5- الذكرى 91:3.
6- جامع المقاصد 129:2.
7- الخلاف 299:1.
8- الغنية: 67.
9- المسالك 174:1.
10- الكافي في الفقه: 141.
11- الوسائل 6/142:5، ب 15 مكان المصلّي، التهذيب 863/219:2.

و مع الغضّ عن ضعف السند فالحمل عليه طريق جمع بينها و بين صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام «أنّه سأله عن الصلاة في بيت الحمّام ؟ فقال: إذا كان الموضع نظيفا فلا بأس»(1) و موثّقة عمّار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في بيت الحمام ؟ قال: إذا كان موضعا نظيفا فلا بأس»(2) و عن الصدوق(3) حمل الاولى و الشيخ(4) حمل الثانية على المسلخ، و هو بعيد.

و قضية إطلاق الأكثر عدم الفرق فيه بين بيوته الحارّة، بل في حاشية الروضة «الظاهر من الحمّام جميع بيوته الحارّة»(5).

خلافا لثاني الشهيدين فخصّه «بالبيت المخصوص الّذي يغتسل فيه لا المسلخ و غيره من بيوته و سطحه»(6). و لم نقف على موافق له، و مع ذلك لم نقف على شاهد يشهد له. و لعلّه و هم عمّا عن مجمع البرهان «من أنّ الحمّام مشتقّ من الحميم و هو الماء الحارّ» بناء على كون مراده من البيت المخصوص الّذي يغتسل فيه هو بيت الماء الحارّ المسمّى بخزانة.

و فيه: أنّ بناء الحمّام بحسب الأصل و إن كان على الاشتقاق، غير أنّه بحسب العرف صار علما للمكان الخاصّ بجميع بيوته الحارّة، و لذا لم يستثن منه جماعة إلاّ المسلخ، فحكموا بعدم الكراهة فيه كما هو ظاهر الصدوق(7) و الشيخ(8) فيما عرفت من حملهما الخبرين على المسلخ، و هو صريح الشهيدين(9) و غيرهما(10).

و عن العلاّمة في التذكرة(11) احتمال الكراهة فيه أيضا، و بناه على أنّ علّة النهي إن كانت النجاسة لم تكره، و إن كانت كشف العورة أو يكون مأوى الشيطان كره. و في المدارك «أنّه مبنى ضعيف، لجواز أن لا يكون الحكم معلّلا، أو تكون العلّة غير ما ذكره»(12).

ص: 659


1- الوسائل 1/176:5، ب 36 مكان المصلّي، الفقيه 727/242:1.
2- الوسائل 2/177:5، ب 36 مكان المصلّي، التهذيب 1554/374:2.
3- الفقيه 727/242:1.
4- التهذيب 86/374:2.
5- حاشية الروضة: 218.
6- الروضة البهيّة 549:1.
7- الفقيه 727/242:1.
8- التهذيب 86/374:2.
9- الذكرى 94:3، البيان: 65، الدروس 86:1، روض الجنان 66:2، المسالك 174:1.
10- جامع المقاصد 129:2، المنتهى 313:4، المدارك 227:3، السرائر 266:1.
11- التذكرة 406:2.
12- المدارك 228:3.

و كيف كان فالوجه فيه ما ذكروه من عدم الكراهة، للأصل.

و في كلام جماعة(1) القطع بعدم الكراهة في سطح الحمّام، و هو كذلك، و فيه أيضا شهادة بعدم استثنائهم من بيوته الحارّة شيئا.

[الموضع الثاني: بيوت الغائط]

الموضع الثاني: بيوت الغائط و هي المواضع المعدّة لذلك، و في كلام جماعة(2) دعوى الشهرة في كراهة الصلاة فيها، و ظاهر الحلبي(3) الحرمة لتعبيره عن الحكم بلا تحلّ ، و عن المفيد(4) «لا تجوز الصلاة في بيوت الغائط» و حملت على إرادة الكراهة.

و احتجّوا عليها بكون بيوت الغائط مظنّة للنجاسة، و بما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ جبرئيل أتاني فقال: إنّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب و لا تمثال جسد، و لا إناء يبال فيه»(5) و عن عمرو ابن خالد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال جبرئيل: يا رسول اللّه إنّا لا ندخل بيتا فيه صورة إنسان، و لا بيتا يبال فيه، و لا بيتا فيه كلب»(6) قالوا: و نفور الملائكة منه يؤذن بكونه ليس موضع رحمة فلا يصلح أن يتّخذ للعبادة(7).

و مورد الخبرين كما ترى بيت البول، و لعلّ مستند التعدّي إلى بيت الغائط الأولويّة كما أشار إليه ثاني الشهيدين في الروضة(8) و لعلّ وجه الأولويّة أنّ الغائط أفحش و أخبث في الحسّ و إن كان البول أنجس، بناء على تخصيصه في الغسل بمرّتين.

و هل تعمّ الكراهة بيتا فيه بول أو غائط و إن لم يكن معدّا لهما؟ إشكال، و إن كان ظاهر الخبر الأوّل بالنسبة إلى البول ذلك، و إن قلنا به في البول فإلحاق الغائط به مشكل إلاّ على

ص: 660


1- كما في روض الجنان 606:2، المدارك 228:3 و البحار 306:83.
2- كما في الشرائع 72:1، التذكرة 406:2، الذكرى 89:3، البيان: 65، المسالك 174:1، جامع المقاصد 129:2، الذخيرة: 244، كشف اللثام 291:3.
3- الكافي في الفقه: 141.
4- المقنعة: 151.
5- الوسائل 1/174:5، ب 33 مكان المصلّي، التهذيب 1570/377:2.
6- الوسائل 3/175:5، ب 33 مكان المصلّي، الكافي 12/528:6.
7- كما في المدارك 228:3، جامع المقاصد 130:2، روض الجنان 606:2.
8- الروضة البهيّة 549:1.

توهّم الأولويّة بالتقريب المتقدّم، و لعلّها محلّ منع كما اومئ إليه في حاشية الروضة(1).

[الموضع الثالث: مبارك الإبل]

الموضع الثالث: مبارك الإبل جمع مبرك، و هي المواضع الّتي يأوي إليها الإبل للمقام و للشرب كما عن الصحاح(2) و التعبير بالمبارك كما في الشرائع(3) و النافع(4) و عن التلخيص(5) و في كلام جماعة كالقواعد(6) و اللمعة(7) و غيرهما التعبير بمعاطن الإبل، و المنقول من كلام أهل اللغة أنّه أخصّ من المبارك، قال في المدارك و غيره: «أنّهم قالوا:

معاطن الإبل مباركها حول الماء لتشرب عللا بعد نهل، و العلل الشرب الثاني، و النهل الشرب الأوّل، ثمّ قال: لكنّ الظاهر عدم تعقّل الفرق بين موضع الشرب و غيره»(8).

و عن نهاية الإحكام(9) و التذكرة(10) و الذكرى(11) و كشف الالتباس(12) و إرشاد الجعفريّة(13) أنّ المعاطن هي المبارك الّتي تأوي إليها الإبل مطلقا، و الظاهر أنّ مرادهم تفسيرهم له من حيث اخذ موضوعا للحكم الشرعي بالمعنى العامّ ، كما يشهد له ظاهر المحكيّ عن السرائر من «أنّ أهل الشرع لم يخصّوا ذلك بمبرك دون مبرك»(14) و عن البحار نسبته إلى الأكثر(15). و عن المنتهى «أنّ الفقهاء جعلوها أعمّ من ذلك، و هي مبارك الإبل مطلقا الّتي تأوي إليها»(16) خلافا لما في الروضة من تفسير المعطن في عبارة اللمعة «بمبارك الإبل عند الماء للشرب»(17) و لعلّه نظر إليه بحسب اللغة لا باعتبار ما هو موضوع الحكم في كلام الفقهاء، فلا مخالفة حينئذ و إن كان بعيدا.

و كيف كان فكراهة الصلاة في مبارك الإبل هو المشهور كما عن المختلف(18)و التلخيص(19) و البحار(20) و كشف اللثام(21) المنسوب إلى مذهب الأكثر كما عن المعتبر(22)

ص: 661


1- حاشية الروضة: 218.
2- الصحاح 2165:6.
3- الشرائع 72:1.
4- المختصر النافع: 26.
5- التلخيص (الينابيع الفقهيّة) 559:28.
6- القواعد 259:1.
7- اللمعة: 11.
8- المدارك 229:3.
9- نهاية الإحكام 345:1.
10- التذكرة 403:2.
11- الذكرى 90:3.
12- كشف الالتباس: 101.
13- المطالب المظفّريّة: 77.
14- السرائر 266:1.
15- البحار 310:83.
16- المنتهى 321:4.
17- الروضة البهية 550:1.
18- المختلف 103:2.
19- التلخيص (الينابيع الفقهيّة) 559:27.
20- البحار 310:83.
21- كشف اللثام 294:3.
22- المعتبر 112:2.

و جامع المقاصد(1) و المدّعى عليه الإجماع كما عن الغنية(2) و ظاهر المنتهى(3).

و المستند روايات عديدة، كالمرويّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إذا أدركتم الصلاة و أنتم في أعطان الإبل فاخرجوا منها و صلّوا، فإنّها جنّ من جنّ خلقت، أ لا ترونها إذا نفرت كيف تشمخ(4) بأنفها»(5) و صحيحة الحلبي المرويّة عن كتب المشايخ الثلاث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الصلاة في مرابض الغنم ؟ فقال: صلّ فيها و لا تصلّ في أعطان الإبل، إلاّ أن تخاف على متاعك الضيعة، فاكنسه و رشّه بالماء و صلّ »(6) و صحيحة محمّد بن مسلم قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في أعطان الإبل ؟ فقال: إن تخوّفت الضيعة على متاعك فاكنسه و انضحه و صلّ ، و لا بأس بالصلاة في مرابض الغنم»(7).

و موردها كما ترى هو العطن، و كأنّ التعميم على ما سمعته من الأصحاب مستفاد من تعليل النبوي و غيره من الرواية العامّيّة المعلّلة بكونها من الشياطين، كما وقع التصريح به أيضا في كلام جماعة(8) مضافا إلى ما ستعرف من النهي في مناهي(9) الرسول.

و في المدارك «أنّ إطلاق كلام الأصحاب يقتضي كراهة الصلاة في المبارك سواء كانت الإبل غائبة عنها أم حاضرة»(10) و هو كذلك بل هو مقتضى إطلاق الروايات أيضا.

ثمّ قضيّة الصحيحتين ارتفاع الكراهة حال الضرورة، و يمكن توقّف ارتفاعها حينئذ على الكنس و رشّ الماء، و يمكن كونهما مستحبّين من دون مدخليّة لهما في دفع الكراهة، و الصحيحتان تحتملانهما. لكن عن المفاتيح «أنّ الكراهة تزول أو تخفّ بالرشّ »(11) و عنه أنّه نقله في كشف الرموز(12) عن النزهة(13) و مستنده غير واضح، و اللّه العالم.

[الموضع الرابع و الخامس: مسكان النمل و مجرى المياه]

الموضع الرابع و الخامس: مساكن النمل و مجرى المياه، و في القواعد(14)

ص: 662


1- جامع المقاصد 132:2.
2- الغنية: 67.
3- المنتهى 319:4.
4- شمخ: ارتفع و تكبّر (النهاية لابن الأثير 500:2).
5- سنن البيهقي 449:2، كنز العمّال 19167/340:7.
6- الوسائل 2/145:5، ب 17 مكان المصلّي، التهذيب 865/220:2.
7- الوسائل 1/144:5، ب 17 مكان المصلّي، التهذيب 868/220:2.
8- كما في المستند 431:4، كشف اللثام 295:3، و المنتهى 321:4.
9- الوسائل 2/158:5، ب 25 مكان المصلّي، الفقيه 1/2:4.
10- المدارك 238:3.
11- المفاتيح 102:1.
12- و الصحيح كشف اللثام 294:3.
13- نزهة الناظر: 26.
14- القواعد 259:1.

و غيره(1) التعبير عن الأوّل بقرى النمل مجتمع ترابها، و عن الغنية(2) الإجماع على الكراهة في الأوّل، و عن المنتهى(3) «ذهب إليه علماؤنا» في الثاني.

و مستنده من الروايات المرسل المتقدّم في الموضع الأوّل المشتمل على عشرة مواضع، و عدّ منها الموضعين.

و في المدارك: المراد بمجرى المياه الأمكنة المعدّة لجريانها فيها. و قيل: تكره الصلاة في بطون الأودية الّتي يخاف فيها هجوم السيل(4). قال في النهاية: فإن أمن السيل احتمل بقاء الكراهة اتّباعا لظاهر النهي و عدمها لزوال موجبها(5). و لم أقف له على ما ادّعاه من الإطلاق(6) انتهى.

أقول: و لعلّ مستند القول بهذا الإطلاق هو النهي الوارد في مناهي الرسول المرويّ في الفقيه، و فيه «نهى أن يصلّي الرجل في المقابر و الطرق و الأرحية و الأودية و مرابط الإبل»(7).

[الموضع السادس و السابع: أرض السبخة و الثلج]

الموضع السادس و السابع: أرض السبخة و الثلج، و عن الخليل في العين «أنّ أرض السبخة بفتح الباء، فأمّا إذا كانت نعتا للأرض كقولك الأرض السبخة فبكسر الباء»(8)و السرّ في هذا التفصيل ما أشار إليه في الروضة من «أنّ السبخة بفتح الباء واحدة السباخ و هي الشيء الّذي يعلو الأرض كالملح، أو بكسرها و هي الأرض ذات السباخ»(9) و عليه فإضافته إلى السبخة على التقدير الثاني من باب إضافة الموصوف إلى الصفة.

و الكراهة في السبخة منسوبة إلى الأكثر في المعتبر(10) و إلى ظاهر الأكثر كما عن البحار(11) و إلى علمائنا في المنتهى(12) و عن الخلاف(13) و الغنية(14) الإجماع عليها.

و المستند فيها و في الثلج المرسلة المتقدّمة في الحمّام، مضافا في الاولى إلى صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه كره الصلاة في السبخة إلاّ أن يكون مكانا ليّنا يقع عليه الجبهة مستوية، فقلت: إن كان فيها أرض مستوية ؟ فقال: لا بأس»(15) و في الثاني إلى موثّقة

ص: 663


1- المعتبر 112:2، البحار 308:83، الهداية: 139، روض الجنان 607:2، الروضة البهيّة 550:1.
2- الغنية: 67.
3- المنتهى 348:4.
4- الذكرى 92:3.
5- نهاية الإحكام 344:1.
6- المدارك 229:3-230.
7- الفقيه 1/2:4.
8- العين 204:4.
9- الروضة البهيّة 551:1.
10- المعتبر 112:2.
11- البحار 311:83.
12- المنتهى 347:4.
13- الخلاف 506:1.
14- الغنية: 67.
15- الوسائل 1/150:5، ب 20 مكان المصلّي، الفقيه 729/157:1.

عمّار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصلّي على الثلج ؟ قال: لا، فإن لم يقدر على الأرض بسط ثوبه و صلّى عليه»(1) و رواية داود الصرمي قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام قلت له: إنّي أخرج في هذا الوجه و ربّما لم يكن موضع اصلّي فيه من الثلج فكيف أصنع ؟ قال: إن أمكنك أن لا تسجد على الثلج فلا تسجد عليه، و إن لا يمكنك فسوّه و اسجد عليه»(2) بناء على إرادة الصلاة من السجود.

و يظهر من ذلك ارتفاع الكراهة حال الضرورة مع التسوية لا مطلقا. كما يظهر من صحيح الحلبي اختصاص الكراهة في السبخة بعدم استواء موضع الجبهة، و لذا علّلت في كلام جماعة(3) بعدم كمال تمكّن الجبهة من الأرض فيها، و قد نصّ عليه أيضا في خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الصلاة في السبخة لم تكرهه ؟ قال: لأنّ الجبهة لا تقع مستوية، فقلت: إن كان فيها أرض مستوية، فقال: لا بأس»(4). و خبر معلّى بن خنيس قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السبخة أ يصلّي الرجل فيها؟ فقال: إنّما تكره الصلاة فيها من أجل أنّها لا يتمكّن الرجل يضع وجهه كما يريد، قلت: أ رأيت إن هو وضع وجهه متمكّنا؟ فقال: حسن»(5).

و قضيّة ذلك أن لا تكون الكراهة في السبخة ذاتيّة و لنفس الأرض، لكن في بعض الروايات كراهة الصلاة في أرض بابل تعليلا بكونها سبخة(6)، و في البعض الآخر وصفها «بأنّ هذه أرض معذّبة لا ينبغي لنبيّ و لا وصيّ نبيّ أن يصلّي فيه، فمن أراد منكم أن يصلّي فليصلّ »(7) و في آخر «أنّ هذه أرض ملعونة عذّبت في الأرض ثلاث مرّات» قيل و في خبر آخر «مرّتين»(8).

ص: 664


1- الوسائل 2/164:5، ب 28 مكان المصلّي، التهذيب 1266/312:2.
2- الوسائل 3/164:5، ب 28 مكان المصلّي، التهذيب 1256/310:2.
3- كما في جامع المقاصد 133:2، روض الجنان 608:2، المسالك 174:1، المدارك 230:3.
4- الوسائل 7/151:5، ب 20 مكان المصلّي، التهذيب 873/221:2.
5- الوسائل 10152:5 /، ب 20 مكان المصلّى، المحاسن: 112/365.
6- مستدرك الوسائل 2/339:3، ب 15 مكان المصلّي، أمالي الطوسي 284:2 مجلس سلخ رجب سنة 457.
7- الوسائل 3/181:5، ب 38 مكان المصلّي، علل الشرائع: 4/252.
8- الوسائل 2/180:5، ب 38 مكان المصلّي، الفقيه 611/130:1.

و قضيّة الجمع بين الروايات اجتماع جهتين في أرض بابل السباخ و العذاب، فإنّ الثاني أيضا على ما صرّح به جماعة(1) من موجبات الكراهة، و المراد بالعذاب عذاب أهلها بخسف و نحوه، قيل(2) «و روي أنّ عليّا عليه السّلام ترك الصلاة في أرض بابل لكونها مخسوفة حتّى عبر الفرات و صلّى في الموضع المشهور بعد ما ردّت له الشمس إلى وقت الفضيلة و كان قد تجاوزت»(3) و قد روت العامّة «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لأصحابه لمّا مرّ بالحجر:

لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلاّ أن تكون باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم»(4) و الحجر بالكسر ديار ثمود و منازلهم بين الحجاز و الشام عند وادي القرى.

[الموضع الثامن: كراهة الصلاة بين القبور]

الموضع الثامن: بين القبور، و كراهة الصلاة هاهنا ما نسب حكاية الشهرة فيه إلى التلخيص(5) و كشف اللثام(6) و عن الغنية(7) الإجماع عليها و هو ظاهر المنتهى أيضا حيث قال: «ذهب إليه علماؤنا»(8) و عن الشيخ في الخلاف «عن قوم من أصحابنا أنّها في المقابر غير مجزئة»(9) و اشتهر القول بالفساد عن سلاّر في مراسمه(10).

و ليعلم أنّ كلام الأصحاب في موضوع الكراهة هاهنا لا يخلو عن إهمال، فإنّ فتاويهم الّتي عثرنا عليها متّفقة على التعبير ب «بين القبور و بين المقابر» و ظاهره الموضع المحفوف بالقبور بأن أحاط به القبور من الجوانب الأربع. و لو سلّم شموله غير هذه الصورة أيضا فلا يشمل إلاّ ما أحاط به القبور من جوانب ثلاث: الأمام و الجانبين، أو الخلف و الجانبين، أو الخلف و الأمام و أحد الجانبين، إمّا اليمين أو اليسار.

و أمّا ما أحاط به قبران بأن يكون أحدهما أمامه و الآخر خلفه، أو أحدهما على يمينه و الآخر على يساره، و ما كان فيه قبر واحد من أمام المصلّي أو خلفه أو يمينه أو يساره أو تحته بأن يصلّي عليه، فلا يندرج شيء من ذلك في ظاهر فتاويهم.

و العمدة من روايات المسألة أيضا كالفتاوي مشتملة على «بين القبور» كما ستعرف،

ص: 665


1- كما في السرائر 265:1، المعتبر 115:2، نهاية الإحكام 347:1، المنتهى 348:4، التذكرة 2: 409، البيان: 65.
2- كما في روض الجنان 609:2.
3- الفقيه 611/130:1، علل الشرائع: 4/352.
4- صحيح البخاري 9:6، صحيح مسلم 39/2286:4، سنن البيهقي 451:2.
5- التلخيص (الينابيع الفقهيّة) 559:28.
6- كشف اللثام 300:3.
7- الغنية: 67.
8- المنتهى 313:4.
9- الخلاف 496:1.
10- المراسم: 65.

فهي أيضا غير شاملة للقبر و القبرين. و لا يبعد القول بكون مرادهم من «القبور» و «المقابر» جنس المفرد، فيشمل القبر و المقبرة أيضا على تقدير صدق المقبرة على ما فيه قبر أو قبران.

كما ربّما يكشف عن ذلك ما في منتهى(1) العلاّمة و غيره(2) ممّن ستسمع، فإنّه بعد ما ذكر أصل الحكم و عبّر بكراهة الصلاة في المقابر و نقل فيه مذاهب العامّة و أدلّتهم و أدلّة مختاره، ذكر فروعا «أوّلها أنّه لا فرق بين المقبرة الجديدة و العتيقة في كراهية الصلاة و إجزائها، و قد فرّق الشافعي بينهما... إلى آخر ما ذكره، ثمّ ذكر الفرع الثاني و هو أنّه لو كان في الموضع قبر أو قبران لم يكن بالصلاة فيها بأس إذا تباعد من القبر بنحو من عشرة أذرع، أو جعل بينه و بينه حائلا بلا خلاف، أمّا عندنا فظاهر، و أمّا عند أهل الظاهر فلأنّها بالواحد و الإثنين لا تسمّى مقبرة، فلا يتناولها النهي»(3).

و قوله: «إذا تباعد...» الخ يدلّ بالمفهوم على ثبوت البأس مع انتفاء الأمرين و ليس إلاّ الكراهية، و قوله: «أمّا عندنا» يؤذن بكونه إجماعا.

و كيف كان فالمتّبع هو الدليل مع وضوح الأصل النافي للكراهة، فنقول: إنّ الكراهية في كلام الأصحاب يتضمّن أمران(4): أحدهما، الجواز، و الآخر كونه على وجه الكراهة.

أمّا الجواز فدليله - بعد الأصل المعتضد بما عرفت من منقول الإجماع و محكيّ الشهرة إن لم نقل بكون كلّ منهما دليلا مستقلاّ - الروايات المعتبرة، كصحيحة عليّ بن يقطين في التهذيب قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الصلاة بين القبور و هل يصلح ؟ قال: لا بأس»(5).

و صحيحة عليّ بن جعفر - في الفقيه - عن أخيه موسى عليه السّلام قال: «سألته عن الصلاة بين هل تصلح ؟ قال لا بأس به»(6). و رواية معمّر بن خلاّد الّتي وصفها في المنتهى(7) بالصحّة عن الرضا عليه السّلام «لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتّخذ القبر قبلة»(8) و ربّما أمكن كون

ص: 666


1- المنتهى 315:4-316.
2- كما في جامع المقاصد 134:2، المسالك 175:1، الروض 610:2، الروضة 551:1.
3- المنتهى 315:4-316.
4- كذا في الأصل، و الصواب: أمرين.
5- الوسائل 4/159:5، ب 25 مكان المصلّي، التهذيب 1555/374:2.
6- الوسائل 1/158:5، ب 25 مكان المصلّي، الفقيه 737/158:1.
7- المنتهى 314:4.
8- الوسائل 3/159:5، ب 25 مكان المصلّي، التهذيب 897/228:2.

هذه الرواية موثّقة كما هو قضيّة الجمع بين المحكيّ عن النجاشي و المحكيّ عن الكشّي في معاوية بن حكيم الواقع في سندها، فعن الأوّل «أنّه ثقة جليل القدر»(1) و عن الثاني «أنّه فطحي»(2).

و أمّا الكراهية فللمرسل المتقدّم(3) في حكم الحمّام، و رواية عبيد بن زرارة قال:

«سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: الأرض كلّها مسجد إلاّ بئر غائط أو مقبرة»(4) و النبويّات الّتي في إحداها أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «الأرض كلّها مسجد إلاّ المقبرة و الحمّام»(5) و الاخرى «أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى عن الصلاة في سبعة مواطن ظهر بيت اللّه و المقبرة و المزبلة و المجزرة و الحمّام و عطن الإبل و محجّة الطريق»(6) و الثالثة ما في حديث المناهي، من «أنّه نهى أن يصلّي الرجل في المقابر و الطرق و الأرحية و الأودية و مرابط الإبل و على ظهر الكعبة»(7).

و موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «عن الرجل يصلّي بين القبور؟ قال: لا يجوز ذلك إلاّ أن يجعل بينه و بين القبور إذا صلّى عشرة أذرع من بين يديه، و عشرة أذرع من خلفه، و عشرة أذرع عن يمينه، و عشرة أذرع عن يساره»(8).

و هذه الروايات مع استفاضتها و إن كانت ظاهرة في المنع، غير أنّها لا تقاوم لمعارضة المعتبرة المتقدّمة المصرّحة بالجواز سندا و لا دلالة:

أمّا الأوّل: فلموافقة المعتبرة للأصل، و اعتضادها بعمل المعظم و منقول الإجماع، و قوّة أسانيدها بالصحّة و الوثاقة، و ضعف أسانيد ما عدى الأخيرة من روايات المنع، مع عدم ظهور عامل بها أو مع عامل شاذّ. و لو سلّم عمل المعظم بها أيضا لينجبر به ضعفها فإنّما يسلّم بالنسبة إلى خلاف ظاهرها من المرجوحيّة الغير البالغة حدّ المنع، و من الظاهر حصول الانجبار بقدر الجابر، و لم يعلم ثبوته بالنسبة إلى ظاهرها بل المعلوم خلافه، و إذا

ص: 667


1- رجال النجاشي 1098/348:2.
2- رجال الكشّي 1062/835:2.
3- تقدّم في الصفحة 653 الرقم 11.
4- الوسائل 4/118:5، ب 1 مكان المصلّي، التهذيب 7128/259:3.
5- الوسائل 3/118:5، ب 1 مكان المصلّي، المحاسن: 110/365، سنن ابن ماجه 745/246:1.
6- سنن ابن ماجه 746/246:1، سنن الترمذي 346/177:2، كنز العمّال 19166/339:7.
7- الوسائل 2/158:5، ب 25 مكان المصلّي، الفقيه 1/2:4.
8- الوسائل 5/159:5، ب 25 مكان المصلّي، التهذيب 896/227:2.

انضمّت المرجوحيّة المذكورة إلى الرخصة المستفادة من المعتبرة يتولّد منه الكراهة المصطلحة.

و أمّا الثاني: فلأنّ لفظة «لا بأس» في المعتبرة نصّ في الرخصة و معارضاتها ظاهرة في المنع و محتملة لمطلق المرجوحيّة، و من الظاهر - المقرّر في محلّه - وجوب تحكيم النصّ على الظاهر، و هذا ينهض حجّة للأخذ بخلاف ظاهر المعارضات، و لازمه ثبوت الكراهة أيضا.

نعم يبقى الكلام في سؤال ربّما سبق إلى بعض الأوهام، و هو أنّ المنع المستفاد من الموثّقة المفصّلة بين التباعد بعشرة أذرع من كلّ جانب مقيّد بعدم التباعد بهذا المقدار، و لفظة «لا بأس» في المعتبرة مطلقة بالقياس إليه و إلى التباعد، فتحمل على الثاني حملا للمطلق على المقيّد لرفع التنافي عمّا بينهما، كما يحمل إطلاق المنع المستفاد ممّا عدى الموثّقة على الأوّل لذلك.

و يدفعه أوّلا: أنّ مرجع حمل المطلق على المقيّد إلى تحكيم الأظهر على الظاهر، كما في «أعتق رقبة» و «لا تعتق كافرة» فإنّ النهي أقوى دلالة على التحريم من الرقبة في الدلالة على الإطلاق، لكون ظهور الأوّل وضعيّا و ظهور الثاني عقليّا، و من البيّن أنّ الوضع أقوى سببي الدلالة، فيكون النهي في التحريم أظهر من المطلق في الإطلاق، و هذا الاعتبار في الجملة المؤوّلة إلى الانشاء منتف، لأنّ ظهورها في التحريم ثانوى ينشأ من الأقربيّة بحسب العرف، و إنّما يسلّم ذلك يحث لم يزاحمه ظهور آخر، و ظهور «لا بأس» في الإطلاق يزاحمه فينهض قرينة على إرادة المجاز البعيد من الجملة الخبريّة، و هو المرجوحيّة الغير البالغة حدّ المنع.

و ثانيا: أنّ أظهريّة المقيّد إنّما حيث لم يطرأه ما يوهن ظهوره، و عدم أخذ المعظم بظاهر النهي يوهنه، فيقوى عليه حينئذ ظهور المطلق في الإطلاق، فيحكم على النهي بحمله على إرادة المرجوحيّة الّتي إذا انضمّت إلى الرخصة يتولّد منهما الكراهة المصطلحة.

و بملاحظة الموثّقة يظهر وجه ما في كلام الأصحاب من زوال الكراهة بالبعد عن القبور بعشرة أذرع، و إن اختلفت عباراتهم بين من أطلق ببعد عشرة أذرع كما في الشرائع(1)

ص: 668


1- الشرائع 72:1.

و القواعد(1) و اللمعة(2) و الروضة(3) و عن الإرشاد(4) و التحرير(5) و من صرّح بأنّ ذلك من كلّ جانب كما عن الفقيه(6) و المفاتيح(7) و النزهة(8) و بين من خصّه بما عدى الخلف كما عن النهاية(9) و المبسوط(10) و الوسيلة(11) و التذكرة(12) و نهاية الإحكام(13) و عن جامع المقاصد(14) و فوائد الشرائع(15) و إرشاد(16) الجعفريّة و المسالك(17) و كشف اللثام(18) أنّه لا يكفي كونه خلف المصلّي من دون البعد المذكور، و لا وجه لاستثناء الخلف من بين الجهات، و هذا موافقة للقول الثاني و النصّ يساعد عليه، و يمكن إرجاع القول الأوّل إليه بدعوى ظهور البعد عن المقابر بعشرة أذرع في البعد عنها من كلّ جانب.

نعم يبقى الكلام مع أصحاب القول الثالث، فإنّه خروج عن النصّ من غير دليل يترجّح عليه، و إن كان قد يوجّه بأنّه «إن بعد من القبور عشرة أذرع في الجهات الثلاث لم يكن بين الجهات» كما عن الروض(19) فإنّه على تقدير تسليمه اجتهاد في مقابلة النصّ فلا يعبأ به.

نعم يبقى الكلام في زوال الكراهة بوجود حائل بينه و بين القبور، كما في كلام جماعة(20)و في المدارك(21) إسناد القطع بذلك إلى الأصحاب، و إن اختلفت عباراتهم أيضا هنا بإطلاق الحائل كما في كلام جماعة(22) و يذكر الحائل و لو عنزة كما في كلام آخرين(23).

و عنزة بالفتح و هي على ما في الروضة العصاء في أسفلها حديد(24) و في شرح الدروس «عنزة بفتح العين المهملة و تحريك النون و بعدها زاء عصاء في أسفلها حربة»(25) و عن الصحاح «أنّها أطول من العصاء و أقصر من الرمح»(26) و عن النهاية التعبير «عنزة

ص: 669


1- القواعد 259:1.
2- اللمعة: 31.
3- الروضة البهيّة 551:1.
4- إرشاد الأذهان 249:1.
5- التحرير 212:1.
6- الفقيه 243:1.
7- المفاتيح 102:1.
8- النزهة: 26.
9- النهاية: 99.
10- المبسوط 85:1.
11- الوسيلة: 90.
12- التذكرة 405:2.
13- نهاية الإحكام 346:1.
14- جامع المقاصد 135:2.
15- فوائد الشرائع: 33.
16- المطالب المظفّريّة: 77.
17- المسالك 175:1.
18- كشف اللثام 301:3.
19- ليس هذا العبارة في روض الجنان بل هذه بعينه عبارة كشف اللثام 30/:3.
20- كما في المنتهى 316:4.
21- المدارك 231:3.
22- كما في النافع: 26، التحرير 33:1، الإرشاد 249:1، التذكرة 405:2، الكفاية: 16.
23- كما في الشرائع 72:1، نهاية الإحكام 346:1، البيان: 65، اللمعة: 31، المسالك 175:1.
24- الروضة البهيّة 551:1.
25- شرح الدروس 665:1.
26- الصحاح 887:3 (عنز).

و ما أشبهها»(1) و عن الروض(2) كما في الدروس(3) و لو عنزة أو لبنة أو ثوبا. و ظاهر كلامهم بملاحظة هذا الاختلاف يعطي كفاية حائل ما، كما أنّ إطلاق العنزة في كلام من ذكرها يعطي التخيير في كيفيّة وضعها منصوبة أو ملقاة على الأرض عرضا، بل في الروضة التصريح بالتخيير بينهما حيث قال: «مركوزة أو معترضة»(4).

و على أيّ حال كان فالعمدة ذكر مستند هذا الحكم، و لم نقف على ما يعوّل عليه كما اعترف به جماعة منهم صاحبا المدارك(5) و الذخيرة(6) فإن تمّ إجماعا فهو و إلاّ فالحكم محلّ وقف.

و يمكن جعل مستنده ما دلّ على رافعيّة الحائل للكراهة في مسألة محاذاة المرأة للرجل، و لكنّه لم نقف على من استند إليه و لعلّه لوضوح ضعفه لكونه قياسا و مع الفارق، لأنّهم اعتبروا ثمّة في الحائل ما لم يعتبروه هنا، و لذا اكتفوا بحائل ما و لو عنزة.

نعم في مفتاح الكراهة(7) جعل مستنده عموم نصوص الحيلولة بالعنزة ردّا على من أنكر وضوح المستند، كمجمع(8) البرهان و البحار(9) و المدارك(10) و نسب الإشارة إلى الاستناد إلى العموم المذكور إلى المنتهى(11) و جامع المقاصد(12) و كشف اللثام(13).

و كأنّه أراد من نصوص الحيلولة بها روايات استحباب السترة في الصلاة بين يدي المصلّي الّتي منها صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجعل العنزة بين يديه إذا صلّى»(14).

و فيه: منع العموم فإنّ استحباب الحيلولة بالعنزة لا يلازم ارتفاع كراهة بين القبور بها فإذا صلّى بينها، و جعل العنزة بين يديه أمكن الجمع بين تأدّي السنّة بها مع حصول الكراهة بكونه بين القبور لتعدّد جهتي الاستحباب و الكراهة.

و لعلّ مراده من عموم هذه النصوص عمومها من جهة الإطلاق في حكاية فعل النبيّ

ص: 670


1- النهاية: 99.
2- روض الجنان 609:2.
3- الدروس 86:1.
4- الروضة البهيّة 551:1.
5- المدارك 232:3.
6- الذخيرة: 245.
7- مفتاح الكرامة 207:6.
8- مجمع البرهان 141:2.
9- البحار 307:83.
10- المدارك 232:3.
11- المنتهى 319:4.
12- جامع المقاصد 134:2.
13- كشف اللثام 300:3-301.
14- الوسائل 1/136:5، ب 12 مكان المصلّي، الكافي 1/296:3.

بتوهّم أنّه يعمّ ما لو صلّى بين القبور و غيره، فاكتفاؤه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجعل العنزة بين يديه يدلّ على أنّه لا كراهة معه في الصورة الاولى.

و فيه: أنّ الإطلاق ليس مع رافع الكراهة نفيا و إثباتا، مع أنّ صلاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين القبور على تقدير تحقّقها في غاية الندرة، و المطلق ينصرف إلى الأفراد الشائعة و لا يشمل الفروض النادرة.

و استند شارح الدروس إلى ظهور الأخبار الناهية في صورة عدم وجود الحيلولة قائلا:

«و أمّا الحائل فلأنّ الظاهر من الأخبار المانعة صورة عدم الحائل بين المصلّي و القبر، لعدم صدق الصلاة إلى القبر على هذا التقدير»(1) و يقرب من ذلك ما أشار إليه في مفتاح الكرامة بعد كلامه المتقدّم بقوله: «و مع ذلك يخرج عن مفاهيم ألفاظ النصوص و الفتاوي و إلاّ لزمت الكراهية، و إن حالت جدران»(2) و كذا في الرياض(3). و فيه ما فيه.

و أمّا دعوى الظهور فلا جهة لها إلاّ توهّم الانصراف، و هو على فرض تسليمه بدويّ لا يبلغ حدّ الاطمئنان. و يمكن الاستناد له إلى قاعدة التسامح بناء على الاكتفاء فيها بفتوى الفقيه فضلا عن فتوى الأكثر، بتقريب أنّه كما أنّه لو قال الفقيه: يكره كذا، فهو يتضمّن ترتّب الثواب على تركه فيتناوله عموم قوله عليه السّلام: «من بلغه ثواب على عمل...»(4) الخ فكذلك لو قال: يرتفع الكراهة بفعل كذا، فهو يتضمّن ترتّب الثواب الّذي كان يترتّب على ترك المكروه، فيتناوله عموم قوله عليه السّلام: «من بلغه...» الخ، فكأنّه لم يفعل مكروها، بناء على أنّ الكراهة في العبادة ليست على حقيقتها بل بمعنى كونها أقلّ ثوابا.

و لك أن تقول: بأنّه يحصل للفقيه بملاحظة فتوى الجماعة الظنّ بالحكم، أو هي مع انضمام دعوى قطع الأصحاب في كلام صاحب المدارك(5) المؤذنة بدعوى الإجماع، و ما في الرياض من نفي الخلاف عنه(6) و ما في جامع المقاصد أيضا من «أنّ الاكتفاء في الحائل بالعنزة مستفاد من كلام الأصحاب»(7) تفيده، و فيه الكفاية.

ثمّ إنّه بعد البناء على كفاية الحائل، فهل يعتبر وضعه من جميع الجوانب الأربع، أو

ص: 671


1- شرح الدروس 656:1.
2- مفتاح الكرامة 207:6.
3- الرياض 31:3.
4- الوسائل 7/82:1، ب 18 مقدّمة العبادات، الكافي 2/71:2.
5- المدارك 231:3.
6- الرياض 31:2.
7- جامع المقاصد 135:2.

يكفي واحد و يتعيّن وضعه من بين يديه أو يخيّر في وضعه من أيّ جانب شاء؟ لم نقف فيه على متعرّض من الأصحاب عدى بعض مشايخنا(1) فخيّر بين وضعه من إحدى جهتي الأمام و الخلف، أو أحد جانبي اليمين و اليسار.

و يساعد عليه البناء في مستند الحائل على ظهور روايات المنع في غير صورة وجوده، أو أنّه يوجب الخروج عن مفهوم ألفاظ النصوص و الفتاوي.

و لا يبعد دعوى ظهور كلام الأصحاب في اعتبار وضعه بين يديه، و يساعد عليه البناء في مستنده على نصوص استحباب السترة لظهورها بل صراحة بعضها في الوضع من بين يديه، و هذا هو الأحوط و أحوط منه وضعه من كلّ جانب.

ثمّ يبقى الكلام في إلحاق القبر و القبرين بالقبور، و قد سمعت عن منتهى(2) العلاّمة ما يدلّ عليه، و صرّح به في جامع المقاصد قائلا: «و لا فرق بين القبر و القبرين و ما زاد»(3)و نحوه في المسالك قائلا: «لا فرق في الكراهة بين الصلاة بينها و إليها و لا بين القبر و القبرين و ما زاد»(4) و عزي أيضا إلى فوائد الشرائع(5) و الروض(6) بل عن الأخير نسبته إلى الأصحاب، و عن البحار(7) نسبته إلى جماعة ثمّ تأمّل فيه. و تنظّر في دلالة الأخبار عليه شارح الدروس قائلا: «و أمّا إلحاق بعض الأصحاب بالقبور القبر و القبرين ففي دلالة الأخبار عليه نظر، و ربّما ألحق بعضهم بها استدبار القبر الواحد و هو أبعد في الدلالة»(8).

و في جامع المقاصد عقيب عبارته المتقدّمة «و في توجيه الكراهة عند القبر الواحد تكلّف»(9).

و صريح كلام الروضة قصر الكراهة على ما بين القبور حيث قال: «و لو كانت القبور خلفه أو مع أحد جانبيه فلا كراهة»(10) لكن ظاهره الكراهة إلى القبر الواحد أيضا.

و بالجملة عبارات المتعرّضين لهذا الفرع مختلفة، و لا يبعد القول بالكراهة مطلقا و لو عند القبر الواحد أو إليه أو عليه، أخذا بالنبويّات الناهية عن الصلاة في المقبرة، بناء

ص: 672


1- الجواهر 595:8.
2- المنتهى 316:4.
3- جامع المقاصد 134:2.
4- المسالك 175:1.
5- فوائد الشرائع: 33.
6- روض الجنان 610:2.
7- البحار 308:83.
8- شرح الدروس 657:1.
9- جامع المقاصد 134:2.
10- الروضة البهيّة 551:1.

على صدق المقبرة مع القبر الواحد و القبرين كما هو الأظهر. مضافا إلى خبر يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى أن يصلّي على قبر أو يعقد عليه و يبنى عليه»(1) هذا على ما في الوسائل، و رواه الشهيد في الذكرى(2) على نهج آخر ستعرفه، و لعلّ ضعف أسانيدها مع قوّة احتمال انجبارها بعمل الجماعة في نحو هذا الحكم لكونه من السنن، غير قادح، فتأمّل.

ثمّ إنّ ظاهر كلام الأصحاب و صريح غير واحد كراهة الصلاة إلى القبر و لو واحدا، و في حاشية الروضة «القول بكراهة الصلاة إلى القبور أو القبر هو المشهور بين الأصحاب»(3)و ظاهر أبي الصلاح القول بالمنع في عبارة محكيّة عنه، و هي «أنّه لا يجوز التوجّه إلى النار و السلاح المشهور و النجاسة الظاهرة و المصحف المشهور و القبور و لنا في فساد الصلاة مع التوجّه إلى شيء من ذلك نظر»(4) و ربّما عزي هذا القول إلى الصدوق في الفقيه لأنّه قال:

«و أمّا القبور فلا يجوز أن تتّخذ قبلة و لا مسجدا، و لا بأس بالصلاة بين خلالها ما لم يتّخذ شيء منها قبلة، و المستحبّ أن يكون بين المصلّي و بين القبور عشرة أذرع من كلّ جانب»(5).

و لكن فيه نظر واضح، لأنّ العبارة ظاهرة كالصريح في منع اتّخاذ القبر قبلة بأن يستقبل إليه مكان الاستقبال الّذي هو شرط في الصلاة و إن كان في غير جهة الكعبة، لا منع مطلق التوجّه إليه حال استقبال الكعبة عينا أو جهة، كيف و لو لا ذلك لناقض قوله «لا يجوز...» الخ مع قوله: «و لا بأس» لأنّ الصلاة بين خلل القبور يستلزم التوجّه إلى قبر لا محالة.

و قوله: «ما لم يتّخذ شيء منها قبلة» قرينة واضحة على عدم كون مطلق التوجّه إلى القبر ممنوعا، بل الممنوع هو التوجّه إليه على أن يكون هو القبلة المعتبرة في الصلاة، كما ربّما شوهد و شاهدناه من الأعراب في قبور الأئمّة عليهم السّلام و عليه يحمل بعض النصوص الآتية الناهي عن اتّخاذ قبر الإمام قبلة.

نعم للمفيد رحمه اللّه عبارة عن المقنعة لا تبعد دعوى ظهورها في المنع و هي «لا تجوز الصلاة إلى شيء من القبور حتّى يكون بين الإنسان و بينه حائل و لو قدر لبنة أو عنزة منصوبة أو ثوب موضوع، و قد روي(6) أنّه لا بأس بالصلاة إلى قبلة فيها قبر إمام، و الأصل ما قدّمناه»

ص: 673


1- الوسائل 8/160:5، ب 25 مكان المصلّي، التهذيب 1054/461:1.
2- الذكرى 36:2.
3- حاشية الروضة: 220.
4- الكافي في الفقه: 141.
5- الفقيه 2:1.
6- الوسائل 1/160:5، ب 26 من مكان المصلّي، التهذيب 898/228:2.

قوله: «و الأصل ما قدّمنا» يعني أنّ القاعدة في الصلاة إلى القبر ما قدّمناه من أنّه لا يجوز حتّى إلى قبر الإمام. لكن عنه له عبارة اخرى صارفة لقوله «لا يجوز» عن ظهوره في المنع إلى إرادة الكراهة، و هو قوله بلا فصل: «و يصلّي الزائر ممّا يلي رأس الإمام فهو أفضل من أن يصلّي إلى القبر من غير حائل بينه و بينه على حال»(1) و هذا ظاهر كالصريح في الجواز إلى قبر الإمام، و المفروض أنّه أدخله في سابق كلامه في مدلول «لا يجوز» كما عرفت.

و كيف كان فمستند المنع رواية معمّر بن خلاّد المتقدّمة عن الرضا عليه السّلام قال: «لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتّخذ القبر قبلة»(2) فإنّ مفهومه البأس مع اتّخاذ القبر قبلة.

و فيه أوّلا: أنّ البأس أعمّ من الكراهة، فليس المفهوم صريحا و لا ظاهرا في الحرمة.

و ثانيا: أنّ اتّخاذ القبر قبلة على ما بيّنّاه غير التوجّه إلى القبر عند استقبال القبلة و هي الكعبة أو جهتها، و المنع من الأوّل لا يستلزم المنع من الثاني.

و من ذلك ظهر الجواب عن مرسلة الفقيه «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تتّخذوا قبري قبلة و لا مسجدا، فإنّ اللّه عزّ و جلّ لعن اليهود لأنّهم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(3) و الظاهر أنّه تتمّة ما رواه في العلل مسندا بسند صحيح عن حريز عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت له:

الصلاة بين القبور؟ قال: بين خللها، و لا تتّخذ شيئا منها قبلة، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى عن ذلك...»(4) إلى آخر ما ذكره. و أمّا اتّخاذه مسجدا فمعناه السجود عليه على معنى وضع الجبهة عليه، على ما ستعرف من المنع عنه في الرواية الآتية.

فالإنصاف أنّ حكم الصلاة إلى القبور لا يزيد على الكراهة كما هو المشهور، و لا مستند له ظاهرا إلاّ ما تقدّم من الروايات الناهية عن الصلاة في المعتبرة الشاملة للصلاة إلى القبر، و غيرها من المصرّحة بعدم الجواز المحمول على الكراهة إلاّ مع البعد بعشرة أذرع، و خصوص رواية يونس بن ظبيان على ما نقله في الذكرى عن الصادق عليه السّلام عن أبيه قال:

«نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يجصّص القبر، و أن يبنى عليه، و أن يقعد عليه»(5) و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص: 674


1- المقنعة: 151-152.
2- الوسائل 3/159:5، ب 25 مكان المصلّي، التهذيب 897/228:2.
3- الوسائل 3/161:5، ب 26 مكان المصلّي، الفقيه 432/114:1.
4- الوسائل 5/161:5، ب 26 مكان المصلّي، علل الشرائع: 1/358.
5- و الصحيح أن هذا الحديث رواه الشهيد في الذكرى عن العامّة عن جابر لا عن الصادق عليه السّلام. صحيح مسلم 97/667:2، سنن النسائي 87:4.

«لا تجلسوا على القبور و لا تصلّوا إليها»(1).

و هل يستثنى من هذا الحكم قبور الأئمّة عليهم السّلام بل مطلق المعصوم أو لا؟ كلمات الأصحاب فيه مختلفة و أقوالهم مضطربة، فظاهر المفيد في عبارته المتقدّمة - القائلة بأنّه «و يصلّي الزائر ممّا يلي رأس الإمام فهو أفضل من أن يصلّي إلى القبر من غير حائل بينه و بينه على حال»(2) - إطلاق الكراهة، و هو صريح عبارة الدروس(3) و عزي إلى البيان(4)و الروض(5) أيضا، و عزي إلى ظاهر المعتبر(6) أيضا لاستضعافه رواية الحميري الآتية، و عن إرشاد الجعفريّة «أنّ الأكثر على الكراهة إلى قبور الأئمّة عليهم السّلام في النوافل خاصّة، و المفيد كرهها عند قبورهم مطلقا، و الأكثر على خلاف ذلك»(7).

و عن البحار «الأحوط عدم التوجّه إلى قبر غيرهم، و الجواز و عدم الكراهة في قبورهم لا يخلو من قوّة لا سيّما مشهد الحسين عليه السّلام بل لا يبعد القول بذلك في قبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحمل أخبار المنع على التقيّة لاشتهار الروايات بين المخالفين و قول بعضهم بالحرمة... إلى أن قال: و يمكن الفرق بين قبره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قبور الأئمّة عليهم السّلام بالقول بالكراهة في الأوّل دون الثاني» انتهى(8).

و ظاهر الشهيد في الذكرى الميل إلى عدم الكراهة مطلقا، ناسبا له إلى إطباق الإماميّة عليه، حيث إنّه في باب الجنائز بعد ما ذكر الأخبار الدالّة على كراهة البناء على القبر و اتّخاذه مسجدا، و على كراهة القعود عليه و الصلاة إليه و عليه قال: «هذه الأخبار رواها الصدوق و الشيخان و جماعة المتأخّرين في كتبهم، و لم يستثنوا قبرا، و لا ريب أنّ الإماميّة مطبقة على مخالفة قضيتين من هذه إحداهما البناء، و الاخرى الصلاة، و ناهيك ما في المشاهد المقدّسة. فيمكن القدح في هذه الأخبار لأنّها آحاد، و بعضها ضعيف الأسناد، و قد عارضها أخبار اخر أشهر منها»(9).

و في جامع المقاصد: يظهر من الذكرى إطباق الإماميّة على خلاف المفيد و الشيخ في الفرائض و النوافل، و هو مستفاد من الرواية فإنّ فيها «أنّ الصلاة خلف الإمام و يصلّي عن

ص: 675


1- صحيح مسلم 972/668:2، سنن أبي داود 3229/217:3، سنن البيهقي 79:4، الذكرى 36:2.
2- المقنعة: 152.
3- الدروس 154:1.
4- البيان: 66.
5- روض الجنان 610:2.
6- المعتبر 115:2.
7- نقله عنه في مفتاح الكرامة 211:6.
8- البحار 307:83 و 314.
9- الذكرى 37:2.

يمينه و شماله، و لا يجوز تقدّمه»(1) و هو يتناول الفريضة و النافلة، انتهى(2).

و من أجلّة من عاصرناه من اختار جوازها بل استحبابها استنادا إلى استقرار عمل الشيعة في الأعصار و الأمصار على ذلك بلا نكير من العلماء، مضافا إلى الصحيح المرويّ في التهذيب عن محمّد بن عبد اللّه الحميري قال: «كتبت إلى الفقيه عليه السّلام أسأله عن الرجل يزور قبور الأئمّة عليهم السّلام هل يجوز أن يسجد على القبر أم لا؟ و هل يجوز لمن صلّى عند قبورهم أن يقوم وراء القبر و يجعل القبر قبلة، و يقوم عند رأسه و رجليه ؟ و هل يجوز أن يتقدّم القبر و يصلّي و يجعله خلفه أم لا؟ فأجاب - و قرأت التوقيع، و منه نسخت -: أمّا السجود على القبر فلا يجوز في نافلة و لا فريضة و لا زيارة، بل يضع خدّه الأيمن على القبر، و أمّا الصلاة فإنّها خلفه يجعله الإمام، و لا يجوز أن يصلّي بين يديه، لأنّ الإمام لا يتقدّم، و يصلّي عن يمينه و شماله»(3) و هذه الرواية مستند المجوّزين. و عن المعتبر في بيان السرّ في اطراح المفيد إيّاها «أنّه لا ريب أنّ اطراحه لهذه الرواية لضعفها و شذوذها و اضطراب لفظها» انتهى(4).

و وجّه الضعف بأنّ الشيخ رواها عن محمّد بن أحمد بن داود عن الحميري و لم يبيّن طريقه إليه و رواها صاحب الاحتجاج مرسلا عن الحميري، و الشذوذ بمخالفتها النصوص المشهورة المانعة، و الاضطراب بأنّها في التهذيب كما سمعت و في الاحتجاج «و لا يجوز أن يصلّي بين يديه و لا عن يمينه و لا عن يساره، لأنّ الإمام لا يتقدّم و لا يساوي»(5) و لأنّها في التهذيب مكتوبة إلى الفقيه و في الاحتجاج إلى صاحب الأمر عجّل اللّه فرجه.

و دفع توهّم الضعف بأنّ سندها في التهذيب هكذا: محمّد بن أحمد بن داود عن أبيه قال حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الحميري، أمّا محمّد فقال في الخلاصة: «إنّه شيخ هذه الطائفة و عالمها و شيخ القمّيين في وقته و فقيههم حكى أبو عبد اللّه الحسين بن عبيد اللّه أنّه لم ير أحدا أحفظ منه و لا أفقه و لا أعرف بالحديث»(6) و أمّا أبوه أحمد فقال النجاشي «إنّه كان ثقة كثير الحديث صحب عليّ بن بابويه و له كتاب النوادر»(7) و في الخلاصة «كان ثقة كثير

ص: 676


1- الوسائل 1/160:5، ب 26 مكان المصلّي، التهذيب 898/228:2.
2- جامع المقاصد 135:2.
3- الوسائل 1/160:5، ب 26 مكان المصلّي، التهذيب 898/228:2.
4- المعتبر 115:2.
5- الاحتجاج: 490.
6- الخلاصة: 959/267.
7- رجال النجاشي 233/242:1.

الحديث و صحب عليّ بن بابويه»(1) و زاد في الفهرست «و له كتاب النوادر كثير الفوائد»(2).

و أمّا محمّد بن عبد اللّه الحميري ففي الخلاصة «أنّه كان ثقة وجها كاتب صاحب الأمر عليه السّلام و سأله مسائل في أبواب الشريعة»(3) بقي أنّه لم ينقل الشيخ في التهذيب و الاستبصار طريقه إلى محمّد، و لا ضير فيه، إذ لا ريب أنّ كتابه كان عند الشيخ، و مع هذا فقد ذكر في الفهرست «أنّه أخبرنا بكتبه و رواياته جماعة منهم محمّد بن محمّد بن النعمان و الحسين بن عبيد اللّه و أحمد بن عبدون كلّهم عنه»(4) و مع ذلك فلا يبقى فيه وجه للضعف.

و دفع الشذوذ بمنع معارضة ما تقدّم، أمّا النهي عن اتّخاذ قبره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبلة فلما تقدّم من كون اتّخاذه قبلة غير التوجّه إليه في الصلاة، و بمثل ذلك يجاب عن المرويّ عن الأمالي «إذا أتيت قبر الحسين أجعله قبلة إذا صلّيت ؟ قال: تنحّ هكذا ناحية»(5) و أمّا نواهي الصلاة في المعتبرة فلمنع انصرافها إلى قبر المعصوم، و أمّا الموثّقة الناهية عن الصلاة بين القبور فلمنع شمولها لما نحن فيه، لانتفاء البينيّة.

و دفع اضطراب لفظها بظهور كون ما في التهذيب مع ما في الاحتجاج خبرين، و يقع التعارض بينهما في خصوص اليمين و اليسار، و هو لا يضرّنا بالقياس إلى محلّ البحث، لأنّ الكلام في الصلاة إلى القبر لا عن يمينه و يساره، و هما متّفقان في الدلالة صريحا على جوازها إليه، و الظاهر أنّ المرويّ عنه فيهما واحد، و هو مولانا صاحب الأمر عجّل اللّه فرجه، لما عرفت من تصريح أهل الرجال بكون الحميري كاتبه عليه السّلام.

أقول: الإنصاف أنّ النظر لو كان مقصورا على هذا الخبر الغير الصريح في عدم الكراهة كان القول بعموم الكراهة قويّا، لعموم ما عرفت من مرسلة الذكرى، و في آخرها «لا تجلسوا على القبور و لا تصلّوا إليها»(6) فلا بدّ لإخراج قبور الأئمّة من دليل أقوى من ذلك، و ليس إلاّ ما عرفت: من دعوى سيرة الشيعة، و صحيحة الحميري، و الاولى بملاحظة اختلاف الأصحاب و اضطراب فتاويهم - بل لا يبعد دعوى مصير أكثرهم إلى الكراهة - لا تكشف عن التقرير و الرضا. و الثانية لا تنافي الكراهة، إذ الجواز المستفاد من قوله عليه السّلام:

ص: 677


1- الخلاصة: 65.
2- الفهرست: 54/28.
3- الخلاصة: 911/261.
4- الفهرست: 593/270.
5- الوسائل 6/519:14، ب 69 أبواب المزار، كامل الزيارات: 2/245، ب 80.
6- الذكرى 37:2.

«و أمّا الصلاة فإنّها خلفه... الخ» يجامعها. و قضيّة الجمع بينها و بين ما تقدّم هو الجواز على كراهية، و يعضده موافقة الأكثر.

لا يقال: هذا إنّما يستقيم لو كان قوله عليه السّلام: «و لا يجوز أن يصلّي بين يديه لأنّ الإمام لا يتقدّم» للتحريم، و أمّا إذا كان للتنزيه فالجواز المستفاد من قوله: «فإنّها خلفه» في مقابلة عدم الجواز بهذا المعنى يتعيّن كونه جوازا لا على وجه الكراهية و إلاّ بطل الفرق و التفصيل، و المفروض أنّه لا قائل ممّن يعتدّ به من الأصحاب بتحريم التقدّم على القبر في الصلاة ما لم يقارنه قصد إهانة و استخفاف.

بل في المستند «أنّ المشهور في التقدّم هو الكراهة، ثمّ قال: بل ظاهر المنتهى(1) عدم الخلاف فيه. و قال بعض مشايخنا المحقّقين: الظاهر اتّفاقهم على ترك العمل بظاهر الصحيحة من عدم جواز الصلاة مقدّما على قبره(2) و صرّح بعض مشايخنا المعاصرين(3)بعدم وجدان القائل به، ثمّ نسب إلى بعض مشايخه(4) المحدّثين القول بالتحريم، و حكى عنه نسبته أيضا إلى المعتبر(5) و شيخنا البهائي(6) و المحدّث المجلسي(7) ثمّ قال: و لا دلالة لكلام الأوّلين عليه أصلا بل لا يفيد أزيد من الكراهة، نعم نفى عنه البعد في المفاتيح(8)أخذا بظاهر الخبرين» انتهى(9) يعني بالخبرين خبري الحميري في التهذيب و الاحتجاج.

و عبارة المجلسي أيضا كما عرفتها ظاهرة كالصريحة في عدم الكراهة.

لأنّا نقول: يمكن أن يكون وجه الفرق بين صورتي التقدّم على القبر و التأخّر عنه مع اشتراكهما في أصل الكراهة تفاوتهما في الشدّة و الضعف، بأن يكون الصلاة في صورة التقدّم أشدّ كراهة منها في صورة التأخّر، فالتعبير ب «لا يجوز» لأجل ذلك.

و لك أن تقول جمعا بين خبري الحميري و بينهما و بين ما تقدّم من روايات الكراهة:

بكون كلّ من الصلاة إلى القبر و عن يمينه أو يساره و بين يديه مكروهة، مع اختلافها في الشدّة و الضعف بالترتيب المذكور.

لكن هاهنا روايات مستفيضة تدلّ بمجموعها على استحباب الصلاة إلى قبورهم و عند قبورهم، و لا سيّما عند الرأس و لا سيّما عند أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام: كصحيح الحسن بن

ص: 678


1- المنتهى 318:4.
2- مصابيح الظلام 33:2.
3- الرياض 31:3.
4- الحدائق 220:7.
5- المعتبر 115:2.
6- حبل المتين: 159.
7- البحار 315:80-316.
8- المفاتيح 102:1.
9- المستند 438:4.

عطيّة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا فرغت من السلام على الشهداء فائت قبر أبي عبد اللّه عليه السّلام فاجعله بين يديك، ثمّ تصلّي ما بدا لك»(1).

و صحيح جعفر بن ناجية «صلّ عند رأس الحسين عليه السّلام»(2).

و خبر الثمالي و فيه «ثمّ تدور من خلفه إلى عند الرأس، و صلّ عنده ركعتين... إلى أن قال: و إن شئت صلّيت خلفه و عند رأسه أفضل»(3).

و رواية صفوان و فيها «ثمّ تصلّي ركعتين عند الرأس»(4).

و في خبره الآخر «ثمّ صلّ عند الرأس ركعتين»(5).

و المرويّ عن العيون قال: «رأيت أبا الحسن الرضا عليه السّلام و هو يريد أن يودّع للخروج إلى العمرة، فأتى القبر من موضع رأس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد المغرب فسلّم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لزق بالقبر، ثمّ انصرف حتّى أتى القبر فقام إلى جانبه يصلّي، و ألصق منكبه الأيسر بالقبر قريبا من الاسطوانة المخلقة الّتي عند رأس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فصلّى ستّ ركعات أو ثمان ركعات»(6).

و المرويّ عن مزار جعفر بن محمّد بن قولويه بإسناده عن محمّد بن البصري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث زيارة الحسين عليه السّلام قال: «من صلّى خلفه صلاة واحدا يريد بها اللّه تعالى لقى اللّه تعالى يوم يلقاه و عليه من النور ما يغشى له كلّ شيء يراه»(7).

و خبر هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل قال: «أتاه رجل فقال له:

يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هل يزار والدك ؟ قال: نعم، و تصلّي عنده، و قال: تصلّي خلفه و لا يتقدّم عليه»(8).

و صحيح ابن أبي عمير عن بعض أصحابه قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي لأكره الصلاة في مساجدهم، فقال: لا تكره، فما من مسجد بني إلاّ على قبر نبيّ أو وصيّ نبيّ قتل فأصاب تلك البقعة رشّة من دمه، فأحبّ اللّه أن يذكر فيها، فأدّ فيها الفرائض و النوافل،

ص: 679


1- الوسائل 1/517:14، ب 69 أبواب المزار، الكافي 4/578:4.
2- الوسائل 5/519:14، ب 69 أبواب المزار، كامل الزيارات: 245.
3- مستدرك الوسائل 3/327:10، ب 52 أبواب المزار، كامل الزيارات: 18/240.
4- البحار 32/200:101، ب 35 كتاب المزار.
5- البحار 41/260:101، ب 35 كتاب المزار.
6- الوسائل 3/359:14، ب 15 أبواب المزار، كامل الزيارات: 23، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 40/17، ب 30.
7- البحار 13/319:83، كامل الزيارات: 122.
8- الوسائل 1/442:14، ب 42 أبواب المزار، كامل الزيارات: 123.

و اقض ما فاتك»(1).

و الظاهر أنّ ذلك أحسن الروايات في هذا الباب لقضائه بكون فضيلة كلّ مسجد باعتبار فضيلة قبر نبيّ أو وصيّ نبيّ ، فيكون فضيلة الصلاة في المسجد فرعا من فضيلة الصلاة عند قبر النبيّ أو الوصيّ و معه كيف تكون مكروهة ؟ و لقد أجاد بعض الأجلّة بملاحظة هذا الخبر حيث قال: «فيكون الصلاة في مشاهدهم أفضل من الصلاة في المساجد، بل كلّما يكون أقرب إلى قبورهم الشريفة كانت أفضل، فالصلاة إلى خلف قبورهم في غاية الفضيلة، و هكذا في اليمين و اليسار عملا بالإطلاق» انتهى(2).

و عليه فمقتضى الجمع بين هذه الروايات و صحيحة الحميري بعد تخصيص عموم «لا تصلّوا إلى القبور» اختصاص الكراهة في قبور الأئمّة عليهم السّلام و غيرهم من أهل العصمة بصورة التقدّم على القبر، و استحباب غيره من الصلاة إليه و عن يمينه و يساره، و الأفضل عند الرأس خصوصا قبر الحسين عليه السّلام. لكنّ المسألة بعد محلّ إشكال، من جهة مخالفة الأكثر مع كون الروايات المذكورة بمرأى منه و مسمع.

[الموضع التاسع: كراهة الصلاة في بيوت النيران]

الموضع التاسع: بيوت النيران المفسّر في كلام جماعة(3) بالبيوت المعدّة لإضرام النار فيها عادة و لو لغير العبادة كالأتّون(4) و الفرن، لكن في المدارك «الأصحّ اختصاص الكراهة بمواضع عبادة النيران»(5) و هو أيضا ظاهر المحكيّ عن الغنية «و بيوت النيران و غيرها من معابد أهل الضلال»(6). و ربّما استظهر من عبارة المعتبر: حيث قال: «و في بيوت النيران و المجوس إلاّ أن ترشّ بالماء»(7) و فيه نظر.

و كراهة الصلاة في هذا الموضع هو المعروف من مذهب الأصحاب، و «هو المشهور بين العلماء» كما في المختلف(8) و عن التلخيص(9) و «مذهب الأكثر» كما في المنتهى(10)، بل

ص: 680


1- الوسائل 1/225:5، ب 21 أحكام المساجد، التهذيب 723/258:3.
2- مطالع الأنوار 204:1.
3- كما في جامع المقاصد 130:2، روض الجنان 610:2، المسالك 175:1، الروضة البهيّة 222:1.
4- أتّون بالتشديد: الموقد، الصحاح 67:5 (اتن)، الفرن: الّذى يخبز عليه الفرني و هو خبز غليظ نسب إلى موضعه و هو غير التنور. (الصحاح 2176:6).
5- المدارك 232:3.
6- الغنية: 67.
7- المعتبر 112:2.
8- المختلف 103:2.
9- نقله عنه في مفتاح الكرامة 177:6.
10- المنتهى 328:4.

«قاله الأصحاب» كما في الذكرى(1) و جامع المقاصد(2) بل «إجماعا» كما عن الغنية(3).

و عن المراسم المنع(4) و عزي إلى ظاهر المقنعة(5) و النهاية(6) أيضا، لمكان تعبيرهما ب «لا يجوز».

و علّل الكراهة بأنّ في الصلاة فيها تشبّها بعبّادها كما في الذكرى(7) و غيره(8) و عن العلاّمة في جملة من كتبه(9) و استضعفه صاحب المدارك، ثمّ علّلها بناء على تخصيصه العنوان بمواضع عبادة النيران «بأنّها ليست موضع رحمة فلا تصلح للعبادة»(10).

و هذا أيضا اعتبار يبعد التعويل عليه في إثبات الحكم الشرعي. و لكنّ الّذي سهّل لنا الأمر في إثباته هو ما عرفت من الشهرة بقسميها، و صريح إجماع الغنية، و ظهوره من الكتب الثلاث المتقدّمة، فإنّ بمجموع هذه الامور يمكن الظنّ الاطمئناني الّذي عليه مدار الأحكام الشرعيّة حتّى الوجوب و التحريم، فكيف بالكراهة الّتي يتسامح فيها باعتبار كونها من السنن بما لا يتسامح في غيرها. و على الاكتفاء في التسامح بمطلق احتمال الرجحان أو المرجوحيّة كان الأمر أوضح، و عليه اتّجه تعميم العنوان أيضا بالقياس إلى غير معابد أهل الضلال من البيوت المعدّة لإضرام النار.

و يمكن التمسّك لخصوص المعابد بعموم التعليل في المرويّ عن العلل عن محمّد بن عليّ بن إبراهيم «إنّ العلّة في كراهة الصلاة في بيت فيه صلبان، أنّها شركاء يعبدون من دون اللّه، فينزّه اللّه تعالى أن يعبد في بيت يعبد فيه من دون اللّه»(11).

و على أيّ حال كان فينبغي القطع بعدم جريان الحكم في بيت فيه نار و إن لم يكن معدّا لذلك، و لا في سطح البيت المعدّ له، و لا في موضع من الصحراء معدّ له، و إن كان بعض التعليلات المتقدّمة ربّما يشمله.

ثمّ الظاهر من إطلاق الفتاوي المصرّح به في كلام جماعة(12) عدم إناطة الحكم في بيوت

ص: 681


1- الذكرى 92:3.
2- جامع المقاصد 130:2.
3- الغنية: 67.
4- المراسم: 65.
5- المقنعة: 151.
6- النهاية: 100.
7- الذكرى 92:3.
8- كما في روض الجنان 610:2، كشف اللثام 291:3، المبسوط 86:1، المهذّب 76:1، الوسيلة: 88.
9- التذكرة 407:2، المنتهى 328:4.
10- المدارك 232:3.
11- البحار 29/228:83، ب 27 كتاب الصلاة.
12- كما في جامع المقاصد 130:2، المسالك 175:1، روض الجنان 610:2.

النيران بوجود النار المضرمة، بعض التعليلات أيضا ربّما يوهم ذلك.

[الموضع العاشر: كراهة الصلاة في بيوت الخمور]

الموضع العاشر: بيوت الخمور على ما هو المشهور بين الأصحاب المحكيّ فيه الشهرة في كلام غير واحد(1) و عن ظاهر التذكرة(2) و نهاية الإحكام(3) و غيرهما(4) أنّها البيوت المعدّة لذلك، و ظاهر إطلاق الأكثر كصريح غير واحد(5) يأباه. فالوجه هو التعميم بالقياس إلى ما فيه خمر و إن لم يكن معدّا له، لعموم مستند الكراهة، و هو موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «و لا تصلّ في بيت فيه خمر أو مسكر»(6) فإنّ «ما فيه خمر أو مسكر» مطلق في المعدّ و غيره.

و بذلك ظهر الوجه فيما في كلام جماعة(7) من تعميم الحكم بالقياس إلى كلّ مسكر حتّى الفقّاع.

و في كلام جماعة(8) تقييد المعنون بما إذا لم تتعدّ النجاسة، و وجهه واضح ممّا مرّ من عدم جواز الصلاة في مكان النجاسة المتعدّية بل بطلانها أيضا، و هو إنّما يتّجه على القول بنجاسة المسكرات كما هو الأقوى، و أمّا على القول بالطهارة فلا حاجة إلى هذا التقييد.

و لذا استبعد المتأخّرون(9) عمّا حكي عن الصدوق في الفقيه من «منعه الصلاة في بيت فيه خمر محصورة في آنية»(10) مع أنّه حكم بطهارة الخمر(11) قال في المدارك: «و لا بعد فيه بعد ورود النصّ »(12).

[الموضع الحادي عشر: كراهة الصلاة في جوادّ الطرق]

الموضع الحادي عشر: جوادّ الطرق جمع جادّة، و هي على ما نقل عن الأزهري حكايته عن الأصمعي «الطريق الأعظم المشتمل على جدد أي طرق»(13) و عن القاموس «معظم الطريق»(14) و في المدارك «جوادّ الطرق هي العظمى منها، و هي الّتي يكثر سلوكها»(15).

ص: 682


1- كما في المختلف 114:2.
2- التذكرة 408:2.
3- نهاية الإحكام 346:1.
4- كما في روض الجنان 611:2.
5- كما في الدروس 75:1، كفاية الأحكام: 16، المفاتيح 103:1.
6- الوسائل 7/470:3، ب 38 أبواب النجاسات، التهذيب 104/278:1.
7- جامع المقاصد 130:2، فوائد الشرائع 33، المسالك 175:1.
8- كما في الشرائع 208:1، جامع المقاصد 130:2.
9- كما في مفتاح الكرامة 180:6.
10- الفقيه 246:1، المقنع: 453.
11- المقنع: 453، الفقيه 5090/57:4.
12- المدارك 233:3.
13- تهذيب اللغة 458:10 (جد).
14- القاموس المحيط 283:1 (جد).
15- المدارك 233:3.

و كراهة الصلاة فيها مذهب الأكثر كما في المدارك، و عن المختلف «كونه المشهور»(1)و عن الغنية(2) و ظاهر المنتهى(3) الإجماع عليه.

و مستنده روايات مستفيضة:

كرواية الفضيل بن يسار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أقوم في الصلاة فأرى قدّامي في القبلة العذرة ؟ فقال: تنحّ عنها ما استطعت، و لا تصلّ على الجوادّ»(4).

و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الصلاة في ظهر الطريق ؟ فقال:

لا بأس أن تصلّي في الظواهر الّتي بين الجوادّ، فأمّا على الجوادّ فلا تصلّ فيها»(5).

و صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و في آخرها «لا بأس أن يصلّي بين الظواهر و هي الجوادّ، جوادّ الطرق و يكره أن يصلّي في الجوادّ»(6). و لا يذهب عليك أنّ بينها و بين سابقتها في معنى الظواهر نحو اختلاف، إذ ظاهر السابقة تعطي كون المراد من الظواهر ما ارتفع من الأرض بين الخطوط المنخفضة الّتي يوطأ عليها المارّة. و محصّله المواضع المرتفعة المتخلّلة بين تلك الخطوط السالمة غالبا عن مرور المارّة. و ظاهر هذه بل صريحها يعطي كون المراد بها نفس هذه الخطوط المفسّرة بالجوادّ. و على هذا فهي وصف توضيحي للجوادّ، لأنّ من وصفها كونها ظاهرة واضحة غير خفيّة، فيكون المراد ممّا بينها هو المراد من الظواهر في السابقة.

و صحيحة أيّوب بن نوح عن أبي الحسن الأخير عليه السّلام قال: «قلت له: تحضر الصلاة و الرجل بالبيداء؟ قال: يتنحّى عن الجوادّ يمنة و يسرة و يصلّي»(7).

و صحيحة محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في السفر؟ فقال: لا تصلّ على الجادّة و اعتزل على جانبيها»(8). و لا خفاء أنّ ظاهر هذه الروايات - عدا «يكره» في صحيحة ابن عمّار - هو المنع و التحريم، و كأنّه بهذا الظاهر أخذ في المقنعة(9) و الفقيه(10)

ص: 683


1- المختلف 113:2.
2- الغنية: 67.
3- المنتهى 328:4.
4- الوسائل 10/149:5، ب 19 مكان المصلّي، التهذيب 893/226:2.
5- الوسائل 2/147:5، ب 19 مكان المصلّي، التهذيب 865/220:2.
6- الوسائل 1/147:5، ب 19 مكان المصلّي، التهذيب 1560/375:2.
7- الوسائل 3/156:5، ب 23 مكان المصلّي، التهذيب 1559/375:2.
8- الوسائل 5/148:5، ب 19 مكان المصلّي، التهذيب 869/221:2.
9- المقنعة: 151.
10- الفقيه 727/243:1.

فحكما بعدم الجواز الظاهر في التحريم على ما حكي. لكن يضعّفه إعراض المعظم الأكثر عنه، و عليه فلا تقاوم الأصل و العمومات، فلا يبقى فيها إلاّ مطلق المرجوحيّة الغير المنافية للجواز، أو يقال: إنّ الشهرة العظيمة و المعتضدة بمنقول الإجماع توجب صرفها إلى إرادة الكراهة. ثمّ قد عرفت أنّ ظاهر النصوص بل صريح بعضها اختصاص الكراهة بما انخفض من الجوادّ، و عدم كراهة فيما ارتفع من جوانبها. و الأجود كما عن الروض(1) و البحار(2)أيضا تعميم الكراهة بالنسبة إلى مطلق الطريق و عدم الاقتصار على جوادّه، عملا بإطلاق مرسلة عبد اللّه بن الفضل المتقدّمة(3) الناهية عن عشرة مواضع منها مسان الطرق أي المسلوكة منها.

و موثّقة الحسن بن الجهم عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «كلّ طريق يوطأ فلا تصلّ عليه، قال، قلت: إنّه قد روي عن جدّك أنّ الصلاة على الظواهر لا بأس بها، قال: ذاك ربّما سايرني عليه الرجل، قال، قلت: فإن خاف الرجل على متاعه ؟ قال: فإن خاف فليصلّ »(4).

و رواية محمّد بن الفضيل قال: «قال الرضا عليه السّلام: كلّ طريق يوطأ و يتطرّق و كانت فيه جادّة أو لم تكن فلا ينبغي الصلاة فيه، فقلت: أين اصلّي ؟ قال: يمنة و يسرة»(5).

و رواية محمّد بن الحسين رفعها بإسناده إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ثلاثة لا يتقبّل اللّه لهم بالحفظ، رجل نزل في بيت خرب، و رجل صلّى على قارعة الطريق، و رجل أرسل راحلته و لم يستوثق منها»(6) و رواية معلّى بن خنيس قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة على ظهر الطريق ؟ فقال: لا، اجتنبوا الطريق»(7).

و قضيّة إطلاق النصّ و الفتوى كما صرّح به جماعة(8) أيضا عدم الفرق بين كون الطريق مشغولا بوجود المارّة و عدمه. هذا إذا لم يستلزم الصلاة فيه تعطّل المارّة، و إلاّ اتّجه الحرمة و البطلان كما في المدارك(9) و عن كشف الالتباس(10) و الروض(11) و المسالك(12)

ص: 684


1- روض الجنان 612:2.
2- البحار 308:83.
3- تقدم في الصفحة: 653 الرقم 11.
4- الوسائل 6/148:5، ب 19 مكان المصلّي، التهذيب 870/221:2.
5- الوسائل 3/147:5، ب 19 مكان المصلّي، التهذيب 866/220:2.
6- الوسائل 7/148:5، ب 19 مكان المصلّي، الخصال: 161/141.
7- الوسائل 9/145:5، ب 19 مكان المصلّي، المحاسن: 108/365.
8- كما في روض الجنان 612:2، المسالك 175:1، البحار 308:83.
9- المدارك 234:3.
10- كشف الالتباس: 101.
11- روض الجنان 612:2.
12- المسالك 175:1.

و البحار(1). لكن قيّده في المدارك «بما إذا كانت الطريق موقوفة لا محياة لأجل المرور، ثمّ قال: و يحتمل عدم الفرق»(2).

