ینابیع الأحکام في معرفة الحلال و الحرام المجلد 2

هویة الکتاب

بطاقة تعريف:قزویني، علي بن اسماعیل، 1237 - 1298ق.

عنوان المؤلف واسمه:ینابیع الاحکام في معرفة الحلال و الحرام/ تالیف علي الموسوي القزویني ؛ تحقیق علي العلوي القزویني.

تفاصيل النشر:قم: جامعة المدرسین في الحوزة العلمیه بقم، موسسه النشر الاسلامي، 1424ق.-= 1382 -

مواصفات المظهر:5ج.

فروست:موسسه النشر الاسلامي التابعه لجماعة المدرسین بقم المشرفه؛ 1075، 1076، 1079.

ISBN:دوره 978-964-470-077-4 : ؛ 46000 ریال : ج.1: 964-470-077-5 ؛ 105000 ریال: ج. 5 : 978-964-470-850-3 ؛ ج. 2 978-964-470-847-3 :

لسان:العربية.

ملحوظة:محقق جلد پنجم عبدالرحیم الجزمئی القزوینی است.

ملحوظة:ج. 2 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) (فیپا).

ملحوظة:ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

ملحوظة:کتابنامه.

موضوع:فقه جعفری -- قرن 13ق.

الحلال والحرام

طهارت

معرف المضافة:علوي قزویني، علي، محقق

معرف المضافة:جزمئي قزویني، عبدالرحیم

معرف المضافة:جامعة المدرسین في الحوزة العلمیه بقم. موسسه النشر الاسلامي

تصنيف الكونجرس:BP183/3/ق4ی9 1382

تصنيف ديوي:297/342

رقم الببليوغرافيا الوطنية:1 1 4 1 6 5 0

ص: 1

اشارة

ینابیع الاحکام فی معرفه الحلال و الحرام

تالیف علی الموسوی القزوینی

تحقیق علی العلوی القزوینی.

ص: 2

تتمة كتاب الطهارة

اشارة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد فهذا هو الجزء الثاني من كتاب «ينابيع الأحكام في تحرير الحلال والحرام» المتكفّل لما يتعلّق بالطهارات الثلاث وتوابعها، وفيه مقدّمة وأبواب.

[المقدّمة في شرح الطهارة لغة واصطلاحا]

أمّا المقدّمة: ففي شرح الطهارة لغة واصطلاحا ليتّضح به بعض ما عساه لا يتّضح إلّا بالبيان التفصيلي، وإلّا فقد سمعت جملة ممّا بتعلّق بها بما بيّنّاه إجمالا في الجزء الأوّل من الكتاب المتكفل لأحكام المياه ولواحقها.

فنقول: «الطهارة» على ما نصّ عليه أئمّة اللغة وتبعهم غير واحد من فحول الفرقة:

«النظافة والنزاهة من الادناس والأوساخ». ففي المصباح المنير للفيّومي: «طهر الشيء من بابي قتل وقرب طهارة، والاسم الطهر وهو النقاء من الدنس والنجس، وهو طاهر العرض أي بريء من العيب. ومنه قيل للحالة المناقصة الحيض: طهر، والجمع أطهار مثل قفل وأقفال، وامرأة طاهرة من الادناس وطاهر من الحيض بغير «هاء» وقد طهرت من الحيض من باب قتل، وفي لغة قليلة من باب قرب، وتطهّرت اغتسلت وتكون الطهارة بمعنى التطهير، وماء طاهر خلاف نجس، وطاهر صالح للتطهّر به»(1).

وفي المجمع: «في الحديث ذكر الطهارة و هي مصدر قولك: طهر الشيء فتحا وضمّا بمعنى النزاهة، ومنه: ثياب طاهرة، و أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (2) أي يتنزّهون، ومنه امرأة طاهرة من النجاسة ومن العيب والحيض، ويقال: ماء طاهر خلاف نجس، وطاهر

ص: 3


1- المصباح المنير: 379، مادّة «طهر».
2- الأعراف: 82.

صالح للتطهّر به. والطهر بالضمّ نقيض الحيض، والأطهار: أيام طهر المرأة، والطهر:

الاسم من الطهارة، وطهّره بالماء إذا غسله، والماء الطاهر الّذي لا قذر فيه، والقذر النجاسة. قاله في القاموس والصحاح»(1).

وعن القاموس: «إنّ الطهارة نقيض النجاسة»(2). وعن الطراز: «طهر طهرا بالضمّ وطهارة بالفتح، نظف ونقى من النجس والدنس»(3). وعليه ينطبق أكثر ما ورد من الإطلاق في الكتاب والسنّة، قال تعالى: وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (4) أي ينزّهكم من الأوساخ الظاهرة والباطنة، ومن سوء الخلق وغيره من العيوب المحسوسة والمعقولة وَ أَزْوٰاجٌ مُطَهَّرَةٌ (5) أي المنزّهة من الحيض وسوء الخلق إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ (6)أي نزّهك و أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (7) أي يتنزّهون.

فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اَللّٰهُ يُحِبُّ اَلْمُطَّهِّرِينَ (8) . وفي المجمع: «قيل: المراد الطهارة من الذنوب، والأكثر أنها الطهارة من النجاسات، قيل: نزلت في أهل قبا، روي ذلك عن الباقر والصادق عليهما السلام، وروي عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قال لهم: ماذا تفعلون في طهركم فإنّ اللّه قد أحسن عليكم الثناء؟ فقالوا: نغسل أثر الغائط بالماء» انتهى(9).

إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ (10) عن الطبرسي في مجمع البيان: «قيل:

يحبّون أن يتطهّروا بالماء من الغائط والبول».(11)

وعن العلل عن أبي خديجة عن أبي عبداللّه عليه السلام «قال: كان الناس يستنجون بثلاثة أحجار، لأنّهم كانوا يأكلون البسر ويبعرون بعرا، فأكل رجل من الأنصار الدباء(12)فلان بطنه فاستنجى بالماء، فبعث إليه النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قال: فجاء الرجل وهو خائف [يظنّ ] أن يكون قد نزل فيه شيّ يوؤه في استنجائه بالماء، فقال صلى الله عليه و آله وسلم له: هل عملت في

ص: 4


1- مجمع البحرين 381:3 مادّة «طهر».
2- القاموس المحيط 432:2 مادّة «الطّهر».
3- الطراز في اللغة (مخطوط) الرقم 1009.
4- الأحزاب: 33.
5- آل عمران: 15.
6- آل عمران: 42.
7- الأعراف: 82.
8- التوبة: 108.
9- مجمع البحرين 379:3 مادّة «طهر».
10- البقرة: 222.
11- مجمع البيان 110:3 ذيل الآية 108 من سورة التوبة، راجع الوسائل 357:1 الباب 34 من أبواب أحكام الخلوة ح 7 وفيه: «والله يحبّ المطهّرين» بدل «إنّ الله يحبّ التوابيّن ويحبّ المطهّرين».
12- الدّبا: الجراد قبل أن يطير، والدّباء: القرع (مجمع البحرين 133:1).

يومك هذا شيئا؟ فقال: نعم يا رسول اللّه، إنّي والله ما أحملني على الاستنجاء بالماء إلّا أنّي أكلت طعاما فلان بطني، فلم تغن عني الحجارة شيئا فاستنجيت بالماء، فقال له رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: هنيئا لك، فإنّ اللّه عزّ و جلّ قد أنزل فيك آية فأبشر إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ فكنت أوّل من صنع هذا وأوّل التوّابين وأوّل المتطهّرين».(1)

وعن الخصال في حديث الأربعمائة مثله، غير أنّه قال في آخر ما ذكر: «يقال: إنّ هذا الرجل كان البراء بن معرور الأنصاري».(2)

ويشهد له ما عن الخصال أيضا عن أبي عبداللّه عليه السلام «قال: جرت في البراء بن معرور الأنصاري ثلاث من السنن، أمّا اولاهنّ فإنّ الناس كانوا يستنجون بالأحجار فأكل البراء بن معرور الدبّاء فلان بطنه فاستنجى بالماء، فأنزل الله فيه إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ (3) فجرت السنة في الاستنجاء بالماء فلمّا حضرته الوفاة كان غائبا عن المدينة، فأمر أن يحوّل وجهه إلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وأوصى بالثلث من ماله، فنزل الكتاب بالقبلة وجرت السنّة بالثلث».(4)

وفي الوسائل عن عيون الأخبار، والعلل عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال:

«إنما أمرنا بالوضوء وبدئ به لأن يكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبّار عند مناجاته إيّاه، مطيعا له فيما أمره، نقيا من الأدناس والنجاسة».(5)

ص: 5


1- علل الشرائع 286:1 الوسائل 355:1 الباب 34 من ابواب أحكام الخلوة ح 5.
2- هذا سهو منه قدس سره، لأن ما يكون مثله هو مارواه الصدوق في الفقيه 20:1/59 وفي آخره: «ويقال: إن هذا الرجل كان البراء بن معرور الانصاري» وأمّا في حديث الأربعمأة فليس منه عين ولا أثر، ولعلّ منشأ السهو ما قاله في الوسائل (354:1) قبل إيراد الرواية الّتي نقلها عن الفقيه (1: 20/59) بقوله: «ورواه الصدوق في الخصال بإسناده عن علي عليه السلام في حديث الأربعمائة» وتوّهم المصنّف قدس سره أنّ ما أورده بعدها هو ما يكون في حديث الأربعمائة، مع أنّ تلك العبارة راجعة إلى ما قبلها وهو ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناد. عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «الاستنجاء بالماء البارد يقطع البواسير» وهو بعينه موجود في الخصال في حديث الأربعمائة (الخصال: 612) فراجع. والله العالم.
3- البقرة: 22.
4- الخصال 192:1.
5- الوسائل 367:1 الباب 1 من أبواب الوضوء ح 9، عيون أخبار الرضا عليه السلام 104:2، 115 وعلل الشرائع 257:1 الباب 182 ح 9.

وفيه أيضا عنهما عن محمّد بن سنان، أنّ الرضا عليه السلام كتب إليه في جواب مسائله:

«علّة غسل الميّت أنّه يغسّل ليطهّر وينظّف من أدناس أمراضه، ولما أصابه من صنوف علله، لأنّه يلقى الملائكة ويباشر أهل الآخرة، فيستحبّ إذا ورد على الله ولقى أهل الطهارة ويماسّونه ويماسّهم أن يكون طاهرا نظيفا».(1)

وفي معناه ما فيه أيضا عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «إنّما امر بغسل الميّت لانّه إذا مات كان الغالب عليه النجاسة والآفة والأذى، فأحبّ أن يكون طاهرا إذا باشر أهل الطهارة من الملائكة الّذين يلقونه ويماسّونه فيماسّهم نظيفا» الخ.(2)

وفي الخبر أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قال لبعض نسائه: «مري نساء المؤمنين أن يستنجين بالماء ويبالغن، فإنّه مطهّرة للحواشي ومذهبة للبواسير».(3)

وفي آخر: «كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسّع اللّه عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض، وجعل لكم الماء طهورا».(4)

وفي الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لا صلاة إلّا بطهور، ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأمّا البول فإنه لابدّ من غسله».(5)

وفي صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: «الرجل يقلم أظفاره، ويجزّ شاربه، ويأخذ من شعر لحيته ورأسه، هل ينقض ذلك وضوءه ؟ فقال: يا زرارة كلّ هذه سنّة، والوضوء فريضة، وليس شيء من السنّة ينقض الفريضة، وأنّ ذلك ليزيده تطهيرا».(6)

ص: 6


1- الوسائل 478:2 الباب 1 من أبواب غسل الميّت ح 3، عيون أخبار الرضا عليه السلام 89:2/1 وعلل الشرايع 300:1 الباب 238 ح 3.
2- الوسائل 478:2 الباب 1 من ابواب غسل الميّت ح 4، أخبار الرضا عليه السلام 114:2/1.
3- الوسائل 316:1 الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة ح 3، التهذيب 44:1/125.
4- الوسائل 350:1 الباب 31 من أبواب أحكام الخلوة ح 3، وأورده في الحديث 4 من الباب 1 من أبواب الماء المطلق.
5- الوسائل 315:1 الباب 9 من ابواب أحكام الخلوة ح 1، التهذيب 49:1/144.
6- الوسائل 287:1 الباب 14 من أبواب نواقض الوضوء ح 2، التهذيب 346:1/1013.

وفي معناه آخر قال قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «آخذ من أظفاري، ومن شاربي، وأحلق رأسي، أفأغتسل ؟ قال: لا، ليس عليك غسل، قلت: فالوضوء؟(1) قال: لا، ليس عليك وضوء، قلت: فأمسح على أظفاري الماء؟ فقال: هو طهور ليس عليك مسح».(2)

وفي آخر: «أنّه سأل أبا عبداللّه عليه السلام عن الرجل يأخذ من أظفاره وشاربه أيمسحه بالماء؟ فقال: لا، هو طهور».(3)

وفي الحديث الأربعمائة: «المضمضة والاستنشاق سنّة وطهور للفم والأنف».(4)

وفيه أيضا: «النورة طهور للجسد»(5) وفيه أيضا: «نتف الإبط طهور وسنّة»(6) إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة الّتي يطلع عليها المتتبّع، والّذي دعانا إلى إطناب المقام بتكثير إيراد ما ذكر من الآيات والروايات إنّما هو مراعاة فوائد يعطيها التأمّل فيها.

الفائدة الاولى: أنّ «الطهارة» بجميع متصرّفاتها كانت في عرف الأئمّة وغيره تطلق على ما يقابل الخبث المعبّر عنه بالنجاسة، كما كانت تطلق على ما يقابل الحدث المعبّر عنه ب «الحالة» المتوقّف بعضها على النيّة، بل كثيرا مّا كانت تطلق على ما ليس من مقابل الحدث ولا الخبث ولا الدنس العرفي من الحالات الباطنيّة الّتي لا يطّلع عليها إلّا اللّه وامناؤه، كما يظهر ذلك بملاحظة اخبار المضمضة والاستنشاق وغيرها.(7)

فالقول بعدم كون إزالة النجاسة مأخوذة في مفهوم «الطهارة» كما صرّح به جماعة من الأجلّة منهم مفتاح الكرامة(8) بل هو ظاهر حدودهم الآنية، بل استظهر في مفتاح

ص: 7


1- وفي الوسائل: «فأتوضأ» بدل «فالوضوء».
2- الوسائل 287:1 الباب 14 من ابواب نواقض الوضوء ح 3، التهذيب 346:1/1012.
3- الوسائل: 289 الباب 14 من أبواب نواقض الوضوء ح 6، الفقيه 38:1/141.
4- الخصال 611:2، الوسائل 433:1 الباب 29 من أبواب الوضوء ح 13.
5- الخصال 611:2 وفيه: «والنورة نشرة وطهور» والنشرة واحد النشر وهو الريح الطيّبة والريح عموما. لاحظ أيضا الوسائل 65:2 الباب 28 من أبواب آداب الحمّام ح 3.
6- الخصال 612:2 - وفيه: «ونتف الإبط ينفي الرائحة المنكرة وهو طهور وسنة ممّا امر به الطيب عليه السلام» الوسائل 136:2 الباب 84 من أبواب آداب الحمّام ح 4.
7- الوسائل 430:1 احاديث الباب 29 من ابواب الوضوء.
8- مفتاح الكرامة 21:1.

الكرامة من كلام الشهيد في البيان وهو قوله: «الّذي استقرّ عليه علماء الخاصّة أنّ الطهارة هي كلّ واحد من الوضوء والغسل والتيمّم إذا أثّر في استباحة الصلاة»(1) دعوى الإجماع على ذلك، حتّى أنّهم حملوا كلام من أخذها في تعريفها كما حكي عن الشيخ أبي علي في شرح النهاية قائلا في تعريفها: «التطهير من النجاسات ورفع الأحداث»(2)على موافقة العامّة نظرا إلى أنّ جماعة منهم عرّفوها: «بأنّها رفع مانع من حدث أو خبث بماء، أو رفع حكم بصعيد»(3) مجرّد اصطلاح يندفع توهّم عمومه بالقياس إلى عرف الأئمّة بل الشارع أيضا بملاحظة أخبارهم المتقدّمة.

وربّما يرشد إلى ما ذكرنا ظاهر ما قاله الشهيد في نكت الإرشاد(4) من أنّ إدخال إزالة الخبث فيها ليس من اصطلاحنا.

ومن الأخبار الّتي تشهد بذلك أيضا ما في صحيحة زرارة الواردة في دم رعاف من قوله عليه السلام: «تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: لم ذلك ؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا، قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله ؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية الّتي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك» الخ.(5)

ومن هنا يعلم أنّ اخذ «استباحة الصلاة» ونحوها في أكثر حدودهم الآتية إخراجا لإزالة النجاسة وغيرها أيضا مبنيّ على هذا الاصطلاح المحدث، وإلّا فالموجود في جملة من الأخبار إطلاق الطهارة على ما لا تأثير له في استباحة الصلاة فعلا كالوضوء المجدّد، على ما نطق به مرسلة سعدان عن أبي عبداللّه عليه السلام: «الطهر على الطهر عشر حسنات»(6).

وفي كلام غير واحد(7) الاستناد في نفي الطهارة عن وضوء الحائض الّذي ليس

ص: 8


1- البيان: 35.
2- حكاه عنه في مفتاح الكرامة 21:1.
3- حكاه عنهم في مفتاح الكرامة 21:1.
4- غاية المراد 24:1.
5- الوسائل 402:3 الباب 7 من أبواب النجاسات ح 2، التهذيب 421:1/1335.
6- الوسائل 376:1 الباب 8 من أبواب الوضوء ح 3، الكافي 72:3/10.
7- منهم المحقّق في المسائل المصريّة (المطبوعة مع النهاية) 5:3-7.

من المبيح... إلى ما رواه محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السلام: «الحائض تطهر يوم الجمعة وتذكر اللّه تعالى ؟ قال عليه السلام: أمّا الطهر فلا، ولكن تتوضّأ وقت كلّ صلاة(1) وفي مفتاح الكرامة: «أنّ هذا يدلّ على عدم تسميته طهارة، وتسميته وضوء لا يقتضي تسميته طهارة لجواز إرادة المعنى اللغوي» انتهى(2).

ويدفعه: أنّ الرواية ليست بصدد نفي الطهارة عن هذا الوضوء، بل لا إشعار فيها بذلك أصلا، فإن قوله عليه السلام: «وأمّا الطهر فلا» ظاهر في نفي الطهارة المناقضة لحدث الحيض، بل هو نهي عن إيجاد سبيها الّذي هو الغسل، بقرينة ظهور كلمة «تطهر» في كلام السائل المنسوبة في السؤال إلى الحائض في توهّم استحباب الغسل، وعيت إنّ اللفظة المذكورة ربّما توهم نفي مطلق الطهارة أو نفي سببها على الإطلاق حتّى الوضوء فاستدركه الإمام عليه السلام بقوله عليه السلام: «ولكن تتوضّأ وقت كلّ صلاة» إثباتا لاستحبابه خاصّة هذا.

ولكنّ الإنصاف أنّ إطلاقها على ما لا تأثير له في رفع الحدث - بناء على ابتناء إطلاقات الأخبار وغيرها على إرادة المعنى اللغوي كما هو الأظهر - ليس في حقيقته، وإنّما هو استعارة لعلاقة المشاركة في الصورة.

إلّا أن يقال: إنّها فيما يتوهّم كونها غير رافع كالمجدّد ووضوء الحائض أيضا موجبة لنوع من النظافة، بل هي نحو منها، غاية الامر أنّه لقصور الحواسّ الظاهرة عن ادراكه لا يكون محسوسا، ولا يلزم منه عدم كونه شيئا أدركه الشارع فكشف عنه بتشريع أسبابه، كما هو الحال على ما يساعد عليه النظر في الأسباب الرافعة وضوء وغسلا، حيث إنّ الحدث صغيرا أو كبيرا في موارده ليس من الأحوال المحسوسة بالنسبة إلينا، وإنّما هو أمر معنويّ أدركه الشارع، فكشف عنه وعن أسبابه الرافعة له المفيدة للنظافة المعنويّة.

ولك إجراء هذا التوجيه في الأغسال المندوبة، ووضوء الجنب، وتيمّم النوم وغير ذلك ممّا يعدّ عندهم من الأسباب الغير المبيحة للصلاة، بل الغير الرافعة للحدث، إذ عدم

ص: 9


1- الوسائل 346:2 الباب. 4 من أبواب الحيض ح 4، وفيها: «ولكنها توضّأ في وقت الصلاة»، الكافي 100:3/1.
2- مفتاح الكرامة 23:1.

إفادتها استباحة الصلاة وقصورها عن رفع الحدث الّذي هو الحالة المانعة عن الصلاة المفروض وجودها في المحلّ الموقوف ارتفاعها على أسباب آخر لا ينافي كونها رافعة لحدث آخر غير ذلك الحدث، مفيدة لنظافة معنويّة غير النظافة المعنويّة المناقضة للحالة المانعة، فليتدبّر.

وعلى هذا فيكون الإطلاقات المشار إليها الواردة في الأخبار بالقياس إلى مالا تأثير له في استباحة الصلاة ولا رفع الحدث فعلا على حقيقتها بالنظر إلى المعنى اللغوي.

الفائدة الثانية: أنّ «الطهارة» في جميع تعاريفها عبارة عن: «الحالة الحاصلة عن أفعالي مخصوصة يعبّر عنها في الشرع بأسام آخر كالوضوء والغسل و التيمّم، وأنّ هذه اعتبرت في الشريعة أسبابا لتلك الحالة» وإن شئت لاحظ ما تقدّم عن الوسائل(1) عن العيون والعلل في الوضوء والغسل، وما تقدّم عنه عن الفضل(2) في الغسل.

وممّا يرشد إليه أيضا ما في التهذيب من مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إذا سمّيت في الوضوء طهر جسدك كلّه، وإذا لم تسمّ لم يطهر من جسدك إلّا ما مرّ عليه الماء»(3) ورواية أبي بصير قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام: «يا أبا محمّد، من توضّأ فذكر اسم اللّه طهر جميع جسده، ومن لم يسمّ لم يطهر من جسده إلّا ما أصابه الماء»(4).

وفي الوسائل - في حديث -: «أنّ سلمان روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال: من بات على طهر فكأنّما أحيى الليل»(5).

وفي آخر عن أبي عبداللّه عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «لا ينام المسلم وهو جنب، ولا ينام إلّا على طهور» الخ(6).

ص: 10


1- الوسائل 367:1 الباب 1 من أبواب الوضوء ح 9.
2- الوسائل 478:2 الباب 1 من ابواب غسل الميّت ح 4.
3- الوسائل 424:1 الباب 26 من ابواب الوضوء ح 5، التهذيب 358:1/1074.
4- الوسائل 423:1 الباب 26 من ابواب الوضوء ح 4، التهذيب 358:1/1076.
5- الوسائل 379:1 الباب 9 من ابواب الوضوء ح 3، التهذيب 116:2/434.
6- الوسائل 379:1 الباب 9 من أبواب الوضوء ح 4، علل الشرايع: 295/1.

وفي مرسلة العلاء بن الفضل عمّن رواه عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا دخلت المسجد وأنت تريد أن تجلس فلا تدخل إلّا طاهرا»(1).

وبالجملة أخبار الأئمّة الأطهار متطابقة متظافرة في إطلاقها على نفس الحالة لا الأفعال الموجبة لها، بل قلّما يوجد فيها ما اطلق على غير الحالة كما في رواية داود الرقّي(2) عن أبي عبداللّه عليه السلام المرويّة في الوسائل عن محمّد بن عمر بن عبدالعزيز الكشّي في كتاب الرجال، المصدّرة بقوله: «فقلت له: جعلت فداك كم عدّة الطهارة ؟».

مع نضمّنها لقول الرشيد أبي جعفر المنصور في داود بن زربي: «أنّي مطّلع على طهارته، فإن هو توضّأ وضوء جعفر بن محمّد فإنّي لأعرف طهارته».

ص: 11


1- الوسائل 380:1 الباب 10 من أبواب الوضوء ح 1، التهذيب 263:3/743.
2- تمام الرواية على ما في الوسائل: محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشي في كتاب الرجال عن حمدويه وإبراهيم ابني نصير، عن محمّد بن إسماعيل الرازي، عن أحمد بن سليمان، عن داود الرقيّ ، قال: دخلت على أبي عبدالله عليه السلام فقلت له: جعلت فداك، كم عدّة الطهارة ؟ فقال: ما أوجبه الله فواحدة، وأضاف إليها رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم واحدة لضعف الناس، ومن توضّأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له. أنا معه في ذا حتى جاءه داود بن زربي، فسأله عن عدّة الطهارة ؟ فقال له: ثلاثا ثلاثا، من نقص عنه فلا صلاة له، قال: فارتعدت فرائصي وكاد أن يدخلني الشيطان، فأبصر أبو عبدالله عليه السلام إليّ وقد تغيّر لوني، فقال: اسكن يا داود، هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق، قال: فخرجنا من عنده، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور، وكان قد ألقى إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي، وأنّه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمّد، فقال أبو جعفر المنصور: إنّي مطّلع إلى طهارته، فإن هو توضّأ وضوء جعفر بن محمّد - فإنّي لأعرف طهارته - حقّقت عليه القول وقتلته، فاطلع وداود يتهيّأ للصلاة من حيث لا يراه، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثا ثلاثا كما أمره أبو عبد الله عليه السلام، فما ثمّ وضوؤه حتّى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه، قال: فقال داود: فلمّا أن دخلت عليه رحّب بي، وقال: يا داود قيل فيك شئ باطل، وما أنت كذلك، قد اطّلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة، فاجعلني في حلّ ، وأمر له بمائة ألف درهم، قال: فقال داود الرقيّ : التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبدالله عليه السلام فقال له داود بن زربى: جعلت فداك حقنت دماءنا في دار الدنيا، ونرجو أن ندخل بيمنك وبركتك الجنة، فقال أبو عبدالله عليه السلام: فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين، فقال أبو عبدالله عليه السلام لداود بن زربي: حدّث داود الرقي بمامرّ عليكم لتسكن روعته، فقال: فحدثته بالأمر كلّه، قال: فقال أبو عبدالله عليه السلام: لهذا أفتيته، لأنّه كان أشرف على القتل من يد هذا العدوّ، ثمّ قال: يا داود بن زربي توضّأ مثني مثنى ولا تزدنّ عليه، فانّك إن زدت فلا صلاة لك». راجع الوسائل 443:1 الباب 32 من ابواب الوضوء ح 2.

وقوله الآخر أيضا له: «قد اطّلعت على طهارتك، فليس طهارتك طهارة الرفضة» الخ.

ولا ريب أنّ مثل ذلك ممّا لا يعبأ به لشذوذه ونهوض غالب الاطلاقات على خلافه، مع قوّة احتمال كون وروده هنا من باب ذكر المسبّب وإرادة السبب، مع كون أغلب الإطلاقات الواردة على خلافه ممّا يساعد عليه التبادر في لسان المتشرّعة.

ولعلّه من هنا جاء التفكيك عندهم في شرط الصلاة بين الوضوء وأخويه وبين الطهارة، مصرّحين يكون الشرط هو الطهارة دون الوضوء وأخويه، فإنّه سبب للشرط.

نعم حيثما يطلق «الطهارة» في عداد أبواب الفقه فالمفهوم منها حينئذ الأفعال المخصوصة، لكنّه غير نافع هنا بعد ملاحظة استناده إلى قرينة المقام.

فما في كلام بعضهم من ترجيح كونها عيارة عن الأفعال دون الحالة الحاصلة بعدها استنادا إلى التبادر، إن اريد به ترجيحه بالنظر إلى لسان الفقهاء في هذا المقام خاصّة فلا ضير فيه، وإلّا كان بملاحظة ما ذكر واضع المنع.

لكن لا يذهب عليك أنّه قد تقدّم منّا في الجزء الأوّل من الكتاب(1) ترجيح النقل في خصوص لفظة «طهور» بإزاء المطهّر أخذا بموجب نصوص أهل اللغة الّتي ورد على طبقها إطلاقات الشارع لها كتابا وسنه، ولا يبعد كون ذلك من جهة حصول النقل في مبدأ اشتقاقها وهو الطهارة من باب النقل عن المعنى اللازم إلى المتعدّي، كما قد يشعر به ما سمعته عن الفيّومي في جملة كلامه المتقدّم، قائلا: «ويكون الطهارة بمعنى التطهير»(2) ولك أن تعتبر ذلك من مقتضي الوضع الأصلي اللغوي، وإن استلزم الاشتراك في تلك المادّة بين المعنيين اللازم والمتعدّي، وعليه لم يكن لفظة «طهور» مخرجة عن قانون الاشتقاق بانفرادها بالوضع الشخصي، كما أنه كذلك على تقدير النقل لو اعتبرناه في المبدأ.

لكن لا يلزم من ذلك كون النقل منتسبا إلى الشارع ليكون لفظة «طهور» في المعنى المذكور من الحقائق الشرعيّة، كما يظهر الميل إليه من بعض كلمات صاحب

ص: 12


1- ينابيع الأحكام 39:1.
2- المصباح المنير: 379، مادّة «طهر» وفيه: «وتكون الطهارة بمعنى التطهّر».

المدارك(1) على ما قدّمنا الإشارة إليها في الجزء الأوّل من الكتاب(2) لوضوح عدم كون هذا المعنى من مخترعات الشارع التي لم يكن يعرفها أهل اللغة ولا أهل العرف العام، بل هو تعدية في المعنى اللغوي اللازم وهو النظافة، فالطهارة بمعنى التطهير يراد بها التنظيف، ولو قدرّنا النظافة على ما سنفصّله منطبقة على ما كشف عنه الشرع من الحالة المناقضة للحدث والنجاسة، وعليه يكون المطهّر والطهور بمعناه للأعمّ من رافع الحدث ومزيل الخبث كما صرّح به الشيخ - على ما حكي عنه في الخلاف(3) - من أنّ «الطهور» عندي هو المطهّر المزيل للحدث والنجاسة، وإليه يرجع ما عن البيان وفقه القرآن(4) في تفسير قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (5) من قولهم: أي طاهرا مطهّرا مزيلا للأحداث والنجاسات. وحينئذ فلو ثبت في كلام الشارع وغيره إطلاق «الطهارة» على الطهارات الثلاث من الوضوء والغسل و التيمّم وإزالة النجاسة مثلا كان مبنيّا على الوضع الأصلي اللغوي أو الوضع الجديد العرفي.

الفائدة الثالثة: أنّ «الطهارة» مع مشتقّاتها في إطلاقات الشارع كتابا وسنّة مبقاة على المعنى الأصلي اللغوي وهو النظافة أو التنظيف، ولم يحصل فيها بالنظر إلى عرف الشارع نقل ولا وضع جديد بإزاء ما يغاير ذلك المعنى، خلافا لصريح العلّامة في المنتهى قائلا: «بأنّها لغة النظافة وشرعا ما يستباح به الدخول في الصلاة(6) - إلى أن قال -: الحقّ أنّ لفظة الطهارة بالنسبة إلى المعنى الشرعي حقيقة شرعيّة، مجاز لغويّ .

أمّا الأوّل: فللسّبق إلى الفهم بالنسبة إلى عادة الشرع، وذلك دليل الحقيقة. وأمّا الثاني:

فظاهر، لعدم فهم أهل اللغة ذلك»(7).

ويظهر الميل إليه من صاحب المدارك حيث قال: «وقد استعملها الشارع في معنى آخر مناسب للمعنى اللغوي، مناسبة السبب للمسبّب، وصار حقيقة عند الفقهاء، ولا يبعد كونه كذلك عند الشارع أيضا على تفصيل ذكرناه في محلّه»(8) وقد عرفت منه

ص: 13


1- المدارك 6:1 و 27.
2- ينابيع الأحكام 39:1.
3- الخلاف 49:1 المسألة 1.
4- مجمع البيان 270:7، فقه القرآن 58:1.
5- الفرقان: 48.
6- المنتهى 15:1 وفيه: «وشرعا قال الشيخ: ما يستباح به الدخول في الصلاة».
7- المنتهى 16:1.
8- المدارك 6:1، 27.

الميل إليه أيضا في لفظة «طهور»(1).

ويظهر ذلك أيضا من لمعة الشهيد حيث قال: «وشرعا استعمال طهور مشروط بالنيّة»(2) بناء على أنّ لفظة «شرعا» حيثما ذكرت في مقابلة لفظة «لغة» الّتي يراد منها الوضع اللغوي عبارة عن الوضع الشرعي، بل هذا لازم كلّ من يأخذ تلك اللفظة في تعريفها الاصطلاحي، فإنّ (3) دعوى الحقيقة الشرعيّة في لفظة «الطهارة» ومشتقّاتها ممّا لا سبيل إلى إثباتها ولا شاهد يقضي بثبوتها، والتبادر المدّعى في المنتهى(4) واضح المنع إن أريد به ما هو كذلك في لسان الشارع أو عرف زمانه، حيث لا سبيل إلى العلم به ثمّة وبدونه غير نافع كما لا يخفى.

كيف ذلك مع ما عرفت من ورود إطلاقاتها غالبا في الأخبار على طبق المعنى اللغوي اللازم، وهو الحالة الحاصلة من الأفعال المخصوصة، فإنّ الإطلاق عليها ليس إلّا من جهة الإطلاق على المعنى اللغوي.

ولا ينافيه كون هذه الحالة - إن اخذناها - عبارة عمّا يناقض الحدث والنجاسة في غالب أفرادها ممّا لم يعرفه أهل اللغة ولا العرف العامّ ، لأنّ المعنى اللغوي - على ما تقدّم شرحه - ليس إلّا النظافة والنزاهة عن العيوب والأدناس، فتكون أعمّ من الباطنيّة والظاهريّة، المحسوسة وغير المحسوسة. غاية الأمر أنّها في جملة من أفرادها لخفائها وقصور القوى الظاهرة والباطنة عن إدراكها ممّا لم يطّلع عليها إلّا الشارع، فبيانه لها ليس إلّا لمجرّد الكشف عمّا هو في الواقع من أفراد المعنى اللغوي المخفيّة على أنظار أهل اللغة.

ولا ينافي ذلك كون إطلاق اللفظ عليها في كلام الشارع باعتبار هذا المعنى العامّ ، إذ المعتبر في الوضع اللغوي كون المسمّى معلوما لدى أهل اللغة باعتبار المفهوم، ولا يعتبر علمهم ولا إمكان علمهم بجميع مصاديق هذا المفهوم، وإلّا انتقض بأكثر أفراد جميع معاني الألفاظ الموضوعة لغة أو عرفا كما لا يخفى على المتأمّل. ونظير هذا الكلام بعينه يجري في «الطهارة» و «الطهور» بالنسبة إلى ما تقدّم من المعنى المتعدّي،

ص: 14


1- المدارك 6:1، 27.
2- اللمعة الدمشقيّة 2:1.
3- راجع إلى قوله: «... ولا وضع جديد بازاء ما يغاير ذلك المعنى».
4- المنتهى 16:1.

لما عرفت من أنّ ذلك تعدية في المعنى اللغوي اللازم.

ولا ينافيه ما ثبت في الشرع بالقياس إلى موارد هذا المعنى من الكيفيّات المخصوصة، لأنّ التطهير عبارة عن إيجاد الطهارة بمعنى النظافة.

وكما أنّ أصل هذه النظافة من أفراد المعنى اللغوي امر واقعي كشف عنه الشرع، فكذلك طريق إيجادها أيضا يمكن أن يكون من الأمور الخفيّة الواقعيّة الّتي كشف عنها الشرع، فالكيفيّات المخصوصة مأخوذة في طرق التطهير لا في نفسه الّتي يعبّر عنها بأسباب الطهارة. واختصاص اعتبارها في الطرق بالشرع لا يقضي بتصرّف الشرع في معنى التطهير ومرادفاته ومشتقّاته.

نعم هذا التصرّف الحاصل في الطرق تصرّف شرعي في مسمّى ألفاظ آخر كالوضوء والغسل والتيمّم، وثبوت الحقيقة الشرعيّة في تلك الألفاظ لعلّه غير ممنوع على الأظهر في أصل المسألة الاصوليّة، ولعلّ توهّم الحقيقة الشرعيّة في التطهير ومرادفاته ومشتقّاته ممّا نشأ هنا عن توهّم الترادف بينها وبين الالفاظ المذكورة ومشتقّاتها، وهو في حيّز المنع بما عرفت من الفرق بينهما في المفهوم.

نعم كون «الطهارة» مرادفة للألفاظ المذكورة، أو كونها لما يعمّ إزالة النجاسة، أو لما يعمّ غير المبيح، من مسمّيات تلك الألفاظ اصطلاح من الفقهاء كما في كلام جماعة صراحة وظهورا، وممّن صرّح بذلك صاحب الذخيرة قائلا: «بأنّه وقد نقلت في الاصطلاح إلى المعنى الشامل للوضوء والغسل والتيمّم، وقد اختلف كلام الأصحاب في تعريفها، ولا يوجد تعريف خال عن الطعن، حتى توهّم بعضهم أنّ التعريف لفظيّ ». انتهى(1).

وربّما يستفاد من غير واحد أنّ اختلاف التعاريف نشأ عن الاختلاف في المعنى المنقول إليه(2) فتارة اختلفوا في أنّه هل اخذ فيه إزالة الخبث أم لا، وإن تقدّم عن البيان أنّه قال: «الّذي استقرّ عليه علماء الخاصّة أنّ الطهارة هي كلّ واحد من الوضوء والغسل والتيمّم إذا أثّر في استباحة الصلاة»(3) لكن قد تقدّم عن الشيخ المفيد أبي عليّ في

ص: 15


1- الذخيرة: 2.
2- راجع روض الجنان 52:1.
3- تقدّم في الصفحة 4 الرقم 8.

شرح النهاية انّه عرّفها: «بأنّها الطهر من النجاسات ورفع الأحداث»(1) وفي مفتاح الكرامة: «أنّ الاختلاف الشديد في جواز إطلاقها على الصورة حقيقة أو ظاهرا كوضوء الحائض والمجدّد»(2).

أقول: لعلّ القول يكون هذا الاختلاف ناشئا عن الاختلاف في المعنى المنقول إليه إنّما يستقيم إذا ثبت كون النقل شرعيّا، فاختلفوا في تحقيق المعنى الشرعي، فمنهم من فهم كون إزالة النجاسة داخلة فيه فأتي بتعريف يعمّها، ومنهم من فهم خروجها عنه فأتى بتعريف يخرجها، وكذا الكلام في اختلافهم بالنسبة إلى دخول مالا يبيح من الثلاث وخروجه. وأمّا على تقدير كونه اصطلاحيّا فيمكن كون الاختلاف من جهة الاختلاف في جعل الاصطلاح المقتضي لتعدّده، بأن يختار كلّ اصطلاحا لنفسه فعرّفه حسبما اختاره من تعميم أو تخصيص، وعليه يسقط أكثر الاعترافات التي اوردوها على تعاريفهم، وكذلك على التقدير الأوّل.

ولقد أجاد بعض مشايخنا قدس سره قائلا: «الّذي يظهر في النظر أنّ كثيرا من الاختلاف لاختلاف في المعنى، فلا وجه حينئذ للإيراد على البعض بخروج وضوء الحائض وعلى الآخر بدخوله، إذ قد يقول الأوّل إنّه ليس طهارة، والآخر إنّه طهارة، فيعرّف كلّ على مذهبه ويرجع النزاع حينئذ معنويّا» انتهى(3).

ثمّ الظاهر أنّ مبنى التعاريف كلّها أو أكثرها على كون «الطهارة» عندهم مقولا على الثلاثة على الوجه الأعمّ أو الأخصّ من باب الاشتراك المعنوي، كما هو ظاهر جماعة وصريح آخرين(4) كما عن بعض شرّاح الألفيّة(5) وفي المنتهى: «جعل لفظ الطهارة واقعا على أنواعها الثلاثة بالتواطي لاشتراكها فيما ذكرناه أولى من جعلها مشتركة ومجازا في أحدها»(6) ومراده بما ذكره ما تقدّم منه بيانه من «أنّا لمّا نظرنا إلى الأنواع وجدناها مشتركة في كونها أفعالا، وأنّها واقعة في البدن، مقترنة بالنيّة والترتيب، يراد لأجل الصلاة، وأنّ ما عدا هذه امور مختصّة بكلّ نوع، فأخذنا الأوّل في حدّ المشترك، فقلنا: إنّها افعال مخصوصة في البدن على وجه مخصوص يستباح بها

ص: 16


1- حكاه عنه في مفتاح الكرامة 21:1.
2- مفتاح الكرامة 21:1.
3- الجواهر 7:1.
4- المنتهى 15:1 و 16.
5- حكاه عنه في مفتاح الكرامة 27:1.
6- المنتهى 15:1 و 16.

عبادة مخصوصة».(1) وعن ثاني الشهيدين في روض الجنان أنّه قرّب مقوليتها على الثلاثة بالتشكيك وعلى الوضوء والغسل بالتواطي(2) وهذا أيضا اعتراف بالاشتراك معنى، لكن على جهة التشكيك بالقياس إلى بعض الأنواع، خلافا لصريح المحقّق المستفاد منه الإذعان بالاشتراك لفظا، لأنّه - على ما حكي - قال: «إنّما وقع الاختلاف في عبارات تعريف الطهارة لأنّ اللفظ الواقع على المعاني المختلفة بالاشتراك اللفظي يعسر إيضاحه، كلفظ العين الواقعة على معاني متعدّدة، فإنّه لم يمكن تعريف موضوعاته(3) وكذلك الطهارة الواقعة على الغسل تارة لاستباحة العبادة، وتارة لا لها كالغسل المندوب وكالوضوء فإنّه يقع مع إرادة الاستباحة والتجديد والتيمّم كذلك، وليس هنا قدر مشترك بين هذه الحقائق المختلفة، فمن ثمّ تعذّر تعريفها بتعريف واحد، بل إمّا أن يعرّف كلّ فرد من افرادها أو يعرّف بحسب الإيضاح لمسمّاهما». انتهى(4).

فتحصّل بما ذكر أنّ في لفظ «الطهارة» أقوالا:

الأوّل: كونه مشتركا لفظيّا بين الأنواع الثلاث.

والثاني: كونه للقدر المشترك بينها على جهة التواطي.

والثالث: كونه للقدر المشترك أيضا على جهة التواطي في الجملة، والتشكيك كذلك وما تقدّم من عبارة المنتهى ربّما يشعر بوجود القول بالمجازيّة أيضا وكأنّه على تقدير وجوده إنّما هو بالقياس إلى التيمّم، ولعلّ المحقّق لإذعان الاشتراك لفظا عرّفها في الشرائع بأنّه: «اسم للوضوء أو الغسل أو التيمّم على وجه له تأثير في استباحة الصلاة»(5) وفي معناه ما عن تذكرة العلّامة من قوله: «وهي وضوء أو غسل أو تيمّم يستباح به عبادة شرعيّة» هذا على ما نقله في مفتاح الكرامة(6) لكن يخالفه نقل السيّد في المناهل عنه في التذكرة بعبارة: «أنّ الطهارة شرعا الوضوء والغسل والتيمّم» فإنّ ذلك يقتضي الاشتراك لفظا ولو كان من الأنواع ما ليس بمبيح.

وعرّفها في القواعد بقوله: «الطهارة غسل بالماء أو مسح بالتراب متعلّق بالبدن

ص: 17


1- المنتهى 15:1.
2- روض الجنان 52:1، حكاه عنه في مفتاح الكرامة 27:1.
3- في المفتاح: فإنّه لم يمكن تعريفه إلّا بذكر موضوعاته.
4- الحاكي السيد العاملي في المفتاح 26:1.
5- الشرائع 8:1.
6- مفتاح الكرامة 27:1.

على وجه له صلاحية التأثير في العبادة»(1) وهذا كما ترى يومئ إلى زعم الاشتراك لفظا بين المائيّه والترابيّة، هذه جملة من تعاريفهم المذكورة في المقام.

ومنها ما عن المبسوط والاقتصاد من «أنّ الطهارة إيقاع أفعال في البدن مخصوصة على وجه مخصوص يستباح به الدخول في الصلاة»(2) ومثله ما في السرائر(3) ولكن بإسقاط القيد الأخير.

وفي المنتهى: «هي شرعا ما يستباح به الدخول في الصلاة»(4) وحكاه أيضا في السرائر عن بعضهم بقوله: «وبعضهم يحدّها: بأنّها في الشريعة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة»(5) وكان مراده بالبعض الشيخ في النهاية، لأنّ التعريف بتلك العبارة محكيّ عنه(6) وهو محكيّ أيضا عن القاضي أين البرّاج في الروضة لكن بزيادة قوله:

«ولم يكن ملبوسا أو ما يجري مجراه»(7).

وفي اللمعة - كما عن عليّ بن محمّد القاشي -: «استعمال طهور مشروط بالنيّة»(8)ونحوه في الدروس لكن بزيادة قوله: «لاستباحة الصلاة»(9).

وعن المحقّق في المسائل المصريّة: «الطهارة استعمال أحد الطهورين لإزالة الحدث أو لتأكيد الإزالة»(10).

وعن المهذّب والموجز: «أنّها استعمال الماء والصعيد على وجه يستباح به الصلاة، أو تكون عبادة تختصّ بغيرها»(11).

وعن قطب الدين الراوندي: «أنّ الاحتراز التامّ في أنّ الطهارة الشرعيّة هي استعمال الماء أو الصعيد نظافة على وجه يستباح به الصلاة وأكثر العبادات»(12).

ص: 18


1- القواعد 177:1.
2- المبسوط 4:1، الاقتصاد: 240-241.
3- السرائر 56:1.
4- المنتهى 16:1.
5- السرائر 56:1.
6- النهاية ونكتها 196:1.
7- لا توجد هذه العبارة في المهذب (19:1) ولم نعثر على مصنف آخر من ابن البراج، ولكن أشار إليه ابن إدريس في السرائر (56:1) بقوله: قد تحرّز بعض أصحابنا في كتاب له مختصر وقال: «الطهارة في الشريعة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة ولم يكن ملبوسا أو ما يجري مجراه» وكذا نقل عنه المحقّق في المسائل المصرية (المطبوعة مع النهاية) 5:3.
8- اللمعة الدمشقيّة: 2.
9- الدروس 5:1.
10- الرسائل التسع (المسائل المصريّة): 202.
11- المهذّب 19:1 مع تغيير يسير، الموجز الحاوي نقله عنه في غاية المراد 25:1.
12- حكاه عنه في المسائل المصرية، الرسائل التسع: 201.

وفي الذكرى: «أنّها استعمال الماء او، الصعيد لإباحة العبادة، ويطلق على الاستعمال للقربة وإزالة الخبث مجازا»(1).

وعن البيان: «أنّها تطلق على النزاهة من الأدناس، وعلى كلّ واحد من الوضوء والغسل والتيمّم إذا أثّر في استباحة الصلاة»(2).

وعن الفاضل ركن الدين الجرجاني صاحب الرافع والحاوي: «الطهارة ما له صلاحية رفع الحدث أو استباحة الصلاة مع بقائه»(3).

وعن الشيخ نجيب الدين محمّد بن أبي غالب في المنهج الأقصد: «أنّها إزالة حدث أو حكمه ليؤثّر في صحّة ما هي شرط فيه»(4).

وفي التحرير - كما عن التلخيص -: «الطهارة شرعا ما له صلاحية التأثير في استباحة الصلاة من الوضوء والغسل والتيمّم»(5).

واعلم أنّ استعجال الشروع لما هو أهمّ يمنعنا عن الإطناب في جرح هذه التعاريف وتعديلها، والتعرّض لإصلاحها تارة وإفسادها اخرى، بدفع ما اورد عليها من النقوض تارة والقدح فيها ببعض ما لم يورد اخرى، لقلّة جدواه وندرة نفعه فيما هو الغرض الأصلي، كيف وباب النقض والإبرام ممّا لا يكاد ينسدّ خصوصا في هذه التعاريف الخارج أكثرها عن حدّ الانضباط المخرج غاليها لا على وجه السداد، ومن هنا نقل عن محمّد بن علي القاشاني أنّه أورد على ما سمعته من تعريف القواعد عشرين إيرادا(6) وعن الشهيد في غاية المراد(7) أنّه ردّها إلى سبعة عشر، ثمّ أجاب عنها كلّها بأجوبة غير خال بعضها عن التكلّف. وعن الشهيد الثاني في تعليقه على هذا الكتاب أنّه ناقش الشهيد في أجوبته، واستجود إيرادات القاشاني وردّها إلى العشرين وزاد عليها ما زاد(8).

ص: 19


1- الذكرى 69:1.
2- البيان: 2.
3- حكاه عنه في مفتاح الكرامة 24:1 و 25.
4- حكاه عنه في مفتاح الكرامة 24:1 و 25.
5- التحرير 4:1، تلخيص المرام (سلسلة الينابيع الفقهيّة) 263:26.
6- قال الشهيد الثاني في فوائد القواعد: 13 «اعلم أنّ العلّامة نصير الدين القاسي قد أورد على تعريف المصنّف عشرين إيرادا، وأكثرها في غاية الجودة، والمحقّق السعيد الشهيد ردّها إلى سبعة عشر، وأجاب عنها أجمع بأجوبة متكلّفة غالبا ونحن نشير إليها وإلى ما فيها...».
7- غاية المراد 21:1.
8- حاشية القواعد: 20.

ينبوع [شرح وجوب الطهارة بوجوب غاياتها]

اشارة

كما أنّ «الطهارة» بالمعنى المصطلح عليه تنقسم بجنسها إلى ما سمعته من الأنواع الثلاث الوضوء والغسل والتيمّم، فكذلك كلّ واحد من تلك الأنواع فإنّه ينقسم إلى واجب ومندوب، ولا فرق في الواجب على ما هو المصرّح به في عبائرهم بين ما يجب بأصل الشرع وما يجب بالعارض بسبب من المكلّف كالنذر وشبهه، لكنّ المعروف فيما بينهم أنّها تجب بوجوب غاياتها الّتي يأتي التعرّض لذكرها مفصّلة. والمراد بالغاية - على ما فسّره بعضهم - ما لأجله الطهارة إمّا لأنّ لها مدخلا في صحّته كالصلاة والطواف، أو جوازه كمسّ كتابة القرآن ولبث المساجد، أو كماله كصلاة الجنازة وسجدة التلاوة، أو رفع كراهته كأكل الجنب ونومه، أو نحو ذلك ممّا يتلى عليك في طيّ المباحث الآتية.

وظنّي أنّ إطلاق الغاية على أعيان هذه الأشياء مسامحة، وإلّا فما لأجله الطهارة في الحقيقة إنّما هو صحّة الصلاة أو كمالها وجواز المسّ وإباحة الأكل ونحوه.

ولو فسّرت الغاية بما يكون لوجوده وجود شيء آخر فقد يتوهّم كونه أخصّ من الأوّل، لعدم تناوله إلّا الأوّلين وهما الصحّة والجواز، لأنّهما من الشيء بمنزلة ذاتيّاته وإذا وجد بدونهما فكأنّه لم يوجد، بخلاف الكمال والفضيلة وارتفاع الكراهة.

وأنت خبير بأنّ ذلك بمجرّده لا يصلح فارقا بين التفسيرين بالتعميم والتخصيص، بعد ملاحظة أنّ توقّف الغاية على ذيها أمر واقعي، وهو في الواقع قائم بما هو من قبيل الوصف، بل التفسير الثاني عند التحقيق - بناء على كون المراد بالّوجود ما هو قائم بالموصوف - لا يتناول المقام، بعد ملاحظة أنّ له مصداقا حقيقيّا في الخارج ينصرف إليه المفهوم، ولو اريد بالوجود ما هو في الوصف - فمع أنّه خلاف مقتضي العبارة

ص: 20

المتضمّنة لقضيّة التنزيل - كان التفسير عامّا بجميع الأقسام، لكون الموقوف في الجميع هو وجود الوصف، كما أنّه كذلك لو اوّل الأوّلان بأنّ الموقوف فيهما وجود الشيء بوصف الصحّة أو الإباحة، فإنّه ينتقض بأنّ الموقوف في الأخيرين أيضا وجود الشيء بوصف الكمال أو الإباحة فلا يتفاوت الحال.

نعم على القول بالصحّة في ألفاظ العبادات أمكن الفرق بين أوّل الأوّلين والبواقي كما لا يخفى على المتأمّل، لكنّه على ما قرّر في محلّه بمعزلي عن التحقيق، فحينئذ لو انتقض ما تقدّم من القضيّة المعروفة بصلاة الجنازة نظرا إلى أنّها تعدّ من غايات الطهارة ولا يجب بوجوبها الطهارة، فالعدول إلى التفسير الثاني وإن كان يدفعه على تقدير الإغماض عن التأويل المذكور لكنّه يوجب انتقاض عكس القضية بما اشترطت صحّته بالطهارة كالصلاة والطواف الواجبين، وبما لو نذر إيقاع صلاه الجنازة أو تلاوة القرآن على الوجه الأكمل، فإنّ الطهارة حينئذ واجبة لوجوب غايتها، مع أنّ الغاية بالمعنى المذكور لا تشملها.

وكيف كان فالقضيّة المذكورة بظاهر ما ينساق منها منطوقا ومفهوما ينحلّ إلى قضايا أربع:

إحداها: أنّ ما لا غاية له من الطهارة لا تصير واجبا، فانتقض العكس بالمنذورة من الطهارات المندوبة.

وثانيتها: أنّ ما لا وجوب لغايته من الطهارة لا تصير واجبة، فانتقض العكس بما لو نذر الوضوء عند كلّ أكل، أو عند تلاوة القرآن، أو الغسل لكلّ زياره، أو التيمّم للنوم جنبا.

وثالثتها: أنّ ما له غاية واجبة فهي واجبة، فانتقض العكس بصلاة الجنازة بناء على محمل «الغاية» على تفسيرها الأوّل.

ورابعتها: أنّ ذي الغاية الواجبة إنّما يستند وجوبه إلى وجوب الغاية، فانتقض العكس بما لو نذر إيقاع صلاة الجنازة بطهارة.

ويمكن دفع الأوّلّين مع الأخير: بمنع كون المفهوم من المضيّة ما ينافي الوجوب في الصور المذكورة، بملاحظة أنّ الظاهر المنساق من لفظ «الوجوب» ما يكون بأصل

ص: 21

الشرع، فالقضيّة مسوقة لبيان حصر الطهارة الواجبة بهذا المعنى، فلا تنفي وجوب الطهارة بغير تلك الجهة.

كما يمكن دفع الثالث: بمنع كون ما ذكر من مفهوم القضيّة، بل المعنى المراد منها أنّ الطهارة حيثما تصير واجبة بأصل الشرع فوجوبها إنّما هو لوجوب غايتها، لا أنّ الغاية حيثما تكون واجبة فلا محالة تصير الطهارة واجبة لها.

فالمتحصّل من القضيّة على سبيل التسليم قاعدتان متعاكستان:

الأوّل: أنّه كلّما كانت الطهارة واجبة فوجوبها لوجوب غايتها.

والثانية: أنّه كلّما لم تكن الغاية واجبة فالطهارة لأجلها لا تصير واجبة.

ولا ينتقض الأولى بما يجب من الوضوء قبل غسل الحيض وغيره، ولا الثانية بقولهم: «يجب الوضوء للنافلة».

أمّا الأوّل: فلأنّ الوضوء المذكور متمّم للغسل المعتبر للصلاة الواجبة، فله غاية واجبة.

وامّا الثاني: فلأنّ إطلاق اسم الواجب هنا ليس على حقيقته كما في المدارك والذخيرة(1) وغيرهما(2) بل هو مجاز لعلاقة مشابهة الواجب في أنّه لابدّ منه بالنسبة إلى المشروط وإن كان في حدّ ذاته مندوبا، ويعبّر عنه ب «الوجوب الشرطي» إشارة إلى علاقة التجوّز.

ويمكن كون الإطلاق هنا مبنيّا على المعنى اللغوي وهو الثبوت، فإنّ كلّ شرط فهو ممّا ثبت اعتبار. لمشروطه.

وما توهّمه بعضهم من كون هذا الإطلاق على الحقيقة المصطلح عليها لتوجّه الذمّ إلى تارك هذا الوضوء إذا أتى بالنافلة في تلك الحال، مدفوع: بكون الذمّ متوجّها إلى الفعل المذكور لا إلى الترك، وأحدهما ليس بعين الآخر، نظير ما يترتّب من الإثم على مسّ كتابة القرآن - مثلا - بلا وضوء على القول بحرمته، وإن كان يفرّق بينهما بكون الحرمة في أحدهما تشريعيّة وفي الآخر شرعيّة.

ولا يذهب عليك أن ليس الغرض بما ذكر من منع كون الذمّ على الترك، أنّ

ص: 22


1- المدارك 9:1، الذخيرة: 2.
2- كما في جامع المقاعد 69:1، والمسالك 10:1.

الوضوء في مواضع وجوبه ما يذمّ تاركه من حيث أنّه تاركه، كيف ووجوبه - على ما ستعرفه - ليس إلّا غيريّا، ومن حكم الواجب الغيري - كما قرّر في محلّه - أن لا يعاقب تاركه من حيث هو تاركه، سواء استفيد وجوبه من الخطاب أصالة أو تبعا من باب المقدّمة. ولا ينافي ذلك ترتّب العقاب عند تركه المفضي إلى ترك المأمور به المشروع له بشرط الطهارة، لأنّه عقاب على ترك المشروط به لا على ترك الشرط، وأحدهما غير الآخر.

وبما ذكرناه - مضافا إلى ما عرفته من معنى الوجوب الشرطي، وما قد قيل أيضا في شرح الواجب الشرطي من أنّه ما يكون شرطا لإباحة الغير - تعرف أنّ ما في مناهل السيّد في هذا المقام من أنّ المراد بالوجوب الّذي اطلق عليه يعني على الوضوء في بعض الروايات وكلمات الأصحاب معناه المتعارف، وهو الّذي يستحقّ تاركه العقاب لا الوجوب الشرطي المتحقّق في إزالة النجاسة عن الثوب والبدن للصلاة، ليس على ما ينبغي، لوضوح الفرق بين الواجب النفسي والغيري والشرطي، فإنّ استحقاق العقاب على الترك من لوازم الأوّل، وهو ليس بموجود في الوضوء على ما هو التحقيق، والموجود في الإزالة ليس شرطيا بل هو غيريّ كالموجود في الوضوء، وإن حصل الفرق بينهما بما في الوضوء من الجهة التعبّديّة - لاشتراط صحّته بقصد القربة - وانحصار الإزالة في الجهة التوصّليّة.

ثمّ إذا آل الأمر إلى دعوي غيرية وجوب الوضوء فالمناسب حينئذ التكلّم في تحقيق ذلك، نظرا إلى وقوع الخلاف بين متأخّري اصحابنا فيه، وأمّا قدماؤهم فلعدم تعرّضهم للمسألة لم يعلم مذهبهم، وإن أمكن استفادة القول بالغيريّة من عبارة قولهم:

«يجب الوضوء لكذا وكذا».

وكيف كان ففي الدروس: «أنّه لا يجب شيء منها وجوبا مطلقا على الأصحّ »(1)يعني لا يجب شيء من الطهارات الثلاث لأنفسها، على معنى وجوبها وإن لم يجب مشروط بها، بل إنّما تجب عند اشتغال الذمّة بواجب مشروط بها، وقد صار إليه جماعة

ص: 23


1- الدروس 5:1.

من الأساطين، بل ادّعى غير واحد منهم الشهرة على ذلك في الوضوء خاصّة، بل عن جماعة كالعلّامة في التذكرة والكركي الشيخ علي وثاني الشهيدين(1) أنّهم نقلوا الإجماع عليه في خصوص الوضوء أيضا، وفي شرح الفاضل للدروس: «وقيل:

بوجوبها مطلقا بمجرّد حصول أسبابها»(2) وعزى حكاية هذا القول إلى ذكرى الشهيد معبّرا عنه: «بوجوب الطهارات أجمع بحصول أسبابها وجوبا موسّعا، لا يتضيّق إلّا بظنّ الوفاة، أو تضيّق العبادة المشروطة بها» ولم نقف على ذلك في عبارة الذكرى، نعم فيها بعد الفراغ عن بحث الغيريّة والنفسيّه في الغسل أنّه: «وربّما قيل: بطرد الخلاف في كلّ الطهارات، لأنّ الحكمة ظاهرة في شرعيّتها مستقلّة»(3).

وفي كلام غير واحد حمل هذا القول على كونه للعامّة، قال في الحدائق: «كلام الشهيد في قواعده كالصريع في كون القول المذكور للعامّه، حيث قال: قاعدة، لا ريب أنّ الطهارة والاستقبال والنيّة والستر معدودة من الواجبات في الصلاة إلّا مع الاتّفاق على جواز فعلها قبل الوقت، والاتّفاق في الأصول على أنّ غير الواجب لايجزئ عن الواجب، لأنّ الفعل إنّما يجزئ عن غيره مع تساويهما في المصلحة المطلقة، ومحال تساوي الواجب وغير الواجب في المصلحة.

وجوابه: أنّا قد بيّنّا - ثمّ أطال في الجواب إلى أن قال -: وهذا الإشكال اليسير الّذي ألجأ بعض العلماء إلى اعتقاد وجوب الوضوء وغيره من الطهارات لنفسه، غير أنّه يجب وجوبا موسّعا قبل الوقت، وفي الوقت وجوبا مضيّقا عند آخر الوقت، ذهب إليه القاضي أبو بكر العنبري وحكاه الرازي في التفسير عن جماعة، وصار بعض الاصحاب إلى وجوب الغسل بهذه المثابة». انتهى(4).

لكن في المدارك(5) رجّح هذا القول، وتبعه صاحب الذخيرة(6) ونقل عن نهاية العلّامة(7) احتمال وجوب الوضوء بحدوث أسبابه.

وفي شرح الدروس للخوانساري: «وإنّما طال التشاجر والتنازع بين المتأخّرين

ص: 24


1- التذكرة 148:1، جامع المقاصد 68:1، مشارق الشموس: 26 نقلا بالمعنى.
2- الذكرى 196:1.
3- القواعد والفوائد 63:2.
4- الحدائق 128:2.
5- المدارك 9:1.
6- الذخيرة: 2.
7- نهاية الاحكام 71:1.

في خصوص غسل الجنابة، هل واجب لنفسه أو لغيره ؟ فابن إدريس والمحقّق وجماعة على الثاني، والراوندي والعلّامة ووالده وجماعة على الأوّل»(1).

فظهر بجميع ما ذكر أنّ المسألة ذات أقوال ثلاث: الوجوب الغيري في جميع الطهارات، والوجوب النفسي فيها كذلك، والتفصيل بين الغسل فالوجوب النفسي وغيره فالوجوب الغيري.

وليعلم أنّ صورة المسألة في بادئ الأمر تتصوّر على وجوه ربّما يقع الاشتباه فيما هو منها محلّ البحث هنا.

أحدها: أنّ الوضوء أو مطلق الطهارة هل له بعد وجوبه الغيري وجوب نفسي أيضا أولا؟

وثانيها: أنّ الوجوب الثابت في الوضوء أو مطلق الطهارة نفسيّ أو غيريّ؟

وثالثها: أنّ الوجوب الثابت فيهما وإن كان غيريّا، لكن هل يجوز أن يتّصفا قبل وجوب العبادة المشروطة بهما بدخول وقتها بالوجوب أو لا؟ وهذا هو الّذي يعبّر عنه في الاصول بجواز وجوب ذي الغاية قبل وجوب الغاية، أو قبل دخول وقت الغاية، وعدمه.

والّذي يظهر من ملاحظة تضاعيف عباراتهم مضافة إلى أدلتهم مع نقوضهم - كما هو صريح غير واحد منهم أنّ النزاع واقع بينهم على الوجه الأوّل، فالفريقان متسالمان على الوجوب الغيري في الطهارات، وإنّما اختلفا في وجوبها النفسي أيضا مضافا إلى الوجوب الغيري وعدمه، فيرجع النزاع إلى انّ الطهارات هل هي كالإيمان بالله ليكون مع وجوبها الغيري واجبات نفسيّة ؟ أو هي كإزالة النجاسة عن الثوب والبدن لينحصر وجوبها في الغيري.

فمن هنا اتّضح فساد ما أورد على ما جعلوه ثمرة للنزاع من: «أنّ المكلّف إذا خلت ذمّته عن واجب مشروط بالطهارة يجوز له إيقاعها بنيّة الوجوب على القول بالوجوب النفسي، بخلافه على القول بالوجوب الغيري» بأنّ : «الوجوب بالغير لا ينافي

ص: 25


1- مشارق الشموس: 26.

إيقاع الطهارة قبل وقت وجوب مشروطها بنيّة الوجوب، لجواز كونها واجبة في نفسها أيضا، فإنّ المدّعي للوجوب بالغير لا يدّعي إلّا انتفاء وجوب آخر، فكيف يجوّز على قوله ثبوت الوجوب النفسي أيضا»(1).

نعم إن كان الإيراد على تلك الثمرة ولابدّ منه فليورد عليه بمنع الملازمة بين القول بالوجوب الغيري والقول بعدم جواز إيقاع الطهارة قبل الوقت بنيّة الوجوب، لا لجواز الوجوب النفسي أيضا، بل لجواز عروض الوجوب الغيري لذي الغاية قبل دخول وقت وجوب الغاية كما هو المحقّق في الاصول، لكن بشرط العلم العقلي أو الشرعي بإدراك وقت الغاية ووجوبها في ذلك الوقت، فإنّ ذلك قاعدة لا مدفع لها، تثبت بضروري من العقل.

وإن كان يستثنى منها ما لو استفيد من خطاب الغاية كون موضوعها ممّا اعتبر فيه الشارع وصفا مقارنا عروضه له لعروض الوجوب لها، كاستطاعة الحجّ بالقياس إلى مقدّماته الواجبة لأجل وجوبه وجوبا غيريّا ولو من جهة قاعدة المقدّمة، فإنّها لاتتّصف بالوجوب قبل زمن الاستطاعة، لكونها ممّا أخذها الشارع في الموضوع حيث أوجب الحجّ على المستطيع بهذا الوصف العنواني، أو استفيد منه أنّ غرض الشارع تعلّق بإيجاد ذي الغاية في وقت الغاية لا مطلقا، كالطهارة بالقياس إلى الصلاة الواجبة الّتي يستفاد وجوبها عند وجوب الصلاة من قوله تعالى: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الآية(2) حسبما نقرّره في توجيه الاستدلال بها على نفي الوجوب النفسي عن الوضوء، وليس ذلك تخصيصا في حكم العقل كما قد يتوهّم، بل هو تخصلى الله عليه و آله وسلم كما يظهر بأدنى تأمّل.

ومفن جوّز ما جوّزناه من اتّصاف ذي الغاية بالوجوب قبل وجوب الغاية المحقّق الخوانساري، حيث قال - في جملة كلامه -: «إنّ غاية ما يلزم من ذلك المعنى أن لا يجب الطهارة عند العلم أو الظنّ بأنّ ما هو مقصودها والغرض منها لم يمكن الإتيان به ولم يصر واجبا في وقته، وأمّا إذا علم أو ظن أنّه سيصير واجبا ويمكن الإتيان به

ص: 26


1- مشارق الشموس: 26.
2- المائدة: 6.

فلا مانع من القول بوجوبها لذلك الغرض، وإن لم يجب بعد، لكن وجوبا موسّعا يتضيّق بتضيّق الغرض» انتهى.(1)

وإلى ذلك ينظر ما حكاه صاحب المدارك في بحث وجوب الغسل للصوم عن بعض مشايخه المعاصرين له «من جواز إيقاعه بنيّة الوجوب من أوّل الليل وإن قلنا بوجوبه لغيره» انتهى.(2)

فما ذكره هو في توجيهه بقوله: «وكأنّه أراد به الوجوب الشرطي، وإلّا فالوجوب بمعنى المصطلح منتف على هذا التقدير قطعا»(3) ليس على ما ينبغي.

فبما ذكرناه يضعّف ما ذكروه من الثمرة الاخرى من أنّه على القول بالوجوب النفسي يجب غسل الصوم بنيّة الوجوب على القول باعتبار قصد الوجه، وإلّا فبنيّة الندب.

كما يضعّف به القول: بأنّ كون وجوب الغسل غيريّا ينافي وجوب الإتيان بغسل الصوم قبل الطلوع، كما يسقط به الأقوال الاخر في غسل الصوم من كونه واجبا لنفسه، أو كونه مندوبا، أو مجزئا بنيّة الندب، أو كونه واجبا من جهة أنّه إذا بقي لطلوع الفجر بقدر ما يغتسل فيه فهذا الزمان ينزل منزلة حضور الوقت، أو كونه واجبا للتوطين على إدراك الفجر طاهرا.

ثمّ الصحيح من ثمرات المسألة: استحقاق العقوبة على ترك الطهارة لو حصل من غير عذر مع قطع النظر عن ترك المشروط بها على القول بوجوبها النفسي، ووجوب الإتيان بها بعد الحدث لو ظنّ المكلّف بالوفاة قبل أن يدخل وقت المشروط بها على وجوبها النفسي أيضا، كما هو الحال على هذا القول لو ظنّ بالوفاة بعد دخول الوقت مع القدرة عليها فقط دون المشروط بها.

وعلى أيّ حال كان فتحقيق المسألة يتمّ برسم مقامين:

ص: 27


1- مشارق الشموس: 26.
2- المدارك 17:1.
3- المدارك 17:1.

المقام الأوّل في حكم الوضوء

والحقّ فيه ما صار إليه المعظم من أنّه لا يجب لنفسه بأصل الشرع، بل وجوبه في جميع المواضع غيريّ .

والحجّة في ذلك - بعد الأصل، والسيرة المعتضدة بمحكيّ الشهرة ومنقول الإجماع - أمران:

احدهما: قوله عزّ من قائل: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الآية(1) فإنّ كلمة «إذا» وإن كانت ظرفا لما يستقبل من الزمان، غير أنّ فيها أيضا معنى الشرط كما نصّ عليه أئمّة اللغة(2) فتفيد تعليق وجوب الوضوء على القيام إلى الصلاة، وهو بمقتضي حجّيّة مفهوم الشرط يفيد السببيّة التامّة، ومنطوق الآية بمقتضى تعدية القيام بكلمة «إلى» أنّه: «إذا قمتم قياما ينتهي إلى فعل الصلاة» ومن البيّن أنّ القيام المنتهي إلى فعل الصلاة ملزوم لوجوبها، فهو كناية عن الملزوم إلى لازمه، فيفيد التعليق عليه كون وجوب الصلاة سببا تامّا لوجوب الوضوء.

وقضية ذلك انتفاء الوجوب عن الوضوء عند انتفائه عن الصلاة، وقضيّة ذلك غيريّة الوجوب وعدم وجوب آخر سواه، لأنّ انتفاء الوجوب على الإطلاق عند انتفاء وجوب الغير يفيد ذلك وهو المطلوب.

وبما قرّرناه من تقريب الاستدلال يظهر فساد ما قيل في وجه الاستدلال من: «أنّ القيام ليس المراد به نفس القيام، وإلّا لزم تأخير الوضوء عن الصلاة وهو باطل بالإجماع، بل المراد به أنّه إذا أردتم القيام إلى الصلاة، إطلاقا لاسم المسبّب على السبب، فإنّه مجاز مستفيض، والمشروط عدم عند عدم شرطه» لوضوح الفرق بين القيام في الصلاة والقيام إلى الصلاة، والتعليق على الثاني يفيد تقديم الوضوء على الّصلاة لا تأخيره.

ومن هنا قال بعض المفسّرين(3) - على ما نقل عنه - أنّ قيام الصلاة قسمان: قيام

ص: 28


1- المائدة: 6.
2- كما في المصباح المنير 14:1 ومجمع البحرين 26:1.
3- حكاه عنه في مجمع البحرين 145:6، مادّة «قوم» وراجع فقه القرآن 10:1.

الدخول فيها، وقيام التهيؤ لها، والمراد هنا الثاني وإلّا لزم تأخير الوضوء عن الصلاة، هذا.

مع أنه لو صحّ ما ذكر من التقدير لزم كون وجوب الوضوء مشروطا بإرادة الصلاة وهو باطل، وإلّا لزم عدم وجوب الوضوء عند وجود الصارف عن الصلاة، مع أنّه يتوجّه إليه ما أورده صاحب المدارك من: «أنّ أقصى ما يدلّ عليه الآية ترتب الأمر بالغسل والمسح على إرادة القيام إلى الصلاة، والإرادة تتحقّق قبل الوقت وبعده، إذ لا يعتبر فيها المقارنة للقيام، وإلّا لما كان الوضوء في أوّل الوقت واجبا بالنسبة إلى من أراد الصلاة في آخره»(1).

إلّا أن يدفع: بأنّ ما يتحقّق في الوقت إرادة لإيجاد الصلاة، وما يتحقّق قبل الوقت هو إرادة إلى أنّه سيوجد الصلاة، وظاهر الآية هو الأوّل.

وممّا يرشد إلى ما ذكر من إرادة القيام بالمعنى المذكور ما رواه في التهذيبين في الموثّق عن ابن بكير، قال: «قلت لأبي عبدالله عليه السلام قوله: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ ما يعني بذلك ؟ قال: إذا قمتم من النوم...» الحديث(2).

وبجميع ذلك يسقط ما عساه يقال في وجه الاستدلال -: من أنّ المراد بالقيام ليس هو القيام المعتبر في الصلاة المعدّ من أجزائها، ضرورة عدم مناسبة ذلك للتعدية بكلمة «إلى» مع أنّه لو صحّ لقضى باعتبار وقوع الوضوء حال التشاغل بالصلاة أو بعد الفراغ عنها، والكلّ بديهيّ البطلان، فيجب أن يعتبر في المقام ما لا يفسد معه اللفظ والمعنى، بأن يتجوّز في لفظ «القيام» أو يضمّن فيه، أو يضمر معه ما يصحّ تعديته بكلمة «إلى» كالقصد والعزم وما يرادفهما، فيكون المعنى: «إذا قصدتم أو عزمتم إلى الصلاة، أو إذا قمتم قياما مقرونا بالقصد أو العزم إليها، أو إذا قمتم قاصدين أو عازمين إليها».

وقد يوجّه الآية أيضا، بأنّه: «إذا قمتم زمانا ينتهي إلى الصلاة» فيكون القيام على حقيقته، والمقدّر هو الزمان الّذي يقتضيه لفظ «إلى» والفعل معا.

وقد يقرّر الاستدلال بها: بأنّ المفهوم منها وجوب الوضوء، وكون الوجوب لأجل الصلاة، كما أنّه لو قيل: «إذا لقيت الأسد فخذ سلاحك»، و «إذا قمت إلى الأمير فالبس

ص: 29


1- المدارك 10:1.
2- التهذيب 7:1/9، الاستبصار 80:1/251 الوسائل 180:1/7 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء.

ثيابك» كان المفهوم منه عرفا كون أخذ السلاح وليس الثياب لأجل لقاء الأسد والعزم إلى محضر الأمير.

وهو كما ترى، فإنّ ما ذكر أخذ بمنطوق الآية فقط، فلا يزيد على وجوب الوضوء لغيره، وقد عرفت أنّ ذلك بمجرّده لا يكفي إلّا إذا انضمّ إليهم مفهوم الآية أيضا.

والعجب عن بعضهم كالمحقّق الخوانساري(1) حيث جعل كلّا من المنطوق والمفهوم وجها على حدة في الاستدلال بالآية.

وإنّما قلنا بأنّ القيام المنتهي إلى الصلاة ملزوم لوجوبها، لأنّ إطلاق الصلاة عند المتشرّعة ينصرف إلى الفرائض، والقيام المنتهي إلى فعل الفريضة لا يكون إلّا مع وجوبها.

فبذلك يندفع ما قيل في دفع الاستدلال بالآية على وجوب الوضوء لأجلها، من أن مقتضي ظهور الآية وجوب الوضوء للصلاة المندوبة أيضا وهو مجمع على بطلانه، فيجب حمل الأمر على الاستحباب أو على القدر المشترك بينه وبين الوجوب، ومعه لا تصلح دليلا في المقام.

وإنّما لم يقل: «إذا وجب عليكم الصلاة فاغسلوا» الآية، مع أنّ كون «القيام» كناية عنه يستلزم إرادته، لوجهين:

أحدهما: التنبيه على توسعة وقت الوضوء إلى أن يتضيّق الصلاة المشروطة به، فإنّ التعبير صريحا بقوله: «إذا وجب عليكم الصلاة فاغسلوا» ربّما يوهم كون وقت وجوب الوضوء هو ما حدث فيه الوجوب للصلاة، فيلزم فوريّة الوضوء وهذا خلف.

وثانيهما: التنبيه على غيريّة وجوب الوضوء، وكون اعتباره لأجل التوصّل إلى الصلاة، فإنّه لولا التعبير بالقيام إليها الملزوم لوجوبها فقد يتوهّم كونه واجبا برأسه، مشروطا وجوبه بوجوب الصلاة أو بحضور وقت وجوبها من دون أن يكون له مدخل في صحّتها، بحيث لو أتى المكلّف بها دونه كان آتيا بالمأمور به، وإن كان عاصيا بترك واجب آخر وهو الوضوء، فذكر القيام إلى الصلاة تنبيها على أنّ ما لأجله إيجاب الوضوء إنما هو تحصيل شيء غير حاصل وهو الصلاة، لا حصول شيء حاصل وهو وجوبها.

ص: 30


1- مشارق الشموس: 27.

وأمّا الاعتراض على الاستدلال بالآية تارة: بمنع حجّيّة مفهوم الشرط. واخرى:

بأنّه إنّما يكون حجّة إذا لم يظهر للشرط فائدة اخرى سوى الانتفاء، لئلّا يلزم وقوع اللغو في كلام الحكيم، والفائدة فيما نحن فيه غير منتفية، لجواز كونها هنا بيان أنّ الوضوء واجب لأجل الصلاة وأنّها مشروطة به، وإن كان هو أيضا واجبا لنفسه. وثالثة:

بأنّه على تقدير عدم ظهور فائدة اخرى. نقول: إنّ مفهوم الشرط هنا عدم هذا الأمر الخاصّ بالوضوء عند عدم الشرط، لا الأمر به مطلقا، ولذا لو قال السيّد لعبده: «إذا لقيت اللصّ فخذ سلاحك، وإذا لقيت الأسد فخذ سلاحك، وإذا لقيت الذئب فخذ سلاحك» فلا يخفى على ذي مسكة ومن له معرفة بالعرف أنّه ليس بين ظواهر هذه الأوامر توهّم منافاة، ولا شائبة معارضة. ورابعة: بمنع عموم المفهوم، لجواز كون المراد بيان عدم وجوب الوضوء في بعض أوقات عدم إرادة الصلاة، أو عدم وجوب الصلاة، ويكفي في ذلك البعض كون الحال قبل الوقت كذلك إذا لم يكن المكلّف محدثا، فإنّ عدم وجوب الوضوء عليه حينئذ لا ينافي وجوبه حينما يصدر عنه الحدث. وخامسة:

يمنع دلالة المفهوم - على فرض ثبوته وعمومه - على المراد من عدم وجوب الوضوء قبل الوقت، إذ لا قرينة على إرادة الإرادة المتّصلة، والإرادة الغير المتّصلة تتحقّق قبل الوقت أيضا، فلم يثبت عدم وجوب الوضوء قبل الوقت مطلقا.

ففيه: ما لا يخفى على الخبير بمقاصد الأعلام ومزايا الكلام، فإنّ مفهوم الشرط على ما حقّق في محلّه حجّة، ومعنى حجّيّته ظهور أداة الشرط في نظر العرف والعادة في السببيّة التامّة، ومعه لا يعتني بوجود فائدة اخرى ما لم ينهض قرينة على إلغاء فائدة الانتفاء مع الانتفاء، وكون الشرط سببا تامّا ينفي وجوب الوضوء من غير جهة سببية هذا الشرط، فليس المفهوم مجرّد عدم هذا الأمر الخاصّ ، كيف وثبوت هذا المقدار من المدلول متّفق عليه بينهم، وليس من المتنازع فيه.

والسرّ فيه أنّ انتفاء الوجوب الخاصّ ليس من دلالة، بل لقصور عبارة الأمر المعلّق عن إفادة الوجوب لصورة انتفاء الشرط، والتنافي بين القضايا المتعدّدة من الشرطيّة واقع بالبديهة من العرف إذا لم يقم ما يقضي بعدم اعتبار المفهوم، والأمثلة المذكورة كلّها مقترنة بنحو تلك القرينة، فإنّ التعليق على الشرط كثيرا مّا يرد للتنبيه على موضوع

ص: 31

الحكم من غير نظر إلى إفادة انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، وقرينيته كثيرا مّا كون انتفاء الشرط بانتفاء موضوعه، لأنّه يقبح حينئذ على المتكلّم الحكيم أن يقصد من لفظه إفادة انتفاء الحكم لانتفاء شرطه، لأنّه يصحّ في كلّ موضع صالح لأن يجري فيه الحكم الجاري فيه على تقدير وجود الشرط، وهو ما إذا بقي موضوع الشرط المفروض انتفاؤه، كما في قولك: «إن جاءك زيد فأكرمه» والأمثلة المذكورة ليست من هذا القبيل، بل هي من باب قولك: «إن رزقت مالا فأنفقه، وإن رزقت ولدا فاختنه» ضرورة أنّ معنى قولك: «إذا لقيت اللصّ فخذ سلاحك» أنّه إذا لقيته فخذ سلاحك لدفعه، وهكذا في الباقي، وحينئذ فلو أراد المتكلّم زيادة على منطوق هذا الكلام معنى قولنا: «إذا لم تلق اللصّ فلا تأخذ سلاحك لدفعه» كان قبيحا منافيا لحكمته، فلم يبق في المقام إلّا مناطيق الأمثلة المذكورة وهي غير متناقضة في شيء من المقامات، والمحقّق في محلّه أنّ المفهوم تابع للمنطوق في خصوصه وعمومه، لأنّ ذلك من مقتضي السببيّة التامّة، فإذا اعتبر منطوق الآية وجوب الوضوء في جميع آنات وجوب الصلاة أو القيام إليها كان المفهوم انتفاء الوجوب عن الوضوء في جميع آنات عدم وجوب الصلاة أو عدم القيام إليها، والقرينة على إرادة الإرادة المتّصلة طهور الآية بفهم العرف في إرادة إيجاد الصلاة لا إرادة أنّه سيوجدها، والفرق بين التعبيرين واضح، والّذي يتحقّق خارج الوقت إنّما هو الثاني وهو ليس من مدلول الآية.

وأيضا فإنّ إرادة الصلاة إنّما كنّى عنها بالقيام إلى الصلاة على معنى القيام المنتهي إلى فعل الصلاة قصدا للانتقال من الملزوم إلى اللازم، وظاهر أنّ الملزوم لا يتحقّق إلّا في الوقت فكذا اللازم، ولا يكون إلّا الإرادة المتصلة مع أنّ الشرط المعلّق عليه ليس هو الإرادة بل هو الوجوب أو القيام المنتهي إلى فعل الصلاة الملازم لوجوبها، فلا يعقل تحقّقه خارج الوقت.

فإن قلت: رفع اليد عن المفهوم هنا ممّا لا مناص عنه بملاحظة عدم انحصار سبب وجوب الوضوء في الصلاة، فإنّه قد يجب أيضا للطواف الواجب وغيره من الأسباب الآتية، فيرجع مفاد المضيّة بالنسبة إلى الطواف إلى أن يقال: «إذا قمتم إلى الطواف الواجب فتوضّؤا» وإذا لوحظ ذلك مقيسا إلى الآية لحصل التنافي بين مفهوم كلّ

ص: 32

ومنطوق الآخر، وإلغاء المفهوم عن كلّ منهما طريق الجمع، ومعه لا مانع من وجوب الوضوء لنفسه.

قلت: التنافي إنّما يتأتّى لو اعتبر في كلّ مفهوم إطلاق ناف لوجوب الوضوء بنفسه وعن سبب آخر غير ما ذكر في منطوق ذلك المفهوم كما هو كذلك، وعليه مبنيّ حجّيّة المفهوم المثبتة على قضاء التعليق بالسببيّة التامّة على وجه الانحصار.

لكن يندفع الإشكال بأنّ كلّ مطلق قابل للتقييد إذا قام إليه داع، فيقيّد مفهوم كلّ بمنطوق الآخر، وقضيّه ذلك كون المفهوم في كلّ محمولا على نفي الوجوب النفسي بإخراج الوجوب المسبّب عن سببيّة الغير عن تحته. وهذا أيضا طريق الجمع، بل هو أولى ممّا ذكر ترجيحا للتقييد على المجاز اللازم من إلغاء المفهوم رأسا، مضافا إلى أنّ هنا طريقا آخر للجمع وهو التصرّف في المنطوقين بإلغاء الخصوصيّة عن الشرطين، وقضيّة ذلك كون السبب التامّ لوجوب الوضوء أحد الأمرين من الصلاة والطواف فإذا انتفيا معا انتفى وجوب الوضوء رأسا.

ثانيهما:(1) ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، ولا صلاة إلّا بطهور»(2) فإنّه يدلّ على اشتراط وجوب الطهور والصلاة بدخول الوقت، ومن المعلوم أنّ المشروط عدم عند عدم شرطه من غير فرق بين إفادته لسببيّة المقدّم أو شرطيّته بالمعنى المصطلح عليه الأصولي، فإنّ المقصود يتمّ بالدلالة على ملازمة العدم للعدم وهو مدلول مشترك بين الوجهين.

واورد عليه: بجملة ممّا تقدّم في هدم الاستدلال بالآية وقد تبين دفعها، نعم يختصّ ذلك بإيراد آخر وهو أنّ المشروط وجوب الطهور والصلاة معا، وانتفاء هذا المجموع يتحقّق بانتفاء أحد جزئيه، فلا يتعيّن انتفاؤهما معا.

وجوابه: أنّ ذلك يرجع إلى دعوى اختصاص تأثير دخول الوقت في وجوب الصلاة دون الطهور فلذا جاز وجوبه قيل الوقت، فيكون أخذه مع الصلاة في القضيّة الشرطيّة كالحجر الموضوع في جنب الإنسان، نظرا إلى أنّ وجوبه ليس من هذا

ص: 33


1- تقدّم أحدها في ص 28.
2- الوسائل 26:1/1، الباب 4 من أبواب الوضوء.

الشرط. وهذا كما ترى ممّا لا يليق بكلام الحكيم، مع أنّ كلمة «إذا» - على ما عرفت - ظرف لما يستقبل من الرمان، فظاهرها أنّ الوجوب يحدث للطهور بدخول الوقت وهذا ينافي وجوبه قبل الوقت.

وتوهّم: أنّ الّذي يحدث حينئذ إنّما هو وجوبه لغيره وهو لا ينافي سبق وجوبه لنفسه على دخول الوقت، يدفعه: أنّه خلاف ما صرّح به في متن الإيراد المذكور، لأنّ مبناه على كفاية انتفاء وجوب الصلاة قبل الوقت، فلو سلّم حدوث وجوب الطهور لغيره بعده لكان المنتفي قبل الوقت وجوبهما معا (و) هذا خلاف مقتضي الإيراد.

وقد يوجّه الإيراد بما في الذخيرة(1) وغيرها من أنّه لعلّ غرضه أنّ المشروط وجوب المجموع على سبيل الاستغراق الأفرادي، فكأنّه قيل: «إذا دخل الوقت وجب كلّ واحد من الأمرين» واللازم من ذلك على تقدير حجّيّه مفهوم الشرط رفع الإيجاب الكلّي عند انتفاء الشرط.

وفيه: أيضا ما أشرنا إليه من أنّ المحقّق كون المفهوم في الخصوص والعموم تابعا لمنطوقه، فيكون المعنى - بمقتضى ظاهر اللفظ المساعد عليه فهم العرف -: أنّه إذا لم يدخل الوقت لم يجب شيء من الطهور والصلاة.

وقد يقال: إنّ هذا الاستدلال على تقدير تماميته إنّما يدلّ على ما هو من لوازم الوجوب الغيري وهو عدم وجوب الوضوء قبل دخول الوقت، فلو اريد به الاستدلال على نفس الوجوب الغبري فلا يكاد يتمّ ، إذ مجرّد ثبوت اللازم لا يستلزم ثبوت الملزوم إلّا مع مساواتهما في الوجود، ولعلّ المساواة ممنوعة لجواز أن لا يجب الوضوء إلّا بعد دخول الوقت ولم يكن الغرض منه الصلاة بل شيئا آخر. ويظهر الفائدة في بقاء المكلّف بعد دخول الوقت بما لا يسع من الوقت إلّا فعل الوضوء، فعلى احتمال كون الغرض منه الصلاة لا يجب الوضوء وعلى الاحتمال الآخر يجب، وكذا في المضيّق إذ على الأوّل يجب تضيقه بتضيّق وقت الصلاة وعلى الثاني لا يجب.

وفيه: أنّ تمام المقصود يثبت بما في ذيل الرواية من قوله عليه السلام: «لا صلاة إلّا بطهور» فإنّه لولا ذلك لربّما وقع في الوهم كون الوضوء واجبا بعد الوقت في طرف

ص: 34


1- الذخيرة: 2.

عرض الصلاة من دون أن يكون له مدخليّة فيها، بأن يكون كلّ واجبا برأسه مشروطا وجوبه بدخول الوقت، فتعرّض الإمام لرفع هذا التوهّم وقال: «لا صلاة إلّا بطهور» تنبيها على أنّ الوضوء إنّما اعتبر للتوصّل إلى الصلاة، إذ بدونه لا ينعقد الشيء صلاة أو لا يحصل في الخارج على وجه الصحّة - بناء على القولين في ألفاظ العبادات من الصحيحة والأعمّ - ومعه لا حاجة إلى ضمّ الإجماع المركب، بدعوى: أنّ كلّ من قال بوجوبه بعد دخول الوقت يقول بالوجوب الغيري كما قد يتوهّم.

حجّة القول بوجوب الوضوء لنفسه أمران:

أحدهما: إطلاق الآية المتقدّمة، فإنّها تدلّ على وجوب الوضوء كلّما تحقّقت الإرادة، ولا ريب أنّها تتحقّق قبل الوقت أيضا فيكون الوضوء قبل دخول الوقت واجبا، وهو المطلوب.

وفيه أوّلا: منع كون وجوب الوضوء قبل الوقت لازما مساويا لوجوبه لنفسه، لما بيّنّاه من جواز وجوب الواجب لغيره قبل دخول وقت وجوب ذلك الغير، فتقدّم وجوبه على دخول الوقت لا ينافي وجوبه لغيره.

وثانيا: منع كون الشرط المعلّق عليه هو الإرادة لتكون قابلة لأن تتحقّق قبل الوقت، بل الشرط - على ما بيّنّاه - وجوب الصلاة أو القيام المنتهي إلى فعلها، ولا يعقل تحقّق شيء منهما قبل الوقت على الفرض.

وثالثا: منع قابليّة الإرادة المرادة من الآية لأن تتحقّق قبل الوقت، لما عرفت من ظهورها في إرادة إيجاد الصلاة وهي تغاير إرادة أنّه سيوجدها.

وثانيهما: روايات رواها الشيخ في التهذيب في باب الأحداث الموجبة الطهارة، منها: ما عن عبداللّه بن المغيرة ومحمّد بن عبداللّه قالا: «سألنا الرضا عليه السلام عن الرجل ينام على دابّته ؟ فقال: إذا ذهب النوم بالعقل فليعد الوضوء»(1).

ومنها: ما عن زرارة قال: قلت له: «الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن، فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء»(2).

ص: 35


1- التهذيب 6:1/4.
2- التهذيب 8:1/11.

ومنها: ما عن زيد الشحّام عن أبي عبداللّه عليه السلام - في آخر حديث - «إنّ عليّا عليه السلام كان يقول: من وجد طعم النوم فإنّما وجب عليه الوضوء»(1).

ومنها: ما عن معمّر بن خلّاد عن أبي الحسن عليه السلام - في آخر حديث -: «إذا خفي عليه الصوت فقد وجب الوضوء عليه»(2).

ومنها: صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج عن الصادق عليه السلام «إنّ عليّا كان يقول: من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا فقد وجب الوضوء»(3).

ومنها: موثّقة بكير بن أعين عن الصادق عليه السلام أنّه قال: «إذا استيقنت أنّك أحدثت فتوضّأ»(4) إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

والجواب أوّلا: النقض بما ورد من الأوامر المطلقة في الإزالة الّتي لا خلاف في عدم وجوبها لنفسها.

وثانيا: منع الإطلاق في. تلك الأخبار على وجه يقضي بوجوب الوضوء مطلقا، فإنّ السؤال الواقع فيها إنّما وقع عن ناقضيّه النوم وكونه سببا لوجوب الوضوء ولو في وقت المشروط به، فالمعصوم في أجوبة هذا السؤال إنّما تعرّض لبيان كون النوم من أسباب وجوب الوضوء من غير تعرّض لبيان أنّ هذا الوجوب المسبّب نفسي أو غيري ثابت في الوقت أو قبله.

وثالثا: أنّ الإطلاق على فرض تسليمه ممّا لا يعبأ به، بملاحظة أنّ الاشتراط إذا كان معلوما من الخارج فكثيرا مّا يرد الخطاب المتعلّق به مطلقا غير مقيّد اعتمادا على وضوح الشرط ومعلوميّة القيد، وعدم مسيس الحاجة إلى التصريح به.

ورابعا: أنّ الاطلاق موهون جدّا بملاحظة ما ذكر من الوجوه ومخالفة المعظم، فلا يصلح لمعارضة الآية والرواية المتقدّمتين وإن كان دلالتهما باعتبار المفهوم، فإنّ المنطوق يتقدّم على المفهوم بنوعه لا بجميع أشخاصه، ومن هنا ترى أنّ المفهوم ربّما يتقدّم على المنطوق.

ص: 36


1- التهذيب 8:1/10.
2- التهذيب 9:1/14.
3- التهذيب 8:1/10.
4- التهذيب 102:1/268.

المقام الثاني في حكم الغسل

اشارة

وقد عرفت ممّا تقدّم أنّ الخلاف فيه أظهر منه في الوضوء، غير أنّ مقتضي صريح جملة من العبائر اختصاص المخلاف عمّا بين الأغسال الواجبة بغسل الجنابة، وأنّ ما عداه لا قائل فيه بالوجوب لنفسه.

قال العلّامة الطباطبائي في مصابيحه: «لا يجب شيء من الأغسال الخمسة لنفسه حتّى غسل الجنابة على أظهر القولين، والقول الآخر وجوب غسل الجنابة لنفسه».

وقال - بعد الفراغ عن المسألة -: «وأمّا سائر الأغسال فلا خلاف في أنّ وجوبها بالغير، وقد حكى الإجماع على ذلك جماعة منهم المحقّقان الحلّي و - الكركي، والشهيدان الأوّل والثاني، والعلّامة في النهاية، لكنّه احتمل في المنتهى في أحكام الحائض وجوب الغسل مطلقا بعد الحكم بخلافه لإطلاق الأمر به، وضعفه ظاهر» انتهى(1).

وأمّا القول بالوجوب النفسي في غسل الجنابة خاصّة فقد سبق الإشارة إجمالا إلى اصحابه، وفصّله في الكتاب بقوله: «وهو خيرة التحرير والمختلف والمنتهى والمسائل المدنيّة والإيضاح وكنز العرفان وكفاية الطالبين ومعالم الدين والمجمع والكفاية وحكاه الشهيد في الذكرى عن الراوندي وجماعة، والعلّامة في المختلف والمنتهى عن والده، وولده السعيد في الإيضاح عن ابن حمزة»(2).

وإنّما نقل ذلك بعد ما عدّ أصحاب القول الأوّل بأساميهم مدّعيا فيه الشهرة بقوله:

«والمشهور بين الأصحاب قديما وحديثا هو الأوّل، وهو اختيار المهذّب والكافي ومجمع البيان ومسائل ابن إدريس وسرائره وعزّيات المحقّق والذكرى والدروس والبيان وجامع المقاصد ومنهج السداد والروض والجامعيّة وشارح النجاة والمفاتيح وشرحه وشرح الألفيّة لوالد شيخنا البهائي، وظاهر المبسوط والشرائع وزبدة البيان والمسالك الجواديّة والأحكام الاستراباديّة» انتهى(3).

وفي الذكرى: «ظاهر الاصحاب أنّ وجوب الغسل مشروط بهذه الأمور فلا يجب في نفسه، سواء كان عن جنابة أو غيرها»(4).

ص: 37


1- مصابيح الاحكام: 107.
2- مصابيح الاحكام: 107.
3- مصابيح الأحكام: 107.
4- الذكرى 194:1.

وفي الحدائق: «تقييد وجوب الغسل بوجوب الغاية هو المشهور بين الأصحاب وقيل بوجوبه لنفسه»(1).

وعن البيان والمسالك والمسالك الجواديّة والأنوار القمريّة: أنّ ذلك هو مذهب الأكثر(2).

وعن زبدة البيان: أنّه مترجّح بالكثرة(3).

وعن الذخيرة: أنّ القول بخلافه قول بعض الأصحاب والقول به مذهب الباقين(4).

وعن السرائر: أنّه عزاه إلى محقّقي هذا الفنّ ومصنّفي كتب الاصول(5).

وعن العزّية: أنّ الّذي عليه فتوى الأصحاب أنّ الطهارة وجبت لكونها شرطا في غيرها، فوجوبها موقوف على وجوب ذلك المشروط وضوء كانت الطهارة أم غسلا كان.

وفي متأخّري الأصحاب من أوجب غسل الجنابة وإن لم يكن وصلة إلى غيره، والّذي عليه متقدّمو الأصحاب هو أنّ الطهارة بأجمعها لا تجب إلّا وصلة إلى ما هي شرط فيه، و أنّها قبل وجوب المشروط مندوبة لا واجبة(6).

وعن الروض: «أنّ القول بوجوب غسل الجنابة لنفسه غير معروف لأحد من المتقدّمين، وإنّما هو قول حادث(7).

وعن القواعد والتذكرة والنهاية التوقّف في حكم المسألة(8) كما عن صاحب الإشارة والذخيرة ومشرق الشمسين وشارح الاثني عشرية(9) وشارح الدروس(10) وإن كان يظهر منه الميل إلى وجوبه لنفسه.

والحقّ في ذلك أيضا - كما في الوضوء - من عدم وصفه إلّا بالوجوب لغيره، والعمدة من دليله - بعد الأصل - ظاهر قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (11) بناء على

ص: 38


1- الحدائق 61:3.
2- البيان: 3، المسالك 10:1، مسالك الأفهام للكاظمي 61:1، الأنوار القمريّة: الطهارة في غسل الجنابة.
3- زبدة البيان: 19، وفيه: «ويؤيده الكثرة...».
4- الذخيرة: 2.
5- السرائر 128:1.
6- الوسائل التسع (المسائل العزّيّة): 91.
7- روض الجنان 152:1.
8- القواعد 209:1، التذكرة 148:1، نهاية الإحكام 105:1.
9- إشارة السبق: 73، الذخيرة: 53، مشرق الشمسين: 300، الأنوار القمريّة: الطهارة في غسل الجنابة.
10- مشارق الشموس: 3.
11- المائدة: 6.

ما هو الحقّ المتّفق عليه المصرّح به في كلام أهل العربيّة من ظهور «الواو» في العطف، مع كون ما بعدها عطفا على شرط مقدّر مقابل له مقابلة التضادّ أو الإيجاب والسلب، فيكون تقدير الآية: إذا قمتم إلى الصلاة فإن لم تكونوا جنبا فتوضؤوا وإن كنتم جنبا فاطّهروا، أي اغتسلوا، كما أنّه كذلك العطف في قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغٰائِطِ أَوْ لاٰمَسْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (1).

فإنّ الكلّ وارد على نظم واحد، وهذه الشروط المتعاطفة بمقتضى الانفهام العرفي إنّما وردت في الكلام تفصيلا لموضوع الحكم المعلّق على الشرط المذكور بعد كلمة «إذا» فكأنه قيل: إذا قمتم إلى الصلاة يجب عليكم شيء مردّد بين الوضوء - ومحلّه غير الجنب الواجد للماء إذا لم يكن مريضا - والغسل الّذي محلّه الجنب الغير المريض الواجد للماء - والتيمّم الّذي محلّه المريض أو المحدث بالأصغر أو الأكبر الغير الواجد للماء - فالشرط الأوّل المعبّر عنه ب - «القيام» وارد في الكلام قيدا للحكم مرادا به انتفاء الحكم بانتفائه، وباقي الشروط المتعاطفة التي بعضها مقدّر وبعضها مذكور واردة قيودا لموضوع ذلك الحكم منوّعة لذلك الموضوع، فالحكم واحد وهو الوجوب ومتعلّقه متعدّد وهو أحد الامور الثلاث من الوضوء والغسل والتيمّم كلّ في محلّه، على قياس ما هو الحال في قولك: «إن جاءك زيد فأكرمه، وإن أبغضك فأهنه» فإنّ المنساق منه عرفا أنّه إن جاءك زيد فإن أحبّك فأكرمه، وإن أبغضك فأهنه. وحاصله: أنّه إن جاءك يجب عليك أحد الأمرين من الإكرام والإهانة كلّ على تقدير وقضيّه ذلك انتفاء ذلك الحكم المردّد موضوعه بانتفاء المجيء عملا بمقتضى مفهوم الشرط.

وهكذا يقال في مفاد الآية، فإنّه بمقتضى المفهوم يرجع إلى نفي الوجوب عن الامور الثلاث باجمعها عند انتفاء القيام المنتهي إلى الصلاة الملازم لوجوبها حسبما بيّنّاه سابقا، وقضيّة ذلك كون الوجوب في جميع الطهارات الثلاث غيريا وهو المطلوب.

وما ذكرناه من الوجه في الاستدلال بالآية هو الّذي يساعد عليه العرف والعادة حسبما يرشد إليه الوجدان والسليقة، ومن أنكره أو ذكر خلافه فقد كابر وجدانه. فمن هنا سقط القول بجعل «الواو» للاستئناف، أو جعل ما بعدها عطفا على الشرط المذكور لئلّا يكون

ص: 39


1- النساء: 43.

الاغتسال مرتّبا على القيام إلى الصلاة. وممّا يبطل هذا الاحتمال كون التيمّم ممّا اعتبر في الآية بدلا عن كلّ من الوضوء والغسل إجماعا.

وبحكم قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا (1) المرتّب على المجيء من الغائط وملامسة النساء، عقيب الكون على السفر الملائم لكلّ من الوضوء والغسل كملائمة المرض لهما، ومعلوم أنّ بدليته عن الوضوء يقتضي كونه واجبا بالغير، لامتناع تخلّف البدل مبدله في كون وجوبه لنفسه ووجوب مبدله لغيره، بقضائه بوجوب البدل في موضع لم يكن المبدل فيه واجبا، كما في خارج وقت المبدل، فتوجب أن يكون ما هو بدل من الغسل أيضا واجبا بالغير، وإلّا لزم كون شيء واحد في سياق واحد بصيغة واحدة واجبا لنفسه وواجبا لغيره، وكون الصيغة مرادا بها المطلق تارة والمقيّد اخرى، وهو كما ترى، مع استلزامه كون العاطف في قوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ (2) إلخ مستعملا في الاستئناف تارة وفي العطف أخرى، أو مرادا به العطف على الجملة الشرطيّة المصدّرة ب - «إذا» المستلزم لعدم ترتب المعطوف على القيام إلى الصلاة تارة، والعطف على الشرط المذكور في تلك الجملة المستلزم لترتّب المعطوف على القيام إلى الصلاة اخرى وهو أيضا كما تري، وإذا ثبت كون بدل الغسل واجبأ لغيره لزم أن يكون مبدله أيضا كذلك وإلّا لزم التخلّف المستحيل.

فإن قلت: في كلام غير واحد أنّه قد نقل عن اتّفاق المفسّرين أنّ المراد: «إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم محدثين بالحدث الأصغر» ويؤيّده ما ورد في الحديث المتقدّم ذكره قلت لأبي عبداللّه عليه السلام قوله تعالى: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ ما يعني بذلك ؟ قال: «إذا قمتم من النوم، قلت: ينقض النوم الوضوء؟ قال: نعم» الخ(3).

وحينئذ يكون قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً(4) عطفا على هذا المقدّر، فيكون التقدير: «إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم جنيا فاطّهروا» فيكون وجوب الاغتسال معلّقا على مجموع الامرين من القيام إلى الصلاة والاشتمال على حدث الجنابة، فإذا اعتبر المفهوم في ذلك كان مفاده انتفاء وجوب الاغتسال عند انتفاء مجموع الأمرين من حيث المجموع، ومعلوم أنّ انتفاء المجموع يكفي فيه انتفاء أحدهما، فإذا اعتبر كون المنتفي

ص: 40


1- النساء: 43.
2- المائدة: 6.
3- الوسائل 18:1 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 7.
4- المائدة: 6.

هو الجنابة فقط كان قضية المفهوم صادقة، ومعه لا يلزم عدم وجوب الاغتسال عند انتفاء القيام إلى الصلاة دون الجنابة، فالآية لا تنافي وجوب الغسل لنفسه.

قلت أوّلا. كون المعطوف مصدّرا بأداة الشرط يقضي بكون المعطوف عليه المقدّر أيضا مصدّرا بها، فالتفسير المذكور خطأ أو مسامحة مبنيّة على وضوح الأمر، وعليه لا يكون ما بعد «إن» جزء من الشرط الأوّل، بل هو شرط آخر اعتبر قيدا للموضوع لا الحكم، ومن حكم قيد الموضوع أن لا يراد به تعليق الحكم عليه ليستلزم كون اعتبار المفهوم من جهته اعتبارا للسالبة منتفية الموضوع، وهي لعدم كونها مفيدة غير لائقة بكلام الحكيم بل ينافي حكمته عند التحقيق، فالحكم في كلّ من المعطوف والمعطوف عليه معلّق على الشرط الأوّل في موضوع ينوّعه الشروط الاخر المتعاطفة حسبما بيّنّاه.

وثانيا: كون «الواو» - على فرض صحّة التفسير والمعنى المذكور - للعطف ممنوع، لقوّة احتمال كونها حاليّة إن لم نقل بظهورها فيها، فحينئذ يكون وجوب الوضوء معلّقا على القيام إلى الصلاة في حالة الحدث الأصغر، ووجوب الاغتسال معلّقا عليه في حالة الجنابة، فالحالتان ليستا من جزء الشرط المعلّق عليه الحكم، بل هما ترجعان أيضا إلى إحراز الموضوع، فيكون انتفاء الحكم مرتّبا على انتفاء القيام إلى الصلاة في الحالتين، وهو لا يلائم كون الغسل واجبا لنفسه.

وثالثا: أنّ انتفاء الحكم في المفهوم على التفسير المذكور إذا كان مرتّبا على انتفاء مجموع الأمرين فهذه قضيّة تصدق عند انتفاء كلّ من الأمرين وانتفاء هذا دون ذاك وانتفاء ذاك دون هذا، فالمفهوم يعمّ جميع الصور، ومعه يكون حمله على إرادة نفي الحكم عند انتفاء مجموع الأمرين من حيث هو لكن في ضمن انتفاء الجنابة وحدها تخصيصا في العامّ ، وهو مع فقد المخصص غير سائغ.

واستدل على المختار أيضا بروايات:

منها: ما تقدّم ذكره من صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، ولا صلاة إلّا بطهور» أورده في التهذيب في باب تفصيل واجب الصلاة(1) والصدوق في الفقيه أورده مرسلا(2).

ص: 41


1- التهذيب 140:2/546.
2- الفقيه 22:1/67.

وفي ذكرى الشهيد: «وهذا الخبر لم يذكره المتعرّضون لبحث هذه المسألة وهو من أقوى الأخبار سندا ودلالة»(1).

وجه الدلالة: ما سبق ذكره، فإنّ «الطهور» بمفهومه يعمّ الغسل أو الحالة الحاصلة من الغسل أيضا وقوله: «لا صلاة إلّا بطهور» تنبيه على وجه وجوب الطهور لئلّا يتوهّم كون الطهور واجبا في طرف العرض من الصلاة، وقضيّة الجمع بينه وبين الفقرة الاولى أنّ الطهور يجب لغيره وهو الصلاة، وإلّا لم يكن وجوبه مقيّدا بدخول الوقت كما هو لازم القول بالوجوب لنفسه على ما ذكروه. والمناقشة فيه ببعض ما سبق قد عرفت دفعها.

ومنها: ما رواه في الكافي عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن عبدالله بن يحيى الكاهلي، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «سألته عن المرأة يجامعها زوجها فتحيض وهي في المغتسل، تغتسل أو لا تغتسل ؟ قال: قد جاءها ما يفسد الصلاة فلا تغتسل»(2).

وجه الدلالة - واللّه أعلم -: أنّ قوله عليه السلام: «لا تغتسل» ليس نفيا تحريميا ولاتنزيهيّا بل هو إذن في ترك الاغتسال للجنابة، وقوله عليه السلام: «قد جاءها ما يفسد الصلاة» وارد مورد التعليل، فكأنّه قال: لا تغتسل، لأنّ الغرض من الاغتسال التوصّل إلى الصلاة وهو غير ممكن، لمكان مجيء مفسد الصلاة وهو حدث الحيض. وهذا المعنى هو الظاهر المنساق من الرواية عرفا.

فما يقال في المناقشة فيها - من أنّ انتفاء الغسل عند مجيء ما يفسد الصلاة لعلّه لأجل أنّ صحّة الغسل موقوفة على عدم تحقّق حدث لا يمكن ارتفاعه، وقد كنّي عنه في الرواية بمجيء ما يفسد الصلاة، فعند تحقق الحيض لم يكن غسل لعدم صحّته - ممّا لا ينبغي الالتفات إليه، لأنّ طروّ الاحتمالات البعيدة وعروض الشكوك الواهية ممّا لا يوجب رفع اليد عن ظواهر الأدلّة كتابا وسنّة، وإلّا انسدّ باب الاستدلال بالكتاب والسنّة بالمرّة.

ص: 42


1- الذكرى 194:1.
2- الوسائل 203:2 الباب 14 من أبواب الجنابة ح 1، التهذيب 370:1/1128.

ودعوى ظهور هذا المعنى أو كونه أظهر مردود على مدّعيها، كما لا يخفى وجهه على من له أدنى بصيرة في المحاورة، مع توجّه المنع إلى دعوى امتناع ارتفاع مطلق الحدث مع وجود حدث الحيض، وغاية ما يسلّم امتناعه إنّما هو ارتفاع حدث الحيض دون ما يعمّه والجنابة، فلم لا يجوز أن يكون حدث الجنابة ممكن الارتفاع مع وجود حدث الحيض، لكن رخّص في ترك الاغتسال لأجله من جهة عدم وجوبه حينئذ لامتناع التوصّل إلى ما هو شرط له، كما يومئ إليه ما رواه الشيخ في زيادات التهذيب في باب الحيض عن عمّار الساباطي عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «سألته عن المرأة يواقعها زوجها، ثمّ تحيض قبل أن تغتسل ؟ قال: إن شاءت أن تغتسل فعلت، وإن لم تفعل فليس عليها شيء، إذا طهرت اغتسلت غسلا الحيض والجنابه»(1) فإنّ هذا المعنى على أحد احتمالي الخبر مبنيّ على ما احتملناه من إمكان رفع حدث الجنابة حال الحيض وإن حكي الشهرة على منعه في بعض العبائر، والاحتمال الآخر في هذا الخبر كون الحكم المذكور مبنيّا على توسعة وقت الغسل إلى ظنّ الوفاة كما يدّعيه أهل القول بوجوبه لنفسه فلا يكون منافيا لهذا القول. وبالجملة دعوى امتناع رفع الحدث حال الحيض على إطلاقه لا دليل عليها والرواية ليست بصريح ولا ظاهرة فيه، بل ظاهرها نفي إمكان التوصّل إلى الصلاة مع وجود المفسد، من غير تعرّض إلى بيان إمكان رفع حدث الجنابة ونفي إمكانه.

نعم قد يناقش في صحّة سند الرواية تعليلا بأنّ «الكاهلي» لم يوثّقه أحد من أهل الرجال وإن كانوا مدحوه، فالمشهور حسن حاله لا توثيقه، لكن عن العلّامة في المنتهى والشهيدين في الذكري وروض الجنان وصفها بالصحّة(2) وعن العلّامة في المختلف أنّه وصف جملة روايات هو فيها بالصحّة(3) وعن الشهيد الثاني في الروضة(4) عند ذكر أنّ .

المسكين أسوأ حالا من الفقير أو العكس الحكم بصحّة رواية أبي بصير وهو فيها، وعن البلغة - وهو مختصر في الرجال للشيخ سليمان الماحوذي - أنّه قال: «قد ظفرت

ص: 43


1- الوسائل 315:2 الباب 22 من أبواب الحيض ح 4، التهذيب 396:1/1229.
2- المنتهى 257:2، الذكرى 194:1، روض الجنان 151:1.
3- المختلف 323:1.
4- الروضة البهيّة 350:1.

لهم في مواضع تقرب من مائة فصاعدا عدّ حديثه في الصحيح»(1).

وهذا كلّه كما ترى ممّا يشعر بتوثيقه. فما قيل: من أنّ المراد بها لعلّه الصحّة الإضافيّة لتوثيق باقي رجال السند ضعيف جدّا وبعيد عن طريقتهم، كيف ولو كان حملها على خلاف المعنى المصطلح عليه عند المتأخرين ممّا لابدّ منه فلم لا يحمل على إرادة الصحّة القدمائيّة ؟ وهي كون الراوي متّسما بالصدق متحرّزا عن الكذب ومعه صحّ التعويل على الرواية، والإطلاق عليه في كلامهم في غاية الكثرة، مع أنّ المحكيّ عن ابن إدريس في السرائر(2) أنّه احتجّ بهذا الحديث وهو لا بعمل من أخبار الآحاد إلّا بما كان معلوم الصدور فهذا أيضا آية الاعتبار، مع أنّ «الكاهلي» ممّن يروي عنه جماعة منهم ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى، وقد قال الشيخ: «إنّهما لا يرويان إلّا عن ثقة»(3) ومن هنا يعدّ روايتهما عن الرجل من أمارات الوثاقة، مع أنّه في رواية وجدت بخطّ جبرئيل بن أحمد قال: حدّثني محمّد بن عبدالله بن مهران عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه عن أخطل الكاهلي عن عبداللّه يحيى الكاهلي قال: «حججت فدخلت على أبي الحسن عليه السلام فقال لي: اعمل خيرا في سنتك هذه، فإنّ أجلك قد دنى، قال: فبكيت، فقال لي: ما يبكيك ؟ قلت: جعلت فداك نعيت إليّ نفسي، قال: أبشر فإنّك من شيعتنا وأنت إلى خير، قال أخطل: فما لبث عبداللّه بعد ذلك إلّا يسيرا»(4).

وبالجملة فالمظنون بملاحظة ما ذكر من القرائن وما لم يذكر وثاقته، ولو سلّم فالمظنون بالظنّ المتآخم للعلم اعتبار حديثه، فالمناقشة في سند الرواية في غير محلّها.

ومنها: ما رواه في الكافي أيضا عن سعيد بن يسار قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام «المرأة ترى الدم وهي جنب أتغتسل من الجنابة، أو غسل الجنابة والحيض واحد؟

فقال: قد أتاها ما هو أعظم من ذلك»(5).

والاستدلال بها ما نقله في المصابيح غير أنّ في صحّته نظرا، فإنّ ذلك إنّما

ص: 44


1- البلغة: 377/16، حكاه عنه في منتهى المقال 257:4، وفي البلغة زيادة وهي قوله: «وهو وهم». أي أنّ الحكم بصحّة رواياته وهم، لأنّه ليس من الثقات.
2- السرائر 128:1.
3- العدّة 154:1.
4- رجال الكشّي: 448/842.
5- الوسائل 314:2 الباب 22 من أبواب الحيض ح 2، الكافي 83:3/3.

يصحّ إذا اريد بقوله: «ما هو أعظم من ذلك» كونه أعظم في إفساد الصلاة ومنع التوصّل إليها، فحينئذ ينطبق على مفاد الرواية السابقة، وأمّا إذا اريد به كونه أعظم في منع صحّة الغسل ومنع إمكان رفع الحدث فلا، لعدم منافاته حينئذ كونه واجبا لنفسه وإنّما انتفى وجوبه عند وجود ما هو أعظم، لأنّ الغرض به رفع الحدث وهو غير ممكن مع وجود الأعظم.

***

حجّة القول بوجوبه لنفسه وجوه:

أحدها: قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (1) أنّه علّق وجوب التطهّر على الجنابة وحدها فيكون واجبا لنفسه غير مشروط بشيء.

وفيه: أنّه مبنيّ على توهّم فاسد بيّنّاه وأوضحنا وجه فساده بما لا مزيد عليه، ومع الغضّ عن ذلك فليس الآية في صدد التعرّض لبيان أنّ الغسل يجب لينظر إلى إطلاقها دليلا على نفي الغيريّة والاشتراط، بل هي مسوقة لبيان سببيّة الجنابة للوجوب، وهذه قضيّة صادقة على وجوبه مطلقا ووجوبه في وقت المشروط به فتأمّل.

وثانيها: قوله تعالى: وَ لاٰ جُنُباً إِلاّٰ عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا (2) فإنّ اللّه سبحانه نهى عن قربان الصلاة جنبا بدون الغسل فيكون حراما فيجب تركه، وهو يحصل بأمرين ترك القربان مطلقا أو تركه في تلك الحالة وعلى هذه الصفة، وإذ لم يجز الأوّل فتعيّن الثاني، فإذا فرض أنّ قبل دخول وقت الصلاة يمكن الغسل ويظنّ أو يعلم أنّ وقت الدخول لم يتيسّر لفقد الماء مثلا فحينئذ نقول: لا شك أنّ المعنى الثاني الّذي بيّنّا وجوبه إنّما يتوقّف على الغسل في هذا الوقت فيكون واجبا، بناء على وجوب ما يتوقّف عليه الواجب، وإذا ثبت الوجوب في بعض أوقات خارج الوقت فقد ثبت في جميعه بشرط الحدث لئلّا يلزم خرق الإجماع المركب، فثبت الوجوب النفسي، أو يقال: إذا ثبت الوجوب خارج الوقت في الجملة فقد بطل الوجوب الغيري لانتفاء لازمه أعني عدم

ص: 45


1- المائدة: 6.
2- النساء: 43.

الوجوب ما لم يدخل الوقت، هكذا قرّره المحقّق الخوانساري في شرحه للدروس(1).

وفيه: أنّ المعلّق في المطالب الاصوليّة أنّ النواهي المتعلّقة بالعبادة - ولا سيّما إذا كان لوصفها الخارج كما في المقام - يراد بها الإرشاد إلى ما هو حقيقة المأمور به، وبيان ما هو مورد الصحّة وتمييزه عمّا عداه ممّا يتخيّل ظنّا أو وهما كونه من موردها، فإن تعلّقت بها باعتبار الوصف الخارج كان مفادها مانعيّة ذلك الوصف أو شرطيّة خلافه، فقضية النهي المذكور إفادة كون الجنابة من مقولة الموانع أو كون الطهارة الحاصلة من الغسل من مقولة الشروط، فالغسل حينئذ لا يقصد به إلّا التوصّل إلى الصلاة برفع ما هو مانع عنها أو بإيجاد ما هو شرط لها، فحينئذ لو فرض تعلّق امر به كان مفاده وجوبه لغيره.

ولو سلّم أنّ النهي هنا يراد به التحريم فإمّا أن يراد به الحرمة التشريعيّة أو الحرمة الشرعيّة، فعلى الأوّل لا يستفاد منه إلّا كون التشريع من جهة أنّ الإتيان بها على هذه الصفة إتيانا بما ليس من المأمور به المشروع لوجود مانع أو فقد شرط، ولازمه أيضا كون الغسل مشروطا لغاية التوصّل إلى المأمور به المشروع، فيكون وجوبه حيثما ثبت غيريّا أيضا، وعلى الثاني لا يستفاد منه إلّا كون الغسل شرطا لإباحة الدخول في الصلاة المأمور بها كالوضوء بالقياس إلى مسّ كتابة القرآن، فإذا فرض تعلّق الأمر بهذا الغسل كان لغرض الإباحة وهو عين كونه واجبا لغيره.

ولو سلّم فكون الغسل مقدّمة لترك الصلاة في حال الجنابة ليس بأولى من كونه مقدّمة لفعل الصلاة حال الطهارة بل هو المتعيّن، وحيث إنّه مقدّمة شرطيّة فيكون وجوبه حيثما ثبت للتوصّل إلى الصلاة.

ولو سلّم لكن وجوبه في الصورة المفروضة من حيث المقدّمية ممنوع، لأنّ وجوب المقدّمة فرع على وجوب ذيها، والمكلّف قبل دخول وقت الصلاة لا يخاطب بالصلاة فلا يخاطب بتركها حال الجنابة في الوقت قبل دخوله، فهذا الترك ليس بواجب عليه في الصورة المفروضة ليجب مقدّمته.

ص: 46


1- مشارق الشموس: 30.

ولو سلّم وجوبه فهو وجوب مقدّمي، ومن المقرّر أنّ الوجوب المقدّمي غيريّ يعتبر للتوصّل إلى الغير، غاية الأمر عدم كون ذلك الغير على فرض المستدلّ هو الصلاة، وهذا لا ينفي غيرية الوجوب جزما.

ولو سلّم الوجوب حينئذ بملاحظة ما قرّرناه في محلّه من جواز اتّصاف المقدّمة بالوجوب قبل وجوب ذيها إذا علم أو ظن بأنّه في وقته المضروب له يصير واجبا فهو ليس إلّا وجوبا غيريّا، لما هو المقرّر عندهم من أنّ المقدّمة إذا كانت واجبة فهي من الواجبات الغيريّة، ولا ينافيه تقدّم وجوبها في الصورة المفروضة على دخول وقت الصلاة، لما بيّنّاه سابقا من أنّ ذلك ليس من خصائص الوجوب النفسي، ولذا منعنا ما ذكروه من الثمرة المتقدّم إلى بيانها الإشارة.

فالآية المذكورة على جميع التقادير المزبورة في طيّ الأجوبة تصلح لأن تؤخذ من أدلّة القول المختار ولا ربط لها في شيء من التقادير بالوجوب النفسي.

وثالثها: عدّة من الأخبار الآمرة بالغسل عند تحقّق سببه من غير تقيدها بما يقضي بغيريّة الوجوب.

منها: ما رواه في التهذيب في باب حكم الجنابة في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته متى يجب الغسل على الرجل والمرأة ؟ فقال: إذا أدخله فقد وجب الغسل والمهر والرجم»(1) فإنّه علّق وجوب الغسل على الإدخال فقط دون غيره، وأيضا وجوب المهر والرجم معلّق على الإدخال أيضا ولا خلاف في أنّهما غير مشترطين بشيء من العبادات فكذا الغسل بمقتضى العطف.

ومنها: ما فيه أيضا في الباب المذكور في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «جمع عمر بن الخطّاب أصحاب النبي صلى الله عليه و آله وسلم فقال: ما تقولون في الرجل يأتي أهله فيخالطها ولا ينزل ؟ فقالت الأنصار: الماء من الماء، وقال المهاجرون: إذا التقى الختانان فقد وجب عليه الغسل، فقال عمر لعليّ : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال علي عليه السلام:

أتوجبون عليه الحدّ والرجم ولا توجبون عليه صاعا من الماء، إذا التقى الختانان فقد

ص: 47


1- الوسائل 182:2 الباب 6 من أبواب الجنابة ح 1، التهذيب 118:1/310.

وجب عليه الغسل(1) والتقريب ما مرّ.

ومنها: ما فيه أيضا في الباب المذكور عن محمّد بن إسماعيل قال: «سألت الرضا عليه السلام عن الرجل يجامع المرأة قريبا من الفرج فلا ينزلان متى يجب الغسل ؟ فقال:

إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل»(2).

ومنها: ما في الباب المذكور أيضا عن عليّ بن يقطين قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يصيب الجارية البكر لا يفضي إليها أعليها غسل ؟ فقال: إذا وقع الختان على الختان فقد وجب الغسل، البكر وغير البكر»(3).

ومنها: ما فيه عن الحلبي قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن المفخّذ(4) أعليه غسل ؟

قال: نعم إذا أنزل»(5) والتقريب في الجميع ما مرّ.

والجواب عن الجميع ما تقدّم الإشارة إليه في الوضوء، فأوّل ما يدفعها: النقض بالوضوء وغسل الحيض والنفاس والاستحاضة ومسّ الأموات وغسل الثياب والأواني وغيرها عن النجاسات والأخباث، فإنّ الأوامر المطلقة واردة في الجميع مع عدم مصيرهم في شيء منها إلى الوجوب النفسي، ومن هنا قال المحقّق في العزّيّة - على ما حكي -: «وإخراج غسل الجنابة من دون ذلك تحكم بارد»(6) وقال الشهيد في البيان - على ما حكي -: «أنّه تحكم ظاهر»(7) وعن المحقّق الكركي أنّه قال: «وقطع النظر عن جميع النظائر بمجرّد الحجج المحتملة بعيد عن أنظار الفقهاء»(8).

وثاني ما يدفعها: أنّ إطلاق الاخبار المذكورة وغيرها إنّما هو وارد لمجرّد بيان سببيّة الجنابة للغسل من غير نظر إلى كيفيّة وجوبه، فليس الإطلاق مع بيان الحكم التكليفي بل هو مع بيان حكم وضعي فقط.

ص: 48


1- الوسائل 184:2 الباب 6 من ابواب الجنابة ح 5، التهذيب 119:1/314.
2- الوسائل 183:2 الباب 6 من ابواب الجنابة ح 2، التهذيب 118:1/311.
3- الوسائل 183:2 الباب 6 من أبواب الجنابة ح 3، التهذيب 118:1/312.
4- المفخّذ من أصاب من الجارية ما بين فخذيها (منه).
5- الوسائل 183:2 الباب 6 من أبواب الجنابة ح 3، التهذيب 118:1/312.
6- المسائل العزّيّة (الرسائل التسع): 100، وفيها: «فإخراج غسل الجنابة من ذلك كلّه تحكم بارد».
7- البيان: 3.
8- جامع المقاصد 263:1.

وثالث ما يدفعهما: معارضتها بما يوجب تقييدها من أدلّة القول بالوجوب الغيري كتابا وسنّة، وإن فرض دلالة بعضها باعتبار المفهوم.

ورابعها: ما حكاه المحقّق الخوانساري بأنّ القول بالوجوب الغيري والقول بفساد صوم من أصبح جنبا عامدا ممّا لا يجتمعان، مع أنّهم قائلون بالثاني فانتفى الاوّل.

ووجّه المنافاة: «بأنّ الوجوب بالغير إنّما يلزمه عدم وجوب الغسل ما لم يجب غايته، فلم يكن الغسل للصوم واجبا في الليل إذ لم يجب الصوم بعد، فلم يكن الصوم المذكور فاسدا»(1).

وجوابه: ما تقدّم من منع الملازمة، لجواز اتصاف ذي الغاية بالوجوب قبل الغاية.

هذا مع إمكان دفعه بما هو أخصّ من تلك القاعدة وهو أنّ الغسل إذا كان اعتباره من جهة كونه مقدّمة شرعيّة للصوم فلا يعقل له الوجوب إلّا قبل وجوب ذي المقدّمة، لأنّه واجب مضيّق منطبق على مجموع وقته المضروب له من البداية إلى النهاية من غير استثناء شيء من أجزائه، وقضيّة ذلك عدم جواز الإتيان بمقدّمته إلّا قبل دخول وقته المضروب له، وإلّا فلو حصل الإتيان بها بعد دخول وقته لزم تفويته في بعض أجزاء ذلك الوقت، وهو ينافي كون ذلك الجزء أوّل وقته، ويستلزم كون أوّل وقته ما بعد ذلك الجزء، وهو مع أنّه خلاف الفرض مشارك مع ما قبل الوقت في الإشكال، لأنّ ما قبل الوقت يصير حينئذ هو هذا الجزء، هذا.

وقد ايد هذا القول أيضا بروايات، منها: ما في باب الأغسال من التهذيب - في الصحيح - عن عبد الرحمن بن أبي عبدالله قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل يواقع أهله، أينام على ذلك ؟ قال: إنّ اللّه يتوفى الأنفس في منامها، ولا يدري ما يطرقه من البلية، إذا فرغ فليغتسل»(2).

ودفع: بالحمل على الاستحباب الّذي لا ينكره أهل القول بالوجوب الغيري، إذ لولاه لزم تضيق الغسل بالنوم وهم لا يقولون به، لإذعانهم كونه موسّعا إلى ظنّ الوفاة.

ومنها: ما في زيادات باب تلقين المحتضرين من التهذيب عن زرارة قال: «قلت

ص: 49


1- مشارق الشموس: 31.
2- الوسائل 228:2 الباب 25 من ابواب الجنابة ح 4، التهذيب 372:1/1137.

لأبي جعفر عليه السلام ميّت مات وهو جنب، كيف يغسّل ؟ وما يجزئه من الماء؟ قال: يغسّل غسلا واحدا يجزئ ذلك للجنابة ولغسل الميت، لأنّهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة»(1).

وفيه: وضوح الفرق بين حالة الحياة وحالة الممات والثانية حالة ملاقاة اللّه تعالى والملائكة وأهل الآخرة فلابعد في أن يجب عليه الغسل ليكون متطهّرا في تلك الحالة، وممّا يرشد إلى هذه النكتة بعض الروايات المتقدّمة في صدر هذا الجزء من الكتاب كروايتي محمّد بن سنان(2) والفضل بن شاذان(3) الواردتين في علّة تشريع غسل الميّت.

ومنها: خبر زرعة عن سماعة عن الجنب يجنب، ثمّ يريد النوم ؟ قال: «إن أحبّ أن يتوضّأ فليفعل، والغسل أحبّ إليّ وأفضل»(4).

وفيه: ما لا يخفى من وجود الأمارة الواضحة على الاستحباب، فإنّ الأمر بالوضوء وارد على جهة الاستحباب جزما، وكون الغسل أحبّ إليه عليه السلام وأفضل من الوضوء المستحبّ لا يقتضي أزيد من الاستحباب لأنّ المستحبّات قد تتفاوت في كون بعضها أفضل من بعض.

ومنها: ما تقدّم ذكره من رواية عمّار المذيّلة بقوله عليه السلام: «إن شاءت أن تغتسل فعلت، وإن لم تفعل فليس عليهما شيء، إذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة»(5).

وفيه: أنّ التعليق على المشيئة إلى زمان الطهر كما يلائم التوسعة على القول بالوجوب النفسي فكذلك الاستحباب على القول الآخر، فلا دلالة على الأوّل، والأمر بغسل واحد الحيض والجنابة إمّا استحبابي إن فرض الطهر في غير زمان العبادة المشترطة بالطهارة، أو غيريّ إن فرض في زمانه، والقرينة عليه ذكر الحيض مع الجنابة

ص: 50


1- الوسائل 539:2 الباب 31 من ابواب غسل الميّت ح 1، التهذيب 432:1/1384.
2- الوسائل 478:2 الباب 1 من أبواب غسل الميّت ح 3، تقدّم في الصفحة 6 الرقم 1.
3- الوسائل 478:2 الباب 1 من أبواب غسل الميّت ح 4، تقدّم في الصفحة 6 الرقم 2.
4- الوسائل 228:2 الباب 25 من ابواب الجنابة ح 6، التهذيب 370:1/1127.
5- الوسائل 315:2 الباب 22 من ابواب الحيض ح 4. تقدّم في الصفحة 43 الرقم 1.

الّذي لا قائل فيه بالوجوب النفسي كما تقدّم ذكره في صدر المسألة.

ومنها: ما عن البرقي في المحاسن عن معاذ بن مسلم عن أبي عبدالله عليه السلام «أنّه سئل عن الدين الّذي لا يقبل اللّه عن العباد غيره ولا يعذرهم على جهله ؟ فقال: شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّدا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم، والصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والغسل من الجنابة، وحجّ البيت، والإقرار بما جاء من عند اللّه جملة، والائتمام بأئمّة الحقّ من آل محمّد صلى الله عليه و آله وسلم»(1).

وفيه: أنّ ذلك لا ينافي الوجوب لغيره خصوصا مع ملاحظة توقّف عمدة أركان الدين كالصلوات والصوم ونحوه عليه، مع ما فيه من القدح في السند وعدم مقاومته لما سبق.

وبما ذكر ظهر الجواب عمّا روي أيضا عن علل الصدوق بإسناده عن الحسن بن عليّ عليه السلام قال: «جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فسأله أعلمهم عن مسائل فكان فيما سأل قال: لأيّ شيء أمر اللّه بالاغتسال من الجنابة ولم يأمر بالغسل من الغائط والبول ؟ فقال صلى الله عليه و آله وسلم: إنّ آدم لمّا أكل من الشجرة دبّ ذلك في عروقه وشعره وبشره، فإذا جامع الرجل أهله خرج الماء من كلّ عرق وشعره وجسده، فأوجب الله عزّ و جلّ على ذرّيته الاغتسال من الجنابة إلى يوم القيامة، والبول يخرج من فضلة الشراب الّذي يشربه الإنسان، والغائط يخرج من فضلة الطعام الّذي يأكله الإنسان فعليه في ذلك الوضوء»(2) فإنّه كما ترى مسوق لبيان علّة تشريع الغسل للجنابة والحكمة المقتضية لإيجابه فلا ينافيه الوجوب لغيره، كما يفصح عنه وروده هنا قبالا للوضوء كما لا يخفى، وفي معناه غيره ممّا يطّلع عليه المتتبّع.

ص: 51


1- الوسائل 28:1 الباب 1 من ابواب مقدّمة العبادات ح 38، المحاسن: 288/433.
2- الوسائل 179:2 الباب 2 من أبواب الجنابة ح 2، علل الشرايع: 282/2.

ينبوع [القول في الطهارات باعتبار غاياتها الواجبة و المندوبة و المباحة]

اشارة

تفصيل القول في الطهارات باعتبار غاياتها الواجبة والمندوبة والمباحة، المقتضية لوجوبها أو استحبابها يتمّ برسم مطالب.

المطلب الأوّل فيما يتعلّق بالوضوء

اشارة

وفيه مرحلتان:

المرحلة الأولى في الوضوءات الواجبة
اشارة

وهي تتضمّن مسائل:

المسألة الأولى: يجب الوضوء أصالة ومقدّمة للصلاة الواجبة بأصل الشرع أو بالعارض

عدا ما أخرجه الإجماع والنصوص المستفيضة حسبما يأتي إليه في محلّه الإشارة - أعني صلاة الجنازة إن قلنا بأنّها صلاة حقيقة على جهة الاشتراك لفظا أو معنى وإلّا فهي خارجة بظاهر العنوان - وكما أنّ الوضوء واجب لها فكذلك هو أو الأثر الحاصل منه شرط لها، والأصل في المسألة تكليفا ووضعا الإجماع محصّلا على حدّ الضرورة ومنقولا فوق حدّ الاستفاضة كما يطّلع عليه المتتبّع في كلام أساطين الفرقة، والأخبار البالغة معنى فوق حدّ التواتر المتكفّلة لبيان الوضوء وأركانه وآدابه والخلل الواقعة فيه وسائر الأحكام المتعلّقة به، بل هو في الحقيقة من ضروريّات الدين في الجملة، فإنّ كلّ من عرف من المسلمين وجوب الصلاة عرف وجوب الوضوء لها

ص: 52

واشتراطها به كما في كلام غير واحد من الأجلّة تصريحا واستظهارا، قال في مفتاح الكرامة: «ووجوبه للصلاة معلوم بالضرورة من الدين»(1) وفي المدارك: «وهذا الحكم - أعني وجوب الوضوء للصلاة الواجبة - مجمع عليه بين المسلمين، بل الظاهر أنّه من ضروريّات الدين»(2).

ويدلّ على الوجوب من الكتاب قوله عزّ من قائل: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا الآية(3) كما تمسّك به جماعة من أساطين الفقهاء، لقضائه بفهم العرف على وجوبه وكون الوجوب لأجل الصلاة، كما أنّه لو قيل: «إذا لقيت الأسد فخذ سلاحك» و «إذا قمت إلى الأمير فالبس ثيابك» كان المفهوم منه عرفا كون اخذ السلاح ولبس الثياب لأجل لقاء الأسد والعزم إلى محضر الأمير، وقد سمعت فيما سبق أكثر ما يتعلّق بالآية.

ونزيد هنا أنّ الظاهر المنساق منها أو المراد منها بملاحظة الإجماع والأخبار البيانيّة المثبتة للأحداث والنواقض أنّه إذا قمتم من الحدث إلى الصلاة كائنا ما كان ذلك الحدث، ولا ينافيه ما روي في تفسيرها من أنّ المراد بالقيام إليها القيام من حدث النوم كالمرويّ في التهذيبين في الموثّق عن ابن بكير قال: «قلت لأبي عبدالله عليه السلام: قوله إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ ما يعني بذلك إذا قمتم إلى الصلاة ؟ قال: إذا قمتم من النوم، قلت:

ينقض النوم الوضوء؟ قال: نعم إذا كان يغلب على السمع، ولا يسمع الصوت»(4)فلا حاجة إلى أن ينضمّ إليها عدم القول بالفرق بين الأحداث كما توهّمه صاحب الحدائق(5) فإنّ ذكر «النوم» مثال لرفع ما توهّمه بملاحظة إطلاق الآية من عموم التعبّد بالوضوء للصلاة بالنسبة إلى المحدث والمتطهّر، كما قد يؤخذ ذلك الإطلاق ممّا يخدش في الآية أيضا غفلة عن حقيقة الحال، فتصدّى الإمام عليه السلام لرفع هذا التوهّم بذكر ما يكون من مقولة الأحداث من باب المثال، ومن هنا فهم السائل من جوابه عليه السلام عموم الحكم بالقياس إلى سائر الأحداث فسأل عن ناقضيّة النوم فجاوبه عليه السلام بكلمة

ص: 53


1- مفتاح الكرامة 28:1.
2- المدارك 9:1.
3- المائدة: 6.
4- الوسائل 253:1 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 7، التهذيب 7:1/9، الاستبصار 1: 80/251.
5- الحدائق 121:2.

الإيجاب، وهذا كما ترى يقوم مقام العلّة المنصوصة الموجبة لتعدية الحكم إلى جميع ما يشارك النوم في الناقضيّة، فكأنّه عليه السلام قال: «إذا قمتم إليها من حدث النوم لأنّه ناقض للوضوء، وكلّ ناقض للوضوء يوجب الوضوء للصلاة عند القيام إليها».

ويمكن أن يقال: إنّ سؤال الراوي ثانيا يكشف عن كون هذه الكلّيّة معلومة لديه متلقّاة عن إمامه وإنّما حصل له بما جاوبه الإمام عليه السلام أوّلا شبهة موضوعيّة من باب الشك في الصغرى وهي اندراج النوم فيما ينقض الوضوء وعدمه، فجاوبه عليه السلام ثانيا بما يقضي له بإحراز تلك الصغرى المشكوك فيها لتنضمّ إلى الكلّيّة المعلومة له من باب الكبرى الكلّيّة. هذا مع أنّ لنا أن نقول: لا حاجة هنا إلى إحراز عموم في مدلول الآية أو رفع توهّم عموم فيما نحن بصدد إثباته من عروض الوجوب للوضوء لغاية واجبة هي الصلاة، ولا ريب أنّ هذا الغرض حاصل سواع عمّ مفادهما للمحدث والمتطهّر أو لا، وسواء اختصّ بحدث النوم أو عمّ سائر الأحداث، ومن هنا ترى أنّ أحدا من المتمسّكين بالآية هنا لم يتعرّض لتخصيص ولا تعميم.

نعم هنا شبهة أخرى، وهي أنّ مقتضي ظهور الآية وجوب الوضوء للصلوات المندوبة أيضا وهو مجمع على بطلانه، فيجب حمل الأمر على الاستحباب أو على القدر المشترك بينه وبين الوجوب، ومعه لا تصلح دليلا في المقام.

وفيه أوّلا: ما تقدّم الإشارة إليه من انصراف إطلاق الصلاة إلى الفرائض بل اليوميّة منها.

وثانيا: أنّ المحذور يندفع باعتبار التقييد وهو أولى من المجاز.

وثالثا: أنّ المجاز إن كان ولابدّ منه فليحمل الأمر على الإرشاد، لما هو مقرّر من أنّه في حيّز العبادات والمعاملات ظاهر في الإرشاد إلى ما هو مورد الأمر وحقيقة المأمور به، الّذي مرجعه إلى إثبات شرطيّة شيء ونحوها أو مانعيّة شيء ونحوها، فيستفاد منه هنا كون الوضوء المورث للطهارة شرطا للصلاة ولو مندوبة كما عليه الإجماع وتظافر الأخبار، فإذا انضمّت إليه قاعدة المقدّمية لزم كون الوضوء مندوبا للصلاة المندوبة وواجبا للواجبة، وقد نبّهنا في صدر المسألة على أنّ الوجوب المبحوث عنه هنا أعمّ من الاصلي والمقدّمي هذا.

ص: 54

ورابعا: منع استلزام الحمل على القدر المشترك خروجها عن صلوح الدليليّة، فإنّ القدر المشترك يتعيّن في ضمن خصوصيّاته بالدلالة الخارجيّة، والإجماع المدّعى على بطلان وجوب الوضوء للصلاة المندوبة يصلح دليلا على تخصيص القدر المشترك في المندوبة بالندب وفي الواجبة بالوجوب، فتأمّل.

ويدلّ عليه من السنّة ما رواه في التهذيب - في الصحيح - عن الحسين بن سعيد عن حمّاد عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، ولا صلاة إلّا بطهور»(1).

وما فيه أيضا بالسند المذكور عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لا صلاة إلّا بطهور»(2) وهذا لا يدلّ بصريح اللفظ إلّا على الشرطيّة، ويتمّ الوجوب بحكم المقدّمة.

وما رواه أيضا في طريق متكرّر أحدهما السند المذكور عن أبي جعفر عليه السلام قال:

قلت له: ما فرض الله من الصلاة ؟ فقال: «الوقت والطهور والركوع والسجود والقبلة والدعاء والتوجّه، قلت: فما سوى ذلك ؟ فقال: سنّة في فريضة».(3)

ويمكن أن يستدلّ عليه بما يأتي في روايات الطواف من موثّقة ابن عمّار عن أبي عبداللّه عليه السلام(4) ورواية أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام(5) الآمرتين بالوضوء للطواف تعليلا بأنّ فيه صلاة، بل هما بعد معرفة حقيقة هذا التعليل أقوى دلالة من غيرهما على شرطيّة الوضوء للصلاة، لأنّ مقتضي التعليل أنّ الصلاة عنوان اعتبر معه الوضوء، بل فيه دلالة على كون ذلك فيها مفروغا عنه معلوما لدى أصحاب الأئمّة بضرورة من دينهم.

ويبقى في المقام امور ينبغي التنبيه عليها من باب التفريع.

أحدها: أنّ إطلاق الفتاوى في الصلاة الواجبة الّتي هي معقد منقول الإجماعات يقضي بعدم الّفرق فيها بين اليوميّة وغيرها من بقيّة الصلوات الواجبة، ولا بين

ص: 55


1- الوسائل 372:1 الباب 4 من ابواب الوضوء ح 1، التهذيب 140:2/546.
2- الوسائل 365:1 الباب 1 من ابواب الوضوء ح 1، التهذيب 140:2/545.
3- الوسائل 295:4 الباب 1 من ابواب القبلة ح 1، التهذيب 141:2/955.
4- الوسائل 374:13 الباب 38 من أبواب الطواف، ح 1.
5- الوسائل 376:13، الباب 38 من أبواب الطواف، ح 6.

اختياريّاتها واضطراريّاتها بجميع أصنافها المختلفة، حتّى ما كان منها تسبيحا محضا كصلاة المطاردة وشدّة التحام الحرب، أو عقدا بالقلب وإخطارا بالبال كصلاة الغريق والمريض الّذي لا يستطيع الإتيان بشيء من الأفعال والأقوال، بل هو صريح جماعة من فحول المتأخّرين كالذخيرة والمصابيح وكشف الغطاء(1) وغيره، بل في المشارق:

«أنّ وجوب الوضوء بمعنى الشرطيّة وتوقّف الصحّة لجميع الصلوات الواجبة بل المندوبة أيضا سوى صلاة الجنازة ممّا لا ينبغي أن يشك فيه، للإجماع الصريح ودلالة بعض الأخبار عليه مثل «لا صلاة إلّا بطهور» إذ نفي الصحّة أقرب المجازات إلى الحقيقة الّتي هي نفى الوجود كما لا يخفى»(2) إلى آخر ما قال. وهو إن تمّ إجماعا بدعوى أنّ الإجماع المنعقد على أصل المسألة ينحلّ إلى إجماعين، بسيط وهو الإجماع على وجوب وشرطيته للصلاة الواجبة، ومركب وهو الإجماع على عدم الفرق بين سائر الصلوات واجبة ومندوبة، وإلّا فدليله بالنسبة إلى ما عدا اليوميّة غير واضح.

والاستدلال عليه ب - «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ » غير ناهض، لما تقدّم إليه الإشارة من انصراف إطلاق «الصلاة» عند المتشرّعة إلى اليوميّه من الفريضة خاصّة.

وأمّا الاستدلال ب - «لا صلاة إلّا بطهور» فنهوضه أيضا غير واضح إن أريد به ما في ذيل الصحيحة المتقدّمة المصدّرة بقوله: «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة» لانصرافها أيضا إلى اليوميّة بقرينة ظهور «الوقت» في المحدود المضبوط في أوّله وآخره، فالفرائض الاخر كالكسوفين وغيرهما وإن كان يفرض لها وقت وهو الّذي يتعيّن بظهور الآية مثلا غير أنّه غير محدود ولا مضبوط فلا ينصرف إليه قضيّة قوله عليه السلام:

«إذا دخل الوقت».

وإن اريد به الرواية الاخرى الغير المصدّرة بما ذكر فهو أيضا غير خال عن المناقشة، إمّا لاحتمال عدم مغائرتها للصحيحة المذكورة كما يومئ إليه اتّحاد السند، أو لاحتمال كون «الطهور» مرادا به الطهارة من الخبث بل الاستنجاء خاصّة، كما يومى

ص: 56


1- الذخيرة: 2، مصابيح الأحكام 501:1، كشف الغطاء 72:2-73.
2- مشارق الشموس: 7.