و لعلّ وجه الفرق على تقدير كونها موقوفة أنّ الصلاة في صورة مزاحمة المارّة تصرّف في الوقف مناف لغرض الواقف، فلا يكون مأذونا فيه فيكون منهيّا عنه، و هو يقتضي البطلان لامتناع اجتماع الأمر و النهي. بخلاف ما لو كانت محياة للمرور فإنّها بالإحياء إمّا صارت ملكا للمستطرقين و هذا منهم، أو ثبت لهم به حقّ فيها للاستطراق و هذا أيضا من المستحقّين، فصلاته فيها على التقديرين تصرّف مأذون فيه فلا يكون منهيّا عنه، غاية الأمر أنّه يأثم بمنعه المارّة لكونه منهيّا عنه، و هو أمر خارج عن الصلاة. و على فرض كونها مقدّمة له لا يلزم كونها محرّمة، لمنع حرمة مقدّمة الحرام.

و فيه ما فيه، بل الوجه هو الحرمة و البطلان مطلقا، كما هو قضيّة إطلاق الجماعة، لا لما قيل «من أنّ له التصرّف الغير المنافي للاستطراق على التقدير الثاني أيضا فمع المنافاة تحرم و تبطل» بل لوجهين آخرين:

أحدهما: أنّ مقدّمة الحرام إذا كانت سببيّة و كانت مع ذيها بحيث لا يتغايران ذاتا بل مفهوما، و اعتبارا تحرم بالاتّفاق، لأنّ النهي عنه باعتبار اتّحادهما ذاتا و عدم تغايرهما وجودا بعينه نهيا عنها، و لا ريب أنّ الصلاة و إن غايرت منع المارّة مفهوما غير أنّها عينه ذاتا، فتكون منهيّا عنها بعين النهي عنه.

و ثانيهما: أنّها إضرار بالمستطرقين لكون تعطّلهم ضررا عليهم فيكون منهيّا عنه، لعموم قاعدة نفي الضرر و غيره من أدلّة حرمة الإضرار، و ليس ما نحن فيه من قبيل تصرّف المالك في ملكه الموجب لتضرّر جاره الّذي جوّزه الشارع لعموم قاعدة السلطنة، لأنّ ذلك في موضع يتضرّر المالك أيضا بترك هذا التصرّف و لو باعتبار كونه محجورا عن الانتفاع بملكه، فإنّه ضرر نفساني يشقّ على النفوس تحمّله، فيتعارض الضرران و يتساقطان، فيبقى عموم السلطنة سليما عن المعارض، و عمّا يحكم عليه.

بخلاف ما نحن فيه فإنّه لا يتضرّر بترك الصلاة في الطريق و لو بالخروج عنها يمنة أو يسرة و لو ضاق الوقت بحيث لو أخّرها أو خرج عن الطريق لإتيانها في الخارج لخرج

ص: 685


1- البحار 308:83.
2- المدارك 234:3.

الوقت ففي الجواز و الصحّة إشكال ؟

و لا يبعد دعوى جواز تفويت الوقت لإدراكها قضاء، عملا بعموم قوله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام»(1) و هو الّذي يساعد عليه إطلاق الجماعة أيضا. و منه يظهر الحكم فيما لو خاف الضرر على النفس أو المال بالخروج عن الطريق يمنة و يسرة. و لو اتّسع الوقت ففي تجويزه إضرار المارّة دون تأخير الصلاة أو تفويت وقتها إلى الإتيان بها قضاء إشكال ؟ و الأجود الثاني عملا بعموم القاعدة أيضا فليتأمّل، و لم نقف على تحرير لهذه الفروع في كلامهم.

[الموضع الثاني عشر: كراهة الصلاة في بيوت المجوس]

الموضع الثاني عشر: بيوت المجوس على المشهور المنسوب في جامع المقاصد(2) إلى الأصحاب مؤذنا بدعوى الإجماع على كراهة الصلاة. و مستنده المرويّ عن الكافي عن أبي جميلة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تصلّ في بيت فيه مجوسي، و لا بأس أن تصلّي في بيت فيه يهودي أو نصراني»(3) و هذه كما تدلّ على الكراهة في بيت المجوسي كذلك تدلّ على نفيها في بيت اليهودي و النصراني، و لعلّها مستند الأصحاب في اقتصارهم على الأوّل.

و عليه فما في كلام جماعة(4) من تعليل الحكم في الأوّل بعدم انفكاكها عن النجاسة عليل، لأنّه لو كان هو العلّة في النجاسة لوجب اطّرادها، فلا بدّ و أن تكون علّة الحكم خصوصيّة اخرى في المجوسي منتفية في أخويه.

ثمّ التعبير عن موضوع الحكم ببيوت المجوسي كما في كلام جمع كثير من الأصحاب(5)و عن الكفاية(6) و المفاتيح(7) التعبير عنه ببيت فيه مجوسي، و عن النهاية(8) و الوسيلة(9)و البيان(10) و الدروس(11) التعبير ببيوت المجوسي أو بيت فيه مجوسي، و الفرق بينهما أنّ

ص: 686


1- الوسائل 10/14:26، ب 1 موانع الإرث، الفقيه 777/243:4.
2- جامع المقاصد 130:2.
3- الوسائل 1/144:5، ب 16 مكان المصلّي، التهذيب 1571/377:2.
4- كما في المدارك 234:3، جامع المقاصد 130:2، نهاية الإحكام 346:1، التذكرة 407:2، المنتهى 326:4، الذكرى 89:3.
5- كما في المبسوط 86:1، السرائر 270:1، المختصر النافع: 26، الشرائع 72:1، المنتهى 326:4، نهاية الإحكام 346:1، الذكرى 89:3، الروضة البهيّة 549:1.
6- الكفاية: 16.
7- المفاتيح 103:1.
8- النهاية: 100.
9- الوسيلة: 89.
10- البيان: 65.
11- الدروس 154:1.

الإضافة في الأوّل تفيد الاختصاص المقتضي لكون البيت للمجوسي، و الثاني أعمّ . و هذا هو الموافق للخبر، و لذا ذكر في البحار على ما حكي أنّ ظاهر الأخبار كراهية الصلاة في البيت الّذي فيه مجوسي، سواء كان بيته أم لا، و عدم كراهيتها في بيته إن لم يكن فيه، انتهى(1).

أقول: ظهور هذا الخبر في عدم الكراهية في بيته إن لم يكن فيه كما ذكره، لمكان كلمة الاشتمال المفيد لاعتبار وجوده في البيت، و لكن يمكن تعميم الكراهة في بيته بالنسبة إلى صورتي كونه فيه و عدمه، نعم يعتبر في غير بيته كونه فيه جمعا بين هذا الخبر و أخبار الرشّ المشعرة بالكراهة بدونه كما فهمه جماعة من الأصحاب(2) حتّى أنّهم استندوا للكراهة بتلك الأخبار دون الخبر المذكور و ستسمعها إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ اعلم أنّهم اختلفوا في البيع و الكنائس، فعن المراسم(3) و الغنية(4) و النزهة(5)و البيان(6) و السرائر(7) و الإصباح(8) و الإرشاد(9) و المهذّب(10) كراهة الصلاة فيهما، و عن الغنية(11) الإجماع على الكراهية في معابد أهل الضلال، و عن المقنعة(12) و النهاية(13)و المبسوط(14) و كتب المحقّق(15) و جملة من كتب العلاّمة(16) و اللمعة(17) و جامع المقاصد(18)و إرشاد الجعفريّة(19) و الروض(20) و الروضة(21) و الكفاية(22) و المدارك(23) عدم الكراهة معبّرين عنه بلا بأس، فهو مذهب أكثر علمائنا كما عن البحار(24)، و هو المشهور كما عن الروض(25) بل عن المنتهى(26) ذهب إليه علماؤنا. و في كلام جماعة(27) يستحبّ رشّ الموضع الّذي يصلّى فيه.

ص: 687


1- البحار 332:83.
2- كما في مجمع الفائدة و البرهان 143:2، مفتاح الكرامة 183:6، المستند 446:4، الحدائق 233:7.
3- المراسم: 65.
4- الغنية: 67.
5- النزهة: 27.
6- البيان: 65.
7- السرائر 270:1.
8- الإصباح: 67.
9- الإرشاد 249:1.
10- المهذّب 76:1.
11- الغنية: 67.
12- المقنعة: 151.
13- النهاية: 100.
14- المبسوط 86:1.
15- الشرائع 72:1، المختصر النافع: 26.
16- التحرير 213:1، التذكرة 407:2، المنتهى 327:4، نهاية الإحكام 346:1.
17- اللمعة: 31.
18- جامع المقاصد 131:2.
19- المطالب المظفّريّة: 77.
20- الروض 615:2.
21- الروضة البهيّة 552:1.
22- الكفاية: 17.
23- المدارك 234:3.
24- البحار 330:83.
25- الروض 615:2.
26- المنتهى 328:4.
27- كما في المنتهى 328:4، جامع المقاصد 131:2، الروضة البهيّة 552:1، الروض 611:2.

و ليس في الروايات ما يدلّ على الكراهة بالنصوصيّة و لا الظهور، بل فيها ما هو نصّ في الجواز و ظاهر في عدمها، كصحيحة العيص بن القاسم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن البيع و الكنائس يصلّي فيها؟ فقال: نعم...»(1) الخ.

و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الصلاة في البيعة ؟ فقال: إذا استقبلت القبلة فلا بأس»(2).

و المرويّ عن التهذيب قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول و سئل عن الصلاة في البيع و الكنائس ؟ فقال: صلّ فيها قد رأيتها ما أنظفها، قلت: أ نصلّي و إن كانوا يصلّون فيها؟ فقال:

نعم أما تقرأ القرآن قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شٰاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدىٰ سَبِيلاً (3) صلّ على القبلة و غرّبهم»(4).

و فيها أيضا ما يوهم استحباب الرشّ كصحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سألته عن الصلاة في البيع و الكنائس و بيوت المجوس ؟ فقال: رشّ و صلّ »(5) هذا على ما في التهذيب. و عن الكافي بسند فيه محمّد بن عيسى عن يونس «عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في البيع و الكنائس ؟ فقال: رشّ و صلّ ، قال: و سألت عن بيوت المجوس ؟ فقال:

رشّها و صلّ »(6).

و في دلالتهما على استحباب الرشّ نظر، لجواز كون الأمر به لأنّه عليه السّلام استفاد من حال السائل أنّ سؤاله إنّما كان لتوهّمه المنع من جهة شبهة النجاسة فأمره عليه السّلام بالرشّ مبالغة لعدم كون شبهة النجاسة و احتمالها جهة مقتضية للمنع. و من هنا يمكن المناقشة فيما في الروضة(7) و غيرها(8) من ارتفاع الكراهة في بيوت المجوسي بالرشّ ، لأنّ مستنده ما سمعت من الروايتين. و في دلالتهما ما عرفت فليتأمّل.

و لعلّه الوجه في خلوّ كلام كثير عن استحباب الرشّ و عن ارتفاع الكراهة عن بيوت

ص: 688


1- الوسائل 1/138:5، ب 13 مكان المصلّي، التهذيب 874/222:2.
2- الوسائل 5/139:5، ب 13 مكان المصلّي، الكافي 5/388:3.
3- الإسراء: 84.
4- الوسائل 3/138:5، ب 13 مكان المصلّي، التهذيب 879/222:2.
5- الوسائل 2/138:5، ب 13 مكان المصلّي، التهذيب 874/222:2.
6- الوسائل 4/139:5، ب 13 مكان المصلّي، الكافي 1/387:3.
7- الروضة البهيّة 554:1.
8- جامع المقاصد 131:2، المدارك 234:3.

المجوس بالرشّ . و كيف كان فالأقوى عدم الكراهة في البيع و الكنائس، عملا بالأصل المعتضد بفتوى الأكثر، و اتّباعا للنصوص المعتبرة السليمة عن المعارض.

و الاحتجاج للقول بالكراهة بعدم انفكاكها عن النجاسة كما عن العلاّمة في المختلف(1)مدخول بمنع الملازمة و يكذبه الأمر بالرشّ الوارد في الأخبار، إلاّ بالتزام مراعاة الجفاف بعد الرشّ كما يظهر من الروضة(2) و فيه: أنّه قاطع لإطلاق النصوص بلا مستند شرعي، و الاعتبار لا عبرة به هاهنا.

و أمّا الكلام في البيع و الكنائس من حيث الموضوع، فهو أنّ البيع بكسر الباء و فتح الياء جمع بيعة بالكسر و السكون، و الكنائس جمع كنيسة، و أمّا معناهما فعن بعضهم البيعة معبد النصارى و الكنيسة معبد اليهود و في المجمع: البيعة معبد النصارى و الكنيسة متعبّد اليهود و النصارى و الكفّار، و نحوه ما عن القاموس. و عن الصحاح جعلهما معا للنصارى، و عن بعض المحقّقين انّ كلاّ منهما مشترك بين الفريقين إلاّ أنّ البيعة متعبّد صغير لهما بمنزلة مسجد المحلّة للمسلمين و الكنيسة متعبّد كبير لهما كمسجد الجامع لأهل الإسلام.

و هل يشترط في جواز الدخول فيهما و صحّة الصلاة فيهما إذن أربابهما؟ احتمله الشهيد في الذكرى تبعا لغرض الواقف و عملا بالقرينة(3) و قوّاه في الروضة بقوله: و فيه قوّة(4). و مال في المدارك إلى العدم(5) و اختاره بعض الأجلّة لإطلاق النصوص بالإذن في الصلاة فيها و زاد عليه في المدارك عدم ثبوت جريان ملكهم عليها و أصالة عدم احترامها مع أنّه لو ثبت مراعاة غرض الواقف اتّجه المنع مطلقا إلاّ أن يعلم إناطة ذلك برأي الناظر فيتّجه اعتبار إذنه خاصّة. و استدلّ عليه أيضا بعض الأجلة بعد إطلاق النصوص بما في صحيحة العيص ابن القسم المتقدّمة من قوله: «و سألته هل يصحّ نقضهما مسجدا؟ فقال: نعم» فإذا جاز نقضها بدون رضاء أربابها فالدخول و الصلاة فيها بدون إذن أربابها أولى بالجواز.

أقول: لا إشكال فيما لا حاجة فيه إلى إذن كالّتي في بلاد أهل الحرب و الّتي باد أهلها و أمّا الّتي لأهل الذمّة و لو في بلاد الإسلام ففي سقوط اعتبار إذنهم إشكال، لمخالفته القواعد من دون دليل.

ص: 689


1- المختلف 109:2.
2- الروضة البهيّة 554:1.
3- الذكرى 94:3.
4- الروضة البهيّة 225:1.
5- المدارك 235:3.

و توهّم الدلالة من إطلاق النصوص المصرّحة بجواز الصلاة فيها، مدفوع أوّلا: بنقض الإطلاق المذكور بإطلاق الإذن في الصلاة في بيوت المجوسي مع الرشّ ، مع أنّ سقوط إذن الأرباب هنا باطل بالضرورة. و ثانيا: أن النصوص سؤالا و جوابا مسوقة لحكم الصلاة في البيع و الكنائس عن حيث إنّهما بيع و كنائس و معابد أهل كفر أو مظانّ نجاسة فلا حجّية لإطلاقها من حيث حكم آخر فيكون مؤدّاها حينئذ جواز الصلاة فيها بعد إحراز ساير شروط الصلاة و رفع موانعها لا مطلقا. و أمّا التعليل بعدم ثبوت جريان ملكهم عليها فغير واضح، إذ لا يعتبر في الوقف كونه ملكا لأربابها مع أنّه لا يتمّ على القول بكونه ملكا للموقوف عليه. و أضعف منه التعليل بأصالة عدم احترامها، فإنّه خروج عن إطلاق أدلّة احترام ما بأيديهم حتّى أنّهم ذكروا انّه إذا انهدمت البيع و الكنائس و كان لأهلها ذمّة و لم يبيدوا لم يجز التعرّض لها بحال، هذا حال المنهدمة منها فكيف بغير المنهدمة ؟ قال في حاشية الروضة: «و أمّا إذا كانت لأهل الذمّة فقد حكموا بعدم جواز التعرّض لها و تحويلها مسجدا أو نقضها بوجه من الوجوه فتكون محترمة» انتهى(1).

و بهذا كلّه ظهر ما في الاستدلال بما في خبر العيص المتقدّم، فإنّ من الظاهر عدم عامل من الأصحاب بإطلاقه و لعلّ مورده ضرب ممّا يجوز نقضه و تحويله كالّتي في بلد أهل الحرب أو في بلد الإسلام و باد أهلها، فالأحوط إن لم نقل أقوى مراعاة إذن المتولّي، و أحوط منه الجمع بين إذنه و إذن الموقوف عليهم.

[الموضع الثالث عشر و الرابع عشر: كراهة الصلاة في جوف الكعبة و سطحها في الفريضة]

الموضع الثالث عشر و الرابع عشر: جوف الكعبة، و سطحها في الفريضة. و مستنده في الأوّل صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «لا تصلّ المكتوبة في جوف الكعبة، فإنّ النبيّ لم يدخل الكعبة في حجّ و لا عمرة الحجّ »(2).

و في الثاني حديث المناهي «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الصلاة على ظهر الكعبة»(3)و غيره ممّا تقدّم. و تمام الكلام فيهما قد سبق في مباحث القبلة.

[الموضع الخامس عشر: مرابط الخيل و البغال و الحمير]

الموضع الخامس عشر: مرابط الخيل و البغال و الحمير على المشهور(4) بل قيل:(5) شهرة

ص: 690


1- حاشية الروضة: 223.
2- الوسائل 3/337:4، ب 17 أبواب القبلة، التهذيب 953/279:5.
3- الوسائل 1/340:4، ب 19 أبواب القبلة، الفقيه 1/5:4.
4- المختلف 103:2.
5- كما في الجواهر 649:8.

عظيمة كادت تكون إجماعا، بل عن الغنية(1) دعوى الإجماع عليه. و المستند مضمرة سماعة قال: «لا تصلّ في مرابط الخيل و البغال و الحمير»(2) و المرابط: جمع مربط و هو موضع ربطها. و الظاهر أنّه و المرابض بمعنى، كما يرشد إليه مضمرته الاخرى قال: «سألته عن الصلاة في أعطان الإبل و في مرابض البقر و الغنم ؟ فقال: إن نضحته بالماء و قد كان يابسا فلا بأس بالصلاة فيها، فأمّا مرابض الخيل و البغال فلا»(3) و لذا استدلّ به جماعة أيضا على الكراهة في مرابط الثلاثة، و هذه هي مستند عدم الكراهة في مرابض الغنم كما صرّح به جماعة(4) و عن المنتهى(5) نسبته إلى أكثر علمائنا.

و يلحق بباب كراهة الصلاة من حيث المكان كراهة امور في الصلاة باعتبار المكان لا كراهة المكان لذاته:

الأوّل منها: أن يكون بين يديه نار على المشهور(6) المصرّح به في كلام(7) بل بلا خلاف يظهر إلاّ ما عن أبي الصلاح(8) من العبارة المفيدة للحرمة. نعم اختلفت عباراتهم بين مقيّد للنار بالمضرمة و هي الموقدة المشتعلة كما في الشرائع(9) و المعتبر(10) و النافع(11) و القواعد(12)و الإرشاد(13) و اللمعة(14) و غيرها(15) و مطلق لها كما عن المقنعة(16) و الذكرى(17) و البيان(18)و جماعة من المتأخّرين(19) و متأخّريهم(20) و في كلام جماعة(21) التصريح بالإطلاق. و هو الوجه، لإطلاق النصوص:

مثل صحيحة عليّ بن جعفر عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل هل يصلح له

ص: 691


1- الغنية: 67.
2- الوسائل 3/145:5، ب 17 مكان المصلّي، الكافي 3/388:3.
3- الوسائل 4/145:5، ب 17 مكان المصلّي، التهذيب 867/220:2.
4- كما في المبسوط 86:1، النهاية: 101، الشرائع 72:1، المعتبر 116:2، البيان: 65، الدروس 1: 154، اللمعة: 31.
5- المنتهى 323:4.
6- كما في الحدائق 228:7، السرائر 270:1، المختصر النافع: 26، القواعد 259:1، اللمعة: 31.
7- كذا في الأصل.
8- الكافي في الفقه: 141.
9- الشرائع 72:1.
10- المعتبر 112:2.
11- النافع: 26.
12- القواعد 259:1.
13- الإرشاد 249:1.
14- اللمعة: 31.
15- المطالب المظفّريّة: 77، جامع المقاصد 138:2، كشف اللثام 306:3.
16- المقنعة: 151.
17- الذكرى 92:3.
18- البيان: 65.
19- كما في الدروس 155:1، الجامع للشرائع: 69، نزهة الناظر: 27، تلخيص المرام (الينابيع الفقهيّة 27: 559).
20- المدارك 236:3، كشف اللثام 306:3، المفاتيح 103:1.
21- كما في روض الجنان 613:2، المسالك 176:1، الدروس 155:1.

أن يصلّي و السراج موضوع بين يديه في القبلة ؟ قال: لا يصلح له أن يستقبل النار»(1).

و موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «لا يصلّي الرجل و في قبلته نار أو حديد، قلت: له أن يصلّي و بين يديه مجمرة شبه ؟(2) قال: نعم فإن كان فيها نار فلا يصلّي حتّى ينحّيها عن قبلته، و عن الرجل يصلّي و بين يديه قنديل معلّق فيه نار، إلاّ أنّه بحياله ؟ قال: إذا ارتفع كان أشرّ لا يصلّي بحياله»(3).

و قضيّة ذلك كون المرتفع أشدّ كراهة و عدم ارتفاع الكراهة بالرفع، و لعلّه ظاهر فيما لو كان تجاه عينه كما فهمه بعض الأجلّة. فلو ارتفع بحيث لم يقع عليه نظره في حالات الصلاة فلا كراهية.

ثمّ إنّ ظاهر إطلاق النصوص المتقدّمة كإطلاق فتاوي الأصحاب عموم الكراهة لأولاد عبدة الأصنام و النيران و غيرهم كبني هاشم، لكن في بعض الروايات ما يدلّ على اختصاصها بالفريق الأوّل كالتوقيع المرويّ عن إكمال الدين و الاحتجاج المخرج إلى محمّد ابن عثمان العمري عن صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه في جواب مسائله «و أمّا ما سألت من أمر المصلّي و النار و الصورة و السراج بين يديه هل يجوز صلاته ؟ فإنّ الناس قد اختلفوا في ذلك قبلك، فإنّه جائز لمن لم يكن من أولاد عبدة الأصنام و النيران»(4).

و ربّما احتمل بالنظر إلى هذه الرواية انتفاء الكراهة بالنسبة إلى بني هاشم، و ربّما حملت أيضا على شدّة الكراهة بالقياس إلى أولاد عبدة الأصنام و النيران، و اللّه العالم.

الثاني منها: أن يكون بين يديه تصاوير، و قد اختلفت عبارات الأصحاب في عنوان هذه المسألة، ففي كلام كثير(5) منهم التعبير بالتصاوير، و عن النزهة(6) و الجامع(7) و غيرهما(8)التعبير بالتماثيل، و عن النهاية(9) و الوسيلة(10) و المنتهى(11) و نهاية الإحكام(12) و التحرير(13)

ص: 692


1- الوسائل 1/166:5، ب 30 مكان المصلّي، التهذيب 889/225:2.
2- الشبه: النحاس الأصفر (القاموس المحيط 286:4).
3- الوسائل 2/166:5، ب 30 مكان المصلّي، التهذيب 888/225:2.
4- الوسائل 5/168:5، ب 30 مكان المصلّي، إكمال الدين 49/521:1، الاحتجاج 480:1.
5- كما في الشرائع 72:1، الإرشاد 249:1، جامع المقاصد 138:2، اللمعة: 31، المدارك 236:3، الروضة البهيّة 552:1.
6- نزهة الناظر: 27.
7- الجامع للشرائع: 67.
8- كما في مجمع البرهان 138:2، المفاتيح 103:1.
9- النهاية: 100.
10- الوسيلة: 90.
11- المنتهى 343:4.
12- نهاية الإحكام 348:1.
13- التحرير 215:1.

و التذكرة(1) التعبير بصور و تماثيل، و عن المقنعة(2) و الخلاف(3) التعبير بالصورة.

و عن كاشف اللثام: أنّ المعروف في اللغة ترادف التماثيل و التصاوير فيعمّان ذا الروح و غيره، و عن المطرزي اختصاص التماثيل بتصاوير اولي الروح، و ادّعى في قوله عليه السّلام:

«لا يدخل الملائكة بيتا فيه تماثيل أو تصاوير» أنّه كان الشكّ فيه من الراوي. و أمّا قولهم «يكره التصاوير و التماثيل» فالعطف للبيان، و أمّا تماثيل الشجر فمجاز إن صحّ ، انتهى(4).

و من الأجلّة(5) من استظهر من الاستعمالات كون الصورة لذي الروح و التمثال أعمّ .

و عليه فيكون التصاوير أخصّ من التماثيل على عكس ما ذكره المطرزي، و ليس ببعيد بالنظر إلى العرف في كلّ من الصورة و المثال، إذ المعهود المتداول في الاستعمال إطلاق الصورة على ذي الروح آدميّا كان أو غيره، و إطلاق المثال على هيئة الشجر أيضا و التصاوير من التصوير من الصورة و هو إحداث الصورة، و التماثيل من التمثال من المثال و هو إحداث المثل.

و يحتمل قويّا اختصاص كليهما بذي الروح و امتيازهما بكون الثاني مجسّما و الأوّل غير مجسّم كالصورة المنقوشة على جدار و نحوه، و منشأ هذا الاحتمال ما في رواية عليّ بن جعفر الآتية عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام من قوله: «تكسر رءوس التماثيل و تلطّخ رءوس التصاوير»(6) فإنّ التفكيك بينهما بإطلاق الكسر في الأوّل و اللطخ و هو محو رأس الصورة بمداد و نحوه في الثاني يعطي هذا الفرق، و إن كان في بعض الأخبار أيضا ما ينافيه كما ستسمعه. و الأخبار الواردة في الباب كعبارات الأصحاب أيضا مختلفة بالاشتمال على التماثيل و هو الأكثر، و التصاوير و الصورة، و هذا آية الترادف أو وحدة المراد منها.

و كيف كان فعن جماعة(7) دعوى الشهرة على الكراهة في عنوان التصاوير، و عن جامع المقاصد(8) و فوائد الشرائع(9) نسبته إلى مذهب الأصحاب مؤذنا بدعوى الإجماع فيها، و عن مجمع البرهان(10) دعوى الشهرة فيها على عنوان التماثيل، و عن المنتهى نسبة

ص: 693


1- التذكرة 47:2.
2- المقنعة: 151.
3- الخلاف 506:1.
4- كشف اللثام 308:3.
5- مطالع الأنوار 206:1.
6- الوسائل 10/172:5، ب 32 مكان المصلّي، قرب الإسناد: 94.
7- كما في تخليص التلخيص، نقله عنه في مفتاح الكرامة 224:6.
8- جامع المقاصد 138:2.
9- فوائد الشرائع: 33.
10- مجمع الفائدة و البرهان 138:2.

الكراهة إلى مذهب علمائنا في عنوان الصورة و التماثيل(1) و عن الخلاف نقل الإجماع عليها في عنوان الصورة(2).

و ربّما نقلت عبارة اخرى عن الغنية(3) و المختلف(4) و موضع من التلخيص(5)و البيان(6) و هي أنّه تكره الصلاة على البسط المصوّرة، و عن الغنية الإجماع عليه، و عن المختلف و التلخيص أنّه المشهور، و عن البيان و تلخيص التلخيص(7) زيادة البيت المصوّرة، و عن التلخيص دعوى الشهرة فيهما معا.

و ينبغي التكلّم لتحقيق المسألة في جهات:

الجهة الاولى: في أنّ الكراهة هل تعمّ مثل ذي الروح و غيره كالشجر و نحوه أو يختصّ بالأوّل ؟ و لم نقف في الأصحاب على مصرّح بالتعميم، و في نصوص الباب جملة مختصّة بذي الروح.

ففي صحيح الحلبي قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ربّما قمت فاصلّي و بين يدي الوسادة و فيها تماثيل طير، فجعلت عليها ثوبا»(8).

و المرسل كالصحيح لابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في التمثال يكون في البساط فتقع عينك عليه و أنت تصلّي، قال: إن كان بعين واحدة فلا بأس، و إن كان له عينان فلا»(9).

و نحوه صحيحا محمّد بن مسلم و ما رواه الشيخ بإسناده عن ليث المرادي «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الوسائد تكون في البيت فيها التماثيل عن يمين أو شمال ؟ فقال: لا بأس به ما لم يكن تجاه القبلة، و إن كان شيء منها بين يديك ممّا يلي القبلة فغطّه و صلّ ، قال:

و سأل عن التماثيل تكون في البساط لها عينان و أنت تصلّي ؟ فقال: إن كان لها عين واحدة فلا بأس، و إن كان لها عينان و أنت تصلّي فلا، قال: و قال الصادق عليه السّلام: لا بأس بالصلاة و أنت تنظر إلى التصاوير إذا كانت بعين واحدة»(10).

ص: 694


1- المنتهى 343:4.
2- الخلاف 506:1.
3- الغنية: 67.
4- المختلف 103:2.
5- التلخيص (الينابيع الفقهيّة) 559:27.
6- البيان: 66.
7- نقله عنه في مفتاح الكرامة 224:6.
8- الوسائل 2/170:5، ب 32 مكان المصلّي، التهذيب 892/226:2.
9- الوسائل 6/171:5، ب 32 مكان المصلّي، الكافي 22/392:3.
10- الوسائل 8/172:5 و 9، ب 32 مكان المصلّي، الفقيه 741/158:1 و 742.

و صحيح عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال: «سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير و تماثيل يصلّى فيه ؟ فقال: تكسر رءوس التماثيل، و تلطّخ رءوس التصاوير، و يصلّى فيه و لا بأس، قال: و سألته عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل سبع أو طير أ يصلّى فيه ؟ قال: لا بأس»(1).

و خبره الآخر عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «سألته عن الدار و الحجرة فيها التماثيل أ يصلّى فيها؟ فقال: لا تصلّ فيها و فيها شيء يستقبلك إلاّ أن لا تجد بدّا، فتقطع رءوسها، و إلاّ فلا تصلّ فيها»(2).

و عليه فالأقرب هو الاختصاص بذي الروح للأصل، فإنّه يقتضي عدم الكراهة مطلقا، غاية الأمر أنّه خرج منه ذو الروح بالنصّ و الإجماع لكونه القدر المتيقّن من معقده. مضافا إلى ظهور عدمها في غيره من ملاحظة الفتاوي و مجموع الروايات، إذ ليس فيهما إلاّ التعبير بالصورة و التصاوير و التماثيل، و الأوّل حقيقة في ذي الروح، و كذلك الثاني بقاعدة الاشتقاق، و الثالث لم يثبت كونه بحسب العرف للأعمّ إن لم نقل بثبوت خلافه، خصوصا مع ملاحظة ما تقدّم عن المطرزي من دعوى الاختصاص بذي الروح و كون تماثيل الشجر مجازا، و ما عرفت عن كاشف اللثام(3) من دعوى الترادف، فلم يتبيّن إرادة العموم منه في الفتاوي و النصوص. فيبقى الأصل بالنسبة إلى غير ذي الروح سليما، و يؤيّده امور:

منها: روايات عدم دخول الملائكة في بيت فيه صورة إنسان، مثل رواية محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ جبرئيل أتاني، فقال: إنّا معاشر الأنبياء لا ندخل بيتا فيه كلب و لا تمثال جسد و لا إناء يبال فيه»(4). و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ جبرئيل قال: إنّا لا ندخل بيتا فيه صورة و لا كلب يعني صورة إنسان»(5) بناء على كون التفسير من كلام الإمام عليه السّلام أو من كلام الراوي بناء على حجّيّة فهمه. و روايته الاخرى أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ جبرئيل عليه السّلام

ص: 695


1- الوسائل 10/172:5، ب 32 مكان المصلّي، قرب الإسناد: 94.
2- الوسائل 5/171:5، ب 32 مكان المصلّي، الكافي 9/527:6.
3- كشف اللثام 308:3.
4- الوسائل 1/174:5، ب 33 مكان المصلّي، التهذيب 1570/377:2.
5- الوسائل 2/175:5، ب 33 مكان المصلّي، الكافي 3/527:6.

قال: إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب و لا بيتا فيه صورة إنسان و لا بيتا فيه تمثال»(1).

و منها: المرويّ عن مكارم الأخلاق عن الصادق عليه السّلام قال: «قد اهديت إليّ طنفسة من الشام فيها تماثيل طائر فأمرت به فغيّر رأسه فجعل كهيئة الشجر...»(2) الخ يدلّ على أنّ هيئة الشجر ممّا لا حكم له من حيث الكراهة و المرجوحيّة.

و منها: ما في كلام غير واحد(3) من تعليل الكراهة بالتشبّه بعبدة الأصنام، فإنّه يصلح حكمة لها في الروايات الواردة بها.

الجهة الثانية: في أنّ الكراهة مختصّة بما لو كانت الصورة بين يدي المصلّي و في جهة قبلته أو يعمّه و ما لو كانت في أحد جانبيه أو فوق رأسه أو تحت رجله أو خلفه ؟ و بعبارة اخرى: كراهة الصلاة في البيت الّذي فيه التماثيل مطلقا و إن لم تكن في قبلته ؟ ظاهر فتاوي الأكثر المقتصر فيها على ما بين يديه اختصاصها به.

لكن قد عرفت عن جماعة(4) كراهة الصلاة في بسط مصوّرة، و عن جماعة(5) أيضا كراهتها في بيت مصوّرة و هذا بظاهر الإطلاق يعطي عموم الكراهة، و نحوه ما عن المقنع(6)و الهداية(7) بل عن المبسوط(8) و الإصباح(9) و البيان(10) التصريح بالعموم، ففي محكيّ الأوّل لا يصلّي و في قبلته أو يمينه أو شماله صور و تماثيل إلاّ أن يغطّيها، فإن كان تحت رجليه فلا بأس.

و لكنّ الروايات المتكاثرة بمناطيقها و مفاهيمها تساعد على الأوّل مع ظهور أكثرها في نفي الكراهة عن غيره.

ففي صحيح محمّد بن مسلم قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: اصلّي و التماثيل قدّامي و أنا أنظر إليها؟ قال: لا، اطرح عليها ثوبا، و لا بأس بها إذا كانت عن يمينك أو شمالك أو خلفك

ص: 696


1- الوسائل 5/176:5، ب 33 مكان المصلّي، المحاسن: 38/614.
2- الوسائل 7/309:5، ب 4 أحكام المساكن، مكارم الأخلاق: 132.
3- كما في الجواهر 635:8، كشف اللثام 310:3.
4- كما في الغنية: 67، المختلف 103:2، تلخيص المرام (الينابيع الفقهيّة) 559:27، البيان: 66.
5- البيان: 66، تلخيص المرام (الينابيع الفقهيّة) 559:27، الهداية: 139.
6- المقنع: 82 و 84.
7- الهداية: 139.
8- المبسوط 86:1.
9- الإصباح (الينابيع الفقهيّة) 614:4.
10- البيان: 66.

أو تحت رجلك أو فوق رأسك، و إن كانت في القبلة فألق عليها ثوبا و صلّ »(1).

و صحيحه الآخر قال: «سألت أحدهما عليهما السّلام عن التماثيل في البيت ؟ فقال: لا بأس إذا كانت عن يمينك و عن شمالك و من خلفك أو تحت رجلك، و إن كانت في القبلة فألق عليها ثوبا»(2).

و خبره الآخر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بالتماثيل أن تكون عن يمينك و عن شمالك و خلفك و تحت رجليك، و إن كانت في القبلة فألق عليها ثوبا إذا صلّيت»(3).

و صحيح الحلبي المتقدّم(4) و خبر عليّ بن جعفر و خبر ليث المرادي المتقدّمان(5).

و قضيّة هذه الروايات - مع انضمام الأصل المعتضد بفتوى الأكثر - أن لا كراهة فيما لا يكون بين يدي المصلّي.

و لكن في جملة من الروايات الاخر ما يوهم العموم، كخبر سعد بن إسماعيل عن أبيه قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن المصلّى و البساط يكون عليه التماثيل أ يقوم عليه فيصلّي أم لا؟ فقال: و اللّه لأكره. و عن رجل دخل على رجل عنده بساط عليه تمثال ؟ فقال:

أ تجد هنا مثالا؟ فقال: لا تجلس عليه و لا تصلّ عليه»(6).

و صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام «أنّه قال: لا بأس بأن تصلّي على التماثيل إذا جعلها تحتك»(7).

و صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة الآمرة «بكسر رءوس التماثيل و لطخ رءوس التصاوير»(8).

و خبره الآخر عن أخيه قال: «سألته عن البيت فيه صورة سمكة أو طير أو شبهها يعبث به أهل البيت هل تصلح الصلاة فيه ؟ فقال: لا حتّى تقطع رأسه منه و يفسد، و إن كان قد

ص: 697


1- الوسائل 1/170:5، ب 32 مكان المصلّي، التهذيب 891/226:2.
2- الوسائل 4/171:5، ب 32 مكان المصلّي، الكافي 20/391:3.
3- الوسائل 11/173:5، ب 32 مكان المصلّي، المحاسن: 58/620.
4- تقدّم في الصفحة: 688 الرقم 8.
5- تقدّم في الصفحة: 689 الرقم 1 و 688 الرقم 10.
6- الوسائل 3/170:5، ب 32 مكان المصلّي، التهذيب 1540/370:2.
7- الوسائل 7/171:5، ب 32 مكان المصلّي، الفقيه 740/158:1.
8- الوسائل 10/172:5، ب 32 مكان المصلّي، قرب الإسناد: 94.

صلّى فليست عليه إعادة»(1).

و خبره الآخر عن أخيه «أنّه سأله عن البيت يكون على بابه ستر فيه تماثيل أ يصلّي في ذلك البيت ؟ قال: لا، قال: و سألته عن البيوت يكون فيها التماثيل أ يصلّي فيها؟ قال: لا»(2).

و ربّما يستدلّ له أيضا بروايات عدم دخول الملائكة في بيت فيه صورة. و فيه منع الملازمة، و دلالة الروايات أيضا غير واضحة، بل ما عدى رواية الستر محتملة قويّا كون التماثيل في البساط أو المسجد أو البيت على وجه يستلزم الصلاة عليه، أو فيه وقوع التماثيل في قبلة المصلّي، أو على وجه يكون نصب عيني المصلّي حال الصلاة.

و المستفاد من مجموع الروايات أنّ منشأ الكراهة كونه نصب عينيه، و كونه بحيث تنظر إليه حال الصلاة، و لذا يرتفع بتغطيته على ما ستعرفه.

و أمّا رواية الستر فهو أيضا محتملة لكون الباب الّتي عليها الستر المذكور في قبلة المصلّي، غاية الأمر أنّ فيها عموما من جهة ترك الاستفصال، و يوهنه عدم التفات الأكثر إليه. فالأقوى حينئذ ما عليه الأكثر من اختصاص الكراهة بما لو كانت الصورة بين يدي المصلّي.

الجهة الثالثة: في أنّ قضيّة إطلاق الفتاوي و أكثر الروايات و خصوص روايات الوسادة و البسط عدم الفرق في الكراهة بين الصور المجسّمة و غيرها، كما صرّح به جماعة(3)خلافا لسلاّر(4) فخصّها بالمجسّمة للأصل، و يدفعه الخروج عنه بالدليل. و كون المجسّمة أشبه بالأصنام فينزّل عليها النصوص المطلقة، يدفعه - مع ابتنائه على كون علّة الكراهة التشبّه بعبادة الأوثان و هو محلّ منع - أنّه يعطي كون المجسّمة أولى بالحكم لا انتفاءه عن غيرها، و مرجعه إلى كونها أشدّ كراهة. و أضعف منه الاستناد إلى احتمال اشتقاق التماثيل من المثول و هو القيام، لمكان القطع باشتقاقها من المثل. و روايات الكسر و القطع الظاهرين في المجسّم لا تنافي ثبوت الكراهة في غيره أيضا.

الجهة الرابعة: في أنّ الكراهة ترتفع بتغطية الصورة و سترها بحيث لا ترى، كما هو

ص: 698


1- الوسائل 12/173:5، ب 32 مكان المصلّي، المحاسن: 60/620.
2- الوسائل 14/173:5، ب 32 مكان المصلّي، المحاسن: 48/617.
3- كما في الجواهر 640:8.
4- المراسم: 66.

المنصوص عليه في جملة من الروايات المصرّح به في كلام جماعة(1) و في ارتفاعها بكونها ذات عين واحدة أو لا؟ وجهان: من العمل بجملة من النصوص المتقدّمة، و من خلوّ كلام الأصحاب عن اعتباره، و يمكن الجمع بالحمل على تفاوت مراتب الكراهة بكونها في ذات عينين أشدّ، و خلوّ كلام الأصحاب عن التعرّض لذكره لمشاركتهما في أصل الكراهة و إن اختلفا في الشدّة و الضعف. نعم يبقى القطع بارتفاعها بكسر الرأس أو تلطيخه كما نطق به صحيحة عليّ بن جعفر، و لك أن تقول: إنّه يخرج بذلك عن موضوع الصورة. و هل تشمل الحكم للصورة الناقصة كرأس إنسان فقط مثلا أو غيره من الحيوان ؟ فيه إشكال، و الأصل واضح فهو المعوّل عليه حتّى يقوم الدليل على خلافه.

الثالث منها: أن يكون بين يديه مصحف مفتوح، أو حائط ينزّ من بالوعة يبال فيها.

أمّا الأوّل: فالكراهة فيه ما نسب إلى مذهب الأكثر(2) و عن المختلف(3) و التلخيص(4)و المسالك(5) كونه المشهور. و مقابله القول بالحرمة المنسوب إلى أبي الصلاح(6) و مستنده موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال «في الرجل يصلّي و بين يديه مصحف مفتوح في قبلته ؟ قال: لا، قلت: فإن كان في غلاف، قال: نعم»(7) و يضعف ظاهره الّذي أخذ به أبو الصلاح(8) بمصير المعظم إلى خلافه و حملهم له على الكراهة. مضافا إلى المرويّ عن قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر «سأل أخاه عليه السّلام عن الرجل هل يصلح له أن ينظر في خاتمه كأنّه يريد قراءته، أو في المصحف، أو في كتاب في القبلة ؟ فقال ذلك نقص في الصلاة و ليس يقطعها»(9) و الظاهر بملاحظة إطلاق النصّ و الفتوى عدم الفرق بين القارئ و غيره، وفاقا لجماعة(10) خلافا للنزهة(11) فخصّها بالقارئ لأنّه الّذي

ص: 699


1- كما في المبسوط 86:1، البيان: 65، الإصباح (الينابيع الفقهيّة) 614:4.
2- كما في المعتبر 116:2.
3- المختلف 109:2.
4- التلخيص (الينابيع الفقهيّة) 559:28.
5- المسالك 176:1.
6- الكافي في الفقه: 141.
7- الوسائل 1/163:5، ب 27 مكان المصلّي، التهذيب 888/225:2.
8- الكافي في الفقه: 141.
9- الوسائل 2/163:5، ب 27 مكان المصلّي، قرب الإسناد: 89.
10- كما في روض الجنان 614:2.
11- نزهة الناظر: 27.

يشتغل به إلى الصلاة. و في علّية العلّة منع واضح مع حصول الاشتغال بنفس النظر و إن لم يكن قارئا. و على المختار فلا فرق بين الظلمة المانعة من النظر و غيرها، و لا بين المبصر و الأعمى. و عن المنتهى(1) و نهاية الإحكام(2) و التحرير(3) و جامع(4) المقاصد و إرشاد الجعفريّة(5) و حاشية الميسي(6) و الروض(7) و الروضة(8) و المسالك(9) تعدية الكراهة إلى كلّ مكتوب و منقوش إلى القبلة و لا بأس به تسامحا، و خبر قرب الإسناد يساعد عليه، و الاشتغال عن الصلاة يؤيّده.

و أمّا الثاني: فقد صرّح به جماعة(10) و مستنده مرسلة أبي نصر البزنطي «عمّن سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المسجد ينزّ حائط قبلته من بالوعة يبال فيها؟ فقال: إن كان نزّه من البالوعة فلا تصلّ فيه، و إن كان نزّه من غير ذلك فلا بأس»(11) و وجه التعدّي عن المسجد إلغاء الخصوصيّة، و وجهه غير واضح. فالدلالة ضعيفة إلاّ أن يقال بانجبارها بفهم الجماعة.

و في المدارك «و لا ريب أنّ الغائط أفحش من البول فالكراهة فيه أولى»(12) و فيه نظر.

و التعدّي عن مورد النصّ مشكل إلاّ أن يستفاد شيء من رواية الفضيل بن يسار قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أقوم في الصلاة فأرى قدّامي في القبلة العذرة ؟ فقال: تنحّ عنها ما استطعت»(13) و هذا أيضا ضعيف.

و الأوجه أن يستند له إلى المرويّ في الفقيه عن محمّد بن أبي حمزة عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: «إذا ظهر النزّ من خلف الكنيف و هو في القبلة يستره بشيء، و لا يقطع صلاة

ص: 700


1- المنتهى 344:4.
2- نهاية الإحكام 348:1.
3- التحرير 215:1.
4- جامع المقاصد 139:2.
5- المطالب المظفّريّة: 77.
6- نقله عنه في مفتاح الكرامة 233:6.
7- روض الجنان 614:2.
8- الروضة البهيّة 552:1.
9- المسالك 176:1.
10- كما في النهاية: 101، الوسيلة: 90، نهاية الإحكام 348:1، التذكرة 412:2، البيان: 65، روض الجنان 614:2، الذكرى 97:3، الدروس 87:1، المسالك 176:1.
11- الوسائل 2/146:5، ب 18 من مكان المصلّي، الكافي 4/388:3.
12- المدارك 238:3.
13- الوسائل 1/169:5، ب 31 مكان المصلّي، الكافي 17/391:3.

المسلم شيء يمرّ بين يديه من كلب أو امرأة أو حمار أو غير ذلك»(1) بناء على أنّ الأمر بالستر لكراهة الصلاة بدونه.

و لعلّها مستند ما عن المبسوط(2) و الإصباح(3) من كراهة الصلاة إلى حائط ينزّ من القذر، بناء على إرادتهما الغائط من القذر أو ما يعمّه و البول، و يحتمل إرادتهما ما يعمّ الخمر و غيره من المسكرات.

و لكن هذا التعميم خال عن المستند، و لذا استشكل فيه في محكيّ نهاية الإحكام قائلا:

«و في التعدّي إلى الماء النجس و الخمر و شبهها إشكال»(4) و عن التذكرة(5) و المسالك(6)التردّد في التعدّي إلى الماء النجس، و إن قال في الروضة: «و في إلحاق غير الغائط من النجاسات وجه»(7) فإنّ هذا الوجه غير واضح. و التعدّي عن مورد النصّ إلى المذكورات رجم بالغيب.

الرابع منها: الصلاة إلى باب مفتوح، أو إلى إنسان مواجه. أمّا الأوّل: فحكي القول به عن أبي الصلاح الحلبي(8) و عن جماعة(9) نسبته إلى الأصحاب، و عن غير واحد(10)أنّه المشهور، و عن المهذّب البارع «أنّه مذهب الأكثر»(11) و عزي اختياره إلى المنتهى(12)و نهاية الإحكام(13) و التحرير(14) و الدروس(15) و جامع المقاصد(16) و فوائد الشرائع(17) و عن كشف الرموز(18) «أنّه حسن» و عن التذكرة «أنّه جيّد لاستحباب السترة»(19) و مستنده غير واضح، و لعلّه لذا قال في المعتبر - بعد ما نسبه إلى الحلبي و هو أحد الأعيان - «فلا بأس باتّباع فتواه»(20).

ص: 701


1- الوسائل 1/146:5، ب 18 مكان المصلّي، الفقيه 849/277:1.
2- المبسوط 86:1.
3- الإصباح (الينابيع الفقهيّة) 613:4.
4- نهاية الإحكام 348:1.
5- التذكرة 412:2.
6- المسالك 177:1.
7- الروضة البهيّة 224:1.
8- الكافي في الفقه: 141.
9- كما في روض الجنان 615:2، مجمع البرهان 144:2.
10- التلخيص (الينابيع الفقهيّة) 559:28، المسالك 177:1، الروضة البهيّة 552:1.
11- المهذّب البارع 338:1.
12- المنتهى 343:4.
13- نهاية الإحكام 348:1.
14- التحرير 215:1.
15- الدروس 155:1.
16- جامع المقاصد 139:2.
17- فوائد الشرائع: 34 (مخطوط).
18- كشف الرموز 144:1.
19- التذكرة 411:2.
20- المعتبر 116:2.

و امّا الثاني فأفتى به جماعة(1) و عن جماعة(2) دعوى الشهرة فيه، و مستنده المرويّ عن قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر «أنّه سأل أخاه عليه السّلام عن الرجل يكون في صلاته هل يصلح له أن يكون امرأة مقبلة بوجهها عليه في القبلة قاعدة أو قائمة ؟ قال: يدرأها عنه، فإن لم يفعل لم يقطع ذلك صلاته»(3).

و عورض بما دلّ على نفي البأس في صلاة الرجل و المرأة قدّامه كالموثّق المتقدّم(4) في صلاة الرجال مع النساء، و الصحيح المرويّ عن الفقيه عن جميل المتقدّم «في صلاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عائشة مضطجعة بين يديه و هي حائض»(5) و الموثّق المرويّ عن الكافي عن عليّ بن الحسن بن رباط عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي و عائشة قائمة معترضة بين يديه و هي لا تصلّي»(6) و عن عائشة «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي حذاء وسط السرير، و أنا مضطجعة بينه و بين القبلة، يكون لي الحاجة فأكره أن أقوم فأستقبله، فانسلّ انسلالا»(7).

و في الكلّ ما ترى، لأنّ نفي الكراهة من جهة كون المرأة قدّام الرجل حال صلاته لا ينافي إليها مواجهة له، و أحاديث قصّة عائشة لا تنفي اتّخاذه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم السترة بينه و بينها، أو إعمال رافع آخر لم يتعرّض الحكاية لنقله.

الخامس منها: الصلاة و بين يديه حديد، للموثّق «لا يصلّي الرجل و في قبلته نار أو حديد»(8) و عبارة أبي الصلاح(9) تفيد الحرمة، و هو ضعيف.

تذنيب: يستحبّ للمصلّي أخذ السترة بين يديه في صلاته بالإجماع المستفيض نقله في

ص: 702


1- كما في الكافي في الفقه: 141، المراسم: 66، نزهة الناظر: 27، نهاية الإحكام 348:1، التذكرة 2: 411، الدروس 155:1، البيان: 65، جامع المقاصد 139:2-140، كشف الرموز 144:1.
2- كما في المسالك 177:1، الروضة البهيّة 552:1.
3- الوسائل 2/279:7، ب 22 قواطع الصلاة، قرب الإسناد: 94.
4- تقدّم في الصفحة 630 الرقم 10.
5- الوسائل 4/122:5، ب 4 مكان المصلّي، الفقيه 749/159:1.
6- الوسائل 3/122:5، ب 4 مكان المصلّي، الكافي 6/299:3.
7- صحيح البخاري 136:1، صحيح مسلم 271/367:1، سنن النسائي 65:2.
8- الوسائل 2/166:5، ب 30 مكان المصلّي، الكافي 15/390:3.
9- الكافي في الفقه: 141.

كلام جمع من أساطين الطائفة(1) و عن كشف الالتباس «تستحبّ السترة في المسجد إلى الحائط، و في الصحراء إلى شاخص بين يديه عصى كان أو عنزة أو رجلا أو بعيرا معقلا بلا خلاف بين العلماء»(2) و عن نهاية الإحكام - بعد نقل الإجماع على هذه العبارة «فإن لم يجد سترة خطّ خطّا»(3) و عن السرائر «يستحبّ السترة و لو كانت عنزة أو حجرا أو كونه من تراب»(4) و عن البيان أنّه زاد عليه «القلنسوة و السهم و الخطّ»(5) و عن المنتهى «مقدار السترة ذراع تقريبا، و لو لم يجد المقدار استحبّ له الحجر و السهم و غيرهما، و لو لم يجد شيئا استحبّ له أن يجعل بين يديه كومة من تراب أو يخطّ بين يديه خطّا»(6)و نحوه عن التحرير(7).

و عن كافي الكليني أنّه بعد ذكر صحيح أبي بصير الآتي قال: «و الفضل في هذا أن يستتر بشيء و يضع بين يديه ما يتّقى به من المارّ، فإن لم يفعل فليس به بأس، لأنّ الّذي يصلّي له المصلّي أقرب إليه ممّن يمرّ بين يديه لكن ذلك أدب الصلاة و توقيرها»(8).

و يظهر من صاحب الوسائل كون هذه العبارة من تتمّة الصحيح المذكور، لأنّه نقله هكذا محمّد بن يعقوب عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن مسكان عن أبي بصير المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يقطع الصلاة شيء، لا كلب، و لا حمار، و لا امرأة و لكن استتروا بشيء. و إن كان بين يديك قدر ذراع رافع من الأرض فقد استترت، و الفضل في هذا أن تستتر بشيء، و تضع بين يديك ما تتّقي به من المارّ، فإن لم تفعل فليس به بأس، لأنّ الّذي يصلّي له المصلّي أقرب إليه ممّن يمرّ بين يديه، و لكن ذلك أدب الصلاة و توقيرها»(9).

و كيف كان فالأصل في استحباب السترة الروايات المتكاثرة المعتبرة و غيرها، كالصحيح المذكور، و صحيح معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجعل العنزة(10) بين يديه إذا صلّى»(11).

ص: 703


1- كما في التحرير 214:1، المنتهى 331:4، الذكرى 101:3، المدارك 238:3، المفاتيح 101:1، البيان: 66.
2- كشف الالتباس: 102.
3- نهاية الإحكام 350:1.
4- السرائر 266:1.
5- البيان: 66.
6- المنتهى 332:4-333.
7- التحرير 214:1.
8- الكافي 3/297:3.
9- الوسائل 10/134:5، ب 14 مكان المصلّي، الكافي 3/297:3.
10- العنزة: عصا في أسفلها حديد يتوكّأ عليها الشيخ الكبير (لسان العرب 384:5).
11- الوسائل 1/136:5، ب 12 مكان المصلّي، الكافي 1/296:3.

و صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان طول رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذراعا، فإذا كان صلّى وضعه بين يديه، يستتر به ممّن يمرّ بين يديه»(1).

و صحيح عليّ بن جعفر في حديث «أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السّلام عن الرجل يصلّي و أمامه حمار واقف ؟ قال: يضع بينه و بينه قصبة، أو عودا، أو شيئا يقيمه بينهما و يصلّي فلا بأس». و في الوسائل بعد ذكره ذلك قال: و رواه الحميري في قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر مثله، و زاد: قلت: «فإن لم يفعل و صلّى أ يعيد صلاته أم ما ذا عليه ؟ قال: لا يعيد صلاته و ليس عليه شيء»(2).

و قويّ محمّد بن إسماعيل عن الرضا عليه السّلام «في الرجل يصلّي، قال: يكون بين يديه كومة من تراب، أو يخطّ بين يديه بخطّ»(3).

و خبر السكوني عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إذا صلّى أحدكم بأرض فلاة فليجعل بين يديه مثل مؤخّرة الرحل، فإن لم يجد فحجرا، فإن لم يجد فسهما، فإن لم يجد فليخطّ في الأرض بين يديه»(4).

و خبر غياث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وضع قلنسوة و صلّى إليها»(5).

و خبر إسماعيل بن مسلم عن الصادق عليه السّلام عن أبيه قال: «كانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنزة في أسفلها عكاز يتوكّأ عليها، و يخرجها في العيدين يصلّي إليها»(6).

و لا ينافيها المرويّ عن الكافي عن عليّ بن إبراهيم رفعه عن محمّد بن مسلم قال:

«دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له: رأيت ابنك موسى يصلّي و الناس يمرّون بين يديه فلا ينهاهم، و فيه ما فيه، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ادعوا لي موسى، فدعي، فقال له: يا بنيّ إنّ أبا حنيفة يذكر أنّك كنت صلّيت و الناس يمرّون بين يديك فلم تنههم، فقال: نعم يا أبة، إنّ الّذي كنت اصلّي له كان أقرب إليّ منهم، يقول اللّه عزّ و جلّ : وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ

ص: 704


1- الوسائل 2/136:5، ب 12 مكان المصلّي، الكافي 2/296:3.
2- الوسائل 1/132:5، ب 12 مكان المصلّي، الفقيه 775/164:1.
3- الوسائل 3/137:5، ب 12 مكان المصلّي، التهذيب 1574/378:2.
4- الوسائل 4/137:5، ب 12 مكان المصلّي، التهذيب 1577/378:2.
5- الوسائل 5/137:5، ب 12 مكان المصلّي، التهذيب 1320/323:2.
6- الوسائل 7/137:5، ب 12 مكان المصلّي، الفقيه 1476/323:1.

اَلْوَرِيدِ (1) قال: فضمّه أبو عبد اللّه عليه السّلام إلى نفسه ثمّ قال: يا بنيّ بأبي أنت و امّي، يا مستودع الأسرار...»(2) الخ.

لأنّ اعتراض أبي حنيفة على أبي الحسن عليه السّلام ليس من حيث تركه السترة، بل من حيث عدم منعه المارّة عن المرور عمّا بين يديه على نحو ما كانت العامّة يصنعون، حيث إنّهم يمنعون المارّة حال الصلاة باليد و الإشارة بها و نحوهما، و لعلّ مراده عليه السّلام ممّا علّل به ترك المنع أنّ منع المارّة إنّما هو للمحافظة على التوجّه إلى اللّه عزّ و جلّ المطلوب، و هذا إنّما يحسن على تقدير كون مرور المارّ مزاحما للتوجّه مانعا عنه، و الفرض منتف لأنّه تعالى أقرب إلى المصلّي، و مقتضى كونه أقرب كون التوجّه إليه مانعا عن التوجّه إلى الغير البعيد، لا أن يكون التوجّه إلى الغير البعيد مانعا عن التوجّه إليه و هذا لا ينافي وضعه السترة بين يديه.

و لذا قال الكليني أو محمّد بن مسلم بعد ذكر الحديث: «و هذا تأديب منه عليه السّلام لا أنّه ترك الفضل»(3) و معناه أنّ عدم نهيه عليه السّلام معلّلا بما عرفت تأديب لأبي حنيفة أي تعليم له طريق الأدب في الصلاة. و حاصله أنّ الأدب هو أن يجعل المصلّي التوجّه إليه سبحانه مزاحما للتوجّه إلى غيره، لا أن يجعل التوجّه إلى الغير مزاحما للتوجّه إليه، و لا يدلّ على أنّه ترك الفضل و هو وضع السترة بين يديه.

و يحتمل أن يكون معناه أنّ الفضل و المستحبّ هو وضع السترة المانعة، لا المنع حال الصلاة بيد و نحوها، فإنّه خلاف الأدب، لأنّه يخلّ بالتوجّه المطلوب في الصلاة.

و عليه أو على الأوّل يحمل خبر سفيان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه كان يصلّي ذات يوم إذ مرّ رجل قدّامه و ابنه موسى جالس، فلمّا انصرف قال له ابنه: يا أبة، ما رأيت الرجل مرّ قدّامك ؟ فقال: يا بنيّ إنّ الّذي اصلّي له أقرب إليّ من الّذي مرّ قدّامي»(4) و خبر منيف عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه قال: «كان الحسين بن عليّ عليه السّلام يصلّي، فمرّ بين يديه رجل، فنهاه بعض جلسائه، فلمّا انصرف قال له: لم نهيت الرجل ؟ فقال: يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطر فيما بينك و بين المحراب، فقال: ويحك، إنّ اللّه عزّ و جلّ أقرب إليّ من

ص: 705


1- ق: 16.
2- الوسائل 11/135:5، ب 11 مكان المصلّي، الكافي 4/297:3.
3- الكافي 4/297:3.
4- الوسائل 6/133:5، ب 11 مكان المصلّي، التهذيب 1321/323:2.

أن يخطر فيما بيني و بينه أحد»(1).

ثمّ المستفاد من إشارات النصوص و تعليلاتها، أنّ استحباب وضع السترة إنّما هو لمنع المارّة أو لرفع المرجوحيّة الحاصلة في الصلاة من مواجهة إنسان و نحوه، و ممّا يرشد إلى الأوّل أيضا صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يقطع صلاته شيء ممّا يمرّ بين يديه ؟ فقال: لا يقطع صلاة المسلم شيء و لكن ادرأ ما استطعت»(2).

و صحيحة ابن أبي يعفور قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل هل يقطع صلاته شيء ممّا يمرّ بين يديه ؟ فقال: لا تقطع صلاة المؤمن شيء، و لكن ادرءوا ما استطعتم»(3).

و رواية أبي سليمان مولى أبي الحسن العسكري عليه السّلام قال: «سأله بعض مواليه و أنا حاضر عن الصلاة يقطعها شيء ممّا يمرّ بين يدي المصلّين ؟ فقال: لا ليست الصلاة تذهب هكذا بحيال صاحبها، إنّما تذهب متساوية لوجه صاحبها»(4).

و لو قيل باستحباب السترة لجهتين أو جهات ثلاث النفسيّة و الغيريّة لمنع المارّ و رفع كراهة مواجهة ما لا ينبغي مواجهته في الصلاة، كان وجه جمع بين الروايات على اختلافها.

و ما في موثّقة معاوية بن عمّار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أقوم اصلّي بمكّة و المرأة بين يدي جالسة أو مارّة ؟ قال: لا بأس إنّما سمّيت بكّة لأنّه يبكّ فيه الرجال و النساء»(5).

يمكن حمله على الضرورة الرافعة للحرمة فضلا عن الكراهة إن أفاد نفي البأس نفي المرجوحيّة مطلقا، و إلاّ فهو لا ينافي الكراهة. و يمكن كون مكّة مستثناة عن هذا الحكم رأسا، كما يومئ إليه تعليل الرواية، و أفتى به العلاّمة(6) و غيره(7) من الأصحاب.

ثمّ إنّ ظاهر إطلاق فتوى الأصحاب الاجتزاء بمسمّى السترة و لو كونه تراب أو مكان مرتفع أو لبنة أو عنزة و ما أشبه ذلك، و لكن قضيّة ظاهر خبر السكوني اعتبار الترتّب بين الامور المذكورة فيه الّتي آخرها الخطّ، و في تعيّنه نظر، و حمله على الاستحباب ثمّ مراعاة

ص: 706


1- الوسائل 4/133:5، ب 11 مكان المصلّي، التوحيد: 22/184.
2- الوسائل 8/134:5، ب 11 مكان المصلّي، التهذيب 1322/323:2.
3- الوسائل 9/134:5، ب 11 مكان المصلّي، التهذيب 1318/322:2.
4- الوسائل 5/133:5، ب 11 مكان المصلّي، علل الشرائع: 1/349.
5- الوسائل 7/133:5، ب 11 مكان المصلّي، الكافي 7/526:4.
6- كما في التذكرة 420:2.
7- كما في الذكرى 104:3.

الاحتياط حسن، نعم ينبغي القطع بعدم الاجتزاء بالخطّ مع إمكان وضع ما يصدق عليه.

و في كلام غير(1) واحد استحباب الدنوّ من السترة و يشهد له النبويّ «إذا صلّى أحدكم إلى سترة، فليدن منها لا يقطع الشيطان صلاته»(2).

و عن ابن الجنيد تقديره «بمربض شاة»(3) و في بعض الروايات(4) ما يشهد له.

و في الذكرى «أنّ سترة الامام سترة لمن خلفه، استنادا إلى عدم أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المؤتمّين لسترة، و لأنّ ظهر كلّ واحد منهم سترة لصاحبه»(5).

و في تأدّي السنّة بالسترة المغصوبة نظر، بل على استحبابها النفسي منع، نعم لا يبعد الاجتزاء بها على الاستحباب الغيري لحصول الغرض و إن أثم بوضعها، و عليه ينزل إطلاق من مال إلى الاجتزاء كالشهيد رحمه اللّه.

ص: 707


1- كما في نهاية الإحكام 350:1، الذكرى 103:3، كشف الالتباس: 102.
2- مسند أحمد 2:4، سنن أبي داود 695/185:1، سنن النسائي 62:2.
3- نقله عنه في الذكرى 103:3.
4- صحيح البخاري 133:1، صحيح مسلم 508/364:1، سنن أبي داود 696/185:1، سنن البيهقي 272:2.
5- الذكرى 103:3.
المبحث الخامس
اشارة

في مكان المصلّي من حيث استحباب الصلاة فيه و ليس إلاّ المسجد، و المناسب للمقام التعرّض لسائر أحكام المساجد، و هي كثيرة تذكر في طيّ فصول.

و ينبغي التعرّض أوّلا: لبيان ما يتعلّق بموضوع المسجد فنقول: إنّه شرعا المكان الموقوف على كافّة المسلمين للصلاة، و هذا أخصر و أجود ممّا في مفتاح الكرامة «من أنّ المسجد حقيقة شرعيّة في المكان الموقوف على المسلمين للصلاة، من دون اختصاص ببعض دون بعض، مع الصلاة فيه أو قبض الحاكم»(1).

لكون القيد الأخير ممّا يستغنى عنه بأخذ الوقف في التعريف أوّلا، لأنّه لا يتمّ إلاّ بالقبض المكتفى به في كلام جماعة(2) في وقف المسجد بصلاة واحد و لو كان هو الواقف، أو بقبض الحاكم الوليّ العامّ . و كيف فلا إشكال في كون المسجد عند المتشرّعة عبارة عن المكان المعدّ للصلاة لا غير، بل الكلام في أمرين أو امور:

الأمر الأوّل: في أنّه هل يعتبر في مسجديّة المسجد كونه وقفا أو لا؟ و الظاهر بل المقطوع به هو الأوّل، بل المستفاد من كلماتهم كونه وفاقيّا.

نعم وقع الخلاف في شيء آخر، و هو أنّه هل يعتبر في هذا الوقف الصيغة المخصوصة و التلفّظ بلفظ صريح أو كنائي مع القرينة الموضّحة للمراد أو النيّة كما اعتبروه في مطلق الوقف و أطبقوا عليه أو لا بل يكفي فيه نيّة المسجديّة و إن لم يتلفّظ بلفظ مطلقا، أو أنّه يكفي فيه أن يأذن للناس بالصلاة فيه بنيّة المسجديّة فصلّوا؟ على أقوال:

ص: 708


1- مفتاح الكرامة 246:6.
2- كما في الذكرى 133:3.

فجماعة(1) إلى أنّه لو بناه بنيّة المسجد لم يصر مسجدا و إنّما تصير البقعة مسجدا بصيغة الوقف مثل وقفت و شبهه أو جعلته مسجدا و يأذن في الصلاة فيه، فإذا صلّى فيه واحد تمّ الوقف، و لو قبضه الحاكم أو أذن في قبضه فكذلك، لأنّ له الولاية العامّة.

و ظاهر المحكيّ عن الشيخ في المبسوط كفاية النيّة قائلا: «إذا بنى مسجدا خارج داره في ملكه فإن نوى به أن يكون مسجدا يصلّي فيه كلّ من أراده زال ملكه عنه، و إن لم ينو ذلك فملكه باق عليه سواء صلّى فيه أو لم يصلّ »(2) و عن الذكرى(3) ظاهره الاكتفاء بالنيّة، و ليس في كلامه دلالة على التلفّظ، و لعلّه الأقرب، و عن مجمع البرهان(3) استظهاره فاكتفى بمجرّد قصد كونه مسجدا و لكن عن الذكرى «أنّه لو أذن للناس بالصلاة فيه بنيّة المسجديّة فصلّوا يصير مسجدا، لأنّ معظم المساجد في الإسلام على هذه الصور»(5).

و الأوّل أقرب، للأصل بل الاصول، فإنّ الأصل عدم زوال الملك بمجرّد القصد و النيّة، و الأصل عدم تعلّق أحكام المسجد بما لم يتلفّظ فيه بصيغة، و الأصل عدم تعلّق أحكام الوقف أيضا بما لم يجر عليه صيغة. و لا مخرج عن هذا الأصل سوى ما عرفته عن الذكرى «من كون معظم مساجد الإسلام على هذه الصورة»(6).

و فيه: أنّه إن اريد به السيرة و الإجماع العملي على وجه يكشف عن التقرير و رضا المعصومين عليهم السّلام فهو غير واضح، و إن اريد به ما دون ذلك فغير حجّة.

ثمّ على المختار فالظاهر كفاية «جعلته مسجدا».

و قيل: لا يصير مسجدا بقوله: «جعلته مسجدا» لأنّه وصف له بما هو موصوف به لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «جعلت لي الأرض مسجدا»(4) نعم لو قال: جعلته مسجدا للّه عزّ و جلّ ، فالأقرب أنّه يصير مسجدا. و فيه ما فيه، فالوجه الأوّل.

الأمر الثاني: هل يعتبر في مسجديّة المسجد قصد العموم أعني كونه وقفا عامّا يصلّي

ص: 709


1- كما في جامع المقاصد 157:2، كشف الالتباس: 105.
2- المبسوط 162:1. (3و5و6) الذكرى 133:3.
3- مجمع الفائدة و البرهان 160:2.
4- الوسائل 8/345:5، ب 1، ما يسجد عليه، التهذيب 926/235:2.

فيه عامّة المسلمين، أو يجوز تخصيصه بطائفة دون اخرى ؟ فعن فخر المحقّقين(1) و المحقّق الثاني(2) و غيرهما(3) التصريح بالأوّل، فلو نوى الاختصاص بطل الوقف رأسا. و من مشايخنا(4) من ادّعى ضرورة منافاة الخصوصيّة للمسجديّة. و عن أحكام المساجد من القواعد و باب الوقف منه أيضا بطلان التخصيص و صحّة الوقف قهرا(5) و عنه في التذكرة صحّة الوقف و التخصيص معا(6) و عن الدروس(7) التردّد في صحّة التخصيص و عدمها و على البطلان في صحّة الوقف و عدمها.

أقول: قضيّة الاقتصار فيما خالف الأصل على موضع اليقين. و إن كان بطلان وقف المسجد مع التخصيص، إلاّ أنّ عموم الوقوف على حسبما يوقفها أهلها يقتضي الصحّة مطلقا.

و دعوى منافاة التخصيص للمسجديّة غير واضح الوجه، إلاّ على تقدير كون العموم مأخوذا في مسمّى المسجد شرعا كما ظهر من تعريفه المتقدّم، و هذا على تقدير مساعدة عرف المتشرّعة عليه حسن، غير أنّ المنع عنها له مجال واسع، فما عرفته عن التذكرة لعلّه أقرب.

الأمر الثالث: في أنّه هل يعتبر في مسجديّة المسجد قصد القربة في وقفه أو لا؟ وجهان مبنيّان على القولين: في اعتبار قصد القربة في مطلق الوقف فإنّ المسجد أيضا من أفراده فيشمله كلّ من إثبات الاشتراط و نفيه، فعلى القول بعدم اشتراطه في مطلق الوقف - كما هو الأظهر الأقوى، للأصل، و عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ المقتضي لوجوب الوفاء بكلّ عقد، و الوقف أيضا عقد مفتقر إلى الإيجاب و القبول على الأقوى - فما حصل بلا قصد القربة يندرج في العموم، مضافا إلى عموم «الوقوف على حسبما يوقفها أهلها» و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«حبّس الأصل و سبّل الثمرة»(8) و كون أدلّة اشتراطه مدخولة اتّجه عدم اعتباره في محلّ البحث أيضا.

لكن قد يقال: لو لم نعتبره في مطلق الوقف أمكن اعتباره في خصوص المسجد، لظهور جهة العبادة في وقفه بل كونه عبادة محضة.

ص: 710


1- إيضاح الفوائد 399:2.
2- جامع المقاصد 89:9.
3- كما في كشف اللثام 340:3.
4- الجواهر 69:14.
5- القواعد 262:1 و 397:2.
6- التذكرة 431:2.
7- الدروس 276:2.
8- سنن البيهقي 162:6، سنن ابن ماجه 2397/801:2.

و فيه: أنّ جهة العبادة في المسجد ليست إلاّ لكون بنائه و وقفه أمرا راجحا مطلوبا للشارع مأمورا به استحبابا، و هذه ثابتة في أكثر الأوقاف بل في جميع الأوقاف العامّة، و لا يلزم من ذلك فسادها رأسا بانتفاء قصد القربة.

و وجهه: أنّ الوقف لكونه عقدا مشتملا على الإيجاب و القبول معاملة مخصوصة يقصد منها أثر مخصوص من انتقال العين الموقوفة إلى الموقوف عليه أو إلى اللّه عزّ و جلّ ، و لرجحان هذه المعاملة و استحبابها شرعا صارت عبادة، و حصل فيه جهتا العبادة و المعاملة، و توقّفها على النيّة إنّما هو من الجهة الاولى لا من الجهة الثانية، فيلزم من انتفاء النيّة عدم انعقادها، و انتفاء الصحّة من حيث كونها عبادة، و هو لا يلازم عدم انعقادها و فسادها معاملة، لوضوح تغاير الصحّتين، فإنّ الصحّة المضافة إليه عبارة عن موافقة الأمر و حصول الامتثال و ترتّب الثواب عليه، بخلاف ما يضاف إليه معاملة فإنّه عبارة عن التمليك للموقوف مثلا، و هذا ليس بعين الصحّة الاولى و من لوازمها و لا من ملزوماتها ليلزم من انتفائها انتفاؤه.

و هكذا نقول في وقف المسجد على تقدير كونه عبادة. و هذا هو الوجه في صحّة أوقاف المخالفين و أهل الكتاب مع عدم انعقادها عبادة، لانتفاء الإيمان الّذي هو من شروط صحّة العبادات، لا لما في كلام بعضهم من تعذّر القربة بالنسبة إليهم لوضوح الفرق بين قصد القربة و حصول القربة المقصودة، و المتعذّر هو الثاني لا الأوّل، و شرط صحّة العبادة هو الأوّل لا الثاني، و الأوّل يتأتّى منهم و إن لم يترتّب عليه الثاني.

و بهذا ارتفع الإشكال عن جواز الدخول في مساجد المخالفين و الصلاة فيها الّذي أورده غير واحد(1) من جهة اشتراط القربة في صحّة وقف المساجد و هي منتفية، فتعود ملكا لهم فلا تجوز الصلاة فيها بغير إذنهم، فإنّ أصل اشتراط القربة محلّ منع إلاّ من حيث جهة العبادة الملحوظة فيها، و بطلانها من حيث جهة العبادة لا تقضي بفسادها معاملة.

و هاهنا إشكال آخر ربّما استشكل بملاحظة اعتبار العموم في صحّة وقف المسجد من منافاة التخصيص للمسجديّة و المخالفون يقصدون بوقف مساجدهم صلاة أهل مذهبهم،

ص: 711


1- كما في السرائر 280:1، جامع المقاصد 47:9، المسالك 334:5، البحار 345:83.

و منه يتولّد إشكال آخر من جهة ما صرّح به جماعة من اشتراط عدم كون الوقف لغرض فاسد، فقالوا: «لا تجوز الصلاة فيما بني لغرض فاسد»(1) و يلزم منه عدم جواز الصلاة في مساجد المخالفين و كذا في البيع و الكنائس، لأنّ غرض المخالفين الوقف لصلاة أهل مذهبهم و هي فاسدة، و غرض اليهود و النصارى الوقف لعبادة أهل ملّتهم و هي أيضا فاسدة، فصار الوقف لغرض فاسد فيبطل فتعود ملكا لهم فيعتبر إذنهم بالصلاة فيها.

و عن العلاّمة الطباطبائي دفع هذا الإشكال و سابقه بما حاصله «أنّ هؤلاء يقصدون القربة في بنائها و وقفها، لكنّهم أخطئوا في ظنّ أنّ مستحقّه من وافق مذهبهم، فوقفهم صحيح، و ظنّهم فاسد، و لا يعلم أنّهم شرطوا في الوقف عدم عبادة غير أهل ملّتهم فيها و لو ثبت أنّهم شرطوا ذلك أيضا، فيمكن أن يقال بصحّة وقفهم و بطلان شرطهم المبتني على ظنّهم الفاسد»(2).

و محصّل الدفع أنّ شرط الصحّة من جهة القربة إنّما هو قصد القربة و هو حاصل لهؤلاء، و أنّ غرضهم في الوقف إنّما هو الصلاة و العبادة للّه تعالى و هذا غرض صحيح، غير أنّهم ظنّوا خطأ أنّ مستحقّ الصلاة و العبادة للّه تعالى أهل مذهبهم أو ملّتهم، و فساد الاعتقاد لا يقضي بفساد الغرض مع عدم العلم باشتراطهم عدم عبادة غير أهل مذهبهم و ملّتهم فلم يعلم التخصيص. و لو علم الشرط أيضا كان فاسدا لابتنائه على اعتقادهم الفاسد، فلو علموا أنّ الحقّ في غيرهم لما شرطوا عدم صلاة غيرهم.

أقول: و ممّا يهوّن الخطب بالنسبة إلى جميع الإشكالات الثلاث إنّما هو تقرير الأئمّة عليهم السّلام لأصحابهم على التردّد في مساجد المخالفين و الصلاة فيها، بل أمرهم بذلك و حثّهم و ترغيبهم عليه، فإنّه لو كان فيها جهة فساد بإحدى الجهات الثلاث المذكورة لما جاز ذلك قطعا. فيكشف ذلك إمّا عن عدم اشتراط القربة في وقف المساجد، أو حصولها منهم و عدم كون غرضهم فاسدا، و عن عدم اشتراط العموم، أو حصول الشرط في المساجد، و اللّه العالم بحقائق أحكامه.

ص: 712


1- كما في المسالك 334:5، جامع المقاصد 46:9.
2- نقله عنه في مفتاح الكرامة 249:6.

فصل: يستحبّ اتّخاذ المساجد استحبابا مؤكّدا كما في قواعد(1) العلاّمة قولا واحدا للامّة، و لذا قيل(2): «إنّه مجمع عليه» تارة و «متّفق عليه بين المسلمين» اخرى، و «أنّه من ضروريّات الدين» ثالثة(3) و النصوص به مع ذلك مستفيضة:

فعن عقاب الأعمال قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من بنى مسجدا في الدنيا أعطاه اللّه بكلّ شبر منه، أو قال: بكلّ ذراع منه، مسيرة أربعين ألف عام مدينة من ذهب، و فضّة، و درّ، و ياقوت، و زمرّد، و زبرجد، و لؤلؤ»(4).

و في خبر السكوني عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام قال: «إنّ اللّه إذا أراد أن يصيب أهل الأرض بعذاب، قال: لو لا الّذين يتحابّون فيّ و يعمرون مساجدي، و يستغفرون بالأسحار لولاهم لأنزلت عذابي»(5).

و خبر عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام عن أبيه عن عليّ عليه السّلام قال: «إنّ اللّه إذا أراد أن يصيب أهل الأرض بعذاب، قال: لو لا الّذين يتحابّون بجلالي و يعمرون مساجدي و يستغفرون بالأسحار، لأنزلت عذابي»(6).

و صحيح أبي عبيدة الحذّاء قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من بنى مسجدا بنى اللّه له بيتا في الجنّة، قال أبو عبيدة: فمرّ بي أبو عبد اللّه عليه السّلام في طريق مكّة و قد سوّيت بأحجار مسجدا، فقلت: جعلت فداك، نرجو أن يكون هذا من ذلك، قال: نعم»(7).

و عنه أيضا عن أبي جعفر عليه السّلام «أنّه قال: من بنى مسجدا كمفحص(8) قطاة بنى اللّه له بيتا في الجنّة، قال أبو عبيدة: و مرّ بي و أنا بين مكّة و المدينة أصنع الأحجار، فقلت: هذا من ذلك ؟ فقال: نعم»(9).

و خبر أبي الصباح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «فقال له أبو الصباح: ما تقول في هذه المساجد

ص: 713


1- القواعد 260:1.
2- كما في الذكرى 120:3.
3- كما في المدارك 390:4.
4- الوسائل 4/204:5، ب 8 أحكام المساجد، عقاب الأعمال: 339.
5- الوسائل 3/204:5، ب 8 أحكام المساجد، ثواب الأعمال: 1/211.
6- الوسائل 5/205:5، ب 8 أحكام المساجد، علل الشرائع: 1/521.
7- الوسائل 1/203:5، ب 8 أحكام المساجد، الكافي 1/368:3.
8- مفحص قطاة: الموضوع الّذي تفحص فيه التراب أي تكشفه (مجمع البحرين 177:4).
9- الوسائل 2/204:5، ب 8 أحكام المساجد، الفقيه 704/152:1.

الّتي بنتها الحاجّ في طريق مكّة ؟ فقال: بخّ بخّ تيك أفضل المساجد، من بنى مسجدا كمفحص قطاة بنى اللّه له بيتا في الجنّة»(1).

و لا يذهب عليك أنّ التشبيه بمفحص القطاة في الخبرين ليس لبيان كفاية هذا المقدار في تحقّق المسجديّة، فإنّه ممّا لا يمكن الصلاة فيه، إذ لا بدّ فيه من مقدار يسع صلاة واحد، بل هو مبالغة في الصغر و الاكتفاء بصغيرة في صدق المسجديّة و حصول فضله حتّى ما لو لم يسع إلاّ رجلا واحدا، كما أنّ مفحص القطاة في الصغر بحيث لا يسع إلاّ واحدة، و مفحص كمقعد الموضع الّذي تكشفه القطاة في الأرض و تليّنه بجؤجؤها لتبيض فيه.

ثمّ الظاهر إنّ إطلاق المسجد على الّتي بنتها الحاجّ في طريق مكّة ليس على الحقيقة، بناء على اعتبار الوقف في المسجد، و اعتبار الصيغة في وقفه و عدم كفاية مجرّد نيّة المسجديّة أو الوقفيّة، و من المعلوم ضرورة انتفاء الأمرين في هذه المساجد، بل هو لضرب من المجاز و الاستعارة باعتبار المشاركة في الفضل و الثواب، كما ربّما يومئ إليه قول الراوي «نرجو أن يكون هذا من ذلك».

ثمّ إنّ الروايات المذكورة كما تدلّ على استحباب اتّخاذ المساجد ابتداء، فكذلك تدلّ على استحباب تعميرها، بل هو أيضا محلّ وفاق بل ضروريّ . و يدلّ عليه - مضافا إلى ما ذكر - قوله: عزّ من قائل: إِنَّمٰا يَعْمُرُ مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَقٰامَ اَلصَّلاٰةَ وَ آتَى اَلزَّكٰاةَ (2).

و ينبغي ختم الفصل برسم مسائل:
[المسألة الاولى: استحباب اتّخاذ المساجد مكشوفة]

المسألة الاولى: في كلام جماعة كالمحقّق في الشرائع(3) و النافع(4) و العلاّمة في الإرشاد(5) و الشهيد في الدروس(6) و اللمعة(7) استحباب اتّخاذ المساجد مكشوفة، و في الرياض(8) «على المشهور» و لكن في الشرائع وصف المكشوفة بغير المسقّفة(9) و فسّرها به في حاشية الروضة و نسب فهمه إلى ظاهر الشارح(10) و في الرياض وصفها بغير مظلّلة،

ص: 714


1- الوسائل 6/205:5، ب 8 أحكام المساجد، المحاسن: 85/55.
2- التوبة: 18.
3- الشرائع 127:1.
4- النافع: 49.
5- الإرشاد 249:1.
6- الدروس 156:1.
7- اللمعة: 11.
8- الرياض 304:4.
9- الشرائع 127:1.
10- حاشية الروضة: 211.

و عبّر عن الحكم في التذكرة(1) و المنتهى(2) بكراهة اتّخاذها مظلّلة، و في القواعد(3) بكراهة تظليلها بل تكون مكشوفة.

و لا مستند لاستحباب المكشوفيّة إلاّ عدّة روايات، كرواية عبد اللّه بن سنان - في الحسن بإبراهيم بن هاشم بل الصحيح على الصحيح - عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنى مسجده بالسميط، ثمّ إنّ المسلمين كثروا، فقالوا: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو أمرت بالمسجد فزيد فيه، فقال: نعم، فأمر به فزيد فيه، و بنى بالسعيدة، ثمّ إنّ المسلمين كثروا، فقالوا: يا رسول اللّه لو أمرت بالمسجد فزيد فيه، قال: نعم، فأمر به فزيد فيه، و بني جدارة بالانثى و الذكر، ثمّ اشتدّ عليهم الحرّ، فقالوا: يا رسول اللّه، لو أمرت بالمسجد فظلّل، فقال: نعم، فأمر به فاقيمت فيه سواري من جذوع النخل، ثمّ طرحت عليه العوارض و الخصف و الأذخر، فعاشوا فيه حتّى أصابتهم الأمطار، فجعل المسجد يكفّ عليهم، فقالوا:

يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو أمرت بالمسجد فطيّن، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا عريش كعريش موسى، فلم يزل كذلك حتّى قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان جداره قبل أن يظلّل قامة، فكان إذا كان الفيء ذراعا و هو قدر مربض عنز صلّى الظهر، فإذا كان ضعف ذلك صلّى العصر، و قال: السميط: لبنة لبنة، و السعيدة: لبنة و نصف، و الانثى و الذكر لبنتان مخالفتان»(4).

و صحيح الحلبي «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المساجد المظلّلة، أ يكره القيام فيها؟ قال:

نعم، و لكن لا يضرّكم الصلاة فيها. هكذا رواه الصدوق بإسناده عن الحلبي ثمّ قال: و قال أبو جعفر عليه السّلام: أوّل ما يبدأ به قائمنا سقوط المساجد، فيكسرها و يأمر بها فيجعل عريشا كعريش موسى»(5).

و صحيحه الآخر قال: «سألته عن المساجد المظلّلة يكره المقام فيها؟ قال: نعم و لكن لا يضرّكم الصلاة فيها اليوم، و لو كان العدل لرأيتم أنتم كيف يصنع في ذلك»(6).

و المرويّ عن كتاب الغيبة للشيخ مسندا عن أبي بصير قال: «إذا قام الإمام القائم عليه السّلام

ص: 715


1- التذكرة 423:2.
2- المنتهى 319:6.
3- القواعد 261:1.
4- الوسائل 1/205:5، ب 9 أحكام المساجد، التهذيب 738/261:3.
5- الوسائل 3/207:5 و 4، ب 9 أحكام المساجد، الفقيه 706/152:1 و 707.
6- الوسائل 62/207:5، ب 9 أحكام المساجد، الكافي 4/368:3.

دخل الكوفة و أمر بهدم المساجد الأربعة حتّى يبلغ أساسها، و يصيّر عريشا كعريش موسى»(1).

و هذه الروايات كما ترى لا دلالة فيها على استحباب الكشف، بل غاية ما فيه الدلالة على كراهة التسقيف إن سلّمناها، و لا ملازمة بين الأمرين مع ورود النصّ بخلافه في حكاية مسجد النبيّ و روايات العريش. و لعلّه لذا جمع في الشرائع(2) بين الكشف و عدم التسقيف على أن يكون الثاني وصفا توضيحيّا للأوّل و تنبيها على أنّ المراد بالكشف في فتاويهم ما يقابل التسقيف لا ما يقابل التظليل مطلقا، و عليه كان في إطلاق الاستحباب تسامح و القول بكون ترك المكروه مستحبّا خلاف التحقيق، أو يراد به رجحان الترك الّذي هو عبارة اخرى للكراهة. و الظاهر أنّ من عبّر عن موضوع الكراهة بالتظليل أراد به التظليل على وجه التسقيف لا مطلق التظليل، و إلاّ فتنهض روايات العريش مع فعل النبيّ في مسجده حجّة عليه، مع أنّه ليس في الروايات الاخر ما يشهد بهذا الإطلاق عدى خبري الحلبي المصرّحين بكراهة القيام في المساجد المظلّلة المستلزمة لكراهة اتّخاذها مظلّلة.

و يدفعه - مع قوّة احتمالها لمساجد بنتها العامّة على وضع خاصّ من التظليل غير مرضيّ للشارع، كما ربّما يشعر به الترخيص في صلاة أصحابه فيها و التعريض بقوله: «لو كان العدل لرأيتم أنتم كيف يصنع» - أنّه لا بدّ من تقييده بالتظليل على وجه التسقيف عملا بفعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

هذا مع إمكان منع إطلاق كراهة التسقيف أيضا، إذ لا مستند له إلاّ فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مسجده.

و يدفعه أنّه ليس فيه عموم و لا إطلاق يتناول سائر المساجد، و لعلّه لاحظ في مسجد خصوصيّة غير موجودة في غيره، خصوصا مساجد بلاد العجم و ما ضاهاها الّتي لا يستقيم أمرها بسبب شدّة البرد في الخريف و الشتاء من غير سقف، بخلاف مسجد النبيّ و ما شابهه من مساجد الحجاز و نحوه الّذي لا مقتضي من جهة البرودة لتسقيفه.

و أمّا الحرارة: فيكفي في دفعها طريقة العريش، و أمّا المطر: فلقصر زمانه و عدم اتّفاق دوام مصادفة نزوله لأوقات الصلاة، و قلّة تردّد الناس في زمان نزوله إلى المساجد أمره سهل.

ص: 716


1- كتاب الغيبة: 283.
2- الشرائع 127:1.

نعم قول أبي جعفر عليه السّلام في مرسلة الفقيه «أوّل ما يبدأ به قائمنا سقوف المساجد فيكسرها» ما يعمّ سائر المساجد، إلاّ أنّه - مع قصور سنده بالإرسال - معارض برواية أبي بصير المرويّة عن كتاب الغيبة، فيخصّص عموم المساجد بالأربعة، و به يقوى احتمال كونها المراد أيضا من المساجد المظلّلة في خبري الحلبي.

و على فرض تسليم عموم الحكم فلا بدّ من تخصيصه بغير محلّ الحاجة لدفع حرّ أو برد و نحوهما، و إلاّ لهجر أكثر المساجد و لا سيّما مساجد بلاد العجم في أكثر أوقات السنة لسبب شدّة البرودة الّتي لا يدفعها إلاّ سدّ جميع منافذه و روازنه و لا يظنّ أنّ الشارع يرضى بذلك.

و لقد أجاد الشهيد في الذكرى قائلا: «و لعلّ المراد بالتظليل تظليل جميع المسجد، أو تظليل موضع خاصّ ، أو في بعض البلدان، و إلاّ فالحاجة ماسّة لدفع الحرّ و القرّ»(1).

فما في المدارك: من الجزم بعدم زوال كراهة التسقيف مطلقا حتّى مع الحاجة، و تبعه صاحب الذخيرة(2) و غيره(3) تعليلا بأنّ هذا القدر من التظليل يدفع أذى الحرارة و البرودة، و مع المطر لا يتأكّد استحباب التردّد إلى المساجد، كما يدلّ عليه إطلاق النهي عن التسقيف و ما اشتهر من قوله عليه السّلام «إذا ابتلّت النعال فالصلاة في الرحال»(4) و النعال - على ما عن الهروي و غيره -: «وجه الأرض الصلبة»(5) و عن الجوهري: «الأرض الغليظة تبرق حصاتها لا تنبت شيئا»(6) و الرحال: مسكن الرحل(7) ضعيف جدّا.

فالأقرب عدم كراهية التسقيف إلاّ في موضع لم يكن الحاجة ماسّة إليه، و عليه فيستحبّ اتّخاذ العريش، تأسّيا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عملا بالروايات الدالّة على استحبابه.

[المسألة الثانية: يستحبّ جعل الميضاة على باب المساجد]

المسألة الثانية: يستحبّ جعل الميضاة على بابها، كما نصّ عليه جماعة(8) و في كلام آخرين(9) كراهة جعلها في وسطها. و كان مبنى الاختلاف على أنّ هنا حكما واحدا يعبّر

ص: 717


1- الذكرى 124:3.
2- الذخيرة: 248-249.
3- كما في الجواهر 76:14.
4- الوسائل 4/195:5، ب 2 أحكام المساجد، الفقيه 1099/246:1.
5- الغريبين 1861:6، النهاية 83:5 (نعل).
6- الصحاح 1832:5.
7- المدارك 392:4-393.
8- كما في الشرائع 127:1، المبسوط 160:1، النهاية: 109، نهاية الإحكام 352:1، الكفاية: 302، كما في التحرير 325:1، روض الجنان 624:2، مجمع الفائدة و البرهان 149:2، الرياض 305:4.
9- كما في القواعد 262:1، السرائر 279:1، كشف اللثام 323:3.

عنه تارة باستحباب جعلها في خارج المسجد، و اخرى بكراهة جعلها في داخله.

و يشكل بأنّ النصّ الوارد في المسألة يساعد على الأوّل و هو ليس بعين الثاني، و لا سيّما أنّ ترك جعلها في الداخل ليس بعين جعلها في الخارج مفهوما و لا مصداقا، إلاّ أن يدّعى الانسباق العرفي من النصّ المفيد للاستحباب من باب الالتزام العرفي لا العقلي، فيكونان حكمين متلازمين باللزوم، أو يستند لإثبات الكراهة بالاعتبار العقلي المقرّر بأنّها لو جعلت داخلها لتأذّى المسلمون برائحتها و هو مطلوب الترك، فيكونان أيضا حكمين جاء أحدهما من جهة النصّ و الآخر من جهة الاعتبار.

و كيف كان فالوجه هو الاستحباب، لما رواه الشيخ رحمه اللّه عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي إبراهيم عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: جنّبوا مساجدكم صبيانكم و مجانينكم و بيعكم و شرائكم، و اجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم»(1) و لو قلنا بكراهة جعلها في داخل المساجد استنادا إلى الاعتبار أو استظهارا له من الرواية على الوجه المتقدّم لم يكن به بأس.

و لكن ظاهر المحكيّ عن الحلّي في السرائر المنع، قائلا: «و ينبغي أن تكون الميضاة على أبوابها و لا يجوز أن يكون داخلها»(2) و قوله: ينبغي... الخ ربّما ينهض قرينة على إرادة الكراهة كما احتمله جماعة(3). و على تقدير حمله على ظاهره فربّما يحتمل بناء المنع على صورة سبق المسجديّة على بنائها، أو على صورة سراية النجاسة منها إلى المسجد على تقدير سبق بنائها على المسجديّة فيما لو جعل المسجد ما عداها.

و لقد صرح بالمنع في الصورة الاولى في الروضة و زاد علاوة قائلا: بعد عبارة اللمعة «و الميضاة على بابها لا في وسطها على تقدير سبق إعدادها على المسجديّة و إلاّ حرم في الخبثيّة مطلقا و الحدثيّة إن أضرّت بها انتهى»(4).

و قد أشار إلى المنع في الصورتين كاشف اللثام قائلا: «لا يجوز أن تكون داخلها إن أحدثت بعد المسجديّة أو بنيت قبلها بحيث تسري النجاسة إليها»(5).

و عزي المنع في الصورة الاولى أيضا إلى الذكرى(6) و فوائد الشرائع(7) و حاشية

ص: 718


1- الوسائل 2/233:5، ب 27 أحكام المساجد، التهذيب 702/254:3.
2- السرائر 279:1.
3- كما في شرح الروضة: 212، الذخيرة: 249.
4- الروضة البهيّة 541:1.
5- كشف اللثام 323:3.
6- الذكرى 137:3.
7- فوائد الشرائع: 58.

الإرشاد(1) و الروض(2) و المسالك(3) و مجمع البرهان(4) و وجه المنع في الصورتين معا حرمة تنجيس المسجد، و هذا إنّما يتمّ في الخبثيّة لا في الحدثيّة فقط. نعم إنّما يتّجه المنع فيها على تقدير الإضرار بالمسجد كما نصّ عليه في الروضة(5).

و لكن ربّما يستشكل التقييد بالإضرار المقتضي لعدم المنع على تقدير عدم الإضرار كما في حاشية الروضة للمحقّق الخوانساري قائلا: «و على تقدير عدم الضرر أيضا التصرّف في الوقف بما يوجب تغييره عن وضعه و هيئته لا يخلو عن إشكال، إلاّ أن يكون قد أذن للمتولّي في أمثال ذلك في متن الصيغة، و حينئذ فلا حرمة و لكن يكره كما صرّح به في شرح الإرشاد(6) لكراهة الوضوء من البول و الغائط في المسجد كما ذكره الأصحاب، و يدلّ عليه صحيحة رفاعة(7) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و قلّما ينفكّ المتوضّئون عنهما، و كان تتمّته أنّ وضع الحدثيّة في المسجد إعانة على المكروه لما نعلم من عدم مبالات أكثر الناس في المكروهات، و على تقدير المبالات فتقلّ فائدتها جدّا» انتهى(8).

و يرد عليه أوّلا: أنّه على فرض تسليم صدق تغيير وضع الوقف على مثل هذا التصرّف أنّه إنّما يمنع في موضع منافاته لغرض الواقف لا مطلقا، خصوصا مع كونه من مصالح الوقف كما فيما نحن فيه.

و ثانيا: فساد تعليل الكراهة على تقدير حصول الإذن في متن الصيغة بكون وضع الحدثيّة إعانة على المكروه، لعدم الدليل على كراهة الإعانة على المكروه، و إلحاقها بحرمة الإعانة على المحرّم المدلول عليها بنصّ الآية قياس باطل. و أنّ أول كراهة الإعانة بالكراهة من جهة قاعدة المقدّميّة، فيدفعه أنّ المقدّمة إذا لم تكن فعلا لفاعل ذي المقدّمة لم يلحقها حكم ذيها - كما حقّق في محلّه -.

ثمّ بقى الكلام في بيان موضوع الحكم على ما في كلام الفقهاء من التعبير «بالميضاة» و ما ورد في النصّ من التعبير «بالمطاهر» جمع المطهرة.

ص: 719


1- حاشية الإرشاد: 128.
2- الروض 624:2.
3- المسالك 325:1.
4- مجمع البرهان 149:2.
5- الروضة البهيّة 541:1.
6- روض الجنان 624:2، الذخيرة: 249.
7- الوسائل 1/492:1، ب 57 أبواب الوضوء، التهذيب 1066/356:1.
8- حاشية الروضة: 212.

فنقول: أمّا الميضاة بالقصر و كسر الميم مفعلة من الوضوء بضمّ الواو الّذي هو اسم للتوضّأ بمعنى غسل اليد، أو المعنى الشرعي الّذي اخذ منه بمناسبة النقل من الجزء إلى الكلّ ، و قد يستعمل أيضا في الاستنجاء.

و أصل الميضاة موضوة بسكون الأوّل و فتح الثاني، ثمّ صار بالإعلال ميضأة و قد تمدّ ألفها فيقال ميضاءة على وزن مفعالة. و هي باعتبار الهيئة إمّا اسم مكان بمعنى الموضع الّذي يتوضّأ فيه، و ظاهر القاموس حيث قال: «الميضاة موضع يتوضّأ فيه و منه المطهرة»(1)جعلها من هذا الباب. أو اسم آلة بمعنى الإناء الّذي يتوضّأ به، و ظاهر الغريبين و المجمع حيث قال الأوّل: «الميضاة مطهرة يتوضّأ بها»(2) و الثاني «مطهرة كبيرة يتوضّأ منها»(3)جعلها من هذا الباب، هذا بالنظر إلى كلام أهل اللغة.

و أمّا بالنظر إلى كلام الفقهاء فالمصنّفون منهم لم يتعرّضوا في كتبهم الاستدلاليّة و الفتوائيّة لشرحها، إلاّ أنّ الشارحين و المحشّين لكتب الفتوى تعرّضوا لتفسيرها، فمنهم:

من يظهر منه حملها على إرادة موضع الخلاء كالمحقّق الثاني في جامع المقاصد، و هو ظاهر جماعة(4) حملوا المنع المتقدّم عن الحلّي على سبق المسجديّة على بنائها، أو صورة سراية النجاسة منها إلى المسجد على تقدير سبق المسجديّة على بنائها، و يعضده ما قيل من أنّه الّذي يتعارف اتّخاذ موضع له. و منهم: من جعلها بمعنى موضع الوضوء حكاه في جامع المقاصد قائلا: «الميضاة المطهرة، ثمّ قال: و قد يراد بالميضاة موضع الوضوء و لا يبعد كراهته»(5) و هذا بقرينة المقابلة ينهض قرينة على أنّ مراده بالمطهرة في مختاره موضع الخلاء. و منهم: من حملها على إرادة كليهما كما في الروضة(6) و الذخيرة(7) و غيرهما مفسّرين لها بالمطهرة للحدث و الخبث، و في فوائد الشرائع(8) احتمال كلّ منهما من دون ترجيح.

و قد يشكل الأوّل باستلزامه كون عقد المسألة في كلام الأصحاب لبيان حكم الفرد النادر، لأنّ ما لا يسري إليه النجاسة منها فيما سبق بنائها المسجديّة يتّفق نادرا. و أبعد منه

ص: 720


1- القاموس المحيط 32:1.
2- نقله عنه في المغرب: 487.
3- مجمع البحرين 441:1 (وضا).
4- كما في كشف اللثام 323:3، المسالك 325:1، الرياض 306:4.
5- جامع المقاصد 146:2.
6- الروضة البهيّة 541:1.
7- الذخيرة: 249.
8- كما في روض الجنان 624:2، المسالك 325:1، الرياض 305:4.

الثاني لأدائه إلى الاستعمال في معنيين، و اعتبار القدر المشترك يوجب المجاز الّذي لا يصار إليه إلاّ لقرينة، و لكنّ الّذي يسهّل الخطب أنّها ليست لفظ الرواية و إنّما اللفظ الوارد فيها المعلّق عليها الحكم «المطهرة».

و قضيّة ظاهر عبارة الغريبين و المجمع كونها إناء يتطهّر به، لتفسيرهما الميضاة ب «مطهرة يتوضّأ بها» كما في الأوّل، أو «منها» كما في الثاني بل هو صريح الثاني أيضا في مادّة طهر. و لكن هذا المعنى بعيد عن لفظ الرواية، و لا سيّما بملاحظة «اجعلوا» و كلمة «على» كما يدركه الذوق السليم، بل هو مقطوع ببطلانه بالنظر إلى فهم الأصحاب، فهي اسم للموضع جزما.

و هل هي لموضع الوضوء أو موضع الخلاء؟ ظاهر كلماتهم بل صريح بعضهم فهم الثاني، و قضيّة ما عرفته عن الروضة(1) و الذخيرة(2) و غيرهما(3) الحمل عليهما معا.

و قد يدّعى كون الثاني هو المعهود في العرف الحاضر، و احتمال تغايره لعرف زمان صدور الرواية، ينفيه أصالة عدم النقل المعتضد بأصالة التشابه، فيتّجه الحمل عليه إن ثبت المعهوديّة في العرف، و لم يبعّده لزوم كون الرواية لبيان الحكم لمورد نادر، إلاّ أن يذبّ على تقدير تسليم الندور بأنّ المطهرة في المسجد أو على باب المسجد بنفسه، و مع قطع النظر عمّا يستلزمه من تنجيس موضوع من الموضوعات مخصوص عند الشارع بحكم خاصّ سيقت الرواية لبيانه، و هذا ممّا لا يستتبع إشكالا و لا يلزم بالنسبة إلى اللازم في غالب مواردها إهمال، لجواز إحالة حكمه و هو الحرمة إلى بياناته لحرمة تنجيس المسجد.

و كيف كان فالمقام لا يخلو عن إشكال، و إن كان المصير إلى ما فهمه الأصحاب أوفق بطريقة الاحتياط، و لا يبعد التزام الكراهة في الموضعين معا.

[المسألة الثالثة: يستحبّ جعل المنارة مع حائطها]

المسألة الثالثة: أنّه يستحبّ جعل المنارة مع حائطها كما نصّ عليه جماعة(4) بل هو المشهور كما عن الرياض(5) و في كلام جماعة(6) بل الأكثر التعبير عن المسألة، بكراهة

ص: 721


1- الروضة البهيّة 541:1.
2- الذخيرة: 249.
3- كما في كشف اللثام 323:3، الرياض 306:4.
4- كما في السرائر 278:1، الشرائع 127:1، المعتبر 449:2، الإرشاد 249:1، التذكرة 423:2، و المنتهى 387:1، اللمعة: 30، الدروس 156:1.
5- الرياض 306:4.
6- كما في الذكرى 125:3، جامع المقاصد 145:2، المفاتيح 104:1، المدارك 394:4.

جعلها في وسطها، و عن كاشف(1) اللثام دعوى الشهرة فيه. و ظاهر المحكيّ عن المبسوط و التحرير و لا تبنى المنارة في وسطها المنع، و أظهر منه في إفادة المنع عبارة النهاية «و لا يجوز أن تكون في وسطها»(2).

و هما و إن احتملا إرادة الكراهة، إلاّ أنّ ظاهر جماعة - كالمحقّق الثاني في جامع المقاصد(3) و الشهيد الثاني في الروض(4) و الروضة(5) و المسالك(6) و الميسي في حاشية القواعد(7) و صاحبي المدارك(8) و الذخيرة(9) و كاشف اللثام(10) - إبقاؤهما على ظاهرهما على وجه يظهر منهم الموافقة في القول و الحرمة، لقولهم بعد حكاية ما عرفت «و هو حقّ أو حسن» غير أنّهم نزّلوا إطلاقه على صورة سبق المسجديّة على بنائها، بل في الروضة على هذا التقدير التصريح بأنّه حرام، و تأمّل في إطلاق الحرمة على هذا التقدير أيضا. ثمّ قال: و الظاهر هنا تقييد الحرمة بالإضرار أو بما إذا لم يكن مأذونا في الوقف في أمثال هذه التصرّفات، و أمّا مع الإذن و عدم الإضرار فلا وجه للحرمة، ثمّ نقل عبارة الشيخ في النهاية و قال: و كأنّه أراد به الكراهة أو تقييد بأحد الوجهين، انتهى(11).

أقول: أمّا استحباب جعلها مع الحائط فلم نقف على رواية فيه، بل في الذخيرة «مستنده غير واضح»(12) إلاّ أنّه علّله غير واحد(13) بأنّ فيه توسعة للمصلّين و رفعا للحجاب عمّا بينهم، و هذا إن تمّ لقضى بكراهة جعلها في الوسط أيضا بالنظر إلى ضدّي التوسعة و رفع الحجاب، و هما التضييق على المصلّين و وضع الحجاب بينهم.

و لكن يشكل نهوضه بمجرّده لإثبات الاستحباب و المطلوبيّة، إذ لو وجّه التمسّك به بكونه استدلالا لمّيّا، بادّعاء كون التوسعة علّة لمطلوبيّة جعل المنارة مع الحائط للشارع، فيزيّفه منع العلّيّة إلاّ لدليل من عقل أو نقل، و العقل غير مستقلّ بإدراكها، و لم يرد من الشارع خطاب فيها. و لو بنى الاستدلال على جعل التوسعة عنوانا أوّليّا لحقه المطلوبيّة للشارع، ثمّ يتعدّى منه الحكم إلى ما هو من قبيل نوعه و هو جعل المنارة مع الحائط،

ص: 722


1- كشف اللثام 322:3.
2- النهاية: 108.
3- جامع المقاصد 145:2.
4- الروض 62:2.
5- الروضة البهيّة 541:1.
6- المسالك 325:1.
7- نقله عنه في مفتاح الكرامة 264:6.
8- المدارك 394:4.
9- الذخيرة: 249.
10- كشف اللثام 322:3.
11- حاشية الروضة: 212.
12- الذخيرة: 249.
13- كما في نهاية الإحكام 352:1.

فينتظم قياس بطريق الشكل الأوّل، صورته: إنّ جعل المنارة مع الحائط توسعة للمصلّين، و هي مطلوبة للشارع، فيتوجّه إليه منع الحكم في العنوان الأوّلي لعدم وضوح دليله. إلاّ أن يستظهر من نفس أدلّة مطلوبيّة بناء المساجد، بتقريب أنّه إذا لم يبن المنارة في وسط المسجد صار محلّها من المسجد، فيدلّ على كونه مطلوبا للشارع كلّ ما دلّ على مطلوبيّة بناء المسجد، و فيه إشكال. أو يستظهر رجحان مطلق التوسعة في نظر الشارع من فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مسجده على ما ورد في خبر عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سمعته يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنى مسجده بالسميط، ثمّ إنّ المسلمين كثروا فقالوا:

يا رسول اللّه لو أمرت بالمسجد فزيد فيه، فقال: نعم، فزيد فيه و بناه بالسعيدة، ثمّ إنّ المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو أمرت بالمسجد فزيد فيه، فقال: نعم، فأمر به فزيد فيه و بنى جداره بالانثى و الذكر... الخ»(1) فلو لا التوسعة أمرا راجحا مطلوبا للشارع لما أمر بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و فيه إشكال.

و يمكن الاكتفاء في التزام الاستحباب و الكراهة لكونهما من السنن بالشهرة عملا بقاعدة التسامح، فإنّها ممّا يكتفى فيه بفتوى فقيه واحد فكيف بفتوى المعظم. و فيه أيضا إشكال أوردناه في تحقيقاتنا الاصوليّة.

و أمّا حرمة جعلها في وسط على تقدير تقدّم المسجديّة على ما جزم به الجماعة(2)فوجهها غير مذكور في كلامهم، غير أنّها قد تعلّل بأنّ مقتضى المسجديّة استعداد كلّ مكان منه للصلاة فيه، و بناؤها في الوسط ينافيه.

و نوقش فيه تارة: باقتضاء ذلك الحرمة و إن لم يكن في الوسط، و اخرى بمنع اقتضاء منافاة الاستعداد الحرمة، بل مدارها على إضرار المصلّين فعلا، فالأولى إناطة الحكم به كما أناطه في حاشية الروضة(3).

و في الوجهين ما لا يخفى، أمّا الأوّل: فلوضوح عدم بناء الوسط في فتاوي الأصحاب على إرادة الوسط الحقيقي المحفوف بالمتساويين، بل يراد به بقرينة المقابلة ما يقابل كونها

ص: 723


1- الوسائل 1/205:5، ب 9 أحكام المساجد، التهذيب 738/261:3.
2- كما في الروضة 541:1، المبسوط 160:1، التحرير 325:1، النهاية: 108.
3- حاشية الروضة: 212.

مع الحائط، فيعمّ غير الوسط الحقيقي أيضا. و أمّا الثاني: فيتّضح وجهه بالتعرّض لبيان الصور المتصوّرة للتصرّف في المسجد إجمالا و تعقيبها لبيان أحكامها، فنقول: إنّ التصرّف إمّا أن يكون بما يوجب تبدّل عنوان المسجد بعنوان آخر كجعله مدرسة أو خانا أو نحو ذلك، أو تصرّف بما لا يوجبه، و عليه فإمّا أن يكون إخراجا لمكان منه عن استعداد الصلاة فيه، أو لا يكون كذلك مع كون من مكمّلات المسجد و مصالح المصلّين.

أمّا الصورة الاولى: فلا ينبغي التأمّل في حرمته بل لا يختصّ ذلك بالمسجد و يجري في سائر الأوقاف، كما نصّ عليه جماعة(1) في باب الوقف، بل الظاهر عدم الخلاف فيه، و يدلّ عليه عموم قول العسكري عليه السّلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(2) و ما في المرويّ عن الكاظم عليه السّلام من قوله: «لا يحلّ لمن آمن باللّه و باليوم الآخر أن يبيعها و يبتاعها و يهبها و ينحلها و يغيّر شيئا منها»(3).

كما أنّه لا ينبغي التأمّل في جوازه في الصورة الثانية - كفرش أرضه أو تجصيصه، أو إعلاء جدرانه لحفظه عن صعود الصبيان و الوحوش و الكلاب، و تسقيفه محافظة على المصلّين من الحرّ و البرد و الثلج و المطر و ما أشبه ذلك - للأصل، و فقد ما يوجب الخروج عنه من الأدلّة المانعة حتّى الخبرين المتقدّمين، لعدم قضائهما بالمنع عن نحوه خصوصا أوّلهما لعدم منافاة التصرّف المذكور كون المسجد على حسب ما أوقفه أهله.

و توهّم كونه تغييرا لشيء منه فيتناوله المنع المستفاد من ثانيهما، يدفعه منع صدق التغيير على نحو هذا التصرّف، لأنّه عرفا و لغة عبارة عن جعل الشيء غير ما كان أوّلا، و هذا إحداث زيادة في المسجد مع إبقائه على ما كان.

و أمّا الصورة الثانية: كإحداث المنارة في وسطه و نحوه، فإن منع الواقف عند إجراء الصيغة من نحو هذه التصرّفات فلا إشكال بل لا أظنّ خلافا في حرمتها، لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها، و لا يحلّ أن يغيّر شيئا منه. و إن أذن فيها فالظاهر أنّه لا إشكال في جوازها، للأصل. و لا ينافيه «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» بل يدلّ على الجواز

ص: 724


1- كما في السرائر 153:3، الغنية: 298، مفتاح الكرامة 84:9، جامع المقاصد 67:9-68.
2- الوسائل 2/175:19، ب 2 الوقوف و الصدقات، الكافي 34/37:7.
3- الوسائل 4/202:19، ب 10 الوقوف و الصدقات، التهذيب 610/149:9.

بتقريب: أنّ الواقف بإذنه حين الوقف في بناء الأمارة تعلّق غرضه بالنسبة إلى مكان منه بالأمر الدائر بين استعداده و استعداده للمنارة، فهذا الأمر الدائر بين الأمرين حسب هذا الوقف و وجهه، فيكون بإحداث المنارة في وسطه على حسبه.

نعم قد يشكل الحال بالنظر إلى قول الكاظم عليه السّلام: «لا يحلّ أن يغيّر شيئا منها» فإنّه تغيير شيء منه، و إطلاقه يعمّ صورتي الإذن و عدم الإذن.

و يمكن الذبّ عنه أوّلا: بمنع كونه تغييرا بالمعنى المتقدّم - و هو جعله غير ما كان أوّلا - بملاحظة أنّ من صفته بجعل الواقف استعداده لأحد الأمرين من الصلاة فيه أو بناء المنارة فيه.

و ثانيا: بالتزام التخصيص لكون الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها في دلالته على الجواز في صورة الإذن خاصّة خاصّا فتأمّل.

و إن لم يأذن فيها بحيث سكت و لم يتعرّض في متن الصيغة لمنع و لا إذن و لو لغفلته، فهذا هو محلّ الإشكال مع وضوح مقتضى الأصل و هو الجواز، و منشأ الإشكال الشبهة في نهوض ما يوجب الخروج عن الأصل و عدمه.

و مبنى الذبّ عنه على النظر في أنّ مقتضى المسجديّة على حسب ما تعلّق به غرض الواقف هل هو استعداد كلّ مكان للصلاة فيه، أو اشتغال كلّ مكان فعلا بالصلاة ؟ و لا يبعد دعوى أظهريّة الأوّل، لأنّ الثاني إنّما يتّجه فيما لو كان الواقف حين بناء المسجد أو إجراء صيغة الوقف عليه قاطعا بعدم خلوّ موضع منه في أوقات الصلوات عن المصلّي، و انتفاؤه معلوم بالضرورة، بل المعلوم من حال الواقف أنّه قاصد إلى بناء ما يصلح للصلاة فيه بأن يكون كلّ مكان منه معدّا لذلك، كيف و ليس حال المسجد من هذه الجهة إلاّ كحال سائر الأوقاف من المدرسة و الرباط و غيرهما، حيث إنّ المعلوم من غرض الواقفين لها إعداد مكان للسكنى و النزول في محلّ الحاجة.

لا يقال: المنارة من مصالح المسجد و المصلّين فيه و هو يسوّغ بناءها فيه، لمنع كونها من المصالح المحتاج إليها أوّلا، و إمكان تحصيل هذه المصلحة ببنائها على الحائط فليس بناؤها في وسط المسجد ممّا لا مندوحة عنه. نعم يشكل الحال في مصلحة لا مندوحة عن إحداثها فيه كالميضاة الحدثيّة إذا لم يمكن جعلها في باب المسجد، و جعلها في باب المسجد يوجب خروج مكانها عن استعداد الصلاة فيه. فيقع التعارض بين مصلحة المسجد

ص: 725

و غرض الواقف حيث تعلّق باستعداد كلّ مكان منه للصلاة فيه، و الأظهر ترجيح الثاني عملا بعموم الخبرين المتقدّمين، و المصلحة المذكورة لا تنهض لتخصيصهما لكونهما من المصالح المرسلة، و لا عبرة بها عندنا إلاّ إذا كان مسيس الحاجة إليها بحيث كشف عن رضا الواقف بذلك حين الوقف و إن لم يصرّح به في متن الصيغة، و المعتبر في رضاه الرضا التحقيقي و لا يكفي التقديري و هو كونه بحيث لو التفت إلى مسيس الحاجة إليه لرضي به و أذن فيه صريحا.

و من هنا ظهر أنّ الحقّ في هذا الفرع خلاف ما أوردناه على المحقّق الخوانساري في حاشية الروضة في مسألة الميضاة.

[المسألة الرابعة: يكره تعلية المساجد بل تبنى وسطا]

المسألة الرابعة: يكره تعلية المساجد بل تبنى وسطا، على ما نصّ عليه جماعة(1) من الأصحاب منهم الشهيد في اللمعة(2) و مقتضى ما هو المعروف منه من أنّه ضمن أن لا يذكر فيها إلاّ المشهورات كونه مشهورا.

و استدلّ (3) عليها بالسنّة المعلومة من فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما روي «من كون حائط مسجده قامة»(4) و بالمنقول من حال السلف، و لما فيها من الاطلاع على عورات الجيران.

و في الكلّ ما لا يخفى، فإنّ استقرار السنّة بما ذكر غير معلوم. و فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مسجده غير واضح الوجه، و لا أنّه يكشف عن رجحان الوسطيّة بنفسها، لجواز كون جعل حائط مسجده قامة لمراعاة مصلحة اخرى، و لعلّها أفادته فائدة الشاخص المرجوع إليه في معرفة الزوال و غيره من خصوصيّات الوقت. و المنقول من حال السلف إن اريد به بلوغ عمل السلف حدّ السيرة القطعيّة الكاشفة عن المطلوبيّة للشارع فغير ثابت، و إن اريد ما دون ذلك فغير معتبر.

و يمكن الاستناد فيه إلى قاعدة التسامح بناء على الاكتفاء فيها بفتوى فقيه واحد فضلا عن فتوى جماعة بل الأكثر، لصدق البلوغ على الفتوى المتضمّنة للثواب على الفعل و الترك. و لكن لنا في إفادتها المطلوبيّة لتنعقد بها الاستحباب أو الكراهة المصطلحان بحث،

ص: 726


1- كما في جامع المقاصد 144:2، روض الجنان 625:2، الروضة البهيّة 545:1.
2- اللمعة: 30.
3- كما في جامع المقاصد 144:2.
4- الوسائل 7/142:4، ب 8 أبواب المواقيت، التهذيب 738/261:3.

بل منع أوردناه في تحقيقاتنا الاصوليّة.

و هاهنا طريق آخر لإثبات الكراهة بمعنى مطلوبيّة الترك و الاستحباب بمعنى مطلوبيّة الفعل مندرج في قاعدة التسامح أيضا، بالبناء على الاكتفاء بمجرّد احتمال الرجحان مع كون مدركها حينئذ قضاء العقل المستقلّ بكون الآتي بما احتمل الرجحان لاحتمال كونه مطلوبا للمولى ممدوحا، على معنى استحقاقه مدح العقلاء و هو حسن غير بالغ حدّ الإلزام الملازم بضابطة التلازم بين العقل و الشرع للاستحباب.

و هذا حسن إن لم يخدشه الفرق بين حسن الفعل لما فيه من الصفة المحسّنة، و حسن الفاعل لما انكشف بفعله من وجود صفة الانقياد في نفسه، فيكون استحقاقه المدح للمنكشف لا للكاشف، و الّذي يجدي في ثبوت الحكم الشرعي نظرا إلى تلازم العقل و الشرع إنّما هو الأوّل لا الثاني، و القدر المسلّم في نحو الصورة المفروضة إنّما هو من قبيل الثاني لا الأوّل.

و أمّا الاستناد إلى ما ورد من النهي عن رفع البناء في غير المسجد لأزيد من سبعة أذرع أو ثمانية، تعليلا بأنّ الزائد مسكن الجنّ و الشياطين.

ففيه: مع عدم ظهور اندراج المسجد في مورد هذا النهي أن جعل البناء سبعة أذرع أو ثمانية من التعلية فكيف يستدلّ بالنهي عن الأزيد منهما على مطلوبيّة ترك التعلية و لذا فسّر بجعله وسطا، و جعل معيار الوسطيّة صدق العرف في كلام غير واحد. فالكراهة هنا محلّ تردّد.

[المسألة الخامسة: يكره أن يجعل لها شرف]

المسألة الخامسة: يكره أن يجعل لها شرف كما نصّ عليه جماعة(1) و هي بضمّ الشين و فتح الراء جمع شرفة بسكونها: ما يبنى على أعلى الجدران ممّا هو متداول في سور البلدان و القراء. و مقابلها الجمّ : بمعنى الخلوّ عن الشرفة.

و الأصل في كراهة الشرفة عدّة من الروايات، مثل رواية طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام عن عليّ عليه السّلام «أنّه رأى مسجدا بالكوفة و قد شرّف، فقال: كأنّه بيعة، و قال: إنّ المساجد لا تشرف بل تبنى جمّا»(2).

ص: 727


1- كما في المبسوط 160:1، الشرائع 128:1، الإرشاد 249:1، المنتهى 320:6، الذكرى 123:3.
2- الوسائل 2/215:5، ب 15 أحكام المساجد، التهذيب 697/253:3.

و المرويّ عن إرشاد المفيد رحمه اللّه عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث طويل قال:

«إذا قام القائم عليه السّلام لم يبق مسجدا على وجه الأرض له شرف إلاّ هدّمها و يجعلها جمّا»(1).

و في حديث آخر «أمرنا أن نبني المدائن شرفا، و المساجد جمّا»(2).

و عن المجازات النبويّة لمحمّد بن الحسن الرضي قال عليه السّلام: «ابنوا المساجد و اجعلوها جمّا»(3).

و يظهر من الخبر الأوّل كون الحكمة الباعثة على الكراهة هو التشبّه بالبيعة، و هي معبد النصارى. و لكثرة روايات هذه المسألة و استفاضتها لعلّه لا إشكال في الحكم، لانجبار ضعف الأسانيد أو قصورها بالكثرة.

[المسألة السادسة: يكره المحاريب الداخلة]

المسألة السادسة: أنّه يكره المحاريب الداخلة على المشهور شهرة عظيمة تبلغ الإجماع، و إن اختلفت عباراتهم في التعبير عن العنوان، بين التعبير كما ذكر كما عن النافع(4) و الإرشاد(5) و البيان(6) و النفلية(7) و الذكرى(8) قال: قاله الأصحاب مؤذنا بدعوى الإجماع. و التعبير بالمحاريب الداخلة في الحائط كما عن النهاية(9) و المبسوط(10)و السرائر(11) و الشرائع(12) و المعتبر(13) و التعبير بالمحاريب الداخلة في الحائط كثيرا كما في جامع المقاصد(14) و فوائد الشرائع(15) و حاشية الإرشاد(16) و حاشية الميسي(17) و الروض(18)و المسالك(19) و مجمع البرهان(20). و في كلام جماعة(21) تعميم الحكم بالقياس إلى المحاريب الداخلة في المسجد. و ربّما عبّر بالمقاصير و هي الّتي أحدثها الجبّارين(22) كما في منظومة الطباطبائي(23) و هي محتمل الاتّحاد مع المحاريب، و يظهر من غير واحد تغايرهما.

ص: 728


1- الوسائل 4/216:5، ب 15 أحكام المساجد، إرشاد المفيد: 365.
2- مقاييس اللغة 421:1.
3- الوسائل 5/216:5، ب 15 أحكام المساجد، المجازات النبويّة: 66/98.
4- النافع: 49.
5- الإرشاد 249:1.
6- البيان: 67.
7- النفليّة: 143.
8- الذكرى 123:3.
9- النهاية: 109.
10- المبسوط 160:1.
11- السرائر 279:1.
12- الشرائع 128:1.
13- المعتبر 452:2.
14- جامع المقاصد 146:2.
15- فوائد الشرائع: 59.
16- حاشية الإرشاد: 129.
17- نقله عنه في مفتاح الكرامة 268:6.
18- الروض 628:2.
19- المسالك 328:1.
20- مجمع البرهان 152:2.
21- كما في جامع المقاصد 149:2، روض الجنان 628:2، المسالك 328:1.
22- كذا في الأصل، و الصواب: الجبّارون.
23- الدرّة النجفيّة: 102، لا تصطنع فيها المقاصير ودع تصويره فإنّه شرّ البدع.

و ليس في المسألة من النصوص إلاّ خبر طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليه السّلام «أنّه كان يكسر المحاريب إذا رآها في المساجد، و يقول: كأنّها مذابح اليهود»(1) و صحيح زرارة المرويّ عن كتاب الفقيه عن الباقر عليه السّلام قال: «إذا صلّى قوم و بينهم و بين الإمام سترة أو جدار فليس تلك لهم بصلاة إلاّ من كان حيال الباب. قال: و قال: هذه المقاصير إنّما أحدثها الجبّارون، و ليس لمن يصلّي خلفها مقتديا بصلاة من فيها صلاة»(2).

و الأوّل: ظاهر في المحاريب الداخلة في المسجد، و كذلك الثاني: على تقدير اتّحاد المقاصير و المحاريب الداخلة فيه، و إلاّ فيثبت بهما كراهة هاتين و تبقى المحاريب الداخلة في الحائط خالية عن النصّ . فلعلّ الوجه في كراهتها حينئذ كونها مانعة عن مشاهدة من بجنبي الإمام من المأمومين، فينبغي حينئذ تقييده بالكثرة حسبما عرفت في كلام جماعة.

و المراد بالكثرة كون المحراب في دخوله في الحائط بحيث إذا دخله الإمام لم يشاهده إلاّ من بحيال باب المحراب.

ثمّ في المحاريب الداخلة في المسجد ينبغي تقييد الحكم بسبق بنائها على المسجديّة، و إلاّ حرم كما نصّ عليه جماعة(3) و وجهه ما تقدّم في بحث المنارة، و اللّه العالم.

[المسألة السابعة: يجوز نقض ما استهدم من المسجد]

المسألة السابعة: يجوز نقض ما استهدم من المسجد، كما عن المبسوط(4) و النهاية(5)و السرائر(6) و في كتب المحقّق(7) و أكثر كتب العلاّمة كالمنتهى(8) و التذكرة(9) و القواعد(10)و نهاية الإحكام(11) و الذكرى(12) و البيان(13) و جامع المقاصد(14) و فوائد الشرائع(15)و المسالك(16) و المدارك(17) و الذخيرة(18) و غيرها(19) من كتب المتأخّرين و متأخّريهم.

ص: 729


1- الوسائل 1/237:5، ب 31 أحكام المساجد، التهذيب 696/253:3.
2- الوسائل 1/407:8، ب 59 صلاة الجماعة، الفقيه 1144/253:1.
3- كما في المسالك 328:1، روض الجنان 628:2، جامع المقاصد 146:2، فوائد الشرائع: 59.
4- المبسوط 160:1.
5- النهاية: 110.
6- السرائر 279:1.
7- الشرائع 127:1، النافع: 49، المعتبر 450:2.
8- المنتهى 325:6.
9- التذكرة 430:2.
10- القواعد 262:1.
11- نهاية الإحكام 359:1.
12- الذكرى 135:3.
13- البيان: 68.
14- جامع المقاصد 155:2.
15- فوائد الشرائع: 58.
16- المسالك 326:1.
17- المدارك 395:4-396.
18- الذخيرة: 249.
19- كما في مجمع البرهان 151:2، كشف اللثام 338:3، روض الجنان 626:2.

و الظاهر بل المقطوع به كونه إجماعا حيث أرسلوه إرسال المسلّمات من دون تأمّل و لا استشكال لأحد و لا تعرّض أحد لنقل قول بالخلاف، بل ربّما يظهر من عدم تعرّضهم لذكر دليل على الحكم كونه من الواضحات الّتي لا يحتاج مثلها إلى الاستدلال.

فبما قرّرناه ظهر دليله عندنا، و هو الإجماع القريب من الضرورة، المعتضد بالأصل، المتأيّد بفتوى الشيخ في النهاية، بناء على ما هو المعروف من ديدنه فيها من أنّه يفتي بمتون الروايات بلا اختلاف أو مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ لا يخلّ بالمقصود، فتكون هذه الفتوى بمنزلة رواية مرسلة أو هي بعينها.

و هل يشترط الجواز بعزم الهادم على إعادة المستهدم و هو المشرف على الانهدام بعد هدمه أم لا؟ الظاهر الثاني، للأصل، و إطلاق الفتاوي المعتضد بتصريح جماعة، منهم:

صاحبا المدارك(1) و الذخيرة(2) بعدم الاشتراط. و أمّا تعليله: بأنّ الغرض من الهدم دفع الضرر و هذا يحصل بدون العزم على إعادته غاية الأمر كون الإعادة مستحبّا آخر، فعليل، لعدم إناطة الحكم في إطلاق الفتاوي بدفع الضرر، فيتناول ما لو لم يكن هناك ضرر في عدم هدمه و لا انهدامه.

و بما بيّنّاه من قضيّتي الأصل و إطلاق الفتاوي ينقدح عدم اشتراط الجواز بكون الهادم قاطعا بأنّه يعيده غيره و لا ظانّا به و لا محتملا له، ثمّ إذا خيف ضرر انهدامه على أحد المتردّدين أو على المصلّين في المسجد فينبغي القطع بوجوب النقض لوجوب دفع الضرر المحتمل، كما صرّح به غير واحد كالمدارك(3) و الذخيرة(4) و غيرهما(5).

و في غير ما خيف ضرر الانهدام فهل يستحبّ النقض أو يجوز على الإباحة ؟ قولان، أوّلهما: صريح المبسوط(6) و السرائر(7) و الذكرى(8) على ما حكي. و ثانيهما: ظاهر المطلقين بالجواز و إن كان يحتمل إرادة الجواز على وجه الاستحباب. و على أيّ تقدير فوجه الاستحباب غير واضح، نعم يسهل الأمر في ذلك عند من يرى قاعدة التسامح مفيدة للاستحباب المصطلح، اكتفاء فيها بمرسلة النهاية أو فتوى الجماعة. نعم ينبغي القطع بالاستحباب فيما لو نقضه عازما للإعادة المستحبّة على ما ستعرف، قضيّة لاستحباب

ص: 730


1- المدارك 396:4.
2- الذخيرة: 249.
3- المدارك 396:4.
4- الذخيرة: 249.
5- كما في الرياض 308:4.
6- المبسوط 160:1.
7- السرائر 279:1.
8- الذكرى 135:3.

مقدّمة المستحبّ .

و أمّا نقض غير المستهدم منه، فإن لم يكن للتوسعة فغير جائز قولا واحدا فتوى و نصّا، لعموم الأدلّة المانعة كتابا و سنّة، كقوله عزّ من قائل: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ وَ سَعىٰ فِي خَرٰابِهٰا أُولٰئِكَ مٰا كٰانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهٰا إِلاّٰ خٰائِفِينَ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ (1) و المورد لا يخصّص. و ما في كلام بعض المفسّرين من تفسير الخراب بالمنع من تعمير العبادة(2) ممّا لا مدرك له فلا حجّيّة فيه، مع احتماله التفسير بالباطن الغير المنافي لحمله على إرادة الظاهر و هو النقض و الهدم. و قوله عليه السّلام:

«الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(3) المقتضي بعمومه وجوب إبقاء الوقف على الوجه الّذي أوقفه أهله على هذا الوقف. و قوله عليه السّلام: «لا يحلّ أن يغيّر شيئا منها»(4) المتناول بعمومه كسابقه لما نحن فيه.

و أمّا نقضه للتوسعة، ففيه خلاف، ظاهر الفاضلين في الشرائع(5) و التذكرة(6) و المنتهى(7)و الإرشاد(8) و المحقّق الأردبيلي في شرحه(9) المنع، لإطلاقهم المنع في نقض غير المستهدم من غير استثناء للتوسعة و لا تعرّض لحكمها.

و الشهيد استقرب الجواز في البيان على ما حكي(10) و اختاره الشهيد الثاني(11) و بعده صاحب الذخيرة(12) ثمّ سيّد الرياض(13).

و تردّد فيه المحقّق الثاني في جامع المقاصد(14) نافيا للبعد عن الجواز و هو يومئ إلى ميله إليه.

في الذكرى «أنّ فيه وجهين: من عموم المنع، و من أنّ فيه إحداث مسجد، و لاستقرار قول الصحابة على توسعة مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد إنكارهم و لم يبلغنا إنكار عليّ عليه السّلام ذلك، و لأنّه وسّع السلف المسجد الحرام و لم يبلغنا إنكار علماء ذلك العصر. ثمّ قال: نعم الأقرب أن لا ينقض إلاّ بعد الظنّ الغالب بوجود العمارة، و لو أخّر النقض إلى إتمامها كان

ص: 731


1- البقرة: 114.
2- كما في التفسير الكبير 10:4.
3- الوسائل 2/175:19، ب 2 الوقوف و الصدقات، الكافي 34/37:7.
4- الوسائل 4/202:19، ب 10 الوقوف و الصدقات، التهذيب 610/149:9.
5- الشرائع 127:1.
6- التذكرة 450:2.
7- المنتهى 328:6.
8- الإرشاد 249:1.
9- مجمع البرهان 152:2.
10- البيان: 68.
11- روض الجنان 627:2.
12- الذخيرة: 249.
13- الرياض 308:4.
14- جامع المقاصد 155:2.

أولى إلاّ مع الاحتياج إلى الآلات» انتهى(1).

و قريب منه ما عن المدارك(2) و فوائد الشرائع(3).

و في المسالك بعد اختياره الجواز «و يجب التأخير إلى إتمام العمارة إلاّ مع الاحتياج فيؤخّر بحسب الإمكان»(4).

و تحقيق المقام أنّ عمومات المنع شاملة لما نحن فيه جزما، فلا بدّ في الخروج منها من مخرج قويّ ينهض لتخصيصها، و ليس شيء ممّا سمعت من الشهيد في الوجوه الثلاث بصالح لذلك:

أمّا الوجه الأوّل: فلأنّ غاية ما فيه استحباب إحداث المسجد المتضمّن للرخصة فيه، و هو إنّما يسلّم إذا لم يستلزم محرّما. و لو سلّم كون دليله عامّا شاملا لصورة استلزام نقض مسجد آخر و لزمه الجواز و عدم الحرمة في خصوص هذا الفرض، نقول: إنّ دليل المنع أيضا عامّ يشمل صورتي النقض لا للتوسعة و النقض لها، فيتعارضان و بينهما عموم من وجه، فلا بدّ من تخصيص أحدهما و إرجاعه إلى معيّن يحتاج إلى شاهد خارجي و هو في جانب تخصيص دليل الاستحباب، لكون تعارضهما من قبيل تعارض الحاظر و المبيح، و من المقرّر - في محلّه - تحكيم الحاظر للمبيح و نهوضه مخصّصا له للانفهام العرفي. و لذا يحرم بناء المسجد في مكان مغصوب و يبطل الصلاة في المكان المغصوب، بناء على ما هو المحقّق من امتناع اجتماع الأمر و النهي، و لا يجوز الغناء في المراثي و تلاوة القرآن على الأصحّ الأشهر.

و أمّا الوجه الثاني: فإن اريد من استقرار قول الصحابة على توسعة مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يدخل قول عليّ عليه السّلام بذلك أيضا لينعقد ذلك إجماعا كاشفا عن قول المعصوم، ففيه منع واضح إذ كما أنّه لم يبلغنا إنكاره عليه السّلام ذلك فكذلك لم يبلغنا إقراره بذلك أيضا. و إن اريد به ما دون ذلك، فلا يصلح للتعويل عليه في التزام الحكم المخالف للعمومات المحكمة المتقنة.

و أمّا الثالث: فلأنّ توسعة المسجد الحرام عمل شنيع صدر من خلفاء الجور فليس مبناها على المشروعيّة، و عدم إنكار علماء العصر ذلك على فرض تسليمه لا يدلّ على رضاهم بذلك، لجواز ابتنائه على خوف و تقيّة.

ص: 732


1- الذكرى 130:3.
2- المدارك 396:4.
3- فوائد الشرائع: 58.
4- المسالك 326:1.

فالأولى الاستدلال على الجواز بحسنة بل صحيحة عبد اللّه بن سنان المتكفّلة لفعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مسجده حيث نقضه للتوسعة مرّتين كما صنعه في الذخيرة(1) و غيرها(2) إن لم يخدشه منع وقوع هذا النقض بعد تمام المسجديّة، لاحتمال كونه قبل إجراء الصيغة عليه، و إنّما أخّره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلمه بمسيس الحاجة إلى نقضه مرّتين.

و قد تقدّم أنّ المسجد لا ينعقد مسجدا بحيث يترتّب عليه جميع أحكامه بدونه، و لو سلّم وقوعه بعد تمام المسجديّة، بإجراء الصيغة أو بناء على كفاية مجرّد النيّة في انعقاد المسجديّة، و لكن يتطرّق المنع إلى كون ما نقضه من الجدار جزء للمسجد، لجواز كونه إنّما بناه في المرتبة الاولى و الثانية عارية لكي ينقضه عند الحاجة إلى التوسعة، فبناه في المرتبة الثالثة على أن يكون هو جداره على الدوام كما ربّما يومئ إليه بناؤه في المرتبة الاولى بالسميط و في الثانية بالسعيدة لكي لا يشقّ نقضه.

و لأجل هذين الاحتمالين أو غيرهما يقصر دلالة الرواية على الجواز على وجه يطمئنّ به النفس في الخروج من العمومات المانعة، و لعلّه لذا أو لغيره لم يستند إليها مثل الشهيد و المحقّق الثاني و غيرهما من أساطين المتأخّرين، مع أنّها بمرأى منهم و مسمع، حتّى أنّ الشهيد علّل الجواز بوجوه اخر غير تامّة. و احتمال عدم عثورهم عليها مع أنّها موجودة في كافي الكليني، في غاية البعد.

فالإنصاف أنّ الخروج من العمومات في غاية الإشكال، فإطلاق المنع قويّ جدّا بالنظر إلى عموم الدليل.

ثمّ على الجواز يجب الاقتصار على صورة الاحتياج إلى التوسعة كما قيّده به السيّد في الرياض(3) اقتصارا في الحكم المخالف للعمومات على مورد اليقين بل هو القدر الّذي ثبت الرخصة فيه من جهة فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما هو صريح الرواية المتكفّلة لحكايته، و لعلّ المطلقين للجواز أيضا يريدون به ذلك و إن أطلقوا في العبارة.

و هل يجب في النقض حينئذ مراعاة الظنّ الغالب بوجود العمارة إذا كان المريد للتوسعة غير الناقض و بدونه لا يجوز النقض كما استقربه الشهيد(4)؟ وجهان: من الأصل، و من

ص: 733


1- الذخيرة: 249.
2- مجمع البرهان 152:2.
3- الرياض 308:4.
4- الذكرى 130:3-131.

الاقتصار على موضع اليقين. و لعلّ الثاني أقرب.

و هل يجب مع الظنّ الغالب بوجودها تأخير النقض إلى إتمامها إلاّ مع الاحتياج إلى آلاته فيراعى التأخير بقدر الإمكان كما التزمه الشهيد الثاني في المسالك(1)؟ فيه الوجهان المتقدّمان، مع أقربيّة ثانيهما و كونه أحوط.

ثمّ إنّ عن الذكرى «و لو اريد إحداث باب فيه لمصلحة عامّة كازدحام المصلّين في الخروج و الدخول فيوسّع عليهم، فالأقرب جوازه أيضا لما فيه من الإعانة على القربة و فعل الخير، و كذا يجوز فتح روزنة أو شبّاك للمصلحة العامّة، و في جوازه للمصلحة الخاصّة الوجهان»(2).

و نحوه في جامع المقاصد(3) إلاّ أنّه استدلّ بقوله تعالى: مٰا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ (4) و نحوه الذخيرة أيضا و فسّر المصلحة الخاصّة «بقرب المسافة على بعض المصلّين»(5).

و ظاهر أنّ محلّ الكلام في الفرع المذكور ما لو استلزم إحداث أحد المذكورات أو غيرها في المسجد نقضا أو خرقا أو تغييرا، و إلاّ فلا حجر بلا إشكال، لعدم دخوله في دليل المنع، فيبقى الأصل سليما. بخلاف ما استلزمه، فإنّه داخل في عموم المنع.

و يشكل الجواز معه اعتمادا على الوجوه المذكورة لوضوح ضعفها المخرج لها عن صلاحية الإخراج عن العموم، لتطرّق المنع إلى كون ما ذكر إعانة على القربة و فعل الخير، فإنّه باعتبار ما استلزمه إعانة على القبيح و فعل الشرّ، و إنّما يكون كذلك إذا لم يستلزم نقضا و خرقا. و بذلك ظهر منع كونه محسنا لئلاّ يكون عليه سبيل، بل هو مع عدم خروج المورد عن عموم المنع بدليل من الخارج مسيء، و إنّما يكون محسنا في غير ما استلزم القبيح.

فالأقوى عدم جواز شيء من التصرّفات الموجبة للنقض و الخرق و نحوهما.

ثمّ ليعلم أنّ المنع من النقض إنّما هو في غير مسجد البيت و هو الموضع الّذي يتّخذه صاحب البيت مسجدا لنفسه و أهله، و أمّا فيه على تقدير عدم وقفه بإجراء الصيغة عليه ممّا جاز توسعته و تضييقه و تغييره و هدمه رأسا و إبداله من موضع إلى آخر بل جعل موضعه كنيفا و نحوه بلا إشكال، للأصل، و عموم السلطنة على الإملاك، وفاقا للشيخ في

ص: 734


1- المسالك 326:1.
2- الذكرى 130:3-131.
3- جامع المقاصد 155:2.
4- التوبة: 91.
5- الذخيرة: 249.

النهاية(1) و المبسوط(2) و الحلّي في السرائر(3) و العلاّمة(4) في أكثر كتبه و الشهيد في الذكرى(5) و المحقّق الثاني في جامع المقاصد(6) و غيرهم(7) من متأخّري المتأخّرين.

و لعلّه محلّ وفاق لوضوح مدرك الجواز و انتفاء دليل [المنع](8)، بل الظاهر كما صرّح به جماعة(9) عدم جريان شيء من أحكام المساجد حتّى ترتّب الثواب على الصلاة فيه، كما نصّ عليه جامع المقاصد قائلا: «لا يتعلّق بالصلاة فيه ثواب المسجد» انتهى(10).

نعم ظاهر عبارة الأردبيلي المحكيّة عن مجمع البرهان حصول ثواب المسجد فيه حيث قال: «وردت أخبار(11) بجواز تغيير المسجد و تحويله إذا كان في المنزل، و حملها الأصحاب قدّس سرّه على مجرّد اسم المسجد ليحصل ثواب المسجد من دون أحكامه، من عدم جواز تنجيسه و أنّه لا يكون وقفا إلاّ بالصيغة مع نيّة الوقفيّة و الصلاة فيه» انتهى(12). و عن كاشف(13) دعوى الاتّفاق على عدم جريان أحكام المسجد فيه.

و يدلّ على الحكم مضافا إلى ما ذكر روايات مستفيضة كما أشار إليها الأردبيلي(14) مثل صحيح عبد اللّه بن سنان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المسجد يكون في الدار و في البيت، فيبدو لأهله أن يتوسّعوا بطائفة منه، أو يحوّلوه إلى غير مكانه ؟ فقال: لا بأس بهذا كلّه»(15).

و صحيح الحلبي «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن مسجد يكون في الدار، فيبدو لأهله أن يتوسّعوا بطائفة منه، أو يحوّلوه عن مكانه ؟ فقال: لا بأس بذلك»(16).

و رواية أبي الجارود قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المسجد يكون في البيت فيريد أهل البيت أن يتوسّعوا بطائفة منهم، أو يحوّلوه إلى غير مكانه ؟ قال: لا بأس بذلك»(17).

ص: 735


1- النهاية: 110.
2- المبسوط 162:1.
3- السرائر 280:1.
4- كما في المنتهى 325:6، التذكرة 430:2-431، التحرير 326:1.
5- الذكرى 133:3.
6- جامع المقاصد 156:2.
7- كما في كشف اللثام 339:3، مجمع البرهان 160:2، الدروس 89:1.
8- و في المتن «الجواز» بدل «المنع» و هو سهو منه و الصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق.
9- كما في نهاية الإحكام 360:1، كشف اللثام 339:3.
10- جامع المقاصد 156:2.
11- الوسائل 1/208:5، ب 10 أحكام المساجد، التهذيب 727/259:3.
12- مجمع الفائدة و البرهان 160:2.
13- كشف اللثام 339:3.
14- مجمع الفائدة و البرهان 160:2.
15- الوسائل 3/208:5، ب 10 أحكام المساجد، التهذيب 730/260:3.
16- الوسائل 1/208:5، ب 10 أحكام المساجد، الفقيه 713/153:1.
17- الوسائل 1/208:5، ب 10 أحكام المساجد، التهذيب 727/259:3.

و رواية مسعدة بن صدقة قال: «سمعت جعفر بن محمّد عليه السّلام و سئل عن الدار و البيت يكون فيهما مسجد فيبدو لأصحابه أن يتوسّعوا بطائفة منه، و يبنوا مكانه و يهدموا البنية ؟ قال: لا بأس بذلك»(1).

و رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر صاحب الرضا عليه السّلام قال: «سألته عن رجل كان له مسجد في بعض بيوته أو داره هل يصلح له أن يجعله كنيفا؟ قال: لا بأس»(2).

و صحيح عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن رجل كان له مسجد في بعض بيوته أو داره هل يصلح أن يجعل كنيفا؟ قال: لا بأس»(3).

و أمّا إذا جعله وقفا و أجرى عليه الصيغة خرج عن ملكه و لا يختصّ به حينئذ بل يصير كسائر المساجد، كما صرّح به جماعة(4) نعم لو كان الطريق إليه في ملكه لم يجز السلوك إليه إلاّ بإذنه كما في جامع المقاصد(5) و غيره(6).

فرع: إذا نقض المستهدم من المسجد يستحبّ إعادته على ما نصّ عليه جماعة(7) و في مفتاح الكرامة(8) صرّح الشيخ(9) و الأكثر(10) و عن كشف اللثام(11) «أنّه من الوضوح بمكان» أقول: و وجه الوضوح أنّه من عمارة المسجد، فيدخل في أدلّة استحبابه الّتي منها الآية، و ربّما ادّعي فيه الضرورة.

[المسألة الثامنة: أطبق الأصحاب على جواز استعمال آلات المسجد في غيره من المساجد]

المسألة الثامنة: أطبق الأصحاب ظاهرا على جواز استعمال آلات المسجد في غيره من المساجد في الجملة، و اختلفت عباراتهم فيه إطلاقا و تقييدا، فعن الشيخ في النهاية(12)و المبسوط(13) و الفاضلين في الشرائع(14) و النافع(15) و القواعد(16) و التحرير(17) إطلاق القول

ص: 736


1- الوسائل 5/209:5، ب 10 أحكام المساجد، قرب الإسناد: 31.
2- الوسائل 4/209:5، ب 10 أحكام المساجد، مستطرفات السرائر: 11/56.
3- الوسائل 6/209:5، ب 10 أحكام المساجد، قرب الإسناد: 120.
4- كما في كشف اللثام 339:3، السرائر 280:1، التذكرة 431:2.
5- جامع المقاصد 157:2.
6- لم نعثر عليه.
7- كما في الشرائع 127:1، الجواهر 83:14، القواعد 262:1، التحرير 325:1.
8- مفتاح الكرامة 320:6-321.
9- المبسوط 160:1.
10- كما في الشرائع 127:1، جامع المقاصد 155:2، المدارك 396:4.
11- كشف اللثام 338:3.
12- النهاية: 109.
13- المبسوط 160:1.
14- الشرائع 127:1.
15- النافع: 49.
16- القواعد 262:1.
17- التحرير 325:1.

بالجواز، و بمعناه عبارة المنتهى(1) و نهاية الإحكام «إذا استهدم مسجد جاز أخذ آلته لعمارة غيره من المساجد»(2).

و منهم من اعتبر تعذّر صرفها فيه لاستيلاء الخراب كما هو ظاهر الحلّي في السرائر «إذا استهدم مسجد فينبغي أن يعاد مع التمكّن من ذلك، و إذا لم يتمكّن فلا بأس باستعماله في بناء غيره من المساجد»(3).

و في معناه عبارة المهذّب «إذا استهدم المسجد و صار ممّا لا يرجى فيه الصلاة بخراب ما حوله و انقطاع الطريق عنه، و كان له آلة جاز أن تستعمل فيما عداه من المساجد»(4).

و في التذكرة كما عن المعتبر(5) اعتبار أحد الأمرين: من استغنائه عنها و لو بأن تفضل منه، أو تعذّر استعمالها فيه لاستيلاء الخراب عليه. قال في التذكرة «و يجوز هدم ما استهدم لإعادته لما فيه من العمارة و للأمن على الداخل، و لو تعذّرت إعادته جاز استعمال آلته في غيره من المساجد لاشتراكها في كونها موضعا للعبادة، و كذا لو فضل من أحد المساجد عن قدر الحاجة»(6).

و منهم من اعتبر أحد الأمرين: من تعذّر استعمالها فيه لاستيلاء الخراب عليه، أو كون الثاني أحوج منه لكثرة المصلّين أو استيلاء الخراب عليه، كما عن الذكرى(7) و في جامع المقاصد(8) و المسالك(9) و عن فوائد الشرائع(10) و حاشية الميسي(11) و فوائد القواعد(12)و زاد في جامع المقاصد اتّباعا للمصلحة، و لا مانع لأنّ المالك واحد و هو اللّه تعالى.

و منهم من اعتبر أحد الامور الثلاث: استغناؤه عنها، أو تعذّر استعمالها فيه، أو كون الثاني أحوج لكثرة المصلّين أو لاستيلاء الخراب عليه للمصلحة، و لأنّ المالك واحد هو اللّه كما عن ثاني الشهيدين في الروض(13).

و منهم من اعتبر تعذّر صرفها فيه، أو استغناؤها عنها في الحال و المآل كما في الذخيرة حيث إنّه بعد ما حكى ما عرفته عن الروض، قال: «و في هذا الحكم نظر من أصله، نعم

ص: 737


1- المنتهى 328:6.
2- نهاية الإحكام 358:1.
3- السرائر 279:1.
4- المهذّب 78:1.
5- المعتبر 450:2.
6- التذكرة 430:2.
7- الذكرى 130:3.
8- جامع المقاصد 155:2.
9- المسالك 326:1.
10- فوائد الشرائع: 51. (مخطوط)
11- نقله عنه في مفتاح الكرامة 322:6.
12- فوائد القواعد: 51 (مخطوط).
13- روض الجنان 627:2.

لو تعذّر صرفه أو حصل الاستغناء بالكلّيّة في الحال و المآل لم يبعد جواز ذلك»(1).

و في مفتاح الكرامة بعد ما حكى إطلاق الجواز عن الجماعة المتقدّمة علّله «بأنّ الغرض من المساجد و ما يجعل فيها إقامة شعائر الدين و فعل العبادات فيها، و هذا الغرض لا يختلف فيه المساجد»(2) و إليه يرجع ما عرفته عن التذكرة(3).

و في كلام جماعة منهم سيّد الرياض تعليل الحكم «بكون المالك هو اللّه، و أنّ المساجد كلّها ملك له»(4) و في الوجهين ضعف واضح، أمّا الأوّل: فلأنّ غرض الواقفين كثيرا ما يتعلّق بخصوصيّات تختلف فيها المساجد، فلا يتّجه الحكم بالجواز بقول مطلق أو في الجملة، لمجرّد كون المساجد ما قصد منها و من آلاتها إقامة شعائر الدين و فعل العبادات فيها، إلاّ على تقدير كون الخصوصيّات الّتي كانت دواعي بناء المساجد و جعل آلات لها ملغاة في نظر الشارع، و هذا على هذا الإطلاق لا بدّ له من شاهد و ليس، بل ينفيه عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» لقضائه بوجوب مراعاة جميع الخصوصيات الملحوظة في نظر الأهل.

و أمّا الثاني: فمع ابتنائه على القول في الوقف مطلقا أو وقف المسجد بأنّه يصير ملكا للّه سبحانه، - لا أنّه مجرّد فكّ ملك أو إحداث ملك للموقوف عليهم - أنّ كون المالك هو اللّه تعالى لا يقضي بجواز تصرّف غيره في ملكه كيفما اتّفق إلاّ بإذنه، و صدور الإذن منه على الإطلاق أوّل المسألة، بل قصارى ما علم من إذنه إنّما هو في صرفه في هذا المسجد لا في غيره، إلاّ أن يقال: إنّ المالك إذا كان هو اللّه فيتساوى نسبة جميع أملاكه إليه مع عدم غرض له تعالى في هذه الأملاك إلاّ ما يتساوى نسبته أيضا إلى الجميع، و هو إقامة الشعائر و فعل العبادات من دون نظر له إلى خصوصيّة في بعضها دون غيره، فالآلات إذا صرفت في أيّ مسجد فقد صرفت في ملكه. و هو مشكل و لا يدفع مقتضى «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها».

فتحقيق المقام: أنّ المسجد إذا كان محتاجا إلى آلاته و لم يتعذّر صرفها فيه و لم يفضل عنه تعيّن صرفها فيه و لم يجز صرفها في غيره، و إن كان ذلك الغير محتاجا أيضا بل و لو كان أحوج، فإنّ مجرّد الأحوجيّة لا تدفع مقتضى «الوقوف على حسب ما يوقفها

ص: 738


1- الذخيرة: 249.
2- مفتاح الكرامة 321:6.
3- التذكرة 430:2.
4- الرياض 309:4.

أهلها» و الأولويّة المتوهّمة مع احتمال مدخليّة الخصوصيّة غير مسلّمة.

فما سمعت عن الجماعة: من جعلهم الأحوجيّة جهة مسوّغة، ليس بسديد. كما أنّه لو لم يكن محتاجا إليها حالا و مآلا أو تعذّر صرفها فيه حالا و مآلا باستيلاء الخراب عليه على وجه لا يرجى إعادته إلى الأبد ينبغي القطع بجواز صرفها في مسجد آخر محتاج إليها، للأولويّة القطعيّة الّتي استقلّ بإدراكها العقل، بملاحظة دوران الأمر فيها بين بقائها إلى الأبد عطلة أو خروجها تالفة، و بين كونها مشغولة بالمسجديّة محصّلة للمصلحة المطلوبة من وضع المساجد، مع كون الثاني أوفق و أقرب بغرض الواقف بل غرضه تعالى.

مع أنّ الظاهر كون الجواز في هذه الصورة وفاقيّا، لأنّها أخصّ صور عنوان المسألة الّتي اتّفقت الأقوال المتقدّمة على الجواز فيها، إن لم يخدشه ما عرفته عن الذخيرة(1) من التجويز بعبارة «نفي البعد» الّتي توهم عدم جزمه بالجواز فيها.