إليه الصحيحة المشتمل سندها على سند تلك الرواية عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لا صلاة إلّا بطهور، ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وأمّا البول فإنّه لابدّ من غسله»(1).

ولو سلّم أنّ تكرّر السند ظاهر في تعدّد الرواية وأنّ «الطهور» ظاهر في الحالة المناقضة للحدث والخبث معا أو ما يرفعهما معا - كما عليه مبنى الاستدلال بقوله تعالى: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (2) على مطهّريّة الماء عن كلّ من الحدث والخبث - لكن نقول: بأنّ الاستدلال على عموم الحكم إنّما يستقيم إذا ثبت كون الصلوات الواجبة بأسرها أفرادا ولو إضافيّة لماهيّة واحدة لا أنّها ماهيّات متبائنة أو قام قرينة على اعتبار الماهيّات أفرادا لقدر مشترك اعتباري كالمسمّى ونحوه، ولعلّ الكلّ منظور فيه.

وبالجملة قوله عليه السلام: «لا صلاة إلّا بطهور» على تقدير تعدّد الرواية فيه قد ورد على أنحاء.

منها: ما هو متصدّر بإناطة وجوب الطهور والصلاة بدخول الوقت.

ومنها: ما هو متذيّل ببيان حكم الاستنجاء.

ومنها: ما هو معرّى عن الصدر والذيل المذكورين.

ولا يتمّ الاستدلال بشيء منها، أمّا الاولى: فلعدم شمول «الصلاة» فيها لغير اليوميّه، وأمّا الثانية: فلعدم تناول «الطهور» فيهما للوضوء، وأمّا الثالثة: فمع احتمال كونها بحسب الواقع من المتصدّرة أو من المذيّلة يتطرّق المنع إلى دلالتها على التعميم المقصود في المقام، لتوقّفها على ثبوت إحدى مقدّمتين غير ثابتتين. لكنّ الإنصاف أنّ المناقشة في الدلالة غير متّجهة، لأنّ الماهيّة في مفاد كلمة «لا» النافية لأفراد ماهيّة واحدة أعمّ من الماهية النوعيّة والماهيّة الجنسيّة، والصلوات الواجبة مع المندوبة وإن كانت ماهيّات مختلفة إلّا أنّها انواع لماهيّة جنسيّة، وهذا الجنس بما هو جنس وإن لم يكن محمولا

ص: 57


1- الوسائل 315:1 الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة ح 1، التهذيب 49:1/144.
2- الفرقان: 51.

إلّا أنه يكفي في ثبوته كونه قدرا مشتركا منتزعا عن أنواعها، فتكون تلك الأنواع أفراد إضافيّة فيصحّ توجّه النفي إليها، والمفروض أنّه بعد تعذّر الحقيقة - وهو نفي الجنس - يتوجّه إلى الصحّة وبه يتمّ المطلوب، لأنّ اللازم من نفي الصحّة شرطيّة الطهور للماهيّة الجنسيّة، وهذا يقضي بشرطيته لجميع الأنواع المندرجة تحتها حتّى الصلوات المندوبة.

لا يقال: لو صرف النفي إلى الأصناف المندرجة تحت اليوميّة من الاختياريّات والاضطراريّات كان النفي راجعا إلى الأفراد الإضافيّه لماهيّه واحدة مع إفادته العموم في أفرادها، فلم يلزم وجوب الوضوء ولا شرطيّته لبقيّة الصلوات.

لأنّه تخصيص في العامّ من دون مخصص فإنّ «لا صلاة» ظاهر في نفي الصحّة عن جميع الماهيّات الصالحة للجعل، واليوميّة بجميع مصاديقها بعض منها، ولا ينافيه ما تقدّم في منع الاستدلال بالآية من دعوى انصراف الصلاة إلى اليوميّة، لأنّ ذلك من أحكام المطلق ومبنى الاستدلال بالرواية على العامّ .

والقول بأنّ العامّ أيضا لا ينصرف إلى أندر الأفراد وإن انصرف إلى نادرها على خلاف المطلق على فرض صحّته، إنّما يسلّم في الجملة كما لو كان العامّ من غير النكرة المنفيّة في حيّز الإثبات، وأمّا هي فلا فرق فيها بملاحظة فهم العرف بين أفرادها من الشائعة والنادرة وغيرها كما يظهر بأدنى تأمّل.

وثانيها: صرّح غير واحد من الأصحاب بإلحاق الأجزاء المنسيّة للصلاة الواجبة من السجدة والتشهّد بها في وجوب الوضوء لها واشتراطها بالطهارة، وعلّله في المدارك:

«بأنّ شرط الكلّ شرط لجزئه»(1) وهو كذلك، بل هو على ما يظهر بالتأمّل محلّ وفاق، ولذا ترى أنّ المتصدّين لنقل خلافيّات هذا المقام كما في الإقامة وسجود السهو - على ما ستعرف الخلاف فيهما - لم يجعلوا ذلك من جملتها، ولا أنّهم نقلوا فيها خلافا.

ومن هذا الباب الصلوات الاحتياطيّة الوجوبيّة - بناء على أنّها مؤدّاة بدلا عن الجزء الفائت من الصلاة - فيجري عليها حكم الأجزاء، ولك أن تستفيد الحكم فيها من الرواية المتقدّمة النادية للصحّة عمّا لا طهور فيه من الماهيّات المجعولة في مقام الطلب لأنّها منها.

ص: 58


1- المدارك 9:1.

وبالجملة الاحتياط إمّا جزء من الصلاة أو هي بنفسها صلاة، وأيا ما كان فيجب فيه الطهارة، ومن هنا قال الشهيد في الذكرى: «لا بدّ في الاحتياط من النيّة وتكبيرة الإحرام وجميع شرائط الصلاة وأركانها، لأنّه إمّا جزء من الصلاة أو صلاة منفردة، فيجب فيه مراعاة ما يعتبر في الصلاة»(1).

وثالثها: يجوز للمحدث سجود الشكر ولا يشترط فيه الطهارة، وفي المصابيح:

«وهو محلّ وفاق»(2) ويستحبّ الطهارة له لقول الصادق عليه السلام: «من سجد سجدة الشكر وهو متوضّئ كتب الله له بها عشر صلوات، ويمحى عنه عشر خطايا عظام»(3).

وامّا سجدات التلاوة: فإن كانت لغير العزائم فلا يشترط فيها الطهارة بلا خلاف كما في المصابيح(4) وإن كانت للعزائم فالمشهور بين الأصحاب عدم اشتراطها بالطهارة أيضا، وهو الأظهر. وحكى الشهيد في الذكرى(5) عن ابن الجنيد اعتبار الطهارة لها، وهاهنا عبارات آخر للمقنعة والتهذيب والانتصار تقضي باشتراط الطهارة لمطلق السجود الواجب(6) ولتفصيل الكلام في كلّ ذلك مقام آخر يأتي إن شاء اللّه.

وأمّا سجود السهو: ففيه قولان، اشهرهما - كما في المصابيح(7) - المنع، وهو مقتضي ما تقدّم الإشارة إليه من إطلاق الشيخين والمرتضى، مع تصريح الأوّلين بنفي الخلاف في تعليل منع الحائض عن قراءة سور العزائم بقولهما: «لأنّ في هذه السور سجودا واجبا ولا يجوز إلّا للطاهر من النجاسات بلا خلاف».

وحكي التنصيص باشتراط الطهارة فيه عن ابن إدريس في السرائر والعلّامة في النهاية وطهارة التذكرة والشهيدين والمحقّق الكركي وعن جماعة من شرّاح الألفيّة والجعفريّة والإثني عشريّة اختياره، وعن الذخيرة: «والاشتراط أولى» وعن المسالك الجامعية: «أنّه قول الأكثر» وعن الفوائد السنيّة: «أنّه الظاهر وعليه عمل الاصحاب»(8).

ص: 59


1- الذكرى 81:4.
2- مصابيح الأحكام 530:1.
3- الوسائل 5:7/1 الباب 1 من أبواب سجدتي الشكر، الفقيه 218:1/971.
4- مصابيح الأحكام 531:1.
5- الذكرى 471:2.
6- المقنعة: 52، التهذيب 129:1، الانتصار: 122 حيث قال: «والسجود لا يكون إلّا على طهر».
7- مصابيح الأحكام 536:1.
8- حكي عنهم في مصابيح الأحكام: 76.

وفي الذكرى - كما عن الدروس والبيان واللمعة والجعفريّة والموجز وشرحه - «أنّه يعتبر فيهما جميع ما يعتبر في سجود الصلاة»(1) فيفهم منه الاشتراط بناء على أنّ المراد ما يعمّ الكيفيّات والشروط، وربّما فهم ذلك أيضا من قولهم: «إنّما هو سجدتان بغير ركوع ولا قراءة» كما في المراسم والغنية وجمل العلم والعمل(2) لما في التنصيص على نفيهما من الإشعار بثبوت غيرهما ممّا يعتبر في الصلاة.

والقول الآخر وهو عدم الاشتراط خيرة التحرير ومجمع البرهان(3) وشرح الروضة وظاهر كنز الفوائد والمهذّب البارع والطالبيّة وشرح الجعفريّة(4).

وعن العلّامة في القواعد وموضع من التذكرة التوقّف(5). وقد يستظهر التوقّف عن معالم الدين القائل بأنّه: «ولا يجب التكبير والطهارة والاستقبال على توقّف»(6) وفي المدارك: «وهو أحوط»(7) وعزي إلى التنقيح والذخيرة والمفاتيح(8).

واستظهر القول بالعدم أيضا من كلّ ما خلى عن هذا الشرط بخصوصه كالمقنع والمقنعة والنهاية والمبسوط والاقتصاد والجمل والعقود وجمل العلم والعمل والمراسم والكافي والغنية والوسيلة والشرائع والنافع والمعتبر والمنتهى(9) وغيرها من كتب القدماء والمتأخّرين عدا ما وجد فيه التصريح بالاشتراط أو ظهر منه ذلك

ص: 60


1- الدروس 145:1، البيان: 282، اللمعة الدمشقية: 17، الجعفريّة (رسائل المحقق الكركي 4): 182، الموجز الحاوي (ضمن الرسائل العشر لابن فهد الحلّي): 108، كشف الالتباس (مخطوط): 238، الذكري 94:4.
2- المراسم: 90، الغنية: 114، جمل العلم والعمل 37:3.
3- التحرير 307:1، مجمع الفائدة والبرهان 65:1-66.
4- كنز الفوائد 142:1، المهذب البارع 451:1، الفوائد العليّة في شرح الجعفريّة: 21-22، شرح الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي): 14.
5- القواعد 308:1، التذكرة 363:3.
6- فقه المعالم 181:1.
7- المدارك 286:4.
8- النتقيح الرائع 266:1، الذخيرة: 382، مفاتيح الشرائع 177:1.
9- المقنع: 110، المقنعة: 148، النهاية: 93، المبسوط 125:1، الاقتصاد: 407، الجمل والعقود: 189، جمل العلم والعمل 37:3، المراسم: 90، الكافي في الفقه 148، الغنية: 114، الوسيلة: 102، الشرائع 116:1، النافع: 69، المعتبر 400:2، المنتهى 80:7-84.

كالإيضاح(1) ونحوه، بناء على أنّ الظاهر من عدم التعرّض لمثل ذلك في محلّه عدم القول به، وخصوصا مع ضبط جملة من الغايات الّتي يجب لها الوضوء أو الغسل من دون إشارة إلى سجود السهو هنا.

ودفع: بأنّ الحكم في المسألة نفيا وإثباتا لكونه في غاية الإشكال، وهي ممّا يعمّ به البلوى وتتوفّر إليه الدواعي فالمناسب في مثله هو التصريح والبيان، وعدم البيان خصوصا مع فقد النصّ من الطرفين وارتباط هذا السجود بالصلاة المشروطة بالطهارة وكونه جبرانا لها ورافعا لما وقع فيها من النقص والخلل، فالأليق بذلك أن يكون الوجه في عدم التعرّض ما رسخ في الأذهان من كونه بمنزلة الجزء المتمّم للصلاة أو وقوعه بعدها غالبا من غير فصل ولا تخلّل حدث، وكان ذلك كالمغني عن ذكر اشتراطه بالطهارة، ومن هنا لم يتعرّض الأكثر لاشتراطها في الأجزاء المنسيّة، فبناء ذلك على عدم الاشتراط فيها في غاية البعد، فلو صحّ ذلك لكانت الأجزاء غير مشروطة بالطهارة عندهم وهو كالمقطوع بفساده، والقائل بعدم الاشتراط في سجود السهو لا يلتزمه ولا يقول به.

وممّا يؤيّد ما قلنا: أنّ أكثر المتأخّرين نصّوا على عدم اشتراط الطهارة في سجود العزائم وسجود الشكر مع عدم تعلّقهما بالصلاة وبعد توهّم الاشتراط فيهما غاية البعد، فلو كان عدم الاشتراط هو الباعث على عدم التعرّض لكان غير سجود السهو أولى بعدم التعرّض.

وأيضا فإنّ كثيرا من القدماء أهملوا بيان الكيفيّة والشرائط بالكلّيّة ولم يذكروا في سجود السهو أكثر من وجوبهما في مواضعهما المعينة، ومن البعيد أن يكون ذلك لعدم اعتبار الكيفيّة عندهم مع وروده في النصوص وإطباق المعظم على وجوب التشهّد والتسليم ولزوم الذكر بل تعيّن القول فيه. فممّا ذكر ولم يذكر يعلم أنّ عدم تعرّضهم للطهارة ليس للقطع بعدم الوجوب، بل غاية ما هناك أن يكون منشاؤه التوقّف في الحكم وعدم القطع بشيء من الإثبات والنفي، إن لم نقل بكونه لترجيح الاشتراط.

فعلم بجميع ما ذكر شذوذ القول بعدم الاشتراط، فإنّ الأصل فيه هو العلّامة رحمه الله

ص: 61


1- إيضاح الفوائد 144:1.

الّذي اختلف كلامه، فاستقرب النفي تارة(1) وتردّد فيه اخرى(2) وقطع بالاشتراط في النهاية(3) وغيرها(4).

وكيف كان فالمنقول من حجج القول بالاشتراط - بعد منقول الإجماع و عمل الأصحاب والشهرة والاحتياط - أنّه سجود واجب شرّع لتكميل الصلاة وجبر الخلل الواقع فيها، فيكون بمنزلة الجزء الفائت في صورة النقص، فيشترط فيه ما يشترط في الأصل.

وأنّه قد ورد فيه الاستقبال وروعي فيه الوقت ونيّة الأداء والقضاء عند من اعتبرهما، ويثبت الحكم في غيرها بعدم القائل بالفصل.

وأنّ الذمّة قد اشتغلت به وبالصلاة يقينا، فلا تبرأ إلّا باليقين وهو متوقّف على الطهارة.

وأنّ العبادة اسم للصحيحة ولا نعلم الصحّة إلّا بالإتيان بكلّ ما يحتمل اشتراطه فيه.

والنصوص المستفيضة المتضمّنة للأمر بسجدتي السهو بعد السلام وقبل الكلام(5)والأخبار المتضمّنه لكونهما سجدتين بغير ركوع ولا قراءة(6) وما دلّ على أنّه يسجدهما وهو جالس(7) وما تضمّن(8) الأمر بهما ب - «فاء» الجزاء بناء على دلالته على الفوريّة.

والمنقول من حجج القول بعدم الاشتراط الأصل، ووجوب الفوريّة المنافية لتخلّل الطهارة، وإطلاق الأمر بسجود السهو المتناول للمتطهّر والمحدث، وما رواه الشيخ في الموثّق عن عمّار الساباطي قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الرجل إذا سها في الصلاة فينسى أن يسجد سجدة السهو؟ قال: يسجدها متى ما ذكر»(9).

أقول: أنت إذا تأمّلت في أكثر حجج الطرفين لوجدتها بيّنة الضعف، فالإنصاف أنّ الأصل المذكور في أدلّة القول بنفي الاشتراط - أعني أصالة البراءة عمّا زاد على

ص: 62


1- تحرير الأحكام 307:1.
2- القواعد 308:1.
3- نهاة الإحكام 548:1.
4- التذكرة 137:1.
5- انظر الوسائل 207:8، الباب 5 من ابواب الخلل.
6- الوسائل 224:8، 234 الباب 20 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 4 و 2.
7- الوسائل 224:8 الباب 14 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 3.
8- الوسائل 250:8 الباب 32 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 2.
9- الوسائل 250:8 الباب 32 من أبواب الخلل ح 2، التهذيب 353:2/1466.

ما ثبت اعتباره بالأدلّة - أصل محكم علي ما حقّق في محلّه، فلا يرفع اليد عنه إلّا بمخرج صحيح ورافع لموضوعه، ولا يعارضه الاحتياط إن أريد به الاستحبابي وإلّا فلا دليل على وجوبه في نظائر المقام.

ويقين الشغل إنّما يقتضي يقين البراءة في مورد الشغل ولم يثبت بالدليل كون الطهارة من مورده، فإذا نفي اعتبارها بالأصل كان ذلك علما شرعيّا بالبراءة.

وكون الوجوب لمجرّد ما ذكر بمنزلة الجزء الفائت ممنوع، لبطلان القياس، مع وضوح الفرق بينهما، فإنّ الكلّ إذا اشترط بشيء فلا محالة يكون أجزاؤه أيضا مشترطة به، إذ لا وجود لها سوى وجوده، فلا يعقل اشتراطه بما لا يشترط الأجزاءه الموجودة فيه، ومن هنا لو أحدث في إحدى السجدتين الأخيرتين مثلا أو في التشهّد أو التعليم بطلت صلاته إجماعا، وليس كذلك سجود السهو فإنّه جبران للخلل لا قضاء عن الفائت المشروط بالطهارة، حتّى ما يؤتى به للسجدة أو التشهّد المنسيّين، لأنّ سجود السهو امر زائد على قضائيهما.

والإجماع على عدم الفصل غير معلوم، وبدونه لا مانع من القول بالفصل إذا أدّي إليه شيء من الطرق الشرعيّة ولو كان هو الأصل.

وكون العبادة اسما للصحيحة ممنوع، بل الأصحّ على ما قرّر في محلّه كونها للأعمّ .

وأمّا النصوص فليس فيها إلّا إيماءآت وإشعارات، بل أقصى ما فيها عدم الدلالة على نفي الاشتراط، وأمّا الدلالة على الاشتراط فلا، كيف وليس فيها إلّا الدلالة على وجوب المبادرة التي يغلب فيها المقارنة للطهارة، وليس ذلك من اشتراط الطهارة في شيء، وإنّما ينفع هذه الغلبة فيما لو دلّ من الخارج دليل على الاشتراط فعورض بخلوّ تلك النصوص عن الاشتراط، فيدفع حينئذ بأنّ النكتة في عدم ذكر الشرط غلبة وجوده في محلّ السجود الّذي هو زمان الفور المعبّر عنه تارة بما بعد التسليم وقبل التكلّم، وأخرى بما بعد الفراغ عن الصلاة الظاهر في الاتّصال، فلا منافاة بين النصوص وما فرض من الدليل، والمفروض أنّ الدليل غير واضح.

نعم يمكن أن يقال: إنّ هنا قضيّتين متسالمتين أثبتهما الإجماع نقلا وتحصيلا، إحداهما: أنّ سجود السهو في مواضع وجوبه واجب فوري.

ص: 63

واخراهما: أنّ الطهارة لسجود السهو امر جائز، فلو أحدث من عليه هذا السجود قبل أدائه يجوز له تحصيل الطهارة ليأتي به متطهّرا، فحينئذ لو تخلّلت الطهارة فيما بين الصلاة والسجود فلابدّ إمّا من إلغاء الفوريّة، أو الحكم عليها بالحرمة، أو الحكم بتأخّر زمان الفور عن زمن وقوعها، والأوّلان منفيان بالإجماع المذكور، والأخير ينفيه ما هو المحقّق في محلّه من أنّ زمان الفور إنّما هو أوّل أزمنة إمكان الفعل، ولا ريب أنّ أوّل أزمنة إمكانه على تقدير عدم مدخليّة الطهارة في صحّته إنّما هو زمان وقوع الطهارة، فلا محيص حينئذ من القول بالمدخليّة واشتراط الصحّة بالطهارة، ليكون ما بعد زمان الطهارة هو أوّل أزمنة الإمكان، لأنّه على تقدير المدخليّة والاشتراط بدونها غير ممكن، فالتمسّك بالأصل لنفي الاشتراط مع القول بالفوريّة وجواز الطهارة ممّا لا يجتمعان، ولا نظنّ أنّ القائل بعدم الاشتراط يلتزم عدم الفوريّة أو عدم جواز الطهارة.

فإن قلت: لو فاتت الفورية بإدراك الطهارة لكان مصلحة الطهارة ممّا يتدارك به مصلحة الفوريّة، والّذي يقول بجواز الطهارة يقول برجحانها، فلا مانع من إهمال الفوريّة إدراكا لمصلحة الطهارة.

قلت: ما فرض من المصلحة في الطهارة إن كانت مصلحة ملزمة فهو التزام بوجوب الطهارة، وهو على ما عرفت لا ينافي الفوريّة، فمصلحة الفوريّة حينئذ غير فائتة، وإن كانت غير ملزمة فلا يتدارك بها مصلحة الفوريّة، ضرورة أنّه من المستحيل بدليّة المصلحة الغير الملزمة عن المصلحة الملزمة.

وبما قرّرناه اندفع ما ذكر في حجج القول بعدم الاشتراط من دعوي منافاة وجوب الفوريّة لتخلّل الطهارة، بل اندفع الاستدلال بالموثّقة المتقدّمة أيضا، إذ لا إطلاق فيها بحيث ينفي اشتراط الطهارة بعد ملاحظة حيثيّة السؤال المسوق لأجلها الجواب، فإنّ قصارى ما فيها أنّ السائل سأله عن فوات الفوريّة بانقضاء زمانها لتخلّل النسيان، بتوهّم أنّ الفوريّة هنا بمعنى كون الفعل مضيّقا من حيث الرخصة والإجزاء معا، فقوله:

«يسجدها متى ما ذكر» دفع لهذا التوهّم بإفادة أنّ الفورية هنا بمعنى تضيّق زمان الرخصة دون الإجزاء.

فمفاده: أنّ السجود هنا موسّع من حيث الإجزاء وإن كان مضيّقا من حيث

ص: 64

الرخصة، وهذا كما ترى ممّا لا ربط له بإفادة عدم شرطيّة الطهارة.

فيتبيّن بجميع ما ذكر أنّ الأقوى وجوب الطهارة لسجود السهو، ويتأكد ذلك بملاحظة ما تقدّم عن الشيخين من نفي الخلاف، وعن غيرهما من دعوى عمل الأصحاب ومصير المعظم وغيره ممّا ذكر وما لم يذكر.

ورابعها: الأقرب عدم اشتراط مقدّمات الصلاة - من الأذان والإقامة والدعاء بينهما وبعدهما والتكبيرات الستّ إذا قدّمت على تكبيرة الإحرام - بالطهارة، وهو فيما عدا.

الإقامة محلّ وفاق كما في المصابيح(1) وعليه المعظم فيها، وعزي إلى الأكثر كما عن البحار وعن ظاهر الغنية والروضة الإجماع عليه(2) خلافا لجماعة صاروا فيها إلى اشتراط الطهارة، وهم على ما حكي السيّد المرتضى في المصباح والجمل وابن الجنيد(3)والعلّامة في المنتهى(4) وفي الحبل المتين: «أنّ القول به غير بعيد»(5).

ومعلوم أنّ البحث هنا ليس في وجوب الطهارة بالمعنى المصطلح عليه لينافي استحباب أصل الإقامة، ولو وجد التعبير عنه في بعض العبائر بالوجوب فيراد به الوجوب الشرطي مجازا، فسقط بذلك ما استدلّ في المختلف على عدم الوجوب: «بأنّ الإقامة في نفسها مستحبّة فلا يعقل وجوب صفتها»(6) فإنّ الوجوب بمعنى الشرطيّة لا ينافي الاستحباب كما في وجوب الطهارة للنافلة، غاية الأمر استلزامه كون الإقامة خالية عنها بقصد الورود على القول بالشرطيّة محرّمة من جهة التشريع، ولا ضير فيه، كما في النافلة أيضا. وكيف كان فلنا على المختار - بعد الأصل النافي لاحتمال الحرمة عمّا خلى عن الطهارة - صحيحة زرارة المرويّة في الفقيه عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«تؤذّن وأنت على غير وضوء في توب واحد، قائما أو قاعدا، وأينما توجّهت، ولكن إذا أقمت فعلى وضوء متهيئا للصلاة»(7) فإنّ ترتّب الجزاء على الشرط يقضي بتأخّر وقوعه عن وقوع الشرط، كما في قولك: «إذا جاءك زيد فأكرمه» وقضيّة تأخّر وقوع

ص: 65


1- مصابيح الأحكام 516:1.
2- بحار الأنوار 137:81، الغنية: 73، الروضة البهية 585:1.
3- راجع المختلف 124:2.
4- المنتهى 400:4.
5- الحبل المتين: 664.
6- المختلف 124:2.
7- الوسائل 391:5 الباب 9 من أبواب الأذان والإقامة ح 1، الفقيه 183:1/866.

الكون على الوضوء عن الإقامة كونه معتبرا لأجل الصلاة لا لأجل الإقامة.

ولو سلّم ظهور الشرطيّة هنا في وقوع الكون على الوضوء حال الإقامة، لكن تقييد الجزاء بالتهيّؤ للصلاة - بمعنى كونه قاصدا للدخول بعد الإقامة بلا فصل في الصلاة - يقضي بمنطوقه بحكم العرف يكون الغرض الداعي إلى الكون على الوضوء إنّما هو الدخول في الصلاة، ولو اعتبر المفهوم لهذا القيد من باب مفهوم الوصف كانت الدلالة أوضح كما لا يخفى.

وعليه يتعيّن حمل ما عن عليّ بن جعفر - في كتاب المسائل عن أخيه موسى عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يؤذّن ويقيم وهو على غير وضوء أيجزئه ذلك ؟ قال: أمّا الأذان فلا بأس، وأمّا الإقامة فلا يقيم إلّا على وضوء، قلت: فإن أقام وهو على غير وضوء أيصلّي بإقامته ؟ قال: لا»(1) - على الكراهة، على معنى كراهة الصلاة بإقامة حاصلة على غير وضوء، بحمل «لا بأس» بالنسبة إلى الأذان على نفي المنقصة الشاملة لما في المكروه، فيحصل الفرق بين الأذان والإقامة مع اشتراكهما في استحباب وقوعهما على وضوء، للاجماع في كون الأوّل على غير وضوء غير مكروه والثاني مكروها، وبذلك يتّجه الالتزام بتأكد استحباب وقوع الإقامة على وضوء، ولا مناص من الحمل المذكور ضرورة أنّ الصلاة بدون الإقامة رأسا جائزة فضلا عنها مع الإقامة الفاسدة، فإنّ أقصى ما يقتضيه اشتراط الإقامة بالطهارة فسادها إذا وقعت بلا وضوء، فالمنع عن الصلاة معها ممّا لا وجه له، إلّا إذا حمل على ضرب من الكراهة.

ولو سلّم أنّها لا تستلزم صحّة الوضوء المفروض مع ما فيه من نوع الكراهة فلا نسلّم استلزامها فساد الوضوء أيضا، فسقطت الرواية عن الدلالة على اشتراط الإقامة بالطهارة.

وبجميع ما ذكر يهون الأمر في روايات آخر استدلّ بها أهل القول بالاشتراط كصحيحة عبداللّه بن سنان - الثقة - عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «لا بأس أن تؤذّن وأنت على غير طهور، ولا تقيم إلّا وأنت على وضوء»(2).

ص: 66


1- الوسائل 3935 الباب 9 من أبواب الأذان والإقامة ح 8، مسائل عليّ بن جعفر: 197150.
2- الوسائل 392:5 الباب 9 من أبواب الأذان والإقامة ح 3، التهذيب 53:2/179.

وحسنة الحلبي عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «لا بأس أن يؤذّن الرجل من غير وضوء، ولا يقيم حتّى يغتسل»(1).

وصحيحة عمرو بن أبي نصر - المرويّة عن كتاب عاصم بن حميد - قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام المؤذّن يؤذّن وهو على غير وضوء؟ قال: «نعم، ولا يقيم إلّا وهو على وضوء»(2).

وما عن صاحب دعائم الإسلام في كتابه عن جعفر بن محمّد عليه السلام قال: «لا بأس أن يؤذّن الرجل على غير طهور ويكون على طهور أفضل، ولا يقيم إلّا على طهور»(3).

وما عن الحميري في قرب الاسناد عن عبداللّه بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام عن المؤذّن يحدث في أذانه وفي إقامته، قال: «إن كان الحدث في الأذان فلا بأس، وإن كان في الإقامة فليتوضّأ وليتمّ إقامته»(4).

ونقل التمسّك بها وبالروايتين الأوليين أجمع عن البحار(5) فإنّها على فرض تسليم ظهورهما في الشرطيّة لابدّ من تطرّق التأويل إليها بحمل ما فيه الأمر بالوضوء على إرادة استحباب الإقامة مع الوضوء استحبابا مؤكدا، وحمل ما فيه النهي على إرادة كراهة الإقامة بلا وضوء، جمعا بينها وبين الصحيحة المتقدّمة الظاهرة في نفي الشرطيّة، وإنّما لم يتطرّق التأويل إلى الصحيحة المذكورة على فرض إمكانه لأنّ ما عداها يتوهّن ظهوره بمصير المعظم إلى خلافه، فإنّه يكشف عن خلل في دلالته مع كثرته، وإذا انضمّ إليه نقل الإجماع وغيره قوّى دلالة الصحيحة.

المسألة الثانية: كما يجب الوضوء للواجب من الصلاة كذلك يجب للواجب من الطواف

ودليله الإجماع بقسميه - قال في المصابيح: «وفي الخلاف والغنية والمنتهى الإجماع عليه»(6) بل هو ممّا حكاه في مفتاح الكرامة(7) عن خمسة عشر كتابا من

ص: 67


1- الوسائل 391:5 الباب 9 من ابواب الأذان والإقامة ح 2، وفيه «ولا يقيم إلّا وهو على وضوء»، الكافي 304:3/11.
2- المستدرك 26:4/1، الباب 8 من كتاب الصلاة.
3- دعائم الإسلام 146:1.
4- الوسائل 393:5 الباب 9 من ابواب الأذان والاقامة ح 7، قرب الإسناد: 85.
5- البحار 137:81.
6- مصابيح الأحكام 503:1.
7- مفتاح الكرامة 34:1.

الفقهاء - والأخبار خصوصا وعموما.

فمن الأوّل: صحيحة محمّد بن مسلم قال: «سألت احدهما عن رجل طاف طواف الفريضة وهو على غير طهر؟ قال «يتوضّأ ويعيد طوافه، وإن كان تطوّعا توضّأ وصلّى ركعتين»(1).

ومن الثاني صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه قال: «سألته عن رجل طاف ثمّ ذكر أنه على غير وضوء؟ قال: يقطع طوافه ولا يعتدّ به»(2).

ورواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يطوف بغير وضوء أيعتدّ بذلك الطواف ؟ قال: لا»(3).

وموثّقة معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: «لا بأس أن يقضي المناسك كلّها على غير وضوء إلّا الطواف، فإنّ فيه صلاة والوضوء أفضل»(4).

ورواية أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام أنّه سئل أتنسك المناسك على غير وضوء؟

قال: «نعم إلّا الطواف، فإنّ فيه صلاة»(5) ومقتضى هذه الأخبار كونه شرطا، ويتمّ الوجوب بضميمة وجوب المقدّمة. وعن جماعة من المتأخّرين الاستدلال بقوله عليه السلام:

«الطواف بالبيت صلاة غير أنّك تتكلّم فيه»(6) قال في المدارك: «وهو غير جيّد، لأنّ سنده قاصر ومتنه مجمل»(7).

ودفع: بانجبار السند بالعمل ومنع كون المتن من المجمل، لاقتضاء التشبيه عرفا المشاركة في جميع الأحكام أو في الحكم الظاهر والوصف الحاضر في الأدهان والطهارة منه.

ويمكن اخذ الاستثناء المذكور في الرواية دليلا على المشاركة في جميع الأحكام

ص: 68


1- الوسائل 374:13 الباب 38 من أبواب الطواف ح 3، التهذيب 116:5/380.
2- الوسائل 375:13 الباب 38 من أبواب الطواف ح 4، التهذيب 117:5/381.
3- الوسائل 375:13 الباب 38 من ابواب الطواف ح 5، التهذيب 116:5/378.
4- الوسائل 374:13 الباب 38 من أبواب الطواف ح 1.
5- الوسائل 376:13 الباب 38 من أبواب الطواف ح 6.
6- عوالي اللآلى 167:2.
7- المدارك 2:1.

إلّا ما خرج منها بدليل آخر، فإنّه لولاها لما خصّ المستثنى بالكلام.

وممّا يكشف عن كون التشبيه هنا لأجل المشاركة في اعتبار الطهارة ما في موثّقة ابن عمّار ورواية أبي حمزة من التعليل «بأنّ فيه صلاة» لاعتبار الوضوء في الطواف، فإنّهما يفرّقان بين الطواف وسائر المناسك في كون الأوّل ما اعتبر فيه الوضوء كالصلاة لحكمة مجاورته أو اشتماله على الصلاة التي يكون الوضوء من لوازمها، فيكون التشبيه المذكور أيضا مسوق لبيان هذه المشاركة.

وإنّما قيّدنا «الطواف» بالوجوب لأنّ المشهور - على ما ادّعاه في شرح المفاتيح -(1) عدم اشتراط المندوب منه بالطهارة، وهو الأصحّ عملا بما تقدّم من الصحيحة المفضلة، مضافة إلى الموثّق كالصحيح بعبداللّه بن بكير عن عبيداللّه بن زرارة قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: «رجل طاف على غير وضوء؟ فقال: إن كان تطوّعا فليتوضّأ وليصلّ »(2).

والموثّق الآخر عنه عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قلت له: «إنّي أطوف طواف النافلة وأنا على غير وضوء؟ قال: توضّأ وصلّ وإن كنت متعمّدا»(3).

ورواية أخرى عنه عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «لا بأس بأن يطوف الرجل النافلة على غير وضوء ثمّ يتوضّا ويصلّي فإن طاف متعمّدا على غير وضوء فليتوضّأ وليصلّ ، ومن طاف تطوّعا وصلّى ركعتين على غير وضوء فليعد الركعتين ولا يعد الطواف»(4).

والمخالفة بجعل الطهارة شرطا للطواف مطلقا محكيّة عن أبي الصلاح(5) والعلّامة في النهاية(6) وابن أبي عقيل في ظاهر كلامه(7) ومستندهم على ما نقل عمومات الروايات المتقدّم إلى جملة منها الإشارة.

وجوابه - بعد ملاحظة عدم صلوح العامّ لمعارضة الخاصّ - واضح، فإنّ التخصيص

ص: 69


1- مصابيح الظلام 53:3.
2- الوسائل 376:13 الباب 38 من ابواب الطواف ح 8، التهذيب 117:5/382.
3- الوسائل 376:13 الباب 38 من ابواب الطواف ح 9، التهذيب 117:5/383.
4- الوسائل 374:13 الباب 38 من أبواب الطواف ح 2، الفقيه 250:2/1203.
5- الكافي في الفقه: 195.
6- نهاية الإحكام 20:1.
7- لم نعثر عليه.

في نظائر المقام واجب.

وفي كلام غير واحد التصريح بعدم الفرق في واجب الطواف المشترط بالطهارة بين ما وجب بالأصل وما وجب بالعارض من إجارة أو نذر وشبهه، ولا شاهد له ظاهرا سوى إطلاق الفتاوى ومنقول الإجماعات.

وربّما استدلّ عليه بما تقدّم من الصحيحة المفصّلة بين الفريضة والتطوّع، بتقريب:

أنّ الظاهر بقرينة المقابلة أنّ المراد بطواف الفريضة مطلق الطواف الواجب، فيتناول الواجب بالعارض، وهو حسن لولا شبهة انصراف الفريضة إلى ما كان بالأصل، فإنّ مبنى الاستدلال على عموم ترك الاستفصال، ومن المقرّر عندهم أنّ هذا العموم إنّما ينهض دليلا حيث لا انصراف، ووجهه واضح عند التأمّل.

نعم لا يبعد صحّة الاستدلال عليه بالعمومات المتقدّمة، غاية الأمر أنّه خرج منها المندوب بالدليل فبقي الباقي، ومنه ما عرضه الوجوب بالأسباب الخارجيّة والعامّ المخصص حجّة في تمام الباقي، ولولاها مع ما تقدّم كان المتّجه بملاحظة جواز المندوب على غير طهارة ما توهّم من جواز ترك الطهارة في المنذور وشبهه، لأنّ النذر إنّما اقتضى وجوب الأمر الراجح قبله، والطواف من غير طهارة راجح بالقياس إلى تركه فيكون داخلا في المنذور.

وما قيل في ضعفه: من أنّ الوجوب يقتضي ثبوت لوازمه، غير سديد، لمنع كون الطهارة هنا من لوازم ماهيّة الوجوب، فإنّ ذلك مع قطع النظر عن العمومات وإطلاق الفتاوى والإجماعات أوّل المسألة، بل القدر المسلّم منه حينئذ كونه من لوازم الفرد وهو الوجوب الأصلي.

ثمّ في المصابيح(1) عبارة هنا وفي المسألة المتقدّمة قاضية بالجزم بحرمة الصلاة والطواف من دون طهارة، وظاهر كلامه هنا بل صريحه في المسألة المتقدّمة يقضي بإرادة الحرمة التشريعيّة، وهو حسن لكن لا على إطلاقه بل إذا اتي بهما بقصد الورود وامتثال الأمر مع العلم باعتبار الطهارة فيهما، لا لأغراض آخر مثل التعليم أو التمرّن أو

ص: 70


1- مصابيح الظلام 53:3.

نحو ذلك وهو مراده قدس سره.

المسألة الثالثة: وكما يجب الوضوء للواجب من الصلاة والطواف كذلك يجب لمسّ كتابة القرآن
اشارة

إن وجب للعارض بسبب من المكلّف أو غيره كما لو توقّف عليه إصلاحه أو جمع أوراقه عن مكان قذر، أو إنقاذه من يد الكافر ونحوه، وفاقا للقواعد والإرشاد والمنتهى والتحرير والدروس والذكرى(1) واللمعة والمعتبر والشرائع والنافع ومحكيّ الفقيه والتهذيب ومجمع البيان والتبيان وأحكام الراوندي ودلائل الأحكام والخلاف وكافي أبي الصلاح وكشف الرموز والتذكرة والنهاية والتبصرة والألفيّة والبيان والمقتصر والموجز والتنقيح والمفاتيح والمسالك والجعفريّة وجامع المقاصد وفوائد الشرائع ومنهج السداد والروض والمقاعد العليّة والفوائد المليّة ومعالم الدين وكفاية الطالبين(2) وعليه الإجماع المنقول عن الخلاف(3) وظاهر مجمع البيان للطبرسي والتبيان للشيخ(4) لما ستسمع عنهما في خلافهم الآتي المتعلّق بالآية الآتية من التعبير بلفظة «عندنا» وفيه الشهرة عن المقتصر والمعتبر والذخيرة والكفاية والمفاتيح وآيات أحكام الجواد ودلائل الأحكام(5) خلافا للمحكي عن مبسوط الشيخ وسرائر الحلّي وآيات أحكام الأردبيلي والقاضي(6) ومبنى الخلاف على ما صرّح به جماعة من فحول أصحابنا ويظهر من عبائر الآخرين على تحريم مسّ كتابته محدثا كما عليه الأوّلون

ص: 71


1- القواعد 177:1، إرشاد الأذهان 220:1، المنتهى 4:1، التحرير 4:1، الدروس 5:1، الذكري 193:1.
2- اللمعة الدمشقيّة: 4، المعتبر 175:1، الشرائع 11:1، النافع: 7، الفقيه 87:1، التهذيب 126:1، مجمع البيان 226:9، التبيان 510:9، أحكام القرآن 50:1، دلائل الأحكام: لا يوجد لدينا، الخلاف 99:1، الكافي في الفقه: 126، كشف الرموز 70:1، التذكرة 8:1، نهاية الإحكام 19:1، تبصرة المتعلّمين: 75، الالفيّة: 42، البيان: 3، المقتصر: 48، الموجز الحاوي: 42، التنقيح الرائع 1: 91، مفاتيح الشرائع 38:1، المسالك 10:1، الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 135:4، جامع المقاصد 232:1، فوائد الشرائع: 10، منهج السداد: مخطوط، روض الجنان 53:1، المقاصد العليّة: 73، الفوائد الملية: 82، المعالم 43:1، لم نعثر على كفاية الطالبين.
3- الخلاف 99:1، المسألة 46.
4- مجمع البيان 226:9، التبيان 510:9.
5- المقتصر: 48، المعتبر 175:1-176، الذخيرة: 3، كفاية الأحكام 18:1، مفاتيح الشرائع 1: 38، مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام 83:1، نقل عن الدلائل في مفتاح الكرامة 37:1.
6- المبسوط 23:1، السرائر 57:1، زبدة البيان: 29، المهذب 32:1.

المدّعى على مذهبهم إجماع الفرقة نارة، والشهرة اخرى، وممّن صرّح بها صاحب الحدائق(1) وشيخنا البهائي في الحبل المتين قائلا: «والمنع من المسّ هو المشهور بين الأصحاب»(2) وعدمه كما عن الآخرين.

وربّما أمكن منع مخالفة بعض هؤلاء المشهور كالشيخ والقاضي لتعبيرهما عن الحكم بالكراهة الّتي يقوى فيها احتمال إرادة الحرمة، كما ادّعى شيوع إطلاقها عليها في الأخبار وكلام القدماء من فقهائنا الأخيار، وحكي هذا التوجيه عن الشهيد في الذكرى(3) ورضي به العلّامة البهبهاني في شرح المفاتيح(4) ويعضده بالقياس إلى الشيخ ما سمعت عن خلافه من دعوي الإجماع على المنع ومصيره إليه في التهذيب(5) لولا احتمال الرجوع، لكن في المصابيح: «وهو - يعني التوجيه المذكور - جيد في عبارة ابن الجنيد، وأمّا الشيخ فقد تقدّم في كلامه ما ينافي ذلك، فإنّه حصر الوضوء المفروض فيما كان لصلاة واجبة أو طواف واجب وأوجب الغسل لهما ولمسّ كتابة القرآن، وهذا يدلّ على تجويز المسّ من المحدث بالأصغر دون الأكبر» انتهى(6).

وفي دلالة الحصر المذكور على ما رامه قدس سره نظر، لأنّه حصر لوجوب الوضوء في الغايتين والكلام في تحريم مسّه محدثا بالأصغر، وعدم الوجوب لا ينافي حرمة المسّ .

وعن النزهة(7) أنّه عدّ الوضوء لمسّ كتابة القرآن من جملة الوضوء المستحبّ ، ثمّ حكى القول بوجوبه، وهذا أيضا لا ينافي تحريم المسّ .

وعلى أيّ حال كان فنحن نفرض المسألة خلافيّة كما في كتب الفرقة فنتكلّم في دليلي القولين تحقيقا للمختار وتزييفا لغيره.

فحجّة القول الأوّل أمران:

احدهما: قوله سبحانه: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (8) فإنّ حقيقة لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ - وهي الإخبار صونا له عن

ص: 72


1- الحدائق 122:2.
2- الحبل المتين 160:1.
3- الذكرى 265:1.
4- مصابيح الظلام 54:3.
5- التهذيب 126:1.
6- مصابيح الأحكام 126:1.
7- نزهة الناظر: 11.
8- الواقعة: 77-80.

الكذب - متعذّرة، ومعه يتعيّن حمله على الإنشاء الظاهر في التحريم لكونه أقرب المجازات على ما قرّر في محلّه، غير أنّ نهوض هذا الاستدلال كما ترى مبنيّ على عود الضمير في «لا يمسّه» إلى «القرآن» كما فهمه المحقّقون من أصحابنا، وفي تبيان الشيخ ومجمع بيان الطبرسي ما ربّما يومئ إلى دعوى الإجماع عليه، حيث قالا:

«عندنا أنّ الضمير يعود إلى القرآن، فلا يجوز لغير الطاهر أن يمسّه»(1) بل ربّما نقل على طبقه رواية مفسّرة كما في الوسائل عن مجمع البيان عن محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام في قوله تعالى: لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ قال: «من الأحداث والخباثات، قال: ولا يجوز للجنب والحائض والمحدث مسّ المصحف»(2).

ويؤيّد الجميع ما في التهذيب عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه السلام قال:

«المصحف لا تمسّه على غير طهر ولا جنبا ولا تمسّ خيطه - كما في نسخة، أو خطّه كما في أخرى - ولا تعلّقه، أنّ الله تعالى يقول: لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ (3).

واعترض عليه بعدم تعيّن عود الضمير إلى القرآن، لجواز عوده إلى «الكتاب المكنون» وهو اللوح المحفوظ، فيكون المعنى: لا يمسّ ذلك الكتاب إلّا الملائكة المقرّبون المطهّرون من أدناس الذنوب، كما ذكره صاحب الكشّاف(4).

ويرجّحه قرب المرجع وإبقاء الجملة على ظاهرها، وما يشعره كلام التبيان والمجمع من اتّفاق الأصحاب على إرجاعه إلى القرآن لعلّ في إثباته إشكالا.

ولو سلّم رجوعه إليه فلعلّ المراد أنّه لا يمسّه إلّا المطهّرون حال كونه في اللوح المحفوظ، إبقاء للجملة على ظاهرها.

ولو سلّم فالعدول عن ظاهر الخبريّة لا يقتضي الحمل على النهي التحريمي، لجواز كون المراد أنّه لا ينبغي أن يمسّه من الناس إلّا من هو على الطهارة، كما قال صاحب

ص: 73


1- التبيان 510:9، وفيه: «وعندنا أنّ الضمير راجع إلى القرآن» مجمع البيان 341:9.
2- الوسائل 385:1 الباب 12 من ابواب الوضوء ح 5، مجمع البيان 341:9. وفيها: «الجنابات» بدل «الخباثات».
3- الوسائل 384:1 الباب 12 من أبواب الوضوء ح 3، التهذيب 127:1/343.
4- تفسير الكشّاف 457:4.

الكشّاف(1) فلا يستفاد من الآية حينئذ أكثر من الكراهة، ومع التنزّل عن ذلك كلّه يمكن القول بأنّ «المطهّر» ممّا يصدق على الطاهر من الحدث الاكبر بل على الطاهر من الأخباث، فلا يقتضي الطهارة عن الحدث الأصغر.

ولا يخفى ما في جميع ذلك من الاعتساف والخروج عن جادّة الإنصاف، فإنّ فهم الكشّاف ليس بأقوى ممّا فهمه التبيان ومجمع البيان، كيف وهو مأخوذ عن أخبار أهل العصمة وآثارهم المرويّة في تفسير الآية حسبما مرّت إليه الإشارة، وما ادّعى من القرب لا يسلّم إلّا ما هو من جهة اللفظ فقط، فيعارضه ما هو حاصل من جهة المعنى، بملاحظة سوق الآية، من حيث كونها صدرا وذيلا خارجة مخرج مدح القرآن وإظهار شرفه وفضله وعظم شأنه، والحثّ على تعظيمه الّذي يعدّ عند الامّة من جملة الضروريّات، فأخذ عدم المسّ إلّا بالطهارة - كطرفيه من كونه في الكتاب المكنون، وكونه تنزيلا من ربّ العالمين - وصفا للقرآن على جهة الاستقلال أوفق بما هو الغرض الأصلي من سوق الآية، وأدخل بالحثّ على تعظيمه، كما يساعد عليه أيضا ذكر الوصف المناسب عقيب ما ذكر من الوصف، فإنّ كونه تنزيلا من ربّ العالمين من الاوصاف المناسبة لجهة التعظيم، بل ربّما يقوى من جهة العرف كون وروده - لما فيه من المناسبة للحكم المذكور - مورد التعليل.

هذا مع ما فيه من قضائه بعدم الفصل بين الوصفين السابق واللاحق بالأجنبيّ ، ولا ينبغي نقض ذلك بالمكنون الّذي اخذ وصفا للكتاب، لوضوح الفرق بين وصف الشيء بالمفرد ووصفه بالجملة، فإنّ الأوّل لعدم استقلاله بالإفادة ربّما يعدّ مع موصوفه بمنزلة كلمة واحدة، بحيث إنّ الفصل بين وصفي القرآن كأنّه غير متحقّق بخلاف الثاني، ولو سلّم تحقّق الفصل معه أيضا عند أهل الصناعة فلا ريب أنّ التقليل فيه أولى.

هذا مع ما في إرجاع الضمير إلى «الكتاب» من قضائه بتقييد «المكنون» مع تضمّنه نوعا من التكرار المخلّ هنا بمقام البلاغة جدّا، نظرا إلى أنّ «المكنون» مراد به المستور عن الخلق بناء على الظاهر، والمستوريّه عنهم عبارة عن عدم اطلاعهم عليه،

ص: 74


1- تفسير الكشّاف 469:4.

ومسّ أحد له يستلزم اطّلاعه عليه، وكونه بحيث لا يمسّه إلّا المطهّرون ينحلّ إلى أنّه لا يطّلع عليه إلّا الملائكة، وإذا انضمّ ذلك إلى وصف المستوريّة يؤول مفاد الجميع إلى أن يقال: إنّ الكتاب الّذي فيه القرآن لا يطلع عليه الخلق ولا يطّلع عليه أحد إلّا الملائكة المطهّرون، وهذا كما ترى تعبير لا يليق بكلام العجميّين فضلا عن كلام بلغ في البلاغة أعلاها.

هذا بناء على الأخذ بظاهر «يمسّ » كما هو ظاهر التفسير المتقدّم المحكيّ عن الكشّاف، وإلّا فعلى ما فسّره في المشارق(1) من أنّ المعنى أنّه لا يطّلع على الكتاب المكنون - أي المستور المصون عن الناس، أو عن التغيير والتبديل أو الغلط والباطل أو التضييع - إلّا الملائكة المطهّرون عن الكدورات الجسمانيّة أو أدناس المعاصي اتّضح فساد هذا البناء غاية اتّضاح، مع ما فيه من التجوّز البعيد في لفظ «بمسّ » كما لا يخفى، وكون دعوى تخصيص المكنونيّه بالمستوريّة عن الناس مجرّد تحكم، وكون تفسيرها بالمصونيّة عن التغيير وأخواته في غاية البعد.

وأضعف من الجميع ما في الكتاب المذكور من تجويز كون المراد بالآية أنّه لا يعلم حقائقه ودقائقه وأسراره إلّا المطهّرون من الذنوب وهم أصحاب العصمة سلام اللّه عليهم أجمعين، وظنّي أنّ هذه التمحّلات الواهية الركيكة مبالغة في هدم الاستدلال المبنيّ على الظاهر لا تنشأ إلّا عن العصبيّة الصرفة أو عدم استقامة السليقة، وإلّا فأيّ عاقل يعدل إليها عن الالتزام بحمل الجملة الخبريّة على الإنشاء الّذي هو في حدّ ذاته مجاز شائع بالغ في الكتاب والسنّة النبويّة وكلمات سائر الأئمّة عليهما السلام فوق حدّ الإحصاء.

وأمّا حديث كون المراد لا يمسّ القرآن إلّا المطهّرون حال كونه في اللوح المحفوظ.

ففيه: أنّه التزام بالتجوّز في الضمير لما فيه من نوع استخدام حينئذ من حيث إنّ المرجع يراد به المطلق بالقياس إلى الحالة المذكورة وغيرها، والضمير يراد به - على هذا التوجيه - ما يكون مقيّدا، وهو كما ترى مجاز مرجوح في مقابلة حمل الخبريّة على إرادة الإنشاء لما فيه من الشيوع وغلبة الاستعمال القريبة من الوضع

ص: 75


1- مشارق الشموس 47:1.

الثانوي، لكن لا بالقياس إلى مطلق الإنشاء بل الإيجابي أو التحريمي بالخصوص، فسقط بذلك قضيّة أنّه لا يستفاد من الآية أكثر من الكراهة، وكون «المطهّر» ممّا يصدق على الطاهر عن الحدث الأكبر بل على الطاهر عن الخبث لا يقضي بكونه في الآية مخصوصا بهما، بعد ملاحظة ظهور اللفظ في الطهارة المطلقة، فلا ينبغي حمله بلا قرينة على الطهارة المقيّدة.

وبالجملة لا إشكال في صحّة الاستدلال بالآية على تحريم مسّ الكتابة، كما لا ينبغي مقابلته بما عرفت من الوجوه السخيفة.

وثانيهما: عدّة نصوص:

منها: ما رواه الشيخ عن أبي بصير في الموثّق - كما وصفه به في الذخيرة(1) الّذي يظهر الميل إلى صحّته من شرح المفاتيح(2) - قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عمّن قرأ في المصحف وهو على غير وضوء؟ قال: «لا بأس ولا بمسّ الكتاب»(3).

وفي كلام غير واحد القدح في سنده استنادا إلى ما فيه من اشتراك أبي بصير بين الثقة وغيره، فإنّه مشترك بين أربعة: عبداللّه بن محمّد الأسدي، وليث بن البختري المرادي، ويحيى بن القاسم، ويوسف بن الحرث، ولعلّ نظرهم في غير الثقة إلى الأخير لكونه مجهولا غير مضبوط حاله في الرجال، كما اعترف به غير واحد من أهل الفنّ ، وإلّا فغيره من الثلاثة الآخرون كلّهم ثقات، أمّا أوّلهم فمن ثقات أجلّاء اصحابنا.

وأمّا ثانيهم فهو وإن نقل في حقّه طعن في دينه وورد بذمّه روايات غير نقية السند ولا ظاهرة الدلالة مع احتمال أكثرها غيره، لكنّ الّذي يظهر - واللّه أعلم - حسن حاله بل وثاقته وكونه من اصحابنا الإماميّة، وشهد له بهما العلّامة في الخلاصة(4)والسبزواري في الذخيرة(5) والعلّامة البهبهاني في تعليقته الرجاليّة وشرحه للمفاتيح(6)والروايات الدالّة على ذمّه على فرض نهوض دلالتها وكونه مرادا منها لا تصلح

ص: 76


1- الذخيرة: 3.
2- مصابيح الظلام 54:3.
3- الوسائل 383:1 الباب 12 من ابواب الوضوء ح 1، الكافي 50:3/5.
4- خلاصه الأقوال: 236-235.
5- الذخيرة: 3.
6- تعليقة الوحيد البهبهاني على منهج المقال: 371، مصابيح الظلام 54:3.

لمعارضة ما دلّ من الروايات على مدحه، الّتي منها الصحيح ومنها غيره. فعن الكشّي عن حمدويه بن نصير عن يعقوب بن يزيد عن محمّد بن أبي عمير عن جميل بن درّاج قال: «سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول: بشّر المخبتين بالجنّة، بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمّد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء امناء اللّه على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة واندرست»(1). وعنه أيضا بسند ضعيف عن الصادق عليه السلام «أنّ أصحاب أبي كانوا زينا أحياء وأمواتا، أعني زرارة ومحمّد ابن مسلم، ومنهم ليث المرادي وبريد العجلي، هؤلاء قوّامون بالقسط، هؤلاء السابقون السابقون اولئك المقرّبون»(2).

وأمّا ثالثهم فهو وان اختلف في وقفه لكن لا خلاف في وثاقته، وممّن وقع في سند تلك الرواية الحسين بن مختار وهو وإن كان الشيخ(3) ذكره في رجال الكاظم عليه السلام وقال:

«واقفي» غير أنّ الظاهر بملاحظة قرائن كثيرة وثاقته وصحّة روايته، وإن شئت لاحظ كلام العلّافة البهبهاني في شرح المفاتيح قائلا: «إنّ الشيخ في الخلاف ذكره من غير نسبته إلى الوقف وكذلك في الفهرست وذكر أنّ له كتابا يروي عنه حمّاد والنجاشي ذكره من غير نسبته إلى الوقف، بل قال: له كتاب يروي عنه حمّاد بن عيسى وهو ممّن أجمعت العصابة، وابن عقدة نقل عن عليّ بن الحسن توثيقه، والمفيد قال في إرشاده:

إنّه من خاصّة الكاظم عليه السلام وثقات أصحابه وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته، وفي الكافي أنّ الصادق عليه السلام قال له: رحمك اللّه، ويروي عنه ابن أبي عمير وابن مسكان وابن أبي نصر ويونس بن عبدالرحمن وهم ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم، وبعضهم ممّن لا يروي إلّا عن ثقة، ويروي عنه غيرهم من الثقات الأجلّة مثل الحجّال وغيره، ومع ذلك انجبرت الرواية بالشهرة - إلى أن قال -: مع أنّ الموثّق حجّة كما حقّق في محلّه» انتهى(4) فالرواية حينئذ إمّا صحيحة أو موثّقة كالصحيحة فلا إشكال فيها سندا ولا دلالة.

ومنها: ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حمّاد عن حريز عمّن

ص: 77


1- رجال الكشّي: 170/286 و 287.
2- رجال الكشّي: 170/286 و 287.
3- رجال الشيخ: 346.
4- مصابيح الظلام 55:3-56.

أخبره عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «كان إسماعيل بن أبي عبدالله عليه السلام عنده، قال: يا بنيّ اقرأ المصحف، فقال: إنّي لست على وضوء، فقال: لا تمسّ الكتاب ومسّ الورق»(1)وهذه الرواية وصفها في شرح المفاتيح(2) بالصحّة مع ما فيها من الارسال، لمجرّد كونها صحيحة إلى حمّاد وهو ممّن أجمعت العصابة فلا يلاحظ ما بعده من ضعفي ولا إرسال، وعليه فلا إشكال في تلك الرواية أيضا سندا ولا دلالة.

ومنها: الخبر الموصوف بالقويّ المتقدّم ذكره عن أبي الحسن عليه السلام: «المصحف لا تمسّه على غير طهر، ولا جنبا، ولا تمسّ خطّه أو خيطه، ولا تعلّقه، أنّ اللّه تعالى يقول: لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ »(3).

واشتماله على ما لا يقول به أحد من منع مش الخيط - على ما في بعض النسخ - ومنع التعليق ممّا لا يورث قدحا في العمل عليه في غير ذلك ممّا هو من المطلب(4) كما قرّر في محلّه، مع أنّ النهي عن الأمرين منفصل فيحتمل من التأويل بالحمل على الكراهة ما لا يحتمله النهي عن مسّ المصحف فيجب التزامه صونا له عن المحذور المذكور.

وعن السيّد(5) أنّه استند إلى هذه الرواية في حكمه بالمنع، وهو رحمه الله كان لا يقول بحجّيّة الخبر إلّا إذا كان علميّا.

وممّا يستدل به أيضا - كما في شرح المفاتيح(6) - رواية الفقه الرضوي «لا تمسّ القرآن إذا كنت على غير وضوء»(7) وصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام أنّه سأله عن الرجل أيحلّ له أن يكتب القرآن في الألواح والصحيفة، وهو على غير وضوء؟ قال: «لا»(8) بناء على أنّها لظهورها فيما لا يقول به أحد إلّا المحدّث

ص: 78


1- الوسائل 383:1 الباب 12 من ابواب الوضوء ح 2، التهذيب 126:1/342.
2- مصابيح الظلام 56:3.
3- الوسائل 384:1 الباب 12 من ابواب الوضوء ح 3، التهذيب 127:1/344.
4- كذا في الأصل، والأنسب: «المطلوب» بدل «المطلب» واللّه العالم.
5- حكاه عنه في الذخيرة 53:1 أقول: والمراد بالسيد هنا هو المرتضى علم الهدى رحمه الله.
6- مصابيح الظلام 57:3.
7- فقه الرضا: 85، المستدرك 464:1/1171.
8- الوسائل 384:1 الباب 12 من أبواب الوضوء ح 4، التهذيب 127:1/344.

الكاشاني(1) من حرمة كتابة القرآن على غير وضوء، ومعارضتها لما في الكافي من الحسن بإبراهيم بن هاشم عن داود بن فرقد عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: سألته عن التعويذ يعلّق على الحائض ؟ قال: «نعم، لا بأس».

قال: وقال: «وتقرأه وتكتبه ولا تصيبه يدها»(2) وعن التهذيب(3) مكان «لا تصيبه» «لا تمسّه» نظرا إلى أنّ التعويذات لا تخلو عادة عن الأجزاء القرآنيّة، فلابدّ من حملها على ما هو الغالب مع الكتابة من مصادفة المسّ باليد، وقد يحمل النهي هنا على الكراهة جمعا.

وعلى أيّ حال فإذا ثبت كون المسّ لا عن وضوء حراما ثبت كون الوضوء شرطا لإباحته، وهذا هو معنى الوجوب الشرطي المتقدّم شرحه، وهذا كما ترى ليس من الوجوب بالمعنى المبحوث عنه في شيء، ومن هنا تكرّر في كلام غير واحد من الأجلّة أنّ الثابت من الأدلّة حرمة المسّ على غير وضوء لا وجوب الوضوء للمسّ .

نعم يحصل هذا الوجوب لو ثبت وجوب المسّ بأحد الاسباب المتقدّم إليها الإشارة، نظرا إلى أنّ له حينئذ فردين: المسّ على وضوء والمسّ على غير وضوء، ومن المستحيل تعلّق الوجوب بالفرد الثاني فلا جرم يتعلّق بالأوّل لإباحته، فيكون الوضوء مقدّمة لهذا الواجب، ومن المقرّر في محلّه وجوب مقدّمة الواجب.

وعن المخالف الاستناد لعدم التحريم إلى الأصل أوّلا، ولزوم العسر ثانيا، وعدم منع السلف الصبيان عن المسّ ثالثا، وتمكين النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قيصر ملك الروم من مسّ آية القرآن وهو محدث، حيث كتب إليه وقال: يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ تَعٰالَوْا إِلىٰ كَلِمَةٍ سَوٰاءٍ بَيْنَنٰا الآية(4) رابعا.

والجواب عن الاوّل: أنّ الأصل انقطع بالدليل من ظاهر الكتاب وأخبار الباب.

وعن الثاني: بعدم تعيّن القراءة ولا مطلق مباشرة المصحف، فالتحرّز عن مسّ

ص: 79


1- مفاتيح الشرائع 38:1.
2- الوسائل 342:2 الباب 37 من أبواب الحيض ح 1، الكافي 106:3/5.
3- التهذيب 183:1/526.
4- آل عمران: 64.

الكتابة بالتجنّب عنهما في غاية السهولة، وفي موضع. نعيّن أحدهما يسهل التحرّز عن مسّها بمسّ الجلد والأوراق ونحوهما، ومع تعيّن المسّ أيضا يرتفع المنع بالوضوء ولا حاجة معه إلى توسيط قاعدة العسر لرفع المنع، وكونه ممّا يلزم في الوضوء واضح المنع، وعلى فرضه فهو ليس بصالح لأن يندرج في الأدلّة النافية له لا في حكمه الوضعي - وهو كونه شرطا لإباحة المسّ - ولا في حكمه التكليفي، وهو الوجوب. أمّا الأوّل: فلأنّ من شأن تلك الأدلّة نفي الاحكام التكليفيّة الإلزاميّة المستلزمة لاستحقاق العقوبة على المخالفة لا غيرها. وأمّا الثاني: فلأنّ المنساق من تلك الأدلّة نفي ما يكون من الأحكام التكليفيّة تعبّديّا منوطا بالتوقيف، ووجوب الوضوء لغاية المسّ حيثما يجب إنّما يثبت من جهة العقل التبعي لقاعدة المقدّمة، على أنّ مثل هذا الحكم ليس بقابل للتخصيص.

ومع الغضّ عن جميع ما ذكر أنّ العسر إنّما يوجب رفع نوع الحكم إذا لزم بالقياس إلى نوع المكثفين وهو واضح الفساد، بل غايته أنّه يلزم في بعض الصور بالنسبة إلى بعض الأشخاص، فالقاعدة لو أثّرت هنا فإنّما ترفع المنع أو وجوب الوضوء بالنسبة إلى هذا الشخص خاصّة، ولايلزم من ذلك كون عدم هذا الحكم في موضوع المسّ أصلا.

وعن الثالث: بمنع معلوميّة حال السلف من المنع وعدمه، ولو علم ذلك عن بعضهم فلعلّه لبنائه على عدم وجوب المنع كما هو الحقّ ، فإنّ المسألة على ما ستعرفه خلافيّة، مع إمكان ابتنائه على عدم إمكان التطهّر في حقّ الصبيان لكون عباداتهم تمرينيّة، فيفضي منعهم إلى سدّ باب تعلّم القرآن بناء على أنّه لا ينفك عادة عن مسّ كتابته وخطوطه، وعلى فرض الانفكاك فقد يكون عدم المنع مستندا إلى علمهم بحصول الامتناع عن المسّ عادة، أو إلى عدم علمهم بحصول المسّ ، مع أنّ المنع يكفي فيه فتوى الفقيه وهو حاصل ممّن يرى التكليف بالمنع ولا يتعيّن عليه إيجاد المنع في الخارج، غاية الأمر قلّة العمل أو عدم حصوله بمقتضى تلك الفتوى، ولعلّه ناشئ عن قلّة مبالاة أولياء الصبيان وتساهلهم في ذلك وكم من هذا القبيل في الدين، وكيف كان فمثل هذا الوجه لا ينهض دليلا على نفي حرمة المسّ على المكلّفين البالغين بعد نهوض ظاهر الكتاب ونصوص الأخبار دليلا عليها.

ص: 80

وعن الرابع: بأنّ المراسلة لا تستلزم عادة تحقّق مسّ الخطّ من المرسول إليه أو غيره، ولا العلم العادي بأنّه يمسّ الخطّ لا محالة، وعلى فرض المقدّمتين فلا مانع من كون المسّ حراما على المرسول إليه بمقتضى أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كما هو الأصحّ ، والعصيان إنّما حصل من قبل نفسه باختياره، وكتبه صلى الله عليه و آله وسلم الآية ليس تمكينا له من العصيان بل هو هداية وإرشاد، وعلى فرض كونه تمكينا فلا مانع منه بالقياس إليه صلى الله عليه و آله وسلم ولا أنّه محظور عليه إلّا على فرض اندراجه في عنوان الإعانة على الإثم الثابت تحريمها، وهو - بناء على التحقيق - في حيّز المنع، لما قرّر في محلّه من أنّ الإعانة المحرّمة يعتبر فيها قصد هذا العنوان، فإذا نابه قصد غيره من العناوين السالفة الراجحة بل الواجبة خرج المقصود عن هذا العنوان. فكونه ممّا يؤدّي بالاخرة إلى وقوع المرسول إليه في المعصية لا ينافي رأفته الشاملة لكافّة الخلق، لكونه إدّاء إلى أقلّ المحذورين من هذه المعصية الجزئيّة ومعصية الكفر المتضمّنة لسائر المعاصي في الفروع، مع أنّ قصد القرآنيّة في لحاظ الكاتب معتبر في موضوع الحكم ولم يعلم من حاله صلى الله عليه و آله وسلم أنّه بكتابته آية القرآن كان قاصدا إلى وصف القرآنيّة، بل غاية ما هنالك العلم بقصده إلى معناهما هداية وإرشادا.

وإلى ذلك يرجع ما في منتهى العلّامة(1) من ردّ الاستدلال بأنّه عليه السلام لم يقصد القرآن بل المراسلة، وفي معناه كلامه المحكيّ عن التذكرة(2) من أنّ المراد به المراسلة دون المكاتبة.

وأمّا ما في مصابيح السيّد(3) - من تضعيفه بأنّ المفروض أنّه كتب ذلك إليه والمكتوب قرآن لا يحتمل غيره والقصد إنّما يؤثّر في المحتمل دون المعلوم - فالظاهر أنّه في غير محلّه، فإنّ المعلوم كونه قرآنا إنّما أصل هذه الآية ومبدؤها وأمّا بوصف أنّها واقعة في المراسلة فلا، بل المعلوم خلافه بملاحظة صدور المراسلة في مقام الإرشاد والهداية والمرسول إليه ممّن لا يعتقد بالقرآن، إلّا أن يرجع الكلام إلى منع مدخليّة القصد في قرآنيّة القرآن، ولعلّه متّجه بملاحظة أنّ القصد إنّما يعتبر مشخّصا للموضوع إذا لم يكن سواه موجودا كما في المحتمل غيره بعدم اختصاص اسلوبه

ص: 81


1- المنتهى 152:2.
2- التذكرة 135.
3- مصابيح الأحكام 554:1.

ولا مفرداته بالقرآن. وأمّا ما اختصّ به الأمران أو أحدهما فالظاهر أنّه قرآن حقيقة لعدم صحّة سلب الاسم عنه عرفا قارنه قصد القرآنيّة أو لا، لكن لا يلزم من مجرّد ذلك كون الاستدلال متّجها، لاحتمال كون كتبه صلى الله عليه و آله وسلم مبنيّا على اختصاص الحكم بما هو مكتوب في المصحف وعدم اطّراده بالقياس إلى ما هو منفصل عنه.

واجيب أيضا: باحتمال تأخّر التحريم عن الإرسال، فدفع: بأنّ آية التحريم مكيّة والاخرى مدنيّة فتكون متأخّرة عن التحريم.

وأجاب في المصابيح(1) أيضا: «بأنّه لو دلّ ذلك على جواز المسّ من المحدث لدلّ على جوازه من الجنب، فإنّ الكافر جنب لوجود مقتضي الجنابة منه مع عدم الاغتسال، وبطلانه لو اغتسل لأنّه مشروط بالإسلام كسائر العبادات - ثمّ قال - وهو الجواب الحاسم».

ولا يخفى ما فيه من منع بطلان الثاني، فإنّ القول بالجواز في الجنب أو الميل إليه محكيّ عن جماعة يأتي إليهم الإشارة في محلّه، ولعلّهم هم المستدلّون بتلك الرواية، وهم لا يفرّقون بين حدث الجنابة وغيره.

ثمّ إنّ هاهنا فروعا ينبغي التعرّض لها لعموم نفعها وشيوع البلوى بها:
الأوّل: في المصابيح عمّم المنع بالقياس إلى الاجزاء القرآنيّة المنفصلة عن المصحف المكتوبة في الألواح والكتب والدراهم وغيرها،

الأوّل: في المصابيح(2) عمّم المنع بالقياس إلى الاجزاء القرآنيّة المنفصلة عن المصحف المكتوبة في الألواح والكتب والدراهم وغيرها،

حاكيا للقطع به عن العلّامة في التذكرة والنهاية(3) وجعله خيرة الروض وكشف الالتباس وعيون المسائل وشارع النجاة(4) وعزاه إلى ظاهر المدارك والذخيرة والبحار(5) تعليلا بأنّ فيها أنّ المكتوب يعرف كونه قرآنا بعدم احتمال غيره وبالنيّة مع الاحتمال، قائلا: «بأنّ الاحتمال لا يكاد يتحقّق إلّا فيما كان خارجا من المصحف».

وقد وقع هذا الكلام الموجب لظهور القول بالمنع مطلقا في جامع المقاصد(6)

ص: 82


1- مصابيح الأحكام 555:1 و 562.
2- مصابيح الأحكام 555:1 و 562.
3- التذكرة 136:1، نهاية الإحكام 77:1.
4- روض الجنان 146:1، كشف الالتباس 167:1، عيون المسائل: 26، شارع النجاة: 27-29.
5- المدارك 242:1، الذخيرة: 52، البحار 57:87.
6- جامع المقاصد 267:1.

واستوجهه في الحدائق(1) كما استقربه في المنتهى(2) بعد ما تردّد فيه، وفي شرح الخوانساري للدروس(3) جعل المسألة ذات وجهين وإن قوّى المنع بعد ذلك فيما إذا كانت الآيات في التفاسير الّتي يكتب فيها القرآن بتمامه، معلّلا بأنّه لا يبعد حينئذ صدق المصحف عليه، ويظهر منه الميل إلى جواز مسّ الآية في الدرهم. وأجاز الشهيد في الذكرى(4) مسّ كتب الحديث والدراهم الخالية من القرآن أو المكتوب عليها القرآن، استنادا إلى خبر محمّد بن مسلم المرويّ عن جامع البزنطي عن الباقر عليه السلام قال: «سألته هل يمسّ الرجل الدرهم الأبيض وهو جنب ؟ فقال: والله إنّي لاوتى بالدرهم فآخذه وأنّي لجنب، وما سمعت أحدا يكره من ذلك شيئا إلّا عبداللّه بن محمّد كان يعييهم عيبا شديدا، يقول: جعلوا سورة من القرآن في الدراهم فيعطي الزانية وفي الخمر ويوضع على لحم الخنزير»(5).

وما رواه الحسن بن محبوب في كتابه عن أبي الربيع عن الصادق عليه السلام في الجنب يمسّ الدراهم وفيها اسم الله واسم رسوله ؟ فقال: «لا بأس، ربّما فعلت ذلك»(6).

قال: «وإذا قلنا ذلك في الجنب فالمحدث أولى، ولعلّ الوجه سلب اسم المصحف أو الكتاب عنها، ولزوم الحرج بلزوم تجنّب ذلك»(7).

وفي المصابيح: أنّ خلاف الشهيد رحمه الله مع شذوذه مختصّ بالدرهم، فالقول بالجواز على الإطلاق خلاف الإجماع، بعد ما قال: ولا قائل منّا بجواز مسّ الخارج من المصحف على الإطلاق. وقال أيضا: «وفي الخلاف والمجمع الإجماع على تحريم مسّ المكتوب منه، وظاهره العموم».

واستدلّ على ما اختاره مضافا إلى ما سمعت بوجوه:

منها: أنّ اسم القرآن يطلق على الجميع فيتعلّق به الحكم، وأوضحه في موضع آخر بأنّ القرآن كغيره من الأسماء الأجناس يطلق على الجملة والأبعاض القليل منها

ص: 83


1- الحدائق 125:2.
2- المنتهى 155:2.
3- مشارق الشموس: 15.
4- الذكرى 265:1.
5- المعتبر: 50 نقلا عن جامع البزنطي، الوسائل 214:2 الباب 18 من ابواب الجنابة ح 3.
6- المعتبر: 50، الوسائل 215:2 الباب 18 من أبواب الجنابة ح 4.
7- الذكرى 265:1.

والكثير، ولا فرق في ذلك بين الملفوظ والمكتوب، وحينئذ فلا ينبغي التردّد في صدق اسم «القرآن» على الآيات الخارجة عن المصحف، فيتعلّق بها حكم التحريم بظاهر الكتاب وفتوى الأصحاب، فإنّ الحكم في عبارات المعظم كالآية وبعض الأخبار منوط بمسّ كتابة القرآن.

ومنها: أنّ الممسوس في المصحف ليس إلّا البعض لاستحالة مسّ الكلّ دفعة، ولا فرق في البعض بين المتّصل والمنفصل المنضمّ إلى غير القرآن، ومناط الحكم تعظيم الكتابة بمنع إصابة المحدث فيطّرد حيث يوجد.

ومنها: أنّ القرآن كان ينزّل منجّما متفرّقا على الاوقات بحسب الدواعي والمصالح، وقضيّة ذلك ان لا يعتبر الاجتماع في حكم المحرمة وإلّا لزم أن لا يحرم المسّ إلّا بعد عصر النبوّة، فإنّ القرآن لم يجتمع بأسره إلّا بعد انقطاع الوحي.

ومنها: أنّا نقطع بتحريم مسّ المصاحف الناقصة سواء كان النقص فيها قليلا أو كثيرا، ولو كان الحكم منوطا بمسّ ما يصدق عليه اسم المصحف لجاز مسّ الناقص منه ولو كان النقص يسيرا، كسورة أَ رَأَيْتَ (1) ويلزم من ذلك جواز مسّ المصحف مطلقا، لعدم خلوّ المصاحف عن النقص ولو بمثل كلمة أو حرفي، ومنه يعلم أن ليس المراد بالمصحف هنا معني الجملة بل مطلق المكتوب من القرآن قلّ أو كثر.

ولا يخفى ما في أكثر هذه الوجوه من عدم الاستقامة والخروج عن السداد.

فالتحقيق أن يقال: إنّ مستند المنع إن كان ما تقدّم من موثّقة أبي بصير ومرسلة حريز وقويّة إبراهيم بن عبد الحميد فلا يستفاد منها إلّا المنع من مسّ ما في المصحف من الأجزاء الداخلة فيه كما يظهر بالتأمّل، وكون كلّ جزء ممّا يصدق عليه القرآن غير مجد في عموم الحكم بالقياس إلى الأجزاء المنفصلة، لعدم كونه في الأخبار معلّقا على عنوان «القرآن» وكون الممسوس في المصحف ليس إلّا البعض لاستحالة مسّ الكلّ دفعة لا يقضي بعدم الفرق بعد ملاحظة أنّ المستفاد منع مسّ البعض حال كونه في المصحف، ولا يستفاد منها كون علّة المنع مراعاة جهة التعظيم لينهض ذلك مناطا مطّردا جاريا في الأجزاء المنفصلة أيضا.

ص: 84


1- أي سورة الماعون.

ولو سلّم فهو مجرّد إشعار لا يصلح للتعويل عليه في نظائر المقام، والمفروض أنّ موضوع البحث مسّ المصحف من حيث هو، بأن يكون هو بنفسه عنوانا في الشرع لا من حيث اندراجه في عنوان آخر معلوم الحكم كالإهانة والاستخفاف وما أشبه ذلك، وإلّا فلا ريب في المنع كائنا ما كان الممسوس.

نعم بناء على صحّة الاستناد إلى رواية عليّ بن جعفر السائلة عن الرجل «أيحلّ له أن يكتب القرآن في الالواح والصحيفة وهو على غير وضوء؟ قال: لا»(1) يتّجه المنع عموما، غير أنّه غير ظاهر في إرادة المنع عن مسّ الخطّ، وحمله على ما لا ينفك عنه تأويل يلتزم به حذرا عن مخالفة الإجماع، ولذا صار غير واحد إلى تأويله بحمل النهي على الكراهة بالقياس إلى نفس الكتابة فليس بداخل في عداد الظواهر.

نعم في حسنة داود بن فرقد المتقدّمة ما يعمّ المقام بدلالة ظاهرة، وفى الذخيرة(2)بعد ما حكى تلك الرواية أضاف إليها قوله: «وروى الشيخ في الصحيح عن رجل عن أبي عبداللّه عليه السلام قالت سألته عن التعويذ يعلّق على الحائض ؟ قال: لا بأس. وقال: تقرأه وتكتبه ولا تمسّه»(3) فإنّ التعويذ لا يخلو غالبا عن الأجزاء القرآنية كما لا يخلو غالبا عن أسماء اللّه وأسماء الأنبياء والملائكة، فبذلك يمكن أخذها دليلا على اطّراد المنع بالقياس إلى جميع المذكورات، بل مطلق الدعاء عملا بمقتضي ترك الاستفصال، غير أنّه حكم مخصوص بحدث الحيض، ولا موجب لتعديته إلى مطلق الحدث الشامل للمقام إلّا بمقدّمة خارجة، من تنقيح المناط أو عدم القول بالفصل، وكلاهما ممنوعان.

ومثله الكلام في موثّقة عمّار الساباطي المرويّة عن الشيخ في كتابي الأخبار عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «لا بمسّ الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم اللّه»(4).

وإن كان(5) ما تقدّم من الآية أمكن تعميم الحكم بالقياس إلى المقام أيضا لكونه

ص: 85


1- الوسائل 384:1 الباب 12 من أبواب الوضوء ح 4، التهذيب 127:1/345.
2- الذخيرة: 53.
3- الوسائل 342:2 الباب 37 من أبواب الحيض ح 1، الكافي 106:3/5.
4- الوسائل 214:2 الباب 18 من أبواب الجنابة ح 1، التهذيب 31:1/82، والاستبصار 113:1 / 374.
5- هذا ثاني شقّي الترديد في قوله: «والتحقيق أن يقال: إنّ مستند المنع إن كان ما تقدّم من موثّقة أبي بصير الخ».

فيها معلّقا على «القرآن» الموصوف بكونه في كتاب مكنون وكونه تنزيلا من ربّ العالمين، ولا ريب في عموم الوصفين لكلّ جزء داخل أو خارج، ومن هنا أمكن توسيط جهة التعظيم المستفادة من السياق. وإذا اضيف إلى ذلك عموم مفهوم «القرآن» من حيث اشتراكه معنى بين المجموع وكلّ بعض - على التحقيق - كما يشير إليه الإطلاق في رواية عليّ بن جعفر المتضمّنة لقوله: «أيحلّ له أن يكتب القرآن في الألواح والصحيفة» - نظرا إلى أنّ الّذي يكتب في الألواح والصحيفة لا يكون إلّا الأبعاض - تمّ المطلب، فيخرج ما سمعته من ذهاب المعظم وإطلاق الفتاوى ومنقول الإجماع مؤيّدا، من غير فرق في ذلك بين المنقوش في الدراهم والدنانير ونحوها، والمكتوب في الألواح وكتب التفاسير والأحاديث والكتب الفقهيّة وغيرها.

ولا ينافيه ما عرفت من الروايتين في مستند الذكرى بالنسبة إلى بعض ما ذكر، لعدم وضوح دلالتهما على الرخصة في مسّ الخط، لوقوع السؤال عن مسّ الدرهم نفسه لا خطّه.

ولو سلّم الإطلاق فهما معارضتان بما أشرنا إليه من الرواية «لا يمسّ الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم اللّه» بناء على أنّ كلّ من قال بالمنع في اسم اللّه قال به في القرآن، وكلّ من لم يقل به في القرآن لم يقل به في اسم اللّه، وغاية ما هنالك التساقط إن لم نقل بتقديم الرواية المانعة، لشيوع العمل بمضمونها وشذوذ العمل بمضمونهما.

هذا مع ما فيهما من ابتناء الدلالة على إطلاق المنع على مقدّمة الأولوية الّتي هي عند التحقيق في موضع المنع، لجواز الفرق بين الحدث الأصغر والأكبر بسهولة رفع الأوّل من جهة سهولة إيجاد سببه وهو الوضوء، بخلاف الثاني المتوقّف رفعه على الاغتسال الّذي يصعب إيجاده، فربّما يؤدّي إلى العسر والحرج، مع احتمال خروجهما مخرج التقيّة، كما يأتي إليه الإشارة في بحث مسّ الجنب ونحوه.

وقد يجاب عنهما أيضا: بأنّهما إنّما دلّا على جواز مسّ الدراهم وهو لا يستلزم مسّ المكتوب إلّا من جهة الإطلاق، فيقيّد بما دلّ على المنع من الأدلّة.

وهو ضعيف لأنّ تلك الأدلّة إن اريد بها الآية والروايات ليست إلّا مطلقات بينها وبين الروايتين عموم من وجه، فتقييد أحد الجانبين بالآخر ليس بأولى من العكس.

ص: 86

إلّا أن يقال: بابتناء ذلك على تقديم الحاظر على المبيح في فهم العرف، أو على كون الروايتين موهونتين بشذوذ القائل بهما ومصير المعظم إلى خلافهما.

الثاني: يعتبر في موضوع الحكم أحد الأمرين

من عدم احتمال الغير باشتماله على ما يختصّ بكلام الملك العلّام من إحدي الجهتين المتقدّم إليهما الإشارة علي سبيل منع الخلّو، أو مقارنة المكتوب للنيّة في موضع الاحتمال كما صرّح به جماعة تقدّم إلى بعضهم الإشارة، والعبرة في النيّة بنيّة الكاتب دون القارئ فلو انتفت النيّة ارتفع المنع، ولو جهلت ففيه وجه للمنع إلحاقا للمشكوك فيه بالغالب، لكنّه موضع نظر في كلّ من صغراه وكبراه، وعليه كان الأقوى عدم المنع للأصل، وإن كان الاحتياط ممّا ينبغي المحافظة عليه.

وضابط الوجهين صدق عنوان «القرآنيّة» في نظر العرف والعادة ولو بضميمة القصد والنيّة، وإن كان المكتوب شيئا يستحقّ مسمّاه الإهانة ك - «فرعون» و «هامان» و «إبليس» و «شيطان» و «الكلب» و «الخنزير» ونحوهما، من غير فرق فيه بين انواع الخطّ من المتعارف وغيره، ولا بين كيفيّاته من الجلاء والخفاء وألوانه من السواد والحمرة والبياض وغيره واستقامة الخطّ وخلافها من المعكوسات مرسوما أو محكوكا نفسه أو جوانبه، ولا بين كمّيّاته من سورة أو آية أو كلمة مجتمعة الحروف أو مقطّعتهما أو حرف حصل التلفّظ به عند القراءة أو لا، ك - «واو» أولئك و «الف» واو الجمع ونحوهما، بقي على أصله أولا كالألف المنقلبة عن حروف العلّة.

ولو جمع في الكتابة بين المنقلب إليه والمنقلب عنه كما في «كفؤا» على قراءة الهمزة كان الحكم جاريا عليهما معا، ولكون المأخوذ في بعض ما تقدّم من الاخبار عنوان «الخطّ».

فلجريان الحكم في الحركات إعرابيّة وبنائيّة والنقاط وجه، لكون الاولى من الخط والثانية جزءا منه.

لكن يدفعه: أنّ ذلك إنّما يستقيم إذا اريد من «الخطّ» ما يقابل «السطح» كما هو المعنى المصطلح عليه عند أهل الهندسة وهو بمعزل عن التحقيق، لأنّ خطاب الشرع لا يحمل على مصطلحات العلوم، بل المعتبر فيه ما ينساق منه عرفا من المفاهيم

ص: 87

اللغويّة، و «الخطّ» في العرف عبارة عمّا يتقوّم به جوهر الكلمة في الكتابة، وليس شيء من الحركات والنقاط. بتلك المثابة، وإنّما يؤتى بهما للتمييز بين مشتركات الكلمات والحروف هيئة ومادّة، فالحركة مميزة للهيئة والنقطة مميّزة للمادّة، فلذا لو عرت الكلمة عنهما معا كانت تامّة، بخلاف ما لو خلت عن حرف أو حرفين.

ويؤيّد ما ذكرناه ما عن الفاضل السيّد نعمة اللّه(1) في وجه الاختلاف الواقع في أزمان القرّاء من أنّ ذلك لأنّ المصحف الّذي دفع إليهم كان خاليا من الإعراب والنقط كما هو الآن موجود في المصاحف الّتي هي بخطّ مولانا أمير المؤمنين وأولاده عليه وعليهم السلام، قال: «وقد شاهدنا عدّة منها في خزانة الرضا عليه السلام».

وأمّا ما يكتب مع الكافات من نحو ما في «عليكم» من الخطّ المورّب وما في «عليك» من الهمزة، ففيه وجهان: من أنّ ذلك إنّما يكتب تمييزا بين «الكاف» و «اللام» فلا يلحقها المنع، ومن أنّ وضع «الكاف» بحسب أصل الرسم أن تكتب ذلك معها، فيكون من جوهر الخطّ فيلحقه المنع.

ويمكن الفرق بين ما في «عليكم» فالمنع وما في «عليك» من الهمزة فعدمه، لأنّ الامتداد الحاصل فيه قائم مقام ما في «عليكم» وبدل عنه، فليس هو من جوهر الحرف ولا مميّزا له، وهو الأقرب.

وفي المدّ والتشديد وجهان: من أنّهما ليسا من جوهر الكلمة فلذا لو خلت عنهما لم تكن ناقصة في نظر العرف فلا منع، ومن أنّهما بدلان عمّا يتلفّظ به من الحرف كما في الثاني أو حرفين فما زاد كما في الأوّل - وهو الأظهر - فالمنع.

وفي مثل «رحمن» و «لقمن» و «نعمن» و «ملك» ممّا يكتب تارة بإسقاط الألف واخرى برسمها كما في «رحمان» و «لقمان» و «نعمان» و «مالك» فالوجه المنع عن مسّ الألف حيثما ترسم لأنّها من جوهر الكلمة لفظا وكتبا في المتعارف، بخلاف ما لولم يكن رسمه متعارفا بحيث يعدّ في العرف غلطا كما في «داود» و «يلون» و «وري» إذا كتبت بالواوين، فالظاهر عدم المنع عن مسّ الزائد، وأظهر منه ما في «له» إشباعا إذا كتبت بصورة «لهو» وما في «فيه مهانا» على قراءة الإشباع - بناء على أنّه

ص: 88


1- منبع الحياة وحجّية قول المجتهد من الأموات: 69، المسألة التاسعة.

للتأنيث المبنيّ على عود الضمير إلى جهنّم - إذا كتبت بصورة «فيهى».

وفي لحوق ما يرسم بالاعداد والأرقام تردّد أقربه العدم لانتفاء الاسم، ولأجل ذا لا يلحق به الترجمة جزما، كما هو الحال فيما ينطبع في المرآت وغيرها من الأجسام الصيقليّة، وما يحسّ من وراء الأجسام اللطيفة والأوراق الرقيقة، لعدم كون مسّه مسّا لخطّ القرآن وإنّما هو مسّ للأجسام.

وفيما ينطبع من وراء الورق الرقيق بالنشر إشكال أحوطه المنع، ويقوى ذلك فيما لو كان المرسوم في الأصل معكوسا، فإنّ المنطبع بالنشر حينئذ مستقيم وهو قرآن.

وفيما يحصل بالريح أو انفطار الأرض أو انشقاق الشجر الإشكال، ولا يبعد الجواز فيه لأنّه ليس بقرآن بل هو شبه قرآن، ولو اطلق عليه القرآن فهو مسامحة مبنيّة على المشاركة في الصورة، فتأمّل.

وفي لحوق الحكم بما يرسم من خطّه بالإصبع على غير طهر احتمال مرجوح، لأنه ليس مسّا لخطّ القرآن وإنّما هو مسّ للجسم بما يحدث به الخطّ، فالمسّ يقع حقيقة قبل حدوث الخطّ.

ولا فرق فيما يحرم مسّه بين ما حدث بالرسم وما حدث بالبصم، كما أنّه لا فرق بين الناسخ منه ومنسوخه مع بقاء التلاوة كما صرّح به جماعة، وأمّا منسوخ التلاوة فلا يلحقه المنع، بقي حكمه أولا لخروجه عن الاسم.

وكما أنّ المسّ يحرم في ابتدائه فكذلك يحرم الاستدامة عليه، وقد تختصّ الحرمة بالاستدامة كما لو وضع جاهلا أو غافلا ثمّ علم أو تفطّن فإنّ الواجب حينئذ رفعه، كما انها قد تختصّ بالابتداء كما لو وضع إصبعه رطبا أو على مرسوم رطب بحيث أوجب زوال صورة الممسوس وانهدامها بأوّل الوضع.

الثالث: لا يحرم مسّ كلامه تعالى إذا لم يكن من القرآن،

ومنه الحديث القدسي والتوراة والزبور والإنجيل، ولا الأحاديث النبويّة أو الإماميّة الخالية عن الآيات القرآنيّة ما لم يقارنها قصد الاستخفاف والإهانة وإلّا حرم باستقلال من القوّة العاقلة، وكذلك لا يحرم مش اسم الله تعالى ولا اسم النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وسائر الأسماء المحترمة وفاقا

ص: 89

لجماعة منهم العلّامة الطباطبائي في مصابيحه(1) مدّعيا عليه الشهرة بين الاصحاب، للأصل السليم عن المعارض خلافا لمحكيّ الكافي(2) والموجز(3) وكشف الالتباس(4)وعيون المسائل(5) وشارع النجاة(6) من تحريم مسّ اسم اللّه تعالى إلحاقا للاسم بالقرآن أو المحدث بالجنب، واستنادا إلى التعظيم المطلوب.

وفيه: أنّ الإلحاق قياس، والتعظيم لا حكم له هنا وإن قلنا بأنّ المستفاد من دليل المنع في القرآن هو جهة التعظيم، فإنّ قصاري ذلك أنّ القرآن يجب تعظيمه بتجنّب مسّه على غير طهر لا أنّ كلّ ما يستحقّ التعظيم يجب فيه ذلك، والمسّ على غير طهر من حيث هو لا ينافي التعظيم ما لم يلحقه قصد الإهانة، ومع هذا فالاحتياط في نظائر المقام ممّا ينبغي مراعاته.

وعلى القول بالتحريم فلو كان اسم اللّه أو غيره من الاسماء المحترمة في القرآن تضاعف العصيان كما تنبّه عليه في كشف الغطاء قائلا: «ولو مسّ اسم الله في القرآن تضاعف العصيان، ولعلّ حرمة مسّ الأسماء والسور والآيات المختلفة في التعظيم مختلفة في شدّة التحريم وضعفه، وتظهر الثمرة فيما إذا اضطرّ إلى أحدها» انتهى(7).

وممّا يتضاعف فيه التحريم والعصيان ما لو قصد الإهانة في مسّ القرآن.

الرابع: ليس الخبث كالحدث في تحريم مسّ الكتابة مع الاشتمال عليه،

فلا إشكال في انتفاء المنع إذا حصل المسّ بغير العضو المتنجّس، للأصل وظاهر الإجماع ومنقوله في المصابيح(8).

وأمّا المسّ بالعضو المتنجّس مع التعدّي فلا إشكال في تحريمه، ضرورة حرمة تنجيس المصحف ولا اختصاص له بالكتابة.

وأمّا مع عدم التعدّي ففيه قول بالمنع محكيّ عن العلّامة في التذكرة(9) غير أنّ مستنده كما اعترف به السيّد في المصابيح(10) غير واضح، وأمكن كونه الاستخفاف وإن

ص: 90


1- مصابيح الأحكام 576:1.
2- الكافي في الفقه: 126.
3- الموجز (ضمن الرسائل العشر لابن فهد الحلّي): 43.
4- كشف الالتباس 167:1.
5- عيون المسائل: 24.
6- شارع النجاة: 40.
7- كشف الغطاء 76:2.
8- مصابيح الأحكام 583:1.
9- التذكرة 136:1.
10- مصابيح الأحكام 583:1.

ناقش في اطّراده السيّد ففيه منع واضح يعرف وجهه ممّا تفدّم، ولم يثبت في الآية المتقدّمة عموم بحيث يشمل الطهارة من الخبث، فالأصل يقتضي العدم وإن كان المنع لا يخلو عن قوّة، كما يفصح عنه ما لو تطهّر عن الحدث ثمّ تلطّخ بجميع أعضائه بالنجاسة فإنّه لا يقال عليه أنّه مطهّر، والمنع المستفاد من الآية قائم بغير المطهّرين لا بالمحدثين خاصّة، وقضيّه ذلك المنع حتّى عن المسّ بغير العضو المتنجّس، إلّا أن يقوم إجماع على التخصيص، أو ينهض أخبار الباب قرينة كاشفة عن إرادة المحدثين خاصّة، وللمنع عن كلّ من الأمرين مجال واسع، والاحتياط في مثله يجب مراعاته.

الخامس: يجوز مسّ ما عدا الكتابة من الجلد والورق والهامش وما بين السطور إذا لم يستلزم مسّ الكتابة من غير خلاف،

بل في المنتهى: «هو قول علمائنا أجمع»(1)وفي المعتبر: «هو مذهب فقهائنا»(2) للأصل، وعدم ثبوت المنع إلّا في الكتاب، مضافا إلى صريح ما تقدّم عن حريز من الرواية «لا تمسّ الكتاب، ومسّ الورق»(3) ونحوه ما في رواية أبي بصير(4) من نفي بأس القراءة على غير طهر إلّا مسّ الكتاب، فإنّ قراءة المصحف لا ينفك عادة عن مسّ المذكورات.

وفي حكمها مسّ أسامي السور والعلامات من الأجزاء والأنصاف والأحزاب والأخماس والأعشار ومصطلحات القرّاء وأساميهم ورسومهم في تمييز ألقاب السور، ولا ينافي الجميع رواية إبراهيم بن عبد الحميد «المصحف لا تمسّه على غير طهر، ولا جنبا، ولا تمسّ خيطه ولا تعلّقه» الخ(5) بناء على نسخة «الخيط» أو إطلاق «المصحف» بحيث يشمل المذكورات أيضا، فإنها لعدم قائل بمضمونها على أحد هذين التقديرين مطروحة أو مؤوّلة، مع ما فيها من احتمال خروجها مخرج التقيّة، نظرا إلى أنّ المنع هنا محكيّ عن الشافعي وأحمد كما في المعتبر(6). وفي المنتهى: «أ نّه منع الأوزاعي والشافعي من مسّ هامشه وجلده وصندوقه إذا كان فيه وخريطته كذلك، ولو كان في

ص: 91


1- المنتهى 153:2.
2- المعتبر 175:1.
3- الوسائل 383:1، الباب 12 من أبواب الوضوء ح 2، التهذيب 126:1/342.
4- الوسائل 383:1، الباب 12 من أبواب الوضوء ح 1.
5- الوسائل 384:1، الباب 12 من أبواب الوضوء ح 3.
6- المعتبر 176:1.

صندوق الأقمشة أو عدل معكم ففي جواز مسّه للشافعي وجهان، وقال مالك: أحسن ما سمعت أنّه لا يحمل المصحف بعلاقته ولا في غلافه إلّا وهو طاهر» انتهى(1).

نعم يكره حمله أو تعليقه للمحدث وفاقا للمعتبر والمنتهى والذكرى والحدائق وشرح الدروس للخوانساري والمصابيح(2) وغيره، بل في شرح الدروس: «الظاهر أنّه إجماعي» فتأمّل، ومستنده رواية إبراهيم بن عبد الحميد المتقدّمة(3) ولا بأس للتعويل عليها مضافا إلى فتوى من تقدّم تسامح.

وأمّا كتابته للمحدث فعن المفاتيح وشرحه ومشرق الشمسين للبهائي القول بتحريمها أخذا بظاهر الحديث المتقدّم(4) وعن نهاية الإحكام والتذكرة - كما في المنتهى والتحرير - القطع بالجواز(5) وفي مصابيح السيّد: «هو المعروف من مذهب الاصحاب»(6).

لكن في الذكرى كراهية الكتابة له كالحمل أو التعليق(7) استنادا إلى النهي عن ذلك في رواية عليّ بن جعفر(8) وعن المهذّب والنزهة وكشف اللثام استحباب الوضوء لها للرواية(9) ولعلّه من جهة أنّ الكتابة محدثا إذا كانت مرجوحة فلا جرم تكون هي متطهّرا أمرا راجحا، ولا يعني من المستحبّ إلّا ما كان فعله راجحا.

وفيه: أنّ قصارى ما يسلّم من ذلك انتفاء المرجوحيّة مع وجود الطهارة، وهو أعمّ من وجود الرجحان الّذي هو مناط الاستحباب، ومن هنا لا يلتزم الوجوب في مسّ الكتابة، فإنّ انتفاء الحرمة مع وجود الطهارة أعمّ من وجوب الطهارة، ولذا تكون الطهارة هنا شرطا لإباحة المسّ .

وكيف كان فالقول بالحرمة ضعيف جدّا، والحديث المشار إليه إن أريد به رواية عليّ بن جعفر مؤوّل أو محمول على الكراهة، ومع ذلك فهو معارض بما تقدّم من

ص: 92


1- المنتهى 153:2.
2- المعتبر 176:1، المنتهى 153:2، الذكرى 265:1، الحدائق 124:2، مشارق الشموس: 14، مصابيح الأحكام 580:1.
3- تقدّم في الصفحة: 73 الرقم 3.
4- مفاتيح الشرائع 38:1، مصابيح الظلام 59:3، مشرق الشمسين (المطبوع مع الحبل المتين): 30.
5- نهاية الإحكام 20:1، التذكرة 136:1، المنتهى 155:2، التحرير 85:1.
6- مصابيح الأحكام 577:1.
7- الذكرى 265:1.
8- تقدم في الصفحة 78 الرقم 8.
9- المهذّب 32:1، نزهة الناظر: 12، كشف اللثام 124:1.

الروايتين في الحائض «يعلّق عليها التعويذ؟ قال: نعم لا بأس، وقال: تقرأه وتكتبه ولا تصيبه يدهما»(1) كما في إحداهما، وفي الاخرى: «تقرأه وتكتبه ولا تمسّه»(2).

ويستفاد عن سيّد المصابيح دعوى الإجماع على الجواز قائلا: «وممّا يكشف عن الإجماع سيرة الناس وتتبّع أحوال السلف وعدم التزامهم بالطهارة في كتابة المصاحف والتعاويذ والأحراز والتفاسير وكتب القراءة والتجويد وغريب القرآن وكتب الحديث والاستدلال وغيرها من الكتب الإسلاميّه المشتملة على كثير من الآيات القرآنيّة في المطالب المتكثّرة من الفنون المنشعبة، ولا دقلّ من البسملة في أوائل الكتب، ومن المعلوم مسيس الحاجة إلى كتابة ذلك كلّه وضبطه وتصحيحه، ولو كانت مشروطة بالطهارة لاشتهر المنع واتّضح الأمر وعرفه الخاصّ والعامّ ، بل كان معلوما من دين الإسلام»(3).

السادس: العبرة في المسّ بإصابة جزء من الجسد كائنا ما كان لا خصوص باطن الكلفّ ،

للعرف الكاشف عن أصل اللغة، بضميمة أصالة عدم النقل، ولذا لو قيل: «مسسته بيدي» لا يفهم منه تكرار، كما أنّه لو قيل: «مسسته بوجهي» لا يفهم منه تناقض.

ويؤيّده ما قيل من أنّ العلّة في المنع حفظ القرآن عن إصابة المحدث ولا يختصّ ذلك باليد، وربّما يستشهد للعموم بأنّهم اتّفقوا على وجوب الغسل بمسّ الميّت مطلقا ولم يقيده أحد بمسّه بباطن الكفّ ، وليس في كلام أئمّة اللغة ما ينافي ذلك.

نعم عن القاموس(4) ما يوهم المنافاة حيث فسّر المسّ باللمس، واللمس بالمسّ باليد، وقريب منه ما في كلام غيره.

ويدفعه: أنّ ذكر اليد مثال، وتخصيصها بإرادة المثال لأنها الغالب فيما يتحقّق به المسّ واللمس، ولا مانع من كونهما مترادفين كما هو قضيّة التفسيرين.

وأمّا ما قيل في منع ترادفهما دفعا للمنافاة المتوهّمة من أنّ اللمس ما اخذ فيه الإحساس بخلاف المسّ .

ففيه: مع أنّ توهّم المنافاة ليس مبنيّا على ثبوت الترادف بينهما فالإشكال بعد باق

ص: 93


1- تقدم في الصفحة 79 الرقم 2.
2- تقدم في الصفحة 85 الرقم 3.
3- مصابيح الأحكام 577:1-578.
4- القاموس 784:1.

على حاله، منع كون ما ذكر من الفرق ثابتا باعتبار العرف واللغة، وإنّما هو أمر اصطلاحي لا يعبأ به في خطابات الشرع.

وما اخترناه خيرة المعتبر والمنتهي والذكري وشرح الدروس للخوانساري والحدائق(1)وعزي إلى جامع المقاصد ومنهج السداد(2) ومعالم الدين والروض والمدارك والذخيرة والبحار وعيون المسائل وشارع النجاة(3) والاختصاص بباطن الكفّ نسبه في المنتهى وشرح الدروس إلى قول من غير تعيين قائله مشيرين إلى تمريضه.

وقد يقال: بأنّ هذا القول لعلّه لبعض العامّة، ويحتمل كون المراد به ما عزي إلى المهذّب البارع(4) من التصريح بأنّ ذلك هو العرف.

ويردّه ما عرفت من قضاء العرف بخلافه.

ثمّ إنّ ظاهر إطلاق الفتاوى والأدلّة كتابا وسنّة عدم اختصاص المنع بما يتحقّق من المسّ بظاهر البشرة، بل يعمّه وما يتحقّق بالبواطن حيثما فرض كطرف اللسان ونحوه، كما صرّح به سيّد المصابيح(5) وعزاه إلى ظاهر جماعة وصريح اخرى. فما عن المعالم(6) من التصريح باختصاصه بالظواهر وعدم تناوله للبواطن - كما قد يستظهر ذلك أيضا عن المدارك(7) والذخيرة والبحار ومنهج السداد لقولهم: بأنّ المراد بالمسّ الملاقاة بجزء من البشرة وهي على ما في القاموس(8) ظاهر جلد الإنسان - ليس بسديد، والتفسير المذكور على تسليم ظهوره في إرادة ما ذكر غير وجيه، لصدق «المسّ » عرفا على ما يتحقّق بالبواطن.

والقول بأنّ حكم الحدث يتعلّق بالظاهر دون الباطن ضعيف، إذ الحكم إنّما تعلّق بالمحدث الّذي لا وضوء له فلا يتفاوت الحال في ذلك بين ظواهره وبواطنه، ضرورة أنّه لو مسّه بشيء من بواطنه صدق في حقّه أنّه مسّ القرآن وهو محدث أو ليس على

ص: 94


1- المعتبر 176:1، المنتهى 154:2، الذكرى 266:1، مشارق الشموس: 14، الحدائق 124:2.
2- جامع المقاصد 232:1، عزي إليه في معالم الدين 54:1.
3- معالم الدين 54:1، روض الجنان 145:1، المدارك 279:1، الذخيرة: 52، البحار 57:81، عيون المسائل: 62، شارع النجاة: 41.
4- المهذّب البارع 138:1.
5- مصابيح الأحكام 555:1.
6- معالم الدين 54:1.
7- المدارك 279:1.
8- القاموس 249:2-251.

وضوء، ولا يعتبر فيه كون الجزء الماسّ ممّا يقبل صفة الحدث، هذا مع ما قيل: من أنّ الحدث معنى قائم ببدن الإنسان ظاهره وباطنه وإن تعلّق رفعه بالظاهر.

نعم ينبغي القطع بعدم المنع في الشعر وفاقا لغير واحد من الأصحاب، لكن لا لما عن ثاني الشهيدين(1) من تعليل دعوى اختصاص المنع بما تحلّه الحياة من أجزاء البدن بأنّ ما لا تحلّه الحياة لا يتعلّق به حكم الحدث، لأنّه على ما عرفت واضح الضعف، بل لعدم صدق «المسّ » على ملاقاته عرفا.

وأمّا السنّ والظفر والعظم والعضو الميّت الغير المنفصل عن البدن ففي لحوق الحكم بها وعدمه تردّد، منشأه التشكيك في صدق الاسم المعلّق عليه الحكم، وفي كلام الأصحاب اضطراب عظيم واختلاف شديد في المذكورات، فإنّ منهم من منع الحكم في الجميع، ومنهم من منعه في الشعر والسنّ وسكت في الباقي، ومنهم من نفى البأس عن الشعر والسنّ وتردّد في الظفر، ومنهم من جعل الظفر والشعر ذا وجهين، ومنهم من نفاه عن الشعر وجعل الظفر ذا وجهين، ومنهم من نفاه عن الشعر والظفر ثمّ تنظّر في الأخير، ومنهم من نفاه عن السنّ والشعر وأطراف الأظافير، ومنهم من استقرب حصول المسّ بالظفر والسنّ والعظم وذكر في الشعر وجهين.

السابع: لا إشكال كما لا خلاف في عدم تحريم مسّ الكتابة بغير وضوء على الصبيّ وإن كان مميّزا،

السابع(2): لا إشكال كما لا خلاف في عدم تحريم مسّ الكتابة بغير وضوء على الصبيّ وإن كان مميّزا،

كما أنّه لا إشكال في عدم اتّفاق وجوب المسّ عليه بشيء من أسبابه، لامتناع توجّه الخطاب إليه كالمجنون، ومن هنا يعلم أنّ الوضوء في حقّه - ولو قلنا بأنّه يؤثّر في الطهر بناء على أنّ عباداته شرعيّة لا تمرينيّه صرفة - ليس شرطا لإباحة المسّ ، فلا يتصف في حقّه بالوجوب الشرطي أيضا كما لا يتّصف بالوجوب الشرعي.

أمّا أوّلا: فلانتفاء الحرمة رأسا.

وأمّا ثانيا: فلامتناع الإباحة بالنسبة إليه أيضا، بناء على أنّ أفعاله كأفعال البهائم خالية عن الخطاب التكليفي طلبيّا أو تخييريّا، ضرورة أنّ توجّه الخطاب التكليفي إذا

ص: 95


1- روض الجنان 145:1.
2- وفي الأصل: «السادس» بدل «السابع» وهو سهو منه (ره) ولذا صحّحناه بما في المتن.

كان مشروطا بالبلوغ فلا يتفاوت الحال فيه بين الطلبي وغيره، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط بجميع أقسامه.

وفي وجوب منعه عن المسّ وعدمه قولان: أوّلهما للمعتبر والمنتهى والتحرير والذكرى(1) كما عن التذكرة ومنهج السداد وشارع النجاة(2).

وثانيهما عن الروض والمدارك ونهاية الإحكام(3) كما في شرح الخوانساري والحدائق والمصابيح والجواهر(4).

وليس للأوّل وجه يعتمد عليه سوي ما احتمله قويّا في المصابيح(5) من أنّ وجه المنع من مسّ كتابة القرآن صونه عن ملاقاة المحدث فيدلّ ذلك على وجوب المنع والامتناع ونظيره ممّا يكون من هذا الباب منع الصبيّ عن اللعب بالمصحف، وعن إصابته بالنجاسة المتعدية وكلّ ما يؤدّي إلى الاستخفاف والاتهان، وممّا يكون من غير هذا الباب منعه عن قتل النفس والسرقة والزنا واللواط وما أشبههما، ومثله وجوب تنبيه الغافل ومنعه إذا أراد شيئا يلحقه به ضرر في النفس أو المال أو العرض، وكذا وجوب دفع أذى الحيوانات كالسبع الضارّ والكلب العقور والدابّة الصائلة مع انتفاء التكليف في الجميع، والضابط في ذلك وجوب المنع والدفع في كلّ ما علم أنّ غرض الشارع عدم دخول مثله في الوجود من دون أن يكون للتكليف دخل في مصلحة الترك.

وأنت خبير بوهن جميع ما ذكر.

والأقرب هو الثاني للأصل، وعدم نهوض ما يقطعه من الشرع، فإنّ وجوب المنع إمّا من جهة اندراجه في قاعدة النهي عن المنكر أو اندراجه في قاعدة الدعاء إلى الخير، المستفادتين من قوله عز من قائل: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (6) أو اندراجه في قاعدة تعظيم القرآن بدعوى: أنّ عدمه ترك للتعظيم الواجب، ولا سبيل إلى شيء من ذلك.

ص: 96


1- المعتبر 176:1، المنتهى 154:2، التحرير 85:1، الذكرى 265:1.
2- التذكرة 135:1، نقل عنه في مصابيح الاحكام: 85، شارع النجاة: 41.
3- الروض 145:1، المدارك 279:1، نهاية الإحكام 33:1.
4- مشارق الشموس: 15، الحدائق 125:2، مصابيح الأحكام: 586، الجواهر 317:2.
5- مصابيح الأحكام 587:1.
6- آل عمران: 104.

أمّا الأوّل: فلأنّ كون شيء منكرا فرع على التكليف والمفروض في الصبيّ انتفاؤه.

وأمّا الثاني: فلمنع انطباق محلّ البحث على هذه القاعدة، ومنع اندراجه في الآية، فإنّ الخير الواقع فيها وإن أمكن حمله على إرادة فعل الواجبات وترك المحرّمات ليختصّ مفادها بواضع التكليف المنتقي فيما نحن فيه، غير أنّ ظهور العطف في البينونة ممّا يأبى إلّا وأن يحمل على إرادة ما يقابل الشرّ ممّا يصلح فعله أو تركه بحال المدعوّ، واحتمال كون مصلحة الفعل أو الترك مرادا بها ما يرجع إلى أمور المعاش وإن كان يخرج مفاد الآية عمّا نحن فيه، غير أنّ ظهور الأمر في الوجوب مع ملاحظة عدم مصير أحد إلى وجوب بيان ما يرجع من المصالح إلى امور المعاش ممّا يمنع إلّا وأن يحمل المصلحة على إرادة ما يرجع إلى امور المعاد، فيرجع مفاد الآية إلى إيجاب الحمل على ما لولا مانع التكليف لكان المحمول على فعله أو تركه معروفا وكان خلافه - تركا أو فعلا - منكرا، وعليه يخرج الآية أيضا عمّا نحن فيه، لأنّ أقصى ما استفيد منها حينئذ وجوب حمل الغافل أو الجاهل بالحكم أو الموضوع على إدراك المصالح الواقعيّة والتحفّظ عن المفاسد النفس الأمريّة، المستتبع لتوجّه الخطاب إليه فعلا، وظاهر أنّ محلّ البحث وهو الصبيّ ليس بصالح لذلك.

وإن أبيت إلّا وأنّ مانع التكليف أعمّ من الصبا، فالمقتضي للإرشاد إلى الواقع المجرّد عن التكليف الفعلي كما أنّه موجود بالقياس إلى الغافل والجاهل فكذلك بالقياس إلى الصبيّ ، لاشتراكهما في انتفاء شرط التكليف الغير المنافي لوجود المصلحة الواقعيّة فنقول: بمنع تساويهما في وجود المقتضي للإرشاد، فإنّ إيجاب الإرشاد إلى المصالح والمفاسد اللّتين تنبعث عنهما الأحكام كإيجاب تعليم الاحكام ليس إلّا كإيجاب تبليغ الأحكام على النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ووصيّه، فلا مقتضي له إلّا اللطف الواجب عليه تعالى لأنّه من متمّماته، فلو اقتضى اللطف إيجابه بالنسبة إلى الصبيّ أو المجنون لاقتضى وجوب جعل التكليف بالنسبة إليهما لأنّه أيضا من اللطف، والتالي باطل.

مع أنه لو صحّ ذلك لقضى باطّراد الحكم في جميع ما يجب أو يحرم على غيرهما، وهو أيضا باطل.

مع أنّه لا معنى للإرشاد المذكور إلّا تعليم الأحكام الّتي يستتبعها المصالح

ص: 97

والمفاسد، والتنبيه على موضوعاتها من الأفعال أو الأعيان الّتي تتعلّق بها الأفعال المشتملتين عليهما، فإنّ كلّا من ذلك دعاء إلى الخير بالمعنى المذكور وإرشاد إليه، فيختصّ بغير الصبيّ والمجنون.

ومنع الصبيّ عن قتل النفس والسرقة والزنا واللواط - حسبما تقدّم ذكره - لا ينهض شاهدا بالمنع عن المسّ المحزم على غيره، وإلّا لقضى بالمنع عن كلّ محرّم على غيره، مع أنّ ذلك في أوّل ما ذكر لأجل ما يجب على المكلّفين من حفظ النفس المحترمة، ومن المعلوم أنّ ترك المنع ترك للحفظ الواجب، وحفظ القرآن عن مسّ غير المتطهّر لم يثبت وجوبه عليهم بالدليل، بل غاية ما ثبت عليهم حرمة مسّهم له على غير طهر، وهو ليس من وجوب حفظه عن مسّ غيرهم في شيء، وهو في البواقي لئلّا يتعوّد من الصغر عليها إلى أن يحصل له ملكة وطبيعة ثانويّة في الإقدام عليها، بحيث عاد أمره في زمن الكبر أيضا إلى ارتكابها بمقتضي تلك العادة والملكة والطبيعة الثانويّه، ولا ريب أنّ محلّ البحث ونظائره ممّا ليس من مشتهيات النفس لا يقتضي عادة بالغة حدّ الملكة والطبيعة الثانويّة ليجب حفظه عن تحصيلها، وقضيّة ذلك كلّه كون الآية في مقام إيجاب تنبيه الغافل وتعليم الجاهل والمقام ليس منه.

وأمّا الثالث: فلمنع منافاة المسّ على غير وضوء حتّى من الصبيّ للتعظيم، مع توجّه المنع إلى إطلاق وجوب تعظيم القرآن.

نعم إنّما قضت الأدلّة من الكتاب والسنّة بوجوب تعظيمه بامتناع مسّه محدثا، ولا دليل على وجوب البعث على تعظيمه بمنع مسّه على غير وضوء كما هو محلّ البحث، والفرق بين المقامين واضح.

ثمّ وجوب المنع على فرض ثبوته كفائيّ ، لكونه عن مصلحة واحدة يتأتّى عن كلّ أحد من دون مدخليّة خصوصيّة فيه، فلا يختصّ بالوليّ كما يوهمه بعض العبائر، وليس في كلام القوم ما يقضي باختصاص النزاع بالوليّ كما توهّمه في المدارك(1) واللّه الهادي إلى المسالك.

ص: 98


1- المدارك 279:1.
المرحلة الثانية في الوضوءات المندوبة

وليعلم أوّلا: أنّه قد ملئت الفتاوى باستحباب الوضوء في امور لا يستفاد من دليل كثير منها باعتبار السنّة - كقراءة القرآن ومسّه وعمله وكتابته ونوم الجنب وجماع الحامل وطلب الحاجة ودخول المسافر أهله وغير ذلك ممّا ستسمع - إلّا كراهة الفعل على غير وضوء كما ستعرفه، فإطلاق الاستحباب بالقياس إلى الجميع إمّا بناء على إرادة ما يعمّ انتفاء الكراهة والاستحباب المصطلح، أو على استفادة الاستحباب المصطلح من دليل آخر لم نقف عليه، ولعلّه الإجماع المنقول كما هو موجود في أكثر هذه الامور، أو على أن ترك المكروه مستحبّ كما سبق إلى بعض الأوهام وقد أشرنا سابقا الى ضعفه، أو على أنّ المنساق عرفا من النهي الوارد في تلك الأمور إنّما هو استحباب الوضوء لأجلها، وإن كان المستفاد منه مع قطع النظر عن الانسباق العرفي القائم هنا بملاحظة المقام كراهة إيقاعها من غير وضوء، كما اعتذر به بعضهم في وجه الحكم بالاستحباب مع قيام ما يقتضي الكراهة لا غير.

ثمّ المستفاد من دليل بعض ما ستسمع كدخول المساجد ونحوه استحباب الفعل متطهّرا، وقضيّة ذلك كون المراد باستحباب الوضوء في إطلاق الفتاوى ما يعمّ الاستحباب الأصلي المستفاد من الخطاب به أصالة والاستحباب المقدّمي المستفاد من خطاب الغير تبعا، وإن كان هو في كليهما غيريّا.

نعم قد يستحبّ لنفسه إذا لم يكن استحبابه لغاية مستحبّة كما هو الحال في الوضوء للكون على الطهارة على ما ستعرفه، ومن هنا نشأ إطلاق القول باستحباب

ص: 99

الوضوء لنفسه.

ولك أن تمنع النفسيّة منه مطلقا حتّى في هذا المقام وإن ورد الخطاب به أصالة، فإنّ المتّصف بالنفسيّة إنّما هو حالة الطهارة والكون عليها والوضوء سبب لها على ما أشرنا إليه في الفوائد المتقدّمة عند شرح الطهارة. ومعلوم أنّ الأمر بالسبب ولو استحبابيّا لأجل التوصّل إلى المسبّب غيريّ إذا كان المسبّب أيضا موردا لنحو هذا الأمر وإن غايره في النفسيّة، وكون الطهارة بنفسها خارجة عن قدرة المكلّف لا يمنع من تعلّق الأمر بها لنفسها، لما هو المحقّق عندنا المقرّر في المطالب الأصوليّة من جواز تعلّق التكليف كائنا ما كان بالأفعال التوليديّة والطهارة منها، فالمتّصف بالغيريّة. نارة والنفسيّة أخرى إنّما هو الطهارة، وأمّا الوضوء الّذي هو من الأفعال المباشرية فلا يتّصف إلّا بالغيريّة وجوبا أو استحبابا.

لكن بقي هنا كلام آخر لم نقف على كلام لهم في تحقيقه وهو أنّ الطهارة إذا كانت مستحبّة لنفسها غير ملحوظ معها غاية أخرى فورود الخطاب به لأجل ما يأتي من الغايات الّذى هو مناط الغيريّة هل هو من باب أنّها أفضل الفردين ممّا يحصل لا لغاية وما يحصل لأجل إحدى تلك الغايات، كما هو الحال في قراءة القرآن متطهّرا مقيسة إلى قراءته غير متطهّر، أو من باب أنّ ما يثبت فيها لأجل الغاية تأكد استحباب ثابت فيها مطلقة لا أنّه استحباب آخر غير ما هو ثابت لها لنفسها، كما هو الحال في قنوت الصلاة ونحوه ممّا حكموا فيه بأنّه مستحبّ مؤكد، أو من باب اجتماع استحبابين فعليّين مختلفين في كون أحدهما نفسيّا والآخر غيريّا؟ وجوه، أقواها الأخير، لأنّ الأفضليّة إنّما تثبت في الماهيّة الراجحة بنفسها إذا طرأتها خصوصيّة تنشأ منها مزيّة اخرى موجبة لزيادة استحقاق المثوبة، والماهيّة الراجحة هنا وإن كانت هو الكون على الطهارة، لكنّ الخصوصيّة ليست إلّا جهة المقدّميّه الطارئة له لأجل التوصّل إلى الغاية المضروبة له، ومن المقرّر في محلّه أنّ جهة المقدّميّه الطارئة لشيء لا تنشأ منها مثوبة ولا استحقاقها.

بل لك أن تقول: بأنّه إذا أتى بالطهارة لمجرّد التوصّل إلى الغاية ثمّ أتى بالغاية لم يكن له إلّا استحقاق المثوبة المترتّب على الغاية كما يظهر بأدنى تأمّل، وتأكد

ص: 100

الاستحباب من لوازم ماهيّة بلغت في الرجحان إلى مرتبة تقرب من مرتبة الوجوب، والنفسية مع الغيريّة جهتان متغائرتان لا تصلح شيء منهما مؤكدة للأخرى، لا أنّهما جهة واحدة متأكدة يترتب عليه الحكم المتأكد، فإذا اعتبرناهما معا مقتضيتين لمقتضاهما من الاستحباب النفسي والاستحباب الغيري كان الحكمان متواردين مجتمعين معا.

ويظهر الفائدة فيما لو نوى امتثال الأمر النفسي أو امتثال الأمر الغيري أو امتثالهما معا، فإنّ العمل صحيح على التقادير من غير فرق فيه بين القول بأصالة التداخل في الأسباب والقول بأصالة عدمها كما لا يخفى، فإنّ هذه المسألة ونظائرها خارجة عن هذا النزاع، وانتظر لتمام المطالب المتعلّقة بالمقام في آخر بحث الأقسام.

فمن جملة ما حكموا فيه باستحباب الوضوء له إنّما هو الكون على الطهارة، وكون ذلك - على ما هو المعهود منهم والواقع في كلامهم - من غايات الوضوء لا ينافي كون التوصّل إلى أكثر سائر الغايات ممّا لا يتأتّى إلّا مع حصوله، فيكون فيها أيضا هو غاية الوضوء ومعه لا ينبغي مقابلته لها، لوضوح الفرق بين المقامين بأنّه في أحدهما غاية مقصودة من الوضوء أصالة وفي الآخر غاية مقصودة تبعا، والمقصودة بالأصالة في غير الكون على الطهارة إنّما هو الغايات الأخر المتوقفة على الكون على الطهارة، فالمقابلة حاصلة بينه وبينها، مع إمكان المنع عن كونه في سائر الغايات ممّا يشمله مفهوم الغاية، بناء على أنّها عبارة عن الغرض المطلوب من الشيء وليس الغرض المطلوب من الوضوء في سائر الغايات هو الكون على الطهارة وإن كان من لوازمه.

ودليه بعد الإجماع - كما تمسّك به جماعة من الفحول - والتحسين العقلي على ما احتمله المحقّق الأردبيلي في شرحه للإرشاد(1) روايات ضبطها غير واحد كقوله صلى الله عليه و آله وسلم: «يا أنس أكثر من الطهور يزيد اللّه في عمرك، وإن استطعت أن تكون بالليل والنهار على طهارة فافعل، فإنّك تكون إذا متّ على طهارة متّ شهيدا»(2) كما تمسّك به

ص: 101


1- مجمع الفائدة والبرهان 69:1.
2- الوسائل 383:1 الباب 12 من أبواب الوضوء ح 3، أمالي المفيد: 60/5.

في الجواهر(1).

وما عن الإرشاد للديلمي عنه صلى الله عليه و آله وسلم: «يقول الله تعالى: من أحدث ولم يتوضّأ فقد جفاني»(2) و ما عن نوادر الراوندي عن أمير المؤمنين عليه السلام «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم إذا بالوا توضّأوا أو تيمّموا مخافة أن تدركهم الساعة»(3) كما تمسّك بهما فيه(4) وفي الحدائق(5).

وتمسّك له المحقّق البهبهاني(6) بما ورد من الأخبار في فضل الوضوء منها: عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أنّه قال - في فضيلة الوضوء -: «إذا وضعت يدك في إنائك ثمّ قلت: بسم الله تناثرت منها ما اكتسبت من الإثم، فإذا غسلت وجهك تناثرت الذنوب الّتي اكتسبتها عيناك وفوك، وإذا غسلت ذراعيك تناثرت الذنوب عن يمينك ويسارك، وإذا مسحت رأسك وقدميك تناثرت الذنوب الّتي مشيت إليها على قدميك، فهذا لك في وضوئك»(7).

وهذا لا يخلو عن نظر واضح، لعدم تعرّض الرواية لبيان أنّ هذا الفضل ثابت للوضوء لنفسه، وأنّه من لوازم الاستحباب ليلزم منه استحبابه لنفسه أو استحباب الكون على الطهارة لنفسه، فلعلّه من لوازم وضوء الفريضة أو غيره ممّا له غاية اخرى، أو أنّه من جهة وجوبه لنفسه على ما تقدّم نقل القول به، إلّا أن ينضمّ إليها مقدّمات أخر مثل أنّها تدلّ على حصول هذا الفضل على جهة الاستحقاق لا على جهة التفضّل والإحسان، وأنّ ما يجب أو يستحبّ لغيره لا يقتضي حصول المثوبة على جهة الاستحقاق، وأنّ الوضوء لا يجب لنفسه والقول به مقطوع بفساده.

وفي كلام غير واحد من الفحول الاستدلال بامور أخر غير ما ذكر، مثل قوله عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ (8) وما ورد من «أنّ المؤمن معقّب

ص: 102


1- الجواهر 18:1.
2- الوسائل 382:1 الباب 11 من أبواب الوضوء ح 2، إرشاد القلوب: 94.
3- مستدرك الوسائل 298:1/2 الباب 11 من أبواب الوضوء، نوادر الراوندي: 39.
4- الإرشاد: 60.
5- الحدائق 141:2.
6- مصابيح الظلام 148:3.
7- الوسائل 393:1 الباب 15 من ابواب الوضوء ح 12، الفقيه 130:2/551، الكافي 71:3/7، أمالي الصدوق: 441/22.
8- البقرة: 222.

ما دام متطهّرا»(1) وفي معناه ما أرسله في المجمع من قوله عليه السلام: «إن كنت على وضوء فأنت معقّب»(2) وهو مأخوذ من تعقيب الصلاة، والمقصود تشبيه المتطهّر بالمتشاغل للتعقيب، يعني له من الأجر والثواب كأجر التعقيب وثوابه، وأنّه عبادة غير موقّتة فاستحبّ فعله دائما.

وفي هذا الأخير من المصادرة ما لا يخفى، فإنّ العبادة ممّا لابدّ فيه من الرجحان المستلزم لطلب الشارع ندبا أو إيجابا، وكون الوضوء لنفسه أو للكون على الطهارة راجحا أوّل المسألة. وفي صحّة الاستناد إلى أوّل الوجوه أيضا تأمّل، ولا سيّما بعد ملاحظة ما ورد من الروايات في وجه نزول الآية كما تقدّم في صدر هذا الجزء من الكتاب، فإنّ قضيّة ذلك كون المراد بالمتطهّرين المتطهّرين من الأخباث، فتأمّل.

ويمكن المناقشة في الوجه الثاني أيضا بأنّ ذكر التعقيب مع ملاحظة أنّه بحسب الوضع الشرعي ما يقع عقيب الصلاة من حين الفراغ عنها يصلح قرينة على ورود الرواية في فضل البقاء على طهارة الصلاة، فلا يلزم منه استحباب إنشاء الوضوء للكون على الطهارة لمن لا طهارة له.

إلّا أن يقال: بأنّ الكون على الطهارة المحكوم عليه بالرجحان في كلام الأعيان قد يكون من جهة إبقاء الطهارة السابقة، وقد يكون من جهة إيجاد الطهارة لمن لا طهارة له، والرجحان ثابت لأعمّ القسمين، واستحباب الوضوء لأحل هذا الرجحان وإن كان أخصّ منه باعتبار الخارج كما لا يخفى، والرواية وإن دلّت على فضل البقاء على الطهارة السابقة لكن لا من حيث إنّه إبقاء وأنّ الخصوصيّة لها مدخليّة في هذا الفضل، بل من حيث إنّه أحد فردي الكون على الطهارة بالمعنى الأعمّ ، فليتدبّر.

ثمّ إنّه قد يدّعى أنّ استحباب الوضوء للكون على الطهارة معنى واستحبابه لنفسه معنى آخر، لا أنّهما معنى واحد.

ويشكل: أنّه مناف للحصر المستفاد من كلامهم في ضبط الوضوءات المندوبة، مع

ص: 103


1- الوسائل 457:6 الباب 12 من ابواب التعقيب ح 2، وفيه: «المؤمن معقّب مادام على وضوئه».
2- الوسائل 457:6 الباب 17 من أبواب التعقيب ح 1، التهذيب 320:2/1308. لاحظ مجمع البحرين: مادة «عقب».

عدم تعرّض أحد فيها إلّا الاستحباب للكون على الطهارة، فلو غايره الاستحباب لنفسه لما أهملوه هنا مع ظهور عدم الخلاف بينهم في ثبوته، والقول بأن غرضهم في هذا المقام ضبط ما يستحبّ لغيره خاصّة قبالا لضبط ما يجب منه لغيره ليس على ما ينبغي، كيف وأنّ القطع حاصل بأنّ هذا الاستحباب ليس في حقّ المتطهّر وإنّما هو في حقّ المحدث، فيكون الغرض منه ارتفاع الحدث والكون على الطهارة.

ودفعه بأنّ ذلك حينئذ من آثار الوضوء لا من غاياته والمذكور في استحبابه للكون على الطهارة كونه غاية، يضعّف: بأنّ مدخول «اللام» في قولهم: «للكون على الطهارة» قيد للحكم لا الموضوع، على معنى أنّ الاستحباب يثبت لمجرّد هذا الغرض لا لأغراض آخر ممّا نفصّله، فمعنى كونه غاية كونه كذلك في نظر الشارع لا في نظر الفاعل، وهذا المعنى من الغاية كما ترى متحقّق فيما عبّر عنه بالأثر، فإنّ استحباب الوضوء لنفسه إذا كان لأجل ترتّب هذا الأثر فيكون الغاية المطلوبة من الأمر به ندبا هو هذا الأثر. وكون استحبابه لا لأثر، يدفعه: ما عرفت من تخلّف الاستحباب مع وجود الطهارة ومع وجود حدث لا يرفعه الوضوء.

ومع هذا كلّه فما ذكرناه من اتّحاد معنى العبارتين ما نصّ عليه غير واحد من الأساطين، فلاحظ كلام المحقّق البهبهاني في شرحه للمفاتيح قائلا: «ويستحبّ استدامة الطهارة وهو المراد من الكون على الطهارة، وكذا هو المراد من قول الفقهاء: إنّ الوضوء مستحبّ لنفسه، وكذا الغسل على ما هو المشهور منهم... الخ»(1).

ولاحظ عبارة المحقّق الخوانساري - عند شرح لفظ الدروس(2) «والكون على الطهارة» عطفا على ما تقدّم من قول الشهيد: «ويستحبّ الوضوء لندبي الصلاة والطواف» إلى قوله: «والتأهّب للفرض قبل وقته» - قائلة: «ولمّا كان الكون على الطهارة أثرا من آثار الوضوء لا نفسه صحّ الحكم باستحباب الوضوء له، وما أسند إلى المصنّف رحمه الله من أنّه حكم في مثل هذه العبارة بعدم جواز الجرّ لأنّه بمنزلة أنّه يستحبّ الوضوء للكون على الوضوء وهو فاسد، وكذا الرفع على أن يكون فاعل يستحبّ ، إذ يصير معنى الكلام أنّه يستحبّ الوضوء ويستحبّ الكون على الوضوء وهو تكرار، بل

ص: 104


1- مصابيح الظلام 147:3.
2- الدورس 86:1.

يجب رفعه على أن يكون مبتدأ محذوف الخبر وهو مستحبّ ، فاسد لما عرفت، ولأنّ التكرار في صورة كونه فاعلا ليستحبّ ممنوع لأنّ المذكور سابقا استحباب الوضوء لأجل الغايات المذكورة وهذا استحباب الوضوء في نفسه» انتهى(1).

ولا يقدح التعبير باستحباب الوضوء لنفسه في رجوعه إلى استحبابه للكون على الطهارة، مع ملاحظة ما نبّهنا عليه من أنّ المستحبّ لنفسه في الحقيقة هو الكون على الطهارة والوضوء سبب له، لكون ذلك مسامحة في التعبير أو للتنبيه على أنّ هذا الاستحباب ليس لغاية اخرى خارجة عمّا هو من آثار الوضوء نفسه، بناء على أنّ استحباب الأثر لنفسه في قوّة استحباب المؤثّر، بخلاف استحباب غاية اخرى خارجة عن هذا الأثر فإنّه ليس بهذه المثابة.

ومن جملة ما حكموا فيه باستحباب الوضوء له التأهّب للفرض، كما في المنتهى والدروس والذكرى والحدائق(2) وعن الوسيلة والجامع والنزهة والبيان والنفليّة ونهاية الإحكام والدلائل(3) وعن البحار عزاه إلى الأصحاب(4) مشعرا بدعوى الإجماع عليه. والتأهّب من الاهبة بمعنى العدّة وهو التهيّئ للشيء والاستعداد له، وفي المجمع:

«يقال: تأهّب للشيء استعدّ له، والمتأهّب للشيء المستعدّ له»(5) وعن الصحاح: «تأهّب أي استعدّ»(6) وفي الجواهر: «المعروف من السلف التأهّب للفريضة والمحافظة على نوافل الزوال والفجر»(7) وفي كلام غير واحد الاستناد لهذا الحكم بالخبر، وهو على ما في الذكرى(8) وغيره قوله عليه السلام: «ما وقّر الصلاة من أخّر الطهارة حتّى يدخل وقتها»(9) والتوقير بمعنى التعظيم، فهذا يدلّ على رجحان تعظيم الصلاة بالتطهّر قبل وقتها، وهذا معنى استحباب التأهّب لها بالوضوء. فما عن كشف اللثام: «أنّ الخبر

ص: 105


1- مشارق الشموس: 35.
2- المنتهي 158:2، الدروس 6:1، الذكرى 193:1، الحدائق 140:2.
3- الوسيلة: 49، الجامع للشرايع: 31، نزهة الناظر: 9، البيان: 3، الألفيّة والنفليّة: 92، نهاية الإحكام 20:1، لم نعثر عليه.
4- البحار. 312:8.
5- مجمع البحرين 9:1.
6- الصحاح 89:1.
7- الجواهر 17:1.
8- الذكرى 193:1.
9- الوسائل 374:1 الباب 4 من أبواب الوضوء ح 5.

لم أعثر عليه، وأمّا الاعتبار فلا أرى الوضوء المقدّم إلّا ما يفعل للكون على الطهارة، ولا معنى للتأهّب للفرض إلّا ذلك»(1) ليس على ما ينبغي، لوضوح الفرق بين العنوانين، فإنّ الكون على الطهارة فيما يفعل لأجله يراد به ما لم يلحقه جهة اخرى خارجة عن أصل الكون على الطهارة من الجهات الراجحة ولو اعتباريّة، وظاهر أنّ التأهّب للفريضة جهة اخرى زائدة على أصل الكون على الطهارة لاحقة بها، فهو فيما يستحبّ لمجرد الكون راجح من حيث هو هو وفيما يستحبّ للتأهّب راجح من حيث إنّه يتحقق به التأهّب للفريضة قبل وقتها، وبذلك يحصل الفرق يبنه وبين ما يفعل في الوقت لغاية القيام إلى الفريضة، فإنّ المقصود منه الكون على الطهارة من حيث إنّه مأمور به حتما لأجل التوصّل إلى الفريضة أو من حيث إنّه يتوقف عليه صحّتها، كما أنّه بذلك يحصل الفرق بينه وبين ما يفعل قبل الوقت بقصد الوجوب المحكوم عليه في كلام غير واحد بعدم الصحّة، فإنّه عبارة عمّا يفعل قبل الوقت على أنّه مأمور به حتما للتوصّل إلى فعل الفريضة، وهو غير ما يفعل قبله للتأهّب للفرض على أنّه مأمور به ندبا، أو يتحقّق به التأهّب الّذي هو راجح في نظر الشارع ومأمور به ندبا.

وبالجملة فقد اتّضح بما ذكر دليل الحكم وهو الخبر وإن كان مرسلا، فإنّه غير قادح على ما هو طريقتهم في السنن.

وقد يتمسّك له أيضا باستحباب الصلاة أوّل الوقت ولا يمكن إلّا بتقديم الوضوء، ومرجعه إلى أنّ مقدّمة المستحبّ مستحبّة، فإنّ الصلاة أوّل الوقت بجميع شروطها الّتي منها الطهارة تتوقّف على كونه متطهّرا أوّل الوقت وهو متوقّف على الوضوء قبل الوقت.

ويشكل ذلك: بجواز أن يراد من الأوّليّة ما لا ينافي وقوع الوضوء في الوقت كالأوّلية العرفيّة، كيف ولولا ذلك لما وقع في الأوّل إلّا الجزء الاوّل من الصلاة كما لا يخفى. فإذا تسارع عند دخول الوقت فتوضّأ ثمّ صلّى صدق عليه عرفا أنه أتى بالصلاة في أوّل الوقت.

ومنها: الصلاة المندوبة كما هو المصرّح به في كلام الأصحاب، المدّعى عليه نفي الخلاف تارة والاتّفاق اخرى، وعن صريح بعض شروح الجعفريّة دعوى الإجماع

ص: 106


1- كشف اللثام 125:1.

عليه(1) كما هو عن ظاهر مجمع الفائدة والبحار(2) وفي الحدائق: «ولعلّ المتمسّك في ذلك البناء على أنّ شرط المستحبّ مستحبّ ، كما أنّ شرط الواجب واجب، والإجماع كما نقله جملة من العلماء»(3) ونظيره ما في المشارق(4).

وعلى أيّ حال كان فلا إشكال في اشتراط صحّة الصلاة المندوبة كالواجبة بالوضوء لعموم قوله عليه السلام: «لا صلاة إلّا بطهور»(5) بالتقريب المتقدّم، بل هو ممّا لا خلاف فيه ويمكن دعوى الضرورة فيه.

وأمّا استحبابه فلم نقف على خبر فيه بالخصوص كما اعترف به جماعة من الفحول. نعم في الذكرى بعد ما عدّ الأشياء الّتي يستحبّ لها الوضوء الّتي منها الصلاة المندوبة، قال: «كلّ ذلك للنصّ »(6) فإنّ ذلك ونظيره يعدّ عندهم من الخبر المرسل فيصحّ التعويل عليه في نظائر المقام، واحتمال كون المراد بالنصّ تنصيص الأصحاب بالاستحباب كما يذكر نظيره في غير هذا الباب بعيد هنا جدّا.

وأصرح منه في دعوى وجود الخبر ما عن المدارك من قوله: «وبجميع ذلك روايات»(7) عقيب ذكر الأشياء المحكوم فيها باستحباب الوضوء. وقد يؤخذ الإجماعات المنقولة مستندا لهذا الحكم ولا ضير فيه، إن لم نعلم بأنّ مستند الإجماع هو قاعدة أنّ شرط المستحبّ مستحبّ كما استند إليها جماعة، وإلّا فالمعتمد هو القاعدة.

وقد تقرّر: بأنّه شرط للصلاة فلا يجب لها، لعدم معقوليّة وجوب الشرط مع مندوبيّة المشروط، فيلزم أن يكون مستحبّا لها، لأنه عبادة قطعا والعبادة الصحيحة إذا لم تكن واجبة لزم أن تكون مستحبّة.

ومنها: الطواف المندوب المحكوم عليه باستحباب الوضوء له في كلامهم وإن اختلفوا في كونه شرطا لكماله كما عليه المعظم، أو شرطا لصحّته كما عليه جماعة منهم العلّامة في المنتهى(8) والأصحّ على ما اخترناه في بحث الوجوب للطواف الواجب

ص: 107


1- لم نعثر عليه.
2- مجمع الفائدة والبرهان 66:1، البحار 312:80.
3- الحدائق 136:2.
4- مشارق الشموس: 33.
5- الوسائل 365:1 الباب 1 من أبواب الوضوء ح 1، التهذيب 49:1/144.
6- الذكرى 193:1.
7- المدارك 13:1.
8- المنتهى 156:1.

وبيّنّا وجهه ما صار إليه المعظم، وانظر لزيادة تحقيق في ذلك، فإنّها تأتي في كتاب الحجّ إن شاء الله.

ومنها: مناسك الحجّ بتمامها ما عدا الطواف الواجب وصلاته كما أفتى به جماعه، ودليله صحيحة معاوية بن عمّار المتقدّمة عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «لا بأس أن يقضي المناسك على غير وضوء إلّا الطواف، فإنّ فيه صلاة، والوضوء أفضل على كل حال»(1)وفي شرح الدروس للجواد الكاظمي قدس سره: «وقد دلّ على الاستحباب عدّة أخبار وأصرحها دلالة الصحيحة المذكورة»(2) وعن كشف اللثام: «أنّه ورد في خصوص السعي والوقوف والرمي أخبار»(3).

أقول: وممّا ورد في السعي ما عن أبي الحسن عليه السلام قال: «قلت له: الرجل يسعى بين الصفا والمروة ثلاثة أشواط أو أربعة، ثمّ يبول أيتمّ سعيه بغير وضوء؟ قال: لا بأس، ولو أتمّ نسكه بوضوء كان أحبّ »(4).

وممّا ورد في الرمي قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن رمي الجمار على غير طهور؟

قال: الجمار عندنا مثل الصفا والمروة حيطان إن طفت بينهما على غير طهور لم يضرّك، والطهر أحبّ إليّ ولا تدعه وأنت تقدر عليه»(5).

ومنها: صلاة الجنازة المدّعى في المشارق(6) الشهرة على استحباب الوضوء لها، ومستنده بعد الشهرة رواية عبد الحميد بن سعيد الواردة في التهذيب، قال: «قلت لأبي الحسن عليه السلام: الجنازة تخرج ولست على وضيء، فإن ذهبت أتوضّأ فاتتني الصلاة، أيجزئني أن اصلّي عليها وانا على غير وضوء؟ قال: تكون على طهر أحبّ إليّ »(7).

ص: 108


1- الوسائل 374:1 الباب 5 من أبواب الوضوء ح 1، التهذيب 154:5/509.
2- شرح الدروس للكاظميني: 15 (مخطوط).
3- كشف اللثام 125:1.
4- الوسائل 494:13 الباب 15 من أبواب السعي ح 6، التهذيب 154:5/506.
5- الوسائل 57:14 الباب 2 من أبواب الرمي، التهذيب 198:5/660.
6- مشارق الشموس: 34.
7- الوسائل 110:3 الباب 21 من ابواب صلاة الجنازة ح 2، التهذيب 203:3/476 وفيهما: «عبد الحميد بن سعد» بدل «عبد الحميد بن سعيد».

لا يقال: جواب الإمام عليه السلام كأنّه لا يطابق سؤال الراوي 0 لأنّه إنّما سأل عن صلاة الجنازة عمّن لا يمكنه الجمع بينها وبين الوضوء، لمكان قوله: «فإن ذهبت أتوضّأ فاتتني الصلاة» فقوله: «تكون على طهر أحبّ إليّ » يقضي برجحان اختيار الوضوء المستلزم لفوات الصلاة على ما هو مفروض السؤال، فبقي الصلاة بلا وضوء غير معلوم الحكم على ما هو غرض السائل، وأيضا فإنّ مفاد الرواية حينئذ استحباب الوضوء في حال الاضطرار وهو لا ينافي الوجوب حال الاختيار، والعمدة في المقام إثبات استحبابه مطلقا، المستلزم لنفي وجوبه حال الاختيار كما لا يخفى.

لأنّا نقول: إنّ السائل لتوهّمه وجوب الوضوء لصلاة الجنازة سأل عن الرخصة في تركه حال الاضطرار، فجاوبه الإمام عليه السلام بما استلزم الرخصة في تركه مطلقا، فإنّ قوله:

«تكون على طهر أحبّ إليّ » ليس معناه كونه كذلك في تلك الحال خاصّة، بل معناه كونك في صلاة الجنازة على طهر أحبّ ، فالوضوء لأجلها من أصله جائز الترك فضلا عن حال الاضطرار. ثمّ إنّ الأخبار النافية لوجوبه مطلقا كثيرة.

منها: ما رواه يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الجنازة اصلّي عليها على غير وضوء؟ قال: «نعم، إنّما هو تكبير وتسبيح وتحميد وتهليل، كما تكبّر وتسبّح في بيتك على غير وضوء»(1) وهذه كما ترى بإطلاقها تنفي وجوب الوضوء حال الاختيار أيضا، وما تقدّم لو تعقل دلالته على استحبابه حال الاضطرار لثبت استحباب حال الاختيار أيضا بالفحوى ومفهوم الموافقة.

ومنها: قراءة القرآن، كما في الذكرى والدروس والمنتهى والحدائق(2) وعن المبسوط والمعتبر والإرشاد والقواعد والتذكرة والبيان والنزهة والجامع(3) وعن البحار إنّه نسبه إلى الأصحاب(4) واستند له في المشارق إلى الشهرة والتعظيم لشعائر اللّه(5).

ص: 109


1- الوسائل 110:3 الباب 21 من أبواب صلاة الجنازة ح 3، التهذيب 203:3/475.
2- الذكرى 193:1، الدروس 86:1، المنتهى 157:2، الحدائق 137:2.
3- المبسوط 39:1، المعتبر 176:1، إرشاد الأذهان 220:1، القواعد 177:1، التذكرة 144:1، البيان: 37، نزهة الناظر: 11، الجامع للشرايع: 31.
4- البحار 312:80.
5- مشارق الشموس: 35.