و نحو هذه الصورة في القطع بالأولويّة ما لو استغنى صاحب الآلات عنها في الحال أو تعذّر استعمالها فيه في الحال، و لكن يرجى أو يظنّ أو يقطع احتياجها إليها، و يمكن صرفها فيها في المآل و كانت في معرض التلف بحيث لو أخّر صرفها إلى مجيء وقت الحاجة أو تمكّن الصرف لعرضها التلف مع احتياج مسجد آخر إليها فعلا، فيدور الأمر بين تلفها أو اشتغالها بالمسجديّة إيراث المصلحة، و لا ريب أنّ الثاني أولى بل متعيّن عملا بما هو أقرب إلى غرض الواقف.

و يشكل الحال فيما لو كانت مأمونة عن التلف، فيدور أمرها بين بقائها عطلة إلى زمان الحاجة و صيرورتها مشغولة بالمسجديّة فعلا، ففي جواز صرفها في مسجد آخر أيضا و عدمه وجهان: من أولويّة حصول المصلحة فعلا، و من لزوم تحصيل غرض الواقف مهما أمكن. و الأوّل غير بعيد، و لكنّ الثاني أحوط. فظهر أنّ الأقوى ما عليه الفاضلان في المعتبر(2) و التذكرة(3) مع إشكال في بعض فروضه.

و هل يجوز صرفها في صورتي الاستغناء أو تعذّر الاستعمال فيه إلى مشهد أو إلى قربة اخرى من مدرسة أو قنطرة أو نحو ذلك ؟ لم نقف في ذلك على نصّ من الأصحاب، نعم في المسالك فيما سيأتي من «مسألة وقف المسجد و نذره و ليس كذلك المشهد فلا يجوز

ص: 739


1- الذخيرة: 249.
2- المعتبر 450:2.
3- التذكرة 430:2.

صرف ماله إلى مشهد آخر و لا صرف مال المسجد إليه مطلقا»(1).

و الظاهر أنّه يريد من مال المسجد ما يعمّ آلاته و غلّة وقفه و غيرهما، و قال في المدارك:

«لا يجوز صرف مال المسجد إلى غيره مطلقا نعم لو تعذّر صرفه إليه في الحال و المآل أمكن القول بجواز صرفه في غيره من المساجد و المشاهد و مطلق القرب» انتهى(2).

و التحقيق أنّه بعد استغناء المسجد عن ماله أو تعذّر صرفه إليه يراعى ما هو أقرب إلى غرض الواقف، فمع إمكان صرفه إلى مسجد آخر لا يعدل عنه إلى مشهد و لا إلى مطلق القربة، لأنّه أقرب إلى غرض الواقف في نوعه.

و إذا لم يكن مسجد آخر أو لم يحتج إلى آلات تصرف على ما هو أقرب إليه في جنسه القريب كالمشهد، لأنّه كالمسجد موضع إقامة الشعائر و فعل العبادات إن كان، و إلاّ فعلى ما هو أقرب إليه في جنسه المتوسّط كالمدرسة، و إلاّ فعلى ما هو أقرب إليه في الجنس البعيد كالقنطرة مثلا و غيرها من مطلق القربات، و هكذا في آلات مشهد بالقياس إلى غيره، ففي الجميع يراعى الأقرب فالأقرب.

و يعتبر في الجميع أحد الأمرين: الاستغناء، أو تعذّر الاستعمال، أو خوف التلف لو ابقيت إلى مجيء وقت الحاجة. و بجميع ما ذكر ظهر حكم غلّة وقف المسجد و نذره و غيرها من أمواله، فلا تصرف على غيرها إلاّ مع أحد هذين الشرطين و رعاية الأقرب فالأقرب.

ثمّ الظاهر أنّه بعد ثبوت جواز صرفها في مسجد آخر لا يتفاوت الحال بين مسجد يكون في بلد هذا المسجد أو في بلد آخر، فيجوز حملها إلى هذا البلد و إن كان في بلده مسجد يحتاج إلى صرفها فيه، و إن كان الأحوط مراعاة مسجد البلد مع الإمكان.

كما أنّ الظاهر انّ الأمر في إحراز شروط الجواز من الاستغناء و تعذّر الإعادة و خوف التلف موكول إلى نظر المتولّي الخاصّ إن كان، و إلاّ فالعامّ و هو الحاكم إن كان، و إلاّ فعدول المسلمين، لأنّ المتيقّن من محلّ الرخصة المخرج من عمومات المنع إنّما هؤلاء المذكورون على الترتيب لا غير.

ثمّ المراد من الآلات فروش المسجد و أحجاره و أخشابه و جذوعه و نحوها.

المسألة التاسعة: في محرّمات المسجد و هي عدّة امور:

ص: 740


1- المسالك 326:1.
2- المدارك 396:4.

منها: اتّخاذه أو اتّخاذ بعضه في ملك أو طريق على معنى تملّكه أو جعله طريقا بحيث ينمحي عنه صورة المسجديّة، فإنّه ممّا يحرم بلا خلاف ظاهر، و عن الروض(1) ما يؤذن بدعوى الإجماع، حيث قال: صرّح به الأصحاب، لحرمة تغيير الوقف و التصرّفات النافية لغرض الواقف، و خصوص قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ وَ سَعىٰ فِي خَرٰابِهٰا (2).

و في جامع المقاصد(3) الاستدلال عليه بقوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مٰا سَمِعَهُ فَإِنَّمٰا إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ (4).

و وجهه مع ورود الآية في بيان حكم تبديل الوصيّة غير واضح، و التقريب غير معلوم، و الفحوى غير ثابت.

و أمّا جعله طريقا على معنى المرور منه إلى مكان آخر بالدخول من باب و الخروج من باب آخر فهو مكروه على ما صرّحوا به، و لعلّنا نتكلّم فيه إن شاء اللّه تعالى.

و منها: بيع آلاته، الّذي حرّمه الشيخ في المبسوط(5) و الفاضلان في الشرائع(6)و التحرير(7) و الإرشاد(8) على ما حكي، و حكي نقله عن الإصباح(9) و الجامع(10) أيضا، بل عن المبسوط و السرائر(11) أنّ ذلك لا يجوز بحال.

و لكن في جامع المقاصد: و إنّما يحرم بيع آلة المسجد إذا لم يحتج إلى بيعها لعمارته أو عمارة غيره من المساجد مع عدم الانتفاع بها كما نبّه عليه في المختلف. ثمّ نقل إطلاق الحرمة عن الشيخ، ثمّ قال: و تفصيل المصنّف أقوى(12).

و في مفتاح الكرامة(13) نسبة القول بجوازه مع المصلحة إليه و المختلف(14) و نهاية الإحكام(15) و حاشية الميسي(16) و الروض(17) و المسالك(18).

ص: 741


1- روض الجنان 633:2.
2- البقرة: 114.
3- جامع المقاصد 154:2.
4- البقرة: 181.
5- المبسوط 160:1.
6- الشرائع 127:1.
7- التحرير 325:1.
8- الإرشاد 250:1.
9- الإصباح (الينابيع الفقهيّة) 628:4.
10- الجامع للشرائع: 102.
11- هذه العبارة تكون فى التحرير 325:1 لعلّ نسبة هذا القول بالسرائر سهو من قلمه الشريف.
12- جامع المقاصد 153:2.
13- مفتاح الكرامة 310:6.
14- المختلف 95:3.
15- نهاية الإحكام 358:1.
16- نقله عنه في مفتاح الكرامة 310:6.
17- الروض 633:2.
18- المسالك 327:1.

و الظاهر أنّ معقد كلامهم الآلات الّتي جرى عليها الوقف، كما نبّه عليه كاشف اللثام في كلام له قائلا: «إنّ من أطلق عنى ما جرى عليه الوقف»(1) انتهى.

و السرّ فيه أنّ ما لم يجر عليه الوقف فهو باق على ملك مالكه فله جميع التصرّفات فيه الّتي منها بيعه. فإذا كان معقد كلامهم ما جرى عليه الوقف، فقضيّة الأصل الثانوي و هو القاعدة المستنبطة من الأدلّة - من الإجماع و النصّ كتابا و سنّة - حرمة ذلك البيع و عدم صحّته. فهذا ممّا لا كلام فيه، و لذا لم يوجد في المسألة قول بالجواز مطلقا، فإطلاق الجماعة على القاعدة بلا إشكال.

و إنّما الكلام في أنّه هل خرج منها شيء من فروض بيع الآلات كما عليه آخرون أم لا؟ فنقول: إنّ الآلات إن كانت بحيث يحتاج إليها و ينتفع بها في المسجد فلا إشكال في دخولها تحت القاعدة، و هذا أظهر إطلاق الجماعة بحرمة بيعها. و كذلك لو كانت بحيث لا ينتفع بها إمّا للزيادة على القدر المحتاج إليه أو لرثّه و سقوطه عن حيّز الانتفاع كالحصير إذا خلق و الجذع إذا تكسّر و نحو ذلك، و لم يحتج مع ذلك إلى بيعها ليصرف ثمنها في عمارة هذا المسجد أو غيره من المساجد لعدم افتقار إلى عمارة فلا ينبغي التأمّل في حرمة بيعها حينئذ أيضا لعدم مخرج لها عن القاعدة.

و أمّا لو كانت مع عدم الانتفاع بها بحيث يحتاج إلى بيعها ليصرف ثمنها في عمارة المسجد، ففي جواز بيعها حينئذ و العدم وجهان: من الأصل، و عموم القاعدة. و أقواهما الأوّل تحصيلا لغرض الواقف بقدر الإمكان.

ثمّ لو احتاج مسجد آخر أيضا إلى ثمنها من دون الحاجة إلى أعيانها فالوجه تعيّن الثمن في عمارة هذا المسجد دون الآخر عملا بما هو أقرب إلى غرض الواقف، فإنّه بوقف هذه الآلات لذلك المسجد قصد خصوصيتين خصوصيّة في المسجد و خصوصيّة في الآلات، فإذا ألغى خصوصيّة الآلات بواسطة تبديلها بالثمن وجب مراعاة خصوصيّة المسجد. و ليس كذلك الحال فيما لو احتاج هذا المسجد إلى ثمنها و مسجد آخر إلى أعيانها، فالأمر يدور حينئذ بين الخصوصيتين، و لا يبعد التخيير بين بيعها و صرف الثمن في عمارة هذا المسجد أخذا بالخصوصيّة الملحوظة في المسجد، أو إبقائها و صرفها بأعيانها

ص: 742


1- كشف اللثام 335:3.

في مسجد آخر أخذا بالخصوصيّة الملحوظة فيها، و لكنّ الأولى و الأحوط هو الأوّل.

و لو فرض أنّ المسجد لا يحتاج في الحال إلى أعيانها بل يحتاج إلى ثمنها للعمارة و لكن في المآل يحتاج إلى أعيانها لو ابقيت إلى مجيء وقت الحاجة، فالوجه تعيّن الإبقاء مع الأمن من التلف أخذا بالخصوصيتين معا، مضافا إلى استصحاب الحرمة السابقة على طروء الحالة المقتضية لعدم الاحتياج إلى أعيانها في الحال.

و منها: أنّه يحرم زخرفته، أي نقشه بالزخرف و هو الذهب، و نقشه بالصور أيضا مطلقا، أو صور ذي الروح خاصّة على الخلاف، كما عن نهاية(1) الشيخ و مبسوطه(2) و سرائر(3)الحلّي و كتب المحقّق(4) و جملة من كتب العلاّمة(5) و بيان الشهيد(6) و لمعته في الأوّل، و لمعته وحدها في الثاني(7)، و جامع المقاصد(8) و فوائد الشرائع(9) و المسالك(10) للمحقّق و الشهيد الثانيين و حاشية الميسي(11) و غيرها(12).

و عن كشف اللثام(13) و الذخيرة(14) في الأوّل «أنّه المشهور» كما عن الأوّل في الثاني أيضا «أنّه المشهور»(15) و عن الثاني فيه «أنّه الأشهر»(16).

و في كلام جماعة(17) الاعتراف بعدم وضوح مستند الحكمين مع الطعن على ما نقل مستندا لهما، و لذا صار جماعة من فحول المتأخّرين و متأخّريهم إلى الكراهة، و منهم:

الشهيد في الدروس(18) ناقلا لها عن الجعفي، و عن كاشف اللثام نسبتها أيضا إلى المهذّب(19)و الجامع(20).

و علّل الحرمة في الزخرفة تارة بأنّها إسراف، و اخرى بأنّها لم تكن في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّما حدثت بعده فكانت بدعة محرّمة، و ثالثة بما عن عبد اللّه بن مسعود

ص: 743


1- النهاية: 108.
2- المبسوط 160:1.
3- السرائر 278:1.
4- الشرائع 127:1، النافع: 49، المعتبر 451:2.
5- المنتهى 325:6، التحرير 325:1، الإرشاد 250:1، نهاية الإحكام 358:1.
6- البيان: 67.
7- اللمعة: 30.
8- جامع المقاصد 152:2.
9- فوائد الشرائع: 59.
10- المسالك 327:1.
11- نقله عنه في مفتاح الكرامة 303:6.
12- كما في المدارك 398:4، الرياض 310:4، الذكرى 123:3.
13- كشف اللثام 333:3.
14- الذخيرة: 250.
15- كشف اللثام 333:3.
16- الذخيرة: 250.
17- كما في مجمع البرهان 156:2، روض الجنان 632:2، المدارك 398:4، كفاية الأحكام: 17.
18- الدروس 156:1.
19- المهذّب 77:1.
20- الجامع للشرائع: 101.

في وصيّته المرويّة عن مكارم الأخلاق للطبرسي في مقام الذمّ من قوله «يبنون و يشيّدون القصور، و يزخرفون المساجد»(1).

و في النقش بالصور تارة بأنّه بدعة حيث لم تكن في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و اخرى برواية عمرو بن جميع قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في المساجد المصوّر؟ فقال:

أكره ذلك و لكن لا يضرّكم اليوم و لو قام العدل لرأيتم كيف يصنع في ذلك»(2).

و في الكلّ ما ترى:

أمّا في الأوّل: فأوّلا النقض بزخرفة الدور و القصور و مشاهد الأئمّة عليهم السّلام.

و ثانيا: منع صدق الإسراف على نحوها إذا قارنها قصد تعظيم الشعائر، و ترغيم أنف العدوّ من الشيطان و أهل الكفر و من بحكمهم من أهل الخلاف.

و أمّا الثاني: فمع ابتنائه على القول بحرمة التشريع بمعناه الأعمّ ، منع صدق البدعة على نحو ذلك بمقارنة قصد تعظيم الشعائر و نحوه.

و أمّا الثالث: فعلى فرض ثبوت الحكاية عن ابن مسعود يتطرّق المنع إلى حجّيّة قوله إذا لم يكن بعنوان الرواية عن معصوم، مع منع دلالته على الحرمة بل غايتها الكراهة، كما يشهد لها سبق ذكر بناء الدور و تشييد القصور اللذين لا حرمة فيهما بالضرورة.

و أمّا الرابع: فلضعف سند الرواية باشتماله على عدّة مجاهيل، مضافا إلى قصور دلالتها على الحرمة، بل غايتها الكراهة مع كونها كراهة في فعل الصلاة في المساجد المصوّرة كما هو ظاهر عنوان السؤال، و هي لا تلازم كراهة فعل التصوير للمسجد فضلا عن الحرمة فتأمّل.

و عليه فيقوى في النظر بملاحظة أصالة الإباحة فيما لا نصّ بحرمته الجواز، و لكن على كراهية خروجا عن شبهة مخالفة الواقع، إلاّ أن يقوّى احتمال الحرمة بنحو من تراكم الظنون البالغ حدّ الاطمئنان الّتي منها: الشهرة الّتي سمعت حكايتها، و منها: كون بعض المفتين بالحرمة ممّن لا يعمل إلاّ بالقطعيّات كالحلّي، و منها: فتوى الشيخ في النهاية الّتي هي بمنزلة رواية مرسلة. فلا يبعد بملاحظة هذه الامور دعوى الاطمئنان بالحرمة، و لكن

ص: 744


1- مكارم الأخلاق: 526 الفصل الرابع، ب 12.
2- الوسائل 1/215:5، ب 15 أحكام المساجد، التهذيب 726/259:3.

في النفس بعد شيء و الخروج عن الأصل مشكل.

و منها: إدخال النجاسة إليها، أطلق القول بحرمته جماعة كالمحقّق في كتبه(1) و العلاّمة في أكثر كتبه(2) و عن الذكرى(3) ما يؤذن بدعوى الإجماع لقوله «قال الأصحاب» و عن نهاية الإحكام(4) الاستشكال فيه مع عدم التلويث، و الشهيدان(5) و الشيخان(6) الجليلان الكركي و الميسي و غيرهم(7) من المتأخّرين و متأخّريهم خصّوه عن المتعدية، و عن الروض(8) نسبته إلى الأكثر.

و الأقوى عندنا إطلاق المنع - حسبما ذكرناه مشروحا في أحكام النجاسات من كتاب الطهارة - و لا فرق في المنع بين كون النجاسة منفصلة عن المكلّف المدخل لها إلى المسجد أو متّصلة ببدنه أو ثوبه، كما لو كان على أحدهما دم أو منيّ أو غاية رطبة أو جامدة أو محمولة عليه و لو في إناء معه من قارورة و نحوها فيها خمر و نحوه. و حيث إنّ النصّ و الفتوى ظاهران في النجاسة العينيّة ينبغي القطع بعدم المنع في إدخال المتنجّس الخالي عن العين.

و ممّا سمعت ينقدح الحكم فيما ذكروه أيضا من حرمة إزالة النجاسة في المسجد كما في كلام جماعة(9) و عن صريح الشيخ(10) و من تأخّر عنه(11) و عن الذكرى(12) «قاله الأصحاب». و الظاهر أنّ المسألة إجماعيّة، لحرمة إدخال النجاسة العينيّة و لو في لباس أو بدن و حرمة تلويث المسجد، و إزالة النجاسة فيه يستلزمهما غالبا.

و يشكل الحال في غسل متنجّس غير ذي عين بما لا ينفعل من الماء من كثير أو جار لعدم تمشّي الوجهين فيه، فإناطة الحكم بهما تعطي الجواز فيه، و يأباه إطلاق الفتوى في كلام المتعرّضين لهذا الحكم.

ص: 745


1- كما في الشرائع 128:1، النافع: 49، المعتبر 451:2.
2- كما في المنتهى 325:6، التذكرة 431:2، التحرير 326:1، الإرشاد 250:1.
3- الذكرى 129:3.
4- نهاية الإحكام 358:1.
5- الدروس 156:1، البيان: 68.
6- جامع المقاصد 154:2، نقله عنه في مفتاح الكرامة 316:6.
7- المدارك 399:4، الكفاية: 17، المفاتيح 105:1.
8- روض الجنان 633:2.
9- كما في المنتهى 325:6، المسالك 328:1، المعتبر 451:2-452، كشف اللثام 337:3.
10- المبسوط 161:1.
11- كما في السرائر 279:1، البيان: 68، الشرائع 128:1.
12- الذكرى 128:3.

بل في جامع المقاصد(1) كما في فوائد الشرائع(2) لو غسلها في إناء أو فيما لا ينفعل كالكثير فليس ببعيد القول بالتحريم أيضا، لما فيه من الامتهان المنافي لقوله عليه السّلام: «جنّبوا مساجدكم النجاسة»(3).

لكن في التعليل نظر واضح، كالنظر في شمول الرواية لما لا عين فيه من المتنجّس، إلاّ أن يقال: إنّ موضوع المسألة هو إزالة ذي العين من النجاسات، و عليه اتّجه إناطة المنع بإدخال النجاسة لا لخصوصيّة في الإزالة.

و يشكل بأنّ إزالة النجاسة في كلام الأصحاب في غير هذا المقام للأعمّ ، و قضيّة ذلك إطلاق معقد فتواهم و هو بعينه معقد إجماع الذكرى، غير أنّ التعويل على نحوه باعتبار أنّ ناقلة ادّعاه بعنوان الظهور لا القطع لا يخلو عن إشكال، فإطلاق المنع حتّى فيما لا عين له مع عدم استلزامه التلويث محلّ وقف.

و منها: أنّه يحرم دفن الأموات في المساجد كما عن النهاية(4) و السرائر(5) و جملة من كتب العلاّمة(6) و أكثر كتب الشهيد(7) و الموجز الحاوي(8) و جامع المقاصد(9) و كشف الالتباس(10) و غيرها(11) و لم ينقل فيه خلاف صريحا و إن لم يتعرّض له كثير منهم المحقّق في كتبه أصلا.

بل ربّما يوهم بعض كلماتهم كونه من المسلّمات عندهم، حيث إنّه لمّا نقض الحكم بدفن فاطمة عليها السّلام في الروضة الشريفة الّتي هي من المسجد فتفصّي عنه في كشف الالتباس(12) تبعا للذكرى(13) على ما حكي بأنّه إن صحّ فهو من خصوصيّاتها، و عن كاشف(14) اللثام التفصّي عنه بعدم استيعاب المسجد الروضة، أقول: و يشهد له المرويّ عن

ص: 746


1- جامع المقاصد 154:2.
2- فوائد الشرائع: 59.
3- الوسائل 2/229:5، ب 24 أحكام المساجد.
4- النهاية 111:1.
5- السرائر 280:1.
6- كما في المنتهى 328:6، نهاية الإحكام 359:1، التذكرة 431:2.
7- كما في الذكرى 133:3، البيان: 68، النفلية: 144.
8- الموجز الحاوي (رسائل العشر): 71.
9- جامع المقاصد 155:2.
10- كشف الالتباس: 104 (مخطوط).
11- كما في المبسوط 162:1، التحرير 326:1، الجامع للشرائع: 102، الإصباح (الينابيع الفقهيّة) 4: 628، المهذّب 78:1.
12- كشف الالتباس: 104.
13- الذكرى 132:3.
14- كشف اللثام 338:3.

البزنطي قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قبر فاطمة عليها السّلام ؟ فقال: دفنت في بيتها فلمّا زادت بنو اميّة في المسجد صارت في المسجد»(1).

و على أيّ حال كان فالعمدة بيان مدرك الحكم و دليل المسألة و لم نقف في ذلك على شيء، عدى ما احتمله بعض مشايخنا من استلزامه تلويث المسجد و لو في باطنه، بناء على عدم انفكاك الميّت عن النجاسات، و ضعفه أوضح من أن يوضّح لمنع الملازمة.

و ما عن نهاية الإحكام(2) من تعليله «بالتضييق على المصلّين» و ما عن التذكرة من «أنّه مناف لما وضعت له»(3) و مرجعه إلى ما عن المنتهى من التعليل «بأنّها وضعت للعبادة»(4)و لا يخفى ضعفهما أيضا بظاهرهما.

أمّا الأول: فلمنع التضييق مع تسوية فوق القبر على وجه يساوي سطحه أرض المسجد.

و أمّا الثاني: فلمنع المنافاة أيضا على تقدير التسوية إن اريد ممّا وضع له المسجد فعل العبادة، و إن اريد به كون الغرض من وضع المسجد أن لا يدفن فيه الأموات و الدفن ينافيه، ففيه نوع مصادرة، فإثبات التحريم بنحو هذه التعليلات مشكل. و يمكن توجيههما بأحد وجوه:

الأوّل: كون بناء القول بحرمة الدفن على القول بحرمة الصلاة على القبر أو عند القبر، و حينئذ يتمّ كلّ من التضييق و المنافاة كما أشار إليه كاشف اللثام على ما حكي بقوله: «إنّما تتمّ المنافاة و التضييق لو حرمت الصلاة على القبر أو عند القبر»(5).

و يزيّفه أنّه إنّما يتمّ أن لو كان القائلون بالحرمة هاهنا هم القائلون بالحرمة ثمّة، و فيه منع واضح إذ المشهور ثمّة على ما تقدّم هو الكراهة، و القول بالحرمة لم ينقل إلاّ عن المفيد(6) و الحلبي(7) و سلاّر(8) و القائلون بالحرمة هاهنا على ما سمعت غيرهم، فهم ثمّة من القائلين بالكراهة لا الحرمة ففسد البناء المذكور.

الثاني: كون مرادهم من الدفن في المسجد اتّخاذ المسجد مدفنا للأموات على وجه يخرج عن المسجديّة و يصير على هيئة المقابر، و حينئذ فلا إشكال في الحكم و لا صدق التضييق و تحقّق المنافاة أيضا، إلاّ أنّه بعيد عن إطلاق فتاويهم، و تعبيرهم فيها عن موضوع

ص: 747


1- الوسائل 3/288:10، ب 18 أبواب المزار و ما يناسبه.
2- نهاية الإحكام 359:1.
3- التذكرة 431:2.
4- المنتهى 328:6.
5- كشف اللثام 338:3.
6- المقنعة: 151.
7- الكافي في الفقه: 141.
8- المراسم: 65.

الحكم بالدفن في المسجد دون اتّخاذه مدفنا لشمول الأوّل دفن ميّت واحد و ما زاد من غير اتّخاذ له مدفنا للأموات، أو معه من دون إخراجه عن هيئة المسجديّة أو معه أيضا، مع شهادة غير ذلك من كلماتهم يكون موضوع ما يعمّ الصورة الاولى، مثل ما عرفت من النقض بدفن فاطمة عليها السّلام و الاعتذار له.

الثالث: كون الغرض من التعليل بنحو ما ذكر بيان وجه مناسبة للحكم بعد وقوعه، لا أنّه من التعليلات الحقيقيّة، بدعوى كون المسألة إجماعيّة، و كون مدرك الحكم فيها و دليله الإجماع كما يومئ إليه عدم تعرّض أحد من المتعرّضين للمسألة لنقل قول بالخلاف، و هذا أيضا بعيد لعدم العلم و لا الظنّ بالإجماع، حيث لم يتعرّض المسألة إلاّ جماعة، و من غير المتعرّضين لها المحقّق في كتبه. فأقصى ما هنا سكوت الغير المتعرّضين و هو لا يدلّ على الموافقة، لجواز التوقّف من جهة عدم وضوح المدرك، فهذا نظير الإجماع السكوتي المعنون في الاصول المتّفق على عدم حجّيّته عند الأصحاب، وفاقا لأكثر المخالفين.

الرابع: أن يقال: إنّ الواقف للمسجد قبل إجرائه الوقف عليه و إخراجه عن ملكه كان له بمقتضى عموم السلطنة على الأموال أن يتصرّف في ملكه بجميع أنواع التصرّفات، كما كان له منع غيره مطلقا من جميع أنواع التصرّفات الّتي منها دفن الميّت في ملكه، و بإجرائه صيغة الوقف عليه حبّس العين و سبّل منفعة خاصّة من منافعه، و هو فعل العبادات فيه لقاطبة المسلمين المنحلّ إلى إذنهم في هذا التصرّف الخاصّ و رفع المنع عنه مع بقائه بالنسبة إلى سائر التصرّفات الّتي منها دفن الميّت فيه مطلقا، و قد أمضاه الشارع و قرّره بقوله: «الوقوف حسبما يوقفها أهلها» و معناه أنّ الوقوف يقتصر فيها على قدر ما يجعله الواقف من حبس عين و تسبيل منفعة فلا يجوز التخطّي منه إلى غير المنفعة الخاصّة الّتي سبّلها، و الدفن تخطّي منه فليس بجائز، و هذا هو معنى منافاته لما وضع له من فعل العبادة.

و حاصله منافاته لجعل الواقف كون المنفعة المسبّلة هو فعل العبادة لا ما عداه الّذي منه الدفن، و لا يلزم من هذا البيان حرمة جملة من الانتفاعات الاخر الّتي ليست من قبيل العبادات، كالجلوس و التكلّم و الرقود و الأكل و الشرب و البيع و الشراء، و غير ذلك ممّا لا يزاحم المصلّين و غيرهم من أهل العبادات، لقضاء العادة بحصول الإذن فيها و رفع المنع عنها أيضا من الواقف في متن الوقف الّذي يكفي فيه الالتفات الإجمالي،

ص: 748

و هذا هو أظهر الوجوه.

ثمّ لو دفن فيه جهلا بالمسألة أو إثما و عصيانا فهل يجب إخراجه و نقله إلى مكان آخر أو لا؟ و على الثاني فهل يحرم الإخراج أو لا؟ و لم أقف على من تعرّض من الأصحاب لهذا الفرع لا في محلّ البحث و لا في باب أحكام دفن الموتى، نعم ذكروا ثمّة دفن الميّت في أرض مغصوبة و حكموا بجواز إخراجه للمالك، و استثنوه من حرمة نبش القبر معلّلين له بما لا يتمشّى فيما نحن فيه.

و من الظاهر أنّ الأصل الأوّلي في المقام هو الجواز بمعنى عدم الوجوب و عدم الحرمة لكون الواقعة ممّا يحتمل الوجوب و الحرمة و غيرهما، و لقد تقرّر في الاصول أنّ قضيّتي البراءة و الإباحة عدم الوجوب و عدم الحرمة، فهذا ممّا لا كلام فيه. بل الكلام في إدراجها فيما لا نصّ فيه و لا دليل على أحد الحكمين ليحرز موضوع الأصلين فنقول:

أمّا الوجوب فلا نجد عليه دليلا، و لا نرى عليه دلالة في عموم «الوقوف على حسبما يوقفها أهلها» الّذي هو دليل حرمة أصل الدفن، لأنّ أقصى ما يدلّ عليه ذلك إنّما هو حرمة التصرّف في الوقف بما ينافي غرض الواقف أو بما لم يأذن فيه الواقف، و وجوب إخراج المدفون في المسجد بعد دفنه مبنيّ على ثبوت حرمة إبقائه مدفونا فيه، فهو ليس من حرمة أصل الدفن لأنّه تصرّف بما ينافي غرض الواقف.

و التصرّف ممّا لا يصدق على إبقائه إمّا لأنّ التصرّف أمر وجودي و الإبقاء مفهوم اعتباري منتزع عن ترك إخراجه فيكون أمرا عدميّا، أو لأنّه على تقدير تسليم كونه أمرا عدميّا لا ينصرف إليه إطلاق التصرّف في متفاهم العرف و إطلاقاتهم كما هو واضح.

فيكون الإخراج حينئذ ممّا لا نصّ بوجوبه فيندرج في موضوع أصل البراءة المقتضي لعدم الوجوب ظاهرا.

و أمّا الحرمة: فاحتمالها إنّما هو من حيث النبش و ثبوت الدلالة عليها، و انتفاؤها مبنيّ على النظر في أنّ الأصل في نبش القبر هل هو الحرمة إلاّ ما خرج بالدليل أو الإباحة إلاّ ما خرج بالدليل ؟ و نعني بالأصل على الأوّل الأصل الثانوي المستنبط من الدليل، و على الثاني الأصل الأوّلي المقرّر فيما لا نصّ بحرمته.

و أظهر الاحتمالين أوّلهما لإطلاق معاقد الإجماعات المنقولة في كلام جماعة(1) من

ص: 749


1- كما في جامع المقاصد 452:1، التذكرة 102:2.

أساطين الطائفة على أنّه يحرم نبش القبر، حتّى أنّ الشهيد في الذكرى(1) نقل عليه إجماع المسلمين المعتضد ذلك الإطلاق بسائر كلماتهم القاضية بإطلاق الحكم في غير ما استثني الّتي منها تعرّضهم بعد ذكر الحرمة لإخراج صور بعبارة «يستثنى» و ما بمعناها، و لم يثبت بالنسبة إلى ما نحن فيه دليل على الجواز، و الأصل لا يقاوم إطلاق الدليل بل لا مجرى له معه لانتفاء موضوعه.

و توهّم: أنّ الدفن وقع على وجه الحرمة و النهي يقتضي الفساد، فهذا دفن فاسد غير مبرئ للذمّة، فيجب إخراجه تحصيلا لبراءة الذمّة بدفنه في مكان آخر. يدفعه: منع اقتضاء النهي في الواجبات التوصّلية فساد المنهيّ عنه، و لذا اشتهر بينهم أنّ الواجب التوصّلي يجتمع مع الحرام، و معناه كون الفرد المحرم بعد حصوله على وجه الحرمة مسقطا للواجب عن الذمّة. فالأظهر بمقتضى ظاهر النظر هو حرمة إخراجه بعد حصول دفنه في المسجد، و اللّه العالم.

و منها: أنّه يحرم إخراج الحصى من المسجد، و هي جمع الحصاة، و هي صغائر الحجارة، و قد صرّح بحرمة إخراجها جماعة من المتأخّرين كالمحقّق في الشرائع(2) و النافع(3)و العلاّمة في الإرشاد(4) و عن التلخيص(5) و التبصرة(6) و الشهيد في اللمعة(7) و عن النفليّة(8)و عن المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد(9) و فوائد الشرائع(10) و عن روض الجنان(11) نسبته إلى الأصحاب مؤذنا بدعوى الإجماع عليه.

خلافا للمحكيّ عن المبسوط(12) و النهاية(13) و المعتبر(14) و التذكرة(15) و القواعد(16)و المنتهى(17) و السرائر(18) و نهاية الإحكام(19) و الذكرى(20) و الدروس(21) و البيان(22)

ص: 750


1- الذكرى 81:2.
2- الشرائع 128:1.
3- النافع: 49.
4- الإرشاد 250:1.
5- تلخيص المرام (الينابيع الفقهيّة) 570:27.
6- التبصرة: 40.
7- اللمعة: 30.
8- النفليّة: 143.
9- حاشية الإرشاد: 26.
10- فوائد الشرائع: 59.
11- روض الجنان 634:2.
12- المبسوط 161:1.
13- النهاية: 109.
14- المعتبر 452:2.
15- التذكرة 428:2.
16- القواعد 262:1.
17- المنتهى 323:6.
18- التحرير 325:1.
19- نهاية الإحكام 356:1.
20- الذكرى 125:3.
21- الدروس 156:1.
22- البيان: 68.

و الموجز الحاوي(1) و كشف الالتباس(2) و حاشية المدارك(3) فحكموا بكراهته.

و في جامع المقاصد عند شرح عبارة القواعد «و ينبغي أن يكون المكروه إخراجه ما لا يعدّ جزءا من المسجد، إذ يحرم لو كان ممّا تعلّقت به المسجديّة، و كذا ينبغي أن لا يكون الحصى ممّا يلحق بالقمامات المشوّهة للمسجد، لأنّ كنس المساجد و تنظيفها مستحبّ فيبعد أن يكون المكروه إخراجه من هذا النوع»(4).

و في الروضة قيّد عبارة اللمعة «و يحرم إخراج الحصى منها» بقوله: «إن كانت فرشا أو جزءا منها، أمّا لو كانت قمامة استحبّ إخراجها»(5).

و في الذخيرة في شرح عبارة الإرشاد «و الصواب تقييدها بما إذا كانت تعدّ من أجزاء المسجد أو من آلاته، أمّا لو كانت قمامة كان إخراجها مستحبّا»(6).

و بهذه التقييدات ربّما يحصل وجه جمع بين عبارات الأصحاب المختلفة في الحكم بالحرمة و الكراهة على وجه يرتفع الخلاف بينهم باعتبار تعدّد موضوعي الحكمين بل الأحكام الثلاث الّتي ثالثها الاستحباب لاختلاف أنواع الحصى:

فمنها: ما يعدّ قمامة، و ضابطها ما يجتمع بالكنس و غيره و لم يكن فيها منفعة معتدّ بها و لا قيمة لها، و هذه ما يستحبّ إخراجها على ما صرّحوا به، لأنّهم استحبّوا كنس المسجد و إخراج قمامته، لما فيه من تعميم(7) شعائر اللّه، و ترغيب المتردّدين إليه، و الإحسان إليهم، و أداء ذلك إلى تعمير المساجد و الأمن من خرابها، خصوصا يوم الخميس و ليلة الجمعة، لرواية عبد الحميد عن أبي إبراهيم عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من كنس المسجد يوم الخميس و ليلة الجمعة فأخرج من التراب ما يذرّ في العين غفر اللّه له»(8).

و منها: ما لا يعدّ قمامة، و لكن كانت من أجزاء المسجد لتعلّق المسجديّة بها، و كانت ممّا ينتفع بها و لها قيمة، و هذه هي المحكوم بحرمتها، و وجه الحرمة حينئذ واضح لما فيه من إخراج الوقف عن محلّه بل عن الوقفيّة، بل هي بالقيود المذكورة مندرجة في آلات

ص: 751


1- الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 71.
2- كشف الالتباس: 105.
3- نقله عنه في مفتاح الكرامة 274:6.
4- جامع المقاصد 147:2.
5- الروضة البهيّة 545:1.
6- الذخيرة: 250-251.
7- كذا في الأصل، و الظاهر: تعظيم.
8- الوسائل 1/238:5، ب 32 أحكام المساجد، التهذيب 703/254:3.

المسجد، على ما تقدّم من تفسيرها مع حكمها و دليلها.

و منها: ما لا يكون جزءا و لا معدودة من القمامة و كان لها اختصاص بالمسجد حصل بعد المسجديّة، و هذه هي المحكوم بكراهة إخراجها، و دليل الكراهة - على ما في كلام جماعة - رواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام عن آبائه عليهم السّلام قال: «إذا أخرج أحدكم الحصاة من المسجد فليردّها مكانها، أو في مسجد آخر»(1) فإنّ قوله «فليردّها» و إن كانت بالوضع تفيد الوجوب، إلاّ أنّ الرواية لا تنهض لإثباته، لما في سندها من الضعف بتضعيف النجاشي راويها بقوله: «إنّه كان كذّابا»(2) و قول الشيخ فيه «إنّه كان قاضيا عامّيّا»(3) فليحمل الأمر على الاستحباب. و يلزم من استحباب ردّها بعد الإخراج كراهة إخراجها عرفا، كما أنّه على تقدير حمله على الوجوب يلزم من وجوب ردّها بعد الإخراج عرفا حرمة إخراجها. و لذا قال في الذكرى: «و عدّه بعض الأصحاب من المحرّم لظاهر الأمر بالردّ» انتهى(4).

و في تعليل الحكم بأنّها تسبّح إشعار أيضا بكونه على وجه الاستحباب، فلا حاجة لصرفه عن الوجوب إلى الاستناد إلى ضعف السند.

و في مفتاح الكرامة بعد نقل القولين «و صرّح الفريقان بأنّها إذا خرجت منه تعاد إليه أو إلى غيره»(5).

أقول: مدرك هذا الحكم على القول بالكراهة هو الرواية، و أمّا فيما حرم إخراجها فوجه وجوب إعادتها إلى مكانها واضح، و أمّا جواز إعادتها إلى مسجد آخر على إطلاقه غير واضح، و ينبغي إناطة الحكم بالتفصيل الّذي سبق في بحث الآلات، فيجوز حينئذ إعادتها إلى مسجد آخر في الجملة.

ثمّ الظاهر أنّه إذا خرب المسجد بخراب القرية أو المحلّة لم يخرج العرصة من المسجديّة و لا يزول عنها الوقفيّة، فلا تعود إلى ملك الواقف، و لا يجوز بيعها و لا نقلها،

ص: 752


1- الوسائل 4/232:5، ب 26 أحكام المساجد، التهذيب 711/256:3.
2- رجال النجاشي 430:2.
3- الفهرست: 350.
4- الذكرى 125:3.
5- مفتاح الكرامة 275:6.

و لا سائر التصرّفات الغير السائغة فيها حال العمارة بلا خلاف بين أصحابنا(1) ظاهرا، للأصل موضوعا و حكما.

فما عن بعض العامّة: من عود العرصة إلى ملك الواقف قياسا لها على كفن الميّت الّذي يعود إلى الورثة فيما إذا أخذ السيل الميّت و بقى كفنه لجامع تعذّر المصرف(2) واضح الفساد، لبطلان القياس و وجود الفارق، لانتقال تركة الميّت بموته إلى ملك الوارث و منها الكفن، غاية الأمر أنّه تعلّق به تكليف صرفه في الميّت، فإذا انتفى الميّت سقط حقّه، و اللّه العالم.

[المسألة العاشرة: في سنن المسجد من المكروهات و المستحبّات و هي امور: فصل: استحباب إتيان الفرائض المكتوبة في المسجد]

المسألة العاشرة: في سنن المسجد من المكروهات و المستحبّات و هي أيضا امور:

منها:(3)

فصل: في حكم المسجد من حيث استحباب الصلاة فيه، فاعلم أنّه قال الأصحاب قولا واحدا بأنّ فعل الفرائض المكتوبة في المسجد أفضل منه في غيره بلا خلاف بين المسلمين كما عن مجمع البرهان(4) و باتّفاق المسلمين بل الظاهر أنّه من ضروري الدين كما في المدارك(5) و في الذخيرة: و لا خلاف في ذلك بين أهل الإسلام بل كاد أن يكون ذلك من ضروريّات الدين(6).

و الروايات المصرّحة بذلك و ذمّ تارك المسجد بالغة فوق حدّ الاستفاضة إن لم نقل بكونها متواترة، ففي المرسل كالصحيح لابن أبي عمير عن بعض أصحابه قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي لأكره الصلاة في مساجدهم، فقال: لا تكره فما من مسجد بني إلاّ على قبر نبيّ أو وصيّ نبيّ فأصاب تلك البقعة رشّة من دمه فأحبّ اللّه أن يذكر فيها، فأدّ فيها الفريضة و النوافل و اقض ما فاتك»(7).

و رواية الفضل المرويّة عن الأمالي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يا فضل، لا يأتي المسجد من كلّ قبيلة إلاّ وافدها، و من أهل كلّ بيت إلاّ نجيبها، يا فضل، لا يرجع صاحب المسجد إلاّ بإحدى ثلاث خصال، إمّا دعاء يدعو به يدخله اللّه به الجنّة، و إمّا دعاء يدعو به فيصرف اللّه عنه به بلاء الدنيا، و إمّا أخ يستفيده في اللّه»(8).

ص: 753


1- كما في جامع المقاصد 82:9.
2- المغني لابن قدامة 250:6-251.
3- هنا في الأصل بياض بمقدار صفحتين.
4- مجمع البرهان 144:2.
5- المدارك 407:4.
6- الذخيرة: 246.
7- الوسائل 1/225:5، ب 21 أحكام المساجد، التهذيب 723/258:3.
8- الوسائل 2/193:5، ب 1 أحكام المساجد، أمالي الطوسي 45:1.

و رواية عليّ بن الحكم عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من مشى إلى المسجد لم يضع رجلا على رطب و لا يابس إلاّ سبّحت له الأرض إلى الأرضين السابعة»(1).

و عن كتاب عقاب الأعمال في حديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من مشى إلى مسجد من مساجد اللّه فله بكلّ خطوة خطاها حتّى يرجع إلى منزله عشر حسنات، و محي عنه عشر سيّئات، و رفع له عشر درجات»(2).

و عن المقنع قال: «روي أنّ في التورية مكتوبا أنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لمن تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي، و حقّ على المزور أن يكرم الزائر»(3).

و عن إرشاد الديلمي عن عليّ عليه السّلام قال: «الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة، لأنّ الجنّة فيها رضى نفسي، و الجامع فيه رضى ربّي»(4).

و رواية السكوني عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه السّلام قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من كان القرآن حديثه، و المسجد بيته، بنى اللّه له بيتا في الجنّة»(5).

و رواية جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لجبرئيل: أيّ البقاع أحبّ إلى اللّه ؟ قال: المساجد، و أحبّ أهلها أوّلهم دخولا و آخرهم خروجا منها»(6).

و عن عليّ «إنّ اللّه تبارك و تعالى ليريد عذاب أهل الأرض جميعا حتّى لا يحاشي منهم أحدا، فإذا نظر إلى الشيب ناقلي أقدامهم إلى الصلوات و الولدان يتعلّمون القرآن رحمهم فأخّر ذلك عنهم»(7).

و روى الشيخ مرسلا قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا صلاة لجار المسجد إلاّ في مسجده»(8).

و رواية طلحة بن زيد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن عليّ عليه السّلام قال: «لا صلاة لمن

ص: 754


1- الوسائل 1/200:5، ب 4 أحكام المساجد، التهذيب 706/255:3.
2- الوسائل 3/201:5، ب 4 أحكام المساجد، عقاب الأعمال: 343.
3- الوسائل 5/199:5، ب 3 أحكام المساجد، المقنع: 27.
4- الوسائل 6/199:5، ب 3 أحكام المساجد، إرشاد القلوب: 218.
5- الوسائل 2/198:5، ب 3 أحكام المساجد، التهذيب 707/255:2.
6- الوسائل 2/294:5، ب 68 أحكام المساجد، الكافي 14/499:3.
7- الوسائل 3/198:5، ب 3 أحكام المساجد، الفقيه 723/155:1.
8- الوسائل 1/194:5، ب 2 أحكام المساجد، التهذيب 244/92:1.

لا يشهد الصلوات المكتوبات من جيران المسجد إذا كان فارغا صحيحا»(1).

و رواية أبي البختري عن جعفر عن أبيه عليه السّلام «إنّ عليّا عليه السّلام كان يقول: ليس لجار المسجد صلاة إذا لم يشهد المكتوبة في المسجد إذا كان فارغا صحيحا»(2).

و رواية زريق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «شكت المساجد إلى اللّه تعالى الّذين لا يشهدونها من جيرانها، فأوحى اللّه إليها: و عزّتي و جلالي لا قبلت لهم صلاة واحدة، و لا أظهرت لهم في الناس عدالة، و لا نالتهم رحمتي، و لا جاوروني في جنّتي»(3).

و رواية زريق قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من صلّى في بيته جماعة رغبة عن المسجد فلا صلاة له، و لا لمن صلّى معه إلاّ من علّة تمنع المسجد»(4) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع و ما يأتي من الروايات في تفاوت المساجد في الفضل.

فروع:

أوّلها: تقييد العنوان بالفرائض المكتوبة احتراز عن النوافل، لأنّ المشهور بين الأصحاب شهرة محكيّة في كلام جماعة كون النافلة في المنزل أفضل منها في المسجد، بل في المحكيّ عن المعتبر(5) و المنتهى(6) ما يؤذن بدعوى الإجماع، حيث إنّ الأوّل جعله فتوى علمائنا، و الثاني نسبه إلى علمائنا.

و نقل في المدارك عن جدّه في بعض فوائده رجحان فعلها في المسجد أيضا كالفريضة، و استحسنه خصوصا إذا أمن على نفسه الرياء و رجا اقتداء الناس به و رغبتهم في الخير(7)و تبعه صاحب الذخيرة(8) في استحسان هذا القول.

و عن السرائر «صلاة نافلة الليل خاصّة في البيت أفضل منها في المسجد»(9).

فالمسألة في النوافل خلافيّة و أقوالها ثلاثة، و إن كان القول الأوّل أشهر بل مشهورا بما يقرب من الإجماع.

و استدلّ عليه بأنّ فعلها في السرّ أبلغ في الإخلاص، و أبعد من وساوس الشيطان، و لما

ص: 755


1- الوسائل 3/194:5، ب 2 أحكام المساجد، التهذيب 735/261:3.
2- الوسائل 5/195:5، ب 2 أحكام المساجد، قرب الإسناد: 68.
3- الوسائل 8/196:5، ب 2 أحكام المساجد، أمالي الطوسي 307:2.
4- الوسائل 10/196:5، ب 2 أحكام المساجد، أمالي الطوسي 307:2.
5- المعتبر 112:2.
6- المنتهى 310:4.
7- المدارك 407:4.
8- الذخيرة: 248.
9- السرائر 280:1.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أنّه قال: أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة»(1).

و في الوجهين معا ما لا يخفى، أمّا الرواية فلكونها عامّية، و أمّا الاعتبار فلأنّ الأبلغيّة في الإخلاص لا تنافي الرجحان الذاتي، كما أنّ المرجوحيّة العارضة لها لما اعترتها من وساوس الشيطان و آفة الرياء لا تنافي الرجحان الذاتي، خصوصا من أصحاب النفوس الكاملة المطمئنّة المأمونة عليها من ريبة الرياء و وسوسة الشيطان.

فالإنصاف أنّ الأفضليّة المدّعاة إن كانت إجماعا فحسن، و به يخرج عن مطلقات الروايات الدالّة على أفضليّة المسجد مطلقا و خصوصات جملة منها المصرّحة بها في النوافل أيضا بالخصوص، و إلاّ فالخروج عن الروايات عموما و خصوصا لمجرّد الشهرة المستندة إلى وجوه ضعيفة، ليس على ما ينبغي، كيف و قد سمعت الروايات المطلقة و بعضا من الروايات الخاصّة، كذيل صحيح ابن أبي عمير «فأدّ فيها الفريضة و النوافل و اقض ما فاتك»(2).

و نحوه صحيح معاوية بن وهب عن الصادق عليه السّلام «إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي صلاة الليل في المسجد»(3) ظاهره بواسطة التعبير ب «كان» استمرار و المداومة عليه.

و رواية هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في فضل مسجد الكوفة و في آخرها «إنّ الصلاة المكتوبة فيه لتعدل بألف، و أنّ النافلة فيه لتعدل بخمسمائة صلاة»(4).

و عن سهل بن زياد «أنّه قال: و روي لي عن عمرو - يعني عمرو بن عثمان - أنّ الصلاة فيه لتعدل بحجّة، و أنّ النافلة لتعدل بعمرة»(5).

و رواية نجم بن حطيم عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام «قال: لو يعلم الناس ما في مسجد الكوفة لأعدّوا له الزاد و الرواحل من مكان بعيد، لأنّ صلاة فريضة فيه تعدل حجّة، و صلاة نافلة فيه تعدل عمرة»(6).

و رواية أصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين قال: «النافلة في هذا المسجد تعدل عمرة مع

ص: 756


1- سنن البيهقي 494:2.
2- الوسائل 1/193:5، ب 1 أحكام المساجد، التهذيب 723/258:3.
3- الوسائل 1/269:4، ب 53 أبواب المواقيت، التهذيب 1377/334:2.
4- الوسائل 3/252:5، ب 44 أحكام المساجد، الكافي 1/490:3.
5- الوسائل 3/253:5، ب 44 أحكام المساجد.
6- الوسائل 14/256:5، ب 44 أحكام المساجد، التهذيب 60/32:6.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الفريضة تعدل حجّة مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد صلّى فيه ألف نبيّ و الف وصيّ »(1).

و رواية أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «صلاة في مسجد الكوفة الفريضة تعدل حجّة مقبولة، و التطوّع فيه يعدل عمرة مقبولة»(2).

و رواية ليث بن أبي سليم عن عائشة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «عرج بي إلى السماء فأهبطت إلى مسجد الكوفة فصلّيت فيه ركعتين، ثمّ قال: و أنّ الصلاة المفروضة فيه تعدل حجّة مبرورة، و النافلة تعدل عمرة مبرورة»(3).

و عن ابن طاووس قدّس سرّه في مصباح الزائر قال: «روي أنّ الفريضة في مسجد الكوفة بألف فريضة، و النافلة بخمسمائة»(4).

و رواية عبد اللّه بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث في فضل مسجد الكوفة قال: «فإنّ الصلاة المكتوبة حجّة مبرورة، و النافلة عمرة مبرورة»(5).

و المرويّ عن الفقيه بعدّة أسانيد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام «أنّه قال:

المساجد الأربعة - مسجد الحرام، و مسجد الرسول، و مسجد بيت المقدس، و مسجد الكوفة - يا أبا حمزة الفريضة فيها تعدل حجّة، و النافلة تعدل عمرة»(6) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و استفاضتها القريبة من التواتر بل البالغة حدّه، مع اشتمالها على الصحيح تنهض جابرة لضعف أسانيد أكثرها، و مخالفتها الشهرة - بعد ظهور استنادها إلى ما عرفت ممّا لا يصلح الركون إليه - لا تصلح موهنة. و اختصاص أكثرها بمسجد الكوفة مع عموم الصحيح منها لسائر المساجد و عموم الأخير منها للمساجد الأربع لا يقدح في عموم الحكم بعد مراعاة انضمام عدم القول بالفصل كما ادّعاه غير واحد، إذ لا قائل بالفصل من هذه الجهة. كما أنّ اختصاص صحيح معاوية بن وهب بنافلة الليل لا يقدح في عموم الحكم بالقياس إلى سائر

ص: 757


1- الوسائل 15/257:5، ب 44 أحكام المساجد، التهذيب 61/32:6.
2- الوسائل 21/259:5، ب 44 أحكام المساجد، كامل الزيارات: 4/28.
3- الوسائل 26/260:5، ب 44 أحكام المساجد، كامل الزيارات: 31.
4- الوسائل 27/260:5، ب 44 أحكام المساجد، مصباح الزائر: 35.
5- الوسائل 1/261:5، ب 45 أحكام المساجد، الكافي 2/491:3.
6- الفقيه 683/148:1.

النوافل، إذ لا فصل من هذه الجهة أيضا. و ما تقدّم من التفصيل عن السرائر على عكس ذلك لأنّه جعل صلاة الليل في المنزل أفضل و الصحيحة تعطي كونها في المسجد أفضل، فهو لا ينكر أفضليّة غيرها في المسجد.

فالأقوى كون النوافل أيضا كالفرائض في كونها في المسجد أفضل، نعم هي بمقتضى الروايات المذكورة في المسجد أقلّ ثوابا من الفريضة فيه. و لعلّ مراد الأكثر من نفي أفضليّة المسجد فيها بيان كونها أقلّ ثوابا، لا نفي أصل الأفضليّة و سنخها، فلا خلاف حينئذ، فتأمّل.

و ثانيها: عن جماعة كنهاية الإحكام(1) و كشف الالتباس(2) و حاشية الميسي(3)اختصاص استحباب إتيان المساجد للصلاة بالرجال. و أمّا النساء فالمستحبّ لهنّ و الأفضل في حقهنّ الصلاة في البيوت، و في الذخيرة(4) نسبته إلى أكثر الأصحاب، و في عبارة محكيّة عن مجمع البرهان ما يؤذن بدعوى الشهرة فيه قائلا: «خبر يونس بن ظبيان(5) يدلّ على اختصاص فضيلة المسجد بالرجال كما هو المذكور في الكتب، و المشهور بينهم»(6).

و ظاهر المحكيّ عن التذكرة كراهة إتيانهنّ المسجد حيث قال: «يكره للنساء الإتيان إلى المساجد»(7).

و ظاهر المحكي عن الدروس اشتراكها الرجال في استحباب الاختلاف إلى المساجد، و إن كان البيت لهنّ أفضل قائلا: «يستحبّ للنساء الاختلاف إليها كالرجال و إن كان البيت أفضل خصوصا لذوات الهيئات»(8).

و مستند القول الأوّل: كون عدم حضور المساجد أقرب إلى الاستتار المطلوب منهنّ ، و ما رواه الشيخ عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «خير مساجد نسائكم البيوت»(9)و يدلّ عليه أيضا ما رواه في الفقيه باسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، و صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في الدار»(10) قال: و قال الصادق عليه السّلام: «خير مساجد نسائكم البيوت، و قال أيضا: و روي

ص: 758


1- نهاية الإحكام 353:1.
2- كشف الالتباس: 104.
3- نقله عنه في مفتاح الكرامة 257:6.
4- الذخيرة: 246.
5- الوسائل 4/237:5، ب 30 أحكام المساجد، التهذيب 694/252:3.
6- مجمع البرهان 159:2.
7- التذكرة 426:2.
8- الدروس 156:1.
9- الوسائل 4/237:5، ب 30 أحكام المساجد.
10- الوسائل 1/236:5، ب 30 أحكام المساجد، الفقيه 1178/259:1.

«أنّ خير مساجد النساء البيوت»(1) و عن الطبرسي في مكارم الأخلاق قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

فضل صلاة المرأة وحدها في بيتها كفضل صلاتها في الجمع خمسا و عشرين درجة»(2).

و ثالثها: المستفاد من عدّة من الروايات أنّ الصلاة في المسجد منفردا أفضل منها في غيره جماعة، ففي رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي عن أبي الحسن عليه السّلام قال:

«سألته عن الرجل يصلّي في جماعة في منزله بمكّة أفضل أو وحده في المسجد الحرام ؟ فقال: وحده»(3).

و رواية محمّد بن سنان قال: «سمعت أبا الحسن الرضا عليه السّلام يقول: الصلاة في مسجد الكوفة فردا أفضل من سبعين صلاة في غيره جماعة»(4).

و رواية إبراهيم بن ميمون عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: انّ رجلا يصلّي بنا نقتدي به فهو أحبّ إليك أو في المسجد؟ قال: المسجد أحبّ إليّ »(5) و في قوله «أو في المسجد» و إن لم يكن تعرّض للجماعة و الفرادى، غير أنّ إطلاق الجواب بضميمة ترك الاستفصال يفيد عموم الحكم لصورتي الجماعة و الانفراد.

نعم في رواية محمّد بن عمارة - قال: «أرسلت إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام أسأله عن الرجل يصلّي المكتوبة وحده في مسجد الكوفة أفضل، أو صلاته في جماعة ؟ فقال: الصلاة في جماعة أفضل»(6) - ما ينافي ذلك، غير أنّ الخطب فيه سهل، لاحتمال الثاني صلاته في المسجد في جماعة فتأمّل.

نعم ربّما يشكل الحال بالنظر إلى رواية زريق قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: صلاة الرجل في منزله جماعة تعدل أربعا و عشرين صلاة، و صلاة الرجل جماعة في المسجد تعدل ثمانية و أربعين صلاة مضاعفة في المسجد، و أنّ الركعة في المسجد الحرام ألف ركعة في سواه من المساجد، و أنّ الصلاة في المسجد فردا بأربع و عشرين صلاة، و الصلاة في

ص: 759


1- الوسائل 2/237:5، ب 30 أحكام المساجد، الفقيه 719/154:1.
2- الوسائل 5/237:5، ب 30 أحكام المساجد، مكارم الأخلاق: 233.
3- الوسائل 1/239:5، ب 33 أحكام المساجد، الكافي 11/527:4.
4- الوسائل 2/239:5، ب 33 أحكام المساجد، ثواب الأعمال: 50.
5- الوسائل 3/239:5، ب 33 أحكام المساجد، التهذيب 734/261:3.
6- الوسائل 4/240:5، ب 33 أحكام المساجد، التهذيب 88/25:3.

منزله هباء منثورا و لا يصعد منه شيء إلى اللّه، و من صلّى في بيته جماعة رغبة عن المسجد فلا صلاة له، و لا لمن صلّى يتبعه إلاّ عن علّة تمنع من المسجد»(1) لدلالته على التساوي. إلاّ أن يقال: إنّ التساوي عددا لا ينافي التفاضل أجرا و ثوابا، كما ذكره في الوسائل، و فيه تكلّف واضح.

و رابعها: أنّ المساجد تتفاوت في الفضيلة بحسب ذواتها أو لبعض العوارض، فصلاة في المسجد الحرام تفضل غيره بمائة ألف صلاة، و في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المدينة بعشرة آلاف صلاة، و في كلّ من الأقصى و مسجد الكوفة بألف صلاة، و في المسجد الجامع في البلد - و هو الّذي يكثر اختلاف عامّة أهله إليه - بمائة، و في مسجد القبيلة - و هو ما يختصّ بطائفة كأهل محلّة أو قرية و ما أشبههما - بخمس و عشرين صلاة، و في مسجد السوق - و هو الّذي لا يأتيه غالبا إلاّ أهل ذلك السوق - باثنى عشر صلاة.

و قد ذكر المراتب بهذا الترتيب في اللمعة(2) و الروضة(3) و اقتصر الفاضلان في الشرائع(4)و القواعد(5) و غيرهما(6) على الثلاث الأخيرة، و في مفتاح الكرامة بعد نقل عبارة القواعد قال: «ذكروه قاطعين به»(7) و هو يؤذن بعدم الخلاف فيه.

و الظاهر أنّ الثلاث الاولى أيضا محلّ وفاق، و لا ينافيه اقتصار الجماعة على الثلاث الأخيرة، لجواز ابتنائه على بيان حكم ما يغلب ابتلاء عامّة الناس به من المساجد و هي الثلاث الموجودة في البلاد.

و التفصيل المذكور لبيان المراتب الستّ مأخوذ من الروايات، كرواية خالد بن مادّ القلانسي عن الصادق عليه السّلام قال: «مكّة حرم اللّه و حرم رسوله و حرم عليّ بن أبي طالب، الصلاة فيها بمائة ألف صلاة، و الدرهم فيها بمائة ألف درهم. و المدينة حرم اللّه و حرم رسوله و حرم عليّ بن أبي طالب، الصلاة فيها بعشرة آلاف صلاة، و الدرهم فيها بعشرة آلاف درهم. و الكوفة حرم اللّه و حرم رسوله و حرم عليّ بن أبي طالب، الصلاة فيها بألف صلاة،

ص: 760


1- الوسائل 5/240:5، ب 33، أحكام المساجد، أمالي الطوسي 307:2.
2- اللمعة: 30.
3- الروضة البهيّة 545:1.
4- الشرائع 128:1.
5- القواعد 261:1، كما في جامع المقاصد 144:2، روض الجنان 616:2-617، كشف اللثام 320:3.
6- كما في جامع المقاصد 144:2، روض الجنان 616:2-617، كشف اللثام 320:3.
7- مفتاح الكرامة 255:6.

و سكت عن الدرهم»(1).

و رواية مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام عن آبائه قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: صلاة في مسجدي هذا تعدل عند اللّه عشرة آلاف صلاة في غيره من المساجد، إلاّ المسجد الحرام، فإنّ الصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة»(2).

و رواية السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه قال: «الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة»(3).

و رواية صامت عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره»(4).

و في رواية هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الصلاة في مسجد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعدل عشرة آلاف»(5).

و رواية أبي الصامت قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: صلاة في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعدل عشرة آلاف صلاة»(6).

و رواية جميل بن درّاج قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام: يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم... إلى أن قال:

و صلاة في مسجدي تعدل عشرة آلاف صلاة فيما سواه من المساجد، إلاّ المسجد الحرام»(7)!

و في آخر رواية هارون بن خارجة في فضل مسجد الكوفة ما تقدّم في الفرع الأوّل من قول أبي عبد اللّه عليه السّلام «و أنّ الصلاة المكتوبة فيه لتعدل بألف صلاة... الخ»(8).

و رواية خالد القلانسي قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: صلاة في مسجد الكوفة بألف صلاة»(9).

ص: 761


1- الوسائل 12/256:5، ب 44 أحكام المساجد، التهذيب 58/31:6.
2- الوسائل 5/271:5، ب 52 أحكام المساجد، ثواب الأعمال: 50.
3- الوسائل 7/272:5، ب 52 أحكام المساجد، الكافى 6/526:4.
4- الوسائل 8/272:5، ب 52 أحكام المساجد، الكافى 5/526:4.
5- الوسائل 2/279:5، ب 57 أحكام المساجد، الكافي 11/556:4.
6- الوسائل 3/279:5، ب 57 أحكام المساجد، الكافي 12/556:4.
7- الوسائل 4/280:5، ب 57 أحكام المساجد، الكافي 10/556:4.
8- الوسائل 3/252:5، ب 44 أحكام المساجد، الكافي 1/490:3.
9- الوسائل 25/260:5، ب 44 أحكام المساجد، كامل الزيارات: 31.

و رواية المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «صلاة في مسجد الكوفة تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد»(1).

و في مرسلة مصباح الزائر قال: «روي أنّ الفريضة في مسجد الكوفة بألف فريضة... الخ»(2).

و رواية السكوني عن جعفر عليه السّلام عن أبيه عن عليّ عليه السّلام قال: «صلاة في بيت المقدس تعدل ألف صلاة، و صلاة في المسجد الأعظم مائة صلاة، و صلاة في مسجد القبيلة خمس و عشرون صلاة، و صلاة في مسجد السوق اثنتا عشر صلاة، و صلاة الرجل في بيته وحده صلاة واحدة»(3) و رواه الصدوق، و نحوه روى عن ثواب(4) الأعمال بإسناده عن محمّد بن حسّان، و نحوه أيضا عن محاسن(5) البرقي عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليه السّلام و نحوه عن نهاية الشيخ(6) عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و ينبغي التنبيه على امور(7):

أحدها: أنّ في النصوص معارضات للروايات الدالّة على تفاوت المسجد الحرام و مسجد الرسول في الفضل، و أنّ الأوّل أفضل، و من ذلك رواية [الحسن بن] عليّ الوشّاء عن الرضا عليه السّلام قال: «سألته عن الصلاة في المسجد الحرام و الصلاة في مسجد الرسول في الفضل سواء؟ قال: نعم و الصلاة فيما بينهما تعدل ألف صلاة»(8).

و من ذلك أيضا صحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

الصلاة في مسجدي كألف في غيره إلاّ المسجد الحرام، فإنّ الصلاة فيه تعدل ألف صلاة في مسجدي»(9) و هذا يقضي بأنّ الصلاة في المسجد الحرام تعادل ألف ألف صلاة في غيره، فينافي ما تقدّم من الروايات القاضية بأنّ الصلاة في المسجد الحرام تعادل مائة ألف صلاة في غيره، و فيها منافاة اخرى للروايات القاضية بكون صلاة في مسجد النبيّ بعشرة آلاف

ص: 762


1- الوسائل 19/258:5، ب 44 أحكام المساجد، ثواب الأعمال: 3/51.
2- الوسائل 27/260:5، ب 44 أحكام المساجد، مصباح الزائر: 35.
3- الوسائل 2/289:5، ب 64 أحكام المساجد، التهذيب 698/253:3.
4- ثواب الأعمال: 51.
5- المحاسن: 55 و 57.
6- النهاية: 108.
7- لم يذكر إلاّ أمرا واحدا.
8- الوسائل 1/288:5، ب 63 أحكام المساجد، التهذيب 686/250:3.
9- الوسائل 6/280:5، ب 57 أحكام المساجد، التهذيب 30/14:6.

صلاة في غيره.

و من ذلك أيضا صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و في آخرها قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة في غيره، إلاّ المسجد الحرام فهو أفضل»(1).

و من ذلك رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السّلام في فضل مسجد الكوفة «فإنّ الصلاة فيه تعدل سبعين صلاة في غيره»(2).

و من ذلك أيضا ما روي عن مجالس الشيخ بإسناده عن أبي ذرّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في وصيّته له قال: «يا أبا ذرّ صلاة في مسجدي هذا تعدل مائة ألف صلاة في غيره من المساجد إلاّ المسجد الحرام، و صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره»(3) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و الأجود من طرق دفع الجميع رميها بالشذوذ و عدم مقاومتها لمعارضة ما مرّ من وجوه شتّى، و من الأصحاب من رام الجمع بينها و بين ما مرّ كالشهيد الثاني في الروض(4) على ما حكي و صاحب الذخيرة(5) و الخوانساري في حاشية الروضة(6) فارتكبوا تكلّفات باردة و حملوها على محامل بعيدة لا يقبلها الطبع، فلا جدوى في التعرّض لذكرها، و من يطلبها يراجع مظانّها، و اللّه العالم بحقائق الامور.

البحث السادس: ممّا يتعلّق بمكان المصلّي فيما يجوز أن يسجد عليه في الصلاة و ما لا يجوز، و فيه مسائل:

المسألة الاولى: يشترط في مسجد الجبهة - و هو القدر الّذي يعتبر وضع الجبهة عليه في سجود الصلاة لا موضع جميع الجبهة - أن يكون من الأرض أو ممّا ينبت منها، و لا يجوز السجود على غيرهما، و لا يصحّ الصلاة معه أيضا اختيارا بالإجماع الضروري محصّلة و المتواترة منقولة، بل هو من ضروريّات دين الإماميّة كما أومأ إليه الصدوق في أماليه(7) ناسبا له على ما حكي إلى دين الإماميّة. و المخالف في ذلك المخالفون(8) فأجازوا

ص: 763


1- الوسائل 1/279:5، ب 57 أحكام المساجد، الكافي 8/555:4.
2- الوسائل 23/259:5، ب 44 أحكام المساجد، كامل الزيارات: 13/31.
3- الوسائل 10/272:5، ب 52 أحكام المساجد، أمالي الطوسي 141:2.
4- الروض 617:2-622.
5- الذخيرة: 247-248.
6- حاشية الروضة: 209.
7- أمالي الصدوق: المجلس الثالث و التسعون: 510-512.
8- المغني 593:1، المجموع 425:3، المحلّى 83:4، شرح فتح القدير 265:1.

السجود على القطن و الكتّان و الصوف و الشعر و غيرهما من مأكول و ملبوس.

و الأصل في الحكم - بعد ما عرفت - النصوص المستفيضة القريبة من التواتر بل المتواترة في الحقيقة:

ففي صحيح هشام بن الحكم «أنّه قال لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخبرني عمّا يجوز السجود عليه و عمّا لا يجوز؟ قال: السجود لا يجوز إلاّ على الأرض، أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما اكل أو لبس، فقال له: جعلت فداك ما العلّة في ذلك ؟ قال: لأنّ السجود خضوع للّه عزّ و جلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل و يلبس، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون و يلبسون، و الساجد في سجوده في عبادة اللّه عزّ و جلّ ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الّذين اغترّوا بغرورها»(1).

و صحيح حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه قال: السجود على ما أنبتت الأرض إلاّ ما اكل أو لبس»(2).

و صحيح أبي العبّاس بن الفضل قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا يسجد إلاّ على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلاّ القطن و الكتّان»(3).

و صحيح فضيل بن يسار و بريد بن معاوية جميعا عن أحدهما عليهما السّلام قال: «لا بأس بالقيام على المصلّى من الشعر و الصوف إذا كان يسجد على الأرض، و إن كان من نبات الأرض فلا بأس بالقيام عليه و السجود عليه»(4).

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت له: أسجد على الزفت يعني القير؟ فقال:

لا، و لا على الثوب الكرسف، و لا على الصوف و لا على شيء من الحيوان، و لا على طعام و لا على شيء من ثمار الأرض، و لا على شيء من الرياش»(5).

و خبر الأعمش عن جعفر بن محمّد عليه السّلام في حديث شرائع الدين قال: «لا يسجد إلاّ على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلاّ المأكول و القطن و الكتّان»(6) إلى غير ذلك ممّا يظهر بالتتبّع.

ص: 764


1- الوسائل 1/343:5، ب 1 ما يسجد عليه، الفقيه 840/177:1.
2- الوسائل 2/344:5، ب 1 ما يسجد عليه، الفقيه 826/174:1.
3- الوسائل 6/344:5، ب 1 ما يسجد عليه، التهذيب 1225/303:2.
4- الوسائل 5/344:5، ب 1 ما يسجد عليه، التهذيب 1236/305:2.
5- الوسائل 1/346:5، ب 2 ما يسجد عليه، التهذيب 1226/303:2.
6- الوسائل 3/344:5، ب 1 ما يسجد عليه، الخصال: 9/604.

و المستفاد من الأدلّة المذكورة من الإجماعات و الروايات شرطيّة الأرض و النابت منها في الجملة للسجود، فكلّ ما ليس بأرض و لا النابت منها لا يصحّ السجود عليه في الجملة، و يندرج فيه أجزاء الحيوان من لحمه و عظمه و شعره و صوفه و غير ذلك. فلا يصحّ السجود على شيء من ذلك فتوى و نصّا.

و كذا لا يصحّ السجود على المعادن على ما هو المصرّح به في كلامهم من غير نقل خلاف في ذلك، بل الظاهر أنّه محلّ وفاق إلاّ في القير الّذي اختلف فيه الروايات حسبما تعرفه.

و لو اشتبه شيء بين المعدن و غيره - كما في المغرّة(1) و طين الغسل و حجارة الرحى و الجصّ و النورة قبل طبخهما لوقوع الخلاف في معدنيّتها - فقد نصّ جماعة(2) في باب التيمّم بكونها أرضا، و عن جماعة(3) النصّ بكونها من المعدن، و ظاهر المحكيّ عن المفاتيح(4) التوقّف، لاستشكاله في جواز السجود عليها تعليلا بالشكّ في إطلاق اسم المعدن عليها. فالظاهر أنّه لا أصل يعوّل عليه في إلحاقه بأحدهما، إلاّ ما توهّم من قاعدة الإلحاق باعتبار غلبة غير المعدن، و يزيّفه: أنّها على تقدير إفادتها ظنّ اللحوق ظنّ في الموضوع و لا عبرة به.

و قد يتمسّك للحكم بعدم المعدنيّة بالاستصحاب و أصل العدم في كثير منها، كما في مفتاح الكرامة «قال: فما علمنا معدنيّته فذاك و ما شككنا فيه فالأصل عدمه»(5).

و هذا إنّما يتمّ فيما علم حالة سابقة و كانت حالته السابقة عدم المعدنيّة، و محلّ البحث كالأمثلة المذكورة و نظائرها ليس من هذا القبيل، و بدون إحراز سبق عدم المعدنيّة يستحيل أصل العدم - بمعنى استصحاب عدم المعدنيّة - كما هو واضح. و إجراء الاستصحاب في نحو ذلك كما صنعه رحمه اللّه من مفاسد عدم الخوض في مسائل الاصول. اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّها بحسب أصل الخلقة كانت من أجزاء الأرض، و قد خرجت من الأرضيّة إلى المعدنيّة بالاستحالة كما ادّعي على ما ستعرفه.

ص: 765


1- المغرّة: الطين الأحمر الّذي يصبغ به» مجمع البحرين 484:3).
2- كما في الدروس 130:1، جامع المقاصد 481:1، مجمع البرهان 220:1، المقنعة: 59، المبسوط 32:1.
3- كما في الدروس 260:1، الروضة البهيّة 66:2، الحدائق 12، 328.
4- المفاتيح 223:1.
5- مفتاح الكرامة 347:6.

و هل يلحق المشتبه من حيث الحكم بغير المعدن، فيكون الأصل الحكمي جواز السجود على كلّ جسم ممّا عدى المأكول و الملبوس إلاّ ما علم معدنيّته، أو عدم جواز السجود عليه إلاّ ما علم عدم معدنيّته وجهان: من أنّ المعدن بحسب ذاته و حقيقته من جنس الأرض على معنى أنّه أرض حصل فيه جهة المعدنيّة و هي جهة مانعة من السجود عليه، و من أنّه نوع مباين لنوع الأرض فعدم جواز السجود عليه إنّما هو لانتفاء الشرط و هو الأرضيّة على ما استفيد من الأدلّة المتقدّمة.

و الظاهر أنّ فيه خلافا بين الأصحاب كما هو أحد وجهي اختلاف تعريفاتهم للمعدن، فإنّ منهم من عرّفه بكلّ ما اخرج من الأرض ممّا يخلق فيها ممّا له قيمة كما عن التذكرة(1)و المنتهى(2) و التحرير(3) تبعا لنهاية ابن الأثير(4) و في معناه ما عن المعتبر من تعريفه بما استخرج من الأرض ممّا كان فيها(5).

و منهم من عرّفه بكلّ أرض فيها خصوصيّة يعظم الانتفاع بها كما عن البيان(6) و تعليق النافع.

لاخفاء في اختلاف مؤدّى التعريفين على وجه يظهر منه الخلاف بين الأصحاب في مسمّى المعدن، و يمكن تقرير هذا الخلاف بأحد الوجهين:

الأوّل أن يقال: إنّهم بعد ما اتّفقوا على أنّ النتيجة المستخرجة من الأرض ليست أرضا اختلفوا في كون مسمّى المعدن هو النتيجة المستخرجة من الأرض، أو الأرض الّتي يستخرج منها النتيجة، فأوّل التعريفين و ما بمعناه ناظر إلى الأوّل، و ثانيهما ناظر إلى الثاني، و كون المعدن بحسب الصيغة من أسماء المكان كمجلس و مسجد يعضد هذا القول، و يشهد له في الجملة ما عن القاموس(7) من تعريفه «بأنّه منبت الجواهر من ذهب و نحوه».

الثاني أن يقال: إنّهم بعد ما اتّفقوا على كون المعدن اسما للنتيجة اختلفوا في كون المعدن شيئا مباينا للأرض و إن خرج من الأرض، أو أنّه من نوع الأرض، فأوّل التعريفين ناظر إلى الأوّل، و ثانيهما إلى الثاني.

و ربّما يظهر اختياره من المحقّق في الشرائع حيث قال: «و لا على ما هو من الأرض إذا

ص: 766


1- التذكرة 409:5.
2- المنتهى 544:1 فيما يجب فيه الخمس.
3- التحرير 217:1.
4- نهاية ابن الأثير 192:3 (عدن).
5- المعتبر 619:2.
6- البيان: 214.
7- القاموس المحيط 247:4 (عدن).

كان معدنا كالملح و العقيق و الذهب و الفضّة و القير إلاّ عند الضرورة، بعد ما قال: لا يجوز السجود على ما ليس بأرض كالجلود و الصوف و الشعر»(1).

و وجه الظهور أنّه لو لم يكن المعدن عنده من الأرض لأستغنى قوله «لا يجوز السجود على ما ليس بأرض» عن ذكر قوله «و لا على ما هو من الأرض إذا كان معدنا».

و يظهر فائدة الفرق بين الاعتبارين في أنّ منع السجود على المعادن على الأوّل لا يحتاج إلى أزيد من الأدلّة المتقدّمة الدالّة على عدم جواز السجود على ما ليس بأرض، و إن استلزم أحد قوليه كون إطلاق المعدن على النتيجة مجازا، و كذلك على الثاني على أحد قوليه. و أمّا على قوله الآخر و هو «أرضيّة المعدن» فلا بدّ في إثبات المنع من إقامة دليل آخر عليه يفيد مانعيّة المعدنيّة بعد إحراز الأرضيّة. و ينهض ذلك الدليل مخصّصا لما تقدّم من الإجماعات الدالّة بإطلاق معاقدها، و النصوص المطلقة الدالّة على جواز السجود على كلّ ما يصدق عليه الأرض.