ومن الأخبار ما يدلّ على استحبابه بالخصوص. ما روي مرسلا عن الصادق أنّه قال: «لقارئ القرآن بكلّ حرف يقرأه في الصلاة قائما مائة حسنة، وقاعدا خمسون، ومتطهّرا في غير الصلاة خمس عشر حسنة، وغير متطهّر عشر حسنات»(1). وعن كشف اللثام أنّه أرسل نحوه عن أمير المؤمنين عليه السلام(2).

واستدلّ عليه أيضا بما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «لا يقرأ العبد القرآن إذا كان على غير طهر حتّى يتطهّر»(3) وبخبر محمّد بن الفضيل قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام أقرأ المصحف ثمّ يأخذني البول فأبول وأستنجي وأغسل يدي وأعود إلى المصحف وأقرأ فيه ؟ قال: لا، حتّى تتوضّأ للصلاة»(4) والظاهر أنّ المراد يتوضّأ وضوءه للصلاة أو كما يتوضّأ للصلاة، وقد أشرنا إلى ما يناقش في دلالة هذا القبيل من الأخبار على الاستحباب.

ومنها: مسّ المصحف وكتابته وحمله، ودليله حسبما في كلام القوم ما تقدّم في بحث المسّ الواجب من روايتي إبراهيم بن عبد الحميد(5) وعليّ بن جعفر(6). هذا بالنسبة إلى ما عدا المسّ ، وأمّا هو فظاهر كلام جماعة حيض يقيّدونه هنا بالمندوب كون استحباب الوضوء له بناء على قاعدة استحباب مقدّمة المستحبّ ، والمناقشة في دلالة دليلي الأخيرين على الاستحباب كما تقدّم الإشارة إليه، وإن كان بعض مشايخنا(7) طاب ثراه تصدّى لدفعها «بأنّ المتبادر من أمثال هذه العبارة إنما هو الأمر بالوضوء» وكأنّه يريد به التبادر الإطلاقي ولعلّه في محلّه، وعليه يندفع بذلك المناقشة المتقدّم إليها الإشارة في الخبرين المتقدّمين في القراءة، وقد يتمسّك هنا بالشهرة كما في المشارق(8).

ص: 110


1- عدّة الداعي: 269، الوسائل 196:6 الباب 13 من ابواب قراءة القرآن ح 3، وفيه: «ومتطهّرا في غير صلاة خمس عشرون حسنة».
2- كشف اللثام 121:1.
3- الخصال: 627، الوسائل 196:6 الباب 13 من أبواب قراءة القرآن ح 2.
4- الوسائل 196:6 الباب 13 من أبواب قراءة القرآن ح 1، قرب الاسناد: 175.
5- الوسائل 384:1 الباب 12 من أبواب الوضوء ح 3 و 4.
6- الوسائل 384:1 الباب 12 من أبواب الوضوء ح 3 و 4.
7- الجواهر 13:1.
8- مشارق الشموس: 34.

ومنها: طلب الحاجة المعبّر عنه في جملة من العبائر بالسعي في حاجة، المدّعى فيه الشهرة المعزى في البحار(1) - كما حكاه في المناهل - إلى الأصحاب. ولا يخفى عليك ما في هذا العنوان من نوع الإجمال من حيث إنّ المراد به هل هو طلب الحاجة من الخالق أو المخلوق أو هما معا؟ والتعبير عنه بالسعي كما في جملة من العبائر ربّما يومى إلى إرادة الثاني، كما أنّ إطلاق التعبير بالطلب كما في أحد الخبرين الآتيين يقضي بإرادة الأخير، لكن الخبر الآخر صريح في إرادة الأوّل.

وكيف كان فقد شاع في كلامهم الاستناد لهذا الحكم إلى الخبر الموصوف بالقويّ تارة والصخة أخري «من طلب حاجة وهو على غير وضوء فلم تقض فلا يلومنّ إلّا نفسه»(2).

وقد يناقش فيه كما في المشارق(3) بعدم وضوح دلالته على المطلوب، لأنّ مفاده أنّ الحاجة بدون الوضوء لم تقض، فينبغي أن يطلب الحاجة في حالة ما إذا توضّأ بالوضوء الّذي رخّص فيه من الشارع، لأنّه عبادة موقوفة على الإذن، وليس فيه دلالة على الإذن والرخصة للوضوء في وقت طلب الحاجة.

وفيه: ما فيه، فإنّ الرواية إنّما دلّت على استحباب طلب الحاجة متطهّرا، وهو موقوف على الوضوء، فيكون الوضوء مستحبّا، وهذا هو معنى الرخصة في الوضوء، وأيضا فإنّ استحباب الوضوء لطلب الحاجة - على ما تقدّم ذكره - معناه أنّ طلب الحاجة خصوصيّة تلحق الوضوء الذي هو راجح لنفسه فيحصل فيه من جهته استحباب غيري، فمورد هذا الاستحباب ممّا رخّص فيه من جهتين.

واستدلّ عليه أيضا بما روي مرسلا «إذا نزل بك عظيم في دين أو دنيا فتوضّأ وارفع يدك وقل: يا اللّه» الحديث(4).

ومنها: دخول المساجد، كما عن المبسوط و الوسيلة والإرشاد والبيان والروض

ص: 111


1- البحار. 312:8.
2- الوسائل 374:1 الباب 6 من ابواب الوضوء ح 1، التهذيب 359:1/1077.
3- مشارق الشموس: 35.
4- بحار الأنوار 328:77.

ومجمع الفائدة والجامع(1) وهو المصرّح به في المنتهى والقواعد والتحرير(2) وعن مجمع الفائدة إنّه احتمل الإجماع فيه(3) وفي المناهل ظهور الاتفاق عليه، وعن البحار دعوى اتّفاق الأصحاب عليه(4).

ودليله عدّة روايات كالموصوف بالحسن كالصحيح المروي عن كتاب مجالس الصدوق عن مرازم بن حكيم عن الصادق عليه السلام قال: «عليكم بإتيان المساجد، فإنّها بيوت اللّه في الأرض، ومن أتاها متطهّرا طهّره الله من ذنوبه وكتب من زوّاره»(5).

والمرسل على ما في فقيه والحدائق «أنّ في التوراة مكتوبا أنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبد تطهّر (في بيته) ثمّ زارني في بيتي»(6) ووصفه في المناهل بصحيحة صفوان عن كليب الصيداوي عن الصادق عليه السلام.

والنبوي - على ما في المناهل أيضا - «وقال اللّه تعالى عزّ و جلّ : إنّ بيوتي في الأرض المساجد تضي لأهل السماء كما تضي النجوم لأهل الأرض، الا طوبى لمن كانت المساجد بيوته، ألا طوبى لعبد توضّأ في بيته ثمّ زارني في بيوتي»(7).

والمرسل عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام «من أحسن الطهور ثمّ مشى إلى المسجد فهو في صلاة ما لم يحدث»(8).

والمرويّ عن الباقر عليه السلام «إذا دخلت مسجدا وأنت تريد أن تجلس فلا تدخله إلّا طاهرا»(9).

وفي كلام غير واحد حمل ذلك على تأكد الاستحباب لمن أراد الجلوس فيه،

ص: 112


1- المبسوط 39:1، الوسيلة: 49، ارشاد الأذهان 220:1، البيان: 37، روض الجنان 53:1، مجمع الفائدة والبرهان 68:1، الجامع للشرايع: 10.
2- المنتهى 157:2، القواعد 177:1، التحرير 43:1.
3- مجمع الفائدة والبرهان 69:1.
4- البحار 312:80.
5- الوسائل 380:1 الباب 10 من أبواب الوضوء ح 2، أمالي الصدوق: 293/8.
6- الوسائل 381:1 الباب 10 من ابواب الوضوء ح 4، الفقيه 154:1/721 والحدائق 136:2.
7- الوسائل 381:1 الباب 10 من أبواب الوضوء ح 5، ثواب الأعمال: 47/2.
8- دعائم الإسلام 100:1.
9- الوسائل 380:1 الباب 10 من أبواب الوضوء ح 1، التهذيب 263:3/743.

ولا بأس به.

وفي كلام جماعة الاحتجاج باستحباب صلاة التحية فيه مع كراهة الوضوء فيه، فإنّ قضيّة ذلك الإتيان بالوضوء في خارج المسجد قبل أن يدخل.

وفيه: ما لا يخفى، فإنّ ذلك ليس إلّا الوضوء الّذي يؤتى به لغاية الصلاة المندوبة وإن استتبع الدخول في المسجد.

وعن ابن حمزة(1) أنّه الحق بالمسجد كلّ مكان شريف، كما هو في كشف الغطاء بعد ذكر دخول المساجد قائلا: «ودخول الروضات والضرائح المقدّسة، وتختلف مراتب الفضل باختلاف مراتبها، ويقوى القول برجحانه للدخول في كلّ مكان شريف على اختلاف المراتب بقصد تعظيم الشعائر، من قباب الشهداء ومحالّ العلماء والصلحاء من الأموات والأحياء، وما يتبع الروضات من الرواق وغيره وكلّ حرم محترم» انتهى(2).

وكلّ ذلك حسن لفتوى الفقيه بناء على جريان قاعدة التسامح في مثله مع التحسين العقلي، كما يكشف عنه عمل عقلاء المتشرّعة، وإن شئت أن تأخذ العمل مدركا للحكم فلا بأس أيضا، ولكن بالقياس إلى الروضات المتبرّكة من روضات الانبياء والمرسلين والأئمّة المعصومين وأولادهم الطيّبين والعلماء الصالحين في الجملة، وكيف كان فحكم المسألة مع مدركه واضح بحمد اللّه سبحانه.

وعنها: زيارة المقابر مطلقا، كما في القواعد والتحرير والإرشاد والدروس(3) أو قبور المؤمنين خاصّة كما في المنتهى والذكرى(4) ويعضده الاعتبار.

ودليله بعد الشهرة - على ما حكاه في المشارق قائلا: «ولم نقف فيه أيضا على مستند سوى الشهرة»(5) - الخبر على ما أرسله غير واحد، قال الكاظمي في شرحه للدروس:

«وأمّا استحباب لزيارة [المقابر] فيدلّ عليه بعض الأخبار، إلّا أنّه مقيد بقبور المؤمنين»(6)وفي المشارق: «وقد ذكروا أنّ به رواية مختصّة بمقابر المؤمنين»(7) وعن الدلائل: «أنّ

ص: 113


1- حكاه عنه في كشف اللثام 120:1، لاحظ الوسيلة: 49.
2- كشف الغطاء 79:2-80.
3- القواعد 177:1، التحرير 43:1، إرشاد الأذهان 220:1، الدروس 6:1.
4- المنتهى 157:1، الذكرى 193:1.
5- مشارق الشموس: 35.
6- شرح الدروس للكاظميني: 16 (مخطوط).
7- مشارق الشموس: 35.

في الخبر تقييدها بالمؤمنين»(1) ويندرج ذلك أيضا في عموم ما أرسله الذكرى والمدارك(2) على ما تقدّم نقله، وبما ذكر يعلم صدق ما اقتضاه الاعتبار من اختصاص الحكم هنا بمقابر المؤمنين، ولعلّ هذا هو مراد من أطلق في العبارة كما سمعت.

ومنها: النوم، كما في المنتهى والتحرير والقواعد وعن الوسيلة والمعتبر والإرشاد(3) وفي المناهل: عزاه في البحار إلى الأصحاب(4) وفيه أيضا: «ولهم أوّلا ظهور الاتّفاق عليه» ومستنده عدّة روايات كرواية محمّد بن كردوس المرويّة بطرق متكرّرة عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «من تطهّر ثمّ آوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده...» الحديث(5).

ورواية محمّد بن عليّ بن الحسين المرويّة أيضا بطرق متكرّرة عن الصادق عليه السلام قال: «من تطهّر ثمّ آوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده، فإن ذكر أنّه ليس على وضوء فتيمّم من دثاره كائنا ما كان، لم يزل في صلاة ما ذكر الله»(6).

ورواية أبي بصير المرويّة عن المجالس ومعاني الأخبار عن أبي عبداللّه عليه السلام عن آبائه عليهما السلام أنّ سلمان روى عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال: «من بات على طهر فكإنّما أحيى الليل»(7).

ورواية أبي بصير أيضا المرويّة عن العلل عن أبي عبداللّه عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «لا ينام المسلم وهو جنب، ولا ينام إلّا على طهور، فإن لم يجد الماء فليتيمّم بالصعيد، فإنّ روح المؤمن تروح إلى الله عزّ و جلّ فيلقاها ويبارك عليها، فإن كان أجلها قد حضر جعلها في مكنون رحمته، وإن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع أمنائه من ملائكته فيردّها في جسده»(8).

ص: 114


1- نقله عنه في جامع المقاصد 69:1.
2- الذكرى 193:1، المدارك 13:1.
3- المنتهى 157:1، التحرير 43:1، القواعد 177:1، الوسيلة: 49، المعتر 140:1، ارشاد الأذهان 220:1.
4- بحار الأنوار. 312:8.
5- الوسائل 378:1 الباب 9 من ابواب الوضوء ح 1، الكافي 468:3/5.
6- الوسائل 378:1 الباب 9 من ابواب الوضوء ح 2، الفقيه 269:1/1353.
7- الوسائل 379:1 الباب 9 من أبواب الوضوء ح 3، معاني الأخبار: 234/1.
8- أمالي الصدوق: 37/5.

ومنها: قدوم المسافر ودخوله على أهله، كما في كلام غير واحد لما عن الصدوق في المقنع قائلا: «وروي عن الصادق عليه السلام قال: من قدم من سفر فدخل على أهله وهو على غير وضوء ورأي ما يكره فلا يلومنّ إلّا نفسه»(1).

ومنها: إدخال الميت القبر كما نبّه عليه غير واحد، وعن النزهة أنّه قال: «وجاء به خبر صحيح»(2) ولعلّه - كما في المناهل - أشار إلى ما رواه الشيخ عن الحلبي ومحمّد ابن مسلم عن أبي عبدالله عليه السلام عن أبيه قال: «توضّأ إذا أدخلت الميت قبره»(3).

ومنها: للزوجين ليلة الزفاف، لقول أبي جعفر عليه السلام في خبر أبي بصير: «إذا دخلت عليك إن شاء اللّه تعالى فمرها بالوضوء قبل أن تصل إليك أن تكون متوضّئة، ثمّ لاتصل إليها حتى تتوضّأ»(4).

ومنها: جلوس القاضي في مجلس القضاء، كما عن النزهة(5) وكأنّه المراد بقول كشف الغطاء: «ذكره بعض الفقهاء»(6) وعن كشف اللثام: «أنّه لم نقف له على دليل بالخصوص»(7) كما اعترف به بعض مشايخنا(8) وحكاه عن الحدائق(9) وعلى القول بجريان قاعدة التسامح في فتوى الفقيه أيضا يتّضح دليل المسألة. وفي كشف الغطاء:

«وربّما الحق به مجلس الدرس والوعظ وكلّ مجلس انعقد لطاعة اللّه»(10).

ومنها: جماع الحامل، كما في المنتهى وعن النزهة والبيان(11) وغيرها، وعن البحار نسبته إلى الأصحاب(12) للمرويّ عن الأمالي والعلل عن أبي سعيد في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لعليّ عليه السلام قال: «يا عليّ إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلّا وأنت على وضوء، فإنّه إن قضي بينكما ولد يكون أعمي القلب بخيل اليد»(13).

ص: 115


1- رواها في النزهة: 11 والحدائق عن الصدوق في المقنع 140:2، ولكنّا لم نعثر عليها في المقنع بعد الفحص عنها في مظانّها.
2- نزهة الناظر: 10.
3- الوسائل 221:3 الباب 53 من أبواب الدفن ح 1، التهذيب 321:1/934.
4- الوسائل 115:20 الباب 55 من أبواب مقدمات النكاح، ح 1، الكافي 500:5/1.
5- نزهة الناظر: 10.
6- كشف الغطاء 81:2.
7- كشف اللثام 126:1.
8- الجواهر 21:1.
9- الحدائق 145:2.
10- كشف الغطاء 81:2.
11- المنتهى 158:2، نزهة الناظر: 10، البيان: 37.
12- البحار 312:80-313.
13- الوسائل 385:1 الباب 13 من أبواب الوضوء ح 1، أمالي الصدوق: 459/1، ( علل الشرائع: 516/5.

ومنها: سجود الشكر، كما تقدّم بيانه وإقامة الدليل عليه، غير أنّه لم نقف من الأصحاب على من تعرّض لذكره هنا، وكأنّه للاكتفاء بذكره في غير هذا الموضع.

ومنها: الأذان والإقامة، على ما تقدّم ذكره مع تأكد الاستحباب في الثاني كما عرفت وجهه، وإن لم يتعرّض أحد لذكره هنا أيضا، مع نوع إشكال في فرض الاستحباب بالنسبة إلى الوضوء هنا كما ستسمع وجهه.

وهذه الجملة هي الغايات الّتي يقصد من الأمر بالوضوء فيها إيقاعها متطهّرا، وقضيّة ذلك كون الوضوء في جميع ذلك مفيدا للطهارة، فإذا انضمّ ذلك إلى ما تقدّم من الكون على الطهارة كان الكون عليها مستحبّا لنفسه ولغيره، ولعلّه لأجل ما ذكرناه ترى أنّ الشهيد في الدروس بعد ما حكم باستحباب الوضوء لمندوبي الصلاة، والطواف، وحمل المصحف. وأفعال الحجّ الباقية، وصلاة الجنازة، وطلب الحاجة، وزيارة القبور، وتلاوة القرآن، والتأهّب للفرض قبل وقته، والكون على الطهارة، قال: «وكلّ هذه يرفع الحدث ويبيح الصلاة»(1) وإطلاق هذه العبارة يقضي بعدم اشتراط الصحّة ولا ترتّب الرفع والإباحة المذكورين بنيّة رفع الحدث واستباحة الصلاة، لكنّه عند بيان أحكام الوضوء قال: «يجب في الوضوء النية المشتملة على القربة، والوجوب والرفع والاستباحة»(2) وكون ذلك إبداء للفرق بين الوضوء المندوب والوضوء الواجب كما ترى، فقضية التنافي بينهما تقييد المطلق، وإن أشكل ذلك بما قرّر في محلّه من اشتراط حمل المطلق على المقيّد بامور، منها: عدم ابتناء صدورهما على الاجتهاد، غير أنّ مرجعه إلى منع التنامي، لمكان تعدّد الاجتهاد الّذي قد يؤدّي إلى الإطلاق وقد يؤدّي إلى التقيد.

ويمكن منع اعتبار الإطلاق في العبارة المذكورة كما يرجع إليه كلام الشارح الكاظمي قائلا: «ويمكن حمل كلام المصنف رحمه الله هنا على أنّ المراد بيان الفرق بين الغايات الّتي يجامع الوضوء فيها الحدث الأكبر والّتي لا يجامع، وبيان أنّ الاولى يصحّ معها ارتفاع الحدث، سواء وقعت نيّة الوضوء لهذه الغايات فقط أو انضمّت إليها نيّة الرفع أو الاستباحة، بخلاف الثانية فإنه لا يرتفع معها الحدث بوجه، انتهى(3).

ص: 116


1- الدروس 6:1 و 10.
2- الدروس 6:1 و 10.
3- شرح الدروس: 16 (مخطوط).

وليس ببعيد، ولذا تراه أنّه بعد ما حكم بالرفع والاستباحة في الأشياء المذكورة حكم بعدمهما بقوله: «وهذه لا ترفع ولا تبيح»(1) عقيب أشياء أخر ذكرها وهي نوم الجنب، وجماع المحتلم، وغاسل الميّت، وذكر الحائض، والتجديد، والظاهر أنّ مراده بغاسل الميت ما يتضمّن عنوانين حكم الأصحاب باستحباب الوضوء فيهما معا.

أحدهما: من غسّل الميت فأراد الجماع قبل أن يغتسل.

وثانيهما: المجامع إذا أراد غسل الميّت قبل أن يغتسل للجنابة.

فهذه ستّة أشياء يستحبّ الوضوء فيها تعبّدا من غير أن يقصد به رفع الحدث ولا استباحة الصلاة على مقتضي كلامه، أمّا فيما عدا التجديد فلمصادفته لوجود المانع وهو الحدث الأكبر، مع قصوره عن إفادة رفعه.

وأمّا في التجديد فلمصادفته محلّا خاليا عمّا يرتفع به وهو الحدث الأصغر، لمكان ورود هذا الوضوء عقيب الوضوء الرافع المبيح، وفي إطلاق هذا الكلام إشكال يأتي إليه الإشارة.

وكما يستحبّ الوضوء تعبّدا في تلك الأشياء فكذلك يستحبّ أيضا لأكل الجنب وشربه، والجماع عقيب الجماع، وتكفين الميّت إذا أراد من يغسّله أن يكفّنه، ووضوء الميت مضافا إلى غسله، والمجموع يرتقي إلى عشرة:

أحدها: نوم الجنب كما ذكره جماعة، بل في المناهل: «ظهور الاتّفاق عليه» وعن الغنية والتذكرة دعوي الإجماع عليه(2) ومستنده مضافا إلى ما ذكر، روايتان، إحداهما:

صحيحة الحلبي قال: «سئل أبو عبدالله عليه السلام عن الرجل أينبغي له أن ينام وهو جنب ؟

قال: يكره ذلك حتّى يتوضّأ»(3).

وثانيتهما: موثّقة سماعة قال: «سألته عن الجنب يجنب ثمّ يريد النوم ؟ قال: إن أحبّ أن يتوضّأ فليفعل، والغسل أفضل من ذلك، وإن هو نام ولم يتوضّأ (ولم يغتسل) فليس عليه شيء»(4).

ص: 117


1- الدروس 6:1.
2- الغنية: 37، التذكرة 242:1.
3- الوسائل 382:1 الباب 11 من ابواب الوضوء ح 1، الفقيه 47:1/179.
4- الوسائل 228:2 الباب 25 من ابواب الجنابة ح 6، التهذيب 370:1/1127.

وكأنّ الاستناد إلى الرواية الأولى مبنيّ على توهّم ظهور لفظ «الكراهة» حيثما اطلقت في الأخبار في المعنى المصطلح عليه - وللمنع عنه مجال واسع - أو على دعوى اقترانه بقرينة عدم إرادة التحريم منه هنا من إجماع ونحوه، ولعلّه حديث آخر على ما أرسله المحقق الخوانساري في المشارق(1) المتضمّن لقوله عليه السلام: «أنا أنام على ذلك حتّى اصبح»(2) ولا يشكل الحال من جهته بملاحظة أنّه يدلّ على أنّه عليه السلام يفعل النوم المكروه، لمنع دلالته على أنّ هذا المكروه ممّا يبرز عنه عليه السلام في متن الخارج وأنّه يوجد منه فعلا، لجواز أن يراد به أنا لا ابالي أن أفعل ذلك مريدا به التنبيه على انتفاء التحريم، مع أنّه لا دليل على امتناع فعل المكروه من الإمام عليه السلام إذا كان المقصود منه تعليم الحكم الشرعي.

نعم إنّما يشكل الحال من جهة أنّ أقصى ما فيه الدلالة على كراهة النوم بدون الوضوء وهو غير استحباب الوضوء للنوم، أو استحباب النوم على الوضوء، والمفروض أنّ مقدّمة كون ترك المكروه مستحبّا غير مسلّمة، إلّا أن يدّعى في ذلك الانفهام العرفي على ما تقدّم بيانه.

ثمّ إنّ الرواية على تقدير الدلالة على الكراهة خاصّة ظاهرة في انتفاء الكراهة بالوضوء بالمرّة كما عن المعتبر والشرائع والقواعد والتحرير والإرشاد والمدارك(3) بل المحكيّ عن الأكثر، خلافا لما عن الكشف المصرّح بظهورها في الخفّة قائلا: «ويعطيه كلام النهاية والسرائر»(4) وعن النزهة أنّه صرّح بإلحاق كلّ من عليه الغسل في استحباب الوضوء للنوم بالجنب(5).

وفي المناهل: «أنّه لا بأس به» ولعلّه اكتفاء بفتوى الفقيه في الأخذ بقاعدة التسامح في أدلّة السنن، وإلّا فأصل الإلحاق ضعيف، لانتفاء الدلالة عليه من رواية ونحوها، إلّا

ص: 118


1- مشارق الشموس: 38.
2- الوسائل 237:2 الباب 25 من أبواب الجنابة ح 2، الفقيه 47:1/180.
3- المعتبر 140:1، الشرائع 19:1، القواعد 177:1، التحرير 43:1، إرشاد الأذهان 220:1، المدارك 12:1.
4- كشف اللثام 37:2 - (لاحظ النهاية ونكتها 229:1، السرائر 117:1-118).
5- نزهة الناظر: 9.

أن يكون ذلك من النزهة اكتفاء بمجرّد احتمال الرجحان في العمل بالقاعدة المذكورة.

وثانيها: أكل الجنب بل شربه أيضا، كما في كلام جماعة، بل عن البحار عزاه إلى الأصحاب(1). ومستنده في الأكل خاصّة صحيحة عبد الرحمن عن الصادق عليه السلام وفيها «أيأكل الجنب قبل أن يتوضّأ؟ قال: إنّا لنأكل، ولكن يغسل يده، والوضوء أفضل»(2)وفي الأمرين معا ما أرسله الصدوق - على ما حكي عنه - في الفقيه بقوله: قال أبو جعفر عليه السلام: «إذا كان الرجل جنبا لم يأكل ولم يشرب حتّى يتوضّأ»(3).

وعن بعضهم حمل الوضوء في هذه الأخبار على غسل اليد والوجه، كما ورد في بعض الأخبار: «الجنب إذا أراد أن يأكل ويشرب غسل يده وتمضمض وغسل وجهه»(4).

ويدفعه: ما في الصحيحة الأولى من قوله عليه السلام: «والوضوء أفضل» بعد قوله: «ولكن يغسل يده» كما لا يخفى.

وفي كلام بعض مشايخنا طاب ثراه: «ولا يبعد التخيير بينهما، أو حمل هذه على كلمة الوضوء»(5).

يعني حمل ما دل على غسل اليد والوجه والتمضمض على إرادة الوضوء المتضمّن لهذه الأمور الوارد في الخبرين، ونظائرهما الظاهر في إرادة المعنى المعهود.

وثالثها: جماع المحتلم كما في المنتهى والقواعد والتحرير والإرشاد والدروس والذكرى(6) وعن النهاية والمهذّب و الوسيلة والشرائع والنافع و اللمعة والجامع والنزهة(7).

ودليله المرسل على ما في الذخيرة قائلا: «وعلّل في الخبر بأنّه لا يؤمن أن يجيء

ص: 119


1- البحار 312:80.
2- الوسائل 220:2 الباب 20 من أبواب الجنابة ح 7، التهذيب 372:1/1137.
3- الوسائل 219:2 الباب 20 من ابواب الجنابة ح 4، الفقيه 47:1/181.
4- الوسائل 219:2 الباب 20 من ابواب الجنابة ح 4، الفقيه 47:1/181.
5- الجواهر 19:1.
6- المنتهى 158:2، القواعد 177:1، التحرير 43:1، إرشاد الاذهان 220:1. الدروس 6:1، الذكرى 193:1.
7- النهاية ونكتها 353:2، المهذب 222:2، الوسيلة: 314، الشرايع 268:2، النافع: 171، اللمعة: 5، الجامع للشرايع: 32، نزهة الناظر: 10.

الولد مجنونا لو حملت من ذلك الجماع»(1).

ومثله ما في شرح الكاظمي للدروس قائلا: «وعليه رواية معلّلة بأنّه لا يؤمن...» الحديث(2).

لكن في شرح الخوانساري له الاستناد له إلى ما رواه الصدوق في الفقيه في باب الأوقات التي يكره فيها الجماع، قائلا: «وقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: يكره أن يغشي الرجل المرأة وقد احتلم حتّى يغتسل من احتلامه الّذي رأى، فإن فعل فخرج الولد مجنونا فلا يلومنّ إلّا نفسه»(3).

ويحتمل كون المراد بما تقدّم من الذخيرة وغيرها هو هذه الرواية، وهي كما ترى لا تقضي باستحباب الوضوء أصلا بل فيها التصريح بالاغتسال، والعجب عن الخوانساري أنّه مع مناقشته في غير الموضع في روايات لا خفاء في دلالتها على المطلوب استند إلى هذه الرواية الغير الدالّة على المطلوب أصلا.

ورابعها: المجامع إذا أراد معاودة الجماع، الّذي حكاه في المناهل عن بعض كتب الأصحاب، وإن ذكر في الحدائق: «أن هذا الموضع غير مذكور في كتب الأصحاب»(4)بل في المناهل(5) عن نكاح مبسوط الشيخ نفي الخلاف فيه، واستدلّ عليه بخبر الوشّاء عن الرضا عليه السلام أنّه قال: «كان أبو عبدالله عليه السلام إذا جامع وأراد أن يجامع مرّة أخري توضّأ، وإذا أراد أيضا توضّأ»(6) وأفرد عنه في الحدائق(7) ما لو وطئ جارية بعد وطئها أخرى ولما يغتسل، واستدلّ عليه بمرسلة ابن أبي نجران عمّن رواه عن الصادق عليه السلام قال: «إذا أتى الرجل جارية ثمّ أراد أن يأتي اخرى توضّأ»(8) وظاهر غيره دخوله فيما سبق.

وخامسها مع سادسها: الجنب إذا أراد أن يغسّل الميّت، وغاسل الميّت إذا أراد أن يجامع كما في كلام غير واحد، ودليله ما عن شهاب بن عبد ربّه قال: «سألت

ص: 120


1- الذخيرة: 4.
2- شرح الدروس: 17 (مخطوط).
3- مشارق الشموس: 38.
4- الحدائق 139:2.
5- راجع المبسوط 243:4.
6- الوسائل 385:1 الباب 13 من أبواب الوضوء ح 2، كشف الغمّة 302:2.
7- الحدائق 142:2.
8- الوسائل 257:20 الباب 155 من مقدّمات النكاح وآدابه ح 1، التهذيب 459:7/1837.

أبا عبداللّه عليه السلام عن الجنب أيغسّل الميّت ومن غسل الميت أيأتي أهله ثمّ يغتسل ؟ فقال:

هما سواء، لا بأس بذلك، إذا كان جنبا غسل يديه وتوضّأ، وغسل الميت وهو جنب، وإن غسل ميتا توضّأ ثمّ أتى أهله، ويجزئه غسل واحد لهما»(1).

وفي المناهل - كما عن كشف اللثام -(2) روى نحو ذلك عن مولانا الرضا عليه السلام(3).

وسابعها: ذكر الحائض، الّذي حكي في استحباب الوضوء له ذهاب الأكثر تارة، والشهرة اخرى، وخالف فيه عليّ بن بابويه رحمه الله(4) لقوله فيه بوجوب الوضوء، وجنح إليه شارح الدروس الكاظمي قائلا: «وعندي أنّ هذا القول قويّ لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا كانت المرأة طامثا فلا تحلّ لها الصلاة، وعليها أن تتوضّأ وضوء الصلاة عند وقت كلّ صلاة، ثمّ تقعد في موضع طاهر، فتذكر الله عزّ و جلّ وتسبّحه وتهلّله وتحمده بمقدار صلاتها، ثمّ تفرغ لحاجتها»(5) بناء على أنّ لفظة (على) صريحة في الوجوب»(6).

وفيه منع واضح، نعم ظهورها فيه ليس بنكير ومع ذلك فهو معارض بحسنة زيد الشحّام عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول: ينبغي للحائض أن تتوضّأ عند وقت كلّ صلاة، ثمّ تستقبل القبلة فتذكر الله مقدار ما كانت تصلّي»(7) بناء على ظهور كلمة «ينبغي» في الاستحباب إن لم تكن صريحة فيه، غير أنّها أظهر في الاستحباب من لفظة «على» في الوجوب فيكون حاكما على الظاهر.

ويؤيّده فهم الأكثر والشهرة بين الأصحاب، كما يؤيّده ما يأتي في رواية معاوية بن عمّار(8) من الأمر بالوضوء وقت كلّ صلاة بعد ما أمر به للأكل الّذي لا يجب له الوضوء

ص: 121


1- الوسائل 263:2 الباب 43 من أبواب الجنابة ح 3، التهذيب 448:1/1450.
2- كشف اللثام 124:1.
3- فقه الرضا عليه السلام: 173.
4- الفقيه 50:1 حيث نقل ذلك عن أبيه في رسالته إليه بقوله: «وقال أبي في رسالته إلي: اعلم - إلى أن قال -: يجب عليها عند حضور كلّ صلاة أن تتوضّأ وضوء الصلاة وتجلس مستقبلة القبلة».
5- الوسائل 386:1 الباب 14 من ابواب الوضوء ح 1، الكافي 101:3/3.
6- شرح الدروس: 18 (مخطوط).
7- الوسائل 345:2 الباب 40 من أبواب الحيض ح 3، الكافي 101:3/3.
8- الوسائل 346:2 الباب 40 من أبواب الحيض ح 5، الكافي 101:3/2.

إجماعا بقسميه. ولا ينافي ما ذكرناه من دعوي الأظهريّة ما ذكره في الحدائق من: أنّه حضرني من الأخبار ما يشتمل على خمسة عشر موضعا يتضمّن كون «ينبغي» و «لا ينبغي» بمعنى الّوجوب والتحريم(1) لأنّ ذلك لا ينفي أظهريّة الاستحباب.

ودعوى كون «ينبغي» في الأخبار أكثر استعمالا في الوجوب غير مسموعة، وكما أنّ الحسنة المذكورة حاكمة على الصحيحة المتقدّمة فكذلك حاكمة على أخبار آخر متضمّنة للأمر بالوضوء الظاهر في الوجوب، كرواية معاوية بن عمّار عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «تتوضّأ المرأة الحائض إذا أرادت أن تأكل، وإذا كانت وقت الصلاة توضّأت واستقبلت القبلة، وهلّلت وكبّرت، وتلت القرآن، وذكرت الله عزّ و جلّ »(2).

ورواية محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا عبدالله عن الحائض تطهر يوم الجمعة وتذكر اللّه ؟ قال: إمّا الطهر فلا، ولكنّها توضّأ في وقت الصلاة، ثمّ تستقبل القبلة، وتذكر اللّه تعالى عزّ و جلّ »(3).

وثامنها مع تاسعها: تكفين الميّت إذا أراده من يغسّله، ووضوء الميّت مضافا إلى غسله، ويأتي الكلام في الاستدلال عليهما في بحث أحكام الجنائز إن شاء الله عزّ و جلّ .

وعاشرها: التجديد الّذي ذكر فيه المحقق الخوانساري: «أنّ استحبابه في الجملة كأنّه إجماعي»(4).

وينبغي فيه أوّلا إيراد الأخبار الواردة فيه، ثمّ التعرّض لبعض ما يتعلّق به من الفروع، فمن الأخبار - على ما عثرنا عليه - مرسلة سعدان عن بعض اصحابه عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «الطهر على الطهر عشر حسنات»(5).

ومنها: ما في الوسائل عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقي في المحاسن عن محمّد ابن مسلم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين: الوضوء بعد الطهور عشر

ص: 122


1- الحدائق 144:2.
2- الوسائل 346:2 الباب 40 من ابواب الحيض ح 5، الكافي 101:3/2.
3- الوسائل 346:2 الباب 40 من أبواب الحيض ح 4، الكافي 100:3/1.
4- مشارق الشموس: 39.
5- الوسائل 376:1 الباب 8 من أبواب الوضوء ح 3، الكافي 72:3/10.

حسنات فتطهّروا»(1).

ومنها: ما أرسله في الفقيه بقوله: وروي في خبر آخر «أنّ الوضوء على الوضوء نور على نور، ومن جدّد وضوءه لغير حدث جدّد الله عزّ و جلّ توبته من غير استغفار»(2).

ومنها: ما في الوسائل عن كتاب ثواب الأعمال لمحمّد بن عليّ بن الحسين عن المفضّل بن عمر عن أبي عبداللّه قال: «من جدّد وضوءه لغير حدث جدّد اللّه توبته من غير استغفار»(3).

ومنها: ما في الفقيه واصفا له باسناد منقطع رواه عمرو بن أبي المقدام، قال:

«حدّثني من سمع أبا عبدالله عليه السلام يقول: إنّي لأعجب ممّن يرغب أن يتوضّأ اثنتين اثنتين وقد توضّأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم اثنتين اثنتين. فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كان يجدّد الوضوء لكلّ فريضة ولكلّ صلاة»(4) ثمّ قال: «فمعنى هذا الحديث هو أنّي لأعجب ممّن يرغب عن تجديد الوضوء وقد جدّده النبيّ »(5).

ومنها: ما في الوسائل أيضا عن كتاب ثواب الأعمال عن أبي قتادة عن الرضا عليه السلام قال: «تجديد الوضوء لصلاة العشاء يمحو ألا والله وبلى واللّه»(6) ورواه في الفقيه(7)مرسلا.

ومنها: ما في الكافي عن سماعة قال: «كنت عند أبي الحسن عليه السلام فصلّى الظهر والعصر بين يديّ وجلست عنده حتّى حضرت المغرب، فدعا بوضوء فتوضّأ للصلاة، ثمّ قال لي: توضّأ فقلت: جعلت فداك أنا على وضوء، فقال: وإن كنت على وضوء، إنّ من توضّأ للمغرب كان وضوؤه ذلك كفارة لما مضى من ذنوبه في يومه إلّا الكبائر. ومن توضّأ للصبح كان وضوؤه ذلك كفارّة لما مضى من ذنوبه في ليلته إلّا الكبائر»(8).

ص: 123


1- الوسائل 377:1 الباب 8 من ابواب الوضوء ح 10، المحاسن: 47/63.
2- الفقيه 41:1/82.
3- الوسائل 377:1 الباب 8 من ابواب الوضوء ح 7، ثواب الأعمال: 33/2.
4- الفقيه 25:1/80.
5- الفقيه 26:1.
6- الوسائل 377:1 الباب 8 من ابواب الوضوء ح 6، ثواب الأعمال: 33/1.
7- الفقيه 26:1/81.
8- الوسائل 376:1 الباب 8 من ابواب الوضوء ح 2، الكافي 72:3/9.

وممّا أورده صاحب الوسائل في اخبار التجديد ما في الكافي عن سماعة بن مهران قال: «قال أبو الّحسن موسى عليه السلام: من توضّأ للمغرب كان وضوؤه ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في ليلته إلّا الكبائر»(1) وما نقله عن كتاب ثواب الأعمال عن سماعة بن مهران قال: «قال أبو الحسن موسى عليه السلام: من توضّأ للمغرب كان وضوؤه ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في نهاره ما خلا الكبائر، ومن توضّأ لصلاة الصبح كان وضوؤه ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في ليلته ما خلا الكبائر»(2).

وكأنّه مبنيّ على توهّم الإطلاق الشامل للمحدث والمتطهّر، وهو حسن لولا شبهة الانصراف عرفا إلى المحدث.

ويمكن ابتناؤه على توهّم كون ما تقدّم من الكافي عن سماعة قرينة على ورودهما في شأن المتطهّر نظرا إلى اتحاد المضمون بل المتن في الجملة، وهو بعيد.

وعلى أيّ حال كان فينبغي التنبيه على امور:

أحدها: لا معارضة بين الأخبار المذكورة الدالّة على رجحان التجديد وبين موثقة عبداللّه بن بكير عن أبيه عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إذا استيقنت أنّك قد توضّأت فإياك أن تحدث وضوء أبدا، حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت»(3) كما توهّم بتخيّل أنّه خرج التجديد بعد الصلاة بالإجماع عن عموم النهي فبقي الباقي، الّذي مرجعه إلى الجمع بينهما بحمل أحاديث التجديد على الّتجديد بعد الصلاة وحمل هذه على ما عداه، فإنّ ذلك على ما يظهر - واللّه أعلم - نهي عن نقض الحالة السابقة من غير يقين بانتقاضها، المبنيّ على عدم الاعتناء باليقين السابق والأخذ بالاحتمال اللاحق، ومن البيّن تحريمه على ما هو مقتضي الأخبار الواردة في حجّيّة الاستصحاب، وعليه مبنى القول بحجّيته، وظاهر مغايرة هذا العنوان لعنوان التجديد، فإنّ الوضوء يؤتى به للتجديد تعبّدا من الشارع ولو مع اليقين ببقاء أثر الوضوء السابق، وليس ذلك من رفع اليد عن اليقين السابق ولا من الأخذ بموجب الاحتمال اللاحق في شيء، ومن هنا كان الأخذ

ص: 124


1- الوسائل 375:1 الباب 8 من ابواب الوضوء ح 1، الكافي 70:3/5.
2- الوسائل 376:1 الباب 8 من ابواب الوضوء ح 4، ثواب الأعمال: 32/1.
3- الوسائل 247:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 7.

بموجب الاحتياط في مجرى الاستصحاب غير مناف لحّجيّة الاستصحاب، وإن لم يكن هذا الاحتياط على جهة الوجوب.

وثانيها: مقتضي إطلاق أخبار الباب المعتضد بإطلاق فتوى الأصحاب عدم اختصاص مشروعيّة التجديد بصورة قيام احتمال تخلّل الحدث أو قيام احتمال وقوع خلل في الوضوء الأوّل ليكون الوضوء جابرا له، بل سابع الأخبار المرويّ في الكافي صريح في ذلك كما لا يخفى. فما في الذكرى من «أنّ ظاهر الأصحاب والأخبار انّ شرعيّة المجدّد للتدارك - يعني تدارك ما عساه فات في الأوّل - فهو منويّ به تلك الغاية، وعلى تقدير عدم نيّتها لا يكون مشروعا»(1) ليس بسديد جزما.

وثالثها: مقتضي إطلاق الخبر الأوّل والثاني والثالث والرابع عدم اشتراط المجدّد بتخلّل صلاة فرضا أو نفلا، ولا تخلّل عمل آخر ممّا يعدّ من غايات الوضوء كالطواف وقراءة القرآن ونحوهما، وهو من مقتضي إطلاق الفتاوى أيضا، بل عن العلّامة في التذكرة(2). القطع بالاستحباب مع عدم تخلّل الصلاة بالأوّل. فما يوهمه الخبر السادس والسابع من وقوعه عقيب الصلاة بالأوّل ليس على جهة الدلالة على الاعتبار ليكون منافيا لإطلاق ما ذكر. فما عن الشهيد في الذكرى من توقّفه في مشروعيّة هذا الوضوء(3) ضعيف جدّا، وأضعف منه تعليله العدم بعدم النقل بهذا الطريق، فإنّ نفي النقل مع نهوض إطلاق أكثر أخبار الباب دليلا على المشروعية عجيب.

نعم لو اعتبر تخلّل فصل زماني يعتدّ به في نظر العرف تعويلا على عدم صدق قضيّة التجديد عرفا بدونه فليس ببعيد، بل هو الأقرب، وإن أنكر اعتبار ذلك أيضا بعض مشايخنا طاب ثراه(4).

ورابعها: لا يشترط في مشروعيّة التجديد كونه لغاية واجبة كالصلاة والطواف الفرضين، ولا غاية راجحة كالنافلة والقراءة وسجود التلاوة ونحوها، بل يستحبّ تجديده ولولا لغاية في الوقت أو خارجه، حصل الوضوء الأوّل لغاية ممّا عدا الكون على الطهارة أولا، لإطلاق الاخبار الأربع الأول المذكورة. ولا ينافيه ما في الخامس والسادس والسابع من أخذ الصلاة مطلقا أو خصوص العشاء أو خصوص المغرب أو

ص: 125


1- الذكرى 210:1.
2- التذكرة 203:1.
3- الذكرى 196:2.
4- الجواهر 18:1.

هو مع الصبح غاية له كما لا يخفى، غاية الأمر قضاء هذه بأفضليّة التجديد في تلك المواضع.

وممّن صرّح بما نبّهنا عليه المحقق. الخوانساري في المشارق قائلا: «لا يخفى أن ليس هي أكثر الروايات المتقدّمة الحكم بأن التجديد للصلاة، بل غاية ما يستفاد منه أنّ إحداث الوضوء بعد الوضوء مرغوب فيه، وليس فيه كونه مغيّا بغاية أو مقيّدا بشيء، فينبغي بناء على ظواهرها الحكم باستحبابه مطلقا سواء كان الوضوء الأوّل نفلا أو فرضا للصلاة أو غيرها، داخل الوقت أو خارجه، يكون الغرض منه شيئا من الصلاة والطواف وغيرهما أو لا» انتهى(1).

فما عن ذكرى الشهيد من القول: «بأنّ الأقرب لا يستحبّ تجديده لسجود التلاوة والشكر، ولما الوضوء شرط في كماله الأصل، وفي الطواف احتمال للحكم بمساواته للصلاة»(2) ليس في محلّه جدّا.

ثمّ على تقدير كونه مغيّا بغاية الصلاة لا اختصاص له بالفريضة بل تعمّها والنافلة، لعموم الخبر الخامس المتضمّن لقوله: «فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كان يجدّد الوضوء لكلّ فريضة ولكلّ صلاة» وإذ عمّ الحكم للنافلة أيضا فلا فرق فيها بين اليوميّة وغيرها من الرواتب وغيرها، فلا يعتبر حينئذ كون وقوعه في وقت الفريضة، عملا بالعموم في قوله: «لكل صلاة» فإنه ورد تعميما بعد ذكر ما يوهم التخصيص.

وخامسها: ظاهر الصدوق في الفقيه عدم مشروعيّة التجديد مرّة ثانية المتحقّق بالوضوء الثالث، حيث إنّه بعد ما حمل الأخبار الدالّة على أنّ الوضوء مرّتين وأنّ من زاد عليهما لا يؤجر على الزيادة على التجديد، على معنى أنّ المراد بكونه مرّتين تجديده ثانيا لا ثالثا ورابعا فإنه لا يؤجر عليه بل يكون بدعة، قال: «والخبر الّذي روي أنّ من زاد على مرّتين لم يؤجر يؤكد ما ذكرته، ومعناه أنّ التجديد بعد التجديد لا أجر له، كالأذان من صلّى الظهر بأذان وإقامتين أجزأه، ومن أذّن للعصر كان أفضل. والأذان الثالث بدعة لا أجر له، وكذلك ما روي أنّ مرّتين أفضل معناه التجديد، وكذلك ما روي في مرّتين أنّه إسباغ...» الخ(3).

ص: 126


1- مشارق الشموس: 39.
2- الذكرى 196:2.
3- الفقيه 26:1.

وقد ذكر غير واحد أن كلامه هذا يحتمل أمرين:

احدهما: نفي الأجر على التجديد الثالث وإن كان لصلاة ثالثة.

وثانيهما: نفي الأجر عليه إذا كان الكلّ لصلاة واحدة.

وعن العلّامة في المختلف الاعراض عليه: «بأنّه إن أراد الأوّل فقد خالف المشهور، وإن أراد الثاني فلم أقف فيه على نصّ »(1).

والأولى في دفع كلامه: أنّ ذلك بكلا معنييه تقييد لإطلاق أكثر أخبار الباب المتقدّم ذكرها من غير شاهد ولا دليل، وما ذكره في روايات كون الوضوء مرّتين وأنّ الزيادة لا أجر عليها بل تكون بدعة، تأويل في تلك الروايات من دون أن يستند هذا المعنى إلى ظواهرها، فلا تصلح مخرجة عن ظاهر آخر، كيف وهي ظاهرة في الإذن في المرّتين في الغسلات المعتبرة في الوضوء، والمراد بالزيادة الّتي لا يؤجر عليها إنّما هو غسل الوجه أو غسل اليدين مرّة ثالثة، وهذا هو المراد من إسباغ الوضوء مرّتين.

ويتّضح ذلك زيادة اتّضاح بملاحظة ورود تلك الأخبار ردّا لما عليه المخالفون من جواز إسباغه ثلاثا ثلاثا، وعليك بتتبّع الروايات ليتضح لك صدق هذه المقالات.

وسادسها: قد عرفت عن الشهيد في الدروس أنّه عدّ الوضوء المجدّد في عداد ما لا يرفع الحدث ولا يبيح الصلاة، وإن ذكر عقيب ذلك: «أنّ في المجدّد قول قويّ بالرفع»(2) ووجّهه الكاظمي في شرحه بقوله: «وكأنّ وجهه أنّ شرعيّة المجدّد لتدارك ما عساه فات في الأوّل، فينبغي أن يحصل له ذلك، وإلّا لم يحصل الغرض من شرعيته...» إلى آخر ما ذكر(3) وقد سبق منّا ما يهدم بنيان هذا التوجيه.

وكيف [كان] فالقول بالعدم هنا محكيّ عن جماعة من الأصحاب، وخلافه محكيّ عن الشيخ في المبسوط قائلا: «فإن توضّأ ولم يحدث، ثمّ جدّد الوضوء وصلّى عقيبه ثمّ ذكر أنّه كان ترك عضوا من الأعضاء في إحدى الطهارتين كانت صلاته صحيحة، لأنّ إحدى الطهارتين كانت كاملة صحّت الصلاة بصحّتها، سواء كانت الاولى أو الثانية»(4) وحكي عنه القول به في الخلاف(5).

ص: 127


1- المختلف 307:1 نقلا بالمعنى.
2- الدروس 6:1.
3- شرح الدروس: 18 (مخطوط).
4- المبسوط 47:1.
5- الخلاف 203:1، المسألة 166.

وربّما يتدافع ذلك منه مع ما اختاره في المبسوط(1) في صفة نية الوضوء من اعتبار قصد أحد الأمرين من الرفع والاستباحة، ولذا تعجّب منه العلّامة في المختلف(2) - على ما حكي عنه - ووجّه الشهيد كلامه في الذكرى(3) بمثل ما سمعت عن الكاظمي في توجيه ما قوّاه في الدروس مع قوله باعتبار قصد أحد الأمرين في النية.

وعن صاحب المدارك(4) الاستدلال على قول الشيخ المخرج عن قاعدته في النيّة بأنّ نيّة الاستباحة إنّما تكون معتبرة إذا كان المكلّف ذاكرا للحدث، لا مع اعتقاد حصوله بدونه، ثمّ استشهد له بما رواه الفقيه(5) من إجزاء غسل الجمعة عن غسل الجناية وما أجمع عليه الأصحاب من إجزاء صوم يوم الشك بنية الندب عن الواجب، وما ورد من استحباب الغسل في أوّل ليلة من شهر رمضان تلافيا لما عساه فاته من الأغسال الواجبة.

ولا يخفى ما في الاستدلال من الضعف وأظهريّة الشواهد فيما سنحققه من أنّ الأصل في الوضوء كالغسل كائنا ما كان كونه رافعا ومبيحا إلّا ما خرج بالدليل، كمصادفة الحدث الأكبر، أو مصادفة الطهارة.

وعن المحقق في المعتبر(6) أنّه مع قوله باشتراط الاستباحة حكم في المجدّد بالرفع، لكن بشرط أن يجدّد بقصد الصلاة لا أن يقصد وضوء مطلقا، مستدلّا على الرفع بالقصد المذكور بأنّها طهارة شرعيّة قصد بها تحصيل فضيلة لا تحصل إلّا بها.

وفيه: أنّ حصول الفضيلة بالمجدّد فرع على حصول الرفع بالوضوء الأوّل.

والمفروض انكشاف خلافه، فانحصر ثمرة المجدّد في حصول الرفع وهو أوّل المسألة.

والحقّ أنّ الوضوء المجدّد يفيد الرفع والاستباحة في محلّه، وفاقا لجماعة من المتأخّرين منهم المحقّق الأردبيلي في شرحه للإرشاد(7) وإن لم يقصد معه الرفع ولا الاستباحة، لا لأنّ ذلك مخرج عن القاعدة، بل لأنّ الأصل في الوضوء كائنا ما كان هو الرفع والاستباحة إلّا ما خرج بالدليل كما أشرنا إليه، وسنفصّله بإقامة الدليل عليه إن شاء الله عزّ و جلّ ، وانقدح بجميع ما ذكر أنّ محلّ البحث ما إذا انكشف خلل في

ص: 128


1- المبسوط 39:1.
2- المختلف 309:1.
3- الذكرى 208:2.
4- المدارك 260:1.
5- الفقيه 74:2/321.
6- المعتبر 140:1.
7- مجمع الفائدة والبرهان 69:1.

الوضوء الأوّل أو تخلّل حدث بينه وبين الوضوء الثاني.

وسابعها: وكما أنّ التجديد يفرض في الوضوء بعد الوضوء كذلك يفرض في الغسل بعد الغسل، والوضوء بعد الغسل، والغسل بعد الوضوء، والأوّل ممّا لا إشكال في مشروعيته كما لا خلاف لأحد فيها، بل هو القدر المتيقّن من مورد الأخبار المتقدّمة، بل هو صريح جملة منها، بل ظاهر الفتاوى اختصاص الحكم به كما اعترف به الحدائق قائلا: «ظاهر الأصحاب اختصاص التجديد بطهارة الوضوء، بمعنى الوضوء بعد الوضوء، وأمّا بعد الغسل والغسل بعد الغسل ولو مع الفصل بصلاة فلم يتعرّضوا له، وربّما أيّد المنع ورود الأخبار ببدعيّة الوضوء مع غسل الجنابة» ثمّ قال: «واستظهر في البحار استحباب التجديد في الصورة الأولى إذا وقع الفصل بينهما لرواية أبي بصير ومحمّد بن مسلم المتقدّمة نقلا عن كتاب الخصال الدالة على أن الوضوء بعد الطهور عشر حسنات، قال: والمتبادر من اخبار كونه بدعة إذا وقع بلا فاصلة. ثمّ قال: ولعلّ الاحتياط في الترك»(1) انتهى.

ثمّ قال: «ونفى بعض البعد عن استحباب تجديد الغسل لمرسلة سعدان المتقدّمة»(2) انتهى.

أقول: ولولا إعراض الأصحاب عن العمل بعموم الخبر الأوّل والثاني وهو مرسلة سعدان كان المتّجه مشروعيّة التجديد في الغسل بعد الغسل والوضوء بعده كما لا يخفى، فالأقوى إذن الاختصاص.

ثمّ في كلام غير واحد من متأخّري المتأخّرين استحباب الوضوء من امور قبالا لاستحبابه لامور، كالضحك في الصلاة لخبر زرعة عن سماعة(3). والكذب والظلم والإكثار من إنشاد الشعر لخبر زرعة(4) أيضا. وخروج الودي - بالمهملة - بعد خروج البول والاستبراء منه، لخبر ابن سنان(5). والمذي لأخبار دالّة على ناقضيته محمولة

ص: 129


1- البحار 307:1.
2- الحدائق 146:1-147.
3- الوسائل 263:1 الباب 6 من أبواب نواقض الوضوء ح 11.
4- الوسائل 269:1 الباب 8 من أبواب نواقض الوضوء ح 2.
5- الوسائل 280:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 14.

على الندب أو التقيّة. والرعاف والقيء والتخليل لسيل الدم، لخبر أبي عبيدة(1) المتقيّد بالاستكراه الّذي أخذه في المدارك(2) قيدا. ومسّ باطن الدبر وباطن الإحليل، لخبر عمّار(3). و نسيان الاستنجاء قبل الوضوء، لخبر سليمان بن خالد(4). والتقبيل بشهوة أو مسّ الفرج، لقول الصادق عليه السلام: «إذا قبّل الرجل المرأة بشهوة أو مسّ فرجها أعاد الوضوء»(5). وقبل الأغسال المسنونة، لقول الصادق عليه السلام: «كلّ غسل قبله الوضوء إلّا غسل الجنابة»(6). وقبل الأكل وبعد. كما عن النزهة(7) للأخبار على ما قيل. وبعد الاستنجاء بالماء للمتوضّئ قبله إن كان قد استجمر كما عن المدارك والنفليّة والبيان(8)لقول الصادق في خبر عمّار - في الرجل ينسى أن يغسل دبره بالماء حتى صلّى، إلّا أنّه قد تمسّح به بثلاثة أحجار - «إن كان في وقت تلك الصلاة فليعد الوضوء، وإن كان قد خرجت تلك الصلاة الّتي صلّى فقد جازت صلاته، وليتوضّأ لما يستقبل من الصلاة»(9).

والغضب، لما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: «إذا غضب أحدكم فليتوضّأ»(10).

والأخبار الواردة في أكثر هذه الأمور بظاهرها دالّة على الناقضيّة، ولأجل ذا يحتمل خروجها مخرج التقيّة، لأنّ الناقضية في كثير منها منقول عن العامّة كما يقف عليه المتتبّع، ومعه فحملها على الاستحباب غير واضح الوجه، ولعلّه مبنيّ على ما حكاه بعض مشايخنا عن بعض مشايخه من: «أنّ الخبر إذا علم خروجه مخرج التقيّة في وجوب أو تحريم يحكم من جهته بالاستحباب أو الكراهة»(11).

وهذا وإن كان قد يقتضيه الاعتبار من حيث إنّ ورود الخبر تقية يتصوّر على وجهين:

الأوّل: الحكم بكونه كذبا، على معنى كونه ممّا أراد الإمام ظاهره الغير الموافق للواقع لمصلحة التقيّة.

ص: 130


1- الوسائل 263:1 الباب 6 من أبواب نواقض الوضوء ح 12.
2- المدارك 13:1.
3- الوسائل 272:1 الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء ح 10 و 9.
4- الوسائل 296:1 الباب 18 من أبواب نواقض الوضوء ح 9.
5- الوسائل 272:1 الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء ح 10 و 9.
6- الوسائل 248:2 الباب 35 من أبواب الجنابة ح 1.
7- النزهة: 11.
8- المدارك 13:1، النفليّة: 92، البيان: 3.
9- الوسائل 317:1 الباب 10 من أحكام الخلوة ح 1.
10- المستدرك 353:1 الباب 47 من أبواب الوضوء ح 1.
11- الجواهر 23:1.

والثاني: الحكم بكونه مؤوّلا يعبّر عنه بالتورية، على معنى كونه ممّا أراد الإمام عليه السلام خلاف ظاهره الموافق للواقع من غير نصب قرينة عليه لمصلحة التقيّة، فإذا دار الأمر بينهما - بعد إحراز صدور. على جهة التقية - فالأولى الحمل على الثاني قضاء للاعتبار، بل القوّة العاقلة على ما قيل.

لكن يشكل ذلك: بأنّه إنما يتجه إذا كان هذا الدوران حاصلا في نظر الإمام عليه السلام كما هو حاصل عندنا، على معنى أنّ مصلحة التقيّة الموجودة ثمّة تحصل باختيار كلّ من الوجهين، فله بل عليه حينئذ اختيار الوجه الثاني حذرا عن بيان ما يخالف الواقع البعيد عن مقام الإمامة بمراحل. وهذا الفرض ممّا لا يتحقق في حقّه مطردا، فإنّ التقيّة قد تكون قوليّة على معنى أنّ التقيّة حاصلة للإمام نفسه فيأتي بقولي موافق ظاهره لمذهب العامّه لحفظ نفسه ودفع الضرر عنه عليه السلام.

وقد تكون عمليّة على معنى أنّ التقية حاصلة لتابعيه الغائبين بل البعيدين عنه في أعمالهم المخالفة لما يعمله المخالفين(1) فيأتي بقولي موافق ظاهره لمذهبهم حفظا لتابعيه عن كيدهم بتطبيق عملهم على مذهبهم كغسل الرجلين في الوضوء مثلا، ومصلحة التقيّة بكلا الوجهين إنّما تحصل في القسم الأوّل دون القسم الثاني، ضرورة أنّه لولا إرادة الظاهر المطابق لمذهبهم الباعثة على تطبيق العمل في الظاهر على هذا المذهب لم يحصل الغرض من ايراد الكلام تقية.

ومن هنا يقال: إنّ التقيّة في موردها حكم ظاهري بل واقعيّ ثانوي، وموجبها مادام قائما يحرم متابعة الواقع لمن يعلمه، كمسح الرجلين مكان غسلهما لمن وقع في زمن التقية، فإذا دار الخبر الصادر على جهة التقيّة بين التقية القوليّة ليجري فيه الوجهان المتقدّمان والتقية العملية لئلّا يجري فيه إلّا الوجه الأوّل لا سبيل فيه إلى الحكم بأنّ الإمام إنّما اختار الوجه الثاني كما لا يخفى على من له أدنى تأمّل.

وربّما يذكر استحباب الوضوء من امور اخر: كأكل ما مسّه النار، ولمس النساء، وأكل لحم الجزور، وقصّ الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، والاحتجام، و مسّ الكلب، ومصافحة اليهودي، والردّة، والدم السائل من أحد السبيلين إذا لم يستصحب حدثا، والمضاجعة.

ص: 131


1- كذا في الأصل، والصواب: المخالفون.

ومن المشايخ من أنكر الاستحباب في هذه الأشياء، تعليلا: «بأنّ كثيرا منها ذهب إليه بعض العامّة وإن نقل عن بعض الأصحاب كابن الجنيد والصدوق، فإن بعضا منها فاقد للدليل، والبعض الآخر متروك العمل به بين الأصحاب ولو على جهة الاستحباب.

وأدلّة السنن وإن كانت يتسامح فيها لكن لا إلى هذا المقدار(1).

[الخاتمة في ذكر مسائل]
اشارة

هذا آخر ما أوردنا من البحث في الوضوء بالقياس إلى ما يجب له أو يستحبّ له أو منه، ولنختم المقام بإيراد مسائل:

المسألة الأولى: قد عرفت أنّ الوضوء حيثما يجب إنّما يجب لغيره لا لنفسه،

ومعنى وجوبه لغيره وجوبه للتوصّل إلى ذلك الغير، ومعلوم أنّ وجوبه حينئذ موقوف على إمكان التوصّل إليه، كما أنّ وجوب نفس ذلك الغير موقوف على إمكان حصوله.

وقد يقال: بأنّه يعتبر في الوضوء الواجب حصول التوصّل فعلا، فلو أتى به للصلاة فترك الصلاة رأسا لصارف اختياري لم يكن آتيا بالوضوء الواجب، وقد يستظهر ذلك أيضا ممّن يقول ببطلان وضوء يؤتى به لأجل قضاء الفائتة فاتفق عدم الإتيان بها، والحقّ خلافه وفاقا للجمهور على ما عزي إليهم، على معنى أنّ الوجوب قائم بما من شأنه أن يتوصّل به إلى الغير سواء حصل التوصّل فعلا أو لم يحصل.

ويظهر الثمرة فيما لو أتى بالوضوء للطواف الواجب فلم يأت به لصادف إلى أن دخل وقت الفريضة، فهل يصحّ له الدخول فيها؟ لأنّه قد توضّأ بوضوء صحيح شرعا، أو لا لأنّه محدث والوضوء الّذي أتى به انكشف فساده بعدم كونه مأمورا به وجوبا ولا ندبا، أمّا الأوّل فبالفرض، وأمّا الثاني فبناء على أنّ مع اشتغال الذمّة بواجب يستحيل تعلّق الأمر الندبي بذلك الواجب.

ومبنى الخلاف على اشتباه موضوعي، لتردّد الوجوب الغيري في بادئ النظر بين مطلوبيّة شيء للتوصّل إلى الغير، ومطلوبية التوصّل إلى الغير بذلك الشيء، والفرق بين التعبيرين واضح، فإنّ التوصّل إلى الغير على الأوّل ملحوظ من باب الغايات الّتي لا يجب ترتّبها فعلا، وعلى الثاني يكون هو بنفسه مطلوبا أو جزءا من المطلوب، على معنى أنّ الواجب هو الوضوء الموصل بوصف الإيصال، فالإيصال جزء من المأمور به،

ص: 132


1- الجواهر 26:1.

وظاهر أنّه إذا انتفى الجزء انتفى الكلّ .

لنا على المختار: أنّه الظاهر المنساق من الخطابات، ألا ترى لو قال: «توضّأ للصلاة، واغتسل للزيارة» وما أشبه ذلك، لا يتبادر منه عرفا إلّا كون إيجاب الوضوء والغسل للتوصّل إلى الصلاة والزيارة على نحو لم يكن التوصّل ملحوظا إلّا.

لمجرّد الغاليّة.

وممّا يكشف عن ذلك أنّه لو قال الأمير لواحد من امنائه: «اجمع العسكر لفتح البلد» فجمعه بتمامه وصادف عدم حصول الغرض لمانع خارجي خرج عن العهدة في نظر العرف جزما، وليس للأمير أن يؤاخذه ويعاقبه حينئذ، فلو آخذه والحال هذه لذمّه العقول، بخلاف ما لو كان من تقصيره بأن لم يأت بكمال المأمور به، فإنّه حينئذ يستحقّ الذمّ والعقوبة مع اشتراكه مع الصورة الأولى في عدم الإيصال، فلا يعقل فرق بينهما إلّا أنّ المعبر في المأمور به حينئذ شأنيّة الإيصال لا فعليته وهي منتفية في الصورة الثانية دون الأولى، وإلّا لاشتركتا في استلزام توجّه الذمّ والعقوبة.

واحتجّ الخصم: بأنّ مطلوبيّة شيء للغير تقتضي مطلوبية ما يترتّب ذلك الغير عليه دون غيره، نظرا إلى أنّ المطلوب فيه المقيّد من حيث إنّه مقيّد، وهذا لا يتحقّق بدون القيد الّذي هو فعل الغير.

ولا يخفى ما فيه من المصادرة على المطلوب، فلنا أن نقول في معه: إنّ مطلوبيّة شيء للغير تقتضي مطلوبية ما من شأنه أن يترتب عليه ذلك الغير سواء اتّفق حصول الترتب فعلا أو لا، لأنه المنساق من الخطاب في نظر العرف.

وقد يقرّر الدليل: بأنّ هذا الشيء ليس مطلوبا لذاته وإنّما هو مطلوب لأجل كونه موصلا إلى الغير، فالمطلوب عند التحقيق هو الإيصال، فيكون الواجب في الحقيقة هو الوضوء الموصل، والذي لا يوجد معه الصلاة مثلا ليس من الوضوء الواجب أصلا.

وهذا أيضا كسابقه، فإنّ المطلوب عند التحقيق هو الشيء الذي من شأنه الإيصال، وهو الوضوء المستكمل لجميع الأمور المعتبرة فيه من الأجزاء والشروط.

وقد يقرّر الدليل أيضا: بأنّ الوضوء ليس مطلوبا لنفسه بل هو مطلوب لمطلوبيّة الصلاة مثلا، فإذا أتى المكلّف حينئذ بالوضوء من دون الصلاة فإمّا أن يكون ذلك هو

ص: 133

الوضوء المطلوب أو غيره، والأوّل يوجب أن يكون الوضوء مطلوبا لنفسه وهو خلاف الفرض، فتعيّن الثاني إذ لا ثالث لهما.

وفيه: أنّ مطلوبيّة الوضوء لمطلوبيّة الصلاة معناها أنّ مطلوبيّة الصلاة سبب لمطلوبية الوضوء، والمعتبر في وجود المسبّب مقارنة وجود السبب له، والسبب ليس إلّا وجوب الصلاة لا وجودها والمفروض وجوبها، ولو فرض المقام بحيث لم يكن أصل الصلاة واجبة فهذا يقضي بعدم وجوب الوضوء رأسا، هذا كلّه كلام في هدم دليله، ولنا بعد ذلك في إبطال مدّعاه وجوه أخر تطلب من تحقيقاتنا الاصوليّة.

المسألة الثانية: قد يقال: إنه يعتبر في امتثال الأمر بالوضوء الّذي هو واجب غيري قصد امتثال الأمر بذلك الغير،

بحيث لولاه عند الإتيان به كان المأتيّ به شيئا لا مدخل له بالمأمور به ولا يحصل به امتثال الأمر الغيري، بل هذا لازم لقول من يرى نيّة الاستباحة بل قصد رفع الحدث شرطا في الوضوء، واستدلّ عليه: بأنّ القصد الّذي يعتبر في المأمور به وهو الوضوء المقيّد يكون الإتيان به مقرونا بقصد الامتثال إنّما يعتبر فيه بالعنوان الّذي امر به بذلك العنوان، ومعلوم أن عنوان الوضوء المأمور به عنوان مقدّمي لا يتعلّق به غرض إلّا التوصّل به إلى ذلك الغير، فقصده عند الإتيان به بهذا العنوان لا ينفك عن قصد الامتثال بذلك الغير، بل التفكيك بينهما غير معقول.

وبعبارة اخرى: الوضوء مقدّمة شرعيّة لما هو واجب نفسي كالصلاة مثلا، والأمر بالمقدّمة لا يقصد به إلّا الوصول إلى ذيها، فامتثال الأمر بها لا يحصل إلّا بقصد امتثال الأمر بذيها، فلو أتى بها لا بقصد امتثال هذا الأمر لا يعدّ في نظر العرف ممتثلا، ألا ترى أنّ المولى لو أمر عبده بتحصيل درهم لاشتراء شيء مأمور به فحصّله العبد لا لأجل اشتراء هذا الشيء بل لأجل اشتراء شيء آخر غير مأمور به أو مأمورا به بأمر آخر لا يقال: إنّه امتثل الأمر.

وفيه: أنّ عنوان المقدّميّة في الوضوء بل كلّ واجب غيرى ملحوظ على نحو الجهة التعليليّة، على معنى كونها هي المصلحة الداعية إلى الأمر به، ومعلوم أنّ امتثال الأمر بالشيء لا يتوقّف على قصد المصلحة الداعية إلى ذلك الأمر، فلو أمرنا بالصلاة لمصلحة أنّها زاجرة عن السوء رادعة عن الفحشاء لم يعقل لأحد أن يقول: إنّ امتثال

ص: 134

هذا الأمر لا يتأتّى إلّا مع اقتران العمل بقصد مصلحة الزجر والردع، كما أنّه لو امرنا في العرف بشرب «سقمونيا» لمصلحة أنّه دافع للصفراء فشربناه امتثالا للأمر من غير قصد إلى تلك المصلحة لم يصحّ سلب الامتثال جزما.

ومحصّله: أنّ العنوان الّذي يجب قصده مع قصد امتثال الأمر هو الّذي يكون بنفسه المأمور به أو يكون المأمور به الأوّلي الّذي يرجع إليه هذا المأمور به، وهذا هو الّذي يعبّر عنه بالوجه في كلام من يرى قصد الوجه معتبرا، كالتأديب بالقياس إلى الضرب الّذي امر به لأجله، حيث إنّ المأمور به الأوّلي هنا هو التأديب، فالضرب إنّما أمر به لأنّه تأديب أو محصّل له أو متّحد معه في الوجود، فامتثال الأمر به يتوقّف على الإتيان به على أنّه تأديب بناء على اعتبار قصد الوجه، والمقدّمية فيما نحن فيه وصف لازم اعتباري اخذ علّة فلا يصلح موردا للأمر ولا جزءا من المأمور به.

ولو سلّم أنّ العنوان عبارة عمّا يكون مقصودا من الأمر، نقول: إنّ وصف المقدّميّة ليس مقصودا من الأمر بالمقدّمة، بل المقصود منه حصول نفس المقدّمة في الخارج، وإن كان المقصود من حصول المقدّمة أيضا التمكن من امتثال الأمر بذي المقدّمة، فامتثال الأمر بذي المقدّمة ليس مقصودا من الأمر بالمقدّمة، بل هو مقصود من الأمر بنفس ذي المقدّمة، وعلى تقدير كونه مقصودا من الأمر بالمقدّمة أيضا فهو ملحوظ من باب الغاية، ولا دليل من عقل ولا نقل على اشتراط قصد الغاية في امتثال الأمر. وقصد عنوان المقدّميّة على فرض لزومه لا يستلزم قصد الامتثال بذي المقدّمة، فإنّ معناه الإتيان بالوضوء مثلا على أنّه مقدّمة للصلاة، وهو كما ترى يغاير الإتيان به لامتثال الأمر بالصلاة، ولا تلازم بينهما عقلا ولا عرفا.

وبالجملة قصد امتثال الأمر بالصلاة لمّا كان أمرا خارجا عن ماهيّة الوضوء فاعتباره في امتثال الأمر بالوضوء راجع إلى تقييد تلك الماهيّة وهو ممّا لابدّ فيه من شاهد ومع فقده فالأصل عدمه وهو كاف في نفي الاشتراط ولا قاطع له.

والمثال العرفي المذكور مخدوش. لمكان الاشتباه في فرضه، فإنّا نقطع بأنّه لو حصل الدرهم لأجل أنّ المولى امر بتحصيله من غير نظر إلى كونه لأجل اشتراء شيء مأمور به عدّ في العرف ممتثلا ولا يصحّ مؤاخذته في نظر العقلاء، مع أنّ

ص: 135

دعوى الاشتراط هنا قول لم يعهد من فقهاء أصحابنا قائل به.

ودعوى: أنّه لازم لقول كلّ من يرى قصد الرفع أو الاستباحة شرطا في الوضوء.

يدفعها: المنع عنه حيث لا ملازمة بين المقامين، فإنّ معنى قصد الرفع الإتيان بالوضوء الرافع أو على أنه رافع أو لحصول الرفع، وهو ليس من الإتيان به لامتثال الأمر بالصلاة، كما أنّ معنى قصد الاستباحة الإتيان به لغاية أن يحصل له حالة صالحة للدخول معها في الصلاة، وهو ليس من الإتيان به لامتثال الأمر بالصلاة في شيء، فإنّ الأوّل ينفك عن الثاني ويتأتّى بضرورة الوجدان مع البناء على عدم امتثال الأمر بالصلاة، بل مع الجزم بعدم امتثاله لو صحّ معه بقاء الأمر بها المستلزم لبقاء الأمر بالوضوء أيضا.

المسألة الثالثة: لو أتى بالوضوء بعد الوقت فإن قصد به الوجوب أو القربة المطلقة بناء على عدم اعتبار قصد الوجه فلا إشكال،

وإن قصد به الندب نظرا إلى الأمر الاستحبابي النفسي أو الغيري بأحد الوجوه المتقدّمة فلا إشكال في أنّه ليس امتثالا للأمر الإيجابي لعدم قصده، ومعه يشكل الحال بالنظر إلى الدخول به في الصلاة من جهة عدم كون الإتيان به امتثالا للأمر الإيجابي.

وتوهّم: كونه من الوضوء المندوب لاستحبابه لنفسه أو للقراءة أو نحوها، فالإتيان به من هذه الجهة كان امتثالا للأمر الاستحبابي فيكون وضوء شرعيّا يصحّ معه الدخول في الصلاة.

يدفعه: أنّ ذلك مبنيّ على جواز اجتماع الوجوب والاستحباب في شيء واحد، بأن يكون الوضوء مع وجوبه بالفرض مستحبّا أيضا، ومن المستحيل اجتماع الضدّين في محلّ واحد، فإنّ ماهيّة الوضوء بدخول الوقت قد صارت واجبة، فكيف يعقل كونهما مستحبّة أيضا، وهما ضدّان لا يجتمعان ؟

وقضيّة ذلك عدم حصول الامتثال بالصلاة لو اتي بها مع هذا الوضوء لأنّه ليس بوضوء واجب لعدم قصد امتثاله، ولا أنّه وضوء مندوب لعدم الأمر الندبي مع فرض الأمر الإيجابي، ولذا عزي إلى جمّ غفير من الأصحاب أنّ الوضوء بعد دخول وقت الصلاة واجب فقط وليس بمندوب.

ص: 136

والتفصّي عن هذا الإشكال إمّا باعتبار تعدّد الجهة فيه بالنظر إلى كونه مقدّمة للصلاة ومقدّمة للقراءة المندوبة فهو واجب من جهة ومندوب من اخرى، وإمّا بالتزام تعدّد العنوان المستلزم لتعدّد الحكم، نظرا إلى أنّ الشيء الواحد إذا كان مصداقا لعنوانين هما مفهومين متغايرين كلّ منهما مورد لحكم غير حكم الآخر يصحّ اتصافه بالمتضادّين، كضرب اليتيم الّذي هو بقصد التأديب حسن فواجب وبقصد التعذيب قبيح فحرام فهو واجب وحرام.

والسرّ في ذلك: أنّ الموضوع إذا تعدّد فلا ضير في تعدّد الحكم، فالوضوء المأتيّ به بقصد الاستحباب مصداق لعنوانين، أحدهما كونه مقدّمة للصلاة الواجبة، والآخر كونه مقدّمة للقراءة المندوبة، فلا ضير في كونه قبل الإتيان به في ذلك الوقت واجبا ومندوبا، فإذا انتفى عنه بعد الإتيان به أحد العنوانين من جهة عدم قصد امتثال الأمر به لا يلزم منه انتفاء العنوان الآخر، وإذا صحّ وقوعه مصداقا لذلك العنوان لمكان اختصاص القصد به جاز اتّصافه بحكم ذلك العنوان لانتفاء المانع.

ولا سبيل إلى الأوّل لما بيّناه من أنّ الجهة جهة تعليلية، ومن المقرّر في محلّه أن تعدّد الجهة إذا كانت تعليلية لا يجدي في جواز اجتماع المتضادّين في المحلّ .

ولا إلى الثاني، لأنّ ما يقع مصداقا لعنوانين إنّما يصلح موردا لحكمين متضادّين إذا كان مورد الحكمين أوّلا وبالذات العنوانين، على معنى كون معروضهما الحقيقي العنوانين بحيث يكون إسنادهما إلى ما هو مصداق لهما على سبيل العرض والمجاز، كما في ضرب التأديب والتعذيب، فإنّ المتّصف بالوجوب والحرمة في الحقيقة هو التاديب والتعذيب، وجوب الضرب بمعنى وجوب التأديب، وحرمته بمعنى حرمة التعذيب، والقصد إنّما يعتبر مميّزا لأحد العنوانين عن الآخر، ومحلّ البحث ليس من هذا الباب، فإنّ كون الوضوء مقدّمة للصلاة أو القراءة - على ما عرفت سابقا - عنوان لا يصلح موردا لحكم إيجابي أو ندبي أو غيرهما، فالمعروض الحقيقي للحكم ليس إلّا نفس الوضوء وهو شيء واحد، وتعدّد القصد المتحقّق معه لا يجدي نفعا بالقياس إلى جواز اتّصافه بالمتضادّين، إلّا إذا كان المقصود هو الموصوف الحقيقي لهما والمفروض أنّه هنا غير صالح للاتّصاف بشيء من الأحكام.

ص: 137

وبالجملة الوضوء ماهيّة واحدة فلا يعقل وقوعه في آن مطلوبة بالطلب الإيجابي ومطلوبة بالطلب الندبي، وتعدّد القصد اللاحق بها ممّا لا يترتب عليه فائدة ما لم يكن المقصود من العناوين الصالحة لأن يتعلّق بها الحكم، كما أنّ تعدّد الغاية لا يوجب تعدّد ذي الغاية.

وقد يذبّ عن الإشكال: بأن جهة الاستحباب لا تنافي جهة الوجوب، لأنّ الأوّل طلب فعل مع الرجحان والثاني طلب له مع شيء زائد، فحصول ذلك لا يوجب سقوط الأوّل بل يؤكده ويقرّره، فلا مانع من اجتماعهما.

لكنّه بمعزلي عن التحقيق، فإنه إنّما يستقيم لو كان الأوّل طلبا لا بشرط شيء فلا ينافيه حينئذ الوجوب الّذي هو طلب بشرط شيء وهو خلاف التحقيق، فإنّ الأوّل طلب فعل مقرون بالإذن في الترك والثاني طلبه المقرون بالمنع، وهما وإن كانا متشاركين في الجنس غير أنّهما متمايزان في الفصل، والتنافي حاصل بينهما من هذه الجهة.

نعم على القول بأنّ كلّا من الندب والوجوب امر بسيط لا فصل له، غاية الأمر أنّ الأوّل مرتبة من الطلب وإذا تأكد ذلك صار وجوبا، ربّما يتّجه ذلك أيضا، غير أنّه خلاف التحقيق.

وقد يقال أيضا في دفع الإشكال - على تقدير عدم اجتماع الطلبين الوجوبي والاستحبابي في محلّ واحد -: بمنع كون الامتثال فرعا للمطلوبية بل هو فرع المحبوبية، والفرق بينهما واضح.

وفيه: أنّ المحبوبيّة إن اريد بها ما هو من لوازم الوجوب فهو خروج عن الفرض، وإن أريد بها ما هو من لوازم الاستحباب فهي كملزومها في امتناع الاجتماع، إذ الأوّل محبوبيّة مقرونة بمبغوضيّة الترك فلا يجامعها المقرونة بالرضا بالترك.

نعم هنا كلام آخر عساه يقال وهو: أنّ مقتضي هذا الإشكال بالأخرة إنكار استحباب القراءة أو صلاة الجنازة أو غيرها على الطهارة حال وجوب الوضوء لواجب مشروط به، نظرا إلى أنّ المستحبّ يقتضي استحباب مقدّمته الّتي هي الوضوء، واستحباب المقدّمة هنا غير جائز لمانع وهو الوجوب، وامتناع اتّصاف المقدّمة بالاستحباب يقضي بسقوط الاستحباب عن ذيها، وإلّا لزم تخلّف المقدّمة عن ذيها في

ص: 138

الحكم وهو خلاف ما يقتضيه قانون المقدّميّة، وإنكار استحباب الوضوء للقراءة حينئذ لعلّه غير سديد.

ويمكن دفعه تارة: بأنّ قصارى ما هناك تخصيص دليل استحباب هذه الأشياء، وهو مع وجود المخصص - ولو كان أمرا عقليّا - ليس بنكير.

واخرى: بأنّ المحقّق في محلّه أنّ جواز نية حكم مخصوص من وجوب أو استحباب - بناء على اعتبار نية الوجه - لا يستلزم ثبوت هذا الحكم فعلا، بل يكفي فيه وجود المقتضي لهذا الحكم وإن لم يكن نفسه موجودا بالفعل لمانع، وعليه مبنيّ قولنا بوجوب مقدّمة الواجب، فإنّ انعقاد الوجوب يكفي فيه وجود ما يقتضي الوجوب، والتنافي المفروض في المقام إنما هو واقع بين الوجوب والاستحباب الفعليين، لا بين الوجوب الفعلي والاستحباب الشأني الثابت باعتبار وجود مقتضيه وهو مصلحة القراءة الباعثة على استحبابها على الطهارة، وقضية ذلك استحباب الوضوء للقراءة لكن شأنا لا فعلا، فعلى كفاية وجود المقتضي للندب في قصد الندب يكون الوضوء المأتيّ به بقصد الندب حال وجوبه مجزئا للقراءة وغيرها من الغايات المندوبة، بل للصلاة وغيرها من الغايات الواجبة أيضا، فارتفع بذلك إشكال المسألة على النحو الّذي قرّرناه في الصدر.

هذا مع أنّه لا حاجة إلى هذا التكلّف عند التحقيق، بل يندفع الإشكال بمنع عدم كون هذا الوضوء من الوضوء الواجب على القول بعدم اعتبار قصد الوجه في النيّة، ومنع انتفاء الأمر الاستحبابي الفعلي على القول الآخر بل على القولين معا، وتفصيل هذا الكلام أوردناه في تحقيقاتنا الأصوليّة.

المسألة الرابعة: إذا أتى المكلّف بالوضوء المندوب فإن كان محدثا بالحدث الأكبر كالجنابة أو الحيض أو مسّ الميت
اشارة

فلا إشكال عندهم في أنّه لا يفيد شيئا من الرفع واستباحة الصلاة ووجهه واضح، وإن لم يكن محدثا بالأكبر فإن قصد به النافلة فظاهرهم أيضا عدم الإشكال في إفادته الأمرين وجواز الدخول معه في العبادة الواجبة المشروطة بالوضوء.

ص: 139

وفي الذخيرة: «الظاهر أنّه لا خلاف في ذلك بين الأصحاب»(1) وهذا أظهر أفراد ما في السرائر من قوله: «ويجوز أن يؤدّي بالطهارة المندوبة الفرض من الصلاة بدليل الاجماع»(2).

وعن المنتهى: «أنّه قول أهل العلم»(3) كما فهمه في الذخيرة(4).

لكن لنا في رجوع ذلك إلى هذا الحكم نظر، كما يظهر وجهه بملاحظة عبارة المنتهى القائلة: «إذا توضّأ لنافلة جاز أن يصلّي بها فريضة، وكذا يصلّي بوضوء واحد ما شاء من الصلوات، وهو مذهب أهل العلم خلافا للظاهريّة، وإن جدّد الطهارة كان أفضل»(5).

وفي الحدائق: «لو نوى بوضوئه صلاة نافلة فالظاهر أنّه لا خلاف في الدخول به في الفريضة»(6) ونقل دعوى الإجماع عليه عن جامع المقاصد أيضا(7).

والظاهر أنّ مبنى اتفاقهم هنا - مع ما يأتي من خلافهم - على أنّ هذا الوضوء إنما يحصل بنيّة الاستباحة، فلابدّ وأن يجوز معه الدخول في الصلاة على كلا الرأيين من اشتراط الصحّة بنيّة أحد الأمرين ومن عدمه.

وربّما يومئ إلى ما نبّهنا عليه ما في جامع المقاصد(8) بعد عبارة القواعد: «لو نوى ما يستحبّ له كقراءة القرآن فالأقوى الصحّة» من قوله: «ليس المراد بما يستحبّ له ما هو شرط في صحّته كالصلاة المندوبة، فإنّ نيّة استباحته معتبرة قولا واحدا» انتهى.

وكيف كان فعن المدارك: «الظاهر من مذهب الأصحاب جواز الدخول في العبادة الواجبة المشروطة بالطهارة بالوضوء المندوب الّذي لا يجامع الحدث الأكبر مطلقا، وادّعى بعضهم عليه الإجماع»(9).

وعن مجمع البرهان: «أنّه ممّا لا شك فيه ولا ينبغي فيه النزاع أصلا»(10).

وإن قصد به غاية اخرى غير الصلاة ممّا يشترط فيه الطهارة فظاهرهم أيضا عدم دخوله في الخلاف الآتي، حيث يقيّد محلّه في أكثر عبائرهم بما لا يشترط الطهارة في صحّته بل في كماله وفضيلته.

ص: 140


1- الذخيرة: 4.
2- السرائر 98:1.
3- المنتهى 133:2.
4- الذخيرة: 4.
5- المنتهى 133:2.
6- الحدائق 194:2.
7- جامع المقاصد 204:1.
8- جامع المقاصد 204:1.
9- المدارك 13:1.
10- مجمع البرهان 70:1.

نعم للسرائر كلام ربّما يظهر منه المخالفة، بل الإجماع على الخلاف حيث قال:

«وإجماعنا منعقد على أنّه لا يستباح الصلاة إلّا بنيّة رفع الحدث أو نيّة استباحة الصلاة بالطهارة فأمّا إن توضّأ الإنسان بنيّة دخول المساجد والكون على طهارة والأخذ في الحوائج، لأنّ الإنسان يستحبّ له أن يكون في هذه المواضع على طهارة، فلا يرتفع حدثه ولا يستبيح بذلك الوضوء الدخول في الصلاة...» إلخ(1).

ولك أن تقول: بأنّ كلامه بقرينة الأمثلة في غير ما يشترط الطهارة في صحّته، كما يومئ إليه تصريحه باشتراط نيّة الاستباحة بناء على أنّ ذكر الصلاة مثال، فاشتراط نيّة الاستباحة يجري في الطواف الواجب ونحوه، والوضوء بنيّة الطواف معناه الإتيان به بنيّة استباحته، وإذا حصلت الاستباحة فلا يفرّق فيها بينه وبين الصلاة، وعلى أيّ حال كان ففي الذخيرة - بعد ما ذكر هذا العنوان عقيب العنوان المتقدّم وهو الوضوء المقصود به الصلاة النافلة الّذي حكم فيه بجواز الدخول في الفريضة، قال -: «فالمشهور بين أصحابنا المتأخرين أنّه كذلك أيضا»(2) أي أنّه كالوضوء المقصود به النافلة في جواز الدخول في الفريضة.

وإن قصد به غاية اخرى غير ما يشترط في صحّته الطهارة كقراءة القرآن ونحوها فاختلفوا فيه على أقوال، ضبطها في الذخيرة قائلا: «وإن قصد بالوضوء ما لا يشترط فيه الطهارة كدخول المساجد وقراءة القرآن وقصد الكون على الطهارة أو قصد وضوء مطلقا، ففيه أقوال بين الأصحاب»:

[الأقوال في المسألة]
الأوّل: يصحّ الوضوء مطلقا ويرتفع به الحدث ويجوز به الدخول في الفريضة،

مال إليه المحقّق في المعتبر(3) وجعله بعض المتأخّرين قولا مشهورا حيث قال: «الظاهر من مذهب الأصحاب جواز الدخول في العبادة الواجبة المشروطة بالطهارة بالوضوء المندوب الّذي لا يجامع الحدث الأكبر، وادّعى بعضهم عليه الإجماع، ولم أطّلع على ما نسب إلى بعضهم من دعوى الإجماع إلّا في كلام ابن إدريس رحمه الله حيث قال: ويجوز أن يؤدّى بالطهارة المندوبة الفرض من الصلاة بدليل الإجماع من أصحابنا(4) لكن عموم كلامه مخصص بما إذا قصد بالطهارة المندوبة صلاة النافلة أو رفع الحدث، جمعا

ص: 141


1- السرائر 105:1 و 98.
2- الذخيرة: 4.
3- المعتبر 140:1.
4- السرائر 105:1 و 98.

بينه وبين ما حكي عنه سابقا.

الثاني: عدم ارتفاع الحدث به مطلقا،

وهو قول الشيخ في المبسوط(1) والمحكيّ عنه في جواب المسائل الحلبيّات(2) وإليه ذهب ابن إدريس(3).

الثالث: صحّة الوضوء مطلقا بمعنى ارتفاع الحدث به وجواز الدخول به في الفريضة إلّا إذا نوى وضوء مطلقا،

وإلى هذا القول مال المصنف في المنتهى(4).

الرابع: صحّته بالمعنى المذكور إن نوى ما يستحبّ له الطهارة لأجل الحدث كقراءة القرآن وعدمها إن نوى ما يستحبّ لا لحدث كتجديد الوضوء،

وهو قول المصنف في التذكرة(5).

الخامس: عدم الصحّة إن كان الاستحباب لا باعتبار الحدث كتجديد الوضوء،

وكذا إن كان الاستحباب باعتبار الحدث لكن لم يقصد الكمال، وصحّته إن قصد الكمال في الصورة المذكورة وهو قول المصنف في النهاية(6).

السادس: الصحّة إن قصد إيقاع ما الطهارة مكمّلة له على الوجه الأكمل،

وكذا إن قصد به الكون على الطهارة وعدم الصحّة في غير الصورتين، وهو قول الشهيد في الذكري» انتهى(7).

وإن شئت عبارة الذكرى لاحظ قوله: «لو نوى وضوء مطلقا لم يكف لاشتراكه بين الواجب والندب والمبيح وغيره، ولو نوى الكون على الطهارة فالأقرب الصحّة، لأنّ الطهارة تمتنع بدون رفع الحدث، ولو نوى استباحة ما الطهارة مكمّلة له كقراءة القرآن ودخول المساجد فالأقرب الصحّة إن نوى إيقاعها على الوجه الأفضل، لتوقّفه على رفع الحدث» انتهى(8).

أقول: والظاهر أنّ البعض الّذي نقل عن بعضهم دعوى الإجماع في القول الأوّل إنّما هو صاحب المدارك(9) لأنّ العبارة الّتي تقدّم ذكرها محكيّة عنه، كما أنّ الظاهر أنّ من ادّعى هذا الإجماع هو ابن زهرة في الغنية(10) على ما حكي في المناهل من قوله:

ص: 142


1- المبسوط 19:1.
2- نقل عنه في السرائر 105:1.
3- السرائر 105:1.
4- المنتهى 16:2.
5- التذكرة 145:1.
6- نهاية الاحكام 32:1.
7- الذخيرة: 4.
8- الذكرى 111:2.
9- المدارك 13:1.
10- الغنية: 54.

«يجوز أن يؤدّي بالوضوء المندوب الفرض من الصلاة بدليل الإجماع المشار إليه، ومن خالف في ذلك من أصحابنا فغير معتدّ بخلافه».

وكيف كان فالحقّ أنّ الوضوء متى ما حصل امتثالا للأمر به إيجابا أو ندبا بعد إحرازهما وصادف محلّا فارغا عن الاشتغال بطهارة أو حدث أكبر فهو رافع ومبيح، سواء قصد به أحدهما أو كليهما أو لم يقصد، نوى معه غاية مخصوصة أو لم ينو.

لنا على ذلك: أنّه ما شرّع في نظر الشارع لإفادة الطهارة على معنى كونه عنوانا مقتضيا لذلك ومن شأنه ذلك لولا المانع ومن لوازم حصول الطهارة ارتفاع الحدث وإباحة الدخول في مشروط بالطهارة، صلاة كانت - فرضا أو نفلا - أو غيرها، فهاهنا دعاوي ثلاث،

ويدلّ على المجموع وجوه من الادلّة:
الأولى: الاخبار الجزئية المثبتة جملة منها لناقضية النواقض والنافية جملة منها للناقضيّة عن غيرها وستعرف تفاصيلها مستوفاة،

فإنّ أكثر تلك الأخبار ليست إلّا أوامر بالوضوء عقيب حصول امور كالبول والغائط والنوم وغيره، وكما أنّ المستفاد عرفا من الأوامر الواردة بالغسل عن النجاسات الثابتة كونها نجاسات بتلك الاوامر كون كلّ واحد منها نجاسة وكون الغسل المامور به لأجلها رافعا للنجاسة على معنى أنّ من شأنه رفعها، فكذلك المستفاد من تلك الأوامر عرفا كون الأمور المشار إليها أحداثا ناقضة للوضوء رافعة للطهارة وكون الوضوء المأمور به بعدها ممّا من شأنه إفادة الطهارة ورفع تلك الأحداث، على معنى رفع آثارها المسمّاة عندهم بالحدث وإباحة الدخول في مشروط بالطهارة.

ولا يقدح كون هذه الأوامر كلّا أو جلّا إيجابيّة لانسياقها إلى وقت وجوب الصلاة، لأنّ الأوامر الإيجابيّة لا تفيد إلّا الحكم الشرعي التكليفي، ومن البيّن أنّ الحكم الوارد على موضوع لا يدخل في ذلك الموضوع ولا يشخّصه، بل هو شيء يعرض الموضوع بعد ما كان محرزا بجميع ما اعتبر فيه، وهو في المقام ليس إلّا الوضوء، فلولا من شأنه ما ذكر لم يعقل عروض الحكم المذكور له، لأنّ الغاية المقصودة منه في نظر الشارع - على ما هو المستفاد من الأوامر المذكورة عرفا - إنّما هي حصول ما ذكر، فلا يتفاوت الحال حينئذ بين أن يعرضه الأمر الإيجابي أو الأمر الندبي.

ص: 143

ويبقى في المقام شبهة أنّ النكتة في الأوامر الإيجابيّة لعلّها اعتبار وقوع الوضوء معها بنيّة الرفع أو الاستباحة، فالرافع والمبيح هو الوضوء المقصود به أحدهما ومفروض المقام خلافه.

فيدفعها - مع أنّه ينافيهما إطلاق تلك الأوامر وعدم التنبيه فيها بنحو من الأنحاء ولو من باب الإشارة على اشتراط هذا الشرط مع كون المسألة ممّا يعمّ بها البلوى -:

أنّ الكلام في اشتراط ذلك له محلّ آخر يأتي التعرّض له، والمحقّق عندنا ثمّة نفي الاشتراط.

الثاني: موثّقة عبدالله بن بكير المتقدّمة عن أبي عبدالله عليه السلام

قال: «إذا استيقنت أنّك قد توضّأت فإيّاك أن تحدث وضوء أبدا حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت»(1) فإنّه نهى عن إحداث الوضوء ثانيا حال اليقين ببقاء الوضوء السابق إلى استيقان الحدث الناقض له الرافع، وهو كما ترى مطلق يتناول بإطلاقه الوضوء الواجب الّذي أتى به في الوقت والوضوء المندوب الّذي أتى به قبل الوقت لأيّ غاية كان، فإذا توضّأ للكون على الطهارة أو قراءة القرآن أو نحوها يصدق عليه أنّه: «استيقن أنّه قد توضّأ» فيحرم عليه إحداث وضوء آخر إلى أن يستيقن أنّه قد أحدث، ولولا الوضوء المفروض رافعا للحدث مبيحا للصلاة وغيرها لم يعقل لإطلاق النهي عن إحداث وضوء آخر الشامل للفريضة وغيرها ممّا يشترط بالطهارة وجه، مع أنّ الظاهر المنساق من الرواية كونها في مقام ضرب قاعدة كلّية وعطاء ضابطة مطّردة، فاندفع به توهّم ما عساه يقال: إنّ لفظة «إذا» أداة إهمال فلا عموم فيها، مع أنّ السببيّة المستفادة منها تكفي في إفادة العموم.

الثالث: موثّقة معاوية بن عمّار المتقدّمة: «لا بأس أن يقضي المناسك كلّها على غير وضوء إلّا الطواف،

فإنّ فيه صلاة والوضوء أفضل»(2) فإنّه عليه السلام جمع بين إيجاب الوضوء للطواف وصلاته وإثبات أفضليته لسائر المناسك بعد ما نفى وجوبه عنها، فكأنّه قال: «يجب الوضوء للطواف وصلاته ولا يجب لسائر المناسك ولكنّه أفضل» ولا ريب أنّ موضوع هذه الأحكام واحد، فإذا كان ما أوجبه للطواف وصلاته رافعا

ص: 144


1- الوسائل 247:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 7، التهذيب 102:1/268.
2- الوسائل 374:13 الباب 38 من ابواب الطواف ح 1.

ومبيحا على ما هو الفرض فلا جرم يكون ما نفى وجوبه عن سائر المناسك هو الوضوء الرافع المبيح، وهذا بعينه هو الّذي حكم عليه بكونه أفضل، وهذا يقضي بأنّ الوضوء شيء واحد من شأنه الرفع والإباحة. قد يطرأه الوجوب وقد يطرأه الندب، ولا مدخليّة لطريان الوجوب في ترتّب أحد الحكمين عليه بحيث لولاه لم يكن الترتّب حاصلا.

واحتمال ابتنائه في الرواية على اعتبار نية أحد الأمرين، ينفيه ما بينّاه من منع الاعتبار الّذي يأتي بيانه في محلّه.

وممّا يدل على أنّ تشريع الوضوء إنما هو لإفادة الطهارة فلا يستقيم إلّا إذا كان بحيث من شأنه إفادتها، ما نقلناه في أوائل هذا الجزء من الكتاب(1) عن الوسائل عن عيون الأخبار والعلل عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «إنّما أمرنا بالوضوء وبدأ به لأن يكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبّار عند مناجاته إيّاه، مطيعا له فيما أمره، نقيّا من الأدناس والنجاسة»(2) وقد سمعت أنّ وصف الإيجاب في الأمر ممّا لا يعقل له مدخل في ترتّب هذا الأثر على موضوعه، وإذا انضمّ إلى ذلك أنّ الطهارة مع الحدث متقابلان تقابل التضاد أو الملكة والعدم يتضح استلزام حصول الطهارة لارتفاع الحدث، ثمّ يتضح إفادته لجواز الدخول في الصلاة وغيرها للإجماع على أنّ الصلاة لا شرط لها إلّا الطهارة ولا مانع عنها إلّا الحدث.

ولعلّه إلى ما ذكرناه من طريق الاستدلال يرجع ما قيل في الاستدلال على المختار من أنّ مبنى شرع الوضوء على أنّه كان رافعا للحدث، إذ لا معنى لصحّة الوضوء إلّا ذلك، ومتى ثبت ارتفاع الحدث انتفى وجوب الوضوء للصلاة.

وأمّا ما قيل في دفعه من: أنّه يجوز أن يكون الغرض من الوضوء وقوع تلك الغاية المترتبة عليه عقيبه وإن لم يقع رافعا كما في الأغسال المسنونة عند الأكثر، ففيه: أنّ المنساق من أدلّة تشريع الوضوء للغايات المتقدّمة كون الغرض منه وقوعها على أفضل أحوالها وهو الطهاره.

وممّا يدلّ على المختار في الجملة ما قيل: إنّ المانع من العبادات المشترط في صحّتها الوضوء ليس إلّا الحدث، وهو ممّا لا يجتمع مع الوضوء المستحبّ لمسّ كتابة

ص: 145


1- راجع الصفحة: 4.
2- الوسائل 367:1 الباب 1 من أبوب الوضوء ح 9.

القرآن، إذ ليس المقصود منه إلّا رفع الحدث، فوجود الوضوء مستلزم لعدمه، ومعه لا مانع من الدخول في العبادة.

ويدلّ عليه أيضا أو يؤيّده ما اعتمد عليه المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد بقوله: «وفي بعض الأخبار إشارة إلى ما ذكرت من عدم الاحتياج إلى وضوء آخر، مثل خبر: «وطوبى(1) الدالّ على استحبابه لدخول المسجد، فإنّه ظاهر في جواز الصلاة به في المسجد لو كانت للتحيّة»(2) واعتمد عليه الكاظمي في شرح الدروس(3) وضمّ إليه مقدّمة عدم القول بالفصل.

وأنت إذا تأمّلت في الأخبار السابقة المقامة على مشروعية الوضوء للغايات المتقدّمة ولاحظتها بعين الإنصاف لاستفدت من ملاحظة المجموع أنّ الغرض الأصلي منها إيقاع تلك الغايات حال الطهارة، ولا يتمّ هذا الغرض إلّا بكون الوضوء بحيث من شأنه رفع الحدث، ومعه يصحّ الدخول في الصلاة وغيرها من مشروط بالطهارة.

وليس للقول الآخر إلّا وجوه واهية:

منها: أنّ الأصل بقاء المنع من الدخول في الصلاة والطواف الواجبين الّذي ثبت بالحدث السابق على الإتيان بالوضوء المندوب الّذي هو مورد النزاع، وبقاء اشتغال الذمّة بهذين الواجبين.

وفيه: أنّ الوضوء بعد ما ثبت كونه رافعا للحدث كائنا ما كان يستلزم ارتفاع المنع السابق جزما فلا محلّ للأصل معه، كما أنّه لا محلّ لبقاء الاشتغال.

ومنها: أنّ إطلاق قوله عزّ و جلّ : إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (4) يقضي بوجوب الوضوء مطلقا، خرج منه صورة الإتيان بوضوء واجب مبيح للدخول في الصلاه الواجبة، ولا دليل على خروج صورة الإتيان بالوضوء المندوب المفروض،

ص: 146


1- الوسائل 380:1 الباب 10 من أبواب الوضوء ح 1.
2- مجمع الفائدة 70:1.
3- شرح الدروس: 17 (مخطوط) قال: ويؤيّده مضافا إلى ما سيجيء رواية كليب الصيداوي عن أبي عبداللّه عليه السلام: «فطوبى لمن تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي أعني المساجد» لإشعارها بجواز الصلاة بذلك الوضوء الّذي كان لدخول المسجد وإن كانت صلاة تحيّة وبه يتمّ المطلوب إذ لا قائل بالفضل... الخ.
4- المائدة: 6.

فيبقى مندرجا تحت الإطلاق المذكور.

وفيه: أنّ الآية بملاحظة الإجماع والرواية المتقدّمة عند البحث في وجوب الوضوء للصلاة مخصوصة بالمحدثين، وقد نقل عليه الاتّفاق أيضا، والآتي بالوضوء المندوب ليس بمحدث فلا يتناوله الآية.

ومنها: إطلاق قوله عليه السلام: «إذا دخل الوقت وجب الطهور»(1) وفيه: نظير ما مرّ.

ومنها: أنّه يشترط في الوضوء المسوّغ للدخول في الصلاة والطواف الواجبين نيّة الوجوب ورفع الحدث واستباحة الصلاة والطواف، ولا شيء من ذلك متحقّقا في الوضوء المندوب.

وفيه: ما مرّ مرارا من منع اعتبار نية هذه الأمور في الوضوء على ما سيأتي تحقيقه، ولو سلّم فقصد الغاية المشروع لها كاف في نيّة الرفع وهو يستلزم الاستباحة، لأنّ معنى الوضوء للغاية الفلانيّة إيجاد الوضوء للإتيان بتلك الغاية على الوجه الأكمل، ولا يكون ذلك إلّا مع ارتفاع الحدث المستلزم لحصول الطهارة.

وبما بيّنّاه يتبيّن الحال في الوضوء المجدّد إذا انكشف بعده فساد الوضوء لخلل وقع فيه أو لخلل حدث بينه وبين الوضوء الثاني، فإنّه صادف حينئذ محلّا قابلا لتأثيره في رفع الحديث فليقع مؤثّرا، لانتفاء المانع وعدم ثبوت الاشتراط بما عدى نيّة القربة.

كما يتبيّن الحال في الوضوء المأتيّ به للاحتياط مع كون المكلّف في ظاهر الشرع محكوما عليه بالطهارة للاستصحاب أو الشك بعد الفراغ، وفي وضوء الحائض والجنب إذا تبيّن عدم الحدثين حال الوضوء، وفيما يؤتى به للنوم فإنّ المستفاد من دليل استحبابه كما يشهد به: «من بات على طهر فكأنّما أحيى الليل»(2) كون الغرض منه إيقاعه على أفضل الأحوال وهو الطهارة، كما عليه المعتبر تعليلا: «بأنّه قصد النوم على أفضل أحواله»(3) فما في الذكرى من قوله: «وفي نيّة الوضوء للنوم نظر، لأنّه نوى وضوء الحديث»(4) ليس على ما. ينبغي.

ثمّ إنّ هاهنا فرعا أشار إليه في المناهل قائلا: «هل يشترط في الوضوء المندوب

ص: 147


1- الوسائل 261:1 الباب 4 من ابواب الوضوء ح 1.
2- الوسائل 379:1 الباب 9 من أبوب الوضوء ح 3.
3- المعتبر 140:1.
4- الذكرى 111:2.

الّذي يجوز الدخول به في الصلاة والطواف الواجبين - على المختار - أن تكون ندبيته ثابتة بما ثبت به وجوب الواجبات وحرمة المحرّمات أو لا، بل يكفي في ثبوت الندبيّة مجرّد قاعدة التسامح في أدلة السنن والكراهة ؟ وجهان اقربهما الأخير، والظاهر أنّه ممّا لا خلاف بين الأصحاب» انتهى.

أقول: لا إشكال في عدم الفرق لو كانت القاعدة محكمة وافية بإثبات الندب بالمعنى المصطلح عليه، لكن قد يستشكل في أصل هذه القاعدة، فيقال: لا معنى لقولهم: «إنّ أدلّة السنن يتسامح فيها» إذ الأحكام الشرعيّة كلّها توقيفيّة لابدّ وأن تكون متلقّاة من الشارع من غير فرق في ذلك بين الوجوب والاستحباب، ولا بين الحرمة والكراهة، فإذا كان التسامح في أدلّة الوجوب والحرمة غير جائز فلذا لا يكتفي فيها بالأخبار الضعاف وغيرها ممّا خلى عن شرائط الحجّيّة، فلا جرم يكون في أدلّة الاستحباب والكراهة أيضا غير جائز، وقضية ذلك أن لا يثبت شيء منهما بما يرد فيهما من الأخبار الضعاف.

واجيب عنه تارة: بأنّ الحكم بالاستحباب أو الكراهة فيما ضعف مستنده ليس في الحقيقة بذلك المستند، بل بما رواه ثقة الإسلام في أصول الكافي في باب «من بلغه ثواب من الله على عمل» بطريق حسن بإبراهيم بن هاشم عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن كما بلغه»(1).

ويؤيّده ما رواه في هذا الباب عن محمّد بن مروان قال: «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه»(2).

واخرى: بأنّ التعبير بالتسامح في عنواناتهم مسامحة في التعبير، وإلّا فليس المراد به أنّ الاستحباب والكراهة يعتمد فيهما على ما خلى عن شرائط أدلّة الوجوب والحرمة، بل الراد به أنّ الأمور الخالية عن تلك الشرائط وإن لم تكن لها حجّيّة ذاتيّة

ص: 148


1- الوسائل 1 الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات ح 6، الكافي 71:2/1.
2- الوسائل 82:1 الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات ح 7، الكافي 71:2/2.

غير أنّ هنا دليلا قطعيا يقضي بحقّية ما يستفاد منها، فدليل الاستحباب والكراهة في الحقيقة هو هذا الدليل القطعي وهو ممّا لا يتسامح فيه.

أقول: والفرق بين الوجهين أنّ مرجع الأوّل إلى أخذ ما ذكر من الخبر وغيره مؤسّسا للحكم الاستحبابي أو الكراهي، على معنى كون الثابت في المورد حكما آخر يقتضيه هذا الخبر غير ما هو من مقتضي ما ورد فيه من الأمور الضعيفة، وقضية ذلك كون هذا الخبر ونظائره ممّا يحرز به حكم كبروي لموضوع أحرزه غيره من الأمور الضعيفة، ومرجع الثاني إلى أخذ ما ادّعي من الدليل القطعي مؤكدا لمقتضى الأمور الضعيفة دالّا على اعتباره، وهذا الدليل القطعي يمكن أن يراد به حكم القوّة العاقلة حسبما نقرّره، ويمكن أن يراد به الأخبار الواردة في الباب البالغة فوق حدّ الاستفاضة الّتي فيها الصحيح وفيها غيره بدعوى استفادة الحلم منها بمؤدّاها، فإنّها على ما ضبطه في الوسائل روايات كثيرة:

منها: الخبران المتقدّمان.

ومنها: ما عن محمّد بن عليّ بن بابويه في كتاب ثواب الاعمال في الصحيح عن صفوان عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك وإن كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يقله»(1).

ومنها: الصحيح أيضا - عليّ الصحيح - عن أحمد بن أبي عبدالله البرقي في المحاسن عن عليّ بن الحكم عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «من بلغه عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول صلى الله عليه و آله وسلم لم يقله»(2).

ومنها: ما عنه أيضا عن ابيه عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «من بلغه عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كان له ذلك الثواب وإن كان النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لم يقله»(3).

ومنها: ما عن أحمد بن فهد في عدّة الداعي، قال: روي الصدوق عن محمّد بن يعقوب بطرقه إلى الأئمّة عليهما السلام «من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له من الثواب

ص: 149


1- الوسائل 80:1 الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات ح 1، ثواب الأعمال: 160/1.
2- الوسائل 81:1 الباب 18 من ابواب مقدّمة العبادات ح 3 و 4، المحاسن 25/2 و 1.
3- الوسائل 81:1 الباب 18 من ابواب مقدّمة العبادات ح 3 و 4، المحاسن 25/2 و 1.

ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه»(1).

ومنها: ما عن عليّ بن موسى بن جعفر بن طاووس في كتاب الإقبال عن الصادق عليه السلام قال: «من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه»(2).

وقد يقال: بأنّ هذه الأخبار منطبقة على حكم القوّة العاقلة القائمة في المقام، فيقرّر القوّة العاقلة: بأنّ عروض الخبر الضعيف للشيء وجه واعتبار يوجب الحسن في معروضه، أو أنّ ما اشتمل على أمارة المصلحة مع خلوّه عن أمارة المفسدة شيء حسن عند العقل.

ولا يخفي ما في هذا التقرير من الضعف، فإنّ المراد بحكم القوّة العاقلة كون الشيء ممّا استقلّ بإدراك حسنه العقل، ومجرّد عروض الخبر الضعيف أو الاشتمال على أمارة المصلحة لا يوجب هنا استقلال العقل بإدراك حسن المورد.

نعم لو قرّر حكم القوّة العاقلة بأنّ : الانقياد للمولى ممّا استقلّ العقل بإدراك حسنه لذاته، فإذا عرض ذلك لشيء كان وجها واعتبارا موجبا لحسن ذلك الشيء، وما يأتي به المكلّف تعويلا على الأمارة الضعيفة الواردة فيه أو رجاء لإدراك ما لعلّه فيه من المصلحة أو الثواب محصّل معناه ما يأتي به انقيادا للشارع بما احتمل كونه مطلوبا له راجحا في نظره، ولا ريب في حسنه بهذا الاعتبار، وعليه تنطبق ما تقدّم من الأخبار كما نطق به ما في بعضها من قوله عليه السلام: «فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب»(3).

لكن يشكل ذلك: بأنّ أقصى ما يستفاد من حكم العقل هنالك إنما هو حسن الفاعل، لأنّ الانقياد وصف فيه، والمقصود إثبات الحسن في الفعل على ما هو مناط الاستحباب.

فإن قلت: حسن الفاعل معناه استحقاق المدح، ولا ريب أنّ استحقاق الفاعل للمدح إنما هو لفعله الصادر منه فيكون الفعل حسنا، على معتى كونه بحيث أوجب في فاعله استحقاق المدح.

قلت: فرق واضح بين ما لو قيل: «فلان نعم الرجل، لأنه منقاد لمولاه» وما لو قيل:

ص: 150


1- الوسائل 831 الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات ح 8، عدّة الداعي: 9.
2- الوسائل 82:1 الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات ح 9، إقبال الأعمال: 627.
3- الوسائل 82:1 الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات ح 7.

«هو نعم الرجل لأنّه فعل كذا» أو قيل: «فعل الرجل نعم الفعل» والّذي يسلّم من حكم العقل إنما هو الأوّل وما يجدي ثبوته في المقام هو الثاني.

إلّا أن يقال: ليس المراد بالانقياد هنا مجرّد عقد القلب لانقياد المولى، فإنّه عنوان آخر متضمّن للحسن الذاتي المدلول عليه بالعقل والنقل المعبّر عنه بنية الخير وقصد الحسنة، بل المراد به تعريض النفس في ظرف الخارج لانقياد المولى وهو أيضا لذاته حسن بحكم العقل بل النقل أيضا، غير أنّه لا يدخل في ظرف الخارج إلّا في ضمن فعل خاصّ ، فإن صادف ذلك ما تحقّق له الوجوب أو الندب اجتمع فيه الحسنان أحدهما ما يستند إلى ذاته والآخر ما يستند إلى هذا العنوان المجامع له، وإن صادف ما احتمل كونه واجبا أو مندوبا لورود أمارة ضعيفة به حصل فيه الحسن العرضي من جهة العنوان المجامع له.

فالمراد بما تقدّم من قضيّة قولنا: «فلان نعم الرجل لأنّه منقاد» إن كان ما يرجع إلى هذا المعنى فهو عين مطلوبنا من كون الانقياد وجها يوجب حسن الفعل المنقاد به، وإن كان ما يرجع إلى مجرّد عقد القلب فهو ممّا لا مدخل له بالمقام، وثبوته لا ينافي ثبوت غيره ممّا له مدخل به.

لكن لا يذهب عليك أنّ هذا أيضا حسن في هذا العنوان المجامع لا في نفس الفعل، سواء قلنا بأنّهما موجودان وجدا بإيجاد واحد على حدّ ما هو الحال في العلّة والمعلول أو غيرهما من المتلازمين في الوجود الخارجي، أو قلنا إنّهما مفهومان صارا موجودا واحدا على حدّ ما هو الحال في الكلّي الموجود في ضمن فرده، بدعوى: أنّ الفعل الخاصّ المتحقّق في ضمنه هذا العنوان فرد إضافيّ له.

ويمكن دفعه: بأنّ تعريض النفس للانقياد في لحاظ الذهن وإن كان أمرا عامّا غير أنّه في لحاظ الخارج ليس من الأمور المستقلّة، بأن يكون له حقيقة قابلة لأن تدخل في ظرف الخارج، بل الّذي يدخل في ظرف الخارج إنّما هو الأفعال الخاصّة، فإذا اقترنها قصد الانقياد ينتزع عنها العقل مفهوما كلّيّا يعبّر عنه ب - «تعريض النفس للانقياد» فهو في نظر العقل - بل العرف أيضا - ليس إلّا عبارة عن فعل كلّ ما احتمل كونه مطلوبا للمولى، وهذا هو الّذي يستقلّ العقل بإدراك حسنه ويحكم برجحانه رجحانا غير مانع

ص: 151

من النقيض، وعليه بناء العقلاء كما يظهر بأدنى تأمّل، وهذا هو معنى الاستحباب.

وإن شئت إثبات الكراهة أيضا بهذه الطريقة فعمّم المقام بالقياس إلى ترك كلّ ما احتمل كون تركه مطلوبا للمولى، فإنّه أيضا ممّا استقلّ العقل بإدراك حسنه ويحكم برجحانه، ولا يعني من الكراهة إلّا هذا، من غير فرق في احتمال المطلوبيّة في كلّ من القسمين بين احتمال الطلب الحتمي أو غيره، فالاستحباب يثبت بحكم العقل في كلّما احتمل كونه واجبا أو مندوبا من قبل المولى ولم يقم على وجوبها وندبه دليل معتبر، كما أنّ الكراهة تثبت في كلّما احتمل كونه حراما أو مكروها من قبله ولم يقم على حرمته أو كراهته دليل معتبر، فإنّ العقل في كلّ ذلك لا يحكم إلّا بمطلق الرجحان بل بالرجحان الغير المانع.

وممّا قرّرناه ظهر أنّ مناط حكم العقل إنما هو قيام احتمال المطلوبيّة من غير فرف بين كونه مستندا إلى ورود خبر ضعيف أو فتوى الفقيه أو غيره من الأسباب الغير المعتبرة.

كما أنّه ظهر أيضا أنّ ما يثبت هنا من استحباب أو كراهة ليس هو من مؤدّى الأمارة القائمة في المقام، بل هو من مؤدّى الدليل القطعي في موضوع يحرزه الأمارة.

ويبقى الإشكال في تطبيق الأخبار المتقدّمة على حكم العقل بحيث يكون مفادها أيضا رجحان كلّما احتمل كونه مطلوبا من فعل شيء أو تركه، ليلزم منه الاستحباب أو الكراهة المصطلح عليهما وإن كان ذلك من باب تأكيد حكم العقل، فإنّه ربّما يدخل في الوهم قصورها عن إفادة ذلك، فإنّ غاية ما يستفاد منها أنّ عامل عمل يؤتى الثواب الّذي عمل العمل التماس ذلك الثواب، ولعلّه من جهة أنّه نوى الخير، أو أنّه التمس الثواب ممّن لا يخيب آمله، أو أنّه لا يضيع عمل عامل، وبالجملة لا قضاء للأخبار بأنّ وصول الثواب هنا إنّما هو من جهة الاستحقاق الناشى عن الفعل.

ولكنّ الإنصاف أنّ الأخبار بأسرها منساقة في سياق بناء العقلاء وحكم القوّة العاقلة، وإنكاره خروج عن الإنصاف، والتعبير عن استحباب الشيء بترتب الثواب على ذلك الشيء شائع في أخبار الأئمّة كما لا يخفى على المتتبّع.

بل أغلب المستحبّات حكم عليها بالاستحباب بمجرّد ورود الأخبار بترتّب الثواب عليها، والمنساق من روايات الباب أنّ الثواب يترتّب على الفعل المقرون بالتماس

ص: 152

الثواب البالغ أو المسموع على الفعل، فأخذ بلوغ الثواب أو سماعه إحراز لموضوع الاستحباب، وأخذ التماس ذلك الثواب غاية للفعل إحراز لما هو مناط الاستحباب.

وهو عبارة اخرى من قصد الانقياد، فالأخبار متكفّلة لبيان الحكم المعبّر عنه ب «الثواب» وموضوعه وهو الفعل البالغ أو المسموع فيه الثواب المأتيّ به لطلب الانقياد والتماس ذلك الثواب، فالأخبار تشمل ما ورد فيه خبر ضعيف جزما بل ما قام به فتوى الفقيه أيضا.

فما يوجد في بعض العبائر من: التشكيك في إجراء قاعدة التسامح بالقياس إلى فتوى الفقيه مثل ما عليه بعض الاصحاب من دعوي اختصاصها بالضعاف من الأخبار كما عن صاحب المعالم وغيره، ليس بسديد، ولعلّه ناشئ عن توهّم انصراف البلوغ أو السماع المأخوذين فيهما إلى ما عدا الفتوى، وهو كما ترى ممّا لا ينبغي الالتفات إليه.

نعم هذه الدعوى بالقياس إلى مطلق احتمال المطلوبية والرجحان وإن لم يستند إلى ما هو من مقولة الأخبار جيّد، لعدم صدق البلوغ والسماع بما لم يستند احتماله إلى الأخبار، فدليل الاستحباب أو الكراهة بالقياس إلى مطلق الاحتمال منحصر في حكم القوّة العاقلة حسبما قرّرناه.

وأمّا في غيره ممّا ورد فيه الخبر الضعيف أو فتوى الفقيه فيجوز أن يستند لهما إلى كلّ من الأمرين، فقد تطابق العقل والنقل في قاعدة التسامح في أدلّة السنن بالمعنى المذكور في كتب الأصحاب.

وأمّا أدلّة الوجوب والحرمة فممّا لا يتسامح فيها أصلا بل ولا قائل به من اصحابنا، كيف وهذه القاعدة على ما عرفت لا مدرك لها إلّا القوّة العاقلة والأخبار المتقدّمة، ولا شمول في شيء من ذلك للوجوب والحرمة، على معنى كون استناد ثبوتهما إلى تلك القاعدة، فإنّ ما ورد بوجوبه أو حرمته خبر أو فتوى أو غير ذلك إن كان ذلك بنفسه كافيا في ثبوتهما فهما مستندان إلى هذه الأمور لا إلى غيره، وإلّا فلا قضاء في القوّة المحاقلة إلّا بمجرّد الرجحان وعليه ينطبق الأخبار أيضا، فهي لا تتناول أدلّة الوجوب والحرمة أيضا.

نعم ربّما سبق إلى بعض الأوهام شمولهما لأدلّتهما أيضا، فلذا توهّم كون النسبة بين

ص: 153

هذه الأخبار وآية النبأ وغيرها ممّا يقضي بعدم جواز الاعتماد على خبر الفاسق عموم من وجه. ومن هنا يستشكل في تحكيم هذه الأخبار على الآية بتوهّم أنّ التخصيص في أحد العامّين من وجه ليس بأولى منه في الآخر إلّا إذا كان هناك شاهد يوجب التعيين وهو مفقود.

وفيه: أنّه لو كان هناك تعارض فهو ليس من باب تعارض العامّين بل هو من باب تعارض المتبائنين، كما يشهد به الحاجة إلى ارتكاب التخصيص في كلّ من المتعارضين بإخراج الاستحباب والكراهة عن الآية وإخراج الوجوب والحرمة عن القاعدة، ضرورة أنّه لو اكتفى بتخصيص أحدهما فقط لم ينقطع التعارض عمّا بينهما كما يظهر بأدنى تأمّل، وإنّما لم يعكس الأمر على فرض التعارض التبائني، لقضاء القوّة العاقلة بأنّ أدلّة الاستحباب والكراهة أولى بالتسامح فيها، فعند الدوران يختار أدلّتهما.

لكنّ التحقيق: أنّ أخبار الباب لا تتناول الوجوب والحرمة ليوجب التسامح في أدلّتهما أيضا، إلّا أن يقال: بأنّه لم يؤخذ فيهما ما يصلح موضوعا لتلك القاعدة إلّا بلوغ الثواب على عمل، وهذا أعمّ من الواجب والحرام، لأنّ الواجب أيضا ما يثاب على فعله كما أنّ الحرام ما يثاب على تركه.

وفيه: أنّ الواجب كما أنّه يتضمّن الأجر والثواب على الفعل كذلك يتضمّن المؤاخذة والعقاب على الترك والحرام بالعكس، والأخبار الواردة في الباب لم يؤخذ فيهما إلّا الثواب على الفعل أو على الشيء الشامل للترك والفعل معا من غير تعرّض لبيان المؤاخذة والعقاب على المخالفة، فعلم بذلك أنّها ليست مسوقة إلّا لبيان الاستحباب والكراهة، وقضية ذلك كونها أخصّ موردا من آية النبأ وغيرها، ومن البيّن كون الخاصّ حاكما على العامّ مخصصا له.

ومن هنا تراهم أنّهم لا يتمسّكون في إثبات وجوب شيء أو حرمته بقاعدة التسامح، بل لا يجوّزون التسامح في أدلّتهما، بل تراهم أنّه لو ورد بوجوب شيء أو حرمته خبر ضعيف خال عن المعاضد يحملونه على الاستحباب كما أنّه لو ورد بحرمته نظير ذلك يحملونه على الكراهة تمسّكا بقاعدة التسامح هي أدلّة السنن، وليس ذلك إلّا من جهة أنّ هذه القاعدة لا تفيد أزيد من الاستحباب والكراهة.

ص: 154

المطلب الثاني فيما يتعلّق بالغسل

اشارة

وفيه أيضا مرحلتان:

المرحلة الاولى في الأغسال الواجبة
وهي أيضا تتضمّن مسائل:
المسألة الأولى: في جملة من عبائر الأصحاب أنّه يجب الغسل لما يجب له الوضوء،
اشارة

وقضيّة ذلك من جهة العموم تارة والإطلاق اخرى وجوبه للواجب من الصلاة والطواف والمسّ ، من غير فرق بين الخمس المعروفة من الأغسال أعنى الجنابة والحيض والنفاس والاستحاضة ومسّ الميّت،

فهاهنا أحكام:
أحدها: وجوب غسل الجنابة للغايات الثلاث،

وهو في الصلاة إجماعيّ ونقل الإجماعات عليه بالغ حدّ الاستفاضة، وعن المدارك: «لا خلاف في وجوب غسل الجنابة للصلاة الواجبة على ما نقله جماعة»(1) بل في المفاتيح: «أنّه من ضروريّات الدين»(2) وقرّره في الشرح العلّامة البهبهاني(3).

ويدلّ عليه الآية المتقدّمة في بحث وجوب الوضوء لها المتضمّنة لقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (4).

والمناقشة فيها بما في جملة من العبائر من إمكان عطفه على الشرط المتقدّم وهو

ص: 155


1- المدارك 15:1.
2- المفاتيح 51:1.
3- مصابيح الظلام 9:4.
4- المائدة: 6.

«إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ » قد تبين دفعها بما لا مزيد عليه، ويأباه التعبير هنا بكلمة «إِنْ » وثمّة بكلمة «إِذٰا» ولمّا كان الوجوب هنا مرادا به ما يعمّ الأصلي المستفاد من الخطاب به أصالة كالآية، والتبعي المستفاد عن قاعدة المقدّمية، فأمكن الاستدلال عليه أيضا بما دل على شرطيّة هذا الغسل للصلاة من الإجماع والضرورة والأخبار المتظافرة القاضية بإعادة الصلاة لوجوه الاختلال الواقع في الغسل عن جنابة كما يقف عليها المتتبّع، وخصوص «لا صلاة إلّا بطهور» وإذ قد عرفت سابقا أنّ وجوب الشيء لغيره لا يستدعي استحقاق العقاب على ترك هذا الشيء من حيث هو تركه تعرف أنّ المراد بالوجوب المبحوث عنه إنّما هو مجرّد تحتم الفعل، ويكفي في ثبوته كلّ من المذكورات من الإجماع بقسميه والآية والأخبار.

فما عن بعض المحققين: من المناقشة في الحكم هنا بعدم الدليل عليه - معلّلا له:

بأنّ ذلك إنّما يستفاد من أمرين، أحدهما: كون الغسل مأمورا به بالأمر الإيجابي مستحقّا تاركه العقاب بتركه بالخصوص، وثانيهما: قيام الدلالة على كون ذلك الإيجاب لأجل الصلاة، وإنّما يتحقّق الأمران بأن يقال، مثلا: «اغتسل للصلاة ونحوها» وكلاهما مفقودان في النصوص كتابا وسنّة، وأمّا الإجماعات المحكيّة فلا دلالة فيها على المدّعى لاحتمال أن يكون المراد من الوجوب فيها الوجوب الشرطي الّذي لا ريب فيه هنا، لأنّ استعمال لفظ «الوجوب» فيه شائع، بل ربّما يعدّ من المجازات الراجحة المساوي احتمالهما لاحتمال الحقيقة، بل في الذكرى تصريح بأنّه حقيقة عرفيّة، ويؤيّده أنّ أكثر شروط الصلاة الخارجة عن حقيقتها لا تجب لها بالمعنى المقصود من الوجوب هنا وهو استحقاق [العقاب] على الترك، فكذا هذا الشرط عملا بالاستقراء -(1) ليس بشيء، إلّا أن يراد من الوجوب الشرطي ما لا ينافي ما ذكرناه كما يومى إليه ما ذكر من التأييد، وإن كان ذلك على خلاف مصطلح القوم كما هو المصرّح به في كلامهم.

ومقتضى إطلاق الفتاوى والإجماعات عموم الحكم تكليفا ووضعا بالقياس إلى سائر الصلوات المفروضات كما هو مقتضي بعض الروايات كقوله عليه السلام: «لا صلاة إلا

ص: 156


1- مشارق الشموس 15:1.

بطهور» بالتقريب المتقدّم، بل هذا كما يدلّ بشرطيّة الغسل للصلاة الفريضة على إطلاقها كذلك يدلّ عليها للمندوبة، وهو المصرّح به في بعض العبائر المتضمّن لدعوى الإجماع والضرورة فيه، كما في مناهل السيّد قائلا: «غسل الجنابة شرط في صحّة كلّ صلاة واجبة كانت أو مندوبة عدا صلاة الجنازة كالوضوء، وهو مجمع عليه بين المسلمين، بل من ضروري الدين كما صرّح به بعض» انتهى.

ولا يذهب عليك أنّ استثناء صلاة الجنازة - كما في عبارة السيّد - مبنيّ على دخولها في مسمّي الصلاة شرعا، وإلّا فعلى ما يساعد عليه النظر لا حاجة إلى استثنائه إلّا من جهة التنبيه على نفي الاشتراط في هذا العنوان المسمّى بالصلاة ولو مجازا كما هو الأظهر، على ما يأتي تفصيل القول فيه في مبحثه إن شاء الله تعالى، بل وعن المنتهى والتذكرة ونهاية الإحكام والذكرى وجامع المقاصد والروضة والروض وبعض شروح الألفيّة والخلاف دعوى الإجماع على عدم الاشتراط هنا بالوضوء والغسل(1) ولا ينافي الإجماع المدّعى ما عن جمل السيّد ومراسم الديلمي(2) وغير. من التصريح بجواز هذه الصلاة بالتيمّم من الاغتسال، لأنّ من ينفي وجوب الغسل لهذه الصلاة يعترف باستحبابه له كالوضوء، كما حكى التصريح به عن القواعد والإرشاد واللمعة وجامع المقاصد والروض و مجمع الفائدة(3) وغيرها(4) فيقوم التيمّم مقامه بدلا أو مطلقا على جهة الاستحباب.

وبالجملة تجويز التيمّم هنا أعمّ من إيجاب الغسل والمصير إلى الاشتراط به.

ثمّ إنّ مقتضي ما تقدّم منهم في بحث وجوب الوضوء للصلاة من إلحاق الأجزاء المنسيّة وسجود السهو بها في إيجاب الوضوء كون الحال هاهنا أيضا كذلك، وإن لم نقف على تصريح منهم هنا بالخصوص، ولعلّه اكتفاء منهم بما سبق، والظاهر أنّ الحكم في مقدّمات الصلاة من الاذان والإقامة أيضا كما سبق ثمّة، ولقد نصّ العلّامة الطباطبائي(5) بعدم الوجوب على حذو ما سبق وهو الأظهر للأصل.

ص: 157


1- المنتهى 343:7، التذكرة 60:2، نهاية الإحكام 264:2، الذكرى 440:1، جامع المقاعد 1: 417، الروضة 431:1، روض الجنان 467:2، لم نعثر عليه، الخلاف 724:1.
2- جمل العلم والعمل (رسائل السيّد المرتضى 3):52، المراسم: 80.
3- القواعد 230:1، الإرشاد 262:1، اللمعة: 7، جامع المقاصد 822:1، مجمع الفائدة 442:2.
4- كما في الذكرى 441:1، الغنية: 502.
5- مصابيح الأحكام: 72.

وكما أنّ وجوب هذا الغسل للصلاة إجماعي فكذلك للطواف الواجب، وقد نصّ بالإجماع جماعة، وستعرف التصريح به فيهما وفي المسّ عن المعتبر والمنتهى.

ولك أن تستدلّ بالنبوي المرسل: «الطواف بالبيت صلاة»(1) بالتقريب المتقدّم.

وبما تقدّم من التعليل الواقع في الروايات الآمرة بالوضوء في الطواف لأنّ فيه صلاة، بل بالأولويّة بالقياس إلى الحدث الأصغر.

وبما ذكره في المناهل من صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه، قال: «سألته عن رجل طاف بالبيت وهو جنب، فذكر هو في الطواف ؟ فقال: يقطع طوافه ولا يعتدّ بشيء ممّا طاف»(2).

والظاهر أنّ الطواف المندوب على حذو ما سبق في الوضوء من عدم اشتراطه بالطهارة وإن استحبّت له كما صرّح به هنا بعضهم، وعلى هذا القياس سائر أفعال الحجّ من السعي والرمي وغيرهما، وعدم وجوب الغسل للجميع هنا ممّا يقتضيه القصر على الطواف الواجب.

ووجوب هذا الغسل المسّ الواجب يندرج في إجماعاتهم المنقولة كما نصّ عليه غير واحد.

وعن المعتبر - بعد ذكر الوجوب للصلاة والطواف والمسّ - قال: «وهو إجماع فقهاء الإسلام»(3) وعن المنتهى: «وهو مذهب علماء الإسلام»(4) وكأنّه مبنيّ على عدم الاعتداد بمخالفة ابن الجنيد القائل بالكراهة، أو على تأويل كلامه بحيث يدفع المخالفة وهو حمل الكراهة على إرادة الحرمة كما صنعه في الذكرى(5) واستجوده غير واحد.

وعن المدارك(6) إسناد القول بالكراهة إلى مبسوط الشيخ، واعترض عليه جماعة بأنّه إنّما قال بها في المحدث. وأمّا المجنب فقد صرّح فيه بالحرمة، ومبنى الحكم كما تقدّم في الوضوء على تحريم مسّ الكتابة، ومستنده - مع ما ذكر - الآية بالتقريب المتقدّم مع كونه أولى بالحكم من مسّ المحدث.

ص: 158


1- التذكرة 83:8، الشرح الكبير 409:3.
2- الوسائل 375:13 الباب 38 من أبواب الطواف ح 4، التهذيب 117:5/381.
3- المعتبر 275:1.
4- المنتهي 220:1.
5- الذكرى 265:1.
6- المدارك 279:1.

والمناقشة في دلالة الآية هنا - كما في شرح الأردبيلي للإرشاد(1) - بأنّه قد يراد بالمطهّرين غير المحدثين بالحدث الأكبر، ليست بسديدة بعد ملاحظة أنّ المطهّرون في الآية وارد من باب المستثنى المفرّغ، وتقديرها -: «أنّه لاٰ يَمَسُّهُ أحد إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ » وظاهر أنّ المجنب على تقدير عدم انصراف المحدث إليه ليس بمطهّر. فلا يسوغ له المسّ ، وجواز إرادة غير المحدثين من المطهّرين لا يقضي بجواز حمله في الآية عليه مع كونه بمفهومه أعمّ منه لشموله المغتسلين عن الجنابة وغيرها.

وكما يحرم على الجنب مسّ كتابة القرآن فيجب عليه الغسل إن وجب المسّ ، فكذا يحرم عليه مسّ اسم الله سبحانه في دينار أو غيره فيجب عليه الغسل إن وجب المسّ ، كما صار إليه المعظم، وحكاه العلّامة الطباطبائي في مصابيحه(2) عمّا يقرب من خمسين كتابا من كتب قدماء أصحابنا ومتأخّريهم، ومن هنا تكرّر في كلامهم دعوى الشهرة عليه كما في المصابيح، وعن المختلف(3) وغيره بل عن ابن زهرة(4) حكاية الإجماع عليه، وعن العلّامة في النهاية(5) نفي الخلاف فيه، وكأنّه على ما تقدّم مبنيّ على عدم الاعتناء بخلاف ابن الجنيد أو تأويل كلامه بحيث يرتفع الخلاف، وإلّا فهو على ما عزي إليه قال: «يكره للجنب والحائض مش كتابة المصحف أو الدراهم الّتي عليها القرآن أو اسم اللّه تعالى»(6) وعن المجمع والمدارك والبحار الميل إليه(7) وقد تقدّم عن الشهيد في الذكرى جواز المسّ في خصوص الدراهم(8) وربّما يستظهر ذلك من الروض وفوائد الشرائع(9).

فقد علم بذلك أنّ المسألة ذات أقوال ثلاث: المنع مطلقا، والجواز كذلك، والفرق بين ما في الدراهم فالجواز وغيره فالمنع.

ومستند الاوّل: موثقة عمّار الساباطي المرويّة عن الشيخ في كتابي الأخبار عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «لا يمسّ الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم اللّه

ص: 159


1- مجمع البرهان 71:1.
2- مصابيح الأحكام 544:1.
3- المختلف 353:1.
4- الغنية: 37.
5- نهاية الإحكام 101:1.
6- نقله عنه في المختلف 353:1.
7- مجمع البرهان 71:1، المدارك 279:1، البحار 57:78.
8- الذكري 265:1.
9- روض الجنان 146:1، فوائد الشرايع (مخطوط): 15.

تعالى»(1) وكان التعميم مبنيّ على إلغاء الخصوصيّة وفهم كون المناط هو ملاقاة اسم اللّه، كما يشعر به وروده في الرواية بعنوان الوصف.

وقد يؤيّد الرواية بمطابقة مضمونها لما يجب من تعظيم اللّه سبحانه، وعن المنتهى:

«أنّ عمل الأصحاب يعضدها مع مناسبتهما التعظيم»(2) وعن الشيخ والمحقّق الإجماع على العمل بروايات عمّار(3) ومع ذلك فالموثّق بنفسه يوجب الاطمئنان خصوصا إذا اعتضد بموافقة الشهرة العظيمة البالغة حدّا يقرب من الإجماع، وفتوى أعاظم الفرقة مع خلوصه عن شائبة التقيّة وإعراض المعظم عمّا يعارضه من الروايات الّتي فيها الموثّق وفيها الصحيح، فلا وجه للقدح فيه باستضعاف سنده كما عن المعتبر(4) ولا لما عن الذخيرة من: «أنّه لولا الشهرة والإجماع المنقول لأمكن حمله على الاستحباب»(5).

والمحكيّ من مستند القول الفاني: الأصل، وموثّقة إسحاق بن عمّار الّتي رواها الشيخ عن أبي إبراهيم عليه السلام قال: «سألته عن الجنب والطامث يمسّان بأيديهما الدراهم البيض ؟ قال: لا بأس»(6).

وما رواه المحقّق في المعتبر عن كتاب الحسن بن محبوب، عن أبي الربيع، عن أبي عبدالله عليه السلام: «في الجنب يمسّ الدراهم وفيها اسم اللّه واسم رسوله صلى الله عليه و آله وسلم ؟ قال: لا بأس به وربّما فعلت ذلك»(7).

وما عن جامع البزنطي عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته هل يمسّ الرجل الدرهم الأبيض وهو جنب ؟ فقال: واللّه إنّي لاوتى بالدرهم فآخذه وإنّي لجنب» وما سمعت أحدا يكره من ذلك شيئا إلّا أنّ عبداللّه بن محمّد كان يعيبهم عيبا شديدا، يقول: جعلوا سورة من القرآن في الدرهم فيعطى الزانية وفي الخمر ويوضع على لحم الخنزير»(8) وهذه الروايات هي مستند القول الثالث بناء على الجمود على

ص: 160


1- الوسائل 214:2 الباب 18 من أبواب الجنابة ح 1، التهذيب 31:1/82، الاستبصار 113:1/374.
2- المنتهى 220:2.
3- عدّة الاصول 150:1، المعتبر 73:1.
4- المعتبر 188:1.
5- الذخيرة: 52.
6- الوسائل 214:2 الباب 18 من ابواب الجنابة ح 2، التهذيب 126:1/341.
7- الوسائل 215:2 الباب 18 من ابواب الجنابة ح 4.
8- الوسائل 214:2 الباب 18 من أبواب الجنابة ح 3، المعتبر 188:1.

خصوص المورد على خلاف بناء القول الثاني على إلغاء الخصوصيّة.

والجواب: أنّها موهونة بإعراض المعظم عنها وذهابهم إلى المنع، فلا يمكن التعويل عليها حينئذ مع قوّة خروجها مخرج التقيّة، لما قيل: من أنّ المنع ممّا اختصّ به أصحابنا الإمامية ولم يعرف بين العامّة، وموردها الدراهم المضروبة بأمر السلطان فالتصريح بالمنع فيها يقتضي الطعن على فقهاء أهل الخلاف وسلاطينهم فلا يجترأ عليه الإمام البتّة.

وربّما يكون قوله عليه السلام: «وما سمعت أحدا يكره من ذلك شيئا»(1) تعريضا على الطعن عليهم حيث يشيع فيما بينهم المحرّم ولا يكرهه أحد، والإضمار في قوله عليه السلام:

«يعيبهم عيبا شديدا» مع ظهور عوده إلى أهل الخلاف إيماء إلى قوام هذا العمل الشنيع فيما بينهم، ونسبة عيبهم إلى غيره كناية عن الطعن عليهم بأبلغ وجه، كما يفصح عنه حكاية جعلهم سورة من القرآن في الدرهم وإعطائهم الزانية وفي الخمر ووضعهم على لحم الخنزير، فإنّ كلّ ذلك على خلاف طريقة الإسلام والمحافظة على قواعد الشرع.

وربّما يؤوّل بإرادة مسّ نفس الدرهم دون نقشه كما يساعد عليه الاعتبار، حيث أسند الإمام عليه السلام إلى نفسه فيحتمل من التورية ما لا يحتمله غيرها خروجا عن الكذب القبيح في غير مقام الضرورة، وبجواز أن يكون المراد بالدرهم الابيض ما انمحى نقشه.

والحق باسم اللّه تعالى في الحكم أسماء الأنبياء والأئمّة عليهما السلام وحكاه في المصابيح(2) عمّا تقرب من ثلاثين كتابا، وعن الروضة: «أنّه عزاه إلى المشهور»(3) وعن جامع المقاصد: «أنّه مذهب كبراء الأصحاب»(4) وعن الغنية: «الإجماع عليه»(5) وعن الطالبيّة: «أنّ الأصحاب ألحقوا ذلك باسم الله تعالى في الحكم لمناسبة التعظيم ولأنّ للاسم حظّا من المسمّى»(6).

وعن المعتبر اختيار الكراهة بقوله: «إنّها الأنسب»(7) وعن التحرير اختيارها أيضا بقوله: «إنّها أولى»(8) وعن جملة من المتأخّرين الميل إليه، وعن المنتهى: «لم أجد به

ص: 161


1- المعتبر 188:1.
2- مصابيح الاحكام: 104 (مخطوط).
3- الروضة 350:1.
4- جامع المقاصد 268:1.
5- الغنية: 37.
6- نقله عنه في مصابيح الأحكام: 104 (مخطوط).
7- المعتبر 188:1.
8- التحرير 12:1.

حديثا مرويا، ولو قيل بالكراهة كان وجها»(1).

وقضيّه ذلك أنّ الإلحاق ليس فيه إلّا الشهرة ومنقول الإجماع، فإن أوجبا الوثوق والاطمئنان اتّجه الأخذ بهما وإلّا كان المتّجه عدم المنع للأصل.

لكن لك أن تأخذ ما رواه في الكافي في الحسن بإبراهيم بن هاشم عن داود بن فرقد عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن التعويذ يعلّق على الحائض ؟ قال: نعم لا بأس، قال: وقال: تقرأه وتكتبه ولا تصيبه يدها»(2). وما في التهذيب عن فضالة عن داود عن رجل عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «سألته عن التعويذ يعلّق على الحائض ؟ قال:

لا بأس، وقال: تقرأه وتكتبه ولا تمسّه»(3) دليلا على هذا الإلحاق بعد إحراز مقدّمتين:

إحداهما: إلحاق الجنب بالحائض، وهي محرزة بالإجماع محصّلا ومنقولا على مشاركتهما في الأحكام كما ستقف عليه.

واخراهما: شمول التعويذ لما يكتب عليه أسماء الأنبياء والأئمّة وغيرهما، وهي أيضا تثبت بملاحظة إطلاق الجواب من دون استفصال، حيث إنّ التعويذ المسؤول عنه يعمّ الآيات القرآنيّة وأسماء اللّه تعالى وأسماء الأنبياء والأوصياء والملائكة وغيرها ممّا هو متعارف في التعويذات.

وقضيّة إطلاق النهي المقرون بترك الاستفصال عموم المنع عن مسّ جميع ذلك خرج عنه ما خرج بالإجماع وبقي الباقي الّذي منه اسم اللّه تعالى ورسوله وسائر الأنبياء والأئمّة، وكأنّ هذا الطريق من الاستدلال هو مستند المشهور، ومعه يخرج مناسبة التعظيم مؤيّدة له هذا.

وثانيها: وجوب غسل الحيض والنفاس والاستحاضة للغايات الثلاث المذكورة،

المبنيّ على وجوب تلك الغايات ولو لعارض مع تحريم فعلها بدونه وانقطاع الدم في الأوّلين، فأمّا مع عدم الانقطاع فالحكم هو التحريم خاصّة.

والظاهر أنّ الوجوب هنا أيضا إجماعيّ كما يقتضيه إطلاق منقول الإجماعات تارة، والتصريح بالإجماع في كلّ واحد في كلام غير واحد أخري، ويندرج في دعوى

ص: 162


1- المنتهى 220:1.
2- الوسائل 342:2 الباب 37 من ابواب الحيض ح 1.
3- الوسائل 343:2 الباب 37 من أبواب الحيض ح 4.

الضرورة المتقدّمة عن المفاتيح، ويقتضيه بالقياس إلى الصلاة في الجميع «لا صلاة إلّا بطهور» وبالقياس إلى الطواف في الجميع «الطواف بالبيت صلاة» والتعليل المشار إليه الواقع في جملة من الروايات المتقدّمة في إيجاب الوضوء للطواف، وبالقياس إلى المسّ لكتابة القرآن في الجميع لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ وبالقياس إلى الصلاة في الحيض خاصّه ما في الكافي في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا كانت المرأة طامثا فلا تحلّ لها الصلاة»(1) وما عن العلل وعيون الأخبار عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «إذا حاضت المرأة لا تصوم ولا تصلّي، لأنّها في حدّ نجاسة فأحبّ اللّه أن لا يعبد إلّا طاهرا، ولأنّه لا صوم لمن لا صلاة له...» الحديث(2).