و لا ينافي ذلك ما في كلام جماعة(2) في باب التيمّم من تعليل منع التيمّم بالمعدن، و هنا من تعليل منع السجود عليه بخروجه عن مسمّى الأرض و عدم إطلاق الأرض عليه، لجواز ابتنائه منهم على اختيار القول الأوّل من هذا الوجه.

و من ثمرات المانعيّة المستفادة من الدليل الخارج، كون المتّجه في الموارد المشتبهة كالأمثلة المتقدّمة جواز السجود عليها، لعدم كون المانع و هو المعدنيّة محرزا فيها.

لا يقال: إنّ المانع ما كان عدمه قيدا للمأمور به، و لا بدّ من كون هذا القيد العدمي في الموارد المشتبهة محرزا و لا بدّ لإحرازه من مستند، و لا يكفي فيه مجرّد عدم العلم بوجود المانع و لا مستند لإحرازه إلاّ الأصل، و لقد تقدّم منع وجود أصل يعوّل عليه في الحكم بعدم المعدنيّة. و قضيّة ذلك عدم جواز السجود على المشتبه عملا بقاعدة الشغل المستدعية ليقين البراءة الموقوف على السجود على ما علم عدم معدنيّته، و لعلّه عليه مبنيّ ما تقدّم عن صاحب المفاتيح(3) من استشكاله في الموارد المشتبهة المؤذن بتوقّفه في السجود عليها، تعليلا بالشكّ في إطلاق المعدن عليها.

ص: 767


1- الشرائع 73:1.
2- كما في المقنعة: 8، الخلاف 134:1 المسألة 77، الكافي في الفقه: 136، المعتبر: 102، التذكرة 2: 174، المنتهى 141:1، المدارك 200:2.
3- المفاتيح 223:1.

لأنّا نقول: هذا إنّما يتوجّه على القول بخروج المعدن عن مسمّى الأرض مع الاعتراف بمانعيّة المعدنيّة، و أمّا على القول بمانعيّة المعدن مع كونه من مسمّى الأرض فالأصل اللفظي المحرز للقيد العدمي في الموارد المشتبهة موجود، و هو أصالة عدم التخصيص بالقياس إلى الأدلّة المجوّزة للسجود على الأرض، فإنّ الأرضيّة في الموارد المشتبهة محرزة و المعدنيّة غير محرزة فيشكّ في خروجها من عموم الأدلّة المجوّزة للسجود على الأرض بالتخصيص و الأصل عدمه.

نظير أصالة عدم التخصيص في الفرد المشتبه بين كونه مندرجا في المخصّص و باقيا تحت العامّ ، كما في زيد العالم المشكوك في كونه فاسقا في مسألة الأمر بإكرام العلماء و إخراج الفسّاق منه، فيحكم بوجوب إكرام زيد أيضا للشكّ في خروجه بالتخصيص و الأصل عدمه فليتأمّل هذا.

و لكنّ الإنصاف أنّ الوجه الثاني في غاية الضعف، إذ لم أقف على قائل بكون المعدن بمعنى النتيجة نوعا من الأرض، و لم نجد نقل القول بذلك في كلام أحد، و مع ذلك فلم يشهد به نصّ لغوي و لا شاهد عرفي.

نعم ربّما يتوهّم ممّا شاع من إطلاق الحجر على جملة من الجواهر كالعقيق و الفيروزج و نحو ذلك، بتقريب أنّ الحجر نوع من الأرض و إطلاقه على المعدن يعطي كونه من الأرض.

و فيه أوّلا: عدم كون هذا الإطلاق مطّردا في جميع المعادن.

و ثانيا: منع الملازمة بين إطلاق الحجر عليه في الجملة و كونه من مسمّى الأرض، إلاّ على تقدير كون الحجر أخصّ مطلقا من الأرض، و هو قابل للمنع بسند نسبة العموم من وجه فيفترقان في التراب و المعدن مثلا.

و ثالثا: منع قضاء الإطلاق بالوضع فإن لم ندّع كونه مجازيّا، لوجود بعض خواصّ المجاز فلا أقلّ من منع دلالته على الحقيقة لكونه أعمّ . و يرشد إلى العدم عدم وجود نصّ بدخوله في مسمّى الأرض في عبائر الأصحاب ممّا وقفنا عليه، بل الموجود فيها خلافه فإنّها بين صريحة و ظاهره في خروجه عن مسمّاها.

و من الصريحة ما سمعت عن جماعة من تعليل منع التيمّم و منع السجود في بابيهما بعدم

ص: 768

إطلاق الأرض عليه، و منه أيضا ما في كلام الفاضلين في المعتبر(1) و التذكرة(2) و المنتهى(3)و القواعد(4) و غيرها(5) و الشهيدين في الذكرى(6) و الروضة(7) و غيرهما(8) ممّن تأخّر عنهم من التصريح بخروجه من الأرض بالاستحالة، فإنّها تقضي بكون المعادن كلّها من الأرض بحسب الأصل إلاّ أنّها استحالت بالقدرة الكاملة القديمة من الأرضيّة إلى حقائق اخر استحالة مخرجة لها عن اسم الأرض نحو استحالة الكلب بالملح، و استحالة العذرة ترابا و الميتة دودا و نحو ذلك.

و عليه فما سمعت من عبارة الشرائع من قوله «و لا ما هو من الأرض إذا كان معدنا» ينزّل على هذا المعنى، بجعل كلمة من نشويّة، و الشرط لإخراج النبات فإنّه أيضا ينشأ من الأرض و يصحّ السجود عليه.

و في بعض الروايات ما يدلّ عليه أيضا في الجملة كمرسلة محمّد بن الحسين أنّ بعض أصحابنا كتب إلى أبي الحسن الماضي عليه السّلام يسأله عن الصلاة على الزجاج قال: «فلمّا نفذ كتابي إليه تفكّرت و قلت: هو ممّا أنبتت الأرض و ما كان لي أن أسأل عنه ؟ قال: فكتب إليّ :

لا تصلّ على الزجاج و إن حدّثتك نفسك أنّه ممّا أنبتت الأرض، و لكنّه من الملح و الرمل و هما ممسوخان...»(9) الحديث، و المسخ تحويل صورة إلى صورة اخرى.

فالخلاف المستفاد من اختلاف التعريفات منزّل على الوجه الأوّل أعني الخلاف في كون المعدن هو نفس النتيجة أو الأرض الّذي يتّخذ منها النتيجة، كما فهمه أيضا بعض مشايخنا(10) و عليه فيكفينا في دليل منع السجود على المعادن مطلقا الأدلّة الدالّة على انحصار ما يجوز السجود عليه في الأرض و نباتها. و يدلّ عليه في الجملة ما ورد من الروايات في خصوص بعض المعادن، كخبر الزجاج المتقدّم، و خبر يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تسجد على الذهب و لا على الفضّة»(11).

ص: 769


1- المعتبر 375:1.
2- التذكرة 174:2.
3- المنتهى 353:4.
4- القواعد 237:1.
5- الوسيلة: 91، مجمع البرهان 127:2، السرائر 268:1.
6- الذكرى 139:3.
7- الروضة البهيّة 557:1.
8- روض الجنان 593:2، المدارك 244:3، الرياض 39:3، المسالك 177:1.
9- الوسائل 1/390:5، ب 12 ما يسجد عليه، الكافي 14/332:3.
10- الجواهر 683:8.
11- الوسائل 2/361:5، ب 12 ما يسجد عليه، التهذيب 1229/304:2.

و قد تقدّم في حسنة زرارة بل صحيحه عن أبي جعفر عليه السّلام قال له: «أسجد على الزفت يعني القير؟ فقال: لا... الخ»(1).

و خبر عمرو بن سعيد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «لا تسجد على القير و لا على القفر و لا على الساروج»(2).

و رواية صالح بن الحكم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في السفينة... إلى أن قال: فقلت له: آخذ معي مدرة أسجد عليها؟ فقال: نعم»(3).

و مقتضى هذه المنع بالخصوص من السجود على القير و هو المعروف من مذهب الأصحاب.

و عن البحار(4) أنّ المنع في القير هو المشهور بل لا يظهر مخالف، و أنّ العامّة متّفقون على الجواز، و في المدارك(5) نسب إلى الأصحاب القطع بعدم جواز السجود عليه.

إلاّ أنّ في مقابلة الروايات المذكورة روايات اخر صريحة الدلالة على الجواز، كصحيحة معاوية بن عمّار قال: «سأل المعلّى بن خنيس أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن السجود على القفر و على القير، فقال: لا بأس به»(6) و صحيحه الآخر أيضا «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة على القار؟ فقال: لا بأس به»(7) و صحيحه الآخر أيضا قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في السفينة ؟ فقال: تستقبل القبلة بوجهك و ساق الحديث إلى أن قال: و يصلّي على القفر و القير و يسجد عليه»(8). و رواية إبراهيم بن ميمون أنّه قال لأبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث: «تسجد على ما في السفينة و على القير؟ قال: لا بأس»(9).

و هذه الروايات مع صحّة أسانيد أكثرها موهونة بإعراض الأصحاب عن العمل بها،

ص: 770


1- الوسائل 1/346:5، ب 2 ما يسجد عليه، الكافى 2/330:3.
2- الوسائل 1/353:5، ب 6 ما يسجد عليه، التهذيب 1228/304:2.
3- الوسائل 2/354:5، ب 6 ما يسجد عليه، التهذيب 897/296:2.
4- البحار 156:85.
5- في المدارك نسبة القطع إلى الأصحاب بجواز السجود على الخزف و أمّا بالنسبة إلى القير قال: «و اختلفت الرواية في جواز السجود على القير...». المدارك 243:3، 244.
6- الوسائل 4/354:5، ب 6 يسجد عليه، التهذيب 1224/303:2.
7- الوسائل 5/354:5، ب 6 يسجد عليه، الفقيه 832/176:1.
8- الوسائل 6/354:5، ب 6 يسجد عليه، التهذيب 895/295:2.
9- الوسائل 7/355:5، ب 6 يسجد عليه، الفقيه 1324/291:1.

فلا تقاوم لمعارضة ما مرّ حتّى مطلقات المنع من السجود على غير الأرض.

و قد يجمع بحملها على الضرورة أو التقيّة، و نسبه في المنتهى(1) إلى الأصحاب. و الأوّل و إن كان بعيدا من سوق أكثرها، إلاّ أنّ الثاني ليس بذلك البعيد، لما عرفت من اتّفاق العامّة على الجواز. كما أنّ الأوّل أيضا في ثالث صحاح ابن عمّار و ما بعدها قريب.

و قد يحتمل الجمع أيضا كما في الذخيرة(2) تبعا للمدارك بحمل الأخبار المانعة في القير على الكراهة، فيراد من الأخبار المجوّزة الرخصة في ضمن الكراهة، و لزم منه تطرّق التخصيص إلى العمومات الحاصرة لما يجوز السجود عليه في الأرض و ما ينبت فيها. و هو في غاية البعد.

و الحمل على التقيّة مطلقا أو الضرورة في الجملة، كما استقربناه أولى.

فقد ظهر من تضاعيف كلماتنا أنّ كلّما خرج من مسمّى الأرض أو نباتها بالاستحالة لم يجز السجود عليه، و ينعكس بأنّه كلّما لم يخرج من مسمّى الأرض و نباتها جاز السجود عليه، و يتفرّع على الأوّل عدم جواز السجود على الرماد بل و على الفحم أيضا لتحقّق الاستحالة المخرجة عن الاسم فيهما. و لذا قوّينا في باب الاستحالة طهر المتنجّس بصيرورته فحما.

و هل يجوز السجود على الخزف المخرج من مسمّى التراب أو الطين بالطبخ ؟ فيه قولان، و إن ذكر فيه صاحب المدارك «أنّه قد قطع الأصحاب بجواز السجود على الخزف»(3) مؤذنا بدعوى الإجماع، و ربّما أشعر به كلام الفاضلين في المعتبر و التذكرة، حيث إنّ الأوّل في باب التيمّم بعد أن منع من التيمّم عليه استنادا إلى خروجه بالطبخ عن اسم الأرض، قال: «و لا يعارض بجواز السجود لأنّه قد يجوز السجود على ما ليس بأرض كالكاغذ»(4) و استدلّ الثاني «على عدم خروجه بالطبخ عن اسم الأرض بجواز السجود عليه»(5) و هذان الكلامان يشعران بكون جواز السجود عليه أمرا مفروغا عنه متسالما فيه عند الأصحاب. بل عن الروض «أنّه لا نعلم في ذلك مخالفا من الأصحاب» و عنه أيضا أنّه ربّما قيل ببطلان القول بالمنع من السجود عليه، و إن قيل بطهارته لعدم العلم بالقائل من

ص: 771


1- المنتهى 354:4.
2- الذخيرة: 241.
3- المدارك 244:3.
4- المعتبر 375:1.
5- التذكرة 177:2.

الأصحاب فيكون القول بالمنع مخالفا إذ لا يكفي في المصير إلى قول وجود الدليل عليه مع عدم الموافق، و المسألة ممّا تعمّ به البلوى و ليست من الجزئيّات المتجدّدة و لم ينقل عن أحد ممّن سلف القول بالمنع(1) انتهى ما أردنا ذكره.

و يشكل الوثوق بالإجماع من هذه الكلمات، لما في كلام جماعة، منهم: صاحب الحدائق(2) و المحقّق البهبهاني في شرح المفاتيح(3) من أنّ قدماء الأصحاب لم يتعرّضوا لذكر الخزف أصلا لا بتجويز و لا بمنع، و كذلك جماعة من المتأخّرين(4) و مع هذا كيف يعلم منهم الإجماع أو القطع بالجواز.

غاية الأمر أنّهم أطبقوا على ذكر كلّيّتين: إحداهما جواز السجود على ما لم يخرج عن مسمّى الأرض، و الاخرى عدم جوازه على كلّ ما خرج عن مسمّاها، و لا يعلم منهما أنّ بناءهم في الخزف على خروجه بالطبخ عن مسمّاها ليندرج في الكلّيّة الثانية، أو على عدم خروجه ليندرج في الكلّيّة الاولى. و على هذا فدعوى إجماعهم على الجواز أو قطعهم به، بعيدة جدّا، إذ العلم بهما في غاية الإشكال.

و لعلّ الّذي أوقع صاحب المدارك على دعوى القطع ما أشعر به كلام الفاضلين.

و لأجل عدم معلوميّة تحقّق الإجماع على الجواز صار جماعة من متأخّري المتأخّرين إلى المنع من السجود عليه، كالسيّد في الرياض(5) و قبله شيخه المحقّق البهبهاني في شرحه على المفاتيح(6) و قبلهما السبزواري في الذخيرة(7).

و ربّما نسب القول به إلى الشيخ رحمه اللّه(8) حيث جعل من الاستحالة المطهّرة صيرورة التراب خزفا، إذ اللازم من ذلك قوله بالمنع من السجود عليه كما فهمه المحقّق البهبهاني. و فيه نظر واضح، لوضوح الفرق بين الخروج عن مسمّى التراب، و الخروج عن مسمّى الأرض، و الأوّل كاف في الاستحالة المطهّرة، و لا ملازمة بينه و بين الثاني، و الجهة المقتضية لمنع السجود إنّما هو الثاني لا الأوّل فقط مع بقاء صدق الأرض، فلا دلالة في كلام الشيخ على مصيره إلى المنع حيث لا قضاء فيه بالتزامه بالخروج عن مسمّى الأرض أيضا.

ص: 772


1- روض الجنان 594:2.
2- الحدائق 301:4.
3- مصابيح الظلام 32:8.
4- كما في الذخيرة: 241، البيان: 134، الروضة البهيّة 228:1، السرائر 268:1.
5- الرياض 40:3.
6- مصابيح الظلام 32:8.
7- الذخيرة: 241.
8- الخلاف 499:1.

و من ذلك ظهر المناقشة فيما في الروضة(1) من بناء القول بالمنع من السجود عليه على القول بطهره بالطبخ إذا كان قبله نجسا، لمنع الملازمة بعد كفاية الخروج عن مسمّى التراب أو الطين في الطهر لكونه نحوا من الاستحالة بين طهره بالاستحالة و منع السجود عليه، لابتناء المنع على الخروج عن مسمّى الأرض لا مجرّد الخروج عن مسمّى التراب، و لا ملازمة بين المقامين.

و كيف كان فالعمدة هو النظر في أدلّة المانعين، و هي على ما يتظاهر من تضاعيف كلماتهم لا تخلو عن امور:

منها: خروجه بالطبخ عن مسمّى الأرض و عدم صدقها عليه كما في الذخيرة(2) و تبعه في الرياض(3).

و يزيّفه: أنّ ميزان إحراز عدم صدق اسم الأرض عليه و خروجه عن مسمّاها صحّة سلب الاسم عنه، و لو لم ندّع العلم بعدم الصحّة فلا أقلّ من منع العلم بالصحّة.

و منها: ما في الرياض من قوله «إمّا لعدم صدق الأرض عليه، أو للشكّ فإنّه كاف في المنع لتعارض استصحاب بقاء الأرضيّة مع استصحاب بقاء شغل الذمّة فيتساقطان، فتبقى الأوامر عن المعارض سليمة» انتهى(4).

و في دعوى عدم الصدق ما عرفت. و في جعل استصحاب بقاء الأرضيّة معارضا باستصحاب شغل الذمّة ما لا يخفى من الخطأ، لما في استصحاب شغل الذمّة من الخدشة الّتي أوردناها في تحقيقاتنا الاصوليّة. فالمقام من موارد التمسّك بقاعدة الشغل لا استصحابه، و هي لا تعارض استصحاب بقاء الأرضيّة، لكونه بالقياس إليها أصلا موضوعيّا واردا عليها رافعا لموضوعها و هو الشكّ . و لو صحّحنا استصحاب الشغل فهو أيضا لا يعارض استصحاب بقاء الأرضيّة، لورود ما شكّه السببي على الشكّ المسبّبي حسبما قرّر في الاصول. فالتعارض المؤدّي إلى التساقط بينهما غير معقول.

نعم يبقى الكلام في صحّة الأصل المذكور، و الظاهر أنّه لا حجر منها، تعويلا على الحالة السابقة و هي الأرضيّة المشكوك في زوالها بالطبخ كما هو المفروض.

و توهّم: تبدّل الموضوع من كونه بعد الطبخ يسمّى خزفا، يندفع بأنّه تبدّل من الترابيّة

ص: 773


1- الروضة البهيّة 227:1.
2- الذخيرة: 241.
3- الرياض 40:3.
4- الرياض 40:3.

لا من الأرضيّة، و مع ذلك فحدوث اسم آخر بواسطة عروض حالة الطبخ لا ينافي بقاء اسم الأرض في الواقع، غاية الأمر كونه في نظرنا مشكوكا، و هذا يصحّح الاستصحاب لا أنّه يفسده.

و توهّم: أنّ الاستصحاب المذكور لا يحرز له إطلاق اسم الأرض فلا يندرج به في أدلّة جواز السجود القاضية بالجواز على ما يطلق عليه اسم الأرض بحسب العرف. يندفع بأنّ مقتضى الأدلّة اشتراط أرضيّة ما يسجد عليه، فلا بدّ من إحرازها بطريق علمي أو شرعي تعبّدي قائم مقامه، فهذا بمقتضى التعبّد بالاستصحاب في مجاريه أرض شرعي و إن لم يكن صدق الأرض عليه بحسب العرف معلوما على فرض تسليم الشكّ في ذلك، نظير ما لو احرز مائيّة الشيء بالاستصحاب فيكون المورد حينئذ ماء شرعيّا، و معنى كون ما احرز أرضيّته أو مائيّته بالاستصحاب أرضا شرعيّا أو ماء شرعيّا أنّ الشارع بمقتضى أدلّة التعبّد بالاستصحاب نزّل المشكوك في بقاء أرضيّته أو مائيّته بعد سبق اليقين بهما منزلة الأرض و الماء الواقعيّين، و رتّب عليهما جميع الآثار الشرعيّة المترتّبة عليهما حال اليقين بالأرضيّة و المائيّة الّتي منها، جواز السجود على الأوّل و التطهّر بالثاني.

و منها: ما يستفاد من تضاعيف كلمات المحقّق البهبهاني من أنّ الخزف على تقدير عدم خروجه عن حقيقة الأرض و مسمّاها اللغوي لا يتبادر من إطلاقها في الروايات، و مرجعه إلى دعوى انصراف مطلقات الروايات إلى غيره، فلا يثبت له الحكم المعلّق فيها على الأرض، و هو جواز السجود.

و فيه - بعد النقض بأنّه لو اعتبر هذا الانصراف لقضى بمنع السجود على التربة المفصولة من الأرض و على الحجر المتّخذ منه أيضا، و نحو ذلك ممّا خرج عن سطح الجسم الكرويّ لانصراف إطلاق الأرض إلى غير هذه الامور بل إلى السطح بالخصوص و أنّه ضروريّ البطلان -: أنّ هذا الانصراف في بعض التراكيب الكلاميّة ممّا لا عبرة به، و منها نحو قوله عليه السّلام «لا يجوز السجود إلاّ على الأرض...»(1) الخ على أنّ الظاهر المنساق في متفاهم العرف من نحو هذا التركيب إرادة السجود على ما هو من جنس الأرض، و هذا هو الوجه في تصحيح السجود على التربة المفصولة و غيرها ممّا ذكرناه. و هذا المعنى على تقدير بقاء

ص: 774


1- الوسائل 1/343:5، ب 1 أبواب ما يسجد عليه، التهذيب 925/234:2.

الخزف على حقيقة الأرض و عدم خروجه عن جنسه صادق بالنسبة إليه أيضا، فإنّه على هذا التقدير من جنس الأرض أيضا، فليتأمّل فيه فإنّه دقيق.

فالعمدة في المقام إثبات عدم خروجه عن حقيقة الأرض، و هذا هو الأقوى الأظهر، إذ لم يطرأ الأرض فيه إلاّ حالة طبخ، و هي على ما علم بملاحظة النظائر لا تخرج الشيء المطبوخ عن حقيقته الاولى كما في اللحم و الحنطة و اليقطين و غيرهما من الحبوبات و الفواكه و غيرها.

فمنشأ خروجه عن حقيقة الأرض إن كان هو الطبخ فهو ليس مخرجا للشيء عن حقيقته الأصليّة في شيء من موارده، و إن كان تماسك أجزائه و شدّة تلاصقها فأجزاء الحجر أشدّ تماسكا و أوضح تلاصقا.

و ظنّي أنّ الّذي يوهم كونه مخرجا له عن مسمّى الأرض حدوث اسم خاصّ له بعد الطبخ، و هو الخزف و غلبة إطلاق هذا الاسم الخاصّ عليه في الاستعمالات بحيث صار اسمه العامّ - و هو الأرض - لندرة وقوعه عليه كالمهجور، فيظنّ أنّه من جهة الخروج عن حقيقة مسمّى الاسم العامّ . و على قياسه الكلام في الآجر.

و ممّا يؤيّد ما ذكرناه من عدم تأثير الطبخ في خروج المطبوخ عن حقيقته الاولى عدّهم الخبز في باب الرباء مع الحنطة من جنس واحد، و الأولى بعدم الخروج بالطبخ الآجر و التراب المشويّ و الأرض المشويّة.

فما عن صاحب المعالم في رسالة له: من أنّ الخزف ليس من الأرض، و أنّ التربة المشويّة من أصناف الخزف(1) ليس على ما ينبغي. و لعلّه زعم ذلك في أوّل أمره ثمّ اتّفق له العدول، و لعلّه لذا ما عن تلميذه الشيخ نجيب الدين من أنّه قال: «إنّ الاستاد بعد تصنيف الرسالة لم يمنع من السجود على التربة المشويّة»(2) مثل ما عن المحقّق الثاني من أنّه صنّف رسالة(3) في جواز السجود عليها.

فالأصحّ جواز السجود عليه وفاقا لجماعة منهم: الفاضلان(4) و الشهيدان(5) و إن كان الأخيران جوّزاه على كراهية خروجا(6).

ص: 775


1- الاثنى عشريّة: الفصل الثالث: 3 (مخطوط).
2- نقله عنه في مفتاح الكرامة 344:6.
3- رسائل الكركي 92:2.
4- المعتبر 375:1، التذكرة 177:2.
5- روض الجنان 594:2، الروضة 557:1.
6- كذا في الأصل.

و أولى بالجواز منه الآجر وفاقا لما عن الشيخ في النهاية(1) و المبسوط(2) من التصريح بجوازه على الجصّ و الآجر، و في مفتاح الكرامة(3) «ظاهر الأكثر جواز السجود على الآجر» و عن البحار(4) أنّهم لم ينقلوا فيه خلافا. و عن الشهيد(5) الحكم بالكراهة، و عليها حمل ما عن الفقه الرضوي «لا تسجد على الآجر»(6).

و من طريق البحث ينقدح لك جوازه على الجصّ و النورة و لو بعد الطبخ لعين ما عرفت من منع نهوض الطبخ مخرجا للمطبوخ عن حقيقته الاولى، وفاقا للشيخ(7) في الجصّ ، و العلاّمة في التذكرة(8) فيه و في النورة.

و يؤيّده بل يدلّ عليه في النورة صحيح الحسن بن المحبوب «سأل أبا الحسن عليه السّلام عن الجصّ يوقد عليه بالعذرة و عظام الموتى ثمّ يجصّص به المسجد، أ يسجد عليه ؟ فكتب إليه بخطّه أنّ الماء و النار قد طهّراه»(9).

و وجه دلالته أنّه يكشف عن اعتقادات السائل لجواز السجود على الجصّ لذاته، و إنّما دعاه إلى السؤال شبهة النجاسة من جهة مباشرة العذرة و عظام الموتى، فتكون الجهة المانعة عن السجود في نظره هي النجاسة لا غير، و قد قرّره الإمام عليه السّلام على معتقده هذا، و جاوبه بما دفع شبهة النجاسة من مطهّرية الماء و النار، و إن كان حقيقة المراد من هذا الجواب لا تخلو عن إجمال و إبهام، لأنّ مطهّريّة الماء و النار له على فرض تنجّسه بمباشرة نجس العين كما ترى، إلاّ أن يؤوّل بالنسبة إلى النار بحمله على طهر ما يمتزج بالجصّ من الأجزاء الرماديّة الحاصلة من نجس العين بإحالته النار المطهّرة لها.

ثمّ إنّا و إن قوّينا القول بجواز السجود على الخزف و الآجر و الجصّ و النورة و الأرض المشويّة، إلاّ أنّ الأحوط ترك السجود عليها مع إمكان غيرها خروجا عن شبهة مخالفة الواقع.

ثمّ قد عرفت سابقا عدم جواز السجود على الرماد و نحوه الفحم، لخروجهما عن مسمّى

ص: 776


1- النهاية: 102.
2- المبسوط 89:1.
3- مفتاح الكرامة 344:6.
4- البحار 151:85-152.
5- النفليّة: 105.
6- مستدرك الوسائل 1/10:4، ب 7 ما يسجد عليه، فقه الرضا: 113.
7- المبسوط 89:1.
8- التذكرة 436:2.
9- الوسائل 1/358:5، ب 10، ما يسجد عليه، التهذيب 928/235:2.

الأرض و نباتها. و يلزم من ذلك عدم جواز السجود على الساروج أيضا و هو الرماد الممتزج بالنورة في عرف العجم، و هو الّذي يطّلى به الحياض. و لعلّه المراد ممّا في صحيحة عمرو بن سعيد المتقدّمة في صدر المسألة. و قضيّة جواز السجود على الجصّ و النورة جوازه على الممتزج من التراب و من أحدهما، و الممتزج منهما.

و يجوز على الطين ما لم يبلغ حدّ الوحل، و هو ما خاضت فيه الجبهة و لم يستقرّ على الأرض، فإذا بلغ حدّه لم يجز السجود عليه كما صرّح به جماعة(1) من فحول الطائفة.

و هو المنصوص عليه في رواية عمّار - في الموثّق - عن أبي عبد اللّه «أنّه سأله عن حدّ الطين الّذي لا يسجد عليه ما هو؟ فقال: إذا غرقت الجبهة و لم تثبت على الأرض»(2).

و إذا اضطرّ إلى الوحل بأن لم يجد موضعا جافّا و لا غيره ممّا يسجد عليه يومئ لسجوده على المشهور بين الأصحاب، للحرج و الضرر، و رواية عمّار في الموثّق «أنّه سأله عن الرجل يصيبه المطر و هو لا يقدر أن يسجد فيه من الطين، و لا يجد موضعا جافّا؟ قال:

يفتتح الصلاة فإذا ركع فليركع كما يركع إذا صلّى، فإذا رفع رأسه من الركوع فليومئ بالسجود إيماء و هو قائم»(3).

و قضيّة نصّ الرواية كإطلاق الجماعة(4) عدم وجوب الجلوس في إيماء السجود، و لا تقريب الجبهة إلى الوحل، و لا إلصاقه به إن أمن التلطّخ و هو الأصل.

و منهم(5) من أوجب الجلوس حملا للرواية على من لم يتمكّن من الجلوس، و منهم(6)من أوجب إلصاق الجبهة به مطلقا أو مع أمن التلطّخ، و كلّ ذلك لعموم «الميسور لا يسقط بالمعسور».

و فيه نظر، لخروج هذه الأفعال عن حقيقة الصلاة بل هي من مقدّمات السجود،

ص: 777


1- كما في القواعد 263:1، الدروس 90:1، الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 70، جامع المقاصد 2: 162، المدارك 248:3، الذكرى 144:3.
2- الوسائل 9/143:5، ب 15 ما يسجد عليه، التهذيب 1562/376:2.
3- الوسائل 4/142:5، ب 15 ما يسجد عليه، التهذيب 1266/312:2.
4- كما في القواعد 263:1، الجواهر 709:8.
5- كما في جامع المقاصد 162:2، فوائد الشرائع: 340 (مخطوط)، المدارك 249:3، كشف اللثام 3: 345، المسالك 178:1.
6- كما في نهاية الإحكام 363:1.

فإذا سقط ذو المقدّمة سقط الخطاب بالمقدّمة. فالوجه هو عدم اعتبار شيء من ذلك، نعم الأحوط رعاية الجميع، بل الاحتياط في الجلوس ممّا لا ينبغي تركه. و اللّه العالم بحقائق أحكامه.

المسألة الثانية: قد استثني من نبات الأرض الّذي يسجد عليه المأكول و الملبوس، فلا يجوز السجود عليهما، أمّا المأكول فبالإجماع المنقول عن الخلاف(1) و الغنية(2)و الروض(3) و المقاصد العلية(4) و عن نهاية الإحكام(5) نسبته إلى علمائنا، و عن الأمالي(6)كونه من دين الإماميّة، و هو مع هذا مصرّح به في النصوص المتقدّمة في المسألة الاولى.

و المراد بالمأكول مأكول الآدميّين فلا عبرة بمأكولات الحيوانات من الحشاش و أوراق الأشجار و غيرها، و قيّد كالملبوس في فتوى الأصحاب بالعادة و هو أن يطّرد أكله أو لبسه، و وجهه كونه المتبادر من إطلاق النصوص و معاقد الإجماعات، فلا عبرة بما يؤكل أو يلبس نادرا، و لا بما يؤكل لضرورة المجاعة، أو دواء كالعقاقير المعمولة في الأدوية و المعاجين.

و لو كان للشيء حالتان يؤكل في إحداهما دون الاخرى كقشر اللوز و جمار النخل، ففي كلام جماعة(7) من المتأخّرين و متأخّريهم أنّه لم يجز السجود عليه حال الأكل و جاز في الاخرى.

و فيه نظر، لأنّ نحو ذلك لا يعدّ من مآكل أهل الدنيا، و ضابطه كونه معدّا بحسب الخلقة الإلهيّة للأكل. و إن كان قد يؤكل في إحدى الحالتين بل هو حينئذ مندرج فيما يؤكل نادرا.

و لو اعتيد أكل شيء في قطر دون غيره و في بلد دون آخر فالمصرّح به في كلام جماعة(8) من المتأخّرين و متأخّريهم أيضا أنّه عمّ التحريم فامتنع السجود عليه مطلقا.

و في المدارك(9) و قبله شيخه في مجمع البرهان(10) و قبلهما جدّه في المقاصد العليّة(11)أنّه احتمل قويّا اختصاص كلّ قطر بمقتضى عادته، و استصوبه في مفتاح الكرامة(12)

ص: 778


1- الخلاف 357:1.
2- الغنية: 66.
3- الروض 590:2.
4- المقاصد العليّة: 88.
5- نهاية الإحكام 368:1.
6- أمالي الصدوق: 510 و 512 المجلس الثالث و التسعون.
7- كما في المنتهى 354:4، جامع المقاصد 159:2، المسالك 178:1، الروض 592:2، الروضة البهيّة 556:1، المدارك 245:3.
8- كما في روض الجنان 591:2، جامع المقاصد 159:2، المطالب المظفّريّة: 76، كشف الالتباس: 99، المسالك 177:1، الروضة 556:1، المقاصد العليّة: 186، المدارك 245:3.
9- المدارك 245:3.
10- مجمع البرهان 127:2.
11- المقاصد العليّة: 186.
12- مفتاح الكرامة 334:6.

إذا لم يعلم أهل ذلك القطر بأنّه مأكول عند القطر الآخر ثمّ قال: و لعلّهم لا يختلفون في هذا الفرض.

أقول: هذا حسن لو كانت الأرضيّة أو النباتيّة الغير المأكوليّة و الملبوسيّة فيما يسجد عليه شرطا علميّا كما أنّه شرط اختياري، على معنى اختصاص شرطيّته بحالتي العلم و الاختيار دون الجهل و الاضطرار. و لعلّه الأظهر من كلماتهم، و حينئذ فمع العلم بكونه مأكولا عند القطر الآخر فالمتّجه ما عليه الجماعة من عموم المنع، لعموم ما اكل أو لبس المحمولين على العاديّين و هذا منه.

ثمّ إنّ ظاهر النصّ و الفتوى كما هو المصرّح به في كلام جماعة(1) أنّ المراد ممّا اكل أو لبس ما من شأنه ذلك و إن افتقر بلوغه إلى حدّ الأكل فعلا إلى علاج بل إلى أعمال عديدة، كالحنطة الّتي يفتقر بلوغها حدّ الأكل إلى طحن و عجن و خبز... و هكذا. و قوله عليه السّلام: «انّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون و يلبسون»(2) ظاهر كالصريح في ذلك.

و عليه فلا يجوز السجود على الحنطة و الشعير وفاقا للأكثر، خلافا للمنتهى(3)و التذكرة(4) و التحرير(5) و نهاية الإحكام(6) و الموجز الحاوي(7) فجوّزاه فيهما، و هو ضعيف.

و تعليله في المنتهى «بأنّهما غير مأكولين» و في التذكرة و نهاية الإحكام «بأنّ القشر حاجز بين المأكول و الجبهة» أضعف، لصدق أنّهما ممّا يؤكل عرفا و اندراجهما في عموم «أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون».

و عن الذكرى(8) ردّ ما في التذكرة بجريان العادة بأكلهما غير منخولين خصوصا الحنطة و خصوصا في الصدر الأوّل، و كذلك في المدارك مع زيادة قال: المأكول لا يخرج عن كونه مأكولا بافتقاره إلى العلاج، و لجريان العادة بأكلهما غير منخولين خصوصا الحنطة، على أنّ النخل لا يأتي على جميع الأجزاء لأنّ الأجزاء الصغيرة تنخل مع الدقيق فتؤكل، و لا يقدح أكلها تبعا في كونها مأكولة(9).

ص: 779


1- كما في الروضة 555:1-556، مجمع البرهان 127:2، كشف اللثام 341:3.
2- الوسائل 1/343:5، ب 1 ما يسجد عليه، علل الشرائع: 1/341.
3- المنتهى 354:4.
4- التذكرة 437:2.
5- التحرير 217:1.
6- نهاية الإحكام 362:1.
7- الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 70.
8- الذكرى 153:3.
9- المدارك 245:3.

و نحوه ما عن جامع المقاصد(1) و الروض(2) و غيره(3) قالوا: إنّ كثيرا من المأكولات العادية لا تؤكل إلاّ تبعا. و في جامع المقاصد و غيره ردّ ما في المنتهى بأنّ المأكول لا يخرج عن كونه مأكولا باحتياجه إلى علاج.

و أمّا ما عن الحبل المتين من الاعتراض عليهم في هذا الردّ من «أنّ إطلاق المشتقّ على ما سيتّصف بمبدإ الاشتقاق مجاز اتّفاقا»(4) ففيه: أنّه لا مشتقّ في نصوص الباب، و إنّما هو في كلام الأصحاب و بعض فتاويهم، و الموجود في النصوص «ما اكل أو لبس، و ما يؤكل أو يلبس، و ما يأكلون و يلبسون» و هذه العبارات في نظائر المقام ظاهرة في المنسلخ عن الزمان مطلقا، كالأفعال المأخوذة في التعريفات و القضايا المسوقة لإعطاء القواعد الكلّيّة و الضوابط المطّردة، فيعمّ الكلّ ما يفتقر أكله إلى علاج و ما لا يفتقر.

و أمّا الملبوس فبالإجماع المنقول أيضا عن الانتصار(5) و الخلاف(6) و الغنية(7)و الروض(8) و المقاصد العليّة(9) و عن نهاية الإحكام(10) نسبته إلى علمائنا، و عن الأمالي(11)أنّه من دين الإماميّة، و عن الكفاية فيه و في المأكول بلا خلاف(12) و عن الخلاف(13)و المختلف(14) و البيان(15) الإجماع على المنع من السجود على القطن و الكتّان، و عن الانتصار(16) أيضا الإجماع على المنع من السجود على الثوب المنسوج من أيّ جنس كان، و عن كاشف اللثام(17) كما عن المختلف(18) أيضا أنّه المشهور، و عن كشف الرموز(19)و المنتهى(20) و التحرير(21) و الكفاية(22) أنّه الأشهر بين الأصحاب.

و في مقابله قول السيّد في الموصليّات(23) و المصريّات الثانية(24) على ما حكي من جواز السجود على الثوب المعمول من القطن و الكتّان على كراهية مع موافقته المشهور في

ص: 780


1- جامع المقاصد 160:2.
2- الروض 592:2.
3- كما في المسالك 178:1، المدارك 245:3.
4- الحبل المتين: 168.
5- الانتصار: 38.
6- الخلاف 357:1 المسألة 112.
7- الغنية: 66.
8- الروض 590:2.
9- المقاصد العليّة: 186.
10- نهاية الإحكام 361:1.
11- أمالي الصدوق: 512 المجلس 93.
12- الكفاية: 16.
13- الخلاف 357:1.
14- المختلف 115:2-116.
15- البيان: 66.
16- الانتصار: 38.
17- كشف اللثام 341:3.
18- المختلف 115:2-116.
19- كشف الرموز 147:1.
20- المنتهى 354:4.
21- التحرير 217:1.
22- الكفاية: 16.
23- رسائل الشريف المرتضى 174:1.
24- نقله عنه في المختلف 115:2.

المصباح(1) و الجمل(2) و الانتصار(3) و استحسنه المحقّق في المعتبر(4) تعليلا بالجمع بين الأخبار الناهية و غيرها.

و المعتمد هو القول المشهور المجمع عليه، لما سمعت من الإجماعات، مضافا إلى عموم الروايات و خصوصها، فمن العموم صحيحة هشام بن الحكم و صحيحة حمّاد بن عثمان المتقدّمتان(5) و صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام «أنّه قال: لا بأس بالسجود على الثياب في حال التقيّة»(6). و من الخصوص صحيحة زرارة المتقدّمة «قلت له: أ يسجد على الزفت يعني القير؟ فقال: لا، و لا على الثوب الكرسف»(7) و رواية الفضل بن عبد الملك قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا تسجد إلاّ على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلاّ القطن و الكتّان»(8).

احتجّ السيّد بأنّه لو كان السجود على الثوب المنسوج من القطن و الكتّان محرّما محظورا لجرى في القبح و وجوب إعادة الصلاة و استينافها مجرى السجود على النجاسة، و معلوم أنّ أحدا لا ينتهي إلى ذلك(9).

و فيه: منع الملازمة إن اريد بالقبح القبح العقلي، و بطلان اللازم إن اريد القبح الشرعي، كما أنّه بالنسبة إلى وجوب إعادة الصلاة و استينافها يتوجّه بطلان التالي أيضا.

و استدلّ على مختاره عدّة روايات: مثل ما رواه الشيخ في الصحيح عن داود الصرمي قال: «سألت أبا الحسن الثالث عليه السّلام هل يجوز السجود على القطن و الكتّان من غير تقيّة ؟ فقال: جائز»(10).

و رواية منصور بن حازم عن غير واحد من أصحابه قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّا نكون بأرض باردة فيكون فيها الثلج أ فنسجد عليها؟ فقال: لا، و لكن اجعل بينك و بينه شيئا

ص: 781


1- المصباح، نقله عنه في المعتبر 119:2.
2- جمل العلم و العمل (رسائل الشريف المرتضى 3):29.
3- الانتصار: 38.
4- المعتبر 119:2.
5- تقدّمتا في الصفحة: 758، الرقم 1 و 2.
6- الوسائل 2/349:5، ب 3 ما يسجد عليه، التهذيب 930/235:2.
7- الوسائل 1/346:5، ب 2 ما يسجد عليه، التهذيب 1226/303:2.
8- الوسائل 6/344:5، ب 1 ما يسجد عليه، التهذيب 1225/303:2.
9- نقله عنه في المختلف 117:2، رسائل الشريف المرتضى 174:1.
10- الوسائل 6/348:5، ب 2 ما يسجد عليه، التهذيب 1246/307:2.

قطنا أو كتّانا»(1).

و رواية حسين بن عليّ بن كيسان الصنعاني قال: «كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه السّلام:

أسأله عن السجود على القطن و الكتّان من غير تقيّة و لا ضرورة ؟ فكتب إليّ : ذلك جائز»(2).

و عن ياسر الخادم قال: «مرّ بي أبو الحسن عليه السّلام و أنا اصلّي على الطبري و قد ألقيت عليه شيئا أسجد عليه، فقال لي: ما لك لا تسجد عليه، أ ليس هو من نبات الأرض»(3).

و في الحسن عن الفضيل بن يسار و بريد بن معاوية عن أحدهما عليهما السّلام قال: «لا بأس بالقيام على المصلّى من الشعر و الصوف إذا كان يسجد على الأرض، فإن كان نبات الأرض فلا بأس بالقيام عليه و السجود عليه»(4).

و الجواب عن الجميع - بعد الغضّ عمّا في أسانيد أكثرها من ضعف و قصور - أنّها موهونة بمصير معظم الأصحاب إلى خلافها و إعراضهم عنها مع ما فيها من الكثرة، فلا يمكن التعويل عليها و الوثوق بها، و مجرّد موافقتها لقول السيّد مع شذوذه و وضوح بطلان دليله لا تعطيها ظنّ الصدور أو العمل، مع القدح في دلالة الأخير بواسطة قبول المطلق للتقييد بما مرّ، بل و في دلالة ما قبله أيضا بعدم وضوح كون الطبري ممّا يلبس و إن قال في المجمع: «لعلّه كتّان منسوب إلى طبرستان»(5) و في مفتاح الكرامة أنّ ظاهر الاستبصار(6) «أنّه من القطن أو الكتّان»(7) لما عن التقي(8) رحمه اللّه و ملاّ مراد «أنّ الطبري هو الحصير الّذي يصنعه أهل طبرستان»(9) و عن كاشف اللثام «أنّ المقنع(10) صريح في كون الطبري ممّا لا يلبس»(11).

هذا مع ظهور رواية منصور بن حازم في حال الضرورة، و احتمال غيرها التقيّة.

بل عن الشيخ في الجواب حمل جميع هذه الأخبار على حالة الضرورة أو التقيّة و إن

ص: 782


1- الوسائل 7/351:5، ب 4 ما يسجد عليه، التهذيب 1247/308:2.
2- الوسائل 7/348:5، ب 2 ما يسجد عليه، التهذيب 1248/308:2.
3- الوسائل 5/348:5، ب 2 ما يسجد عليه، التهذيب 1249/308:2.
4- الوسائل 5/344:5، ب 1 ما يسجد عليه، التهذيب 1236/305:2.
5- مجمع البحرين 1093:2 (طبر).
6- الاستبصار 331:1.
7- مفتاح الكرامة 338:6.
8- روضة المتّقين 177:2.
9- التعليقة السجّاديّة: 831/78.
10- المقنع: 25-26.
11- كشف اللثام 342:3.

ردّه المحقّق في المعتبر «بأنّ تأويل الشيخ في الجمع بالحمل على التقيّة أو الضرورة منفيّ بخبر الصنعاني الناصّ على الجواز مع انتفاء التقيّة و الضرورة»(1).

و فيه: أنّ النصّ المذكور مع وروده في كلام السائل لا ينافي الحمل على التقيّة، لأنّ الإمام عليه السّلام أعرف بمواقف التقيّة بالنظر إلى نفسه الشريفة و بالنظر إلى غيره، و لا سيّما في المكاتبات الّتي ليست مأمونة من الوصول إلى غير الأهل، فالإمام عليه السّلام لا يلزمه الجواب إلاّ بما فيه مصلحته و مصلحة السائل من تقيّة و نحوها و إن ألحّ السائل في سؤاله عن الحكم المجعول لغير التقيّة، فليتدبّر.

ثمّ إنّ ظاهر النصّ و الفتوى و لا سيّما رواية الفضل بن عبد الملك المتقدّمة(2) عدم الفرق في المنع عن القطن و الكتّان بين ما قبل النسج و بعده و ما قبل الغزل و بعده، و هو المصرّح به في كلام جماعة(3) بل في المدارك «المشهور بين الأصحاب تحريم السجود على القطن و الكتّان سواء كان قبل النسج أم بعده»(4) بل قال في المختلف: «أنّه قول علمائنا أجمع»(5)انتهى.

خلافا للعلاّمة في نهاية الإحكام(6) على ما حكي، فقرّب جواز السجود على القطن و الكتّان قبل الغزل و المنع بعده، و عنه في التذكرة(7) أيضا المنع قبل الغزل و استشكل في الكتّان بعد الغزل، و وجهه غير واضح.

ثمّ إنّه ربّما يشتبه حال الشيء من جهة المأكوليّة و عدمها، أو من جهة كون أكله عاديا و عدمه، و كذلك الاشتباه من جهة اللبس أو عاديته، فمقتضى الأصل في الموارد المشتبهة هو المنع من السجود. و مدركه قاعدة الشغل المقتضية ليقين البراءة فيما لو شكّ في تحقّق شرط العبادة بعد ثبوت شرطيّته لما قضت الأدلّة بشرطيّة الأرض أو نباتها المقيّد بقيد عدمي، و هو عدم المأكوليّة و الملبوسيّة، فتدبّر و لا تغفل.

المسألة الثالثة: في السجود على القرطاس، و جوازه في الجملة إجماعيّ ، و الإجماعات المنقولة عليه بقول مطلق مستفيضة، و في معناها ما نسبت تارة إلى الأصحاب كما في

ص: 783


1- المعتبر 119:2.
2- تقدّم في الصفحة: 775 الرقم 8.
3- كما في جامع المقاصد 161:2، روض الجنان 591:2-592.
4- المدارك 246:3.
5- المختلف 116:2.
6- نهاية الإحكام 362:1.
7- التذكرة 437:2.

المدارك(1) و اخرى إلى علمائنا كما في التذكرة(2) و غيره(3) و في الذخيرة «لا خلاف فيه بين الأصحاب»(4).

و يدلّ عليه من الروايات صحيحة عليّ بن مهزيار قال: «سأل داود بن يزيد أبا الحسن عليه السّلام عن القراطيس و الكواغذ المكتوبة عليها هل يجوز السجود عليها أم لا؟ فكتب: يجوز»(5).

و صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه كره أن يسجد على قرطاس عليه كتابة»(6). و صحيحة صفوان الجمّال قال: «رأيت أبا عبد اللّه عليه السّلام في المحمل يسجد على قرطاس و أكثر ذلك يومئ إيماء»(7).

ثمّ إنّ قضيّة إطلاق بعض الفتاوي كإطلاق الخبرين الأوّلين عدم الفرق في القرطاس بين المتّخذ من الأبريسم أو القطن أو الكتّان أو نبات الأرض غيرهما ممّا لا يلبس كالقنب و نحوه. و قيّده في القواعد(8) و اللمعة(9) كما عن نهاية(10) الإحكام و البيان(11) بكونه متّخذا من النبات، احترازا عن المتّخذ من الأبريسم، لأنّه ليس بأرض و لا نباتها. و في معناه ما في التذكرة من المنع من السجود على المتّخذ من الأبريسم ثمّ قال: «و إطلاق علمائنا محمول على ذلك»(12) و إطلاق النبات في كلام هؤلاء المقيّدين يقتضي الجواز على المتّخذ من القطن و الكتّان أيضا.

و عن الشهيد في الدروس «المنع ممّا اتّخذ من القطن و الكتّان و الحرير»(13).

و يظهر الميل إليه من مفتاح الكرامة(14) كما يظهر الميل إلى الإطلاق من صاحبي المدارك و الذخيرة حيث اعترضا على التقييد بالنبات «بأنّه تقييد للنصّ من غير دليل»(15)و ردّه في مفتاح الكرامة «بأنّ الدليل عليه النصّ و الإجماع على أنّه لا يسجد إلاّ على

ص: 784


1- المدارك 249:3.
2- التذكرة 437:2.
3- كما في المفاتيح 144:1، روض الجنان 596:2، كشف اللثام 347:3، الحدائق 247:7، الرياض 291:3.
4- الذخيرة: 242.
5- الوسائل 2/355:5، ب 7 ما يسجد عليه، التهذيب 1250/309:2.
6- الوسائل 3/356:5، ب 7 ما يسجد عليه، التهذيب 1232/304:2.
7- الوسائل 1/355:5، ب 7 ما يسجد عليه، التهذيب 1251/309:2.
8- القواعد 263:1.
9- اللمعة: 31.
10- نهاية الإحكام 362:1.
11- البيان: 67.
12- التذكرة 437:2.
13- الدروس 157:1.
14- مفتاح الكرامة 353:6.
15- المدارك 249:2، الذخيرة: 242.

الأرض أو ما ينبت منها ممّا لا يؤكل و لا يلبس، و ليس هناك تصريح بجواز السجود على الكاغذ و إن كان من غير نبات الأرض أو كان من الملبوس منها، فقد تعارض العمومان، و التخصيص فيما نحن فيه أولى و أحوط لأنّ ذلك العموم أقوى»(1) انتهى.

و يظهر كون المانع ممّا اتّخذ من غير نبات الأرض هو دليل حصر ما يسجد عليه في الأرض و نباتها من كاشف اللثام في عبارة محكيّة عنه قائلا: «إنّما يجوز إن اتّخذ من النبات و إن أطلق الخبر و الأصحاب، لما عرفت من النصّ و الإجماع على أنّه لا يسجد إلاّ على الأرض أو نباتها، قال: و لا يصلح هذا الإطلاق لتخصيص القرطاس، بل الظاهر أنّ الإطلاق مبنيّ على ظهور الأمر»(2) انتهى.

و مراده بالإطلاق - الّذي نفى صلاحيته لتخصيص القرطاس في النصّ و الفتوى بالمتّخذ من النبات - إطلاق النبات في معقد النصّ و الإجماع لتناوله الكاغذ المتّخذ منه و ما لم يتّخذ كاغذا، و وجه عدم الصلاحية هو أنّ قولنا «يجوز السجود على نبات الأرض» و قولنا «يجوز السجود على القرطاس» لا تنافي بينهما لكونهما مثبتين و أنّ تناول الأوّل لما لم يتّخذ كاغذا و الثاني لما اتّخذ من غير النبات، فلا يمكن تخصيص الثاني بالأوّل.

فالخروج عن إطلاق القرطاس ليس لأجل هذا التخصيص، بل الظاهر أنّ إطلاق الخبر و الفتوى إنّما هو لبنائه على ظهور الأمر من عدم جواز السجود على المتّخذ من غير النبات، فالمطلق اريد منه المقيّد من غير تصريح بذكر القيد لعدم الحاجة إليه باعتبار ظهور الأمر، فلا يلزم قبح من جهة الإغراء بالجهل، هذا ملخّص مراده.

و فيه من التحمّل و اختلال الفهم ما لا يخفى، فإنّ النبات في معقد دليل جواز السجود عليه و على الأرض لا يتناول الكاغذ المتّخذ من النبات رأسا حتّى يلاحظ صلاحيته لتخصيص القرطاس و عدمها، إمّا لخروج الكاغذ بصيرورته قرطاسا عن مسمّى النبات كما هو الأظهر، أو لعدم انصراف إطلاق النبات إليه على تقدير صدقه عليه عرفا.

و تحقيق المقام: أنّ قوله عليه السّلام «إنّ السجود لا يجوز إلاّ على الأرض أو ما أنبتت الأرض»(3) عامّ لكون تقديره لا يجوز على شيء، فيعمّ القرطاس أيضا مطلقا حتّى ما اخذ

ص: 785


1- مفتاح الكرامة 353:6-354.
2- كشف اللثام 348:3.
3- الوسائل 1/343:5، ب 1 ما يسجد عليه.

منه من النبات مطلقا حتّى القطن و الكتّان، ثمّ خرج منه بالمخصّص المتّصل و هو الاستثناء الأرض و نباتها، ثمّ خرج عنه بواسطة المخصّص المنفصل و هو النصّ المتقدّم و غيره القرطاس، و هذا ممّا لا كلام فيه. و إنّما الكلام في أنّ المخرج منه بذلك المخصّص المنفصل هل هو القرطاس بإطلاقه أو ما هو المقيّد منه بالنبات أو بغير ما يلبس من حرير و قطن و كتّان ؟ فالقائل بالإطلاق المقرون بترك الاستفصال المفيد للعموم مستظهر، و على مدّعي التقييد بأحد الوجهين إثباته بالدليل، و لم نقف في كلامهم على بيان ما ينهض و يصلح دليلا عليه.

و دعوى: أنّ دليل التقييد أنّه وقع التعارض بين عموم المخصّص - بالفتح - و هو قوله «لا يجوز السجود على شيء» و إطلاق المخصّص بالكسر و هو قوله «يجوز السجود على القرطاس» و تقييد الثاني بالنبات أو بغير ما يلبس أولى من تخصيص العامّ بإخراج جميع أنواع القرطاس منه.

يدفعها: أنّ المنساق في متفاهم العرف من نظائر المقام إنّما هو تحكيم إطلاق المخصّص على عموم العامّ ، أ لا ترى أنّه لو قيل «أكرم العلماء إلاّ زيدا و عمرا» ثمّ قيل «لا تكرم النحوي» ينساق منه خروج ما يعمّ البصري و الكوفي من عموم العامّ المخصّص لا خروج أحد الصنفين و بقاء الصنف الآخر تحته، و لعلّه لطروء الوهن على ظهور العامّ بورود التخصيص بالمتّصل، مع أنّه لو لا تحكيم الإطلاق لزم التصرّف في الخطابين، ففي العامّ بالتخصيص و في المطلق بالتقييد، لأنّ تخصيص العامّ بالقرطاس في الجملة متعيّن. و الكلام في إطلاق القرطاس المتناول لجميع أنواعه و تقييده، و الثاني يوجب ما ذكرناه، و هو خروج عن ظاهرين، و الأصل ينفيه، و لا يلزم بالتزام الإطلاق في القرطاس زيادة تخصيص في العامّ بل التخصيص الوارد عليه من جهة المنفصل على كلّ تقدير تخصيص واحد. و الكلام في المخرج هل هو نوع واحد أو أزيد منه ؟ و لعلّ هذا هو السرّ في انفهام تحكيم إطلاق المخصّص على عموم العامّ عرفا.

نعم هذا كلّه على تقدير ثبوت الإطلاق في القرطاس على وجه لو لا إرادة المطلق منه، و هو الماهيّة من حيث هي المندرجة تحتها جميع أنواعها لزم الإغراء بالجهل القبيح على الحكيم.

و لقائل أن يمنعه: إمّا بدعوى أنّ وجه إطلاق اللفظ عدم الحاجة إلى ذكر القيد لمعلوميّة

ص: 786

حال ما لا يجوز السجود عليه من أنواع القرطاس للمتكلّم و مخاطبه، فالمتكلّم لم يرد منه إلاّ ما عدى هذا النوع و المخاطب أيضا لم يفهم منه إلاّ غيره، و هذا هو معنى ما سمعت عن كاشف اللثام(1) و صدّقه عليه مفتاح الكرامة(2) «من أنّ الإطلاق مبنيّ على ظهور الأمر».

أو بدعوى انصراف المطلق إلى الشائع من أفراده و ليس إلاّ المتّخذ من النبات، لندرة ما اتّخذ من الحرير.

أو بدعوى أنّ إطلاق القرطاس لجميع الأنواع إنّما ينهض لو ثبت وجود الجميع في زمان الصدور و هذا غير واضح، فيكون مجملا يجب أن يقتصر فيه على القدر المتيقّن ممّا خرج من النصّ و الإجماع، و ليس إلاّ المتّخذ من النبات مطلقا أو ما لا يكون من جنس القطن و الكتّان أيضا.

أو بدعوى ورود المطلق مورد بيان حكم آخر، و هو عدم المنع من السجود على القرطاس المكتوب من حيث الكتابة فإنّ السائل في رواية علي بن مهزيار إنّما سأل عن هذه الحيثيّة، فحاصل الجواب أنّ الكتابة في القرطاس ليست جهة مانعة من السجود، و هذا إنّما يقتضي العموم بالقياس إلى أنواع الكتابة بالنسبة إلى أنواع القرطاس.

و لا ينافي أن يكون هنا جهة اخرى في بعض أنواع المكتوب عليه مانعة عن السجود عليه من غير أن يلزم قبح بعدم تعرّضه لنفي المانعيّة من هذه الجهة لعدم كون المطلق سؤالا و جوابا لإفادة الحكم من هذه الجهة، كما في قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (3)بالقياس إلى عدم وجوب تطهير موضع عضّ الكلب.

و في الكلّ ما ترى، و الّذي يدفع الجميع - مع ما في كلّ واحد من منع ما ادّعى فيه - أنّ قوله عليه السّلام «يجوز» ورد جوابا عن القراطيس و الكواغذ المكتوبة، و هما من الفاظ العموم اللغوي و يعمّان بالوضع لجميع الأفراد و أفراد جميع الأنواع، و الجواب مع ترك الاستفصال ينصرف إلى عموم السؤال عرفا و لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل، و احتمال كون اللام فيهما للعهد إشارة إلى أفراد النوع المعهود إذا لم يكن هناك قرينة عهد لا يدفع الظهور المستند إلى الوضع. فالأقوى إذن عموم الجواز على كلّ قرطاس عملا بعامّ النصّ أو مطلقة، و لكن طريق الاحتياط بالاقتصار على المتّخذ من النبات بل خصوص المتّخذ من غير القطن

ص: 787


1- كشف اللثام 347:3.
2- مفتاح الكرامة 352:6.
3- المائدة: 4.

و الكتّان واضح.

ثمّ إنّه ربّما يستشكل في السجود على القرطاس مطلقا من جهة اشتماله على أجزاء النورة، و أوّل من سبق إليه هذا الإشكال أوّل الشهيدين في الذكرى قائلا: «و في النفس من القرطاس شيء، من حيث اشتماله على النورة المستحيلة عن اسم الأرض بالإحراق، إلاّ أن نقول الغالب جوهر القرطاس، أو نقول جمود النورة يردّ إليها اسم الأرض»(1) و نحوه ما حكي عنه في البيان من قوله «و يشكل بأجزاء النورة»(2) و تبعه على ذلك ثانيهما في الروض(3) و الروضة قائلا في الروضة: «إنّ ذلك تقييد لمطلق النصّ أو تخصيص لعامّه من غير فائدة، لأنّ ذلك لا يزيله عن حكم مخالفة الأصل، فإنّ أجزاء النورة المنبثّة فيه بحيث لا يتميّز من جوهر الخليط جزء يتمّ عليه السجود كافية في المنع، فلا يفيده ما يخالطها من الأجزاء الّتي يصحّ السجود عليها منفردة»(4).

و فيه ما لا يخفى، أمّا أوّلا: فلمنع بقاء شيء من أجزاء النورة في جوهر القرطاس لما في محكيّ كاشف اللثام «من أنّ المعروف أنّ النورة تجعل أوّلا في مادّة القرطاس ثمّ يغسل حتّى لا يبقى فيها شيء»(5) انتهى. و قال المحقّق الخوانساري في حاشية الروضة:

«نقل بعض الثقات من الفضلاء أنّه لمّا كنت حضرت على سبيل الاتّفاق الموضع الّذي يصنعون فيه القرطاس و شاهدت أنّهم يلقون أجزاءه في حوض كبير مملوء من الماء، فكنت يخالج قلبي أنّه لا يبقى شيء من أجزاء النورة في أجزاء القرطاس، حتّى استفسرت ذلك عن الّذين يصنعونه من مهرة الصنّاع، فقالوا: لا يبقى شيء من أجزاء النورة أصلا في القرطاس، فإذا ألقينا أجزاء النورة في أجزاء القرطاس نغسل الأجزاء في الماء الجاري مرارا و نضرب بعضها على بعض حتّى لا يبقى شيء من النورة فيها، ثمّ نلقي الأجزاء في الحوض المملوء من الماء الكثير و نضرب الأجزاء بعضها على بعض فيه، فكلّ ما يعلو الماء من الأجزاء نأخذه بالغالب و نصنع منه القرطاس. قال: و يؤيّد ذلك أنّا إذا ألقينا القراطيس الكثيرة المقطّعة في الماء مدّة مديدة بحيث نفذ الماء في جميع أجزائه ثمّ عصرناه عصرا شديدا لا نشاهد في الماء أجزاء النورة، و لا نشمّ منه رائحتها، و إذا أذقناه

ص: 788


1- الذكرى 145:3.
2- البيان: 66.
3- الروض 597:2.
4- الروضة 558:1-559.
5- كشف اللثام 348:3.

لا نجد منه طعمها، و لو فرض أنّه يبقى منه شيء لكان مستهلكا جدّا لا يمنع من وصول البشرة إلى جوهر القرطاس»(1) انتهى. أقول: يكفي في إثبات عدم بقاء أجزاء النورة في جوهر القرطاس الحوالة إلى الحسّ بصرا و شمّا و ذوقا، فالإشكال المتقدّم تشكيك في مقابلة الحسّ فلا ينبغي الالتفات إليه.

و أمّا ثانيا: فعلى فرض تسليم وجودها منبثّة في أجزاء القرطاس فهي مستهلكة جدّا لا يمنع عن وقوع الجبهة على جرم القرطاس.

و أمّا ثالثا: فعلى فرض غلبة وجودها أيضا لا ينشأ منه إشكال، إلاّ على القول بمنع السجود على النورة، و المختار خلافه.

و أمّا رابعا: فبعد الغضّ عن جميع ذلك الإشكال من هذه الجهة اجتهاد في مقابلة النصّ ، فإنّ النصّ الصحيح دلّ على الجواز، فلو كان ذلك جهة للمنع لكان تجويز الشارع إيّاه إضلالا للمكلّفين و إغراء لهم بالجهل - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا - نعم بعض الكواغذ يطّلى بالشاسية و هي مأكولة، فمع الغلظة تحول بين الجبهة و جرم القرطاس ففيما علم ذلك لم يجز السجود عليه، إلاّ أنّه لا يوجب اطّراد المنع لعدم اطّراد الطلي المذكور بل عدم حصوله في الغالب.

و العجب عن بعض الثقات من الفضلاء المتقدّم في عبارة حاشية الروضة في إطلاق استشكاله من هذه الجهة قائلا - بعد دفع الإشكال المتقدّم -: «نعم الإشكال في القرطاس من وجه آخر، و هو أنّ القرطاس يطلى عليه النشا غالبا بحيث يستوعب سطحيه و هو غليظ يمنع من وصول البشرة إلى جوهر القرطاس و هو مأكول عادة، و لم يتعرّضوا لذلك و لم يخصّصوا جواز السجود على القرطاس بما إذا كان خاليا عنه مع ندوره جدّا سيّما المكتوب منه»(2) انتهى. و فيه ما فيه.

و أعجب منه ما ذكره المحقّق المذكور في دفعه قائلا: «و يمكن دفع إشكال النشا بأنّه بعد طليه على القرطاس و جموده يخرج عن الصلاحية للأكل فيرتفع»(3) انتهى.

ثمّ إنّه لا فرق في القرطاس الّذي يسجد عليه بين كونه مكتوبا و غيره، فيجوز على المكتوب أيضا و لكن على كراهية، كما هو المعروف المصرّح به في كلام

ص: 789


1- حاشية الروضة: 231.
2- حاشية الروضة: 231.
3- حاشية الروضة: 231.

أساطين(1) الطائفة من غير نقل خلاف، أمّا الجواز فلصحيحة عليّ بن مهزيار المتقدّمة(2)و أمّا الكراهة فلكونه جمعا بينها و بين صحيحة جميل بن درّاج(3) و قد تقدّمت، فهذا ممّا لا كلام و لا إشكال فيه.

إنّما الكلام فيما حكي عن جماعة كالشيخ في المبسوط(4) و ابن حمزة و ابن إدريس في الوسيلة(5) و السرائر(6) و الشهيد في الدروس(7) من تخصيص الكراهة بالقارئ المبصر فلا كراهة في حقّ الامّي و لا القارئ الغير المبصر لمانع من عمى و ظلمة، و الباقون(8) أطلقوا الكراهة، و فيهم من صرّح(9) بالعموم و عدم الفرق، و عن تذكرة(10) العلاّمة الاستشكال في الأعمى و شبهه.

و القول الأوّل إنّما يستقيم لو كان بناء الكراهة على اشتغال المصلّي بقراءته، كما يظهر البناء عليه عمّا حكي عن السيّد قائلا: «و لا بأس بالسجود على القرطاس الخالي عن الكتابة فإنّها ربّما شغلت المصلّي»(11) و يضعّف بمنع البناء حيث لم يذكر العلّة في النصّ نصوصيّة و ظهورا و إشارة، فالوجه هو الإطلاق و عموم الكراهة خصوصا بناء على قراءة «أن يسجد» في قوله: «كره أن يسجد على قرطاس فيه كتابة» بصيغة المجهول.

و في كلام جماعة(12) أنّ الكراهة إنّما هو حيث بقى في القرطاس موضع خال من الكتابة ليقع عليه الجبهة، و إلاّ فلا يصحّ عليه السجود. و في الروضة بعد ما قيّد عبارة اللمعة بذلك قال: و بعضهم لم يعتبر ذلك بناء على كون المداد عرضا لا يحول بين الجبهة و جوهر القرطاس و ضعّف «بأنّه المداد جسم و ليس بعرض فيحول بين الجبهة و جوهر القرطاس خصوصا بعض أفراده الّذي هو في غاية الغلظة، نعم لو لم يبق منه إلاّ اللون كان عرضا

ص: 790


1- كما في النهاية: 102، السرائر 268:1، الشرائع 73:1، نهاية الإحكام 362:1، البيان: 67، اللمعة: 31، المفاتيح 144:1.
2- تقدّم في الصفحة: 778، الرقم 5.
3- تقدّم في الصفحة: 778، الرقم 6.
4- المبسوط 90:1.
5- الوسيلة: 91.
6- السرائر 268:1.
7- الدروس 157:1.
8- كما في النافع: 27، القواعد 263:1، التحرير 218:1، اللمعة: 31، الروضة 560:1، المدارك 3: 250، المفاتيح 144:1.
9- كما في الشرائع 73:1، نهاية الإحكام 361:1.
10- التذكرة 438:2.
11- جمل العلم و العمل (رسائل الشريف المرتضى 3):29.
12- كما في جامع المقاصد 165:2، الروض 598:2، المدارك 250:3.

فلا منع حينئذ»(1).

و بهذا التفصيل ظهر الحكم في كلّ جسم مصبوغ بما له جسم لا يصحّ السجود عليه أو بما ليس إلاّ اللون الصرف كلون الحناء و نحوه، فالضابط في المنع و الجواز هو جسميّة الصبغ و عدمها.

لا يقال: إنّ اعتبار خلوّ موضع من القرطاس عن الكتابة ليقع عليه الجبهة في المكتوب تقييد لمطلق النصّ بلا دليل، فإنّه دلّ على الجواز من غير استفصال، لأنّ الغالب من أفراد المكتوب خلوّ موضع منه من الكتابة و المطلق ينصرف إليه، فلا إطلاق في النصّ من هذه الجبهة، فتأمّل، و أمّا الاحتياط فواضح.

المسألة الرابعة: قد ظهر من تضاعيف الكلام في المسائل الثلاث المتقدّمة أنّ ما يصحّ السجود عليه أنواع ثلاث: الأرض، و نباتها، و القرطاس. و اعتبار أحد هذه الأنواع إنّما هو في حال الاختيار للمختار المتمكّن من أحدها، و أمّا حال الضرورة و الاضطرار فيسقط اعتبارها بالخصوص، و يعتبر حينئذ السجود على طرف الثوب إن أمكن، و مع عدم إمكانه على ظهر اليد.

و هذا هو معنى ما ذكره المحقّق في الشرائع(2) و غيره(3) من المتأخّرين و متأخّريهم من أنّه لا يسجد على شيء من بدنه، فإن منعه الحرّ عن السجود على الأرض سجد على ثوبه، و إن لم يمكن فعلى كفّه. و في الذخيرة(4) الاتّفاق على جواز السجود على الثوب عند الضرورة.

و يدلّ عليه ما استفاض من النصوص، كصحيحة القسم بن الفضيل قال: «قلت للرضا عليه السّلام:

جعلت فداك، الرجل يسجد على كمّه من شدّة أذى الحرّ و البرد؟ قال: لا بأس به»(5).

و ما رواه الشيخ عن ابن أبي نصر عن المثنّى الحنّاط عن عيينة بيّاع القصب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أدخل المسجد في اليوم الشديد الحرّ فأكره أن اصلّي على الحصى فأبسط ثوبي فأسجد عليه ؟ فقال: نعم ليس به بأس»(6).

و عن أحمد بن عمر قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يسجد على كمّ قميصه من

ص: 791


1- الروضة 560:1.
2- الشرائع 73:1.
3- كما في نهاية الإحكام 364:1، الإرشاد 248:1، البيان: 67، المدارك 250:3، جامع المقاصد 2: 163، كشف اللثام 345:3.
4- الذخيرة: 242.
5- الوسائل 3/350:5، ب 4 ما يسجد عليه، التهذيب 1241/306:2.
6- الوسائل 1/350:5، ب 4 ما يسجد عليه، التهذيب 1239/306:2.

أذى الحرّ و البرد أو على ردائه إذا كان تحته مسح أو غيره ممّا لا يسجد عليه ؟ فقال:

لا بأس به»(1).

و عن محمّد بن القسم بن الفضيل بن يسار قال: «كتب رجل إلى أبي الحسن عليه السّلام هل يسجد الرجل على الثوب يتّقي به وجهه من الحرّ و البرد، و من الشيء يكره السجود عليه ؟ فقال: نعم لا بأس»(2).

و عن منصور بن حازم عن غير واحد من أصحابنا قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج أ فنسجد عليه ؟ قال: لا، و لكن اجعل بينك و بينه شيئا قطنا أو كتّانا»(3).

و عن أبي بصير «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصلّي في حرّ شديد يخاف على جبهته الأرض ؟ قال: يضع ثوبه تحت جبهته»(4).

و صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه قال: «سألته عن الرجل يؤذيه حرّ الأرض و هو في الصلاة، و لا يقدر على السجود هل يصلح له أن يضع ثوبه إذا كان قطنا أو كتّانا؟ قال: إذا كان مضطرّا فليفعل»(5).

و رواية عليّ بن يقطين «أنّه سأل أبا الحسن الأوّل عن الرجل يسجد على المسح و البساط؟ فقال: لا بأس إذا كان في حال تقيّة، و لا بأس بالسجود على الثياب في حال التقيّة»(6).

المسح - بكسر الميم و إسكان السين - بساط لا خمل له، و يقال له: البلاس بفتح الباء و كسرها.

و أمّا دليل السجود على ظهر اليد حيث لم يمكن الثوب فخبر أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت له: أكون في السفر فتحضر الصلاة و أخاف الرمضاء على وجهي كيف أصنع ؟ قال: تسجد على بعض ثوبك، فقلت: ليس عليّ ثوب يمكنني أن أسجد على طرفه

ص: 792


1- الوسائل 3/350:5، ب 4، ما يسجد عليه، التهذيب 1242/307:2.
2- الوسائل 4/350:5، ب 4، ما يسجد عليه، التهذيب 1243/307:2.
3- الوسائل 7/351:5، ب 4، ما يسجد عليه، التهذيب 1247/308:2.
4- الوسائل 8/352:5، ب 4، ما يسجد عليه، الفقيه 797/169:1.
5- الوسائل 9/352:5، ب 4، ما يسجد عليه، قرب الإسناد: 86.
6- الوسائل 1/349:5 و 2، ب 3، ما يسجد عليه، التهذيب 1245/307:2 و التهذيب 930/235:2.

و لا ذيله، قال: اسجد على ظهر كفّك فإنّها أحد المساجد»(1). و خبره الآخر قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك الرجل يكون في السفر فيقطع عليه الطريق فيبقى عريانا في سراويل و لا يجد ما عليه يخاف أن يسجد على الرمضاء أحرقت وجهه ؟ قال: يسجد على ظهر كفّه فإنّها أحد المساجد»(2).

و موثّقة عمّار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصلّي على الثلج ؟ قال: لا، فإن لم يقدر على الأرض بسط ثوبه و صلّى عليه»(3).

و رواية داود الصرمي قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام قلت له: إنّي أخرج في هذا الوجه و ربّما لم يمكن فيه موضع اصلّي فيه من الثلج فكيف أصنع ؟ قال: إن أمكنك أن لا تسجد على الثلج فلا تسجد عليه، و ان لم يمكنك فسوّه و اسجد عليه»(4) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و ضعف ما ضعّف فيها مجبور بالشهرة و الكثرة و اعتضاد البعض ببعض، و عدم وجود المعارض، و موافقة الاعتبار. و قوله عليه السّلام: «إذا كان مضطرّا فليفعل» في خبر عليّ بن جعفر يتناول كلّ ضرورة و إن لم يكن من جهة الحرّ و البرد و التقيّة أيضا، كما أنّ إطلاق الثوب و المسح و البساط يتناول ما كان من غير القطن و الكتّان كالصوف و الوبر و الحرير.

و ربّما يشكل الحال في أنّ مدلول الروايات هل هو من باب إسقاط الفرض و إلغاء شرطيّة ما يصحّ السجود عليه في حقّ المضطرّ - فيجوز له السجود حينئذ على كلّ ما يتمكّن منه و يندفع به الضرورة، فيكون ما ورد في الروايات من ذكر الثوب أو المسح و البساط أو ظاهر الكفّ من باب أحد أفراد هذا العامّ من دون مدخليّة الخصوصيّة كما يشعر به التعليل بكون اليد أحد المساجد في خبري أبي بصير أي «أحد المساجد في حال الضرورة» إن لم ندّع ظهوره فيه، و عليه فلا ترتّب بين الثوب و ظاهر الكفّ و لا بينهما و بين غيرهما و إن كان يوهمه الترتيب الذكري - أو أنّه جعل بدليّة في حال الاضطرار؟ فيكون الثوب و بعده ظاهر الكفّ بدلا اضطراريّا عن الأرض و نباتها و القرطاس، كالتيمّم بالقياس

ص: 793


1- الوسائل 5/351:5، ب 4، ما يسجد عليه، التهذيب 1240/306:2.
2- الوسائل 6/351:5، ب 4، ما يسجد عليه، علل الشرائع: 1/340.
3- الوسائل 2/164:5، ب 28، مكان المصلّي، التهذيب 1266/312:2.
4- الوسائل 3/164:5، ب 28، مكان المصلّي، التهذيب 1256/310:2.

إلى الوضوء لمن لم يتمكّن من الماء فلا يجوز العدول من الثوب إلى ظاهر الكفّ مع إمكانه و لا من ظاهر الكفّ إلى غيره بعد تعذّر الثوب إلاّ مع عدم التمكّن منه، كما هو ظاهر جماعة منهم: الفاضلان و الشهيدان في الشرائع(1) و الإرشاد(2) و الدروس(3) و غيرهم(4) و منه ما في الدروس من تقديمه المعدن و القير و الصهروج على اليد، و عنه في البيان(5) التنظّر في تقديم المعدن على الثياب الملبوسة.

و لم نقف في الروايات و لا غيرها على دليل يعتمد عليه، و الترتيب الذكري بين الثوب و اليد مع الاقتصار عليهما فيها الموهم لذلك قاصر الدلالة عليه، مع أنّه معارض بما سمعت من التعليل بأحد المساجد، و ليس في الروايات ما سوى ذلك إلاّ نفي البأس في أكثرها، و الأمر بالسجود على الثوب أو القطن و الكتّان في بعضها، و الأوّل لا يفيد أزيد من نفي الحرمة و المنع الشرعي، و الثاني بضابطة الأمر في محلّ ظنّ الحظر لا يفيد أزيد من الإباحة، و لا يلازم شيء منهما البدليّة الّتي مرجعها إلى التعيين و الإلزام في مرتبة البدل أيضا.

و عليه فالأصل يقتضي عدم البدليّة و لا مخرج عنه في الأدلّة إلاّ أن تكون إجماعا و ليس بواضح، و مع هذا فطريق الاحتياط أوضح فلا ينبغي تركه خروجا عن شبهة مخالفة الإجماع.

و ظاهر رواية داود الصرمي عدم جواز العدول إلى الثلج مع إمكان غيره و لو معدنا للعموم. و عن الشهيد في البيان جعل اليد أولى من الثلج(6) و هو يفيد استحباب تقديمها عليه لا تعيّنها. و الاحتياط بترك السجود عليه ما أمكن غيره لا يترك.