وفي النفاس خاصّة أخبار كثيرة، منها: الصحيح عن زرارة عن احدهما عليهما السلام قال:

«النفساء تكفّ عن الصلاة أيّامها الّتي كانت تمكث فيها ثمّ تغتسل وتعمل كما تعمل المستحاضة»(3).

وفي الاستحاضة خاصّة روايات كثيرة، منها: موثقة معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «المستحاضة تنظر أيّامها فلا تصلّي فيها ولا يقربها بعلها، فإذا جازت أيّامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر تؤخّر هذه وتعجّل هذه، وللمغرب والعشاء غسلا تؤخّر هذه وتعجّل هذه وتغتسل للصبح...»(4) الحديث.

وبالقياس إلى المسّ في الحيض خاصّة ما تقدّم من روايتي داوود بن فرقد وفضالة(5) وبالقياس إلى الصلاة والطواف في الاستحاضة خاصّة الموثق كالصحيح بأبان بن عثمان عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله، قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن المستحاضة أيطأها زوجها؟ وهل تطوف بالبيت ؟ قال: تقعد قرؤها الّذي كانت تحيض فيه، فإن كان قرؤها مستقيما فلتأخذ به، وإن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين، ولتغتسل ولتستدخل كرسفا فإن ظهر على الكرسف فلتغتسل، ثمّ تضع كرسفا آخر ثمّ

ص: 163


1- الوسائل 343:2 الباب 39 من أبواب الحيض ح 1.
2- الوسائل 344:2 الباب 39 من ابواب الحيض ح 2.
3- الوسائل 382:2 الباب 3 من ابواب النفاس ح 1.
4- الوسائل 371:2 الباب 1 من ابواب الاستحاضة ح 1.
5- تقدّم في الصفحة 146 الرقم 1.

تصلّي فإذا كان دما سائلا فلتؤخّر الصلاة إلى الصلاة، ثمّ تصلّي صلاتين بغسل واحد، وكلّ شيء استحلّت به الصلاة فليأتها زوجها، ولتطف بالبيت»(1).

وثالثها: وجوب الغسل عن مسّ الأموات لما ذكر من الغايات عند وجوبها،

وهذا أيضا ممّا لا إشكال ولا خلاف فيه عندهم، لكن بعد ثبوت مقدّمتين:

إحداهما: وجوب هذا الغسل في الشرع الّذي وقع الخلاف فيه بين أصحابنا، والوجوب هو الأشهر كما هو الأظهر وتكرّر فيه نقل الشهرة، بل عن جنائز الخلاف(2)إجماع الفرقة على الوجوب، وبه روايات بالغة حدّ التواتر معنى، ولتفصيل القول فيه محلّ آخر.

واخراهما: كون هذا الوجوب غيريّا مبنيّا على كون مسّ الميّت بشرطيه المعروفين - المعبّر عنهما بحصوله بعد البرد وقبل التغسيل - من النواقض، فيقصد بالغسل عنه رفع الحدث الممانع من الصلاة والطواف ومسّ كتابة القرآن.

وقد نسب إلى جملة من المتأخّرين أنّهم ناقشوا فيه واحتملوا وجوب هذا الغسل تعبّدا وإن لم يشترط به شيء من العبادات، وظاهر العبارة المحكيّة عن المدارك التوقّف في ذلك، حيث قال: «وأمّا غسل المسّ فلم أقف على ما يقتضي اشتراطه في شيء من العبادات، ولا مانع من أن يكون واجبا لنفسه كغسل الجمعة والإحرام عند من أوجبهما، نعم إن ثبت كون المسّ ناقضا للوضوء اتّجه وجوبه للأمور الثلاثة المتقدّمة إلّا انه غير واضح» انتهى(3).

أقول: مقتضي الأصل على ما تقرّر في المسائل الاصوليّة فيما لو تردّد الواجب بين التعبّدي والغيري هو التعبّد على ما احتمله الجماعة، غير أنّ السيّد في مصابيحه ردّه بقوله: «وهو خلاف الإجماع، فإنّ القائلين بوجوب غسل مسّ الميّت - وهم المعظم - اتفقوا على أنّ المسّ حدث ناقض للطهارة، وعباراتهم طافحة بذلك تصريحا وتلويحا، وقد وقع التصريح بذلك في المقنعة، والنهاية. والاقتصاد، والجمل والعقود، والكافي، والغنية، والإشارة، والوسيلة، والسرائر، والمنتهى، والدروس، والذكرى، والبيان،

ص: 164


1- الوسائل 375:2 الباب 1 من أبواب الاستحاضة ح 8.
2- الخلاف 701:1 المسألة 490.
3- المدارك 16:1.

والروض، وكفاية الطالبين، وجامع المقاصد، وفوائد الشرائع، ومنهج السداد، والرسالة الفخريّة وغيرها من كتب القدماء والمتأخّرين، وهو أمر مقطوع به في كلامهم ولا خلاف فيه، إلّا من نفى وجوب غسل المسّ كالسيّد المرتضى ومن وافقه على ذلك، فإنّ المسّ عندهم ليس بحدث ولا موجب للغسل، فالقول بوجوب غسل المسّ وأنّ المسّ ليس بحدث خرق للإجماع» انتهى(1).

أقول: ولعلّ ذلك مع عدم ورود خبر صريح فيه إطباق منهم على أنّ المستفاد من الأخبار الآمرة بهذا الغسل عرفا إنما هو كون المسّ كالجنابة وغيرها حدثا ناقضا للطهارة كما هو طريقتهم في إثبات النجاسات وسائر الأحداث بمجرّد ورود أمر بالغسل أو الغسل، ولولا ذلك لأشكل إثبات هذا الحكم المخالف للأصل، إذ ليس في الباب إلّا ما روي عن الفقه الرضوي في باب غسل الميت وتكفينه بعد ذكر الغسل: «وإن نسيت الغسل فذكرت بعد ما صلّيت فاغتسل وأعد صلاتك»(2).

وما عن العلل بأسانيده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام: «إنّما أمر من يغسل الميّت بالغسل لعلّة الطهارة ممّا أصابه من نضح الميّت، لأنّ الميّت إذا خرج منه الروح بقى أكثر آفته»(3).

وما عنه أيضا بأسانيده عن محمّد بن سنان عن الرضا عليه السلام: «قال وعلّة اغتسال من غسل الميّت أو مسّه الطهارة لما أصابه من نضح، لأنّ الميت إذا خرج منه الروح بقى أكثر آفته. فلذلك يتطهّر منه ويطهر»(4).

والأوّل غير ثابت الاعتبار لعدم ثبوت هذا الكتاب من الإمام عليه السلام - وإن اعتمد عليه غير واحد من أعيان العلماء كالمجلسي وصاحب الحدائق والعلّامة الطباطبائي، ويظهر الاعتماد من جماعة كالمحقق البهبهاني وسيد المناهل وغيرهما حيث تمسّكوا بما ذكر وغيره ممّا يرد في الأبواب المتفرّقة من غير تعرّض للقدح في السند - كما أنّ الأخيرين

ص: 165


1- مصابيح الأحكام: 94 (مخطوط).
2- المستدرك 495:2/2549، فقه الرضا عليه السلام: 175.
3- المستدرك 292:3 الباب 1 من أبواب غسل المسّ ح 11، علل الشرايع: 268/9.
4- المستدرك 292:3 الباب 1 من أبواب غسل المسّ ح 12، علل الشرايع: 300/3.

غير واضح الدلالة على ما هو حقيقة المرام كما يظهر بأدنى تأمّل، فإنّ الطهارة لعلّه يراد منها هنا ما لا ينافي ضدّها الصلاة وغيرها من مشروط بالطهارة المنافي ضدّها لها.

وممّا يوهن سند الأوّل مطابقة عبارة الشيخ الجليل عليّ بن بابويه في رسالته لمتنه، حيث قال - على ما حكي عنه -: «وإذا اغتسلت من غسل الميت فتوضّأ واغتسل كغسلك من جنابتك، وإن نسيت الغسل فذكرته بعد ما صلّيت فاغتسل وأعد صلاتك»(1)وهذا هو من جملة ما يستشكل به في انتساب الكتاب المذكور إليه عليه السلام، لقوّة احتمال كونه من مصنّفات الشيخ المذكور لمطابقة عباراته في الرسالة غالبا لعبارات الكتاب.

فالمعتمد إذن هو ما ذكرناه من طريق الاستدلال، وممّن اعتمد عليه المحقّق البهبهاني حيث قال في جملة كلامه: «وأمّا سوق العبارة في الأخبار ففي الكلّ أنه إذا أحدث كذا وجب كذا، فإذا كان جميع ما هو بهذا السوق يفهم عنه الوجوب للغير مع كونها من الكثرة بمكان، فكيف يبقي التأمّل في خصوص هذا الغسل من بين جميع الوضوءات والأغسال والغسلات الّتى لا تحصى ؟ مع أنّ الأخبار وكلام الفقهاء على نهج واحد، وعلى تقدير ورود الوجوب للغير في بعض من الواجبات المذكورة فمعلوم أنّه لم يرد ذلك في الكلّ . ولا في الأكثر حتى يتأمّلوا في المقام من هذه الجهة، فيكون الحال فيه كسائر الطهارات من الأحداث والأخباث كغسل الثياب والجسد والظروف وغيرهما ممّا لم يرد فيه بالخصوص أنّه يجب للغير، ومسلّم عند صاحب المدارك وموافقيه أنّه يجب للغير...» إلى آخر ما ذكره(2).

المسألة الثانية: وكما يجب الغسل للامور المذكورة فكذا يجب لقراءة العزائم ودخول المساجد بالمعنى الأعمّ من الاجتياز فيها

كما في المسجدين، أو اللبث فيها كما في سائر المساجد، ووضع شيء فيها، على فرض وجوب هذه الأمور ولو لعارض بسبب من المكلّف، بناء على تحريمها بدون الغسل وهو بالقياس إلى الجنب إجماعيّ .

والإجماعات المحكيّة فوق حدّ الاستفاضة والأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهما السلام في

ص: 166


1- المستدرك 4943 الباب 7 من أبواب غسل المسّ ح 1، فقه الرضا عليه السلام: 19.
2- مصابيح الظلام 40:4-41.

خصوص دخول المساجد قريبة من التواتر بل هي متواترة معنى.

مضافا إلى قوله عزّ و جلّ : يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَقْرَبُوا اَلصَّلاٰةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ حَتّٰى تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لاٰ جُنُباً إِلاّٰ عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا (1) بتقريب: أنّ المراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد من باب تسمية المحلّ باسم الحالّ ، أو على حذف المضاف، والمعنى - واللّه أعلم - لا تقربوا المساجد في حالتين، إحداهما: حالة السكر، فإنّ الأغلب أنّ الّذي يأتي المسجد إنّما يأتيه للصلاة وهي مشتملة على أذكار وأقوال يمنع السكر من الإتيان بها على وجهها، والحالة الثانية: حالة الجنابة واستثنى عزّ و جلّ من هذه الحالة ما إذا كنتم عابري سبيل أي مارّين في المسجد ومجتازين فيه.

وتفسير الآية على هذا الوجه ما يوجد في كلام غير واحد من أساطين أصحابنا، ونصّ عليه شيخنا البهائي في الحبل المتين وقال: «إنّه منقول عن جماعة من خواصّ الصحابة والتابعين»(2).

ثمّ قال: «وعمل أصحابنا رضى الله عنه على هذا الوجه»(3) وبه رواية صحيحة عن العلل عن زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قالا: «قلنا له: الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال: الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلّا مجتازين، إنّ الله تبارك وتعالى يقول: وَ لاٰ جُنُباً إِلاّٰ عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا »(4).

وعليه فسقط التفسير الآخر الّذي حكي عن بعض المفسّرين أنّه نقل عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير، وعن بعضهم أنّه ربّما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام وهو أنّ المراد: لا تصلّوا في حالين حال السكر وحال الجنابة، واستثنى من حال الجنابة ما إذا كنتم عابري سبيل، أي مسافرين فيجوز لكم حينئذ الصلاة بالتيمّم الّذي لا يرتفع به الحدث وإنّما يباح به الدخول في الصلاة.

ولا فرق فيما ذكر بين الأمرين بل الأمور، وإن وقع بينهم كلام في خصوص القراءة من حيث إنّ المراد بها قراءة كلّ بعض من أبعاض سور العزائم حتى البسملة، بل بعض منها كما هو المشهور المنقول عليه الإجماع، أو قراءة خصوص آية السجدة في كلّ من

ص: 167


1- النساء: 43.
2- الحبل المتين 196:1-197.
3- الحبل المتين 196:1-197.
4- الوسائل 207:2 الباب 15 من ابواب الجنابة ح 10.

السور كما حكي استظهاره عن جملة من متأخّري المتأخّرين(1) وتفصيل القول في ذلك موكول إلى محلّه.

وكذا بالقياس إلى الحائض ما لم ينقطع دمها بل مطلقا ما لم تغتسل، وإن عزي إلى بعض متأخّري الأصحاب أنّه قوي عدم وجوب الغسل لهذه الأمور واكتفى في الجواز بانقطاع الدم لعدم التسمية بعده عرفا ولغة أيضا، وتفصيل القول فيه أيضا يأتي في محلّه.

وكذا بالقياس إلى النفساء بل المستحاضة ما لم يأت بما عليها من الوضوء لكلّ صلاة، والغسل لصلاة الفجر في المتوسّطة، وثلاثة أغسال للفجر والظهرين والعشاءين في الكثيرة، فإنّ فتاوى الأصحاب متظافرة في المنع كما في الحائض وإجماعاتهم عليه منقولة، وإن خالف في ذلك ثاني الشهيدين في الروض(2) فأجاز للمستحاضة دخول المساجد مع أمن التلويث من دون توقّف على الغسل، وأوّل الشهيدين في الدروس(3)فأطلق الجواز، وصاحب معالم الدين(4) فجوّز لها قراءة العزائم خاصّة من دون غسل، وبعضهم فصار إلى جوازهما معا على الظاهر، وربّما يستظهر ذلك عن الجامعيّة والمقاصد العليّة(5) قال العلّامة الطباطبائي في مصابيحه هنا: «ولا ريب في شذوذ هذه الأقوال»(6) وتفصيل القول في ذلك أيضا تسمعه في محلّه.

وفي كلام كثير من أصحابنا استثناء غاسل الميّت من حرمة القراءة ودخول المساجد فلا يحرم عليه شيء من ذلك بدون الغسل، كما حكي التصريح به عن الروض والموجز وغاية المرام ومعالم الدين وجامع المقاصد وفوائد الشرائع وحواشي التحرير والإرشاد والجعفريّة والطالبيّة ومنهج السداد وشارع النجاة(7).

قال في المصابيح: «إنّ في جميعها التصريح بعدم وجوب غسل المسّ لدخول المساجد وقراءة العزائم»(8).

ص: 168


1- كشف اللثام 32:1.
2- روض الجنان 240:1.
3- الدروس 20:1.
4- فقه المعالم 58:1.
5- المقاصد العليّة: 77.
6- مصابيح الأحكام: 103 (مخطوط).
7- روض الجنان 57:1، الموجز (الرسائل العشر): 53. غاية المرام 68:1، معالم الدين 52:1، جامع المقاصد 72:1، فوائد الشرائع: 2 (مخطوط)، حواشي التحرير 91:1، إرشاد الأذهان 232:1.
8- راجع مصابيح الأحكام: 96 (مخطوط).

وعن السرائر والذكرى والدروس والمسالك(1) التنصيص على أنّه لا يجب لدخول الماجد مع السكوت عن العزائم، بل في السرائر الإجماع على جواز دخول المسجد لماسّ الميّت، فإنّه في بيان أنّ نجاسة الماسّ حكمية لا عينية قال: «وقد أجمعنا بلا خلاف في ذلك بيننا على أنّ لمن غسل ميتا أن يدخل المسجد ويجلس فيه فضلا عن مروره، وجوازه ودخوله، فلو كان نجس العين لما جاز ذلك وأدّى إلى تناقض الأدلّه»(2).

والمخالف في ذلك صريحا أبو الصلاح في الكافي فإنّه على ما حكي قال: «إنّ إحداث الغسل كلّها حتّى المسّ تمنع من الجلوس في المسجد»(3).

ويظهر ذلك من كلّ من أطلق وجوب الغسل للغايات الخمس: الصلاة والطواف ومسّ المصحف وقراءة العزائم ودخول المساجد، كما في الشرائع والقواعد والتحرير(4)وغيرها.

وأظهر منه ما عن مبسوط الشيخ من قوله: «الواجب من الغسل ما كان للصلاة أو الطواف أو دخول المساجد أو مسّ كتابة المصحف وما فيه اسم الله وغير ذلك»(5) وهذا الكلام وإن لم يصرّح فيه بذكر قراءة العزائم لكن الظاهر كونه مرادا من عبارة: «غير ذلك» كما فهمه في المصابيح.

وعن صاحب الحديقة: «أنّ وجوب الأغسال الخمسة للغايات الخمس هو الأشهر بين الأصحاب»(6).

وفي المصابيح: «كون استناده إلى هذه العبارات الظاهرة في العموم»(7) وقضية ذلك - كما تنبّه عليه في الكتاب المذكور - وجوب الغسل في خمس وعشرين مسألة، حاصلة من ضرب الخمس في مثلها.

وفي كلام غير واحد من الأجلّة - منهم صاحب الكتاب - الاعتراف بعدم الوقوف على دليل يساعدهم على ما ادّعوه، أو ظهر كلامهم فيه من حرمة الأمرين على الماسّ ، ومن هنا ذكر في حواشي التحرير - على ما حكي -: «أنّ كلام ابن إدريس أفقه، لأصالة

ص: 169


1- السرائر 163:1، الدروس 117:1، المسالك 10:1.
2- السرائر 163:1.
3- الكافي في الفقه: 126.
4- الشرايع 11:1، القواعد 178:1، التحرير 91:1.
5- المبسوط 4:1.
6- راجع مصابيح الأحكام: 96 (مخطوط).
7- راجع مصابيح الأحكام: 96 (مخطوط).

البراءة من التحريم، والأخبار عارية عن الدلالة نفيا وإثباتا، والإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة»(1).

وإنّما ذكر ذلك في دفع اعتراض المحقّق على ابن إدريس في مختاره ودعواه الإجماع من أنّها دعوى عارية عن البرهان، ونحن نطالبك بتحقّق الإجماع على هذه الدعوى، ونطالبك أين وجدتها، فإنّا لا نوافقك على ذلك بل نمنع الاستيطان كما نمنع من على جسده نجاسة، ويقبح إثبات الدعوى بالمجازات.

فبجميع ما ذكر تبين أنّ الوجه ما ذكره في حواشي التحرير من أنّ كلام ابن إدريس أفقه، فإنّ أصل البراءة محكم ولا دافع له، إذ لم يرد في خصوص المسألة نصّ ولا خطاب عامّ كتابي ولا خبري يتناول بعمومه ماسّ الميّت فيقضي بوجوب الغسل من جهته للقراءة والدخول أو بتحريمها عليه من دون غسل، كما ورد: «لا صلاه إلّا بطهور» في الصلاة «والطواف بالبيت صلاة» في الطواف و لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ في مسّ المصحف، فإنّ كلّا من ذلك يشمل حدث المسّ والطهور الحاصل من جهته، والمقام خال عن مثل ذلك أيضا.

فلا يبقى إلّا توهّم أن يقال: إنّ المسّ كالجنابة وغيرها حدث أكبر كما يفصح عنه إيجابه الغسل، على خلاف الحدث الأصغر الموجب للوضوء، ومن حكم الحدث الأكبر أن لا يجوز معه قراءة العزائم ودخول المساجد.

وفيه: مع ما تقدّم من الإشكال في حدثيّة المسّ ، منع الملازمة بين الأكبر ومنع الأمرين لفقد ما يشهد بها من عقل أو نقل، غاية الأمر أنّ المنع المذكور حكم ثبت بالدليل في حدث الجنابة وحدث الدماء الثلاث من غير أن يرد فيه عموم ولا أن ينقّح مناط يسوغ معه التعدّي عن المورد إلى غيره، فلابدّ وأن يستند دعوى الملازمة حينئذ إلى القياس وهو كما ترى.

فالأقوى إذن عدم تحريم الأمرين على الماسّ الغير المغتسل، ولا إيجاب الغسل لأجلهما تعويلا على الأصل السليم عن المعارض الصالح لأن يعتضد بمنقول الإجماع، ودعوى الشهرة أو الأشهريّة على فرض صحّتها لا تصلح هنا مخرجة عن الأصل.

ص: 170


1- مصابيح الأحكام: 96 (مخطوط).
المسألة الثالثة: وممّا يجب له الغسل بجميع أنواعه عدا ما كان منه لمسّ الميّت صيام شهر رمضان،

فإنّه شرط لصحّته وواجب لوجوبه، فأمّا في الجنابة فقد صرّح به جماعة كثيرة من أعيان أصحابنا، فقالوا: يبطل الصوم لو تعمّد البقاء على الجنابة إلى أن يصبح، كما عن الشيخين والسيّدين وابني إدريس وجمهور المحققين والشهيدين والسيوري وصاحب المدارك(1) وغيره.

وفي الحدائق: «هو المشهور بين الأصحاب»(2) وفي معناه ما في شرح المفاتيح للعلّامة البهبهاني(3) بل فيه عن الانتصار: «أن ممّا انفردت به الإماميّة إيجابهم على من أجنب في ليل شهر رمضان وتعمّد البقاء إلى الصباح من غير اغتسال القضاء والكفّارة»(4).

وعن المنتهى والتذكرة: «أنّه مذهب علمائنا»(5) ونحوه عن ابن إدريس مع زيادة قوله: «ولا يعتدّ بالشاذّ الّذي يخالف ذلك»(6) وعن جامع المقاصد: «أن وجوب الغسل لصوم الجنب بناء على ما استقرّ عليه مذهب الأصحاب من اشتراط صحّة صوم الجنب بتقديم الغسل على الفجر»(7).

وعن الطالبيّة: «قد انعقد عليه إجماع المتأخرين وإن خالف فيه بعض المتقدّمين»(8).

وعن كنز العرفان(9) نسبة هذا القول إلى أصحابنا.

وعن المهذّب البارع: «أنّ الّقول بخلاف ذلك منقرض»(10) ونسب نقل الإجماع أيضا إلى الخلاف والوسيلة والغنية وكشف الرموز وحواشي التحرير والروض والمقاصد العليّة(11).

وأوّل من أبدا المخالفة الصدوق رحمه الله في المقنع بناء على الاحتمال الظاهر في كلامه

ص: 171


1- المقنعة. 345، النهاية 396:1، الانتصار: 63، غنية النزوع: 139، السرائر 377:1، عوالي اللآلئ 144:3 ح 41، المعتبر 655:2، جامع المقاصد 70:3، الدروس 271:1، مسالك الأفهام 71:1، راجع مصابيح الأحكام: 97 (مخطوط) المدارك 53:6.
2- الحدائق 57:3.
3- مصابيح الظلام 24:4.
4- الانتصار: 63.
5- المنتهى 566:2، التذكرة 26:6.
6- السرائر 377:1.
7- جامع المقاعد 72:1.
8- نقله عنهما في مصابيح الأحكام: 97 (مخطوط).
9- نقله عنهما في مصابيح الأحكام: 97 (مخطوط).
10- المهذّب البارع 36:1.
11- الخلاف 176:2، الوسيلة: 142، الغنية: 571، كشف الرموز 284:1، نقله عنه في مصابيح الأحكام: 97 (مخطوط)، روض الجنان 584:1، المقاصد العليّة: 74.

قائلا: «واجتنب في صومك خمسة أشياء تفطرك الأكل والشرب والجماع والارتماس في الماء والكذب على اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله وسلم والأئمّة عليهما السلام».

ثمّ قال: «وسأل حمّاد بن عثمان أبا عبداللّه عليه السلام عن رجل أجنب في شهر رمضان من أوّل الليل وأخّر الغسل إلى أن طلع الفجر، ولا أقول كما يقول هؤلاء الأقشاب(1)يقضي يوما مكانه»(2) فإنّ من دأبه أنّه يفتي بمتون الروايات.

وقد يستظهر ذلك أيضا من الفقيه حيث إنه في أحكام الجنب قال: «لا بأس أن يجنب أوّل الليل وينام إلى آخره»(3) بناء على إطلاقه الشامل لليل رمضان.

وقد صار إلى هذا القول المحقّق الأردبيلي في زبدة البيان ومجمع البرهان(4)وحكي ذلك عن السيّد الداماد في شارع النجاة(5) واستقربه في الذخيرة، حيث إنّه بعد ما أتى بأخبار كثيرة ظاهرة في هذا القول قال: «يمكن الجمع بوجهين، أحدهما: حمل ما دل على المنع على الكراهة، وثانيهما: حمل ما دلّ على الجوار على التقيّة، والأقرب الأوّل، ولكن لا يبعد أن يقال الترجيح للثاني بوجوه من الترجيح»(6) وعن الكفاية(7)أنه توقف في ذلك، وعن الحديقة أنّه عزاه إلى قول الأكثر(8) وفي المصابيح: «أنّه يلوح التردّد فيه من الفاضلين في بعض كتبهما»(9).

و الأقوى القول الأوّل، لقوّة أدلّته وهي الأخبار الكثيرة الآمرة جملة منها بالقضاء في مفروض المسألة، وجملة اخرى بالكفّارة فيه أيضا، وجملة ثالثة بالقضاء فيمن نام بعد الجنابة حتى يصبح فتشمل محلّ البحث بطريق الفحوى، مضافا إلى ما في بعض هذه الجملة من التعليل بالعقوبة وهي المؤاخذة الّتي هي فرع العصيان الّذي لا يتأتّى إلّا بترك واجب أو ارتكاب محرّم، مع كون محلّ البحث أولى بلزومه، كما في صحيحة إبن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام: «الرجل يجنب في شهر رمضان ثمّ يستيقظ ثمّ ينام حتّى

ص: 172


1- أقشاب جمع «قشب» بكسر الشين المعجمة ككتف، وهو من لا خير فيه من الرجال، يقال: رجل قشب خشب أي لا خير فيه، وقشّبني ريحه بالتشديد: آذاني (كذا في المجمع).
2- المقنع: 189.
3- الفقيه 48:1.
4- زبدة البيان: 174، مجمع البرهان 45:5.
5- شارع النجاة (اثنا عشرية): 48.
6- الذخيرة: 498.
7- الكفاية: 46.
8- مصابيح الأحكام: 97 (مخطوط).
9- مصابيح الأحكام: 97 (مخطوط).

يصبح ؟ قال: يتمّ يومه ويقضي يوما آخر، وإن لم يستيقظ حتّى يصبح أتمّ يومه وجاز له»(1) عقوبة. وجملة رابعة بالقضاء مع نسيان الاغتسال الّذي يكون تعمّد البقاء على الجنابة أيضا أولى منه بذلك الحكم، كما في صحيحة محمّد بن مسلم عنه عليه السلام «عن رجل أجنب في شهر رمضان فنسي أن يغتسل حتّى خرج رمضان ؟ عليه قضاء الصلاة والصوم»(2). وفيه إشعار بأنّ وجوب الغسل كان أمرا مفروغا عنه لدى السائل فسأل عن حكم تركه في صورة النسيان، مع اعتضاد هذه الأخبار بفتوى المعظم من المتقدّمين والمتأخّرين والشهرة المحقّقة والمحكيّة والإجماعات المنقولة القريبة من التواتر بل المتواترة على ما ادّعاه بعضهم، وخروجها على خلاف مذاهب العامّة على ما صرّحوا به. ويقتضيه ما عرفته عن السيد(3) من أنّ ذلك ممّا انفرد به الإماميّة، ويشعر به كلام غيره ممّن تقدّم.

وضعف أدلّة القول الآخر كما صرّح به غير واحد من أعيان أصحابنا، قال في الحدائق: «والأخبار من الطرفين متعارضة، إلّا أنّ الأخبار الدالّة على القول المشهور أكثر عددا وأصرح دلالة» انتهى(4).

وكيف كان، فليس للقول الآخر إلّا الأصل، والآية كما في قوله عزّ و جلّ : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيٰامِ اَلرَّفَثُ إِلىٰ نِسٰائِكُمْ هُنَّ لِبٰاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبٰاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اَللّٰهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتٰانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفٰا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا مٰا كَتَبَ اَللّٰهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيٰامَ إِلَى اَللَّيْلِ الآية(5).

وعدّة أخبار مثل خبر حمّاد بن عثمان المتقدّمة عن الصادق عليه السلام «في رجل أجنب في شهر رمضان من أوّل الليل وأخّر الغسل إلى أن طلع الفجر، فيقال: كان رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يجامع نساءه من أوّل الليل ثمّ يؤخّر الغسل حتى يطلع الفجر، ولا أقول

ص: 173


1- الوسائل. 61:1 الباب 15 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 2.
2- الوسائل 23:10 الباب 30 من أبواب يصحّ منه الصوم ح 3.
3- الانتصار: 63.
4- الحدائق 57:3.
5- البقرة: 187.

كما يقول هؤلاء الأقشاب يقضي يوما مكانه»(1).

وخبر حبيب الخثعمي عن الصادق عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يصلّي صلاة الليل في شهر رمضان، ثمّ يجنب، ثمّ يؤخّر الغسل متعمّدا حتّى يطلع الفجر»(2).

وخبر العيص «[سألت] سأل الصادق عن رجل أجنب في شهر رمضان في أوّل الليل، فأخّر الغسل حتّى طلع الفجر؟ قال: يتمّ صومه ولا قضاء عليه»(3) إلى غير ذلك من الأخبار الّتي لعلّنا نوردها مع الأخبار العامّة على المذهب المختار في باب الصوم إن شاء اللّه تعالى.

والجواب أمّا عن الأصل فواضح بعد ملاحظة مستند القول المختار على فرض تسليم جريانه في ماهيّة العبادة، نظرا إلى ما قيل من أنّ القائلين بهذا القول قد أخذوا عدم البقاء على الجنابة في حقيقة الصوم، وصرّحوا بأنّ الصوم هو الكفّ عن الأكل والشرب والجماع وتعمّد البقاء على الجنابة وغير ذلك.

وأمّا عن الآية: فبأنّ الاستدلال بها إن كان من جهة إطلاق أُحِلَّ و بَاشِرُوهُنَّ .

ففيه أوّلا: منع الإطلاق الصالح للدلالة، لوروده لمجرّد بيان رفع المنع السابق، ونسخ حكم تحريم إتيان النساء في ليالي شهر رمضان.

وثانيا: منع شموله للجزء المقارن للفجر من الليل لانصرافه إلى ما شاع في ليالي هذا الشهر من وقوع إتيان النساء في غير الجزء الأخير من الليل.

وثالثا: منع منافاة الآية لما ندّعيه من وجوب الغسل عن الجنابة مقدّمة للكفّ عن تعمّد البقاء على الجنابة الّذي هو جزء للصوم أو مقدّمة لإحراز الطهارة الّتي هي شرط له، وعلى التقديرين فالمعتبر مقارنة هذين الأمرين لأوّل أجزاء الوقت وهو من حين طلوع الفجر، فوجوب الغسل قبل الوقت مقدّمي غيري، وإنّما يعقل ذلك حينئذ مع تحقّق الجنابة بوجود سببها قبل الوقت، والمفروض أنّ السبب لم يوجد بعد وهو يريد إيجاده في الجزء الأخير من الليل المتصل بأوّل الوقت، أو بما لا يسع إيقاع الغسل فيه

ص: 174


1- الوسائل 57:10 الباب 13 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 3.
2- الوسائل 64:10 الباب 16 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 5.
3- الوسائل 58:10 الباب 13 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 4.

وهو زمان فارغ عن حكم تكليفي أو غير مناف لمفاد الآية وهو إباحة الرفث والمباشرة الممتدّة إلى أوّل الوقت، فلا مانع من إطلاقها الشامل لهذا الجزء الأخير من الليل أيضا.

غاية الأمر أنّه بهذا الفعل يكون تاركا للصوم المكلّف به من حين دخول وقته فيكون عاصيا من هذه الجهة وإن كان هذا الترك خارجا عن اختياره، نظرا إلى أنّه متولّد عن فعله الاختياري.

إلّا أن يقال: قاعدة وجوب المقدّمة كما تقتضي وجوب إيجاد ما ليس بموجود من المقدّمات فكذلك تقتضي وجوب إبقاء ما كان موجودا منها، والطهارة الحدثيّة قبل هذه المباشرة كانت موجودة حال الخطاب بالصوم وإن كان قبل دخول وقته فيجب إبقاؤها، ويلزم منه حرمة إعدامها إختيارا كما في محلّ الفرض. وقضية ذلك حينئذ تطرّق التخصيص إلى الآية بهذه القاعدة، وبطل معه الاستدلال بها، بل لنا منع العصيان أيضا بملاحظة ما تقرّر عندنا في المطالب الأصوليّة من منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار خطابا وعقابا في مثل هذه الصورة التي هي عبارة عن كون الامتناع العرضي المسبّب عن الاختيار غير مقدور على رفعه مع عدم سبق دخول الوقت أو التكليف بالفعل عليه، بدعوى: أنّ طروّ هذا الامتناع ممّا ينهض كاشفا عن عدم توجّه الخطاب بهذا الصوم من أوّل الليل التفاتا إلى عدم جواز الأمر بما علم انتفاء شرطه، فلا مانع من أن لا يكون له تكليف بهذا الصوم لخروجه عن المقدورية. ولا ينافيه وجوب قضائه عليه لعدم كونه بالأمر الأوّل فيكون منوطا بفوات الفعل الّذي من شأنه أن يكلّف به وإن لم يكلّف به فعلا لمانع، كما في صلاة النائم الفائتة منه تمام الوقت للنوم، فالمكلّف بإيجاده سبب الجنابة في الجزء المفروض من الليل ليس بعاص لا على هذا الفعل ولا على ترك الصوم وإن ثبت عليه القضاء بدليل الخارج. فهو نظير ما لو أوجد في نفسه فعلا مباحا قبل دخول وقت الصلاة موجبا لتعذّر الصلاة في وقتها كالنوم.

إلّا أن يقال: بأنّ تفويته التكليف بالصوم على نفسه بهذا الفعل ممّا يقبح عليه بحكم العقل والشرع فيكون حراما، بضابطة حرمة مقدّمة الحرام، وقضية ذلك حينئذ نهوض هذه القاعدة مخصصة للآية مخرجة لها عن الإطلاق، فسقط بها الاستدلال أيضا مثلا.

هذا كلّه إذا كان مباشرة النساء في الجزء الأخير من الليل ابتداء إيجاد سبب

ص: 175

الجنابة، وأمّا إذا كانت المباشرة حاصلة بعد ما وجدت الجنابة اختيارا أو اضطرارا الباعثة على وجوب الاغتسال عنها وتضيّقه في هذا الجزء من الليل فكذلك في عدم منافاة مفاد الآية وهو إباحة تلك المباشرة، فإنّ غاية ما هنالك على القول المختار أنّ الغسل في الجزء الأخير من الليل واجب مضيّق والمباشرة المذكورة ضدّ له، ومن المقرّر - في تحقيقاتنا الاصوليّة - انّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاص، فالمباشرة المذكورة باقية على إباحتها عملا بموجب الآية، وعلى فرض تسليم اقتضائه النهي فهذه قاعدة عقليّة تصلح لتخصيص الآية وتقييدها بما عدا الجزء الأخير من الليل، فسقط الاستدلال بها على كلّ تقدير.

ورابعا: منع بقاء إطلاق الآية بعد تسليم منافاة مفادها للقول المختار على حاله بعد ملاحظة ما تقدّم من الروايات والإجماعات في دليل القول المختار، نظرا إلى جواز تخصيص الكتاب أو تقييده بأخبار الآحاد، فإنّها على هذا التقدير حاكمة على الآية.

وإن كان(1) من جهة غاية تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود القاضية بامتداد حلّية الرفث وإباحة المباشرة إلى حينها.

ففيه أوّلا: منع رجوع القيد إلى ما عدا الأكل والشرب، وظهور رجوعه إلى جميع الجمل محلّ كلام ولعلّه ليس بمسلّم، خصوصا مع ملاحظة ما نصّ عليه بعض أساطين الفن كالوحيد البهبهاني(2) في هذا المقام من «أنّ مذهب الشيعة والمعروف منهم إلّا من شذ كون القيد بعد الجمل المتعاقبة راجعا إلى خصوص الأخيرة».

وثانيا: أنّه على فرض ظهور القيد نوعا في الرجوع إلى الجميع فهو في الآية غير جائز الرجوع إلى الجميع، بملاحظة أنّ من الجمل المتقدّمة قوله عزّ و جلّ : وَ اِبْتَغُوا مٰا كَتَبَ اَللّٰهُ لَكُمْ (3) فإنه - واللّه أعلم - امر بطلب ما يستتبعه مباشرة النسوان في ليالي رمضان من الفضل والثواب، ومن هنا يمكن أخذ ذلك ممّا دلّ على استحباب المباشرة في تلك الليالي كما هو ثابت بأدلّة أخر وأفتى به أصحابنا رضوان اللّه عليهم، ورجوع القيد إلى هذه الجملة أيضا يقضي بامتداد استحباب ابتغاء الثواب إلى زمان طلوع الفجر

ص: 176


1- عطف على قوله: «وأمّا عن الآية: فبأنّ الاستدلال بها إن كان... الخ».
2- مصابيح الظلام 26:4.
3- البقرة: 187.

وسقوط استحبابه بل إباحته من حين الغاية وما بعدها، وهو كما ترى ممّا يضحك به الثكلى، وإذا لم يجز رجوعه إلى تلك الجملة أيضا كان كاشفا عن انقطاعه عمّا قبل الأكل والشرب.

وثالثا: منع منافاة مفاد الآية حينئذ بالتقريب المتقدّم بيانه مفصّلا، وعلى تسليم المنافاة فالأدلة المقامة على القول المختار تنهض مخصصة للآية وقاضية باختصاص القيد بالجملة الأخيرة.

وأمّا عن الأخبار فبأنّها غير صالحة لمعارضة ما سبق، لكون أكثرها عمومات قابلة لتخصيصها بغير صورة تعمّد البقاء على الجنابة، وموهونة بالإجماعات المنقولة ومصير المعظم إلى الخلاف، ومحتملة لخروجها مخرج التقية لما عرفت من التصريح بكون الحكم هنا ممّا انفرد به الإماميّة كما نصّ عليه أيضا الوحيد البهبهاني، قائلا: «وبالجملة لا تأمّل في كون المنع مخالفا لرأي جميع العامّة مطلقا، سواء كان هذا المقدار من البقاء على الجنابة عمدا أو في نومه الأولى أو الثانية، بل أمارات التقيّة في بعضها واضحة، كالخبر المتضمّن لنسبة مداومة الجماع مع تعمّد البقاء على الجنابة إلى الصبح إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فإنّه لا يليق بشأنه صلى الله عليه و آله وسلم ومن البعيد في الغاية مداومته على الفعل المرجوح في هذه الليالي الشريفة الموضوعة للاهتمام بالعبادة»(1).

مع ما فيه من اقتضائه أنّه صلى الله عليه و آله وسلم كان يترك صلاة الليل الّتي كانت واجبة عليه كما نصّ عليه غير واحد من الأصحاب، وادّعى عليه الإجماع بعضهم كالوحيد البهبهاني، مضافا إلى ما فيه من نسبة القول بقضاء يوم إلى الأقشاب، بناء على أنّ المراد بهم طائفة الشيعة فيكون ذلك حكاية عن الّعامّة حيث يطعنون به على الشيعة كما فهمه جماعة منهم الوحيد، قائلا: «مع أنّه نسب القول بقضاء يوم إلى الأقشاب مع أنه في غاية الظهور أنّ أحدا من العامة لم يقل بذلك. بل هو من خواصّ الشيعة، والوارد في أخبارهم المستفيضة عنهم لا غير، فظهر أنّ هذا كلام أهل السنّة يطعنون به على الشيعة» انتهى(2) وفيه احتمال آخر وهو كون المراد بالأقشاب العامّة العمياء، وبالمقالة الّتي أنكرها على نفسه ما حكاها أوّلا من أنّه قد كان رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم الخ، ومرجعه

ص: 177


1- مصابيح الظلام 26:4-27.
2- مصابيح الظلام 26:4-27.

إلى تكذيبهم في تلك المقالة، فيكون المراد بقوله: «يقضي يوما مكانه» إعطاء الحكم المخالف لهم الذي كانوا ينكرونه وبيان الواقع، فتكون الرواية على هذا التقدير من أدلّة القول المختار.

ولقد أجاد العلّامة الطباطبائي في مصابيحه في ردّ الأخبار وبالغ فيه فجمع فيه الوجوه المذكورة في كلام القوم متفرّقة، حيث قال: «وأمّا الأخبار فظاهرها الجواز من غير كراهة وهو مقطوع ببطلانه، وفي جملة منها نسبة البقاء على الجنابة إلى الصبح في ليالي شهر رمضان إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بما يدلّ على المداومة وتكرّر الوقوع، وهذا لا يليق بمنصب النبوّة وعظم قدر النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فإنّ فيه مع المداومة على المكروه من النوم على الجنابة والإصباح جنبا تأخير صلاة الغداة عن أوّل وقتها، بل ترك صلاة الليل مع وجوبها عليه كما يقتضيه رواية حمّاد، فيتعيّن حملها على الإنكار أو التعجّب أو مقاربة الفجر، أو حمل الفجر فيها على الفجر الأوّل، أو الحمل على التقية، وهو الأصوب، لتضمّن بعضها نقل ذلك عن عائشة، ولموافقة ما تضمّنه من الحكم لمذهب العامّة ورواياتهم المشهورة، ومن ثمّ عد المرتضى وغيره الحكم بخلافه ممّا انفردت فيه الإماميّه، وكيف كان فالمذهب هو المنع» انتهى(1).

ومراده بما تضمّن نقل ذلك عن عائشة ما نقل عن الصدوق رحمه الله من أنّه روى عن إسماعيل بن عيسى، عن الرضا عليه السلام «عن رجل أصابته جنابة في شهر رمضان، فنام حتى يصبح أيّ شيء عليه ؟ قال: لا يضرّه ولا يفطر ولا يبالي - إلى أن قال: - قالت عائشة: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أصبح جنبا من جماع من غير احتلام، قال: لا يفطر ولا يبالي»(2).

قال الوحيد البهبهاني - بعد ما نقل ذلك -: «انظر إلى أنّه عليه السلام كيف روى عن عائشة ذلك ثمّ أكد بما أكد، مع أنّه ورد عنهم أنّها كانت شغلها الكذب على الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ووضع الأحاديث والأحكام» انتهى(3).

وفي حكم الجنب الحائض والنفساء إذا طهرتا قبل الفجر، فيجب عليهما الغسل للصوم ويفسد الصوم بتركه عمدا، وفاقا لكشف الغطاء والمصابيح والمناهل وشرح

ص: 178


1- مصابيح الاحكام: 97 (مخطوط).
2- الوسائل 59:10 الباب 13 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 6.
3- مصابيح الظلام 28:4.

المفاتيح والحدائق ومحكيّ المختلف والتحرير والمنتهى والتذكرة والذكرى والبيان والدروس والألفيّة ومعالم الدين وفوائد الشرائع وجامع المقاصد وحواشي التحرير والإرشاد(1) والجعفرية والطالبيّة والجامعيّة ومنهج السداد(2) والمقاصد العليّة(3).

وفي معناه ما عن الإشارة من اشتراط الطهارة من الجنابة والحيض والاستحاضة في صحّة الصوم(4) وعن الروض كما عن الحديقة أنّه عزاه إلى المشهور(5) وعن المقاصد نفي الخلاف عنه(6) ولعلّ المراد به عدم العثور على المخالف أو عدم وجود المخالف الناصّ ، وإلّا ففي المصابيح: «أنّ هذا الحكم ممّا لم يذكره القدماء سوى الحسن وكتب المتقدّمين كالمقنعة والنهاية والمبسوط والخلاف والجمل والإنتصار والمراسم والكافي والمهذّب و الوسيلة والغنية والسرائر خالية عن اشتراط الصوم بغسل الحيض والنفاس ووجوبهما فيما يجب منه» انتهى(7).

لكن لا يخفى عليك أنّ ذلك منهم كما أنّه ليس بصريح في المخالفة كذلك ليس بظاهر فيها كما قد يتوهّم، لجواز كون عدم تعرّضهم لهذا الحكم في الحائض بعد تعرّضهم له في الجنب من جهة بنائهم فيهما على المشاركة في الأحكام، كما يرشد إليه ما في كلام غير واحد من تساويهما في غالب الأحكام، أو من جهة اعتمادهم على فحوى ما دل على وجوب الغسل للصوم على المستحاضة كما تمسّك به ههنا غير واحد أيضا، هذا مع توجّه المنع إلى عدم تعرّضهم لهذا الحكم لما قيل: من أنّه قد يستفاد من كلام متقدّمي الأصحاب ومتأخّريهم وجوب غسل الحائض والنفساء بمثل ما تقدّم نقله عن الإشارة، فانّهم ذكروا أنّ من شروط وجوب الصوم الخلوّ عن الحيض والنفاس، ومن شروط صحّته الطهارة منهما ومن الجنابة كذا ذكره العلّامة الطباطبائي في حاشية

ص: 179


1- كشف الغطاء 182:2، مصابيح الأحكام: 96 (مخطوط)، مصابيح الظلام 30:4، الحدائق 13: 123، المختلف 410:3، التحرير 105:1، المنتهى 343:2، التذكرة 292:1، الذكرى 249:1، البيان: 21، الدروس 190:1، الالفيّة والنفليّة: 42، معالم الدين 229:1، فوائد الشرائع: 15، جامع المقاصد 344:1، نقل عنه في مصابيح الاحكام: 97 (مخطوط)، الإرشاد 229:1.
2- نقل عنهم في مصابيح الأحكام: 97 (مخطوط).
3- المقاصد العلية: 75.
4- إشارة السبق: 115.
5- الروض 239:1، نقل عنه في المصابيح: 197
6- المقاصد العلية: 75.
7- مصابيح الأحكام: 97 (مخطوط).

مصابيحه(1).

نعم عن المحقّق في المعتبر التردد في ذلك(2) وعن جامع ابن سعيد نسبته إلى الرواية(3) وعن نهاية العلّامة الميل إلى العدم جاعلا للوجوب احتمالا(4) وفي المصابيح:

«قد يظهر التردّد من التذكرة في كتاب الصوم والذكرى في مباحث الحيض»(5).

فظهر أنّه لا مخالف في المسألة يكون جازما بخلاف ما قلناه، مع أنّه ليس لهذا القول مستند صالح للتعويل عليه سوى الأصل وإطلاق قوله عزّ و جلّ : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (6).

ويدفعه: أنّ الأصل لا مجال إليه مع وجود مستند القول المشهور، والتمسّك بالإطلاق إنما يستقيم بعد تبيّن مسمّي اللفظ وتحقّقه وهو مع احتمال مدخليّة الكفّ عن البقاء على حدث الحيض والنفاس عمدا فيه، أو مدخليّة الطهارة عن هذين الحدثين فيه ليس بمعلوم التحقق، فلا إطلاق حينئذ ينفى به احتمال مدخليّة شيء زائد على المسمّى خارج عنه معه.

ولا يبتني ذلك على القول بكون اللفظ اسما للصحيحة، إذ على القول بالأعمّ أيضا قد يشك في تحقّق ماهية المسمّى عند الشك في مدخلية شيء شطرا أو شرطا.

فالأقوي إذن هو القول المشهور كما عرفته، والعمدة من مستنده ما في زيادات بابي الحيض والاستحاضة من التهذيب عن عليّ بن الحسن، عن عليّ بن أسباط، عن عمّه يعقوب بن سالم الأحمر، عن أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إن طهرت بليل من حيضتها ثمّ توانت أن تغتسل في شهر رمضان حتّى أصبحت، عليها قضاء ذلك اليوم»(7) والدلالة على المطلوب واضحة باعتبار لفظ «التواني» الظاهر في التقاعد عن فعل الواجب، وإيجاب القضاء المقتضي لتحقّق الخلل في الاداء.

نعم قد يناقش في سندها فتارة من جهة اشتماله على أبي بصير المشترك بين الضعيف وغيره، واخرى من جهة اشتماله على بعض مخالفي المذهب.

ص: 180


1- مصابيح الأحكام: 97 (مخطوط).
2- المعتبر 226:1.
3- الجامع للشرائع: 156.
4- نهاية الإحكام 119:1.
5- مصابيح الأحكام: 98 (مخطوط).
6- البقرة: 185.
7- التهذيب 393:1/1214.

ويدفعها في الأوّل: منع اشتراك أبي بصير بين الضعيف وغيره أوّلا، وإن كان ذلك معروفا فيما بين المتأخّرين تراهم يردّون الحديث كثيرا مّا لأجل اشتراك أبي بصير بين الضعيف الّذي هو يوسف بن الحرث المجهول وبين غيره الّذي هو ثلاثة رجال كلّهم ثقات، وهذا شيء لا مستند له إلّا اشتباه الشيخ على ما ضبطه في الوجيزة قائلا: «إنّ ما مرّ عن الشيخ من قوله: يوسف الحرث يكنّى أبا بصير، سهو من قلمه» واحتجّ لما في الكشّي: أبو نصر بن يوسف بن الحرث بتريّ . وقال في موضع آخر: هكذا في نسخ هذا الكتاب بأجمعها عندنا وهي متعدّدة مصحّحة وغير مصحّحة، واشتبه على الشيخ رحمه الله في أصحاب الباقر عليه السلام من رجال الشيخ فقرأ أبو بصير يوسف بن الحرث، وتبعه غيره مثل العلّامة في الخلاصة، فصار على اشتباههم أبو بصير أربعة، فإذا وقع في روايتهم حكموا بضعف الحديث، وهذا خلاف الواقع فإنّهم ثلاثة، والثلاثة أجلّاء ثقات والحديث صحيح، وقد خفى هذا على جميع الأعلام» انتهى(1).

وعلى تقدير الاشتراك بوجود رابع فلا ريب انّ الإطلاق ينصرف إلى الثقة، كما هو المقرّر عندهم في غير الموضع ونصّ عليه غير واحد هنا بالخصوص.

وفي الثاني إنّ المراد بمخالف المذهب إن كان عليّ بن الحسن، ففيه: أنّه وإن كان فحطيّا غير أنّه في غاية الوثاقة كما شهد به جماعة من الأساطين، فعن النجاشي: «أنّه كان فقيه أصحابنا بالكوفه ووجههم وثقتهم وعارفهم بالحديث، والمسموع قوله فيه، سمع منه شيئا كثيرا ولم يعثر له على زلّة فيه ولا ما يشينه، وقلّ ما روى عن ضعيف وكان فطحيّا»(2).

وعن الفهرست: «فطحيّ المذهب كوفي، ثقة، كثير العلم، واسع الأخبار، جيد التصانيف، غير معاند، وكان قريب الأمر إلى أصحابنا الإماميّة القائلين بالإثني عشر، وكتبه في الفقه مستوفاة في الأخبار حسنة»(3).

وعن محمّد بن مسعود: «أمّا عليّ بن الحسن بن فضّال فما رأيت فيمن لقيت بالعراق وناحية خراسان أفقه ولا أفضل من عليّ بن الحسن بالكوفة، و كان أحفظ الناس. ولم يكن كتاب عن الأئمّة عليهما السلام من كلّ صنف إلّا وقد كان عنده، إلّا أنّه كان

ص: 181


1- لا يوجد لدينا.
2- رجال النجاشي: 257.
3- الفهرست: 216.

يقول بعبدالله بن جعفر ثمّ بأبي الحسن عليه السلام وكان من الثقات» انتهى(1).

وإن كان(2) عليّ بن أسباط فهو أيضا وإن كان فطحيّا لكنّه ثقة على ما شهد به غير واحد، بل المعروف أنّه رجع عن هذا المذهب، فعن النجاشي: «أنّه كوفيّ ثقة، وكان فطحيّا جري بينه وبين عليّ بن مهزيار رسائل في ذلك، رجعوا في ذلك إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام فرجع علي بن أسباط عن ذلك القول وتركه»(3).

وعن التعليقة: «الأظهر رجوعه كما قاله النجاشي والخلاصة، والنجاشي أضبط من الكشي(4) انتهى. وذكره غيره، ويظهر منهم البناء على ترجيح شهادة النجاشي على ما شهد به الكشي من أنه مات على مذهبه».

وبالجملة فالرواية موثّقة في غاية الوثاقة كما صرّح به العلّامة الطباطبائي، قائلا:

«والحديث موثّق في أعلى درجات التوثيق»(5) فالمسألة بحمد الله واضحة.

وقد يستدلّ عليها أيضا: بأنّ الحيض قد أوجد حالة مانعة من الدخول في الصوم، فالأصل بقاؤها حتّى يحصل العلم برفعها، ولم يحصل إلّا بعد الغسل، فيكون ما قبله مندرجا تحت الأصل.

وبأنّ اشتغال الذمّة بالعبادة يستدعي العلم بتحقّق الماهيّة المعتبرة شرعا.

وبأنّ المرأة إذا انقطع عنها دم الحيض تسمّى حائضا، بملاحظة أنّ المشتقّ لا يشترط فيصدقه بقاء المبدأ، فيجب الحكم بفساد صومها لعموم ما دلّ على فساد صوم الحائض.

والكلّ موضع نظر، أمّا الأوّل: فلأنّ الحيض إنّما أوجد حالة مانعة من التكليف بالصوم لا من مجرّد الدخول فيه، وقد ارتفعت هذه الحالة بانقطاع الدم جزما، لتوجّه الخطاب إليها حينئذ نصّا وفتوى وعملا، والغسل على القول باعتباره شرط لصحّة العمل المكلّف به لا للتكليف.

وأمّا الثاني: فلأنّ العلم بتحقّق الماهيّة المعتبرة شرعا أعمّ من الشرعي، بأصل

ص: 182


1- راجع اختيار معرفة الرجال 812:2.
2- عطف على قوله: «وفي الثاني أنّ المراد بمخالف المذهب إن كان عليّ بن الحسن الخ».
3- رجال النجاشي: 252.
4- راجع تعليقة منهج الرجال: 226.
5- مصابيح الّاحكام: 98 (مخطوط).

البراءة النافي لمدخليّة ما شك في جزئيته أو شرطيته للماهية المعتبرة المستفاد عن قوله: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نصّ » أو «يرد فيه نهي» - على اختلاف الروايات - علم شرعي، فإنّ مرجع الشك - على احتمال كون الكفّ عن البقاء على حدث الحيض جزءا للماهيّة المخترعة الشرعيّة أو كون الطهارة عن هذا الحدث شرطا لها - إلى أنّ هذه الماهيّة هل اخترعها الشارع مقيّدة بهذا الجزء أو الشرط، أو اخترعها مطلقة بالنسبة إليهما؟ ومقتضى الرواية الحكم بإطلاقها وتجرّدها عن هذين القيدين إلى أن يرد فيه ما دلّ على التقييد من أمر أو نهي، والقول بأنّ الأصل لا يجري في ماهيّات العبادات غير مسموع بموجب ما ذكرناه، فيكون هذا العلم الشرعي قاطعا للاشتغال.

وأمّا الثالث: فبمنع الصغرى تارة، ومنع الكبرى اخرى، فإنّ المشتق يعتبر في صدقه بقاء المبدأ على ما تقرّر في محلّه، مع توجّه المنع إلى ابتناء الصغرى على تلك القاعدة، لمنع كون مبدأ هذا المشتقّ في إطلاقات أهل الشرع هو سيلان الدم بل مبدأه الحدث الناشى عن دم الحيض، كما يومئ إليه قولهم: «يجب على الحائض أن تغتسل» وهذا المبدأ باق إلى أن تغتسل.

وممّا يرشد إلى أنّ صدق هذا المشتق لأجل ما ذكرناه لا لأجل أنّ عدم ب قاء المبدأ غير مضرّ في الصدق، إنّه بعد الاغتسال غير صادق جزما وليس ذلك إلّا لأجل أنّ مبدأه الحدث المذكور وهو غير باق بعد الاغتسال وبقاء المبدأ شرط في الصدق.

ولو سلّم فالتمسّك بعموم ما دلّ على فساد صوم الحائض في غير محلّه، فإنّ ذلك إنما دل على فساد صوم الحائض لأجل انتفاء الأمر رأسا، لأنّ غايته الدلالة على أنّ دم الحيض مانع عن التكليف بالصوم ما دام موجودا، ومن البيّن ارتفاع هذا المدلول بمجرّد انقطاع الدم لتوجّه التكليف به حينئذ إليها، فما بعد انقطاع الدم خارج عن مورد هذا العامّ جزما، ومعه لا معنى للتمسّك بعمومه.

فدليل المسألة منحصر في الخبر المتقدّم المعتضد بالشهرة ونفي الخلاف، وهذا الخبر وإن ورد في الحائض غير أنّ النفساء أيضا ملحقة بها، لما هو المعهود من طريقة المتشرّعة تساويهما في جميع الأحكام، كما نصّ عليه غير واحد من أساطين الأصحاب وادّعوا فيه الإجماع على حدّ الاستفاضة، هذا مع ما قيل من أنّ النفاس في

ص: 183

الحقيقة حيض محتبس، وفي الحدائق: «إليه يشير بعض الأخبار»(1).

ويمكن أن يؤخذ من أدلّة اشتراط الصوم بالأغسال الثلاثة - الجنابة والحيض والنفاس - ما رواه في الوسائل عن الصدوق في عيون الأخبار والعلل بأسانيده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «إذا حاضت المرأة لا تصوم ولا تصلّي، لأنّها في حدّ نجاسة، فأحبّ الله أن لا يعبد إلّا طاهرا، ولأنّه لا صوم لمن لا صلاة له» الحديث(2).

فإنّ قوله عليه السلام: «لا صوم لمن لا صلاة له» قضيّة عامّة مفادها نفي ماهيّة الصوم أو نفي صحّته - على اختلاف الرأيين - عمّن لا صلاة له، ومن البيّن أن كلّا من الجنب والحائض والنفساء ما لم تغتسل لا صلاة له، أي لا يوجد منه ماهيّة الصلاة على تقدير كون «لا» لنفي الحقيقة، أو لا يصحّ منه الصلاة على تقدير كونها لنفي الصحّة، فيلزم أن لا يوجد منه ماهية الصوم أو لا يصحّ منه الصوم، وعلى التقديرين يتمّ اشتراط الصوم بالغسل لكونه شرطا للماهيّة أو الصحّة، بل العمل بتلك الرواية - كما هو الأظهر - يقضي بإجراء الحكم في قضاء رمضان أيضا كما عليه المعظم وظاهر بعضهم عدم الخلاف فيه وإن قيل: ربّما يستفاد من المعتبر(3) عدم توقّفه عليه بل إجرائه في كلّ صوم واجب غير رمضاني، وجب بنذر أو إجارة أو نحوها، بل الصوم المندوب أيضا، ضرورة أنّ كلّ ذلك صوم، وعموم «لا صوم» يقضي بنفي الجميع عمّن لا صلاة له، وهو الجنب والحائض والنفساء ما لم يغتسلوا.

وحكي نقل الإجماع عن جماعة عليه في الواجب مطلقا، ويظهر من بعضهم الإجماع عليه في مطلق الصوم حتى المندوب، كالمحكيّ عن العلّامة في المسائل المدنية حيث قال: «لا يصحّ صوم من أصبح جنبا متعمّدا عند علمائنا لا ندبا ولا فرضا، لفوات الشرط - وهو الطهارة - من أوّله»(4).

وفي الحدائق: «وجوب الغسل للواجب منه وشرطيته للمستحبّ هو المشهور بين الأصحاب»(5) وقال في موضع آخر: «وأمّا شرطيّة الغسل للصوم المستحبّ فهو قول

ص: 184


1- الحدائق 310:3.
2- الوسائل 344:2 الباب 39 من ابواب الحيض ح 2.
3- المعتبر 683:2.
4- حكاه عنه في مصابيح الأحكام: 98 في الهامش.
5- الحدائق 57:3.

الأكثر من اصحابنا»(1).

وفي المصابيح: «الحكم في الثلاثة يعمّ جميع أقسام الصوم الواجب وفاقا للمشهور، خلافا لجماعة من المتاخّرين حيث استظهروا الاختصاص بصوم رمضان وقضائه، للأصل واختصاص النصّ بهما، وهو مسبوق بالإجماع، فإنّ مناط المنع عند الأصحاب إمّا اشتراط رفع هذا الحدث في مطلق الصوم حتّى المندوب - كما هو ظاهر كلامهم في كتاب الصوم، حيث جعلوا البقاء على الجنابة ونحوها منافيا للصوم كالأكل والشرب والجماع، وأوجبوا على الصائم الكفّ عن الجميع ونقلوا عليه الإجماع كما في الوسيلة والغنية وغيرهما، وحكوا الفرق بين الواجب وغيره عن الحسن بن صالح بن حيّ وغيره من فقهاء الجمهور - أو اشتراطه في الصوم الواجب مطلقا مع قطع النظر عن غيره، كما يقتضيه قطعهم بوجوب الغسل الواجب من الصوم من غير تفصيل بين أقسامه مع نقل الإجماع على ذلك في الروض وحواشي التحرير وغيرهما، وكيف كان فالعموم في هذا النوع معلوم من فتاوي الأصحاب وإجماعاتهم المتطابقة عليه» انتهى(2)والمخالفة في الصوم الواجب غير صوم رمضان وقضائه محكيّة عن المعتبر والمدارك والرياض(3) وغيرها، وعن منتهى العلّامة(4) أنّه يظهر منه التوقّف، كما أنّها في المندوب محكيّة عن هؤلاء أيضا.

والأقوى هو الاشتراط في الجميع لما عرفت، ولعلّنا نتعرّض لتفصيل المسألة وإيراد الأخبار المتعلّقة ببعض الأقسام المذكورة في كتاب الصوم إن شاءالله.

واعلم أنّ كثيرا من الأصحاب بنوا على أنّ ما يجب شرطا للعبادة لا يكون وجوبه إلّا بعد دخول وقت العبادة المشروطة به، تعليلا بعدم تعقل الوجوب للغير قبل وجوب ذلك الغير، وامتناع وجوب الشرط قبل وجوب المشروط، وعدم توجّه الخطاب بالغير قبل وقته. فأشكل عليهم في الغسل الواجب للصوم لامتناع وجوبه بعد دخول الوقت، واستلزامه تأخّر الغسل عن الصوم، وعدم الخطاب بالصوم قبل وقته. فاختلفوا في التفصي عنه على وجوه صارت أقوالا في المسألة:

ص: 185


1- الحدائق 60:3.
2- مصابيح الأحكام: 98 (مخطوط).
3- المعتبر 656:2، المدارك 56:6، الرياض 314:5.
4- المنتهى 566:2.

منها: القول بالوجوب النفسي، صار إليه جماعة.

ومنها: القول بتخصيص وجوب الغسل بالجزء الأخير من الليل المقارن للغسل المقدّر بما يسعه، تنزيلا لآخر الوقت هنا منزلة دخول الوقت في غيره، وهو على ما وجدناه في كلام جماعة - وحكاه في المصابيح(1) عنهم وعن غيرهم - خيرة الشرائع والقواعد والدروس والتذكرة ونهاية الإحكام(2) وكفاية الطالبين ومنهج السداد وحواشي الإرشاد والجعفرية والطالبيّة(3) والمقاصد العليّة والروض والمدارك(4).

ومنها: ما عليه شيخنا البهائي رحمه الله في الحبل المتين(5) من صرف وجوب الغسل للصوم عن ظاهره، وجعل الغاية توطين النفس على إدراك الفجر طاهرا.

ومنها: ما سلكه ابن إدريس - المحكيّ عنه في السرائر والرسالة التي وضعها في أنّ غسل الجنابة واجب لغيره لا لنفسه - من كون إيقاعه بنية الندب مجزيا، نافيا لوجوبه قبل الوقت مطلقا مع اعترافه بأنّ الصوم لا يتمّ إلّا به، وتصريحه بأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب، فإنه بعد ما أثبت وجوب غسل الجنابة لغيره أورد على نفسه نقضا وقرّره: «بأنّه إذا كان غسل الجنابة لا يجب إلّا عند دخول وقت الصلاة على ما قرّرته، فما تقول إذا جامع الإنسان زوجته في ليل رمضان وترك الاغتسال متعمّدا حتى طلع الفجر، وقال: أنا لا اريد أن أغتسل، لأنّ الاغتسال عندك قبل طلوع الفجر مندوب غير واجب، وأنا لا أريد أن أفعل المندوب الّذي هو الاغتسال في هذا الوقت الّذي هو قبل طلوع الفجر بلا تأخّر ولا فصل.

فإن قلت: يجب عليك في هذا الوقت الاغتسال، سلّمت المسألة بلا إشكال. لأنه غير الوقت الّذي عينته لوجوب الاغتسال. وإن قلت: لا تغتسل، خالفت الإجماع وفيه ما فيه من الشناع، وعندنا بأجمعنا أنّ القيام لا يصحّ إلّا للطاهر من الجنابة قبل طلوع الفجر، وأنّه شرط في صحّة صيامه بغير خلاف، فيجب حينئذ الاغتسال لوجوب

ص: 186


1- مصابيح الأحكام: 98.
2- الشرائع 11:1، القواعد 178:1 و 209، الدروس 86:1، التذكرة 148:1، نهاية الإحكام 105:1.
3- نقل عنهم في مصابيح الأحكام: 98 (مخطوط).
4- المقاصد العليّة: 75، روض الجنان 234:1، المدارك 40:2-41.
5- الحبل المتين 241:1.

ما لا يتمّ الواجب إلّا به».

ثمّ أجاب عن ذلك بوجهين:

أحدهما: أنّ الامّة بين قائلين بوجوب هذا الاغتسال في جميع الشهور والأوقات وقائل بوجوب فيما عيّنّاه وشرحناه، وليس هاهنا قائل ثالث يقول بأنّه ندب في طول أوقات السنة ما عدا الأوقات الّتي عينتموها وواجب في ليالي شهر رمضان.

وثانيهما: أنّ قوله: «كلّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب» صحيح، إلّا أنّ مسألتنا ليست من هذا الإلزام بسبيل ولا من هذا القول بقبيل، لأنّ الواجب الّذي هو صيام شهر رمضان يتمّ من دون نيّة الوجوب للاغتسال، وهو إن أغتسل لرفع الحدث مندوبا قربة إلى اللّه تعالى فقد ارتفع حدثي وصحّ صومي بلا خلاف، فقد تمّ الواجب من دون نيّة الواجب الّذي ألزمتني بأنّه لا يتمّ الواجب إلّا به، وأنت قلت: لا يتمّ الواجب إلّا به وقد أريتك أنّ الواجب يتمّ من دونه» انتهى(1).

وهذا أضعف الأقوال من حيث إنّه التزام بالتخصيص في مسألة عقليّة وهي وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به، الّذي اتّفقت العقول على امتناعه، ومع ذلك فهو عدول عمّا بني عليه أوّلا من وجوب الاغتسال لامور منها الصيام، فإنّه إذا كان الغسل مندوبا إلى طلوع الفجر وامتنع وقوعه من حين طلوع الفجر فأيّ شيء يبقى موردا للوجوب ؟

وأمّا ما أورد عليه العلّامة في المنتهى قائلا: «ومن أعجب العجائب إيجاب الغسل عليه والنيّة وأن لا ينوي نيّة الوجوب بل الندب، فللمغتسل أن يقول: إنّي لا أفعله فإن سوّغ له الصوم من دون اغتسال فهو خلاف الإجماع، وإلّا لزمه القول بالوجوب أو القول بعدم وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به، وإن كان واجبا فكيف ينوي الندب في فعل واجب وعندك الفعل إنما يقع على حسب القصود والدواعي، فانظر إلى هذا الرجل كيف يخبط في كلامه ولا يحترز عن التناقض فيه»(2). فليس في محلّه، لما عرفت من أنّ مآل كلامه إلى التفصيل في مسألة وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به.

وكيف كان فهذا القول ضعيف جدّا، ودونه في الضعف أو مثله الأقوال الأخر، ومن هنا صار المحققون وكلّ من عاصرناهم من مشايخنا وغيرهم إلى وجوب الغسل من

ص: 187


1- السرائر 131:1-132.
2- المنتهى 259:2.

حين وجود السبب، سواء صادف وجوده لأوّل الليل أو آخره أو غيرهما. وعزاه في المصابيح - بعد اختياره إياه - إلى جماعة من المحقّقين منهم المحقّق الأردبيلي، والسيّد الفاضل صاحب الرجال، والقاسانيّين في المفاتيح وشرحه، وجميع من عاصرهم من المشايخ، ثمّ قال: «وهو ظاهر العلّامة في الإرشاد والشهيد في جميع كتبه، بل هو قضيّة كلام المعظم، فإنّهم اشترطوا في صحّة الصوم تقديم الغسل ولم يعيّنوا له وقتا خصوصا، والتحديد بآخر الليل لم يعرف لأحد من الفقهاء قبل المحقّق، وقد وافقه العلّامة في أكثر كتبه مع قوله بوجوب الغسل لنفسه، واعترض بالتنافي بين الحكمين وحكى عنه الاعتذار عن ذلك بأنّ المراد تضييق الوجوب آخر الليل لا اختصاص الوجوب به. قال:

ومعناه أنّ الصوم ليس موجبا للغسل بل يتضيّق الوجوب بسببه، وإنّما الموجب له الجنابة، والغرض بيان كيفيّة الوجوب لا بيان ماهيّته» انتهى(1).

ولا يذهب عليك أنّ هذا البحث وإن كان في كلامهم مفروضا في غسل الجنابة غير أنّ تعليلاتهم المتقدّمة يقضي بعموم الحكم في سائر الأغسال الواجبة للصوم كما لا يخفى.

والأقوى عندنا الّذي ينبغي القطع به ما صار إليه المحقّقون من عدم اختصاص الوجوب بآخر الليل، بل يعمّ غيره إذا تحقق السبب الموجب له في غير الآخر وما قبله إلى أوّله، وذلك لأنّ الغسل يقتضي زمانا لوقوعه فيه ولا يجوز أن يكون ذلك الزمان من حين طلوع الفجر، لقضائه بخروج أوّل الوقت عن كونه أوّلا إن فرض تعلّق الخطاب بالصوم بعده وهو خلاف الفرض، أو تقدّم المشروط على شرطه في الوجود الخارجي وهو محال، فلابدّ وأن يكون ممّا قبل الطلوع، وذلك إمّا أن يكون بعض الليل على التعيين، أو بعضه على الإبهام، أو تمامه من حين تحقّق السبب، ولا سبيل إلى الثاني لامتناع التكليف بالمبهم، ولا إلى الأوّل لفقد الدلالة على التعيين من نصّ أو إجماع، وتحديده بآخر الليل المستلزم لخروج الغسل واجبا مضيّقا - مع أنّه خروج عن الأصل المقتضي للتوسعة فيما دار بين كونه موسّعا أو مضيقا على ما قرّر في محلّه - تحكم، وكون الغسل ممّا لا يتمّ الصوم الواجب إلّا به لا يقتضي أزيد من وجوب إيقاعه في زمان سابق على زمان وقوع الصوم، وذلك الزمان أمر مشترك بين جميع آنات الليل من

ص: 188


1- المصابيح: 99 (مخطوط).

حين وقوع السبب قابل لأن يتعيّن في ضمن الأوّل أو الآخر أو غيرهما، فتعيّن الثالث وهو المطلوب.

ودعوي عدم تعقّل الوجوب للغير قبل وجوب ذلك الغير مسلّمة من حيث الكبرى غير مسلّمة هنا من حيث الصغري، إذ لا مستند لها إلّا توهّم عدم توجّه الخطاب بالغير قبل وقته، وهو فاسد لأنّ ذلك إنّما يسلّم لو كان الوقت من مقدّمات وجوب الصوم ليكون الصوم واجبا مشروطا لا من مقدّمات الواجب وشروط صحّته ليكون الصوم واجبا مطلقا، ومن المقرّر في الأصول بطلان الاشتراط وامتناعه على العالم بالعواقب، فهو متى ما خاطب بفعل في وقت فيريد إيجاب ذلك الفعل على المدرك للوقت من حين الخطاب، سواء صدر منه الخطاب في الوقت أو قبله، من غير فرق في ذلك بين ما لو أتى بعبارة تقضي بكون الوقت شرطا للوجوب كما لو قال: «افعل في وقت كذا فعل كذا» أو بعبارة تقضي بكونه شرطا للواجب كما لو قال: «افعل الفعل الواقع في وقت كذا» فإنّ مفاد العبارتين بحكم القوّة العاقلة والوجدان واحد، وهو الطلب الفعلي من حين الخطاب المتعلّق بالفعل الواقع في وقت كذا خلافا لبعض فضلاء الأصول حيث فرّق بين الواجب المشروط والواجب المعلّق، بدعوى: إنّ الفرق بينهما أنّ التوقف في الأوّل للوجوب وفي الثاني للفعل - إلى أن قال -: «ففرق إذن بين قول القائل: إذا دخل وقت كذا فافعل كذا، وبين قوله: إفعل كذا في وقت كذا، فإنّ الأولى جملة شرطيّة مفادها تعلّق الأمر والإلزام بالمكلّف عند دخول الوقت، والثانية جملة طلبيّة مفادها إلزام المكلّف بالفعل في الوقت الآتي»(1). ثمّ قال: «وحاصل للكلام أنّه ينشأ في الأوّل طلبا مشروطا حصوله مجيء وقت كذا وفي الثاني طلبا حاليّا، والمطلوب فعل مقيّد بكونه في وقت كذا»(2).

وفيه: أنّ هذين المعنيين بحسب التعبير بينهما فرق واضح يدركه جميع الأذهان، غير أنّ الاختلاف في التعبير لا يصلح موردا للحكم، لكون العبرة باختلاف المعنيين بحسب اللبّ القائم بضمير المتكلّم والّذي يشهد به الوجدان أنّ مرجعهما بحسب اللبّ إلى أمي واحد.

ص: 189


1- الفصول الغروية: 80.
2- الفصول الغروية: 80.

وتوضيحه: أنّ الاحكام الشرعيّة تابعة للصفات الكامنة في الفعل، ومعلوم أنّ محلّ الصفة الكامنة من الفعل ما لوحظ بجميع مشخّصاته الّتي منها الزمان كالمكان، فالحسن من الفعل والمحبوب منه في نظر الشارع ما يقع في الزمان الّذي لاحظه معه وأخذه مشخّصا له، فلا حسن في غير ما يقع في ذلك الزمان كصلاة الظهر مثلا فإنها حسن بعد زوال الشمس وما لم تزل الشمس لا حسن فيها، ولا يتفاوت فيه الحال بين أن يأتي عند الخطاب بعبارة الواجب المعلّق فيطلب الفعل مقيدا بالزمان الّذي لاحظه معه ويقول: «أريد الصلاة الواقعة بعد الزوال» أو بعبارة الواجب المشروط فيجعل طلبه مقيّدا بذلك الزمان ويقول: «أريد بعد الزوال الصلاة».

وقضية ذلك أن يكون مريدا لمقدّمات ذلك الفعل من حين الخطاب به غير راض بترك شيء منها، من غير فرق فيه بين الواجب الموسّع والواجب المضيّق، وهذا هو وجه القول بوجوب مقدّمات الواجب المضيّق والواجب الموسّع الّذي لا يسع وقته لفعله وفعل المقدّمات معا.

ومن هنا تبين أنّ المقدّمة فيما جاز وجوبها قبل دخول وقت ذيها من الواجبات الموسعة، سواء كان الواجب موسّعا أو مضيقا، فهذا هو الوجه في وجوب الغسل للصوم في الليل، وممّا يكشف عن ذلك جواز قصد الوجوب في نيّة الصوم من أوّل الليل بل من أوّل الشهر.

[غسل الاستحاضة]
اشارة

ثمّ بقى عن الأغسال الواجبة المشترطة بها العبادة في الجملة غسل الاستحاضة مع غمس الدم القطنة، وغسل مسّ الميّت. أمّا غسل الاستحاضة فلهم فيه بالنسبة إلى الصوم كلام من جهات:

الجهة الاولى: في أصل وجوبه له وتوقّفه عليه،

فعن الحلّي والعلّامة والشهيدين والمحقّق الثاني والمحقّق الأردبيلي في موضع من مجمع الفائدة وجوبه له(1).

وفي المصابيح: «وجوب الغسل له وتوقّفه عليه في الجملة موضع نصّ ووفاق، ولا فرق في ذلك بين حالتيها العليا والوسطى لإطلاق الأصحاب القول بالاشتراط

ص: 190


1- الشرائع 197:1، النافع: 67، التحرير 4:1، نهاية الإحكام 127:1، البيان: 21، الدروس 1: 99، جامع المقاصد 73:1، مجمع الفائدة 35:5.

والوجوب إذا غمس دمها القطنة، وعن كثير منهم النصّ على إرادة العموم الشامل للحالتين»(1).

وعن جامع المقاصد(2) وحواشي التحرير ومنهج السداد والطالبيّة(3) والروض الإجماع على اشتراط صومها بالغسل مع الغمس سال الدم أو لم يسل، مع التصريح بالتعميم(4).

وعن جماعة منهم المحقّق الأردبيلي في موضع آخر من مجمع الفائدة وصاحب المدارك التوقّف في ذلك(5) وفي المناهل: «وحكي ذلك عن المبسوط والمعتبر»(6)وإطلاق ذلك أيضا يشمل الحالتين.

وعن بعض العبائر كعبارة الجامع والجعفرية والبيان التقييد بالكثرة(7) وظاهره الاختصاص بالحالة العليا، وفي المصابيح: «وهو شاذ أو محمول على ما يقابل القلّة كما جاء في غيرها مفسّرا بذلك، والنصّ مخصوص بالكثير ذات الأغسال»(8) وكأنّ مراده بالنصّ هنا وفيما تقدّم ما رواه المشايخ الثلاثة في الكافي والفقيه والتهذيب في الصحيح عن عليّ بن مهزيار قال: «كتبت إليه امرأة طهرت من حيضها أو من دم نفاسها في أوّل يوم من شهر رمضان، ثمّ استحاضت فصلّت وصامت شهر رمضان كلّه من غير أن تعمل ما يعمل المستحاضة من الغسل لكلّ صلاتين، فهل يجوز صومها وصلاتها أم لا؟

فكتب: تقضي صومها ولا تقضي صلاتها، إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان يأمر فاطمة الزهراء عليهما السلام والمؤمنات من نسائها بذلك»(9) بناء على أنّ الكتابة والإضمار لا يقدحان في الاعتبار كما هو المحقق، وكذلك اشتمالها على ما لا يقول به أحد وهو الحكم بعدم قضاء الصلاة المقتضي لصحّتها من غير غسل، مع احتمال كون لفظة «لا» زيادة من قلم الناسخ.

وأمّا احتمال كون العراد ب - «تقضي صومها ولا تقضي صلاتها» بيان أحكام الحائض لا المستحاضة ففي غاية البعد.

ص: 191


1- مصابيح الأحكام: 101 (مخطوط).
2- جامع المقاعد 73:1.
3- نقل عنهم في المصابيح: 101.
4- روض الجنان 238:1.
5- مجمع الفائدة 166:1، المدارك 19:1.
6- المبسوط 68:1، المعتبر 248:1.
7- الجامع للشرائع: 44، الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقق الكركي 1):91، البيان: 21.
8- مصابيح الأحكام: 101.
9- الوسائل 66:10 الباب 18 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

وأبعد منه احتمال قراءة الفعلين بصيغة المجهول، ليكون المراد: أنّ صومها يحكم بصحّته وصلاتها لا يحكم بصحّتهما، بل هذا في الحقيقة مقطوع بفساده، كدعوى معارضتها بإطلاق الأوامر الواردة بالصوم، فالقول المذكور لعلّه أقوى كما أنّه أحوط.

الجهة الثانية: في توقّف صوم المستحاضة على جميع الأغسال الواجبة عليها من النهاريّة والليليّة،

فيبطل بالإخلال بها كلّا أم بعضا، نهاريا أم ليليّا، وعدم توقّفه إلّا على البعض فلا يبطل بالإخلال بالبعض الآخر.

فعن ظاهر الأكثر توقفه على الجميع حيث أطلقوا فساد الصوم بترك ما يجب عليها من الغسل، وعن تذكرة العلّامة ودروس الشهيد وبيانه(1) القطع بتوقفه على غسلي النهار وعدم اشتراطه بغسل اللية المستقبلة لسبق انعقاده وامتناع تأخّر الشرط عن المشروط.

وعن المدارك(2) إنّه عزاه إلى المشهور، وصار إليه السيّدان في المصابيح(3)والمناهل مع تصريح الأوّل بالإجماع على عدم صحّة الصوم بدون غسل الفجر سال الدم أو لم يسل، قائلا: «ويشترط فيه تقدّم وجود السبب على صلاة الفجر، فلو تأخّر عنها لم يجب قطعا، ولا فرق في المتقدّم بين أن يكون قبل الفجر أو بعده، واحتمل ضعيفا في ظاهر الروض(4) الاختصاص بما تقدّم على الفجر لسبق انعقاد الصوم لو تأخّر» انتهى.

ويظهر من المحقق الكركي في عبارة محكيّة عنه في حواشي التحرير دعوى الإجماع على عدم الفرق بين ما بعد الفجر وما قبله، حيث إنّه بعد ما استظهر من الحواشي المنسوبة إلى الشهيد القول يأنّ الغسل إنّما يجب لصوم المستحاضة مع الغمس دون السيلان إذا كان قبل الفجر لا بعده، قال: «وهذا يكاد أن يكون مخالفا للإجماع، فإنّي لا أعلم مخالفا بين أصحابنا في أنّ المستحاضة يشترط في صحّة صومها فعل ما يلزمها من الأغسال النهاريّة، سواء الواحد وغيره صرّح بذلك جملة أصحابنا. ثمّ قال: ويمكن أن يقال: إنّه أراد بالفجر صلاة الفجر، وإنّ لفظ «الصلاة» سقط سهوا من قلم الناسخ، أو أنّ أحد تلامذته تصرّف فيها كما تصرّف في غيرها، وحينئذ فيستقيم

ص: 192


1- التذكرة 270:1، الدروس 99:1، البيان: 21.
2- المدارك 19:1.
3- مصابيح الأحكام: 222.
4- روض الجنان 239:1.

هذا القيد، لأنّ غمس القطنة لو كان بعد الصلاة لم يجب الغسل للصوم قطعا، لأنّ الغسل غير واجب هنا أصلا ورأسا بخلاف ما لوسال بعد(1) الصلاة فيكون قيدا حسنا» انتهى(2).

وعن العلّامة: إنه احتمل في النهاية(3) توقّفه على غسل الفجر خاصّة لسبق انعقاد صومها على غيره.

وعن صاحب المدارك(4) إنّه بعد ما نسب إلى المشهور نفي اشتراطه بغسل الليلة المستقبلة قال: «وفي توقّفه على غسل الليلة الماضية احتمالات، ثالثها: إن قدّمت غسل الفجر ليلا أجزأها عن غسل العشاءين وإلّا بطل الصوم».

وعن الشهيد الثاني في الروض(5) إنّه قطع به.

أقول: ظاهر الرواية المتقدّمة توقّفه على كلّ من غسلي الصلاتين من الظهرين والعشاءين مع السكوت عن غسل صلاة الفجر نفيا وإثباتا، لأنّه ليس غسلا لصلاتين، نظرا إلى اقتران قوله عليه السلام: «تقضي صومها» بما ذكر في كلام السائل من «أنّها لم تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لكلّ صلاتين» فيفيد بمقتضى دلالة التنبيه عليّة عدم إتيانها بالغسل لكلّ صلاتين للحكم، فكأنّه قال: «فسد صومها لأنّهما لم تأت بالغسل لكلّ صلاتين» فعلى القول بأنّ النفي الوارد على العامّ يفيد سلب العموم يكون قضيّة التعليل صادقة مع عدم إتيانها بشيء من غسلي النهار والليل، ومع عدم إتيانها بأحدهما خاصّة، وقضية ذلك توقفه على الجميع فيبطل بالإخلال بالكلّ أو البعض كما عزي إلى الأكثر.

وهذا بالقياس إلى الليلة المستقبلة واضح وأما بالقياس إلى الليلة الماضية فمقتضى ظاهر النصّ اندراجه في عموم التعليل أيضا، لأنّه أيضا غسل لصلاتين فيلزم بطلان الصوم الملاحق بالإخلال به وإن تخلّل غسل الفجر ليلا.

وقضيّة ذلك كون هذا الغسل شرطا لما قبله ولما بعده معا بل كونه شرطا لما بعده أقرب بالاعتبار كما لا يخفى، لكن عدم مصير الأصحاب - عدا ما عرفت من احتمال

ص: 193


1- كذا في الأصل والصواب: «قبل الصلاة» الخ، فتأمّل.
2- نقل عنه في مصابيح الأحكام 222:2.
3- نهاية الإحكام 129:1.
4- المدارك 19:1.
5- روض الجنان 239:1.

المدارك وجزم الروض به بشرط عدم تقدّم غسل الفجر ليلا - إلى القول بتوقّف الصوم على غسل الليلة الماضية مطلقا ممّا يوهن ظهور النصّ في توقّفه على هذا الغسل، فيبقى توقّفه على غسلي النهار والليلة المستقبلة سليما عمّا يوهنه.

والقول بسبق انعقاد الصوم وامتناع تأخّر الشرط عن المشروط في نفي توقّفه على غسل الليلة المستقبلة خاصّة ونفي توقّفه على غسل النهار أيضا عدا غسل الفجر لعلّه اجتهاد في مقابلة النصّ ، مع توجّه المنع إلى سبق الانعقاد في صورة عدم لحوق الغسل، إذ المفروض أنّ هذا الشرط شرط للصحّة لا للوجود، ومن الجائز أن يكون الصوم المامور به في نظر الشارع مقيّدا بثلاثة أغسال، يقع أحدها في وقت صلاة الفجر، والآخر في وقت الظهرين، والثالث في وقت العشاءين.

وقضيّة ذلك كون انعقاده وصحّته مراعى بلحوق الأغسال كلّها، فعدم لحوق بعضها يكشف عن عدم انعقاده رأسا، وهذا ممّا لا ضير فيه. وعلى فرض اعتبار المقارنة فيما بين الشرط ومشروطه فيلزم منه عدم توقّفه على غسل الليلة يتوجّه المنع إلى كون الشرط هو نفس الغسل الواقع ليلا، لجواز كون الشرط تعقّبه بذلك الغسل، نظير ما قالوه في تصحيح اشتراط البيع الفضولي بالإجازة المتأخّرة على القول بالنقل، فعدم لحوق الغسل حينئذ يكشف عن انتفاء الشرط. فالوجه حينئذ ما ذكرناه من توقفه على كل من الغسلين. وأما غسل الفجر وإن لم يدخل في الرواية حسبما عرفت لكن التوقّف بالقياس إليه يثبت بما عرفت من منقول الإجماع إن أفاد الوثوق والاطمئنان كما هو الأحوط.

الجهة الثالثة: [عدم اشتراط صحة الصوم المتوقّفة على غسل الفجر بتقديم الغسل على الفجر مع تقدّم سببه]
اشارة

أنّ المحكيّ عن ظاهر المعظم وصريح المدارك والذخيرة والحدائق(1) وشرح [المفاتيح] كما هو مختار المصابيح(2) والمناهل عدم اشتراط صحة الصوم المتوقّفة على غسل الفجر بتقديم الغسل على الفجر مع تقدّم سببه كما يشترط ذلك في الحائض والنفساء وغيرهما، وهو المستفاد من النصّ ، لأنّ الغسل المشترط في الصوم هو الغسل الّذي يجب للصلاة ولا يشترط فيه التقدّم على الوقت إجماعا كما نصّ عليه غير واحد، بل هو في غسل الظهرين والعشاءين ممتنع فكذلك الغسل

ص: 194


1- المدارك 19:1، الذخيرة: 70، الحدائق 59:3.
2- مصابيح الأحكام: 101 (مخطوط).

المشترط في الصوم، ومن هنا قال في الروض - على ما حكي -: «وإطلاقهم الحكم بتوقّف الصوم على الأغسال المعهودة يشعر بعدم وجوب تقديم غسل الفجر عليه للصوم، لأنّ المعتبر منه للصلاة ما كان بعد الفجر فليكن الصوم كذلك، لجعلهم الإخلال به مبطلا للصوم ولا يبعد ذلك وإن كان دم الاستحاضة حدثا في الجملة، لمغايرته لغيره من الأحداث على بعض الوجوه. ثمّ قال: واحتمل وجوب التقديم على الفجر لأنّه حدث مانع من الصوم فيجب تقديم غسله عليه كالجنابة والحيض المنقطع(1).

وعن صاحب المنهج أنّه استظهر ذلك، بل عن الذكرى ومعالم الدين القطع به، وعن جماعة كالعلّامة في النهاية والمحقّق الكركي في جامع المقاصد وفوائد الشرائع وحواشي التحرير(2) التوقّف هنا من كونه شرطا في الصوم فيتقدّم عليه كسائر الشروط، ومن أنّ اشتراطه في الصوم دائر مع الصلاة وجودا وعدما وتوسعا وضيقا، وليس كغيره من الشرائط ولذا صار غسل الظهرين شرطا كما اعترفوا به مع امتناع تقدّمه.

ثمّ هاهنا فروع:
الأوّل: على القول بوجوب التقديم ففي وجوب تأخيره إلى التضيّق اقتصارا على ما يحصل به الغرض

مع تقليل الحدث ورعاية لاتصال الغسل بالصلاة وعدمه حذرا عن لزوم العسر لو وجب التقديم بهذا الوجه وجهان، استوجه أوّلهما في المصابيح(3) وعن الروض(4) أنّه جعله أحوط، وعن الشهيد(5) أنّه جعله مع الصوم كغسل منقطعة الحيض، وقضيّة ذلك عدم وجوب مراعاة المتضيّق. وعن الروض(6) أنّه استظهر جواز الفصل من الذكرى وغيرها حيث أطلقوا التقديم من غير تقييد.

الثاني: إذا انقطع الدم قبل الفجر فهل يجب الغسل به للصوم أو لا؟

وعن الروض(7) أنّه قال: «الأجود ذلك أخذا بالعموم» واعترضه في المصابيح(8) بأنّه بإطلاقه إنّما يصحّ إذا أوجبنا الغسل لانقطاع دم الاستحاضة للبرء ولم يشترط في وجوبه وجود الدم في أوقات الصلاة، وإلّا سقط اعتباره في الصوم تبعا لسقوطه في الصلاة، ولو انقطع ثمّ عاد قبل الصلاة انكشف وجوب الغسل به للصوم».

ص: 195


1- روض الجنان 239:1.
2- نقله عنهم في المصابيح: 101.
3- مصابيح الأحكام: 101 و 102.
4- الروض 239:1.
5- الذكرى 249:1.
6- الروض 239:1.
7- الروض 239:1.
8- مصابيح الأحكام: 101 و 102.
الثالث: على القول باشتراط قصد الغاية في الغسل بل الطهارات بأجمعها فهل المعتبر في غسل الصوم الّذي هو واجب للصلاة أيضا قصد الغايتين معا أو لا يعتبر ذلك،

بل لو أتى به لغاية الصلاة فقط كان مجزئا عن غسل الصوم أيضا؟ وجهان، أوجههما الثاني لظاهر النصّ وإطلاق الفتوى.

وامّا غسل مسّ الميّت

فالمستفاد من طريقة الأصحاب بل طريقة المسلمين المعلومة في جميع الأعصار وكلّ الأمصار عدم وجوبه للصوم، وعدم توقّف الصوم عليه، ولذا لم يقل أحد ببطلان الصوم لو تعمّد المسّ في نهار رمضان كما قالوه في تعمّد الجنابة.

والوجه في ذلك: أنّ حدث المسّ مع توقّف رفعه على الغسل ليس إلّا كالحديث الأصغر، فلا يحرم على من عليه هذا الحدث جميع ما يحرم على المحدث بالأكبر، ولا يبطل بالإخلال بالغسل الرافع لهذا الحدث ما يبطل بالإخلال بغسل الجنابة والحيض والنفاس كما نصّ عليه غير واحد، فعن الطالبيّة(1) والموجز وغاية المرام ومعالم الدين(2) وشارع النجاة أنّه لا يحرم بالمسّ ما لا يحرم بالحدث الأصغر، ولا يجب غسل المسّ لما لا يجب له الوضوء.

ومن هنا حكي عن الذكرى والدروس وحواشي التحرير والروض والموجز وغاية المرام ومعالم الدين وشارع النجاة النصّ على عدم اشتراطه بغسل المسّ .

وفي المصابيح: «أنّه قطع بذلك كلّ من تردّد في ناقضيّة المسّ كصاحب المجمع، والمدارك والذخيرة والمفاتيح والبحار».

ثمّ قال: والمستفاد من كلام الأصحاب هنا وفي كتاب الصوم القطع بعدم توقّف الصوم على هذا الغسل» انتهى(3).

وبالجملة لم نقف من الاصحاب على من ذهب إلى القول بالتوقف هنا.

نعم عن الشيخ عليّ بن بابويه في رسالته(4) القول بوجوب قضاء الصوم والصلاة

ص: 196


1- نقله عنه في مصابيح الاحكام: 95.
2- المؤجر الحاوي (الرسائل العشر): 53، غاية المرام 68:1، معالم الدين 52:1.
3- راجع مصابيح الأحكام: 95.
4- راجع مصابيح الأحكام: 95.

على ناسي غسل المسّ ، لكن في المصابيح: «ولم أجد أحدا نقل عنه ذلك، ولعلّ في النسخة وهما من النسّاخ، وعبارة الرسالة مطابقة للفقه الرضوي في حكم الصلاة دون الصوم فإنّه غير مذكور فيه، ولو صحّ ذلك فلا ريب في ندرته وشذوذه، كقول ولده الصدوق بعدم وجوب الغسل لصوم الجنب، وما أشدّ ما بينهما من البعد. وما في الحديقة من دعوى الشهرة في اشتراط الصوم بغسل المسّ كسائر الأغسال ممّا لا يصغى إليه، ويدلّ على بطلان هذا القول - إن ثبت - إطباق المسلمين على تغسيل الأموات في شهر رمضان نهارا من غير نكير، ولو وجب غسل المسّ للصوم لبطل الصوم بالمسّ ، وحرم المسّ على الصائم وهو خلاف الإجماع المعلوم عدمهما بالسيرة والعمل» انتهى(1).

ومراده بعبارة الرسالة المطابقة للفقه الرضوي ما تقدّم مع عبارة الفقه الرضوي في بحث وجوب هذا الغسل للصلاة واشتراطها به.

المرحلة الثانية في الأغسال المندوبة
اشارة

وهي على قسمين:

احدهما: الأغسال الحدثية المتقدّمة التي يقصد منها رفع الأحداث لها
اشارة

من الجنابة والحيض والنفاس والاستحاضة ومسّ الميت فإنها تستحبّ في مسائل ثلاث:

الأولى: استحبابها لأنفسها قبل الخطاب بغاياتها الّتي قد عرفت وجوبها لأجلها عند الخطاب بها،

فإنّها حينئذ وإن لم تكن واجبة لأنفسها كما تقدّم تفصيل القول فيه إلّا أنّها مندوبة لانفسها، لكنّه في الاستحاضة لا يعقل إلّا عند انقطاع الدم قبل وقت وجوب الصلاة المشترطة بالغسل عنها على القول بغسل الانقطاع للبرء كما تنبّه عليه في المصابيح(2) وأمّا في غيرها فالدليل على الاستحباب النفسي من وجوه:

منها: السيرة القطعيّة القائمة على رجحان الغسل مطلقا مع انضمام ما دلّ على نفي وجوبه لنفسه، وما دلّ على نفي وجوبه لغيره قبل توجّه الخطاب بالعبادة المشترطة به فيما توقّف توجّه الخطاب به على دخول وقته.

ص: 197


1- مصابيح الأحكام: 95.
2- مصابيح الأحكام: 107.

ومنها: الرواية المتقدّمة في مسألة استحباب الوضوء لنفسه: «يا أنس أكثر من الطهور يزيد اللّه في عمرك، وإن استطعت أن تكون بالليل والنهار على طهارة فافعل، فإنّك تكون إذا متّ على طهارة شهيدا»(1).

ومنها: منقول الإجماع المصرّح به في كلام جماعة منهم المصابيح(2).

ومنها: الفتوي بالاستحباب في كلامهم الكافية في المقام، كالرواية المتقدّمة بناء على التسامح على ما مرّ تحقيق القول فيه.

وقد يستدلّ أيضا بقوله عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ (3) وهو موضع نظر تقدّم الإشارة إلى وجهه في المسألة المشار إليها.

الثانية: استحبابها لما يستحبّ من غاياتها المتقدّم إليها الإشارة مع ثبوت اشتراطه بالطهارة،

وعدمه كالطواف المندوب إن قلنا بعدم اشتراطه بالطهارة حتّى الطهارة من الحدث الأكبر، ودليله واضح بعد ملاحظة ضابط مقدّمة المندوب.

الثالثة: استحبابها لكلّ ما يستحبّ له الوضوء من غاياته مندوبا كان أو واجبا بالأصل أو بالعارض،

وكان المقصود من الوضوء لأجله إيقاعه على وصف الطهارة لكونها شرطا لكماله، فخرج به غسل الجنابة لذكر الحائض.

ودليله ما قرّره في المصابيح من: «أنّ المطلوب وقوع تلك الغايات على طهارة، حيث إنها شرط في وقوعها على الوجه الأكمل وإن لم تكن شرطا في الصحّة، والحدث الأكبر لا يرتفع بالوضوء فتعيّن الغسل، ولأنّ الحدث الأصغر إذا كان مانعا من وقوع تلك الغايات على الوجه الأكمل فالأكبر أولى بالمنع بالضرورة»(4).

وهذا كلّه فيما لا يتوقف من الغايات إباحته على الطهارة، وأمّا ما توقّف إباحته عليها كالمسّ ونحوه فالحكم واضح بعد ملاحظة استحباب مقدّمة المستحبّ .

وفي المصابيح: «إنّه قد ورد في جملة من الغايات كدخول المساجد وقراءة القرآن وحمل المصحف وصلاة الجنائز وأفعال الحجّ - ما يدلّ على استحباب الطهارة مطلقا بحيث يشمل الوضوء والغسل معا»(5).

ص: 198


1- الوسائل 383:1 الباب 11 من ابواب الوضوء ح 3.
2- مصابيح الأحكام: 107.
3- البقرة: 222.
4- مصابيح الاحكام: 108.
5- مصابيح الاحكام: 108.

أقول: ومنه ما ورد في الطهارة للتأهّب من عموم قوله عليه السلام: «ما وقر الصلاة من أخّر الطهارة حتّى يدخل وقتها»(1) فإنّه يتناول الغسل.

ومنه ما ورد في الطهارة للنوم من قوله عليه السلام: «من تطهّر ثمّ آوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده»(2) فإنّه بعمومه يشمل الغسل أيضا. بل في خصوص الجنابة رواية تقدّم ذكرها: «لا ينام المسلم وهو جنب، ولا ينام إلّا على طهور» الخ(3). وأظهر منها موثّقة سماعة المتقدّمة قال: «سألته عن الجنب يجنب ثمّ يريد النوم ؟ قال: إن أحبّ أن يتوضّأ فليفعل، والغسل أفضل من ذلك» الخ(4).

ومنه جماع المحتلم للنبوية المتقدّم ذكرها: «يكره أن يغشى الرجل المرأة وقد احتلم حتى يغتسل من احتلامه»(5).

وثانيهما: الأغسال الغير الحدثيّة الّتي لا يقصد منها رفع الحدث المسبّب عن الاسباب المعهودة،
اشارة

وقد قسّمها جماعة من الاصحاب إلى زمانية ومكانيّة وفعليّة، مع إدراجهم مثل غسل التوبة ورؤية المصلوب وقتل الوزغ في الفعليّة، وتصريحهم بأنّ الأغسال الزمانيّة محلّها الزمان، وإنّ المكانيّه والفعليّه يؤتى بها قبل دخول المكان والأفعال المقصودة، فورد عليهم النقض بمثل غسل التوبة ممّا يتأخّر فيه الغسل.

وعن بعضهم إنّه التجأ إلى جعله للعمل المتأخر عنها، فورد عليه: إنه لا يتأتّى مثله في رؤية المصلوب وغيره.

وعن بعضهم إنّه استثنى هذه الأغسال عن إطلاق التقديم، وهذا أيضا تكلّف.

ومن هنا غيّر العلّامة الطباطبائي في مصابيحه التسمية، فقسّم الأغسال المندوبة إلى زمانيّة وغائيّة وسببيّة، وجعل الأغسال المذكورة من السببيّة لأنّها تستحبّ بعد حصول أسبابها لا لغاية متأخرة.

ص: 199


1- الوسائل 374:1 الباب 4 من ابواب الوضوح 5.
2- الوسائل 378:1 الباب 9 من ابواب الوضوء ح 1.
3- الوسائل 379:1 الباب 9 من ابواب الوضوء ح 4.
4- الوسائل 228:2 الباب 25 من أبواب الجنابة ح 6.
5- الوسائل 139:20 الباب 70 من أبواب مقدّمات النكاح ح 1.

ثمّ قال: «والمراد بالغائيّة ما يطلب لغاية سواء كانت دخول المكان أو غيره»(1).

وقال أيضا: «والأغسال المندوبة المذكورة هنا عدا المندوب من الخمسة المتقدّمة يعني ما يستحبّ من الأغسال الحدثية تقرب من مائة، وهذا الجمع من خواصّ هذا الكتاب، والثابتة من هذه الأغسال بالنصّ أو غيره أكثر من ثمانين غسلا» انتهى.

وعن الشهيد أنّه في النفليّة(2) ذكر أنّها خمسون، وقد ضبط في كشف الغطاء.

ما يقرب من سبعين غسلا من الأغسال المندوبة الّتي قسّمها إلى زمانيّة ومكانيّة وفعليّة، وقال - بعد الفراغ عن الأغسال الفعليّة -: «جميع ما كان للفعل يقع قبل الفعل سوى عشرة: غسل ترك صلاة الكسوفين مع الاحتراق، وقتل الوزغة، ومسّ الميّت بعد تغسيله، وإهراق الماء الغالب النجاسة، والإفاقة من الجنون، ووجدان المني في الثوب المشترك، والشك في حصول الحدث الأكبر، وزوال العذر، والموت جنبا، والتولّد، وما عداها فوقتها قبل الدخول في الفعل» انتهى(3).

وفي المبسوط: «أنّ المسنونات ثمانية وعشرون غسلا»(4).

وفي الشرائع: «أنّ المشهور منها ثمانية و عشرون غسلا»(5) ويقرب منه ما في النافع(6).

ثمّ جعل في الشرائع ستة عشر منها للوقت وهي: غسل يوم الجمعة، وأوّل ليلة من شهر رمضان، وليلة النصف والسبع عشرة والتسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين منه، وليلة الفطر، ويومي العيدين، وعرفة، وليلة النصف من رجب، ويوم السابع والعشرين منه، وليلة النصف من شعبان، ويوم الغدير، والمباهلة.

وسبعة للفعل وهي: غسل الإحرام، وغسل زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم والأئمّة عليهما السلام وغسل المفرّط في صلاة الكسوف مع احتراق القرص إذا أراد قضاءها، وغسل التوبة، وصلاة الحاجة، وصلاة الاستخارة.

وخمسة للمكان وهي: غسل دخول الحرم، والمسجد الحرام، والكعبة، والمدينة، ومسجد النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم.

ونحن نتكلّم أوّلا في هذه الثمانية والعشرين بالترتيب الوارد في الشرائع، ثمّ

ص: 200


1- المصابيح: 110.
2- النفليّة: 59.
3- كشف الغطاء 311:2.
4- المبسوط 40:1.
5- الشرائع 36:1.
6- النافع: 16.

نضيف إليها ما بلغ إلى العثور عليه وسعنا، فنقول:

أمّا الستّة عشر من الأغسال الوقتيّة.
فالأوّل منها غسل الجمعة،
اشارة

أجمع العلماء كافّة على مشروعيّة غسل الجمعة ورجحانه كما في المدارك(1) كما أنّه ذهب الأكثر من المتقدّمين و المتأخّرين إلى استحبابه، وفي المختلف: «المشهور بين علمائنا أنّ غسل الجمعة مستحبّ وليس بواجب»(2).

وفي الذخيرة: «إنّ المشهور بين الأصحاب استحبابه حتى أنّ الشيخ في الخلاف نقل الإجماع عليه»(3).

وفي المدارك: «ذهب الأكثر إلى الاستحباب»(4).

وفي الحدائق: «فالمشهور استحبابه»(5).

وحكي نقل الشهرة عليه عن المهذّب البارع والمقتصر والروض والتنقيح والمجمع وشرح الموجز والبحار(6) والدلائل(7) بل عن صريح الغنية وموضعين من الخلاف دعوى الإجماع عليه(8) وربّما يستظهر الإجماع عن التهذيب(9) بل وشرح الجمل لابن البرّاج حيث قال: «غسل الّجمعة من السنن المؤكدة عندنا»(10) ونقل القول بالوجوب عن بعض العامّة.

وفي مفتاح الكرامة: «وظاهر الصدوق أنّ الندب من دين الإمامية».

قال: «وإنّما نسبناه إلى الظاهر لاحتمال رجوعه إلى الأعداد»(11).

وفي الجواهر: «أنّه على المشهور بين الأصحاب شهرة كادت تكون إجماعا، بل هي كذلك لانقراض الخلاف فيه على تقديره، بل لم نعرف حكايته فيه بين من تقدّم من أصحابنا» - إلى أن قال -: «نعم إنّما عرف ذلك عن المصنّف والعلّامة ومن تأخّر عنهما، فنسبوا القول بالوجوب إلى الصدوقين» انتهى(12).

ص: 201


1- المدارك 159:2.
2- المختلف 318:1.
3- الذخيرة: 6.
4- المدارك 159:2.
5- الحدائق 217:4.
6- المهذّب البارع 189:1، المقتصر: 57، روض الجنان 59:1، التنقيح الرائع 128:1، مجمع الفائدة 74:1، كشف الالتباس: 59، البحار 122:81.
7- نقل عنه في مفتاح الكرامة 66:1.
8- الغنية: 62، الخلاف 611:1.219.
9- التهذيب 105:10.
10- شرح الجمل والعلم: 112
11- مفتاح الكرامة 65:1.
12- جواهر الكلام 3:5.

وفي مفتاح الكرامة وفي كشف الرموز والمنتهى نسب الخلاف إلى الصدوقين(1).

وفي المختلف: «وقال ابن بابويه: إنّه واجب على الرجال والنساء في السفر والحضر، إلّا إنّه رخّص للنساء في السفر لقلّة الماء. وفي موضع آخر من كتابه: إنّ غسل الجمعة سنّة واجبة» انتهى(2).

وربّما نسب القول بالوجوب إلى ظاهر الكليني في الكافي حيث عقد بابا لوجوب غسل الجمعة(3) ثمّ أورد الأخبار المتضمّنة للوجوب، وفي الحدائق: «وإلى هذا القول مال في الحبل المتين» - إلى أن قال -: «وإلى هذا القول ذهب شيخنا الشيخ سليمان بن عبدالله البحراني، وأيّده ونصره وصنّف فيه رسالة»(4).

وربّما يناقش في نسبة الخلاف إلى الصدوقين بملاحظة بعض ما تقدّم، فيجمع بين مقالتهما ومقالة المشهور بحمل الوجوب في العبارة المذكورة على ما لا ينافى الاستحباب من إرادة الثبوت والتأكد ونحو ذلك.

و نسب(5) هذا القول إلى جماعة من العامّة كأحمد ومالك وأبي هريرة وكعب، كما عزى القول الآخر إلى الأوزاعي والثوري ومالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد.

والمعتمد هو القول المشهور.

لنا: بعد الأصل - الذي هو على تقدير الانقطاع عن نصوص الباب لمكان الإجمال أو التعارض الغير المقدور على علاجه في مجراه، مع اعتضاده بما قيل: من أنّ هذا الحكم يشبه أن يكون ضروريّا لأنّ هذا الغسل يحتاجه كلّ مكلّف في كلّ جمعة بخلاف بقيّة الأغسال، وفي معناه ما في الجواهر من «دعوى السيرة المتضمّنة المستمرّة في سائر الأعصار والأمصار، كيف ولو وجب لاشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار لعموم البلوى به حينئذ إذ هو أعظم من غسل الجنابة والحيض وغيرهما، لملازمة إدراك الجمعة لكلّ أحد دونهما»(6). مضافا إلى الإجماع والشهرة المحكيّين بل الشهرة المحقّقة - صحيحة عليّ بن يقطين قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الغسل في الجمعة

ص: 202


1- مفتاح الكرامة 66:1، كشف الرموز 96:1، المنتهى 460:2.
2- المختلف 318:1.
3- الذخيرة: 6.
4- الحدائق 217:4.
5- مفتاح الكرامة 66:1-67.
6- الجواهر 3:5.

والأضحى والفطر؟ قال: سنّة وليس بفريضة»(1).

وصحيحة زرارة عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن غسل الجمعة ؟ فقال: سنّة في السفر والحضر، إلّا أن يخاف المسافر على نفسه القرّ»(2).

والمناقشة فيهما بحمل «السنّة» فيهما على ما ثبت وجوبه بالسنّة قبالا للفريضة الّتي قد يطلق على ما ثبت وجوبه بالكتاب، واضح الدفع: بأنّ هذا الفرق اصطلاح ربّما يظهر من بعض العبائر اختصاصه بالصدوق، فلا ينزّل عليه خطاب الشرع.

ودعوى ورود هذا الإطلاق في كثير من الأخبار - كما ورد في التهذيب بطرق عديدة عن الرضا عليه السلام: «أنّ الغسل من الجنابة فريضة، وغسل الميّت سنّة»(3) لقول الشيخ(4) فيه أنّ فرضه عرف من جهة السنّة لأنّ القرآن لا يدل على فرض غسل الميّت، وكما ورد أيضا من قول الصادق عليه السلام: «الغسل في أربعة عشر موطنا، واحد فريضة والباقي سنّة»(5) لقول العلّامة في المختلف(6) المراد بالسنّة ما ثبت من جهة السنة لا من فرض القرآن - غير مسموعة، وورود الإطلاق في الأخبار الّتي منها ما ذكر من الخبرين غير ثابت، وكلام الشيخ والعلّامة في الحمل المذكور غير مجد بعد ملاحظة وروده لمجرّد التأويل محافظة على الرواية من الاطّراح.

ولو سلّم فهو في الخبرين منفيّ بحكم السياق الظاهر مثله في السؤال عن الحكم المردّد بين الوجوب والندب لا عن الواجب المردّد بين ما ثبت وجوبه بالكتاب وما ثبت بالسنّة كما لا يخفى، مع بعد هذا السؤال عن جلالة شأن عليّ بن يقطين وزرارة، كبعده عن منصب المسؤول أيضا، مع كونه ممّا يأباه في الصحيحة الأولى مقارنة غسلي الأضحى والفطر المتّفق على كونهما مندوبين.

ص: 203


1- الوسائل 314:3 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة، التهذيب 112:1/295.
2- الوسائل 314:3 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 10، التهذيب 112:1/296. القرّ: بالضمّ البرد، كذا في الصحاح (منه) 789:2.
3- الوسائل 375:3 الباب 18 من أبواب التيمم ح 1، التهذيب 109:1/285.
4- التهذيب 112:1/296.
5- الوسائل 305:3 الباب 1 من الأغسال المسنونة ح 7، التهذيب 110:1/289.
6- المختلف 319:1.

هذا مع اعتضادهما بفهم المعظم، وصريح خبر عليّ بن حمزة قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن غسل العبدين، أواجب هو؟ فقال: سنة. قلت: فالجمعة ؟ قال:

هو سنّة»(1).

وظواهر نصوص آخر كخبر هشام بن الحكم قال: «قال أبو عبدالله عليه السلام: ليتزيّن أحدكم يوم الجمعة، يغتسل ويتطيّب ويسرّح لحيته، ويلبس أنظف ثيابه...» الخ(2).

وخبر زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «لا تدع الغسل يوم الجمعة فإنّه سنّة، وضمّ الطيب - إلى أن قال -: وقال: «الغسل واجب يوم الجمعة»(3).

بتقريب: أنّ «لا تدع» بقرينة عطف «شمّ الطيب» ليس على ظاهره. واحتمال كون المراد منه حينئذ القدر المشترك بين التحريم والكراهة الغير المنافي لوجوب غسل الجمعة، يدفعه: أقربيّة الكراهة عند تعذّر الحقيقة في صيغة النهي، وتتأكد بظهور «سنّة» في المعنى المقابل للوجوب، فهذا الظهور مع قضيّة الأقربيّة ينهض قرينة على صرف الواجب في ذيل الخبر إلى إرادة الندب المؤكد.

وخبر حسين بن خالد قال: «سألت أبا الحسن الأوّل عليه السلام كيف صار غسل الجمعة واجبا؟ فقال: إنّ اللّه أتمّ صلاة الفريضة بصلاة النافلة، وأتمّ صيام الفريضة بصيام النافلة، وأتمّ وضوء النافلة بغسل يوم الجمعة، ما كان في ذلك من سهو أو تقصير أو نسيان أو نقصان» كما ورد في الكافي(4) والتهذيب(5) وكذا عن محاسن البرقي(6) إلّا إنّه قال:

«وأتمّ وضوء الفريضة» وهو الأنسب بالسياق بل الاعتبار أيضا.

ومثله عن علل الصدوق(7) إلّا أنّه قال: «وأتمّ الوضوء».

والدلالة واضحة، فإنّ إتمام وضوء النافلة ليس بواجب جزما، كما أنّ إتمام الصلاة

ص: 204


1- الوسائل 314:3 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 12.
2- الوسائل 395:7 الباب 47 من أبواب صلاة الجمعة ح 2، التهذيب 112:1/297.
3- الوسائل 396:7 الباب 47 من أبواب صلاة الجمعة ح 3.
4- الوسائل 313:3 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 7.
5- الكافي 42:3/4، التهذيب 366:1/1111.
6- المحاسن: 313/30.
7- علل الشرايع: 285/1.

والصوم الواجبين(1) ليس بواجب، لمكان القطع بعدم وجوب نافلتي الصلاة والصوم كما هو واضح.

وأظهر من الجميع في الدلالة على المطلب من غير إمكان تطرّق المناقشة المذكورة ما عن العيون في سند لا يبعد كونه صحيحا، بل المظنون صحّته عن الرضا في كتاب كتبه إلى المأمون: «وغسل يوم الجمعة سنة، وغسل عيدين، وغسل دخول مكة والمدينة، وغسل الزيارة، وغسل الإحرام، وأوّل ليلة من شهر رمضان، وليلة سبع عشرة وليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان، هذه الأغسال سنّة، وغسل الجنابة فريضة، وغسل الحيض مثله»(2) وهذه الرواية كما ترى ممّا لا تتحمّل الفرق المذكور فيما بين الفرض والسنّة أصلا.

وليس للقول بالوجوب على فرض تحقّقه إلّا موثقة سماعة عن الصادق عليه السلام قال:

«سألت أبا عبدالله عليه السلام عن غسل الجمعة ؟ فقال: واجب في السفر والحضر، إلّا أنه رخّص للنساء في السفر لقلّة الماء...» إلخ(3).

وما رواه عبدالله بن المغيرة في الحسن - بإبراهيم بن هاشم - عن أبي الحسن الرضا قال: «سألت عن الغسل يوم الجمعة ؟ فقال: واجب على كلّ ذكر وانثى. من عبد أو حرّ»(4).

وما عن العلل في مرفوعة محمّد بن أحمد بن يحيى قال: «غسل الجمعة واجب على الرجال والنساء في السفر والحضر، إلّا أنّه رخّص للنساء في السفر لقلّة الماء»(5).

وخبر محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «اغتسل يوم الجمعة إلّا أن تكون مريضا أو تخاف على نفسك»(6).

وما رواه منصور بن حازم في الصحيح عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «الغسل يوم

ص: 205


1- كذا في الأصل ولعلّ الصواب: غير الصلاة والصوم الواجبين.
2- الوسائل 305:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 6، التهذيب 104:1/270.
3- الوسائل 312:3 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 2، التهذيب 111:1/291.
4- الوسائل 312:3 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3، التهذيب 112:1/295.
5- الوسائل 315:3 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 17، علل الشرايع: 286/1.
6- الوسائل 314:3 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 11.

الجمعة على الرجال والنساء في الحضر، وعلى الرجال في السفر، وليس على النساء في السفر»(1).

وفي الوسائل قال - يعني محمّد بن يعقوب الكليني -: وفي رواية اخرى - «إنه رخّص للنساء في السفر لقلّة الماء»(2) إلى غير ذلك من الاخبار الأخر المتضمّنة للأمر بالاستغفار للترك والنهي عن العود إليه وغيره ممّا يوهم الوجوب.

والجواب أوّلا: بمنع نهوض هذه الأخبار صالحة للدلالة على الوجوب قبالا للمذهب المنصور بعد ملاحظة الشهرة بقسميها، ومنقول الإجماع في كلام غير واحد، ومصير المعظم إلى خلاف موجبها، فتتوهّن به ولو كانت بأجمعها صحاحا.

وثانيا: بترجيح ما تقدّم باعتبار الدلالة على الاستحباب، فيجمع بينه وبينها بحمل ما ورد فيها من لفظ «الوجوب» والأمر وغيرهما على إرادة الاستحباب المتأكد، كما شاع الإطلاق عليه في الشرع والعرف، مع قوّة احتمال كون «الواجب» الوارد فيها مرادا به المعنى اللغوي وهو الثابت، بدعوى: أنّ مراد المعصوم عليه السلام به بيان كون هذا الغسل أمرا ثابتا في الشريعة على حدّ ثبوت سائر المستحبّات، أو من باب بيان مجرّد المشروعيّة من غير نظر إلى إفادة تمام الحقيقة من وجوب أو ندب.

ويشهد له ما في الموثّقة من تكرّر إطلاق «الواجب» على ما لم يقل أحد فيه بالوجوب بالمعنى المبحوث عنه، وبما ورد فيها من لفظي «السنّة» و «الاستحباب» في سياق ورد فيه لفظ «الوجوب» بالنسبة إلى أمور لا يستراب في عدم وجوبها بهذا المعنى.

وإن شئت لاحظ تمام الرواية فإنّ فيها - على ما في التهذيب - بعد ما تقدّم، وقال:

«غسل الجنابة واجب، وغسل الحائض إذا طهرت واجب، وغسل الاستحاضة واجب، إذا احتشت بالكرسف فجاز الدم الكرسف فعليها الغسل لكلّ صلاتين وللفجر غسل، فإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كلّ يوم مرّة واحدة والوضوء لكلّ صلاة، وغسل النفساء واجب، وغسل المولود وغسل الميت واجب، وغسل من مسّ ميتا واجب،

ص: 206


1- الوسائل 311:3 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.
2- الوسائل 312:3 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 2.

وغسل المحرم واجب، وغسل يوم عرفة واجب، وغسل الزيارة واجب إلّا من علّة، وغسل دخول البيت واجب، وغسل دخول الحرم يستحبّ أن لا بدخله إلّا بغسل، وغسل المباهلة واجب، وغسل الاستسقاء واجب، وغسل أوّل ليلة من شهر رمضان يستحبّ ، وغسل ليلة إحدى وعشرين سنّة، وغسل ليلة ثلاث وعشرين سنّة لا تتركها لأنّه يرجى في إحداهنّ ليلة القدر، وغسل يوم الفطر وغسل يوم الأضحى سنّة لا احبّ تركها، وغسل الاستخارة مستحبّ »(1).

وفي الوسائل - بعد ما أورد هذا الخبر - قال: ورواه الصدوق باسناده عن سماعة ابن مهران نحوه، إلّا أنّه قال: «وغسل دخول الحرم واجب يستحبّ أن لا تدخله إلّا بغسل» انتهى(2).

والفطن العارف يجد أنّ هذا الخبر بتمام متنه قرينة كاشفة عن حقيقة ما أريد من الأخبار المتقدّمة وغيرها الموهمة للوجوب، سيّما ما اشتمل منها على لفظ «الواجب» كما هو العمدة من مناط حجّة القول بالوجوب. وعلى هذا ينقدح ضعف ما عن حبل المتين من أنّه بعد ما اختار هذا القول، قال: «وأنت خبير بأنّ الجمع بينها بحمل السنة على ما ثبت وجوبه بالسنة والفريضة على ما ثبت وجوبه بالكتاب غير بعيد، وهو اصطلاح الصدوق في الفقيه»(3) إلى آخر كلامه رفع مقامه(4).

وفي الوسائل بعد ما أورد المرفوعة المتقدّمة قال: «هذا يدلّ على الاستحباب أيضا وإلّا لما رخّص فيه إلّا عند عدم الماء لا قلّته. واحتمال إرادة عدم وجود ما يزيد عن قدر الضرورة للشرب، يدفعه: أنّه لا يبقى فرق بين الرجال والنساء، ولا بين السفر والحضر» الخ(5).

ويمكن دفعه بأنّ القلّة المعلّق عليها الرخصة للنساء يراد بها ما لا يكفي إلّا لغسل واحد، وحينئذ فلو اجتمع عليه رجل وامرأة قدّم الرجل بسقوط التكليف حينئذ عن المرأة، أو قلّة الماء نوعا بحسب المكان على وجه توقف تحصيله على سعي بالمسير

ص: 207


1- التهذيب 104:1/270.
2- الوسائل 304:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3.
3- الفقيه 61:1.
4- الحبل المتين 343:1.
5- الوسائل 315:3.

إلى جهة بعيدة يوجد فيها الماء، فحينئذ رخّص للنساء مراعاة لضعفهنّ بالنسبة إلى الرجال في المسير.

وأجاب في المدارك(1) وغيره عمّا اشتمل من الروايات على لفظ «الواجب» يمنع الدلالة مستندا إلى عدم ثبوت كون الوجوب حقيقة شرعيّة في المعنى المصطلح عليه بين الفقهاء والاصوليّين، ولعلّه ليس في محلّه على ما يظهر من الإطلاقات الواردة في الروايات الواردة عن أئمّتنا الأطهار عليهم صلوات اللّه الملك الجبّار، فانّ الحقيقة الشرعيّة بالمعنى الّذي قرّر في محلّه لو سلّم عدم ثبوتها في لفظ «الوجوب» في عهد النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لا تنفي ثبوت الحقيقة المتشرّعة فيه بالنسبة إلى أعصار الأئمّة عليهما السلام كما هو الحال في كثير من الألفاظ المدّعى كونها حقائق شرعية، وهذا النحو من الحقيقيّة كاف في ترتّب الثمرة المطلوبة من وضع المسألة الأصوليّة لكن بالقياس إلى خطاباتهم عليهما السلام وأخبارهم المرويّة عنهم، ولفظ «الوجوب» من هذا الباب كما هو واضح. ومنع الحقيقيّة بهذا المعنى أيضا لعلّه مكابرة، وليس إطلاقه على المعنى المصطلح عليه المبحوث عنه هنا من خصائص الفقهاء والاصوليين كما يوهمه ظاهر العبارة، بل الإطلاق عليه ثابت على وجه الحقيقة في لسان قاطبة المتشرّعة كما لا يخفى على المنصف، فهو كلفظ «السنّة» على ما يساعد عليه النظر من حقائق المتشرّعة الّتي يبعد كون حدوثها عمّا بعد زمن الأئمّة عليهما السلام كما يشهد به آثارهم والأخبار المرويّة عنهم، وينهض ذلك وجها آخر في ضعف توهّم كون «السنة» الواردة في نصوص الباب مرادا بها الواجب الّذي ثبت وجوبه بالسنّة ولو سلّمنا إطلاقها عليه في الروايات، كما زعمه في الحبل المتين على ما أشرنا إليه.

وإن شئت ما يشهد بذلك من الأخبار لاحظ ما تقدّم عند شرح «الطهارة» من الأخبار الّتي منها صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام «الرجل يقلّم أظفاره، ويجزّ شاربه، ويأخذ من شعر لحيته ورأسه، هل ينقض ذلك وضوءه ؟ فقال: يا زرارة كلّ هذه سنّة، والوضوء فريضة، وليس شيء من السنّة ينقض الفريضة، وإنّ ذلك ليزيده تطهيرا»(2).

فإنّ سوق هذه الرواية تقضي بكون ما اطلق عليه لفظ «السنة» أمرا مصطلحا عليه

ص: 208


1- المدارك 160:2.
2- الوسائل 287:1 الباب 14 من أبواب نواقض الوضوء ح 2.

فيما بين الراوي والإمام عليه السلام معهودا عندهما على حدّ معهودية سائر ما يقع بينهما في العادات والشرائع من العبارات، ومن المقطوع به الّذي لا ينبغي الاسترابة فيه عدم كون المراد من «السنّة» هنا ما عدا المستحبّ ، وقضيّة ذلك كون «الفريضة» في إطلاقات الأخبار مرادا بها ما يقابل المستحبّ لا ما يقابل الواجب الّذي ثبت وجوبه بالسنّة.

ثالثا: بأنّ غاية ما هنالك بعد الإغماض عمّا ذكرنا يرجع المسألة إلى ما تعارض فيه النصّان مع فقد جهات الترجيح، إذ المرجّحات لو لم تكن موجودة في جانب روايات الاستحباب فلا جرم ليست موجودا في جانب أخبار الوجوب، ومعه يبقى الأصل الجاري فيما تعارض فيه نصّان متكافئان سليما عن المعارض، وتنهض الإجماعات وحكايات الشهرة المتقدّم إليهما الإشارة بل الشهرة المحقّقة مؤيّدة له.

وبقى من اطراف المسألة امور، ينبغي التعرّض لها.
الأمر الأوّل: وقت غسل الجمعة من طلوع الفجر الثاني

كما هو المصرّح به في كلامهم المدّعى عليه الإجماع في حدّ الاستفاضة، ثمّ يمتدّ وقته إلى الزوال كما هو المشهور المنقول فيه الإجماع متكرّرا، أو إلى ما قبله كما عن المعتبر(1) مدّعيا عليه الإجماع، أو إلى ما بعده إلى أن تصلّى الجمعة كما عن الشيخ في موضع من الخلاف(2) مدّعيا عليه إجماع الفرقة، على خلاف ما حدّده في موضع آخر منه من امتداده إلى الزوال مع دعوي الإجماع عليه أيضا على ما حكي عنه، أو إلى الغروب المتحقق بخروج اليوم عملا بإطلاق الأدلّة كما جوّزه في الذخيرة(3) لولا الإجماع على التحديد الأوّل.

وعن جماعة من متأخّري المتأخّرين إنّهم ذكروه أيضا احتمالا عملا بالإطلاق، وعن بعضهم: «إنّه يستفاد من نحو إطلاق المقنعة والاقتصاد والجمل والعقود والمراسم والكافي والوسيلة والغنية والإرشاد والنفليّة(4) وغيرها ممّا اقتصر فيه على أصل الحكم وهو استحباب غسل الجمعة».

ص: 209


1- المعتبر 354:1.
2- الخلاف 63:1 و 220.
3- الذخيرة: 7.
4- المقنعة: 159، الاقتصاد: 250، الجمل والعقود: 167، المراسم: 52، الكافي: 135، الوسيلة: 54، الغنية: 62، الإرشاد 220:1، الألفيّة والنفليّة: 94.

فعلم ممّا ذكرنا أنّ هاهنا أحكاما:

أحدها: عدم وقوع هذا الغسل قبل الفجر، ودليله - بعد قيام الفتوى به - قاعدة التوقيف في العبادات المقتضية للاقتصار على محلّ الرخصة، المنوطة في أخبار الباب ومعاقد إجماعات الأصحاب من محصّل ومنقول ب - «اليوم» الغير المتناول لما قبل الفجر لغة ولا عرفا ولا شرعا.

وثانيها: وقوعه بمعنى الاجتزاء به من الفجر الّذي قيده جماعة بالثاني كما هو الظاهر المنصرف إليه الإطلاق، ودليله بعد الإجماعات عدّة أخبار عمل بها العلماء الأخيار.

منها: الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم عن زرارة والفضل قال: قلنا له:

«أيجزئ إذا اغتسلت بعد الفجر للجمعة ؟ فقال: نعم»(1).

وعن ابن إدريس في آخر السرائر(2) أنّه رواه نقلا من كتاب حريز بن عبدالله عن الفضيل وزرارة عن أبي جعفر عليه السلام وبه يندفع شبهة الإضمار إن قلنا بالقدح بمثله، مع ما قيل: من أنّ جلالة شأن زرارة والفضل تمنع عن الرواية من غير الإمام.

ومنها: ما نقله في الحدائق(3) من رواية زرارة عن أحدهما عليهما السلام: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة»(4).

ومنها: المرسلة عن ابن بكير عن أبيه قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الليالي الّتي يغتسل فيها من شهر رمضان - إلى أن قال -: والغسل أوّل الليل. قلت: فإن نام بعد الغسل ؟ قال: هو مثل غسل يوم الجمعة إذا اغتسلت بعد الفجر أجزأك»(5).

وفي معناه ما في الوسائل عن محمّد بن الوليد عن ابن بكير أنه سأل أبا عبداللّه عليه السلام عن الغسل في رمضان - إلى أن قال -: والغسل أوّل الليل، قلت: فإن نام بعد الغسل ؟ قال: فقال: «أليس هو مثل غسل يوم الجمعة إذا اغتسلت بعد الفجر كفاك»(6).

ص: 210


1- الوسائل 322:3 الباب 11 من ابواب الأغسال المسنونة ح 1.
2- مستطرفات السرائر: 74/19.
3- الحدائق 226:4.
4- الوسائل 261:2 الباب 43 من أبواب الجنابة ح 1.
5- الوسائل 322:3 الباب 11 من أبواب الاغسال المسنونة ح 2.
6- الوسائل 323:3 الباب 11 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3.

وعن الفقه الرضوي: «ويجزئك إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر وكلّما قرب من الزوال فهو أفضل»(1).

وثالثها: اتساعه وامتداد وقته إلى غاية مختلف فيها على حسبما تقدّم إليه الإشارة، إلّا أنّ المشهور كونها الزوال كما نقل فيه الإجماع، فعن الذكرى: ويمتدّ إلى الزوال إجماعا(2).

وعن المصابيح: «أنّ عليه الإجماع المعلوم بالنقل والفتوى والعمل»(3) وهو ظاهر تذكرة العلّامة قائلا - على ما حكي -: «ووقته ما بين طلوع الفجر الثاني إلى الزوال، وكلّما قرب كان أفضل قاله علماؤنا»(4).

ولم نقف من الأخبار ما يكون صريحا فيه، نعم في كلام غير واحد الاستدلال عليه بما تقدّم من خبر زرارة عن الباقر عليه السلام - الّذي وصفه في المدارك(5) والحدائق(6)بالحسن وفي الجواهر(7) بالصحّة -: «لا تدع الغسل يوم الجمعة فإنّه سنّة، وشمّ الطيب، ولبس صالح ثيابك، وليكن فراغك من الغسل قبل الزوال، فإذا زالت فقم وعليك السكينة والوقار» الخ(8).

وفيه من الإشكال ما لا يخفى، وإن كان قد يوجّه القبليّة هنا بأنّها إنّما اعتبرت ليعلم وقوع تمام الغسل في وقته وعدم تجاوزه عن حدّه.

وربّما استدلّ عليه أيضا برواية سماعة بن مهران الثقة المرميّ بكونه واقفيّا المردّدة بين الموثّقة والضعيفة بجعفر بن عثمان المشترك بين الثقة والمجهول، وإن كان قد تؤخذ رواية ابن أبي عمير عنه - كما في سند تلك الرواية - آية لوثاقته.

وكيف كان، ففيها: عن أبي عبداللّه عليه السلام في الرجل لا يغتسل يوم الجمعة في أوّل النهار؟ قال: «يقضيه من آخر النهار، فإن لم يجد فليقضه من يوم السبت»(9).

والإشكال فيه أظهر من حيث عدم إفادتها الغاية المعيّنة، وإن كان قد يدّعى ظهور

ص: 211


1- المستدرك 508:2 الباب 8 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.
2- الذكرى 197:1.
3- مصابيح الأحكام: 116 (مخطوط).
4- التذكرة 139:2.
5- المدارك 162:2.
6- الحدائق 226:4.
7- الجواهر 7:5.
8- الوسائل 396:7 الباب 47 من أبواب صلاة الجمعة ح 3.
9- الوسائل 321:3 الباب 10 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3.

كون المراد بأوّل النهار فيها الشطر الأوّل.

وأمّا المناقشة فيها - بمنع كون القضاء الوارد فيهما حقيقة في الزمن السابق فيما هو حقيقة عندنا - ففي غير محلّها، لظهور كون المراد بالقضاء الأوّل ما هو المراد بالقضاء الثاني، ولا يستريب أحد في كونه القضاء المصطلح عليه عندنا، إذ لم يسبق إلى وهم اتّساع الوقت هنا إلى يوم السبت، ولو سبق فيكذبه النصوص الصريحة في الاختصاص بيوم الجمعة.

والأوجه الاستناد لهذا الحكم إلى ما رواه الصدوق عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث الجمعة، قال: «والغسل فيها واجب»، قال: وقال الصادق عليه السلام: «غسل يوم الجمعة طهور وكفّارة لما بينهما من الذنوب من الجمعة إلى الجمعة.

قال: وقال الصادق عليه السلام في علّة غسل يوم الجمعة: «إنّ الأنصار كانت تعمل في نواضحها وأموالها فإذا كان يوم الجمعة حضروا المسجد فتأذّى الناس بأرواح إباطهم وأجسادهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بالغسل فجرت بذلك السنّة»(1).

وعنه إنّه رواه في العلل(2) أيضا لكن بطريق آخر، بتقريب: إنّ الحكمة الباعثة على تشريعه تحصل ولو بحصوله من حين الزوال وما يقرب منه.

لكنّه لو تمّ لقضى بتعيّن قول الشيخ في الخلاف(3) لحصول الغرض بحصوله أيضا ممّا بعد الزوال إلى حين إقامة الصلاة، ولذا صرّح في الذخيرة(4) بنفي البعد عن هذا القول.

والاقتصار على مورد اليقين من معقد الإجماع يقتضي المصير إلى ما عرفته عن المعنى(5) الّذي ورد على طبقه خبر زرارة المتقدّم بظاهره فهو الأحوط جدّا. وفي كلامهم: «إنّه كلّما قرب إلى الزوال كان أفضل» ومستنده من الروايات غير واضح، ولذا تأمّل فيه صاحب الذخيرة لكنّه مشهور وأفتى به المتقدّمون والمتأخّرون من الأصحاب، بل أفتي به من لا يعمل بغير العلم كالحلّي في السرائر ولعلّ فيها الكفاية تسامحا في أدلّة السنن، وربّما يعلّل بتأكد الغرض بذلك وليس بشيء، ومنهم من استند

ص: 212


1- الوسائل 315:3 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 14 و 15.
2- علل الشرايع: 285/3.
3- الخلاف 612:1.
4- الذخيرة: 7.
5- المعتبر 354:1.

له إلى ما تقدّم من عبارة الفقه الرضوي، بل قد يحتمل كونها مستند القدماء كما يشعر به عبارة الصدوق في الفقيه من حيث مطابقتها لها، كما هو الحال في أكثر عبارات الفقيه الواردة على طبق ما في الفقه الرضوي.

الأمر الثاني: قال الشيخ في المبسوط والحلّي في السرائر: «وقد رخّص في تقديمه يوم الخميس لمن خاف الفوت»

الأمر الثاني: قال الشيخ في المبسوط والحلّي في السرائر: «وقد رخّص في تقديمه يوم الخميس لمن خاف الفوت»(1)

ولا خلاف في هذا الحكم في الجملة ظاهرا كما ادّعاه بعضهم، وعزي إلى الصدوق وابن البرّاج وابن سعيد والفاضلين والشهيدين(2)وعامّة المتأخرين، وعن كشف اللثام نسبته إلى الأصحاب(3) والأصل فيه روايتان عمل بهما الأصحاب:

إحداهما: ما رواه المشايخ الثلاثة عن الحسين بن موسى بن جعفر عن امّه وامّ أحمد ابنة موسى بن جعفر قالتا: «كنّا مع أبي الحسن عليه السلام بالبادية ونحن نريد بغداد.

فقال لنا يوم الخميس: اغتسلا اليوم لغد يوم الجمعة، فإنّ الماء غدا بها قليل، فاغتسلنا يوم الخميس ليوم الجمعة»(4).

واخراهما: ما رواه الشيخ عن محمّد بن الحسين عن بعض اصحابه عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: قال لأصحابه: «إنّكم تأتون غدا منزلا ليس فيه ماء فاغتسلوا اليوم لغد، فاغتسلنا يوم الخميس للجمعة»(5).

وربّما يؤيد بما في فقه الرضا عليه السلام: «وإن كنت مسافرا أو تخوّفت عدم الماء يوم الجمعة فاغتسل يوم الخميس»(6) وفي المدارك: «ولولا ما اشتهر من التسامح في أدلّة السنن لأمكن المناقشة في هذا الحكم من أصله لضعف مستند»(7) انتهى.

فأصل الحكم ممّا لا يمكن الاسترابة فيه، نعم إنّما يظهر منهم الخلاف فيه من

ص: 213


1- المبسوط 40:1، السرائر 124:1.
2- الفقيه 111:1، المهذب 101:1، الجامع للشرايع: 32، الشرائع 44:1، القواعد 178:1، نهاية الإحكام 175:1، المنتهى 466:2، الذكرى 197:1. روض الجنان 60:1.
3- كشف اللثام 137:1.
4- الوسائل 320:3 الباب 9 من أبواب الأغسال المسنونة ح 2.
5- الوسائل 319:3 الباب 9 من ابواب الأغسال المسنونة ح 1.
6- فقه الرضا عليه السلام: 129.
7- المدارك 163:2.

جهالت اخر.

منها: تعميم الحكم بالنسبة إلى مطلق الفوت كما عرفته عن الشيخ والحلّي(1)وعزي إلى التذكرة والدروس والبيان والنفلية والمعالم والروض و المسالك و كشف اللثام(2)أو تخصيصه بعوز الماء فقط كما يقتضيه ظاهر جملة من العبائر وصريح الذخيرة(3).

ويظهر الميل إليه من المدارك حيث إنّه بعد ما نسب التعميم إلى الشيخ وجدّه في أكثر كتبه قال: «ومستنده غير واضح»(4) واحتمله في الحدائق(5) اقتصارا فيما خالف الأصل بمورد النصّ ، بل عن جماعة من متأخّري المتأخّرين الميل إليه، مستند الأوّلين لعلّه تنقيح مناط الحكم مع قاعدة التسامح فهو المعتمد، ومستند الآخرين قد ظهر.

ومنها: كون المعتبر في إحراز مناط الحكم المردّد بين كونه الفوات مطلقا أو عوز الماء خاصّة هو العلم به - كما هو ظاهر عبارة الشيخ المحكيّة عن الخلاف القائلة في صلاة الجمعة: «من اغتسل يوم الجمعة قبل الفجر لم يجزئه إلّا إذا كان آيسا من وجود الماء، فيجوز حينئذ تقديمه ولو كان يوم الخميس، بإجماع الفرقة»(6). ويشعر به ظاهر الخبر الثاني(7) - أو الظنّ به كما عن العلّامة في المنتهى والنهاية(8) بل غلبة الظن به كما عنه في المنتور خاصّة، أو مجرّد الخوف كما هو صريح المبسوط والسرائر(9) وصريح آخرين، بل في الجواهر: «قيل إنّه المشهور شهرة كادت تكون إجماعا»(10).

ويساعد عليه ظاهر الخبر الثاني، التفاتا إلى أنّ قلّة الماء المعلّل بها الحكم فيه الظاهرة في قلّة الوجود باعتبار المكان عادة ما لا يوجب غالبا بالنسبة إلى سابق الزمان إلّا خوف عدم التمكن منه، وهو صريح الرضوي المتقدّم أيضا، فهو الأقوى عملا بظاهر النصّ الّذي لا ينافيه ظاهر الخبر الثماني كما هو واضح، وتسامحا في أدلّة السنن.

ص: 214


1- المبسوط 40:1، السرائر 124:1.
2- التذكرة 141:2، الدروس 6:1، البيان: 4، الألفيّة والنفلية: 95، معالم الدين 69:1، روض الجنان 60:1، المسالك 105:1، كشف اللمام 137:1.
3- الذخيرة: 7.
4- المدارك 163:2.
5- الحدائق 231:4.
6- الخلاف 611:1 المسألة 377.
7- الوسائل 319:3 الباب 8 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.
8- المنتهى 464:2، نهاية الإحكام 175:1.
9- المبسوط 40:1، السرائر 124:1.
10- الجواهر 15:5.

ومنها: إنّ المعتبر في مشروعيّة التقديم هل هو خوف الفوت أو عوز الماء وقت الأداء خاصّة - وهو على ما تقدّم من الفجر إلى الزوال أو ما قبله على الخلاف المتقدّم إليه الإشارة كما اختاره في الجواهر(1) وحكي التصريح به عن البيان وروض الجنان(2)بل عن بعض المحقّقين إنّه نسبه إلى الأكثر، ويقتضيه إطلاق المحكيّ عن الذكرى والموجز(3) من تقديم التعجيل على القضاء عند التعارض - أو خوف أحد الأمرين في تمام يوم الجمعة كما استظهر من إطلاق جماعة، حيث أخذوا «اليوم» في موضوع الحكم الظاهر في إرادة التمام.

ومرجع المسألة الى دوران الأمر بين التعجيل والقضاء وإنّما يتأتى ذلك حيثما علم التمكن في وقت القضاء خاصّة.

والظاهر أنّه لا خلاف في عدم الترجيح على التعجيل للقضاء يوم السبت ولم نقف على من ذكره ولو احتمالا، وهو الّذي يساعد عليه إطلاق الخبرين المعتضد بإطلاق الفتوى وإطلاق ما عرفته من عبارة فقه الرضا(4) وما عرفته أيضا من الموجز والذكرى.

وأمّا القضاء في بقيّة يوم الجمعة من الزوال إلى الغروب مثلا فربّما احتمل رجحانه قياسا على صلاة الليل للشابّ الّذي يمنعه رطوبة رأسه، أو المسافر اللذين جوّز لهما التّقديم مع أفضليّة القضاء لهما بحكم النصّ والفتوى، وهو واضح الضعف.

ونحوه في الضعف ما احتمل من رجحان بعض صور القضاء على التعجيل، كما لو كان بعد الزوال بلا فاصلة كثيرة للقرب من وقت الأداء ومكان تعقيب الصلاة له حينئذ ووجود قول أو احتمال بأنّه وقت الأداء، فإنّ القياس والاستحسان ممّا لا تعويل عليه في الشرع.

وربّما يستند لاحتمال ترجيح القضاء حينئذ إلى إطلاق «اليوم» الوارد في الخبرين.

وفيه: أنّ الوارد في أحدهما: «اغتسلوا اليوم لغد» وفي الآخر: «اغتسلا اليوم لغد يوم الجمعة» ولا ريب أنّ المنساق من «الغد» و «اليوم» المنصرف إليه إطلاقهما بمقتضي الهيئة التركيبة الكلاميّة - على ما يشهد به النظائر الواردة في العرف والعادة -

ص: 215


1- الجواهر 15:5.
2- البيان: 4، روض الجنان 60:1.
3- الذكرى 197:1، الموجز (الرسائل العشر): 53.
4- فقه الرضا عليه السلام: 629.

إنّما هو محلّ وضع الغسل أصالة بحسب الشرع وليس إلّا النصف الأوّل من يوم الجمعة، فينصرف إليه ما اعتبر كونه ضابطا للحكم، على معنى ظهور كون المعتبر في عوز الماء آو قلّته المأخوذين مناطا للتعجيل ما يتحقّق منهما في هذا المقدار من اليوم وإن ارتفع العذر عمّا بعده بوجود الماء ووفوره كما يعلم ذلك بأدني تأمّل.

فالوجه إذن أوّل القولين عملا بظاهر النصّ الّذي عليه ينزّل إطلاق من أطلق في الفتوى، وعليه فلا خلاف في المسألة، وربّما يستند بعموم المسارعة.

ومنها: كون المعتبر من زمان الرخصة في التقديم هل هو يوم الخميس خاصّة كما هو ظاهر عبائر الاّكثر، بل المحكيّ عن المعظم حيث قيّد الحكم فيها بيوم الخميس الغير الداخل فيه ليلة الجمعة، أو ما يعمّه وليلة الجمعة كما هو مقتضي إطلاق بل عموم عبارة الشيخ المتقدّمة عن الخلاف المذيّله بدعوى إجماع الفرقة، ولم نقف على موافق له في ذلك عدا صاحب المدارك في عبارة قوله: «والظاهر أنّ ليلة الجمعة كيوم الخميس فلا يجوز تقديمه فيها إلّا إذا خاف عوز الماء، وبه قطع في الخلاف مدّعيا عليه الإجماع»(1) وأورد عليه غير واحد بأنه تعدّي عن مورد النصّ بلا مستند شرعي فيكون قياسا. واحتمل البطلان بتوهّم الأولويّة نظرا إلى قرب الليلة إلى يوم الجمعة، ودفع بمنع الأولويّة بعد ملاحظة احتمال مدخلية المماثلة.

وأنت بعد ملاحظة فتوى الخلاف المدّعى عليه إجماع الفرقة تعرف أنّ الأقوى استحباب التقديم ليلة الجمعة أيضا تسامحا في أدلة السنّة، مضافا إلى استصحاب الحالة السابقة، بناء على أنّ «اليوم» الوارد في الأخبار المرخّصة للتقديم مردّد بين كونه معتبرا من باب القيديّة ليلزم من فواته انتفاء الرخصة أو لمجرّد الظرفيّة لئلّا بنافي ثبوت الرخصة فيما بعده أيضا، فيكون المقام لجهته من مجاري الاستصحاب الّذى لا وارد عليه في المقام.

وربّما استدلّ عليه أيضا بالتعليل المصرّح به في أحد الخبرين المتقدّمين والمفهوم في الّخبر الآخر، وعدم جريانهما في السابق على الخميس للدليل لا يمنع من التمسّك

ص: 216


1- الخلاف 612:1، المدارك 163:2.

به في اللاحق سيما مع ظهور الفرق بينهما، ويظهر الاعتماد عليه أيضا من الجواهر(1).