ثمّ إنّ من أفراد الضرورة طروء فقدان ما يصحّ السجود عليه في أثناء الصلاة مع ضيق الوقت فيتمّ الصلاة على تلك الحالة و يسجد على كلّ ما أمكنه، و إن كان الأحوط مراعاة الثوب مع إمكانه و ظهر اليد مع عدم إمكانه، و المسح و البساط ملحقان بالثوب فلا ترتّب بينهما.

و لو فقده في الأثناء في سعة الوقت فكونه مضطرّا أيضا و عدمه مبنيّ على حرمة إبطال الصلاة و قطعها و عدمه، و صدق الإبطال مشكل لاحتمال البطلان بنفسه، و لم نقف من

ص: 794


1- الشرائع: 73.
2- الإرشاد 248:1.
3- الدروس 157:1.
4- كما في النافع: 27، التحرير 219:1.
5- البيان: 67.
6- البيان: 67.

الأصحاب على نصّ في ذلك.

فالأوجه جواز قطع الصلاة لتحصيل ما يصحّ السجود عليه، للشكّ في صدق الإبطال، و الأصل براءة الذمّة عن الحرمة الموجبة للعقاب. و لكنّ الأحوط إتمام هذه الصلاة ثمّ إعادتها بعد تحصيل ما يصحّ السجود عليه.

تذنيب: نصّ جماعة(1) على أنّ السجود على الأرض أفضل، و في الحدائق(2)«لا خلاف و لا إشكال فيه» و الأصل فيه ما رواه الشيخ عن إسحاق بن الفضل «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السجود على الحصر و البواري ؟ فقال: لا بأس، و أن تسجد على الأرض أحبّ إليّ ، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يحبّ أن يمكّن جبهته من الأرض فأنا احبّ لك ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحبّه»(3).

و في الحدائق و روى الصدوق في الصحيح عن هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - في حديث - قال: «السجود على الأرض أفضل، لأنّه أبلغ في التواضع و الخضوع للّه عزّ و جلّ ، قال: و قال الصادق عليه السّلام: السجود على الأرض فريضة، و على غير الأرض سنّة»(4).

ثمّ نصّوا بأنّ أفضل أفراد الأرض للسجود عليه التربة الحسينيّة على مشرّفها آلاف تحيّة و ثناء، ففي رواية أرسلها الصدوق في الفقيه عن الصادق قال: «قال عليه السّلام: السجود على طين قبر الحسين عليه السّلام ينوّر إلى أرضين السبعة، و من كانت معه سبحة من طين قبر الحسين عليه السّلام كتب مسبّحا و إن لم يسبّح بها»(5).

و عن مصباح الشيخ عن معاوية بن عمّار قال: «كان لأبي عبد اللّه عليه السّلام خريطة ديباج صفراء، و فيها تربة أبي عبد اللّه عليه السّلام فكان إذا حضرته الصلاة صبّه على سجّادته و سجد عليه، ثمّ قال: إنّ السجود على تراب أبي عبد اللّه عليه السّلام يخرق الحجب السبع»(6).

و عن كتاب الإرشاد عن الحسن بن محمّد الديلمي قال: «كان الصادق لا يسجد إلاّ على

ص: 795


1- كما في الجواهر 6:8، المنتهى 362:4.
2- الحدائق 259:7.
3- الوسائل 4/368:5، ب 17، ما يسجد عليه، التهذيب 1263/311:2.
4- الوسائل 1/367:5 و 2، ب 17، ما يسجد عليه، الحدائق 259:7.
5- الوسائل 1/365:5، ب 16، ما يسجد عليه، الفقيه 725/174:1.
6- الوسائل 3/366:5، ب 16، ما يسجد عليه، مصباح المتهجّد: 677.

تربة الحسين عليه السّلام تذلّلا و استكانة إليه»(1).

و عن احتجاج الطبرسي عن محمّد بن عبد اللّه بن الجعفر الحميري عن صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه «أنّه كتب إليه يسأله عن السجود على لوح من طين القبر، هل فيه فضل ؟ فأجاب عليه السّلام: يجوز ذلك و فيه الفضل»(2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «من أدار الحجر من تربة الحسين عليه السّلام فاستغفر ربّه مرّة واحدة كتب اللّه له سبعين مرّة، فإن أمسك السبحة و لم يسبّح بها ففي كلّ حبّة منها سبع مرّات»(3).

ص: 796


1- الوسائل 4/366:5، ب 16، ما يسجد عليه، إرشاد القلوب: 115.
2- الوسائل 2/366:5، ب 16، ما يسجد عليه، الاحتجاج: 490/489.
3- الوسائل 6/456:6، ب 16، التعقيب، مصباح المتهجّد: 678.

الفصل السادس في الأذان و الإقامة

اشارة

و يتمّ البحث فيه في مباحث:

المبحث الأوّل في معنييهما و فضلهما و مواقع مشروعيّتهما
اشارة

فاعلم أنّ الإذن و الأذان و الإيذان بمعنى و هو الإعلام، و كذلك التأذين الّذي منه أذّن يؤذّن. و في كلام جماعة منهم: المجمع «أنّ الأذان فعال إمّا بمعنى الإيذان كالأمان و العطاء بمعنى الإيمان و الإعطاء، أو بمعنى التأذين كالسلام و الكلام بمعنى التسليم و التكليم»(1)هذا. و أمّا شرعا فهي عبارة عن أذكار مخصوصة وضعت للإعلام بأوقات الصلاة.

و الإقامة لغة الإدامة، و منه يقيمون الصلاة، و أصلها إقوام من الإفعال فبالإعلال صارت إقامة و تاؤها عوض عن الواو المحذوفة. و شرعا أذكار مخصوصة تذكر عند القيام إلى الصلاة.

و اختلف الفريقان - الخاصّة و العامّة - في أصل وضعهما أ هو وحي من اللّه عزّ و جلّ إلى رسوله الأكرم أم لا؟

ففي الذخيرة «و اتّفق الأصحاب على أنّهما وحي من اللّه عزّ و جلّ »(2) و نحوه في شرح المفاتيح(3) و في المدارك «قد أجمع الأصحاب على أنّ الأذان و الإقامة وحي من اللّه على لسان جبرئيل عليه السّلام كسائر العبادات»(4).

خلافا للعامّة(5) العمياء فأطبقوا على نسبته إلى رؤيا عبد اللّه بن زيد في منامه فأخذهما

ص: 797


1- مجمع البحرين 34:1 (أذن).
2- الذخيرة: 251.
3- مصابيح الظلام 460:6.
4- المدارك 255:3.
5- منهم البيهقي في سننه 390:1، و ابن قدامة في المغني 449:1، مسند أحمد 43:4.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منه.

و عن ابن أبي عقيل «أجمعت الشيعة على انّ الصادق عليه السّلام لعن قوما زعموا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ الأذان عن عبد اللّه بن زيد فقال ينزل الوحي بنبيّكم فتزعمون أنّه أخذ الأذان من عبد اللّه بن زيد»(1).

و يدلّ على بطلانه - مضافا إلى ما ذكر - أخبار اخر كالحسن بإبراهيم بن هاشم بل الصحيح عن منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لمّا هبط جبرئيل عليه السّلام بالأذان على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان رأسه في حجر عليّ عليه السّلام فأذّن جبرئيل عليه السّلام و أقام، فلمّا انتبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: يا عليّ ، سمعت ؟ قال: نعم، قال: حفظت ؟ قال: نعم، قال: ادع بلالا فعلّمه، فدعا عليّ عليه السّلام بلالا فعلّمه»(2).

و الحسن بل الصحيح عن زرارة و الفضيل عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لمّا اسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى السماء فبلغ البيت المعمور و حضرت الصلاة، فأذّن جبرئيل عليه السّلام و أقام، فتقدّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صفّ الملائكة و النبيّون خلف محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(3).

و الصحيح عن حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «لمّا اسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حضرت الصلاة، فأذّن جبرئيل عليه السّلام فلمّا قال: اللّه اكبر اللّه اكبر، قالت الملائكة: اللّه أكبر اللّه أكبر، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، قالت الملائكة: خلع الأنداد، فلمّا قال: أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، قالت الملائكة: نبيّ بعث، فلمّا قال: حيّ على الصلاة، قالت الملائكة: حثّ على عبادة ربّه، فلمّا قال: حيّ على الفلاح، قالت: أفلح من اتّبعه»(4).

و ربّما نقل عن الشهيد في حواشيه(5) و عن جامع المقاصد(6) خلاف آخر بين الفريقين في خصوص في(7) الغاية المقصودة من تشريعه، و هو «أنّه عند العامّة(8) من سنن الصلاة و الإعلام بدخول الوقت، و عندنا هو من سنن الصلاة و مقدّماتها المستحبّة، و الإعلام تابع

ص: 798


1- الوسائل 3/370:5، ب 1، الأذان و الإقامة، الذكرى 195:3.
2- الوسائل 2/369:5، ب 1، الأذان و الإقامة، الكافي 2/302:3.
3- الوسائل 1/369:5، ب 1، الأذان و الإقامة، الكافي 1/302:3.
4- الوسائل 10/417:5، ب 19، الأذان و الإقامة، الفقيه 864/183:1.
5- نقله عنه في مفتاح الكرامة 366:6.
6- جامع المقاصد 171:2.
7- كذا في الأصل.
8- المغنى لابن قدامة 413:1، الشرح الكبير 387:1.

و ليس بلازم. و تظهر فائدة الخلاف في القضاء و في أذان المرأة، فعلى قولهم لا يؤذّن القاضي و لا المرأة لأنّه للإعلام، و على قولنا يؤذّنان و تستر المرأة به انتهى»(1). و لا يبعد القول باستحبابهما لكلّ منهما بالاستقلال كما يظهر من الروايات.

و كيف كان فأذان الإعلام من السنن المؤكّدة إجماعا كما في المنتهى(2) بل هو من ضروريّات الدين الّتي لا يمكن الريبة فيها. و النصوص الدالّة عليه و على عظم أجر المؤذّنين و علوّ مقامهم أكثر من أن تحصى، و من جملة ذلك:

خبر معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أذّن في مصر من أمصار المسلمين سنة وجبت له الجنّة»(3).

و خبر سليمان بن جعفر عن أبيه قال: «دخل رجل من أهل الشام على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له: إنّ أوّل من يسبق إلى الجنّة بلال، قال: و لم ؟ قال: لأنّه أوّل من أذّن»(4).

و خبر عبد اللّه بن عليّ عن بلال - في حديث - قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:

المؤذّنون امناء المؤمنين على صلاتهم و صومهم و لحومهم و دمائهم، لا يسألون اللّه عزّ و جلّ شيئا إلاّ أعطاهم، و لا يشفعون في شيء إلاّ شفّعوا»(5) و الظاهر أنّ ذلك جزء من الحديث الّذي نقله في الوسائل ملخّصا بإسقاط جملة من الزوائد الّتي لا يخلّ سقوطها بالمطلوب.

ففيه عن عبد اللّه بن عليّ عن بلال مؤذّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - في حديث طويل - قال:

«سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: من أذّن أربعين عاما محتسبا بعثه اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة و له عمل أربعين صدّيقا عملا مبرورا متقبّلا»(6).

قال: «و سمعته يقول: من أذّن عشرين عاما بعثه اللّه يوم القيامة و له من النور زنة السماء»(7).

قال: «و سمعته يقول: من أذّن عشر سنين أسكنه اللّه عزّ و جلّ مع إبراهيم الخليل عليه السّلام في

ص: 799


1- نقله عنه في مفتاح الكرامة 366:6.
2- المنتهى 371:4.
3- الوسائل 1/371:5، ب 2، الأذان و الإقامة، التهذيب 1126/283:2.
4- الوسائل 7/373:5، ب 2، الأذان و الإقامة، التهذيب 1133/284:2.
5- الوسائل 7/380:5، ب 3، الأذان و الإقامة، الفقيه 905/189:1.
6- الوسائل 13/375:5، ب 2، الأذان و الإقامة، الفقيه 905/190:1.
7- الوسائل 14/375:5، ب 2، الأذان و الإقامة، الفقيه 905/190:1.

قبّته أو في درجته»(1).

قال: «و سمعته يقول: من أذّن سنة واحدة بعثه اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة و قد غفرت ذنوبه كلّها بالغة ما بلغت، و لو كانت مثل زنة جبل احد»(2).

قال: «و سمعته يقول: من أذّن في سبيل اللّه صلاة واحدة إيمانا و احتسابا و تقرّبا إلى اللّه - عزّ و جلّ - غفر اللّه له ما سلف من ذنوبه، و منّ عليه بالعصمة فيما بقى من عمره، و جمع بينه و بين الشهداء في الجنّة»(3).

قال: «و سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه عزّ و جلّ الناس في صعيد واحد بعث اللّه عزّ و جلّ إلى المؤذّنين ملائكة من نور و معهم ألوية و أعلام من نور، يقودون جنائب أزمّتها زبرجد أخضر، و خفائفها المسك الأذفر، يركبها المؤذّنون، فيقومون عليها قياما تقودهم الملائكة، ينادون بأعلى أصواتهم بالأذان...»(4) الخ. و تمام هذا الحديث مذكور في الفقيه.

و عن كتاب عقاب الأعمال عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من تولّى أذان مسجد من مساجد اللّه فأذّن فيه و هو يريد وجه اللّه، أعطاه اللّه ثواب أربعين ألف ألف نبيّ ، و إذا أذّن المؤذّن فقال:

أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، اكتنفه أربعون ألف ألف ملك، كلّهم يصلّون عليه، و يستغفرون له، و كان في ظلّ رحمة اللّه حتّى يفرغ...»(5) الحديث. إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ممّا ضرورة الحكم تغني عن الاهتمام بضبطه و جمعه.

و كونه مع الإقامة من سنن الصلاة و اشتماله على فضل عظيم و ثواب جسيم أيضا ممّا انعقد عليه إجماع المسلمين إجماعا معلوما بالضرورة، بل هو أيضا من ضروريّات الدين، و الروايات الناطقة بذلك المأثورة عن العترة الطاهرة أيضا فوق حدّ الإحصاء، مثل صحيحة يحيى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا أذّنت في أرض فلاة و أقمت صلّى خلفك صفّان من الملائكة، و إن أقمت و لم تؤذّن صلّى خلفك صفّ واحد»(6).

ص: 800


1- الوسائل 14/375:5، ب 2، الأذان و الإقامة، الفقيه 905/190:1.
2- الوسائل 15/375:5، ب 2، الأذان و الإقامة، الفقيه 905/190:1.
3- الوسائل 16/375:5، ب 2، الأذان و الإقامة، الفقيه 905/190:1.
4- الوسائل 17/375:5، ب 2، الأذان و الإقامة، الفقيه 905/190:1.
5- الوسائل 23/377:5، ب 2، الأذان و الإقامة، عقاب الأعمال: 342.
6- الوسائل 1/381:5، ب 4، الأذان و الإقامة، التهذيب 173/52:2.

و صحيحة محمّد بن مسلم قال: «قال لي أبو عبد اللّه: عليه السّلام إنّك إذا أذّنت و أقمت صلّى خلفك صفّان من الملائكة، و إن أقمت إقامة بغير أذان صلّى خلفك صفّ واحد»(1).

و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «إذا أذّنت و أقمت صلّى خلفك صفّان من الملائكة، و إذا أقمت صلّى خلفك صفّ من الملائكة»(2).

و خبر المفضّل بن عمر قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من صلّى بأذان و إقامة صلّى خلفه صفّان من الملائكة و من صلّى بإقامة بغير أذان صلّى خلفه صفّ واحد من الملائكة، قلت له: و كم مقدار كلّ صفّ؟ فقال: أقلّه ما بين المشرق و المغرب، و أكثره ما بين السماء و الأرض»(3).

و عن المجالس بإسناده عن أبي ذرّ عن النبيّ في وصيّته له قال: «يا أبا ذرّ إنّ ربّك ليباهي ملائكته بثلاثة نفر، رجل يصبح في أرض قفراء فيؤذّن ثمّ يقيم ثمّ يصلّي، فيقول ربّك، للملائكة: انظروا إلى عبدي يصلّي و لا يراه أحد غيري، فينزل سبعون ألف ملك يصلّون وراءه، و يستغفرون له إلى الغد من غير ذلك اليوم... إلى أن قال: يا أبا ذرّ، إذا كان العبد في أرض فيء يعني قفراء فتوضّأ أو تيمّم ثمّ أذّن و أقام و صلّى، أمر اللّه الملائكة فصفّوا خلفه صفّا لا يراه طرفاه، يركعون لركوعه، و يسجدون لسجوده، و يؤمّنون على دعائه، يا أبا ذرّ:

من أقام و لم يؤذّن لم يصلّ معه إلاّ ملكاه اللذان معه»(4) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

ص: 801


1- الوسائل 2/381:5، ب 4، الأذان و الإقامة، التهذيب 174/52:2.
2- الوسائل 3/381:5، ب 4، الأذان و الإقامة، الكافي 8/303:3.
3- الوسائل 7/382:5، ب 4، الأذان و الإقامة، ثواب الأعمال: 54.
4- الوسائل 9/383:5، ب 4، الأذان و الإقامة، أمالي الطوسي 147:2.
المبحث الثاني في كيفيّة الأذان و الإقامة

و اعلم أنّهما خمسة و ثلاثون فصلا، أمّا الأذان فثمانية عشر فصلا، اللّه أكبر أربع مرّات، ثمّ أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، ثمّ أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ حيّ على الصلاة، ثمّ حيّ على الفلاح، ثمّ حيّ على خير العمل، ثمّ اللّه أكبر، ثمّ لا إله إلاّ اللّه، كلّ واحد من هذه مرّتين.

و كون فصوله هي هذه هو المعروف من مذهب الأصحاب، و في المدارك «هذا مذهب الأصحاب لا أعلم فيه مخالفا»(1) بل تربيع التكبير في ابتدائه ما ادّعي عليه الإجماع(2)تارة و عمل الأصحاب(3) اخرى و عمل الطائفة(4) ثالثة، و نسب إلى مذهب الأصحاب(5)رابعة حتّى أنّ العلاّمة في المنتهى لم ينقل خلافا فيه إلاّ عن بعض العامّة قال: «ذهب إليه علماؤنا أجمع، و به قال أبو حنيفة(6) و الثوري(7) الشافي(8) و إسحاق(9) و أحمد(10) و قال

ص: 802


1- المدارك 279:3.
2- الغنية: 72، المنتهى 374:4.
3- الذكرى 199:3، التنقيح الرائع 191:1، المطالب المظفّريّة: 85، الروض 645:2.
4- كما في المسالك 187:1.
5- التذكرة 41:3، نهاية الإحكام 411:1.
6- بدائع الصنائع 147:1، المجموع 93:3، شرح فتح القدير 210:1.
7- المغني 450:1، المجموع 93:3.
8- الامّ 85:1، مغني المحتاج 135:1، المجموع 93:3، المغني 450:1.
9- المغني 450:1، الشرح الكبير بهامش المغني 430:1.
10- المغني 450:1، الشرح الكبير بهامش المغني 430:1، الكافي لابن قدامة 128:1.

مالك: التكبير في أوّل الأذان مرّتان(1) و هو قول أبي يوسف»(2) انتهى(3).

و لكن المحقّق في الشرائع جعله على الأشهر كذلك(4) و لعلّه أراد أشهر الروايات، أو نظر إلى ما عن الشيخ في الخلاف(5) من نسبته إلى بعض الأصحاب كونه عشرين كلمة، و أنّ التكبير في آخره أربع.

و كيف كان فيدلّ على التحديد المذكور عدّة روايات: مثل ما رواه الشيخ و ابن بابويه عن أبي بكر الحضرمي و كليب الأسدي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه حكى لهما الأذان «فقال: اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل، اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلاّ اللّه، لا إله إلاّ اللّه. و الإقامة كذلك»(6). و التشبيه محمول على المشاركة في أكثر الفصول.

و رواية إسماعيل الجعفي قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: الأذان و الإقامة خمسة و ثلاثون حرفا، فعدّ ذلك بيده واحدا واحدا، الأذان ثمانية عشر حرفا، و الإقامة سبعة عشر حرفا»(7).

و رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال: يا زرارة تفتتح الأذان بأربع تكبيرات، و تختمه بتكبيرتين و تهليلتين»(8).

و موثّقة المعلّى بن خنيس قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يؤذّن، فقال: اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه،

ص: 803


1- بداية المجتهد 105:1، المغني 450:1، المجموع 93:3، شرح فتح القدير 210:1.
2- المبسوط للسرخسي 129:1، بدائع الصنائع 147:1، نيل الأوطار 16:2.
3- المنتهى 374:4-375.
4- الشرائع 75:1.
5- الخلاف 278:1 المسألة 19.
6- الوسائل 9/416:5، ب 19 الأذان و الإقامة، التهذيب 211/60:2.
7- الوسائل 1/413:5، ب 19 الأذان و الإقامة، الكافي 3/302:3.
8- الوسائل 2/413:5، ب 19 الأذان و الإقامة، الكافي 5/303:3.

أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل، اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلاّ اللّه، لا إله إلاّ اللّه»(1).

و صحيحة زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: يا زرارة تفتتح الأذان بأربع تكبيرات، و تختمها بتكبيرتين و تهليلتين، و إن شئت زدت على التثويب حيّ [على] الفلاح، مكان الصلاة خير من النوم»(2).

و في مقابلها روايتان اخريان تدلاّن على تثنية التكبير في أوّل الأذان، كصحيحة عبد اللّه ابن سنان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الأذان ؟ فقال: تقول اللّه اكبر، اللّه اكبر، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل، اللّه اكبر، اللّه اكبر، لا إله إلاّ اللّه، لا إله إلاّ اللّه»(3).

و رواية زرارة و الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لمّا اسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبلغ البيت المعمور حضرت الصلاة، فأذّن جبرئيل و أقام، فتقدّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صفّ الملائكة و النبيّون خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: فقلنا له، كيف أذّن ؟ فقال: اللّه أكبر، اللّه أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل، اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلاّ اللّه، و الإقامة مثلها، إلاّ أنّ فيها قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، بين حيّ على خير العمل و بين اللّه أكبر، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلالا، فلم يزل يؤذّن بها حتّى قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(4).

و عن الشيخ حملهما على أنّه قصد إفهام السائل كيفيّة التلفّظ بالتكبير، و كان معلوما عنده أنّ التكبير أوّل الأذان أربع مرّات قبل، و حمله غيره على الإجزاء، و بقيّة الأحاديث على الأفضليّة، و لذلك استقرّ عليه عمل الشيعة(5) و ربّما حمل على التقيّة(6) لما تقدّم من

ص: 804


1- الوسائل 6/415:5، ب 19 الأذان و الإقامة، التهذيب 212/61:2.
2- الوسائل 2/428:5، ب 22 الأذان و الإقامة، التهذيب 224/63:2.
3- الوسائل 5/414:5، ب 19 الأذان و الإقامة، التهذيب 209/59:2.
4- الوسائل 8/416:5، ب 19 الأذان و الإقامة، التهذيب 210/60:2.
5- الوسائل 415:5 ذيل 5.
6- الوسائل 415:5 ذيل 5.

كون تثنية التكبير مذهب المالك من العامّة.

و الكلّ بعيد، أمّا الأوّل: فلأنّه قضى بالاقتصار على تكبيرة، بل في سائر الفصول أيضا على واحدة، مع أنّه كالمستحيل أن يعرف السائل عدد التكبير و لم يعرف التلفّظ بها. و أمّا الثاني: فلأنّه لا يلائم الفتاوي و الإجماعات المنقولة الظاهرة في اعتبار الأربع على التعيين.

و أمّا الثالث: فلأنّ احتمال التقيّة فيهما لا يلائم ذكر «حيّ على خير العمل» لكونه متروكا عند المخالفين. و الأولى: أن يقال: إنّ كون مضمون الخبرين متروكا عند الأصحاب غير معمول به لديهم، كاف في الإضراب عنهما و ترك العمل بهما.

و أمّا الإقامة: فالمعروف من مذهب الأصحاب أنّها سبعة عشر فصلا بإسقاط تكبيرتين من أربع تكبيرات أوّل الأذان و تهليلة واحدة من تهليلتي آخره مع زيادة قد قامت الصلاة مرّتين بعد «حيّ على خير العمل» و قبل «اللّه أكبر» و هو المشهور بين الأصحاب كما في المدارك(1) و الذخيرة(2) و هو مذهب علمائنا أو ذهب إليه علماؤنا كما عن نهاية الإحكام(3)و في المنتهى(4) و عن ظاهر الغنية(5) أو صريحها إجماع الفرقة عليه.

و عن الخلاف(6) إجماع الفرقة على أنّ السبع عشر من الإقامة، و إن اختلفوا فيما زاد عليه. و لعلّه أراد من الاختلاف فيما زاد عليه، ما عنه أيضا من الخلاف من حكاية قول عن بعض الأصحاب «بأنّه جعل فصول الإقامة مثل فصول الأذان و زاد فيها قد قامت الصلاة مرّتين»(7).

و لعلّ مستنده بعض ما رواه مرسلا في النهاية و المصباح، فعن الأوّل قد روي «أنّ الأذان و الإقامة سبعة و ثلاثون فصلا يضيف إلى ما ذكرناه التكبير مرّتين في أوّل الإقامة، قال: و قد روي ثمانية و ثلاثون فصلا، يضيف إلى ذلك أيضا لا إله إلاّ اللّه مرّة اخرى في آخر الإقامة، قال: و قد روي اثنان و أربعون فصلا، يضيف إلى ذلك التكبير في آخر الأذان مرّتين و في آخر الإقامة مرّتين»(8).

ص: 805


1- المدارك 281:3.
2- الذخيرة: 254.
3- نهاية الإحكام 412:1.
4- المنتهى 384:4.
5- الغنية: 73.
6- الخلاف 280:1 المسألة 20.
7- الخلاف 279:1 المسألة 20.
8- النهاية: 68-69.

و عن الثاني «و روي اثنان و أربعون فصلا، يجعل التكبير في أوّل الأذان و في آخره أربع مرّات، و أوّل الإقامة و آخرها كذلك مرّتين فيهما، قال: و روي سبعة و ثلاثون فصلا يجعل في أوّل الإقامة اللّه أكبر أربع مرّات»(1) و عنه في النهاية - بعد العبارة المتقدّمة - «فمن عمل على إحدى هذه الروايات لم يكن مأثوما»(2) انتهى.

و المعتمد هو المشهور المدّعى عليه الإجماع، و العمدة بيان دليله من الروايات.

فعن المحقّق(3) الاستدلال بما رواه الشيخ في الصحيح عن صفوان بن مهران الجمّال قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: الأذان مثنى مثنى، و الإقامة مثنى مثنى»(4). و ردّ بعدم انطباقها على المدّعى لتضمّنها تثنية التهليل.

و استدلّ برواية إسماعيل الجعفي المتقدّمة المصرّحة «بأنّ الإقامة سبعة عشر حرفا» و لا يتمّ ذلك إلاّ بانضمام ما يرفع إجماله من حيث المعدود من الإجماعات و سائر الروايات المتعرّضة لبيان فصولها و إن خالفها عددا. و إن شئت استدللت بمجموع الروايات الواردة في هذا الباب فإنّه يؤخذ بالمتّفق عليه من مضمونها عددا و معدودا، و يطرح المختلف فيه من مضامينها لعدم عامل به أو شذوذه.

و بذلك ظهر ضعف القول بكون فصول الإقامة مثل فصول الأذان مع زيادة «قد قامت الصلاة» مرّتين، لضعف مستنده، و هو الجمع بين روايتي أبي بكر الحضرمي و زرارة و الفضيل المتقدّمتين.

ثمّ الظاهر من كلام الأصحاب أنّه لا فرق في كون الأذان ثمانية عشر فصلا بين أذان الإعلام و أذان الصلاة، بل ظاهرهم مساواتهما في جميع الأحكام إلاّ في بعض ما ستعرفه.

و أمّا قول «أشهد أنّ عليّا وليّ اللّه» و نحوه، و كذا قول «آل محمّد خير البريّة» بعد «حيّ على خير العمل» فهو ليس من الأذان، لخلوّ الأخبار عن ذكره.

و هو المصرّح به في كلام الأصحاب. قال الشيخ في المبسوط: و أمّا قول «أشهد أنّ عليّا أمير المؤمنين و آل محمّد خير البريّة» على ما ورد في شواذّ الأخبار فليس بمعمول عليه

ص: 806


1- المصباح: 26.
2- النهاية: 68-69.
3- المعتبر 139:2-140.
4- الوسائل 4/414:5، ب 19 الأذان و الإقامة، التهذيب 217/62:2.

في الأذان، و لو فعله الإنسان لم يأثم به غير أنّه ليس من فضيلة الأذان و لا من كمال فصوله.(1) و قال في النهاية: فأمّا ما روي(2) في شواذّ الأخبار من قول «إنّ عليّا وليّ اللّه و آل محمّد خير البريّة» فممّا لا يعمل عليه في الأذان و الإقامة، فمن عمل به كان مخطئا(3).

قال في المنتهى: و أمّا ما روي في الشواذّ من قول «إنّ عليّا وليّ اللّه و آل محمّد خير البريّة» فممّا لا يعوّل عليه(4). و نقل في التذكرة(5) عبارة الشيخ في النهاية و ظاهره القبول.

و نقل الشهيد في الذكرى(6) عبارته في المبسوط مع ما ستسمع من عبارة الفقيه و ظاهره القبول. قال في اللمعة: و لا يجوز اعتقاد شرعيّة غير هذه الفصول في الأذان و الإقامة كالتشهّد بالولاية لعليّ عليه السّلام و أنّ محمّدا و آله خير البريّة و إن كان الواقع كذلك(7). قال في الروضة - في شرح هذه العبارة -: فما كلّ واقع حقّا يجوز إدخاله في العبادات الموظّفة شرعا المحدودة من اللّه تعالى، فيكون إدخال ذلك فيها بدعة و تشريعا، كما لو زاد في الصلاة ركعة أو تشهّدا و نحو ذلك من العبادات. و بالجملة فذلك من أحكام الإيمان لا من فصول الأذان(8).

و لهذا كلّه قال في الذخيرة: و أمّا إضافة «أنّ عليّا وليّ اللّه و آل محمّد خير البريّة» و أمثال ذلك فقد صرّح الأصحاب بكونها بدعة و إن كان حقّا صحيحا، إذ الكلام في دخولها في الأذان و هو موقوف على التوقيف الشرعي و لم يثبت(9).

و يظهر من الصدوق في الفقيه أنّ إدخاله في الأذان من موضوعات المفوّضة و بدعهم حيث إنّه - بعد نقل خبر أبي بكر الحضرمي و كليب الأسدي - قال: هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد و لا ينقص منه، و المفوّضة لعنهم اللّه قد وضعوا أخبارا و زادوا في الأذان «محمّد و آل محمّد خير البريّة» و في بعض رواياتهم بعد أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه «أشهد أنّ عليّا وليّ اللّه» مرّتين، و منهم من يروي بدل ذلك «أشهد أنّ عليّا أمير المؤمنين حقّا» مرّتين، و لا شكّ في أنّ عليّا وليّ اللّه و أنّه أمير المؤمنين حقّا و أنّ محمّدا و آل محمّد صلوات اللّه

ص: 807


1- المبسوط 99:1.
2- الفقيه 879/290:1.
3- النهاية: 69.
4- المنتهى 381:4.
5- التذكرة 45:3.
6- الذكرى 203:3.
7- اللمعة: 12.
8- الروضة 575:1.
9- الذخيرة: 254.

عليهم خير البريّة، و لكن ليس ذلك في أصل الأذان، و لكن ذكرت ذلك ليعرف بهذه الزيادة المتّهمون بالتفويض المدلّسون أنفسهم في جملتنا(1). انتهى.

و العجب ممّا قاله المجلسي في البحار على ما حكي من قوله: «و لا يبعد أن يكون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبّة للأذان، لشهادة الشيخ و العلاّمة و الشهيد و غيرهم بورود الأخبار بها»(2) و جنح إليه صاحب الحدائق(3) فإنّ الأخبار الواردة بها هي الّتي وصفوها بالشذوذ و لم يعوّلوا عليها أصلا، و هي الّتي ظاهرا جعلها الصدوق من موضوعات المفوّضة - لعنهم اللّه - و مع هذا كيف تصلح هذه الأخبار مستندا لكون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبّة، خصوصا مع ملاحظة ما ذكره الشيخ في المبسوط من «أنّه لو فعله الإنسان لم يأثم به غير أنّه ليس من فضيلة الأذان و لا كمال فصوله»(4) و الظاهر أنّه أراد بقوله «لم يأثم» أنّه إذا ذكره لا بقصد الجزئيّة لم يأثم، و إلاّ كان تشريعا و لازمه الإثم. و لذا قال في النهاية: «فمن عمل كان مخطئا» يعني به من ذكره بقصد الجزئيّة.

و أعجب ممّا ذكر ما في كلام المجلسي من تأييد ما ذكره من كونها من الأجزاء المستحبّة بما روي عن الطبرسي في احتجاجه عن القاسم بن معاوية قال: «فقلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: هؤلاء يروون حديثا في معراجهم أنّه لمّا اسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى على العرش لا إله إلاّ اللّه محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبو بكر الصديق، فقال: سبحان اللّه غيّروا كلّ شيء حتّى هذا؟ قلت: نعم، قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ لمّا خلق العرش كتب عليه لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه عليّ أمير المؤمنين، ثمّ ذكر كتابة ذلك على السماء و الكرسي و اللوح و جبهة إسرافيل و جناحي جبرئيل و أكناف السماوات و الأرضين و رءوس الجبال و الشمس و القمر، ثمّ قال عليه السّلام: فإذا قال أحدكم: لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه، فليقل: عليّ أمير المؤمنين». قال: فيدلّ على استحباب ذلك عموما، و الأذان من تلك المواضع(5).

و فيه - بعد الإغماض عن ضعف السند - منع الدلالة و العموم، فإنّ ذكر «لا إله إلاّ اللّه

ص: 808


1- الفقيه 897/188:1.
2- البحار 111:84-112.
3- الحدائق 404:7.
4- المبسوط 99:1.
5- البحار 112:84، الاحتجاج: 158.

محمّد رسول اللّه» بدون إضافة «أشهد» يوجب عدم تناول اللفظ للأذان، ففي التعدّي إليه شبهة قياس. و قد ذكرنا في غير موضع أنّ قاعدة التسامح في موضع ضعف الخبر بعد تسليم الدلالة لا تفيد الاستحباب المصطلح، بل غايته حصول الأجر و الثواب، فذكره في الأذان بقصد الجزئيّة أو بقصد أنّه من مستحبّات الأذان تشريع. نعم ذكره للتيمّن و التبرّك و إرغام انوف الأعادي لا ضير فيه، و هذا هو معنى ما عرفت عن مبسوط الشيخ.

ثمّ بقى الكلام في الأحكام المتعلّقة بكيفيّة الأذان، و تتمّ بإيراد مسائل:

المسألة الاولى: في أنّه لا يصحّ الأذان قبل دخول الوقت، إلاّ أذان الصبح، فإنّه رخّص تقديمه على الصبح مع استحباب إعادته بعد طلوعه، فهذه أحكام ثلاث:

الأوّل: عدم جواز تقديم ما عدى أذان الصبح على الوقت قولا واحدا، و في المدارك «عليه علماء الإسلام»(1) و عن المعتبر(2) و المنتهى(3) و التحرير(4) و التذكرة(5)و كشف الالتباس(6) و جامع المقاصد(7) «بإجماع علماء الإسلام» و عن نهاية الإحكام(8)و المختلف(9) و كشف اللثام(10) و المفاتيح(11) «بالإجماع» و علّل بأنّه وضع للإعلام بدخول الوقت فلا يقع قبله.

الثاني: جواز تقديم أذان الفجر على طلوعه، الّذي نسبه في المدارك(12) كما عن المختلف(13) و كشف اللثام(14) إلى مذهب الأكثر، و في المنتهى(15) «أنّ عليه فتوى علمائنا» مؤذنا بدعوى الإجماع، و عن المعتبر(16) «عندنا» و هو أيضا يوهمه.

خلافا للحلّي(17) فمنع من تقديمه في الصبح أيضا، و عزي إلى المرتضى في المسائل الناصريّة(18) و ابن الجنيد(19) و أبي الصلاح(20) و الجعفي(21).

ص: 809


1- المدارك 277:3.
2- المعتبر 138:2.
3- المنتهى 423:4.
4- التحرير 230:1.
5- التذكرة 77:3.
6- كشف الالتباس: 107.
7- جامع المقاصد 174:2.
8- نهاية الإحكام 426:1.
9- المختلف 132:2.
10- كشف اللثام 362:3.
11- المفاتيح 119:1.
12- المدارك 277:3.
13- المختلف 132:2.
14- كشف اللثام 363:3.
15- المنتهى 423:4.
16- المعتبر 138:2.
17- السرائر 211:1.
18- الناصريّات: 182.
19- نقله عنها في الذكرى 237:3.
20- الكافي في الفقه: 121.
21- نقله عنها في الذكرى 237:3.

و للعامّة أيضا قولان، على ما حكاهما العلاّمة في المنتهى(1) فالجواز عن مالك(2)و الأوزاعي(3) و الشافعي(4) و أحمد(5) و إسحاق(6) و المنع عن أبي حنيفة(7) و الثوري(8)و محمّد بن الحسن(9).

و عن المرتضى(10) الاحتجاج عليه «بأنّ الأذان دعاء إلى الصلاة و علم على دخولها ففعله قبل وقتها وضع للشيء في غير موضعه، و بأنّه روي أنّ بلالا أذّن قبل طلوع الفجر فأمره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يعيد الأذان»(11).

فظاهر الحجّة المذكورة مع ما تقدّم في حجّة المنع في غير أذان الفجر كون معقد كلامهم في المسألة من محلّ وفاق، و محلّ وفاق إنّما هو أذان الإعلام، و هو المستفاد من مطاوي كلماتهم، و عليه فلا يصحّ تقديم أذان الصلاة و إقامتها على أوقاتها حتّى الفجر قولا واحدا و هو المنساق من روايات الباب، و وجهه واضح.

و أمّا ما عليه الأكثر من تقديم أذان الفجر، فلم نقف عليه على دليل يعتمد عليه، و إن ادّعى الحسن بن أبي عقيل تواتر الأخبار به قائلا على ما حكي «الأذان عند آل الرسول عليهم السّلام للصلوات الخمس بعد دخول وقتها إلاّ الصبح، فإنّه جائز أن يؤذّن لها قبل دخول وقتها، بذلك تواترت الأخبار عنهم، و قالوا: كان للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مؤذّنان، أحدهما بلال، و الآخر ابن امّ مكتوم و كان أعمى، و كان يؤذّن قبل الفجر، و بلال إذا طلع الفجر، و كان عليه السّلام يقول: إذا سمعتم أذان بلال فكفّوا الطعام و الشراب»(12) انتهى.

و لم نقف من الأخبار المتواترة حسبما ادّعاه إلاّ على بعضها مثل صحيحة معاوية بن

ص: 810


1- المنتهى 423:4.
2- المغني 455:1، المجموع 89:3، المحلّى 119:3.
3- المغني 455:1، المجموع 89:3، المحلّى 119:3.
4- المغني 455:1، المجموع 89:3، الأمّ 83:1.
5- المغني 455:1، المجموع 89:3، الإنصاف 420:1.
6- المغني 455:1، المجموع 89:3، عمدة القارئ 130:5.
7- المغني 455:1، المجموع 89:3، المحلّى 119:3.
8- المغني 455:1، المجموع 89:3، المحلّى 119:3.
9- المغني 455:1، المجموع 89:3، نيل الأوطار 32:2.
10- الناصريّات: 182.
11- سنن دارقطني 53/245:1 و 55، السنن الكبرى للبيهقي 383:1.
12- الوسائل 2/389:5، ب 8 الأذان و الإقامة، الفقيه 905/193:1.

وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - في حديث - قال: «لا تنتظر بأذانك و إقامتك إلاّ دخول وقت الصلاة، و احدر إقامتك حدرا، قال: و كان للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مؤذّنان، أحدهما بلال، و الآخر ابن امّ مكتوم و كان ابن امّ مكتوم أعمى و كان يؤذّن قبل الصبح، و كان بلال يؤذّن بعد الصبح، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ ابن مكتوم يؤذّن بليل فإذا سمعتم أذانه فكلوا و اشربوا حتّى تسمعوا أذان بلال»(1).

و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان بلال يؤذّن للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ابن امّ مكتوم و كان أعمى يؤذّن بليل، و يؤذّن بلال حين يطلع الفجر»(2).

و قويّة زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: هذا ابن امّ مكتوم و هو يؤذّن بليل، فإذا أذّن بلال فعند ذلك فأمسك»(3).

و وجه الاستدلال بهذه الروايات أنّ لفظة «كان» تفيد الدوام فتدلّ على مداومة ابن امّ مكتوم للأذان قبل الصبح، و تقرير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيّاه على هذا الفعل و عدم ردعه عنه مع اطّلاعه عليه يدلّ على الرخصة فيه.

و المناقشة في الدلالة بأنّ التعرّض لوصف ابن امّ مكتوم بكونه أعمى في إسناد الأذان قبل الصبح إليه يفيد تعليل فعله هذا بكونه أعمى، و هو يفيد كون فعله لعدم تحقيقه الوقت لمانع العمى، و هذا لا يدلّ على كونه رخصة من النبيّ .

يدفعها: أنّ الدلالة على الرخصة إنّما هي من جهة التقرير باعتبار أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان متمكّنا من أن يمنعه من الأذان رأسا، و لو استند فعله قبل الوقت إلى العمى المانع من تحقيقه و معرفته، فلو لم يكن جائزا في ديوان الشرع لردعه.

نعم يشكل إطلاق هذه الدلالة بالقياس إلى صورتي العذر و عدمه، فإنّ غايتها بملاحظة المورد ثبوت الرخصة للمعذور الغير المتمكّن من معرفة الوقت و إحراز دخوله لعمى و نحوه، مع أنّه لم يظهر من الروايات أنّه كان يؤذّن قبل الوقت مع علمه بعدم دخوله، و هو محلّ البحث المثمر لإثبات الجواز في حقّه. و المنع من التقديم مع العلم بعدم دخول الوقت

ص: 811


1- الوسائل 1/388:5، ب 8 الأذان و الإقامة، الفقيه 876/185:1.
2- الوسائل 3/389:5، ب 8 الأذان و الإقامة، الكافي 3/98:4.
3- الوسائل 4/389:5، ب 8 الأذان و الإقامة، الكافي 1/98:4.

لو كان تشريعي، و يرتفع التشريع بالجهل خصوصا مع اعتقاد الدخول فلا يجب الردع في نحو هذه الصورة لو لم يكن التقديم مع العلم بعدم الدخول مرخّصا فيه.

غاية ما هنالك كون الأذان الواقع على هذا الوجه ممّا لا يعتدّ به شرعا في تأدّي السنّة و سقوطه عن درجة الاعتبار، لا كونه محظورا، كما يومئ إليه قوله عليه السّلام: «فإذا سمعتم أذانه فكلوا و اشربوا حتّى تسمعوا أذان بلال» فإنّ نحو هذه العبارة يقال في مقام التنبيه على عدم الاعتداد بالشيء و سقوطه عن الاعتبار، كما لا يخفى على المتأمّل في طريقة العرف و مجاري العادات.

و أظهر ممّا ذكر في الدلالة على سقوط هذا الأذان عن الاعتبار و عدم عود فائدة فيه إلى صاحبه و أنّه ليس هو الأذان المسنون، صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قلت له: إنّ لنا مؤذّنا يؤذّن بليل، قال: إنّ ذلك ينفع الجيران لقيامهم إلى الصلاة، و أمّا السنّة فإنّه ينادي مع طلوع الفجر و لا يكون بين الأذان و الإقامة إلاّ ركعتان»(1).

و صحيحه الآخر قال: «سألته عن النداء قبل طلوع الفجر؟ فقال: لا بأس، و أمّا السنّة مع الفجر و أنّ ذلك لينفع الجيران يعني قبل الفجر»(2).

و يدلّ عليه أيضا ما روي مرسلا «من أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم البلال بعد ما أذّن قبل طلوع الفجر بأن يعيد الأذان»(3) كما تقدّم في حجّة المانعين، فإنّ الأمر بالإعادة في جميع موارده ظاهر في الإتيان ثانيا بالمأتيّ به أوّلا، لوقوعه في غير موقعه لخلل فيه. و حمله على مطلوبيّة الإعادة بنفسها و إن وقع الأوّل موقعه، خلاف ظاهر لا يصار إليه إلاّ لقرينة، و هي منتفية في المقام.

و بهذا يندفع ما قيل في جواب احتجاج المانعين: من أنّا نقول بموجب الرواية إذ لا خلاف في استحباب إعادة الأذان بعد طلوع الفجر و إنّما النزاع في جواز فعله قبله، فإنّ الأمر بالإعادة ظاهر في مطلوبيّة الإعادة على أنّها الاستحباب الأوّل الغير الساقط بالفعل الأوّل، لا على أنّها استحباب آخر متعلّق بالإعادة بنفسها بعد سقوط الاستحباب الأوّل

ص: 812


1- الوسائل 7/390:5، ب 8 الأذان و الإقامة، التهذيب 177/53:2.
2- الوسائل 8/391:5، ب 8 الأذان و الإقامة، التهذيب 178/53:2.
3- مستدرك الوسائل 3/26:4، ب 7 الأذان و الإقامة، درر اللآلئ 144:1.

بالفعل الأوّل.

و يدلّ على عدم مشروعيّته قبل الوقت مطلقا، صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان طول حائط مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قامة، فكان عليه السّلام يقول لبلال إذا دخل الوقت:

يا بلال اعل فوق الجدار، و ارفع صوتك بالأذان، فإنّ اللّه عزّ و جلّ قد و كلّ بالأذان ريحا ترفعه إلى السماء، و أنّ الملائكة إذا سمعوا الأذان من أهل الأرض قالوا: هذه أصوات امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتوحيد اللّه عزّ و جلّ ، و يستغفرون لامّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى يفرغوا من تلك الصلاة»(1) فإنّه لو كان الأذان قبل دخول الوقت مرخّصا فيه بحسب الجعل الإلهي لخرج التقييد بدخول الوقت بلا فائدة، و إطلاقه يتناول وقت الفجر أيضا، و إخراجه من الإطلاق يحتاج إلى دليل يعوّل عليه و ليس.

و يؤيّد المنع من التقديم أيضا المرويّ عن البحار عن كتاب النرسي عن أبي الحسن موسى عليه السّلام «أنّه سمع الأذان قبل طلوع الفجر فقال: شيطان، ثمّ سمعه عند طلوع الفجر، فقال: الأذان حقّا»(2).

و عنه أيضا عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «سألته عن الأذان قبل طلوع الفجر؟ فقال: إنّما الأذان عند طلوع الفجر أوّل ما يطلع، قلت: فإن كان يريد أن يؤذّن الناس بالصلاة و ينبّههم ؟ قال:

فلا يؤذّن و لكن ليقل و ينادي: بالصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، يقولها مرارا»(3).

و حملهما على التقيّة بعيد لما عرفت من الخلاف بين العامّة، فإنّهما و إن وافقتا أحد قوليهم و لكنّهما تخالفان القول الآخر.

و ربّما استدلّ على الجواز بما رواه الشيخ في الصحيح عن عمران بن عليّ قال: «سألت أبا عبد اللّه عن الأذان قبل الفجر؟ فقال: إذا كان في جماعة فلا، و إذا كان وحده فلا بأس»(4).

و حمل النهي عن التقديم في الجماعة بأنّه إنّما يقدّم للإعلام لاجتماع الناس للجماعة، فمع حضور الجماعة و اجتماعها لا يحتاج إلى الإعلام للاجتماع.

و فيه: أنّ المجوّزين للتقديم أطلقوا بذلك، و ظاهرهم عدم الفرق بين حضور الجماعة

ص: 813


1- الوسائل 7/411:5، ب 16 الأذان و الإقامة، التهذيب 206/58:2.
2- مستدرك الوسائل 2/25:4، ب 7 الأذان و الإقامة، البحار 76/172:84، أصل زيد النرسي: 54.
3- مستدرك الوسائل 2/25:4، ب 7 الأذان و الإقامة، البحار 76/172:84، أصل زيد النرسي: 54.
4- الوسائل 6/390:5، ب 8 الأذان و الإقامة، الكافي 23/306:2.

و عدم حضورها و التفصيل ينافي إطلاقهم، إلاّ أن يتمسّك بعدم القول بالفصل، فلا يعمل بالرواية في الجزء الأوّل من التفصيل هذا.

و لكنّ الإنصاف أنّ حمل الجماعة في هذه الرواية على الجماعة الحاضرة للصلاة بعيد بل الظاهر أنّ المراد من كون المؤذّن في جماعة كونه في اناس يستمعون أذانه، فالرواية في مورد الأذان الإعلامي يدلّ على المنع من التقديم، و ما يدلّ على جوازه فيه خارج عن مورد الأذان الإعلامي خروجا موضوعيّا.

و توضيح ذلك: أنّ أذان الإعلام ما يقصد به إعلام الغير بدخول الوقت فلا بدّ أن يكون هناك من يستمع الأذان ليتحقّق في حقّه الإعلام بدخول الوقت، بأن يكون المؤذّن في بلد أو قرية أو محلّة أو جامع أو قافلة أو نحو ذلك، كما ربّما يومئ إليه قوله عليه السّلام: «من أذّن في مصر من أمصار المسلمين سنّة وجبت له الجنة»(1) و أمّا لو كان في مكان لم يكن هناك أحد يستمع أذانه خرج عن مورد الأذان الإعلامي على معنى انتفاء موضوعه، و لزم من انتفاء الموضوع انتفاء حكمه و هو الاستحباب، فيدخل الأذان حينئذ في عنوان مطلق الذكر و لا إشكال في جوازه حينئذ.

و تفصيل الرواية ناظر إلى هاتين الصورتين، فقوله: «إن كان في جماعة» يعني به أنّه إن كان في اناس يستمعون أذانه فالرواية في مورد الأذان الإعلامي دالّة على المنع، و ما تدلّ على جواز التقديم فيه ليس من الأذان الإعلامي. و جوازه حينئذ من حيث كونه من الذكر المطلق، لا من الأذان المسنون للإعلام.

و وجه المنع في الصورة الاولى لعلّة كونه موجبا لإغراء المستمعين بالجهل، من حيث لزومه اعتقادهم بدخول الوقت على خلاف الواقع.

نعم العمدة في المقام النظر في أنّ أذان الإعلام هل هو مقصور على ما لو كان هناك من يسمعه أو يعمّه و ما لو كان المؤذّن وحده ؟ فيه وجهان: مبنيّان على أنّ الإعلام الّذي هو علّة غائيّة لهذا الأذان هل هو علّة لتشريع هذا الأذان، أو علّة لحكمه و هو الاستحباب، فعلى الثاني يدور الحكم وجودا و عدما على محلّ تحقّق الإعلام و عدمه.

و لم نقف في كلام الأصحاب على من تعرّض لذلك، فينبغي لتحقيقه الرجوع إلى القواعد

ص: 814


1- الوسائل 1/371:5، ب 1 الأذان و الإقامة، التهذيب 1126/283:2.

و الاصول، فقاعدة التوقيف في العبارات و أصل العدم و أصل البراءة - إن قلنا بجريانه في المستحبّات أيضا على معنى خلوّ ذمّة المكلّف عن الحكم الفعلي و إن لم يكن الزاميّا يترتّب على مخالفته العقاب - كلّها يساعد على الثاني.

فالأقوى ما عليه الجماعة من عدم صحّة الأذان و عدم مشروعيّته قبل طلوع الفجر خلافا للأكثر، استضعافا لأدلّتهم.

و على القول بالجواز فقد صرّحوا بأنّه لا حدّ له من حيث القلّة و الكثرة بل ما قارب الفجر. و في كلام جماعة ينبغي أن يجعل له ضابطا ليحصل الفائدة، و هو أن يعيّن زمانا معيّنا ممّا قبل الفجر لأن يؤذّن فيه دائما و لا يتجاوزه. و في جامع المقاصد(1) و المسالك(2)و غيرها(3) تعليله بأن يعتمد عليه الناس و يترتّب عليه الفائدتان، و المراد بهما فائدتا الأذان الأوّل الواقع قبل الطلوع للتنبيه على قرب الوقت، و الأذان الثاني الواقع بعد طلوعه للتنبيه على دخول الوقت.

ثمّ قضيّة إطلاق كلامهم كما هو المصرّح به في كلام كثير(4) عدم الفرق فيما يستحبّ تقديمه بين شهر رمضان و بين غيره، و لا بين ما لو كان المؤذّن واحدا أو اثنين أحدهما يؤذّن قبله و الآخر بعده. و في كلام غير واحد(5) أولويّة التغاير ليعلم الناس بمعرفة الصوت كونه أيّ الأذانين، فإنّه مع وحدة المؤذّن ربّما يلتبس على السامع كونه الأذان الأوّل أو الثاني.

ثمّ إنّ المجوّزين(6) للتقديم صرّحوا بلا خلاف بينهم باستحباب إعادة هذا الأذان بعد طلوع الفجر، و هذا هو الحكم الثالث(7) و استدلّوا عليه بما مرّ من أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلالا بأن يعيده بعد طلوع الفجر.

و قد عرفت ما فيه من عدم دلالته على استحباب الإعادة بنفسها، لظهوره في كونها بمقتضى الأمر الأوّل الغير الساقط بالأذان الأوّل لوقوعه في غير محلّه، فليتدبّر.

ص: 815


1- جامع المقاصد 174:2.
2- المسالك 187:1.
3- كما في الذكرى 198:3، الذخيرة: 259، المدارك 279:3.
4- كما في جامع المقاصد 174:2، المدارك 279:3.
5- كما في جامع المقاصد 174:2، المدارك 279:3، الذخيرة: 259.
6- كما في التذكرة 79:3، المدارك 278:3، كشف اللثام 363:3، الرياض 324:3، الحدائق 398:7.
7- تقدّم الحكم الأوّل و الثاني في 802.

المسألة الثانية: يشترط الترتيب بين الأذان و الإقامة و بين فصول كلّ منهما في صحّتهما، فلا يعتدّ بأذان الغير المرتّب و لا بإقامته بالإجماع المنقول عن كاشف اللثام(1) و نفي الخلاف المنقول عن الحدائق(2).

و علّل بأنّ الآتي بهما على خلاف الترتيب لا يكون آتيا بالسنّة، لأنّها عبادة متلقّاة عن صاحب الشرع فيقتصر على صفتها المنقولة. و يدلّ عليه جميع الروايات المتكفّلة لبيان كيفيّة الأذان و الإقامة المتّفقة على كيفيّة واحدة من حيث التقديم و التأخير فتفيد اعتبار هذه الكيفيّة.

و مرجعه إلى ظهور الترتيب الذكري في اعتبار هذا الترتيب و اشتراط الصحّة به.

فلو خالف لزم إعادة كلّ من المتقدّم و المتأخّر إن أتى به، و لا يقتصر على إعادة المتقدّم فقط، كما يدلّ عليه صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من سها في الأذان فقدّم أو أخّر أعاد على الأوّل الّذي أخّره حتّى يمضي على آخره»(3).

و المرسل المرويّ عن الفقيه عن الباقر عليه السّلام «تابع بين الوضوء... إلى أن قال: و كذلك في الأذان و الإقامة، فابدأ بالأوّل فالأوّل، فإن قلت حيّ على الصلاة قبل الشهادتين تشهّدت، ثمّ قلت حيّ على الصلاة»(4).

و ظاهر إطلاق فتوى الأصحاب كصريح غير واحد(5) عدم الفرق في الإعادة لو أخلّ بالترتيب بين صورتي العمد و السهو جاهلا بالحكم و عدمه، بل الإعادة مع السهو ما نصّ عليه الصحيحة و يتمّ في غيره بالفحوى.

المسألة الثالثة: في سنن الأذان و الإقامة، و هي امور:

الأوّل: أنّه يستحبّ الاستقبال فيهما على ما هو المعروف بين الأصحاب، بل في المدارك «هذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب»(6) و في الذكرى «و يستحبّ الاستقبال فيهما إجماعا»(7) و يظهر دعواه فيهما أيضا من الغنية(8).

ص: 816


1- كشف اللثام 377:3.
2- الحدائق 405:7.
3- الوسائل 1/441:5، ب 33 الأذان و الإقامة، الكافي 15/305:3.
4- الوسائل 3/442:5، ب 33 الأذان و الإقامة، الفقيه 89/28:1.
5- كما في نهاية الإحكام 413:1، الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 71، كشف الالتباس: 108، روض الجنان 648:2، المدارك 283:3.
6- المدارك 283:3.
7- الذكرى 206:3.
8- الغنية: 73.

و عن كاشف اللثام «أنّه مذهب المعظم»(1) مؤذنا بوجود الخلاف فيهما.

و في الحدائق(2) كما عن البحار «أنّ المشهور استحبابه في الإقامة»(3) مؤذنين بوجود الخلاف في الإقامة خاصّة.

و لعلّ الأوّل إشارة إلى ما في المدارك من قوله: «و أوجبه المرتضى فيهما»(4) أو إلى ما في مفتاح الكرامة من قوله: «و أوجب الاستقبال فيهما في الجماعة القاضي فيما نقل عنه»(5).

و الثاني إشارة إلى ما عن المقنعة(6) و جمل العلم(7) و المراسم(8) و الوسيلة(9) و مصباح(10)السيّد من القول بوجوبه في الإقامة.

و عن التذكرة(11) و إرشاد الجعفريّة(12) الإجماع على استحبابه في الأذان.

و كيف كان فالمسألة تتضمّن حكمين:

أحدهما: عدم وجوب الاستقبال فيهما، و يتضمّنه الإجماعات المنقولة على الاستحباب، و يدلّ عليه - مضافا إلى ذلك - صحيحة زرارة المرويّة في الفقيه عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«تؤذّن و أنت على غير وضوء في ثوب واحد، قائما أو قاعدا، و أينما توجّهت، و لكن إذا أقمت فعلى وضوء متهيّأ للصلاة»(13).

و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: يؤذّن الرجل و هو على غير القبلة ؟ قال: إذا كان التشهّد مستقبل القبلة فلا بأس»(14).

و صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: «سألته عن الرجل يؤذّن و هو يمشي أو على ظهر دابّته، و هو على غير طهور؟ فقال: نعم إذا كان التشهّد مستقبل القبلة فلا بأس»(15).

و خبر عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن رجل يفتتح الأذان

ص: 817


1- كشف اللثام 377:3.
2- الحدائق 344:7.
3- البحار: 114/84.
4- جمل العلم و العمل: 58.
5- مفتاح الكرامة 476:6، المهذّب 89:1.
6- المقنعة: 99.
7- جمل العلم و العمل (رسائل الشريف المرتضى 3):30.
8- المراسم: 69.
9- الوسيلة: 92.
10- المصباح، نقله عنه المحقّق في المعتبر 128:2.
11- التذكرة 69:3.
12- المطالب المظفّريّة: 85 (مخطوط).
13- الوسائل 1/401:5، ب 13 الأذان و الإقامة، الفقيه 866/183:1.
14- الوسائل 1/452:5، ب 47 الأذان و الإقامة، الكافي 17/305:3.
15- الوسائل 7/403:5، ب 13 الأذان و الإقامة، التهذيب 196/56:2.

و الإقامة و هو على غير القبلة ثمّ يستقبل القبلة ؟ قال: إذا كان التشهّد مستقبل القبلة لا بأس»(1).

و خبره الآخر أيضا عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن رجل يفتتح الأذان و الإقامة و هو على غير القبلة ثمّ استقبل القبلة ؟ قال: لا بأس»(2).

و ثانيهما: استحباب الاستقبال فيهما.

و استدلّ عليه - مضافا إلى ما تقدّم من الإجماعات - بقوله عليه السّلام في المرسل: «خير المجالس ما استقبل فيه القبلة»(3) بناء على عموم المجالس لمحلّ الوقوف للأذان و الإقامة، أو أنّ المناط هو رجحان الاستقبال سواء في ذلك المجلس و الموقف و غيرهما. و ضعفه سندا كقصوره دلالة مجبور بالعمل.

و قد يستدلّ عليه بالمرويّ عن دعائم الإسلام عن عليّ عليه السّلام قال: «يستقبل المؤذّن القبلة في الأذان و الإقامة...»(4) الخ. و هو لضعفه و مصير المعظم إلى خلاف ظاهره و عدم مقاومته لمعارضة ما تقدّم - من المستفيضة المعتبرة المعتضدة بالشهرة المحقّقة و المحكيّة و الإجماعات المنقولة - محمول على الاستحباب. و لعلّه حجّة المرتضى و القاضي، و يظهر جوابه و ضعف هذا القول بما بيّنّاه.

و لم نقف للقول بوجوبه في الإقامة خاصّة على مستند، و يمكن كونه الأخبار الدالّة على أنّ الإقامة من الصلاة، كخبر سليمان بن صالح «إذا أخذ في الإقامة فهو في صلاة»(5) و خبر هارون المكفوف «و الإقامة من الصلاة»(6) بناء على أنّ الحقيقة غير مرادة قطعا فيحمل على التشبيه، و هو يقتضي المشاركة في الأحكام و منها وجوب الاستقبال. و فيه مع ضعف الأسانيد ما فيه.

و يستفاد من المستفيضة المتقدّمة تأكّد استحباب الاستقبال في الشهادتين بناء على كون المنفيّ ب «لا بأس» فيها ما يعمّ المنقصة اللازمة من ترك المستحبّ ، و هو المصرّح به في كلام

ص: 818


1- مسائل علىّ بن جعفر: 540/232.
2- الوسائل 2/457:5، ب 47 الأذان و الإقامة، قرب الإسناد: 86.
3- الوسائل 3/109:12، ب 76 أحكام العشرة، مفتاح الفلاح: 13.
4- دعائم الإسلام 144:1.
5- الوسائل 12/404:5، ب 13 أحكام العشرة، مفتاح الفلاح: 13.
6- الوسائل 12/396:5، ب 10 الأذان و الإقامة، التهذيب 185/54:2.

جماعة كالمدارك(1) و الذخيرة(2) و غيرهما(3).

و ربّما قيل بوجوبه فيهما كما عن ظاهر الشيخين(4) و لعلّ مستنده ما عرفت في المستفيضة، و لكنّه لشذوذ القائل به و مصير الأكثر إلى الخلاف لا ينهض لإثبات الوجوب، فيحمل على تأكّد الاستحباب كما عرفت.

الثاني: أنّه يستحبّ الوقف على أواخر الفصول في كلّ من الأذان و الإقامة بالإجماع المستفيض نقله في كلام أساطين الطائفة(5) فهو الأصل في الحكم، مضافا إلى عدّة روايات معمول بها عندهم و إن ضعفت أسانيدها:

كالمرويّ في الفقيه عن خالد بن نجيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الأذان و الإقامة مجزومان» قال: و في خبر آخر «موقوفان»(6).

و في الرواية الاخرى لخالد بن نجيح عن الصادق عليه السّلام «أنّه قال: التكبير جزم في الأذان مع الإفصاح بالهاء و الألف»(7).

و عن الشيخ أنّه روي في الحسن عن زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: الأذان جزم بإفصاح الألف و الهاء، و الإقامة حدر»(8)-(9).

ثمّ بقي الكلام في موضوع الوقف، فنقول: إنّه عبارة عن قطع الإعراب و تركه، هل يعتبر فيه تخلّل فصل ما أو لا؟ و على الأوّل فهل يعتبر قطع النفس أيضا أو لا بل يكفي تخلّل فصل في العرف و إن لم يقطع النفس ؟ أقوال:

ظاهر القواعد(10) و جامع المقاصد(11) كفاية الترك مطلقا حيث عبّرا بترك الإعراب في الأواخر. و صريح بعض الأجلّة(12) كفاية فصل ما، و علّله بأنّ الوقف كما يتحقّق بقطع الحركة مع قطع النفس، كذا يتحقّق بقطعها مع تخلّل فصل بينه و بين التكلّم بشيء آخر. و هو ظاهر

ص: 819


1- المدارك 283:3.
2- الذخيرة: 255.
3- كما في الرياض 59:3.
4- المقنعة: 99، النهاية: 69.
5- كما في الخلاف 282:1، التذكرة 53:3، المفاتيح 117:1، الحدائق 408:7.
6- الوسائل 4/409:5، ب 15 الأذان و الإقامة، الفقيه 874/184:1.
7- الوسائل 3/408:5، ب 15 الأذان و الإقامة، التهذيب 204/58:2.
8- الحدر: الإسراع من غير تأنّ و ترتيل (مجمع البحرين 260:3).
9- الوسائل 2/408:5، ب 15 الأذان و الإقامة، التهذيب 203/58:2.
10- القواعد 265:1.
11- جامع المقاصد 184:2.
12- مطالع الأنوار: 251.

الشهيد الثاني في الروضة بقرينة جعله التسكين في مقابلة الوقف حيث فسّر الحدر في الإقامة بتقصير الوقف على كلّ فصل لا تركه رأسا، و علّله بكراهة إعرابهما حتّى لو ترك الوقف أصلا، فالتسكين أولى من الإعراب فإنّه لغة عربيّة، و الإعراب مرغوب عنه شرعا، و لو أعرب حينئذ ترك الأفضل و لا يبطل، انتهى(1).

و صريح المحكيّ عن سلطان العلماء في حاشية الفقيه اعتبار قطع النفس قائلا: «قالوا:

السكتة قطع الحركة من دون قطع النفس، و الوقف قطع الحركة مع قطع النفس، و الجزم هو القدر المشترك بين السكتة و الوقف»(2).

و قضيّة قوله: «قالوا...» انّ كلّ من عبّر بالوقف أراد به ما يعتبر فيه قطع النفس، و هو يقضي بكون معقد الإجماعات هو ذلك. و هو مشكل، لعدم وضوح النسبة إن أراد نسبة القول المذكور إلى الفقهاء، إذ لم نجد مصرّحا بذلك إلاّ نادرا.

و كون الوقف في مصطلح القرّاء كذلك لا يقضي بكونه كذلك في لسان الفقهاء و لا في أخبار الأئمّة عليهم السّلام لعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه، بل و عدم ثبوت إطلاقه عليه في كلامهم، بل التعبير بالجزم في أكثر الروايات المتقدّمة يعطي كون المعتبر في المقام هو قطع الحركة و عدم إظهارها كائنا ما كان، حتّى لو لم يتخلّل فصل.

و التعبير بالوقف في بعضها لا يفيد أزيد من ذلك، لعدم ثبوت كون تخلّل الفصل أو هو مع قطع النفس مأخوذا في مفهومه بحسب العرف أو الشرع، فالقدر المتيقّن من معاقد الإجماعات هو إرادة قطع الحركة، و اعتبار الزائد عليه معه مدفوع بالأصل.

و يؤيّده ما عرفت من تعبير العلاّمة في القواعد(3) بترك الإعراب، و ما سمعت من ثاني الشهيدين(4) من الحكم بكراهة إعرابهما، فإنّه يقضي بأنّ استحباب الوقف إنّما هو لكراهة الإعراب. نعم ما في كلام جماعة كما عن أكثر المتأخّرين(5) من تفسير الحدر بقصر الوقف لا تركه رأسا، يعطي بأنّه يعتبر فيه مع ترك الحركة تخلّل فصل، إلاّ أنّه في الأذان أطول منه في الإقامة. و لكن يبقى الكلام في دليل هذا الاعتبار. و أمّا اعتبار قطع النفس فلا شاهد عليه أصلا.

و بالتأمّل في خبر زرارة يظهر استحباب أمر آخر فيهما، و هو التأنّي في الأذان و الحدر

ص: 820


1- الروضة 247:1.
2- نقله عنه في مطالع الأنوار: 251.
3- القواعد 265:1.
4- الروضة 247:1.
5- كما في المسالك 188:1، المدارك 284:3، الذخيرة: 255.

في الإقامة - أي الإسراع فيها المفسّر في كلامهم بتقصير الوقف كما عرفت عن الروضة - كما هو المصرّح به في كلامهم، و عن الغنية الإجماع عليه(1) و في محكيّ المعتبر نسبته إلى علمائنا قائلا: «و السنّة فيه الوقوف على فصوله متأنّيا في الأذان حادرا في الإقامة، و هو قول علمائنا»(2) و عن التذكرة(3) و المنتهى(4) «لا نعلم فيه مخالفا».

و يدلّ عليه النبويّ «إذا أذّنت فترسل، و إذا أقمت فاحدر»(5) و عن ابن الأثير «فترسل أي تأنّ و لا تستعجل»(6).

و من طريق الخاصّة - مضافا إلى ما تقدّم - رواية الحسن بن السري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الأذان ترتيل و الإقامة حدر»(7).

و صحيحة معاوية بن وهب أنّه قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الأذان ؟ فقال: اجهر و ارفع به صوتك، فإذا أقمت فدون ذلك و لا تنتظر بأذانك و إقامتك إلاّ دخول وقت الصلاة، و احدر إقامتك حدرا»(8).

ثمّ بقى الكلام في الإفصاح - بالألف و الهاء - الوارد في الروايات المذكورة المأمور به فيها، و في الخبر الموصوف بالصحّة لزرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال: لا يجزئك من الأذان إلاّ ما سمعت نفسك أو فهمته، و أفصح بالألف و الهاء، و صلّ على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما ذكرته أو ذكره ذاكر عندك في أذان أو غيره، و كلّما اشتدّ صوتك من غير أن يجتهد نفسك كان من يسمع أكثر، و كان أجرك في ذلك أعظم»(9).

و الإفصاح الإظهار، و المراد إظهار الألف و الهاء في ألفاظ الجلالة و في لفظ «الصلاة» في حيّ على الصلاة و قد قامت الصلاة، كما فهمه جماعة من متأخّرينا منهم الشهيد في الذكرى قائلا:

الظاهر أنّه ألف «اللّه» الأخيرة الغير المكتوبة، و هاؤه في آخر الشهادتين، و عن النبيّ «لا يؤذّن لكم من يدغم الهاء»(10) و كذا الألف و الهاء في «الصلاة» من حيّ على الصلاة، انتهى(11).

ص: 821


1- الغنية: 73.
2- المعتبر 141:2.
3- التذكرة 53:3.
4- المنتهى 388:4.
5- سنن الترمذي 195/373:1.
6- نهاية ابن الاثير 223:2.
7- الوسائل 3/429:5، ب 24 الأذان و الإقامة، التهذيب 232/65:2.
8- الوسائل 1/338:5، ب 8 الأذان و الإقامة، الفقيه 876/185:1.
9- الوسائل 6/409:5، ب 15 الأذان و الإقامة، الفقيه 876/185:1.
10- المغني 479:1.
11- الذكرى 208:3.

و كأنّ الوجه في ورود هذا الحكم أنّ بعض الناس يفرط في الجزم و الوقف على أواخر الفصول فيسقط معه الهاء بل ربّما يسقط معا الألف الّتي قبلها.

و الظاهر أنّ المراد بالإدغام في النبويّ المذكور هو ذلك أيضا كما فهمه الشهيد أيضا، فصرّح في الروايات بالإفصاح لئلاّ يتوهّم المخاطب كون الوقف أو الجزم المأمور بهما عبارة عمّا يعمّ إسقاط الحرفين.

و لكنّ المحكيّ عن الحلّي في السرائر جعل المراد بالهاء المأمور بإفصاحه هو الهاء المفتوحة في «إله» لا هاء «أشهد» و لا هاء «اللّه» لأنّهما مبيّنان، و الظاهر - كما احتمله شارح الدروس - أنّه فهم من الإفصاح بالهاء إظهار حركتها لا إظهارها نفسها.(1) كما يظهر من تعليله في عبارته المحكيّة و هي أنّه قد يوجد في كتب أصحابنا: و ينبغي أن يفصح فيهما، أي في الأذان و الإقامة بالحروف و بالهاء في الشهادتين، و المراد بالهاء هاء إله لا هاء أشهد و لا هاء اللّه، لأنّ الهاء في أشهد مبيّنة مفصح بها لا لبس فيها، و هاء اللّه موقوفة مبيّنة أيضا لا لبس فيها، و إنّما المراد هاء إله، لأنّ بعض الناس ربّما أدغم الهاء في لا إله إلاّ اللّه»(2) انتهى.

و يمكن أن يراد بالألف ما يعمّ الألف المفتوحة في لفظ «اللّه» في اللّه أكبر، و بالهاء ما يعمّ هاء «أشهد» أيضا، ردّا في الألف على من يسقط الألف المذكورة بوصل الراء في «أكبر» باللام في «اللّه» و في الهاء على من يقول مكان «أشهد» أشدّ. و على أيّ تقدير كان فترك الإفصاح مبطل كما لا يخفى، بخلاف ترك الوقف و الجزم على أواخر الفصول، فإنّه لا يعدّ من اللحن المبطل بل هو ترك راجح و أولويّة، كما صرّح به جماعة(3) و لذا حكموا باستحباب الوقف، كما لا يخفى على المتأمّل.

الثالث: يستحبّ الفصل بين الأذان و الإقامة بأحد الامور الّتي اختلفت كلمة الأصحاب في عددها قلّة و كثرة، بالإجماع على أصل الحكم الّذي لا ينافيه الخلاف في كمّيّة ما به الفصل.

ففي الشرائع «أن يفصل بينهما بركعتين أو سجدة إلاّ المغرب، فإنّ الأولى أن يفصل بينهما بخطوة أو سكتة»(4).

ص: 822


1- شرح الدروس 718:1.
2- السرائر 214:1.
3- كما في كشف الغطاء: 230، الجواهر 155:9.
4- الشرائع 76:1.

و في المعتبر «يستحبّ الفصل بينهما بركعتين، أو جلسة أو خطوة خلا المغرب، فإنّه لا يفصل بين أذانهما إلاّ بخطوة أو سكتة أو تسبيحة، و عليه علماؤنا»(1).

و في النهاية «يستحبّ أن يفصل الإنسان بين الأذان و الإقامة بجلسة أو خطوة أو سجدة، و أفضل ذلك السجدة، إلاّ في المغرب خاصّة، فإنّه لا يسجد بينهما و يكفي الفصل بينهما بخطوة أو جلسة خفيفة، فإن كانت صلاة الظهر جاز أن يؤذّن إذا صلّى على ستّ ركعات من نوافل الزوال ثمّ يقيم بعد الثماني ركعات، و كذلك يؤذّن العصر بعد ستّ ركعات من نوافل العصر، ثمّ يقيم بعد الثماني ركعات»(2).

و في المبسوط «و يفصل بينهما بجلسة أو سجدة أو خطوة أو ركعتي نافلة، إلاّ في المغرب، فإنّه لا نافلة قبل الفريضة لضيق الوقت»(3).

و عن السرائر «و من صلّى منفردا فالمستحبّ له أن يفصل بين الأذان و الإقامة، بسجدة أو جلسة أو خطوة، و السجدة أفضل، إلاّ في أذان المغرب خاصّة، فإنّ الجلسة و الخطوة السريعة فيها أفضل، و إذا صلّى في جماعة فمن السنّة أن يفصل بين الأذان و الإقامة بشيء من النوافل، ليجتمع الناس في زمان تشاغله بها، إلاّ صلاة المغرب فإنّه لا يجوز ذلك فيها»(4).

و في التذكرة «يستحبّ الفصل بين الأذان و الإقامة بجلسة أو سجدة أو سكتة أو خطوة أو صلاة ركعتين في الظهرين إلاّ المغرب، فإنّه لا يفصل بينهما إلاّ بخطوة أو بسكتة أو تسبيحة عند علمائنا»(5).

و في المنتهى «يستحبّ الفصل بين الأذان و الإقامة بركعتين أو سجدة أو جلسة أو خطوة إلاّ المغرب، فإنّه يفصل بينهما بخطوة أو سكتة أو تسبيحة ذهب إليه علماؤنا أجمع»(6).

ص: 823


1- المعتبر 142:2.
2- النهاية: 67.
3- المبسوط 96:1.
4- السرائر 213:1-214.
5- التذكرة 55:3.
6- المنتهى 389:4.

المقصد الثاني في أفعال الصلاة المعبّر عنها بأجزائها

اشارة

و هي في كلام الأصحاب منقسمة إلى الواجبة و المسنونة، و ربّما خفي معنى الوجوب اللاحق بالأفعال الواجبة، مع ملاحظة كون الوجوب الأصلي النفسي المستفاد من أوامر الصلاة متعلّقا بالصلاة من حيث إنّها مركّبة من تلك الأفعال، و يمكن توجيهه بوجوه:

الأوّل: أن يراد به الوجوب العقلي و هو اللابدّيّة و ضرورة الوجود، بتقريب أنّ الإتيان بكلّ واحد من تلك الأفعال ممّا لا بدّ منه في انعقاد الصلاة من حيث إنّها ماهيّة مركّبة منها، أو أنّ كلّ واحد منها ضروري الوجود لوجود الصلاة المركّبة منها، باعتبار أنّ وجود المركّب - من حيث التركيب - عبارة عن مجموع وجودات أجزائه، فلا ينفكّ وجود كلّ عن وجوده من حيث التركيب.

الثاني: أن يراد به الوجوب المصطلح الشرعي الأصلي المستفاد من الخطاب الوارد بكلّ واحد من تلك الأفعال، مع قطع النظر عن الخطاب الوارد بأصل الصلاة.