ويزيّفه: أنّ المفهوم المدّعى ليس له معنى محصّل هنا إلّا فهم السببيّة المستفادة من الترتب الّذي يقتضيه كلمة «الفاء» فيكون مفاده في حاصل المعنى كمفاد التعليل، وهو في موارده وإن كان مقتضيا للعموم إلّا أنّ عمومه ليس عموما وضعيّا على حدّ سائر ما يقتضيه الّوضع اللغوي من العمومات لئلّا ينافي ظهوره في إرادة تمام الباقي خروج ما خرج بالدليل، بل عمومه إنما هو بمقتضى ظهور قضيّة التعليل في العلّة التامّة المستلزمة لوجود الحكم حيثما وجدت، فإذا قام الدليل في نحو المقام على منع جريان الحكم في المسابق على الخميس كشف عن عدم كون القلّة والإعواز بنفسه علّة تمامّة للرخصة في التقديم، بل عن كون خصوصيّة الزمان لها مدخليّة فيها ومشاركة للقلّة والإعواز في التأثير، وكون ليلة الجمعة أيضا مشاركة ليوم الخميس في المدخليّة لابدّ له من دليل ولا يكفي فيه مجرّد التعليل وفهم السببيّة الموجودين في الخبرين كما لا يخفى على المتأمّل.

ومنها: أنّه لو قدّم الغسل يوم الخميس للعلّة المذكورة ثمّ تمكن منه يوم الجمعة أيضا قبل الزوال استحبّ له الإعادة حينئذ، كما نصّ عليه جماعة منهم كاشف اللثام وصاحب المدارك(2) وعزي إلى الصدوق في الفقيه وإلى المنتهى والقواعد والذكرى والتذكرة والتحرير ونهاية الإحكام والمعالم والموجز والبحار وشرح الدروس(3) لسقوط حكم البدل بالتمكن من المبدل منه، وإطلاق الأدلّة الدالّة على استحباب غسل الجمعة.

ونوقش في الأوّل: بأنّ البدل وقع صحيحا لوجود شرطه وهو خوف الإعواز فلا يبطل بالتمكن من الأصل، إذ الأمر - ولو ندبا - يقتضي الإجزاء بالنسبة إليه، والتكليف بالغسل ثانيا مع صحّة البدل جمع بين البدل والمبدل ومناف لاقتضائه الإجزاء.

وفي الثاني: بأنّ أوامر غسل الجمعة لا يقتضي إلّا غسلا واحدا وقد محمل بالمتقدّم فإنّه غسل جمعة قدّم يوم الخميس، مع أنّه لو اعيد مثل هذا الغسل لاعيدت نظائره من

ص: 217


1- الجواهر 18:5.
2- كشف اللثام 137:1، المدارك 163:2.
3- الفقيه 61:1، المنتهى 467:2، القواعد 178:1، الذكري 201:1. التذكرة 141:2، التحرير 11:1، نهاية الإحكام 175:1، معالم الدين 69:1، الموجز: 53، البحار 126:78، مشارق الشموس: 42.

صلاة الليل المتقدّمة والوقوف بالمشعر مع القدرة ولم ينقل عنهم القول به، وقد روي تقدّم الأغسال الليليّة في شهر رمضان على الغروب ولا مجال للقول بالإعادة في مثله.

وتحقيق المقام: منع كون الأمر في نحو المقام مقتضيا للإجزاء، كيف وهو فرع للامتثال الّذي لم يحصل بعد لو أريد به الأمر المستفاد من خطاب الأصل، ولو اريد به ما استفيد من خطاب البدل فهو إنما يقتضي الاجزاء بمعنى سقوط التعبّد بالأصل إذا قضى بخروج مورده عن خطاب الأصل بالمرّة، أو كان المورد مخرجا بدليل آخر ساكت عن تأسيس البدل واعتباره قائما مقام الأصل كما هو الضابط الكلّي في سائر الأبدال الاضطرارية حيث لا مخرج للأصول عن الخطاب بها إلّا دليل اعتبار شروط التكليف عامّة وخاصّة، ولا ينهض ذلك مخرجا بحسب نفس الأمر إلّا مع العذر السمتمرّ في تمام الوقت، وأمّا بدليّة الأبدال فلابدّ في ثبوتها من دليل آخر منفصل، ولا ريب أنّ أدلّة غسل الجمعة بعمومها وإطلاقها ليس حالها إلّا كسائر الخطابات الاقتضائية فتشمل جميع المكلّفين الواجدين لشرائط التكليف سواء كان الوجدان للشرط وحديثا لجميع أجزاء وقت الامتثال أو بعضها ممّا يسعه الفعل سابقا على العذر أو لاحقا به، ولا مانع في حكم العقل ولا نظر الحكمة من شمول خطاب الأصل لمن يطرأه العذر أو اعتقاد طروّه أو خوف طروّه له قبل دخول الوقت المضروب له شرعا أو فيه ثمّ زال أو انكشف عدم طروّه بحسب الواقع في الوقت ولو بعضا منه.

وقضية ذلك اندراج مفروض المسألة في الخطاب بغسل يوم الجمعة بحسب الواقع الّذي انكشف بانكشاف التمكن منه ولو في بعض من وقته المتقدّم لوجود المقتضي وفقد ما يصلح [مانعا] ولا ريب أنّ امتثال هذا الخطاب لم يحصل بعد وما حصل امتثاله فليس مستفادا من هذا الخطاب إن سلّمنا ثبوته في المقام بحسب الواقع.

وتوهّم دليل البدل مانع منه لمكان إطلاقه الشامل لخائف العوز المطابق للواقع وخائف عوزه الغير المطابق، يندفع: بتطرّق المنع إلى دعوى هذا الإطلاق، فإنّ الأدلّة المرخّصة لتقديم الغسل يوم الخميس - على ما يساعد عليه العرف - ليس مفادها إلّا قضية وردت لتشريع حكم البدليّة في الجملة وبيان أنّ هذا الغسل المتقدّم ما يجوز الاكتفاء به عمّا هو مأمور به الواقعي يوم الجمعة من دون نظر فيها إلى تعميم الحكم

ص: 218

بالقياس إلى من لحقه زوال العذر في الوقت المضروب للغسل من يوم الجمعة أو من انكشف فساد زعمه في خوف إعواز الماء ليكون ذلك قاضيا بخروج المفروض عن عموم دليل الأصل، ومن المعلوم أنّ في صدق هذه القضيّة يكفي ثبوتها في حقّ من صادف زعمه الواقع واستمرّ عذره إلى انقضاء الوقت فيبقى الباقي تحت دليل الأصل الّذي هو المقتضي للامتثال الغير الحاصل بمجرّد فعل ما أثبته، بل قضيّة ما ذكرناه عدم اندراج المأتيّ به أوّلا في نحو تلك الصور تحت دليل البدل أيضا.

ولو سلّم الإطلاق في ذلك الدليل فأقلّ ما هنالك وقوع التعارض بينه وبين دليل الأصل المتناول بعمومه لغير الخائف للإعواز أو الخائف له الغير المطابق، وبينهما عموم من وجه لشموله كلّا من الخائف المطابق، والخائف الغير المطابق فيتعارضان في الخائف الغير المطابق فلابدّ حينئذ من مراجعة قواعد الجمع بإرجاع أحد العاميّن إلى الآخر، ولا ريب أنّ الرجحان في جانب عمومات الأصل لقوّة دلالتها واعتضادها بفهم الأصحاب والشهرة الاستنادية الّتي كادت تكون إجماعا، وبما قرّرناه يتبيّن فساد أكثر الكلمات المتقدّمة.

الأمر الثالث: يستحبّ لمن فاته غسل الجمعة في وقته نسيانا أو عمدا لحذر أو لا لعذر قضاؤه من زوال يوم الجمعة إلى آخر يوم السبت،
اشارة

أو بعد الزوال ويوم السبت، أو في عصر يوم الجمعة ويوم السبت، أو يوم السبت خاصّة على الخلاف في بعض هذه الوجوه. والأصل في الحكم عدّة روايات:

منها: موثّقة عبداللّه بن بكير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن رجل فاته الغسل يوم الجمعة ؟ قال: يغتسل ما بينه وبين الليل، فإن فاته اغتسل يوم السبت»(1).

ومنها: موثّقة سماعة بن مهران المتقدّمة عن أبي عبدالله عليه السلام في الرجل لا يغتسل يوم الجمعة في أوّل النهار؟ قال: «يقضيه آخر النهار، فإن لم يجد فليقضه يوم السبت»(2).

ومنها: مرسلة حريز عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لابدّ من الغسل يوم الجمعة في السفر

ص: 219


1- الوسائل 3213 الباب 10 من أبواب الأغسال المسنونة ح 4.
2- الوسائل 321:3 الباب 10 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3.

والحضر، ومن نسي فليعد من الغد»(1) فأصل الحكم ممّا لا إشكال فيه في الجملة، وفي كلام غير واحد دعوى الشهرة فيه، بل عن المصابيح حكاية الإجماع عليه مكرّرا، فبذلك ينجبر ما في بعض هذه الروايات أو كلّها من الحزازات، مع أنّ أدلّة السنن ممّا يتسامح فيها فلا حاجة إلى اعتبار الانجبار.

وأمّا ما رواه ذريح بن محمّد بن يزيد عن أبي عبدالله عليه السلام في الرجل هل يقضي غسل الجمعة ؟ قال: «لا»(2) فمطروح أو مؤوّل بحمله على إرادة نفي الوجوب، أو ما بعد السبت خصوصا مع احتمال كون الرجل مشارا به إلى معهود كما ذكره كاشف اللثام(3)أو محمول على التقيّة كما ذكره في الجواهر(4) وغيره بناء على أنّ إثبات القضاء لهذا الغسل ممّا اختصّ به أصحابنا الإماميّة كما عن المصابيح(5).

فما في المدارك: «ويمكن المناقشة في هذا الحكم لضعف مستنده، وبأنّه معارض بما رواه الشيخ في التهذيب عن سعد بن عبدالله عن محمّد بن الحسين عن معاوية بن حكيم عن عبدالله بن المغيرة عن ذريح عن أبي عبدالله عليه السلام في الرجل هل يقضي... إلخ، ومقتضاه عدم مشروعيّة القضاء مطلقا، وهو أوضح سندا من الخبرين السابقين يعني بهما الموثقتين السابقتين»(6) ليس على ما ينبغي.

وكما لا إشكال في أصل الحكم المذكور فكذلك لا إشكال في انتفاء القضاء بالنسبة إلى ما بعد السبت، بل لا قائل به ولا ورد في النصوص ما يدلّ عليه.

نعم عن فقه الرضا ما يوهمه على أحد وجهين، فإنّه - على ما في الحدائق - قال:

وإن نسيت الغسل ثمّ ذكرت وقت العصر أو من الغد فاغتسل، ثمّ قال عليه السلام بعد كلام في البين: «وأفضل أوقاته قبل الزوال» - إلى أن قال -: «فإن فاتك الغسل يوم الجمعة قضيت يوم السبت أو بعده من أيّام الجمعة»(7) بناء على ما فهمه في الحدائق من أنّ ظاهره جواز القضاء في أيّام الاسبوع، تعليلا بأنّ المراد بالجمعة هنا الاسبوع كما وقع

ص: 220


1- الوسائل 320:3 الباب 10 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.
2- الوسائل 321:3 الباب 10 من أبواب الأغسال المسنونة ح 5.
3- كشف اللثام 136:1.
4- الجواهر 19:5.
5- مصابيح الأحكام: 119 (مخطوط).
6- المدارك 164:2.
7- المستدرك 507:2 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.

الإطلاق بذلك في جملة من الاخبار(1).

والذبّ عنه - بعد الإغماض عن الكلام في سند هذا الكتاب بعد ملاحظة عدم اتفاق عامل به - سهل مع تطرّق المنع إلى دلالته وكون المراد من أيّام الجمعة ما ذكر، وقد يذكر له معنى آخر كما في مفتاح الكرامة(2) عن استاده قائلا: «وحمله الأستاد على أنّ المراد: فإن فاتك في جمعة فلا يفتك في السبت وفي الجمعات المسقبلة» ومآله إلى حمل القضاء على مطلق الفعل المتناول للمعني المصطلح عليه والأداء كما بالإضافة إلى الجمعات المستقبلة فإنّ القضاء بالمعنى المصطلح عليه منفيّ فيها إجماعا.

ثمّ ربّما يقع الإشكال بالنسبة إلى الحكم المذكور في جهات بل ربّما وقع الاختلاف في بعضها:

الاولى: بالنسبة إلى ابتداء زمان مشروعيّة القضاء،

فإنّ المعروف بين الاصحاب المصرّح به في عبائرهم المنطبق عليه إطلاق موثّقة عبدالله وكذا موثّقة سماعة - بناء على كون المراد من آخر النهار الشطر الثاني من يوم الجمعة قبالا لأوّل النهار إن اريد به الشطر الأوّل - كونه ممّا بعد الزوال. وعن ظاهر الصدوقين(3) اختصاصه بما بعد العصر، ولا مستند لهما ظاهرا عدا ما توهّم من المرسل المحكيّ عن الهداية عن الصادق عليه السلام «إن نسيت الغسل أو فاتك لعلّة فاغتسل بعد العصر ويوم السبت»(4)وما سمعته عن فقه الرضا: «وإن نسيت ثمّ ذكرت وقت العصر أو من الغد فاغتسل»(5)وما في موثّقة سماعة: «يقضيه في آخر النهار»(6) لكن الأمر في ذلك هيّن بعد ملاحظة إطلاق الفتوى مع ما عرفته من إطلاق الرواية، وعدم منافاة ما ذكر لهما عند التحقيق سيّما ما في الفقه الرضوي، وعدم معروفيّة الخلاف من الصدوقين ولعلّه لإرجاع عبارتيهما إلى ما لا ينافي إطلاق الأكثر، وعلى تقدير المنافاة في بعض ما ذكر أو فرض خلافهما فيتوهّن بإعراض الأكثر والشهرة الّتي كادت تكون إجماعا، فالوجه حينئذ اعتبار مشروعيّة القضاء ممّا بعد الزوال، واللّه العالم في كلّ حال.

ص: 221


1- الحدائق 229:4.
2- مفتاح الكرامة 71:1.
3- الهداية: 22.
4- الهداية: 22.
5- المستدرك 507:2 الباب 6 من ابواب الأغسال المسنونة ح 1.
6- الوسائل 321:3 الباب 10 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3.
الثانية: بالنسبة إلى اختصاص القضاء المشروع بيوم السبت أو عمومه له ولبقيّة يوم الجمعة،

فإنّ المعروف بينهم المصرّح به في كلامهم هو العموم بل ربّما نفي الخلاف في ذلك، لكن ظاهر عبارة الشرائع(1) حيث اقتصر فيها على ذكر يوم السبت كالمحكيّ عن التلخيص والنفلية(2) ربّما يوهم المصير إلى الاختصاص، ولعلّ ما عرفته من مرسلة حريز ينهض شاهدا عليه، غير أنّه جمع بينها وبين ما تقدّم بحملها على إرادة الفوت تمام يوم الجمعة أداء وقضاء، كما يشهد له التصريح بثبوت القضاء في كلّ من يومي الجمعة والسبت عن المحقّق في المعتبر(3) والشهيد في غير النفليّة(4) والعلّامة في غير التلخيص(5) فارتفع توهّم الخلاف حينئذ. وعلى تقدير ثبوته فهو غير قادح في المصير إلى العموم لعموم المعتبرة والفتوى نصّا وظاهرا، وعدم منافاة المرسلة لشيء ممّا ذكر كما لا يخفى.

الثالثة: بالنسبة إلى كون ليلة السبت كيومه في مشروعيّة القضاء فيه وعدمه،

والّذي يظهر من جماعة حيث اقتصروا على ذكر يوم السبت أو هو مع نهار الجمعة هو العدم اقتصارا على ظاهر ما تقدّم من الأخبار، مضافا إلى المنقول عن كتاب العروس من خبر جعفر بن أحمد القمّي: «من فاته غسل يوم الجمعة فليقضه»(6) وكون المراد من يوم السبت فيها ما يعمّ ليلته احتمال لا يتمّ به الاستدلال، ولأجل ذا اعترض في الذخيرة(7)على القول بالتعميم بكونه خروجا عن المنصوص، لكن في المدارك: «ومقتضى الروايات استحباب قضائه من وقت فوات إلى آخر السبت»(8) وهذا كالصريح في عموم الحكم، وهو ظاهر نحو عبارة قواعد العلّامة: «ويقضي لو فات إلى آخر السبت»(9) كما عن الدروس والبيان والروض والمسالك(10) بل عن البحار نسبته إلى الأكثر(11) وعن

ص: 222


1- الشرائع 44:1.
2- نقل عنه في مصابيح الأحكام: 265، النفلية: 95.
3- المعتبر 354:1.
4- النفليّة: 95.
5- نقل عنه في مصابيح الأحكام: 265.
6- المستدرك 507:2 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 2، العروس: 54.
7- الذخيرة: 7.
8- المدارك 164:2.
9- القواعد 178:1.
10- الدروس 6:1، البيان: 4، روض الجنان 60:1، المسالك 15:1.
11- البحار 126:78.

المجمع إلى الأصحاب(1) وعزي إلى الشيخ وابن إدريس وابن سعيد وابن البرّاج والعلّامة الطباطبائي في مصابيحه(2).

وربّما يتوهّن هذا القول بملاحظة خلوّ أخبار القضاء كأخبار التعجيل المتقدّمة عن ذكر الليلة، فإنّ ذلك ممّا ينهض كاشفا عن مدخليّة نهاريّة الزمان في رجحان هذا القول، ولذا يدفع الألويّة المدّعاة هنا نظرا إلى قرب الليل من الأداء تعليلا بقوّة احتمال مدخليّة المماثلة، لكن قاعدة التسامح مضافة إلى استصحاب الحالة السابقة ممّا يهوّن الأمر ويسهّل الخطب، وليس من الأخبار المتقدّمة ما ينافيها من مفهوم أو دلالة معتبرة قاضية بانتفاء الحكم عن الليل، ولا ريب أن القاطع للاستصحاب هو الدلالة المعتبرة على النفي لا السكوت عن الدلالة على الثبوت.

فما قيل في دفعه من انقطاعه بظاهر الأخبار ليس بسديد، كما أنّ ما عرفته عن المدارك من العبارة الظاهرة فيكون عموم الحكم من مقتضي الروايات ليس بسديد، إلّا أن يكون مراده بها تحديد آخر وقت القضاء من غير تعرّض إلى حكم محلّ البحث بنفي ولا إثبات.

وعن بعض المحقّقين أنّه مع استناده إلى الاستصحاب في مسألة التعجيل بالنسبة إلى ليلة الجمعة لثبوته في يوم الخميس منع من القضاء هنا لمنعه ثبوت الاستصحاب أوّلا وانقطاعه ثانيا، وهو بظاهره تحكم.

الرابعة: بالنسبة إلى الجهة الباعثة على فوات الغسل في وقته من كونهما النسيان فقط،

أو هو مع العذر المطلق، أو هما والعمد، فأوّل الوجوه ما ورد على طبقه مرسلة حريز(3) المتقدّمة، ويوافقها ما عرفته عن فقه الرضا(4) الّا أنّه لم نقف على قائل به.

وعن ظاهر الصدوقين(5) المصير إلى ثاني الوجوه حيث أفتيا على طبق مرسلة الهداية المتقدّم إليها الإشارة(6) لكن مقتضي إطلاق الموثّقتين(7) ولا سيّما موثقة سماعة هو

ص: 223


1- مجمع الفائدة 75:1.
2- المبسوط 40:1، السرائر 124:1، الجامع للشرائع: 32، المهذّب 101:1، مصابيح الأحكام: 120 (مخطوط).
3- تقدّم في الصفحة: 219-220 الرقم 1.
4- تقدّم في الصفحة: 221 الرقم 5.
5- نقله عنهما في مصابيح الأحكام: 119.
6- تقدّم في الصفحة 221 الرقم 4.
7- تقدّما في الصفحة: 219 الرقم 1 و 2.

الوجه الثالث، فهو الأقوى وفاقا لجماعة، بل في الحدائق(1) كما في الذخيرة(2) وعن الكفاية(3) أنّه المشهور، وفي شرح الفاضل(4) نسبه إلى إطلاق الشيخ والأكثر، وعن البحار(5) أنّه ظاهر الأكثر.

ولا ينافيه ما عرفته من المرسلة، فليس المقام من مجاري قاعدة حمل المطلق على المقيد، فضعف بذلك ظاهر الصدوقين إن كان قولا في المسألة، كما ضعف به أيضا ما عن موجز أبي العبّاس من قوله: «ويقضي لو ترك ضرورة إلى آخر السبت»(6)وأضعف منهما المحكيّ عن ظاهر بعضهم من اعتبار الترتب في القضاء بين بقيّة نهار الجمعة ويوم السبت، فاشترط القضاء في السبت بتعذّره في الجمعة حيث قال - في المحكيّ عنه في النهاية - «فإن زالت الشمس ولم يكن قد اغتسل قضاه بعد الزوال، فإن لم يمكنه قضاه يوم السبت»(7) وأضعف من الجميع ما حكى من القول بالفرق بين الوقتين من نهار الجمعة والسبت فالتارك في الأوّل ولو عمدا يقضيه بخلاف الثاني، كما قد يستشعر ذلك عن عبارة التحرير: «لو ترك تهاونا ففي استحباب قضائه يوم السبت إشكال»(8) وفي كلام غير واحد أنّ أوّل زمان القضاء خير من آخره، كما أنّ في كلامهم أنّ آخر زمان التعجيل خير من أوّله، قال في مفتاح الكرامة: «ونصّ في الدروس والبيان والروض أنّ آخر زمن التعجيل خير من أوّله بعكس القضاء»(9) وعن الذخيرة(10) أنّ مستنده غير معلوم، وعن بعضهم الحكم بأنّه كلّما قرب القضاء إلى الزوال كان أفضل على حسب الأداء، ومستند الجميع على ما في بعض العبائر عموم المسارعة والقرب من الأداء مع احتمال كونه أداء على بعض الصور.

تذنيب: المستفاد من بعض الروايات - وعلى طبقه خرجت الفتوى عن غير واحد من الأصحاب - استحباب الدعاء بالمأثور عند غسل الجمعة، فقد روي عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال: «من اغتسل يوم الجمعة للجمعة فقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه

ص: 224


1- الحدائق 230:4.
2- الذخيرة: 7.
3- الكفاية 38:1.
4- كشف اللثام 136:1.
5- البحار 126:78.
6- الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 53.
7- نهاية الإحكام 175:1.
8- التحرير 87:1.
9- مفتاح الكرامة 73:1.
10- الذخيرة: 7.

وحده لا شريك له، وأنّ محمّدا عبده ورسوله، اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، واجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهّرين، كان طهرا له من الجمعة إلى الجمعة»(1)وعن رواية اخرى عن الصادق عليه السلام استحباب أن يقول في الدعاء: «اللهمّ طهّر قلبي من كلّ آفة تمحق به ديني ويبطل به عملي، الّلهمّ اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهّرين»(2).

والثاني من الأغسال المسنونة الوقتيّة: غسل أوّل ليلة من شهر رمضان

نقل على استحبابه الإجماع عن الغنية والروض(3) وعن المعتبر أنّه نسبه إلى اصحابنا(4) وفي الّذخيرة(5) الظاهر أنّه إجماعي وورد به روايات. فعن ابن طاووس في كتاب الإقبال أنّه قال: «ورأيت في كتاب اعتقد أنه تأليف أبي محمّد جعفر بن محمّد القمّي عن الصادق عليه السلام قال: من اغتسل في أوّل ليلة من شهر رمضان في نهر جار ويصبّ على رأسه ثلاثين كفّا من الماء طهر إلى شهر رمضان من قابل»(6).

وعنه أيضا في رواية السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام عن آبائه عن عليّ عليه السلام قال:

«من اغتسل أوّل ليلة من السنة في ماء جار وصبّ على رأسه ثلاثين غرفة كان دوا، السنة، وإنّ أوّل كلّ سنة أوّل يوم من شهر رمضان»(7) وعنه من الكتاب المشار إليه عن الصادق عليه السلام: «من أحبّ أن لا يكون به الحكة فليغتسل أوّل ليله من شهر رمضان فلا تكون به الحكة إلى شهر رمضان من قابل»(8).

والثالث منها: غسل ليلة النصف من شهر رمضان،

كما نصّ به جماعة من أساطين أصحابنا، بل عن الغنية عليه الإجماع(9) وعن الوسيلة عدم الخلاف فيه(10) ونسب إلى

ص: 225


1- الوسائل 323:3 الباب 12 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.
2- الوسائل 254:2 الباب 37 من ابواب الجنابة ح 3.
3- الغنية: 62، روض الجنان 60:1.
4- المعتبر 355:1.
5- الذخيرة: 7.
6- إقبال الأعمال 14، الوسائل 325:3 الباب 14 من أبواب الأغسال المسنونة ح 4.
7- الوسائل 326:3 الباب 14 من أبواب الأغسال المسنونة ح 7.
8- الوسائل 325:3 الباب 14 من أبواب الأغسال المسنونة ح 5، الإقبال: 14.
9- الغنية: 62.
10- الوسيلة: 54.

المشهور أيضا، ومع هذا به روايتان، فعن ابن طاووس في كتابه المتقدّم(1) أنّه قال:

وروينا عن الشيخ المفيد في المقنعة(2) في رواية عن الصادق عليه السلام: «أنّه يستحبّ الغسل ليلة النصف من شهر رمضان»(3).

وعنه أيضا عن ابن أبي قرّة في كتاب عمل شهر رمضان بإسناده إلى أبي عبداللّه عليه السلام قال: «يستحبّ الغسل في أوّل ليلة من شهر رمضان وليلة النصف منه»(4) وفي كلام غير واحد عدم الوقوف على نصّ في هذا الباب وقد عرفت أنّه ليس كذلك. وعن المعتبر أنّه قال: «ولعلّه لشرف تلك الليلة فاقترانهما بالغسل حسن»(5).

أقول: وكأنّ الوجه في شرافتها كونها مولد الحسن والجواد عليهما السلام على ما في المحكيّ عن المحقّق الثاني(6) وقد عرفت أنّه لا حاجة في الإذعان بذلك الحكم التمسّك بما ذكر من الوجه والاعتبار، نعم ربّما يوجب ذلك آكديّة الاستحباب هنا وكون هذا الغسل أفضل الأغسال المسنونة في شهر رمضان، ولعلّه لذا فضّله الشيخ في المصباح على ما حكاه كاشف اللثام عن الكتاب فقال: «وفضّل الشيخ في المصباح غسلها على أغسال سائر ليالي الإفراد، فقال: وإن اغتسل ليالي الإفراد كلّها خاصّة ليلة النصف كان فيه فضل كثير، وعن الشهيد أنّه فضّله على أغسالها سوى الأولى، وتسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين»(7).

والرابع والخامس والسادس والسابع منها: أغسال ليالي سبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين

على ما نصّ به أساطين أصحابنا، وعن المعتبر: أنّه في الأربعة مذهب الأصحاب(8) وعن الغنية والروض(9) دعوى الإجماع عليه، و كذلك

ص: 226


1- إقبال الأعمال: 150، الوسائل 326:3 الباب 14 من أبواب الأغسال المسنونة ح 9.
2- المقنعة: 51.
3- اقبال الأعمال: 150، الوسائل 326:3 الباب 14 من أبواب الأغسال المسنونة ح 9.
4- الوسائل 325:3 الباب 14 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1، الاقبال 14.
5- المعتبر 355:1.
6- جامع المقاصد 74:1.
7- كشف اللثام 138:1-139.
8- المعتبر 355:1.
9- الغنية: 62، روض الجنان 61:1.

عن المصابيح(1) في الثلاث الأخيرة، للروايات الّتي منها: ما عن الفقيه: «وقد روي أنّه يغتسل في ليلة سبع عشرة»(2).

ومنها: الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: «الغسل في سبعة عشرة موطنا، ليلة سبع عشرة من شهر رمضان وهي ليلة التقى الجمعان، وليلة تسع عشرة وفيها يكتب الوفد وفد السنّة، وليلة إحدى وعشرين وهي الليلة الّتي اصيب فيها أوصياء الأنبياء وفيها رفع عيسى بن مريم وقبض موسى عليهما السلام وليلة ثلاث وعشرين يرجى فيها ليلة القدر» الخ(2).

ومنها: رواية زرارة عن أحدهما عليه السلام سأله عمّا يستحبّ فيها الغسل من ليالي شهر رمضان، فقال: «ليلة تسع عشرة، وليلة إحدى و عشرين، وليلة ثلاث و عشرين،..» الخبر(3).

ومنها: خبر سماعة عن الصادق عليه السلام: «وغسل ليلة إحدى وعشرين سنّة، وغسل ليلة ثلاث وعشرين لا تتركه فإنّه يرجى في إحداهما ليلة القدر»(4).

ومنها: خبر بريدة بن معاوية أنّ الصادق عليه السلام اغتسل ليلة ثلاث وعشرين مرّة في أوّلها ومرّة في آخره(5).

وعن ابن طاووس في الكتاب المشار إليه عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «غسل إحدى وعشرين من شهر رمضان سنّة»(7) وقال أيضا: «وروى علي بن عبدالواحد في كتابه بإسناده إلى عيسى بن راشد عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: «سألته عن الغسل في شهر رمضان ؟ فقال: كان أبي يغتسل في ليلة تسع عشرة، وإحدى وعشرين، وثلاث وخمس وعشرين»(8).

وعنه أيضا عن ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن الغسل في شهر رمضان فقال: اغتسل ليلة تسع عشره، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وسبع

ص: 227


1- مصابيح الأحكام: 127 (مخطوط). (2و7و8) الوسائل 327:3 الباب 14 من أبواب الأغسال المسنونة ح 15 و 11 و 12.
2- الوسائل 307:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 11 و 13.
3- الوسائل 307:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 11 و 13.
4- الوسائل 303:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3.
5- الوسائل 311:3 الباب 5 من أبواب الأغسال المسنونة ح 11.

وعشرين، وتسع وعشرين»(1).

وهذه هي الأغسال المعروفة الواردة في شهر رمضان، وقد يزاد عليها أغسال آخر على حسبما ورد في بعض الروايات وأفتي به بعض الأصحاب، فعن ابن طاووس في كتابه المتقدّم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يغتسل في شهر [رمضان] في العشر الأواخر في كلّ ليلة»(2) وفي كشف اللثام(3) أنّه قد روى الاغتسال في كلّ ليلة فرد منه، وفيه أيضا وفي كتاب الاغتسال لأحمد بن محمّد بن عياش عن أمير المؤمنين عليه السلام: أن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كان يغتسل كلّ ليلة منه بين العشاءين(4).

وأمّا وقت هذه الأغسال فالروايات فيه مختلفة، ففي بعضها تحديده بأوّل الليل، وفي خبر عيص بن القاسم قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الليلة التي يطلب فيها ما يطلب متى الغسل ؟ فقال: من أوّل الليل وإن شئت حيث تقوم من آخره. وسألته عن القيام ؟ فقال: تقوم في أوّله وآخره»(5).

وفي خبر زرارة والفضيل عن أبي جعفر عليه السلام قال: «الغسل في شهر رمضان عند وجوب الشمس قبيله، ثمّ يصلّي ويفطر»(6) ولو قيل باتّساع الوقت في تمام الليل وحمل اختلاف الأخبار على مراتب الفضل والكمال لم يكن بعيدا.

والثامن منها: غسل ليلة الفطرة

في كلام غير واحد أنّه ذكره الشيخان(7) وجماعة، وعن الغنية(8) الإجماع عليه، ومستنده رواية الحسن بن راشد قال: قلت:

لأبي عبداللّه عليه السلام «إنّ الناس يقولون: إنّ المغفرة تتنزّل على من صام شهر رمضان ليلة القدر؟ فقال: يا حسن إنّ «القاريجار» إنّما يعطى اجرته عند فراغه، ذلك ليلة العيد، قلت:

جعلت فداك، فما ينبغي لنا أن نعمل فيها؟ فقال: إذا غربت الشمس فاغتسل...» الخ(9).

ص: 228


1- الوسائل 327:3 الباب 14 من أبواب الأغسال المسنونة ح 13.
2- الوسائل 326:3 الباب 14 من أبواب الأغسال المسنونة ح 10.
3- كشف اللثام 139:1.
4- كشف اللثام 139:1.
5- الوسائل 324:3 الباب 13 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3 و 2.
6- الوسائل 324:3 الباب 13 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3 و 2.
7- المقنعة: 51، المبسوط 40:1.
8- الغنية. 62.
9- الوسائل 328:3 الباب 15 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.

وفي الوسائل عن بعض مشايخه قال: «القار يجار» فارسي معرّب معناه العامل والأجير(1) ولا يخفى أنّ ظاهر الخبر توقيت هذا الفعل بما بعد الغروب، لكن في الجواهر أنّ ظاهر المصنّف كمعقد الإجماع الاجتزاء بأيّ جزء من الليل(2) ولعلّه ظاهر المطبقين، والاقتصار على ظاهر النصّ أولى وأحوط. وعن ابن طاووس في آداب ليلة الفطر من إقباله أنّه روي «أنّه يغتسل قبل الغروب إذا علم أنّه ليلة القدر»(3) وهذا كما ترى يخالف ظاهر النصّ ولعلّه أخذه من رواية اخرى، وحينئذ يجمع بينهما بالتزام كون أوّل الوقت من قبل الغروب.

والتاسع والعاشر منها: غسل يومي العيدين الفطر والأضحى،

نصّ عليه جماعة من الأساطين، وعليه الإجماع عن الغنية والروض(4) وعن المعتبر أنّه مذهب الأصحاب(5)وغيرهم أجمع إلّا ما حكي عن أهل الظاهر من الوجوب، وفي المدارك: أنّه مذهب العلماء كافة(6) وعن التذكرة نسبته إلى العلماء(7) أيضا، واستفاضت الروايات به ومن ذلك صحيحة عليّ بن يقطين المتقدّمة قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الغسل في الجمعة والأضحى والفطر؟ قال: سنّة وليس بفريضة»(8).

وموثّقة سماعة عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «غسل يوم الفطر ويوم الأضحى سنة لا احبّ تركها»(9) وفي بعض الروايات ما يدلّ على وجوب هذا الغسل لكنّه مطروح أو مؤوّل، واستظهر في المدارك(10) امتداد وقت هذا الغسل بامتداد اليوم عملا بإطلاق اللفظ، ونقل النصّ بذلك عن النهاية والروض(11) أيضا، وعن الذكري: «أنّه يمتدّ بامتداد اليوم»(12) ويتخرّج من تعليل الجمعة إنه إلى الصلاة أو إلى الزوال الّذي هو وقت صلاة العيد وهو ظاهر الأصحاب. وفي السرائر وقته من طلوع الفجر الثاني إلى قبل الخروج

ص: 229


1- الوسائل 328:3..
2- الجواهر 33:5.
3- إقبال الأعمال: 271.
4- الغنية: 62، روض الجنان 61:1.
5- المعتبر 356:1.
6- المدارك 166:2.
7- التذكرة 142:2.
8- الوسائل 329:3 الباب 16 من أبواب الأغسال المنونة ح 1.
9- الوسائل 329:3 الباب 16 من أبواب الأغسال المسنونة ح 2.
10- المدارك 166:2.
11- نهاية الإحكام 176:1، روض الجنان 61:1.
12- الذكرى 202:1.

إلى المصلى(1).

ففي المقام وجوه وإن لم يظهر قائل بثانيها وإن كان أحوط، فالأظهر إذا أوّلها عملا بالأصل هذا بالنسبة إلى منتهى الوقت، وأمّا مبدأه فلا إشكال في أنّه ممّا بعد طلوع الفجر على ما ورد في صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته هل يجزئه أن يغتسل بعد طلوع الفجر، هل يجزئه ذلك من غسل العيدين ؟ قال: إن اغتسل يوم الفطر والأضحى قبل الفجر لم يجزئ وإن اغتسل بعد طلوع الفجر أجزأه»(2).

والحادي عشر: غسل يوم عرفة،

واستحبابه يوم عرفة ممّا نقل الإجماع عليه في المدارك(3) كما عن الغنية(4) أيضا، والروايات مع ذلك به مستفيضة، وأكثر إطلاقها كإطلاق الفتاوي يعطي عدم اختصاصه بالناسك، بل وقع عليه التصريح في مرسلة عبدالرحمن بن سيّابة المنقولة عن روضة الواعظين أنّه سأل الصادق عليه السلام عن غسل يوم عرفة في الأمصار؟ فقال: «اغتسل أينما كنت»(5) كما أنّ إطلاق أكثر ما ذكر يقتضي اتّساع وقته على حسب اتّساع اليوم، وأمّا ما في خبر عبداللّه بن سنان من «أنّ الغسل من الجنابة ويوم الجمعة ويوم الفطر ويوم الأضحى ويوم عرفة عند زوال الشمس»(6)فممّا لا عامل به من هذه الجهة.

الثاني عشر والثالث عشر: غسل ليلة النصف من رجب، ويوم السابع والعشرين منه المعروف بيوم المبعث،

كما عن الشيخ النصّ عليهما في المصباح والجمل والاقتصاد(7)والنصّ على الأوّل عن النزهة والجامع والإصباح(8) وفي مفتاح الكرامة(9) في الأوّل مع ما يأتي من غسل ليلة النصف من شعبان نصّ عليه جماهير الأصحاب، وعن الغنية

ص: 230


1- السرائر 125:1.
2- الوسائل 339:3 الباب 17 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3.
3- المدارك 166:2.
4- الغنية: 62.
5- الوسائل 309:3 الباب 2 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1، روضة الواعظين: 351.
6- الوسائل 306:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 10.
7- المصباح: 11، الجمل والعقود: 167، الاقتصاد: 250.
8- نزهة الناظر: 15، الجامع للشرايع: 32، إصباح الشيعة (سلسلة الينابيع الفقهيّة) 439:2.
9- مفتاح الكرامة 77:1.

الإجماع على الثاني(1) مضافا إلى النصّ المحكيّ عن الشهيدين وأبو العبّاس في الموجز عليه(2) وعن العلّامة في النهاية والصيمري في الكشف نسبته فيهما إلى الرواية(3) لكن عن المعتبر: «وربّما كان لشرف الوقتين والغسل مستحبّ مطلقا فلا بأس بالمتابعة فيه»(4) وهذا يؤذن بعدم وقوفه على نصّ في ذلك بالخصوص كما اعترف به غير واحد من أساطين الأصحاب.

وربّما يناقش في كليّة ما ادّعاه من قضيّة الشرافة وإطلاق استحباب الغسل، لّكن الخطب في ذلك سهل بعد ما سمعته عن النهاية والكشف فإنّه ينهض رواية مرسلة يكتفي بها في نظائر المقام، مضافا إلى ما عرفته من تظافر الفتاوى عليه ونقل الإجماع فيه في الجملة، وقد يستند له في الجملة إلى ما عن ابن طاووس في الإقبال قال:

«وجدنا في كتب العبادات عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أنّه قال: من أدرك شهر رجب فاغتسل في أوّله وأوسطه وآخره خرج من ذنوبه كيوم ولدته امّه»(5) وهو من حيث الدلالة محلّ مناقشة. لظهور الأوّل والأوسط والآخر المضافين إلى الشهر في اليوم، ولو احتيط بمراعاة الغسل في كلّ من ليلة النصف ونهاره لزم إدراك الفضل جزما، كما أنّه لو قيل بالاستحباب في كلّ من الأوّل والآخر مضافين إلى الأوسط تعويلا على قاعدة التسامح كان فيه من الفضل حسبما ذكر في الرواية ما لا يخفى، وظاهر عبارة السيّد أنّه عامل بها معتمد عليها.

والرابع عشر: غسل ليلة النصف من شعبان

نقل فيه الإجماع عن ابن زهرة(6) ونفى الخلاف عن ابن حمزة(7) وبه مع ذلك رواية مرسة عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «صوموا شعبان واغتسلوا ليلة النصف منه وذلك تخفيف من ربّكم ورحمة»(8) وعن مصباح الشيخ عن سالم مولى حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال: «من تطهّر ليلة النصف من

ص: 231


1- الغنية: 62.
2- البيان: 4، روض الجنان 61:1، الموجز: 53.
3- نهاية الإحكام 177:1، كشف الالتباس: 59.
4- المعتبر 356:1.
5- إقبال الأعمال: 628، الوسائل 334:3 الباب 22 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.
6- الغنية: 62.
7- الوسيلة: 54.
8- الوسائل 335:3 الباب 23 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.

شعبان فأحسن الطهر - وساق الحديث إلى قوله -: قضى اللّه تعالى له ثلاث حوائج، ثمّ إن سأل أن يراني في ليلته رآني»(1).

والخامس عشر: غسل يوم الغدير،

هذا مذهب الاصحاب كما في المدارك(2) وعن الشيخ في التهذيب عليه إجماع الفرقة(3) وبالإجماع كما في كشف اللثام(4) ناقلا له عن الغنية(5) أيضا، وبه مع ذلك رواية علي بن الحسين العبدي قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «من صلّى فيه ركعتين يغتسل عند زوال الشمس قبل أن تزول بمقدار نصف ساعة - وساق الحديث في بيان كيفية الصلاة إلى أن قال -: ما سأل الله تعالى حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلّا قضيت له كائنة ما كانت» الخ(6).

والسادس عشر: غسل يوم المباهلة،

وهو الرابع والعشرون من ذي الحقّة على المشهور كما في كشف اللثام(7) وعن الذكرى والروض وتعليق الشرائع والذخيرة والكفاية(8) وعن المعتبر أنّه اليوم الخامس والعشرون(9).

وعن الإقبال(10) وقيل: يوم أحد وعشرين، وقيل: يوم سبعة وعشرين، وعلى الحكم المذكور نصّ جماعة، وعن الغنية نقل الإجماع عليه(11) وفي كلام غير واحد أنّ عبارتها يحتمل الغسل لفعل المباهلة كعبارة الفقيه(12) ولفظ الخبر: «وغسل المباهلة واجب»(13) المحمول على تأكد الاستحباب.

وكيف كان فعلى طبقه خبران، أحدهما: ما عن الإقبال في رواية قال: «إذا أردت ذلك فابدأ بصوم ذلك اليوم شكرا واغتسل والبس أنظف...»(14).

وثانيهما: ما عن المصباح عن محمّد بن صدقة العنبري عن أبي إبراهيم موسى بن

ص: 232


1- الوسائل 108:5 الباب 8 من أبواب الصلوات المندوبة ح 8، المصباح: 769.
2- المدارك 167:2.
3- التهذيب 114:1.
4- كشف اللثام 142:1.
5- الغنية: 62.
6- الوسائل 89:8 الباب 3 من أبواب الصلوات المندوبة ح 1.
7- كشف اللثام 142:1.
8- الذكرى 198:1، روض الجنان 62:1، فوائد الشرائع: 20، الذخيرة: 7، الكفاية: 7.
9- المعتبر: 357.
10- اقبال الأعمال: 515.
11- الغنية 62:9.
12- الفقيه 45:1/176.
13- الوسائل 304:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3.
14- إقبال الأعمال: 515.

جعفر عليه السلام قال: «يوم المباهلة يوم الرابع والعشرين من ذي الحجّة تصلّي في ذلك اليوم ما أردت، ثمّ قال: وتقول: وأنت على غسل الحمد للّه ربّ العالمين...» إلى آخره(1).

هذه هي الستّة عشر من الأغسال الوقتيّة على حسبما أورده المحقّق في الشرائع، وقد تبين في ضمنها استحباب أغسال آخر من الوقتيّة أهملها المحقّق، وممّا أهملها أيضا غسل يوم المولود وغسل يوم نيروز الفرس.

أمّا الأوّل: ففي الجواهر كما عن الوسيلة لم أجد خلافا في استحباب الغسل فيه(2)وعن الكشف إنه نسبه إلى الرواية(3) هذا مع ما يستفاد من بعض الأخبار من استحباب الغسل في الأعياد كما في المرسل عنه عليه السلام أنّه قال في جمعة من الجمع: «هذا يوم جعله اللّه عيدا للمسلمين فاغتسلوا فيه»(4) وعن الخلاف الإجماع على استحباب الغسل في الجمعة والأعياد(5) فيندرج فيهما المقام لكونه من جملة الأعياد على ما هو المعروف في البلاد، والمشهور في هذا اليوم الّذي عليه عمل السلمين أنّه السابع عشر من ربيع الأوّل، وعن الكليني أنه الثاني عشر مسندا له إلى الرواية(6).

وأمّا الثاني ففي مفتاح الكرامة نصّ عليه الشيخ وصاحب الجامع والشهيد وأبوا العبّاس(7) وفي الجواهر على المشهور بين المتأخرين(8) والمستند خبر المعلّى بن خنيس عن الصادق عليه السلام «إذا كان يوم النيروز فاغتسل» الخ(9) وفي تفسيره أقوال والمشهور منها الذي عليه العمل في يومنا هذا أنّه يوم انتقال الشمس إلى برج الحمل، ونصّ عليه جمع من أساطين العلماء.

وأمّا السبعة من الأغسال الفعليّة:
فأوّلها: غسل الإحرام

الّذي في مفتاح الكرامة(10) نصّ عليه جمهور الأصحاب،

ص: 233


1- المصباح: 708، 70، الوسائل 172:8 الباب 47 من أبواب الصلوات المندوبة ح 2.
2- الجواهر 37:5، الوسيلة: 54.
3- كشف اللثام 143:1.
4- كنز العمّال 152:4/2367.
5- الخلاف 219:1.
6- الكافي 439:1.
7- مفتاح الكرامة 78:1، مصباح المتهجّد: 791، الجامع للشرائع 33:1، البيان: 4، المهذب البارع 191:1-192.
8- الجواهر 41:5.
9- الوسائل 335:3 الباب 24 من أبواب الأغسال المنونة ح 1.
10- مفتاح الكرامة 80:1.

وفي المختلف: «المشهور أنّه مستحبّ اختاره الشيخان حتّى أنّ المفيد قال: غسل الإحرام للحجّ سنّة بلا خلاف، وكذا غسل إحرام العمرة، وهو اختيار ابن الجنيد والسيّد المرتضى وسلّار وابن إدريس وابن البرّاج وأبي الصلاح»(1).

وفي الذخيرة: «أنّه على المشهور بين الأصحاب حتّى قال الشيخ في التهذيب: أنه سنّة بلا خلاف»(2).

و في المدارك: «هذا قول معظم الأصحاب»(3) وعزى حكاية الشهرة فيه إلى التذكرة(4) والدلائل(5) أيضا، بل عن الغنية وكتاب الحجّ من الخلاف نقل الإجماع عليه(6) وكذا عن طهارة الوسيلة والمنتهى(7) وعن حج التحرير(8) ليس بواجب إجماعا، وعن ابن المنذر(9) أجمع أهل العلم انّ الإحرام جائز بغير اغتسال وعن المصابيح: أنّ عليه الإجماع المعلوم بالنقل المستفيض وفتوى المعظم وإطباق المتأخّرين(10).

وعن ظاهر المجالس(11) نسبته إلى دين الإماميّة.

وفي المختلف(12): «قال: ابن أبي عقيل إنه واجب، قال السيّد المرتضي: الصحيح عندي أنّ غسل الإحرام سنّة مؤكدة غاية التأكيد، فلهذا اشتبه الأمر على أصحابنا واعتقدوا أنّ غسل الإحرام واجب لقوّة ما رووه في تأكيده...» الخ.

وظاهر عبارة السيّد كما ترى يعطي كون الوجوب مختار غير واحد من الأصحاب إن لم نقل بكونه مؤذنا بدعوى إطباقهم عليه لمكان التعبير بصيغة الجمع، وعزي أيضا إلى ابن الجنيد بل إلى ظاهر الصدوق ومال إليه صاحب الحدائق تعويلا على قوّة دليله ومحافظة على الاحتياط.

ص: 234


1- المختلف 315:1، المبسوط 40:1، المقنعة: 50-51، نقل عنه في المختلف 315:1، رسائل الشريف المرتضى 66:3، المراسم: 52، السرائر 125:1، المهذّب 33:1، الكافي في الفقه: 135.
2- الذخيرة: 7، التهذيب 113:1.
3- المدارك 168:2.
4- التذكرة 143:2.
5- نقل عنه في مفتاح الكرامة 81:1.
6- الغنية: 62، الخلاف 286:2..
7- الوسيلة: 54، المنتهى 474:2.
8- التحرير 95:1.
9- حكاه عنه المجموع 220:7.
10- مصابيح الأحكام: 129 (مخطوط).
11- مصابيح الأحكام: 129 (مخطوط).
12- المختلف 315:1، الحدائق 184:4.

والروايات الواردة في ذلك عن أهل العصمة مختلفة، فمنها ما يدلّ صراحة وظهورا على الاستحباب، ومنها ما يدلّ ظهورا على الوجوب، ومنها ما لا يدلّ على شيء منهما.

فمن الصنف الأوّل: ما عن عيون الأخبار بسند موثوق بصدقه إن لم نقل بصحّته على ما يظهر من الرجال عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام في كتاب كتبه إلى المأمون: «وغسل يوم الجمعة سنة، وغسل عيدين وغسل دخول مكة والمدينة وغسل الزيارة وغسل الإحرام وأوّل ليلة من شهر رمضان وليلة سبع عشرة وليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان هذه الأغسال سنة، وغسل الجنابة فريضة، وغسل الحيض مثله»(1).

ومنه أيضا ما أورده في الحدائق قائلا: «وقد روي أنّ الغسل أربعة عشر وجها ثلاث منها غسل واجب مفروض متى ما نسيه ثمّ ذكره بعده الوقت اغتسل فإن لم يجد الماء تيمّم، ثمّ إن وجدت الماء فعليك الإعادة، وأحد عشر غسلا سنة غسل العيدين والجمعة وغسل الإحرام ويوم عرفة ودخول مكة ودخول المدينة وزيارة البيت وثلاثة ليال في شهر رمضان ليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين، ومتى ما نسى بعضها أو اضطرّ أو به علّة منعته من الغسل فلا إعادة عليه» الخ(2).

ومنه أيضا ما أورده في المختلف(3) وتمسّك به من رواية سعد بن أبي خلف واصفا له بالصحّة عن الصادق عليه السلام قال: «سمعته يقول الغسل أربعة عشر موطنا واحد فريضة والباقي سنة»(4).

ومن الصنف الثاني: موثقة سماعة المتقدّمة في بحث غسل الجمعة المتضمّنة لقوله عليه السلام: «وغسل المحرم واجب»(5) الّتي نقل الاحتجاج بها في المختلف(6) للقول بالوجوب».

ص: 235


1- الرسائل 305:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 6.
2- الحدائق 181:4.
3- المختلف 315:1.
4- التهذيب 110:1/289، الوسائل 176:2 الباب 1 من أبواب الجنابة ح 11.
5- الوسائل 304:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3.
6- المختلف 316:1.

ومنه أيضا ما احتمل الاستناد إليه في المعتبر(1) على ما في محكيّ المدارك(2) لهذا القول قائلا: «ولعلّ القائل بالوجوب استند إلى ما رواه محمّد بن عيسى عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «الغسل في سبعة عشر موطنا، الفرض ثلاثة:

غسل الجنابة، وغسل من مسّ ميّتا، والغسل للإحرام»(3) وناقشه في المدارك بقوله:

«ومحمّد بن عيسى وما يرويه عن يونس لا يعمل به كما ذكره ابن بابويه عن ابن الوليد وأنّه مرسل فسقط الاحتجاج به»(4).

ومن الصنف الثالث: ما رواه معاوية بن عمّار في الصحيح عن أبي عبدالله قال سمعته يقول: «الغسل من الجنابة، ويوم الجمعة، والعيدين، وحين تحرم، وحين تدخل مكة والمدينة، ويوم عرفة، ويوم تزور البيت، وحين تدخل الكعبة، وفي ليلة تسع عشرة وإحدي وعشرين وثلاث وعشرين من شهر [رمضان] ومن مسّ ميتا»(5) وما يقرب من ذلك في الأخبار مستفيض لكن الشيخ في التهذيب(6) احتجّ به على ما اختاره من الاستحباب وهو غير واضح الوجه.

ومن الغرائب أنّ العلّامة في المختلف أجاب عن الاحتجاج بموثّقة الّذي نقله للقول بالوجوب: بأنّ المراد من الوجوب شدّة الاستحباب لقوله عليه السلام في الحديث:

«غسل الاستسقاء واجب، وغسل يوم عرفة واجب، وغسل الزيارة واجب»(7) مع أنّ سند الحديث ضعيف»(8) مع أنّه قبيل ذلك(9) احتجّ بها في مسألة غسل مسّ الميّت لما اختاره من وجوب هذا الغسل لمكان قوله عليه السلام: «وغسل من مسّ ميّتا واجب» مع أنّ سند الرواية موثق بسماعة.

وكيف كان، فالمعتمد المظنون بالظنّ المتاخم للعلم هو القول المشهور، لقوّة دليله المعتضد بجميع ما مرّ، والجواب عمّا عرفته للقول بالوجوب ما عرفته هنا، مضافا إلى

ص: 236


1- المعتبر 358:1.
2- المدارك 169:2.
3- الوسائل 174:2 الباب 1 من أبواب الجنابة ح 4، التهذيب 105:1/271.
4- المدارك 169:2.
5- الوسائل 303:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.
6- التهذيب 104:1/270.
7- الوسائل 303:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3.
8- المختلف 316:1.
9- المختلف 313:1.

الوجوه المتقدّمة في مسألة غسل الجمعة دفعا بحجّة القول بوجوبه، فراجع وتأمّل.

واحتجّ في المدارك(1) للقول المختار بما رواه معاوية بن عمّار في الصحيح عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إذا انتهيت إلى العقيق من قبل العراق أو إلى وقت من هذه المواقيت وأنت تريد الإحرام إن شاء اللّه تعالى فانتف ابطيك وقلم أظفارك وخذ من شاربك - إلى أن قال: - ثمّ استك واغتسل والبس ثوبيك»(2) قال: والظاهر من الأمر بالغسل الاستحباب كما يشعر به الأوامر المقدّمة عليه، فإنها للندب بغير خلاف.

انتهى(3) وفيه من الوهن والسقوط ما لا يخفى.

وثانيها مع ثالثها: غسل زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم والأئمّة المعصومين سلام اللّه عليهم اجمعين

المحكوم عليه بكونه على المشهور بين الأصحاب كما في الجواهر(4) بل في كشف اللثام(5) كما عن المصابيح(6) كونه ما قطع به الأصحاب مؤذنا بدعوى الإجماع عليه، بل عن الغنية(7) دعواه صريحا، وعن الوسيلة(8) عدّه في المندوب بلا خلاف، وهو بالتعبير كما في عبارة المقنعة(9) المحكيّة في التهذيب(10) وعن المبسوط والنافع والنزهة والدروس والبيان والمنتهى والنهاية والإرشاد والتحرير(11) وغيرها، ومن الأصحاب من اقتصر في العنوان على ذكر الأئمّة عليهما السلام كما عن التذكرة(12) وغيرها.

ولا يخفى عليك أنّ إطلاق الفتوى يقتضي عموم الحكم من جهتين:

إحداهما: عمومه بالنسبة إلى المزور من النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وكلّ واحد من الأئمّة عليهما السلام كما هو صريح السرائر(13) وفي الذخيرة: «أنّ كلّ ذلك للرواية»(14) وممّا يدلّ على العموم من تلك الجهة بالنسبة إلى الأئمّة عليهما السلام ماورد في زيارة الجامحة عن موسى بن عبداللّه

ص: 237


1- المدارك 168:2.
2- الكافي 326:4/1، الفقيه 200:2/914، الوسائل 9:9 الباب 6 من أبواب الاحرام ح 4.
3- المدارك 169:2.
4- الجواهر 45:5.
5- كشف اللثام 150:1.
6- مصابيح الأحكام: 132 (مخطوط).
7- الغنية: 62.
8- الوسيلة: 54.
9- المقنعة: 51.
10- التهذيب 115:1.
11- المبسوط 40:1، النافع: 16، نزهة الناظر: 16، الدروس 87:1، البيان: 4، المنتهى 473:1، نهاية الإحكام 178:1، إرشاد الأذهان 220:1، التحرير 11:1.
12- التذكرة 143:2.
13- السرائر 125:1.
14- الذخيرة: 7.

النخعي قال: قلت لعليّ بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام: علّمني يابن رسول الله قولا أقوله بليغا كاملا إذا زرت راجحا منكم فقال: «إذا صرت إلى الباب فقف واشهد الشهادتين وأنت على غسل...» إلخ(1) وقد يتمسّك لذلك إلى ما في خبر العلاء بن سيّابة في قوله تعالى:

خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (2) من قوله عليه السلام: «الغسل عند لقاء كلّ إمام»(3) بتقريب:

أنّه يعمّ الموت والحياة، وأنّ حرمتهم أحياء كحرمتهم أمواتا.

وفيه: مناقشة واضحة من حيث ظهور اللقاء في الحياة، ومنع كلّيّة تساوي الحرمتين حتى فيما ندب لمراعاة حرمتهم حال حياتهم، مع توجّه المنع إلى منافاة الدخول عليهم من غير غسل لحرمتهم، فإنّها واجبة في حياتهم ومماتهم والغسل إنّما اعتبر مبالغة فيها لا مراعاة لأصلها، وإنّما قام الدليل على استحباب المبالغة فيها حال حياتهم بالخصوص ومساواة حال المماة من هذه الجهة لحال الحياة غير ثابتة فتأمّل.

وقد يوجد في بعض العبارات الاستناد لذلك أيضا بما في الروايات المستفيضة من عدّ الغسل للزيارة من جملة الأغسال المشروعة وأخذه في عدادها كما في المرويّ في الفقيه، قال أبو جعفر: «الغسل في سبعة عشر موطنا - إلى أن قال: - وإذا دخلت الحرمين، ويوم تحوم، ويوم الزيارة، ويوم تدخل البيت، ويوم التروية» إلخ(4) والمرويّ في العيون في جملة ما في كتابته عليه السلام إلى المأمون من قوله: «وغسل دخول مكة والمدينة وغسل الزيارة وغسل الإحرام»(5) و المرويّ عن الخصال من «أنّ الغسل في أربعة عشر موطنا - إلى أن قال: - وغسل الإحرام ودخول الكعبة ودخول المدينة ودخول الحرم والزيارة»(6) وما في المرويّ فيه أيضا في حديث شرائع الدين من قوله:

«والأغسال منها غسل الجنابة - إلى قوله: - وغسل دخول مكة وغسل دخول المدينة وغسل الزيارة وغسل الإحرام»(7) و المرويّ في التهذيب من قوله: «الغسل من الجنابة

ص: 238


1- التهذيب 95:6 ح 177.
2- الاعراف: 31.
3- الوسائل 390:14 باب استحباب الغسل لزيارة أميرالمومنين وغيره من الأئمّة عليهما السلام ح 2.
4- الوسائل 304:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 4.
5- الوسائل 305:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 6 و 7.
6- الوسائل 305:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 6 و 7.
7- الوسائل 306:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 8.

- إلى قوله: - وحين تحرم وعند دخول مكة والمدينة ودخول الكعبة وغسل الزيارة»(1)حتّى أن في المدارك(2) لدفع منافاة ما في موثقة سماعة المتقدّمة من قوله: «وغسل المحرم واجب وغسل يوم عرفة واجب وغسل الزيارة واجب إلّا من علّة وغسل دخول البيت واجب»(3) لاستحباب هذا الغسل حمل الوجوب فيها على إرادة تأكد الاستحباب، وهذا كما ترى ليس في محلّه لظهور الزيارة في هذه الروايات بملاحظة السابق واللاحق في زيارة البيت خاصّة، كما يشهد له صريح ما في رواية معاوية بن عمّار من قوله:

«وحين تدخل مكة والمدينة ويوم عرفة ويوم تزور البيت وحين تدخل الكعبة»(4).

وثانيتهما: عمومه بالنسبة إلى أفراد الزيارة من المطلقة والمخصوصة بالليالي الشريفة والأيّام المتبرّكة، وفي ثبوت العموم من هذه الجهة يكفي إطلاق ما تقدّم من فتاوى الأصحاب وإجماعاتهم المنقولة، بل الرواية المتقدّمة في زيارة الجامعة، إذ ليس فيه جهة اختصاص إلّا ما يوهمه من الاختصاص بالقول المخصوص الوارد فيه المعبّر عنه بزيارة الجامعة، فلا يتناول سائر ماورد من الأقوال في الزيارات المطلقة والمخصوصة.

ويمكن الذبّ عنه بملاحظة سياق السؤال وورود الجواب على طبقه، فإنّ السائل إنّما طلب من الإمام عليه السلام للزيارة قولا جامع وصفي البلاغة والكمال، والبلاغة وإن كانت وصفا يعتبر في نفس القول غير أنّ الكمال وصف يلحقه باعتبار خارج، وليس في الجواب خارج يصلح لذلك إلّا ما أمر به الإمام عليه السلام من الغسل.

ولو سلّم عدم انحصار جهة الكمال فيه فلا أقلّ من كونه بحيث له مدخلية فيه، فإذا ثبت أنّ له مدخليّة في كمال الزيارة فيعمّ استحبابه لكلّ قول مشروع فيها، ضرورة استقلال العقل برجحان اختيار الفرد الكامل من الزيارة والقول الوارد فيها كائنا ما كان.

فتبيّن بما قرّرناه أنّ هذا الحكم ممّا لا إشكال فيه ولا في عمومه، وبما علم من تضاعيف المسألة علم أنّ من جملة ما يستحبّ له الغسل أيضا إنما هو زيارة البيت لاستفاضة النصوص فيه كما نسب النصّ عليه أيضا عن جماعة، بل عن الغنية(5) دعوي

ص: 239


1- الوسائل 36:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 10.
2- المدارك 169:2.
3- الوسائل 303:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3 و 1.
4- الوسائل 303:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3 و 1.
5- الغنية 62:1.

الإجماع عليه مع تقييده بكونه عند الرجوع من منى، لكن النصوص على ما عرفت خالية عن هذا التقييد.

ورابعها: غسل القضاء لصلاة الكسوف الفائتة في الوقت،

وقد اختلفت عباراتهم في هذه المسألة موضوعا كما اختلفت اقوالهم فيها حكما.

أمّا الأوّل: فلأنّ منهم من اعتبر في مشروعيّة هذا الغسل أمرين: استيعاب الاحتراق للقرص وتعمّد الترك للصلاة، كما عن الهداية ومصباح الشيخ واقتصاده وجمله وخلافه والنهاية والمبسوط والكافي والمهذّب والمراسم(1) ورسالة عليّ بن بابويه(2) والنزهة والجامع والإصباح وجمل العلم والعمل والمعتبر(3) وفي السرائر والشرائع والنافع(4)وعزي في الذخيرة اختياره إلى أكثر المتأخّرين(5) بل في صلاة السرائر نفي الخلاف عن انتفاء هذا الغسل عند انتفاء الاستيعاب للقرص(6) وعن مقنع الصدوق وذكرى الشهيد الاقتصار على الاستيعاب فقط(7) وعن مقنعة المفيد ومصباح السيّد الاقتصار على التعمّد وحده(8) ولم نقف من النصوص المتعلّقة بالمسألة إلّا على خبر محمّد بن مسلم المرويّ في الخصال عن أبي جعفر عليه السلام قال: «الغسل في سبعة عشر موطنا - إلى قوله عليه السلام: وغسل الكسوف إذا احترق القرص كلّه، فاستيقظت ولم تصلّ فعليك أن تغتسل وتقضي الصلاة»(9).

وخبر محمّد بن مسلم عن أحدهما قال: «الغسل في سبعة عشر موطنا - إلى أن قال: - وغسل الكسوف إذا احترق القرص كلّه فاغتسل»(10).

ص: 240


1- الهداية: 19، المصباح: 524، الاقتصاد: 250، الجمل والعقود: 87، الخلاف 678:1، النهاية 1: 375، المبسوط 40:1، الكافي في الفقه: 156، المهذّب 33:1، المراسم: 52.
2- نقل عنه في المختلف 281:2.
3- النزهة: 16، الجامع للشرائع: 33، الإصباح (سلسلة الينابيع الفقهيّة 2):20، جمل العلم والعمل 46:3، المعتبر 358:1.
4- السرائر 125:1، الشرائع 45:1، النافع: 16.
5- الذخيرة: 7.
6- السرائر 321:1.
7- المقنع: 144، الذكرى 198:1.
8- المقنعة: 51، نقل عن المصباح في المعتبر 358:1.
9- الوسائل 304:3 الباب 1 من ابواب الأغسال المسنونة ح 4.
10- الوسائل 307:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 11.

ومرسلة حريز عن الصادق عليه السلام: «إذا انكسف القعر فاستيقظ الرجل فكسل أن يصلّي فليغتسل من غد وليقض الصلاة، وإن لم يستيقظ ولم يعلم بانكساف القمر فليس عليه إلّا القضاء»(1) وهذا ما ذكره في كشف اللثام(2) مستندا لثالث الأقوال كما ذكر الأوّلين مستندا لأوّليها والخبر الأوّل إنّما ينطبق على القول الأوّل لو ثبت دلالته على إرادة التعمّد في ترك الصلاة من قوله: «ولم تصلّ » نظرا إلى كونه عطفا على سابقه، ولعلّه موضع إشكال بملاحظة قوّة احتمال كون الجملة في محلّ الحال، بناء على اعتبار «الواو» حاليّة، والخبر الأخير الظاهر في التعمّد لا ينافيه لينهض قرينة بيان لإرادة ما عدا هذا الوجه، لجواز مشروعيّة الغسل لمطلق الترك المتناول لغير صورة العمد، لكن الأقوى مع ذلك هو اعتبار العمد عملا بظهور الإسناد في جملة «لم تصلّ » في العمد والاختيار، ولا معارض له من طرف «الواو» لأنها لو لم تكن ظاهرة في العطف كما هو الأظهر فلا دقلّ من عدم ظهورها في الحال.

فهما احتمالان يرجّح أوّلهما ظهور الإسناد الّذي لا صارف له إلّا ما توهّم من إطلاق الخبر الثاني الشامل لصورتي العمد وغيره. ويدفعه: أنّه لا يدلّ على اعتبار الترك أصلا لينظر في دلالته على العمد وعدمها فتناول بإطلاقه كلّا من الأداء والقضاء، وهو يشبه بكونه مخالفا للإجماع حيث لم نقف على قائل بهذا الإطلاق ولا على حكاية قول به، بل يظهر عن كاشف اللثام دعوى الإجماع على خلافه، حيث قال عقيب إيراد الخبر المذكور: «وليس فيه ذكر القضاء إلّا أنّ الأصل وفتوى الأصحاب قيّداه به»(3) ونسب ظهور الإجماع إلى الغنية(4) أيضا، فينهض ذلك مضافا إلى مصير المعظم إلى التقييد بالقضاء مع العمد كاشفا عن وجود ما قضى بالتقييد من القرائن ولو منفصلة.

ولو سلّم عدم وفائه بذلك على الإطلاق حتى بالقياس إلى العمد حيث لا إجماع على التقييد من هذه الجهة فلا أقلّ من قضائه بتوهين هذا الإطلاق ومعه يخرج عن صلاحية المقابلة لظهور ما تقدّم من الإسناد في العمد، فيقضي بتقييده من هذه الجهة أيضا، هذا مضافا إلى توجّه المنع إلى ما تقدّم من دعوى عدم منافاة الخبر الأخير

ص: 241


1- الوسائل 336:3 الباب 25 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.
2- كشف اللثام 152:1.
3- لم نعثر عليه في كشف اللثام.
4- الغنية: 62.

الظاهر في العمد لمشروعيّة الغسل لمطلق الترك الشامل لصورة العذر أيضا، فإنّ مقتضي الجملة الشرطيّة على ما قرّرناه في المطالب الأصوليّة كون المجموع من الانكساف والترك العمدي للصلاة سببا تامّا على وجه الانحصار لمشروعيّة الغسل، ومعنى كونه سببا تامّا بهذا المعنى أن لا يكون لغيره من سائر الأمور الوجوديّة والامور العدميّة مدخليّة في السببيّة وتأثير السبب المذكور في القضية في المشروعيّة، وقضية كون الترك العذري أيضا موجبا للمشروعيّة لزوم تقييد الترك العمدي المأخوذ في القضيّة في مدخليته مع الانكساف في التأثير بحالة عدم الترك العذري، وهو كما تري ممّا ينفيه قضية الظهور المذكور.

وإن شئت قلت: إنّه ينافي حجّيّة مفهوم الشرط، لأنّ معناها انتفاء المشروعيّة بانتفاء مجموع الأمرين وبانتفاء أحدهما أيضا حتى الترك العمدي وحده، ونيابة الترك العذري عنه كما هو لازم القول بعدم اعتبار العمد توجب عدم لزوم الانتفاء بانتفاء الترك العمدي فقط عند تحقق الترك العذري مع الانكساف، فدليل القول باعتبار العمد في غاية القوّة.

وأمّا الاستيعاب للقرص وإن كان يقضي بعدم اعتباره إطلاق هذا الخبر لكن ينافي هذا الإطلاق ظهور الخبرين الأوّلين بل صريحهما في الاعتبار بمقتضى الجملة الشرطيّة الظاهرة في السببية التامّة على جهة الانحصار بالتقريب المذكور، وإن شئت قلت: بمقتضى حجّية مفهوم الشرط حسبما عرفت، فإنّ تعليق الأمر على احتراق القرص كلّه يقضي بانتفائه عند انتفاء احتراق الكلّ ، احترق البعض أو لا، وكفاية مطلق الانكساف تنافيه، مع أنّه يوجب خروج اعتبار احتراق الكلّ لغوا وهو كما ترى، فلا جرم يقيّد به الإطلاق المذكور، مع كونه في المقام ممّا يتوهّن بمصير الأكثر إلى خلافه الّذي نفى عنه الخلاف في السرائر(1) كما غرفت، هذا مع أنّ هذا الإطلاق لابدّ من الخروج عنه بملاحظة قوله عليه السلام: «وإن لم تستيقظ ولم يعلم بانكساف القمر فليس عليه إلّا القضاء» فإنّه عطف على قوله: «إذا انكسف القمر» قائم مقام قوله: «فاستيقظ الرجل» ومستلزم لتقييد المعطوف عليه بالكلّ لقيام فتوى الأصحاب وورود الأخبار

ص: 242


1- السرائر 321:1.

المستفيضة به بالنسبة إلى ما أمر به من القضاء على ما سيأتي في محلّه.

وقضية ذلك كونه بالنسبة إلى الجزاء الأوّل أيضا - وهو مجموع الأمر بالغسل والأمر بالقضاء - مقيّدا أيضا، لأنه جملة واحدة اعتبرت مع العمد في ترك الصلاة شرطا لهذا الجزاء وبانفرادها شرطا للجزاء الثاني وهو الأمر بالقضاء، ولا معنى لكونه مطلقا بالنسبة إلى الأوّل ومقيّدا بالنسبة إلى الثاني.

وإن شئت قلت: إنّ مقتضي ظهور سياق الحديث كون انكساف القمر مع تعمّد ترك الصلاة سببا تامّا لمسببيّن: مشروعيّة الغسل والأمر بالقضاء وكونه وحده سببا تامّا للأمر بالقضاء وحده، وهو لمّا كان بالقياس إلى هذا السبب مقيّدا بحكم النصّ والفتوى فلابدّ أن يكون بالقياس إلى المسبّبين الأوّلين أيضا مقيدا وإلّا كان منافيا لمقتضى السياق إن لم يؤدّ إلى استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

ومن عجائب الكلام ما في الذخيرة من قضية الجواب عن السؤال الذي أورد على نفسه بقوله: «ظاهر هذه الرواية وهو القضاء في صورة عدم العلم مطلقا غير معمول به بين أكثر الأصحاب وينفيه الأخيار المعتمدة الآتية في محلّه، فينبغي أن يخصّ بصورة احتراق الجميع، فقال: قلت: الّذي يستفاد من الأخبار عدم وجوب القضاء إلّا في الصورة المذكورة لا عدم استحبابه» الخ(1).

فإنّ قوله: «فليس عليه إلّا القضاء» ظاهر في الوجوب جزما فلا يحمل على الاستحباب إلّا لصارف هو منتف في المقام، هذا مع أنّ الالتزام باستحباب القضاء في غير الصورة المذكورة مع كونه واجبا في تلك الصورة إبقاء للانكساف على إطلاقه يستلزم كون «فليس عليه إلّا القضاء» مستعملا في معنيين الوجوب والاستحباب أو في القدر الجامع بينهما، وهو كما ترى. غاية ما هنالك بالنظر إلى احتمال الاستعمال في القدر المشترك دوران الأمر بين الخروج عن ظاهر «عليه» والخروج عن إطلاق الانكساف بالتزام تقييده بالصورة المذكورة، ولا ريب أنّ المتعيّن هو الثاني تقديما للأظهر على الظاهر، فإنّ «عليه» في الدلالة على الوجوب خاصّة أظهر من الانكساف

ص: 243


1- الذخيرة: 326.

في الدلالة على الإطلاق كما لا يخفى، فتقرّر بجميع ما ذكر أنّ المعتمد في المسألة هو اعتبار الشرطين معا.

ثمّ إنّ ظاهر فتوى الأصحاب أنّ المراد بالكسوف ما يعمّ النيرّين بل نصّ عليه غير واحد منهم كما عن النهاية والمهذب والمراسم والسرائر(1) وربّما نسب إلى كثير من كتبهم، وعن ظاهر بعضهم الإجماع عليه، بل عن المصابيح أنّه محلّ وفاق(2) ويقتضيه إطلاق خبر محمّد بن مسلم عن أحدهما.

وقد يقال: بأنّه يقتضيه إطلاق خبره الآخر عن أبي جعفر، وكأنّه مبنيّ على أخذ الاستيقاظ بمعنى مطلق الشبّه وإلّا فهو بظاهره ولو باعتبار الغالب ينصرف إلى آية الليل، وعلى أيّ حال ففيما ذكر كفاية في التعميم، ولا ينافيه اشتمال المرسلة على القمر كما لا يخفى.

وأمّا الثاني(3): فلأنّ منهم من قال بالندب كما في الشرائع والنافع وكشف اللثام والمختلف والذخيرة(4) وعن السرائر والمراسم في آخر الأغسال المندوبة وطهارة المبسوط والمقنعة(5) وعن الموجز والدروس والبيان واللمعة والذكرى(6) وأكثر كتب المتاخرين(7) وسائر كتب العلّامة(8) ما عدا المنتهى لميله فيه إلى الوجوب بعد ما اختار الندب(9) وعن شرح الموجز وظاهر السرائر نقل الشهرة فيه(10) وعن المنتهى أنّه مذهب الأكثر(11) وعن كشف الالتباس أنّ ذلك هو المشهور(12) وعن غاية المرام نسبته إلى المتأخّرين(13) وعن المصابيح أنّ عليه إطباق المتاخّرين من زمان ابني زهرة وإدريس

ص: 244


1- النهاية 357:1، المهذّب 33:1 المراسم: 52، السرائر 125:1.
2- مصابيح الأحكام: 136 (مخطوط).
3- تقدّم عدله في ص 240.
4- الشرائع 45:1، النافع: 16، كشف اللثام 153:1، المختلف 37:1، الذخيرة: 8.
5- السرائر 125:1، المراسم: 52، المبسوط 40:1. المقنعة: 51.
6- الموجز: 54، الدروس 6:1، البيان: 4، اللمعة: 15، الذكري: 24.
7- كما في كفاية الأحكام: 7، النزهة: 16، جامع المقاعد 75:1.
8- كما في التذكرة 144:2، التبصرة: 15، نهاية الإحكام 178:1، الإرشاد 222:1.
9- المنتهى 479:2.
10- كشف الالتباس: 59، السرائر 125:1.
11- المنتهى 479:2.
12- كشف الالتباس: 59.
13- غاية المرام 90:1.

عدا النادر(1) بل عن الغنية نقل الإجماع عليه بالقيود الثلاث وهي الاستيعاب والتعمّد وإرادة القضاء(2).

ومنهم من قال بالوجوب كما عن صلاة المقنعة والخلاف والمبسوط والنهاية وجمل السيّد ومسائله المصرّية والمراسم وجمل الشيخ والمهذب والاقتصاد والكافي والعقود والمصباح(3) وعن ظاهر الرسالة والفقيه والهداية والمجالس(4) الّذي عنه نسبته إلى دين الإماميّة، وعن خلاف الشيخ نقل الإجماع عليه(5) كما عن القاضي وشرح الجمل(6) وفي مفتاح الكرامة: «أنّ عدول الشيخ في طهارة المبسوط يضعّف إجماع الخلاف لكونه بعده، إلّا أن يدفع بعدوله في صلاة المبسوط إلى الوجوب أيضا»(7) وعن ابن حمزة في الوسيلة(8) أنّه تردّد فيه.

والأخبار المتقدّمة وإن كانت لو خليت فطبعها ظاهرة في الوجوب لكن إعراض المتاخّرين من أصحابنا - إلّا من شذّ منهم وندر مع من عرفت من غير واحد من القدماء - عن العمل بموجب ظاهرها المعتضد بنقل الشهرة مطلقة ومقيّدة وإجماع الغنية ممّا يوجب سقوطها عن درجة الدلالة المعتبرة، فإنّه لو لم ينهض كاشفا عن صارف لها عن ظهورها فلا أقلّ من كونه موهنا لظهورها، فلم يتحصّل منها حينئذ إلّا رجحان يكفي في ثبوت الاستحباب تسامحا في دليله. ويبقى احتمال الوجوب منفيّا بالأصل السليم عمّا يصلح للمعارضة حيث لا وارد عليه بعد ما عرفت إلّا إجماع الخلاف.

وفيه: مع أنّه يعارضه إجماع الغنية أنه يستراب فيه بتحقق الخلاف حتى فيما بين القدماء على ما عرفت، واختلاف القول من أهل القول بالوجوب كما عرفته عن غير

ص: 245


1- مصابيح الأحكام: 136.
2- الغنية: 62.
3- المقنعة: 211، الخلاف 679:1، المبسوط 172:1، النهاية 375:1، جعل العلم والعمل 46:3، لا يوجد في المسائل المصريّة بل هو مذكور في رسائل الشريف المرتضى: 223، المراسم: 81، الجمل والعقود: 87، المهذّب 124:1، الاقتصاد: 272، الكافي: 156، الجمل والعقود: 87، المصباح: 524.
4- نقل عنها في المختلف 281:2، الفقيه 61:1، الهداية: 19، المجالس: 647.
5- الخلاف 679:1.
6- المهذّب 124:1، شرح جمل العلم والعمل: 135.
7- مفتاح الكرامة 89:1.
8- الوسيلة: 54.

واحد منهم بل اختلاف القول من ناقله كما سمعته خصوصا عدوله في كتابه المتأخر عمّا نقله فيه، فالقول بالاستحباب إذن ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه.

وخامسها: غسل التوبة عن فسق أو كفر أصلي أو ارتدادي،

اغتسل قبل إسلامه أو لم يغتسل ما لم يوجد منه حال الكفر ما يكون سببا للوجوب فيجب حينئذ واستحباب هذا الغسل ممّا لم يعرف فيه خلاف عند اصحابنا، وفي المنتهى: «أنّه مذهب علمائنا أجمع»(1) ذكره في كلّ من مسألتي الفسق والكفر ونسبه فيه بالنسبة إلى مسألة الكفر على الوجه الّذى عبّرناه إلى الشافعي، ثمّ قال: «ولم يوجب أبو حنيفة الغسل عليه بحال وأوجبه أحمد مطلقا وهو مذهب مالك وأبو ثور» انتهى(2).

ويظهر دعوى إجماع الأصحاب عن كلام المحقق المحكيّ عن المعتبر(3) على ما ستعرفه، والأصل في المسألة - على ما في كتب جماعة - ما عن الصدوق والشيخ مرسلا وعن الكافي مسندا عن عليّ بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زياد قال: «كنت عند أبي عبداللّه عليه السلام فقال له رجل: بأبي أنت وامّي إنّى أدخل كنيفا ولي جيران وعندهم جوار يتغنّين ويضربن بالعود، فربّما أطلت الجلوس استماعا منّي لهنّ؟ فقال عليه السلام: لا تفعل، فقال الرجل: واللّه ما أتيتهنّ وإنّما هو سماع أسمعه باذني.

فقال عليه السلام: يا الله أنت أما سمعت اللّه يقول إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (4) فقال: بلى واللّه كأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من عربيّ ولا من عجميّ ، لا جرم إنّي لا أعود إن شاء اللّه وأنّي أستغفر الله. فقال له: قم فاغتسل وصل ما بدا لك، فإنّك كنت مقيما على أمر عظيم ما كان أسوء حالك لو متّ على ذلك، أحمد الله وسله التوبة من كلّ ما يكره، فإنّه لا يكره إلّا كلّ قبيح، والقبيح دعه لأهله، فإنّ لكلّ أهلا»(5).

وعن المعتبر الطعن فيها سندا والقدح دلالة بقوله: «وهذه مرسلة وهي متناولة لصورة معينة فلا تتناول غيرها، والعمدة فتوى الأصحاب مضافا إلى أنّ الغسل خير فيكون مرادا»(6)..

ص: 246


1- المنتهى 474:2.
2- المنتهى 474:2.
3- المعتبر 359:1.
4- الإسراء: 36.
5- الوسائل 331:3 الباب 18 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.
6- المعتبر 359:1.

وفيه - مع أن الإرسال بل الضعف مطلقا غير قادح في نحو نظائر المقام خصوصا مع الانجبار بالعمل - ما عرفت من عدم انحصار السند في المرسل بل السند على ما في الكافي مسند صحيح في أعلى مرتبة الصحّة من جهة العلوّ بقلّة الوسائط، وأمّا القدح من جهة الدلالة فلعلّه لتوهّم عدم تناولها الكفر ولا كلّ موجب للفسق من الكبائر أو الصغائر مع الإصرار ولا غيره ممّا لا يوجبه كالصغيرة مع عدم الإصرار، ولعلّه لذا اقتصر جماعة على التوبة عن الكبائر كما عن المقنعة والكافي والغنية وكتاب الإشراف(1)وعن الدلائل: «أنّه لا يخلو من وجه»(2).

وتعبيرهم بالفسق في عنوان المسألة ربّما يوهم عدم الاستحباب عن صغيرة لا توجبه كما تنبّه عليه في المسالك(3) على ما حكي عنه، لكن دفعه بأنّ غرضهم الردّ على من خصّه بتوبة الكفر، ثمّ قال: «ولو قيل عن كفر وغيره لكان أحسن»(4) وغرضه بذلك تعميم الحكم بالنسبة إلى الكفر وغيره ممّا يوجب الفسق من المعاصي وما لا يوجبه، وفي المنتهى سواء كان الفسق مشتملا على كبيرة أو صغيرة(5) وعن النهاية ومجمع الفوائد مثله(6).

والحقّ هو التعميم حسبما عرفته عن المسالك عملا بالعموم المستفاد من الرواية من جهة ما فيها ممّا هو بمنزلة التعليل. فإنّ قوله عليه السلام: «فلقد كنت مقيما على أمر عظيم» وارد على سبيل تعليل الحكم به على ما يرشد إليه التدبّر في نظائره المتداولة في العرف والعادة، فانّك لو قلت: «أكرم زيدا فلقد كان رجلا عالما» لم تقصد منه إلّا إفادة كون علمه هو الموجب لاستحقاقه الإكرام، كما أنّه لا يفهم منه إلّا هذا المعنى، وحينئذ يندرج فيه جميع الأقسام المذكورة نظرا إلى أنّ كلّ ذنب مقيسا إلى عظمة اللّه سبحانه وتعالى امر عظيم، وأعظم منه الكفر بلا شبهة.

وممّن تنبّه على انفهام التعليل من الرواية العلّامة في المنتهى حيث إنّه عندى الاستدلال على مسألة الكافر قال: «لنا على الرجحان أنّ الكفر أعظم من الفسق، وقد

ص: 247


1- المقنعة: 51، الكافي في الفقه: 135، الغنية: 62، الاشراف (مصنّفات الشيخ المفيد) 17:9.
2- نقل عنه في مفتاح الكرامة 94:1.
3- المسالك 107:1.
4- المسالك 107:1.
5- المنتهى 474:2.
6- نهاية الإحكام 178:1، نقل عنه في مفتاح الكرامة 93:1.

ثبت بالحديث استحباب الغسل للفاسق فالكافر أولى، ولأنّ تعليله عليه السلام أمره بالاغتسال يدل عليه من حيث المفهوم» انتهى(1).

ثمّ إنّه ربّما يسبق إلى الوهم بملاحظة التعبير بالفسق الّذي قد يحصل بارتكاب منافيات المروّة عند قائليه ثبوت هذا الحكم لها أيضا، لكنّه لم نقف على نصّ عليه من الأصحاب ولا يتناوله الرواية أيضا كما لا يخفى.

وسادسها مع سابعها: غسل صلاة الحاجة وصلاة الاستخارة

كما نصّوا عليه في كتبهم، وعن الغنية دعوى الإجماع عليه(2) وعن المعتبر والروض نسبته إلى أصحابنا(3)والتذكرة نسبته إلى علمائنا(4) وعن الدلائل أنّه استقرب عدم ارتباط الغسل بالصلاة بل يستحبّ لذلك وإن لم يصلّ ، وربّما نسب إلى ظاهر الذكرى(5) ومال إليه كاشف اللثام(6)وفي المدارك والذخيرة(7) كما عن حاشية الشرائع(8) تقييده بصلوات مخصوصة تطلب من مظانها بعد ما نفوا ثبوته لأيّ صلاة.

والّذي يستفاد من النصوص الواردة عن أهل العصمة أنّ غسل الحاجة ليس مختصّا بصلاة مخصوصة، ولا أنّه مرتبط بها، ولا هي مرتبطة به، بل كلّ منهما من آداب طلب الحاجة، فإنّهم عليهما السلام ذكروا كلّا منهما من آدابه، كما ذكروا منها لبس أنظف الثياب وشمّ الطيب كما في بعض الروايات، ومنها صوم ثلاثة أيام مع الغسل بالصلاة، ومنها البروز تحت السماء، ومنها الصعود على أعلى البيت ونحو ذلك كما ورد كلّ من ذلك في رواية، وقضية الجمع بين نصوص الباب بأجمعها أنّ مراعاة جميع هذه الامور يوجب قضاء الحاجة بنحو آكد وتؤثّر في سرعة الإجابة وتحتّمها، لا أنّ كلّا من ذلك مرتبط بالآخر وأنّ بعضا منها مشروط بصاحبه، وعليه فالتعبير عن الغسل المذكور يغسل طلب الحاجة أولى من التعبير بغسل صلاة الحاجة.

وكيف كان فمن النصوص ما في التهذيب من خبر عبد الرحيم القصير قال: «دخلت على أبي عبداللّه عليه السلام فقلت له: جعلت فداك أنّي اخترعت دعاء، فقال: دعني من اختراعك،

ص: 248


1- المنتهى 476:2.
2- الغنية: 62.
3- المعتبر 359:1، روض الجنان 64:1.
4- التذكرة 146:1.
5- الذكرى 198:1.
6- كشف اللثام 157:1.
7- المدارك 171:2، الذخيرة: 8.
8- فوائد الشرايع: 25.

إذا نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وصلّ ركعتين تهديهما إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم. قلت:

كيف أصنع ؟ فقال: تغتسل وتصلّي ركعتين.... إلى آخره. ثمّ قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: أنا الضامن على اللّه ألّا يبرح حتّى تقضى حاجته»(1).

ومنها: خبر مقاتل بن مقاتل قال قلت للرضا عليه السلام: «جعلت فداك علّمني دعاء لقضاء الحوائج. قال: فقال: إذا كانت لك حاجة إلى اللّه مهمّة فاغتسل والبس أنظف ثيابك وضمّ شيئا من الطيب، ثمّ ابرز تحت السماء فصلّ ركعتين...» إلخ(2).

ومنها: صحيحة زرارة عن أبي عبداللّه عليه السلام في الأمر يطلبه الطالب من ربّه، قال:

«يتصدّق في يومه على ستّين مسكينا على كلّ مسكين صاعا بصاع النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فإذا كان الليل فاغتسل في. ثلث الليل الباقي وتلبس أدنى ما يلبس من تعول من الثياب - إلى أن قال: - ثمّ إذا وضعت رأسك للسجدة الثانية استخرت اللّه مائة مرّة وتقول: الّلهمّ إنّي أستخيرك، ثمّ تدعو الله تعالى بما شئت»(3).

ومثلها المرسلة المرويّة عن الفقيه عن العبد الصالح موسى بن جعفر عليه السلام(4)... إلخ.

ومنها: ما في الفقيه عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إذا حضرت لك حاجة مهمّة إلى اللّه عزّ و جلّ فصم ثلاثة أيّام متواليات، الأربعاء والخميس والجمعة، فإذا كان يوم الجمعة إن شاء الله فاغتسل والبس ثوبا جديدا ثمّ اصعد إلى أعلى بيت في دارك وصلّ ركعتين وارفع يديك إلى السماء ثمّ قل: الّلهمّ ... إلى آخر ما ذكره»(5).

هذا كلّه فيما يتعلّق بغسل الحاجة والتأمّل فيها جيّدا يعطي صدق ما قدّمناه من البيان.

وأمّا غسل الاستخارة فلم نقف له على نصّ ما عدا الموثقة المتقدّمة في غسل الجمعة المذيّلة بقوله عليه السلام: «وغسل الاستخارة مستحبّ »(6) وما عن فقه الرضا عليه السلام:

«وغسل الاستخارة وغسل طلب الحوائج من اللّه تبارك وتعالى»(7) وهما مضافا إلى

ص: 249


1- الوسائل 333:3 الباب 2 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1 و 2.
2- الوسائل 333:3 الباب 2 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1 و 2.
3- الوسائل 128:8 الباب 28 من أبواب الصلوات المندوبة ح 1.
4- الفقيه 350:1/1545.
5- الوسائل 132:8 الباب 28 من أبواب الصلوات المندوبة ح 10.
6- تقدّم في الصفحة: 207 الرقم 1.
7- المستدرك 497:2 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.

ما عرفته من دعاوي الإجماع كافيان في نحو المقام وإن لم يذكر فيهما الصلاة، ولعلّك أجريت هنا نظير ما قدّمناه في غسل طلب الحاجة وقلت بعدم ارتباط الغسل بالصلاة ولا الصلاة بالغسل بل هما معا من آداب الاستخارة كلّ على نحو الاستقلال.

وربّما يستدلّ لغسل الاستخارة أيضا بصحيحة زرارة المتقدّمة(1) لكنّه بمكان من السقوط لظهورها بملاحظة الصدر والذيل في طلب الحاجة، أو غير ذلك أيضا بناء على أنّ المراد بالاستخارة منها طلب أن يجعل الله له الخيرة في هذا الأمر كما نصّ عليه جماعة لا الاستخارة بمعنى المشاورة كما هو مفروض المسألة.

ويمكن القول يكون مراد الأصحاب أيضا منها في عنوان المسألة هو هذا المعنى، ويؤيّده خلوّ الأخبار الواردة في باب الاستخارة بالمعني المعهود عن ذكر الغسل بالمرّة، وعليه فالاستدلال بالصحيحة في محلّه بخلاف المناقشة فيه بنحو ما مرّ كما في الحدائق والجواهر(2) فإنها بناء على ما نبّهنا عليه واردة في غير محلّها، لعدم ابتناء الاستدلال على إرادة المعنى المعهود، بل لم نعهد في المسلمين إلى الآن غسل للاستخارة بهذا المعنى.

ومن الأغسال الفعليّة: غسل صلاة الاستسقاء الّذي أفتى به في المنتهى(3) وغيره(4)بل وقد نصّ عليه كثير من الأصحاب كما في مفتاح الكرامة(5) بل عن الغنية والمعتبر نقل الإجماع عليه(6) وفي موثّقة سماعة: «وغسل الاستسقاء واجب»(7) فهو محمول على تأكد الاستحباب كما تقدّم.

وغسل السعي إلى رؤية المصلوب عمدا بعد ثلاثة أيّام، فإنّ فيه قولا بالوجوب كما من صريح أبي الصلاح(8) وظاهر الصدوق عند قوله: «وروي أنّ من قصد إلى مصلوب فنظر إليه وجب عليه الغسل عقوبة»(9) ولكنّه ضعيف جدّا ومستنده غير وجيه

ص: 250


1- تقدّم في الصفحة: 249.
2- الحدائق 205:4، الجواهر 55:5.
3- المنتهى 477:2.
4- كما في الكافي في الفقه: 135، المهذب 23:1.
5- مفتاح الكرامة 100:1.
6- الغنية: 62، المعتبر 360:1.
7- الوسائل 303:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 3.
8- الكافي في الفقه: 135.
9- الهداية: 19.

جزما، لإعراض الأصحاب عنه ومصيرهم إلى الندب الّذي ادّعي فيه الشهرة وحكي إطباق المتأخرين عليه، وعن الغنية الإجماع عليه(1) وعن ظاهر السرائر عدم الخلاف فيه(1) ولهم فيه من حيث الموضوع إطلاقا وتقييدا من جهات شتّى كلمات مختلفة وعبارات مضطربة تطلب عن مظانّها.

وغسل المولود عند ولادته، وفيه أيضا قول بالوجوب عن ابن حمزة(3) ولا مستند له سوى ما في الموثّقة المشار إليها المحمول على الاستحباب المؤكد كما هو المشهور نقلا وتحصيلا، وعن المصابيح نسبته تارة إلى الأصحاب واخرى إلى سائر المتأخرين، وعن ظاهر السرائر نفي الخلاف فيه(2) بل عن الغنية الإجماع عليه(5) فالقول بالوجوب متروك كما في المنتهى(3).

وغسل قتل الوزغة الّذي أفتى باستحبابه جماعة(4) من الأصحاب للمرويّ عن الكافي(5) وبصائر الدرجات(6) وغيره عن الصادق عليه السلام عن الوزغ، فقال: «هو رجس وهو مسخ كلّه، فإذا قتلته فاغتسل» وعن الصدوق قال: «وروي أنّ من قتل وزغا فعليه الغسل»(7) وظاهره كالرواية الأولى الوجوب لكنّه محمول عند الأصحاب على الاستحباب.

وغسل آخذ التربة الحسينيّة على مشرّفها آلاف سلام وتحيّة على ما عن ابن طاووس في مصباح الزائر(8) وعن البحار للمرسل الّذي رواه عن المزار الكبير عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر قال: «دخلت على مولانا فشكوت عليه عن علّتين متضادّتين - فساق الحديث إلى أن قال - فقال لي: إذا أردت أن تأخذ من التربة فتعمّد لها آخر الليل، واغتسل بماء القراح والبس أطهر ثيابك، وطيّب بسعد، وادخل وقف عند الرأس فصلّ أربع ركعات - ثمّ ساق الخبر في بيان الصلاة وكيفيتها والإذن في أخذ التربة إلى أن قال: - وتأخذ بثلاث أصابع ثلاث مرّات وتدعها في

ص: 251


1- حكاه عنه في مصابيح الأحكام: 141.
2- حكاه عنه في مصابيح الأحكام: 141.
3- المنتهى 478:2.
4- كما في الدروس 87:1، البيان: 4، النزهة: 16.
5- الكافي 232:8/305.
6- بصائر الدرجات: 373/1، ب 16.
7- الفقيه 77:1/174.
8- أورده المجلسي في البحار 137:101/77.

خرقة نظيفة أو قارورة زجاج وتختمها بخاتم عقيق عليه: ما شاء اللّه لا قوّة إلّا باللّه أستغفر الله، فإذا علم اللّه تعالى منك صدق النيّة لم يصعد معك في الثلاث قبضات إلّا سبعة مثاقيل وترفعها لكلّ علّة فإنّها تكون مثل ما رأيت»(1) إلى غير ذلك من الأغسال الاخر الّتي ذكرها الأصحاب ومن أرادها فليطلبها عن مظانها.

وأمّا الخمسة المكانيّه،
فأوّلها: غسل دخول الحرم

كما عن الأكثر(2) النصّ عليه، وعن الوسيلة: «أنّه من المندوب بلا خلاف»(3) وعن الغنية الإجماع عليه(4) والأخبار به مع ذلك متكاثرة قد تقدّم جملة منها، وأمّا ما عن الشيخ في الخلاف من الإجماع على العدم(5) فقد أنكره غير واحد من الفحول كالمصابيح(6) ومفتاح الكرامة(7).

وثانيها: غسل دخول المسجد الحرام

كما في أكثر الكتب على ما في كشف اللثام(8) وعن الغنية والخلاف نقل الإجماع فيه(9) وربّما استدلّ عليه بفحوى ما دلّ عليه لمسجد النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لكونه أفضل منه، ويقول الكاظم عليه السلام لعليّ بن أبي حمزة: «إن اغتسلت بمكة ثمّ نمت قبل أن تطوف فأعد غسلك»(10) وفيه نظر يظهر وجهه بالتأمّل.

و ثالثها: غسل دخول الكعبة

في الأكثر للإجماع كما في كشف اللثام(11) وعن الخلاف والغنية(12) وخبر سماعة المتقدّم: «وغسل دخول البيت واجب»(13) المحمول على الاستحباب، وفي معناه أخبار آخر من الصحاح وغيرها المتقدّم إلى جملة منها الإشارة.

ورابعها: غسل دخول المدينة،

نصّ عليه جماعة(14) للإجماع كما عن الغنية(15)والنصوص كما في خبر ابن سنان: «ودخول مكة والمدينة»(16) وخبر معاوية بن عمّار:

ص: 252


1- البحار 138:101/83.
2- كما في التذكرة 143:1، الدروس 87:1، النافع: 40.
3- الوسيلة: 54.
4- الغنية: 62.
5- الخلاف 286:2.
6- مصابيح الأحكام: 129.
7- مفتاح الكرامة 96:1.
8- كشف اللثام 161:1
9- الغنية: 62، الخلاف 287:2
10- الوسائل 202:13 الباب 6 من أبواب مقدّمات الطواف ح 2.
11- كشف اللثام 162:1.
12- الخلاف 287:2، الغنية: 62.
13- تقدّم في الصفحة: 239.
14- كما في الدروس 87:1، المدارك 171:2، النزهة: 16.
15- الغنية: 62.
16- الوسائل 306:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 10.

«إذا دخلت المدينة فاغتسل قبل أن تدخلها أو حين تدخلها»(1) من غير فرق في ذلك بين كون الدخول لأداء فرض أو نفل وعدمه لإطلاق النصّ والإجماع، فما عن المفيد:

من تخصيصه بأداء فرض أو نفل(2) ليس على ما ينبغي.

وخامسها: غسل دخول مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بالمدينة

لإجماع الغنية(3) وبعض الأخبار المتقدّم إليها الإشارة، وعن الموجز وشرحه ونهاية الإحكام زيادة دخول مشاهد الأئمّة عليهما السلام في الأغسال المكانيّة(4) وعن أبي عليّ استحبابه لكلّ مشهد أو مكان شريف، كما عنه لكلّ زمان شريف ولكلّ فعل يتقرّب به إلى اللّه(5) ومستندهما من النصوص غير واضح كما اعترف به غير واحد، وعلى الاكتفاء بفتوى الفقيه في محلّ التسامح أمكن الإلحاق.

وينبغي ختم الباب بإيراد بعض الامور المتعلّقة به.
الأوّل: صرّحوا بأنّ ما يستحبّ للزمان من الأغسال السنونة فهو ظرفه ويعتبر إيقاعه فيه،

لأنّ معنى استحبابه للزمان استحبابه، وأمّا ما يستحبّ للفعل والمكان فيقدّم عليهما على معنى إيقاع الغسل قبل إيقاع الفعل وقبل الدخول في المكان، ونقض بالنسبة إلى الاوّل يغسل تارك صلاة الكسوف بالقيدين وغسل التوبة وغسل السعي إلى رؤية المصلوب وغسل قتل الوزغة بتخيّل تأخّر الغسل فيها عن الفعل مع أنّها ممّا يستحبّ للفعل، ولدفعه التزم بعضهم باستثناء هذه الأمور عن إطلاق القاعدة، واعترض عليه في المدارك على وجه يندفع معه النقض بظهور أنّ «اللام» في قولهم: «للفعل» للغاية، والمراد: أن الغسل الّذي يكون غايته الفعل يقدّم عليه وحينئذ فلا استثناء، لأنّ غسل تارك الكسوف إنما هو لأجل القضاء، وغسل التوبة للصلاة التي يوقعها المكلّف بعده كما يدلّ عليه المستند، وأمّا رؤية المصلوب وقتل الوزغ فإنها أسباب للغسل لا غايات له، واستحباب الغسل لنفسه فيكون خارجا من القسمين»(6) ويشكل: بأنّ

ص: 253


1- الوسائل 303:3 الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.
2- المقنعة: 51.
3- الغنية: 62.
4- الموجز (الرسائل العشر): 54، كشف الالتباس: 59، نهاية الإحكام 177:1.
5- نقل عنه في الذكرى 199:1.
6- المدارك 172:2.

ذلك يوجب نقض الحصر المستفاد من كلامهم بالنسبة إلى الأغسال المندوبة باعتبار انقسامها إلى الزمانيّة والفعليّة والمكانية، إلّا أن يعمّم الفعلية في تقسيماتهم بالنسبة إلى ما يكون غاية وما يكون سببا. ويشكل بلزوم أنّهم أهملوا حينئذ حكم الأفعال السببيّة من حيث بيان تقديم أغسالها وتأخيرها بنحو الصراحة مع تعرّضهم لحكم ما للزمان والمكان والفعل كذلك، فالسديد حينئذ إسقاط قسم المكانيّة لعوده إلى الفعلية من حيث إنّ الدخول في المكان أيضا فعل، والاستحباب إنّما هو لأجله، وإضافة السبيبّة إدراجا لما ليس غاية في التقسيم على حسبما عرفته سابقا عن العلّامة الطباطبائي في المصابيح والحكم عليه بلزوم تأخير الغسل عن الفعل كما هو وظيفة كلّ مسبّب بالقياس إلى سببه المتقدّم عليه طبعا.

الثاني: إذا اجتمع على المكلّف من الأغسال الواجبة أو المندوبة أو المختلفة غسلان فصاعدا ففي تداخل البعض مع بعض مطلقا،
اشارة

أو عدمه كذلك، أو التداخل في الجملة وعدمه كذلك وجوه بل أقوال منتشرة، وعبارات مضطربة، وقد رأينا تحقيق المسألة بجميع شقوقها منوطا بإحاطة أطرافها،

ويتمّ ذلك برسم امور:
أحدها: أنّ الأغسال المجتمعة على المكلّف إمّا أن تكون بأجمعها واجبة معها الجنابة أو لا معها الجنابة،

أو تكون بأجمعها مندوبة، أو تكون مشتملة على واجب ومندوب، وعلى تقدير وجوب الكلّ أو استحبابه فإذا اغتسل المكلّف غسلا واحدا فإمّا أن يتعرّض في نيته للأسباب كلّها أو لم يتعرّض لها أصلا بل ينوي به كونه للّه وجوبا أو ندبا أو بلا نية الوجه، أو يتعرّض لبعضها مع نيّة الوجه وبدونها، وعلى تقدير اختلافها في وصفي الوجوب والندب فإمّا أن يقتصر على سبب الواجب ونيّة الوجوب، أو يتعرّض لجميع الأسباب وينوي الندب خاصّة بناء على عدم الوجوب لجميعها، أو الوجوب خاصّة بناء على الوجوب لبعضها أو إياهما على التفريق، أو لم يتعرّض للأسباب أصلا وينوي الوجوب أو الندب أو إياهما، أو يتعرّض للموجب مع بعض أسباب المندوبة وينوي الوجوب أو الندب أو إياهما، أو يقتصر على القربة معرضا عن الوجه والسبب معا.

وثانيها: [تداخل الأغسال]

أنّ إطلاق القول بالتداخل ما اختاره جمع منهم المحقق الأردبيلي في كلام

ص: 254

له محكيّ عنه قائلا: «الظاهر التداخل مطلقا، لأنّ الظاهر أنّ الغرض من الغسل التعبّد وإزالة ما عليه»(1).

وعن الدلائل(2) أنّه أوّلا قرّب اعتبار التداخل مطلقا، ثمّ مال إلى اعتبار نيّة الأسباب، وذهب إليه في المدارك(3) على وجه يظهر منه التعميم بالقياس إلى جميع الصور المتقدّم إليها الإشارة بل في صريح بعض عباراته ميله إلى الاجتزاء بنيّة الندب في صورة اجتماع الواجب والمندوب، ووافقه في اختيار هذا القول صاحب الحدائق(4)مع تصريحه بالتعميم المذكور على وجه يتناول إطلاقه ما لو قصد الوجه ولو ندبا فقط في الصورة المشار إليها، وذهب إليه في الكفاية والذخيرة(5) وإطلاقه يقتضي التعميم المذكور إلّا بالقياس إلى صور اجتماع الواجب والمندوب فخصّ الاجزاء فيها بما لو نوي الجميع أو الجنابة خاصّة دون الجمعة وحدها.

وأمّا القول بعدم التداخل رأسا فلم نقف عليه ولا على حكايته عن قائل يعتدّ به عدا ما في الجواهر(6) عن بعضهم استنادا إلى الأصل المقتضي لتعدّد المسبّبات عند تعدّد اسبابهما، القاضي بعدم صدق الامتثال عن أوامر متعدّدة، لكن في كلام المحقق الأردبيلي المشار إليه ما يقضي بإنكار هذا القول قائلا: «لكن كونه قولا لأحد غير معلوم، إذ قد ادّعي الإجماع على إجزاء غسل الجنابة عن غيره من الواجبات، ويحتمل كونه منزّلا على خصوص الأغسال المندوبة بل وهو الظاهر»(7) وفي المسألة بعد أقوال أخر مفصّلة وآراء تفضيلية متفرّقة تقف عليها في مطاوي البحث إن شاء اللّه.

لكن الّذي يظهر - والله أعلم - عدم خلاف يعتدّ به في جواز التداخل في بعض صورها وهو المشهور في جملة اخرى، ولذا ترى الشيخ في الخلاف ناقلا للإجماع عليه فيما إذا نوى بغسله الجنابة والجمعة(8) وفي السرائر دعواه على إجزاء الغسل من الجنابة عن الأغسال الكثيرة المفروضة والمسنونة(9) وفي المدارك والكفاية والذخيرة

ص: 255


1- مجمع الفائدة والبرهان 79:1.
2- نقل عنه في مفتاح الكرامة 108:1.
3- المدارك 196:1.
4- الحدائق 197:2.
5- الكفاية: 10، الذخيرة: 8.
6- الجواهر 68:5.
7- مجمع الفائدة والبرهان 79:1.
8- الخلاف 221:1-222.
9- السرائر 123:1.

كما عن البحار فيما لو نوى الجنابة على التعيين: أنّ المشهور إجزاؤه عن غيره، بل قيل:

إنّه متّفق عليه(1). وعزي دعوى الإجماع إلى ظاهر كشف الالتباس(2) في تلك الصورة، وعن شرح الموجز أنّه بعد ما نسب إلى بعض الأصحاب عدم إجزاء الجنابة عن الاستحاضة قال: «وهو غلط، لأنهم لم يختلفوا في أن غسل الجنابة يجزئ عن غيره من الأغسال وعن الوضوء أيضا»(3).

وثالثها: [الأصل عدم التداخل]

أنّه قد تقرّر عندنا في تحقيقاتنا الأصوليّة(4) أنّ الأصل في الأسباب عند تعدّدها وتواردها على موضوع واحد على سبيل الدفعة أو التعاقب تعدّد مسبّباتها المقتضي لتعدّد متعلّقاتها المقتضي لتعدّد غاياتها، فالأسباب إذا كانت أسبابا للوجوب فتعدّدها بمقتضى ظاهر السببيّة المستفادة من الخطاب يقتضي تعدّد الوجوب، وهو يقتضي تعدّد الواجب، وهو يقتضي تعدّد الامتثال، وإنّ من يدّعي خلاف ذلك بدعوى أنّها لا تقتضي إلّا وجوبا واحدا وأنّ الوجوبات العديدة لا تقتضي إلّا واجبا واحدا أو أنّ الواجبات العديدة لا تقتضي إلّا امتثالا راجحا فهو عادل عن الأصل ومخالف للحجّة بلا حجّة شرعيّة، وقد أشرنا إلى هذا الأصل ومدركه في ذيل منزوحات البئر أيضا(5).

لكن ينبغي أن يعلم أنّ هذا إنما هو فيما إذا كان المسبّب بمعنى متعلّق الوجوب قابلا للتعدّد؛ كأن يكون واحدا بالنوع وله أفراد يمكن وجودها في الخارج جمع ولم يعلم يكون المطلوب من الأوامر الواردة عليه شيئا واحدا غير قابل للتعدّد. وأمّا إذا لم يكن السبب قابلا له كما في الأمر بقتل زيد إذا زنا وارتدّ وقتل نفسا محترمة، أو علم أنّ المطلوب من أوامره شيء واحد غير قابل له كما في الأمر بالوضوء لمشروط بالطهارة لأسبابه المعهودة من النوم والبول ونحوه حيث لا غرض في الأمر به إلّا تحصيل الطهارة فلا إشكال حينئذ في التداخل بالنسبة إلى مقام الامتثال، لكن لا لوروده هنا على خلاف الأصل بدليل كما قد يتوهّم بل لخروجه الموضوعي عنه، فإنّ الفعل في نحو المثالين إذا دخل في ظرف الخارج ارتفع معه موضوع باقي الأوامر ويلزم منه

ص: 256


1- المدارك 194:1، الكفاية: 10، الذخيرة: 8، البحار 29:81.
2- كشف الالتباس: 181.
3- كشف الالتباس: 181.
4- راجع: رسالة في تداخل الأسباب والمسبّبات، المطبوعة في المجلّة الفصليّة المسماة ب - «پژوهش هاى اصولى» ش 2 و 3.
5- ينابيع الأحكام 28:1.

سقوطها لتعذّر امتثالها في نحو أوّل المثالين، أو لأداء بقائها إلى طلب الحاصل في نحو ثانيهما، وهذا هو السرّ في الاجتزاء بوضوء واحد عند اجتماع أسبابه، ومقتضاه كون التداخل في نحوه قهريّا غير منوط بنيّة المكلّف ولا اختياره، ولذا لم يفترق الحال فيه بين ما لو تعرّض للأسباب كلّا أو بعضا مع التعرّض لنفي الباقي وعدمه أو أعرض عنها باجمعها، وهذا كلّه كما ترى ممّا لا سترة عليه ولا إشكال فيه، كما لا إشكال أيضا في أنّ المسبّب إذا لم يكن واحدا بالنوع كما إذا تعلّقت الأوامر المسبّبة عن اسبابها المجتمعة بماهيّات مختلفة الحقائق فهو خارج عن معقد البحث في أصالة التداخل وعدمه، لاتّفاق الفريقين فيه على عدم التداخل حسبما قرّر في محلّه.

نعم ربّما يقع الإشكال في خصوص المسألة بالنسبة إلى الأغسال المجتمعة المحكوم عليها بالتعدّد من جهة الشبهة في أنّها حيثما تجتمع هل تجتمع على أنّها من الكثرة المختلفة الحقيقة بدعوى أنها لذواتها ماهيّات مختلفة وطبائع متعدّدة وإن طرأها الاتّحاد الخارجي باعتبار ما فيها من اتّحاد الصورة، أو تجتمع على أنّها من الكثرة المتّفقة الحقيقة بدعوى أنّها بحسب الحقيقة ماهيّة واحدة تتعدّد إضافاتها باعتبار تعدّد الأسباب المعتورة عليها، فغسل الحيض باعتبار إضافته إلى الحيض يغاير غسل الجنابة باعتبار ما فيه من الإضافة إلى الجنابة، وإلّا فالمضاف فيهما في حدّ ذاته من حيث المادّة والهيئة أمر واحد لا تعدّد فيه. ولا ينافيه تكرّر الأمر به لكونه حينئذ محمولا على التكرار بإرجاع كلّ أمير إلى إيجاد من الإيجادات المضافة إليه وإن اختلفت الأوامر إيجابا وندبا، لجواز كون بعض تلك الإيجادات موردا للوجوب والبعض الآخر موردا للندب، والمفروض أنّ تكرار الأمر في موارده أعمّ من أن يستفاد من الصيغة على القول به فيها أو من تكرّر أسبابه بعد ما ثبت سببيّة كلّ بالدليل.

ويظهر الثمرة في اعتبار نية التعيين وعدمه، فعلى الأوّل لابدّ منه لمكان الاشتراك المقتضي لمراعاة التعيين في مثله في النيّة على قياس ما هو الحال في سائر العناوين المتكثرة الصادقة على مصداق واحد، فاشتراط الصحّة بنية التعيين في نحوه ممّا لا إشكال فيه بل لا يمكن الاسترابة فيه، فهذا هو الأصل ما لم يقم دليل مخرج عنه، كما أن الأصل عدم الاكتفاء فيه بواحد عن الجميع عند الاجتماع ما لم ينهض ما يخرج عنه،

ص: 257

ولعلّه إلى اختيار هذا الوجه بنظر ما عن المعتبر(1) من اعتبار نيّة السبب في تداخل الأسباب، فلو اغتسل لا بنيّة سبب لم يقع عن شيء.

وعلى الثماني فلا اشتراك فيه بالمعنى الموجب لاعتبار نيّة التعيين، فالأصل في مثله لا يقتضي إلّا إيجاد الغسل متكرّرا على حسب تكرّر الأوامر المتعلّقة به إن كانت الكلّ إيجابيّة أو ندبيّة، لوضوح الفرق في نظر العقل والعرف بين العناوين الصادقة على مصداق واحد والإيجادات اللاحقة بعنوان واحد كما في صورة تكرار الأمر، ولذا لم يعهد عن أحد القول بلزوم مراعاة نيّة التعيين في موارد التكرار المستفاد من الأمر أو تعدّد الأسباب كما في المقام.

ثمّ على الوجه التالي فهل الغرض الأصلي من الأوامر الواردة على الغسل الّذي هو عنوان واحد شيء واحد لا يقبل التعدّد - على قياس ما هو الحال في الوضوء - أو أشياء متعدّدة على حسب تعدّد إضافاته، بناء على قبول الطهارة عن الحدث الأكبر للتعدّد بدعوى أنّ الغسل قد يفيد الطهارة عن حدث الجنابة ويبقى الطهارة عن حدث الحيض في الذمّة، وقد يفيد هذه الطهارة ويبقى الطهارة عن حدث الجنابة في الذمّة وهكذا، ويختلف الحال باختلاف صور النيّة مثلا، فهاهنا وجوه ثلاث أظهرها أوسطهما على ما سنقرّره.

ويظهر فائدة الفرق بينها - مضافا إلى ما عرفته من الفرق بين الوجهين الأوّلين - في أنّ القائل بتداخل الأغسال لابدّ له من حجّة شرعيّة مخرجة عن الأصل على أوّل الوجوه كما عرفت، سواء كان في [كبرى](2) مسألة تداخل الأسباب من أهل القول بأصالة التداخل أو من أهل القول بأصالة عدمه، وكذلك على ثالثها لكن إذا كان من أهل القول بأصالة عدم التداخل، وأمّا على ثانيها فهو في فراغ عن تجشّم الاستدلال ولا. بطالب بدليل وإن كان من أهل القول بأصالة عدم التداخل، لما عرفت من أنّ التداخل على هذا التقدير قهريّ ، ولا يبعد دعوى وجود قول على طبق كلّ واحد من هذه الوجوه كما يرشد إليه التدبّر في عباراتهم، غير أنّ المصير إلى أوّلها ممّا يظهر من

ص: 258


1- المعتبر 361:1.
2- وفي الأصل: «كلّي» بدل «كبرى»، وقد أبدلناه بما في المتن لرصانة العبارة.

العلّامة في أكثر كتبه، فعنه في التذكرة: «وإن نوت الحيض فإشكال ينشأ من عدم ارتفاعه مع بقاء الجنابة لعدم نمتها، ومن أنّها طهارة قرنتها(1) الاستباحة، فإن صحّت فالأقرب وجوب الوضوء وحينئذ فالأقرب رفع حدث الجنابة لوجود المساوي في الرفع»(2) نعني وجود ما يساوي غسل الجنابة وهو غسل الحيض مع الوضوء فإنّهما يساويان غسل الجنابة مي إفادة استباحة الصلاة.

واصرح منها عبارته في المنتهى قائلة: «أمّا لو نوى به غلأ آخر كالحيض وغيره فعلى ما اخترناه لا يجزئ عن الوضوء - وفي ارتفاع حدث الجنابة حينئذ إشكال ينشأ من تبعيّة الأفعال للقصود والدواعي، فإن قلنا بالإجزاء فلا وضوء حينئذ، وإن قلنا بعدمه فمع الوضوء هل يرتفع أو لا؟ وفيه نظر ينشأ من عموم الإذن في الدخول مع الاغتسال عن الحيض والنفاس والوضوء وذلك مستلزم لرفع كلّ حدث، ومن كون الغسل الأوّل لم يقع عن الجنابة والوضوء ليس برافع لها، فنحن في هذا من المتوقفين، فإنّ غسل الجنابة قد اشتمل على نوع من التمام والكحال ولم يشتمل عليه عيره بحيض صار متحمّلأ لقوّة رفع الحدث بانفراده، ولايلزم من نئة الفعل الضعيف حصول القوي» انتهي(3).

وقد يستدل على اختلاف الفعلين بأنّهما وإن اتّحدا صورة غير أنّهما مختلفان في الأحكام واللوازم، فإنّ من احكام غسل الجنابة رفع الحدث المبيح للصلاة، ومن أحكام غسل الحيض ولوازمه خلافه، فلذا يجب معه الوضوء متقدّمأ أو متأخّرا فيكونان من النوعين المختلفين، ضرورة أنّ اختلاف اللوازم دليل على اختلاف الملزومات، نعم غسل الحيض مع غسل النفاس والاستحاضة متّحدان نوعأ لعدم اختلافي في أحكامهما.

ولا يخلو ما فيه من المنع الواضح، ودعوى اختلاف الغسلين بحسب ذاتيهما على وجه. يتفرّع عليه كونهما مختلفين بحسب القوة والضعف ممّا يصعب إثباته بل دونه خرط القتاد، حيث لا شاهد عليها من العقل والنقل ما عدا الوجه المذكور من اختلاف الأحكام واللوازم الكاشف عن اختلاف الموضوعات والملزومات بزعم أنّها من

ص: 259


1- بعض النسخ المطبوعة من التذكرة: «نوت» بدل «قرنتها» والأول اضح،
2- التذكرة 147:2.
3- المنتهى 244:2.

الأحكام الثابتة لنفس الأغسال أصالة، وهو ممّا يأباه التحقيق والنظر الدقيق، فإنّ القاعدة المذكورة ممّا لا إشكال في كبراه ويتّجه المنع إلى صغراه، فإنّه لو كان هناك أحكام مختلفة - على فرض تسليم الاختلاف كما لو قلنا بالوضوء فيما عدا الجنابة - فهي على ما يساعد عليه التدبّر من الآثار المترتّبة على نفس الأحداث المستدعية للغسل، فاختلافهما على فرض التسليم يكشف عن اختلاف الحدث قوّة وضعفا ولو بحسب مراتبه، وسيظهر الوجه في جميع ذلك كلّه.

ورابعها: [انقسام الحدث إلى الأصغر و الأكبر و البرزخ بينهما]

أنّه قد تقرّر عندهم انقسام الحدث إلى ما يمنع عن الصلاة والطواف ومسّ كتابة القرآن المتوقّف رفعه على الوضوء وحده ويعبّر عنه بالحدث الأصغر، وما يمنع عنها وعن الدخول في المساجد وقراءة العزائم والدخول في الصوم المتوقّف رفعه على الغسل وحده كما في الجنابة بلا خلاف أو هو مع انضمام الوضوء إليه كما في غيرها على المشهور ويعبّر عنه بالحدث الأكبر، وما هو برزخ بينهما من حيث اقتضائه المنع عن الثلاث الاول على الأقوى مع توقّف رفعه على الغسل والوضوء معا على المشهور أيضا كحدث مسّ الأموات، فإنّه من الحيثيّة الأولى يلائم الأصغر ومن الحيثية الثانية يلائم الأكبر، وإن شئت قلت: إنّه قسم من الأكبر كما هو ظاهر كلماتهم بل صريح بعضهم، بناء على أن يكون ضابط الفرق بينه وبين الأصغر توقّف ارتفاعه على الغسل منفردا أو منضمّا إليه الوضوء وعلى الوضوء وحده، فالأوّل هو الأكبر والثاني هو الأصغر.

وعلى المشهور في غير غسل الجنابة من اعتبار الوضوء معه ففي كون الحدث المتوقّف رفعه عليهما في مرتبة ذاته حدثا واحدا أكبر لا يرتفع إلّا بالوضوء والغسل، أو حدثين أصغر وأكبر مع انصراف الوضوء إلى الأصغر والغسل إلى الأكبر، أو كونهما معا رافعين للحدثين على سبيل الاشتراك وجوه، نبّه عليهما في المدارك(1) ولم يتعرّض لترجيح شيء منها، بل صرّح بأنّه ليس في النصوص دلالة على شيء من ذلك ويؤذن ذلك بتوقّفه، غير أنّ الأنسب بقواعدهم حسبما يساعد عليه النظر بطلان الوجه الأوّل

ص: 260


1- المدارك 194:1.

والثالث، فإنّ من قواعدهم - على ما يظهر من أصحاب القول بالوضوء مع الغسل فيما عدا الجنابة - أنّ الغسل حيثما حصل بدون الوضوء ارتفع معه من آثار الحدث الأكبر ما يختصّ به، وهو المنع عن دخول المساجد والصوم وقراءة العزائم، ويبقى ما هو مشترك بينه وبين الأصغر كالمنع عن الصلاة والطواف و مسّ كتابة القرآن إلى أن يلحقه الوضوء، ولا ريب أنّ هذه القاعدة بعد البناء على اعتبار الوضوء ممّا لا يعقل له وجه إلّا على الاحتمال الثاني.

وخامسها: أنّه ربّما يظهر من كلماتهم اختلاف في تعدّد الحدث الأكبر واتّحاده،

فإنّ منهم من يذهب إلى التعدّد ويستدلّ عليه ببعض ما ستسمعه، ومنهم من صار إلى الاتّحاد كما هو صريح من احتجّ على ما اختاره من تداخل الأغسال بأنّ الحدث الأكبر أمر واحد بسيط وتعدّد أسبابه لا يقضي بتعدّده، فحاله كحال الحدث الأصغر ففي الحقيقة لا تعدّد في الأسباب كما في الوضوء، بل السبب أمر واحد وهو الخبث المعنوي المسمّى بالحدث فيكتفى بالغسل الواحد كما في الوضوء.

ويظهر الثمرة في أنّ التداخل على هذا القول قهريّ فلا يحتاج ثبوته إلى دليل، وعلى غيره ذو وجهين كما يعلم وجهه بالتأمّل، ولا يبعد القول بالتعدّد لأنّه الّذي يستشمّ عن طائفة من الأخبار، فمن جملة ذلك ما في اخبار الباب حسبما تسمعه من قوله عليه السلام: «إذا اجتمعت عليك لله حقوق أجزأ عنها غسل واحد»(1) فإنّ الحقوق المجتمعة وإن كانت عبارة عن الأغسال حين اجتماعهما غير أنّه لا يعطيها التعدّد الّذي هو عبارة أخرى عن اجتماعها إلّا تعدّد الأحداث المستدعية لها الناشئة عن اسبابها كما يظهر وجهه بالتأمّل بعد ملاحظة أن لا غرض من شرع الأغسال الواجبة إلّا رفع الحدث وأنّه لم يعهد في الشريعة غسل جنابة لم يستتبع رفع الحدث.

ويظهر ذلك أيضا بالتقريب المذكور من الأخبار المصرّحة بتداخل غسلي الجنابة والحيض كما تسمعها عن قريب، وأظهرها في ذلك ما في خبر عمّار من قوله: «إن شاءت أن تغتسل فعلت، وإن لم تفعل فليس عليها شيء، فإذا طهرت اغتسلت غسلا

ص: 261


1- الوسائل 261:2 الباب 43 من أبواب الاغسال المسنونة ح 1.

راجحا للحيض والجنابة»(1) فإنّ هذه الرواية قد دلّت على صحّة الغسل عن الجنابة حال وجود الحيض كما هو قضيّة التخيير بين فعله وتركه الّذي هو في معنى الأمر به ندبا، والصحّة فيه بدون إفادته لرفع الحدث الّذي هو المقصود من شرعه غير معقولة، كما أنّ كون ما يرتفع به غير حدث الجنابة على الاستقلال غير معقول.

ويستفاد أيضا من حسنة بل صحيحة الكاهلي قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن المرأة يجامعها الرجل فتحيض وهي في المغتسل، فتغتسل أم لا؟ قال: قد جاءها ما يفسد الصلاة فلا تغتسل»(2) فإنّ إسناد فساد الصلاة إلى الحيض دون الجنابة مع أنّها في مفروض السؤال هي السبب السابق يدلّ على أنّه بنفسه يؤثّر في حدث آخر غير ما أثر فيه الجنابة هو المفسد للصلاة، فلو كان الحدث الأكبر أمرا واحدا بسيطا لا يتعدّد بتعدّد أسبابه لوجب إسناد الإفساد إلى الجنابة لأنه السبب السابق على الحيض، ومن المستحيل توارد علّتين تامّتين على معلولي واحد سيّما مع التعاقب، فلا محالة يكون الأمر الواحد البسيط مستندا في وجوده الخارجي إلى الجنابة. واحتمال كون غسل الجنابة يؤثّر آنا ما في ارتفاع ذلك الأمر الواحد المستند إليها ثمّ يتجدّد ثانيا ببقاء الحيض الّذي هو أيضا بنفسه سبب تامّ له - فإسناد الإفساد إليه إنّما هو لهذه الجهة لا لأنّ غسل الجنابة لا يقع صحيحا باعتبار عدم الأمر به في هذه الحالة ممّا لا يلتفت إليه، لبعده عن ظاهر اللفظ فلا ينبغي تنزيل الرواية عليه.

وأظهر من جميع ما ذكر في إفادة هذا المطلب خبر سعيد بن يسار، قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام «المرأة ترى الدم وهي جنب تغتسل عن الجنابة أم غسل الجنابة والحيض واحد؟ قال: قد أتاها ما هو أعظم من ذلك»(3) وينساق منه مطلب آخر كما ستعرفه.

لكن لا يذهب عليك أنّ تعدّد الأحداث الّذي اقتضته ظواهر الأخيار وإشاراتها لا يلازم كونها مفاهيم مختلفة متمايزة في الواقع بحسب الماهيّة لجواز اتّفاقها بحسب

ص: 262


1- الوسائل 264:2 الباب 43 من أبواب الأغسال المسنونة ح 7.
2- الوسائل 203:2 الباب 14 من ابواب الجنابة ح 1.
3- الوسائل 314:2 الباب 22 من أبواب الحيض ح 2.

الحقيقة وتمايزها بحسب العوارض والمشخّصات ولو من حيث القوّة والضعف، على معنى كونها باعتبار الكلّي الّذي يقال عليها متّحدة [و] متمايزة باعتبار تفاوت مراتب ذلك الكلّي من حيث القوّة والضعف والمتوسّط بينهما، نظير اللون المختلف أفراده بحسب تفاوت مراتبه قوّة وضعفا، فأوّل مراتبه مرتبة الحدث الأصغر وآخرها مرتبة حدث الحيض وأخويه، ولعلّه إليه يشير ما في خبر سعيد من وصف الحيض بكونه أعظم، وبينهما متوسّطان أحدهما حدث الجنابة فإنه فوق الأصغر ودون الحيض وأخويه، وثانيهما حدث المسّ فإنّه على القول بعدم الوضوء في غسله أو على تقدير كون الوضوء الثابت معه لمجرّد التعبّد كما احتمله بعضهم فوق الأصغر ودون الجنابة وما فوقه، وعلى القول بالوضوء معه لمدخليته في الرفع فوق الأصغر ودون الحيض وأخويه، وأمّا بالقياس إلى الجنابة ففيه جهتان إحداهما تقتضي كونه فوقها باعتبار توقّف رفعه على الغسل والوضوء، واخراهما تقتضي كونه دونها باعتبار استدعائه المنع عمّا يمنع عنه الأصغر، وقضية ذلك كلّه كونها عند اجتماع أسبابها واحدة بالنوع والشخص لبعد بقاء امتيازاتها الخارجيّة عند تواردها على محلّ واحد إن لم نقل باستحالته، ولا ريب أنّ فوات الامتياز الخارجي في نحوها يوجب فوات الاثنينيّة ومعه يستحيل التعدّد بالشخص، غاية الأمر كونه شخصا هو أقوى من سائر الاشخاص الملحوظة على الانفراد كما في غير صورة الاجماع.

والحاصل: لا مضائقة في الالتزام بكون الأحداث المختلفة بالضعف والقوّة متّحد السنخ الموجب لعدم امتيازها الواقعي عند اجتماعهما وانضمام بعضها إلى بعض في صورة توارد اسبابها على المحلّ على جهة الدفعة أو التعاقب، ولازمه تداخل بعضها مع بعض، على معنى اندراج الضعيف في القويّ شبه اندراج الأقلّ في الأكثر في الكمّيّات وإن حصل الفرق بينهما في بقاء الامتياز وعدمه، وهذا حسن لولا منافاته لأمرين:

احدهما: ما ثبت بضرورة من المذهب بل الدين ونطق به النصوص كتابا وسنّة من عدم إجزاء الغسل عن الحدث الأصغر في صور انفكاكه عن الاكبر ولّو بعد حصول الغسل في غير الجنابة من اقسام الحدث الأكبر على القول باعتبار الوضوء معه، بناء على ما تقدّم من انصراف الغسل في مثله إلى الأكبر والوضوء إلى الأصغر المقتضي لبقاء

ص: 263

الأصغر بعد ارتفاع الأكبر بحصول رافعه، فلو كان الأصغر في نحو المفروض وغيره - ممّا لم يحدث الأكبر مع الأصغر كما في صورة وجود أسباب الأصغر - متّحد السنخ مع الأكبر لزم إمكان رفعه بالغسل أيضا، فيلزم جواز ارتفاع الأصغر الباقي بعد ارتفاع الأكبر بغسل آخر بل بطريق أولى، فإنّ الغسل إذا كان رافعا للأكبر الذي هو الأقوى فلأن يكون رافعا للأضعف الذي هو من سنخ الأقوى طريق الأولويّة واللازم باطل، وقضيّة ذلك كون الأصغر مختلف السنخ مع الأكبر، ولازمه الامتياز الخارجي بينهما في صورة الاجتماع.

ويؤيّده جواز تقديم الوضوء على الغسل فيما اعتبر معه الوضوء على القول بهما، فإنّه لا يقع مؤثّرا مع التقديم إلّا على تقدير امتياز ما يرتفع به عمّا يرتفع بالغسل الرافع بحسب الواقع كما لا يخفى.

ويؤيّده أيضا وقوع الغسل عند تقديمه على الوضوء مؤثّرا في رفع الأكبر، فإنه لولا الامتياز الواقعي اتّجه احتمال كونهما معا رافعين للحدثين وقد اتّضح فساده سابقا.

ويرجع محصّل الفرق بين الجنابة الغير الموجبة للوضوء وغيرها الموجب له أنّها توجب الأكبر المانع عن الصلاة وغيرها ولا توجب الأصغر الممتاز عن الأكبر بحسب الواقع، وغيرها يوجب الحدثين معا على نحو الامتياز لعدم اتّحادهما سنخا وإن كان الأكبر المنضمّ إليه الأصغر يشاركه في المنع عن الصلاة وغيرها ممّا يمنع عنه الأصغر، غاية الأمر أنّهما حين الاجتماع يتداخلان في المنع ومع الانفراد بارتفاع أحدهما لحصول رافعه من الغسل أو الوضوء اختصّ المنع بالباقي إلى أن يحصل رافعه وضوءا كان أو غسلا.

وثانيهما: ما استفدناه من خبر عمّار المتقدّم من صحّة غسل الجنابة الرافع لما استند إليها من الحدث حال وجود الحيض، فإنّه لولا التمايز الخارجي بينهما استحال الصحّة بعد ملاحظة ما سنحقّقه من أنّ الغسل حيثما جامع الشروط وصادف محلّا فارغا عن الموانع مقتض تامّ لرفع الأكبر بسنخه ولو بلغ في القوّة بسبب اجتماع أقسامه ما بلغ كما في صورة التداخل بالمعنى الّذي سنقرّره، وهو هنا غير ممكن لمصادفة وجود المانع وهو الحيض فيلزم أن لا يقع حينئذ مؤثّرا وقد دلّت الرواية على خلافه.

ص: 264

وبما قررّناه يتّضح وجه الفرق بين حدث آلمسّ على القول بالوضوء مع غسله وغيره، فإنه يوجب حدثين أيضا إلّا أنّ الأكبر منهما يتمحّض لما يشارك الأصغر من المنع عن الصلاة والطواف و مسّ كتابة القرآن وإن كانا يتداخلان في المنع ما دام الاجتماع بخلاف غيره فإنّ أكبره لا يتمحّض لذلك بل يتضمّن جهتين من المنع حسبما عرفت، وهذا هو الوجه في كونه أقوى منه.

هذا كلّه على المشهور من اعتبار الوضوء مع غير غسل الجنابة، وأمّا على القول الآخر فلا حاجة إلى هذه التجشّمات بل الحدث المستند إلى أسبابه حينئذ واحد لا يختلف حاله في القوّة والضعف على وجه يؤول إلى حدثين أكبر وأصغر في غير صورة الجنابة من أقسام الأكبر سواء كانت متّحدة السنخ أو مختلفة، ولا ينافيه بلوغه في صورة الاجتماع على تقدير اتّحاد السنخ المقتضي لفوات التمايز أقوى المراتب، لأنّه قوّة لا يترتّب عليها أثر من حيث استدعاء الوضوء زيادة على الغسل، فقويّه حينئذ بمنزلة ضعيفه كما لا يخفى.

وبذلك أمكن كون بعض هذه الاقسام أقوى من صاحبه اتّحدا سنخا أو اختلفا، غير أنّه أقوائيّة لا تقضي حكما آخر غير ما كان يقتضيه الأضعف، وعلى إرادة هذا المعنى يمكن حمل ما عرفته في خبر سعيد من وصف الأعظميّة، وليضبط ذلك كلّه.

سادسها: قد تبيّن فيما سبق أنّ لهم اختلافا في أمرين، أحدهما: اتحاد الحدث وتعدّده، وثانيهما: اتّحاد الغسل وتعدّده،
اشارة

فيتصوّر في المقام بملاحظة ذلك وجوه:

الأوّل: أن يلتزم بالتعدّد في كلّ من الأحداث والأغسال،

أمّا في الأولى فبحسب الماهيّة أو الشخص على التفصيل المتقدّم من احتمالي اتحادها أو اختلافها سنخا، وأمّا في الثانية فبحسب الماهيّة والحقيقة بدعوى أنّها في حدّ ذواتها أمور مختلفة الحقائق وهي مع هذا الاختلاف مختلفة في وصفي القوّة والضعف اختلافا ناشئا عن الاختلاف الأوّل، ولا ينافيه ما هو ضابطة الماهيّات المتعدّدة والأنواع المتغايرة من وجوب اشتمالها على فصول مميزة، لجواز كون الفصل المميّز هنا أحد الأمرين من مقارنة العمل بنية السبب الخاصّ كما التزم به المحقّق في المعتبر(1) أو مصادفته لحالة حدث

ص: 265


1- المعتبر 362:1.

مخصوص، فالغسل المنويّ به الجنابة ماهيّة تغاير الغسل المنويّ به الحيض ولو بحسب الاعتبار، كما أن الغسل المصادف لحالة الجنابة ماهيّة تغاير باعتبار مصادفته لها الغسل المصادف لحالة الحيض، ولا يعقل ممّا عداهما ما يصلح فصلا مميّزا هنا كما لا يخفى.

الثاني: أن يلتزم بالتعدّد في الأحداث حسبما فصّلناه مع وحدة الأغسال ذاتا،

على معنى كون الغسل في حدّ ذاته فعلا واحدا ملحوظا على نمط واحد مطلقا حتى من حيث القوّة والضعف فلا تعدّد فيه ذاتا وإن تعدّدت إضافاته وأشخاصه، بناء على أنّ الجنابة والحيض وغيرهما حالها بالقياس إلى الغسل ليس إلّا كحال البول والنوم ونحوهما بالقياس إلى الوضوء، فلا يسلّم فيها إلّا كون كلّ واحد سببا تامّا للحكم وهو الأمر بالغسل وحده أو منضمّا إليه الوضوء من دون أن يكون لها دخل في موضوعه كما هو الأظهر على ما ستعرفه.

الثالث: أن يلتزم بعكس الثاني،

على معنى كون الحدث في حدّ ذاته أمرا واحدا ولو سنخا، طاريا للمحلّ على نمط واحد من دون اختلاف فيه قهوة وضعفا، مع رجوع اختلاف الأحكام من حيث الاكتفاء بغسل واحد تارة والافتقار إلى الوضوء معه اخرى إلى تفاوت أنواع الغسل من حيث القوّة والضعف المستند إلى دواتهما، فيلزم منه كون غسل الجنابة في مرتبة ذاته قويّا وما عداه ضعيفا، ولعلّ ما عرفته عن العلّامة ينطبق على هذا الوجه كما هو الظاهر.

الرابع: أن يلتزم باتّحاد كلّ من الحدث والغسل،

على معنى كون الغسل في مرتبة ذاته نوعا واحدا لا يختلف حاله بالقوّة والضعف مع كون الحدث مقيسا إلى جميع أسبابه على نمط واحد وصفا ومقدارا، بأن يكون ما يعرض المكلّف بسبب الجنابة من الرجس الباطني والخبث المعنوي على نحو ما يعرضه بسبب الحيض وغيره من دون أن يكون هناك اختلاف في المرتبة ولا تفاوت من حيث الشدّة والضعف وإن اختلفا سنخا، غير أنّ هذا الوجه إنما يستقيم على قول السيد ومتابعيه في نفي اعتبار الوضوء مع الغسل مطلقا، أو بناء على كون اعتباره فيما اعتبر معه لمجرّد التعبّد وجوبا كما احتمله بعضهم في غسل المسّ ، أو ندبا كما عليه جماعة في غير غسل الجنابة مطلقا.

سابعها: [هل الملازمة بين الغسل و ما يترتب عليه من الطهارة عرفية أو واقعية أو جعلية]

أنّ الملازمة بين الغسل وما يترتّب عليه من الطهارة الملازمة لارتفاع

ص: 266

الحدث في جميع الوجوه الأربع المتقدّمة إمّا عرفية فأمضاها الشارع، أو واقعيّة فكشف عنها الشارع، أو جعليّة حصلت يجعل منه بحيث لولا جعله لم يكن بينهما علقة ولا ارتباط بل كان كلّ منهما لذاته أجنبيّا عن صاحبه.

والأوّل ممّا لا سبيل إليه في خصوص المقام حيث إنّ العرف لا مدخل لهم في تعبّديات الشرع، ولا طريق لهم إلى إدراكها من غير جهة التوقيف على حدّ سائر العبادات.

لا يقال: في النصوص ما ربّما يقضي بكون الملازمة المذكورة من هذا الباب، كما في الخبر المرويّ عن احتجاج الطبرسي عن أبي عبدالله عليه السلام في حديث: «إنّ زنديقا قال له: أخبرني عن المجوس كانوا أقرب إلى الصواب أم العرب ؟ قال: العرب في الجاهليّة كانت أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس، وذلك أنّ المجوس كفرت بكلّ الأنبياء - إلى أن قال: - وكانت المجوس لا تغتسل من الجنابة والعرب كانت تغتسل، والاغتسال من خالص شرائع الحنيفيّة - فساق الحديث إلى أن قال - قال: فما علّة الغسل من الّجنابة وإنّما أتى بما هو حلال وليس من الحلال تدنيس ؟ قال عليه السلام: إنّ الجنابة بمنزلة الحيض، وذلك أنّ النطفة دم لم يستحكم، ولا يكون الجماع إلّا بحركة شديدة وشهوة غالبة، فإذا فرغ الرجل تنفّس البدن ووجد الرجل من نفسه رائحة كريهة فوجب الغسل لذلك...» إلخ(1).

فإنّ تفضيل أهل الجاهليّة باغتسالهم عن الجنابة ممّا يعطي كونه قبل الشرع أمرا متداولا بينهم، فيكون تصرّف الشارع في الامر به من باب الإمضاء.

لتوجّه المنع إليه بملاحظة قوله: «والاغتسال من خالص شرائع الحنيفية» فإنّه يعطي كونه أمرا مشروعا قبل زمن الجاهليّة وكان تداوله بين أهله عن نحو اتّباع لسالف الشرائع، وأقوى منه في الكشف عن انتفاء هذه الملازمة تعرّض الزنديق للسؤال عن علّة تشريعه، فإنّ مجهوليّة العلّة في العرفيّات الّتي تعمّ بها البلوى ممّا يأباه العادة، وقوله: «فوجب الغسل لذلك» أيضا ممّا يؤذن بكونه أمرا حادثا من جهة الشرع المردّد بين كونه من باب الكشف أو الجعل، غير أن احتمال كونه من باب الجعل أيضا ممّا

ص: 267


1- الاحتجاج 92:2.

لا سبيل إليه بل لا وجه له، لأنّه بالقياس إلى الغسل الّذي لا يطلب منه إلّا فائدة الطهارة المبيحة لمشروط بها إنّما يتصوّر لو كانت الطهارة في مواردها ممّا يحصل بخلق منه تعالى معلّق صدوره على حصول هذا الفعل الملتئم عن حركات اختياريّة بآداب معهودة، على معنى جريان عادته تعالى بذلك من دون ترتّب خارجي بينهما حسبما يزعمه الأشاعرة المنكرة للترتب بين الأشياء بدعوى جريان عادته بخلق شيء عقيب آخر، وهذا مع ابتنائه على أصل فاسد وغاية بعده عن الاعتبار ممّا ينفيه الأدلّة الدالّة على طهوريّة الماء من الإجماع والكتاب والسنّة، فإنّ المستفاد منها - على ما تقدّم الإشارة إلى تحقيقه في أوائل الجزء الأوّل(1) من الكتاب - كونها كالطهارة صفة ثابتة في الماء باعتبار خلقته الأصليّة على حدّ توابع الماهيات ولوازمها، فلا يعقل حينئذ كون أثرها أعني الطهارة في وجوده الخارجي مستندا إلى تأثير منه تعالى حين وجود سببه، غاية الأمر كون الماء بنفسه مقتضيا لها، ويلزم منه كون تأثيره الخارجي منوطا لانضمام ما هو شرط له إليه وهو مقارنة هذه الحركات به، فمعنى كون الغسل سببا للطهارة أنّ استعمال الماء على النهج المعهود يوجبها لا لأنّ المؤثّر هو الاستعمال بل الماء بطبعه ولذاته بشرط الاستعمال.

فإن قلت: ثبوت مدخليّة بعض الخصوصيّات في التاثير بالشرع كمدخليّة النيّة والإخلاص والترتيب ونحوها من الشروط والآداب إنّما يلائم جعليّة الملازمة، إذ الملازمة الواقعيّة لا تقتضي هذه الخصوصيات.

وبالجملة ثبوت اعتبارها في التأثير كما هو مسلّم ممّا يكشف عن كون الملازمة هاهنا مستندة إلى نحو من الجعل والاعتبار.

قلت: اعتبار هذه الخصوصيّات وإن كان من الشارع إلّا أنّه لابدّ وأن يكون من باب الكشف عن الواقع، لوضوح أنّ الملازمة حيثما تكون واقعيّة فلا جرم يكون مدخلية جميع ما له دخل فيها من الأمور الوجوديّة والعدميّة أيضا ثابتة باعتبار الواقع من دون استنادها إلى الجعل بالمعنى المذكور، غاية الأمر إرجاع ذلك إلى كونه من مقتضي طبيعة الماء باعتبار جعله التكويني وإيجاده الأصلي، على معنى أنّه تعالى من حين

ص: 268


1- ينابيع الاحكام 28:1.

تكوينه أخذ فيه من صلاحية التطهير نحوا مقيّدا في التاثير الخارجي بتلك الخصوصيات ومشروطا باستعماله الخاصّ المعنون بعنوان الغسل أو الوضوء على حدّ توابع سائر الماهيّات المأخوذة فيها على وجه خاصّ ونحو مخصوص وحدّ منضبط في نفس الأمر، ولذا لو تعدّت في استعمالاتها الطارئة لها عن هذا الحدّ المنضبط لعدم مراعاة وجود ما هو من شروط تاثيرها أو فقد ما هو من موانعه لم تقع مؤثّرة، فإذا كانت الصلاحية على الوجه المذكور من توابع ذات الماء وطبيعته بحسب خلقته الأصلية وإيجاده التكويني يلزم منه أن يكون استعماله الخاصّ الملحوظ على الوجه المخصوص المعبّر عنه بالغسل أو الوضوء باعتبار ما في الماء من الصلاحية المعلّق تأثيرها الخارجي مقتضيا لوجود الطهارة بوجوده وعدمها بعدمه، وهذا ليس من الملازمة الجعليّة بالمعنى المتقدّم في شيء، مع أنّ الخبر المتقدّم على ما يرشد إليه التأمّل ربّما يشير إلى نفي جعليّة الملازمة بالمعنى المذكور.

وفي معناه الخبر المرويّ في الفقيه - كما عن العلل والعيون - عن محمّد بن سنان عن الرضا عليه السلام أنّه كتب إليه في جواب مسائله: «علّة غسل الجنابة النظافة، ولتطهير الإنسان ممّا أصابه من أذاه وتطهير سائر جسده، لأن الجنابة خارجة من كلّ جسده فلذلك وجب عليه تطهير جسده كلّه...» إلخ(1) فإنّ سياق السؤال والجواب يعطي اعتقاد السائل بأن غسل الجنابة ممّا لابدّ فيه من مصلحة واقعيّة دعت إلى تشريعه والأمر به فسأل عن تعيينها. فورد الجواب على طبق مطلوبه حاكما يكون تلك المصلحة الخاصّة هي النظافة والطهارة.

وإذا تقرّر هذا كلّه فنقول: إنّ ما ادّعي من تعدّد الأغسال بحسب الماهيّة المقتضي لاختلافهما باعتبار الضعف والقوّة، إن أريد به ما يستند إلى ملازمة جعليّة - بدعوى أنّها اعتبرت تارة بين الغسل والطهارة، واخرى بين المجموع منه ومن الوضوء والطهارة، فيكون الغسل في القسم الأوّل لكونه بنفسه سببا تامّا أقوى منه في القسم الثاني لكونه جزءا للسبب، ويرجع محصّله إلى أنّ الشارع جعل الغسل المنويّ به الجنابة أو المصادف لها بنفسه سببا لخلق الطهارة، بمعنى تعليق فعله على حصول هذا العنوان،

ص: 269


1- الوسائل 178:2 الباب 2 من أبواب الجنابة ح 1.

والمجموع من الوضوء والغسل المنويّ به الحيض أو المصادف له سببا لفعله بمعنى تعليقه على حصول مجموع الأمرين - فقد اتّضح فساده بما لا حاجة له إلى الإعادة.

وإن أريد به ما يستند إلى الملازمة الواقعيّة الراجعة إلى الصلاحية المودعة في طبيعة الماء باعتبار خلقته الأصليّة. فيزيّفه: أنّه ممّا لا يعقل له وجه إلّا دعوى أنّ الماء قد اودع في ماهيته نحوان من الصلاحية، أحدهما: ما يقتضي من جهته في تأثيره الخارجي نحوا خاصّا من الاستعمال. وثانيهما: ما يقتضي من جهته في تأثيره نحوين من الاستعمال، وبالجملة صلاحية التطهير من لوازم ماهيّة الماء وقد اخذت فيها على وجهين متغايرين، فيكون الماء ملزوما للازمين متخالفين، وهذا اختلاف فيما بالذات.

فإن قلت: ولعلّ هذا الإلزام ممّا لا داعي إليه بل يتّجه المنع إليه، لجواز كون الصلاحية المودعة في ماهيّه الماء واحدة مأخوذة على نمط واحد، غير أنّ اقتضاءه التاثير من جهتها في رفع حدث معين مشروط بأمر وفي رفع غيره بأمرين، وهذا ليس بعزيز فيما بين الأسباب عقليّة وعادية وشرعيّة، كما في النار التي هي سبب الإحراق إذا صادفت محلّ اليبوسة والرخاوة أو محلّ الرطوبة أو الصلابة، فإنّ افتقار تأثيرها في الثاني إلى معين خارجي بخلاف الأوّل لا يقضي باختلاف لازم الماهيّة جزما.

قلت: هذا خروج عن مفروض المقام الّذي نظيره من المثال المذكور ما لو أضيفت النار إلى محلّين متساويين من حيث اليبوسة والرخاوة وضدّيهما، فلو فرض حينئذ اختلاف في تأثيرها فلا مناص من إرجاعه إلى ذاتها وهو محال، وحينئذ لو فرضت الاحداث في محلّ الكلام متساوية من جهتي الضعف والقوّة ولو تغايرت من جهة الماهيّة فلا يعقل معه لاختلاف التأثير - حسبما هو مفروض المقام - مستند إلّا اختلاف الصلاحية المودعة في الماء بفرض اشتماله على صلاحيتين إحداهما في طرف الضعف من الأخرى، ضرورة أنّ الصلاحية الّتي بها يؤثّر الماء في رفع حدث الجنابة لمجرّد الغسل إذا اخذت بالقياس إلى ما يساويه في مرتبة الحدثيّة أعني حدث الحيض وأخويه فلابدّ وأن يؤثّر أيضا في رفعه لمجرّد الغسل وقد فرض خلافه، ولا يكون إلّا لقصور صلاحيته للتطهير عن حدث الحيض، ولا ريب أنّها حينئذ ليست بعين صلاحية التطهير عن حدث الجنابة حيث لا قصور فيها.

ص: 270

وبالجملة فرق واضح بين ما لو رجع اختلاف حكمي التأثير إلى تفاوت أوضاع الرافع وما لو رجع إلى تفاوت أحوال المرفوع.

والثاني(1) وإن كان لا يستتبع محذورا غير أنه خلاف مقالة من يدّعي استناد اختلاف الأحكام إلى تغاير الأغسال ذاتا ووصفا.

هذا كلّه في تزييف الوجه الثالث من الوجوه الثلاث المتقدّمة، وأمّا أوّل تلك الوجوه فهو أيضا مع عدم ظهور قائل به واضح الفساد بعد ملاحظة عدم انطباقه على كلماتهم وقواعدهم، فإنّ مفروضهم أنّ غسل الجنابة أقوى من غسل الحيض وأخويه كما عرفته عن العلّامة، وهو يقضي بتساوي الحدثين في جهتي الضعف والقوّة ليصحّ استناد عدم اعتبار الوضوء مع الاوّل إلى قوّته واعتباره مع الثاني إلى ضعفه ومفروض هذا الوجه خلافه، ولو فرض حدث الحيض كغسله أضعف من حدث الجنابة لزم عدم افتقار غسله بغسل الجنابة إلى الوضوء وهو خلاف قاعدتهم، ولو فرض حدث الجنابة أضعف من حدث الحيض كما هو قضية الخبر المتقدّم لزم كون الاختلاف في الحكم مردّدا بين استناده إلى تفاوت الغسلين واستناده إلى تفاوت الحدثين، بل الاعتبار ربّما يساعد على استناده إلى الثاني، ومعه سقط اعتبار تفاوت الغسلين كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى ما في أخبار مستفيضة منها الصحاح ومنها غيرها مصرّحة بأنّ غسل الجنابة والحيض واحد، من ظهورها في الوحدة بحساب الموضوع المقصود منه بيان المشاركة فيما يعتبر في الغسل وما لا يعتبر كما لا يخفى على المتتبّع المنصف.

ثامنها: قد يوجد في كلماتهم اضطراب في توجيه التداخل ومعناه،

بل اختلفت جملة من الأنظار فيه، فإنّ منهم من يظهر منه أنّ معناه اتّحاد الغسلين في الوجود وتصادقهما في الفرد، على معنى صدقهما معا على الفرد البارز في الخارج، كما هو لازم من يستند في الحكم بالتداخل إلى حصول امتثال كلا التكليفين ولو في صورة اجتماع الواجب والمندوب، بناء على إمكان اجتماع الوجوب والندب في شيء واحد ذي جهتين. بتقريب: أن يكون شيء واحد فردا للطبيعة الّتي تعلّق بها التكليف الإيجابي مع كونه فردا للطبيعة الّتي تعلّق بها التكليف الاستحبابي، فإذا أتى المكلّف بالفرد

ص: 271


1- عطف على «والأوّل الّذي تقدّم في الصفحة 267.

المذكور يحصل امتثال كلا التكليفين.

ومنهم من يظهر منه التفصيل بين الواجبين أو المندوبين، فمعناه حينئذ: ما ذكر من اتحاد الكلّيين في الخارج لصدقهما على الفرد المأتيّ به والمختلفين فمعناه حينئذ أنّ إحدى الوظيفتين تتأدّى بالاخرى، بمعنى أنّه يحصل ثوابهما وإن لم تكن من أفرادها حقيقة، كما تتأدّى صلاة التحيّة بالفريضة، والصوم المستحبّ بالقضاء كما في المدارك، حيث إنّه استدلّ على التداخل في الأوّلين بصدق الامتثال بالفعل الواحد، وقال - عند البحث عن الثالث -: «ومعنى تداخل الواجب والمستحبّ تأدّي إحدى الوظيفتين بفعل الأخرى، كما تتأدّى صلاة التحيّة بقضاء الفريضة، وصوم الأيام المسنون صومها بقضاء الواجب»(1) ووافقه صاحب الذخيرة عليه، إلّا أنّه أضاف إلى ما ذكره في معنى تداخل الواجب والمندوب من الوجه المذكور وجوبا آخر بقوله: «أو يقال: ما دلّ على استحباب غسل الجمعة مخصص بصورة لا يحصل سبب الوجوب، والمراد من كونه مستحبّا أنّه مستحبّ من حيث كونه غسل الجمعة، أعني مع قطع النظر عن طريان العارض المقتضي للوجوب...» إلخ(2).

ومرجعه إلى صدق العنوانين معا بوصف الوجوب حتّى بالقياس إلى غسل الجمعة.

وربّما يستشمّ عن عبارة المدارك تدافع، فإنّه بعد ما فسّر تداخل الواجب والمندوب بما عرفته - ساق كلامه إلى أن قال -: «ولو لم يلحظ التداخل في النيّه ففي إجزاء كلّ من الواجب و الندب عن الآخر وجهان، ويشهد للإجزاء مضافا إلى صدق الامتثال ما رواه الصدوق...» إلخ(3) ولا يخفى أنّ التمسّك بصدق الامتثال في الفرع المذكور يدافع التفسير المتقدّم.

ولبعض مشايخنا مسلك آخر وهو حمله على التنزيل الشرعي قائلا في أثناء كلام له: «فلا يصدق على المغتسل غسلا واحدا بنيّة الجميع إنّه امتثل لتلك الأوامر. نعم جعله الشارع بمنزلة ذلك، فهو غسل جنابة وحيض شرعا لا عرفا، بمعنى أنّه واحد اجتزى به عن متعدّد شرعا وجعله الشارع بمنزلتهما، فيجتزي به حينئذ عن الوضوء لكونه بمنزلة غسل الجنابة، لا أنّه غسل جنابة حقيقة، كما أنه لمّا كان الظاهر من الأخبار أنّ

ص: 272


1- المدارك 196:1.
2- الذخيرة: 9.
3- المدارك 197:1.

ذلك رخصة لا عزيمة كان المكلّف بالخيار بين الإتيان بفعلين أو بفعل واحد ناويا به الاجتزاء عنهما»(1).

وقال - في موضع آخر عند دفع شبهة من أنكر تداخل الواجب والمندوب استنادا إلى لزوم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد -: «التحقيق إنّ المراد بالتداخل هنا إنّما هو الاجتزاء بفعل واحد عن الفعلين، وليس هذا الفرد الموجود في الخارج الّذي تحقّق به الاجتزاء مصداقا للكليين حتّى يلزم ما سمعت بل هو أمر خارج عنهما، فهو من قبيل فرد لكلّي آخر قال الشارع إنّي أجتزئ به عن الواجب والمندوب، ولكن لمّا كان مشابها في الصورة سمّي بالتداخل، وإلّا فهو ليس غسل جنابة وغسل جمعة ليرد ذلك.

فإن قلت: إنّا نسأل عن هذا الغسل الموجود في الخارج أهو مستحبّ أم واجب ؟

أو مستحبّ وواجب ؟

قلت: هو حيث يقوم مقام الأغسال الواجبه فهو أحد فردي الواجب المخيّر، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين أن يأتي بالفعلين أو بالفعل الواحد المجزئ عنهما، وحيث يقوم عن الواجب والمندوب فهو مندوب محضا، فإنّه يجوز تركه لا إلى بدل، وذلك لأنّ بدله الواجب والمستحبّ جميعا، ويجوز للمكلّف الاقتصار على الواجب فقط، وهو ليس بدلا عنه فكان يجوز تركه لا إلى بدل فلا يكون واجبا..،» إلخ(2).

وفي هذه الوجوه من الضعف والفساد ما لا يخفي، فإنّ صدق الامتثال بدون أداء المأمور به على أنه مأمور به ممّا لا يكاد يعقل، بل الوجه في مثله على تقدير تسليم تعدّد عناوين الأغسال وتغايرها بحسب الماهيّة اختصاص الامتثال بما قصد على التعيين، ومع عدم قصد التعيين فالوجه البطلان عملا بما في حكم العقل والعرف.

والشبهة إنّما تنشأ عن ملاحظة صدق كلّ عنوان على ما هو مصداق الجميع.

وفيه: أنّ مناط الامتثال على فرض التعدّد إنّما هو إيجاد كلّ عنوان لا صدق كلّ عنوان على الموجود الواحد.

وأمّا على تقدير كون التغاير فيما بينها لمجرّد تغاير الإضافات - حسبما حققناه - فمناط الامتثال إنّما هو تكرّر إيجادات عنوان المأمور به على حسب تكرّر الأوامر

ص: 273


1- الجواهر 118:12.
2- الجواهر 129:2-130.

الواردة عليه، لا صدق هذا العنوان بجميع إضافاته على فرد واحد إذا اخذ بحسب تلك الإضافات، واعتبار تعدّد الحيثيّة باعتبار تصادق العناوين أو تلاحق الإضافات ممّا لا يجدي نفعا في دفع محذور اجتماع المتضادّين بعد ملاحظة أن مورد الحكم في الأوامر إنّما هو إيجاد الماهية، ولا ريب أنّه لا يتعدّد بتعدّد إضافات الموجود أو العناوين الصادقة عليه، فلو فرض ذلك الإيجاد الواحد بنفسه موردا للأمر الإيجابي والاستحبابي لزم المحذور، ولو فرض موردا لأحدهما اختصّ الامتثال به، ولو اعتبر ايجادان أحدهما مورد الإيجاب والآخر مورد الندب فهو يقضي بتعدّد الأداء لا الاكتفاء بواحد.

وتأدّي إحدى الوظيفتين بفعل الأخرى إن أريد به حصول ما هو من مقتضيات خطاب التكليف أعني الامتثال فقد اتّضح بطلانه، أو ما هو من آثار الامتثال أعني الأجر والثواب كما هو صريح الذخيرة(1) ففيه: أنّ حصول ثواب عمل من دون أدائه في الخارج على خلاف القاعدة فيقتصر فيه على مورد الدليل، وليس في المقام ما يصلح دليلا سوى الإجزاء الوارد في النصّ والفتوى المأخوذ في معقد الإجماع، والظاهر أنّه لا يراد منه إلّا الكفاية من حيث الوضع، على معنى أنّ الغسل الواحد المأتيّ به يترتّب عليه الأثر المقصود من المتعدّد، ولا ملازمة بينه وبين الكفاية من حيث التكليف وآثاره.

وإن اريد به حصول ما هو من لوازم خطاب الوضع أعني الصحّة وترتب الأثر الموجبين لسقوط التكليف عن الباقي فهو غير مختصّ بتداخل الواجب والمندوب، ومع تعدّد الإيجاد اللاحق بالماهيّة لا داعي إلى التزام تخصيص دليل الاستحباب بما عدا صورة الوجوب لتعدّد مورد الحكمين حينئذ، غاية الأمر لزوم اعتبار التداخل حسبما دلّ عليه الدليل بمعنى آخر لا يستتبع محذورا، والتنزيل الشرعي حسبما ادّعى مع تضمّنه لفاسد لا يلتزم بها على ما نشير إليها وابتنائه على تكلّف واضح لا ينبغي ارتكابه ممّا لا يشهد له دليل واضح، بل الدليل الواضح قاض بخلافه ورافع للحاجة إلى التزامه.

وتوضيحه على ما يساعد عليه التدبّر والإنصاف ومجانبة الاعتساف: إنّ الذي ينساق من أسئلة نصوص الباب وأجوبتها أنّها واردة لدفع توهّم كون الغرض المطلوب من شرع الغسل والمصلحة الداعية إلى إيجابه - وهو الطهارة اللازمة لرفع الحدث كما

ص: 274


1- الذخيرة: 9.

هو مسلّم ومتّفق عليه - قابلا للتعدّد، ومقتضاه كون كلّ من الأغسال المجتمعة مفيدا للطهارة عن حدثه الخاصّ الّذي يضاف إليه من جنابة وحيض ونحوهما خاصّة، فيجب حينئذ مراعاة فعل الجميع تحصيلا للطهارة عن جميع الأحداث الّتي هي المبيحة لما يستباح بالطهارة، لا خصوص الطهارة عن حدث خاصّ مع بقاء الآخر.

أو توهّم وجوب مراعاة جميع الأغسال لكون المجموع من حيث هو في صورة الاجتماع سببا تامّا للطهارة المقصودة من كلّ واحد وإن كانت غير قابلة للتعدّد.

أو توهّم كون الباقي بعد حصول ما يرفع الحدث بجميع أنحائه باقيا على وجوبه ولو لمجرّد التعبّد لا التوصّل إلى الطهارة الحاصلة بالأوّل، فورد الجواب بما أفاد كون غسل واحد من الأغسال المجتمعة كافيا في حصول كمال الطهارة المقصودة من شرع أصل الغسل.

ومحصّله يرجع إلى إفادة كون الغسل حيثما صادف حدثا ينوط ارتفاعه به علّة تامّه لرفعه بجميع أنحائه المجتمعة المتداخلة أو المتمايزة على تقدير كونها مختلف السنخ، وقضيّة ذلك خروج ما عداه عن الوجوب وسقوط الأمر به لبقائه حينئذ بلا موضوع، فالغسل الواحد المجزي به ليس إلّا أحد الأغسال المجتمعة كما هو الظاهر المنساق من قوله عليه السلام: «أجزأ عنها غسل واحد»(1) فإنّه ظاهر كالصريح بمقتضى متفاهم العرف في أنّ المراد من الغسل الواحد ما هو من الأغسال المجتمعة عليه لا ما دونها ممّا هو بدل عنها، مع أن التفكيك بين صورتي اجتماع الواجبين واجتماع الواجب والمندوب بجعل ذلك الغسل الواحد أحد فردي الواجب المخيّر في الأوّل ومندوبا في الثاني ممّا يؤدّي من حيث الخطاب إلى استعمال اللفظ في معنيين:

الوجوب تخييرا والاستحباب إن كان هناك خطاب تكليف افيد به الّطلب، أو صحّ حمل نحو قوله عليه السلام: «أجزأ» في نصوص الباب على خطاب التكليف، مع أنّ ذلك الغسل الّذي ليس فردا لشيء من الكليين إن لم يفد ما كان يقيده بدله من الطهارة المبيحة لمشروط بها استحال اعتبار التخيير بينهما، لما حقّق في محلّه من لزوم كون التخيير واقعا بين الأمور المتشاركة في المصلحة، وإن أفاده فإمّا يقيده بجعل تشريعي بالمعنى

ص: 275


1- الوسائل 263:2 الباب 43 من أبواب الجنابة ح 4.

المتقدّم في تفسير الملازمة الجعليّة وقد علم فساده، أو بجعل تكويني بالمعنى الراجع إلى الماء يلزم اختلاف ما بالذات كما يظهر وجهه بتأمّل قليل، وبالجملة ليس المراد بالتداخل في خصوص المقام إلّا كفاية أحد الأغسال المجتمعة كائنة ما كانت في حصول المصلحة المقصودة من الأمر بكلّ واحد، فمع حصولها بحصوله يسقط الأمر عن الباقي لئلّا يلزم من بقائه طلب الحاصل، وقضيّة ذلك كون التداخل قهريا ومن باب العزيمة، فلا رخصة في العدول عن الواحد إلى المتعدّد كما هو ظاهر ما ستقف عليه من خبر حجّاج الخشّاب من قوله عليه السلام: «تجعله غسلا واحدا»(1) بعد كلام الراوي السائل: «أتجعله غسلا واحدا إذا طهرت أو تغتسل مرّتين»؟

ولعلّه الظاهر من كلام الأصحاب، بل صرّح به بعضهم كالمحقّق الخوانساري(2)خلافا للأردبيلي(3) فيما حكي عنه من أن الظاهر إنّه رخصة. وعلى المختار لا ينبغي التأمّل في جواز الاحتياط بل رجحانه بتكرّر الغسل على حسب ما في الذمّة خروجا عن شبهة الخلاف في التداخل، واستشكل فيه الخوانساري تعليلا بحرمة العبادة الغير المتلقّاة من الشارع، وفيه: أنّ التشريع ممّا لا يجامع عنوان الاحتياط بل هو رافع لموضوعه.

تاسعها: قد استفاضت النصوص الواردة في المقام الّتي لابدّ من التعرّض لجمعها لينظر في دلالتها كمّا وكيفا.

فمنها: الحسن كالصحيح بابراهيم بن هاشم المرويّ في الكافي عن زرارة قال: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والحجامة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة، فإذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد. قال: ثمّ قال:

وكذلك المرأة يجزئها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها.

وعيدها»(4) ورواه في التهذيب(5) عن زرارة عن أحدهما لكن فيه «الجمعة» بدل «الحجامة» ورواه أيضا ابن إدريس على ما عزى إليه في آخر السرائر(6) نقلا عن كتاب محمّد بن عليّ بن محبوب وعن كتاب حريز بن عبدالله عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام

ص: 276


1- الوسائل 2642 الباب 43 من ابواب الجنابة ح 6.
2- مشارق الشموس: 62.
3- مجمع الفائدة 83:1.
4- الوسائل 261:2 الباب 43 من أبواب الجنابة ح 1.
5- التهذيب 107:1/279.
6- مستطرفات السرائر: 103/38.

وفي كلام غير واحد أنّه قال: «و كتاب حريز أصل معتمد معوّل عليه»(1). فارتفع بملاحظة طريقي التهذيب والسرائر مضافة إلى جلالة شأن الراوي الآبية للأخذ عن غير الإمام شبهة الإضمار عن سند الكافي، مع أنّ أصل هذه الشبهة مندفعة بما قيل من كون ما فيه الإضمار جزءا من حديث ذكر فيه المضمر والشبهة نشأت من التقطيع الصادر ممّن تأخّر.

ومنها: مرسل جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام أنّه قال: «إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأه عنه ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم»(2).

والمناقشة فيه من حيث إنه يقضي بالاجزاء حتّى بالنسبة إلى ما يتجدّد من الأسباب لمكان قوله عليه السلام: «يلزمه» الظاهر في التجدّد، ويلزم منه حينئذ تقديم المسبّب على سببه وهو غير معقول.

يدفعها: أنّه إنّما يلزم لو اخذ المضارع هنا بمعنى الاستقبال، وأمّا إذا اخذ بمعنى الحال كما هو الظاهر في نحوه واعتبر الحال بالمعنى المقارن لزمان النسبة في قوله عليه السلام:

«إذا اغتسل» الّذي هو ما بعد طلوع الفجر فلا، من غير فرق بين ما لو اعتبر اللزوم هنا بمعنى الوجوب أو الندب أو ما يعمّهما، ولا حاجة حينئذ في التفصّي عن الإشكال إلى أخذه قرينة على إرادة الماضي من قوله: «يلزمه» مع عدم صحّته في خصوص المقام، بل لو كان الواقع في عبارة الحديث ما هو بلفظ الماضي لوجب صرفه في نظائر المقام إلى إرادة الحال كما لا يخفى على الخبير.

وفي معنى هذه الرواية رواية عثمان بن يزيد الّتي أوردها في الحدائق(3) عن الصادق عليه السلام قال: «إن اغتسل بعد الفجر كفاه غسله إلى الليل في كل موضع يجب فيه الغسل، ومن اغتسل ليلا كفاه غسله إلى طلوع الفجر»(4) بناء على كون «يجب» مرادا به «يثبت» ليشمل المندوبات أو يختصّ بها على ما هو ظاهر السياق ومقتضى التقييد بغاية الليل أو طلوع الفجر الّذي هو وظيفة الغسل المندوب دون الواجب الّذي يستمرّ أثره إلى تجدّد سببه.

وربّما يتوهّم من المرسل الأوّل حيث اخذ فيه الجنب موضوعا في القضية مدخلية

ص: 277


1- مستطرفات السرائر 74/19.
2- الوسائل 263:2 الباب 43 من ابواب الجنابة ح 2.
3- الحدائق 202:2.
4- الوسائل 328:12 الباب 9 من ابواب الإحرام ح 4.

الجنابة في الصحّة والإجزاء، فيدلّ على تقدير مفهوم الوصف على عدم التداخل فيما لو لم يجامع الجنابة للاغسال المجتمعة، وعلى تقدير مفهوم الشرط على عدم التداخل مع انتفاء نيّة الجنابة، لظهوره منطوقا في أنّه اغتسل للجنابة فيقدّر مفهومه أنّه لم يغتسل للجناية وهو أعمّ من عدم الاغتسال رأسا والاغتسال لا للجنابة، ولعلّه لذا صار جماعة إلى إنكار الاجتزاء بالغسل الواحد لو وقع بنيّة حدث آخر غير الجنابة من حيض ونحوه مطلقأ أو عن غيره بالخصوص، مع موافقتهم الآخرين على الإجزاء مطلقا في صورة ما لو وقع بنيّة الجنابة.

ويندفع منع حجّية مفهوم الوصف وعلى فرضها فهو أضعف ظهورا من إطلاق ما في خبر زرارة من قوله عليه السلام: «أجزأها عنك غسل واحد» ومنع ظهور الشرطيّة في اعتبار نيّة الجنابة، فإنّ مفادها بمقتضى متفاهم العرف أنه إذا أوجد الغسل من له صفة الجنابة أجزأه ذلك الغسل... الخ.

وهذا كما ترى ممّا لا قيد لحيه فاعتبار كون الغسل لنيّة الجنابة تقييد لمنطوق القضيّة ولا شاهد عليه، غاية الأمر عدم ثبوت مفهوم هنا بالخصوص لقرينة مقام وهو انتفاء الموضوع بالمزة، إذ لا غسل على تقدير عدم اغتسال الجنب ليحكم عليه بالاجزاء أو عدمه، فيكون التعليق لمجرّد بيان موضوع الحكم المنطوقي على حدّ ما في قولك: «إن رزقت ولدا فاختنه، وإن اعطيت مالا فأنفقه» وما أشبه ذلك، وعلى تقدير ظهوره في نية الجنابة فهو ظهور انصرافي من حيث إنّ الغالب في اغتسال الجنب وقوعه للجنابة لا أنّه ظهور تقييدي على معني كون ما ذكر قيدا في القضيّة، اعتبره المتكلّم قصدا وأصالة، غاية الأمر أن يسقط به اعتبار الإطلاق الّذي يتمسّك به لحكم ما لو وقع اغتسال الجنب لا بنيّة الجنابة فيرجع لحكمه حينئذ إلى إطلاق خبر زرارة السليم عمّا يزاحمه.

ومنها: حسنة شهاب بن عبد ربّه قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الجنب يغسّل الميّت، أو من غسل ميّتا له أن يأتي أهله ثمّ يغتسل ؟ فقال: سواء لا بأس بذلك إذا كان جنبا غسل يده وتوضّأ وغسل الميت وهو جنب، وإن غسل ميتا ثمّ توضّأ ثمّ أتى أهله(1) ويجزئه غسل واحد لهما»(2).

ص: 278


1- وفي بعض النسخ له أن يأتي أهله».
2- الوسائل 263:2 الباب 43 من أبواب الجنابة ح 3.

ومنها: موثقة عمّار الساباطي المتقدّمة عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن المرأة يواقعها زوجها ثمّ تحيض قبل أن تغتسل ؟ قال: إن شاءت أن تغتسل فعلت وان لم تفعل فليس عليها شيء، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا الحيض والجنابة»(1).

وربّما يتوهّم منها ومن سابقتها مضافة إلى ما في خبر زرارة المتقدّم من قوله عليه السلام:

«أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة» وقوله الآخر: «يجزئها غسل واحد لجنابتها وإحرامها...» إلخ كون التداخل مقصورا على ما لو نوى بالغسل الواحد جميع الأسباب.

ويندفع بالنسبة إلى هذا الخبر والحسنة بظهور رجوع القيد إلى الإجزاء، ومع عدم تسليم هذا الظهور فظهور خلافه أيضا غير مسلّم كما هو واضح، وبالنسبة إلى الموثّقة باحتمال استقرار الظرف على أن يكون وصفا توضيحيّا للمنكر كما هو القانون المقرّر في نحوه، فيكون المراد في حاصل المعنى بيان الواقع وهو حصول هذا الغسل الواحد في متن المواقع لكلّ من الغسلين فيبقى إطلاق ما في خبر زرارة سليما، وعلى فرض لغوية الظرف ورجوعه إلى الفعل المذكور يقصر عن إفادة كون ذلك على وجه الاشتراط، ولا ريب أنّه من أفراد الإطلاق القائم في خبر زرارة وغيره من الأخبار الآتية، فيكون ما ذكر حينئذ لمجرّد إفادة أحد أفراد المطلق الّذي هو بعد على إطلاقه حيث لا مفهوم في نظائره على التحقيق المقرّر في المطالب الاصوليّة لينهض مزاحما له، وعلى تقدير ثبوته فهو أضعف ظهورا بالقياس إلى إطلاق المطلق.

ومنها: الموثّق كالصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا حاضت المرأة وهي جنب أجزأها غسل واحد»(2).

ومنها: الموثّق عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سئل عن رجل أصاب من امرأته ثمّ حاضت قبل أن تغتسل، قال: تجعله غسلا واحدا»(3).

ومنها: الموثّق عن حجّاج الخشّاب قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل وقع على امرأته فطمثت بعد ما فرغ أتجعله غسلا واحدا إذا طهرت أو تغتسل مرّتين ؟ قال:

ص: 279


1- الوسائل 2642 الباب 43 من أبواب الجنابة ح 7.
2- الوسائل 263:2 الباب 43 من أبواب الجنابة ح 4 و 5.
3- الوسائل 263:2 الباب 43 من أبواب الجنابة ح 4 و 5.

تجعله غسلا واحدا عند طهرها»(1).

ومنها: خبر عبداللّه بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن المرأة تحيض وهي جنب هل عليها غسل الجنابة ؟ قال: غسل الجنابة والحيض واحد»(2) وفيه دلالة واضحة على كفاية الغسل الواحد بنيّه الحيض أيضا، وعلى اتّحاد الغسلين بحسب الماهيّة وإن اختلفا بحسب الإضافة، فيكون محصّل مفاده: أنّ الغسل الّذي يغتسله الحائض لكونه واحدا مع الجنابة يكفيها عن غسلها لكونه علّة تامّة للطهارة المقصودة من شرعه الّتي لا تتأتّى إلّا بارتفاع مطلق الحدث.

ومنها: ما أورده الصدوق في الفقيه على وجه يظهر منه الفتوى بمضمونه حيض قال:

«وروي في خبر آخر، أنّ من جامع في أوّل شهر رمضان ثمّ نسي الغسل حتّى خرج شهر رمضان، إنّ عليه أن يغتسل ويقضي صلاته وصومه، إلّا أن يكون قد اغتسل للجمعة فإنه يقضي صلاته وصيامه إلى ذلك اليوم ولا يقضي ما بعد ذلك»(3) ويظهر الاعتماد عليه من جماعة منهم صاحب المدارك(4) وعلّلوه بما ضمنه في أوّل كتابه من أن لا يورد إلّا ما يفتي به ويحكم بصحّته ويعتقد فيه إنّه حجّة فيما بينه وبين ربّه عزّ و جلّ ، وهذا - مضافا إلى ما سبق تحقيقه أيضا - يدلّ على أنّ الغسل حيثما صادف الحدث الأكبر كائنا ما كان علّة تامّة لرفعه مطلقا، الملازم للطهارة المطلقة المبيحة لمشروط بها من صلاة وصيام والمصحّحة له، قارنه قصد الحدث أو لا.

وينبغي الشروع في تحقيق المقام،
اشارة

وقد غرفت أنّ أقسامه الأوّلية باعتبار ما اجتمع فيه من الأغسال أربع.

القسم الأوّل: ما إذا كانت باجمعها واجبة معها الجنابة،
اشارة

ويندرج فيه باعتبار صور نيّة المكلّف الطارئة لما يبرز منه في الخارج مسائل:

المسألة الاولى: ما لو نوى بغسله الجنابة خاصّة،

ففي كلام غير واحد(5) دعوي

ص: 280


1- الوسائل 264:2 الباب 43 من أبواب الجنابة ح 6.
2- الوسائل 265:2 الباب 43 من ابواب الجنابة ح 9.
3- الوسائل 238:10 الباب 30 من أبواب من يصحّ منه الصوم ح 6.
4- المدارك 236:6.
5- كما في المدارك 194:1، الذخيرة: 8، كفاية الأحكام: 7، البحار 29:81.

الشهرة على الإجزاء، وقد عرفت عن السرائر(1) وغيره(2) نقل الإجماع عليه، وعزي نقله أيضا إلى جامع المقاصد(3) وعن شرح الموجز(4) على ما سبق - أنّه نسب إلى بعض الأصحاب عدم إجزاء الجنابة عن الاستحاضة.

فانقدح بذلك أنّ المسألة فيها قولان وإن لم يكن أحدهما معروفا ولا معلوم القائل ولا واضح المستند، والوجه فيهما هو الإجراء أخذا بإطلاق ما تقدّم المعتضد بعمل الاصحاب والشهرة والإجماع المحكييّن الشامل لما نوى به الخصوصيّة.

وقد يتوهّم انحصار دليل المسألة في الإجماعين المنقولين في السرائر وجامع المقاصد تعليلا بأنّ دعوى الشمول - مع أنها غير مطّردة لكونه في الحيض ونحوه بل وفي غيرهما من الأغسال المندوبة معركة للآراء - ممنوعة على مدّعيها التفاتا إلى ظهور قوله عليه السلام: «أجزأك عنها» وقوله: «يجزئه لهما غسل واحد» في قصد الفعل للجميع، مع تأييده بقوله صلى الله عليه و آله وسلم: «لكلّ امرئ ما نوى»(5) «ولا عمل إلّا بنيّة»(6) «وإنّما الأعمال بالنيات»(7) وقد تقرّر أن الأصل يقضي بتعدّد المسبّبات عند تعدّد الأسباب ومقتضاه لزوم مراعاة التعيين في النيّة لاشتراك الفعل بين امور متعدّدة.

وما يقال: من أنّ نيّة السبب لست بواجبة، فإنّما هو فيما إذا اتّحد السبب لا مطلقا، وأقصى ما دلّت عليه الأخبار المخرجة عن هذا الأصل إنّما هو الرخصة في الاجتزاء عن هذه الأغسال المتعدّدة بغسل واحد، فالغسل الواحد حينئذ يقع على وجهين مجتزئا به عن الجميع ورافعا للبعض، فلابدّ للمكلّف من التعيين في إيقاعه على أحد الوجهين، فمتى أوقعه لا بقصد لم يقع لأحدهما، ولو أوقعه لأحدهما لم يقع عن الباقي، مع أنّ المتيقّن في الخروج عن الأصل المذكور إنّما هو مع قصد الجميع، فالأجود حينئذ الاستدلال على الإجزاء في خصوص الجنابة بالإجماعين المنقولين في السرائر وجمامع

ص: 281


1- السرائر 123:1.
2- كما في مجمع الفائدة 79:1.
3- جامع المقاصد 87:1.
4- كشف الالتباس: 181.
5- صحيح مسلم 1515:3/1907، الوسائل 48:1 الباب 5 أبواب مقدّمة العبادات ح 7.
6- الوسائل 47:1 الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ح 4.
7- صحيح مسلم 1515:3/1907.

المقاصد. وما يشعر به مرسل جميل المتضمّن لقوله عليه السلام: «إذا اغتسل الجنب» الخ.

وقد تبيّن منّا في تحقيق الأمور المتقدّمة ما يهدم بنيان هذا البيان بجميع شؤونه، فالتعدّد الملحوظ بالنسبة إلى الأغسال تعدّد في إضافاتها بالقياس إلى الأسباب وإيجاداتها، فليس فيها اشتراك يقضي بمراعاة قصد التعيين، فلا يترتّب على توارد الأسباب إلّا تكرّر الأمر بالغسل المقتضي لتكرّر الامتثال، فهذا هو الأصل فيها على ما بيّنّاه مرارا، غير أنّه قام الدليل المخرج عنه فدلّ على كفاية الواحد هنا عن المتعدّد، وإطلاقه يقضي بعدم الفرق بين صور النيّة ما لم ينهض من الأدلّة ما يقضي باعتبار قصد التعيين في نحو مفروض المسألة، وليس فيها ما يصلح لذلك إلّا عمومات النية وهي قاصرة عن إفادته حسبما نقرّره، ومرسلة جميل الموهمة له وقد عرفت قصورها عن إفادة ذلك بعنوان الاشتراط، وكون الغسل مع قصد الجميع هو القدر المتيقن ممّا خرج عن الأصل بالدليل لا ينافي كون ما عداه أيضا مظنون الخروج قضية لإطلاق ذلك الدليل.

ودعوى عدم شموله لما حصل لا بقصد الجميع، يدفعها: أنّ عدم الشمول إن كان لتوهّم ظهور خارجي صارف عن هذا المطلق كما هو قضيّة بعض الكلمات المذكورة، ففيه: منع وجود نحو هذا الظهور، وظهور ما ادعى ظهوره في محلّ منع كما عرفته بما لا مزيد عليه. وإن كان لتوهّم قصور في هذا المطلق، ففيه: منع وجود الجهة المقتضية لذلك من الورود مورد الغالب أو مورد حكم آخر غير المتنازع في خصوص المقام كما يظهر بالتامّل.

لا يقال: يجوز وروده هنا مورد حكم آخر وهو مجرّد إفادة الاجتزاء بغسل واحد عن المتعدّد من دون نظر إلى تفصيل هذه القضيّة من تعميم أو تخصيص، لوضوح فساده.

أمّا أوّلا: فلكون المقام مقام بيان لا إجمال، سيّما مع ملاحظة ما حقّقناه من كون التداخل هنا عزيمة، وحينئذ فلولا اعتبار الإطلاق في لحاظ الاستعمال المسبوق بلحاظ جعل الحكم لزم الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه في مقام البيان المنافي للحكمة.

وأمّا ثانيا: فلما قرّرناه في الأمر الثامن من أنّ المراد بالغسل الواحد المحكوم عليه بالإجزاء في خبر زرارة وغيره من مطلقات الأخبار إنما هو أحد الأغسال المجتمعة

ص: 282

بمقتضى اجتماع اسبابها لا ما دونها على أنّه أحد أفراد الماهيّة التي كان الأوامر المسبّبة عن الأسباب بينها على التكرار، فيعتبر فيه كلّ ما اعتبر شرعا في ماهيّة الغسل من قصد القربة والوجه وتعيين السبب ورفع الحدث والاستباحة، وحيث لا دليل على اعتبار ما عدا القربة مع ماهيّة الغسل فكذلك في كلّ واحد من أفراده المجتمعة على المكلّف المحكوم على واحد منها بالإجزاء، والمفروض أنّه في خطاب هذا الحكم أيضا مأخوذ مطلقا بوصف الوحدة المطلقة المقتضية للتخيبر، فلا قاضي باعتبار قصد السبب أو عنوان الحكم لا معيّنا ولا غير معيّن على جهة الاشتراط فضلا عن اعتبار قصد الجميع.

وبالجملة إطلاق هذا الغسل الوارد في خطاب الإجراء وتقييده أو إجماله وبيانه يتبع ما في أصل الغسل الّذي تكرّر فيه الأوامر من اطلاق أو تقييد أو إجمال أو بيان لأنه في الحقيقة فرد منه فيجب انطباقه عليه، وحيث إنه لم يقيّد بقصد السبب وتعيينه ولا غيره ممّا ذكر بدليل يعتدّ به - على ما سنحقق بعض ذلك في محلّه - فلم يقيّد به أيضا فرده المخيّر فيه المحكوم عليه بالإجزاء.

وربّما نقل الاستدلال على الإجزاء في خصوص المسألة بوجوه ضعيفة يعلم وجه ضعفها بمراجعة ما سبق في الأمور المتقدّمة، مثل صدق الامتثال، وأنّ الحديث الأكبر شيء واحد لا يتعدّد بتعدّد أسبابه فلا يقدح نيّة الخصوصيّة كما لا يقدح في الوضوء، وأنّ غسل الجنابة أقوى من غيره لارتفاع الأكبر والأصغر به فمح نيته وارتفاعه يرتفع غيره أيضا لأنّه أضعف.

وقد ينقل الاستدلال عليه أيضا بما دلّ على أنّ غسل الجنابة لا وضوء معه، بتقريب: أنّه لا معنى للقول بأن هذا الغسل لا يجزئ عن الجنابة لأنّه حدث مخاطب برفعه وهو يقتضي إمكانه، وهو بملاحظة ما دلّ على أنّ غسل الجنابة متى تحقّق لا وضوء معه يقتضي رفع الحدث الأصغر الّذي لا يمكن مع بقاء الأكبر لدخوله في ضمنه، فلابدّ من القول بارتفاعه تحقيقا لدليله.

وهذا كما ترى أوضح ضعفا من سوابقه كما يعلم وجهه بتذكر ما أسلفناه في ذيل الأمر الخامس استنادا إلى خبر عمّار المتقدّم، وملخّصه: أنّ ما يوجبه الجنابة من

ص: 283

الحدث الأكبر حدث ممتاز عمّا يوجبه الحيض المجامع لها، وهذا أكبر لا أصغر في ضمنه يكون ممتازا عنه متوقّفا رفعه على الوضوء، وهو الوجه في الدلالة على أن لا وضوء معه، فغسلها حينئذ إنّما يرفع ما يستند إليها من الحدث كما هو قضيّة خبر عمّار فارتفاع حدثها ولو كان أكبر به لا ينافي بقاء الأكبر الغير المستند إليها لمكان الامتياز بينهما حسبما بيّنّاه.

المسألة الثانية: ما لو نوى بغسله غير الجنابة كالحيض مثلا،

ففي إجزائه عن نفسه وحده أو عنه وعن غيره وعدمه فيهما أقوال:

أحدها: ما عزي إلى ظاهر السرائر(1) وكشف اللثام(2) من أنّه لا يجزئ عن نفسه وعن غيره، فيقع لغوا حتّى أنّه لا يرتفع به ما خصّه.

وثانيها: أنّه يجزئ مطلقا حتّى عن غيره، ذهب إليه في المدارك والذخيرة(3)وعزي إلى الروض والكفاية والمفاتيح(4) وفي الشرائع: «القول بعدم الإجزاء ليس بشيء»(5)وفي حاشيته للمحقّق الثاني: «الأصحّ عدم الفرق بين نيّة غسل الجنابة وغيره، فيصحّ الغسل ويرتفع الحدث كلّه وتباح الصلاة من غير توقّف على وضوء»(6).

وعن ذكرى الشهيد: «أنّ الفرق بين غسل الجنابة وغيره في الاكتفاء تحكم»(7)وفي المعتبر(8) جعل الإجزاء وعدم وجوب الوضوء معه أشبه، وعن مجمع الفوائد فرّبه كما عن غير واحد أيضا.

وثالثها: أنه لا يجزئ عن غيره مطلقا، كما عن السرائر والشرائع واللمعة(9)ومحتمل عبارتي المبسوط والجامع(10) وعن ظاهر السرائر دعوى الإجماع عليه(11).

ورابعها: أنّه لا يجزئ عن غسل الجنابة كما عن التحرير والوسيلة ونهاية العلّامة(12) وظاهر الحكاية عدم الفرق بين الوضوء وعدمه، لكن عن النهاية في موضع

ص: 284


1- السرائر 123:1.
2- كشف اللثام 164:1.
3- المدارك 194:1، الذخيرة: 8.
4- روض الجنان 64:1، الكفاية: 40، المفاتيح 55:1.
5- الشرائع 20:1.
6- حاشية الشرائع 46:1.
7- الذكرى 108:2.
8- المعتبر 361:1.
9- السرائر 129:1، الشرائع 20:1، اللمعة: 5.
10- المبسوط 40:1، الجامع للشرايع: 34.
11- السرائر 129:1.
12- التحرير 13! 1، الوسيلة: 56، نهاية الإحكام 112:1.

آخر كما عن التذكرة أنّه لا يجزئ مع عدم الوضوء(1).

وخامسها: ما عن البيان من أنّ غسل الحيض لا يغني عن غسل الاستحاضة المتميزة(2) وعن العلّامة في التحرير والمنتهى التوقّف(3).

والأقوي هو الإجزاء مطلقا حسبما ادّعاه المحقّق الشيخ عليّ كما عرفته، عملا بإطلاق خبر زرارة حسبما شرحناه، خصوصا قوله عليه السلام: «وكذلك المرأة يجزئها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها» فإنّ القول بعدم الإجزاء مطلقا أو عن الجنابة خاصّة ممّا لا محصّل له إلّا أن يحمل قوله: «غسل واحد» على إرادة غسل واحد وقع بنيّة الجنابة أو بنيّة الجميع أو لا بنية الحيض، وكلّ ذلك كما ترى تقييد يأباه الإطلاق والأصل وكذلك إطلاق سائر مطلقات الأخبار.

ويؤيدهما ظهور خبر عبداللّه بن سنان في كون الغسل المحكوم بكونه واحدا مع غسل الجنابة هو غسل الحيض، فإن ظاهر سياق السؤال يقضي بأنّ وجوب غسل الحيض على الحائض الجنب كان أمرا مفروغا عنه في نظر السائل مركوزا في ذهنه، وإنّما حصل شبهة في أنّه هل يجب عليها مع إيقاع غسل الحيض إيقاع غسل الجنابة أيضا أو لا، بل يكفيها ما توقعه من غسل الحيض ولا يجب عليها بعده إيقاع غسل آخر للجنابة ؟ فأجاب الإمام عليه السلام بما دلّه على الشق الثاني من طرفي الترديد، ضرورة أنّ معنى كون الغسلين واحدا أنّ الحائض عند اجتماع الحدثين ليس عليها إلّا إيقاع غسل واحد وقد فرضه السائل إيقاع غسل الحيض فليتدبّر، وليس في الأدلّة ما يقضي بالخروج عن الإطلاق المذكور عدا ما توهّم من ظهور جملة ممّا تقدّم في اعتبار نيّة الجنابة أو القصد إلى الجميع وقد دفعناه بما لا مزيد عليه.

وتوهّم القصور فيه كما سبق إلى بعضهم قصور في متفاهم العرف أو مكابرة لا يلتفت إليها، وبذلك يسقط ما احتمل كونه مستندا للقول بعدم الإجزاء مطلقا من الأخبار الآمرة بجعله غسلا واحدا القاصية بعدم جواز التعدّد، وقضية ذلك في الصورة المفروضة إمّا البطلان فيهما أو رفع الجميع، ولا سبيل إلى الثاني لعدم ظهور دخول هذا

ص: 285


1- نهاية الإحكام: 112، التذكرة 147:2.
2- البيان: 5.
3- التحرير 13:1، المنتهى 245:2.

الفرد المقتصر فيه على نيّة الحيض خاصّة في مدلولها، فتعيّن البطلان.

وأمّا ما قيل في وجهه أيضا: من عدم ارتفاع حدث الحيض مع بقاء الجنابة لعدم نيّتها، ففاسد الوضع أمّا أوّلا: فلأنّ حدث الحيض لاقتضائه الغسل والوضوء معا على القول به أقوي، فارتفاعه يقضي بارتفاعها بطريق أولى لكونها أضعف.

وأمّا ثانيا: فلأنّ قضيّة إطلاق ما تقدّم كما تقدّم كون الغسل بأيّ وجه اتّفق علّة تامّة للطهارة المبيحة المتوقّف حصولها على ارتفاع كلّ حدث.

وأمّا القول بعدم الإجزاء عن غير المنويّ فليس له إلّا توهّم قصور اخبار الباب عن الدلالة على الإجزاء هنا، وما عرفته عن العلّامة في المنتهى من أنّه لا يلزم من نيّة الفعل الضعيف حصول القويّ . والأوّل قد عرفت ضعفه، والثاني مع ابتنائه على ما أبطلناه من تغاير الأغسال بحسب الماهيّة واختلافها بحسب الضعف والقوّة، يدفعه: أنّ مبنى التداخل ليس على حصول الغسلين معا بغسل واحد، كيف وهو مبنيّ على كون معنى التداخل صدق الامتثال بالقياس إلى الجميع وقد تبين فساده، بل على سقوط الجميع بفعل البعض المحصّل للمصلحة المقصودة من كلّ واحد.

ويمكن التمسّك له أيضا بما تقدّم من الإجماعات على إجزاء الغسل بنيّة الجنابة عن غيره، فإنّها تنهض بيانا لحقيقة المراد من الأخبار المطلقة وتوجب تقييدها بما لو وقع الغسل الواحد المحكوم عليه بالإجزاء مقرونا بنيّة الجنابة.

لكن يدفعه: أن الإجماع على فرض انعقاده أو العلم بانعقاده إنما انعقد على القضيّة الإيجابيّة وهي إجزاء الغسل الواحد لو حصل بهذا العنوان، وأمّا القضيّة السلبيّة الّتي هي مضمون القول بعدم إجزاء غيره عنه فلا إجماع عليه، كما يرشد إليه مصير جماعة من أساطين الطائفة إلى الإجزاء مطلقا كما عرفت.

وقد يستدلّ على القول المختار بما لا كرامة فيه ولا وقع له، وهو أنّه لو لم يكتف بغسل الحيض عن الجنابة عند اجتماعهما لم يكن لوجوبه فائدة أصلا وكان وجوده بمنزلة عدمه، لأنّ وجوب الغسلين إمّا بمعنى جمعهما معا أو التخيير بينهما على أن يجزئ كلّ منهما عن الآخر، أو المعتبر إجزاء أحدهما خاصّة دون العكس، والأوّل معلوم البطلان، والثاني هو المطلوب والفرض بطلانه فتعيّن الثالث، وحينئذ فلا يكون

ص: 286

لوجوب ذلك الآخر فائدة لأنّه لو أتى به لم يكن مجزئا ولو أتى بغيره أجزأ عنه، فإنّه إنما ينهض دفعا لمقالة من ينكر الاجتزاء به رأسا، وأمّا على مقالة من خصّ الاجتزاء به بالمنويّ وحده فلا ينهض لدفعه، ضرورة أنّ حصول هذا النحو من الإجزاء يكفي في فائدة الوجوب.

لا يقال: هذه الفائدة تترتّب على ما وقع بنيّة الجنابة فوجب الاقتصار على إيجاب غسلها، لكون اجتماع إيجاب غسل الحيض معه بلا فائدة.

لأنّ هذا الوجوب ليس من لوازم الاجتماع على معنى كونه واردا بخطاب معلّق على صورة الاجتماع ليطلب له فائدة زائدة على ما يترتّب على ما يقع بنيّة الجنابة، بل هو وجوب مستفاد من الخطاب الوارد على الغسل معلّقا على نوع حدث الحيض الّذي لا يفترق الحال فيه بين طروّه على الانفراد أو على الاجتماع مع حدث آخر غيره عملا بعموم السببيّة، فلا يطلب لوجوبه مع الاجتماع فائدة أخرى زائدة على ما يطلب له مع الانفراد كما هو واضح.

وقد يعلّل الإجزاء على المختار بناء على اعتبار الوضوء مع هذا الغسل الواقع بنية الحيض ونحوه ممّا عدا الجنابة بكون غسل الحيض مع الوضوء مساويا لغسل الجنابة في إفادة استباحة ما يمنع عنه الحدث، فيكون مجزئا عنه لوقوعه رافعا لحدث الجنابة حينئذ كما عرفته عن تذكرة العلّامة، ومثله ما في المحكيّ عنه في النهاية. وهذا كما ترى مبنيّ على مقدّمتين فاسدتين تبيّن فسادهما.

إحداهما: تغاير الأغسال ذاتا واختلاقها وصفا، وثانيتهما: اتّحاد الاحداث سنخا ووصفا تغايرت شخصا أو لا.

ثمّ إنّك قد عرفت بملاحظة الكلمات السابقة أنّ لهم نزاعا في اعتبار الوضوء مع هذا الغسل المجزي عن غسل الجنابة أيضا وعدمه، فإنّ منهم من جزم بالعدم ومنهم من قرّبه ومنهم من قرّب الاعتبار، ولكن التكلّم في ذلك بعد ما نبّهنا عليه من أنّ المراد بالغسل الواحد المجزي به عن الحقوق المجتمعة بمقتضى الانفهام العرفي إنّما هو واحد من تلك الأغسال لا ما يغايرها ممّا اقيم مقامها شرعا ليس له كثير تعلّق بالمقام، لأنّ ثبوت الوضوء هنا حينئذ يتبع تماميّة دليل اعتباره مع نوع غسل الحيض ونحوه ممّا عدا

ص: 287

الجنابة، وقد ذكرنا سابقا أنّ مقتضي قاعدتنا حسبما استفدناها عن خبر زرارة وغيره أن يعتبر مع الغسل المجزي كلّ ما اعتبر شرعا مع الغسل المجزي، فلو ثبت اعتبار الوضوء مع ما عدا غسل الجنابة نوعا بالدليل لزم منه اعتباره هنا لو وقع الغسل بنيّة غير الجنابة بعين ذلك الدليل على وجه لا معارضة بينه وبين الخبر المذكور كما لايخفى.

ولتحقيق نهوض هذا الدليل وتماميّته محل آخر يأتي إن شاء اللّه، لكن يمكن أن يؤخذ أخبار الباب ولا سيّما الخبر المذكور دليلا محكما على القول بعدم اعتباره رأسا كما عليه السيّد ومن تبعه من المتأخّرين، بناء على ما قرّرناه من أنّ الأغسال لا تتغاير إلّا باعتبار إضافاتها ولا يتعدّد إلّا إيجاداتها، فإنّ الغسل المنويّ به الجنابة مع كونه متّحد السنخ مع غسل الحيض ونحوه ذاتا ووصفا إذا كان كافيا في رفع حدثها وحدثه من دون حاجة إلى انضمام الوضوء إليه كما هو المتّفق عليه في تلك الصورة المفروضة، فكيف يعقل أن لا يكون المنويّ به الحيض كافيا في رفعه مع الانفراد إلّا بانضمام الوضوء إليه، وإذا انتفى عنه الوضوء مع الانفراد ينتفي عنه مع الاجتماع أيضا لكون حكم حالة الاجتماع بعينه هو حكم حالة الانفراد.

وممّا يؤيد ذلك أو يدلّ عليه أنّ وضع الغسل ليس لرفع الحدث الأصغر، كما أنّ وضع الوضوء ليس لرفع الحدث الأكبر، والوضوء مع غير غسل الجنابة عند معتبريه إنّما يعتبر لرفع الأصغر الّذي يوجبه الحيض ونحوه، وقضية ذلك أن يعتبر الوضوء مع غسل الجنابة أيضا في بعض أحواله، كما لو كانت الجنابة مسبوقة بطروّ سبب الحدث الأصغر لأنّه حدث أصغر لابدّ من رفعه والغسل غير صالح له واللازم بضرورة من النصّ والفتوي باطل، ويكشف ذلك عن كون الغسل بنفسه حيثما صادف الأكبر سببا تامّا لرفع الحدث بجميع أنحائه، ويلزم منه كون الغسل المصادف لحدث الحيض أيضا كذلك، وإن قلنا بأنّ الحيض يوجب حدثين أكبر وأصغر والفرق بين الغسلين بالقوّة والضعف قد اتّضح فساده، كما أنّ الفرق في الأصغر بين ما يستند إلى ما هو من أسباب الحدث الأصغر محضا وما يستند إلى ما هو من أسباب الحدث الأكبر فالأوّل يكفي في رفعه الغسل الرافع للأكبر دون الثاني تحكم.

المسألة الثالثة: ما لو نوى بغسله جميع الأسباب على التفصيل،

وهذا ممّا لا ينبغي

ص: 288

التكلّم في صحّته والاجتزاء به لأنه أظهر الافراد ممّا خرج عن الأصل بالنصوص المعتبرة، ومن هنا ذكر كاشف اللثام: «أنّ الصحّة فيه أولى منهما في نيّة الجنابة وحدها»(1) ولذا لم يعرف فيه خلاف بالخصوص، وربّما ادّعي فيه الشهرة، بل عن شارح الدروس(2) أنّ الظاهر إنه موضع وفاق، وربّما ادّعي اندراجه فيما تقدّم من الإجماعات المنقولة على الاجتزاء في مسألة نيّة الجنابة وحدها لاشتمال نيّة الجميع على نيّتها، فما عرفته عن بعضهم من إنكار التداخل رأسا استنادا إلى الأصل مع وجود النصوص المخرجة عنه ليس بسديد جدّا، حيث لا عذر في رفع اليد عنها بالمرّة.

وأمّا ما يستدلّ به على الاجتزاء أيضا من أنّ الحدث الأكبر أمر واحد بسيط وتعدّد أسبابه لا يقضي بتعدّده، فحاله كحال الحدث الأصغر إلى آخر ما تقدّم ذكره، ففي غاية الضعف والسقوط، لبطلان القياس واتّضاح فساد دعوى الوحدة في الحدث الأكبر.

وربّما يستدلّ عليه هنا أيضا بقوله صلى الله عليه و آله وسلم: «لكل امرئ ما نوى»(3) وهذا على ما يساعد عليه النظر ليس بسديد، فإنّه إنّما يستقيم لو اخذ الموصول كناية عن وجه العمل وعنوانه الأوّلي الصادق عليه وعلى غيره على ما هو المعنى المصطلح عليه في الوجه عند المتكلّمين، فحاصل المعنى حينئذ: أنّ كلّ وجه نواه المكلّف بعمله يكتب له ذلك الوجه، فيستحقّ على الله تعالى أجر ذلك الوجه وثوابه المقرّر وإن لم يكن هو بنفسه منويّا على الاستقلال، فيما لو أعطى أباه الفقير الّذي له عليه دين يستحقّ أجر الصدقة لو نواها منفردة، أو الإنفاق للأب لو نواه كذلك، أو أداء الدين لو نواه كذلك، وأجر الجميع لو نوى الجميع، وهذا المعنى وإن كان له نحو تعلّق بالمقام إلّا أنّ تتميم الاستدلال بناء على هذا الاحتمال مبنيّ على أخذ الموصول للعموم على وجه يتناول كلّا ممّا نوى على الانفراد وما نوى على الانضمام كلما هو مفروض المقام، وهذا محلّ كلام، بناء على ما قرّرناه في محلّه من عدم العموم للموصول بنفسه وباعتبار وضعه عرفا ولغة، وعليه فالرواية بالقياس إلى حالتي الانفراد والانضمام لا تفيد إلّا قضيّة مهملة، ولا يمكن إحراز العموم هنا بالنظر إلى الإطلاق لوروده في بيان حكم آخر وهو

ص: 289


1- كشف اللثام 198:1.
2- مشارق الشموس 61:1.
3- عوالي اللآلئ 380:1.

بيان أنّ مثوبات الاعمال أو ما يعمّها والآثار الوضعيّة في ترتبها عليها تدور على نيّات وجوهها وعناوينها الصادقة عليها وإن لم تكن هي بأنفسها منويّة، من دون نظر في ذلك إلى تعميم الحكم بالنسبة إلى جميع فروض المسألة وتخصيصه ببعضها. هذا مع أنّ الرواية تحتمل وجوها أخر لا تعلّق لها بالمقام ككون الموصول كناية عن وجه العمل بالمعنى المتداول في لسان الفقهاء أعني الوجوب والندب، فيكون المعنى: أنّه يحسب له ما نواه من واجب ومندوب ويستحق أجره، أو عن دواعي العمل من خلوص أو رياء فيكون المعنى: أنّ العمل لا يقع للّه تعالى إلّا بالخلوص.

أو عن ثمرات وغاياته المعدّة له اخرويّة أو دنيويّة ولو بحكم العادة، ويشهد له ما في ذيل الرواية على ما في الوسائل فإنّ في سندها قال: حدّثني عليّ بن جعفر بن محمّد وعليّ بن موسى بن جعفر هذا عن أخيه وهذا عن أبيه موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في حديث قال: «إنّما الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند اللّه فقد وقع أجره على الله عزّ و جلّ ، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلّا ما نوى»(1).

أو عن المثوبات الاخرويّة من المعدّة وغيرها فيكون المعنى: أنّه إنما يستحق بعمله ما نواه من أجر الآخرة والجنّة وقصورها وسائر ما فيها، ولكن الحمل عليه يتوقّف بناء على العموم على اعتبار ضرب من التخصيص الّذي لا يبعد كونه من تخصيص الأكثر، بل هو كذلك كما يرشد إليه التدبّر فيكون هذا الاحتمال مرجوحا من هذه الجهة قبالا لسائر الاحتمالات وإن تضمّن بعضها أو كلّها ضربا من الإضمار كما لا يخفى، فالرواية على ما ذكر خارجة مخرج المجملات الساقط عن درجة الاستدلالات إن لم نقل بظهورها في غير ما له تعلّق بمحلّ البحث في الجملة كما عرفت، وإن كان ذلك إنما أتى بملاحظة ما عرفته من ذيل ما في الوسائل، نعم هي على ما أورده في التهذيب مجرّدة عن هذا الذيل لأنّه قال: «وروي أنّه قال: إنما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى»(2) ويحتمل قويّا اتحاد الرواية من أصلها سندا ومتنا

ص: 290


1- الوسائل 48:1 الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ح 1.
2- التهذيب 83:1/218.

وإنما حصل الاختلاف بالزيادة والنقيصة بنحو من التصرّف من تقطيع ونحوه.

المسألة الرابعة: ما لو نوى يغسله رفع الحدث بعنوانه المطلق من دون تعيين،

ففي المدارك والذخيرة(1) كما عن الكفاية والمعتبر والتحرير والنهاية أنّه يجزئ عن الكلّ (2)وربّما عزي إلى المشهور، وقد يحكى نقل التردّد عن النهاية غير أنّ عبارته المحكيّة تأباه، فإنّه على ما حكي قال: «إن اجتمعت أغسال واجبة فإن اتّفقت حكما كفى نيّة واحدة لرفع الحدث، وإن اختلفت فإن نوى رفع الحدث وأطلق أجزأ عين الكلّ أيضا»(3) وهذا كما ترى صريح في القول المشهور فلم يعهد منهم هنا قول آخر مقابل له، وهذا هو الوجه في المسألة عملا بإطلاق ما تقدّم بتقريب ما ذكر من أنّ المراد بالغسل الواحد المحكوم عليه بالإجزاء هو أحد الأغسال المجتمعة، ولا ريب في صحّة إيقاعه كائنا ما كان بنيّة رفع الحدث مطلقا.

فما اعترض عليه: من أنّ نيّة التعيين لا إشكال في اشتراطها ومع عدم التعيين فكيف يقع صحيحا، فممّا لا ينبغي الالتفات إليه، فإنّ نية التعيين على ما بيّنّاه إنّما تعتبر في صورة الاختلاف بحسب الوجه والعنوان لا في صورة تكرّر الأوامر بعنوان واحد و إن كان كل أمر قد تعلّق بإيجاد من إيجاداته، وليس في المقام ما يصلح دليلا على اشتراط نيّة تعيين السبب إلّا عمومات النيّة من نحو: «لا عمل إلّا بنيّة»(4) «وإنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى»(5) وليس في شيء منها ما يقضي بذلك، ويعلم وجهه بملاحظة ما سبق في المسألة السابقة.

وأمّا ما عساه يقال عليه - من أنّه لو أجزأ لكان ذلك إمّا لانصرافه إلى غسل الجنابة وهو باطل لاشتراك نيّة رفع الحدث معه ومع غيره، ولا ريب أن ما به الاشراك ممّا لا دلالة له على ما به الامتياز، وإمّا لاقتضاء نيّة رفع الحدث المطلق برفع جميع الأحداث وهو باطل، وإلّا لأجزأ غسل الحيض المنويّ به رفع الحدث عن غسل

ص: 291


1- المدارك 194:1، الذخيرة: 8 -
2- الكفاية: 40، المعتبر 361:1، التحرير 13:1، نهاية الإحكام 112:1.
3- نهاية الإحكام 112:1.
4- عوالي اللآلئ 11:2.
5- الوسائل 13:10 الباب 2 من أبواب وجوب الصوم ح 12.

الجنابة، والحاصل لو أثّر ذلك مع الإطلاق لأثّر مع التقييد كما في البول والغائط وغيرهما من أسباب الحدث الأصغر - فواضح الضعف بملاحظة جميع ما سبق، فإن غسل الجنابة على ما سبق في المسألة الأولى والثانية ليس عنوانا ينوط به مسألة الإجزاء، وليس حدث الجنابة ولا سببها ممّا اخذ موضوعا في قضيّة الإجزاء، فلا حاجة حينئذ في اعتبار الصحّة والإجزاء إلى أن يلتزم بالانصراف المذكور، فحينئذ نقول: إنّ الغسل في الشريعة عنوان إذا صادف الحدث الأكبر بآدابه المقرّرة في الشريعة وجامع سائر الشروط وفقد سائر الموانع أوجب رفع كلّ حدث نوى رفعه على الإطلاق أو على التعيين أو لم ينوه أصلا. فدعوى أنّه لو اقتضى رفع جميع الأحداث مع الإطلاق لاقتضاه مع التقييد واضح البطلان لبطلان منع التالي.

المسألة الخامسة: ما لو نوى بغسله الاستباحة لمشروط بالطهارة من صلاة ونحوها،

فينوي: «أغتسل على أنّي مأمور بإيقاعه لاستباحة الصلاة مثلا» فالوجه فيه هو الإجزاء بملاحظة ما سبق، وفاقا لصريح المدارك(1) وغيره وظاهر الشرائع(2)ونحوه، وعن قواعد العلّامة الاستشكال فيه(3) وهو غير واضح الوجه إلّا [مع] البناء على اعتبار نيّة السبب أو اشتراط تعيين الحدث في النيّة أو إناطة الإجزاء بنيّة الجنابة خاصّة، والكلّ قد اتّضح منعه.

المسألة السادسة: ما لو نوى به القربة المطلقة من غير تعرّض للرفع والاستباحة،

نصّ على الاجتزاء به في الشرائع والمدارك والحدائق(4) واستظهره في الذخيرة(5) كما عن شارح الدروس(6) أيضا ويظهر اختياره من المحقّق الشيخ عليّ في حاشية الشرائح(7) وحجّتهم - على ما نقل - إطلاق الأدلّة مع أصالة البراءة من وجوب تعيين السبب، وكونها آثارا متعدّدة لا يوجب التعيين بعد ما دلّ الدليل على الاكتفاء بغسل واحد لها، وهذا كما ترى في غاية المتانة.

لكن قد يعترض عليه: «بأنّ الأصل يقضي بالتعدّد فلا يخرج عنه إلّا بالدليل الّذي

ص: 292


1- المدارك 194:1.
2- الشرائع 20:1.
3- القواعد 179:1.
4- الشرائع 20:1، المدارك 194:1، الحدائق 198:2.
5- الذخيرة: 8.
6- مشارق الشموس: 65.
7- حاشية الشرائع 46:1.

هو هنا أخبار التداخل فيجب الاقتصار على مفادها، وأقصى ما يستفاد منها إنما هو الاجتزاء بغسل واحد، وهو لا يفضي يكون المطلوب واحدا لا تعدّد فيه أصلا، بل هو اجتزاء عن ذلك المتعدّد بواحد، ويظهر الثمرة فيما لو عصى فإنّه يعاقب عليهما» انتهى(1) وهذا كما ترى لا تعلّق له بالحجّة المذكورة لعدم كون مبناها على ما دفعه المعترض، بل هي مبنيّة على الأصل الّذي ادّعاه، وكأنّ الغفلة نشأت عن ذكر أصالة البراءة في عبارة الحجّة بتخيّل أنّه هو الأصل الّذي يتمسّك به أهل القول بأصالة التداخل في عامّة الأسباب لنفي وجوب ما زاد على واحد.

ويدفعه: أنّ التمسّك به على ما هو صريح العبارة إنّما هو لنفي وجوب تعيين السبب في هذا الغسل الواحد المجزي به عن المتعدّد لا نفي تعدّد التكليف الّذي تقتضيه تعدّد أسبابه، وهذا ممّا لا سترة عليه، فالحجّة في محلّها ولا محيص عن موجبها.

القسم الثاني: ما إذا كانت بأجمعها واجبة لا جنابة معها،

القسم الثاني(2): ما إذا كانت بأجمعها واجبة لا جنابة معها،

والصور السابقة باعتبار النيّة كلّها آتية هنا، فمع نيّة الجميع نسب الإجزاء في مفتاح الكرامة إلى الشرائع والمعتبر(3) وظاهر التذكرة والتحرير(4) ومع نيّة أحدها نسبه فيه إلى بعض متأخري المتأخرين(5) وظاهر المعتبر(6) ثمّ قال: «ولعلّه محمول على ما إذا كان مرتبطا كمال الارتباط بالمنويّ كالحيض والنفاس، مع أنّ الأحوط في ظاهرهم خلافه، نعم لو نوى المطلق من رفع الحدث فالّذي يفهم من عبارات الأصحاب الإجزاء» انتهى(7).

وفي الجواهر بعد ما جزم بالإجزاء عن الجميع مع نيّته أو نية الحدث مطلقا أو الاستباحة وخصّه بالمنويّ لو نوى أحدها قال: «ومقتضى إطلاق النصّ والفتوى عدم الفرق بين غسل الاستحاضة وغيرها في جميع مامرّ، من غير فرق بين غسلها للانقطاع والبر، إن اوجبناه وبين غسلها لاستباحة الصلاة، واحتمال الفرق في الثاني لو جامع الجنابة مثلا لمكان بقاء الحدث فهو مبيح لا رافع بخلاف غسل الجنابة ضعيف، لإمكان نيّة الاستباحة الجامعة لها، مع أنّه لا مانع من نيته رافعا مبيحا، وأيضا فالإباحة رفع في

ص: 293


1- الجواهر 2:120.
2- تقدّم: القسم الأوّل في ص 280.
3- الشرائع 20:1، المعتبر 361:1.
4- التذكرة 147:2، التحرير 13:1.
5- المدارك 194:1.
6- المعتبر 361:1.
7- مفتاح الكرامة 110:1.

الحقيقة عند التأمّل وإن لم يكن عامّا»(1).

أقول: وليس في نصوص الباب ما يصلح مدركا لحكم هذا القسم ما عدا خبر زرارة المتضمّن لقوله عليه السلام: «إذا اجتمع لله عليك حقوق...» الخ(2) كما هو العمدة في القسم الأوّل أيضا، وهذا كما ترى ممّا لم يؤخذ فيه شيء من صور النيّة، وقد عرفت أنّه بإطلاقه يقضي بكون الغسل المصادف للحدث الأكبر علّة تامّة لرفعه بجميع أنحائه وشؤونه، ومن يدّعي خلاف ذلك فلابدّ له من مستند من قصور دلالة أو مقيّد داخلي أو خارجي من إجماع أو شهرة كاشفة أو رواية معتبره، وضرورة انتفاء كلّ من هذه الأمور ممّا يغني عن تجشّم الإطناب، فلا ينبغي الالتفات إلى نحو التشكيكات المتقدّمة ولا الاعتبارات الفاسدة الّتي تقدّم كثير منها في القسم الأوّل واتّضح فسادها بما لا مزيد عليه، فلا وجه حينئذ للاقتصار على ما تقدّم من الصور، فالغسل الواحد من الأغسال المجتمعة يجزئ عنه وعن غيره بجميع فروض النيّة وصورها على الأقوى.

القسم الثالث: ما إذا كانت الاغسال باجمعها مندوبة،

وقد اختلف كلام الأصحاب فيه اختلافا متضمّنا لثلاثة أقوال، ففي كلام غير واحد كالمدارك والذخيرة(3)وغيرهما(4) التداخل والاجتزاء بفسل واحد عن المتعدّد بقولي مطلق. واشترط في الشرائع(5) نيّة السبب وظاهره عدم الصحّة مطلقا مع عدمها، وعن النهاية والتذكرة أنّه لو نوى غسلا معينا لم يدخل غيره فيه، ولو نوى بالواحد الجميع فالوجه الإجزاء(6).

وربّما يحكى قول بعدم إجزاء الغسل الواحد عنها مطلقا، وقول آخر عن بعضهم بالتفصيل بين ما لو انضمّ إليها واجب فالتداخل وغيره فعدمه، وتمسّك أهل القول بالتداخل مطلقا تارة بصدق الامتثال كما في المدارك والذخيرة، وقد مرّت الإشارة إلى ضعفه غير مرّة، واخرى بفحوي الأخبار السابقه كما في المدارك ولعلّها على بعض التقادير حسبما تعرفه محلّ منع، وثالثة ببعض تلك الأخبار كما في الذخيرة(7).

ص: 294


1- الجواهر 125:2.
2- الوسائل 261:2 الباب 43 من أبواب الجنابة ح 1.
3- المدارك 196:1، الذخيرة: 9.
4- كالمعتبر 362:1، التذكرة 148:2.
5- الشرائع 20:1.
6- نهاية الإحكام 113:1، التذكرة 148:2.
7- المدارك 196:1، الذخيرة 9.

وتحقيق المقام: أنّ العمدة في أخبار الباب على ما عرفت مرارا إنّما هو خبر زرارة الّذي علّق الحكم بالتداخل فيه على اجتماع الحقوق، ودرج الأغسال المندوبة فيه في قين الواجبة كغسلي الجنابة والحيض ينهض قرينة واضحة على كون المراد بالحقوق فيه ما يعمّ المندوبات أيضا، وبذلك يصرف لفظ «عليك» عن ظاهره، مضافا إلى أنّ الأحكام بأسرها امور أثبتها الله سبحانه فيصدق عليها عنوان «الحقّ » فلولا القرينة المذكورة أيضا لأمكن تعميم الخبر بالقياس إلى سائر الأقسام الّتي منها قسم الأغسال المندوبة.

وبالجملة تناول الخبر لعنوان هذا القسم ممّا لا ينبغي التأمّل فيه، كما لا ينبغي التأمّل في أنّ قصر النظر على ظاهر ما فيه من الإطلاق حسبما قرّرناه مرارا يقتضي تعميم الحكم بالقياس إلى جميع صور النيّة في جميع الأقسام حتى قسم المندوبات المحضة، هذا ممّا لا إشكال فيه، وإنّما الإشكال في أنّ الفرض في الاغسال المندوبة بجميع انواعها المتقدّمة هل هو متعلّق مسمّي الغسل بمعنى ما يصدق عليه الاغتسال بأيّ وجه اتفق، ولأيّ غاية أو سبب حصل ؟ كما ربّما يومئ إليه ما تقدّم في عنوان استحباب الغسل لزيارات الأثمّة عليهما السلام من الرواية الواردة في غسل الزيارة الجامعة المتضمّنة لقوله عليه السلام: «وأشهد الشهادتين وأنت على غسل» الخ(1) فيرجع معنى استحبابه حينئذ في كلّ من الزمانيّة والمكانية والفعليّة إلى استحباب إدراك الزمان المخصوص أو المكان المخصوص أو الفعل المخصوص على غسل.

أو هو متعلّق بالطهر الّذي يدور على مسمّي الغسل أيضا؟ إذ لا يبعد أن يقال: إنّ الغسل في جميع مظانّ استحبابه إنّما استحبّ لفائدة نحو من الطهر الّغير المانع نقيضه عن الدخول في الصلاة ونحوها الّذي يكفي في حصوله الخارجي مسمّى الغسل، غاية الأمر أنّه إن صادف حدثا أكبر أوجب حصول الطهر بجميع أنحائه وشؤونه ومراتبه حتّى ما كان منه مطلوبا من الغسل المستحبّ ، وإن لم يصادفه أوجب من الطهر ما كان مطلوبا منه خاصّة فيقدّر استحبابه حينئذ إلى استحباب إدراك الزمان المخصوص أو

ص: 295


1- الوسائل 390:14 الباب 29 من أبواب المزار ح 3.

المكان المخصوص أو الفعل المخصوص متطهّرا بهذا النحو من الطهر الّذي يتأتى مسمّي الغسل وإن حصل لرفع الحدث الأكبر.

وفي بعض الأخبار الواردة في الاغتسال ليوم الجمعة إشارة إلى هذا المطلب في خصوص هذا الغسل كما في المرويّ عن العلل وعيون الأخبار(1) عن محمّد بن سنان عن الرضا عليه السلام انه كتب إليه في جواب مسائله علّة غسل الجمعة والعيد وغير ذلك: «لما فيه من تعظيم العبد ربّه، واستقباله الكريم الجليل، وطلب المغفرة لذنوبه، وليكون لهم يوم عيد معروف يجتمعون فيه على ذكر اللّه، فجعل فيه الغسل تعظيما لذلك اليوم وتفضيلا له على سائر الأيّام، زيادة في النوافل والعبادة، وليكون طهارة له من الجمعة إلى الجمعة»(2).

والخبر الرسل عن الأصبع قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا أراد أن يوبّخ الرجل يقول: واللّه لأنت أعجز من تارك الغسل يوم الجمعة، فإنّه لا يزال في طهر إلى الجمعة الأخرى»(3).

أو هو متعلّق بالمثوبة الأخرويّة المعدّة للمغتسل في كلّ زمان مخصوص، أو للدخول في كلّ مكان مخصوص، أو لكل فعل مخصوص سبق أو لحق، بناء على أنّ الغسل بنفسه تعبّد في هذه المواضع لمجرّد مصلحة الثواب.

وفائدة الفرق بين الوجوه أنّه على الأوّلين يتّجه القول بكفاية المسمّى بأيّ وجه اتّفق لجميع الأغسال المندوبة، نواها بأجمعها على التفصيل أو الإجمال أو لا، لا لصدق الامتثال للجميع بل لحصول الغرض المسقط لسائر الأوامر الواردة به لأجل هذا الغرض، وعلى أحدهما ينطبق إطلاق خبر زرارة ولا صارف له إلى ما عدا الأوّل من الأقوال المتقدّمة من عقل ولا نقل، ولعلّ في هذا الإطلاق حينئذ إشارة إلى واقعيّة أحد هذين الوجهين.

وعلى ثالث الوجوه لا مانع من الالتزام باشتراط نيّة الجميع ومع عدمها اختصّ

ص: 296


1- علل الشرايع: 285/4، عيون اخبار الرضا عليه السلام 88:2، ب 33.
2- الوسائل 316:3 الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة ح 18.
3- الوسائل 318:3 الباب 7 من أبواب الأغسال المسنونة ح 2.

بالبعض المنويّ تقييدا لإطلاق الخبر المذكور بالقياس إلى عنوان هذا القسم خاصّة، وستعرف وجهه ولا يلزم منه تهافت في دلالة الخبر ولا استعمال في أكثر من معنى، التفاتا إلى أنّه تارة اعتبر مطلقا كما في القسمين الأوّلين واخرى مقيّدا كما في هذا القسم، لأنّ ذلك فرق بينه وبينهما بالإطلاق والتقييد في لحاظ جعل الحكم، وهو لا يستلزم الفرق بينهما من هذه الحيثيّة في لحاظ الاستعمال، ضرورة أنّ هذين اللحاظين قد يتغايران بالإطلاق والتقييد، فيجوز أن يعتبر موضوع حكم التداخل بالنسبة إلى القسمين الأوّلين مطلقا بالقياس إلى جميع صور النيّة ومقيّدا بالقياس إلى القسم المبحوث عنه.

ثمّ أريد من لفظ «الغسل» في مقام الاستعمال الماهيّة المعزاة عن جميع القيود بالنسبة إلى جميع الأقسام، على معنى أن لا يكون إفادة الخصوصيّة المأخوذة في بعضها مقصودة من اللفظ على أن تكون جزءا للمستعمل فيه، غاية الأمر أنّ الماهية باعتبار الخارج تؤخذ تارة من حيث هي واخرى من حيث الوجود في ضمن البعض المعيّن الّذي ساعد عليه ذلك الخارج.

هذا ولكن الإنصاف ممّن جانب الاعتساف يقتضي أن يقال: إنّ قضيّة الخبر مسوقة في سياق القضايا الوضعيّة، وإنّما قصد منها على ما أشرنا إليه سابقا إعطاء حكم وضعي في مسألة اجتماع الأغسال على إطلاقهما وهو الصحّة وإجزاء الغسل الواحد منها عن المتعدّد، على معنى أنّه يفيد سقوط الأمر بالباقي لما فيه من حصول المصلحة المقصودة من الأوامر الواردة عليه، ولا تعرّض فيها للتكليف ولا الآثار المترتّبة عليه من ثواب ونحوه، فإطلاق الخبر بالنسبة إلى تلك القضية متّجه جدّا في جميع أقسام الباب، وأمّا بالنسبة إلى المثوبات المعدّة لكلّ غسل أو كلّ عمل ينوط كماله بالغسل فلا منع في جانب هذا الإطلاق عن تقييد الغسل الواحد المجزئ به عن المتعدّد بما لو حصل بنية الجميع بل لا نضائقه بل هو المتعيّن عملا بعمومات النية من نحو «لا عمل إلّا بنية»(1) و «إنّما الأعمال بالنيات» و «لكلّ امرئ ما نوى»(2) فإنّها لو خلّيت وطبعها وإن كانت محتملة للوجوه المتقدّم إليها الإشارة إلّا أنّ هذه الوجوه متشاركة في

ص: 297


1- الوسائل 47:1 الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ح 4.
2- الوسائل 48:1 الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ح 7.

الدلالة على توقّف استحقاق مثوبات الأعمال على النيّة.

غاية الأمر أنّها بالإضافة إلى بعض تلك الوجوه تقدّر مقيسة إلى نفس الثواب وبالإضافة إلى البعض الآخر تقدّر مقيسة إلى منشائه من الوجه المتكلّمي أو الفقهائي حسبما أشرنا إليه، مضافا إلى أن هذا المطلب معلوم بضرورة من الوجدان واستقلال من العقل فلا يحتاج إلى تجشّم الاستدلال. وما قيل في إمام الجماعة من أنّه يدرك الفضل والثواب وإن كان غافلا عن انعقاد الجماعة معه فعلى فرض تسليمه غير مناف لما ادّعيناه، ولو سلّم فهو وارد على خلاف القاعدة لدليله والتعدّي منه إلى غيره قياس، ولا يفترق الحال من هذه الجهة بين سائر الاقسام.

فآل: نتيجة الكلام إلى أنّ النظر في تداخل الأغسال إن كان إلى تداخلها وضعا فهو على إطلاق خبر زرارة في جميع الأقسام بالقياس إلى جميع صور النيّة، فلا حاجة فيه حينئذ إلى نيّة الجميع ولا غيرها من القصد إلى السبب ونحوه، وإن كان إلى تداخلها تكليفا على معنى حصول استحقاق المثوبات المعدّة للجميع بفعل البعض فالمتّجه فيه مراعاة قصد الجميع. وليس المراد به قصد وقوع الجميع بفعل الواحد، فإنّه على ما بيّنّاه سابقا غير معقول، لوضوح أنّ الوقوع يتبع الإيقاع فتعدّده فرع على تعدّده، بل المراد به قصد الاجتزاء للجميع بالواحد على أنّه محصّل للغرض المطلوب من كلّ واحد مع العزم على أنّه لولاه لكان مؤدّيا لكلّ على حدة.

القسم الرابع: ما إذا اختلفت الأغسال
اشارة

في وجهي الوجوب و الندب بكون بعضها واجبا والآخر مندوبا كالجنابة والجمعة مثلا، ويندرج فيه على ما عنونه الأصحاب وتكلّموا فيه مسائل ثلاث:

الأولى: أن ينوي بغسله الجنابة دون الجمعة،

ففي المحكيّ عن الخلاف والمبسوط(1) كما عن السرائر(2) وجماعة ممّن تأخر كما في صريح الذخيرة(3) وغيرها وظاهر المدارك(4) وغيره أنّه يجزئ عنهما معا، وفي الحدائق: «والظاهر أنه هو

ص: 298


1- الخلاف 222:1، المبسوط 40:1.
2- السرائر 123:1.
3- الذخيرة: 10.
4- المدارك 194:1.

المشهور»(1) بل عن السرائر دعوى الإجماع عليه(2) غير أنّ عبارته المحكيّة عنه لا تتناول ما لو كان المجتمع مع الجمعة غير الجنابة من الأغسال الواجبة، فإنها على ما حكيت: «أنّه إذا كان الواجب غسل الجنابة كانت النية نيته والحكم له، وأنّه يجزئ عن المسنونة بالإجماع» وفي المحكيّ عن جملة من كتب العلّامة كالتذكرة والمنتهى والنهاية(3) أنّه لا يجزئ إلّا عن الجنابة، وعزي إليه أيضا في ظاهر القواعد والإرشاد(4)وإلى المحقّق في ظاهر المعتبر(5) وإلى الكركي في ظاهر جامع المقاصد(6) وإلى جماعة من الأساطين المقاربين للعصر كالعلّامتين البهبهاني في شرحه على المفاتيح(7)والطباطبائي في منظومته(8) وشيخ الشيوخ في كشف الغطاء(9) وكلأنّ مستندهم بعد الأصل النافي للتداخل وعدم ظهور مخرج عنه عمومات النية، كما أنّ مستند الأوّلين بعد صدق الامتثال على ما في عبارة الذخيرة(10) وغيرها إطلاق الأدلّة المخرجة عنه من الأخبار المتقدّمة.

وربّما أمكن القول بعود النزاع بين الفريقين لفظيّا بدعوى رجوع مقالة الأوّلين إلى التداخل من حيث الوضع ورجوع مقالة الأخيرين إليه من حيث التكليف. على معنى حصول استحقاق ما اعدّ للغسلين من الأجر والثواب، وعليه فالحقّ الّذي لا محيص عنه صدق مفاد كلّ من المقالتين، لكونهما على ما حقّقناه سابقا قضيتين صادقتين والوجه ما تقدّم. فالقائل بالإجزاء عنهما إن أراد به ما هو حاصل في مقام الوضع فهو في غاية المتانة، وإن أراد به ما هو كذلك بالنسبة إلى مقام الأجر والمثوبة فيدفعه التحقيق المتقدّم، كما أنّ القائل بعدم الإجزاء إلّا عن الجنابة إن أراد به ما هو بالنسبة إلى المقام الثاني فهو في غاية المتانة، وإن أراد به ما هو بالنسبة إلى المقام الأوّل فيردّ. ظاهر بل صريح قوله عليه السلام: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك

ص: 299


1- الحدائق 198:2.
2- السرائر 123:1.
3- التذكرة 148:2، المنتهى 245:2، نهاية الإحكام 113:1.
4- القواعد 179:1، الإرشاد 221:1.
5- المعتبر 361:1.
6- جامع المقاصد 87:1.
7- مصابيح الظلام 100:4.
8- الدرّة النجفيّة: 28.
9- كشف الغطاء 318:2.
10- الذخيرة: 9.

للجنابة والجمعة وعرفة...» إلخ(1) ولا يزاحمه عمرمات النيّة كما عرفت من عدم تناقض القضيتين.

الثانية: أن ينوي به الجمعة دون الجنابة

ففي المحكيّ عن المبسوط أنّه لا يجزئ عن شيء منهما(2) ومثله ما في المحكيّ عن الخلاف(3) معلّلا له فيه بعدم نيّة الجنابة فيكون حدثها باقيا لحكم «إنّما الأعمال بالنيّات» فلا يجزئ عن الجمعة أيضا، لأنّ الغرض من غسلها زيادة التنظيف الّذي لا يحصل مع بقاء الحدث.

وفي الذخيرة: «أنّ هذا هو المشهور»(4) وعن المحقّق الاعتراض عليه: «بمنع كون المراد من المندوبة رفع الحدث فتصحّ عمّن يجامعه الحدث كما يصحّ غسل الإحرام عن الحائض»(5) وفيه ما فيه، وعن ظاهر الإشراف(6) وبعض المتأخّرين(7) الإجزاء عنهما، ويظهر الميل إليه بل اختياره من المدارك والذخيرة(8) استنادا إلى صدق الامتثال مضافا إلى الرسل المرويّ في الفقيه المتقدّم ذكره. وفي المحكيّ عن الكتب الثلاث للعلّامة المتقدّم إليها الإشارة أنه يجزئ عن الجمعة خاصّة(9) وهذا هو الأقوى بالنظر إلى مقام التكليف كما عرفت، وأمّا بالنظر إلى مقام الوضع فالأوفق بإطلاق قوله عليه السلام:

«إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر...» إلخ المعتضد بمرسلة الفقيه(10) المنجبرة بفتوى الصدوق واعتماد غير واحد عليه كما عرفت إنّما هو القول الثاني، فهو المعتمد وإن كان الأحوط خروجا عن شبهة مخالفة الشهرة هو القول الأوّل.

الثالثة: أن ينوي به الجنابة والجمعة معا،

ففي صريح المحكيّ عن الخلاف والمبسوط(11) كما في صريح المدارك والذخيرة الإجزاء عنهما(12) ونسب إلى ظاهر المعتبر(13) أيضا، بل في المحكيّ عن الخلاف دعوى الإجماع عليه، وعن غير واحد

ص: 300


1- الوسائل 339:3 الباب 31 من أبواب الأغسال المسنونة ح 1.
2- المبسوط 40:1.
3- الخلاف 222:1.
4- الذخيرة: 9.
5- المعتبر 361:1-362.
6- مصنّفات الشيخ المفيد 17:1.
7- المدارك 197:1.
8- المدارك 197:1، الذخيرة: 9.
9- التذكرة 148:2، نهاية الإحكام 113:1، المنتهى 245:2.
10- الفقيه 74:2/321.
11- الخلاف 221:1، المبسوط 4.:1.
12- المدارك 193:1، الذخيرة: 10.
13- المعتبر 361:1.

كما في المحكي عن التذكرة(1) البطلان فيهما، ويظهر الوقف من المحكي عن ابن سعيد حيث نقل القولين ولم يرجّح شيئا قائلا: «وإذا اجتمع غسل الجنابة والجمعة وغيرهما من الأغسال المفروضة والمسنونة أجزأ عنها غسل واحد، فإن نوى الواجب أجزأ عن الندب، وإن نوي به المسنون فقد فعل سنّة وعليه الواجب، وإن نوي به الواجب والندب قيل أجزأ عنهما، وقيل لا يجزئ لأنّ الفعل الواحد لا يكون واجبا وندبا»(2) وينقدح بما ذكر - كما في كلام جماعة - أنّ مستند البطلان فيهما إنّما هو شبهة تضادّ الوجوب والندب فلا يجتمعان في محلّ واحد.

وتوضيح المقام على وجه يتضمّن تحقيقا فيه: إنّه لا إشكال لأحد في جواز اجتماع وصفي الوجوب والندب في الأغسال ما دامت في ذمّة المكلّف، سواء اعتبرناها ماهيات متغايرة ولو بحسب الجعل والاعتبار، أو مصاديق لماهيّة واحدة يضاف إليها إيجادات متعدّدة على حسب تعدّد وجودات تلك المصاديق، لكون المورد لكلّ حكم حينئذ إيجاد من تلك الإيجادات على حدّ ما هو الحال في مواضع التكرار، وإنّما الإشكال فيما يوقعه المكلّف من الغسل الواحد والفرد الموجود في الخارج، وحينئذ فإن أريد بتداخل الواجب والمندوب صدق امتثال الأمر الإيجابي والندبي بهما المتوقّف على اجتماعهما معا في المصداق الخارجي الواقع في الخارج بإيقاع واحد يقدّر ذلك الإيقاع باعتبار أنّه إيقاع لغسل الجنابة واجبا وباعتبار أنّه إيقاع لغسل الجمعة مندوبا، فلا مناص من محذور اجتماع المتضادّين في محلّ واحد، ولا يجدي في التفصّي عنه اعتبار الحيثيّة حسبما توهّمه بعضهم، بأن يكون ذلك المصداق الخارجي موردا للوجوب من حيث كونه فردا للطبيعة الّتي تعلّق بها التكليف الإيجابي، والندب من حيث كونه فردا للطبيعة الّتي تعلّق بها التكليف الندبي، لأن تعدّد الحيثيّة باعتبار صدق كلّيين على الواقع في الخارج بإيقاع واحد لا يوجب فيه إلّا تعدّد الإضافة، وهو في نحو المفروض لا يستلزم تعدّد المضاف على نحو الحقيقة وبحسب الخارج.

وملاك التفصّي عن المحذور إنما هو تعدّد المضاف بحسب الواقع والحقيقة

ص: 301


1- التذكرة 148:2.
2- الجامع للشرائع: 34.

لا تعدّده بحسب الاعتبار والإضافة، ولا احتمال كون النيّة شطرا لتكون الجهة تقييديّه، لأنّ ذلك - على فرض تسليمه - إنّما يوجب تعدّدا في الغسلين بحسب الماهيّة، واجتماع الوجوب والندب فيهما بهذا الاعتبار ليس بمحلّ كلام، لرجوعه إلى اجتماعهما فيهما ما دامتا في الذمّة، بل محلّ الكلام إنما هو هذا الفرد الشخصي الموجود في الخارج المفروض مصداقا لهما.

ولا بما عن جماعة من بناء دفع المحذور على اعتبار مطلق القربة في النية وعدم اعتبار نية الوجه فيهما، لأنّ اجتماع الوجوب والندب على التقدير المذكور من لوازم الوجود الخارجي وإن لم يدخلا في النيّة، على أنّ نيّة اجتماع الماهيّتين في الفرد واتّحادهما في الخارج كافية في لزوم اجتماع الوصفين.

ولا ما قيل في توجيه عدم التنافي المنسوب إلى جماعة بناء على اعتبار نيّة الوجه من أنّ نيّة الواجب والندب ندب في الواجب كالصلاة الواجبة إذا صلّاها في المسجد جماعة، والحاصل أنّه إذا نوى غسل الجنابة والجمعة يكون قد أتى بالواجب على أفضل أفراده، لمنع الحكم في المقيس عليه لعين المحذور إن أريد بالندب فيه معناه المعهود المصطلح عليه على ما حقّق في محلّه، ووجود الفارق بينه وبين المقيس إن أريد بالندب فيه مجرّد الأفضليّة وزيادة الثواب والفضيلة، لوضوح الفرق بين ماهيّة مع خصوصيّة تكون الأولى موردا للوجوب والثانية موردا للندب بالمعنى المذكور وبين ماهيّتين مجتمعتين في فرد تكون إحداهما موردا للوجوب والاخرى موردا للندب بالمعنى المصطلح، على أنّ انضمام ماهيّة إلى أخرى في الوجود واتّحادهما في الفرد لا يصلح مشخّصا للماهيّة ولا مميّزا للفرد.

ولو سلّم فمورد الندب إنّما هو الماهيّة المنضمّ إليها لا الخصوصيّة الحاصلة للماهيّه المتضمّنة بواسطة الانضمام.

ولو سلّم فليس مبنى استحباب غسل الجمعة على مجرّد الأفضليّة، بل لا يراد منه إلّا المعنى المصطلح عليه الّذي لو اعتبر في الخصوصيّه مع اعتبار الوجوب للماهيّة لزم محذور الاجتماع.

ص: 302

ولا ما قيل أيضا كما تقدّم عن المدارك والذخيرة(1) من أنّ معنى تداخل الواجب والمستحب تأدّي إحدى الوظيفتين بفعل الأخرى، كما تؤدّي صلاة التحيّة بقضاء الفريضة، لظهور تعلّق الغرض بمجرّد الماهيّة على أيّ وجه اتّفق، فلا يرد: أنّ ذلك ممتنع لتضادّ وجهي الوجوب والندب، إذ الواقع هو الغسل الواجب خاصّة لكن الوظيفة المسنونة تأدّت به، لأنّ ذلك ممّا يبطله دليل الخلف.

وإنّما ينطبق هذا الكلام بكلّ من احتماليه - من كون المراد بالوظيفة المسنونة المؤدّاة بفعل الواجب ما هو من الآثار الوضعيّة كالسقوط وفراغ الذمّة أو ما هو من الآثار التكليفيّة كاستحقاق الأجر والمثوبة - على ما سنفرضه من معنى التداخل الّذي لا يتّجه الإشكال على تقدير إرادته.

ولا ما قيل كما عرفته من الذخيرة من أنّ الموجود إنّما هو الغسل الواجب الذي حصل فيه غسل الجمعة، وهو هنا واجب لعروض سبب الوجوب له وهو اتّحاده لغسل الجنابة، كما لو نذر غسل الجمعة فإنّه غسل جمعة واجب، فإنّ هذا الوجوب إنّما لحق إيقاع هذا الفرد من الغسل على أنّه إيقاع لغسل الجنابة لا على أنّه إيقاع لغسل الجمعة، فيكون هذا الإيقاع بهذا الاعتبار على مندوييته، على أن لحوق وصف الكلّي لمصداقه الخارجي إنّما هو لانطباقه عليه. والمفروض أنّ كلّي غسل الجمعة باعتبار أنّه ما في ذمّة المكلّف ليس إلّا على وصف الندب، فكذلك فرده المنطبق عليه وهو متّحد الوجود لكلّي غسل الجنابة فيكون مع اتّحاده واجبا مندوبا، ولو رجع هذا الكلام إلى نحو من التصرّف في غسل الجمعة باعتبار أنّه كلّي وفي الذمّة فهو لا يستقيم إلّا بتطرّق التصرّف في الخطاب الوارد باستحبابه، وهو يؤدّي إلى الاستعمال في المعنيين الاستحباب والوجوب في تقدير، والتجوّز بإرادة القدر الجامع بينهما في آخر، فالاستحباب له في حال الانفراد والوجوب له في حال الانضمام، والأوّل لو كان في أصله صحيحا كالثاني ليس بأولى من القول ببطلان هذا الغسل كما عرفته عن العلّامة، لأنّ مرجعه إلى تخصيص الخطاب المقتضي للصحّة بإخراج هذا الفرد عن تحته.

ص: 303


1- المدارك 193:1، الذخيرة: 10.

إلّا أن يقال: إنّ البطلان يستلزم تخصيصين أحدهما في خطاب غسل الجنابة، والآخر في خطاب غسل الجمعة فيكون مرجوحا بالقياس إلى التأويل المذكور.

لكن يدفعه: أنّ هذا التأويل في وجهه الاوّل - بناء على صحّته - في غاية المرجوحية فلا يصلح معارضا للتخصيص ولو تعدّد، وفي وجهه الثاني ينفيه الإجماع لأنّ الأصحاب في دليل غسل الجمعة بين حامل له على الاستحباب خاصّة كما هو المشهور المدّعى عليه الإجماع، وحامل له على الوجوب كما عرفته عن الصدوقين ومن وافقهما، فحمله على إرادة القدر الجامع ممّا اتّفق الفريقان على بطلانه، وذلك ممّا يكشف عن مرجوحيّة هذا التأويل في مقابلة التخصيص فتأمّل.

وبالجملة لا مدفع لمحذور اجتماع المتضادّين على الاحتمال المفروض في معنى التداخل، بل يتوجّه المحذور على تقدير إرادة هذا المعنى وإن نوى بهذا الغسل خصوص الجنابة على القول بإجزائه عنها وعن الجمعة معا، بل إن نوى به خصوص الجمعة أيضا على القول بالإجزاء عنهما أيضا لما عرفته من أنّه من لوازم اجتماع الماهيتين في المصداق واتّحادهما في الوجود، وذلك ممّا يؤدّي إلى طرح دليل التداخل هنا أو تأويله.

وإن أريد به كفاية الواحد في حصول المصلحة المقصودة من الغسلين فيسقط به الأمران الإيجابي والندبي وإن كان الواقع في الخارج أحدهما أو ما هو فرد لأحدهما، فهو لا يستتبع محذورا وإن نوى بغسله كلّا من الجنابة والجمعة، لأنّ معنى نيّتهما معا أنّه ينوي الاجتزاء عنهما بفعل أحدهما أو بفعل واحد، وهذا هو الوجه المصحّح لورود الخطاب بتداخل الواجب والمندوب، ويشهد له مرسلة الفقيه أيضا.

وعليه فالمكلّف إمّا ينوي بإيقاعه غسل الجنابة مثلا على أن يجتزئ به عنه وعن غسل الجمعة مثلا، أو غسل الجمعة مثلا على أن يجزئ به عنه وعن غسل الجنابة، أو ما خوطب بإيقاعه بأحد الأمرين الإيجابي والندبي على أن يجتزئ به عن الغسلين معا، ويظهر أثر نية الاجتزاء في حصول الثواب المعدّ لكلّ من الغسلين زيادة على حصول الآثار الوضعية، ومع عدم نيّنه اختصّ تأثير الغسل بالآثار الوضعيّة كما بيّنّاه سابقا وهكذا ينبغي أن يحقّق المقام.

ص: 304

ينبوع [أسباب الوضوء و كيفيته و أحكامه]

اشارة

بعد ما عرفت تفصيل القول في غايات الطهارات الثلاث، فاعلم أنّ لكلّ واحد منها أسبابا وكيفيّة وأحكاما، وتمام القول فيها بهذا الاعتبار يقع في أبواب:

الباب الأوّل فيما يتعلّق بالوضوء

وتمام البحث فيه باعتبار الأحداث الموجبة له وكيفيته وأحكامه يقع في مقاصد:

المقصد الأوّل في الأحداث الموجبة له

اشارة

واعلم أنّ الحدث حينما أطلق في غير المقام يراد منه الأثر الحاصل من البول وغيره من الأمور الآتية، وهو الحالة الوجوديّة المناقضة للطهارة المانعة من الدخول في الصلاة وغيرها من مشروط بالطهارة، وهو الشائع من إطلاقه المتبادر منه في لسان المتشرّعة ولا سيّما الفقهاء منهم فيكون حقيقة فيه، ويشهد له ما في كلام غير واحد من أئمّة اللغة(1) من اعتباره اسما للأحداث من أحدث الرجل إحداثا للحالة الحادثة المناقصة للطهارة شرعا.

وربّما اطلق - كما في المقام - على أعيان تلك الامور الّتي تترتّب عليها الحالة المذكورة، وورد هذا الإطلاق في بعض النصوص أيضا كما ستعرفه، والظاهر أنّه

ص: 305


1- الصحاح 278:1 مادّة «حدث».

لضرب من المجاز ولعلّه من باب تسمية السبب باسم المسبّب، لعدم تبادره بل وتبادر غيره عند الإطلاق واستناد انفهامه إلى قرينة المقام. فما في المدارك من توهّم كونه مقولا بالاشتراك اللفظي على المعنيين(1) مع أنّه يدفعه الأصل ليس بسديد، لعدم كونه ممّا يساعد عليه شيء من الطرق، ولا يشهد له شيء من أمارات الوضع ولا كلمات أئمّة اللغة إن اريد به ما هو باعتبار أصل اللغة أو ما هو باعتبار العرف والاصطلاح، مع ما عرفت من أنّ أئمّة اللغة لم يعتبروه إلّا اسم المصدر الّذي لا ينطبق إلّا على أوّل المعنيين.

نعم ربّما نصّوا بوروده للشابّ الحديث السنّ غير أنّه لا يرتبط بالمقام، كما أنه لا يرتبط به ما احتمل كونه كالشرف مصدرا من «حدث» بالضمّ كقدم حيثما ذكر معه، ولاما نقل عن بعضهم من جعله للأمر المنكر الّذي ليس بمعتاد ولا معروف من السنّة، فإنه مع شذوذه لا يساعد بما فيه من القيدين على ثاني المعنيين، مع أنّه لو صحّ الوضع الجديد بإزاء هذا المعنى لا يلزم منه الاشتراك لو قدّر الأّوّل منهما ثابتا له باعتبار اللغة، ومع هذا كلّه فالأمر فيه من حيث قلّة جدواه سهل.

ثمّ إنّه قد اختلفت عبائر الفقهاء في عنوان الأحداث بالمعنى الثاني من حيث التعبير عنها تارة بالأسباب كما في قواعد العلّامة(2) وعن ذكرى الشهيد وبيانه(3)واخرى بالنواقض كما عن السيّد في جمله والشيخ في مبسوطه ونهايته(4) وجماعة من القدماء(5) وثالثة بالموجبات كما في اللمعة(6) وعن المحقّق في كتبه(7) والعلّامة في التذكرة والمنتهى(8) وجماعة(9).

وفي كلام غير واحد أنّ التعبير بالأسباب باعتبار أنّها معرّفات لتعلّق الخطاب إيجابا أو ندبا بالوضوء لنفسه أو لمشروط بها وقوعه أو كماله، وبالنواقض باعتبار

ص: 306


1- المدارك 141:1.
2- القواعد 179:1.
3- الذكرى 209:1، البيان: 5.
4- جعل العلم والعمل: 24، المبسوط 26:1، النهاية 225:1.
5- كما في الوسيلة: 53، السرائر 106:1، فقه القرآن للراوندي 106:1.
6- اللمعة: 3.
7- المعتبر 105:1، الشرائع 107:1، النافع: 4.
8- التذكرة 99:1، المنتهى 165:2.
9- منهم السيّد العاملي في المدارك 141:1.

طروّها المتطهّر، وبالموجبات باعتبار ترتّب الّوجوب عليها عند وجوب الغاية.

واستظهر في المدارك كونها مترادفة تعليلا بأنّ وجه التسمية لا يجب اطّراده، وربّما يظهر ذلك من كاشف اللثام(1) لكن في الروضة(2) والذخيرة(3) كما عن الروض(4)وحواشي القواعد للشهيد(5) ومجمع الفوائد وشرح الألفيّة للمحقّق الثاني وصاحب الدلائل(6) أنّ السبب أعمّ مطلقا من الموجب والناقض وأنّ بين الأخيرين عموما من وجه، لصدقه عليهما في حدث المتطهّر العارض له في الوقت، وصدقه بدونهما في حدث المحدث العارض في غير الوقت، أو بدون الأوّل في حدث المتطهّر العارض في غير الوقت، أو بدون الثاني في حدث المحدث العارض في الوقت، وبذلك يعلم وجه العموم من وجه فيهما لاجتماعهما في مادّة اجتماع السبب معهما وافتراقهما في مادّتي افتراقه عن الأوّل وحده أو الثاني كذلك.

وفي الروضة: «أن التعبير بالسبب أولي»(7) ولعلّ وجه الأولويّة كونه أشمل لتناوله جميع الصور الأربع المشار اليها الّتي يضبطها الحدث الطارئ للمتطهّر أو المحدث في الوقت أو غيره، فيكشف عن توجّه الخطاب بالوضوء في كلّ وجوبا أو ندبا ولو على طريق التكرار، بناء على أصالة عدم تداخل الأسباب من حيث الحكم ومتعلّقه وإن تداخلت بالدليل من حيث الامتثال بخلاف أخويّه، فإنّ الناقض لا يتناول إلّا ما يطرأ المتطهّر في الوقت أو غيره، والموجب لا يتناول إلّا ما يطرأ في الوقت للمتطهّر أو غيره، بناء على أنّ المراد به سبب الوجوب فيتعدّد حيثما يتعدّد على الأصل المشار إليه لا على أن المراد به ما يصلح أن يكون موجبا كما زعمه جمال الملّة والدين في حواشي الروضة(8) وإلّا بطل الفرق بينه وبين الناقض الّذي اعترف بكونه على النسبة المذكورة محمولا على ما يكون ناقضا بالفعل، فإنّه أيضا صالح لأن يؤخذ باعتبار الصلاحية، وحينئذ لزم صدقه بل صدق الموجب في جميع صور صدق السبب وهو خلاف مفروضهم، وعلى ما اعتبرناه لا حاجة إلى أن يجعل الموجب بدون الناقض

ص: 307


1- كشف اللثام 185:1.
2- الروضة 138:1.
3- الذخيرة: 12.
4- روض الجنان 71:1.
5- فوائد القواعد: 6.
6- نقله عنهم في مفتاح الكرامة 151:1.
7- الروضة 138:1.
8- حاشية الروضة: 30.

دخول وقت المشروط ونحوه كالبلوغ بالسنّ كما احتمله رحمه الله ليخدشه خروجه عن طريقتهم حيث لم يعهد منهم عدّهما من موجبات الوضوء ولا من أسبابه.

وفي المدارك عن بعض مشايخه المعاصرين الاعتراض على الفارقين: بأنّ الجنابة ناقضة للوضوء وليست سببا له، وكذا وجود الماء بالنسبة إلى المتيمّم فإنّه ناقضه وليس سببه، ويلزم منه كون الناقض أعمّ من السبب من وجه(1) ولعلّه في غير محلّه بقرينة إضافة الأسباب وأخويها في معاقد هذا الباب ومطاوي بحثهم إلى الوضوء، فالبحث إنّما هو في أسباب الوضوء ونواقضه وموجباته، فخرج وجود الماء، ثمّ المراد بنواقض الوضوء ما ينقضه من حيث إنّه طهارة صغرى، والجنابة ناقضة للكبرى لا الوضوء من حيث إنّه صغرى بانفرادها، ويخرج به أيضا دم الحيض ونحوه ممّا يوجب الوضوء مع الغسل.

وتحقيق المقام: أنّ السبب هنا لا يراد منه السبب الأصولي المعرّف بما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته كما يوهمه بعض العبارات، إلّا على القول بوجوب الوضوء لنفسه، أو قصر النظر في بيان السببيّة على ما يستحبّ منه لنفسه، وأمّا على وجوبه لغيره كما هو الأصحّ الأشهر شهرة كادت تكون إجماعا فسبب وجوبه إنّما هو وجوب ذلك الغير كما هو ضابط وجوب الشيء لغيره على ما تقرّر في الأصول، بل يراد منه ما هو المتداول في لسان الفقهاء المعزف بالأمر الوجودي المنضبط الّذي دلّ الدليل على كونه معرّفا لحكم شرعي كما يساعد عليه عبائرهم صراحة وظهورا، فإطلاق السبب على الأمور الآتية إنما هو باعتبار هذا المعنى العامّ ، فيكون من باب إطلاق الكلّي على الفرد، وينهض إضافته إلى الوضوء قرينة إفهام لذلك كما يرشد إليه انفهام التخصيص منها.

وأمّا «الناقض» و «الموجب» فإن اعتبرناهما بالمعنى الوصفي مع أخذهما باعتبار الفعل فالأوّل يقتضي سبق الطهارة كما أنّ الثاني يستدعي دخول الوقت إن اخذ الوجوب فيه بمعناه الشرعي، فالنقض حينئذ إنّما هو باعتبار الطهارة السابقة والإيجاب باعتبار اللاحقة، فيراد بالموجب حينئذ سبب الوجوب لا فاعله الّذي هو اللّه تعالى،

ص: 308


1- المدارك 141:1.

وعليه مبنيّ كلام الجماعة في اعتبار ما ذكروه من الفرق بالنسبة، لكنّه ممّا يبعّده أنّ المعلوم ضرورة من حالهم أنّ نظرهم في عناوين الأحداث إنّما هو إليها بماهيّاتها بلا نظر إليها باعتبار الفرد، ولا قصر النظر في عنواني «الناقض» و «الموجب» على صور سبق الطهارة ولا موارد وجوبها، بل البحث عن ناقضيّة ما ينقض الطهارة وما لا ينقض وإيجاب ما يوجبها وما لا يوجب واقع على أن يكون كلّ من الناقضيّة والإيجاب من لوازم ماهيّة كل حدث، بأن تكون بالقياس إليهما من باب المقتضي الّذي جاز عنه التخلف لعارض كما في توابع سائر الماهيّات، و إن كان هذا البحث لا يظهر له ثمرة إلّا مع سبق الطهارة أو دخول الوقت كما هو واضح.

وان اعتبرناهما بالمعنى الاسمي الّذي ربّما يلتزم بحصوله من جهة الوضع الطارئ أمكن تعميم العنوان بالقياس إلى جميع أفراد الماهيّة بدعوى: أنّ التسمية باعتبار هذا الوضع إنّما حصلت بازاء الماهية لمناسبة المعنى الوصفي الثابت لبعض افرادها مع عدم وجوب الاطراد في وجه التسمية، وعليه مبنيّ توهّم الترادف على ما عرفته عن صاحب المدارك(1) بظاهر التعليل المتقدّم منه، غير أنّه أيضا ممّا يبعّده بعد الأصل انفهام المعنى الوصفي منهما في إطلاقاتهم مع انفهام التخصيص من الإضافة المأخوذة في قولهم: «نواقض الوضوء وموجباته».

وقضيّة ذلك كلّه وجوب أخذهما بالمعنى الوصفي لكن باعتبار الصلاحية فيهما أو في الأوّل وحده، مع أخذ الوجوب في الثاني بمعناه اللغوي المعبّر عنه بالثبوت الّذي يراد به هاهنا ثبوته في ذمّة المكلّف على وجه الإيجاب أو الندب، فيراد بالموجب حينئذ أيضا سبب الوجوب لا فاعله الّذي هو إمّا الشارع في تقدير أو المكلّف نفسه في آخر، فيراد بالموجبات حينئذ الأمور الباعثة على مخاطبة المكلّف بالوضوء وجوبا أو ندبا، على معنى ما يكشف عنه ويعرّفه، وهذا هو الأظهر على ما هو المعهود المنساق من إطلاقات الإيجاب ومتصرّفاته كما يرشد إليه التدبّر، ويلزم من ذلك كلّه كون الموجب مرادفا للسبب والناقض مساويا لهما مع مراعاة إضافة الجميع إلى الوضوء،

ص: 309


1- المدارك 141:1.

فدعوى الترادف على إطلاقها كدعوى الفرق والنسبة المتقدّمة عن الجماعة في غير محلّهما.

ثمّ تمام الكلام في هذا المقصد يقع في مباعث:

المبحث الأوّل في البول والغائط والريح
اشارة

فإن كلّا من ذلك حال خروجه من المخرج ناقض للوضوء ولا إشكال فيه، بل هو في الجملة معلوم بالإجماع بل الضرورة من الدين، ودعوى الإجماع وما بمعناه كنفي الخلاف بالّغة فيه حدّ الاستفاضة، وأخبار أهل العصمة به مع ذلك قريبة من التواتر، بل هي على ما في كلام غير واحد متواترة ألبتّة، غير أنها بين مطلقات - وهي العمدة في الباب - ومقيدات.

فمن الاولى: حسنة زكريّا بن آدم قال: «سألت الرضا عليه السلام عن الناسور أينقض الوضوء؟ قال: إنّما ينقض الوضوء ثلاث: البول، والغائط، والريح»(1).

ومنها: رواية الفضل بن شاذان المرويّة عن عيون الأخبار عن الرضا عليه السلام:

«ولا ينقض الوضوء إلّا غائط، أو بول، أو ريح أو نوم أو جنابة»(2).

ومنها: صحيحة زرارة عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «لا يوجب الوضوء إلّا من الغائط أو بول أو ضرطة تسمع صوتها أو فسوة تجد ريحها»(3).

ومن الثانية: صحيحة زرارة عن أحدهما قال: «لا ينقض الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك، أو النوم»(4).

ومنها: صحيحة سالم أبي الفضل عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «ليس ينقض الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك الأسفلين اللذين أنعم الله عليك بهما»(5).

ص: 310


1- الوسائل 251 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 6.
2- الوسائل 251:1 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 8.
3- الوسائل 245:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 2.
4- الوسائل 248:1 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 1.
5- الوسائل 249:1 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 4.

ومنها: صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام: «ما ينقض الوضوء؟

فقالا: ما يخرج من طرفيك الأسفلين من الذكر والدبر من الغائط أو البول أو مني أو ريح والنوم حتّى يذهب العقل، وكلّ النوم يكره إلّا أن تكون تسمع الصوت»(1).

ومنها: موثّقة أديم بن الحرّ أنّه سمع أبا عبدالله عليه السلام يقول: «ليس ينقض الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك الأسفلين»(2).

ومنها: صحيحة أبي بصير المرادي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن الرعاف والحجامة وكلّ دم سائل، فقال: ليس في هذا وضوء، إنّما الوضوء من طرفيك اللذين أنعم اللّه بهما عليك»(3).

ومنها: رواية محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا - في حديث طويل - قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «لا ينقض الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك اللذين جعل الله لك»، أو قال: «اللذين أنعم بهما لك»(4).

ومنها: ما عن العلل والعيون عن الفضل بن شاذان عن الرضا قال: «إنّما وجب الوضوء ممّا خرج من الطرفين خاصّة ومن النوم دون سائر الأشياء، لأنّ الطرفين هما طريق النجاسة، وليس للإنسان طريق تصيبه النجاسة من نفسه إلّا منهما، فامروا بالطهارة عندما تصيبهم تلك النجاسة من أنفسهم» الخ(5) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

ولا يذهب عليك أنّ خروج هذه الأخبار إلّا ما شذّ منها بعبارة الحصر مع تصدّر بعضها بتوهّم ناقضيّة ما ليس بناقض في الواقع كالناسور والرعاف والحجامة وكلّ دم سائل ممّا يعطي كون ذلك الحصر إضافيّا، مرادا به نفي الناقضيّة عن أجناس معهودة غير الأجناس الواردة فيها ممّا توهّم كونه ناقضا من باب قصر الأفراد ولو كان للردّ على العامّة المعتقدين للتشريك بين هذه الأجناس وأجناس آخر ممّا يأتي التعرّض لها، فلا ينافي النقض ببعض ما ليس بوارد فيها كمزيل العقل وقليل الاستحاضة لمساعدة

ص: 311


1- الوسائل 2491 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 2 و 3.
2- الوسائل 2491 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 2 و 3.
3- الوسائل 250:1 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 5.
4- الوسائل 251:1 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 9 و 7.
5- الوسائل 251:1 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 9 و 7.

الدليل عليه حسبما يأتي التعرّض له أيضا، ولا النقض ببعض أفراد الأجناس الثلاث الواردة فيها من البول والغائط والريح كالخارج منها عن غير الموضع الطبيعي خصوصا إذا لم يكن معتادا مع عدم انسداد الطبيعي الّذي قصر مقيّدات الأخبار عن شموله إن ساعد على النقض به إطلاق المطلقات كما هو الأقوى على ما سنقرّره، فلا معارض في شيء من تلك الأخبار الحاصرة لدليلي النقض بهذين الأمرين، وإن أمكن إثبات النقض بأوّلهما على احتمال كون الحصر حقيقيّا أيضا بتطرّق التخصيص إليه تحكيما لدليل النقض به على عموم ذلك الحصر، بل وكذلك تباينهما على التحقيق الآتي.

وقد يستشمّ من بعض العبارات تقوية الاحتمال المذكور، بل المصير إليه ترجيحا لما يلزم مع الحمل على الحصر الحقيقي من التخصيص على الحصر الإضافي، التفاتا إلى أنّ التخصيص مع الحصر الحقيقي أكثر وأشيع من الحصر الإضافي. وظنّي أنّ هذا البحث لا يتعلّق به فائدة سوى ما عساه يتوهّم من أنّ عدم الناقضّية في الفرد المذكور من الأجناس الثلاث على الحصر الإضافي إنّما هو من جهة عدم قيام الدلالة على النقض به، وعلى الحصر الحقيقي من جهة قيام الدلالة على عدم النقض به، فيثمر ذلك حينئذ لو كان هناك أصل عملي مقتض لإجراء أحكام النقض كالاحتياط وقاعدة الشغل في مشروط بالطهارة المستدعية ليقين البراءة الّذي لا يحصل إلّا بتحصيل الطهارة اليقينية، فإنّ إعمال ذلك الأصل ممّا لا مانع منه على الأوّل بخلافه على الثاني، لنهوض الدلالة المذكورة النافية للناقضيّة رافعة لموضوعه فيستحيل إعماله، هذا إذا بنينا في مطلقات الأخبار على الانصراف إلى غير ذلك الفرد أو الإجمال بالقياس إليه كما زعمه شارح الدروس(1) قدحا في إطلاقها، وأمّا مع البناء على عدمهما فيتعارض عموم الحصر مع ذلك الإطلاق وبينهما عموم من وجه، ومرجعه إلى تعارض التخصيص والتقييد، ومن المقرّر في محلّه أنّ التقييد أرجح في نحوه ترجيحا لعموم العامّ على إطلاق المطلق على الثاني، بخلافه على الأوّل فإنّ الإطلاق المذكور حينئذ سليم عمّا يعارضه.

ص: 312


1- مشارق الشموس: 51.

لكن يضعّفه على الفرض الأوّل بناء على صحّته أنّ استصحاب الطهارة وارد على الأصل المذكور، فلا يتفاوت الحال حينئذ بين صورتي عدم قيام الدلالة على النقض بما ذكر أو قيام الدلالة على عدم النقض به، فلا حكم لذلك الأصل في كلّ من الصورتين لمكان الوارد عليه مطلقا، وإن كان ذلك الوارد في إحدي الصورتين هو الاستصحاب إلّا على تقدير ضعيف، وهو منع العمل بالاستصحاب مطلقا أو في نحو المقام وهو ما لو شك في قادحيّة ما علم كونه فردا ممّا دلّ الدليل على كونه قادحا في الجملة، لقصور ذلك الدليل من جهة انصراف أو إجمال عن شموله لذلك الفرد، كما قد يظهر المصير إليه من بعض فضلاء الأصول، والكلّ كما ترى.

وعلى الفرض الثاني - كما هو الأصحّ - أنّ رجحان التقييد على التخصيص إنّما يتجه إذا لوحظ كلّ منهما بنوعه وطبعه من دون نظر إلى خارج [و] يرجّح الثاني باعتبار خصوص المقام، ولعلّ الإجماع على الّنقض بما يخرج من الموضع الخلقي غير الطبيعي أو الموضع العرضي مع انسداد الطبيعي محصّلا ومنقولا على ما ستعرفه يصلح مرجّحا لذلك، التفاتا إلى أنّه لا يستقيم إلّا بتطرّق التخصيص إلى مقيّدات الأخبار، لظهور الطردين الوارد فيها في خصوص الطبيعي. والتفكيك بينهما وبين ما يخرج من العرضي مع عدم انسداد الطبيعي بارتكاب التقييد له في مطلقات الأخبار بعد ارتكاب التخصيص للأولين في المقيّدات بعيد عن الاعتبار، وتكثير في مخالفة الأصل من حيث استلزامه للتقييد في المطلقات بعد ارتكاب تخصيصين: أحدهما فيها بالنسبة إلى ما لم يرد فيها من بعض أجناس نواقض الوضوء ممّا تقدّم ذكره، وثانيهما في المقيدات بالنسبة إلى ما ذكر وإلى ما عرفته من بعض أفراد الأجناس الثلاث الّذي هو معقد الإجماع على النقض به، وهذا كما ترى.

وكيف كان فيندرج في هذا المبحث عدّة مسائل:

الاولى: إذا خرجت الثلاث من الموضع الطبيعي المعبّر عنه بالمعتاد النوعي

فإن صادفه الاعتياد الشخصي أيضا كما هو الغالب من أفراده فالنقض به هو أظهر أفراد فتاوي الفقهاء ومعقد الإجماع ومورد النصوص المتقدّمة من مطلقاتها ومقيّداتها وحصول الإجماع فيه معلوم بالضرورة، وإن لم يصادفه الاعتياد الشخصي كما لو كان

ص: 313

المعتاد غيره أو خلق ذو الطبيعي بالغا كاملا فخرج منه أحد هذه الثلاث بأوّل مرّة بعد ما كان قد تطهّر لغاية مشروطة بالطهارة مثلا فالنقض به الّذي مبناه على عدم اعتبار الاعتياد الشخصي في المعتاد النوعي ممّا نصّ عليه جماعة وهو ظاهر إطلاق آخرين، وادّعى فيه الإجماع شارح الدروس(1) بالخصوص ويتناوله إطلاق الإجماعات المحكية الّتي منها ما عن الشيخ في قوله: «اتّفق المسلمون على أنّ خروج هذه ينقض الطهارة»(2).

وربّما يتمسّك له بإطلاق النصوص، وهو إنّما يتّجه ممّن لا يناقش في هذا الإطلاق كما هو الأصحّ فيما يأتي من المسألة الرابعة، وأمّا ممّن يناقش فيه ثمّة بدعوى انصرافها إلى المتعارف من الثلاث فليس في محلّه، لوضوح أن قضيّة الانصراف على تقدير صحّتها تقضي باعتبار الاعتياد الشخصي فيتّجه معه المصير إلى عدم النقض بمطلق الخروج من المعتاد النوعي ولو بأوّل مرّة، فإنّ المتعارف هو المعتاد النوعي المصادف له الاعتياد الشخصي.

وبعبارة اخرى: المعتاد المنصرف إليه الإطلاق على فرض صحّة هذه الدعوى ما اجتمع فيه الاعتيادان النوعي والشخصي، ومن هنا قد يقال: إن العمدة إذا الإجماع وهو غير بعيد، خصوصا بملاحظة أنّهم - كما في المعتبر والتذكرة(3) وغيرهما - يدّعون الإجماع أوّلا على الموضع الطبيعي ثمّ يذكرون غير المعتاد فيذكرون فيه ما يذكرون من النقض وعدمه والتفصيل بين الخارج من المعتاد وغيره أو الخارج ممّا دون المعدة وغيره، وإن كان قد يمكن الاسترابة والقدح في ذلك الإجماع بملاحظة أنّه ربّما يظهر من دروس الشهيد اعتبار الاعتيادين معا حيث قال: «ويجب الوضوء بالبول والغائط والريح من المعتاد طبيعيّا أو عرضيّا»(4) وعزي نحوه إليه في الذكرى والبيان(5) بعبارة: «اعتبار الاعتياد أصالة أو عروضا»، فإنّ قوله: «من المعتاد طبيعيا أو عرضيّا» في قوّة تقسيم المعتاد إلى الطبيعي والعرضي، ولا يجوز أن يكون المقسم هو

ص: 314


1- مشارق الشموس: 51.
2- نقله عنه في الذكرى 209:1.
3- 1 لمعتبر 106:1، التذكرة 99:1.
4- الدروس 87:1.
5- الذكرى 209:1، البيان: 5.

المعتاد النوعي، لوضوح أن غير الطبيعي ليس معتادا للنوع فيلزم انقسام الشيء إليه وإلى غيره، فتعيّن أن يراد به المعتاد الشخصي، ومفاد العبارة حينئذ إناطة الحكم بالاعتياد الشخصي ولو في الموضع الطبيعي، إلّا أن يؤول بحمل المعتاد على القدر الجامع بين المعتادين، وهذا مع بعده ممّا يخلّ بيقين الإجماع إلّا أن يدّعى على وجه لا يقدح فيه خروج مثل الشهيد.

وبعد اللتيّا والّتي فالعمدة لنفي اعتبار هذا النحو من الاعتياد هو إطلاق النصوص على الوجه الّذي سنقرّره، فالمعتمد حينئذ النقض بمطلق الخروج من الطبيعي ولو بأوّل مرّة منه.

الثانية: إذا اتّفق المخرج بحسب الخلقة الأصليّة في غير الموضع الطبيعي فالنقض بما يخرج منه ولو مرّة هو المعروف من مذهب الأصحاب،

وفتاويهم محصّلة ومحكيّة متطابقة عليه، بل لم نقف فيه على قائل بالعدم ويندرج في إطلاق دعاوي الإجماع الّتي منها ما عرفته عن الشيخ(1) بل جماعة من الأساطين كالعلّامة(2) وصاحب المدارك(3)وغيرهما صرّحوا فيه بالخصوص بالإجماع أو ما يرادفه.

وربّما استدل عليه كما عن العلّامة البهبهاني في شرح المفاتيح: «بأنّ ذلك لا يخرج المكلّف عن التكليف بالوضوء من الأحداث الإجماعية اليقينيّة»(4) فإن رجع إلى دعوى الإجماع على المسألة بخصوصها وإلّا اتّجه إليه المنع لعدم جدواه في مقام إحراز المقتضي الّذي فيه الكلام لا في المانع وجودا وعدما ليجدي ذلك في نفيه، واحتجّ له في المنتهى بعد الإجماع «بأنّه ممّا أنعم به»(5) وحكي نحوه عن المعتبر(6)ونفى عنه البعد شارح الدروس قائلا: ولا يبعد ادّعاء دلالة الروايات المذكورة عليه أيضا لصدق الطرفين اللذين أنعم الله بهما عليه. وزيّفه جماعة بما يرجع إلى ما أفاده بعض مشايخنا المعاصرين من أنّ ما دلّ على النقض بما يخرج من الطرفين اللذين أنعم الله بهما عليك مختصّ بطرفي المخاطب ومن كان مثله من الأفراد المتعارفة فلا يشمل غيره. ثمّ قال: فلا مستند للحكم عدا الإطلاقات بعد تنزيل القيود المذكورة في

ص: 315


1- المبسوط 27:1.
2- نهاية الإحكام 71:1. المنتهى 188:1.
3- المدارك 142:1.
4- مصابيح الظلام 101:3.
5- المنتهى 188:1.
6- المعتبر 107:1.

المفيّدات على الإشارة إلى الجنس وموضحا للمعهود المراد من الموصول دون المفهوم الكلّي الصادق على المخرج وغيره انتهى»(1).

ويمكن إصلاحه على وجه بإرجاعه إلى بيان ما يحرز به الصغرى يزعم أنّ الكبرى ممّا لا شبهة فيه لأحد، بتقريب: أنّ الموصول الوارد في المقيدات إنّما أريد به جنس الخارج من الطرفين المعنون بعنوان البول وأخويه من حيث إنّه هذا الجنس ولو باعتبار معهوديّته في الأذهان، لا من حيث خروجه من المخرج المعتاد للنوع المنصرف إليه إطلاق الطرفين المنعم بهما، فإنّ التعارف في المخرج لا يوجب انصراف الخارج إلى ذلك المتعارف بعد ما علم كون التعارف في نظر المتكلّم ولو بمعونة قرينة المقام من حيث تعرّضه لإعطاء قاعدة كلّيّة ملغى، فالحكم حينئذ منوط بعنوان هذه الأحداث الثلاث، ووصف الطرفين بكونهما منعما بهما إشارة إلى تعريف العنوان بما هو من أظهر صفاته، فإنّ النعمة الحقيقيّة المنعم بها على المكلّف إنّما هو خروج هذه الأحداث منه بما فيه من اندفاع الأذي، وكون الطرفين منعما بهما إنّما هو لأجل إنهما محلّ اندفاعها لا لأنفسهما.

ومحصّل التوجيه المقصود بالاحتجاج: أنّ خروج ما يخرج من المخرج المفروض ما يصدق عليه الخروج على أنّه نعمة أنعم بها عليه لمكان إنّه اندفاع للأذى فيكون بولا أو غائطا أو ريحا، لا بمعنى كون هذا الوصف مأخوذا في مفاهيم هذه العناوين باعتبار اللغة أو العرف، بل لكونه بالقياس إليها من باب الخواصّ اللازمة، فالتعليل بكون المخرج المفروض ما أنعم به عليه مرجعه إلى التعليل يكون خروج ما يخرج منه ما أنعم به عليه.

وملخّصه الاستدلال به على صدق عناوين الأحداث المذكورة على المفروض من باب الاستدلال على وجود الشيء بوجود ما هو من خواصّه، وهذا هو الوجه في ورود ذلك الوصف في كلام الإمام، فإنّه على ما بينّاه تعريف للجنس المراد من الموصول بما هو من خواصّه وإن كان ذلك الجنس باعتباره حقيقته الجنسيّة معهودا في الأذهان

ص: 316


1- مشارق الشموس: 51-53.

توكيدا في البيان ورفعا لما لعلّه يطرأ السامع من الغفلة عن حقيقة المراد، فليتأمّل.

الثالثة: إذا انسدّ الطبيعي فانفتح غيره فالكلام في النقض بما يخرج منه ولو في اوّل خروجه كسابقه،

ولم نقف فيه أيضا على مخالف وعليه الإجماع بالخصوص في المشارق(1) وغيره، ويندرج في إجماع العلّامة في المنتهى(2) المتقدّم ذكره في المسألة السابقة، ويظهر دعواه من البهائي في الحبل المتين(3) حيث إنّه - على ما حكي عنه - أسند الحكم إلى الأصحاب، ويجري فيه جميع ما تقدّم من الاحتجاج بكونه منعما به والاعتراض عليه بنحو ما مرّ، مضافا إلى ما قيل: من أنه من النقمة لا من النعمة، وإصلاحه بما. بدفع عنه ذلك الاعتراض حسبما بيّنّاه فراجع وتأمّل.

والعمدة في مستند الحكم مطلقات الأخبار وعدها مقيداتها بالتوجيه المتقدّم، ودعوى انصرافها إلى المتعارف وهذا ليس منه، غير مسموعة، لكونها بمكان من الوهن والسقوط.

وتوضيحه: أنّه يلاحظ في المقام أمور أربع: المخرج الذي متعارفه الموضع الطبيعي، والخارج الّذي هو الأحداث الثلاث ومتعارفه ما يفرض في الصفات اللاحقة بها والكيفيّات المضافة إليهما من الانجماد والميعان والألوان والرائحة الكريهة وغيرها، والخروج المضاف إلى ذلك الخارج من حيث أخذ صلة للموصول الوارد في مقيّدات الأخبار ومتعارفه كونه بمقتضى الطبيعة الحيوانية المنبعثة عن القوّة المودعة في الحيوان المعبّر عنها بالدافعة، وإسناد الناقضيّة إلى ذلك الخارج، وهذا بنفسه وإن كان لا ينقسم إلى متعارف وغير متعارف غير أنّ إطلاقه بمقتضى متفاهم العرف ينصرف إلى حالة الخروج لا ما هو مصرّح به في مقيّدات الأخبار وأخذ صلة للموصول الوارد فيها، بل ما هو مدلول التزامي عرفي لها يتأتّى الدلالة عليه باعتبار الإسناد، ولذا لا يتفاوت الحال في حصول تلك الدلالة بينها وبين المطلقات، فإنّ المنساق من الأخبار مطلقة ومقيّدة باعتبار لحاظ الإسناد إنّما هو حالة الخروج، وقضية ذلك كون الناقضيّة المسندة إلى الأحداث الثلاث مقيّدة بتلك الحالة فهي مضافة إلى هذه الأحداث مناط للحكم لا غير.

و إن شئت قلت: إنّ مناط الحكم أجناس هذه الأحداث في تلك الحالة لا مطلقا،

ص: 317


1- مشارق الشموس: 51.
2- المنتهى 188:1.
3- الحبل المتين 130:1.

بناء على أنّ التعارف في المراتب الثلاث الأولى لا حكم له في نظر العرف ولحاظ الإطلاق، ولا ينشأ منه انصراف حتّى بالنسبة إلى المخرج المعبّر عنه في مقيّدات الاخبار ب - «الطرفين» الموصوفين تارة بكونهما منعما بهما واخرى بالأسفلين. وثالثة بالوصفين معا.

والسرّ في ذلك أنّ المخرج بهذه العبارة ممّا اعتبر جزء من الصلة، ووظيفة الصلة في جميع مواردها كونها معرفة للموصول موضّحة للمراد منه، وقضيّة ذلك كونها مأخوذة في الكلام لمجرّد المرآتيّة لا من باب الموضوعيّة، كما يرشد إليه أيضا ما قرّره النحاة في جملة الصلة من عدّها من الجمل التي لا محلّ لها في الاعراب، فإنّ ذلك ممّا لا معنى له إلّا أنها لا تعتبر قيدا في الكلام لا للحكم الوارد فيه ولا لموضوع ذلك الحكم، وإذا لم تكن الصلة بنفسها معتبرة في موضوع الحكم ومناطه فالتعارف الملحوظ فيها و في متعلّقاتها أولى بعدم الاعتبار.

وبالجملة فالصلة إنّما تعتبر في الكلام لمجرّد الإشارة إلى ما أريد من الموصول، والمشار إليه هاهنا هو الجنس المعهود الحاضر في الأذهان باعتبار كونه هذا الجنس لا باعتبار خروجه من المخرج المعتاد، فلا تقييد في مقيّدات الأخبار بالقياس إلى متعارف المخرج، ولا بالقياس إلى متعارف الخروج من حيث إنه اخذ صلة، فمطلقاتها أولى بعدم التقييد بذلك لا باعتبار توهّم الانصراف فيها بانفسها ولا باعتبار توهّم التقييد في المقيّدات ولو من جهة الانصراف المتوهّم فيها.

ويتأكد ذلك بملاحظة أنّ الإمام عليه السلام بإيراد هذه الأخبار مطلقة ومقيدة كان بصدد إعطاء القاعدة الكلّيّة، ولا يتأتّى ذلك إلّا بإرادة الأحداث الثلاث بماهيّاتها الجنسيّة وإلّا لزم الإغراء بالجهل من حيث إنّه لا انصراف يوجب إفادة الخصوصيّة، لما عرفت من أنّ تعارف المخرج وغيره لا حكم له في نظر العرف على وجه أوجب فهم الخصوصيّة من جهته وعلم المتكلّم من المخاطب الاتّكال إليه.

نعم إنما يتقيّد ذلك الجنس بما يتقيّد به الإسناد من متعارف الخروج باعتبار أنّه مدلول التزامي لمطلقات الأخبار ومقيّداتها حسبما بينّاه، فإنّ المعهود لدى أهل العرف الحاضر في أذهانهم في لحاظ الإسناد المنصرف إليه إطلاق الحكم المتقيّد بحالة

ص: 318

الفروج إنّما هو الخروج بالنحو المتعارف، وهذا هو المعلوم من حال المخاطب وعلى المتكلّم تطبيق كلامه على ما يساعد عليه فهمه، ولا يعدل عنه إلّا بنصب دلالة والمفروض انتفاؤها، وعليه فلو ادخلت في جوف المتطهّر آلة جارحة فخرجت متلطخة لا نقض كما أنه كذلك لو خرجت إحدى الثلاث بأوّل حدوث الجرح والثقبة من دون أن يستند خروجه إلى الدافعة، بل وكذلك لو خرج شيء وشك في استناده إلى الدافعة أو الجارحة.

ومنه يظهر وجه ما في كلام جماعة من أساطين المتأخرين ومتأخّريهم من الحكم بعدم النقض فيما لو خرجت المقعدة متلطخة بالعذرة ثمّ عادت ولم ينفصل منها شيء، تعليلا بأنّ الاعتبار بمتعارف الخروج ومعتاده. فما في المدارك كما عن غاية المرام من احتمال النقض به أيضا عملا بعموم الأدلة(1) ليس على ما ينبغي، بل الّذي ينبغي المصير إليه هو عدم النقض في هذه الصورة ولو انفصل العذرة وسقط منها شيء على الأرض، إذ ليس متعارف الخروج مجرّد الخروج مع الانفصال كما يوهمه بعض العبارات، بل هو إذا استند إلى الدافعة.

ولا ينتقض ذلك بما يخرج بواسطة علاج خارجي من حقنة وغيرها ممّا هو متداول للتفتيح في المحتبس من غائط أو بول، لأنّ ذلك ليس اعتبارا لمقتضى الخروج وإعدادا للطبيعة للإخراج، بل هو رفع للمانع بعد ما كانت الدافعة مستعدّة للدفع، فالنقض به على القاعدة لاندراجه في الخروج المتعارف، والله العالم.

الرابعة: لو انفتح مخرج آخر بجرح ونحوه مع عدم انسداد الطبيعي

ففي النقض بما يخرج منه بولا أو غائطا وعدمه وجوه بل أقوال:

أحدها: النقض مطلقا، ذهب إليه ابن إدريس(2) على ما اشتهر منه، ونسب إلى العلّامة في التذكرة(3) واختاره غير واحد من مشايخنا المعاصرين(4) وهو الأقوى بعد مراعاة التسمية، مع القاعدة المشار إليها باعتبار اندراج المفروض في متعارف الخروج.

ص: 319


1- المدارك 143:1، غاية المرام 55:1-56.
2- السرائر 106:1.
3- التذكرة 99:1-100.
4- كتاب الطهارة للشيخ الانصاري 401:1.

وثانيها: عدم النقض مطلقا، ذهب إليه شارح الدروس(1) وجنح إليه صاحب الحدائق(2) واختاره المحقّق الشيخ عليّ في حواشي الشرائع(3) وقوّاه في الرياض(4).

وثالثها: النقض مع الاعتياد وعدمه لا معه، ذهب إليه العلّامة في المنتهى(5) كما عنه في المختلف والتحرير والقواعد(6) والمحقّق في الشرائع(7) كما عنه في المعتبر(8)والشهيد في الذكرى(9) كما عنه في الدروس(10) ويظهر من المدارك(11) كما حكي عن المحقّق والشهيد الثانيين في جامع المقاصد(12) والمقاصد العليّة(13) والبهائي في الحبل المتين(14) وفي الرياض: أنّه أشهر الأقوال(15) وفي الحدائق: أنّه المشهور(16) وفي الذخيرة: المشهور بين المتاخرين(17).

ورابعها: النقض إن خرج ممّا دون المعدة وعدمه إن خرج ممّا فوقها، ذهب إليه الشيخ في المبسوط والخلاف(18) وابن البرّاج في الجواهر(19) على ما حكي، ويظهر من الذخيرة الوقف في المسألة قائلا: «والمسألة عندي محل تردّد»(20).

حجّة الأوّل: على ما عزي إلى الحلّي(21) إطلاق قوله تعالى: أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغٰائِطِ (22) وإطلاق مطلقات الأخبار المتقدّمة، وربّما ايّد بالأصل وهو استصحاب اشتغال الذمّة بالعبادة المشترطة بالطهارة إلى أن يثبت رافعه وليس عند خروج المفروض إلّا الوضوء فيجب.

وقد يقال في تتميم الاستدلال بالآية: بأنّها وإن اختصّت بالتيمّم غير أنّ الفرق بينه وبين الوضوء في هذا الحكم منفيّ بالإجماع، مع أنّ الآية كأنّها دالّة على وجوب التطهّر بالماء حال وجوده.

ص: 320


1- مشارق الشموس: 51.
2- الحدائق 86:2.
3- حاشية الشرائع 39:1.
4- الرياض 86:1.
5- المنتهى 188:1.
6- المختلف 264:1، التحرير 7:1، القواعد 179:1.
7- الشرائع 17:1.
8- المعتبر 107:1.
9- الذكري 210:1.
10- الدروس 7:1.
11- المدارك 144:1.
12- جامع المقاصد 82:1.
13- المقاعد العلية: 65.
14- الحبل المتين 130:1.
15- الرياض 86:1.
16- الحدائق 87:2.
17- الذخيرة: 12.
18- المبسوط 27:1، الخلاف 115:1.
19- جواهر الفقه: 12.
20- الذخيرة 12:1.
21- السرائر 106:1.
22- النساء: 43.

أقول: أنت بعد ملاحظة ما أشرنا إليه من ضابط الواجب الغيري تعرف أنّ الشرطيّة الواردة في الآية الشريفة ليست على ظاهرها من إفادة السببيّة، بل إنّما هي لبيان موضوع الخطاب بالتيمّم وهو المحدث بالتغوّط الغير الواجد للماء.

وإن شئت قلت: إنّها مسوقة لإفادة الملازمة الغير السببيّة بين وجوب التيمّم ومجموع الأمرين نحو الملازمة المعتبرة فيما بين الحكم وموضوعه، فإنّ هذا الخطاب لا يتوجّه إلا إلى من اجتمع فيه وصفان:

أحدهما: ما هو عامّ لجميع الطهارات الثلاث وهو المحدثيّة.

وثانيهما: ما هو خاصّ بالتيمّم وهو عدم وجدان الماء، وعليه فلا حاجة في تتميم الاستدلال بالآية إلى الضميمة المذكورة، فإنّها بتقريب ما ذكرناه تدلّ بالالتزام على ناقضية التغوّط للوضوء بل مطلق الطهارة، وهو المطلب الأصلي المأخوذ عنوانا في أكثر اخبار الباب كأكثر عبائر الأصحاب ولم يتعلّق غرض بأزيد من ذلك، بل ولو عبّر في بعض الأحيان بوجوب الوضوء ونحوه عند طروّ بعض الأحداث - كما في بعض الأخبار. ككلام غير واحد من العلماء الأخيار - فإنّما هو لإفادة الناقضية المستلزمة للوجوب، ولا ينافيه كون المقصود بالأصالة في الآية تشريع حكم التيمّم لأنّه على ما عرفت لم يشرّع إلّا على تقدير تحقّق النقض بأحد أسبابه الّتي منها ما ذكر في الآية، فهي دالّة على حكمين تكليفي بالنسبة إلى التيمّم وضعي بالنسبة إلى الغائط، وبه يتمّ الاستدلال.

وكيف كان، فقد اعترض على الآية بأنّ الظاهر كون المراد بالغائط معناه الأصلي وهو الموضع المطمئنّ من الأرض، والمجيء منه كناية عن التغوّط أو أعمّ منه ومن البول، والظاهر كونه كناية عن التغوّط من الموضع الطبيعي لشيوعه وتبادره ولا دقلّ من عدم الظهور في الأعمّ منه فيصير الحكم مشكوكا.

وعلى الأخبار(1) تارة بالتقيّد لأجل الانحراف، واخرى بالتقييد بالمقيّدات، وثالثة بأن ليس المراد أنّ البول أو الغائط بنفسه ناقض بل المراد أنّ خروجه من المخرج

ص: 321


1- عطف على قوله: «فقد اعترض على الآية...».

المتعارف ناقض لظهورها فيه، كما يقال بظهور حرمة الاعيان في حرمة الفعل المتعارف المتعلّق بها، ولو لم يسلّم الظهور فلا أقلّ من الإجمال، وعلى التقديرين يسقط الاستدلال على الخروج مطلقا. ويدفع الجميع: منع إطلاق دعوى الانصراف في المطلقات، ومنع منافاة المقيّدات لها حيث لا تقييد فيها بانفسها على وجه لزم منه التنافي الموجب للحمل، ومنع استلزام ظهور اعتبار الخروج لاعتبار الاعتياد في المخرج، غاية ما هنالك انصراف الخروج المنصرف إليه الإطلاق إلى متعارفه المتقدّم ذكره، ولا ملازمة بين متعارف الخروج ومتعارف المخرج ليلزم من اعتباره اعتياده، وسند المنع في الجميع ما بيّنّاه مشروحا فلاحظ وتدبّر.

وبملاحظة بعض ما ذكر يتطرّق المنع إلى دعوى الانصراف أو الإجمال في الآية، فالاستدلال بها بظاهر الحال في محلّه. وبجميع ما ذكر - مضافا إلى ما مرّ في تحقيق معنى الحصر الوارد في الأخبار - سقط حجج القول الثاني الّتي منها: استصحاب الطهارة المقتضية لعدم وجوب الوضوء ثانيا.

ومنها: أنّ إطلاق الأوامر بالصلاة وغيرها من مشروط بالطهارة قاضي بصحّتهما مطلقة، خرج منها بعض الصور بالدليل ولا دليل على خروج ما نحن فيه، فيجب الحكم بالصحّة وعدم كون المفروض ناقضا.

ومنها: الحصر الوارد في جملة من الأخبار، فإنّ الظاهر منها غير ما نحن فيه فهي بظاهرها دالّة على عدم كون المفروض [ناقضا] بناء على ظهور الحصر في الحقيقي وحمله على الإضافي خلاف الأصل.

وامّا حجّة القول الثالث: فعلى ما قرّره الشهيد في الذكرى(1) أنّه مع العادة عموم الآية والحديث، وقول الصادق عليه السلام: «ليس ينقض الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك اللذين أنعم اللّه بهما عليك»(2) لتحقّق النعمة بهما، ومع الندور الأصل والخبر إذ ليس من الطرفين.

ولا يخفى أنّ التمسّك بعموم الآية والحديث متين، غير أنّه بناء على ما قرّرناه

ص: 322


1- الذكرى 210:1.
2- الوسائل 249:1/4، ب 2 نواقض الوضوء.