الثالث: أن يراد به الوجوب الشرعي المقدّمي العارض لكلّ منها باعتبار الجزئيّة، بناء [على] القول بكون أجزاء الواجب من مقدّمات وجوده، و الفرق بين هذا الاعتبار و سابقه - مع ثبوت الفرق بينهما في الأصليّة و التبعيّة - أنّ الوجوب حكم تكليفي و الجزئيّة حكم وضعي. فقد ينتزع الحكم الوضعي من الحكم التكليفي كما هو قضيّة الاعتبار السابق، لأنّه إذا قال الشارع: «اقرأ في الصلاة» مثلا ينتزع من الوجوب المستفاد منه كون القراءة جزء للصلاة. و قد يتولّد الحكم التكليفي من الحكم الوضعي بملاحظة كون الجزء مقدّمة كما هو قضيّة هذا الاعتبار، فإنّ القراءة مثلا بعد ما ثبت كونها جزء للصلاة يعرض لها الوجوب، بضابطة أنّها مقدّمة للواجب و أنّ مقدّمة الواجب واجبة.

ص: 824

و هذا الوجه الأخير أردأ الوجوه و أضعفها، لابتنائه على كون أجزاء الواجب من مقدّمات وجوده و هو خلاف التحقيق - كما قرّرناه في الاصول - و يظهر وجهه إجمالا بالتأمّل فيما أشرنا إليه في الوجه الأوّل من أنّ وجود المركّب عبارة عن مجموع وجودات أجزائه فليس له وجود مغاير لوجودات الأجزاء، و المقدّميّة عنوان يقتضي تغاير المقدّمة و ذيها في الوجود، فيلزم على تقدير مقدّميّة الجزء تقدّم الشيء على نفسه و هو محال.

و قد يشكل تصوير الاستحباب في الأجزاء المستحبّة للواجب من جهة تنافي الاستحباب و الجزئيّة بالإضافة إلى الواجب، فإنّ المستحبّ ما يجوز تركه لا إلى بدل، و جزء الشيء ضروريّ الوجود لوجود ذلك الشيء، فضرورة وجود جزء الواجب لوجود الواجب تأبى جواز تركه لا إلى بدل، كما أنّ جواز تركه لا إلى بدل يأبى كونه ضروريّ الوجود لوجود الواجب، فإمّا أنّه ليس بجزء حقيقة، أو أنّه لا معنى لاستحبابه إن اريد به المعنى المصطلح الشرعي.

فيمكن توجيهه تارة بأنّ معنى استحبابه في الواجب كاستحباب القنوت في الصلاة مثلا، أنّ القنوت عبادة مستقلّة مستحبّة محلّها الصلاة، و مرجعه إلى انسلاخ القنوت عن معنى الجزئيّة حقيقة و يكون إطلاق الجزء عليه مسامحة و تجوّزا من باب الاستعارة باعتبار أنّه يشبه أجزاء الصلاة في اشتمالها عليه صورة، و محصّله كونه جزءا صوريّا لا حقيقيّا.

و اخرى بأنّ معنى جزئيّته كونه جزءا لفرد من ماهيّة الصلاة لا لأصل الماهيّة. و يكون بالنسبة إلى الماهيّة من قبيل القيود أي الصلاة المشتملة على القنوت، و معنى استحبابه حينئذ استحباب الصلاة مشتملة عليه. و مرجعه إلى صرف الاستحباب عن معناه المصطلح إلى إرادة الأفضليّة بالقياس إلى الفرد، فإنّ أفراد الماهيّة قد تختلف في الأفضليّة و عدمها، فقد يكون الفرد أفضل لخصوصيّة فيه من جهة الزمان كالفريضة في أوّل الوقت، و قد يكون أفضل لخصوصيّة فيه من جهة المكان كالصلاة في المسجد، و قد يكون أفضل لخصوصيّة فيه من جهة اشتماله على القنوت.

و من فروع الفرق بين الاعتبارين أنّه لو أتى بالجزء المستحبّ على الوجه المنهيّ عنه - كما لو قنت رياء مثلا - فعلى الاعتبار الأوّل لا يخلّ بطلانه بسبب النهي بصحّة الصلاة، لأنّه أمر خارج عنها تعلّق به النهي - كالنظر إلى الأجنبيّة - فلا يلزم من فساده بطلانها.

ص: 825

و توهّم: أنّها تبطل حينئذ بواسطة تخلّل الكلام الّذي تعمّده مبطل لها، يندفع بأنّ الكلام الّذي تعمّده من مبطلات الصلاة ما كان من قبيل كلام الآدميّين لا من قبيل الأذكار و هذا ليس منه، غاية الأمر أنّه ذكر فاسد.

كما أنّ توهّم البطلان من جهة اندراجه بالفساد في الفعل الكثير الّذي هو أيضا من القواطع، يندفع بمنع اطّراد الكثرة أوّلا، و بمنع كونه بمجرّد الفساد من قبيل الفعل الّذي كثيره من القواطع ثانيا، لأنّ المراد بالفعل الكثير المعدود من القواطع ما كان أجنبيّا عن الصلاة، و لم يكن بالذات من أفعالها المأخوذة فيها و لو بعنوان الاستحباب.

و على الاعتبار الثاني ففي بطلان الصلاة بواسطة بطلانه و العدم وجهان: من أنّ الفرد المستحبّ مشتمل على الماهيّة و على الخصوصيّة الحاصلة من تضمّنه الجزء المستحبّ و وجود هذا الجزء يغاير وجود الماهيّة، و غاية ما يلزم من بطلانه انتفاء الخصوصيّة الراجحة الموجبة لأفضليّة الفرد، و هذا لا يلازم انتفاء أصل الماهيّة فتقع صحيحة باعتبار سلامة الماهيّة الموجودة مع الفرد عمّا يوجب بطلانها.

و من أنّ الريا المتعلّق بالجزء راجع إلى الصلاة باعتبار كونها مشتملة على هذا الجزء، فيكون في وصف العبادة كالرياء في الصلاة في المسجد، باعتبار كونها في المسجد، و من المقرّر في فروع الرياء المبطل للعبادة أنّه لا يتفاوت الحال بين ما لو تعلّق بذات العبادة أو بوصفها. و هذا أوجه و إن كان عدم البطلان مطلقا في ظاهر النظر أقرب فليتأمّل.

ثمّ ظهر ممّا ذكرنا من معاني الوجوب اللاحق بالأفعال الواجبة في كلامهم أنّ الصحيح منها الأوّلان، و لا يبعد القول بكون أصحّهما أوّلهما ليطّرد الوصف بالنسبة إليها من حيث هي معتبرة في النوافل و الصلوات المندوبة، إذ الوجوب بالمعنى الثاني غير معقول فيها.

و توهّم أنّ المقصود بالأصالة من عقد باب الصلاة بيان الفرائض و الصلوات الواجبة و أفعالها، و النوافل و الصلوات المندوبة إنّما تذكر استطرادا أو استتباعا، فلا ضير في إرادة الوجوب بالمعنى الثاني حينئذ. بعيد عن مساق كلامهم في الغاية، و لذا يذكر الصلاة في أوّل بابها ثمّ يقسّمونها إلى الفرائض و النوافل، ثمّ يذكرون أقسام كلّ منهما و أحكامه برأسه من دون إشعار في كلامهم بالاستتباع المذكور.

و لا ينافي ما ذكرناه من ترجيح المعنى الأوّل تمسّكهم لإثبات هذه الأفعال بالأوامر

ص: 826

الواردة بها المفيدة للوجوب بالمعنى الثاني و بسائر الخطابات الواردة فيها الظاهرة في الوجوب بهذا المعنى، لأنّ الغرض الأصلي من التمسّك بنحو هذه الأدلّة المفيدة للوجوب إثبات جزئيّة هذه الأفعال، بناء على ما أشرنا إليه سابقا من أنّ الحكم الوضعي قد ينتزع من الحكم التكليفي، و لو وجد في كلامهم عند إثبات هذه الأفعال التعبير بقولهم «يجب في الصلاة كذا و كذا» يريدون به إفادة الجزئيّة أو مطلق المدخليّة لا غير، خصوصا مع ملاحظة كون الوجوب التكليفي باعتبار كونه غيريّا ممّا لا يترتّب عليه فائدة معتدّ بها لو لا إرادة إفادة الجزئيّة.

ثمّ المراد من الأفعال الموصوف بالوجوب الأفعال الّتي اشتملت عليها ماهيّة الصلاة، و أمّا التكلّم في أنّ اشتمال ماهيّة الصلاة عليها هل هو بحسب الجعل و الاختراع الشرعي ؟ على معنى أنّ الشارع جعل الصلاة ماهيّة مشتملة على جميعها بحيث لو انتفى بعضها انتفت الماهيّة المخترعة، أو هو بحسب أمر الشارع و طلبه ؟ على معنى أنّ مطلوبه ماهيّة مشتملة عليها بحيث لو انتفى بعضها انتفى المطلوب و إن بقيت الماهيّة المخترعة حسبما اخترعها الشارع، فهو ليس من وظيفة الفقه بل هو كلام اصولي معنون في كتب الاصول، في مسألة «كون ألفاظ العبادات أسامي للصحيحة منها أو الأعمّ منها و من الفاسد» و قد حقّقنا ما عندنا ثمّة و رجّحنا كونها أسامي للأعمّ .

نعم، هاهنا كلام آخر و هو أنّ الفقهاء جعلوا أفعال ثمانية و عدّوا منها النيّة، و هو لا يخلو عن إشكال باعتبار أنّ الأفعال ظاهرة في الأفعال الظاهرة الصادرة من الجوارح الظاهرة، و النيّة ليست من قبيلها. و لكن الأمر في الذبّ عنه هيّن بعد تعميم الأفعال بالقياس إلى فعل القلب، و لا ضير في كون خلاف ظاهر إطلاق الأفعال بعد وضوح القرينة.

و إنّما المعضل شيء آخر، و هو أنّه لو كان المراد بها الأفعال الداخلة في الصلاة بعنوان الجزئيّة فكيف يجتمع ذلك مع القول بكون النيّة شرطا؟ كما عليه جماعة(1) من متأخّري أصحابنا. و هو الأقوى.

و الذبّ عنه: بأنّ الشرط و إن كان ذاته خارجة عن المشروط، إلاّ أنّ الاشتراط به داخل

ص: 827


1- كما في المعتبر 149:2، المدارك 308:3، الدرّة النجفيّة: 115، كشف الرموز 150:1، المنتهى 5: 19، الجواهر 250:9، الروض 679:2.

فيه فيكون جزءا، غاية الأمر أنّه عقلي، و بهذا الاعتبار يصحّ إطلاق الأفعال الملحوظة بعنوان الجزئيّة على النيّة.

يدفعه - مع كونه تكلّفا بعيدا عن ظاهر النظر - أنّه لو صحّ ذلك لوجب أخذ سائر الشروط أيضا في أفعال الصلاة، لجريان الاعتبار المذكور في الجميع، فلا وجه لإفراد النيّة بهذا الاعتبار.

و توهّم الاعتذار لذلك بأنّ وجه إفراد النيّة كونه شرطا ركنيّا كما صرّح به الأصحاب(1)و نقلوا عليه الإجماعات في حدّ الاستفاضة بخلاف سائر الشروط.

يزيّفه النقض بالطهارة الحدثيّة، فإنّها أيضا كالنيّة شرط ركني تبطل الصلاة بفواتها في جميع أحواله من العمد و السهو و النسيان و الخطأ.

و الاعتذار له أيضا بأنّ النيّة معتبرة في الماهيّة حسبما اخترعها الشارع فأشبه الجزء الركني في دخولها في الماهيّة بخلاف الطهارة.

يندفع أوّلا: بمنع دخول النيّة في ماهيّة الصلاة، لأنّها من حيث كونها فعلا مخصوصا اخترعه الشارع ليس إلاّ كسائر الأفعال العادية و غيرها كالأكل و الشرب و الضرب و غيرها، و كما أنّ النيّة غير معتبرة في حقائق سائر الأفعال بل هي من شروط تحقّقها و وجودها في الخارج، و لذا يقال «نويت الأكل أو نواه أو لم ينوه أو هو منويّ » فكذلك نيّة الصلاة، و لذا يقال «نويت الصلاة أو نواها و هكذا» و هذا آية الخروج من الماهيّة ذاتا و وضعا.

و ثانيا: بجواز نحو هذه الدعوى في الطهارة أيضا، و منع الفرق بينها و بين النيّة من هذه الجهة.

نعم: يمكن الذبّ عنه بأنّ المراد من أفعال الصلاة ما اشتملت عليها الصلاة بالمعنى الأعمّ من اشتمال جزء و اشتمال شرط كما في النيّة، فإنّ المشروط باعتبار اقتران أجزائه بالشرط يصدق عليه أنّه مشتمل على الشرط. و إفراد النيّة بذكرها في عداد أفعال الصلاة لأنّها من مقولة الفعل الّذي اعتبر شرطا للصلاة فناسب ذكرها في عداد أفعالها، بخلاف سائر الشروط فإنّها من مقولة الصفات و الأحوال، لا من مقولة الأفعال، و إنّما الأفعال مباديها و هي خارجة عن الصلاة كما يظهر بالتأمّل، و الشروط هي الآثار الحاصلة منها

ص: 828


1- كما في الروض 679:2، المسالك 195:1، التحرير 236:1، الوسيلة: 93، المنتهى 19:5، التذكرة 100:3.

فلم يناسب ذكرها في عداد أفعال الصلاة. و أمّا التكلّم في أنّ النيّة شرط أو جزء فقليل الجدوى. و مع ذلك فنحن فرغنا عن إثبات شرطيّتها في نيّة الوضوء و لا حاجة إلى إعادة الكلام هنا.

و اختلفت عبارات الأصحاب فيما بين القيام و النيّة من حيث تقديم الأوّل في الذكر كما في كلام جماعة(1) أو تقديم الثانية كما في الشرائع(2).

و لعلّ وجه الأوّل أنّ أوّل ما يحرزه المريد للصلاة إنّما هو القيام ثمّ يتعرّض للنيّة و التكبيرة، فيكون أولى بالتقديم. و وجه الثاني أنّ الشرط متقدّم طبعا و إن قارن أوّل أجزاء الشروط خارجا، فيكون النيّة أولى بالتقديم.

و يمكن تزييف الأوّل بأنّه إن اريد بكون القيام أوّل ما يحرزه المريد للصلاة أنّ أوّل ما يحرز إنّما هو طبيعة القيام و إن لم يدخل في الصلاة و لم يعتبر فيها جزءا و لا شرطا لجزء، ففيه: أنّ النيّة بناء على كونها الداعي أسبق منه بهذا المعنى، كما يكشف عنه كونها العلّة المحرّكة إلى مقدّمات الصلاة، بل بناء على كونها الصورة المخطرة أيضا، كما يكشف عنه القول بأنّه يعتبر مقارنة آخر أجزائها الأوّل أجزاء العمل. و إن اريد به كونه كذلك مع دخول ما يحرز أوّلا في الصلاة أيضا، ففيه: منع واضح، لأنّ الّذي داخل فيها هو الجزء المقارن للتكبير المقارن للنيّة و لا تقدّم له بحسب الخارج على النيّة، فالاعتبار يقضي بأنسبيّة تقديم النيّة لتقدّمها الطبعي حسبما أشرنا إليه.

و ربّما وجّه تقديم القيام على النيّة و التكبير - مع أنّه لا يجب قبلهما - بكونه شرطا فيهما و الشرط مقدّم على المشروط، كما في الروضة(3). و فيه: أنّ جعل القيام شرطا للنيّة و التكبير ليس بأولى من جعل النيّة شرطا للتكبير و القيام حاله كما يقتضيه ظاهر كلام الأصحاب، حيث يعتبرون كلاّ من التكبير و القيام حاله جزءا ركنيّا مع اعتبارهم مقارنة النيّة لهما.

ثمّ إنّ الشهيد مع تقديمه القيام في اللمعة(4) على النيّة و التكبير أخّره عنهما في الذكرى(5) و الدروس(6) و عن الألفيّة(7) أنّه أخّره عن القراءة أيضا ليجعله واجبا في الثلاثة.

ص: 829


1- كما في القواعد 267:1، التحرير 234:1، نهاية الإحكام: 436، جامع المقاصد 199:2، كشف اللثام 399:3.
2- الشرائع 78:1.
3- الروضة 590:1.
4- اللمعة: 12.
5- الذكرى 265:3.
6- الدروس 102:1.
7- الالفيّة: 55.

و وجّه الأوّل في الروضة بأن يتمحّض جزءا من الصلاة، و ظاهره أنّ ما قارن منه النيّة و التكبير ليس جزءا محضا لتشبّثه بالشرطيّة أيضا، فإنّه بالقياس إليهما شرط و إن كان بالقياس إلى الصلاة جزءا بل ركنا. و اعتبار الشرطيّة فيه لا يخلو عن بعد، لأنّه اعتبار زائد لا يتعلّق به فائدة أصلا، كما لا يخفى.

و كيف كان فالأوّل من أفعال الصلاة و واجباتها النيّة، و هي ركن فيها فتبطل بالإخلال بها عمدا و سهوا قولا واحدا بين المسلمين و إجماعا محصّلا(1) و منقولا(2) في حدّ الاستفاضة، و في كلام كثير منهم كونه إجماع المسلمين أو العلماء(3) كافّة، و يدلّ عليه أيضا قولهم عليهم السّلام: «لا عمل إلاّ بنيّة»(4) «و إنّما الأعمال بالنيّات»(5) بناء على كون العمل مرادا به العمل الخاصّ و هو العبادة. و النيّة مرادا بها ما يمتاز به العبادة عن غيرها، من غير فرق بين جعل النفي فيهما لنفي الذات أو نفي الصفة و هي الصحّة، لشمول إطلاقه صورتي العمل و السهو و لا مخصّص.

ثمّ المعهود في الركن كون زيادته و نقصه عمدا أو سهوا مبطلين، و زيادة النيّة ممّا لا يكاد يتصوّر، و لذا اقتصر في جملة من العبارات على كون الإخلال به مبطلا الظاهر في صورة النقصان. و لا فرق في ذلك بين الفرائض و النوافل فلا نفل بدونها مطلقا كما لا فرض بدونها كذلك، و «لا عمل إلاّ بنيّة» بناء على المقدّمتين عامّ في كليهما.

و أمّا حقيقة النيّة فقد تقدّم الكلام فيها و فيما يعتبر فيها و ما لا يعتبر مشروحا و بما لا مزيد عليه في باب نيّة الوضوء، و ممّا تحصّل ثمّة أنّ النيّة المعتبرة في العبادة الممتازة بها عن المعاملات و سائر الأعمال عبارة عمّا ينحلّ إلى قصدين:

أحدهما: القصد إلى الفعل المأمور به على معنى ترجيح إيقاعه على خلافه بحيث لا يبقى عنده شيء من احتمال خلافه، و مرجعه إلى القطع و الجزم بإيقاعه.

و ثانيهما: القصد إلى غاية إطاعته تعالى و امتثال أمره، و معناه ترجيح غاية الإطاعة و امتثال الأمر على غيرها من الغايات بحيث لا يبقى عنده احتمال غيرها أصلا، و مرجعه

ص: 830


1- كما في المبسوط 100:1، الوسيلة: 93، الجامع للشرائع: 74، الإرشاد 252:1.
2- كما في التحرير 234:1.
3- كما في المنتهى 18:5، التذكرة 100:3.
4- الوسائل 1/5:6، ب 1 أبواب النيّة، الكافي 1/69:2.
5- الوسائل 2/5:6، ب 1 أبواب النيّة، التهذيب 519/186:4.

أيضا إلى القطع و الجزم بتلك الغاية دون غيرها. و هذا القصد الثاني هو روح النيّة و هو الّذي يمتاز به العبادات عن غيرها، لكون القصد الأوّل معتبرا في غيرها من الأعمال الاختياريّة، و هو الّذي يعبّر عنه في لسان الفقهاء و المتشرّعة بنيّة القربة على معنى طلب القرب المعنوي إليه تعالى و هو الرفعة عنده و المنزلة لديه، لا القرب المكاني و القرب الزماني لتنزّهه تعالى عن المكان و الزمان.

و إنّما عبّر عن قصد الإطاعة بنيّة القربة لكون القرب المعنوي حاصلا من إطاعته تعالى فهو لازم لها و مسبّب منها، و قصد اللازم يتضمّن قصد الملزوم إجمالا و هو كاف في صحّة العبادة بالقياس إلى عامّة الناس الّذين لا يبلغ فطنة أكثرهم إلى إحراز قصد الإطاعة و امتثال الأمر في أنفسهم.

ثمّ إنّ مراتب النيّة المختلفة في الكمال و العدم المتصوّرة بحسب الاعتبارات و الحيثيّات اللاحقة بها كما تقدّم في الوضوء فلاحظ و تأمّل، و هذه المراتب متنازلة إن اخذت من الأعلى و متصاعدة إن اخذت من الأدون، كما يظهر وجهه بالتأمّل فيما سبق في الباب المذكور.

ثمّ إنّ محصّل القصد الأوّل قصد المأمور به بالعنوان الّذي امر به، و لا يتأتّى إلاّ بتصوّره و استحضاره في الذهن بجميع قيوده و حيثيّاته و تعيّناته و بدونه لا امتثال عرفا، فلو امر السيّد عبده بإكرام زيد بن عمرو و علم من الخارج إرادة التعبّد فلا امتثال لو أتى بما يوجب إكرام زيد بن عمرو لا بقصد أنّه إكرام، أو لا بقصد أنّه إكرام زيد، أو لا بقصد أنّه إكرام ابن عمرو، و إنّما يحصل الامتثال إذا أتى به على أنّه إكرام زيد بن عمرو.

و من هنا ظهر أنّه يعتبر في النيّة المعتبرة في صدق الامتثال مضافا إلى قصدي الفعل و الامتثال قصد التعيين في موضع الاشتراك، كما عن الشيخ(1) و أتباعه(2) و في المنتهى(3)«بلا خلاف» و عن التذكرة «إجماع علمائنا عليه»(4).

فلو أمر بإكرام زيد بن عمرو تارة، و بإكرام زيد بن هند اخرى و هو ابن عمرو و هند، فلا يكون ممتثلا لو أكرمه على أنّه رجل، و لا على أنّه زيد بدون ملاحظة إضافته إلى عمرو

ص: 831


1- المبسوط 101:1، الخلاف 309:1 المسألة 57.
2- كما في غاية الإيجاز (الرسائل العشر): 313، السرائر 98:1، الجامع للشرائع: 79، الغنية: 68.
3- المنتهى 19:5.
4- التذكرة 101:3.

و لا إلى هند، حتّى أنّه لو قصد الفراغ عمّا في الذمّة لم يجزئه لاشتراك ما في الذمّة بين عنوانين، فلا يقع لهما معا لبطلان التداخل، و لا لأحدهما لا معيّنا لاستحالة الترجيح من غير مرجّح، و لا له لا بعينه لأنّ الأمر تعيّن بتعيّن متعلّقه، و الامتثال يتبعه في التعيين فلا يصدق عرفا إلاّ مع التعيين، و لا يتعيّن إلاّ بقصد التعيين. و إلى هذا يرجع استدلال العلاّمة في المنتهى «بأنّ مجرّد ذكر الفعل و هو الصلاة مثلا لا يتخصّص بمعيّنة دون اخرى إلاّ بالنيّة فيجب اعتبارها»(1) و في معناه احتجاج الشيخ «بأنّ الفعل يقع على وجوه مختلفة فيحتاج إلى مميّز فاحتيج إلى اعتبار التعيين».

ثمّ اعلم أنّ للاشتراك صورا عديدة، ربّما يشتبه حكم جملة منها من حيث وجوب قصد التعيين و عدمه.

منها: أن يؤمر بفردين من ماهيّة متمايزين بمميّز الفرد الغير المأخوذ في المأمور به، و بعبارة اخرى أن يؤمر بماهيّة باعتبار وجودها في ضمن فردين متمايزين على الوجه المذكور كما لو قال: صم يومين أو صلّ ركعتين و صلّ ركعتين.

و منها: أن يؤمر بشيئين متغايرين في علّة الحكم مع اتّحاده فيهما إيجابا أو ندبا، كوجوب ركعتين احتياطا و اخريين نذرا، و استحباب ركعتين للزيارة و اخريين للنافلة.

و منها: أن يؤمر بشيئين متغايرين في الحكم إيجابا و ندبا، كركعتي الصبح و ركعتي الفجر.

و منها: أن يؤمر بشيئين متغايرين في القيود المأخوذة في المأمور به كالمثال المتقدّم، و مثله الصلاة ظهرا و عصرا و هي أداء و قضاء و هي قضاء لنفسه و تحمّلا عن غيره.

أمّا الصورة الاولى: فالوجه فيها عدم اعتبار قصد تعيين، لوضوح الفرق بين تكرّر الأمر على عنوان واحد و توارد الأمرين على عنوانين متغايرين، و لا ريب أنّ تكرّر الأمر لا يقتضي أزيد من تكرار فعل العنوان الواحد و هو الصوم و صلاة ركعتين، فلو قصد في كلّ مرّة صلاة ركعتين مثلا امتثالا للأمر بهما أجزأه، و كذا الحكم في جميع صور التكرار حتّى على القول بإفادة الأمر المطلق للتكرار.

و أمّا الصورة الثانية: ففي اعتباره فيها وجهان: من أنّ علّة الحكم غير داخلة في موضوعه فلا يتعدّد بتعدّدها عنوان المأمور به، غاية الأمر أنّه أوجب تكرّر الأمر و قد ذكرنا

ص: 832


1- المنتهى 19:5.

أنّ تكرّر الأمر لا يقتضي أزيد من التكرار. و من أنّ الأمر المعيّن كما يتعيّن بمتعلّقه فكذلك يتعيّن بعلّته، و الامتثال يتبع الأمر في التعيين فلا يحصل امتثال الأمر المعيّن في صورة التعدّد إلاّ بقصد التعيين. و هذا أوجه للعرف فإنّه بعد الإتيان الأوّل بدون قصد تعيين لو قال:

امتثلت الأمر، يقال له: أيّ الأمرين امتثلت، ثمّ يكذب لو أخبر بعدم قصده التعيين، و يكفي في قصد التعيين هنا قصد السبب. و من فروعه لزوم قصد السبب في سجدتي السهو إذا تعدّدت أسبابه، و في الكفّارة عند تعدّد أسبابها.

و أمّا الصورة الثالثة: ففيها أيضا وجهان: من أنّ الإيجاب و الندب ليسا من قيود المأمور به فلا يتعدّد بهما عنوان المأمور به فيرجعان إلى صورة تكرّر الأمر على عنوان واحد الغير المقتضي إلاّ التكرار، و من أنّ أمر الإيجاب و أمر الندب ماهيّتان متغايرتان فيكون كلّ منهما متعيّنا بماهيّته، و لزوم قصد التعيين من أحكام الأمر لا المأمور به فلا يحصل امتثاله عند التعدّد إلاّ بقصد التعيين و لو بتعرّض الإيجاب أو الندب. و هذا أوجه لعدم صدق الامتثال العرفي بدونه، و لذا يصحّ تكذيب المدّعي للامتثال بعد الاطلاع على عدم تعرّضه للتعيين.

و لا ينتقض ذلك و لا سابقه بحكم الصورة الاولى، إذ مرجع الأمر بالفردين من ماهيّة إلى الأمر بإيجاد الماهيّة مرّتين، فعنوان المأمور به واحد و هو الماهيّة الواحدة المتعيّنة المأمور بإيجادها مرّتين فلا تعيّن للأمرين المتواردين عليها إلاّ بحسب تعيّن تلك الماهيّة، فيكفي في الامتثال في كلّ مرّة قصد الإتيان بتلك الماهيّة امتثالا للأمر بها.

و أمّا الصورة الرابعة: فهي من أظهر صور ما يعتبر فيه قصد التعيين، و وجهه ما عرفت من أنّه لولاه لم يوجب الإتيان الأوّل و لا غيره امتثال الأمرين جميعا و لا امتثال أحدهما بعينه و لا أحدهما لا بعينه، و من ذلك ظهر وجوب التعرّض للأداء و القضاء على من اشتغلت ذمّته بكليهما اعتبار القصد التعيين الّذي لا يتأتّى إلاّ بذلك. و وجوب تعرّض الظهر و العصر فيمن خوطب بهما في وقت الاشتراك لا مطلقا، و لا يكفي في نيّة الظهر نيّة فريضة الوقت و لا الفراغ في الذمّة لمكان الاشتراك، و لا يرفع الترتيب المعتبر بينهما حكم الاشتراك المقتضي لقصد التعيين لعدم صدق الامتثال عرفا بدونه.

و وجوب التعرّض لكون القضاء عن نفسه أو عن غيره فيمن عليه قضاء الفائتة و تحمّل قضاء فائتة غيره أيضا بالإجارة و نحوها، و مرجع القصد إلى كون القضاء عن غيره إلى قصد

ص: 833

النيابة و يجب قصد النيابة أيضا في العبادة المتحمّل عن الغير في غير صورة الاشتراك أيضا، لأن يقوم فعل النائب بذلك مقام فعل المنوب عنه، و يكون النائب بمنزلة المنوب عنه و كأنّ المنوب عنه هو الّذي باشر الفعل و نوى بفعله التقرّب و امتثال الأمر.

و بذلك يندفع توهّم المنافاة بين أخذ الاجرة و قصد القربة في صورة الإجارة، لأنّ الاجرة إنّما يستحقّ بها النائب لإقامة فعله مقام فعل الغير نظرا إلى أنّ الفعل ما لم يشتمل على منفعة عقلائيّة تعود إلى المستأجر لم يصلح موردا للإجارة، و من المنافع المقصودة للعقلاء قيام فعل الأجير مقام فعل المستأجر ليترتّب عليه جميع الآثار المترتّبة عليه.

و مرجع قصد النيابة إلى إقامة النائب فعله مقام المنوب عنه، و نيّة التقرّب اعتبار يلحق الفعل بعد قيامه مقام فعل المنوب عنه. و بعبارة اخرى أنّه يلحق الفعل لا باعتبار أنّه فعل النائب من حيث صدور منه، بل باعتبار أنّه فعل المنوب عنه من حيث قيامه مقامه بقصد النيابة، فكأنّ النائب هو المنوب عنه يباشر الفعل و يقصد به القضاء عن فائتة نفسه و ينوي به التقرّب و امتثال الأمر المتوجّه إليه.

فرعان:

الأوّل: هل يعتبر في وجوب قصد التعيين كون كلّ من العنوانين المتشاركين في الصورة مأمورا به بالفعل أو يكفي مجرّد الاشتراك في الصورة و إن اختصّ الأمر بأحدهما؟ الوجه هو الأوّل، لما عرفت من أنّ وجوب قصد التعيين من أحكام الأمر لا المأمور به و إن لم يؤمر به، فإذا اتّحد الأمر كفى قصد امتثاله و سقط معه قصد التعيين. و يظهر ثمرة هذا في صيام شهر رمضان الّذي اختلف فيه الأصحاب في كفاية نيّة الصوم غدا متقرّبا إلى اللّه من غير اعتبار التعيين، أو يشترط فيه قصد التعيين بنيّة كونه من رمضان، فقيل بالثاني، و الأكثر على الأوّل. و هو الأقوى، لما عرفت من أنّه لا تعدّد في الأمر بالصوم، فإذا نوى صوم الغد تقرّبا إلى اللّه كفى في امتثال ذلك الأمر و إن كان معيّنا في الواقع لأنّ التعيين إنّما يؤثّر في اعتبار قصده مع التعدّد لا مطلقا. و إلى هذا يرجع ما احتجّ به المحقّق(1) على عدم اعتباره من أنّ المراد من نيّة التعيين وقوع الفعل بها على أحد وجهيه، فإذا لم يكن للفعل إلاّ وجه واحد استغنى عن نيّة التعيين كردّ الوديعة و تسليم الأمانات.

ص: 834


1- المعتبر 149:2.

الثاني: الظاهر أنّ قصد التعيين في صورة تعدّد الأمر إنّما يعتبر في الإتيان الأوّل كالظهر مثلا، و أمّا غيره فالظاهر سقوط اعتباره و كفاية نيّة ما في الذمّة فيه لزوال التعدّد المانع عنها، قال الشهيد في الذكرى: «و لو صلّى الظهر ثمّ نوى فريضة الوقت أجزأ، و إن كان في الوقت المشترك» انتهى(1).

فانقدح من جميع ما قرّرناه أنّ الضابط في محلّ لزوم قصد التعيين مع الاشتراك، ما لو تعدّد الأمر و تغايرا بحسب الذات أو العلّة أو المتعلّق بأن يتوارد على عنوانين متغايرين بحسب القيود و الحيثيّات متشاركين في الصورة، و أمّا مع اتّحاد الأمر أو تعدّده مع اتّحادهما ذاتا و علّة و متعلّقا فلا يعتبر في امتثاله قصد تعيين. و لا ينافيه كونه معيّنا في الواقع لأنّ تعيّن الأمر من غير تعدّد أو معه من غير تغاير بإحدى الجهات المذكورة لا تأثير له في لزوم قصد التعيين، لأنّه في موضع اعتباره إنّما يعتبر مقدّمة للامتثال و لا توقّف له عليه في الصور المذكورة.

ثمّ لا يعتبر في نيّة العبادة أزيد ممّا ذكر من التعرّض للأداء و لا القضاء و لا الوجوب و لا الندب المعبّر عنهما بالوجه، و لا معرفة الوجه لا مقدّمة لإحراز قصد الوجه و لا تعبّدا بتوهّم كونها من قيود المأمور به. و وجه الكلّ ما تقدّم مشروحا في نيّة الوضوء، و قد ذكرناه و برهنّاه في تحقيقاتنا الاصوليّة أيضا، و تقدّم الكلام أيضا في بواقي أحكام النيّة الّتي منها أحكام الرياء و السمعة و فروعهما.

الثاني: من أفعالها القيام، و هو في الفريضة مع القدرة عليه واجب قولا واحد بل إجماعا محصّلا و منقولا في حدّ الاستفاضة في كلام أساطين الطائفة كالفاضلين في المعتبر(2)و التذكرة(3) و المنتهى(4) و الشهيدين في الذكرى(5) و الروض(6) و المحقّق الثاني في جامع المقاصد(7) و إرشاد الجعفريّة(8) و غيرهم(9) من المتأخّرين و متأخّريهم، بل في المعتبر و التذكرة و المنتهى إجماع علماء الإسلام على كونه ركنا يبطل الصلاة بالإخلال به عمدا و سهوا و زيادته كذلك.

ص: 835


1- الذكرى 249:3.
2- المعتبر 158:2.
3- التذكرة 89:3.
4- المنتهى 8:5.
5- الذكرى 266:3.
6- الروض 666:2.
7- جامع المقاصد 200:2.
8- المطالب المظفّريّة: 89.
9- كما في كشف اللثام 397:3.

و لا إشكال لأحد في أصل وجوبه، لوضوح دليله من الإجماع بقسميه، و الكتاب و السنّة، أمّا الإجماع فقد عرفته. و أمّا الكتاب ففي مواضع منه:

الأوّل: قوله عزّ و جلّ : حٰافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوٰاتِ وَ اَلصَّلاٰةِ اَلْوُسْطىٰ وَ قُومُوا لِلّٰهِ قٰانِتِينَ (1)أي مطيعين كما في الذكرى(2) أو ذاكرين كما عن صاحب الكشّاف(3) أو داعين كما عن الشيخ الطبرسي(4) عن ابن عبّاس، بتقريب أنّ الأمر يفيد الوجوب و لا يجب القيام في حال غير الصلاة من الطاعات و لا الأذكار و لا الأدعية إجماعا، فيكون المراد بالقنوت بانضمام الإجماع المذكور هو الصلاة.

الثاني: قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَلىٰ جُنُوبِهِمْ (5) بضميمة ما ورد في تفسيره من حسنة أبي حمزة بل صحيحه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «الصحيح يصلّي قائما و قعودا، المريض يصلّي جالسا، و على جنوبهم الّذي يكون أضعف من المريض الّذي يصلّي جالسا»(6) بتقريب أنّ «يصلّي» ظاهر في الوجوب، فيكشف عن كون الآية مسوقة لإعطاء الوجوب.

الثالث: قوله سبحانه: فَإِذٰا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاٰةَ فَاذْكُرُوا اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَلىٰ جُنُوبِكُمْ (7)بضميمة ما ورد في تفسيره من حديث عليّ عليه السّلام المنقول عن تفسير النعماني بإسناده، و فيه «و معنى الآية أنّ الصحيح يصلّي قائما، و المريض يصلّي قاعدا، و من لم يقدر أن يصلّي قاعدا يصلّي مضطجعا»(8).

و أمّا السنّة فالخبران المفسّران للآيتين، و صحيحا زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام - في حديث -: و قم منتصبا فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من لم يقم صلبه فلا صلاة له»(9) و خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من لم يقم صلبه في الصلاة فلا صلاة له»(10) و الأخبار الدالّة على سقوط القيام عمّن لم يقدر عليه لمرض و نحوه و قيام القعود أو الاستلقاء أو الاضطجاع مقامه، و الأخبار المرخّصة للجلوس في النافلة مطلقا

ص: 836


1- البقرة: 238.
2- الذكرى 266:3.
3- الكشّاف 316:1.
4- مجمع البيان 165:1.
5- آل عمران: 191.
6- الوسائل 1/481:5، ب 1 أبواب القيام، الكافي 11/411:3.
7- النساء: 103.
8- الوسائل 22/487:5، ب 1 أبواب القيام، تفسير النعماني: 29.
9- الوسائل 1/88:5، ب 2 أبواب القيام، الفقيه 856/180:1.
10- الوسائل 2/89:5، ب 2 أبواب القيام، الكافي 4/320:3.

دون الفريضة، و ما ورد منها في الصلاة في السفينة إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و أمّا كونه ركنا فلم يتعرّض المدّعون للإجماع عليه لبيان محلّه، و ربّما يوهم دعوى الإجماع من جهة إطلاق معقده كونه ركنا في جميع حالاته. و لأجل هذا التوهّم ربّما نقض بتركه سهوا في صورة نسيان القراءة كلاّ أم بعضا و بعد الركوع. و دفع بأنّ القيام منه هو في بعض حالاته، و اختلف في تعيينه على أقوال: فقيل: إنّ الأصل فيه كونه ركنا إلاّ في مواضع دلّ النصّ على عدم ركنيّته، كما هو خيرة صاحب المستند(1) و نقله السيّد في الرياض(2)قولا من غير تعيين قائله، و احتمله ثاني الشهيدين في الروضة(3) و عنه الميل إليه في الروض(4) و يظهر وجود القائل به من ذكرى الشهيد حيث قال في باب السهو: «إذا جعلنا صورة القيام كيف اتّفق ركنا»(5) و لعلّه مقتضى إطلاق الفاضلين و معقد إجماعهما، و كأنّه مستند من نقل عن العلاّمة القول بركنيّة القيام كيف اتّفق على ما حكاه في مفتاح الكرامة(6).

و قيل: إنّ الركن منه ما كان في تكبيرة الإحرام و قبل الركوع متّصلا به خاصّة، نقله في الرياض(7) من دون تعيين قائله.

و قيل: إنّ الركن منه هو القدر المتّصل بالركوع و لا يتحقّق نقصانه إلاّ بنقصان الركوع، كما احتمله في الروضة(8) و نسبه في المدارك(9) إلى جمع من المتأخّرين(10) و استحسنه.

و قيل كما عن الشهيد في بعض فوائده: إنّه تابع لما وقع فيه و يوصف بصفاته من الشرطيّة و الركنيّة و عدم الركنيّة و الوجوب و الاستحباب، قائلا على ما حكي «إنّ القيام بالنسبة إلى الصلاة على أنحاء: القيام إلى النيّة، و هو شرط فإنّه لما وجب وقوع النيّة في حال القيام اتّفاقا وجب تقدّمه عليها زمانا يسيرا، ليقطع بوقوعها في حال القيام، و هذا شرط في الصلاة لتقدّمه عليها و اعتباره فيها. و القيام في النيّة، و هي متردّد بين الركن و الشرط كحال النيّة. و القيام في التكبير، ركن كالتكبير. و القيام في القراءة، من حيث هو قيام كالقراءة واجب غير ركن. و القيام المتّصل بالركوع، و هو الّذي يركع عنه، ركن قطعا حتّى لو ركع جالسا سهوا بطلت صلاته. و القيام من الركوع، واجب غير ركن. و القيام في

ص: 837


1- المستند 37:5.
2- الرياض 128:3.
3- الروضة 649:1.
4- الروض 666:2.
5- الذكرى 51:4.
6- مفتاح الكرامة 550:6.
7- الرياض 128:3.
8- الروضة 649:1-650.
9- المدارك 326:3.
10- منهم الشهيد في المسالك 200:1.

القنوت، مستحبّ كالقنوت» انتهى(1).

و عن المحقّق الثاني أنّه استشكل وصفه بالاستحباب و الوجوب «لأنّ قيام القنوت متّصل بقيام القراءة، فهو في الحقيقة كلّه قيام واحد فكيف يوصف بعضه بالوجوب و بعضه بالاستحباب ؟»(2).

و لا خفاء في ضعفه كما تنبّه عليه صاحب المدارك(3) و غيره(4) إذ لو أراد كونه واحدا بالنوع. فهو حقّ لا سترة عليه إلاّ أنّه لا منع من وصفه بالوجوب و الاستحباب باعتبار تعدّد أشخاصه و إن أراد كونه واحدا بالشخص، فواضح المنع، لأنّ القيام في حال القراءة من حيث إنّه في حال القراءة يغاير القيام حال القنوت من حيث إنّه كذلك، و لذا لا يصحّ حمل أحدهما على الآخر، و يحمل القيام على كلّ منهما.

فهذان الشخصان أحدهما واجب و هو الأوّل نظرا إلى أنّ الواجب ما لا يجوز تركه لا إلى بدل، و الآخر مستحبّ كالثاني نظرا إلى أنّ المستحبّ ما يجوز تركه لا إلى بدل و يكون مستحبّا كأصل القنوت.

و لا يبعد ترجيح القول الأوّل بملاحظة ما قرّرناه في الاصول، من أنّ الأصل في أجزاء الواجب الركنيّة إلاّ ما علم كونه غير ركن بالدليل، غير أنّ الظاهر أنّ مرجعه و الأقوال الاخر إلى أمر واحد، و هو ركنيّة قيام التحريمة و ما اتّصل منه بالركوع، و عدم ركنيّة غيرهما، لوضوح عدم الخلاف في كون سهو الأوّلين نقيصة و زيادة مبطلا دون غيرهما. فالاختلاف بين الأقوال لعلّه في مجرّد اللفظ و العبارة، و من هنا ترى السيّد في الرياض(5) تارة ادّعى الاتّفاق على ركنيّة الأوّلين، و اخرى نفى الخلاف عنه.

و هل المراد بالقيام المتّصل بالركوع المحكوم عليه بكونه ركنا هو قيام القراءة أي الجزء الأخير منه و هو الّذي حصل منه الركوع، أو هو قيام مستقلّ منفرد عن قيام القراءة زائد عليه و لو قليلا بقدر ما يتنفّس ؟ - و يمكن تحديده بقيام التكبيرة المستحبّة للركوع أو ما هو بقدره في صورة ما لو أراد ترك تلك التكبيرة لمكان استحبابها، فلا يلزم بذلك كون تلك التكبيرة أيضا ركنا لأنّه ما يجوز تركه لا إلى بدل و إن لم يجز ترك قيامه لا إلى بدل -

ص: 838


1- نقله عنه في جامع المقاصد 200:2-201.
2- جامع المقاصد 201:2.
3- المدارك 327:3.
4- كما في الروض 666:2.
5- الرياض 128:3.

احتمالان، بل قولان.

ظاهر كلّ من عبّر عن ركن القيام بالقيام المتّصل بالركوع، خصوصا ما عرفت عن الشهيد في «بعض فوائده»(1) لظهور كلامه في كونه قسما آخر منفردا عن قيام القراءة هو الثاني. و ظاهر السيّد الكاظمي في شرح الدروس هو الأوّل، و لذا استشكل في تحقيقه بعد ما حكم بأنّ القيام إنّما يكون ركنا في موضعين أحدهما حال التكبير و الثاني القيام المتّصل بالركوع، إلى أن قال: «و أمّا الثاني ففي تحقيقه إشكال، إذ القيام المتّصل بالركوع هو بعينه القيام في القراءة، إذ لا يجب قيام آخر بعدها قطعا، و اجتماع الركنيّة و عدمها في قيام واحد لا يخلو من بعد»(2).

أقول: على تقدير صحّة الفرض ينبغي الحكم بامتناع الاجتماع لا مجرّد عدم خلوّه من بعد، للزوم اجتماع النقيضين، فإنّ قولنا «يبطل الصلاة بسهوه» كما هو معنى الركنيّة و «لا يبطل الصلاة بسهوه» كما هو معنى عدم الركنيّة قضيّتان متناقضتان.

و لكنّ الكلام في صحّة الفرض، و هو موضع منع خصوصا مع ملاحظة أدائه إلى المحذور المذكور.

و دعوى: القطع بعدم وجوب قيام آخر بعد القراءة، غير مسموعة، إذ القطع بذلك لا بدّ له من موجب. و لا يجوز كونه الإجماع، لمنع ثبوته على نفي اعتبار الزائد على قيام القراءة خصوصا مع ملاحظة ما ذكرناه من ظهور كلام المعبّرين بالقيام المتّصل بالركوع و لا سيّما الشهيد في كونه قسما منفردا عن قيام القراءة كيف! و ليس في المسألة إجماع إلاّ ما تقدّم عن الفاضلين(3) من الإجماع على ركنيّة القيام، و هو باعتبار معقده مجمل، و لذا حمل على إرادة القيام في الجملة، و يحتمل تنزيله على القيام المتّصل و كونه القدر الزائد على قيام القراءة.

و كذا لا يجوز كونه النصّ ، لفقد النصّ الدالّ على نفي اعتبار الزائد.

و التمسّك بالأصل مع أنّه لا يوجب القطع في مقابلة محذور اجتماع النقيضين حسبما بيّناه كما ترى.

و لكن ربّما يظهر عدم كون القيام المتّصل بالركوع قياما مستقلاّ برأسه منفردا عمّا سواه

ص: 839


1- نقله عنه جامع المقاصد 200:2.
2- شرح الدروس 749:1.
3- المعتبر 149:2، المنتهى 8:5.

من ثاني الشهيدين في الروضة أيضا، فإنّه بعد ما احتمل كون الركن من القيام ما اتّصل بالركوع أو كون القيام ركنا كيف اتّفق و حيث لا يبطل الصلاة بزيادته أو نقصانه يكون مستثنى قال: «و على الأوّل ليس مجموع القيام المتّصل بالركوع ركنا بل الأمر الكلّي منه، و من ثمّ لو نسي القراءة أو أبعاضها لم تبطل الصلاة»(1).

فإنّ مراده على ما هو مقتضى ظاهر عبارته أنّ القيام من حين الشروع في القراءة إلى الركوع قيام واحد، و يصدق عليه القيام المتّصل بالركوع و هو من البداية إلى النهاية مشتمل على أجزاء، و ليس مجموع هذه الأجزاء من حيث المجموع ركنا ليلزم بطلان الصلاة بانتفاء بعض هذه الأجزاء باعتبار استلزامه لانتفاء المجموع من حيث المجموع، لوضوح فساده باعتبار أنّه لا تبطل الصلاة بنسيان القراءة أو أبعاضها المستلزم لنسيان القيام المتحقّق معها.

بل الركن هو الأمر الكلّي الصادق على كلّ جزء حصل فيه وصف الاتّصال بالركوع، و هو القيام الّذي حصل منه الركوع و هو صادق على الجزء الأخير من قيام القراءة فيمن قرأها تماما، و على الجزء الأخير من قيام قراءة الفاتحة فيمن نسي السورة، و على الجزء الأخير من قراءة نصف الفاتحة مثلا فيمن نسي باقيها مع السورة، و على القيام بعد التكبيرة أو حالها فيمن نسي القراءة رأسا.

أقول: و فيه من التكلّف ما لا يخفى و منشأ الوقوع فيه عدم إثبات قيام آخر منفرد عن قيام القراءة و غيره زائد عليه، و أمّا مع إثباته فلا يدخل في الوهم كون الركن هو مجموع ما ذكر حتّى يحتاج نفيه إلى التنبيه و العدول عنه إلى الأمر الكلّي.

نعم إنّما الشأن في إثبات وجوب هذا القدر الزائد فإنّه لا بدّ له من دليل، و لا يكفي فيه مجرّد عدم الدليل على عدم وجوبه من إجماع و نصّ حسبما بيّنّاه في دفع كلام شارح الدروس، و لا يمكن أن يكون دليله الإجماع المدّعى على ركنيّة القيام لإجمال معقده، و لا ما ورد في النصوص المتقدّمة من قولهم عليهم السّلام: «من لم يقم صلبه فلا صلاة له»(2) فإنّه و إن كان دالاّ على ركنيّة القيام إلاّ أنّه لا يعيّن محلّه، فيكون كالإجماع مجملا.

نعم يمكن الاستدلال عليه بما في صحيحة حمّاد بن عيسى الحاكية لفعل أبي عبد اللّه عليه السّلام

ص: 840


1- الروضة 649:1.
2- الوسائل 2/489:5، ب 2 أبواب القيام، الكافي 4/320:3.

لصلاة ركعتين في مقام التعليم من قوله: «ثمّ قرأ الحمد بترتيل و قل هو اللّه أحد، ثمّ صبر هنيئة بقدر ما يتنفّس و هو قائم، ثمّ قال: اللّه اكبر، و هو قائم، ثمّ ركع»(1) فإنّ صبره عليه السّلام هنيئة بقدر ما يتنفّس قائما ليس إلاّ من جهة إحراز القيام المتّصل بالركوع، و هو بمقتضى فعله عليه السّلام قدر زائد على قيام القراءة متحقّق بعد الفراغ منها.

و أمّا وجوب هذا القدر الزائد ليكون ركنا فلأنّ ظاهر هذه الرواية باعتبار السياق من حيث ورودها في مقام التعليم كون جميع ما صدر عنه عليه السّلام من فعل أو ذكر أو غيرهما واجبا في الصلاة إلاّ ما علم بدليل الخارج عدم وجوبه.

و تدلّ عليه أيضا قوله عليه السّلام بعد الفراغ عن الركعتين: «يا حمّاد هكذا صلّ »(2) فإذا دلّ النصّ الصحيح على وجوب القدر الزائد، و لم يكن هناك صارف عن هذه الدلالة - من إجماع و نصّ و غيرهما كما هو المفروض - وجب المصير إليه.

و ممّا ذكرناه ظهر أنّ ما يغلب في المأمومين من أنّهم يكبّرون و يركعون إدراكا لركوع الإمام بلا مهلة بعد التكبير، ليس بصحيح، بل لا بدّ بعد التكبير من الصبر هنيئة بقدر ما يتنفّس أو بقدر ما يكبّر ثمّ الدخول في الركوع إحرازا للقيام المتّصل بالركوع، و لا يجوز الاكتفاء عنه بقيام التحريمة بتوهّم تداخل الركنين هاهنا، إذ لا دليل على التداخل و الأصل عدمه، كما لا دليل على سقوط اعتبار قيام المتّصل بالركوع عن المأموم في الجماعة.

و هاهنا إشكال آخر ينشأ من ملاحظة معنى الركن بناء على تفسيره بما تبطل الصلاة بزيادته أو نقصانه عمدا أو سهوا كما هو المعروف، من حيث إنّ ثمرة الركنيّة في طرف نقصانه سهوا على وجه يسند إليه البطلان و ينفكّ عن نقصان الركوع و إن كانت ظاهرة فيمن انحنى بعد القراءة للسجود ناسيا للركوع، ثمّ تذكّر قبل البلوغ حدّ الساجد فارتفع منحنيا إلى أن بلغ حدّ الراكع فنوى الركوع من غير أن يقوم ثمّ ينحني للركوع إحرازا للقيام المتّصل به سهوا. و أمّا في طرف الزيادة نقصانا فلا يظهر ثمرة ركنيّته، لأنّ زيادته بوصف كونه متّصلا بالركوع لا تنفكّ عن زيادة الركوع، و عليه فزيادة الركوع كافية في بطلان الصلاة فلم يترتّب على زيادة القيام معه أثر الركنيّة.

ص: 841


1- الوسائل 1/459:5، ب 1 أفعال الصلاة، الكافي 916/196:1.
2- الوسائل 2/461:5، ب 1 أفعال الصلاة، الكافي 8/311:3.

و تفصّى عن هذا الإشكال في الروضة بناء على كون العلل الشرعيّة معرّفات لا عللا حقيقيّة بجواز اجتماع معرّفين حيث قال: «و يكون إسناد الإبطال إليه بسبب كونه أحد المعرّفين له»(1)

و فيه ما لا يخفى، إذ لا حاجة إلى نحو هذا التكلّف، بل نمنع كفاية زيادة الركوع في البطلان، لأنّه إنّما يتمّ إذا استند البطلان في الواقع إلى زيادة الركوع، و هو محلّ منع، لأنّ الشيء إنّما يستند إلى أسبق السببين و لا ريب أنّه زيادة القيام. و إن فرض عدم انفكاكها عن زيادة الركوع و لا يلزم من ذلك سقوط فائدة الركنيّة من جهة طرف الزيادة عن الركوع حيث لا يستند إليها البطلان في الواقع لكفاية صدق الركنيّة عليه من هذه الجهة فيما لو زيد الركوع سهوا منفكّا عن زيادة القيام معه، فإنّه أمر ممكن. و الّذي لا يمكن هو انفكاك زيادة القيام المتّصل بالركوع عن زيادة الركوع بخلاف العكس، و حينئذ يستند البطلان إلى زيادة الركوع، و ذلك كما فيمن ركع و نسي الرفع عن الركوع حتّى قعد للسجود فتذكّر قبل أن يسجد فارتفع إلى حدّ الراكع من دون أن يقوم، فنوى الركوع حينئذ عمدا أو سهوا عن ركوعه الأوّل فركع ثمّ قام عن الركوع، فإنّ الصلاة حينئذ لم تزل باطلة بسبب زيادة الركوع من دون زيادة القيام المتّصل به معه، بناء على أنّ الركوع لا يعتبر في صدقه الانحناء إليه عن قيام.

نعم إنّما يتّجه إشكال عدم ثمرة الركنيّة من جهة الزيادة سهوا في قيام تكبيرة الإحرام، باعتبار أنّ زيادته لا تنفكّ عن زيادتها، فاستناد البطلان إلى زيادته ليس بأولى من استناده إلى زيادتها.

و لا ينافي ركنيّة القيام قول أبي جعفر عليه السّلام في صحيح زرارة: «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة الطهور و الوقت و القبلة و الركوع و السجود»(2) كما لا ينافي ركنية النيّة و تكبيرة الإحرام، لوجوب تخصيصه بأدلّة ركنيّة هذه الأشياء، فتأمّل.

ثمّ إنّ هاهنا امورا ينبغي التعرّض لها:

الأمر الأوّل: أنّ حدّ القيام - كما ذكره جماعة بل عزي إلى جمهور أصحابنا - الانتصاب،

الأمر الأوّل: أنّ حدّ القيام - كما ذكره جماعة(3) بل عزي إلى جمهور أصحابنا - الانتصاب،

ص: 842


1- الروضة 649:1-650.
2- الوسائل 5/91:6، ب 29 أبواب القراءة، الفقيه 991/225:1.
3- كما في التذكرة 90:3، الذكرى 266:3، جامع المقاصد 202:2.

و هو نصب فقار الظهر أي عظامه المنتظمة في النخاع الّتي تسمّى خرز الظهر، و هو الّذي عبّر عنه بإقامة الصلب في الأخبار المتقدّمة المصرّحة بأنّه «لا صلاة لمن لم يقم صلبه»(1).

فهذه الأخبار - مضافا إلى ما في خبر زرارة الموصوف بالصحّة من قوله عليه السّلام: «إذا أردت أن تركع فقل و أنت منتصب: اللّه أكبر، ثمّ اركع»(2) مع انضمام عدم القائل بالفرق بين حالات القيام - تكفي دليلا على اعتبار الانتصاب في القيام، مضافا إلى عدم صدق القيام عرفا بدونه، فهذا أيضا حجّة مستقلّة.

و لا يخلّ به الإطراق و هو ميل الرأس إلى أحد الجانبين أو إلى الصدر، كما صرّح به جماعة(3) و وجهه صدق الانتصاب معه.

و عن الصدوق قول بالإخلال به(4) و وجهه غير واضح.

و عن الحلبي استحباب إرسال الذقن إلى الصدر(5) و هذا أيضا غير واضح الوجه، مع أنّ المرسل كالصحيح بحمّاد و جميل عن أبي جعفر عليه السّلام حجّة عليه قال: «قلت: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ اِنْحَرْ (6) قال: النحر الاعتدال في القيام أن يقيم صلبه و نحره...»(7) الحديث. و هذا مع قضائه بنفي استحباب ما ذكر يقضي بأولويّة ترك الإطراق المتحقّق بإقامة النحر كما نصّ عليها جماعة(8) أيضا.

نعم يخلّ به الميل يمينا و شمالا و الانحناء اختيارا و إن لم يبلغ حدّ الراكع.

[الأمر الثاني: يشترط في صدق القيام الاستدلال]

الأمر الثاني: يشترط في صدق القيام أيضا الاستقلال الّذي قد يعبّر عنه بالإقلال، أو أنّه المتبادر من إطلاقه في النصّ و الفتوى، و كونه معتبرا فيه هو المشهور بين العلماء كما في الذخيرة(9) و الحدائق(10) و عن الكفاية(11) و مجمع البرهان(12). و في المدارك(13) قد قطع

ص: 843


1- تقدّمت في الصفحة 829 الرقم 9 و 10.
2- الوسائل 1/295:6، ب 1 أبواب الركوع، الكافي 1/319:3.
3- كما في التذكرة 91:3، الذكرى 299:3، الدروس 161:1، الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 75، جامع المقاصد 202:2، الروض 668:2، كشف اللثام 398:3.
4- الناقل هو السبزواري في الذخيرة: 260، الفقيه 856/278:1، ب 42 في القبلة.
5- الكافي في الفقه: 142.
6- الكوثر: 2.
7- الوسائل 3/489:5، ب 2 أبواب الكافي 9/336:3.
8- كما في المدارك 328:3، الحدائق 65:8.
9- الذخيرة: 261.
10- الحدائق 61:8.
11- الكفاية: 18.
12- مجمع البرهان 189:2.
13- المدارك 327:3.

أكثر الأصحاب بوجوبه، و في المفاتيح(1) نسبته إلى الأكثر.

و هو عبارة عن كونه قائما بنفسه غير معتمد على غيره - من عصى أو إنسان أو حائط أو شجر أو نحو ذلك - و لا مستند إليه بحيث لو ازيل السناد عنه لسقط، فلا يضرّ الاستناد من غير اعتماد بهذا المعنى.

و العمدة من دليل المسألة صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تمسك بخمرك(2) و أنت تصلّي، و لا تستند إلى جدار و أنت تصلّي، إلاّ أن تكون مريضا»(3). و علّل أيضا بالتأسّي، و هو عليل، إذ لا حكم للتأسّي في الأفعال الطبيعيّة العادية.

و عن أبي الصلاح الحلبي جواز الاستناد على كراهية(4) و قوّاه جماعة(5) من المتأخّرين، للأصل، و ما رواه الشيخ في الصحيح عن عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى عليه السّلام قال:

«سألته عن الرجل هل يصلح له أن يستند إلى حائط المسجد و هو يصلّي، أو يضع يده على الحائط و هو قائم من غير مرض و لا علّة ؟ فقال: لا بأس، و عن الرجل يكون في صلاة فريضة فيقوم في الركعتين الأوّلتين هل يصلح له أن يستند إلى حائط المسجد فينهض يستعين به على القيام من غير ضعف و لا علّة ؟ فقال: لا بأس»(6).

و الموثّق كالصحيح بعبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يصلّي متوكّئا على عصى أو على حائط، قال: لا بأس بالتوكّؤ على عصى و الاتّكاء على الحائط»(7).

و رواية سعيد بن يسار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التكأة في الصلاة على الحائط يمينا و شمالا؟ فقال: لا بأس»(8).

ص: 844


1- المفاتيح 121:1.
2- الخمر بالتحريك: ما واراك من خزف أو جبل أو شجر، أي لا تستند إليه في صلاتك (مجمع البحرين 293:3 خمر).
3- الوسائل 2/500:5، ب 10، أبواب القيام، التهذيب 394/176:3.
4- الكافي في الفقه: 125.
5- كما في مجمع البرهان 189:2-190، المدارك 327:3-328، الحدائق 61:8-62.
6- الوسائل 1/499:5، ب 10، أبواب القيام، الفقيه 1045/237:1.
7- الوسائل 4/500:5، ب 10 أبواب القيام، التهذيب 1341/327:2.
8- الوسائل 3/500:5، ب 10 أبواب القيام، التهذيب 1340/327:2.

و وجه الكراهة الجمع بين هذه الأخبار و صحيحة ابن سنان.

و الأصل مدفوع بتلك الصحيحة، و الروايات مدفوعة بشذوذها و احتمالها التقيّة كما عن فخر المحقّقين(1) حيث حملها عليها مؤذنا بكون عدم اعتبار الاستقلال مذهبا للعامّة(2) مع مخالفتها الكتاب بملاحظة الآيتين المتقدّمتين كما ذكره الوحيد البهبهاني في شرحه للمفاتيح(3) بناء على أنّ المتبادر من القيام الوارد فيهما ما يشتمل على الاستقلال و عدم صدقه عرفا على ما استند فيه إلى ما يزول بزواله مع قبولها الحمل على استناد لم يكن معه اعتماد بحيث يزول بزوال السناد كما ذكره الشهيد قائلا: «و الخبر لا يدلّ على الاعتماد صريحا، إذ الاستناد يغايره و ليس بمستلزم له»(4) و هذا الحمل و إن كان في حدّ ذاته ضعيفا غير أنّه يقوّى بمساعدة إعراض الأكثر عن ظاهر الأخبار و مساعدة فهم العرف بالنظر إلى مفهوم الوارد في الأدلّة كتابا و سنّة و معقدا للإجماع.

و ربّما حملت الصلاة فيها على النافلة كما في شرح المفاتيح(5) استشهادا بقرينة قوله أخيرا: «و عن الرجل يكون في الفريضة» إذ يظهر منه أنّ الفرض الأوّل كان في غير الفريضة، و مجرّد الاستعانة في النهوض على القيام لم يعلم قدحه مع عدم الاعتماد في حال القيام على شيء كما هو ظاهر السؤال الثاني. فالأقوى إذن هو المشهور المنصور.

[الأمر الثالث: يشترط في القيام الاستقرار]

الأمر الثالث: يشترط في القيام أيضا الاستقرار المتحقّق بعدم المشي و لا التحرّك يمينا و شمالا، لأنّه المتبادر من إطلاق القيام في النصوص و الفتاوي و معاقد الإجماع، و لو كان تبادرا إطلاقيّا إن لم نقل بكونه معتبرا في مسمّى القيام عرفا، لوضوح عدم صدق القائم على الماشي و صحّة سلب اسم القيام عن المشي، مع أنّ المعلوم من فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة عليهم السّلام هو الاستقرار في قيام الصلاة، مع أنّ الظاهر أنّ اعتباره فيه ممّا لا خلاف فيه، بل في شرح المفاتيح «أنّه إجماعي بل ضروري في الجملة»(6).

و يدلّ عليه أيضا أدلّة المنع من فعل الفريضة ماشيا و في السفينة و على الراحلة اختيارا من الأخبار و غيرها الّتي هي بين صريحة و ظاهرة في اعتبار الاستقرار و الطمأنينة في الصلاة، و من ذلك خبر هارون بن حمزة الغنوي «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في

ص: 845


1- الإيضاح 99:1.
2- المجموع 259:3، فتح العزيز 284:3، المغني 154:1.
3- مصابيح الظلام 51:7.
4- الذكرى 367:3.
5- مصابيح الظلام 51:7.
6- مصابيح الظلام 47:7.

السفينة ؟ فقال! إن كانت محملة ثقيلة إذا قمت فيها لم تتحرّك فصلّ قائما، و إن كانت خفيفة تكفأ فصلّ قاعدا»(1) و ما أرسله الصدوق قال: «و قال عليّ : إذا ركبت السفينة و كانت تسير فصلّ و أنت جالس، و إذا كانت واقفة فصلّ و أنت قائم»(2).

ثمّ إنّ في كون الاستقرار و الطمأنينة وصفا في القيام شرطا فيه نفسه كما هو ظاهر الأكثر، أو حالا في المصلّي معتبرا في الصلاة كما هو ظاهر بعضهم قولان، كما يأتي الإشارة إليهما.

[الأمر الرابع: الأقرب وجوب الاعتماد على الرجلين معا في القيام]

الأمر الرابع: قال في الذكرى: «الأقرب وجوب الاعتماد على الرجلين معا في القيام، و لا تجزئ الواحدة مع القدرة، لعدم الاستقرار، و للتأسّي بصاحب الشرع»(3). و تبعه جمع ممّن تأخّر(4) عنه، و عن البحار(5) أنّه المشهور. و استدلّ عليه كاشف اللثام(6) بالتأسّي و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «صلّوا كما رأيتموني اصلّي»(7) و في الذخيرة «بأنّه المتبادر من الأمر بالقيام منتصبا»(8). و في شرح المفاتيح(9) باقتضاء البراءة اليقينيّة ذلك.

و الكلّ ضعيف، لمنع دوام توقّف الاستقرار عليه و حيث يتوقّف عليه فهو من شرط الاستقرار لا غير، و التأسّي في الامور المعتادة غير واضح، و الرواية غير خالية عن الإجمال، و تبادر خصوص الاعتماد على الرجلين غير ظاهر، و قاعدة الشغل غير جارية فيما يجري فيه أصالة البراءة النافية للشرطيّة.

و لذا مال في مفتاح الكرامة(10) تبعا للحدائق(11) إلى عدم الوجوب. و عن النفليّة(12)و شرحها(13) استحباب ذلك. و في الأوّلين «نعم لو رفع إحدى رجليه عن الأرض بالكلّية و اقتصر على وضع واحدة عليها فلا إشكال في البطلان» و في الحدائق «لوقوعه على خلاف الوجه المتلقّى عن صاحب الشرع أمرا و فعلا»(14) و في مفتاح الكرامة «و يمكن

ص: 846


1- الوسائل 2/504:5، ب 14 أبواب القيام، التهذيب 378/171:3.
2- الوسائل 3/505:5، ب 14 أبواب القيام، الفقيه 1331/292:1.
3- الذكرى 270:3.
4- كما في الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 75، جامع المقاصد 202:2، الروض 668:2، المدارك 328:3، كشف اللثام 398:3.
5- البحار 342:84.
6- كشف اللثام 398:3.
7- عوالي اللآلئ 8/198:1.
8- الذخيرة: 260.
9- مصابيح الظلام 56:7.
10- مفتاح الكرامة 556:6.
11- الحدائق 66:8.
12- النفليّة: 113.
13- الفوائد المليّة: 172.
14- الحدائق 66:8.

تنزيل كلامهم عليه»(1).

و استدلّ على عدم الوجوب في الحدائق بما رواه الكليني في الصحيح عن محمّد بن أبي حمزة عن أبيه قال: «رأيت عليّ بن الحسين عليه السّلام في فناء الكعبة في الليل و هو يصلّي، فأطال القيام حتّى جعل مرّة يتوكّأ على رجله اليمنى و مرّة على رجله اليسرى»(2) قال:

«و هو ظاهر الدلالة و واضح المقالة على ما ذكرناه»(3).

و فيه: منع وضوح الدلالة، لعدم ظهوره في الفريضة، لقوّة احتمال كون مورده النافلة يتسامح فيها بما لا يتسامح في الفريضة، مع أنّه محتمل للضرورة كما يومئ إليه حكاية إطالة القيام الموجبة كثيرا ما للتعب عن الاعتماد على الرجلين و المشقّة الّتي لا تتحمّل عادة، فيعتمد حينئذ على إحدى الرجلين تارة على اليمنى و اخرى على اليسرى طلبا للراحة و رفعا للمشقّة. مع أنّه لم يظهر من الخبر أنّه اعتمد كلّيا على إحدى الرجلين، لجواز اعتماده عليهما معا مع كونه في إحداهما أشدّ منه في الاخرى، و لم يظهر من كلمات الجماعة منعه أيضا، بل ظاهر شارح المفاتيح الميل إلى جوازه حيث قال: «و لو كان الثقل و الاعتماد على إحداهما أزيد فلعلّه غير مضرّ» هذا.

و لكنّ الأظهر الأقوى هو وجوب الاعتماد على الرجلين بل على تمام باطني القدمين لا على الأصابع و العقبين، لانصراف مطلقات القيام و أوامر صلاة القائم إليه، فلم يثبت الإذن في غيره في العبادة المتلقّاة من الشارع. و من ذلك ظهر أنّ الأولى بعدم الجواز رفع إحدى الرجلين و تمام الوقوف على الرجل الاخرى. و ربّما يستفاد المنع من ذلك و من القيام على أصابع الرجلين من الروايات الواردة في تفسير قوله تعالى: طه مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ (4) و قد نقلها في الحدائق(5).

[الأمر الخامس: لا يجوز تباعد الرجلين بما يخرجه عن حدّ القيام]
اشارة

الأمر الخامس: قال في الذكرى: «لا يجوز تباعد الرجلين بما يخرجه عن حدّ القيام»(6)و تبعه جماعة(7) و عن البحار(8) «أنّه المشهور» و علّل بأنّ من أفحش في التباعد لا يعدّ

ص: 847


1- مفتاح الكرامة 556:6.
2- الوسائل 1/49:5، ب 3 أبواب القيام، الكافي 10/422:2.
3- الحدائق 66:8.
4- طه: 1 و 2.
5- الحدائق 66:8.
6- الذكرى 270:3.
7- كما في جامع المقاصد 202:2، المطالب المظفّريّة: 90، الروض 668:2، المدارك 328:3.
8- البحار 342:84.

قائما عرفا. و ظهر من ذلك أنّ المرجع في ذلك هو العرف، و معياره التباعد المخرج عن صدق القيام عرفا.

و لكن في الحدائق «المفهوم من الأخبار أنّ نهاية التباعد بينهما إلى قدر شبر، و الاحتياط أن لا يزيد على ذلك، فإنّه من المحتمل قريبا أن يكون ذلك غاية الرخصة في التباعد بينهما»(1) و في التذكرة «يستحبّ حال قيامه أن يفصل بين رجليه من أربع أصابع إلى شبر، و أن يستقبل أصابعهما إلى القبلة»(2) و في المنتهى «يستحبّ للمصلّي أن يفرّق بين قدميه قائما من ثلاث أصابع إلى شبر لأنّه أمكن في الصلاة»(3) و عن المقنعة(4) و المقنع(5)«التفريق بشبر إلى أكثر» و عن المبسوط(6) و المهذّب(7) و الإصباح(8) «التفريق بأربع أصابع» و عن الوسيلة(9) و أحكام النساء(10) للمفيد «أربع أصابع منفرجات» و هو محتمل المبسوط(11) و ما بعده(12).

و يشهد لما ذكره في الحدائق(13) ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا قمت في الصلاة فلا تلصق قدمك بالاخرى، دع بينهما فصلا إصبعا أقلّ ذلك إلى شبر أكثره، و أسدل منكبيك، و أرسل يديك، و لا تشبك أصابعك، و ليكونا على فخذيك قبالة ركبتيك، و ليكن نظرك إلى موضع سجودك، فإذا ركعت فصف في ركوعك بين قدميك تجعل بينهما قدر شبر...»(14) الخ. و ظاهره أنّ الشبر منتهى الفصل بينهما، فالأحوط أن لا يزيد عليه.

و الأفضل كونه ثلاث أصابع منفرجات عملا بما في حسنة أو صحيحة حمّاد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه قام مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضمّ أصابعه، و قرّب بين قدميه حتّى كان بينهما قدر ثلاث أصابع منفرجات»(15) هذا كلّه في الرجل.

و أمّا المرأة فعن أكثر المتأخّرين كما عن المقنعة(16) و النهاية(17) و الوسيلة(18) و السرائر(19)

ص: 848


1- الحدائق 65:8.
2- التذكرة 91:3.
3- المنتهى 17:5.
4- المقنعة: 104.
5- المقنع: 76.
6- المبسوط 101:1.
7- المهذّب 92:1.
8- الإصباح: 73.
9- الوسيلة: 95.
10- أحكام النساء (مصنّفات الشيخ المفيد) 26:9.
11- المبسوط 101:1.
12- كما في المهذّب 92:1.
13- الحدائق 66:8.
14- الوسائل 3/461:5، ب 1 أفعال الصلاة، الكافي 1/334:3.
15- الوسائل 1/459:5، ب 1 أفعال الصلاة، الكافي 916/196:1.
16- المقنعة: 111.
17- النهاية: 73.
18- الوسيلة: 95.
19- السرائر 225:1.

أنّه يستحبّ لها الجمع بين قدميها، و يشهد له صحيح زرارة قال: «إذا قامت المرأة في الصلاة جمعت بين قدميها و لا تفرج بينهما»(1).

ثمّ إنّه إذا عجز المكلّف عن القيام في الصلاة منتصبا مستقلاّ مستقرّا فلا يخلو إمّا أن يكون العجز عن الانتصاب، أو عن الاستقلال، أو عن الاستقرار، أو عن أصل القيام في جميع حالات الصلاة، أو في بعضها، فهاهنا مسائل:

[هاهنا مسائل:]
المسألة الاولى: فيمن عجز عن الانتصاب،

كما لو تقوّس ظهره لكبر أو زمانة أو غير ذلك، فالواجب عليه الصلاة في تلك الحالة و إن بلغ انحناؤه إلى حدّ الراكع. و لا يجوز له العدول إلى القعود، لأنّه القيام المقدور له، و عن جماعة التصريح بذلك، و في الذكرى «لا يجوز له القعود عندنا»(2) مؤذنا بدعوى الإجماع، و في المنتهى «بلا خلاف، و علّله بأنّه قيام مثله»(3).

و قد يستدلّ عليه بعموم «الميسور لا يسقط بالمعسور»(4) كما في كشف اللثام(5) و لعلّه بناء منه على أنّ هذه الحالة بعض من قيام المنتصب، على معنى أنّ القيام مركّب من هذا المقدار من النهوض و ما زاد عليه ممّا يتحقّق معه الانتصاب. و في المنتهى «أنّ هذا إذا كان لحدب أو كبر، قال: و إن كان لغير ذلك كقصر السقف و من كان في سقيفة متظلّلة لا يتمكّن من استيفاء القيام فيها أو كان خائفا وجب عليه القيام بما يتمكّن منه كالأحدب، خلافا لبعضهم»(6).

[المسألة الثانية: في من عجز عن الاستقلال في القيام]

المسألة الثانية: فيمن عجز عن الاستقلال في القيام، فالواجب عليه الصلاة معتمدا على ما يتمكّن معه من الانتصاب و لا يسقط عنه فرض القيام، كما نصّ عليه جماعة(7) و ظاهر المنتهى(8) بل صريحه الإجماع عليه، و في كلام شارح الدروس «أنّ الأصحاب قد اتّفقوا على وجوب الاعتماد إذا تمكّن معه من القيام، و لم يسوّغوا الجلوس»(9).

و يدلّ عليه الاستثناء في صحيحة عبد اللّه بن سنان المتقدّمة في قول أبي عبد اللّه عليه السّلام:

ص: 849


1- الوسائل 4/462:5، ب 1 أبواب القيام، الكافي 2/335:3.
2- الذكرى 266:3.
3- المنتهى 15:5-26.
4- عوالي اللآلئ 207/58:4.
5- كشف اللثام 400:3.
6- المبسوط للسرخسي 2:2، المجموع 242:3، المغني 814:1.
7- كما في جامع المقاصد 202:2، المسالك 201:1، كشف اللثام 398:3.
8- المنتهى 10:5.
9- شرح الدروس 751:1.

«و لا تستند إلى جدار و أنت تصلّي إلاّ أن تكون مريضا»(1).

و استدلّ عليه أيضا ب «الميسور لا يسقط بالمعسور». و فيه: نظر من منع جريان ذلك في الشروط كما قرّرنا ذلك في غير هذا الموضع.

و لو توقّف تحصيل ما يعتمد عليه و لو إنسانا على اجرة وجب بذلها مع التمكّن، و لو تعذّر الاجرة و ما يعتمد عليه معا لم يجب عليه استعارته و لا استيهابه.

و قيل: لو بذل له ما يعتمد عليه وجب القبول، أمّا لو بذل ثمنه فلا لحصول المنّة. و تنظّر فيه شارح(2) الدروس لعدم المنّة في ذلك. و الأظهر وجوب القبول في الموضعين، و يظهر وجهه بملاحظة ما بيّنّاه في أحكام الساتر و وجوب تحصيلها.

[المسألة الثالثة: لو عجز عن الاستقرار في القيام مع القدرة عليه ماشيا]

المسألة الثالثة: لو عجز عن الاستقرار في القيام مع القدرة عليه ماشيا ففي تعيّن الصلاة ماشيا أو وجوب الجلوس فيها قولان، أوّلهما: خيرة المفيد(3) على ما حكي و جماعة من المتأخّرين كحاشية الميسي(4) و الروض(5) و المسالك(6) و المقاصد العليّة(7) و المحقّق الأردبيلي(8).

و ثانيهما: خيرة الذكرى(9) و الموجز الحاوي(10) و جامع المقاصد(11) و المدارك(12)و كشف اللثام(13).

و عن البيان(14) النظر في ترجيح أيّهما. و يظهر التوقّف من الذخيرة(15).

حجّة القول الأوّل أمران:

أحدهما: ما عن الصدوق بإسناده عن الصفّار عن محمّد بن عيسى عن سليمان بن حفص المروزي قال: «قال الفقيه عليه السّلام: المريض إنّما يصلّي قاعدا إذا صار بالحال الّتي لا يقدر فيها على أن يمشي مقدار صلاته إلى أن يفرغ قائما»(16) تدلّ على أنّ القعود في

ص: 850


1- تقدّم في الصفحة: 837 الرقم 3.
2- شرح الدروس 750:1.
3- المقنعة: 215.
4- نقله عنه في مفتاح الكرامة 568:6.
5- الروض 668:2-669.
6- المسالك 201:1-202.
7- المقاصد العليّة: 261.
8- مجمع البرهان 190:2.
9- الذكرى 267:3-268.
10- الموجز الحاوى (الرسائل العشر): 75.
11- جامع المقاصد 205:2.
12- المدارك 329:3.
13- كشف اللثام 400:3.
14- البيان: 77.
15- الذخيرة: 261.
16- الوسائل 4/495:5، ب 9 أبواب القيام، التهذيب 402/178:3.

الصلاة غير سائغ إذا قدر على المشي فيها مقدار الصلاة، و إن لم يتمكّن من القيام مستقرّا فتدلّ على وجوب الصلاة في تلك الصورة ماشيا.

و توضيح ذلك أنّ كلمة «إنّما» تفيد معنى النفي و الاستثناء، فقوله عليه السّلام: «المريض إنّما يصلّي قاعدا» معناه المريض لا يصلّي قاعدا في شيء من الحالات إلاّ حالة عدم القدرة على المشي مقدار زمان الصلاة، و يندرج في عموم المستثنى منه بالقياس إلى الحالات حالات أربع: القدرة على المشي مقدار الصلاة، و القدرة عليها قائما مع الاستقرار و عدم القدرة عليهما معا، و القدرة على الأوّل دون الثاني، و القدرة على الثاني دون الأوّل.

و لا إشكال بل لا خلاف في وجوب القيام و عدم جواز القعود في الصورة الاولى، كما لا إشكال بل لا خلاف في عدم وجوب القيام و جواز القعود في الصورة الثانية.

و المشهور في الصورة الرابعة أيضا وجوب القيام و عدم جواز القعود، خلافا للمفيد(1)بناء على أصله الآتي من جعله ضابط العجز عن الصلاة قائما المسوّغ للقعود فيها عدم القدرة على المشي مقدار الصلاة.

و أمّا الصورة الثالثة فهي محلّ الكلام المختلف فيه، و لا ريب أنّ جميع هذه الحالات مندرجة في عموم المستثنى منه، و قد خرج منه بالاستثناء حالة عدم القدرة على المشي مقدار الصلاة، فقد دلّ الاستثناء على جواز القعود فيها و بقى تحت المستثنى منه ما لو قدر على المشي مقدار الصلاة سواء قدر عليها قائما مستقرّا أم لا، و الثاني هو الصورة الثالثة المختلف فيها، فالرواية بصراحة الحكم المستثنى منه تدلّ على تقديم المشي على الجلوس.

و لا يخدش فيها دلالتها من جهة إطلاق المستثنى على خلاف مذهب المشهور في الصورة الرابعة، و هي ما لو قدر على الصلاة قائما مستقرّا دون المشي بقدر الصلاة، لدلالة الاستثناء من جهة إطلاق المستثنى على تعيّن القعود فيها و إن تمكّن من القيام مع الاستقرار.

لأنّ الدلالة على تعيّن القيام بالأولويّة و مفهوم الموافقة بالقياس إلى الصلاة ماشيا ممّن لا يقدر على الاستقرار، لأنّه إذا وجب الصلاة قائما مع عدم وصف القيام أو مع انتفاء شرط الصلاة و هو الاستقرار فوجوبها كذلك مع الاستقراء الّذي هو إمّا وصف القيام أو شرط الصلاة بطريق أولى كما لا يخفى، فدلالة الرواية على المطلوب واضحة.

ص: 851


1- المقنعة: 215.

نعم ربّما يخدش في الاستدلال بها ضعف سندها بجهالة الراوي كما وصفها به في المدارك(1) و الذخيرة(2) و إن نسب إلى ظاهر الصدوق ثقته - أي كونه ثقة عنه - و لعلّ منشأ الظهور توقّفه فيما تفرّد محمّد بن عيسى بروايته عن يونس تبعا لشيخه الحسن بن الوليد، فإنّ ذلك يقتضي عدم توقّفه فيما يرويه عن غير يونس و منه سليمان بن حفص، و ذلك يقتضي كون المرويّ عنه عنده ثقة، كما أنّ الراوي ثقة، فالرواية لا تخلو عن وجه اعتبار، و يؤيّدها الأصل و الاعتبار بالبيان الآتي.

و ثانيهما: أنّ الاستقرار وصف في القيام، و المشي يرفع وصف القيام، و القعود يرفع أصل القيام، و فوات الوصف أولى من فوات الأصل. و لذا اتّفق الأصحاب على وجوب الاعتماد إذا تمكّن معه من القيام و لم يسوّغوا الجلوس، مع أنّ الاستقلال الّذي هو وصف في القيام بل قيل ركن فيه غير حاصل على ذلك التقدير.

و ضعّفه في الذخيرة «بأنّ الاستقرار ليس من أوصاف القيام، بل هو وصف من أوصاف المصلّي معتبر في صحّة صلاته من غير اختصاص له بحال القيام أو القعود، فترجيح القيام عليه يحتاج إلى دليل»(3).

أقول: و يدفعه أنّ المراد بكون الاستقرار وصفا في القيام أنّه ليس من قبيل أصل القيام ليكون جزءا، بل هو من قبيل الوصف فيكون شرطا، و لا ينافيه كونه شرطا في الصلاة معتبرا مع القيام و مع القعود و في حال الركوع و في حال السجود و غيرهما من الحالات، لأنّه عبارة عن الطمأنينة المعتبرة في جميع حالات الصلاة مع الإمكان.

و مرجع الاستدلال إلى أنّ الأمر في دوران الأمر بين القيام مع عدم الاستقرار و القعود مع الاستقرار دائر بين فوات الشرط و هو الاستقرار و فوات الجزء و هو أصل القيام، و من الظاهر المقرّر في محلّه أنّ تفويت الشرط أهون من تفويت الجزء، و هذا هو الباعث على ترجيح القيام على القعود.

فإن قلت: إنّ القعود أيضا على تقدير العدول إليه جزء فالأمر يدور بين جزءين، أحدهما ما تحقّق معه الشرط و هو الاستقرار، و الآخر ما لم يتحقّق معه الشرط، و الأوّل أولى بالترجيح.

ص: 852


1- المدارك 329:3.
2- الذخيرة: 261.
3- الذخيرة: 261.

قلت: القعود في محلّ القيام ليس جزءا مستقلاّ في عرض القيام، بل هو بدل اضطراري للقيام، و القدر المتيقّن من بدليّته هو في صورة العجز عن القيام رأسا، و أمّا في مثل ما نحن فلم يثبت كونه بدلا عنه لعدم الاضطرار إليه بسبب عدم تحقّق العجز عن القيام رأسا، و الأصل عدم البدليّة حينئذ. و هذا كاف في دليل ترجيح القيام على القعود، و لا حاجة معه إلى دليل آخر.

فظهر بما بيّنّاه أنّ الأقوى في المسألة هو القول الأوّل، لقوّة دليله. و العمدة من دليله هو الاعتبار المذكور مع الأصل، و يؤيّده قول الصادق عليه السّلام في مرسلة محمّد بن إبراهيم: «يصلّي المريض قائما، فإن لم يقدر صلّى جالسا»(1) فإنّ قوله: «يصلّي قائما» بإطلاقه يعمّ القيام مع الاستقرار و القيام مع الاضطراب. و قوله: «و إن لم يقدر» أي لم يقدر على القيام، و هذا أيضا يعمّ صورتي الاستقرار و الاضطراب أيضا فتأمّل.

و لا تعارضها قول أبي جعفر عليه السّلام في حسنة أبي حمزة: «المريض يصلّي جالسا»(2) لأنّ الظاهر المتبادر من تعليق الحكم بالمرض هو صورة العجز عن القيام رأسا فلا دلالة فيه، و لو سلّم الدلالة فهي من جهة الإطلاق، و يخرج عنه بالتفصيل المستفاد من المرسلة. نعم ضعفها بالإرسال منعنا من أخذها حجّة مستقلّة مع شيء في دلالتها كما يظهر بالتأمّل.

احتجّ أهل القول الثاني بوجوه:

الأوّل: ما عن الذكرى من «أنّ الاستقرار ركن في القيام، إذ هو المعهود من صاحب الشرع»(3).

الثاني: ما قرّره في المدارك من «توقّف العبادة على النقل، و المنقول هو الجلوس».

الثالث: ما قرّره في المدارك أيضا من «أنّ الجلوس أقرب إلى حالة الصلاة من الاضطراب»(4) و قرّره في جامع المقاصد «بأنّ الطمأنينة أقرب إلى حال الصلاة من الاضطراب عرفا و شرعا، و الخشوع الّذي هو روح العبادة بها يتحقّق»(5).

و لا خفاء في ضعف الكلّ ، أمّا الأوّل: فمع المناقشة في إطلاق الركن على ما هو من

ص: 853


1- الوسائل 13/484:5، ب 1 أبواب القيام، الفقيه 1033/335:1.
2- الوسائل 1/481:5، ب 1 أبواب القيام، الكافي 11/411:3.
3- الذكرى 268:3.
4- المدارك 329:3.
5- جامع المقاصد 205:2.

قبيل الشرط أنّه إن أراد به أنّ الاستقرار شرط معتبر في القيام فإذا تعذّر سقط اعتبار القيام فتعيّن القعود لأنّه المعهود من صاحب الشرع، ففيه: أنّ استلزام تعذّر الشرط سقوط اعتبار القيام شرعا أوّل المسألة فيكون مصادرة. و الاستدلال له بأنّه المعهود من صاحب الشرع يندفع بمنع المعهوديّة هنا، بل المعهود منه إنّما هو اختيار القعود عند الاضطرار إليه بالمرض الموجب للعجز عن القيام رأسا لا في مثل ما نحن فيه.

و ربّما وجّه كما في الذخيرة «بأنّ المعهود من صاحب الشرع الصلاة في حال القيام مستقرّا اختيارا و الصلاة جالسا حال الاضطرار بالمرض، و أمّا الصلاة ماشيا حال المرض فغير معهود من صاحب الشرع، فلو كان المشي سائغا للمرض أحيانا لوقع البيان و التعليم»(1).

و يدفعه: أنّ الصلاة جالسا للمرض مع عدم العجز عن أصل القيام أيضا غير معهودة، فيدور الأمر في صلاة هذا المريض بين الصلاة ماشيا و الصلاة قاعدا، فلا بدّ لإثبات مشروعيّة إحداهما من غير جهة المعهوديّة من طريق، و يكفي فيه الأصل المعتضد بالاعتبار على الوجه المتقدّم و لا حاجة معه إلى بيان خاصّ .

و أمّا الثاني: فلأنّ المنقول إنّما هو الجلوس مع المرض الموجب للعجز عن القيام رأسا، و أمّا الجلوس فيما نحن فيه فالنقل فيه غير ثابت.

و أمّا الثالث: فلأنّه ليس إلاّ استحسانا غير صالح لتأسيس حكم شرعي، كيف و الخضوع الّذي هو روح العبادة من شروط كمالها و لا مدخليّة له وجودا و عدما في الصحّة ؟ و لم يعهد من الشارع مزاحمته لأفعالها و لا شروط صحّتها، و القيام من أفعالها في الجملة كما أنّ القعود بدل عنه في الجملة، و بدليّته هنا مشكوكة و هو لا يصلح مثبتا للبدليّة، و لا دليلا على سقوط اعتبار القيام في نظر الشارع.

[المسألة الرابعة: لو عجز عن أصل القيام]
اشارة

المسألة الرابعة: لو عجز عن أصل القيام، فإمّا أن يكون ذلك في بعض الصلاة مع القدرة عليه في البعض الآخر، أو يكون في جميع الصلاة، فالكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في العجز عنه في البعض و القدرة عليه في البعض، و له صور:

الصورة الاولى: ما لو قدر عليه زمانا يسع القراءة و الركوع معا في ركعة أو أزيد، وجب حينئذ أن يقوم بقدر مكنته إلى أن يطرأه العجز فيجلس بلا خلاف، كما نصّ عليه مفتاح

ص: 854


1- الذخيرة: 262.

الكرامة(1) ناقلا له أيضا عن الحدائق(2).

و يدلّ عليه من الأخبار عموما قوله: «لا يسقط الميسور بالمعسور» و خصوصا صحيحة جميل «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام ما حدّ المريض يصلّي قاعدا؟ فقال: إنّ الرجل ليوعك و يحرج، و لكنّه أعلم بنفسه، و إذا قوي فليقم»(3).

و هل يتعيّن إدراك القيام من أوّل الصلاة في الركعة الاولى أو هي مع الثانية حسب مكنته و حيثما طرأ العجز جلس في الباقية، أو يتخيّر بين اختياره من الأوّل و اختياره من الآخر بأن يجلس في الركعة الاولى أو هي مع الثانية حسب عجزه على تقدير اختيار الأوّل ثمّ يقوم للباقية ؟ احتمالان.

أجودهما الأوّل بل هو المتعيّن، لأنّه من أوّل الصلاة يصدق عليه أنّه قوي على القيام فيتناوله إطلاق النصّ ، و لأنّ المسوّغ للعدول من القيام إلى الجلوس إنّما هو العجز و هو غير متحقّق في أوّل الصلاة، فلا مسوّغ للجلوس حينئذ فلا يجوز إلى أن يطرأ العجز.

الصورة الثانية: ما لو قدر على القيام زمانا لا يسع القراءة و الركوع عن قيام بل إنّما يسع أحدهما، ففي ترجيح الركوع بأن يقرأ جالسا ثمّ يقوم إلى الركوع فيركع عن قيام، أو ترجيح القراءة بأن يقرأ قائما ثمّ يجلس للركوع فيركع جالسا قولان، حكاهما مفتاح الكرامة أوّلهما عن النهاية(4) و المبسوط(5) و السرائر(6) و عن المبسوط نسبته إلى رواية أصحابنا، و عن كاشف اللثام تأييده بأنّه أهمّ من إدراك القراءة قائما مع ورود الأخبار بأنّ الجالس إذا قام في آخر السورة فركع عن قيام تحسب له صلاة القائم، قال: لكنّ الأخبار تحتمل اختصاصها بالجالس في النوافل اختيارا(7). و ثانيهما عن جماعة من المتأخّرين كالموجز الحاوي(8) و كشف الالتباس(9) قالا: «لو دارت قدرته بين قراءة و ركوعه قائما قدّم القراءة و ركع جالسا» و اختاره العلاّمة في نهاية الإحكام(10) حيث قال: «و إذا قدر على القيام زمانا لا يسع القراءة و الركوع فالأولى القيام قارئا ثمّ الركوع جالسا، لأنّه حال القراءة غير

ص: 855


1- مفتاح الكرامة 563:6.
2- الحدائق 66:8.
3- الوسائل 3/495:5، ب 6 أبواب القيام، التهذيب 400/177:3، ليوعك: الحمى و قيل ألمها (مجمع البحرين 298:5).
4- النهاية: 128.
5- المبسوط 129:1.
6- السرائر 348:1.
7- كشف اللثام 400:3.
8- الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 75.
9- كشف الالتباس: 117.
10- نهاية الإحكام 439:1.

عاجز عمّا يجب عليه فإذا انتهى إلى الركوع صار عاجزا»(1) انتهى.

و هذا القول أقوى، لصحيحة جميل المتقدّمة إذ يصدق عليه من أوّل الصلاة أو قبل القراءة أنّه قوي على القيام فيشمله إطلاق الأمر بالقيام، مضافا إلى الاعتبار المذكور الّذي هو دليل مستقلّ ، و لا يقاوم مرسلة المبسوط لمعارضتهما.

الصورة الثالثة: ما لو طرأه القدرة على القيام للركوع بعد ما قرأ جالسا للعجز عنه من أوّل الصلاة يجب عليه القيام حينئذ و الركوع عن قيام بلا خلاف يظهر، بل في المدارك «لو تركه عمدا أو سهوا بطلت الصلاة، لمكان كونه ركنا باعتبار اتّصاله بالركوع»(2) و دليله إطلاق صحيحة جميل.

الصورة الرابعة: ما لو قدر على القيام على وجه لو اختاره للقراءة تعذّر عليه الركوع و السجود عن قيام و الجلوس للركوع، فيدور الأمر بين الصلاة قائما مع الإيماء للركوع، و السجود و الصلاة جالسا فيركع و يسجد جالسا، قدّم الأوّل، لعدم عجزه من أوّل الأمر عن القيام، مضافا إلى إطلاق صحيحة جميل. و لا يقدح فيه استلزامه الإيماء للركوع و السجود، لأنّه ركوع و سجود العاجز عنهما بالطريق المتعارف لعموم أدلّته على ما سيأتي.

و المقام الثاني: لو عجز عن القيام في جميع الصلاة، و الكلام فيه تارة في الحكم، و اخرى في ضابط العجز.

أمّا الأوّل: فهو أنّه يجب عليه القعود إن قدر عليه قولا واحدا و إجماعا محصّلا و منقولا كما في الذخيرة(3) قائلا: «و هو إجماعي بين العلماء نقل الإجماع على ذلك جماعة منهم المصنّف و المحقّق» و نسب نقله في مفتاح الكرامة(4) إلى المعتبر(5) و المنتهى(6) و التذكرة(7)و كشف اللثام(8).

و يدلّ عليه عموما قاعدة قبح التكليف بما لا يطاق، و قاعدة نفي العسر و الحرج مع انضمام الإجماع، بل الضرورة على أنّ العاجز عن القيام لا يسقط عنه التكليف بالصلاة نظرا إلى أنّ العجز إمّا أن يراد به العجز العقلي المخرج للقيام عن المقدوريّة، أو العجز

ص: 856


1- مفتاح الكرامة 563:6.
2- المدارك 329:3.
3- الذخيرة: 261.
4- مفتاح الكرامة 566:6.
5- المعتبر 159:2.
6- المنتهى 9:5.
7- التذكرة 91:3.
8- كشف اللثام 400:3.

العرفي و هو المقدور الّذي يستلزم العسر و الحرج الّذي لا يتحمّل عادة.

و خصوصا من الروايات صحيحة جميل المتقدّمة(1) و مرسلة محمّد بن إبراهيم عمّن أخبره عن الصادق عليه السّلام قال: «يصلّي المريض قائما، فإن لم يقدر على ذلك صلّى جالسا»(2).

و ما أرسله الفقيه عن الصادق قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: المريض يصلّي قائما، فإن لم يستطع صلّى جالسا...»(3) الخ.

و رواية عبد السلام بن صالح الهروي عن الرضا عليه السّلام عن آبائه قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إذا لم يستطع الرجل أن يصلّي قائما فليصلّ جالسا...»(4) الخ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع، مضافا إلى الصحاح و غيرها من المعتبرة المستفيضة الآتية في ضابط العجز.

و أمّا الثاني: فقد اختلفوا في حدّ العجز المسوّغ للجلوس، فقيل: إنّ حدّه عدم قدرته على الوقوف بمقدار زمان صلاته هكذا نقله الشيخ في المبسوط(5) مرسلا، و عن المفيد رحمه اللّه «أنّ حدّه العجز عن المشي بمقدار زمان الصلاة»(6).

و المشهور كما عن المهذّب البارع(7) و غاية المرام(8) و غيرهما(9) أنّه ليس له حدّ إلاّ العجز عن القيام، و معرفته موكول إلى علم الإنسان و وجدانه لأنّه على نفسه بصيرة، و نسب اختياره إلى الشيخ في النهاية(10) و المبسوط(11) و المحقّق(12) في كتبه و العلاّمة(13) في جملة من كتبه، و الذكرى(14) و التنقيح(15) و جامع المقاصد(16) و فوائد الشرائع(17)و الروض(18) و الكفاية(19) و المدارك(20).

ص: 857


1- تقدّم في الصفحة: 848 الرقم 3.
2- الوسائل 13/484:5، ب 1 أبواب القيام، الفقيه 1033/325:1.
3- الوسائل 15/485:5، ب 1 أبواب القيام، الفقيه 1037/236:1.
4- الوسائل 18/486:5، ب 1 أبواب القيام، عيون أخبار الرضا 316/68:27.
5- المبسوط 100:1.
6- المقنعة: 215.
7- المهذّب البارع 355:1.
8- غاية المرام 145:1.
9- كما في المقتصر: 74.
10- النهاية: 129.
11- المبسوط 130:1.
12- الشرائع 80:1، النافع: 30.
13- المنتهى 9:5، التذكرة 91:3.
14- الذكرى 267:3.
15- التنقيح الرائع 196:1.
16- جامع المقاصد 205:2.
17- فوائد الشرائع: 38.
18- الروض 669:2.
19- الكفاية: 18.
20- المدارك 328:3-329.

و ربّما أمكن إرجاع قول المفيد اليه باحتمال ابتنائه على التلازم الغالبي بين عدم القدرة على المشي مقدار الصلاة و العجز عن الصلاة قائما، و يمكن إرجاع القول الأوّل أيضا إليه بتنزيله على إرادة عدم القدرة على الوقوف أصلا لا بالنسبة إلى جميع الصلاة و لا بالنسبة إلى بعضها، و إنّما عبّر عن ذلك بالعبارة الظاهرة في الإطلاق تسامحا.

و كيف كان فالأقوى هو القول المشهور المنصور، لنا على ذلك - بعد كونه المتبادر من العجز و عدم القدرة و عدم الاستطاعة في النصوص المعلّقة للجلوس عليهما - النصوص المعتبرة المستفيضة:

كصحيحة جميل المتقدّمة مفهوما، و صحيحة عمر بن اذينة قال: «كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله ما حدّ المرض الّذي يفطر فيه صاحبه، و المرض الّذي يدع صاحبه الصلاة قائما؟ قال: بل الإنسان على نفسه بصيرة، و قال: ذلك إليه هو أعلم بنفسه»(1).

و الموثّق كالصحيح بابن بكير عن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن حدّ المرض الّذي يفطر فيه الصائم و يدع الصلاة من قيام ؟ فقال: بل الإنسان على نفسه بصيرة هو أعلم بما يطيقه»(2).

و مستند المفيد على تقدير مخالفته المشهور رواية سليمان بن حفص المروزي قال:

«قال الفقيه عليه السّلام: المريض إنّما يصلّي قاعدا إذا صار بالحال الّتي لا يقدر فيها على أن يمشي مقدار صلاته إلى أن يفرغ قائما»(3).

و وجه الدلالة إطلاق الاستثناء المستفاد من كلمة «إنّما» بالتقريب المتقدّم، فإنّه يتناول ما لو قدر على الصلاة قائما و لم يقدر على المشي مقدار زمان هذه الصلاة، و هذا هو محلّ الثمرة بين قوله و القول المشهور، لقضائه بجواز الجلوس في هذه الصلاة، خلافا للمشهور لعدم تحقّق العجز المسوّغ له بالمعنى الّذي ذكروه.

و الجواب أوّلا: قصور السند حسبما تقدّم. و ثانيا: قصور الدلالة إمّا لابتناء استثناء الرواية على التلازم بين عدم القدرة على المشي و عدم القدرة على الصلاة قائما، أو أنّ

ص: 858


1- الوسائل 1/494:5، ب 6 أبواب القيام، التهذيب 399/177:3.
2- الوسائل 2/495:5، ب 6 أبواب القيام، الفقيه 369/83:2.
3- الوسائل 4/495:5، ب 6 أبواب القيام، التهذيب 402/178:3.

إطلاق المستثنى على فرض تسليمه يخرج منه بالفحوى المستفاد من المستثنى منه حسبما بيّناه سابقا، أو أنّ المطلق يقيّد بالنصوص المتقدّمة. و ثالثا: عدم مقاومتها لمعارضة ما سبق من وجوه شتّى.

فروع: الأوّل: ليس المراد بالعجز المسوّغ العجز العقلي بل أعمّ منه و من العرفي، و هو ما يستلزم مشقّة لا تتحمّل عادة، كما يظهر من المدارك مفسّرا له «بالمشقّة اللازمة منه لأصالة عدم سقوط القيام إلاّ مع العجز عنه»(1) و نصّ عليه صاحب الذخيرة حيث قال:

«يتحقّق العجز عن القيام بحصول الألم الشديد الّذي لا يتحمّل عادة و لا يعتبر العجز الكلّي»(2) انتهى.

الثاني: لا يعتبر في القعود هيئة معيّنة و لا كيفيّة مخصوصة، بل يجلس كيف شاء بلا خلاف يظهر.

و لكن يستحبّ التربّع و هو نصب الركبتين و الساقين في حال القراءة، و ثنى الرجلين في الركوع و هو افتراشهما تحته بحيث يجلس على صدورهما و التورّك حال التشهّد.

و في المدارك(3) في استحباب الأوّلين «هذا قول علمائنا أجمع و أكثر العامّة»(4) و عن المعتبر «أنّه مذهبنا»(5) و عن الخلاف «هو إجماعي»(6).

و يدلّ عليه من النصوص صحيحة حمران بن أعين عن أحدهما عليهما السّلام قال: «كان أبي إذا صلّى جالسا تربّع فإذا ركع ثنّى رجليه»(7) و في الذخيرة «و ليس ذلك بواجب للأصل»(8)و في المنتهى «و ليس هذا على الوجوب بالإجماع لعدم الدليل»(9).

و يدلّ على عدم الوجوب رواية معاوية بن ميسرة «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام قال: يصلّي الرجل و هو جالس متربّع و مبسوط الرجلين، فقال: لا بأس بذلك»(10).

و الموثّق رواه الشيخ عن جماعة من فضلاء الأصحاب عن الصادق عليه السّلام «في الصلاة في

ص: 859


1- المدارك 329:3.
2- الذخيرة: 261.
3- المدارك 334:3.
4- المغني و الشرح الكبير 808:1 و 812، السراج الوهّاج: 42.
5- المعتبر 24:2.
6- الخلاف 418:1.
7- الوسائل 4/502:5، ب 11 أبواب القيام، التهذيب 679/171:2.
8- الذخيرة: 261.
9- المنتهى 15:5.
10- الوسائل 3/502:5، ب 11 أبواب القيام، الفقيه 1050/238:1.

المحمل، صلّ متربّعا و ممدود الرجلين، و كيف أمكنك»(1).

و أمّا استحباب التورّك في التشهّد فقد نسب إلى جماعة من الأصحاب منهم الشيخ في المبسوط(2) و يظهر من المحقّق في الشرائع(3) و غيره(4) حيث نقله بعنوان «قيل» ضعفه.

و حيث إنّه لا يختصّ بصلاة العاجز عن القيام بل يعمّه و المختار إذا تشهّد فلتحقيقه و التعرّض لدليل استحبابه محلّ آخر يأتي في أحكام التشهّد إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: عن جماعة من أصحابنا المتأخّرين(5) أنّهم ذكروا في كيفيّة ركوع القاعد وجهين:

أحدهما: أن ينحني بحيث يصير بالنسبة إلى القاعد المنتصب كالراكع القائم بالنسبة إلى القائم المنتصب.

و ثانيهما: أن ينحني بحيث يحاذي جبهته موضع سجوده و أدناه أن ينحني بحيث يحاذي جبهته قدّام ركبتيه، كما أنّ أدنى ركوع القائم أن تصل راحته إلى ركبتيه و أكمل ركوع القائم أن يستوي ظهره و عنقه، و هو يستلزم محاذاة الجبهة لموضع السجود، كذا ذكره في الذخيرة(6) و المدارك(7) و عزي إلى الذكرى(8) و كشف الالتباس(9) و جامع المقاصد(10)و الروض(11) و غيرها(12).

و ذهب جماعة(13) إلى وجوب رفع الفخذين فيه عن الأرض، استنادا إلى أنّه واجب حال القيام و الأصل بقاؤه، و لا دليل على اختصاص وجوبه بحال القيام. و الباقون(14) على عدم وجوبه استضعافا للاعتبار المذكور بأنّه حال القيام ليس واجبا أصليّا على وجه يعدّ من واجبات الصلاة أو الركوع، بل هو من توابع الهيئة الواجبة في هذه الحالة غير مقصود بالذات و هذه الهيئة منتفية فيما نحن فيه.

ص: 860


1- الوسائل 5/502:5، ب 11 أبواب القيام، التهذيب 584/228:3.
2- المبسوط 100:1.
3- الشرائع 81:1.
4- المهذّب البارع 362:1.
5- المستند 55:5.
6- الذخيرة: 261.
7- المدارك 330:3.
8- الذكرى 269:3.
9- كشف الالتباس: 116.
10- جامع المقاصد 204:2.
11- الروض 670:2.
12- كما في كشف اللثام 401:3.
13- كما في جامع المقاصد 205:2، المسالك 202:1، الدروس 168:1.
14- كما في مجمع البرهان 192:2، البحار 336:84، روض الجنان 670:2، المقتصر: 75.

و لو اريد إجراء الحكم المذكور هاهنا بالاستصحاب، يدفعه انتفاء موضوع المستصحب و الاستصحاب معه محال. و ربّما نقض بإلصاق البطن فإنّه في حال القعود يحصل أكثر ممّا يحصل في حال القيام و لم يحكم باعتبار التجافي.

تذنيبان

أحدهما: لو عجز عن الجلوس مستقلاّ و مستندا و منحنيا صلّى مضطجعا بلا خلاف، كما في المدارك(1) و الذخيرة(2). و عن البحار(3) و الحدائق(4) و في كشف(5) اللثام الإجماع عليه، و في المنتهى(6) كما عن المعتبر(7) ذهب إليه علماؤنا.

و يدلّ عليه عموما قاعدة نفي العسر و الحرج مع ضميمة الإجماع و الضرورة على عدم سقوط التكليف بالصلاة في هذه الحالة، و خصوصا الأخبار الآتية، و هذا ممّا لا كلام فيه.

و إنّما الكلام في كيفيّة الاضطجاع من حيث كونه على التخيير بين الجانبين، أو على الترتيب بتعيّن الاضطجاع على الأيمن و مع العجز عنه فعلى الأيسر، و قد اختلف فيه قول الأصحاب و اضطربت كلمتهم، و في عبارة التذكرة(8) بعد ذكر الاضطجاع على الجانب الأيمن «و لو اضطجع على شقّه الأيسر مستقبلا فالوجه الجواز» و هذا صريح في التخيير، و نحوه عن نهاية الإحكام(9) مع التصريح بكون الأيمن أفضل، و يظهر من الشرائع(10) و النافع(11)حيث أطلق الصلاة مضطجعا، و نحوه ما عن المبسوط(12) و جمل(13) السيّد و الوسيلة(14)و الإرشاد(15) و التبصرة(16) و اللمعة(17) و الألفيّة(18) حيث ذكر في الجميع فإن عجز صلّى مضطجعا و إلاّ استلقى من دون ذكر يمين و لا يسار، و في المدارك(19) التخيير أظهر.

و في القواعد(20) كما عن المختلف(21) و الكاتب(22) و السرائر(23) و الذكرى(24) و الدروس(25)

ص: 861


1- المدارك 330:3.
2- الذخيرة: 261.
3- البحار 336:84.
4- الحدائق 75:8.
5- كشف اللثام 402:3.
6- المنتهى 11:5.
7- المعتبر 160:2-162.
8- التذكرة 94:3.
9- نهاية الإحكام 440:1.
10- الشرائع 80:1.
11- النافع: 30.
12- المبسوط 129:1.
13- جمل العلم و العمل (رسائل شريف المرتضى) 49:3.
14- الوسيلة: 114.
15- الإرشاد 252:1.
16- التبصرة: 26-27.
17- اللمعة: 33.
18- الألفيّة: 59.
19- المدارك 331:3.
20- القواعد 268:1.
21- المختلف 32:3.
22- نقله عنه في المختلف 32:3.
23- السرائر 349:1.
24- الذكرى 272:3-273.
25- الدروس 169:1.

و أكثر المتأخّرين(1) و متأخّريهم أنّه صلّى مضطجعا على الجانب الأيمن فإن لم يمكنه فالأيسر، و عن البحار(2) أنّه المشهور.

و ربّما نزّل عليه عبارة المعتبر و المنتهى، ففي الأوّل «و من عجز عن القعود صلّى مضطجعا على جانبه الأيمن مومئا و هو مذهب علمائنا. ثمّ قال: و كذا لو عجز عن الصلاة على جانبه صلّى مستلقيا»(3) و لم يذكر الأيسر. و كذا في الثاني(4).

و للنظر فيه مجال، لجواز إرادتهما الإطلاق المبنيّ على التخيير، و كون ذكر الأيمن على أنّه أفضل فردي الواجب التخييري كما نصّ عليه في نهاية الإحكام(5) و أومأ إليه في التذكرة(6). و القرينة عليه إطلاق المعتبر أخيرا بقوله: «لو عجز عن الصلاة على جانبه صلّى مستلقيا» و نحوه إطلاق المنتهى قائلا: «إذا عجز عن الاضطجاع صلّى مستلقيا». مضافا إلى أنّ عدم التعرّض لذكر الأيسر بالخصوص و الانتقال من الاضطجاع على الجانب الأيمن إلى الاستلقاء في مقام البيان دليل على أن لا واسطة بينهما، و لا يستقيم ذلك إلاّ إذا لم يكن ذكر الأيمن في الشقّ الأوّل على وجه اللزوم، و كان ذكر الاضطجاع فيه على الإطلاق المفيد للتخيير.

و يشهد للتخيير إطلاق الآية بانضمام الرواية المفسّرة لها، و الموثّقة، ففي صحيح أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَلىٰ جُنُوبِهِمْ (7) قال: «الصحيح يصلّي قائما و قعودا، و المريض يصلّي جالسا، و على جنوبهم الّذي يكون أضعف من المريض الّذي يصلّي جالسا»(8) و موثّقة سماعة قال: «سألته عن المريض لا يستطيع على الجلوس ؟ قال: فليصلّ و هو مضطجع، و ليضع على جبهته شيئا إذا سجد فإنّه يجزئ عنه، و لم يكلّف اللّه ما لا طاقة له به»(9).

و يدلّ على القول الثاني ما رواه الشيخ عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

ص: 862


1- كما في جامع المقاصد 207:2، مجمع البرهان 190:2، الروض 671:2، المسالك 202:1، الروضة 586:1.
2- البحار 336:84.
3- المعتبر 162:2.
4- المنتهى 12:5.
5- نهاية الإحكام 440:1.
6- التذكرة 94:3.
7- آل عمران: 191.
8- الوسائل 1/481:5، ب 1 أبواب القيام، التهذيب 672/169:2.
9- الوسائل 5/482:5، ب 1 أبواب القيام، التهذيب 944/306:3.

«المريض إذا لم يقدر أن يصلّي قاعدا، كيف قدر صلّى، إمّا أن يوجّه يومئ إيماء، قال:

يوجّه كما يوجّه الرجل في لحده، و ينام على جانبه الأيمن، ثمّ يومئ بالصلاة، قال: فإن لم يقدر أن ينام على جنبه الأيمن، فكيف ما قدر فإنّه جائز، و يستقبل بوجهه القبلة، ثمّ يومئ بالصلاة إيماء»(1).

و ما رواه ابن بابويه مرسلا قال: «و قال رسول اللّه: المريض يصلّي قائما، فإن لم يستطع صلّى جالسا، فإن لم يستطع صلّى على جنبه الأيمن، فإن لم يستطع صلّى على جنبه الأيسر، فإن لم يستطع استلقى و أومأ إيماء، و جعل وجهه نحو القبلة، و جعل سجوده أخفض من ركوعه»(2) و رواية عمّار لكونها موثّقة معتضدة بالمرسلة.

و فتوى الأكثر بل عملهم يصلح بيانا للخبرين الأوّلين، بناء على أنّ على جنوبهم و هو مضطجع من المجمل لا من المطلق، و لو سلّم فهما قابلان للتقييد فيحملان على التفصيل المستفاد من الموثّقة و المرسلة.

فظهر أنّ الأقوى هو اعتبار الترتيب بين الجانبين، فلا يعدل إلى الاضطجاع على الجانب الأيسر إلاّ مع العجز عن الأيمن.

و ثانيهما: لو عجز عن الاضطجاع بقسميه صلّى مستلقيا على قفاه يجعل وجهه و باطن رجليه إلى القبلة إجماعا ظاهرا، و في الذخيرة «و الظاهر أنّه لا خلاف فيه»(3) و في مفتاح الكرامة «و هذا ممّا لا خلاف فيه»(4) و في كشف اللثام «الإجماع عليه»(5). و يدلّ عليه قاعدة نفي العسر و الحرج بالتقريب المتقدّم، و رواية عمّار المتقدّمة، لعموم قوله: «فكيف ما قدر» و إن كان لا يخلو عن اضطراب باعتبار قضائه بالتسوية بين الاضطجاع على الأيسر و الاستلقاء.

و لكنّ الأمر فيه سهل بعد مساعدة الدليل و هو الإجماع المركّب على اعتبار الترتيب بينهما، إذ لا قائل بوجوب تقديم الاضطجاع على الأيمن و التخيير بين الأيسر و الاستلقاء فكلّ من أوجب الترتيب أوجبه مطلقا، و كلّ من نفاه نفاه مطلقا.

ص: 863


1- الوسائل 10/483:5، ب 1 أبواب القيام، التهذيب 392/175:3.
2- الوسائل 15/485:5، ب 1 أبواب القيام، التهذيب 392/175:3.
3- الذخيرة: 260.
4- مفتاح الكرامة 582:6.
5- كشف اللثام 403:3.

ثمّ إنّ هاهنا امورا لا بدّ من التعرّض لبيانها من باب التفريع:

الأمر الأوّل: أنّ المضطجع و المستلقي و من بحكمهما كالجالس بل القائم إذا تعذّر عليهما الركوع و السجود يومئان للركوع و السجود.

و اختلفوا في كيفيّة الإيماء، هل يتعيّن الإيماء بالرأس و إن عجز فبالعين بتغميض عينيه للركوع و فتحهما لرفعه و هكذا في كلّ من السجدتين و يسبّح حال الغمض، أو يجزئه الإيماء بالعين مطلقا و لو مع التمكّن من الإيماء بالرأس ؟ ففي قواعد(1) العلاّمة و إرشاده(2)كما عن النهاية(3) و المبسوط(4) و الوسيلة(5) و المراسم(6) و الغنية(7) و السرائر(8) و جامع المقاصد(9) و الموجز الحاوي(10) اختيار الثاني.

خلافا للسيّد في الجمل(11) و المحقّقين(12) و الشهيدين(13) و الصيمري(14) و سائر من تأخّر(15) عنهم.

و منشأ الخلاف اختلاف الروايات ففي بعضها أطلق الأمر بالإيماء، و في آخر الإيماء بالرأس، و في ثالث الإيماء بالعين.

فمن الأوّل موثّقة عمّار المتقدّمة(16). و رواية عبد السلام بن صالح الهروي عن الرضا عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا لم يستطع الرجل أن يصلّي قائما فليصلّ جالسا، فإن لم يستطع جالسا فليصلّ مستلقيا، ناصبا رجليه بحيال القبلة يومئ إيماء»(17).

و رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «المريض يومئ إيماء»(18)!

ص: 864


1- القواعد 268:1.
2- الإرشاد 252:1.
3- النهاية: 128.
4- المبسوط 129:1.
5- الوسيلة: 114.
6- المراسم: 77.
7- الغنية: 91.
8- السرائر 349:1.
9- كذا في الأصل، و الصواب: جامع الشرائع. كما في الجواهر، جامع الشرائع: 79.
10- الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 75.
11- جمل العلم و العمل (رسائل الشريف المرتضى): 49.
12- المعتبر 160:2-161، جامع المقاصد 209:2.
13- الدروس 169:11، الروض 671:2-672.
14- كشف الالتباس: 117.
15- كما في مجمع البرهان 191:2، المدارك 332:3، البحار 337:84.
16- تقدم في الصفحة: 856، الرقم 1.
17- الوسائل 18/486:5، 1 أبواب القيام، عيون أخبار الرضا 316/68:27.
18- الوسائل 4/482:5، 1 أبواب القيام، الكافي 410:3.

و من الثاني: رواية إبراهيم بن أبي زياد الكرخي قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل شيخ لا يستطيع القيام إلى الخلاء و لا يمكنه الركوع و السجود؟ فقال: ليومئ برأسه إيماء، و إن كان له من يرفع الخمرة فليسجد، فإن لم يمكنه ذلك فليومئ برأسه نحو القبلة إيماء...»(1) الخ.

و قوله في مرسلة الصدوق المتقدّمة: «و أومأ إيماء، و جعل وجهه نحو القبلة، و جعل سجوده أخفض من ركوعه»(2).

و ما أرسله أيضا في ذيل هذه المرسلة قال: «و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على رجل من الأنصار و قد شبّكته الريح(3) فقال: يا رسول اللّه كيف اصلّي ؟ فقال: إن استطعتم أن تجلسوه فأجلسوه، و إلاّ فوجّهوه إلى القبلة و مروه فليومئ برأسه إيماء، و يجعل السجود أخفض من الركوع، و إن كان لا يستطيع أن يقرأ فاقرءوا عنده و أسمعوه»(4).

و من الثالث: ما أرسله الصدوق أيضا قال: «و قال الصادق عليه السّلام: المريض يصلّي قائما، فإن لم يقدر على ذلك صلّى جالسا، فإن لم يقدر أن يصلّي جالسا صلّى مستلقيا، يكبّر ثمّ يقرأ، فإذا أراد الركوع غمّض عينيه، ثمّ سبّح فإذا سبّح فتح عينيه، فيكون فتح عينيه رفع رأسه من الركوع، فإذا أراد السجود غمّض عينيه، ثمّ سبّح فإذا سبّح فتح عينيه، فيكون فتح عينيه رفع رأسه من السجود، ثمّ يتشهّد و ينصرف»(5). و ضعف هذه الروايات يمنعنا من التكلّم في الجمع و الترجيح بينها، و إن كان قاعدة حمل المطلق على المقيّد تعطي المصير إلى ما عليه الأكثر.

و الّذي يسهّل الخطب في المقام هو أنّ التكليف بالركوع و السجود ثابت جزما، و العجز عنهما بالطريق المتعارف يقتضي جعل بدل، و مجعوليّة الإيماء بالرأس لمن قدر عليه متيقّنة، و الأصل عدم بدليّة الإيماء بالعين في تلك الحال. فالوجه حينئذ ما عليه الأكثر من اعتبار الترتيب بينهما، و يعضده القاعدة المشار إليها، و ذهاب الأكثر بل الشهرة و طريقة الاحتياط و غيرها.

ص: 865


1- الوسائل 11/484:5، ب 1 أبواب القيام، التهذيب 951/307:3.
2- تقدّم في الصفحة: 858، الرقم 2.
3- شبّكته الريح: الخلط و التداخل و كان المعنى تداخلت فيه و اختلطت في بدنه و أعضائه (مجمع البحرين 273:5).
4- الوسائل 16/485:5، ب 1 أبواب القيام، الفقيه 1038/236:1.
5- الوسائل 13/484:5، ب 1 أبواب القيام، الفقيه 1038/236:1.

الفهرس

كتاب الصلاة معنى الصلاة 3

فضل الصلاة 7

مقدّمات الصلاة 11

الفصل الأوّل في أعداد الصلوات

ينبوع: أعداد الصلوات الواجبة 12

الصلاة الوسطى 16

ينبوع: أعداد النوافل 20

ينبوع: في ذكر مسائل، الاولى: نافلة الظهر و العصر 25

هل النوافل للفرائض أو للأوقات ؟ 27

الثانية: أفضليّة الرواتب 29

الثالثة: كراهة الكلام بين المغرب و نافلتها و بين أربع ركعات نافلة المغرب 30

استحباب الدعاء في السجدة الأخيرة من نافلة المغرب 33

الرابعة: صلاة الغفيلة 34

صلاة الوصيّة 38

ينبوع: ما يسقط و ما لا يسقط من النوافل في السفر 40

سقوط النوافل النهاريّة في السفر رخصة أو عزيمة 42

سقوط نوافل يوم الجمعة 43

ص: 866

عدم سقوط النوافل في الأماكن الأربعة 43

الخوف الموجب للقصر مسقط للنافلة أم لا؟ 44

حكم نافلة من دخل عليه الوقت و هو حاضر ثمّ سافر 44

استحباب قضاء نافلة الليل في السفر نهارا 45

سقوط الوتيرة في السفر 46

ينبوع: النوافل تصلّى كلّ ركعتين بتسليم 50

كيفيّة صلاة الوتيرة و الأعرابي 54

ينبوع: صلاة الوتر 53

ينبوع: استحباب القنوت في ركعتي الفجر 59

ينبوع: هل الجلوس في ركعتي الوتيرة أفضل أم القيام ؟ 62

ينبوع: يجوز الجلوس في النوافل اختيارا 64

إذا ثبت جواز الجلوس في النوافل فهل يتعيّن بدل كلّ ركعة بركعة أو بركعتين ؟ 65

هل يجوز التلفيق في النوافل بأن يفعل بعضها قياما و بعضها قعودا أو لا؟ 66

ينبوع: قد يترك النافلة لعذر 69

الفصل الثاني في المواقيت

معنى المواقيت 72

ينبوع: أوقات الفرائض 74

امتداد أوقات الصلوات 76

ينبوع: وقت صلاة الظهر 82

ينبوع: لكلّ صلاة وقتين 86

ينبوع: وقتي الفضيلة و الإجزاء في المغرب 104

نقل الأقوال في وقت العشاء 108

نقل الأقوال في وقت الصبح 113

ينبوع: أوّل الوقت في كلّ صلاة أفضل من غيره 115

ص: 867

ينبوع: تحديد وقت الفضيلة للفرائض 119

ينبوع: أوّل وقت العصر و وقت فضيلتها 126

ينبوع: آخر وقت فضيلة العصر 134

ينبوع: وقت الاختصاص و الاشتراك 138

تذنيبات: أحدها: لو صلّى العصر في الوقت المختصّ بالظهر ناسيا 152

فروع: منها: من ظنّ دخول الوقت فصلّى الظهرين و اتّفق العصر في الوقت المختصّ بالظهر 154

منها: لو ظنّ الضيق إلاّ عن العصر فصلاّها ثمّ بان السعة بمقدار ركعة أو أربع 154

منها: من صلّى الظهر ظانّا سعة الوقت فبان الخطأ و وقوعها في الوقت المختصّ بالعصر 155

منها: من أدرك من آخر وقت العشاء مقدار أربع ركعات 155

ثانيها: ليس لوقت الاختصاص حدّ معروف منضبط في الشرع 155

ثالثها: اختصاص آخر الوقت بالظهر بمقدار أدائها قبل الوقت المختصّ بالعصر متّصلا به 158

ينبوع: علامات الزوال 159

العلامة الاولى: زيادة الظلّ بعد انتهاء نقصانه أو حدوثه بعد انعدامه 159

العلامة الثانية: ميل الظلّ بعد غاية ارتفاع الشمس عن خطّ نصف النهار 164

العلامة الثالثة: ميل الشمس إلى الحاجب الأيمن للمتوجّه إلى نقطة الجنوب 166

ينبوع: أوّل وقت المغرب 166

آخر وقت المغرب 168

ينبوع: أوّل وقت العشاء 168

ينبوع: وقت الصبح 181

المبحث الثاني في أوقات النوافل و فيه مسائل:

المسألة الاولى: وقت نافلتي الظهر و العصر 190

ممّا يتعلّق بنافلتي الظهر و العصر أمران:

أحدهما: لو خرج وقت النافلة و لم يتلبّس منها بشيء 200

ثانيهما: هل يجوز تقديم النوافل النهاريّة على الزوال أو لا؟ 205

المسألة الثانية: وقت نافلة المغرب 208

ص: 868

المسألة الثالثة: وقت الوتيرة 212

المسألة الرابعة: وقت صلاة الليل 213

يجوز تقديم صلاة الليل للعذر 218

قضاء صلاة الليل بالنهار أفضل من فعلها في أوّل الليل لعذر 220

صور طلوع الفجر على المتلبّس لنافلة الليل:

الصورة الاولى: طلع الفجر على المصلّي و لم يتلبّس منها قبله بشيء 221

الصورة الثانية: لو طلع الفجر و قد تلبّس منها بما دون الأربع 225

الصورة الثالثة: لو طلع الفجر و قد تلبّس منها بأربع 225

المسألة الخامسة: وقت ركعتي الفجر 228

أوّل وقت ركعتي الفجر 228

آخر وقت ركعتي الفجر 232

لو صلّى نافلة الفجر قبل طلوعه 235

في عدم كراهة النوم بعد صلاة الليل 236

المبحث الثالث في الأحكام

ينبوع: يجوز قضاء الفرائض اليوميّة و أداء سائر الفرائض في كلّ وقت ما لم يتضيّق وقت الحاضرة 237

ينبوع: التطوّع لمن عليه فريضة:

المقام الأوّل: فعل النافلة في وقت الفريضة الحاضرة 238

المقام الثاني: جواز التنفّل لمن عليه فائتة 248

ينبوع: صور حصول الأعذار المانعة من التكليف بالصلاة للمكلّف، كالجنون أو الإغماء أو الحيض:

الاولى: أن يكون العذر مستوعبا للوقت 254

الثانية: إذا حصل العذر و قد مضى من الوقت مقدار أداء الفريضة 256

الثالثة: لو زال المانع في آخر الوقت و أدرك منه ما يسع الطهارة و ركعة لزمه أداؤها 262

لو أدرك قبل الغروب أو قبل انتصاف الليل مقدار أربع ركعات 269

لو أدرك قبل الغروب مقدار خمس ركعات مع الطهارة 270

ص: 869

ينبوع: لو بلغ الصبيّ في أثناء العمل 274

لو بلغ الصبيّ في الوقت بعد الفراغ عن الصلاة 277

ينبوع: حرمة تقديم و تأخير الفريضة عن وقتها 278

حكم من صلّى قبل الوقت جهلا بالموضوع أو الحكم 280

لو صلّى الجاهل بالحكم أو بالوقت فصادف الوقت 281

لو صلّى قبل الوقت ناسيا 282

ينبوع: يجب مراعاة الوقت قبل الدخول فيها إمّا بتحصيل العلم أو بتحصيل الظنّ أو بالتقليد:

إذا كان للمكلّف طريق إلى العلم بالوقت من غير جهة التأخير لا يجوز له التعويل على الظنّ 285

إذا لم يكن له طريق إلى العلم بالوقت يجوز له الاجتهاد و التعويل على الأمارات المفيدة للظنّ 290

تذنيب: لو صلّى ظانّا بالوقت فظهر الكذب 296

إذا تعذّر للمكلّف العلم و الظنّ بدخول الوقت يقلّد غيره 298

ينبوع: الترتيب بين الفرائض 302

لو اشتغل بالعصر قبل أداء الظهر نسيانا أو بظنّ أدائها ثمّ تذكّر العدم في الأثناء 302

لو تذكّر بعد الفراغ من الثانية و قد صلاّها في الوقت المختصّ بالاولى 305

لو صلّى الثانية عصرا أو عشاء في الوقت المشترك ثمّ تذكّر نسيان الاولى بعد الفراغ 306

ينبوع: أوّل الوقت في كلّ صلاة أفضل من غيره إلاّ في مواضع 307

ينبوع: تكره النوافل المبتدئة عند طلوع الشمس و عند غروبها و عند قيامها و بعد صلاة الصبح و بعد صلاة العصر 312

الفصل الثالث في القبلة

ينبوع: ماهيّة القبلة 324

ينبوع: يجب الاستقبال في الصلاة المفروضة 330

سقوط الاستقبال في بعض صور الفريضة 331

الاستقبال في النوافل 331

ص: 870

جواز فعل النافلة للراكب و على الراحلة اختيارا في سفر أو حضر 340

جواز فعل النافلة للماشي اختيارا في سفر أو حضر 341

المحمل كالراحلة في جواز النافلة فيه إلى غير القبلة و لو اختيارا 344

في لحوق السفينة بالمحمل أو الراحلة في جواز النافلة فيها و ترك الاستقبال فيها و لو اختيارا 345

لا يجب استقبال القبلة بتكبيرة الإحرام في الراحلة 347

النافلة على الراحلة مكروه أم لا؟ 348

ينبوع: لا يجوز الفريضة على الراحلة اختيارا 349

يجوز الإتيان بالفريضة على الراحلة مع الضرورة 355

يجب استقبال القبلة في الصلاة المؤدّاة على الراحلة لداعي الضرورة المسوّغة بما يمكنه 357

لو تعذّر الاستقبال مطلقا سقط اعتباره 360

الماشي في الفريضة كالراكب في أكثر الأحكام 361

فعل الفريضة في السفينة 363

المبحث الثاني في تعيين ما يجب استقباله 373

مسائل مهمّة:

المسألة الاولى: فرض القريب و من بحكمه في مشاهدة الكعبة التوجّه إلى عين الكعبة بلا فرق بين كونه في المسجد أو في الحرم أو في خارجهما 381

المسألة الثانية: قضيّة كون فرض القريب التوجّه إلى الكعبة وجوب التوجّه إلى ما يقطع كونه من البيت 381

المسألة الثالثة: فرض البعيد الغير المتمكّن من مشاهدة العين إنّما هو التوجّه إلى جهة الكعبة 383

تشخيص الجهة و تعريفها 384

المسألة الرابعة: أهل كلّ إقليم يتوجّهون إلى سمت الركن الّذي في جهتهم 386

المسألة الخامسة: علامات قبلة البعيد الّتي يرجع إليها في معرفتها 391

تذنيب: لتمهيد ضابط كلّي لمعرفة القبلة بالجهة المختلفة بحسب اختلاف النواحي و البلاد 401

ذكر قبلة البلاد 404

ص: 871

المسألة السادسة: قد يكون وظيفة المكلّف العلم بالجهة و قد يكون الاجتهاد المؤدّي إلى الظنّ بها و قد يكون تقليد الغير و قد يكون غير هذه الثلاث 406

المقام الأوّل: من علم الجهة أو تمكّن من العلم بها لا يجزئه الاجتهاد و لا يجوز له التعويل على الظنّ 406

المقام الثاني: من عجز عن العلم بالجهة اجتهد في معرفة الجهة و يبني على مؤدّى اجتهاده 410

يجوز التعويل على قبلة بلد المسلمين 420

عدم وجوب الاجتهاد في التيامن و التياسر بعد العلم بالجهة 422

المقام الثالث: حكم من عجز عن العلم و الظنّ بالجهة معا 424

تذنيب: إن ضاق الوقت عن الأربع صلّى ما يحتمله الوقت 431

المسألة السابعة: في أحكام الخلل الواقعة في الصلاة من جهة الاستقبال 432

المرحلة الاولى: لو كان الخطأ من جهة الاستقبال فيما بين المشرق و المغرب 435

المرحلة الثانية: لو كان الخطأ في نفس المشرق و المغرب 438

المرحلة الثالثة: لو كان الخطأ في دبر القبلة بأن يصلّي مستدبرا بظنّ أنّه قبلة 440

الفصل الرابع في لباس المصلّي

المطلب الأوّل في جنسه

يجوز الصلاة في كلّما يستر البدن بل العورة عدا أنواع: 443

النوع الأوّل: لا يجوز الصلاة في الثوب النجس نجاسة غير معفوّة 443

النوع الثاني: لا يجوز الصلاة في جلد الميتة 443

حكم الجلد الّذي يعلم كونه مذكّى 445

حكم الجلد الّذي يعلم كونه ميتة 445

حكم الجلد الّذي يشكّ في كونه ميتة أو مذكّى 446

سوق المسلمين أمارة شرعيّة 451

فروع:

الأوّل: المنع من جلد الميتة لا اختصاص له بحال الصلاة بل يعمّها و سائر الأحوال 457

ص: 872

الثاني: لا يختصّ المنع من جلد الميتة في حال الصلاة أو غيرها بما كان ملبوسا، بل يعمّه و المحمول 458

الثالث: اختصاص المنع من الميتة في حال الصلاة و غيرها بميتة ذي النفس 458

الرابع: الصلاة في الميتة مختصّ بما تحلّه الحياة من أجزائه أم لا؟ 459

النوع الثالث: حكم الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات 462

مسائل مهمّة:

المسألة الاولى: حكم الصلاة في جلد ما لا يعلم كونه من مأكول اللحم أو... 464

المسألة الثانية: المنع من الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه يعمّ ما لا تحلّه الحياة من أجزائه 468

في عموم المنع من الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه لما لا يتمّ الصلاة به من المنسوج و عدمه 470

في عموم المنع لغير المنسوج من الشعرات الملقاة على ثوبه المصلّي و عدمه 473

لو حمل المصلّي الحيوان الغير المأكول حيّا 476

لو اتّخذ من وبر ما لا يؤكل لحمه أو صوفه و شعره فرش و نحوه 476

الصلاة في أجزاء ما لا نفس له 476

لا تبطل الصلاة في فضلات ما لا نفس له 476

عدم بطلان الصلاة بالشمع يكون على الثوب أو البدن 476

حكم الصدف في الصلاة 478

حكم الصلاة في سائر رطوبات ما لا يؤكل لحمه 479

هل يعمّ المنع لأجزاء الإنسان من شعره و ظفره و سنّه و... أو لا؟ 480

لا فرق في مانعيّة أجزاء ما لا يؤكل لحمه بين حالتي التذكّر و النسيان و لا بين العالم و الجاهل بالحكم أو الموضوع 481

حكم الصلاة في اللؤلؤ المستخرج من الصدف 481

المسألة الثالثة: مستثنيات قاعدة منع الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، الخزّ 482

تحقيق موضع الخزّ 485

حقيقة الخزّ 487

ص: 873

الصلاة في جلد السنجاب و وبره 489

موضوع السنجاب 494

الصلاة في السمور و الفنك 494

موضوع السمّور 496

الصلاة في الحواصل 496

النوع الرابع: للحرير أحكام أربع: الحكم الأوّل: عدم جواز الصلاة و بطلانها به سواء كان هو الساتر أو لا 497

الحكم الثاني: حرمة لبس الحرير للرجال مطلقا 499

الحكم الثالث: جواز لبس الحرير في الحرب و في حال الضرورة 499

الحكم الرابع: جواز لبس الحرير للنساء و لو اختيارا و من غير ضرورة 503

هل الخنثى تلحق بالرجال أو بالنساء في لبس الحرير؟ 505

لا يحرم على الصبيّ لبس الحرير 506

الصلاة في الحرير المخلوط 507

الصلاة في الثوب المخيط من قطعات بعضها حرير 511

الصلاة في الثوب المكفوف بالحرير 514

فيما لا تتمّ الصلاة فيه من الحرير 516

في حمل الحرير و الركوب عليه و الافتراش 519

التدثّر بالحرير 521

النوع الخامس: ما كان ذهبا أو مموّها بالذهب من لباس أو خاتم:

الحكم التكليفي في لبس ما كان ذهبا أو مموّها بالذهب 522

الحكم الوضعي في لبس الذهب 524

فروع:

الأوّل: هل المنع من لبس الذهب و الصلاة فيه مخصوص بما كان ساترا أو عامّ لمطلق الملبوس 527

الثاني: حكم الصلاة في المموّه من الثوب و الخاتم 529

ص: 874

الثالث: في جواز الافتراش بالثوب المنسوج بالذهب أو المموّه به 530

الرابع: لا بأس بتحلية السيف و الخنجر و ما أشبهه بالذهب 531

الخامس: حكم الخنثى و الصبيّ في لبس الذهب و التختّم به 531

النوع السادس: ما كان مغصوبا و تمام الكلام يقع في مقامات:

المقام الأوّل: الصلاة في الثوب المغصوب مع العلم بالغصبيّة 532

الصلاة في العمامة المغصوبة 534

المقام الثاني: الصلاة في المغصوب جهلا 536

حكم صلاة الناسي بالغصب 537

المقام الثالث: في الجاهل بحكم الغصب 539

فروع:

الأوّل: لو علم الغصبيّة في أثناء الصلاة 542

الثاني: هل المقبوض بالبيع الفاسد و الصلاة فيه في حكم المغصوب تكليفا و وضعا؟ 542

الثالث: لو أذن المالك في الصلاة في ثوبه المغصوب 544

خاتمة: فيما اختلف من الملابس في جواز الصلاة فيه و عدمه 544

المطلب الثاني: في حكم ستر العورة تكليفا و وضعا و موضوع العورة و أحكام خلل الستر ففيه مباحث:

المبحث الأوّل: يجب ستر العورة عن كلّ ناظر محترم في غير حال الصلاة كما يجب سترها في الصلاة 548

الجهة الاولى: في شرطيّة الستر لصحّة الصلاة 549

الجهة الثانية: شرطيّة الستر مخصوصة بحال التمكّن من الساتر بشرائطه 552

الجهة الثالثة: شرطيّة الستر مع المكنة مطلقة أو مقيّدة بالعمد و الذكر؟ 552

المبحث الثاني: في بيان العورة الّتي يجب سترها عن الناظر و في الصلاة و فيه مقامان:

المقام الأوّل: في عورة الرجل 555

مسائل مهمّة:

الاولى: نصّ غير واحد على أنّه لا يجب على الرجل ستر ما عدى العورة 557

الثانية: قال في الذكرى: الستر يراعى من الجوانب و من فوق و لا يراعى من تحت 557

ص: 875

الثالثة: اختلف الأصحاب في جواز ستر العورة بورق الشجر و الحشيش و بالطين اختيارا مع إمكان الستر بالثوب و عدمه 559

استعمال الطين بطريق الطلي كطلي النورة بحيث ستر اللون دون الحجم 563

فروع:

الأوّل: في وجوب الدخول في الوحل و الماء الكدر و عدمه 565

الثاني: في وجوب الدخول في الحفيرة و عدمه 566

الثالث: لو وجد ما يستر إحدى العورتين 567

الرابع: في وجوب شراء الساتر 569

الخامس: لا يجب على العاري تأخير الصلاة إلى آخر الوقت 570

الرابعة: إذا لم يتمكّن من الساتر أصلا فلا خلاف بين الأصحاب في وجوب الصلاة عليه عاريا 571

فروع:

الأوّل: يجب على العاري أن يكون ركوعه و سجوده بالإيماء في حالتي الجلوس و القيام 573

الثاني: نصّ في الذكرى و المدارك بوجوب كون الإيماء في الحالين للركوع و السجود بالرأس 574

الثالث: لا يجب على العاري في صورتي أمن المطّلع و عدمه أزيد من القيام و الجلوس و الإيماء للركوع و السجود 575

الرابع: العاري قد يعلم عدم وجود الناظر و قد يعلم وجوده و قد... 575

الخامس: هل الحكم بوجوب الجلوس في الصلاة عند عدم الأمن من الناظر مختصّ بمن يحرم عليه النظر في عورته أو يعمّه ؟ 576

السادس: إذا دخل في الصلاة قائما لعدم وجود الناظر ثمّ وجد الناظر في الأثناء أو جالسا حال وجود الناظر ثمّ خرج الناظر في الأثناء 576

المقام الثاني: في عورة المرأة الحرّة البالغة 576

وجوب ستر شعر الرأس على المرأة 578

حكم الخنثى المشكل في الستر 579

لا يجب على المرأة ستر الوجه و الكفّين و القدمين 579

ص: 876

في تحديد الوجه و الكفّين و القدمين 581

جواز كشف الرأس في الصلاة للأمة و الصبيّة 581

فروع:

الأوّل: العنق في الأمة يتبع الرأس 583

الثاني: اختلف الأصحاب في استحباب ستر الرأس للأمة 583

الثالث: الأمة المبعّضة ملحقة بالحرّة 584

الرابع: صور عتق الأمة في الصلاة 584

الخامس: لو بلغت الصبيّة في أثناء الصلاة بغير ما يفسد الصلاة 586

المطلب الثالث في مستحبّات لباس المصلّي و مكروهاته، ففيه مبحثان:

المبحث الأوّل في المستحبّات و هو يتضمّن مسائل:

المسألة الاولى: يستحبّ الصلاة في النعل العربي 588

المسألة الثانية: استحباب ستر جميع البدن للرجل 589

المسألة الثالثة: يستحبّ للرجل إذا صلّى مكشوف الظهر و المنكبين أن يضع شيئا على عاتقه و لو حبلا أو تكّة سراويل 590

المسألة الرابعة: استحباب التحنّك للمتعمّم في الصلاة 591

المبحث الثاني في المكروهات الّتي تذكر أيضا في طيّ مسائل:

المسألة الاولى: يكره الصلاة في لباس سود 595

المسألة الثانية: يكره الصلاة للرجل في الثوب الواحد الرقيق الّذي لا يحكي ما تحته 598

في كراهة التوشّح فوق القميص 598

موضوع التوشّح 601

كراهة اشتمال الصمّاء 601

في كراهة السدل في الصلاة 602

المسألة الثالثة: يكره الصلاة في عمامة بغير تحنّك 604

المسألة الرابعة: يكره اللثام للرجل و النقاب للمرأة في الصلاة 605

المسألة الخامسة: يكره الصلاة في قباء مشدود 606

يكره الإمامة بغير رداء 608

ص: 877

المسألة السادسة: يكره أن يستصحب في الصلاة شيئا من الحديد 609

المسألة السابعة: يكره الصلاة في ثوب يتّهم صاحبه بعدم التوقّي عن النجاسات 612

المسألة الثامنة: يكره الصلاة للنساء في خلخال لها صوت 614

المسألة التاسعة: يكره الصلاة في ثوب فيه تماثيل أو خاتم فيه صورة 615

المسألة العاشرة: يكره أن تصلّي المرأة خالية عن الحليّ أو مجرّدا جيدها عن القلائد 618

المسألة الحادية عشر: يكره أن يصلّي المختضب و عليه خضابه رجلا كان أو امرأة 619

الفصل الخامس في مكان المصلّي

للمكان في العرف إطلاقات كثيرة و قد حصرها شيخنا البهائي على ما حكي في أربع 620

المبحث الأوّل في حكم مكان المصلّي من حيث الإباحة و الغصبيّة 623

في المكان المباح بالملك 623

في المكان المباح بالإذن 623

في المكان المغصوب مسائل:

المسألة الاولى: يحرم الصلاة في المكان المغصوب قولا واحدا 626

بطلان الصلاة في المكان المغصوب 626

إباحة المكان شرط للصلاة بلا فرق بين اليوميّة و غيرها من الفرائض و لا بين الفرائض و النوافل 627

حكم إتيان الصوم و أداء الزكاة في المكان المغصوب 627

حكم أداء الخمس و الكفّارة و أداء الدين و إتيان الوضوء و الغسل في المكان المغصوب 628

المسألة الثانية: في حكم الجاهل و الناسي بالغصبيّة 629

المسألة الثالثة: في أحكام الاضطرار إلى المكان المغصوب 630

المسألة الرابعة: لو كان سقف البيت مغصوبا و نحوه الخيمة المغصوبة 634

المسألة الخامسة: يجوز للمالك أن يصلّي في ملكه المغصوب 634

المبحث الثاني: في حكم المكان من حيث محاذاة المرأة للرجل أو تقدّمها عليه حال كونهما في الصلاة 635

في اشتراط بطلان صلاة الرجل مثلا أو كراهتها بصحّة صلاة المرأة لو لا المحاذاة و بالعكس 640

ص: 878

حكم ما لو صحّت صلاة الرجل و المرأة في الواقع مع اعتقاد كلّ فساد صلاة آخر، و حكم ما لو انعكس الأمر 642

حكم ما لو حدث الفساد في الصلاة بعروض مبطل في الأثناء 644

في رجوع الرجل إلى المرأة استعلاما لصحّة صلاتها أو بطلانها و بالعكس 644

ينبغي ختم المسألة ببيان امور:

أحدها: إن صلّت المرأة خلف الإمام بطلت صلاة من إلى جانبيها و من يحاذيها من خلفها و لا تبطل صلاة غيرهم، و إن صلّت بجنب الإمام... 646

ثانيها: يزول المنع حرمة و كراهة بوجود حائل بينهما 648

هل يقوم الظلمة و العمى و تغميض البصر مقام الحائل ؟ 648

في زوال المنع ببعد عشرة أذرع 649

ثالثها في بيان عدّة مسائل:

الاولى: لو صلّت متأخّرة عنه سقط المنع، نعم يتكلّم في مقدار تأخّرها عنه 650

الثانية: لو حصلا في مكان واحد ضيق لا يمكنهما التباعد و لا تأخّر المرأة و لا حائل 651

الثالثة: المنع حرمة و كراهة يختصّ بالبالغين المكلّفين 652

الرابعة: لا يشترط في المنع اتّحاد الصلاتين في الفرض و النفل و لا في الأداء و القضاء 652

المبحث الثالث: فيما يتعلّق بمكان المصلّي من حيث الطهارة و النجاسة

المراد بالمكان ما يلاصق بدن المصلّي وثوبه 653

في اشتراط طهارة موضع الجبهة 653

في عدم اشتراط طهارة ما عدى موضع الجبهة 654

في تقييد النجاسة في عنوان الحكم بكونها غير متعدّية 656

المبحث الرابع: في الأمكنة الّتي يكره الصلاة فيها و هي مواضع:

الموضع الأوّل: الحمّام 658

الموضع الثاني: بيوت الغائط 660

الموضع الثالث: مبارك الإبل 661

الموضع الرابع و الخامس: مسكان النمل و مجرى المياه 662

الموضع السادس و السابع: أرض السبخة و الثلج 663

ص: 879

الموضع الثامن: كراهة الصلاة بين القبور 665

هل المنع يزول بالتباعد بعشرة أذرع ؟ 668

في زوال الكراهة بوجود حائل بين المصلّي و بين القبور 669

في إلحاق القبر و القبرين بالقبور 672

هل يستثنى من الكراهة قبور الأئمّة بل مطلق المعصوم أو لا؟ 675

الموضع التاسع: كراهة الصلاة في بيوت النيران 680

الموضع العاشر: كراهة الصلاة في بيوت الخمور 682

الموضع الحادي عشر: كراهة الصلاة في جوادّ الطرق 682

الموضع الثاني عشر: كراهة الصلاة في بيوت المجوس 686

في الصلاة في البيع و الكنائس 687

الموضع الثالث عشر و الرابع عشر: كراهة الصلاة في جوف الكعبة و سطحها في الفريضة 690

الموضع الخامس عشر: مرابط الخيل و البغال و الحمير 690

كراهة الصلاة إلى النار المضرمة 691

كراهة الصلاة إلى التصاوير و التماثيل 692

ينبغي التكلّم لتحقيق المسألة في جهات:

الجهة الاولى: هل تعمّ الكراهة مثل ذي الروح و غيره كالشجر و نحوه أو يختصّ بالأوّل ؟ 694

الجهة الثانية: الكراهة مختصّة بما لو كانت الصورة بين يدي المصلّي و في جهة قبلته أو يعمّه ؟ 696

لا فرق في الكراهة بين الصور المجسّمة و غيرها 698

الكراهة ترتفع بتغطية الصورة و سترها 698

كراهة الصلاة إلى مصحف مفتوح 699

كراهة الصلاة إلى حائط ينزّ من بالوعة يبال فيها 699

كراهة الصلاة إلى باب مفتوح أو إنسان مواجه 701

تكره الصلاة و بين يدي المصلّي حديد 702

تذنيب: استحباب أخذ السترة 702

ص: 880

المبحث الخامس: في مكان المصلّي من حيث استحباب الصلاة فيه

هل يعتبر في مسجديّة المسجد كونه وقفا أو لا؟ 708

هل يعتبر في مسجديّة المسجد قصد العموم أو يجوز تخصيصه بطائفة دون اخرى ؟ 709

هل يعتبر في مسجديّة المسجد قصد القربة في وقفه أو لا؟ 710

فصل: يستحبّ اتّخاذ المساجد استحبابا مؤكّدا 713

ينبغي ختم الفصل برسم مسائل:

المسألة الاولى: استحباب اتّخاذ المساجد مكشوفة 714

المسألة الثانية: يستحبّ جعل الميضاة على باب المساجد 717

في معنى الميضاة 719

المسألة الثالثة: يستحبّ جعل المنارة مع حائطها 721

المسألة الرابعة: يكره تعلية المساجد بل تبنى وسطا 726

المسألة الخامسة: يكره أن يجعل لها شرف 727

المسألة السادسة: يكره المحاريب الداخلة 728

المسألة السابعة: يجوز نقض ما استهدم من المسجد 729

في عدم جواز نقض غير المستهدم 731

في جواز توسعة مسجد البيت 734

المسألة الثامنة: أطبق الأصحاب على جواز استعمال آلات المسجد في غيره من المساجد 736

المسألة التاسعة: في محرّمات المسجد و في امور:

منها: اتّخاذ المسجد أو بعضه في ملك أو طريق على معنى تملّكه أو جعله طريقا ينمحي عنه صورة المسجديّة 741

منها: حكم بيع آلات المسجد 741

منها: حرمة زخرفة المسجد 743

منها: حرمة إدخال النجاسة في المسجد 745

منها: يحرم دفن الأموات في المساجد 746

منها: يحرم إخراج الحصى من المسجد 750

ص: 881

حكم أنواع الحصى 751

المسألة العاشرة: في سنن المسجد من المكروهات و المستحبّات و هي امور:

فصل: استحباب إتيان الفرائض المكتوبة في المسجد 753

فروع:

الأوّل: صلاة النافلة في المسجد أفضل أو في المنزل ؟ 755

الثاني: في اختصاص استحباب إيتان المساجد للصلاة بالرجال 758

الثالث: الصلاة في المسجد منفردا أفضل من الصلاة في غيره جماعة 759

الرابع: المساجد تتفاوت في الفضيلة بحسب ذواتها أو لبعض العوارض 760

بحث في الروايات الدالّة على تفاوت المسجد الحرام و مسجد الرسول في الفضل 762

البحث السادس: ممّا يتعلّق بمكان المصلّي فيما يجوز أن يسجد عليه في الصلاة و ما لا يجوز و فيه مسائل:

المسألة الاولى: يشترط في مسجد الجبهة أن يكون من الأرض أو ممّا ينبت منها 763

في السجود على المعادن 765

في السجود على القير 770

هل يجوز السجود على الخزف أم لا؟ 771

السجود على الآجر و الجصّ و النورة بعد الطبخ 776

جواز السجود على الطين ما لم يبلغ حدّ الوحل 777

المسألة الثانية: قد استثني من نبات الأرض الّذي يسجد عليه المأكول و الملبوس 778

المسألة الثالثة: في السجود على القرطاس 783

جواز السجود على القرطاس المكتوب على الكراهية 789

المسألة الرابعة: حكم من لم يتمكّن من السجدة على الأرض و نباتها و القرطاس 791

تذنيب: نصّ جماعة على أنّ السجود على الأرض أفضل 795

الفصل السادس في الأذان و الإقامة

المبحث الأوّل: في معنى الأذان و الإقامة و فضلهما 797

ص: 882

المبحث الثاني: في كيفيّة الأذان 802

في كيفيّة الإقامة 805

في أنّ أشهد أنّ عليّا وليّ اللّه ليس من الأذان و الإقامة 806

الأحكام المتعلّقة بكيفيّة الأذان و تتمّ بإيراد مسائل:

المسألة الاولى: لا يصحّ الأذان قبل دخول الوقت 809

المسألة الثانية: يشترط الترتيب بين الأذان و الإقامة و بين فصول كلّ منهما 816

المسألة الثالثة: في سنن الأذان و الإقامة و هي امور:

الأوّل: يستحبّ الاستقبال في الأذان و الإقامة 816

الثاني: يستحبّ الوقف على آخر الفصول في كلّ من الأذان و الإقامة 819

تعريف الوقف 819

في معنى الإفصاح 821

الثالث: يستحبّ الفصل بين الأذان و الإقامة 822

المقصد الثاني في أفعال الصلاة المعبّر عنها بأجزائها

أجزاء الصلاة واجبة و مسنونة 824

في تصوير الأجزاء المستحبّة للصلاة 825

في تصوير النيّة من أفعال الصلاة 827

اختلاف الأصحاب في تقديم القيام أو النيّة في الذكر 829

في حقيقة النيّة 830

فرعان:

الأوّل: هل يعتبر في وجوب قصد التعيين كون كلّ من العنوان المتشاركين في الصورة مأمورا به أو يكفي مجرّد الاشتراك ؟ 834

الثاني: قصد التعيين في صورة تعدّد الأمر إنّما يعتبر في الإتيان الأوّل 835

الجزء الثاني من أفعال الصلاة: القيام 835

ما المراد بالقيام المتّصل بالركوع ؟ 838

ص: 883

هاهنا امور ينبغي التعرّض لها:

الأمر الأوّل: حدّ القيام 843

الأمر الثاني: يشترط في صدق القيام الاستدلال 843

الأمر الثالث: يشترط في القيام الاستقرار 845

الأمر الرابع: الأقرب وجوب الاعتماد على الرجلين معا في القيام 846

الأمر الخامس: لا يجوز تباعد الرجلين بما يخرجه عن حدّ القيام 847

هاهنا مسائل:

المسألة الاولى: فيمن عجز عن الانتصاب 849

المسألة الثانية: في من عجز عن الاستقلال في القيام 849

المسألة الثالثة: لو عجز عن الاستقرار في القيام مع القدرة عليه ماشيا 850

المسألة الرابعة: لو عجز عن أصل القيام 854

لو عجز عن القيام في البعض 854

لو عجز عن القيام في جميع الصلاة 856

فروع: الأوّل: ما المراد بالعجز؟ 859

الثاني: لا يعتبر في القعود هيئة معيّنة 859

الثالث: في كيفيّة ركوع القاعد 860

تذنيبان:

الأوّل: لو عجز عن الجلوس مستقلاّ و مستندا و منحنيا صلّى مضطجعا 861

الثاني: لو عجز عن الاضطجاع بقسميه صلّى مستلقيا على قفاه 863

ص: 884

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.