مرارا لا يتفاوت الحال بين صورتي العادة والندرة إن اعتبرنا بالقياس إلى المخرج كما هو ظاهر العبارة، لما عرفت من بطلان توهّم الانصراف إلى متعارف المخرج، كيف ولو بني على ذلك لامتنع شمولهما المفروض ولو مع تحقق العادة فيه، فإنّه عادة شخص والمتعارف المنصرف إليه الإطلاق لشيوعه وغلبة وجوده إنّما هو معتاد النوع الّذي تحقّق معه عادة الشخص وليس إلّا المخرج الطبيعي مع الاعتياد الشخصي.

وفيه ما فيه من مخالفته الإجماع حسبما عرفته في المسائل السابقة، فلا عبرة بالتعارف والاعتياد بالنسبة إلى المخرج، نعم لو اعتبرت العادة والندرة بالقياس إلى الخروج حسبما بيّنّاه فالتفصيل في محلّه، وعليه يعود الاختلاف بينه وبيننا لفظيّا، ويحتمله كلام الأكثر والقول المشهور المنسوب إليهم، وعليه ينبغي أن ينزّل إطلاق الحلّي وعليه يعود الاختلاف بينه وبين الأكثر لفظيّا، كما أنّ الاختلاف بينهم وبين الشيخ في الحقيقة لفظي، بمعنى رجوعه إلى الصغري وهي تسمية المفروض بولا أو غائطا إذا خرجت ممّا فوق المعدة وعدمها بعد الاتّفاق على الكبرى وهي أنّ كلّ ما يسمّي بهذين الاسمين ناقض للوضوء وإن خرج ممّا فوق المعدة، لا بمعنى أنّه لا نزاع في المعنى كما هو معنى لفظيّة النزاع بين الحلّي والأكثر، فإنّ الشيخ - على ما حكي عنه - لم يحتجّ على عدم النقض بما فوق المعدة إلّا بنفي التسمية، حيث قال في المبسوط: «الغائط والبول إذا خرجا من غير السبيلين من جرح وغيره فإن خرجا من موضع في البدن دون المعدة نقض الوضوء لعموم قوله تعالى: أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغٰائِطِ (1). وما روي من الأخبار (أنّ الغائط ينقض الوضوء)(2) يتناول ذلك، ولا يلزم ما فوق المعدة لأنّ ذلك لا يسمّى غائطا»(3) ووجّهه شيخنا البهائي كما عنه في الحبل المتين: «بأنّ غرض الشيخ أنّه إنما يسمّى غائطا بعد انحداره من المعدة إلى الأمعاء، وخلعه الصورة النوعيّة الكيلوسية التي كان عليها في المعدة، أمّا قبل الانحدار من المعدة فليس بغائط إنّما هو من قبيل القيء، وليس مراده وقوع المخرج فيما سفل عن

ص: 323


1- النساء: 43.
2- الوسائل 251:1 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 8
3- المبسوط 27:1.

المعدة وفيما علاها إذ لا عبرة بتحتيّة نفس المخرج وفوقيته، بل بخروج الخارج بعد انحداره عن المعدة أو قبل ذلك...» إلى آخر ما ذكره.

وعليه فما عن المعتبر من الاعتراض عليه: «بأنّ الغائط اسم للمطمئنّ ونقل إلى الفضلة المخصوصة، فعند هضم المعدة الطعام وانتزاع الأجزاء الغذائيّة منه يبقى الثقل، فكيف خرج تناوله الاسم، ولا اعتبار بالمخرج في تسميته»(1) لعلّه لا تعلّق له بما ذكره، فإنّ مآله على التوجيه إلى أنّ خروجه عمّا فوق المعدة أمارة على خروجه عمّا قبل الانحدار، ولازمه عدم تحقّق الهضم له حينئذ، فلا يكون غائطا بل هو بعد باق على كونه غذاء، فهو لا ينكر تناول الاسم على تقدير تحقّق الهضم الّذي يلزمه الخروج بعد الانحدار الّذي أمارته الخروج عمّا دون المعدة.

والأولى إرجاع الأمر إلى العرف، فما وقع عليه الاسم عرفا يجري عليه الحكم شرعا وإن خرج عمّا فوق المعدة، وما لم يقع عليه الاسم كذلك فلا يجري عليه الحكم شرعا وإن خرج عمّا دون المعدة، وعليه فلو اتّفق خروج الغائط مثلا من الفم كما قد يتّفق في بعض الأمراض - على ما قيل، وربّما قيل بكونه معتادا لشخص - يجري عليه حكم النقض إذا كان نفس الخروج بالنحو المتعارف، والله العالم.

الخامسة: حكم الريح حكم أخويه في جميع ما تقدّم،

وفي المشارق: «أنّه إذا خرج من الدبر الخلقي غير الطبيعي أو الغير الخلقي مع انسداد الطبيعي فالظاهر أنّ إيجابه الوضوء أيضا إجماعي كالبول والغائط». نعم فيه: «إنه إذا خرج مع عدم الانسداد فالظاهر أنّ الخلاف المتقدّم بين الشيخ وابن إدريس غير جار هنا، بل ظاهر السرائر عدم نقض الخارج من غير الدبر مطلقا»(2) انتهى محصّلا.

ثمّ في بعض النصوص المتقدّمة وصف الريح بسماع الصوت أو وجدان الرائحة، وفي معناه صحيحة معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام: «إنّ الشيطان ينفخ في دبر الإنسان حتّى يخيّل إليه أنّه خرج منه ريح، فلا ينقض وضوءك إلّا ريح تسمعها أو تجد ريحها»(3).

ورواية عبد الرحمن بن أبي عبدالله عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قلت له: «أجد الريح

ص: 324


1- الحبل المتين 130:1-131.
2- مشارق الشموس: 53.
3- الوسائل 246:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 3.

في بطني حتى أظنّ أنه قد خرجت، فقال: ليس عليك وضوء حتّى تسمع الصوت أو تجد الريح» ثمّ قال: «إنّ إبليس يجيء فيجلس بين إليتي الرجل فيفسو ليشككه»(1).

وفي المشارق: «ولم أقف في كلام الاصحاب على نصّ صريح في هذا الباب» لكن الظاهر أنّهم اكتفوا بحصول اليقين»(2) لكن في المدارك: «أنّ مقتضي الرواية أنّ الريح لا يكون ناقضا إلّا مع أحد الوصفين»(3).

وعن العلّامة البهبهاني في شرح المفاتيح: «واحتمل بعض المتاخرين كون الناقضيّة مشروطة بأحد الوصفين وأفتي بعض علماء زماننا بذلك على ما سمعت وليس بشيء لمكان الإجماع وعدم نقل خلاف من السلف ومن تقدّم من الفقهاء»(4) وفي كلام غير واحد حمل الروايات المقيّدة على صورة الاشتباه استظهارا له من الروايتين المذكورتين، وعليه فالوصف إنّما اعتبر أمارة لرفع الاشتباه لا جزء في الموضوع ومناطا للحكم ليلزم منه عدم النقض بفاقده ولو مع اليقين بخروجه عن حدّ الباطن، ولا يخلو عن قوّة بل هو كذلك عملا بإطلاق ما عدا المذكورات مع عدم تبيّن منافاة المقيّدات لها.

ويؤيّده المرويّ عن عليّ بن جعفر عن أخيه في كتاب المسائل قال: «سألته عن رجل يكون في صلاته فعلم أنّ ريحا قد خرجت ولا يجد ريحها ولا يسمع صوتها؟

قال: يعيد الوضوء والصلاة ولا يعتدّ بشيء ممّا قد صلّى إذا علم ذلك يقينا»(5).

و المرويّ عن الفقه الرضوي: «فإن شككت في ريح أنّها خرجت منك أو لم تخرج فلا تنقض من أجلها الوضوء إلّا أن تسمع صوتها أو تجد ريحها، فإن استيقنت أنها خرجت منك فأعد الوضوء سمعت وقعها أو لم تسمع، وشممت ريحها أو لم تشمّ »(6).

ثمّ ينبغي أن يعلم أنّ الريح الوارد في الأخبار ومعاقد الإجماع ليس المراد به مطلق ما يسمّى ريحا، كيف والضرورة قاضية بعدم النقض بما يخرج من الفم كالجشاء

ص: 325


1- الوسائل 246:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 5، وفي المصدر: «فيحدث» بدل «فيفسوا».
2- مشارق الشموس: 53.
3- المدارك 142:1.
4- مصابيح الظلام 98:3-99.
5- الوسائل 248:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 9.
6- المستدرك 227:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 2 فقه الرضا عليه السلام: 1.

المفسّر بصوت مع ريح يخرج من الفم، وربّما ادّعي الإجماع على عدم النقض به، بل المراد به النوع الخاصّ منه المعبّر عنه بالضرطة والفسوة، فإنّه الظاهر المنصرف إليه الإطلاق في نحو المقام، ولا سيما ورود ذكره مع البول والغائط الموجب لصراحة اللفظ فيه. وعليه فلو اتّفق خروج الريح من ذكر الرجل أو قبل المرأة مع عدم انسداد الطبيعي ففي لحوق الحكم به يعتبر صدق الاسم الخاصّ عليه لا الاسم العامّ ، ولا يعتبر فيه الاعتياد متى ما كان خروجه منهما بمقتضى الطبيعة الدافعة مراعاة لمتعارف الخروج المنصرف إليه الإطلاق. ولا عبرة معه حينئذ بما فصّل بين ذكر الرجل وقبل المرأة بالنقض في الفاني خاصّة، تعليلا بأنّ للفرج منفذ إلى الجوف فيمكن الخروج من المعدة إليه بخلاف الذكر. وعليه فلو دخل الهواء في قبل المرأة عند المجامعة وغيرها فاحتبس هناك إلى أن خرج بعد الغسل أو الوضوء أو في أثنائهما لم يوجب شيئا وإن كان له صوت. وعلى ما ذكرناه ينبغي أن ينزّل إطلاق ما عن المعتبر والتذكرة وشرح الموجز(1)من أنّ الريح الخارج من قبل المرأة ينقض، وما حكاه الشهيد في الدروس عن بعض بقوله: «وألحق بعض خروج الريح من الذكر»(2) ولعلّه المراد من الاعتياد المنقول اعتباره في الخارج منهما عن جماعة كالمحقّق والشهيد الثانيين في جامع المقاصد والمقاصد العلية(3) وغيرهما.

وفي المسألة قول بعدم الانتقاض بهما منقول عن السرائر والمنتهى والبيان والروض والحدائق والمشارق والعلّامة المجلسي(4) واختاره في الرياض(5) وعزي إلى ابنه. وعن العلّامة البهبهاني في شرح المفاتيح أنّه المشهور(6) والظاهر من الجميع الإطلاق، ومستنده الانصراف إلى الموضع الطبيعي وهو الدبر، وينبغي تخصيص كلامهم بما لو لم ينسدّ الطبيعي كما صرّح به بعضهم، والأقوى ما ذكرناه لعين ما تقدّم.

ص: 326


1- المعتبر 108:1، التذكرة 101:1، كشف الالتباس: 30.
2- الدروس 88:1.
3- جامع المقاصد 82:1، المقاصد العليّة: 65.
4- السرائر 107:1، المنتهى 188:1، البيان: 40، روض الجنان 72:1، الحدائق 90:2-91، مشارق الشموس: 53، البحار 214:77.
5- الرياض 195:1.
6- مصابيح الظلام 101:3.
المبحث الثاني في النوم الغالب على حاسّتي البصر والسمع بل العقل أيضا

واعلم أنّ النوم بحسب العرف من المفاهيم الواضحة الّتي لا حاجة لها إلى الشرح والبيان، ووصف الغلبة فيه على ما في عناوين الفقهاء ليس للاحتراز المقتضي لانقسامه إلى ما هو غالب وغيره، فإنّ ما ليس بغالب ليس نوما على وجه الحقيقة، وإن كان قد يطلق تسامحا على ما ليس منه من مبادئه، بل هو بيان لحقيقة النوم وإشارة إلى عدم إرادة ما يعمّه والمبادئ منه في عنوان البحث ومعقد الأدلّة، والمراد به استيلاؤه عليهما المتحقّق بزوال الإحساس عنهما الملازم لزوال إدراك القلب، بل النوم على ما يساعد عليه النظر يتحقق عند الأخير خاصّة المتأخر في الرتبة عن الأوّلين، كما ربّما يشير إليه قول مولانا الرضا عليه السلام في صحيحة محمّد بن عبيدالله وعبداللّه بن المغيرة: «إذا ذهب النوم بالعقل فليعد الوضوء»(1) ولعلّه لذا عبّر عن العنوان في المقنعة والمراسم(2)وغيرهما(3) - على ما حكي - بالنوم الغالب على العقل، والاكتفاء بالغلبة على الحاسّتين كما في كلام الأكثر(4) مبنيّ على توهّم التلازم بين زوال الإحساس عنهما بل عن السمع وحده وزوال إدراك القلب كما صرّح به جماعة.

وفيه نظر لما نجده بالعيان من أنّه كثيرا ما ينغمض العين في ابتداء النوم ويخفى الصوت على السمع والقلب بعد على إدراكه، وهذا سرّ ما ورد في صحيحة زرارة الآتية من قوله عليه السلام: «يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن، فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء»(5) إذ لولا ذلك لكان القلب ممّا لم يتعلّق بذكره كثير فائدة، وكأنّه لذا تنظر صاحب المدارك(6) فيما نقله عن جمع من الأصحاب من القول بأنّ السمع والبصر أعمّ الحواس إدراكا فإذا بطل إدراكهما بطل إدراك غيرهما بطريق أولى، فتأمّل(7).

ص: 327


1- الوسائل 2521 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 2.
2- المقنعة: 38، المراسم: 31.
3- كما في الخلاف 107:1.
4- كما في السرائر 107:1، روض الجنان 73:1، النزهة: 8، المنتهى 183:1.
5- الوسائل 245:1 الباب 1 من نواقض الوضوء ح 1.
6- المدارك 145:1.
7- وجه التأمّل: جواز كون المراد بغير السمع والبصر سائر الحواسّ الظاهرة لا ما يعمّ القلب (منه).

وإضافة النوم تارة بالإثبات إلى العين واخرى بالنفي إلى القلب والأذن وثالثة بالإثبات أيضا إلى جميع الثلاث في الصحيحة المذكورة ربّما يوهم كونه مقولا للجميع على جهة الاشتراك معنى، غير أنّه يزيّفه: صحّة السلب عمّا يعرض العين بل السمع فقط عرفا.

وعليه فكونه عبارة عن الحالة المزيلة باعتبار عروضها لمجموع الثلاث من حيث هو، وبعبارة اخرى: الحالة المتأكدة المتدرّجة المراتب التي ابتداؤها ما يعرض العين وانتهاؤها ما يعرض القلب، وإنّما يقال عليها النوم حقيقة عند كمالها لا مطلقا وإن شاع إطلاقها على غيرها من باب المجاز بالمشارفة ونحوه، أو هذه الحالة باعتبار عروضها القلب فقط وجهان، لا ينافي الصحيحة كغيرها من نصوص الباب شيئا منهما وإن كانت أظهر في أوّلهما، ولعلّه السرّ في عدم الاكتفاء فيها بنوم القلب، ويصلح ذلك وجها لما عرفته عن الأكثر من اعتبار الغلبة على الحاسّتين بناء على الملازمة المشار إليها.

وفي كلام غير واحد(1) اعتبار الغلبة تحقيقا أو تقديرا ليشمل فاقد الحاسّتين، وظنّي أنّه بعد اعتبار الغلبة على العقل أو البناء على الملازمة بينها وبين الغلبة على السمع ممّا لا حاجة إليه.

وكيف كان، فالنقض بالنوم ووجوب الوضوء معه بجميع أحواله من المشي والقيام والقعود والاضطجاع وأحوال الصلاة وغيرها ممّا لا إشكال فيه، والإجماعات المنقولة فيه بالغة حدّ التواتر، كما عن الخلاف والغنية والسرائر والانتصار والناصريات والتذكرة وشرح الموجز والذخيرة وشرح الإرشاد لفخر الإسلام وبعض شروح الرسالة الجعفريّة والحبل المتين(2) وعن أمالي الصدوق: «أنّه من دين الإماميّة الإقرار بأنّه لا ينقض الوضوء إلّا ما خرج من الطرفين من بول أو غائط أو ريح أو منيّ والنوم الغالب على

ص: 328


1- كما في شرح الألفيّه (رسائل المحقّق الكركي): 183، الذكرى 209:1، روض الجنان 73:1، الذخيرة: 13، جامع المقاصد 83:1.
2- الخلاف 107:1، الغنية: 36، السرائر 107:1، الانتصار: 30، الناصريّات: 222، التذكرة 1: 102، كشف الالتباس: 30، الذخيرة: 13، حاشية الارشاد للنيلي: 6 (مخطوط)، الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 1):83، الحبل المتين 135:1.

الحاسّتين من السمع والبصر ومزيل العقل»(1).

وفي التهذيب: «إجماع المسلمين على النوم الكثير المزيل للعقل»(2) وعن المنتهى نسبته إلى علمائنا(3) وفي المختلف: «اختاره الشيخ وابن الجنيد وأكثر علمائنا»(4).

وبالجملة لم يعرف في المسألة خلاف عدا ما نسب إلى الصدوقين في الرسالة(5)والمقنع(6) في مطلق النوم استظهارا له عن اقتصارهما عند ذكر النواقض على البول والمنيّ والغائط والنوم الظاهر في الحصر، وإلى الصدوق في الفقيه(7) في المجتمع خاصّة استظهارا له عمّا أورده فيه من روايتين أفتى بمضمونهما بمقتضى ما التزم به في أوّل الكتاب من أنّه لا يورد فيه إلّا ما يفتي به، إحداهما: ما عن سماعة بن مهران أنّه سأله عن الرجل يخفق رأسه وهو في الصلاة قائما أو راكعا؟ فقال: «ليس عليه وضوء»(8).

والثانية: ما رواه أنّه سأل موسى بن جعفر عليه السلام عن الرجل يرقد وهو قاعد هل عليه وضوء؟ قال: «لا وضوء عليه ما دام قاعدا إن لم ينفرج»(9) أو «ما لم ينفرج» على ما في محكيّ المختلف(10) وهو على النسختين إمّا قيد للقعود فيراد بالانفراج حينئذ استرخاء الأعضاء حال النوم في الجلوس، أو بيان له فيراد به الاسترخاء المستنبع للسقوط على الأرض، ولكن الظاهر وفاقا لجماعة عدم وقوع هذه النسبة في محلّها بكلا شقّيها.

أمّا الاولى: فلما يكشف عنه إجماع الأمالي الشامل لوالد الصدوق الّذي هو من رؤساء الإماميّة عند العامّة والخاصّة مع كون الصدوق أعرف بمذهب أبيه، فليس الحصر في كلامهما على حقيقته.

وأمّا الثانية: فلعدم مخالفة الروايتين للحكم المجمع عليه، فإنّ الخفق في أولاهما غير مندرج في النوم الناقض، بل هو على ما في كلام أهل اللغة تحريك الرأس بسبب النعاس، ويعضده ما في الصحيحة المتقدّمة من نفي الناقضيّة عن نوم العين الذي

ص: 329


1- أمال الصدوق: 514.
2- التهذيب 5:1.
3- المنتهى 193:1.
4- المختلف 255:1.
5- راجع المختلف 255:1.
6- المقنع: 4.
7- الفقيه 63:1.
8- الوسائل 255:1 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 12.
9- الوسائل 254:1 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 11.
10- المختلف 255:1.

لا ينطبق بمقتضى السياق إلّا على الخفقة والخفقتين، وثانيتهما على ما سنقرّره إرشاد إلى طريق عدم النوم، فالمسألة على الظاهر إجماعيّة عند أصحابنا.

نعم قد حدث للعامّة فيه مذاهب مختلفة «فروي عن أبي موسى وأبي مخلد وحميد الأعرج وعمرو بن دينار أنّ النوم غير ناقض أصلا، وعن مالك والأوزاعي أنّه إن كثر نقض وإلّا فلا، وعن أبي حنيفة وأصحابه أنّه لا وضوء من النوم إلّا على من نام مضطجعا أو متورّكا وكذا الشافعي»(1).

والأصل في المسألة بعد الإجماعات المذكورة النصوص المستفيضة بل المتواترة من الصحاح وغيرها.

منها: ما تقدّم في المبحث السابق من صحيحتي زرارة وروايتي الفضل والعلل.

ومنها: الصحيح المتقدّم إليه الإشارة عن محمّد بن عبيداللّه وعبدالله بن المغيرة قالا:

«سألنا الرضا عليه السلام عن الرجل ينام على دابّته ؟ فقال: إذا ذهب النوم بالعقل فليعد الوضوء»(2).

ومنها: صحيحة زرارة المتقدّم إليها الإشارة قال: قلت له: «الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن، وإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء. قلت: فإن حرّك إلى جنبه شيء ولم يعلم به ؟ قال: لا حتّى يستيقن أنه قد نام حتّى يجيء من ذلك امر بين...» إلخ(3).

ومنها: صحيحة إسحاق بن عبدالله الأشعري عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «لا ينقض الوضوء إلّا حدث والنوم حدث»(4) ومنها: موثقة ابن بكير قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام قوله تعالى: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ (5) ما يعني بذلك إذا قمتم إلى الصلاة ؟ قال: «إذا قمتم من النوم. قلت: ينقض النوم الوضوء؟ فقال: نعم إذا كان يغلب على السمع ولا يسمع الصوت»(6).

ص: 330


1- الخلاف 108:1.
2- الوسائل 252:1 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 2.
3- الوسائل 245:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 1.
4- الوسائل 253:1، الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 4.
5- المائدة: 6.
6- الوسائل 253:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 7.

ومنها: الحسن بل الصحيح على الصحيح عن عبد الحميد بن عواض عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: «من نام وهو راكع أو ساجد أو ماش على أيّ الحالات فعليه الوضوء»(1) وهذا كما ترى صريح في العموم على الوجه المتقدّم.

والمناقشة فيه كما في المشارق(2) باحتمال كون «الحالات» للعهد الذكري إشارة إلى الحالات المتقدّمة ليس بشيء.

ومنها: موثّقة سماعة قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل ينام وهو ساجد، قال:

ينصرف ويتوضّأ»(3).

ومنها: صحيحة زيد الشحّام قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الخفقة والخفقتين.

قال: ما أدري ما الخفقة والخفقتين ؟ إنّ اللّه تعالى يقول: بَلِ اَلْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (4) إنّ عليّا عليه السلام كان يقول: من وجد طعم النوم فإنّما أوجب عليه الوضوء»(5).

واعلم أنّ المستفاد من هذه الرواية وجملة اخرى ممّا ذكر وما لم يذكر بمقتضى ما فيها من السياق والأسئلة والأجوبة أنّ أصحاب الأئمّة عليهما السلام لشيوع إطلاق النوم في العرف والعادة على غيره من مبادئه كالنعاس ونحوه كانوا كثيرا مّا يحصل لهم الاشتباه إمّا من باب الشبهة الموضوعيّة المصداقية الراجعة إلى صغرى المسألة باعتبار الشك في تحقّق النوم المعلّق عليه [الحكم] في بعض الحالات أو صدقه على حالة مخصوصة كالخفقة ونحوها، أو الشبهة الموضوعيّة المفهوميّة الراجعة إلى كبرى المسألة باعتبار الشك في شمول الحكم لبعض ما ليس بنوم حقيقة بتخيّل إرادة ما يعمّه من إطلاقه على طريقة عموم المجاز كما هو متداول في العرفيّات.

وقد اشتملت الأسئلة الواردة في بعضها على كلتا الشبهتين، وفي الآخر على ما يتردّد بينهما، وظهور ثالث في الشبهة المصداقية، ورابع في المفهومية.

فمن الأوّل: صحيحة زرارة المتقدّمة لمساعدة صدرها على اشتباه الموضوع من حيث المفهوم أوّلا بالنظر إلى احتمال عموم المجاز التفاتا إلى شيوع إطلاقه على

ص: 331


1- الوسائل 253:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 3.
2- مشارق الشموس: 55.
3- الوسائل 253:1 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 5.
4- القيامة: 14.
5- الوسائل 254:1 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 8.

المبادئ، بقرينة ورود إطلاقه في السؤال على الخفقة والخفقتين مع تعرّض الجواب لبيان مناط الحكم الرافع للاشتباه المذكور، وعدم مساعدة الذيل إلّا على اشتباه الموضوع من حيث المصداق، على معنى تحقق ذلك المناط بعدم تفطنه على ما حرّك إلى جنبه وصدقه على الحالة الموجودة في الصورة المفروضة وكون ذلك طريقا إلى الحكم بهما وعدمه.

ومن الثاني: صحيحة زيد المتقدّمة فإنّ تمسّكه عليه السلام بقول الله عزّ و جلّ في الحقيقة إعطاء لطريق يحرز به الصغري، وإرشاد إلى كون النوم من الوجدانيّات الّتي تحرز بالوجدان لا بما فرض من عدم التفطّن على ما حرّك، كما أنّ تمسّكه بقول عليّ عليه السلام إعطاء لما يحرز به الكبرى وإرشاد إلى أنّ مناط الحكم هو النوم الّذي يدرك بالوجدان وليس ذلك إلّا من جهة أنّ سؤال الراوي بطبعه قابل لكلا الاشتباهين.

ومن الثالث: رواية بكر بن أبي بكر الحضرمي قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام هل ينام الرجل وهو جالس ؟ فقال: كان أبي يقول: إذا نام الرجل وهو جالس مجتمع فليس عليه وضوء، وإذا نام مضطجعا فعليه الوضوء»(1).

ومنه أيضا خبر أبي الصباح الكناني عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يخفق وهو في الصلاة ؟ فقال: إن كان لا يحفظ حدثا منه إن كان فعليه الوضوء وإعادة الصلاة، وإن كان يستيقن أنّه لم يحدث فليس عليه وضوء ولا إعادة»(2).

ومنه أيضا رواية الفقيه المتقدّمة حيث إنّ الإمام عليه السلام فيها وفي سابقيها إنّما تعرّض لإعطاء طريق يحرز به تحقّق النوم المعلّق عليه الحكم وطريق عدم تحقّقه، كما صنع ذلك في الصحيحتين بإناطة الأمر في الصحيحة الأولى إلى نفس اليقين، وفي معناها عموم رواية عبدالله بن بكير عن أبيه قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام: «إذا استيقنت أنّك قد أحدثت فتوضّأ، وإيّاك أن تحدث وضوء أبدا حتى تستيقن أنّك قد أحدثت»(3) وإحالته في الثانية إلى طريق الوجدان، وفي رواية بكر إلى الاجتماع حال الجلوس المقابل

ص: 332


1- الوسائل 2561 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 15.
2- الوسائل 253:1 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 6.
3- الوسائل 247:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 7.

لاسترخاء الأعضاء الّذي منه ما يحصل بالاضطجاع، فإنّ الأوّل طريق به يعلم [عدم] تحقّق النوم لما هو معلوم بحكم العادة من أنّ النوم حيثما استكمل اقتضى استرخاء أو سقوطا على الأرض المتضمّن للاسترخاء، كما أنّ الثاني طريق يقطع معه بتحقّقه.

وفي رواية أبي الصباح إلى عدم حفظ ما لو وقع منه من الحدث في حالة ما يتوهّم كونه نوما واليقين بعدم وقوعه في تلك الحالة، فإنّ الأوّل ما يقطع معه بكون الطاري نوما كما أنّ الثاني ما يقطع معه بعدم كونه نوما.

وفي رواية الفقيه إلى عدم الانفراج الّذي لا محمل له على تقدير كونه قيدا إلّا الاسترخاء، وعلى تقدير كونه بيانا إلّا السقوط على الأرض المتضّمن للاسترخاء، وهو على كلّ من التقديرين طريق يقطع معه بعدم كون الطارئ حال الجلوس نوما.

ولك إجراء هذه الطريقة في كلّ خبر يرد عليك ممّا هو من هذا القبيل، ومحصّل مفاد الجميع اعتبار اليقين في إحراز النوم ولو بمراعاة بعض الحالات الخارجة عن حقيقته التي هي أسباب عادية لإفادة اليقين به، فلم يقصد بشيء منها ما يقتضي انقسامه إلى ما هو ناقض وما ليس بناقض من التقييد المنافي لعموم أكثر ما تقدّم كما توهّم، بدعوى ورودها في الكلام على أنها قيود منوّعة، فإنّ اعتبار القطع بالشيء أو ما هو طريق إليه ليس تقييدا لذلك الشيء ما لم يكن اعتباره من باب الموضوعية، كيف والقطع بالشيء عبارة عن انكشاف واقع ذلك الشيء فلا يعقل كونه قيدا له، وليس هذا تأويلا في تلك الاخبار ونظائرها بل هو أخذ بظواهرها حسبما يساعد عليه سياقاتها ومتونها بمقتضى المتفاهم العرفي 0 فلا معارضة فيها لما تقدّم من العمومات ليضطرّ إلى العلاج بالقدح في أسانيدها وصدورها لشذوذ أو ضعف أو نحوهما، أو جهة صدورها بالحمل على التقية، أو دلالاتها بالتأويل، أو مراعاة قواعد الترجيح ومراجعة المرجّحات كما صنعه جماعة.

ومن الرابع: الموثقة المتقدّمة عن الفقيه أيضا التفاتا إلى الاكتفاء فيها بإعطاء الحكم أعني نفي الناقصيّة عن الخفق الّذي ليس بنوم من دون تعرّض لبيان ما يحرز به النوم ووجوده، وليس في شيء من نصوص الباب دلالة على كون ناقضية النوم ليست لنفسه بل من حيث احتماله خروج حدث آخر منه عنده، بل هي ظاهرة في استناد النقض إليه

ص: 333

نفسه كما أن بعضها صريح في حدثيته. فما نسب إلى العلّامة(1) من إبداء هذا الاحتمال أو اختياره ليس بسديد، كما أنّ توهّم الدلالة عليه من بعض ما تقدّم كرواية الفقيه ورواية بكير ورواية أبي الصباح بعد ملاحظة ما استظهرناه ليس بسديد، فلا حاجة لنفي هذا الاحتمال إلى اعتبار كون ذلك من باب الحكمة لا العلّة.

فالنوم بنفسه لا باعتبار غيره في جميع أحواله وبكافة أفراده ولو آنا مّا في موضع اليقين به ناقض للوضوء، فلو شك أو ظنّ لانقض جزما، كما أنّه لو تخايل إليه شيء لم يتبيّن كونه رؤيا أو حديث النفس لا نقض وفاقا لجامع المقاصد(2) ومحكيّ المشارق(3) عن تذكرة العلّامة(4) وغيرهما كما هو الحال في الأحداث الثلاث المتقدّمة، فلو شك في خروج شيء منها أو ظنّ به لانقض، كما أنّه لو خرج ما يتردّد بينها وبين غيرها لا نقض بل وكذلك لو ظنّ بكونه منها، ولو خرج ما قطع بعدم كونه بشيء منها فعدم النقض به واضح ما لم يكن مستصحبا لأحدها، فلا نقض بالدم الخالص غير الدماء الثلاثة، ولا بالريح المحتبس في المخرج كما قيل في قبل المرأة باعتبار أنه قد يدخله الهواء عند الجماع أو غيره فيحتبس فيه إلى أن يخرج منه بعد مدّة وقد يكون له صوت، ولا بالأجزاء الغذائية الغير المنهضمة ما لم يقع عليها اسم الغائط، ومنه بذور الخيار والبطيخ ونحوهما وقشور الماش والعدس وغيرهما مالم يخالطها العذرة ولو كانت برطوبة، ولا بماء الحقنة والأجزاء الداخلة في الجوف من فوق أو تحت وما أشبه ذلك ما لم تخالطها العذرة أيضا، ولا بالدود وحبّ القرع الّذي قيل فيه هو دود عريض يشبه حبّ القرع. وأمّا ما استصحبه فالأحوط حصول النقض به، بل هو الأقوى في حبّ القرع للموثّق عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سئل عن الرجل يكون في صلاته فيخرج منه حبّ القرع كيف يصنع ؟ قال: إن كان خرج نظيفا من العذرة فليس عليه شيء ولم ينقض وضوءه، وإن خرج متلطخا بالعذرة فعليه أن يعيد الوضوء، وإن كان في صلاته قطع الصلاة وأعاد الوضوء والصلاة»(5) وعليه يحمل ما ورد عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال في الرجل يخرج منه مثل حبّ القرع ؟ قال:

ص: 334


1- لم نعثر عليه.
2- جامع المقاصد 83:1.
3- مشارق الشموس: 56.
4- التذكرة 104:1.
5- الوسائل 259:1 الباب 5 من أبواب نواقض الوضوء ح 5.

«عليه وضوء»(1).

ثمّ إنّه قد بقي في المقام شيء ينبغي التعرّض له وإن كان خارجا عن المقصود وهو أنّه قد اورد على صحيحة إسحاق المتقدّمة المتضمّنة لقوله عليه السلام: «لا ينقض الوضوء إلّا حدث، والنوم حدث»(2) بعدم صحّة الاستدلال بها من حيث عدم اندراجها في شرائط إنتاج الأقيسة المنطقيّة، فإنّ الجزء الأوّل منها مشتمل على عقدين سلبي وهو:

«لا ينقض الوضوء غير حدث» وإيجابي وهو: «ينقض الوضوء حدث» وظاهر أنّ العقد الأوّل لا ينتج مع الجزء الثاني لعدم تكرّر الوسط، والحدث في العقد الثماني لكونه نكرة في سياق الإثبات ليس معناه إلّا فردا مّا، فهو حينئذ إمّا أن يقدّر كبرى والجزء الثاني صغرى لينظّم قياس بطريق الشكل الأوّل وهو قولنا: «النوم حدث، وحدث ينقض الوضوء» أو يقدّر صغرى والجزء الثاني كبري لينظّم قياس بطريق الشكل الثاني وهو قولنا: «ينقض الوضوء حدث، والنوم حدث» أو بطريق الشكل الرابع وهو قولنا:

«حدث ينقض الوضوء، والنوم حدث» وعلى كلّ من التقادير لا إنتاج، أمّا على الأوّل فلعدم كلّيّة كبراه، وأمّا على الثاني فلعدم اختلاف المقدّمتين في الكيف، وأمّا على الثالث فلعدم كلّيّة صغراه، وقد ذكروا في إصلاحه وجوها لا يخلو شيء منها عن شيء أو تكلّف بلا دليل.

والأولى أن يقال: إنّ إيراد الجزء الثاني عقيب الجزء الأوّل ينهض قرينة في نظر العرف والاعتبار على أنّ المراد من الحدث في العقد الإيجابي من الجزء الأوّل ما يندرج فيه النوم ليتعدّى منه الحكم إليه، وإلّا رجع مفاد الجزء الثاني إلى مجرّد بيان الفرديّة وهو في غاية البعد عن متفاهم العرف وعن وظيفة الإمام عليه السلام فينظّم القياس بطريق الشكل الأوّل المتضمّن لكلّيّة الكبرى ولو بالنظر إلى تعلّق الحكم بالطبيعة المقتضية لعموم السراية.

أو يقال: إنّ قوله عليه السلام: «لا ينقض الوضوء إلّا حدث» لكونه كلاما حصريّا في قوّة قوله: «حدث ينقض الوضوء لا غير حدث» فيكون على حدّ قولك: «رجل جاءني

ص: 335


1- الوسائل 258:1 الباب 5 من أبواب نواقض الوضوء ح 1.
2- الوسائل 253:1 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 4.

لا امرأة» المقتضي في متفاهم العرف لتوجّه الإثبات والنفي إلى الماهيّة خصوصا إذا كان الواقع في حيّز النفي منونّا فإنّه لصراحته في العموم ولو من باب السراية يصلح قرينة على اعتبار العموم في متحيّز الإثبات أيضا ولو من هذا الباب، فينظّم القياس أيضا بطريق الشكل الأوّل المشتمل على شرطه المذكور.

أو يقال: إنّ الحصر لظهوره في الحقيقي يكون مفاده نفي الحكم عن كلّ ما يغاير ماله الإثبات، فلو كان الإثبات لبعض أفراد الماهيّة على تقدير إرادة فرد مّا كما عليه مبنى الإشكال كان البعض الباقي من أفرادها مغايرا لما له الإثبات ولو في نظر الجعل والاعتبار، فإمّا أن يدخل في لحاظ المتكلّم حينئذ في النفي أو يهمل إثباتا ونفيا، والأوّل ينافي حكمة المتكلّم من حيث قصور عبارته المنفيّة عن تناوله، والثاني يخالف ظهور الحصر فينافي الحكمة أيضا، وصرفه إلى الإضافي لابدّ له من صارف هو مفقود في المقام، فيجب دخوله حينئذ في الإثبات ولو باعتبار تعلّقه بالماهية ليكون من لوازمها السارية إلى جميع الأفراد.

أو يقال: إنّ المنكر في العقد الإيجابي لوقوعه في حيّز الحكم الشرعي الوضعي لا بدّ أن يراد منه الجميع أو الماهيّة السارية إلى الجميع لفقد العهد وعدم فائدة مع الإيهام.

ودعوى كفاية الفائدة المعتدّ بها في العقد السلبي بالنظر إلى أنه يرفع الاختلاف الواقع في نقض بعض أفراد غير الحدث في أمثال المقام.

يدفعها: أنّ العقد الإيجابي لوروده بيانا لحكم شرعي لا بدّ له من فائدة لا تحصل إلّا بمعرفة موضوع ذلك الحكم كما هو واضح، وحيث لا عهد فيوجب عدمه اعتبار العموم ولو من باب السراية. ودعوي أنّ الإغراء بالجهل إنّما يلزم حيث لم يبين أصلا وأمّا إذا بيّن في موضع آخر فلا، إنّما تستقيم على تقدير كون المقام حين الخطاب مقتضيا للإجمال ولو من جهة عدم قيام حكمة داعية إلى البيان، وهو في نحو المقام ينفى بالأصل المتفق عليه عند الكلّ المعمول به في العرف والعادة كما هو واضح للمنصف.

ص: 336

المبحث الثالث في باقي النواقض

وهو أمران:

احدهما: مزيل العقل من اغماء أو جنون أو سكر كما عن الشيخ في المبسوط(1)وغيره(2) وعنه في النهاية كما عن المقنعة المرض المانع من الذكر كالإغماء(3) ومثله عن علم الهدى في المصباح(4) وعنه في جمل العلم: النوم وما أشبهه من الجنون والمرض(5) وعن ابن الجنيد كلّما غلب على العقل كالغشي والفزعه إذا تطاولت(6) وفي المشارق: والضابط زوال العقل(7) وعن أكثر العبارات كلّما أزال العقل، وفي المدارك:

هذا الحكم مجمع عليه بين أصحابنا(8) وعن الغنية والدلائل: إجماع الطائفة عليه(9)وفي التهذيب: إجماع المسلمين عليه(10) وعن الأمالي: أنّ الإقرار به من دين الإماميّة(11) وعن الخصال: أنّ من دين الإماميّة أنّ مذهب العقل ناقض(12) وعن النهاية أنّه نسبه إلى علمائنا(13) وعن المنتهى لا نعرف فيه خلافا بين أهل العلم(14) وعن العلّامة البهبهاني في شرح المفاتيح أنّ ناقضية السكر والجنون والإغماء إجماعيّة، بل نقل جمع منهم الإجماع ولم يشر أحد إلى تأمّل أحد في ذلك(15) وعن البحار أكثر الأصحاب نقلوا الإجماع على ناقضيته(16) وفي الحدائق «المشهور بل ادّعى عليه غير واحد من متأخري أصحابنا الإجماع [على] عدّ مزيل العقل من إغماء وسكر وجنون ونحوها في جملة الأسباب الموجبة للوضوء»(17) وعن التذكرة أنّه نسب الخلاف إلى الشافعي(18).

ص: 337


1- المبسوط 26:1.
2- كما في المعتبر 111:1.
3- النهاية 226:1، المقنعة: 38.
4- نقل عنه في المعتبر 111:1.
5- جمل العلم والعمل (المجموعة الثالثة): 25.
6- نقل عنه في المعتبر 111:1.
7- مشارق الشموس: 56.
8- المدارك 149:1.
9- الغنية: 487، نقل عن الدلائل في مفتاح الكرامة 162:1.
10- التهذيب 5:1.
11- الأمالي: 514.
12- لم نجد. في الخصال، حكاه عنه في مفتاح الكرامة 162:1.
13- نهاية الإحكام 69:1.
14- المنتهى 202:1.
15- مصابيح الظلام 110:3.
16- البحار 215:80.
17- الحدائق 104:2.
18- التذكرة 104:1.

فالأصل في المسألة هو الإجماع المعلوم بالنقل المستفيض المتأيّد بما عرفته عن التذكرة، وعدم التعرّض لذكرها في مختلف العلّامة مع كونه موضوعا لذكر خلافيّات الشيعة.

واستدلّ عليه أيضا: بأن النوم الّذي يجوز معه الحدث وإن قلّ يجب معه الوضوء فمع الإغماء والسكر أولى، وجعله في المدارك استدلالا من باب التنبيه(1) وعن المعتبر أنّه استدلال بالمفهوم لا بالقياس(2).

وبما دلّ على تعليق نقض النوم على ذهاب الّعقل كصحيحة زرارة المشتملة على قوله: «والنوم حتّى يذهب العقل»(3) وصحيحة ابن المغبرة المشتملة على قوله: «إذا ذهب (النوم) بالعقل»(4).

وبما روي في الصحيح عن معمّر بن خلّاد قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل به علّة لا يقدر على الاضطجاع والوضوء يشتدّ عليه وهو قاعد مستند بالوسائد، فربّما أغفي وهو قاعد على تلك الحال، قال: يتوضّأ. قلت له: إنّ الوضوء يشتدّ عليه، قال: إذا خفي عنه الصوت فقد وجب عليه الوضوء»(5).

وعن المعتبر أنّه بعد ذكر هذا الدليل قال: «لا يقال: صدر الحديث يتضمن الإغفاء وهو من أسماء النوم. لأنّا نقول: هذا اللفظ مطلق فلا يتقيّد بالمقدّمة الخاصّة»(6).

وهذا بهذا البيان كما ترى استدلال بما يرجع إلى الوجه السابق، نعم إنّما يغايره بتقريب ما ادّعى من ظهور الإكفاء في الإغماء بقرينة لفظة «ربّما» الّتي يغلب عليها التكثير كما صرّح به في مغني اللبيب(7) بل ذكر الشيخ الرضي رحمه الله(8) انّ التكثير صار لها كالمعنى الحقيقي والتقليل كالمعنى المجازي المحتاج إلى القرينة، وظاهره أنّ ما يتكثّر في حال المرض هو الإغماء لا النوم، هذا مع دلالة تتمّة الحديث الواردة في الكافي

ص: 338


1- المدارك 149:1.
2- المعتبر 111:1.
3- الوسائل 249:1 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 2.
4- الوسائل 252:1 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 2.
5- الوسائل 257:1 الباب 4 من أبواب نواقض الوضوء ح 1.
6- المعتبر 111:1.
7- مغني اللبيب: 180.
8- شرح الكافية 287:4.

عليه فقال: «يؤخّر الظهر ويصلّيها مع العصر يجمع بينهما وكذلك المغرب والعشاء»(1)فإنّها أيضا ممّا يشعر بتكثّر هذه الحالة وليست إلّا الإغماء.

وبما روي عن دعائم الإسلام عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهما السلام: «إنّ الوضوء لا يجب إلّا من حدث، وأنّ المرأ إذا توضّأ صلّى بوضوئه ذلك ما شاء من الصلاة ما لم يحدث أو ينم أو يجامع أو يغم عليه، أو يكون معه ما يجب منه إعادة الوضوء»(2).

وفي الجميع نظر.

أمّا في الأوّل: فلما قرّرناه من أنّ احتمال وقوع الحدث ممّا لا مدخل له في نقض النوم أصلا.

وأمّا في الثاني: فلما تقرّر من أنّ اعتبار ذهاب العقل مع النوم ليس إلّا لكونه محقّقا له في الخارج لا لأنّ النوم ناقض لأجله.

وبالجملة فرق واضح بين أخذ الشيء في موضوع حكم شرعي وبين اعتباره علّة لذلك الحكم، والاستدلال مبنيّ على الثاني ومفاد الأخبار الّذي يساعد عليه العرف والاعتبار هو الأوّل، وبينهما بون بعيد.

وأمّا في الثالث: فلابتنائه على مقدّمات - من ثبوت غلبة التكثير في «ربّما» ورجحان إرادته باعتبار الغلبة على ظهور إرادة النوم من الإغفاء باعتبار الوضع وأصالة الحقيقة، وتكثّر الإغماء في كلّ مرض، وقلّة النوم في كلّ مريض، وكون اعتبار الجمع بين صلاتي الظهر والعصر وصلاتي المغرب والعشاء بالتأخير لتكثّر وقوع تلك الحالة لا لمراعاة حال المريض الّذي يشتدّ عليه الوضوء لأجل مرضه كما يساعد عليه ظاهر السؤال وتسهيل الأمر عليه كما هو مقتضي سوق الجواب - كلّها ممنوعة على مدّعيها.

وأمّا في الرابع: فلعدم كون الكتاب المذكور من الكتب المعتبرة المعوّل عليها على ما نصّ عليه جماعة من أساطين الأصحاب، مع ما فيه من قصور الدلالة باعتبار كون مفاده أخصّ من المدّعي.

ص: 339


1- الكافي 37:3/14.
2- المستدرك 229:1 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 4، دعائم الإسلام 101:1.

وربّما يستند إلى طريق الاحتياط بعد تزييف الوجوه المذكورة كما في الحدائق(1).

ويدفعه: أنّ الاحتياط في نظائر المقام لا حكم له في مقابلة الاستصحاب والقاعدة المستفادة من بعض النصوص المتقدّمة من إناطة الأمر بالوضوء بيقين الحدث لا غير، فليتدبّر.

وثانيهما: الاستحاضة القليلة وهي الدم المعهود الّذي لا يثقب الكرسف، وقد تكرّر عليه نقل الإجماع واستفاضت فيه حكاية الشهرة، بل لم ينقل فيه خلاف عدا ما عن العمّاني(2) حيث لم يوجب به شيئا، وربّما يتوهّم من كلام من لم يذكرها في النواقض كالمراسم في موضعين منه، ويوهنه ما عنه في بحث الاستحاضة فذكر أنّها تجدّد الوضوء إذا لم يرشح الدم على ما تحتشي به(3). وما عن الإسكافي(4) حيث أوجب فيها غسلا في اليوم والليلة.

والمعتمد هو الأوّل للنصوص المستفيضة من الصحاح وغيرها الّتي ستقف عليها وعلى تفصيل المسألة في باب الاستحاضة إن شاء الله.

المبحث الرابع فيما ظنّ أو قيل بكونه ناقضا وليس كما ظنّ وقيل
اشارة

وهي أمور يتمّ البحث عنها بطيّ مسائل:

الأولى: لا ينتقض الوضوء بمذي ولا ودي ولا وذي بلا خلاف بين اصحابنا

عدا ما هو المعروف عن ابن الجنيد(5) في الأوّل إذا خرج عقيب شهوة استنادا إلى روايات، منها: ما عن عليّ بن يقطين في الصحيح قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن المذي أينقض الوضوء؟ قال: إن كان من شهوة نقض»(6).

ومنها: خبر الكاهلي قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن المذي فقال: ما كان منه بشهوة فيتوضّأ منه»(7).

ص: 340


1- الحدائق 107:2.
2- نقل عنه في المختلف 372:1.
3- المراسم: 31 و 40 و 44.
4- نقل عنه في المختلف 372:1.
5- نقل عنه في المختلف 261:1.
6- الوسائل 279:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 11 و 12.
7- الوسائل 279:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 11 و 12.

ومنها: خبر أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: «المذي الّذي يخرج من الرجل، قال: أحدّ لك حدّا؟ قال: قلت: نعم جعلت فداك، قال: فقال: إن خرج منك على شهوة فتوضّأ، وإن خرج منك على غير ذلك فليس عليك فيه وضوء»(1).

وفيه مع شذوذها بذهاب المعظم إلى خلافها واحتمالها الاستحباب أو خروجها مخرج التقية - ولو بإرادة خلاف ما يظهر منها أعني الاستحباب أيضا التفاتا إلى أنّ التقيّة فيها ليست إلّا قوليّة فتندفع بالتورية أيضا - معارض بمثلها، كالمرسل كالصحيح عن ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «ليس في المذي من الشهوة ولا من الإنعاظ، ولا من القبلة، ولا من مسّ الفرج، ولا من المضاجعة وضوء، ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد»(2) فيتساقطان ويبقى ما دلّ على المذهب المشهور سليما كالأصل، وعموم الأخبار المتقدّمة الحاصرة للناقض فيما تقدّم، وخصوص النصوص المطلقة من الصحاح وغيرها الدالّة بظهورها بل صراحتها على عدم النقض به، كالصحيح عن زيد الشحّام وزرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: «إن سال من ذكرك شيء من مذي أو ودي فلا تغسله، ولا تقطع له الصلاة، ولا ينقض الوضوء، إنما ذلك بمنزلة النخامة، كلّ شيء خرج منك بعد الوضوء فإنّه من الحبائل»(3).

والصحيح عن زيد الشحّام قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «المذي. ينفض الوضوء؟

قال: لا، ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد، إنّما هو بمنزلة البزاق والمخاط»(4).

والحسن عن زرارة عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إن سال من ذكرك شيء من مذى أو وذي وأنت في الصلاة فلا تغسله، ولا تقطع الصلاة، ولا تنقض له الوضوء وإن بلغ عقبك فإنّ ذلك بمنزلة النخامة، وكلّ شيء يخرج منك بعد الوضوء فإنّه من الحبائل أو من البواسير فليس بشيء فلا تغسله من ثوبك إلّا أن تقذره»(5).

ص: 341


1- الوسائل 279:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 10.
2- الوسائل 270:1 الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء ح 2.
3- الوسائل 277:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 2 و 5.
4- الوسائل 277:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 2 و 5.
5- الوسائل 276:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 2.

والحسن عن بريد بن معاوية قال: «سألت أحدهما عليهما السلام عن المذي ؟ فقال:

لا ينقض الوضوء، ولا يغسل منه ثوب ولا جسد إنّما هو بمنزلة المخاطة والبصاق»(1).

والحسن عن محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن المذي يسيل حتّى يصيب الفخذ؟ قال: لا يقطع صلاته ولا يغسله من فخذه، إنّه لم يخرج من مخرج المنّي، إنّما هو بمنزلة النخامة»(2).

والموثّق عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن المذي ؟ قال: إنّ عليّا عليه السلام كان رجلا مذّاء واستحيى أن يسأل رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم لمكان فاطمة عليهما السلام فأمر المقداد أن يسأله، وهو جالس فسأله، فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: ليس بشيء»(3).

وخبر ابن رباط عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «يخرج من الاحليل المنيّ والمذي والودي والوذي، فأمّا المنيّ فهو الّذي تسترخي له العظام ويفتر منه الجسد وفيه الغسل، وأمّا المذي يخرج من الشهوة ولا شيء فيه، وأمّا الودي فهو الّذي يخرج بعد البول، وأمّا الوذي فهو الّذي يخرج من الأدواء ولا شيء فيه»(4) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

نعم ربّما يوجد في النصوص ما يأمر بالوضوء مع المذي بقول مطلق كما في الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال: «سألت الرضا عليه السلام عن المذي فأمرني بالوضوء منه، ثمّ أعدت عليه في سنة أخرى فأمرني بالوضوء، وقال: إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام أمر المقداد بن أسود أن يسأل النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم واستحيى أن يسأله فقال: فيه الوضوء»(5).

والصحيح عن يعقوب بن يقطين قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يمذي وهو في الصلاة من شهوة أو من غير شهوة ؟ فقال: المذي منه الوضوء»(6) لكن المتعيّن إطراحه لشذوذه وكون ما تقدّم أصرح دلالة، أو حمله على الاستحباب جمعا أو على التقيّة لموافقته العامّة، فإنّ جميع فقهائهم أوجبوا منه الوضوء وغسل الثوب على ما نقل.

ص: 342


1- الوسائل 276:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 1.
2- الوسائل 277:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 3.
3- الوسائل 278:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 7 و 6.
4- الوسائل 278:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 7 و 6.
5- الوسائل 281:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 17 و 16.
6- الوسائل 281:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 17 و 16.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الوضوء عقيب خروج المذي من الوضوءات المندوبة كما تقدّم ذكره في محلّه وأفتى به جماعة من أساطين اصحابنا، بل عن البحار أنّه نسبه إلى الأصحاب(1).

ثمّ إنّ الكلام في المذي وأخويه موضوعا، فعلى ما تضمّنه خبر ابن رباط وفي معناه في المذي ما عن القاموس والصحاح من أنّه ما يخرج عند الملاعبة والتقبيل(2).

قيل: وهو المستفاد من المصباح المنير ونهاية إبن الأثير(3) وفي المجمع «هو الماء الرقيق الخارج عند الملاعبة والتقبيل والنظر بلا دفق وفتور وهو في النساء أكثر»(4).

وفي الوذي ما في المجمع من أنّه البلل اللزج الّذي يخرج من الذكر بعد البول(5)وفي معناهما ما في كلام كثير من الفقهاء.

نعم لا يساعد عليه في الوذي كلام أهل اللغة حيث لم ينقل عن أحد فيه شيء، ولم نقف منهم فيه إلّا على ما في المجمع وفاقا لما في كلام المحقّق الشيخ عليّ في شرح الشرائع(6) وما عن الصدوق في الفقيه(7) من أنّه ما يخرج عقيب إنزال المنيّ المخالف لما في الخبر.

وكيف كان فالأدواء جمع «داء» وهو المرض، فيكون المراد به على ما في الخر ما يخرج بسبب الأمراض، لكن عن بعض نسخ الاستبصار مكان الأدواء «الأوداج»(8)قال شارح الدروس: «وكأنّها اريد بها العروق مطلقا وإن كان الودج في الأصل عرق في العنق»، ثمّ قال: «ولعلّ هذا أنسب من الأوّل»(9).

الثانية: لا ينتقض الوضوء بالقبلة ولا مسّ القبل أو الدبر مطلقا،

وفاقا للأكثر المنقول على مذهبهم في الأوّل دعوى الإجماع عن ظاهر الغنية والتذكرة ونهاية الإحكام وجامع المقاصد(10) خلافا لابن الجنيد فيهما معا، فقال في الأوّل - على

ص: 343


1- البحار. 217:8.
2- القاموس 1747:2، الصحاح 2490:6.
3- المصباح المنير 9.:2، نهاية ابن الأثير 312:4.
4- مجمع البحرين 388:1.
5- مجمع البحرين 433:1.
6- شرح الشرائع 40:1.
7- الفقيه 66:1.
8- الاستبصار 95:1.
9- مشارق الشموس: 60.
10- الغنية: 35، التذكرة 107:1، نهاية الإحكام 74:1، جامع المقاصد 84:1.

ما حكاه في المختلف -: «من قبّل بشهوة للجماع ولذّة في المحرم نقض الطهارة، والاحتياط إذا كانت في محلّل إعادة الوضوء» وفي الثاني على ما في محكيّ المختلف أيضا: «من مش ما انضمّ عليه الثقبتان نقض وضوءه، ومسّ ظهر الفرج من الغير إذا كان بشهوة فيه الطهارة واجبة في المحلّل والمحرّم احتياطا، ومسّ باطن الفرجين من الغير ناقض للطهارة من المحلّل والمحرّم»(1) استنادا إلى خبر أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إذا قبّل الرجل المرأة من شهوة أو مسّ فرجها أعاد الوضوء»(2).

حجّة المختار - بعد الأصل والحصر المستفاد من النصوص المتقدّمة في النواقض الثلاثة أو الأربعة - صحاح مستفيضة:

منها: ما تقدّم في المسألة السابقة عن ابن أبي عمير المشتمل على قوله عليه السلام:

«ولا من القبلة ولا من مسّ الفرج...» إلخ(3) على تقدير عطف الإنعاظ وما بعده على المذي المحكوم عليه بالناقضيّة(4) وإن كان يبعّده الصدر المتضمّن للتعبير بكلمة «من» دون «في» والذيل المتضمّن للنهي عن غسل الثوب والجسد منه، فمفاد الرواية حينئذ عدم انتقاض الوضوء بالمذي المسبّب عن أحد هذه الاشياء، ويمكن إصلاحه بأنّ عدم وجوب الوضوء بنفس هذه الأشياء بظاهر السياق كان معلوما لدى الراوي مفروغا عنه بينه وبين الإمام عليه السلام وإنّما المحتاج إلى البيان المجهول عند الراوي حكم المذي المسبّب عنها فتصدّى الإمام عليه السلام لبيانه.

ومنها: الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ليس في القبلة ولا المباشرة ولا مسّ الفرج وضوء»(5).

ومنها: الصحيح عن الحلبي قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن القبلة تنقض الوضوء؟

قال: لا بأس»(6).

ومنها: خبر عبدالرحمن بن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن رجل مسّ فرج

ص: 344


1- المختلف 258:1-259.
2- الوسائل 272:1 الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء ح 9.
3- الوسائل 270:1 الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء ح 2 و 3.
4- كذا في الاصل، والأنسب بالسياق أن تكون العبارة هكذا: «المحكوم عليه بعدم الناقضية».
5- الوسائل 270:1 الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء ح 2 و 3.
6- الوسائل 271:1 الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء ح 5.

امرأته قال: ليس عليه شيء وإن شاء غسل يده، والقبلة لا تتوضّأ منها»(1).

وعليه فسقطت حجّة ابن الجنيد لشذوذها، بل لضعفها باشتمال سندها على «عثمان ابن عيسى» و «أبي بصير» أو لرجحان معارضها من وجوه شتّى مع احتمالها، فالمتعيّن حملها عليه(2) جمعا على تقدير سلامة السند، ولا يقدح فيه كونها أخصّ ممّا تقدّم لما اعتبر فيها من التقييد بالشهوة، لأنّ التخصيص إنّما يقدّم على المجاز إذا لم يطرأ الخاصّ ما يوهن دلالته، ولا ريب إنّ إعراض المعظم ممّا يوهنها فالمتعيّن حينئذ تقديم المجاز.

ولا يذهب عليك أنّ الروايات المذكورة بظاهرها بحكم الانصراف ولو بملاحظة حال الراوي والمرويّ عنه لا تشمل ما لو حصل القبلة أو مسّ الفرج على الوجه المحرّم في ذكر أو انثى، لكن في روايات حصر الناقض فيما تقدّم كفاية في ذلك ولا حاجة معها إلى دلالة اخرى إلّا لغرض المبالغة والتكثير في الأدلّة، وعليه فلا نقض بشيء من الأمرين حصلا على الوجه المحلّل أو المحرّم في ذكر أو انثى، ولا حكم للاحتياط في شيء من ذلك بعد قيام الدلالة على الخلاف.

الثالثة: لا نقض بمسّ باطن الدبر والإحليل أو فتحه على ما هو المشهور بين الأصحاب،

خلافا للصدوق في جميع ذلك قائلا في الفقيه: «وإن مسّ الرجل باطن دبره أو باطن إحليله فعليه أن يعيد الوضوء، وإن كان في الصلاة قطع الصلاة وتوضّأ وأعاد الصلاة، وإن فتح إحليله أعاد الوضوء والصلاة»(3) استنادا إلى ما رواه في الموثّق عن عمّار بن موسى عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «سئل عن الرجل يتوضّأ ثم يمسّ باطن دبره، قال: ينقض وضوءه، وإن مسّ باطن إحليله فعليه أن يعيد الوضوء، وإن كان في الصلاة قطع الصلاة ويتوضّأ ويعيد الصلاة، وإن فتح إحليله أعاد الوضوء وأعاد الصلاة»(4).

وهو مدفوع بما دلّ على المختار الراجح عليه من وجوه عديدة من الروايات المعتبرة الّتي منها: الموثّق عن سماعة قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل مسّ ذكره أو فرجه أو أسفل من ذلك وهو قائم يصلّى أيعيد وضوءه ؟ قال: لا بأس بذلك إنّما

ص: 345


1- الوسائل 271:1 الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء ح 6.
2- أي، فالمتعين حمل «أعاد» في خبر أبي بصير على المعنى المجازي و هو الاستحباب جمعا بين الأدلّة.
3- الفقيه 39:1.
4- الوسائل 272:1 الباب 9 من ابواب نواقض الوضوء ح 10.

هو من جسده»(1).

والرابعة: القهقهة والحقنة والدم الخارج من السبيلين إذا شك خلوّه عن النجاسة الناقضة من بول أو غائط عدا الدماء الثلاثة لا ينقض الوضوء على المشهور، بل الظاهر عدم الخلاف فيه عدا ما عزي إلى ابن الجنيد من المصير إلى النقض في جميع ذلك، استنادا في الأوّل إلى الموثّق قال: «سألته عمّا ينقض الوضوء؟ قال: الحدث تسمع صوته أو تجد ريحه، والقرقرة في البطن إلّا شيء تصبر عليه، والضحك في الصلاة، والقيء»(2) وفي الأخير - بعد ما سلّم عدم النقض بما علم خلوّه عنها - بأنّه بعد خروج الدم المشكوك في ممازجة النجاسة شاك في الطهارة، فلا يجوز له الدخول في الصلاة، لأنّ المأمور به الدخول بطهارة يقينية، وفيه من الفساد ما لا يخفى.

ومستنده في الثماني غير واضح ولا غير منقول، وفي الأوّل محجوج عليه بما دلّ على المختار من النصوص العامّة والخاصّة من الصحاح وغيرها المعتضدة بوجوه كثيرة، فلا ينبغي الالتفات إلى القول المذكور.

والخامسة. لا ينقض الوضوء بلمس المرأة، وقلم الظفر، وجزّ الشارب، ونتف الإبط، وحلق الشعر، والرعاف، والقيء، والتخليل المخرج للدم، والحجامة مع كراهة الطبع، وإنشاد الشعر، والكذب، والغيبة، والقذف، والظلم، والفحش، والردّة، وخروج المدّة والنخامة، والبصاق، والمخاط، وقتل البقّة والبرغوث والقمّلة والذباب، والقرقرة، وأكل ما مسّته النار، وأكل لهم الإبل، ولجم الجزور، وشرب الألبان، ومسّ الكلب والكافر، وغيرها. وكلّ ذلك للروايات المعتبرة من الصحاح وغيرها، مضافة إلى عمومات الحصر المعتضدة بالإجماعات المنقولة في أكثر هذه الأمور وعدم ظهور الخلاف في شيء من ذلك بين أصحابا، وللعامّة في كثير منها بل أكثرها قول.

لنا: بعد عمومات الحصر اخبار خاصّة من الصحاح وغيرها المنجبرة ضعفها لو كان بعمل الأصحاب، ولو وجد في اّخبار الأثمّة عليهما السلام ما يدلّ على النقض بشيء من ذلك فلا ينبغي الالتفات إليه لوجوه كثيرة.

ص: 346


1- الوسائل 272:1 الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء ح 8.
2- الوسائل 263:1 الباب 6 من أبواب نواقض الوضوء ح 11.

المقصد الثاني في آداب التخلّي

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأوّل في كيفيّته
وفيه مسألتان:
الاولى: يجب على المتخلّي بل المكلّف في مطلق أحواله حتّى غير حال الصلاة أن يستر عورته عن الناظر المحترم لا مطلقا.

فلا يجب في الخلوة بلا خلاف فيه يظهر بين أصحابنا عدا ما يوهمه ظاهر حكاية الشهيد في الذكري قائلا: «يجب الستر في غير الصلاة والطواف عن الناظر إجماعا، لقول النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: لعن الناظر والمنظور إليه(1)وعن زين العابدين عليه السلام قال: قال رسول الله: عورة المؤمن على المؤمن حرام(2) أمّا في الخلوة فلا يجب لقضيّة الأصل، ولانه لا ناظر فلا يتناوله اللعن. وقوله عليه السلام: لا تكشف فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميّت(3) محمول على الناظر، قالوا: الجن والملائكة ناظرون والله أحقّ أن يستحيى منه...»(4) إلى آخر ما ذكره(5).

وظاهر التعبير بالجمع أنّه قول لجماعة ولعلّهم من غير أصحابنا، ولو صحّ قولا فظاهر التعليل أنّه ليس خلافا في أصل المسألة من حيث إطلاق الحكم وتقييده

ص: 347


1- تحف العقول: 11، السنن الكبرى 99:7.
2- الفقيه 66:1/252، الكافي 497:6/8.
3- صحيح البخاري 78:1، سنن ابن ماجة 618:1/1920.
4- مسند أحمد 146:1، سنن ابن ماجة 469:1/1460.
5- الذكرى 6:3-7.

بالناظر كما توهّم، بل هو بعد مصير الكلّ إلى التقييد اختلاف في تعميم الناظر وتخصيصه، وعلى أيّ تقدير فلا ريب في شذوذ هذا القول وضعف مستنده فلا ينبغي الالتفات إليه.

نعم ربّما يستظهر القول بالإطلاق من إطلاق جملة من المتون كالشرائع(1)والنافع(2) والقواعد(3) والإرشاد(4) والتحرير(5) والألفيّة(6) وغيرها، وينبغي القطع بكونها منزّلة على التقييد لوضوحه وعدم الحاجة إلى التصريح بالقيد، والأصل في المسألة - بعد اتفاق الأصحاب كما في الذخيرة(7) وغيرها، بل قضاء العقل المستقلّ التفاتا إلى كون كشف العورة كالتأمّل فيها ممّا استقلّ العقل بقبحه - ظاهر الكتاب قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ (8) الآية ولو بضميمة ما ورد في تفسيره في المرسل على ما في الفقيه عن الصادق عليه السلام أنّه سئل عن قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ (9) فقال: «كلّما كان في كتاب اللّه تعالى من ذكر حفظ الفرج فهو من الزنا إلّا في هذا الموضع، فإنّه الحفظ من أن ينظر إليه»(10) المنجبر ضعفه من جهة الإرسال بالعمل، المتأيّد بما عن تفسير النعماني من رواية عليّ عليه السلام في قوله عزّ و جلّ : قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... الآية: «أنّ معناه لا ينظر أحدكم إلى فرج أخيه المؤمن، أو يمكنه من النظر إلى فرجه»(11).

ويدلّ عليه من السنة النصوص الواردة في الحمّام الآمرة بالاتّزار أو الدخول فيه بمئزر الّتي منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما قال: «سألته عن ماء الحمام ؟

فقال: ادخله بإزار ولا تغتسل من ماء آخر» إلخ(12).

ص: 348


1- الشرائع 19:1.
2- النافع: 5.
3- القواعد 180:1.
4- الإرشاد 221:1.
5- التحرير 62:1.
6- الألفية: 49.
7- الذخيرة: 15.
8- النور: 30.
9- النور: 30.
10- الوسائل 300:1 الباب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 3.
11- الوسائل 300:1 الباب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 5.
12- الوسائل 38:2 الباب 9 من أبواب آداب الحمّام ح 1.

ومنها: الصحيح أو ما هو كالصحيح عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام:

«يغتسل الرجل بارزا؟ فقال: إذا لم يره أحد فلا بأس».

ومنها: ما روي عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهما السلام قال: قيل له: إنّ سعيد بن عبدالملك يدخل مع جواريه الحمّام، قال: «وما بأس إذا كان عليه وعليهن الازر لا يكونون عراة كالحمير ينظر بعضهم إلى سوءة بعض»(1).

ومنها: ما رواه الصدوق في جملة من مناهي الرسول صلى الله عليه و آله وسلم قال: «إذا اغتسل أحدكم في فضاء من الأرض فليحاذر على عورته»(2).

ومنها: المرويّ عنه صلى الله عليه و آله وسلم أيضا قال: «يا عليّ إياك ودخول الحمّام بغير مئزر، ملعون ملعون الناظر والمنظور إليه، وقال: لا يدخلنّ أحدكم الحمّام إلّا بمئزر»(3).

وقد استدلّ عليه أيضا بالروايات الناهية عن النظر إلى عورة الغير، كما في الصحيح عن حريز عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه»(4) وفيه من الضعف ما لا يخفى، وأضعف منه تتميمه بتحريم الإعانة على الإثم كما في كلام جماعة»(5).

نعم يمكن إثبات الملازمة بين المنع من النظر والمنع من الكشف بنحو ما روي من قول عليّ بن الحسين عليه السلام لسدير لمّا دخل الحمّام بغير إزار: «ما يمنعكم من الإزار؟ فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال: عورة المؤمن على المؤمن حرام»(6) كما لا يخفى.

وربّما يوجد في النصوص ما ربّما يتوهم كونه منافيا للمذكورات في الدلالة على الحكم المذكور، كصحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن عورة المؤمن على المؤمن حرام ؟ فقال: نعم، فقلت: أعني سفليه، فقال: ليس حيث تذهب إنما هو إذاعة سرّه»(7).

ورواية حذيفة بن منصور قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «شيء يقوله الناس: عورة

ص: 349


1- الوسائل 43:2 الباب 11 من أبواب آداب الحمّام ح 2.
2- الوسائل 43:2 الباب 12 من أبواب آداب الحمّام ح 1.
3- الوسائل 299:1 الباب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 2 و 1.
4- الوسائل 299:1 الباب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 2 و 1.
5- كتاب الطهارة للشيخ 418:1.
6- الوسائل 39:2 الباب 9 من أبواب آداب الحمّام ح 4.
7- الوسائل 37:2 الباب 8 من أبواب آداب الحمّام ح 2.

المؤمن حرام على المؤمن ؟ فقال: ليس حيث يذهبون، إنّما عنى عورة المؤمن أن يزلّ زلّة، أو يتكلّم بشيء يعاب عليه فيحفظ عليه ليعيره به يوما»(1).

ورواية زيد الشحّام عن أبي عبدالله عليه السلام في عورة المؤمن على المؤمن حرام، فقال:

«ليس أن يكشف فيرى منه شيئا، إنما هو أن تزري عليه أو تعيبه»(2).

وفيه منع واضح، لعدم تعرّض هذه الروايات لعنوان المسألة وهو ستر الدورة المحكوم عليه بالوجوب وكشفها المحكوم عليه بالتحريم بنفي ولا إثبات، بل ولا تعرّض فيها لعنوان النظر إلى العورة المحكوم عليه بالتحريم في صحيحة حريز المتقدّمة وغيرها، وإنما هي متعرّضة لرواية سدير المتقدّمة من حيث اختلافهما في التفسير، ويمكن دفع المعارضة بينهما أيضا بجواز تكرّر صدور القضيّة فتارة من النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بإرادة معناها الظاهر وهو النظر إلى العورة، واخرى من الأئمّة عليهما السلام بإرادة خلافه ولو من باب الاستعارة وهو إشاعة السرّ وإفشاء العيوب الباطنيّة أو التعيير عليها، ويحتمل كونهما على تقدير الاتّحاد للمنع من جميع أنحاء ما يضاف إلى العورة من الأفعال المتعارفة كالنظر إليها وتتبّعها أو حفظها للإشاعة أو التعيير عليها وإفشائها أو التعيير عليها بعد التتبّع والحفظ، بناء على كون «العورة» للقدر الجامع بين الظاهرة والعيوب الباطنة، وضابطه ما يستنكف انكشافه ويستقبح تتبّعه والاطّلاع عليه وإفشاؤه، كما يرشد إليه التعبير عنها بالسوءة الّتي هي عبارة عمّا يسوء الإنسان انكشافه فيكون الروايات المذكورة ردّا لهم عمّا اعتقدوه من انحصار معنى القضيّة فيما فهموه أو انحصار المعنى المهمّ المراد باللفظ فيه فردّهم ببيان: أنّ المعنى المهمّ الّذي به كمال العناية هو إذاعة السرّ وإفشاء العيوب لا غير وإن كان غيره أيضا مرادا.

نعم في المحكيّ عن الفقيه(3) عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أنّه كره دخول الحمّام إلّا بمئزر، والمرويّ في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لعليّ عليه السلام قال: «إنّ اللّه كر. لأمّتي وعدّ خصالا - إلى أن قال -: وكره دخول الحمّام إلّا بمئزر»(4). وموثّقة ابن أبي يعفور قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام أيتجرّد الرجل عند صبّ الماء ترى عورته ؟ أو يصبّ عليه الماء أو يرى

ص: 350


1- الوسائل 37:2 الباب 8 من أبواب آداب الحمّام ح 1 و 3.
2- الوسائل 37:2 الباب 8 من أبواب آداب الحمّام ح 1 و 3.
3- الفقيه 60:1/225.
4- الوسائل 40:2 الباب 9 من أبواب آداب الحمّام ح 8.

هو عورة الناس ؟ قال: كان أبي يكره ذلك من كلّ أحد»(1) ما ظاهره المنافاة من حيث التعبير عن الحكم بلفظ «الكراهة».

وفيه - بعد الإغماض عن منع ظهور لفظ «الكراهة» في غير التحريم حيثما ورد في الأخبار -: أنّ المتعيّن حمله عليه جمعا لوجوه عديدة ترجّح التصرّف فيه، دون ما دلّ بظاهره على وجوب التستّر أو تحريم الكشف أو النظر. فما في المشارق: من أنّه لو لم يكن مخافة خلاف الإجماع لأمكن القول بكراهة النظر دون التحريم(2)ليس بسديد.

ثمّ الأقوى في العورة أنّها الدبر والقبل الّذي يدخل فيه الانثيان كما هو المشهور المنقول فيه دعوى الإجماع عن الخلاف والغنية والسرائر(3) المتأيّد بالاعتبار، وكلام المجمع العورة: القبل والدبر(4) كما عن ظاهر القاموس والمصباح(5) وبه روايات منجبر ضعفها بالشهرة العظيمة، كمرسلة يحيى الواسطي عن بعض اصحابه عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: «العورة عورتان القبل والدبر، والدبر مستور بالاليتين فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة»(6). وعن الكليني قال: وفي رواية اخرى: «فأمّا الدبر فقد سترته الإليتان، وأمّا القبل فاستره بيدك»(7). وفي رواية محمّد بن حكيم: «أنّ الفخذ ليست من العورة»(8).

وعن الصدوق قال: قال الصادق عليه السلام: «إنّ الفخذ ليس من العورة»(6). و المرويّ في الفقيه عن عبيدالله الواقفي قال: «دخلت حمّاما بالمدينة فإذا شيخ كبير وهو قيم الحمّام فقلت: يا شيخ لمن هذا الحمّام ؟ قال: لأبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام، فقلت: أكان يدخله ؟ قال: نعم، فقلت له: كيف كان يصنع ؟ قال: كان يدخل فيبدأ فيطلي عانته وما يليها، ثمّ يلفّ إزاره على أطراف إحليله ويدعوني فأطلي سائر بدنه. فقلت له يوما

ص: 351


1- الوسائل 332 الباب 3 من أبواب آداب الحمّام ح 3.
2- مشارق الشموس: 70.
3- الخلاف 394:1، المسألة 144، الغنية: 487، السرائر 260:1.
4- مجمع البحرين 416:3.
5- القاموس 624:1، المصباح المنير: 598. (6و7و8) الوسائل 34:2 الباب 4 من أبواب آداب الحمّام ح 2 و 3 و 1.
6- الوسائل 35:2 الباب 4 من أبواب آداب الحمّام ح 4.

من الأيّام: الّذي تكره أن أراه فقد رأيته ؟ قال: كلّا إنّ النورة سترته»(1).

خلافا للقاضي فقال: إنّها من السرّة إلى الركبة(2) والحلبي فقال: إنّها من السرّة إلى نصف الساق(3) وليس لهما إلّا عمومات النهي عن دخول الحمّام إلّا بمئزر، وروايات ضعيفة: كالمرويّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم «إنّ أسفل السرّة وقوق الركبة من العورة»(4)«والمروي عنه أيضا: إنّ الفخذ عورة»(5) و المرويّ عن الخصال في حديث الأربعمائة:

«إنّه ليس للرجل أن يكشف ثيابه عن فخذه ويجلس بين قوم»(6). و المرويّ عن الكافي عن بشير النبّال قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الحمّام ؟ فقال: تريد الحمّام ؟ فقلت: نعم، فأمر بإسخان الحمّام ثمّ دخل فاتّزر بإزار وغطّى ركبتيه وسرّته، ثمّ امر صاحب الحمّام فطلى ما كان خارجا من الإزار، ثمّ قال له: اخرج عنّي، ثمّ طلّى هو ما تحته بيده، ثمّ قال، هكذا فافعل»(7) و المرويّ عن قرب الاسناد عن الباقر عليه السلام: «إذا زوّج الرجل أمته لا ينظر إلى عورتها، والعورة ما بين السرّة والركبة»(8) والمرويّ . عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم:

«لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميّت»(9).

ويدفعها: وجوب التخصيص في العمومات، وإطراح ما عداها لضعفها ولو بإعراض المعظم عنها، أو حملهما على الاستحباب وفاقا لما عن الغنية والوسيلة: إنّ ما بين السرّة والركبة عورة يستحبّ سترها(10) وعن السرائر و المنتهى والتذكرة و المعتبر دعوي الإجماع على أنّ الركبة ليست من العورة(11) فالمسألة ممّا لا إشكال فيه بحمد اللّه سبحانه.

ثمّ إنّ مقتضي «عورة المؤمن على المؤمن حرام» اختصاص حرمة النظر بعورة المؤمن فخرج الكافر والمخالف، وهو ظاهر صحيحة حريز المتقدّمة لانتفاء المواخاة

ص: 352


1- الوسائل 29:2 الباب 1 من أبواب آداب الحمّام ح 2.
2- المهذّب 83:1.
3- الكافي في الفقه: 139.
4- سنن دار قطني 231:1، السنن الكبرى 229:2.
5- عوالي اللآلئ 189:1/270.
6- الخصال: 630/10، المستدرك 377:1 الباب 4 من أبواب آداب الحمّام ح 2.
7- الوسائل 35:2 الباب 5 من أبواب آداب الحمّام ح 1، الكافي 501:6/22.
8- قرب الاسناد: 103/345.
9- سنن أبي داود 40:4/4051.
10- الغنية: 493، الوسيلة: 89.
11- السرائر 260:1. المنتهى 237:1، التذكرة 445:2، المعتبر 122:1.

عمّا بين المؤمن وغيره. وليس في النصوص ما ينافيهما عدا عمومات النهي عن دخول الحمّام إلّا بمئزر، وإطلاقات النهي عن النظر، وربّما يتأيّد بظاهر إطلاق المشهور.

ويدفعه - بعد الإغماض عن ظهور ما ذكر في العموم على وجه يشمل المقام - أنّه قابل للتخصيص بما ذكر، مع عدم صراحة كلام المشهور في التعميم، فينزّل إطلاقه على المؤمن. وبهما يخصلى الله عليه و آله وسلم أيضا ما يدلّ بإطلاقه على المنع في المسلم المتناول للمخالف أيضا، كمرسلة ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل نظرك إلى عورة الحمار»(1) و المرويّ عن الفقيه عن الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّما أكره النظر إلى عورة المسلم، فأمّا النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار»(2).

نعم مقتضي إطلاق جميع ما ذكر عموم حرمة النظر لعورة البالغ وغيره كعموم وجوب الستر عن البالغ وغيره، ويدلّ عليه أيضا إطلاق رواية محمّد بن جعفر عن بعض رجاله عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله: «لا يدخل الرجل مع ابنه الحمّام فينظر إلى عورته» وقال: «ليس للوالدين أن ينظرا إلى عورة الولد، وليس للولد أن ينظر إلى عورة الوالد»(3).

و يدلّ على أحد الحكمين رواية سهل قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: «لا يدخل الرجل مع ابنه الحمّام فينظر إلى عورته»(4) نظرا إلى الاحتمالين في الضميرين، وهاتان الروايتان وإن اختصّتا بالولد ووالده لكن يتمّ المطلب في غيرهما بطريق الفحوى، لكن ينبغي نخصيصهما كغيرهما من المطلقات بالطفل الغير المميّز ناظرا كان أو منظورا إذ لا منع فيه بالنظر إلى السيرة القطعيّه، وفي كلام بعضهم إلحاق المجنون به فلا يجب التستر عنه كما لا يحرم النظر إلى عورته، وهو غير واضح الوجه عدا منع شمول أدلّه المنع عن الكشف له والنظر إليه فيرجع إلى الأصل المقتضي لكون سبيله سبيل الحمار.

ويمكن القول بأنّ في الخبرين المتقدّمين الدالين على الجواز في الحمار إشعارا

ص: 353


1- الوسائل 35:2 الباب 6 من أبواب آداب الحمّام ح 1.
2- الوسائل 36:2 الباب 6 من أبواب آداب الحمّام ح 2.
3- الوسائل 56:2 الباب 31 من أبواب آداب الحمّام ح 1 و 2.
4- الوسائل 56:2 الباب 31 من أبواب آداب الحمّام ح 1 و 2.

بذلك فيه، والمسألة غير خالية عن الإشكال وطريق الاحتياط واضح.

نعم ينبغي أن يستثنى عن المنع بالنسبة إلى الناظر والمنظور إليه الزوجة والمملوكة الخالية عن مانع الاستمتاع، للأصل والسيرة المعلومة والمرويّ في النبويّ : «احفظ عورتك إلّا من زوجتك أو ما ملكت يمينك»(1) ومفهوم المرويّ في حديث المناهي وقال: «من تأمّل عورة أخيه المسلم لعنه سبعون ألف ملك، ونهى المرأة أن تنظر إلى عورة المرأة» وقال: «من نظر إلى عورة أخيه المسلم أو عورة غير أهله متعمّدا أدخله الله مع المنافقين الّذين كانوا يبحثون عن عورات الناس، ولم يخرج من الدنيا حتى يفضحه اللّه إلّا أن يتوب»(2).

لكن ربّما يخدشه في الجملة ما تقدّم في الرواية من قضيّة سعيد بن عبدالملك، وينبغي حملها على ما لو كانت الجواري مزوّجات جمعا أو حمل البأس المنفيّ على الكراهة وإن كانت الرواية مع ذلك تسقط عن أدلّة أصل المسألة.

وبما ذكر مضافا إلى عموم ما تقدّم يعلم حرمة النظر على النسوان أيضا بل عمومها الممسوح والخنثى مطلقا كالذكر والانثى مطلقا ناظرين كانا أو منظورا إليهما.

ثمّ إنّ مقتضي ورود حكم الستر في الآية بعبارة الحفظ وجوب الستر في كلّ موضع لا يأمن عن وجود الناظر فيه، سواء علم بوجوده أو ظن به بل احتمل ولو مرجوحا إذا كان عقلائيّا. فالاقتصار على صورة العلم تمسّكا بالأصل وعدم انصراف إطلاق ما دلّ على الستر إلى غيرها كما عن بعض الأجلّة ليس على ما ينبغي.

نعم إنما يحسن الاقتصار عليها في مسالة النظر، فلا يحرم الوقوف من دون غضّ في موضع لا يأمن من وقوع النظر على العورة المحرّمة للأصل. وإطلاق الأمر بغضّ البصر آية ورواية كقوله عليه السلام: «أدخله بمئزر وغضّ بصرك»(3) بعد القطع بورود المقيّد غير مجد.

ص: 354


1- سنن أبي داود 4:4/417، السنن الكبرى 199:1.
2- الوسائل 299:1 الباب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 2.
3- الوسائل 218:1 الباب 11 من أبواب الماء المضاف ح 1.

ثمّ إنّ ستر العورة إنما يجب حيث تمكن الناظر [المحترم](1) من النظر إليها، فلو كان في ظلمة مانعة عن النظر ونحوها سقط عنه وجوب الستر. والمعتبر في الستر الواجب عند التخلّي جلوسه على وجه لا يرى عورته لا إلقاء الساتر عليه، وأمّا عند غيره ففي كفاية ساتر ظاهر البشرة وإن تبيّن الحجم على معنى شكل العورة على ما هي عليه كما رجّحه غير واحد من مشايخنا(2) وعزى إلى ظاهر جماعة أو وجوب ستر الحجم كما عن المحقّق الثاني(3) وغيره وجهان: من صدق قضيّه قوله عليه السلام: «إذا سترت القضيب والأنثيين فقد سترت العورة»(4) مع تحقّق ساتر البشرة دون الحجم، ومن صدق النظر إلى العورة مع النظر إلى الحجم ومنع انصراف إطلاق الستر إلى ما لا يستر الحجم، وهو الأقوى لقاعدة الشغل المقتضية ليقين البراءة، وعليه فلو ألقى عليها ثوبا رقيقا يحكي برقّته الحجم لم يخرج عن عهدة التكليف ولا يقدح فيها رواية الواقفي المتقدّمة المذيّلة بقوله: «فقلت له يوما من الأيّام: الّذي تكره أن اراه فقد رأيته ؟ قال: كلّا إن النورة سترته»(5) ومرسلة محمّد بن عمر عن بعض أصحابنا قال: كان أبو جعفر عليه السلام يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمّام إلّا بمئزر، قال: فدخلت ذات يوم من الأيام الحمّام فتنوّر فلمّا أطبقت النورة على بدنه ألقى المئزر، فقال له مولى:

بأبي أنت وامّي إنّك لتوصينا بالمئزر ولزومه وقد ألقيته عن نفسك ؟ فقال: أما علمت أنّ النورة أطبقت العورة»(6) لعدم ظهور جابر لهما من هذه الجهة، مع احتمالهما كثرة النورة على وجه ألصق القضيب بالبيضتين حتّى صار المجموع مع النورة شيئا واحدا على شكل غير شكل العورة.

الثانية: يحرم على المتخلّي في بول أو غائط في الصحاري أو البنيان استقبال القبلة واستدبارها عينا وجهة
اشارة

كما هو المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا، المنسوب إلى الشيخ في المبسوط والخلاف وابني إدريس والبرّاج وابن زهرة(7) وهو خيرة

ص: 355


1- وفي الأصل «المحرم» بدل «المحترم» وهو سهو من قلمه الشريف، والصواب ما اثبتناه في المتن.
2- الجواهر 2:2.
3- جامع المقاصد 99:1.
4- الوسائل 34:2 الباب 4 من أبواب آداب الحمّام ج 2.
5- الوسائل 53:2 الباب 18 من أبواب آداب الحمّام ح 1 و 2.
6- الوسائل 53:2 الباب 18 من أبواب آداب الحمّام ح 1 و 2.
7- المبسوط 16:1، الخلاف 101:1، السرائر 95:1، المهذب 41:1، الوسيلة: 47.

المحقّق في كتبه الثلاث(1) والعلّامة في المنتهى والقواعد والإرشاد والمختلف(2)وغيرها، وكاشف اللثام والمحقّق الثاني في شرحيهما للقواعد(3) والشهيد في الذكرى والدروس واللمعة والسجّد في الرياض(4) بل عن الخلاف والغنية عليه الإجماع(5) خلافا لصاحب المدارك وشارح الدروس فذهبا إلى الكراهة مطلقا استضعافا لأدلّة الحرمة سندا ودلالة(6) ونسب ذلك أيضا إلى المحقّق الأردبيلي وصاحب المعالم والمحدّث الكاشاني(7) وربّما عزي ذلك إلى ابن الجنيد لكن عبارته المنقولة في المختلف وغيره - «يستحبّ للإنسان إذا أراد التغوّط في الصحراء أن يتجنّب استقبال القبلة والشمس والقمر»(8) - ليست متعرّضة للبنيان، ولعلّ العموم مستفاد من تلك العبارة بطريق الفحوى وإن أمكنت منعه بجواز مصيره في البنيان إلى الإباحة دون الكراهة، فيكون مذهبه الكراهة في الصحراء والإباحة في غيرها.

وربّما نسب ذلك إلى المفيد(9) بل جزم به العلّامة في المختلف فإنّه بعد ما نقل عنه العبارة الّتي ستقف عليهما قال: «وهذا الكلام يعطي الكراهة في الصحاري والإباحة في البنيان»(10) لكن أنت إذا تأمّلت في عبارته في المقنعة: «ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولكن يجلس على استقبال المشرق إن شاء والمغرب» ثمّ قال بعد ذلك:

«وإذا دخل الإنسان دارا قد بني فيها مقعدة للغائط على استقبال القبلة أو استدبارها لم يضرّه ذلك، وإنّما يكره ذلك في الصحاري والمواضع الّتي يمكن فيها الانحراف عن القبلة»(11) تعلم أنّها أظهر في المذهب المشهور بل لا ظاهر لها سواه.

ويظهر من العبارة المنقولة عن السلّار التفصيل ففي الصحاري الحرمة والبيان الكراهة، حيث قال - على ما في المختلف وغيره -: «وليجلس غير مستقبل القبلة

ص: 356


1- الشرائع 19:1، النافع: 45، المعتبر 122:1.
2- المنتهى 238:1، القواعد 180:1، الإرشاد 221:1، المختلف 265:1.
3- كشف اللثام 215:1، جامع المقاصد 99:1.
4- الذكرى 163:1، الدروس 88:1، اللمعة: 4، الرياض 92:1.
5- الخلاف 101:1، الغنية: 487.
6- المدارك 157:1، مشارق الشموس: 70.
7- مجمع الفائدة 89:1، معالم الدين 44:1، مفاتيح الشرائع 43:1.
8- المختلف 266:1.
9- المقنعة: 41.
10- المختلف 265:1.
11- المقنعة: 41.

ولا مستدبرها، وإن كان في موضع قد بني على استقبالها أو استدبارها فلينحرف في قعوده، هذا إذا كان في الصحاري والفلوات، وقد رخّص ذلك في الدور، وتجنّبه أفضل»(1).

وقد علم أنّ أقوال المسألة ثلاثة أو أربعة بناء على احتمالي كلام ابن الجنيد.

حجّة المشهور: روايات كالنبوي صلى الله عليه و آله وسلم: «إذا أتى أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولّيهما ظهره»(2).

وخبر عيسى بن عبدالله الهاشمي عن أبيه عن جدّه عن علي عليه السلام قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم:

«إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولكن شرّقوا أو غرّبوا»(3).

ومرفوعة عبد الحميد بن أبي العلاء وغيره قال: «سئل الحسن بن عليّ عليه السلام ما حدّ الغائط؟ قال: لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها»(4).

ومرفوعة محمّد بن يحيى قال: «سئل أبو الحسن عليه السلام ما حدى الغائط؟ قال:

لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها»(3).

ومرفوعة عليّ بن إبراهيم قال: «خرج أبو حنيفة من عند أبي عبدالله عليه السلام وأبو الحسن عليه السلام قائم وهو غلام، فقال له أبو حنيفة: أين يضع الغريب ببلدكم ؟ فقال:

اجتنب أفنية المساجد وشطوط الأنهار ومساقط الثمار ومنازل النزّال، ولا تستقبل القبلة بغائط ولا بول، وارفع ثوبك وضع حيث شئت»(4).

وخبر حسين بن زيد عن الصادق عليه السلام عن آبائه أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قال - في حديث المناهي -: «إذا دخلتم الغائط فتجنّبوا القبلة»(7) قال: «ونهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عن استقبال القبلة ببول أو غائط»(8).

واستدلّ أيضا بأنّها محلّ التعظيم ولهذا وجب استقبالها في الصلاة فناسب تحريم استقبالها بالحدث كما حرّم عند الجماع بل لعن فاعله، وكذا حرّم عنده استدبارها، ولأنّ فيه تعظيما لشعائر اللّه.

ويؤيدهما الخبر: «إذا أراد البول والغائط فلا يجوز له أن يستقبل ولا يستدبر،

ص: 357


1- المختلف 265:1، المراسم: 32.
2- التذكرة 1؛ 118، صحيح البخاري 48:1. (3و4و7و8) الوسائل 302:1 الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 5 و 6 و 3 و 4.
3- الوسائل 301:1 الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 2 و 1.
4- الوسائل 301:1 الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 2 و 1.

والعلّة في ذلك أن القبلة أعظم آية للّه وأجلّ حرمة فلا يستقبل بالعورتين لتعظيم آية الله وحرم الله وبيت الله»(1).

وحسنة محمّد بن إسماعيل قال: «دخلت على أبي الحسن الرضا عليه السلام وفي منزله كنيف مستقبل القبلة، وسمعته يقول: من بال حذاء القبلة ؟ ثمّ ذكر فانحرف عنها إجلالا للقبلة وتعظيما لها، لم يقم من مقعده ذلك حتى يغفر له»(2).

لكن العمدة هي الاخبار، والطعن فيها تارة باعتبار السند واخرى باعتبار الدلالة - لوقوع النهي الوارد فيها في قرن جملة من المكروهات بل بعض المستحبّات كالتشريق والتغريب حيث لا قائل بالوجوب فيهما فينبغي حمله على الكراهة ليتناسب أجزاء الكلام ويتوافق القرائن، مع تطرّق المنع إلى ظهور النهي بنفسه في التحريم لشيوع إطلاقه في أخبار الأثمّة في الكراهة، ويؤيّدها أو تدلّ عليها الحسنة المذكورة لكون سياقها أنسب بسياق المستحبّات ومتنها ألصق بمتون المكروهات - يندفع بجابر الشهرة اعتمادا فارتفعت به حزازة السند وفهما فارتفعت به حزازة الدلالة، مع أنّ الضرورة تتقدّر بقدرها، وأصالة الحقيقة إنّما يعدل عنها في موضع القرينة ولا يلزم من العدول عنها في لفظ لقرينة وجوب العدول عنها في لفظ آخر مساوق له أو مذكور في قرنه وإن اتّحدا نوعا كما لا يخفى، والأمر بالتشريق والتغريب يمكن بقاؤه على ظاهره إذا أريد بهما الميل إلى الجهتين ولو وقع الانحراف فيما بين المشرق والمغرب، ولا ريب أنّ الوجوب على هذا التقدير لازم لتحريم الاستقبال والاستدبار للقبلة، وشبهة شيوع إطلاق النهي في الكراهة واضح الدفع، ولا منافاة للحسنة لوجوب الإنحراف وإن كانت لا تدلّ على الوجوب أيضا لشيوع نحو هذا السياق في الواجبات والمحرّمات أيضا.

وبجميع ما ذكر سقط حجّة القول بالكراهة مطلقا من الأصل واستضعاف أدلّة الحرمة سندا ودلالة، بل سقط به أيضا حجّة سلّار وهي الحسنة المذكورة، فإنّ الاحتجاج بها على الكراهة في البنيان خاصّة إمّا بملاحظة صدرها المتضمّن لبناء الكنيف في منزل أبي الحسن الرضا عليه السلام مستقبل القبلة، أو بملاحظة ذيلها الّذي به يتمّ

ص: 358


1- المستدرك 246:1 الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 2.
2- المستدرك 302:1 الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 7.

سياق المستحبّ من حيث إنّ المناسب في بيان الواجب ذكر العقاب المتوعّد على تركه على وجه الاقتصار عليه أو مع ذكر الثواب الموعود على فعله دون الاقتصار على ذكر الثواب الّذي هو متعارف في بيان المستحبّ ، وأيا ما كان فليس في محلّه.

أمّا الثاني: فلأنّ ما ذكر إشعار لا يبلغ حدّ الدلاله بعد ملاحظة شيوع نحو ما ذكر في الواجبات أيضا، فلا ينبغي بل ولا يجوز الاعتماد عليه.

وأمّا الأوّل: فلمنع كون المنزل المشار إليه في الخبر للإمام عليه السلام أو كون بناء الكنيف على القبلة منه عليه السلام أو كون المراد به المقعدة، لجواز كونه من غيره فنزل فيه عارية أو ضيفا أو انتقاله إليه على هذه الحالة وإنّما لم يغيرها لقرب العهد أو عدم الإمكان لضيق البناء أو التقية أو نحوها، أو لإمكان الجلوس مع الانحراف عن القبلة، أو لعدم الحاجة إليه لوجود غيره، أو كون المراد به البيت أو بابه دون المقعدة، مع أنّه لولا الحمل على أحد هذه الوجوه لأشكل بالنسبة إلى منصب الإمامة المقتضي لتنزهه عليه السلام عن الاستمرار على فعل المكروه فتأمّل.

وأمّا ابن الجنيد على أحد احتمالي كلامه فلم يعلم له وجه على أحد شقّي قوله وهو الإباحة في البنيان، ولعلّه الأصل بعد استضعاف أدلّة الوجوب والجمع بينها بتقييد مطلقاتها فليتأمّل.

وينبغي التنبيه لامور:
الأوّل: ظاهر الأخبار ككثير من الفتاوي وصريح جماعة أنّ المراد بالاستقبال والاستدبار المحكوم عليهما بالحرمة ما يتحقّق بالبدن الّذي هو عبارة عن مقاديمه في الاستقبال ومآخيره في الاستدبار،

لا ما يتحقّق بالعورة والفرج خاصّة، فلو قعد مستقبلا وحرّف ذكر. عنها لم يزل التحريم، ومقتضاه أنّه لو انحرف عنها بالبدن وجعل الذكر مواجها إليها زال التحريم، والأحوط تجنّبه أيضا عملا بالتعظيم اللازم مراعاته المستفاد من بعض ما تقدّم فيجب الانحراف عنها إلى الشرق أو الغرب بجميع البدن حتّى العورة عملا بجميع ما تقدّم.

وليس في قوله عليه السلام: «لا تستقبل القبلة بغائط ولا بول» ولا في قوله عليه السلام: «ونهى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عن استقبال القبلة ببول أو غائط» ظهور في كون المنهيّ عنه هو

ص: 359

الاستقبال بالعورة والفرج لينافي ما ذكرنا إلّا على تقدير أخذ «الباء» للتعدية وهو لكون مدخولها البول والغائط ممنوع، وإنّما يستقيم هذا الظهور على تقدير دخولها على العورة أو الفرج كما يجد الطبع السليم، وأمّا مع هذين المدخولين فهو في متفاهم العرف ظاهر في الملابسة كما في نظائره. فلو قيل: «لا تستقبل الأسد بخوف» و «لا تدخل المسجد بجنابة» و «لا تدخل الصلاة بحدث» كان معناه في ظاهر متفاهم العرف أنّه لا تفعل هذه الأفعال وأنت متلبّس بهذه الأحوال، وهذا هو الظاهر من عبارة كلّ من عبّر عن المسألة بالاستقبال والاستدبار بالبول والغائط كالمبسوط(1) والسرائر والتحرير(2)على ما حكي عنهم. فما قد يفرّع على ظاهر هذه العبارة كعبارة الخبرين من أنّه لو حرّف بعورته عن القبلة حين البول لم يضرّ الاستقبال بسائر بدنه ليس على ما ينبغي.

نعم إنّما يسلّم ظهور التعبير بالاستقبال والاستدبار بالفرج - كما عن التنقيح والموجز(3) أو بالعورة كما في العبارة المحكيّة عن الشهيد في الألفيّة: و «يجب ستر العورة والانحراف عن القبلة بها»(4) - في هذا المعنى، وإن كان قد يوجّه ذلك بما لا ينافي ظاهر الأخبار من حمل العورة بل الفرج أيضا على مجموع القبل والدبر، التفاتا إلى أنّ الإنسان لا يمكنه الانحراف بهما عن القبلة إلّا بانحراف بدنه.

وربّما وجّه أيضا كما عن بعض شرّاح الألفيّة بجعل «باء» التعدية متضمّنة لمعنى المصاحبة. فمعنى: «سرت به، أو ذهبت به» أخذته معي في السير والذهاب، ولا يخفى ما فيه من التكلّف الواضح، ولذا ردّه المحقّق الثاني بتصريح المحقّقين عن أهل العربيّة كسيبويه وابن هشام وغيرهما بأنّ معنى التعدية بالباء والهمزة واحد(5) وعن بعضهم أنّه نقضه بقوله تعالى: ذَهَبَ اَللّٰهُ بِنُورِهِمْ (6).

الثاني: لا حكم للقبلة المنسوخة لأنّ معنى نسخها نسخ أحكامها،

فما عن العلّامة في النهاية: من احتمال اختصاص الحكم في الاستدبار بالمدينة وما ساواهما لأنّ

ص: 360


1- المبسوط 16:1.
2- السرائر 95:1، التحرير 7:1.
3- التنقيح 69:1، الموجز: 39.
4- الألفيّة: 49.
5- رسائل المحقّق الكركي 219:3، المقاصد العليّة: 152.
6- البقرة: 17.

استدبار الكعبة فيها يوجب استقبال بيت المقدس(1) ليس بشيء، ولذا حكم عليه في الذكرى(2) بأنّه لا أصل له. وعلى تقدير عدم استلزام النسخ لنسخ جميع الأحكام لم يظهر اندراج بيت المقدس في ذلك الحكم، لانصراف الأدلّة إلى القبلة المعهودة ولا دليل في المقام سواها. وما روي من خبر معقل بن أبي معقل الأسدي: «انّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم نهى عن استقبال القبلتين»(3) - يعني الكعبة وبيت المقدس - لا عبرة به لقصوره سندا ودلالة، مع قبوله التأويل بالتزام تعدّد العنوان المنهيّ عنه ففي إحداهما الصلاة مثلا وفي الأخرى التخلّي، وربّما حمل على زمان كونه قبلة.

واعلم أن مآل هذا الاحتمال إلى إنكار تحريم الاستدبار مطلقا بل المحزم هو استقبال إحدى القبلتين، وفيه - مضافا إلى ما عرفت - ما فيه.

الثالث: لا يلحق بحال التخلّي في تحريم الاستقبال والاستدبار حال الاستنجاء من بول أو غائط اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد الدليل.

واحتمل بعضهم شموله حالة الاستنجاء أيضا لوقوعه غالبا حالهما. وهو بعيد، والتعليل لا يفهم له معنى محصّل. نعم في رواية عمّار عن الصادق عليه السلام قال له: «الرجل يريد أن يستنجي، كيف يقعد؟ قال: كما يقعد للغائط»(4) ما ربّما يوهم ذلك كما فهمه جماعة، لكنّه لم يظهر بها عامل ولا مصرّح بمضمونه بل صرّح جماعة بخلافه فنقتصر من أجل ذلك [على حال التخلّي] إن لم يكن لسندها قصور من جهة أخرى كما زعمه بعضهم مضافا إلى قصور دلالتها. وربّما تحمل على إرادة الردّ على العامّة حيث يقعدون للاستنجاء نحوا آخر من زيادة التفريج وإدخال الأنملة، وربّما نسب اعتبار إدخال الأنملة إلى محمد بن الحسن الشيباني.

الرابع: لا فرق في تحريم الاستقبال والاستدبار بين هيئآت المتخلّي من القيام والقعود والاستلقاء والاضطجاع ما لم يكن الأخيران لعجز،

لعموم الاحترام والتعظيم

ص: 361


1- نهاية الإحكام 79:1.
2- الذكرى 164:1.
3- سنن أبي داود 3:1/10، السنن الكبرى 91:1.
4- الوسائل 360:1 الباب 37 من أبواب أحكام الخلوة ح 2.

المستفادين من نصوص الباب، وهما في القائم والقاعد واضحان وفي المستلقي يتحقّقان بوضع الرأس على المغرب والقدمين على المشرق أو بالعكس، وفي المضطجع كالمحتضر، ولو الحق به المكبوب لم يكن بعيدا فيتحقّقان فيه على عكس المحتضر.

الخامس: لو بني الموضع على القبلة وجب الانحراف عنها في الجلوس،

ولو تعذّر وجب الاجتناب عنه إلى غيره، ولو تعذر سقط التكليف، ولو دار الأمر بين الاستقبال والاستدبار قدّم الثانى لأنّه أهون في نظر الاعتبار، ولأجل هذا بعينه لو دار الأمر بين أحدهما وكشف العورة للناظر المحترم قدّم الأوّل، ولو اشتبه القبلة وجب الاجتهاد مقدّمة لإطلاق النهي، فيجوز التعويل على الطرق الشرعيّة المقرّرة في الصلاة، وفي كفاية الظن المطلق وجه قويّ يساعد عليه إطلاق النهي، والقدر المتيقن من تقييده ما لو تعذر الظنّ أيضا، ولو علم بكونهما في جهة اجتنب عنها إلى غيرها، ولّو كان الاشتباه في جانبين وجب الانحراف إلى غيرهما، ولو كان في جوانب ثلاث اجتنب عنها إلى الجانب الآخر، ولو كان في الجوانب الأربع سقط التكليف بالتخيير فيها إن لم يكن ظنّ . ولا يجب على الوليّ أن يجنب الطفل الغير المميز بل المميّز أيضا، للأصل.

ولا يلحق بها سائر الأماكن المشرّفة لعدم الدليل عليه، واجتنابها أولى لما ثبت بالضرورة من رجحان احترامها.

المبحث الثاني في الاستنجاء
اشارة

الّذي يراد به هاهنا التطهّر عن الحدثين البول والغائط من أيّ موضع خرجا، ولا خلاف في وجوبه بل هو من ضروريّات المذهب بل الدين في الجملة عدا ما عن أبي حنيفة من عدم إيجابه في البول غسلا ولا غيره، ويدلّ عليه من الأخيار عموم الآمرة بإزالة النجاسة عن البدن، وخصوص الواردة في المقام حسبما تعرفه، والمراد بالوجوب الشرطي منه، على معنى اشتراطه في الصلاة لا في الوضوء وإن دلّ عليه بعض الأخبار - من حيض ورود الأمر فيه بإعادته عند نسيان الاستنجاء، وعن الصدوق القول به - لضعفه بالشذوذ وغيره.

ص: 362

وهاهنا مسائل:
الأولى: يجب غسل مخرج البول بالماء خاصّة ولا يجزئ عنه غيره حتّى المضاف

خلافا للسيّد المرتضى(1) والتمسّح بالأحجار خلافا للشافعي(2) بالإجماع المستفيض نقله، وفي المنتهى: «إنّه مذهب علمائنا»(3) والنصوص الكثيرة الآمرة بالغسل الظاهر إطلاقه فيما يحصل بالماء، والاخرى المصرّحة بالماء بل النافية لإجزاء غيره.

ففي الصحيح عن عمرو بن أبي نصر: قال قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: «أبول وأتوضّأ وأنسى استنجائي ثمّ أذكر بعد ما صلّيت ؟ قال: اغسل ذكرك وأعد صلاتك ولا تعد وضوءك»(4).

والآخر عن زرارة قال: «توضّأت يوما ولم أغسل ذكري ثمّ صلّيت فسألت أبا عبدالله عليه السلام عن ذلك، فقال: اغسل ذكرك وأعد صلاتك»(5).

والثالث عن ابن اذينة قال: ذكر أبو مريم الأنصاري: إنّ الحكم بن عتبة بال يوما ولم يغسل ذكره متعمّدا، فذكرت ذلك لأبي عبداللّه عليه السلام فقال: «بئس ما صنع، عليه أن يغسل ذكره ويعيد صلاته ولا يعيد الوضوء»(6).

والموثّق عن يونس بن يعقوب قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «الوضوء الّذي افترضه اللّه على العباد لمن جاء من الغائط أو بال، قال: يغسل ذكره ويذهب الغائط» الخ(7).

والآخر عن عمّار بن موسى عن أبي عبدالله عليه السلام - في حديث - قال: وقال: «إذا بال الرجل ولم يخرج منه شيء فإنّما عليه أن يغسل إحليله» الخ(8).

والصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لا صلاة إلّا بطهور، ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وأمّا البول

ص: 363


1- الناصريات: 219.
2- المنتهى 257:1، الامّ 22:1، المجموع 95:2.
3- المنتهى 256:1.
4- الوسائل 294:1 الباب 18 من أبواب نواقض الوضوء ح 3.
5- الوسائل 295:1 الباب 18 من أبواب نواقض الوضوء ح 7،
6- الوسائل 294:1/4. ب 18 نواقض الوضوء.
7- الوسائل 316:1 الباب 9 من ابواب أحكام الخلوة ح 5.
8- الوسائل 346:1 الباب 28 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.

فلابدّ من غسله»(1).

والآخر عن جميل بن درّاج عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إذا انقطعت درّة البول فصبّ الماء»(2).

ورواية بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «يجزئ من الغائط المسح بالأحجار ولا يجزئ من البول إلّا الماء»(3) وضعفها مجبور بالعمل.

ولا يعارضها الموثّق قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «الرجل يبول ولا يكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط؟ قال: كلّ يابس زكيّ »(4) فإنّه مع عدم مقاومته سندا لها محمول على عدم تنجّس ما يلاقيه به ليبوسته وإلّا لم يكن لتخصيص الحكم باليبوسة وجه، ويمكن أخذ ذلك منشأ لظهوره، مضافا إلى إشعار السؤال بتعين الماء مع سكوت الإمام عليه وإلّا لوجب الردع بأنّ للمسح كاف من دون تعلّق له بعدم وجدان الماء.

ولا الموثّق قال: «سمعت رجلا سأل أبا عبداللّه عليه السلام قال: ربّما بلت ولم أقدر على الماء ويشتدّ عليّ ذلك، فقال: إذا بلت وتمسّحت فامسح ذكرك بريقك، فإن وجدت شيئا فقل هذا من ذلك»(5) بل له صدرا وذيلا بتقريب ما تقدّم خصوصا مع ملاحظة قوله:

«ويشتدّ عليّ ذلك» ظهور في عدم كفاية المسح في النقاء، ولا ينافيه الأمر بمسح الذكر بريقه لأنّه إعطاء وسيلة للحكم ببقاء ما لو اتّفق وصول بلّة إليه من الثوب على طهارته، بل هو بنفسه ينهض دليلا على عدم الطهر وإلّا لم يكن حاجة إلى تعليم الحيلة وإعمالها، ولا يلزم منه عدم تنجّس المضاف لعدم ظهور مسح الذكر فيه حتى المخرج.

ولا رواية سماعة قال: قلت لأبي الحسن موسى عليه السلام: «إنّي أبول ثمّ أتمسّح بالاحجار فيجيء منّي البلل ما بعد استبرائي - وفي بعض النسخ ما يفسد سراويلي - قال: ليس به بأس»(6) لضعف سندها بجهالة «حكم بن مسكين» مع احتماله التقيّة

ص: 364


1- الوسائل 315:1 الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
2- الوسائل 349:1 الباب 31 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
3- الوسائل 316:1 الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة ح 6.
4- الوسائل 351:1 الباب 31 من ابواب أحكام الخلوة ح 5.
5- الوسائل 284:1 الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء ح 7.
6- الوسائل 283:1 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء ح 4.

وقبوله التأويل بعدم البأس به في نقض التيمّم، لكون الخارج بعد الاستبراء لا يحكم عليه بالناقضة لجواز إتيانه بالتيمّم للصلاة بعد الاستبراء، مع كون سؤاله مفروضا في عدم وجدانه الماء، ومع الغضّ عن جميع ذلك فهي مع سابقها غير صالحين لمعارضة ما تقدّم من وجوه شتّى.

ذهب العلّامة في المنتهى(1) كما عنه في التذكرة والنهاية(2) وعن المحقّق في المعتبر والشهيد في الذكرى(3) إلى أنّه لو لم يجد الماء لغسل البول أو تعذّر استعماله لجرح وشبهه وجب تخفيف النجاسة بالمسح بالحجر ونحوه، وعلّلوه: بأنّ الواجب إزالة العين والأثر فإذا تعذّر إزالتهما معا لم تسقط إزالة العين، وأنكره في المدارك والذخيرة والمشارق(4) وغيرها، وربّما عزي إلى ظاهر المتأخّرين استنادا إلى عدم وقوفهم على ما يقتضي وجوب إزالة النجاسة على غير الوجه المطهّر، ولا على وجه وجوب تخفيف النجاسة مع بقائها، وهو الأقوى للأصل الّذي لا ينبغي الخروج عنه بنحو ما ذكر، فإنّ المامور به على ما علم بالأدلّة القطعية هو إزالة صفة النجاسة عن المحلّ وقد تعذّرت بالفرض فسقط به الأمر ما دام باقيا، ولا يعقل فيها تركب لا خارجا ولا ذهنا فلا ينبغي الاستدلال على الوجوب بقاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور» و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كله» والإتيان بما يستطاع.

وربّما استدلّ عليه كما في المنتهى بما تقدّم من خبر عبدالله بن بكير المذيّل بقوله عليه السلام: «كلّ شيء يابس زكيّ ». وكأنّه استدلال بالمفهوم ولو كان وصفا لحجّيته ولو في خصوص المقام الوارد فيه الكلام لإعطاء القاعدة، مع حمل «الزكي» في المنطوق على إرادة المنزلة المقتضية للعموم في جميع الاحكام التي منها الدخول في الصلاة.

ويزيّفه: إنه لابدّ من تخصيصه بعدم سراية النجاسة أو عدم تنجّس الغير بملاقاته ما دام يابسا لئلّا يلزم التخصيص في المنطوق بإخراج الكلب والخنزير وغيرهما من النجاسات العينية الغير الرطبة لعدم جواز الدخول في الصلاة مع تلبّسها. مع ما فيه من

ص: 365


1- المنتهى 263:1.
2- التذكرة 135:1، نهاية الإحكام 86:1.
3- المعتبر 126:1، الذكري 169:1.
4- المدارك 162:1، الذخيرة: 17، مشارق الشموس: 72.

كون الباقي أقلّ بمراتب، ولزوم تخصيص آخر في المستثنى بإخراج سراية النجاسة أو تنجّس الملاقي كما لا يخفى، مع أنّ تخصيصها في المنطوق بإخراج الأكل والشرب وغيرهما بملاحظة أنّ من أحكام الزكيّ جواز أكله وشربه أو استعماله في المأكول والمشروب ونحوهما ممّا لابدّ منه، وأنت خبير بما في الالتزام بجميع ذلك، فإنّ التخصيص الواحد متعين، كما أنّ تخصيص المفهوم هنا لكونه في غير العموم الوضعي أهون من تخصيص المنطوق الّذي هو عام وضعي. وأضعف من هذا الاستدلال ما في كلام بعضهم من الاستدلال بخبر زرارة ومحمّد بن بمسلم عن أبي جعفر عليه السلام: قال «سألته عن طهور المرأة في النفاس إذا طهرت وكانت لا تستطيع أن تستنجي بالماء أنّها إن استنجت اعقرت(1) هل لها رخصة أن توضّأ من خارج، وتنشفه بقطن أو خرقة ؟ قال:

نعم، تنقى من داخل بقطني أو خرقة»(2) لظهوره في غسل ظاهر الفرج وتنشيف باطنه الّذي لا يجب غسله، وهو احتياط عن عدم خروج ما لعلّه بقي في الباطن إلى ما غسل من الخارج، فتأمّل.

نعم لو كان بقاؤه على هذه الحالة بحيث يسري نجاسته إلى الثوب الطاهر مثلا اتّجه القول بوجوب مسحه بما يجفّفه مقدّمة للتطهير الواجب للصلاة الّذي هو أعمّ من إبقائه على صفة الطهارة، ولعلّ الأخبار الواردة في المسح أو الأمر به إن وجد فيها أو قضى به دليل آخر لمراعاة هذه الحكمة، لا لأنّ تخفيف النجاسة بإزالة العين فقط بنفسه عنوان آخر وارد في الشرع، وتظهر الثمرة بين الاعتبارين في العين الغير المتعدية إذا كانت في سائر مواضع البدن وتعدّد غسله مع إمكان إزالتها بغير الوجه المطهّر.

وكيف كان فالاحتياط الشديد فيما ذكروه، والكلام في وجوب تخفيف النجاسة فيما إذا لم يقدر إلّا على غسل الثوب من البول أو غسل مخرجه مرّة أو على إزالة بعض أجراه أو بعض أجزاءه غيره من سائر النجاسات عن الثوب أو البدن كما تقدّم من عدم مساعدة نقل واضح عليه، لكن الاحتياط واضح بحمد اللّه ومراعاته حسن.

الثانية: مقتضي ما عرفته من النصوص في الأمر بالغسل كفاية أقلّ ما يتحقّق من

ص: 366


1- وفي نسخة: اعتقرت (منه).
2- الوسائل 347:1 الباب 29 من أبواب أحكام الخلوة ح 3.

مسمّى الغسل في حصول الاستنجاء عن البول، وهو ظاهر كلّ من عبّر عن المسألة الأولى يغسل مخرج البول بالماء، كما عن جمل السيّد وانتصاره(1) وجمل الشيخ والكافي والوسيلة والغنية والسرائر والموجز وشرحه واللمعة(2) وهو خيرة شارح الدروس(3) كما عن القاضي(4) والعلّامة في المختلف والمنتهى(5) وقرّبه في المدارك(6)ومال إليه في الذخيرة(7) كما عن الدلائل وعليه ينطبق العبارة المحكيّة عن أبي الصلاح:

«أقلّ ما يجزئ ما أزال العين عن رأس الفرج»(8) وفي معناها عبارة السرائر: «وأقلّ ما يجزي من الماء لغسله ما يكون جاريا ويسمّى غسلا»(9) بناء على كون العطف للتفسير كما هو الظاهر فإنّ الغسل إنّما يتحقّق بالجريان، ويحتمله عبارة الدروس: «ويجب غسل موضع البول بالماء المزيل للعين الوارد بعد الزوال»(10) بناء على كون الزوال مرادا به زوال القطرة المتخلّفة على رأس الحشفة، على معنى انقطاعها عن المحلّ وسقوطهما على الأرض ولو بنحو التحريك، وإلّا فهي ظاهرة في اعتبار مرّتين إحداهما بما يزيل العين فعلا والأخرى بما من شأنه أن يزيل العين على تقدير وجودها.

وربّما استدلّ عليه أيضا بأنّ الواجب إزالة عين النجاسة والأصل البراءة من الزائد، وبالإجماع في الغائط على الاكتفاء بالإزالة فالبول أولى لسرعة زواله.

وربّما يؤيّده الحسن بإبراهيم بن هاشم عن أبي الحسن عليه السلام قال: قلت له:

«للاستنجاء حدّ؟ قال: لا، حتى ينقى ما ثمّة، قلت: فإنّه ينقى ما ثمّة وتبقى الريح، قال:

الريح لا ينظر إليهما»(11) لكن في خبر نشيط بن صالح عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته كم يجزئ من الماء في الاستنجاء من البول ؟ فقال: مثلا ما على الحشفة من البلل»(12)ما يقرب من كونه من المتشابهات بل في المدارك(13) رماه بالإجمال غير إنه أفتى بمتنه

ص: 367


1- جمل العلم والعمل: 23، الانتصار: 16.
2- الجمل والعقود: 36، الكافي: 127، الوسيلة: 47، الغنية: 487، السرائر 96:1، الموجز: 39، كشف الالتباس: 21، اللمعة: 19.
3- مشارق الشموس: 73.
4- المهذب 40:1.
5- المختلف 273:1، المنتهى 264:1.
6- المدارك 164:1.
7- الذخيرة: 17.
8- الكافي: 127.
9- السرائر 96:1.
10- الدروس 8:1.
11- الوسائل 322:1 الباب 13 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
12- الوسائل 344:1.
13- المدارك 164:1.

كثير من الاصحاب كما في قواعد العلّامة(1) وعن المقنعة والمبسوط والنهاية والإصباح والشرائع والنافع والمعتبر والتذكرة والتحرير(2) قال الميسي في تعليقه على الشرائع:

«هذا هو المشهور بين الأصحاب» ونسب حكاية الشهرة أيضا إلى مجمع الفوائد(3)والجعفرية(4) والمسالك(5) والدلائل.

ولكن الّذي يساعد عليه النظر أنّه بظاهر سياقه سؤالا وجوابا لا يخالف إطلاق ما تقدّم، التفاتا إلى أنّ ما بقي على الحشفة من بلل البول ليس له مقدار يتحقق به ماهيّة الغسل، فإذا اضيف إليه مثله بلغ هذا الحدّ، فاعتبار المثلين إنّما هو لأجل هذه النكتة كما فهمه جماعة قائلين: «بأنّ المراد غسلة واحدة واعتبار المثلين لتحصيل الغلبة على النجاسة المعتبرة في التطهير عن كلّ نجاسة»(6). وعليه ففتوى هؤلاء المذكورين بمتنه راجع إلى فتوي الآخرين وارتفع معه توهّم النزاع كما جزم به الشهيد في كلام محكيّ له عن البيان قائلا: «ويجب غسل البول بالماء خاصّة وأقلّه مثلاه مع زوال العين»(7)والاختلاف هنا في مجرّد العبارة كما فهمه من كلامه هذا العلّامة الطباطبائي على ما عزي إليه من أنّه جزم بأنّ مراد الشهيد إرجاع المثلين إلى كفاية المرّة بإرادة ما يتحقّق معه الغلبة.

وقد يقال في تقريب ما استظهرناه: «بأنّ شهرة الرواية بين العلماء قديما وحديثا مع عدم الفتوى منهم بالتعدّد يدلّ على عدم فهمهم منها إلّا مطلق الغسل» انتهى(8)ولا ينافيه ما عن تطهير نجاسات المعتبر(9) من دعوى الإجماع فيه عن البول على المرّتين لكونه ظاهر الاختصاص بغير المخرج كما فهمه غير واحد.

فما عن جامع المقاصد اعتراضا عليه: من أنّ ما في البيان ليس بجيد لأنّ الخلاف ليس في العبارة(10) غير متّجه، إلّا أن يكون نظره في ما جزم به من معنويّة الخلاف إلى

ص: 368


1- القواعد 180:1.
2- المقنعة: 42، المبسوط 17:1، النهاية 214:1، الإصباح 425:2، الشرائع 18:1، النافع: 5، المعتبر 126:1، التذكرة 127:1، التحرير 7:1.
3- الناسب مفتاح الكرامة 202:1.
4- الجعفريّة (رسائل المحقق الكركي) 82:1.
5- المسالك 29:1.
6- كما في الفقيه 31:1، الهداية (جوامع الفقهيّة): 48، المعتبر 127:1، مشارق الشموس: 73.
7- البيان: 6.
8- مصابيح الأحكام 162:2.
9- المعتبر 435:1.
10- جامع المقاصد 93:1.

ما عن الفقيه والهداية: «تصبّ عليه من الماء مثلي ما عليه من البول تصبّه مرّتين»(1)فإنّه ظاهر في المخالفة لمن تقدّم حيث لم يكتف باعتباره الصبّ مرّتين مسمّي الغسل، وإن كان كلامه من حيث صرف كلّ مثل إلى مرّة أو اعتبار المثلين في كلّ من المرّتين محتمل الوجهين.

وكيف كان فاختلفت أنظارهم في فهم معنى الخبر حيث اعتبر المثلين فمنهم من حمله على ما تقدّم حسبما عرفت وهو الأظهر على ما تقدّم، ومنهم من حمله على إرادة مرّتين كلّ مرّة بمثل ما على الحشفة كما نسب إلى جماعة منهم الشهيد في الذكرى حيث قال: «وأمّا البول فلابدّ من غسله ويجزئ مثلاه مع الفصل»(2).

ومنهم من حمله على إرادة مرّتين كل مرّة بمثلي ما على الحشفة ذكره شارح الدروس وكاشف اللثام(3) احتمالا وربّما حمل عليه ما عرفته من عبارتي الفقيه والهداية.

ويزيّفه: المنع عن كونه فهما من هذا الخبر لجواز ابتنائه على الجمع بينه في الاكتفاء بالمثلين وغيره من الأخبار الواردة في الغسل عن البول في اعتبار المرّتين.

ولا يذهب عليك ضعف هذين الوجهين بل عدم تحمّل الخبر لهما، مع ما يرد على أوّلهما من الإشكال لاشتراط جريان المطهّر وغلبته على النحاسة اللذين لا يتأتيان بمثل البلل الّذي على الحشفة، ولا يجدي في إصلاحه ما قيل: من أنّ المراد مثل ما عليها من القطرة الّتي هي تجري على البلل وتغلّب عليه، لأنّ المذكور في الخبر هو البلل لا القطرة.

وأمّا عدم تحمّله الوجهين المذكورين فلأنّ ظاهر السؤال حيث عبّر بقوله: «كم يجزئ من الماء في الاستنجاء من البول ؟» إنّما هو السؤال عن مقدار الماء الّذي يتحقّق به الاستنجاء، وهو سؤال عمّا يتقدّر به العين، والمرّه مع المرّتين وصفان للفعل الّذي هو الغسل فلا يتقدّر بهما العين، كما أنّه لا يسأل عنهما بحسب المتعارف بعبارة: «كم يجزئ من الماء؟» فلو كان المقصود هو السؤال عمّا يتقدّر به الفعل من وصفي المرّة والمرّتين لكان اللازم تأدية المطلب بعبارة: «كم يجزئ من الغسل في الاستنجاء من

ص: 369


1- الفقيه 31:1، الهداية: 16.
2- الذكرى 169:1.
3- مشارق الشموس: 73، كشف اللثام 203:1.

البول ؟» وكم بين العبارتين من الفرق الواضح الذي يدركه كلّ من له انس بطريق المحاورة.

وبالجملة فسؤال الرواية ليس متعرّضا لما هو من قبيل صفات الفعل أصلا والجواب إنّما ورد على طبقه ضرورة وجوب المطابقة بينهما، فكيف يصرف إلى إرادة المرّتين ؟ إلّا أن يوجّه بأنّ السؤال إنّما ورد عن مقدار الماء بعد إحراز اعتبار المرّتين في الغسل، فيكون معنى عبارة السائل: «كم يجزئ من الماء في الاستنجاء من البول المعتبر في تحقّقه الغسل عنه مرّتين ؟».

وفيه مع ما فيه من التكلّف الواضح أنّه لا ينطبق إلّا على أوّل الوجهين بإرادة صرف أحد المثلين في إحدى المرّتين والمثل الآخر في أخراهما فيتوجّه إليه الإشكال المتقدّم، وهو يصلح قرينة مؤكدة لإرادة ما تقدّم.

وتنزيله على ثاني الوجهين يستلزم لزوم اعتبار أربعة امثال وهو ممّا يدفعه ظاهر التعبير بالمثلين بل صريحه. وكيف كان فالوجه ما استظهرناه، كما أنّ الأقوي في المسألة ما قدّمناه من مقتضي إطلاق النصوص المعتضد بفهم الاكثر بناء على التوجيه المتقدّم لكلام المعبّرين بمتن الخبر ولا يعتبر فيه التعدّد على الأظهر لعدم نهوض ما يدلّ عليه من النصوص مع عدم انعقاد إجماع ولا شهرة عليه، وما عرفته من إجماع المعتبر قد عرفت عدم نهوضه دليلا على هذا المطلب.

ومثله في عدم الدلالة عليه خبر أبي العلا قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن البول يصيب الجسد؟ قال: صبّ عليه الماء مرّتين»(1).

وخبر أبي إسحاق النحوي عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال: صبّ الماء عليه مرّتين»(2) لكونهما كغيرهما ظاهر الاختصاص بغير المخرج، ولا منقّح للمناط بعد ملاحظة أن لا استبعاد في الفرق بين الاستنجاء عن البول وإزالته عن سائر الجسد بالاكتفاء في الأوّل بالمرّة دون الثاني، كما ثبت نظيره للفرق بين ماء الاستنجاء ولو عن البول وماء الغسالة ولو عن غير البول بالحكم على

ص: 370


1- الوسائل 343:1 الباب 26 من أبواب أحكام الخلوة ح 1 و 4.
2- الوسائل 343:1 الباب 26 من أبواب أحكام الخلوة ح 1 و 4.

الأوّل بالطهارة وعلى الثاني بالنجاسة، واستصحاب النجاسة بعد نهوض الإطلاق بخلافه لا حكم له هذا، لكنّ الأحوط مراعاة المرّتين خروجا عن شبهة الخلاف.

ويستحبّ الثلاث وفاقا لجماعة لخبر زرارة صحيحا قال: «كان يستنجي من البول ثلاث مرّات ومن الغائط بالمدر والخرق»(1) بناء على أنّ علوّ شأن زرارة يأبى الإصدار عن غير الإمام عليه السلام.

الثالثة: وكما لا يجزئ عن البول إلّا الماء فكذلك الغائط المتعدّي،

فلا يجزئ عنه إلّا الماء إجماعا كما في القواعد والرياض(2) وعن الغنية والتذكرة والذكرى الإجماع عليه(3) وعن الروض: «وهذا الحكم إجماعيّ من الكلّ »(4) وعن الانتصار: «أنه لا خلاف فيه»(5) وعن المعتبر: «أنّه مذهب أهل العلم»(6) ولعلّه كذلك حيث لم ينقل خلاف في المسألة عن أحد من الخاصّة والعامّة عدا ما عن الشافعي في أحد قوليه على ما حكاه في المنتهى قائلا: «وإذا تعدّى المخرج تعين الماء وهو أحد قولي الشافعي وإسحاق، والقول الثاني للشافعي أنّه إذا تعدّى إلى باطن الإليتين ولم يتجاوز لظاهرهما فإنّه يجزئه الحجارة. فإن تجاوز ذلك فظهر على الإليتين وجب الماء عنده قولة واحدا» انتهى(7).

وربّما يستظهر الخلاف من إطلاق الشيخ في النهاية والخلاف(8) بالتخيير بين الماء والأحجار في الغائط، ولعلّه يتوهّن ظهوره في إرادة الإطلاق بعد ملاحظة مصيره في المبسوط(9) إلى تعيّن الماء مع التعدّي.

فالأصل في المسألة هو الإجماع، وربّما استدلّ عليه - كما في المنتهى(10) وعن المعتبر(11) - بما رواه الجمهور عن عليّ عليه السلام «أنّكم كنتم تبعرون بعرا، واليوم تثلطون(12)ثلطا فاتبعوا الماء الأحجار»(13).

ص: 371


1- الوسائل 344:1 الباب 26 من أبواب أحكام الخلوة ح 6.
2- القواعد 180:1، الرياض 96:1.
3- الغنية: 36، االتذكرة 125:1، الذكرى 169:1.
4- روض الجنان 77:1.
5- الانتصار: 16.
6- المعتبر 128:1.
7- المنتهى 268:1.
8- النهاية: 214، الخلاف 103:1.
9- المبسوط 16:1.
10- المنتهى 268:1.
11- المعتبر 128:1.
12- تتلطون: الرقيق من كلّ شيء: لسان العرب 268:7.
13- عوالي اللآلى 181:2/47.

وعن المعتبر(1) الاستدلال أيضا بقوله عليه السلام: «يكفي أحدكم ثلاثة أحجار إذا لم يتجاوز محلّ العادة»(2).

قيل: والروايتان وإن كانتا عامّيتين إلّا أنّ استدلال الخاصة بهما كاف في انتظامهما في سلك الأخبار، خصوصا مع ما رواه الشيخ قدس سره في العدّة(3) عن الصادق عليه السلام: «إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما يروى عنّا فانظروا إلى ما رووه عن عليّ عليه السلام» وبذلك كلّه يمكن تقييد إطلاق أخبار الاستجمار، والاستغناء عن دعوي انصراف تلك الإطلاقات إلى صورة عدم التعدّي حتّى يرد عليه - مضافا إلى منع الانصراف - أن اللازم من ذلك الاقتصار في الحكم بطهارة ماء الاستنجاء أيضا على هذا المنصرف.

وفيه نظر، لجواز كون الاستدلال من مثل العلّامة والمحقّق بهما لمجرّد الردّ على الشافعي كما هو ظاهر طريقة العلّامة في المنتهى، فلم يظهر ولا من غيره ذكرهما على وجه الاستناد إليهما لينهض كاشفا عن جهة اعتبار لهما، ومحلّ البحث ليس من قبيل الحادثة الّتي لا يوجد حكمها فيما يروى عنهم عليهما السلام لكفاية إطلاق أخبار الاستجمار على ما عرفت الاعتراف به عن القائل في نهوضه حجّة في تلك الحادثة، فنحو هذه الأمور لا تنهض لانجبار الروايتين سندا، مع ما في دلالتهما من الطعن الواضح لظهور الأولى فيما لا يقول به أحد من الجمع بين الماء والاستجمار فتعيّن حملها على الاستحباب، وفيها حزازة اخرى من حيث الدلالة لما فيها من تعليق الحكم على الثلط وهو على ما عن الصحاح(4) رقيق البعر قال: «ثلط البعير: إذا ألقى بعره رقيقا» وهو لا ينطبق على عنوان المسألة لأنّه أعمّ من المتعدّي المطلق مطلقا بل من وجه، مع ما في الذخيرة(5) من اعتبار التجاوز عن محلّ العادة الّذي هو خارج عن معقد الإجماع الّذي هو تجاوز المخرج أو ما زاد عليه.

نعم أمكن الاستدلال عليه - كما في المنتهى(6) - بما رواه الشيخ عن مسعدة بن زياد عن جعفر عن آبائه عليهما السلام عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قال لبعض نسائه: «مري نساء المؤمنين

ص: 372


1- المعتبر 128:1.
2- سنن البيهقي 106:1.
3- عدّة الاصول 379:1.
4- الصحاح 1118:3.
5- الذخيرة: 17.
6- المنتهى 267:1.

أن يستنجين بالماء فإنّه مطهّرة للحواشي ومذهبة للبواسير»(1) بتقريب: أنّ تعليل الماء بكونه مطهّرة لحواشي يقتضي كونه علّة مختصّة به لقبح تعليل ما اختصّ من الحكم بالعلّة المشتركة، مع البناء على تناول الحواشي بعمومه للمحلّ المتعدّي إليه الغائط بالمعنى الماخوذ في معقد الإجماعات، بل وتخصيصها به صونا لمطلقات الاستجمار بلا مورد أو اختصاصها بما هو في غاية الندرة من عدم تجاوز النجاسة عن المخرج الحقيقي إلى الحواشي القريبة منه كما لا يخفى، وعلى هذا يحمل ما ستعرفه عن بعض شرّاح الجعفريّة وإلّا ينهض ما بينّاه وجها لضعفه كما لا يخفى.

وكيف كان فربّما يوجد في كلماتهم اضطراب في موضوع الحكم من حيث إنّ منهم من أطلق التعدّي ولم يقيّده بشيء كما في القواعد والدروس والإرشاد(2) وعن البيان(3) ومنهم من قيّده بالمخرج كما في الشرائع والمنتهى(4) وغيرهما، وعن جماعة من الأصحاب كما في المدارك(5) بل عن المعتبر والتذكرة والذكرى الإجماع على أنّ المراد بالتعدّي التعدّي عن المخرج(6) واختلفت الأنظار في فهم المراد من تعدّي المخرج فعن ظاهر بعض شرّاح الجعفريّة(7) أنّه فهم منه تعدّي المخرج الحقيقي حيث جعل الحواشي هي المتعدّى عنها لا إليها، وعن الروض أنّ المراد به التعدّي عن حواشي الدبر وإن لم يبلغ الإليتين(8) ومثله ما عنه في المسالك والروضة(9) ويظهر من الحدائق نسبته تفسير المخرج به إلى الأصحاب(10) واستظهره في الذخيرة من عبارات الأصحاب(11) وعن السرائر أنّه فسّر المخرج بالشرج وهي بتحريك الراء حلقة الدبر(12)قيل: وهو أزيد من حواشي الدبر كما أنّها أزيد من المخرج الحقيقي، وفيه نظر خصوصا بملاحظة ما عرفته عن الروض من مدخول كلمة الوصل فإنه يقتضي كون

ص: 373


1- الوسائل 3161 الباب 19 من أبواب أحكام الخلوة ح 3.
2- القواعد 180:1، الدروس 89:1، الإرشاد 221:1.
3- البيان: 6.
4- الشرائع 18:1، المنتهى 268:1.
5- المدارك 166:1.
6- المعتبر 128:1، التذكرة 125:1، الذكرى 169:1.
7- نقله عنه الشيخ الانصارى في كتاب الطهارة 452:1.
8- روض الجنان 77:1.
9- المسالك 29:1، الروضة 84:1.
10- الحدائق 26:2.
11- الذخيرة: 17.
12- لم نعثر عليه.

مرادهم بالحواشي هاهنا ما يعمّ حلقة الدبر بتمامهما، وفي معناه عبارة المسالك: «المراد بالمخرج حواشي الدبر فكلّما تجاوزها متعدّ وإن لم يبلغ الإلية» كعبارة الذخيرة قائلة:

«والظاهر أنّ المراد بالتعدّي في عبارات الأصحاب تعدّي حواشي الدبر وإن لم يصل إلى الإلية، وعليه فلا مغايرة بين الحواشي والشرج بحسب المراد إن سلّمنا الفرق بينهما باعتبار المفهوم»(1).

وفي كلام بعضهم: «أنّ المراد به وصول النجاسة إلي محلّ لا يعتاد وصولها إليه»(2).

وفي المدارك: «ينبغي أن يراد بالتعدّي وصول النجاسة إلى محلّ لا يعتاد وصولها إليه، ولا يصدق على إزالتها اسم الاستنجاء»(3) والعطف أمكن كونه للتفسير فيتوجّه إليه منع الملازمة لجواز كون الأوّل الأعمّ مطلقا وللمغايرة، فيردد عليه: أن لا وجه حينئذ لاعتبار الشرط الأوّل لكون الأخصّ ممّا يغني عن الأعمّ ، لكن القدر المتيقّن من معقد الإجماع بعد ملاحظة ما أشرنا إليه من وجه ضعف ما عرفته عن ظاهر شارح الجعفريّة ما فهمه في الروض وغيره المنطبق ظاهرا على «الشرج» فيراد بالمخرج المتعدّي عنه ما يعمّ حواشي الدبر المنطبقة على «الشرج».

والظاهر أنّه لا مغايرة تامّة بينه و بين ما رجّحه في المدارك، فإنّ المعتاد الغالب الوقوع لغالب أفراد الإنسان إنّما هو انتشار النحاسة في تمام الشرج، ووصولها إلى ما زاد عليه غير معتاد، فلعلّ النزاع حينئذ يعود لفظيّا.

نعم لا يعتبر في الواصل إلى غير ما اعتيد الوصول إليه كونه مخرجا للإزالة عن حدّ الاستنجاء حيث لا ملازمة، ومع الإخراج فالحكم أوضح منه مع عدمه حيث لا حاجة حينئذ إلى التمسّك له بالإجماع لكفاية عدم اندراج الإزالة حينئذ في أدلّة الاستجمار بمجرّده في التزامه.

ولو أمكن إزالة مقدار التعدّي بالماء ففي صيرورة الباقي كغير المتعدّي فيجزئه الأحجار وعدمه فلا يرتفع تعيّن الماء وجهان: من أنّ مستند الحكم زوال اسم الاستنجاء، ومن أنّه تعبّد من الإجماع، والأحوط هو الثاني بل هذا احتياط لا ينبغي

ص: 374


1- الذخيرة: 17.
2- كما في روض الجنان 77:1، القواعد 180:1، الوسيلة: 47.
3- المدارك 165:1.

بملاحظة استصحاب النجاسة تركه.

ثمّ إنّه في كلام جماعة(1) من الأصحاب تعليق الحكم في مفروض المسألة على زوال العين والأثر بقولهم: «حتّى يزول العين والأثر» والظاهر أنّ المراد به ما يبقى في المحلّ بعد إزالة جرم الغائط ممّا فيه نحو لزوجة لا تدرك إلّا باللمس، وعليه فلا إشكال في وجوب إزالته لأنّه من عين النجاسة عند التحقيق، وإنّما أطلق عليه الأثر لمكان المفارقة بينهما في الإدراك بحاسّة البصر وعدم الإدراك إلّا بحسّ اللمس، فلا ينبغي أن يراد به ما يتخلّف في المحلّ من اللون أو الرائحة المجرّدين عن العين واللزوجة الباقية، للإجماع على أن لا حكم لهما في تعذر إزالتهما أو تعسّرها في أكثر الفروض، هذا مع ورود النصّ به كحسنة ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه السلام قال: قلت: «للاستنجاء حدّ؟ قال:

لا، حتى ينقى ما ثمّة، قلت: ينقى ما ثمّة ويبقى الريح ؟ قال: الريح لا ينظر إليها»(2).

وإلى ما ذكرناه من التفسير يرجع ما عن كشف الغطاء(3) من أن المراد بالأثر الأجزاء الّتي لا تحسّ ، بناء على كون عدم الإحساس مرادا به عدمه بالبصر لا مطلقا حتّى اللمس، فإنّه لولا اعتبار اللمس أيضا تعذّر انكشاف بقائهما، وإليه أيضا يرجع ما في كلام المحقّق الميسي في تعليقه على الشرائع(4) كما عن جماعة كالمسالك(5)وحاشية المدارك أنّ المراد به أجزاء لطيفة عالقة بالمحلّ لا تزول إلّا بالماء(6) ولعلّه إليه يرجع ما عن المحقّق الثاني من أنّه ما يتخلّل على المحلّ عند التنشيف والمحلّ (7)وما عن بعضهم من أنّه الرطوبة المتخلّفة بعد قلع الجرم، وعليه فلا يتوجه إليه ما اورد من أنّه بعد الغسل لا يبقى رطوبة متميّزة عن رطوبة الماء المستعمل في قلع الجرم، فإنّ الرطوبة اللزجة ممتازة على كلّ حال.

نعم يبقى الإشكال في الفرق بين الغسل بالماء وامسح بالأحجار بوجوب إزالة الأثر في الأوّل دون الثاني كما صرّحوا به، وربّما ادّعي الإجماع على عدمه في الثاني،

ص: 375


1- التذكرة 131:1، جامع المقاصد 182:1، المدارك 162:1.
2- الوسائل 322:1 الباب 13 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
3- كشف الغطاء 149:2.
4- نقل عنه في مفتاح الكرامة 192:1.
5- المسالك 29:1.
6- حاشية المدارك 221:1.
7- جامع المقاصد 94:1.

فإنه لو كان مبناه على الأوّل على نجاسة الأثر فهو بعينه موجود في الثاني فيجب أن يكون نجسا فكيف يحكم بعدم وجوب إزالته ؟ وكيف يجامع للحكم بطهر المحلّ؟ ومن هنا ربّما يتأمّل في أصل الحكم في الأوّل كما عن المدارك والذخيرة(1) تبعا لفخر الإسلام على ما حكي عنه تعليلا بعدم الوقوف على دليله بعد قيام الإجماع على عدمه في الاستجمار، بل ربّما اخذ ذلك الإجماع دليلا على عدمه أيضا هاهنا كما في الكلام المحكيّ عن فخر الإسلام(2) غير أنّه تكلّف بإبداء احتمال العفو هناك دون ما نحن فيه.

وبالجملة فالمسألة غير خالية عن الإشكال غير أنّ طريق الاحتياط المتأيد باستصحاب النجاسة واضح إن أريد بالأثر ما بيّنّاه، وله في كلامهم تفاسير آخر تطلب من مظانّها. وأضعفها ما قيل من أنّه النجاسة الحكميّة الباقية بعد إزالة العين فيكون إشارة إلى اعتبار تعدّد الغسل، وضعفه واضح من حيث بعده عن كلماتهم في الغاية إن لم نقل بأنّه إجماع منهم على عدم وجوب التعدّد هاهنا، حيث لم نجد له في كلامهم أثرا من التصريح ولا التلويح، والله العالم بحقائق أحكامه.

الرابعة: يجوز في الغائط الغير المتعدّي الاستنجاء بالأحجار وما بحكمها تخييرا بينه وبين الاستنجاء بالماء وإن كان الماء أفضل،

وأفضل منه هنا وفي المتعدّي الجمع بينهما. أمّا الاكتفاء بالأحجار فبالإجماع المستفيض نقله في كاشف(3) وشرح الدروس للخوانساري(4) وعن الخلاف والغنية والمعتبر والنهاية(5) والدلائل(6) والمدارك(7)وظاهر الانتصار(8) وعن العلّامة نسبه في المنتهى إلى العلماء إلّا من شذّ كعطاء(9)والنصوص به مع ذلك مستفيضة:

منها: صحيحة زرارة ورواية بريد بن معاوية المتقدّمتين(10) في مسألة الاستنجاء عن البول.

ص: 376


1- المدارك 165:1، الذخيرة: 8.
2- حكي في كشف اللثام 205:1.
3- كشف اللثام 204:1.
4- مشارق الشموس: 74.
5- الخلاف 106:1، الغنية: 36، المعتبر 128:1، نهاية الإحكام 91:1.
6- نقل عنه في مفتاح الكرامة 195:1.
7- المدارك 166:1.
8- الانتصار: 16.
9- المنتهى 269:1.
10- تقدّمتا في الصفحة: 364، الرقم 1 و 3.

ومنها: الصحيحة الأخرى لزرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «جرت السنّة في أثر الغائط بثلاثة أحجار، أن يمسح العجان ولا يغسله»(1).

ومنها: صحيحته الأخرى قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «كان الحسين بن عليّ عليهما السلام يتمسّح من الغائط بالكرسف ولا يغسل»(2).

ومنها: موثّقته عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن التمسّح بالأحجار؟ فقال: كان الحسين بن عليّ عليهما السلام يمسح بثلاثة أحجار»(3).

ومنها: مرسلة أحمد بن محمّد بن عيسى عن بعض اصحابنا رفعه إلى أبي عبداللّه عليه السلام قال: «جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار ويتبع بالماء»(4).

ومنها: النبوي «إذا مضى أحدكم لحاجة فليمسح بثلاثة أحجار، أو بثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيّات من تراب»(5).

وأمّا ما في بعض الروايات - كموثقة عمّار عن أبي عبدالله عليه السلام في الرجل ينسى أن يغسل دبره بالماء حتّى صلّى. إلّا انّه قد تمسّح بثلاثة أحجار، قال: «إن كان في وقت تلك الصلاة فليعد الوضوء وليعد الصلاة»(6) ورواية عيسى بن عبدالله عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم: «إذا استنجى أحدكم فليوتر بها وترا إذا لم يكن الماء»(7) - فلعدم مقاومته لمعارضة ما تقدّم مطروح أو محمول على الاستحباب أو على صورة التعدّي.

وأمّا كون الماء أفضل فلأنّه مع كونه أبلغ في التنظيف لما فيه من زوال العين والأثر بخلاف الأحجار ممّا نقل عليه الإجماع في القواعد(8) كما عن الغنية والمدارك(9) وعن المنتهى نسبه إلى أهل العلم(10) وورد به النصوص كالصحيح عن أبي عبدالله عليه السلام قال:

ص: 377


1- الوسائل 3481 الباب 30 من أبواب أحكام الخلوة ح 3 و 1.
2- الوسائل 358:1 الباب 35 من أبواب أحكام الخلوة ح 3.
3- الوسائل 3481 الباب 30 من أبواب أحكام الخلوة ح 3 و 1.
4- الوسائل 349:1 الباب 30 من أبواب أحكام الخلوة ح 4.
5- عوالي اللآلئ 184:2/52.
6- الوسائل 317:1 الباب 10 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
7- الوسائل 316:1 الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة ح 4.
8- القواعد 180:1.
9- الغنية: 487، المدارك 166:1.
10- المنتهى 269:1.

قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: «يا معشر الأنصار إنّ الله قد أحسن إليكم الثناء، فماذا تصنعون ؟

قالوا: نستنجي بالماء»(1).

والآخر عن أبي عبدالله عليه السلام في قول اللّه عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ قال: «كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار، ثمّ أحدث الوضوء وهو خلق كريم، فأمر به رسول الله وصنعه، فأنزل الله في كتابه إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ »(2).

وما تقدّم عند شرح الطهارة جملة من الروايات في قضيّة البراء بن معرور(3) وفي شأنه رواية اخرى عن الخصال عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «جرت في البراء بن معرور ثلاث من السنن، أمّا أولاهنّ فإنّ الناس كانوا يستنجون بالأحجار فأكل البراء بن معرور الدباء، فلان بطنه، فاستنجى بالماء، فأنزل اللّه فيه إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ فجرت السنة في الاستنجاء بالماء. فلمّا حضرته الوفاة كان غائبا عن المدينة فأمر أن يحوّل وجهه إلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم. وأوصى بالثلث من ماله فنزل الكتاب بالقبلة وجرت السنّة بالثلث»(4).

وأمّا أنّ الجمع أفضل من الجميع فحكي نقل الإجماع عليه عن الخلاف والمعتبر والمدارك(5) وعن المنتهى نسبه الى أهل العلم(6) غير أنّه في القواعد قيّده بالمتعدّي(7)وهو كما ترى ينافي إطلاق الإجماعات، نعم كون الحكم فيه آكد لعلّه ممّا لا ينبغي أن يتأمّل فيه، وربّما حمل على أفضليّة الجمع ما في ذيل المرسلة المتقدّمة من قوله عليه السلام:

«ويتبع بالماء»(8) للإجماع على عدم العمل بظاهره ولعلّه المتعين، وعليه فهو ظاهر في اعتبار تقديم الأحجار، وربّما صرّح به بعضهم فلا بأس به لولا منافاته لإطلاق

ص: 378


1- الوسائل 354:1 الباب 34 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
2- الوسائل 355:1 الباب 34 من أبواب أحكام الخلوة ح 4.
3- تقدّم في الصفحة: 5، الرقم 1.
4- الوسائل 356:1 الباب 34 من أبواب أحكام الخلوة ح 6، الخصال: 192/267.
5- الخلاف 104:1، المعتبر 128:1، المدارك 166:1.
6- المنتهى 269:1.
7- القواعد 180:1.
8- الوسائل 349:1، الباب 30 من أبواب أحكام الخلوة ح 4.

كثير من العبارات.

والمراد بما في حكم الأحجار على ما في جملة من العبارات وحكى التصريح به عن جمهور الأصحاب وعن الخلاف والغنية الإجماع عليه(1) الخرق والخشب والجلد، بل في الدروس(2) ما يعمّها والأحجار وغيرها حيث أطلق بإجزاء ثلاث مسحات بجسم طاهر مزيل للعين لا الأثر، وفي شرحه للخوانساري - بعد ما قيّده بغير ما استثنى ممّا تقف عليه -: «فالظاهر إجماع منّا»(3) كما يفهم من ظاهر المنتهى، حيث قال: «وهو مذهب أكثر أهل العلم ونسب الخلاف إلى بعض الجمهور»(4) وفي بعض ما تقدّم من النصوص دلالة عليه ولا سيّما النبوي المتقدّم و صحيحة زرارة المتقدّمة في ذيل المسألة الثانية: قال: «كان يستنجي من البول ثلاث مرّات ومن الغائط بالمدر والخرق»(5) ولا يقدح فيه الإضمار بناء على ما مرّ من أنّ نحو الزرارة لا يصدر عن غير المعصوم، ويؤيّده ما في الذخيرة(6) من الاستناد إلى ما ظهر من عادتهم في مثل هذا الاستعمال بالنسبة إلى زرارة وغيره.

وربّما استدلّ على التعميم بحسنة ابن المغيرة(7) الدالة على أنّ حدّه النقاء، وموثّقة يونس بن يعقوب(8) الآمرة في الغائط بالإذهاب، وهو حسن لولا شبهة اختصاصهما بالماء أو ورودهما مورد الإهمال وبيان حكم آخر غير ما نحن فيه، ومعهما فهما يؤيّدان المطلب كما أنّه يؤيّده ما أيّده به بعض مشايخنا من تعليل المنع في بعض الأخبار بما هو كالمانع ففي رواية ليث المرادي: «سألته عن استنجاء الرجل بالعظم والبعر والعود؟ فقال: أمّا العظم والروث فطعام الجنّ . وذلك ممّا اشترطوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم»(9) فإنّ السكوت عن حكم العود وتعليل المنع بما يخصّ العظم والروث مشعر بوجود المقتضي في الكلّ ووجود المانع في طعام الجنّ .

ص: 379


1- الخلاف 106:1، الغنية: 36.
2- الدروس 8:1.
3- مشارق الشموس: 74.
4- المنتهى 275:1.
5- الوسائل 344:1 الباب 26 من أبواب أحكام الخلوة ح 6.
6- الذخيرة: 18.
7- الوسائل 322:1 الباب 13 من أبواب احكام الخلوة ح 1.
8- الوسائل 316:1 الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة ح 5.
9- الوسائل 357:1 الباب 35 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.

وعليه فما عن ابن الجنيد «فإن لم يحضر الأحجار تمسّح بالكرسف أو ما قام مقامه، ولا اختار الاستطابة بالآجر والخرق إلّا إذا ألبسا طينا أو ترابا يابسا»(1) ممّا لا وجه له، كما لا وجه لما عن سلّار من «أنّه لا يجزئ في الاستنجاء إلّا ما كان أصله الأرض»(2) وإن أوّله في البيان والنفليّة بالأرض ونباتها(3).

ثمّ إنّ ظاهر عبائرهم كصريح غير واحد منهم يعطي الإجماع على اشتراط كون ما به الاستنجاء من الأحجار ونحوها قالعا للعين ومزيلا لها، فلا يجزئ ما لا يصلح لذلك من الأجسام لخشونته أو ملاسته أو هشاشته أو رخاوته ومنه التراب لتخلّف بعضه في المحلّ بعد تنجّسه، نصّ عليه الفاضل في كشف اللثام(4) وهو مقتضي أخبار الباب حيث إنّ الظاهر المنساق منها كون الغرض من تشريع الاستجمار حصول الطهر الّذي لا يعقل حصوله مع بقاء العين وهو صريح «النقاء» و «إذهاب الغائط» الواردين في الحسنة والموثّقة المتقدّمتين، وهو المتيقّن من معقد الإجماع محصّلا ومنقولا، فهذا ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال فيما صرّح به جماعة من عدم وجوب إزالة الأثر هنا المدّعى عليه الإجماع في بعض العبائر مع تصريحهم بوجوب إزالته في الاستنجاء بالماء كما عرفته ثمّة، وربّما يحتمل كونه هنا من باب العفو كما سمعته ثمّة عن فخر الإسلام وتبعه غيره، بل هو صريح العلّامة في المنتهي قائلا: «أمّا الاستجمار فحدّه إزالة العين، والأثر معفوّ عنه لأنّه لا ينقلع بالجامد منه شيء»(5) لكن ظاهر الشرائع والدروس وكشف اللثام طهارة المحلّ (6) كما عن ظاهر المفيد والمبسوط حيث ذكر: «أنّه لا بأس بغسل المخرج بالمايع المضاف بعد الاستجمار»(7) وصريح الفاضلين والشهيدين والمحقّق الثاني(8) بل عن صريح النزهة لابن سعيد وظاهر الفاضلين(9) انحصار الخلاف في الطهارة بعد

ص: 380


1- نقل الشهيد عنه في الذكرى 171:1.
2- المختلف 266:1 - في المصدر بدل: «الاستنجاء» «الاستجمار»، المراسم: 32.
3- البيان: 6، النفليّة: 90.
4- كشف اللثام 207:1.
5- المنتهى 269:1.
6- الشرائع 19:1، الدروس 8:1، كشف اللثام 207:1.
7- المبسوط 16:1.
8- المعتبر 130:1، المنتهى 281:1، الذكرى 171:1. روض الجنان 79:1، جامع المقاعد 95:1.
9- النزهة: 21، المعتبر 130:1، المنتهى 281:1.

الإجماع على العفو عن أثر النجاسة في الشافعي وأبي حنيفة مستدلين ببقاء أثر النجاسة، فهاهنا مسألتين(1):

إحداهما: سقوط اعتبار أثر الغائط هنا، ولعلّ الوجه فيه الإجماع خاصّة حيث لم يرد فيه نصّ خاصّ ، ويمكن استشمامه من الأخبار أيضا بعد انضمام قضاء العادة بأنّ التمسّح بالجامد لا تستتبع زوال الأثر وهو الأجزاء الصغار اللطيفة الّتي لو كانت عليها رطوبة لكان الكاشف عن بقائها لزوجة هذه الرطوبة كما هو مقتضي تعليل المنتهى(2)المتقدّم، وعليه فالأخبار بأجمعها تنصرف إلى ما هو المعتاد من الزوال وهو زوال العين، وفي كلام بعض أهل اللغة ما يشعر يكون ذلك مأخوذا في مفهوم الاستنجاء بالمسح، ككون زواله مأخوذا في مفهوم الاستنجاء بالماء، فعن المصباح المنير: «استنجيت:

غسلت موضع النجو أو مسحته بحجر أو مدر، والأوّل مأخوذ من استنجيت الشجر إذا قطعته من أصله لأنّ الغسل يزيل الأثر، والثاني مأخوذ من استنجيت النخلة إذا التقطت رطبها، لأنّ المسح لا يقطع النجاسة بل يبقى أثرها»(3) وعليه فيمكن أن يكون تصريحهم بنفي اعتبار الأثر استظهارا منهم من مطلقات الاستجمار والتمسّح بالأحجار بواسطة ظهور هذا اللفظ ونحو. فيه باعتبار أصل مفهومه.

واخراهما: طهارة المحلّ مع بقاء الأثر، واستدلّ عليها بوجوه.

منها: أنّ الأثر لا يزول إلّا بمبالغة تامّة خارجة عن حدّ العادة، فلو كلّف لكان فيه من العسر والحرج وإثارة الوسواس ما لا يخفى، مع منافاته لحكمة تشريع الاستجمار للتخفيف والتسهيل.

و - يزيّفه: قصوره عن إفادة الطهارة التي هي من الأحكام الوضعية بل غايته رفع التكليف بالإزالة وآثاره الّذي هو في معنى العفو، فيدور ثبوته بالنسبة إلى الأثر وملاقيه مدار لزوم العسر عن التكليف بالإزالة، ولو انتفى ولو عن الملاقي فلا قاضي بنفيه عن تطهيره.

ومنها: أنّ هذه الاجزاء لغاية صغرها جدّا لا يصدق عليها عرفا عنوان الغائط،

ص: 381


1- كذا، والصواب: مسألتان.
2- المنتهى 269:1.
3- المصباح المنير 816:2.

والأحكام - ولو وضعيّة - يدور مدار عناوينها، فهي ليست نجسة ليجب إزالتها، والمفروض صدق النقاء عرفا بدون إزالتها وهو موجب للطهارة.

ويضعّف بالنقض بالاستنجاء بالماء المحكوم فيه بوجوب إزالة الأثر.

ويذبّ عنه: بأن وجوب إزالتها في الاستنجاء بالماء ليس لأجل أنّها غائط يجب إزالته، بل لأنّ الاستنجاء بالماء أفاد تنجّس تلك الأجزاء بالماء النجس المختلط بالغائط فيجب إزالتها لعدم صدق النقاء بدونها عرفا.

وفيه من التكلّف الواضح ما لا يخفى، مع أنّ هذا الماء النجس المختلط بالغائط إن اريد به الرطوبات الأصليّة المخالطة له من أصل المعدة فمع أنّه غير مطرد مشترك اللزوم بين المقامين، وإن أريد به الماء العرضي الّذي خالطه من ماء الاستنجاء فهو حال وصوله الغائط ومحلّه غير مختلط، وحال اختلاطه معه منفصل عن المحل فلا يتّفق له ملاقاة هذه الأجزاء حال اختلاطه، والمفروض أنّه لا يستقرّ في المحل ليختلط معه ما دام في المحلّ ، وأنّه بحكم طهارة ماء الاستنجاء ما لم يختلطه من النجاسة أجزاء متمايزة لا ينفعل بأوّل ملاقاتها ليؤثّر في تلك الحال في تنجيس ما من شأنه أن يبقى في المحلّ من الأجزاء المذكورة.

ومنها: أنّ ملاحظة كلماتهم وسيرتهم تكشف عن اتّفاقهم على حصول الطهارة بالأحجار ونحوها، ولذا ادّعى العلّامة البهبهاني رحمه الله في شرح المفاتيح الإجماع على كون مسح المحلّ مطهّرا له(1) وهو الظاهر من المقاصد العليّة(2) وقد نسب القول ببقاء نجاسة المحلّ وعفوها إلى العامّة.

ويزيّفه: ما عرفت إن من أصحابنا أيضا من احتمل العفو ومن جزم به أيضا كالمنتهى(3) نعم المعلوم من الإجماع إنّما هو عدم وجوب إزالة المحلّ ، وهو كما ترى أعمّ من العفو. ونقل الإجماع مع ما عرفت من وجود المحتمل للعفو المصرّح به أيضا لا يفيد وثوقا واطمئنانا.

ومنها: قوله صلى الله عليه و آله وسلم: «لا يستنجوا بالعظم والروث فإنهما لا يطهّران»(4) كما استدلّ به

ص: 382


1- مصابيح الظلام 189:3.
2- المقاصد العليّة: 146.
3- المنتهى 269:1.
4- سنن الدار قطني 56:1/9.

الفاضلان(1) على ما حكي 0 ودلالته واضحة غير أنّه يتطرّق إليه القدح في سنده لعدم ثبوته عندنا كما اعترف به غير واحد، وربّما اعترض أيضا بمعارضته بظاهر قوله تعالى:

إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ (2) وقوله: فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا (3)فإنّ ظاهر الإطلاق عدم كون الاستجمار تطهيرا أصلا.

ومنها: ظهور أخبار الباب في كون الاستجمار مطهّرا كالغسل، وقوله عليه السلام في صحيحة زرارة: «لا صلاة إلّا بطهور، ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار»(4) بناء على أنّ المراد بالطهور ما يعمّ رافع الخبث أيضا، اعتمد عليه جماعة منهم غير واحد من مشايخنا، وهو المعتمد.

ثمّ بقى في المقام أمور متعلّقة بالمسألة لا بدّ من التعرّض لها:

أحدها: ظاهر الروايات وجوب التثليث في الاستجمار وعدم الاكتفاء بما دونه وإن حصل النقاء به، كما هو صريح العلّامة في جملة من كتبه والشرائع(5) كما عن النافع والمعتبر(6) وعن صريح المقنعة وكتب الشهيد الخمسة والموجز وشرحه(7) ومجمع الفوائد(8) وشرح الألفيّة والروض والروضة(9) والدلائل(10) والإثني عشريّة(11)و شرحها(12) وظاهر المبسوط والكافى والمحكي عن المراسم(13) وفي كلام غير واحد كونه المشهور كما عن جماعة، بل عن الدلائل نقل حكاية الإجماع عليه عن المعتبر(14).

وفي مفتاح الكرامة: «لعلّه فهم ذلك من نسبة الخلاف فيه إلى مالك وداوود، أو من

ص: 383


1- المعتبر 130:1، المنتهى 281:1.
2- البقرة: 222.
3- التوبة: 108.
4- الوسائل 315:1 الباب 9 من ابواب أحكام الخلوة ح 1.
5- الشرائع 10:1.
6- النافع: 5، المعتبر 129:1.
7- المقنعة: 41، الدروس 89:1، اللمعة: 19، البيان: 6، الذكرى 170:1، الألفيّة والنفليّة: 49، الموجز: 39، كشف الالتباس: 22.
8- نقل عنه في مفتاح الكرامة 203:1.
9- شرح الالفية (رسائل المحقق الكركي) 216:3، روض الجنان 79:1، الروضة 84:1.
10- نقل عنه في مفتاح الكرامة 200:1.
11- الاثنا عشرية: 60.
12- الأنوار القمريّة: الطهارة (مخطوط)، ونقل عنه في مفتاح الكرامة 200:1.
13- المبسوط 16:1، الكافي: 127، المراسم: 32.
14- نقل عنه في مفتاح الكرامة 200:1، المعتبر 129:1.

قوله: لنا ما رواه الأصحاب»(1) أقول: ربّما يشعر بدعوى الإجماع ما عن القاضي في شرح الجمل من قوله: «وعدد الأحجار عندنا ثلاثة لا يقتصر على دقلّ منها».

وذهب جماعة إلى الاكتفاء بالأقلّ على تقدير النقاء به وعدم وجوب إكماله بالثلاث كما في المشارق والمدارك(2) وقوّاه في الذخيرة(3) وعزى الميل إليه إلى مجمع الفائدة للأردبيلي والكفاية والمفاتيح(4) وحكى أيضا نسبته إلى المفيد(5) والشيخ في ظاهر المبسوط حيث قال: «استعمال الثلاث عبادة»(6) وابني حمزة وسعيد والبرّاج(7).

والأوّل هو الأقوى اعتمادا بعد الأصل - المقتضي لبقاء النجاسة إلى أن يتحقق ما علم كونه رافعا وليس إلّا الثلاثة والإجماعات المنقولة الّتي أقواها ما عن الغنية:

«وفي السنّة أن تكون ثلاثة إلّا أنّ الماء أفضل... إلى أن قال كلّ ذلك بدليل الإجماع المعتضدين بالأخبار العامّية الّتي أقواها دلالة ما روي عن سلمان رحمه الله: نهانا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أن نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجار»(8) - على ما ادّعيناه من ظهور الروايات، ويكفي في ذلك صحيحة زرارة: «لا صلاة إلّا بطهور، ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم»(9) فإنّ الإجزاء في متفاهم العرف والشرع ظاهر في بيان دقلّ مراتب الواجب ولازمه نفي الأنقص، وأيضا فإنّ جريان السنّة - بمعنى الشرع كما هو المتيقن - بذلك يقضي بعدم جريانها بالأقلّ ، وإلّا كان هو ما جرت به السنة فوجب ذكره دون الثلاثة الّتي هي بعد التنبيه على الأقلّ في غناء عن التصريح بحكم الأولويّة والتنبيه بالأدنى على الأعلى.

وأيضا فإنّ تقديم المتعلّق يفيد الحصر، والمراد به حينئذ إمّا نفي إجزاء الماء أو نفي إجزاء الأكثر أو نفي إجزاء الأقلّ من جنس الاستجمار، والأوّل كالثاني باطل بالإجماع والأولويّة القطعيّة فتعيّن الأخير. وكون الحصر إضافيا بدليل الإجماع غير قادح فيه لأنّ الضرورة تتقدّر بقدرها. والمناقشة في الأصل بما يأتي من حجّة القول الآخر من

ص: 384


1- مفتاح الكرامة 200:1.
2- مشارق الشموس: 74، المدارك 168:1.
3- الذخيرة: 18.
4- مجمع الفائدة 92:1، الكافية: 2، المفاتيح 42:1.
5- المقنعة: 41.
6- المبسوط 16:1.
7- الوسيلة: 47، المهذب 40:1، الجامع للشرائع: 27.
8- الغنية: 36.
9- الوسائل 315:1 الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.

الخبرين المتوهّم كونهما مخرجين عنه مدفوعة بما ستعرفه من القدح فيهما من وجوه شتّى، وفي الإجماع المتقدّم بتوهّم كون السنّة في معقده ما يرادف الاستحباب مدفوعة بأنّه ممّا يكذّبه ظاهر التعبير بالظرفيّة مع قوله: «والماء أفضل» فإنّه ينهض قرينة على إرادة ما يلازم الوجوب، وفي الصحيحة ونظائرها المشتملة على العدد بأن لا جهة في مفهومها لورودها مورد الغالب من عدم حصول النقاء إلّا بذلك، مدفوعة بما يشهد به السياق من ورودها لإعطاء القاعدة فيكون ظاهرا في العموم.

نعم ربّما يشكل الحال بأنّ نتيجة كلّ ما عرفت عدم حصول النقاء بالأقل، وهو ينافي ما فرض في موضوع المسألة كما هو المصرّح به من كون الأقلّ بحيث أفاد النقاء وإلّا فلا نزاع في عدم الإجزاء، وكون وجوب العدد على هذا التقدير لمجرّد التعبّد وإن كان محتملا - بل رجّحه بعض مشايخنا(1) جمعا بين الأدلّة وربّما يظهر عمّا عرفت من عبارة المبسوط ومن غيره أيضا - إلأ أنّه في غاية البعد عن الاعتبار وظواهر الأخبار، فإنّ قضية ما ذكر خروج ما زاد على ما يحصل به النقاء عن مفهوم الاستنجاء وهو ينافي ظهور الأخبار في كون المجموع من الاستنجاء.

ويمكن الذبّ عنه: بأنّ النقاء وإن كان لغة هو النظافة الّتي هي صفة في المحلّ ولا تحصل إلّا بعد روال العين والأثر بمعنى النجاسة المعنويّة الطارئة للمحلّ ، إلّا أنّ المراد به هاهنا زوال العين كما في حسنة ابن المغبرة(2) بقرينة إسناده إلى ما في المحل لا إلى نفسه، مضافا إلى أنّ بيان ضابط النظافة بمعنى صفة المحلّ بنفس تلك النظافة غير معقول، ولا ريب أنّ النقاء بهذا المعنى أعمّ ممّا يستتبع زوال الأثر، ومفاد الأخبار إنّما هو النقاء بهذا المعنى لا مجرّد زوال العين.

ولا ينافيه ما تقدّم في المسألة السابقة من أنّ الّمعتبر في الاستجمار إنّما هو زوال العين دون الأثر بالمعنى المتقدّم ثمّة، لأنّ زوال العين بمقتضى هذه الأدلّة إنّما ينهض طريقا إلى الحكم بطهارة المحلّ على معنى زوال النجاسة المعنويّة إذا تحقّق معه العدد لا مطلقا، وموضوع المسألة إنّما هو الزوال الغير المتحقق معه العدد، فيرجع النزاع إلى

ص: 385


1- الجواهر 39:2.
2- الوسائل 322:1، الباب 13 من أحكام الخلوة ح 1.

أنّه بمجرّده كاف في زوال النجاسة أو لا بدّ فيه من إكمال العدد؟

وليس للقول الآخر إلّا الحسنة المذكورة «قلت له: للاستنجاء حدّ؟ قال: لا حتّى ينقى ما ثمّة، قلت: ينقى ما ثمّة ويبقى الريح ؟ قال: الريح لا ينظر إليه»(1).

وموثّقة يونس قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «الوضوء الّذي افترضه الله لمن جاء من الغائط أو بال قال: يغسل ذكره ويذهب الغائط»(2) والاستدلال بهما إن تمّ لكان واردا على الأصل المتقدّم غير أنّه يدفعه - مع احتمالهما الاختصاص بالماء قويّا بل هو ظاهر الثانية بل الأولى أيضا على تقدير عموم الموصول المتناول للأثر بالمعنى المحكوم بعدم وجوب إزالته في الاستجمار إجماعا كما عرفت -: إنهما يحملان على إناطة الحكم بالنقاء والإذهاب في الزائد على الثلاثة إذا لم يحصل النقاء بها تقديما للأظهر الأقوى ولو بمعونة فهم الأكثر على غيره، فإنّ استعمال الزائد إلى أن يحصل النقاء واجب بالإجماع المحصّل والمستفيض نقله مضافا إلى الأصل الّذي لا يخرج عنه إلّا بالرافع اليقيني، ويستحبّ كونه وترا إن نقى بغيره كما أفتى به جماعة تسامحا في دليله، كيف ودلالتهما على كفاية الأقلّ على فرض التسليم إنّما هي بالإطلاق فيقيّد بما تقدّم المعتضد بالأصل والشهرة والإجماعات المنقولة.

وثانيها: ظاهر اخبار التثليث قصر الحكم على الثلاثة العددي فلا يكفي غيره كما لو تمسّح ثلاث مسحات بحجر ذي ثلاث جهات للأصل، وهو مختار الشيخ في المبسوط قائلا فيه - على ما حكي -: «والحجر إذا كان له ثلاثة قرون فإنّه يجزئ عن ثلاثة أحجار عند بعض أصحابنا و الأحوط اعتبار العدد لظاهر الأخبار»(3) كما عن ظاهر المقنعة وجمل السيّد والمصباح والكافي والسرائر(4) وهو صريح الشرائع والحدائق والمدارك والرياض(5) كما عن صريح المعتبر والروض والروضة وكاشف

ص: 386


1- الوسائل 3221 الباب 13 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
2- الوسائل 316:1 الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة ح 5.
3- المبسوط 17:1.
4- المقنعة: 42، جمل العلم والعمل 23:3، المصباح: 6، الكافي في الفقه: 127، السرائر 96:1.
5- الشرائع 11:1، الحدائق 34:2، المدارك 170:1، الرياض 98:1.

اللثام وكشف الغطاء(1) وهو ظاهر كلّ من عبّر بثلاثة أحجار كما عن الخلاف والمراسم واللمعة(2) وغيرها، خلافا لجماعة كالعلّامة في جملة من كتبه(3) والشهيد في غير اللمعة من كتبه(4) وشرح الألفيّة والموجز وشرحه والجعفريّة(5) ومجمع الفوائد(6)وتعليق الشرائع والأردبيلي(7) فصاروا إلى الاجتزاء بذي الجهات الثلاث.

والشهرة محكية في كلا القولين، فمن الأوّل ما عزي إلى الوحيد في شرح المفاتيح(8) ومن الثاني ما نسب إلى الشهيد الثاني في الروض(9) والمناط غير منقح بالنصّ والإجماع لوجود الخلاف وعدم ورود النصّ بكون العبرة بثلاث مسحات مطلقا، فالاقتصار على ظاهر الأخبار المشار إليها متعيّن لقيام احتمال مدخليّة الخصوصيّة المحرز لموضوع الأصل.

ولا يقاس ذلك على مسألة التعدّي عن الأحجار إلى غيرها من الخرق والأخشاب لمكان النصّ والإجماع على إلقاء الخصوصية من هذه، لقضائهما بكون الحناط قلع النجاسة بكلّ جسم قالع عدا ما استثني. فالقول بأنّه لو لم يحمل الأحجار الثلاث على المسحات الثلاث لزم القول بعدم جواز الاستنجاء بغير الأحجار أيضا وإنّه باطل ليس بسديد.

وليس للقول الآخر سوى إطلاق الحسنة والموثّقة المتقدّمتين(10) وإطلاق النبوي:

«إذا جلس أحدكم لحاجته فليمسح ثلاث مسحات»(11) وأنّ ثلاثة لو استجمروا بالحجر الواحد لحصل لكلّ واحد مسحة وأجزأه عن حجر فكذلك الواحد، فيكون كلّ

ص: 387


1- المعتبر 1؛ 130، روض الجنان 79:1، الروضة 84:1، كشف اللثام 206:1، كشف الغطاء 143:2.
2- الخلاف 105:1، المراسم: 32، اللمعة: 19.
3- التذكرة 129:1، المنتهى 274:1، التحرير 7:1.
4- الدروس 89:1، البيان: 6، الذكرى 170:1.
5- شرح الألفيّة (رسائل المحقق الكركي) 217:3، الموجز (الرسائل العشر): 40، كشف الالتباس: 22، الجعفريّة (رسائل المحقق الكركي) 82:1.
6- نقل عنه في مفتاح الكرامة 202:1.
7- تعليق الشرائع 43:1، مجمع الفائدة 92:1.
8- مصابيح الظلام 192:3.
9- روض الجنان 79:1.
10- تقدّمتا في الصفحة: 379، الرقم 7 و 8.
11- مسند أحمد 291:4/14198.

مسحة منه مجزئة عن حجر.

وأنّه لو فصل الحجر الواحد ثلاثة أجزاء أجزأت فكذا مع الاتّصال، وأيّ عاقل يفرّق بين الاتّصال والانفصال.

وأنّ المراد من ثلاثة أحجار في الأخبار هو المسحات الثلاث ولو بواحد، كما لو قيل: «اضربه عشرة أسواط» فإنّ المراد عشرة ضربات ولو بسوط واحد.

وأنّ المقصود من شرع الاستجمار الطهارة وقد حصلت بالجهات الثلاث ولا حاجة معه إلى تعدّد الحجر، وربّما ايّد بإطلاق دعوى الإجماع على الاجتزاء بكل جسم.

وفي الكلّ ما لا يخفى، أمّا الروايتان فقد عرفت حالهما، وأمّا النبوي - فبعد الغضّ عن سنده وإمكان دعوى انصرافه إلى مسحات الأحجار - أنّه ليس على إطلاقه وإلّا لزم الاجتزاء في المسحات بجهة واحدة ولا يقولون به، وتقييده بعلاه جهات ليس بأولى من تقييده بثلاثة أحجار بل الثاني هو المتعيّن لما عرفت من ظاهر أخبار التثليث، والبواقي مع ما في أكثرها من الإطلاق ما لا يقولون به استبعادات ومصادرات وقياسات لا يصلح شيء منها مستندا للأحكام الشرعيّة، نعم لو رجع دعوى عدم معقوليّة الفرق في بعضها إلى دعوى القطع بعدم تأثير للانفصال في الحكم كان له وجه لمدّعيه لا مطلقا فلا ينهض حجّة على غيره.

والفرق بين آلمسح بثلاثة أحجار والضرب بعشرة أسواط واضح والفارق هو العرف، ولذا لو قيل: «اضربه ثلاثة أحجار أو بثلاثة أحجار» مثلا، لا يفهم منه ثلاث ضربات ولو بحجر واحد. فما قيل: من أن الفارق دخول «الباء» وعدمه وهم، كما أنّ القول بعدم الفرق بين المثال وما نحن فيه وهم.

وظهر تفريعا على المختار أنّه لو كسر الحجر الواحد ابتداء إلى ثلاث قطعات فاستجمر بكلّ قطعة مرّة كان من الاستجمار بثلاثة أحجار فاجتزئ به، بخلاف ما لو استجمر بواحد فكسر محلّ المسح ثمّ استجمر بالباقي فكسر محلّ المسح الثاني ثمّ استجمر بالباقي فإنّه لا يعدّ عرفا من المسح بثلاثة أحجار، فوجب عدم الاجتزاء به اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع اليقين من مورد النصّ . ونحوه ما لو استجمر بواحد ثمّ غسله ثمّ استجمر به ثانيا فغسله أيضا ثمّ استجمر به ثالثا فإنه أيضا لا يندرج

ص: 388

في النصّ . وربّما يشعر بعدم الاجتزاء به ما في بعض الأخبار من وصف الأحجار بالأبكار، بناء على كون المراد بالبكر الحجر الغير المستعمل في هذا الاستنجاء، كما يظهر الجزم به من بعض مشايخنا دام ظلّهم(1).

ومن جميع ما ذكر يظهر الحكم في الخرقة الواحدة الطويلة الصالحة لأن يمسح بها ثلاث مسحات كلّ مسحة بموضع منها، فإنّ الاكتفاء به أيضا مشكل، والأصل يقتضي العدم. فما في المدارك - بعد ما رجّح عدم إجزاء ذي الجهات من الحجر - من أنّه ينبغي القطع بإجزاء الخرقة الطويلة إذا استعملت من جهاتها الثلاثة تمسّكا بالعموم(2) ليس على ما ينبغي.

نعم ينبغي القطع بكفاية ذي الجهات ولو حجرا فيما زاد على الثلاثة على تقدير عدم البقاء بها لإطلاق الإجماعات المنقولة وفاقا لجماعة.

ثالثها: ظاهر أخبار التثليث أيضا المتأيّد بما في بعضها من العجان الظاهر في تمام الدبر استيعاب المسح بكلّ حجر من الثلاث للمحلّ بتمامه، فلا يجزئ التوزيع بوضع كلّ حجر على موضع منه ومسح هذا الموضع خاصّة به إلى أن يتمّ مسح المجموع بمجموع الثلاث، فهو المتعيّن عملا بالأصل السليم عمّا يخرج عنه.

وتوهّم الإطلاق في النصوص وكون التوزيع على الوجه المذكور ممّا يحصل معه امتثال الأمر المعلّق على العدد، مدفوع: بأنّ الإطلاق لا ينصرف إلى الفروض النادرة ولا سيما نحو هذا الفرض الّذي لا يكاد يتّفق في الخارج مع صعوبة تثليث الموضع وبعده عن الاعتبار. مع أنّه لو لم يكن لتكرّر المسح مدخل في زوال النجاسة لم يتعلّق بشرع التثليث فائدة ولذا ذهب جماعة من المتأخّرين إلى وجوب إمرار كلّ حجر إلى موضع النجاسة، وهو المستفاد من ظاهر العبارة المحكية عن مقنعة المفيد قائلا - في باب التيمّم -: «فإن كان حدثه من الغائط استبرأه بثلاثة أحجار طاهرة لم تستعمل في إزالة نجاسة قبل ذلك، يأخذ منها حجرا فيمسح بها مخرج النجو، ثمّ يلقيه ويأخذ الحجر الثاني فيمسح به الموضع ويلقيه، ويمسح بالثالث ولا يجوز له التطهير بحجر واحد»(3).

ص: 389


1- الجواهر 47:2.
2- المدارك 170:1.
3- المقنعة: 62.

وعن المفاتيح وشرحها للوحيد نقل نسبته إلى الشهرة(1) لكن [ذهب] جماعة ممّن اعتبر التثليث إلى جواز التوزيع، وربّما يحكى عن كثير منهم بل جعله في الذخيرة المعروف بين الأصحاب(2) والعجب منه أنّه حمل كلام العلّامة في المنتهى حيث نسب فيه عدم الإجزاء إلى بعض الفقهاء(3) على أهل الخلاف، وقال: «شهد له الممارسة»(4) ثمّ قال: «ويظهر من كلام جماعة من أصحابنا المتأخّرين أنّ للأصحاب قولا بعدم إجزاء التوزيع، قال بعض الأصحاب: وأظنّه توهّما نشأ من نسبة العلّامة القول بذلك إلى بعض الفقهاء»(5) وهذا كلّه مع ما عرفته عن المفيد من الظاهر كالصريح في هذا القول كما ترى.

وكيف كان فلو انعقد ما صاروا إليه من جواز التوزيع شهرة لا عبرة به للعلم بفساد مستنده من توهم إطلاق النصوص فضلا عن عدم ثبوت انعقادها، ومع ذلك فقضيّة الأصل المعتضد بالاحتياط واضح.

ثمّ إنه لم يظهر من الأخبار بعد البناء على عدم كفاية التوزيع كيفية مخصوصة لما يتكرّر من المسحات، غير أنّه عن التذكرة أنّه قال: «إنّ الأحوط أن يمسح بكلّ حجر مجموع الموضع، بأن يضع واحد على مقدّم الصفحة اليمنى ويمسحها به إلى مؤخّرها، ويديره إلى الصفحة اليسرى فيمسحها من مؤخرها إلى مقدّمها، فيرجع إلى الموضع الّذي بدأ منه، ويضع الثاني على مقدّم الصفحة اليسرى ويفعل به عكس ما ذكرنا، ويمسح بالثالث الصفحتين والوسط»(6) وعن الإسكافي إنه جعل حجرا للصفحتين وحجرا للمخرج(7) وهذا كلّه كما ترى من الاعتبارات الّتي لا يساعد عليها من الشرع أثر.

رابعها: يشترط في أحجار الاستنجاء كونهما طاهرة بالأصل أو بالغسل فلا يجزئ المتنجّس سواء تنجّس بالاستنجاء أو بغيره، للأصل والإجماع المستفيض نقله، وظهور الأحجار في مطلقات النصوص بحكم الانصراف، وخصوص الأبكار في المقيد منها في

ص: 390


1- المفاتيح 42:1، مصابيح الظلام 192:3.
2- الذخيرة: 19.
3- المنتهى 282:1.
4- الذخيرة: 19.
5- الذخيرة: 19.
6- التذكرة 130:1.
7- حكى عنه السبزواري في الذخيرة: 19.

الجملة ولو من باب الأخذ بالقدر المتيقّن من مفهومه على تقدير الإجمال.

وربّما يستظهر من إطلاق جماعة كالشرائع والقواعد(1) وعن النافع والنهاية والوسيلة والمهذّب والجامع والإصباح(2) حيث اخذ في بعضها عدم الاستعمال وفي البعض الآخر كونها أبكارا عدم إجزاء المستعمل مطلقا وإن كان طاهرا كالثاني والثالث على تقدير حصول النقاء بالأوّل، وأظهر من الجميع ما في عبارة المقنعة المتقدّمة من قوله: «بثلاثة أحجار طاهرة لم تستعمل في إزالة نجاسة قبل ذلك»(3) وأظهر منه العبارة المحكية عن الوسيلة(4) المتضمّنة لإدراج استعمال الحجر المستعمل والحجر النجس في التروك الواجبة، بل عن كشف الغطاء(5) اختياره.

لكن جماعة من أساطين المتأخرين أعرضوا عن ذلك وبنوا على عدم البأس بمطلق الاستعمال اقتصارا في المنع على النجاسة، بل عن المصابيح: «أنّه لو طهر المتنجّس بالاستنجاء أو غيره جاز استعماله إجماعا»(6) ولذا تصدّى جماعة كالمدارك(7) وعن الدلائل(8) وكشف اللثام(9) بتنزيل المستعمل في كلام المطلقين على المتنجّس منه، كما يشهد له ما عن المعتبر: «من أنّ مرادنا بالمنع من الحجر المستعمل الاستنجاء بموضع النجاسة منه، أمّا لو كسر واستعمل المحلّ الطاهر منه جاز، وكذا لو ازيلت النجاسة عنه بغسل أو غيره»(10).

وما عن التذكرة: «ويشتر ط في الحجران لايكون مستعملا لنجاسة المستعمل...» الخ(11).

وظاهر ما عن المبسوط من أنّه بعد ما اشترط عدم الاستعمال صرّح بأنّ الحجر المتنجّس إذا طهر جاز استعماله(12) بل قد يقال: إنه تبع المعتبر فيما عرفت عنه من التصريح جلّ من تأخّر عنه كالعلّامة والشهيدين في اللمعة وشرحها والمحقّق الثاني

ص: 391


1- الشرائع 19:1، القواعد 180:1.
2- النافع: 5، النهاية 201:1، الوسيلة: 47، المهذّب 40:1، الجامع للشرائع: 27، الإصباح 426:2.
3- المقنعة: 42.
4- الوسيلة: 47.
5- كشف الغطاء 143:3،
6- مصابيح الأحكام: 69 (مخطوط).
7- المدارك 172:1.
8- نقل عنه في مفتاح الكرامة 207:1.
9- كشف اللثام 211:1.
10- المعتبر 133:1.
11- التذكرة 13:1.
12- 1 لمبسوط 16:1.

وابن فهد وغيرهم.

ولا ينافي الحمل المذكور ما في القواعد من ذكر النجس بعد ذكر المستعمل، ولا ما في الشرائع من ذكر الأعيان النجسة بعده، لظهور الأوّل فيما هو صريح الثاني من الأعيان النجسة ما حمله عليه في المدارك.

ولا يأبى عنه أيضا ما عرفته عن المقنعة لجواز كون الجملة صفة للصفة لا صفة بعد صفة للأحجار، ولا ما عرفته عن الوسيلة لجواز كون العطف للتفسير وإن بعد، وعليه فالاستدلال على اشتراط عدم الاستعمال مطلقا ليس بسديد. كما أنّه كذلك توهّم الاستدلال عليه برواية الأبكار وتأييده بكون المستعمل من الأفراد الخفيّة فلا تشمله الإطلاقات.

وبما قرّرناه جميعا انقدح عدم إجزاء نجس العين مضافا إلى اتّفاق النصوص الواردة في الباب على الأحجار وما يلحق بها ممّا ليس منه نجس العين إجماعا. ثمّ إنّه لو استعمل النجس أو المتنجّس ففي تعيّن الماء حينئذ مطلقا كما عن المنتهى(1)والتحرير والذكرى(2) وعدمه كذلك كما احتمله في نهاية الإحكام(3) - على ما حكي عنه - لأنّ النجس لا ينجّس، ولأنّه يسمّى استنجاء فيلحقه حكمه كما في القواعد(4) أو يفرّق بين ما كان متنجّسا بالغائط فالثاني أو بغيره فالأوّل، أو بين ما كان محلّ النجو رطبا فالأوّل أو يابسا فالثاني، أو بين ما كان استعماله قبل استعمال الحجر الأوّل فالأوّل وبعده أو بعد الثاني أيضا فالثاني وجوه، أقواها الثاني وفاقا للجواهر وغيره وأحوطها الأوّل.

خامسها: عن جماعة اشتراط جفاف الجسم الّذي يستنجى به، بل قيل: وهو المحكيّ عن الأكثر، وعن بعضهم عدم الاشتراط كما هو ظاهر من أطلق. وقد يفصّل بين ما لو لم يكن على الرطب أجزاء مائيّة تتعدّى منه إلى المحل فيجزئ الاستنجاء به وما كان عليه أجزاء تتعدّى إليه فلا يجزئ الاستنجاء به، وهو الأقوى إن لم يكن

ص: 392


1- المنتهى 277:1.
2- التحرير 8:1، الذكرى 173:1.
3- نهاية الإحكام 89:1.
4- القواعد 180:1.

ما عليه من الرطوبة على التقدير الأوّل بحيث يزلق عن المحلّ ، وليس للقول الأوّل إلّا الأصل وأنّ ما على الجسم من الرطوبة يتنجّس بملاقاة النجاسة فيتنجّس بها الجسم وهي نجاسة خارجيّة فلا يطهّر به المحلّ لعدم جواز استعمال المتنجّس فيه، وأنّ الرطب لا يطهّر المحلّ بل يزيده تلويثا وانتشارا للنجاسة. والكلّ منظور فيه.

وفي اشتراط كون محلّ النجو رطبا وعدمه فيطهّر بالأحجار وما يلحق بها ولو كان يابسا وجهان، لم نقف على تعرّض لهما في كلام الأصحاب وإن كان أجودهما الأوّل، بل هو الأظهر خصوصا إذا كان على المحلّ أجزاء يابسة من الغائط لا تنقلع بالتمسّح، لظهور نصوص الباب بحكم الانصراف أو أنّه القدر المتيقّن من موردها فيرجع في غيره إلى الأصل.

سادسها: يحرم الاستنجاء بامور:

منها: الروث والعظم، والأصل فيه - بعد الإجماعات المستفيضة - خبر ليث المرادي عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود؟

قال: أمّا العظم والروث فطعام الجنّ وذلك ممّا اشترطوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وقال:

لا يصلح بشيء من ذلك»(1) المتأيد بروايات عامّيّة مستفيضة، منها: رواية ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم: «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنّه زاد إخوانكم من الجنّ »(2) وبما روي عن حديث مناهي النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم «ونهى أن يستنجي الرجل بالروث والرمة»(3) وهي بالكسر - على ما عن القاموس والنهاية(4) - العظم البالي، وضعفه سندا مجبور بالعمل، قال في المنتهى: «والرواية وإن كانت ضعيفة السند إلّا أنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول، ومقتضى العلّة الّتي يوضحها ما في الفقيه - «لا يجوز الاستنجاء بالروث والعظم لأنّ وفد الجانّ جاؤوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فقالوا:

يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم متّعنا فأعطاهم الروث والعظم فلذلك لا ينبغي أن يستنجى بهما» - أن

ص: 393


1- الوسائل 357:1 الباب 35 من أبواب أحكام الخلوة ح 1، التهذيب 354:1/1053.
2- المستدرك 279:1 الباب 26 من أبواب أحكام الخلوة ح 2.
3- الوسائل 358:1 الباب 35 من أبواب أحكام الخلوة ح 5.
4- القاموس 1693:2، النهاية لابن الاثير 267:2.

يكون المنع لطروّ المانع مراعاة للجانّ من حيث إنّ الاستنجاء يوجب خباثة منفرة للطبع كما هو ظاهر التعليل، أو مراعاة للإنسان من حيث احتمال ترتّب ضرر على مطعوم الجانّ لا لفقد المقتضي. كما أنّ مقتضي اختصاص الروث بالذكر في معقد الإجماعات ومورد الروايات عدم تعدّي الحكم إلى نحو البعر كما هو الأصل. وليس في الأخيار ما ينافي ذلك عدا ما في العامّي: «من استنجى برجيع أو عظم فقد برئ من محمّد صلى الله عليه و آله وسلم»(1) وما عن دعائم الإسلام: «نهوا عن الاستنجاء بالعظام والبعر وكلّ طعام»(2) لكنّهما لضعفهما وعدم ظهور عامل بهما لا ينهضان حجّة على ما يخالفه، مع عدم وضوح كون الرجيع مرادا به ما يعمّ البعر.

نعم من مشايخنا من قال: «الإنصاف أنّه لا يبعد دعوى إرادة العموم، لأنّ السؤال في رواية ليث المتقدّمة عن البعر فذكر الروث في الجواب يدلّ على أنّ المراد به مطلق الرجيع. واعترض على ما قيل من أنّ عدوله عليه السلام عن مورد السؤال إلى الروث يقضي بالاختصاص بأنّه إنما يحسن لو كان البعر عامّا للروث وأمّا إذا كان ظاهره عرفا مغايرا للروث فهو دليل على إرادة العموم من الروث، إلّا أن يقال: إنّ الأمر دائر بين إرادة التعميم من البعر وبين إرادته من الروث فيسقط الاستدلال» انتهى(3).

لكنّ الّذي يسهّل الخطب أنّ العدول عن مورد السؤال إلى ما يباينه تنبيها على ثبوت الحكم المتوهم فيه خاصّة متداول شائع في العرف بل في كثير من المقامات لا يخلو عن لطف وحسن كما يرشد إليه التأمّل.

ومنها: المطعوم المفسّر في كلام بعض الأصحاب بالخبز والفاكهة ولم يظهر فيه مخالف، بل عن صريح الغنية كما عن ظاهر الروض الإجماع عليه(4) ونسبه في المنتهى إلى علمائنا(5) والعمدة فيه الاحترام الّذي ينافيه ما يوجب الإهانة مع ما فيه من القبح العقلي في الجملة.

وربّما يستدلّ بفحوي ما تقدّم في منع الاستنجاء بالروث والعظم تعليلا بكونهما من

ص: 394


1- الدعائم 105:1.
2- الدعائم 105:1، المستدرك 279:1/600.
3- كتاب الطهارة (للشيخ الأنصاري) 470:1-471.
4- الغنية: 36، روض الجنان 78:1.
5- المنتهى 278:1

طعام الجنّ ، قال في المنتهى: «النهي متناول له من طريق التنبيه لأنّه معلّل في الروث بكونه زاد الجنّ فزادنا أولى»(1) وفيه نظر يظهر وجهه ممّا أشرنا إليه من كون النهي بهذا التعليل إمّا لمراعاة حال الجنّ من حيث إنّهم يتنفّرون عن طعامهم أو لمراعاة حال الإنس من حيث تضرّرهم عمّا باشره الجنّ بالأكل أو الشمّ مثلا.

وكيف كان فالأولويّة موضع منع، نعم في رواية دعائم الإسلام المتقدّمة ذكر كلّ طعام صريحا، غير أنّ الاعتماد على روايات هذا الكتاب محلّ كلام، وعن صاحب الحدائق(2) إنكار الاعتماد عليه وإن حكي عن البحار(3) أنّ أخباره تصلح للتأييد والتأكيد. وحيث إنّ معقد الإجماع هو الطعام أو المطعوم فالحكم يدور مع صدقه عرفا وجودا وعدما، فلا يعتبر فيهما صلاحية الأكل فعلا فيدخل فيه نحو الحنطة والشعير، وحيث إنّه مطلق فلا فرق فيه بين المسحة المزيلة والمسحة المطهّرة.

ومنها: كلّ محترم في الدين أو المذهب يلزم من الاستنجاء به هتك حرمته كالتربة الحسينيّة على مشرّفهما السلام والتحيّة، وورق المصحف وما كتب عليه اسم اللّه أو أحد من الأنبياء أو الأئمّة عليهما السلام والحق بالأولى تربة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وقبور سائر الأئمّة عليهما السلام وربّما يذكر من ذلك حجر زمزم، كما قد يلحق به كتب الحديث والفقه، وبالجملة المدار على الاحترام.

وفي المشارق: «كون الحكم فيه ممّا كاد أن يكون إجماعا»(4) ووجهه من حيث تضمّنه القبح العقلي والاستخفاف وهتك الحرمة واضح. وينبغي تقييده في التربة بغير بلد الحسين عليه السلام، وفي الخزف والآجر المتّخذين منها إشكال وإن كان الأحوط تجنّبه إن لم نقل بكونه أقوي، ومنه بان الحكم في أخذ الآنية المتّخذة منها إلى بيت الخلاء للاستنجاء.

وربّما يناط فيه المنع بما لو اخذ طينه بقصد التعظيم والتبرّك والاستشفاء والأحوط الاجتناب مطلقا.

ثمّ في حصول الطهر بالأمور المذكورة عدا ما يزلق عن النجاسة ولا يقلعها - كما

ص: 395


1- المنتهى 378:1.
2- الحدائق 44:2.
3- البحار 211:80.
4- مشارق الشموس: 78.

عليه العلّامة في جملة من كتبه(1) وصاحب المدارك(2) وعن الشهيدين(3) والعليّين(4)وأبي العبّاس(5) والصيمري(6) والدلائل(7) - وعدمه كما عن المبسوط والغنية والسرائر والمعتبر(8) قولان، وعن شرح الموجز نقل الشهرة على الأوّل(9) وعن الغنية نقل الإجماع(10) كما عن ظاهر الذخيرة نقل الشهرة على الثاني(11).

حجّة الأوّلين: إطلاق ما دلّ على الاكتفاء في الاستنجاء بالنقاء وذهاب الغائط.

ومستند الآخرين - بعد الأصل - دلالة النهي على الفساد، وقوله عليه السلام: «لا يصلح» في الخبر المتقدّم، والنبويّ العامّي: «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم نهى أن يستنجى بروث أو عظم، وقال: إنّهما لا يطهّران»(12).

وفي الجميع ما عدا الأصل نظر، فإنّ الإطلاق قد عرفت حاله مرارا، والنهي في نحو المقام لا يدلّ على الفساد سيما بعد ما استظهرناه من كونه لطروّ المانع في الروث والعظم وهو طروّ جهة الغذائية، بل هو كذلك في غيرهما ممّا لم ينه عنه صريحا كالأمور المحترمة فليس المقام إلّا من قبيل الاستنجاء بالمغصوب، واحتمال «لا يصلح» لنفي المصلحة مراعاة لأحد الأمرين المتقدّمين لا نفي صلاحية الطهوريّة، بل لا يبعد دعوى ظهوره فيه بملاحظة التعليل بما هو من قبيل وجود المانع عن الجواز، والخبر العامّي غير ثابت الاعتبار لعدم معلوميّة الانجبار.

نعم الاستناد إلى الأصل في محلّه لولا عموم الطهر بكلّ جسم قالع لّلعين على وجه يتناول المقام، ولعلّه لا يخلو عن منع لعدم نهوض إطلاق عليه ولا منقح للمناط من نصّ أو إجماع، فانّ الإجماع بالنسبة إلى محلّ الخلاف غير معقول. ومن هنا قد يقال: لو كان مستند التعدّي عن الأجسام المنصوصة إلى غيرها الإجماع كان المتعيّن هو الحكم بالفساد للأصل وعدم الدليل، نعم يمكن استفادة العموم من خبر ليث بتقريب

ص: 396


1- التذكرة 127:1، المنتهى 281:1.
2- المدارك 173:1.
3- البيان: 56، الدروس 89:1، المسالك 5:1.
4- جامع المقاصد 98:1.
5- الموجز: 40.
6- كشف الالتباس: 22.
7- نقل عنه في مفتاح الكرامة 213:1.
8- المبسوط 17:1، الغنية: 36، السرائر 96:1، المعتبر 133:1.
9- كشف الالتباس: 22.
10- الغنية: 487.
11- الذخيرة: 18.
12- سنن الدار قطني 56:1/9.

ما تقدّم عند البحث عن التعدّي من أن السكوت عن حكم العود وتعليل المنع بما يختصّ بالعظم والروث ممّا يقضي بوجود المقتضي في الكلّ مع طروّ المانع لطعام الجنّ ، وأيضا فإنّه لو كان العظم والروث غير صالحين للمطهّرية لذاتهما كان تعليل المنع بفقد المقتضي أولى كما لا يخفى. وحينئذ فالأقوى فيهما القول الأوّل والأصل في البواقي على حاله، واللّه العالم بحقائق أحكامه.

المبحث الثالث في سنن المتخلّي من مندوباته ومكروهاته
أمّا المندوبات فامور:
الأوّل: ستر البدن كلّه على ما في كلام جماعة،

وفسّره غير واحد بالتستر والجلوس بحيث لا يراه أحد، بأن يبعد المذهب أو يلج حفيرة أو يدخل بناء ونحو ذلك، وربّما يشمل إطلاق الجماعة للاحتفاء بنحو العباء لكن الأدلّة لا تناوله.

وكيف كان فمستند الاستحباب بعد التسامح بملاحظة الفتوى هو التأسّي على النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كما روي في مدحه صلى الله عليه و آله وسلم: «أنّه لم ير في بول ولا غائط»(1) وما روي من قوله عليه السلام: «من أتى الغائط فليتستر»(1) وما روي في مدح لقمان - عليه وعلى نبينا وآله السلام - قال: «ما اوتي لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا جمال ولكنّه كان رجلا قويّا في أمر اللّه، متورّعا ساكنا سكينا، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال، لشدّة تستره وتحفّظه في أمره»(3).

وقول الصادق عليه السلام في خبر حمّاد «قال: قال لقمان لابنه: يا بنيّ إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم - إلى أن قال -: وإن أردت قضاء حاجتك فابعد المذهب في الأرض»(4) وبملاحظة ما ذكر يعلم عموم الحكم للبول أيضا، فما عن بعض العبارات من تخصيصه بالغائط ممّا لا وجه له.

ص: 397


1- الوسائل 306:1 الباب 4 من أبواب أحكام الخلوة ح 4.
الثاني: تغطية الرأس لو كان مكشوفا كما أفتى جماعة وربّما ادّعي فيه الشهرة،

بل عن المعتبر والذكري الإتفاق عليه(1) كما عن المفاتيح الإجماع عليه(2)وهذا كلّه كما ترى ينهض حجّة على نحو المقام، وربّما علّل بامور آخر توجب رجحانا، فعن الفقيه: «ينبغي للرجل إذا دخل الخلاء أن يغطّي رأسه إقرارا بأنّه غير مبرئ نفسه من العيوب»(3).

وعن المفيد: «وليغطّ رأسه إن كان مكشوفا ليأمن بذلك من عبث الشيطان ومن وصول الرائحة الخبيثة إلى دماغه، وهو سنّة من سنن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وفيه إظهار الحياء من اللّه لكثرة نعمه على العبد وقلّة الشكر منه»(4).

وربّما يشعر التعليل بالأمن من وصول الرائحة أنّ مراده بالتغطية إنّما هو التقنّع المفسّر في كلام غير واحد بإسدال ثوب على الرأس يقع على منافذ الرأس لأنّه الّذي يمنع عن الوصول لا مطلق التغطية، ويشعر به تعليل الفقيه أيضا، وفي المدارك: «ذكر الشيخان أنّه يستحبّ التقنع فوق العمامة لما رواه عليّ بن أسباط مرسلا عن الصادق عليه السلام أنّه كان إذا دخل الكنيف يقنع رأسه»(5) وعن المفاتيح(6) وغيره أيضا الإفتاء به، فلعلّه مراد الجماعة من التغطية كما يومى إليه ما عن الذكرى(7) من استناده لاستحبابها بالاتفاق وبرواية التقنّع.

وعن البحار، أنّه قال: «المشهور بين الأصحاب استحباب تغطية الرأس في الخلاء» والّذي يظهر من الأخبار والتعليلات الواردة فيها وفي كلام بعض الأصحاب أنّه يستحبّ التقنّع بأن يسدل على رأسه ثوبا يقع على منافذ الرأس ويمنع وصول الرائحة الخبيثة إلى الدماغ وإن كان متعمّما وهذا أظهر وأحوط»(8) ولو قيل باستحباب الأمرين معا كما التزم به بعضهم كان حسنا لما مرّ وللمرويّ عن المجالس عن أبي ذرّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في وصيته له قال: «يا أبا ذرّ استحيي من اللّه فإنّي والّذي نفسي بيده

ص: 398


1- المعتبر 133:1، الذكرى 162:1.
2- المفاتيح 42:1.
3- الفقيه 24:1/41.
4- المقنعة: 39.
5- المدارك 156:1.
6- المفاتيح 42:1.
7- الذكرى 162:1.
8- البحار. 183:8.

لأدخل حين أذهب إلى الغائط متقنّعا بثوبي، استحياء من الملكين اللذين معي»(1) هذا مع سبق تغطية الرأس وأمّا مع سبق التقنّع فالظاهر سقوطها.

الثالث: التسمية دخولا وخروجا

لصحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله عليه السلام «إذا دخلت المخرج فقل: بسم اللّه اللهمّ انّي أعوذ بك من الخبيث المخبث الرجس النجس الشيطان الرجيم، وإذا خرجت فقل بسم الله وبالله الحمد لله الّذي عافاني من الخبيث المخبث وأماط عني الأذى»(2) وفي مرفوعة سعد بن عبدالله إلى الصادق «من كثر عليه السهو، فليقل إذا دخل المخرج: بسم الله وبالله أعوذ باللّه من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم»(3) وفي رواية استحبابها أيضا عند الكشف لقول أبي جعفر عليه السلام: «إذا تكشف لبول أو غير ذلك فليقل: بسم الله، فإنّ الشيطان يغضّ بصره»(4).

الرابع: تقديم الرجل اليسرى دخولا واليمنى خروجا على عكس المسجد،

قال في المدارك: «وهذا الحكم مشهور بين الاصحاب»(5) ونحوه عن الدلائل والذخيرة(6)بل عن الغنية الإجماع عليه(7) وفي كلام غير واحد عدم وجود نصّ فيه، وعن المعتبر:

لم أجد به حجّة غير أنّ ما ذكره الشيخ وجماعة من الأصحاب حسن(8) وعن الفقيه(9)أنّه علّله بالفرق بين دخول الخلاء ودخول المسجد، ونحوه عن الشيخ في التهذيب(10)وربّما حمل كلامهما على العلّة المنصوصة استظهارا من أنّهما كنظرائهما من أصحاب الحديث لم يذكرا إلّا عن نصّ ، ومع الغضّ عن ذلك فما عرفته من الإجماع والشهرة المحكييّن المعتضد بفتوى الجماعة كاف في المقام.

ثمّ ظاهر التعبير بالدخول والخروج اختصاص الحكم بالبناء لكن عن جماعة كالنهاية ومجمع الفوائد والذخيرة التعدّي إلى الصحراء أيضا بجعل المدار فيها على

ص: 399


1- الوسائل 304:1 الباب 3 من أبواب أحكام الخلوة ح 3.
2- الوسائل 306:1 الباب 5 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
3- الوسائل 308:1 الباب 5 من أبواب أحكام الخلوة ح 8 و 9.
4- الوسائل 308:1 الباب 5 من أبواب أحكام الخلوة ح 8 و 9.
5- المدارك 174:1.
6- الذخيرة: 20.
7- الغنية: 487.
8- المعتبر 134:1.
9- الفقيه 17:1.
10- التهذيب 125:1.

موضع الجلوس(1) واحتمله في المدارك(2) أيضا ولا ضير فيه تسامحا بفتوى هؤلاء.

الخامس: الدعاء عند الاستنجاء وبعد الفراغ منه

كما هو ظاهرهم بل صريح بعضهم، وربّما احتمل كما عن شرح الدروس(3) إرادة الفراغ عن الحدث وإرادتهما معا، وفهم الجماعة أولى بالاتباع، وهو للأوّل على ما ورد «اللّهمّ حصّن فرجي واعفّه واستر عورتي وحرّمني على النار»(4) وعن البحار إيراده بزيادة: «ووفّقني لما يقرّبني منك يا ذا الجلال والإكرام»(5).

وللثاني على ما ورد أيضا: «الحمد لله الّذي عافاني من البلاء وأماط عنّي الأذى»(6) وعن فقه الرضا عليه السلام: «فإذا فرغت فقل: الحمد لله الّذي أماط عنّي الأذى وهنّأني طعامي وعافاني من البلوى، الحمد لله الّذي يسّر المساغ وسهّل المخرج وأماط الأذى»(7) وممّا أفتى به الجماعة وورد به الرواية أيضا الدعاء بعد الخروج بقول أمير المؤمنين عليه السلام: «الحمد لله الّذي رزقنى لذّته وأبقى قوّته في جسدي وأجرى عنّي أذاه يالها نعمة»(8) يقوله ثلاثا.

وروي عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم مرسلا: «إذا دخل الخلاء يقول: الحمد لله الحافظ المؤدّي» وإذا خرج مسح بطنه وقال: «الحمد لله الّذي أخرج عنّي أذاه وأبقى قوّته فيالها من نعمة لا يقدرون القادرون قدرها»(9) ويستفاد منه استحباب مسح البطن أيضا كما ذكره جماعة، وظاهر المحكيّ عن المقنعة استحبابه عند القيام عن الاستنجاء مع الدعاء عنده وهو قوله: «وإذا فرغ من الاستنجاء فليقم وليمسح بيده اليمنى بطنه وليقل: الحمد لله الّذي أماط عنّي الأذى وهنّأني معيشة طعامي وشرابي وعافاني من البلوى، الحمد لله الّذي رزقني ما اغتذيت به وعرّفني لذّته وأبقى في جسدي قوّته وأخرج عنّي أذاه يالها

ص: 400


1- نهاية الإحكام 81:1، نقل عنه في مفتاح الكرامة 222:1، الذخيرة: 20.
2- المدارك 174:1.
3- مشارق الشموس: 79.
4- الوسائل 401:1 الباب 16 من أبواب الوضوء ح 1.
5- البحار 180:80.
6- الوسائل 307:1 الباب 5 من أبواب أحكام الخلوة ح 2.
7- فقه الرضا عليه السلام: 78.
8- الوسائل 307:1 الباب 5 من أبواب أحكام الخلوة ح 3.
9- الوسائل 308:1 الباب 5 من أبواب أحكام الخلوة ح 6.

نعمة لا يقدر القادرون قدرها»(1).

السادس: الاستبراء

كما هو المشهور المحكيّ فيه الشهرة في كلام جمع من الأساطين خلافا للوسيلة والغنية المصرّحين بالوجوب على ما حكي(2) وهو ظاهر النهاية والاستبصار كما حكي(3) وربّما يعزى إلى الديلمي(4) للأصل المعتضد بالشهرة العظيمة وظاهر صحيحة جميل: «إذا انقطعت دريرة البول فصبّ الماء»(5) وهو ظاهر روايات اخر. وليس للقول بالوجوب إلّا بعض الروايات الضعيفة الدلالة كصحيحة حفص بن البختري عن الصادق عليه السلام: «في الرجل يبول قال ينتره ثلاثا ثمّ إن سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي»(6) والحسن كالصحيح عن محمّد بن مسلم «قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل بال ولم يكن معه ماء؟ قال: يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات، وينتر طرفه، فإن خرج بعد ذلك شيء فليس من البول، ولكنّه من الحبائل»(7)وظاهرهما أنّه إنّما شرّع لفائدة الحكم على البلل الخارج يعده بعدم البوليّة كما هو المصرّح به في كلام جماعة للتحفّظ على الطهارة عن النقض، فتكون الخبريّة إرشادا إلى طريق هذه الفائدة فلا وجه لوجوبه.

وفي كيفيته أقوال كثيرة أحوطها ما هو أشهرها وهو المسحات الثلاث بأن يمسح من عند المقعدة إلى اصل القضيب ثلاثا ومن أصله إلى رأسه ثلاثا ثمّ ينتر رأسه ثلاثا أي يجذب بقوّة، والأصل فيه الخبران المتقدّم ذكرهما مع خبر عبد الملك بن عمرو عن أبي عبدالله عليه السلام «في الرجل يبول ثمّ يستنجي ثمّ يجد بعد ذلك بللا، قال: إذا بال فخرط ما بين المقعدة والانثيين ثلاث مرّات وغمز ما بينهما»(8) بناء على عود الضمير إلى ثاني الموصوليين ليكون كناية عن القضيب كما يساعد عليه القرب والغمز الّذي هو عبارة

ص: 401


1- المقنعة: 40.
2- الوسيلة: 47، الغنية: 36.
3- النهاية 214:1، الاستبصار 48:1.
4- المراسم: 22.
5- الوسائل 349:1 الباب 39 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
6- الوسائل 283:1 الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء ح 3.
7- الوسائل 320:1 الباب 11 من أبواب أحكام الخلوة ح 2.
8- الوسائل 282:1 الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء ح 2،

عن العصر الّذي هو أنسب بالقضيب بالقياس إلى ما بين المقعدة والانثيين، وعليه يتمّ المطلب بتقييد مطلقه بمقيّد ما تقدّم كتقييد مطلق ما تقدّم بمقيّده، ويمكن أن يستغنى بالأوّلين عنه بناء على شمول أصل الذكر في الحسنة لنحو ما بين المقعدة والانثيين إمّا لظهور اللفظ عرفا أو لأنّ المقصود من شرع الاستبراء وهو استظهار براءة المجري عن الأجزاء البولية لا يتأتّى إلّا بعصره بعد تقيّد مطلقها بمقيّد الصحيحة التفاتا إلى ظهورها في تمام الذكر حتّى الحشفة، ولا ينافيه عدم دلالتهما على التوزيع المقتفي للفصل بين المواضع الثلاث على حسبما في كلام الأصحاب، لأنّه في كلامهم ليس على جهة الاعتبار والشرطيّة حيث لم ينصّ أحد به بل نصّ بعضهم بخلافه، وإنّما هو لتسهيل الأمر وكون الشيخ أو العصر مع الفصل أدخل في إبراء المجرى عن الأجزاء المتخلّفة كما لا يخفى.

ثمّ إنّ كلام الأصحاب كنصوص الباب وإن كان ظاهرا في كون المسح والعصر بآلة اليد لكن مقتضي إطلاقهما عدم اعتبار كونهما بإصبع خاصّ ولا مدخلية كيفيّة مخصوصة، فما في كلام جماعة من ذكر بعض الخصوصيّات وبيان بعض الكيفيات ليس على وجه الاعتبار. ومن هنا يحمل ما عن مقنعة المفيد(1) من اعتبار وضع الوسطى في المسح بين المقعدة والذكر ووضع المسبحة تحت القضيب والإبهام فوقه في الباقي على إرادة الأفضليّه، وعن روض الشهيد(2) أنّ الاعتبار أفضل، وربّما يدّعى عدم الخلاف في عدم الاعتبار، وعليه فأفضل من جميع ما ذكروه أن يمسح ما بين المقعدة والانثيين بإصبعين الوسطى والمسبحة وهي الخنصر ويعصر القضيب إلى الحشفة بباطن الإبهام مع الوسطى منضمّة إلى المسيحة ثمّ ينتر الحشفة كذلك مراعيا للقوّة في الجميع، وعن التذكرة واللمعة والدروس استحباب التنحنح ثلاثا حال الاستبراء(3) ولا بأس به تسامحا وإن كانت النصوص خالية عن ذكره.

ثمّ إنّ ظاهر النصوص موردا ومتنا كما عن ظاهر الأكثر اختصاص الحكم بالرجال

ص: 402


1- المقنعة:. 4.
2- روض الجنان 82:1.
3- التذكرة 131:1، اللمعة: 4، الدروس 9:1.

لكن ربّما قيل باستحبابه أيضا للنسوان، وعن المنتهى أنّ الرجل والمرأة سواء(1) غير أنّ المذكور في كلام غير واحد أنّها تستبرأ عرضا وليس ببعيد، وعن ابن الجنيد إذا بالت المرأة تنحنحت بعد بولها(2) وهذا أقرب بالاعتبار.

السابع: نصّ جماعة باستحباب البدءة في الاستنجاء بالمقعدة ثمّ بالإحليل،

وخبر موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن الرجل إذا أراد أن يستنجي فأيّما يبدأ بالمقعدة أو بالإحليل ؟ فقال: بالمقعدة ثمّ بالإحليل»(3) وربّما يعلّل بأنّه لئلّا ينجس اليد بالغائط عند الاستبراء. وقد ذكر الأصحاب مستحبّات آخر في المقام ولم نجد في كتبهم ما هو أكثر جمعا و أزيد ضبطا لها من كشف الغطاء فمن يراجعه يقف عليها البتّة.

وأمّا المكروهات فهي أيضا امور:
منها: الجلوس للحدث بولا وغائطا في الشوارع والمشارع ومواضع اللعن وفيء النزّال،

والأصل في هذه الأربع الصحيح عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رجل لعليّ بن الحسين عليه السلام: أين يتوضّأ الغرباء؟ فقال: يتّقي شطوط الاّنهار، والطرق النافذة، وتحت الأشجار المثمرة، ومواضع اللعن، قيل له: وأين مواضع اللعن ؟ قال: أبواب الدور»(4)ومرفوعة عليّ بن إبراهيم قال: «خرج اّبو حنيفة من عند أبي عبدالله عليه السلام وأبو الحسن موسى عليه السلام قائم وهو غلام، فقال له أبو حنيفة: يا غلام! أين يضع الغريب ببلدكم ؟ فقال:

اجتنب أفنية المساجد، وشطوط الأنهار، ومساقط الثمار، ومنازل النزّال، ولا تستقبل القملة ببول ولا غائط، وارفع ثوبك وضع حيث شئت» الخبر(5).

وعن الاحتجاج عن مولانا الكاظم عليه السلام في جواب أبي حنيفة في قوله: يا غلام! أين يضع الغريب حاجته في بلدكم هذه ؟ قال: «يتوارى خلف الجدار، ويتوقّى أعين الجار وشطوط الأنهار، ومسقط الثمار»(6).

ص: 403


1- المنتهى 256:1.
2- نقل عنه في الذكرى 168:1.
3- الوسائل 324:1 الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ح 1 و 2.
4- الوسائل 324:1 الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ح 1 و 2.
5- الوسائل 301:1 الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
6- الوسائل 326:1 الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ح 7.

والمرويّ عن دعائم الإسلام عنهم عليهما السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال: «البول في الماء القائم من الجفاء، ونهى عنه وعن الغائط فيه وفي النهر وعلى شفير البثر يستعذب من مائها وتحت الشجرة المثمرة وبين القبور وعلى الطرق والأفنية»(1).

ورواية السكوني عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهما السلام قال: «نهي رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أن يتغوّط على شفير بئر ماء يستعذب منه، أو نهر يستعذب، أو تحت شجرة فيها ثمرتها»(2).

والمرويّ عن مجالس الصدوق في مناهي النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أنّه «نهى أن يبول رجل تحت شجرة مثمرة، أو على قارعة الطريق»(3).

واعلم أنّ النهي الوارد في هذه الأخبار صيغة ومادّة وإن كان ظاهرا في المنع إلّا إنّ فهم الأصحاب وإعراضهم عن هذا الظهور مع ضعف أسانيد أكثرها يوجب الالتزام بالكراهة، ولا يقدح فيه المنع المستفاد من شاد مع عدم صراحة كلامه فيه.

وأمّا الكلام في هذه المسائل موضوعا ف - «الشارع» لابدّ وأن يراد منه ما هو في الصحيحة وهو الطريق السالك عامّا كان أو خاصّا ما لم يكن ملكا لأربابها وإلّا حرم من غير إذن، وفي معناه «الطريق» الوارد في رواية الدعائم بناء على كون القيد في الأوّل للتوضيح كما هو الظاهر فإنّ المهجور لا يطلق عليه الطريق على وجه الحقيقة، وعليه فلا يعمّه الحكم جزما كما نصّ عليه جماعة من الأصحاب، ولعلّه لما ذكرناه فسّره في جامع المقاصد بالطريق(4) وفي الروضة بالطريق المسلوك(5) فما في كلام جماعة كالمدارك والرياض(6) وغيرهما من تفسيره بالطريق الأعظم لا وجه له عدا اتّباع غير واحد من أهل اللغة كالجوهري(7) وغيره، وهذا إنّما يحسن على تقدير ورود هذا اللفظ في الأخيار لا مطلقا. وأمّا «المشرعة» ففي المجمع أنّها طريق الماء للواردة(8) وفي معناه ما عن القاموس من أنها مورد الشاربة(9) وعلى طبقهما فسّرها

ص: 404


1- المستدرك 26:1 الباب 12 من ابواب أحكام الخلوة ح 2، دعائم الإسلام 104:1.
2- الوسائل 325:1 الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ح 3.
3- الوسائل 327:1 الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ح 6.
4- جامع المقاصد 113:1.
5- الروضة 85:1.
6- المدارك 180:1، الرياض 107:1.
7- الصحاح 1236:3.
8- مجمع البحرين 352:4.
9- القاموس 983:2.

جماعة كما عن جامع المقاصد والروضة وغيرها. ويشكل: بأنّ الوارد في النصوص إنما هو الشطّ والشفير وهو يقتضي عموم الحكم لمطلق الجوانب لبئر أو نهر وإن لم يتعيّن طريقا للواردين والشاربين، فالتعبير بالشطوط ونحوها كما عن بعض الأصحاب أولى، وظاهر النصوص كعبارات الأصحاب بحكم الانصراف العرفي اختصاص الحكم بالأنهار المعمورة، فلا يشمل المهجورة ولا يقدح فيه انقطاع الماء في بعض الأحيان.

وأمّا «مواضع اللعن» فقد فسّرها مولانا عليّ بن الحسين عليه السلام بأبواب الدور(1)ويمكن كونه من باب المثال كما احتمله جماعة، وعليه فيشمل المواضع الّتي يتأذّى المسلمون بحصول النجاسة فيها من مجامعهم ومجالسهم وأفنية المساجد والدور وغيرها. وكأنّه لذا عدّ من المكروهات في النهاية(2) - على ما حكي - هذه المواضع بالعبارة المذكورة، وعدّ منها «النادي» في الدروس(3) المفسّر بمجلس القوم ومتحدّثهم.

وورد التنصيص ببعضها بالخصوص كأفنية المساجد كما في المرفوعة المتقدّمة، ويندرج فيه فيء النزال وإن خصّه جماعة(4) بالذكر، والمراد به موضع الظلّ المعدّ لنزول القوافل والمتردّدين كموضع ظلّ جبل أو شجرة أو نحوهما كما في كلام غير واحد، لكن الوارد في المرفوعة منازل النزال وهو أعمّ كما لا يخفى، وعلى طبق الأوّل رواية إبراهيم بن أبي زياد الكرخي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم: «ثلاث من فعلهنّ ملعون: المتغوّط في ظلّ النزال، والمانع الماء المنتاب، وسادّ الطريق المسلوك»(5) وهذه كما ترى لا تعارض المرفوعة، وربّما يؤول بما يرجع إلى الثاني كأن يراد بالفيء الرجوع من فاء إذا رجع لأنّهم كانوا يرجعون إليه في النزول، آو لأنّ التعبير به لأنّ الغالب فيها كونها ذوات أظلال أو لأنّ الغالب نزولهم بها بعد العصر.

ومنها: الجلوس تحت الأشجار المثمرة

كما عبّر به جماعة، بل ربّما يعزى التعبير به إلى أكثر الأصحاب وعلى طبقه عدّة من الأخيار المذكورة، وعن بعض الأصحاب

ص: 405


1- الوسائل 324:1 الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ح 1، التهذيب 30:1/78.
2- النهاية 213:1.
3- الدروس 9:1.
4- كما في الرياض 108:1
5- الوسائل 325:1 الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ح 4.

التعبير بمساقط الثمار كما في المرفوعة(1) وخبر الاحتجاج(2) ولعلّ المراد بهما واحد.

نعم يخالفهما ما في خبر السكوني من التعبير بشجرة فيها ثمرتها، بناء على عدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتّق لظهوره في فعليّة الثمر. وفي غير واحد من الأخبار التعبير بشجرة قد أثمرت، ففي المحكيّ عن العلل عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«إنّما نهى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أن يضرب أحد من المسلمين خلاه تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت لمكان الملائكة الموكلين بها...» الحديث(3).

وفي المحكيّ عنه أيضا عن جعفر بن محمّد عليه السلام عن آبائه عليهما السلام في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لعليّ عليه السلام قال: «وكره البول على شطّ نهر جار، وكره أن يحدث إنسان تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت، وكره أن يحدث الرجل وهو قائم»(4) وفي المحكيّ عنه أيضا عن الّصادق عليه السلام عن آبائه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم: «إنّ الله كره لكم أيّتها الامّة أربعا وعشرين خصلة ونهاكم عنها - إلى أن قال: - وكره البول على شطّ نهر جار، وكره أن يحدث الرجل تحت شجرة مثمرة قد أينعت، أو نخلة قد أينعت، يعني أثمرت»(5)وظاهر الوصف في النخلة كونه في المثمرة للاحتراز كما لا يخفى ولا يكون إلّا على تقدير أن يكون المراد بها ما من شأنه الإثمار وإن لم تثمر بعد، وعليه فاحتمل كونه المراد منها فيما تضمّنها من الأخبار، كما قد يساعد عليه ما يعلم بمراجعة العرف من شيوع إطلاقهما عليه.

وحينئذ فالمستفاد من نصوص الباب ثلاث عنوانات، أحدها: ما عليه الثمرة بالفعل، وثانيها: ما أثمر وإن لم تبق ثمرته حال الفعل، وثالتها: ما من شأنه الإثمار وإن لم يثمر بعد، ولعلّه لأجل ذا اختلفت كلمة الأصحاب في الحكم تخصيصا وتعميما. فعن جماعة منهم المقدّس الأردبيلي رحمه الله(6) الاقتصار في الحكم على الأوّل تعليلا بأنّه الظاهر من الأخبار وإن لم يشترط بقاء المبدأ، وقد يعلّل بقضيّة الاشتراط. وربّما استدلّ له

ص: 406


1- الوسائل 324:1 الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ح 2.
2- الوسائل 326:1 الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ح 7.
3- الوسائل 327:1 الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ح 8 و 9.
4- الوسائل 327:1 الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ح 8 و 9.
5- الوسائل 328:1 الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ح 11.
6- مجمع الفائدة 93:1.

أيضا بأنّ الأصل عدم الكراهة ولم يثبت الخروج عنه إلّا في المثمرة بالفعل لمكان الشك فيما عداه.

وعن ظاهر المشهور هو الثاني حيث عبّروا عن موضوع الحكم بالعنوان المذكور وذهبوا في الأصول إلى عدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ ، بل قيل: يظهر من بعضهم أنّه ممّا اتّفق عليه الشيعة وإنّ الخلاف فيه من أهل الخلاف.

وصرّح بالثالثة المحقّق الشيخ عليّ في حاشية الشرائع(1) كما عزي أيضا إلى ظاهر ثاني الشهيدين(2) لإطلاق الخبر ولأنّ بقاء المعنى المشتق منه ليس شرطا عندنا في صدق المشتقّ . وهذا هو الأقوى لما بيّنّاه من القرينة ومساعدة العرف. ولا تعارض بين الأخبار فلا وجه لتقييد بعضها ببعض لجواز كون اختلافها لاختلاف مراتب الكراهة، فأشدّ المراتب ما علّق على العنوان الأوّل ودونه ما علّق على الثاني ودونهما ما علّق على الثالث.

لا يقال: كون الوصف للاحتراز حسبما ذكرته ربّما يوجب التعارض والمصير إلى المشهور طريق الجمع.

لأنّ التعارض إنما ينهض على تقدير اعتبار المفهوم لهذا الوصف وهو خلاف ما حقق في محلّه، والاحتراز بنفسه لا يصلح قرينة على إرادته لأنّ غايته انتفاء شخص الحكم المنطوقي عن غير محلّ النطق وهو أعمّ من نفي سنخ ذلك الحكم فلا يلازمه.

ومنها: استقبال النيّرين - الشمس والقمر -
اشارة

على المشهور المستفيض نقله المحكيّ فيه دعوى الإجماع عن الغنية(3) مع عدم ظهور مخالف فيه ولا العثور على عبارة قاضية بالمخالفة عدا عبارتي المقنعة والهداية، ففي الأوّل: «لا يجوز لأحد أن يستقبل قرص الشمس والقمر»(4) وفي الثاني: «لا يجوز أن يجلس للبول والغائط مستقبل القبلة ولا مستدبرها. ولا مستقبل الشمس ولا مستدبرها»(5) وهما مع كونهما أخصّ غير صريحتي الدلالة لاحتمالهما الكراهة وإن بعد ذلك في الثانية، مع أنّهما لو كانتا على ظاهرهما لا تصلحان للقدح من حيث خلوّهما عمّا يصلح للاستناد إليه كما ستعرف.

ص: 407


1- حاشية الشرائع: 44:1.
2- روض الجنان 83:1.
3- الغنية: 35.
4- المقنعة: 42.
5- الهداية: 15.

وكيف كان، فمستند الجواز بعد الأصل ظاهر خبر عيسى بن عبداللّه الهاشمي إطلاقا، وظاهر مرفوعة عليّ بن إبراهيم عموما، ففي الأوّل: «إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ولكن شرّقوا أو غرّبوا»(1) وفي الثاني: «ولا تستقبل القبلة بغائط ولا بول وارفع ثوبك وضع حيث شئت»(2) مضافا إلى ظاهر مرفوعة عبد الحميد بن أبي العلاء(3) المسؤول فيها عن حدّ الغائط الغير المتعرّضة لذكر المقام وأمّا كونه على كراهية فلرواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهما السلام قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أن يستقبل الرجل الشمس والقمر بفرجه وهو يبول»(4) وحسنة الكاهلي عن أبي عبدالله عليه السلام: قال: قال رسول اللّه: «لا يبولنّ أحدكم وفرجه باد للقمر يستقبل به»(5) وخبر مناهي النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم المرويّ عن البحار عن مجالس الصدوق وعن الفقيه أيضا وفيه: «ونهى أن يبول الرجل وفرجه باد للشمس أو القمر»(6) والمرسل المرويّ عن الكافي: «لا تستقبل الشمس ولا القمر»(7) والمرويّ عن علل محمّد بن عليّ بن إبراهيم بن هاشم: «ولا تستقبل الشمس ولا القمر لأنّهما آيتان من آية الله تعالى ليس في السماء أعظم - إلى أن قال -: وعلّة اخرى أنّ فيها نورا مركبا فلا يجوز أن يستقبل يقبل ولا دبر»(8) والمرسل عن الفقيه: «لا تستقبل الهلال ولا تستدبره»(9)وهذه النصوص كما ترى وإن كانت ظاهرة في الحرمة غير أنّها لقصور اسانيد أكثرها وإعراض الأصحاب عن ظواهرها لا تصلح سندا إلّا للكراهة، كيف ولولاها لكان في فتواهم المعتضدة بنقل الإجماع والشهرة محقّقة ومحكية كفاية في الإذعان بها، نعم يبقى الكلام في جهات:

[الأولى اختصاص الحكم بحالة التخلي]

الأولى صريح أكثر النصوص كظاهر الباقي ولو بضميمة فهم الأصحاب اختصاص

ص: 408


1- الوسائل 302:1 الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 5 و 6.
2- الوسائل 301:1 الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
3- الوسائل 302:1 الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 5 و 6.
4- الوسائل 342:1 الباب 25 من أبواب أحكام الخلوة ح 1 و 2.
5- الوسائل 342:1 الباب 25 من أبواب أحكام الخلوة ح 1 و 2.
6- الوسائل 342:1 الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 4، الفقيه 3:4/1.
7- الوسائل 342:1 الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 5، الكافي 15:3/3.
8- البحار 194:77/53 مع اختلاف يسير
9- الوسائل 342:1 الباب - 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 3.

الحكم بحالة التخلّي فلا كراهة لمطلق الإستقبال ولو ما كان منه للتخلّي مع الانحراف حين خروج الحدث للأصل إلّا من جهة قاعدة المقدّمة. فما يعطيه إطلاق عبارة الهداية المتقدّمة: «لا يجوز أن يجلس للبول والغائط»(1) ممّا لا وجه له. ولعلّه أراد به الجلوس المقارن لا مطلقا.

الثانية: صريح أكثر النصوص أيضا اختصاص الحكم بحالة حدث البول باستقبال النثرين فلا كراهة لاستدبارهما وهو ظاهر الأكثر،

وحكى التصريح به عن نهاية الإحكام وشرح الموجز(2) وقوّاه صاحب المدارك وكاشف اللثام على ما حكي(3)وعزي إلى الذخيرة(4) لكن ما وجدناه في كلامه، وعن شرح الإرشاد: «أنّه نقل الإجماع عليه عن فخر الإسلام»(5) نعم عن الذكرى والروض: «وفي استدبارهما احتمال للمساواة في الاحترام»(6) بل عن المراسم نسبة المساواة بين الاستقبال والاستدبار إلى القيل(7) بل عرفت التصريح بالمنع في الاستدبار أيضا عن عبارة الفقيه المتقدّمة ويدفعه: الأصل والإجماع المتقدّم مع خلوّه عن المستند. وما في مرسل الفقيه:

«لا تستقبل الهلال ولا تستدبره»(8) غير صالح له، لقوّة احتمال أن يراد بالأوّل ما يختصّ بالبول وبالثاني ما يختصّ بالغائط كما قيل، وعليه يحمل ما في ذيل خبر العلل ولا أقلّ من تساوي الاحتمالين فلا دلالة.

الثالثة: صرّح جماعة بعموم الحكم للحدثين معا

بل نسبه بعض مشايخنا(9) كما عن الحدائق(10) أيضا إلى ظاهر الأكثر، وعزاه في الذخيرة كما عن شرح المفاتيح أيضا إلى الأصحاب(11) واستدلّ له في الرياض(12) وغيره بالمرسلين عن الكافي والفقيه(13)نعم عن الاقتصاد والجمل والمصباح ومختصره وابن سعيد وسلّار عدم الكراهة في

ص: 409


1- الهداية: 15.
2- نهاية الإحكام 82:1، كشف الالتباس: 21.
3- المدارك 178:1، كشف اللثام 227:1.
4- الذخيرة: 21.
5- نقل عنه في كشف اللثام 227:1.
6- الذكرى 164:1، روض الجنان 84:1.
7- المراسم: 32.
8- الفقيه 18:1//48.
9- الجواهر 64:1.
10- الحدائق 38:2.
11- الذخيرة: 21، مصابيح الظلام 234:3.
12- الرياض 109:1.
13- الكافي 15:3/3، الفقيه 18:1/48.

الغائط(1) وهو أحد احتمالي إرشاد العلّامة(2) ومستنده لعلّه اختصاص أكثر ما تقدّم بالبول لذكره فيها صريحا وعدم ظهور ما لم يذكر فيه البول كالمرسلين في إرادة العموم بالمعنى المبحوث عنه.

ولا يذهب عليك إنّ فائدة هذا الحكم كثمرة الخلاف إنّما تظهر إذا اريد من الاستقبال في الغائط خلاف ما يستقبل في البول للتلازم الغالبي بين الحدثين وعدم انفكاك البول عن الغائط إلّا نادرا، فيراد به حينئذ نحو الاستدبار اللازم من استقبال البول، والجامع بينهما على وجه يصلح لإرادته من إطلاق الاستقبال هو الاستقبال بالفرج قبلا أو دبرا كما حكي التصريح بما يكشف عنه عن التذكرة والمعتبر من التعبير بالاستقبال بالفرجين(3) ولعلّه المراد من إطلاق الفرج في كلام من قيّد الاستقبال به كما في الشرائع(4) وعن المراسم(5) وإن بعد تحقّق استقبال الفرج على وجه الحقيقة في الغائط إن اريد به نفس الدبر، وعليه مبنيّ الاستدلال بمرسل الكافي كما يفصح عن إرادته من صدر خبر العلل ما في ذيله فإنّه قرينة واضحة على إرادة ما يعمّ الوضعين من إطلاق الاستقبال في الأخبار، وعلى طبقه خرج التعبير به في إطلاق فتاوي الأصحاب حسبما وجّهناه فيكون الاستدلال بمرسل الفقيه مبناه على حمل الاستدبار على الوضع المختصّ بالغائط المراد من إطلاق الاستقبال في غيره، ومن هذا كلّه فسّر الاستدبار في البول المحكوم عليه بعدم الكراهية في المسألة المتقدّمة بالاستدبار عند البول والاستقبال عند الغائط على ما حكاه في مفتاح الكرامة(6) وعليه فالاستدلال على مشاركة الغائط للبول في الحكم بالأخبار الواردة في البول - تعليلا بأنّ المراد به العموم وذكره إنّما هو لكونه أعمّ وجودا من الغائط لعدم انفكاكه عنه في الأغلب ووجوده بدون الغائط كثيرا - ليس على ما ينبغي، لابتنائه على الغفلة عن حقيقة مراد الأصحاب من العنوان وعدم التدبّر في مساق روايات الباب.

فاتّضح بجميع ما ذكرناه - مضافا إلى المسامحة لمجرّد قيام الفتوى من الأكثر - أنّ

ص: 410


1- الاقتصاد: 241، الجمل والعقود: 37، المصباح: 6، الجامع للشرائع: 26، المراسم: 33.
2- إرشاد الأذهان 222:1.
3- التذكرة 119:1، المعتبر 137:1.
4- الشرائع 19:1.
5- المراسم: 33.
6- مفتاح الكرامة 236:1.

الحق مختار الأكثر، وقضية ذلك بناء على التوجيه المذكور حصول التلبّس بفعلين مكروهين لو استقبل عند الغائط مع خروج البول على القول بكراهة الاستدبار فيه أيضا، وكذلك لو فسّرنا الاستقبال في الغائط بما هو لازم للاستقبال في البول على ما هو مبني الاستدلال المذكور حتى على القول بعدم كراهية الاستدبار في البول بخلافهما على القول المختار في المسألتين، فإنّ البارز في الخارج حينئذ ليس إلا مكروها واحدا إلّا إذا استلزم استدبار أحد النيّرين عند البول استقبال الآخر بالغائط إذا خرجا معا كما يتّفق كثيرا في أوائل الشهر القريبة من انتصافه.

الرابعة: صريح أكثر النصوص كفاية الاستقبال بالفرج وحده في انعقاد الكراهة

كما هو صريح أكثر الفتاوى لما اخذ فيها من التقييد بالفرج أو بالفرجين أو بالبول أو به وبالغائط، نعم عن النهاية والغنية والسرائر والموجز والنافع ذكر الاستقبال من دون تقييد(1) ويظهر الثمرة فيما لو انحرف عنهما ببدنه لكن مال بإحليله مقابلا لهما، فإنّه على الأوّل كانت الكراهة ثابتة وهو الأظهر، وأمّا لو عكس فالظاهر ثبوت الكراهة أيضا إمّا لإطلاق المرسلين أو لبقاء أصل الذكر على الاستقبال كما علّله به بعض مشايخنا(2) وعلى كلّ حال فالمعتبر في ثبوت الكراهة استقبال النيّرين بالعين ولا يكفي فيه الجهة كما هو صريح أكثر الأخبار وظاهر الباقي، وبه صرّح جماعة منهم الشهيد في الدروس(3) كما حكي التصريح أيضا عن الذكرى وجامع المقاصد والروضة والمدارك والبحار ومجمع الفائدة وشرح المفاتيح(4) وغيرها، كما أنّ صريح الحسنة وما يتلوها وظاهر خبري السكوني والعلل كون الحكم مقصورا على ما لو كان الفرج باديا وأما لو كان مستورا بثوب أو كفّ أو غيرهما فلا كراهية الأصل، ولا ينافيه إطلاق المرسلين لانصرافهما إلى ما هو الغالب من عدم تحقّق الستر، ومنه بان عدم الكراهية لو دخل في البناء الحاجب بسقفه أو جدرانه عن المقابلة. وأمّا لو كان جرم النيّرين مستورا بسحاب

ص: 411


1- النهاية 213:1، الغنية: 35، السرائر 96:1، الموجز: 39، النافع: 5.
2- الجواهر 64:2.
3- الدروس 9:1.
4- الذكرى 164:1، جامع المقاعد 101:1، الروضة 85:1، المدارك 178:1، البحار 169:80، مجمع الفائدة 95:1، شرح المفاتيح 234:3.

ونحوه فالظاهر عدم الكراهية أيضا وإن لم يكن الفرج مستورا. وممّن صرّح بما يرجع إلى جميع ما ذكرناه المحقّق الميسي في حاشية الشرائع بقوله: «والمراد من كون الاستقبال بفرجه أن لا يكون بينهما وبين الفرج حائل» انتهى(1).

نعم لا عبرة بظهور لونهما فلو كانا منكسفين كانت الكراهة ثابتة، وعن ثاني الشهيدين أنّ عند انكساف الشمس يكون الكراهة من جهة القمر لا من جهة الشمس ويظهر الفائدة في النذر(2) وهذا لا يخلو عن تكلّف واضح، نعم لا يبعد كونه من جهتهما وحينئذ فلا يظهر فائدة النذر.

ومنها: استقبال الريح بالحدث بولا أو غائطا

وينحلّ إلى استقبال الشخص بائلا واستدباره متغوّطا للخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إذا بال أحدكم فلا يطمحنّ ببوله ولا يستقبل ببوله الريح»(3) وما عن علل محمّد بن علي بن إبراهيم بن هاشم وفيه.

«فإذا أراد البول والغائط فلا يجوز له أن يستقبل القيلة بقبل ولا دبر» - إلى أن قال -:

«ولا يستقبل الريح لعلّتين: إحداهما: أنّ الريح تردّ البول فيصيب الثوب ولم يعلم ذلك أو لم يجد ماء فيغسله، والعلّة الثانية: أنّ مع الريح ملكا فلا يستقبل بالعورة»(4) فإنّ الخبر الأوّل وإن كان يقتضي اختصاص الحكم بالاستقبال بالبول إلّا أن الخبر الثاني يعمّه والاستقبال بالغائط أيضا كما يظهر بملاحظة التعليل. ومحتمل بعض الأخبار كمرفوعة عبد الحميد بن أبي العلاء «قال: سئل الحسن بن عليّ عليه السلام ما حدّ الغائط؟ قال: لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها»(5) ثبوت الكراهة مع استقبال الشخص عند الغائط وإن لم يبل واستدباره عند البول وإن لم يتغوّط بناء على أنّ المراد بالغائط التخلّي مطلقا كما زعمه جماعة، وربّما يستشهد له بقوله تعالى: جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغٰائِطِ (6) وكأنّه لاختلاف هذه الأخبار تخصيصا وتعميما اختلفت فتاوي الأصحاب فإنّ منهم من خصّ الحكم بالاستقبال بالبول كما في الشرائع(7) وعن المقنعة

ص: 412


1- نقل عنه في مفتاح الكرامة 221:1.
2- نقله عنه في مشارق الشموس: 82.
3- الوسائل 352:1 الباب 33 من أبواب أحكام الخلوة ح 6.
4- البحار 194:77/53.
5- الوسائل 302:1 الباب 12 من أبواب أحكام الخلوة ح 6.
6- النساء: 43.
7- الشرائع 19:1.

والغنية والسرائر(1) وقيل: إنّه المنسوب إلى الأكثر، وعن الغنية دعوى الإجماع على استحباب الاتقاء عن استقبال الريح بالبول(2) ومنهم من عمّمه بالنسبة إلى الحدثين كما عن الدروس والذكرى والبيان(3) وإن كان استفادة ذلك من عبارة الدروس لا تخلو عن تأمّل، ومنهم من عمّمه بالقياس إلى الاستقبال والاستدبار في الحدثين معا كما في الرياض(4) وعن الهداية والروضة وظاهر الذخيرة(5) وهذا غير بعيد، اكتفاء في المسامحة بمجرّد الاحتمال مضافا إلى فتوى هؤلاء وإن كان مستندها الأخذ بذلك الاحتمال.

ومنها: البول في الأرض الصلبة

على ما هو المشهور بين الأصحاب المنسوب في المحكيّ عن البحار إلى الأصحاب(6) وفي المحكيّ عن الغنية دعوي الإجماع على استحباب الاتقاء منه(7) ومستنده رواية عبدالله بن مسكان عن أبي عبداللّه عليه السلام قال:

«كان رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أشدّ الناس توقّيا عن البول، كان إذا أراد البول تعمّد إلى مكان مرتفع من الأرض أو إلى مكان من الأمكنة يكون فيه التراب الكثير كراهية أن ينتضح عليه البول»(8) وما في روايتي السكوني وسليمان الجعفري «إنّ من فقه الرجل أن يرتاد موضعا لبوله»(9) كما في الأولى و «أن يرتاد لموضع بوله»(10) كما في الثانية، والمستفاد من هذه الروايات كما ترى استحباب أحد الأمرين العمد إلى مكان مرتفع أو أرض كثير التراب والجامع بينهما التوقّي عن انتضاح البول. واستدلّ على الكراهة أيضا بالأخبار الآمرة بالتوقي عن البول المعلّلة يكون عذاب القبر منه.

ومنها: البول في ثقوب الحيوان

للخبر العامّيّ «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم نهى عنه» وربّما يعلّل بأنّه لا يؤمن من خروج حيوان يلسعه، قيل: إنّ تأبّطّ شرّا جلس ليبول فإذا حبّة خرجت فلدغته. وعلّل أيضا بأنّها مساكن الجنّ فيحصل الأذى بذلك، ومنه حكاية

ص: 413


1- المقنعة: 42، الغنية: 35، السرائر 96:1.
2- الغنية: 35.
3- الدروس 89:1، الذكرى 164:1، البيان: 6.
4- الرياض 109:1.
5- الهداية: 15، الروضة 85:1، الذخيرة: 21.
6- البحار 189:77.
7- الغنية: 35.
8- الوسائل 338:1 الباب 22 من أبواب أحكام الخلوة ح 2، التهذيب 33:1/87.
9- الوسائل 338:1 الباب 22 من أبواب أحكام الخلوة ح 1، الكافي 15:3/1.
10- الوسائل 338:1 الباب 22 من أبواب أحكام الخلوة ح 3، التهذيب 33:1/86.

سعد بن عبادة أنّه بال في جحر بالشام فاستلقى ميتا فسمعت الجنّ تنوح عليه بالمدينة، وتقول:

نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة *** ورميناه بسهمين فلم تخط فؤاده

ومنها: البول في الماء راكدا بل جاريا أيضا،

وإن كانت الكراهة في الأوّل أشدّ، ففي المرسل عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: قلت له: «أيبول الرجل - إلى أن قال -:

فقلت: يبول الرجل في الماء، قال: نعم، ولكن يتخوّف عليه من الشيطان»(1) وفي رواية سماعة، قال: «سألته عليه السلام عن الماء الجارى يبال فيه ؟ قال: لا بأس»(1) وفي رواية عنبسة بن مصعب، قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل يبول في الماء الجاري ؟ قال:

لا بأس به إذا كان الماء جاريا(2) وفي الصحيح عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري، وكره أن يبول في الماء الراكد»(3) وفي المحكيّ عن البحار عن مجالس الصدوق في مناهي النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم «أنّه نهى أن يبول أحد في الماء الراكد. فإنّه منه يكون ذهاب العقل»(5) وفي المرسل عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال أميرالمؤمنين عليه السلام: إنّه نهى أن يبول الرجل في الماء الجاري إلّا من ضرورة، وقال: إنّ للماء أهلا»(6) والمرويّ عن الخصال عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهما السلام قال: «قال أميرالمؤمنين عليه السلام: لا يبولنّ الرجل من سطح في الهواء، ولا يبولنّ في ماء جار، فإن فعل ذلك فأصابه شيء فلا يلومنّ إلّا نفسه، فإنّ للماء أهلا والهواء أهلا»(4) فإنّ مقتضي الجمع بين هذه وغيرها هو الجواز على الكراهة مع شدّة الكراهة بالنسبة إلى الراكد.

وعن نهاية الإحكام(5) بل عن جماعة(6) أنّ البول في الماء بالليل أشدّ كراهة، وعلّل بأن الماء بالليل للجنّ فلا يبال فيه ولا يغتسل حذرا من إصابة آفة من جهته، وعن الشيخين وابني حمزة وزهرة(7) وغيرهم بل عن الأكثر التسوية بين البول

ص: 414


1- الوسائل 143:1 الباب 5 من أبواب الماء المطلق ح 4 و 2.
2- الوسائل 143:1 الباب 5 من أبواب الماء المطلق ح 4 و 2.
3- الوسائل 341:1 الباب 5 من أبواب الماء المطلق ح 1.
4- الوسائل 352:1 الباب 33 من أبواب أحكام الخلوة ح 6.
5- نهاية الإحكام 83:1.
6- كما في روض الجنان 85:1، الرياض 111:1.
7- المقنعة: 46، المبسوط 18:1، الوسيلة: 48، الغنية: 35.

والغائط، وكأنّهم فهموها من التعليلات الواردة في جملة من الروايات وربّما يعلّل بالأولويّة كما عن الذكرى(1) وغيره.

وربّما يستثنى الماء المعدّ في بيوت الخلاء لأخذ النجاسة واكتنافها على ما هو متداول في بعض البلاد كالشام وبعلبك وغيرهما، تمسّكا بالأصل وعدم تبادر مثله من إطلاقات الأخبار، وفيه إشكال كما عن المدارك وكاشف اللثام(2) فالأحوط الاجتناب، نعم إنّما ينتفي الكراهة في موضع الضرورة كما هو معلوم بضرورة العقل ومنصوص به في بعض ما تقدّم من النصوص.

ومنها: البول قائما أو مضطجعا به في الهواء،

وقد تقدّم بعض ما يدلّ على الثاني، وممّا يدلّ على الأوّل صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من تخلّى على قبر، أو بال قائما، أو بال في ماء قائم، أو مشى في حذاء واحد، أو شرب قائما، أو خلا في بيت وحده، أو بات على غمر، فأصابه شيء من الشيطان لم يدعه إلّا أن يشاء اللّه، وأسرع ما يكون الشيطان إلى الإنسان وهو على بعض هذه الحالات»(3).

ومنها: الأكل والشرب حال التخلّي،

كما عن صريح المصباح ومختصره، والمهذّب والمنتهى ونهاية الإحكام(4) أو حال كونه في الخلاء مطلقا كما عن غيرها(5) واستدلّوا بما فيه من مهانة النفس فينبغي تركه، وبفحوى ما رواه في الفقيه مرسلا عن أبي جعفر عليه السلام قال: «دخل عليه السلام الخلاء، فوجد لقمة خبز في القذر، فغسلها ودفعها إلى مملوك معه، فقال: يكون معك لآكلها إذا خرجت، فلمّا خرج عليه السلام قال للمملوك: أين اللقمة ؟ فقال:

أكلتها يابن رسول اللّه، فقال: إنّها ما استقرّت في جوف أحد إلّا وجبت له الجنة، فاذهب فأنت حرّ لله فإنّي أكره أن أستخدم رجلا من أهل الجنة»(6) وفي كلام غير واحد أنّ هذه القصّة مذكورة في العيون(7) بأسانيد ثلاث عن الرضا عليه السلام عن آبائه عن الحسين بن عليّ عليهما السلام واحتمال وقوعها عن الإمامين ينفي توهّم منافاة الاسنادين.

ص: 415


1- الذكرى 165:1.
2- المدارك 180:1، كشف اللثام 231:1.
3- الوسائل 329:1 الباب 16 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
4- المصباح: 6، مختصر المصباح: 5، المهذب 40:1، المنتهى 251:1، نهاية الإحكام 83:1.
5- كما في الشرائع 19:1.
6- الفقيه 27:1/49.
7- عيون أخبار الرضا عليه السلام 43:2/153.

وجه الاستدلال على ما ذكروه أنّ تأخير الأكل مع ما فيه من الثواب العظيم وتعليقه على الخروج ظاهر في مرجوحيّة الأكل في بيت الخلاء، والتعدّي عن الخبز إلى كلّ مأكول وعن الأكل إلى الشرب على ما فهموه للفحوى والأولوية. والدلالة بالنسبة إلى الأصل محلّ نظر يظهر وجهه بأدنى تأمّل، والمسامحة من جهة الفتوى لعلّها ليست في محلّها لعدم وضوح دلالة مستندها، نعم على الاكتفاء بمجرّد الاحتمال لا بأس بها خصوصا إذا انضمّ إليه الاعتبار المذكور، ولعلّه بانفراده كاف في إثبات الكراهة فينهض الاحتمال الناشئ عن الخبر مؤيدا له.

ومنها: السواك في بيت الخلاء أو حال التخلّي،

على اختلاف عبائرهم بحسب اختلاف نسختي الخبر المرويّ عن التهذيب والفقيه مضمرا في الأوّل، ومرسلا في الثاني عن الكاظم عليه السلام: ففي الأوّل «أنّ السواك في الخلاء يورث البخر»(1) وكذا في الثاني(2) لكن ذكر مكان «في» «على» الظاهرة في حال التخلّي.

ومنها: الاستنجاء باليمين

لمرسل التهذيب عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يستنجي الرجل بيمينه»(3) وخبر السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال:

«الاستنجاء باليمين من الجفاء»(4) والمراد بالاستنجاء ما يعمّ الاستجمار كما نصّ عليه جماعة(5) ويرتفع الكراهة إذا دعت إليه ضرورة بأن كان في يسراه علّة كما هو واضح، بل عن الفقيه وروي «أنّه لا بأس إذا كانت اليسري معتلّة»(6) ولا بأس بالاستعانة باليمنى كصبّ الماء ونحوه كما صرّح به جماعة(7) وربّما ينسب إلى القوم لعدم تناول النهي له وللحاجة إليه.

ومنها: مسّ ذكره بيمينه إذا بال

وفاقا لجماعة، لما رواه في الفقيه مرسلا، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «إذا بال الرجل فلا يمسّ ذكره بيمينه»(8) وفي كلام غير واحد أنّه

ص: 416


1- التهذيب 32:1/85.
2- الفقيه 32:1/110.
3- الوسائل 321:1 الباب 12 من أبواب أحكام الخلوة ح 1، الكافي 17:3/5.
4- الوسائل 321:1 الباب 12 من أبواب أحكام الخلوة ح 2، الكافي 17:3/5.
5- كما في الجواهر 70:2.
6- الفقيه 19:1/17.
7- كما في الهداية: 12.
8- الوسائل 332:1 الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة ح 6، الفقيه 19:1/55.

يستفاد منه كراهية الاستبراء باليمنى(1) وهو حسن.

ومنها: الاستنجاء باليسار وفيها خاتم عليه اسم اللّه تبارك وتعالى،

كما هو المشهور شهرة كادت تكون إجماعا للنصوص المعتضدة بالاعتبار من جهة التعظيم، ففي خبر أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: من نقش على خاتمه اسم الله فليحوّله عن اليد الّتي يستنجي بها في المتوضّأ»(2) وما رواه الكليني مرسلا «أنّه إذا أراد أن يستنجي من الخلاء فليحوّله من اليد التي يستنجي بها»(3) وغير الحسين بن خالد المرويّ عن الكافي عن أبي الحسن الثاني عليه السلام قال: قلت له: «إنّا روينا في الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم كان يستنجي وخاتمه في إصبعه وكذلك كان يفعل أمير المؤمنين عليه السلام وكان نقش خاتم رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم محمّد رسول اللّه قال: صدقوا، قلت:

فينبغي لنا أن نفعل، قال: اولئك كانوا يتختّمون في اليد اليمنى، وأنتم تتختّمون في اليسرى»(4) وخبره الآخر المرويّ عن المجالس وعيون الأخبار قال: «قلت لأبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: الرجل يستنجي وخاتمه في إصبعه، ونقشه لا إله إلّا الله، فقال: أكره ذلك له، فقلت: جعلت فداك أو ليس كان رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وكلّ واحد من آبائك يفعل ذلك وخاتمه في إصبعه ؟ قال: بلى ولكن اولئك كانوا يتختّمون في اليد اليمنى، فاتّقوا اللّه وانظروا لأنفسكم»(5).

وهذه الأخبار كما ترى من حيث الموضوع بعد ملاحظة ظهور اليد في الأوّلين في اليسرى ولو بمعونة وصفها بالاستنجاء على ما هو المعهود المتعارف خصوصا على أخذ الفعلين مجهولين منطبقة على عنوان المسألة.

وأمّا ظهورها في المنع فيعدل عنه استضعافا لأسانيدها مع إعراض الأصحاب عنه حيث لم نقف منهم على قول به، عدا ما يظهر من المحكيّ عن الفقيه والهداية من التعبير

ص: 417


1- كما في الجواهر 70:2.
2- الوسائل 331:1 الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة ح 4 و 3، الكافي 476:6 و 474 ح 9 و 8.
3- الوسائل 330:1 الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة ح 2، الكافي 56:3/8.
4- الوسائل 331:1 الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة ح 4 و 3، الكافي 476:6 و 474 ح 9 و 8.
5- الوسائل 333:1 الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة ح 9، أمالي الصدوق: 399/5، عيون أخبار الرضا عليه السلام 54:21/206.

بلا. بجوز، والمقنع من التعبير بلا تستنجي وعليك خاتم عليه اسم الله تعالى حتّى تحوّله، وهو مع شذوذه وعدم صراحته في اختيار المنع غير صالح لجبر الدلالة المعرض عنها الأكثر. وربّما يحكى في المسألة عن بعضهم كراهة استصحاب ذلك في الخلاء مطلقا، ولعلّه لإطلاق روايات آخر كخبر أبي أيّوب قال: «قلت لأبى عبداللّه عليه السلام: أدخل الخلاء وفي يدي خاتم فيه اسم من أسماء الله تعالى، قال: لا، ولا تجامع فيه»(1) وخبر علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يجامع ويدخل الكنيف وعليه الخاتم فيه ذكر الله أو الشيء من القرآن أيصلح ذلك ؟ قال: لا»(2) وخبر معاوية بن عمّار عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «قلت له: الرجل يريد الخلاء وعليه خاتم فيه اسم الله تعالى ؟ فقال:

ما احبّ ذلك، قال: فيكون اسم محمّد، قال: لا بأس»(3) وخبر عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: «لا يمسّ الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم الله تعالى، ولا يستنجي وعليه خاتم فيه اسم الله ولا يجامع وهو عليه ولا يدخل المخرج وهو عليه»(4).

ولا يخفى ما فيها من معارضتها لمفهوم ثاني الأخبار المتقدّمة، ومنطوق خبري الحسين بن خالد الظاهرين في مداومة أهل العصمة للتختّم في اليمنى حال الاستنجاء الغير المناسبة لشأنهم لو كان استصحابه في الخلاء بقول مطلق مكروها مع الدلالة الواضحة على انتفائها في ردّ اعتراض السائل ودفع شبهته، وهذا كما ترى ينافي إطلاق النهي في هذه الروايات، وإن كانت هي مع هذا الإطلاق أخصّ من القول المذكور من حيث قصورها عن تناول الاستصحاب بغير اليد إلّا أن يكون المراد به أيضا خصوص الاستصحاب باليد مطلقا في سائر أحوال الكون في الخلاء لا خصوص حال الاستنجاء. لكن الخطب فيها بعد ملاحظة إعراض المعظم عن ظواهرها وشذوذ العامل بها سهل، مع إمكان الجمع محمل اليد المذكورة فيها صراحة أو المفهومة من الاستعلاء على خصوص اليسرى، خصوصا مع ملاحظة ما أفاده خبر الحسين بن خالد من كون

ص: 418


1- الوسائل - 3301 الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة ح 1، الكافي 56:3/8.
2- الوسائل 333:1 الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة ح 10، قرب الاسناد: 121.
3- الوسائل 332:1 الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة ح 6، التهذيب 32:1/84.
4- الوسائل 231:1 الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة ح 5، التهذيب 31:1/82.

متعارف أهل أواسط أعصار الأئمّة عليهما السلام هو التختمّ باليسرى. فينصرف إليها إطلاق اليد في أسئلة الروايات، وينزّل عليها أجوبتها، ويكون مفاد الجميع لا تدخل الخلاء وعلى يدك اليسرى خاتم فيه اسم اللّه تعالى، ثمّ ينتقل الذهن إلى أنّه لا جهة لهذا الاختصاص إلّا كون اليسرى بحسب متعارف النوع ولو مع دخل للشرع فيه آلة للاستنجاء، ويلزم منه كون الجهة في النهي هو الاستنجاء لا غير فيخصّ بحاله، ولا ينافيه التعبير فيها سؤالا وجوابا بالدخول بعد ملاحظة كون تحويله قبل الدخول توطئة للتحرّز عن الاشتمال عليه حال الاستنجاء وبالجملة فالعمل على الأخبار المتقدّمة لا غير. وأمّا ما في رواية وهب بن وهب عن أبي عبدالله عليه السلام «قال: كان نقش خاتم أبي العزّة للّه جميعا، وكان في يساره يستنجي بها، وكان نقش خاتم أمير المؤمنين الملك لله وكان في يده اليسرى يستنجي بها»(1) فهو مطروح لعامّية الراوي وكونه من الكذابين على المعصومين عليهما السلام أو. محمول على التقيّة لموافقته مذهب العامّة أو مؤوّل بما لا ينافي ما تقدّم. ثمّ إنه في كلام جماعة(2) أنّ الكراهة إنّما هو اذا لم يستتبع الاستنجاء تلويثا للخاتم وإلّا فيحرم، بل قد يبلغ حدّ الكفر إذا لحقه قصد الإهانة.

وفي كلام غير واحد كما عن جماعة(3) بل قيل: هو المشهور بين المتأخّرين إلحاق أسماء الأنبياء والأئمّة عليهما السلام بأسمائه تعالى، وعن جامع المقاصد(4) إلحاق اسم فاطمة بها أيضا، ونصوص الباب خالية عن ذلك مع ظهور بعضها في نفي الكراهة عن اسم نبيّنا صلى الله عليه و آله وسلم وإن حمل تارة على نفي شدّة الكراهة، واخرى على نفي كراهة الإدخال في الخلاء وهو لا ينافي كراهة الاستنجاء، وثالثة على ما لو كتب لا بقصد النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم نعم إنّما يساعد عليه الاعتبار مع المسامحة من جهة الفتوي والشهرة المحكيّة. وعلى كلّ تقدير فموضع الكراهة ما كتب بقصد أسمائهم لا مطلقا. وظاهرهم في أسماء اللّه تعالى عدم الفرق بين لفظ الجلالة وغيرها من الأسماء الخاصّة بل غيرها أيضا لكن مع اعتبار

ص: 419


1- الوسائل 332:1 الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة ح 8، التهذيب 31:1/83.
2- كما في الحدائق 82:2، الجواهر 72:2.
3- كما في القواعد 181:1، التذكرة 133:1، الذكرى 166:1، الدروس 89:1، البيان: 7، روض الجنان 86:1.
4- جامع المقاصد 106:1.

القصد فيه خاصّة كما صرّح به غير واحد.

ومنها: الكلام بغير ذكر اللّه على ما هو المشهور،

وربّما ادّعي فيه نفي الخلاف ودليله ما رواه صفوان عن أبي الحسن الرضا عليه السلام إنّه قال: «نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يجيب الرجل آخر وهو على الغائط أو يكلّمه حتّى يفرغ»(1) وفي رواية أبي بصير قال:

قال أبو عبد الله عليه السلام: «لا تتكلّم على الخلاء فإنّه من تكلّم على الخلاء لم تقض له حاجة»(2) وهذا ينهض قرينة على صرف النهي في الأولى عن المنع، وعن دعائم الإسلام أنّه قال: «إنّا روينا عن أهل البيت عليهما السلام أنّهم نهوا عن الكلام في حال الحدث والبول وأن يردّ السلام على من سلّم عليه»(3).

وقضيّة هذه النصوص بمقتضى ظواهرها كما ترى كراهة مطلق الكلام العادي سؤالا وجوابا في حال التخلّي بولا أو غائطا من دون اختصاصها بالتغوّط ولا عمومها لمطلق الكون في بيت الخلاء و لا الكلام الغير العادي كذكر الله وغيره من قراءة القرآن، لعدم انصراف إطلاق الكلام أو التكلّم إلى نحو ما ذكر. فما عن المبسوط و النهاية والسرائر من قصر الحكم على حال الغائط(4) ليس على ما ينبغي، كما أنّه كذلك ما في بعض العبائر من التعبير بكراهة التكلّم في بيت الخلاء مطلقا، فإنّ الحكم المخالف للأصل يقتصر فيه على مورد دليله، كما أنّه ما في كلام جماعة من استثناء ذكر الله - وغيره ممّا يأتي - عن هذا الحكم ليس بسديد إلّا على تقدير انقطاع الاستثناء، وإلّا فالجواز في نحو ما ذكر في الجملة على طبق الأصل.

نعم استثناء حال الضرورة كما في كلام الجماعة بل عن الأكثر في محلّه، والمراد بالضرورة قيام حاجة يضرّه فوتها كما هو الظاهر منها المصرّح به في كلام غير واحد، وعليه فلا حاجة إلى تقييدها بما أخرج نحو الإشارة وتصفيق اليد وغيرهما ممّا يحصل به الغرض كما استحسن التصريح به بعضهم معترضا على من تركه فإنّ التعبير بالضرورة

ص: 420


1- الوسائل 309:1 الباب 6 من أبواب أبواب أحكام الخلوة ح 1.
2- الوسائل 310:1 الباب 6 من أبواب أحكام الخلوة ح 2.
3- المستدرك 256:1 الباب 6 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
4- المبسوط 18:1، النهاية 215:1، السرائر 96:1.

تنبيه على الإخراج المذكور لتضمّنها مفاد القيد، إلّا أن يكون المراد من التقييد ما يكون لمجرّد التوضيح، وكيف كان فعلّل الاستثناء بنفي الحرج بناء على جريانه في الأحكام الغير الإلزامية، وأنّ الضرورات تبيح المحظورات فكيف بالمكروهات، وقد قال: إنّ الضرورات العرفيّة وإن لم يبلغ مراعاتها حدّ الوجوب تبيح المكروهات.

وقد تؤيد الحكم في خصوص المقام بما في رواية أبي بصير المتقدّمة من تعليل النهي بعدم قضاء الحاجة الشاملة للدنيويّة، التفاتا إلى أنّ ذلك لا يعارض فوات الحاجة العاجلة، وكان مرادهم بالضرورة المستثناة ما يعمّ الواجب الشرعي الّذي يعاقب على تركه كردّ السلام ونحوه. وما تقدّم في مرسلة الدعائم لا يصلح مخصصا لأدلّة وجوبه كما هو واضح، بل لا يصلح لإفادة الكراهة بالنسبة إليه ولو بالمعنى المضاف إلى العبادات بعد الفراغ عن إثبات مشروعيّتها من أقليّة الثواب، بناء على أنّ نحوها لا ينهض دليلا إلّا بانضمام قاعدة التسامح في أدلة السنن وجريانها في نحو المقام غير معقول، كما يظهر وجهه بملاحظة ما قرّرناه سابقا في تأسيس هذه القاعدة. ثمّ بقي في المقام امور ينبغي التنبيه عليها:

أحدها: قضية الأصل المعتضد بما مرّ من الأدعية والأذكار المأثورة لحالات المتخلّي جواز ذكر الله مطلقا استحبابه في جميع حالات الكون في بيت الخلاء وغيره، عملا بعمومات رجحانه كما نصّ به الأصحاب(1) من غير خلاف يظهر بينهم مضافا إلى نصوص مستفيضة.

منها: رواية الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «لا بأس بذكر الله وأنت تبول، فإنّ ذكر الله حسن على كلّ حال فلا تسأم من ذكر الله»(2).

ومنها: رواية سليمان بن خالد عن أبي عبد الله قال: «إنّ موسى قال: يا ربّ تمرّ بي حالات أستحيي أن أذكرك فيها، فقال: يا موسى ذكري على كلّ حال حسن»(3).

ومنها: رواية داود بن سليمان الفرّاء عن عليّ بن موسى عليه السلام عن آبائه عليهما السلام عن

ص: 421


1- كما في المبسوط 181.
2- الوسائل 310:1 الباب 7 من أبواب أحكام الخلوة ح 2.
3- الوسائل 312:1 الباب 7 من أبواب أحكام الخلوة ح 5.

النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم «ان موسى لمّا ناجى ربّه قال: يا ربّ أبعيد أنت منّي فأناديك أم قريب فأناجيك، فأوحى اللّه إليه أنا جليس من ذكرني، فقال موسى: يا ربّ إنّي أكون في حال اجلّك أن أذكرك فيها؟ فقال: يا موسى اذكرني في كلّ حال»(1).

ومنها: رواية أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «مكتوب في التوراة الّتي لم تغيّر أنّ موسى سال ربّه، فقال: إلهي أنّه يأتي عليّ مجالس اعزّك واجلّك أن أذكرك فيها؟

فقال: يا موسى إنّ ذكري حسن على كلّ حال»(2) إلى غير ذلك من النصوص القريبة من هذه المضامين.

وبالجملة فإطلاق الحكم ممّا لا إشكال فيه، نعم هاهنا شيء وهو أنّه نسب إلى المبسوط والنهاية والمصباح ومختصره والوسيلة أنّه يذكر فيما بينه وبين نفسه(3)وحمل على إرادة الإسرار في الذكر، وربّما مال إليه غيرهم(4) ومرجعه إلى تقييد أدلّته ولم يذكروا له مستندا سوى المرويّ عن قرب الإسناد عن جعفر عليه السلام عن أبيه عليه السلام قال:

«كان أبي يقول إذا عطس أحدكم وهو على خلاء فليحمد اللّه في نفسه»(5) والمرويّ عن الفقيه مرسلا عن الصادق عليه السلام «إذا دخل الخلاء يقنع رأسه، ويقول في نفسه بسم اللّه وبالله(6) وليس شيء من ذلك صالحا له كما يعلم وجهه بأدنى تأمّل، فالمتّجه حينئذ جواز الإعلان فيه أيضا عملا بالإطلاق السليم عمّا يزاحمه، ولو قيل يكون الإسرار مستحبا آخر تسامحا لمجرّد فتوى من تقدّم لو كان مستندها غير ما ذكر لم يكن بذلك البعيد، وربّما الحق ذكر النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بذكر اللّه، ولا ضير فيه عملا بالأصل وعمومات دليل رجحانه وشيوع إطلاق ذكر اللّه عليه، بل يجب إذا سمع اسم النبيّ على القول بالوجوب كما علم وجهه، ويندرج في إطلاق الذكر التحميد عند العطاس منه ومن غيره

ص: 422


1- الوسائل 311:1 الباب 7 من أبواب أحكام الخلوة ح 4.
2- الوسائل 310:1 الباب 7 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
3- المبسوط 18:1، النهاية 215:1، المصباح: 6، مختصر المصباح: 5، الوسيلة: 48.
4- كما في إشارة السبق: 70.
5- الوسائل 313:1 الباب 7 من أبواب أحكام الخلوة ح 9.
6- الوسائل 304:1 الباب 3 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.

كما صرّح به في الروضة وعن جماعة(1) أيضا، ويدلّ عليه أيضا رواية الدعائم المتقدّمة، وصحيحة عمر بن يزيد الآتية.

وأمّا تسميت العاطس - بالسين المهملة أو تشميته بالشين المعجمة وهو الدعاء له بمثل يرحمك الله - فعن جماعة(2) التصريح باستحبابه تعليلا بكونه ذكرا فيشمله أدلّته المتقدّمة. وعن آخرين استشكاله لمنع دخوله في مفهوم الذكر، وعن صاحب المدارك لعلّ تركه أولى(3) أقول: وأشكل منه اندراجه في أدلّة كراهة الكلام لمنع انصرافها إلى نحوه، والفرق بينه وبين السلام واضح من حيث اندراجه في مفهوم «يكلّمه». فما عن بعضهم من أنّ الفرق بينهما محلّ تأمّل ليس في محلّه، كما أنّ الفرق بين السلام وردّه واضح بما مرّ. فما عن أكثر الأصحاب من القطع بوجوبه في محلّه.

وثانيها: المعروف بين الأصحاب في قراءة القرآن في بيت الخلاء كراهه ما زاد على قراءة آية الكرسي من غير خلاف بينهم يعرف، ومستندهم فيه صحيحة عمر بن يزيد قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن التسبيح في المخرج وقراءة القرآن ؟ قال:

لم يرخّص في الكنيف في أكثر من آية الكرسي ويحمد اللّه أو آية الحمد للّه ربّ العالمين»(4) وهذه كما ترى تعارض صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته أتقرأ النفساء والحائض والجنب والرجل يتغوّط القرآن ؟ فقال: يقرؤون ما شاؤوا»(5)وحملها على إرادة نقصان الثواب كما صنعه في الوسائل(6) وغيره طريق الجمع، وهو وإن أمكن بعد حملها على الكراهة المصطلحة بتخصيص الصحيحة المذكورة أو حمل الإذن المستفاد منها على ما لا ينافي الكراهة المصطلحة، غير أنّهما لبعدهما في الغاية لا ينبغي التزامهما، أمّا الأوّل فلتضمّنه تخصيص الأكثر بل ربّما يعدّ مستهجنا، وأمّا الثاني فلظهور السياق في السؤال عن المشروعيّة المعتبرة في نحو القرآن لا عن مطلق الإذن والرخصة في الفعل في مقابلة الحرمة، وكيف كان فترك القراءة فيما زاد أحوط وقوفا مع المشهور. وأمّا ما عن الوسيلة من قوله: «يكره قراءة القرآن إلّا آية الكرسي

ص: 423


1- كما في نهاية الإحكام 84:1، المنتهى 249:1.
2- كما في المنتهى 249:1، المراسم: 32.
3- المدارك 183:1.
4- الوسائل 312:1 الباب 7 من أبواب أحكام الخلوة ح 7.
5- الوسائل 313:1 الباب 7 من أبواب أحكام الخلوة ح 8.
6- الوسائل 313:1.

فيما بينه وبين نفسه لئلّا يفوت شرف فضلها»(1) فتعليله غير واضح التقريب مع ما في تقييده إن أراد به اعتبار الإسرار مما لا يخفي من مدافعته لإطلاق ما تقدّم بلا شاهد، نعم إن أراد به كونه مستحبّا آخر أمكن قبوله تسامحا لمجرّد الفتوى.

وثالثها: حكاية الأذان على الخلاء ممّا استثناه الأصحاب عن الكلام المنهيّ عنه وإن اختلفت عبائرهم من حيث كونهما بين مطلقة كما عن الفقيه والهداية والمراسم والجامع(2) ومقيّدة لها نفي نفسه كما عن النهاية والوسيلة والمهذّب(3) وربّما يستظهر من قول الهداية والمراسم(4) «فليقل كما قال المؤذن» اعتبار الجهر وفيه تأمّل.

والمستند في أصل الحكم صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال له:

«يا محمّد بن مسلم لا تدعنّ ذكر الله على كلّ حال، ولّو سمعت المنادي ينادي بالأذان وأنت على الخلاء فاذكر اللّه عزّ وجلّ ، وقل كما يقول المؤذن»(5) ورواية أبي بصير: قال:

قال أبو عبداللّه عليه السلام: «إن سمعت الأذان وأنت على الخلاء، فقل مثل ما يقول المؤذن، ولا تدع ذكر الله عزّ و جلّ في تلك الحال، لأن ذكر اللّه حسن على كلّ حال»(6) الخ، ورواية سليمان بن عقيل(5) قال: «قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: لأيّ علّة يستحبّ للإنسان إذا سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذّن، وإن كان على البول والغائط؟ فقال:

لأنّ ذلك يزيد في الرزق»(8).

إطلاق هذه النصوص كما ترى ولا سيما الأخير المعلل للحكم بزيادة الرزق يشمل الأذان بجميع فصوله حتى الحيّعلات على ما هو ظاهر المماثلة، وإن استلزم ذلك كون إطلاق الذكر بناء على التغليب أو على إرادة عموم المجاز لو سلّمنا عدم تناول الذكر لغة أو عرفا لها، فالتشكيك في شمول استحباب الحكاية لها كما عن جماعة منهم ثاني الشهيدين في الروضة وروض الجنان(6) تعليلا بعدم النصّ عليه بالخصوص إلّا أن تبدّل بالحولقة ليس في محلّه، والكلام في التقييد المشار إليه يعلم بملاحظة ما سبق.

ص: 424


1- الوسيلة: 48.
2- الفقيه 28:1، الهداية: 16، المراسم: 32، الجامع للشرائع: 27.
3- نهاية الإحكام 84:1، الوسيلة: 48، المهذّب 41:1.
4- الهداية: 16، المراسم: 32. (5و6و8) الوسائل 314:1 الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة ح 1 و 2 و 3.
5- وفي نسخة «مقبل» وفي نسخة اخرى «مقاتل».
6- الروضة 344:1، روض الجنان 87:1.

المقصد الثالث في كيفيّة الوضوء

اشارة

والمراد منها الهيئة الاعتباريّة الطارئة لأفعال بسبب انضمام بعضها إلى بعض المعبّر عنها بالهيئة الاجتماعية، ولا ينافيه وقوع تلك الأفعال في جواب قول السائل: «كيف يتوضّأ؟» لأنّ الغرض الأصلي من السؤال عن الكيفيّة بمعنى الهيئة الاجتماعيّة إنّما هو استعلام ما يحققها فتفسيرها بنفس الأفعال ليس على ما ينبغي، وقد تطلق على ما يعمّها والهيئة العارضة لها بسبب تقديم بعضها على بعض في الوجود الخارجي وغير ذلك من الخصوصيّات المعتبرة فيها الخارجة عن حقائقهما.

وبذلك يعلم السرّ في اختلاف كلامي المحقّق في الشرائع والنافع(1) مع تعبيره عن العنوان فيهما بكيفية الوضوء حيث جعل فروضه في الأوّل خمسة وفي الثاني سبعة بإضافة الترتيب والموالاة، لجواز - ابتناء الأوّل على إرادة المعنى الأوّل من الكيفيّة بخلافه الثاني. ولا حاجة حينئذ إلى الاعتذار - لما صنعه في الشرائع من عدم عدّه الترتيب والموالاة من فروض الوضوء - بأنّه في صدد الأجزاء وما ذكر من الشروط لينتقض بالنية التي هي عنده أشبه بالشرط كما صرّح به في كتاب الصوم، ولا بما احتمله في مفتاح الكرامة(2) وتبعه غيره من كون مراده بالفرض ما استفيد وجوبه من نصّ الكتاب وما ذكر ليس كذلك لينتقض بالمباشرة، مع فساده في نفسه باعتبار قرينة مقابلة سننه الّتي عقدها لضبط مستحبّات الوضوء، وقضيّة ما ذكر كون السنن مرادا به ما استفيد وجوبه من السنة كما لا يخفى، وهذه قرينة واضحة على كون

ص: 425


1- الشرائع 20:11، النافع: 5.
2- مفتاح الكرامة 273:2.

مبنى إطلاق الفرض هاهنا على إرادة ما يقابل المستحبّ وهو مطلق الواجب. وعن الشهيد في الذكرى(1) أنّه جعل واجباته المستفادة من نصّ الكتاب ثمانية السبع المذكورة مع زيادة المباشرة، وهو بالنسبة إلى المباشرة في محلّه، بناء على ما هو الأصل في الأمر المحقّق في الأصول، وأمّا بالنسبة إلى الترتيب والموالاة ليس في محلّه. وما تكلّف في وجه ما ادّعاه فيهما ليس بسديد. وكيف كان فتمام البحث في هذا المقصد يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في واجبات الوضوء على معنى أفعاله الّتي أمر بها شرعا بدليل لبّي أو لفظي كتابا أو سنّة وهي أمور:
أوّلها: النيّة وفيها أبحاث:
البحث الأوّل: النيّة عرفا ولغة إرادة الشيء والقصد إليه والعزم عليه،

ففي المجمع «النيّة هي القصد والعزم على الفعل اسم من نويت نيّة ونواة أي قصدت وعزمت»(2)ونحوه ما عن الصحاح(3) وعنه أيضا «عزمت على كذا عزما وعزما وعزيمة وعزيما إذا أردت فعله وقطعت عليه» ونحوه ما في المجمع، وظاهرها. لعطي كونها مع العزم والإرادة من الألفاظ المترادفة، ويلزم منه عدم اعتبار المقارنة للفعل ولا عدم المسبوقيّة بالتردّد في مفهومها كما عن ظاهر الأكثر على ما ستعرفه إن اريد بالمقارنة ما هو لازم لحدوثها، خلافا لصريح جماعة منهم ولد العلّامة في الإيضاح قائلا في المحكيّ عنه:

«النيّة حقيقة في الإرادة المقارنة مجاز في القصد أعني الإرادة مطلقا»(4) وفي معناه ما عن الشهيد في القواعد والذكرى(5) من أنّ القصد السابق على الفعل عزم لا نيّة، ولغير واحد حيث جزموا بالفرق بينها وبين العزم في كونه مسبوقا بالتردّد وبها قال ولد العلّامة في المحكيّ له عن الرسالة الفخريّة في معرفة النية «والفرق بينها وبين العزم أنّه مسبوق بالتردّد دونها»(6) وعن التنقيح حكاية هذا الفرق مع الفرق المتقدّم بينها وبين الإرادة عنهم على وجه يظهر منه الارتضاء بهما، قال: «فظهر أنّ الإرادة إمّا بعد تردّد

ص: 426


1- الذكرى 103:2.
2- مجمع البحرين 423:1.
3- صحاح اللغة 2516:6.
4- إيضاح الفوائد 101:1.
5- القواعد والفوائد 114:1، الذكرى 105:2.
6- الرسالة الفخريّة (كلمات المحققين): 423.

وذلك العزم أو لا بعد تردّد فإمّا مقارنة فتلك نيّة أو متقدّمة فتلك إرادة بقولي مطلق»(1).

وهذا كلّه كما ترى خلاف ما يساعد عليه ما عرفته عن أئمّة اللغة بل العرف أيضا، ولعلّ توهّم الفرق الّذي مرجعه إلى اعتبار المقارنة وعدم سبق التردّد في النيّة إنما نشأ عن ملاحظة ما هو مركوز في أذهان المتشرّعة في النيّة المشترط بها جميع العبادات من لزوم المقارنة للمنويّ حسبما اعتبره الفقهاء من باب اشتراط شيء في موضوع حكم شرعي، وكون محلّها على هذا الوجه فيما بين العلم والعمل على ما نصّ عليه جماعة منهم العلّامة البهبهاني على ما حكي عنه في شرح المفاتيح(2) حيث عرّفوها بالإرادة الباعثة على العمل المنبعثة عن العلم، بناء على أنّ المراد بالعلم هو العلم بصفة العمل من اشتماله على منفعة أو دفع مضرّة، ولذا كان تصوّر. مشتملا عليها من لوازم انعقاد النيّة الباعثة عليه في النفس كما سنقرّره.

ويمكن كون المراد بالعلم هو هذا التصوّر كما يظهر من بعض العبائر، والفرق بينه وبين الأوّل غير خفيّ ، وأنت خبير بأنّ اعتبار شيء في موضوع حكم شرعي مع استلزام مورده لآخر لا يقضي بكونهما مأخوذين في مفهومه باعتبار الوضع هذا، مع أنّ ظاهر استثناء نيّة الصوم عن حكم المقارنة كما في كلام جماعة من معتبريها يأبى كونها معتبرة في أصل المفهوم، بل ظاهر تفاسيرهم لها يأبى اعتبار الأمرين معا فلاحظ قواعد العلّامة(3) المعزفة لها بإرادة إيجاد الفعل على الوجه المأمور به شرعا، والمحكيّ عن الرسالة الفخريّة والتنقيح من أنّه عرّفها الفقهاء بأنّها إرادة إيجاد الفعل المطلوب شرعا على وجهه(4) والمحكيّ عن الحواشي المنسوبة إلى الشهيد: من أنّه عند الفقهاء إرادة الفعل على الوجه المأمور به شرعأ(5) وفي مفتاح الكرامة(6) بعد تعريف القواعد: «ذكره المصنّف في أكثر كتبه» وظاهره أنّ المقارنة للفعل المنويّ ليست مأخوذة في مفهوم النيّة كما هو ظاهر الأكثر، وفي معناه عبارة كاشف اللثام: «وليست المقارنة للفعل المنويّ مأخوذة في مفهومها وفاقا لظاهر الأكثر، ومنهم المصنّف في أكثر كتبه لعدم

ص: 427


1- التنقيح الرائع 73:1.
2- مصابيح الظلام 370:3-372.
3- القواعد 200:1.
4- الرسالة الفخريّة: 423، التنقيح الرائع 73:1.
5- نقل عنه في مفتاح الكرامة 275:2.
6- مفتاح الكرامة 275:2.

الدليل»(1) انتهى.

نعم عن المتكلّمين - على ما في محكيّ الرسالة الفخريّة - تعريفها بإرادة من الفاعل للفعل مقارنة له، وهذا مع أنّه يعارضه ما في محكيّ الحواشي المشار إليها من أنّ النيّة عند المتكلّمين إرادة بالقلب يقصد بها إلى الفعل إمّا اصطلاح لهم بالخصوص أو دعوى منهم بلا شاهد بل الشاهد ناهض بخلافها، ولو اريد بالمقارنة ما يلزمه النيّة بمعنى الداعي على ما عليه متأخّرو المتأخّرين من أصحابنا حسبما نوضحه فهو مشترك بين النيّة والإرادة، بل النيّة الملزومة لها حينئذ ليست إلّا الإرادة المطلقة، ولو أريد بالنيّة ما عليه المشهور من الصورة المخطرة بالبال والحديث النفسي حسبما نوضحهما أيضا فهي مع أنّها لا تستلزمها بنفسها ولذا صاروا إلى وجوبها فيها ليست من النيّة بحسب العرف واللغة في شيء كما ستعرفه.

ثمّ إنّ ظاهر ما عرفته عن الصحاح والمجمع(2) كون حقيقة النيّة ومرادفها هي القطع على الفعل بمعنى الجزم بإيقاعه المانع عن احتمال العدم، ولو اضيفت إلى الترك كانت عبارة عن القطع عليه بمعنى الجزم به الّذي يزول معه احتمال الوجود بالمرّة، وهو الّذي يساعد عليه العرف والاعتبار، فإنّ النيّة بهذا المعنى هي الّتي تعدّ من المقدّمات العاديّة لكلّ فعل اختياري، وهي المحرّكة للفاعل المختار إلى فعله الاختياري بحيث لولاها استحال صدوره منه، كما يفصح عنه ملاحظة حالة التردّد بين الفعل والترك.

وتوضيحه - على ما يرشد إليه الوجدان السليم والذوق المستقيم -: أنّ كلّ فعل اختياري عادي أو عبادي صادر بجميع مرتبطاته ومتعلّقاته من مقدّماته المعدّة له واجزائه وسائر لوازمه من عاقل غير غافل وشاعر غير ذاهل، فهو بحيث لا يصدر منه إلّا وهو مسبوق بتصوّره وتصوّر ما هو مشتمل عليه من منفعة أو دفع مضرّة معبّر عنهما بالغاية وقصد إيجاده مع القصد إلى كون الإيجاد لأجل إدراك هذه الغاية. والمراد بهما ما ينبعث عن التصوّرين من العزم على إيقاعه على هذا الوجه والقطع به على معنى ترجيح جانب الفعل في النفس على وجه يزول معه احتمال العدم بالمرّة، ومرجعه إلى

ص: 428


1- كشف اللثام 502:1.
2- الصحاح 2516:6، مجمع البحرين 423:1.

أنّ الفاعل يجزم في نفسه بأنه يوقعه لا محالة، وأنّه لإدراك ما فيه من الغاية بحيث لو راجع وجدانه لوجد صورة هذه القضيّة منقدحة في نفسه موجودة في ذهنه مجزوما بها على نحو سائر القضايا المعقولة، بل كثيرا ما يدعوه قوّة الشوق إلى القيام بمقتضى هذه الصورة وشدّة الميل إلى الإقدام على الأخذ بموجبها إلى النطق بقضيّة ملفوظة منطبقة على القضية المعقولة، وهذا هو معنى التلفّظ بالنيّة في كلام من أوجبه أو حكم باستحبابه حسبما يأتي التعرّض له، كما أنّ القضية المعقولة المتعلّقة للجزم المذكور هي الصورة المخطرة بالبال والحديث النفسي على مذهب المشهور حسبما تعرفه، لأنّها أخبار في النفس وصورة خبريّة تحضر في البال. فهاهنا حينئذ قضيتان يحصل النطق بهما:

إحداهما: ما نطق به بجارحة الجنان، والاخرى: ما نطق به بجارحة اللسان، غير أنّه ليس شيء منهما مؤثّرا في الفعل وجودا وعدما، بل المؤثّر فيه هو الجزم المتعلّق بالقضية المعقولة، وهذا هو النيّة بحسب العرف واللغة المعبّر عنها بالعزم تارة، وكثيرا ما يوصف به العزم للتوضيح، بل قد يعبّر به مكان التعبير بالعزم وبالإرادة اخرى، قال المحقّق الطوسي في كلام محكيّ عنه في التجريد: «إنّ الحركة إلى مكان تتبع إرادة بحسبها وجزئيّات تلك الحركة تتبع تخيلات وإرادات جزئية يكون السابق من هذه علّة للسابق المعدّ لحصول حركة اخرى، فتتّصل الإرادات في النفس والحركات في المسافة إلى آخرها»(1).

وكان مراده بالإرادات الجزئية الّتي يتبعها جزئيات الحركة هي الإرادات الإجماليّة الّتي ينحلّ إليها الإرادة المتعلّقة بالمجموع من حيث المجموع، لحصولها بالقياس إلى كلّ جزء حصولا إجماليّا باعتبار تعلّقهما بجامع لها، ولو فينظر الاعتبار كعنوان المجموعيّة، ومن حكمها انحلالها في نظر العقل إلى إرادات جزئيّة كثيرة بحسب أجزاء الفعل.

وقضيّة ذلك كون كلّ جزء مرادا بهذا الاعتبار، فهي إرادة بسيطة في ذاتها ومركبة من إرادات جزئية باعتبار متعلّقها، لبعد أن يكون مراده الإرادات الجزئية التفصيليّة

ص: 429


1- التجريد: 136.

المنقدحة عند الاشتغال بكلّ جزء، ومرجعه إلى تجدّد إرادات جزئيّة مفصّلة بحسب أجزاء الفعل 0 لوضوح كون مبنى الأفعال الاختيارية على الإرادة العارضة للمجموع من حيث هو، بل لا يكاد يتّفق منها ما يحصل أجزؤه بإرادات تفصيليّة بحسبها، بل هذا في الأمور السيّالة الكثيرة الأجزاء من المستحيلات العادية.

وربّما ينزّل كلامه على ما لا يتحمّله ولا يقبله، وهو الأمر المركوز في الذهن من صورة القضيّة المعقولة بعد غروبها عن البال، فإنّ الفعل الاختياري خصوصا ما كثر أجزاؤه حيثما سبقه الإرادة لزمه غروب النيّة في الأثناء البتة، إمّا بمعنى زوال الصورة عن الذهن بالمرّة كما قد يتّفق ذلك، وعلامته أنه لو توجّهت النفس إلى الفعل المتشاغل به تبقى مردّدة في غايته ومتحيرة في الغرض المطلوب منه، أو بمعنى زوالهما عن المدركة مع حضورها في الحافظة التي هي خزانة القلب على حدّ سائر الصور العلميّة الغاربة عن المدركة الحاضرة في الخزانة، وعلامته أنّه لو انتقلت النفس إلى الفعل المتشاغل به لأستشعرتها على ما هي عليه، وأدركتها المدركة على نحو ما أدركته قبل التشاغل، ولذا لو سئل الفاعل عن فعله أو غايته لأجاب بها ونطق من القضيّة الملفوظة بما ينطبق عليها بلا تحيّر ولا تردّد، وهذا هو الأمر المركوز في الذهن الّذي ينزّل عليه كلام المحقّق المذكور.

والسرّ في غروب النيّة ما ورد من أنّه «ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه»(1)فإنّه بحكم الطبيعة الخلقية والجبلّة الأصليّة يشتغل في أثناء كلّ فعل بإدراك فعل آخر يحدثه النفس غير ما هي متشاغلة به ممّا لا يتعلّق به ولا ينافيه، أو بإحضار صور أخر في البال ممّا لا تعلّق لها أيضا بالفعل المتشاغل به.

ثمّ إنّ قضية ما عرفته عن الرسالة الفخريّة والتنقيح وحواشي الشهيد من نسبة التعريفات المتقدّمة إلى الفقهاء كون المعنى المذكور اصطلاحا لهم.

وهذا لا يخلو عن نظر، فإنّهم في مطاوي كلماتهم وتضاعيف عباراتهم لا يزالون يحكمون على النية بكونها شرطا في العبادات دون المعاملات، ويفرّقون بينهما في

ص: 430


1- الأحزاب: 4.

كتبهم الفقهيّة والاصوليّة بتوقف صحّة الأولى على النيّة دون الثانية ولا يعقل فارق بينهما عدا ما يمتاز به عمل المرائي وغيره عن غيره أعني الإخلاص بمعنى قصد امتثال أمره تعالى وموافقة إرادته، ولذا كثيرا ما يفسّرون النيّه المشترط بها العبادات بقصد القربة.

مع أنّ ما يمتاز به عمل الساهي والناسي والغالط أعني مطلق القصد عن غيره مشترك اللزوم والاعتبار في عامّة الأفعال الخارجيّة الشاملة للمعاملات أيضا حتّى نحو الحيازة، فلو انعقد لهم اصطلاح فيها لكان بالقياس إلى ما ذكرناه، ومرجعه إلى إرادة كون الفعل المأمور به المأتيّ به على وجهه خالصا لوجه اللّه الكريم وطلبا لمرضاته، وهذه إرادة زائدة على إرادة الإتيان به على وجهه فلا ينطبق عليه التعريف بظاهره، إلّا بأن يرجع إلى تلك الإرادة الزائدة بضرب من التأويل، كأن يراد من وجهه ما يعمّ الإخلاص مع جعل الظرف من متعلّقات الإرادة لا الإتيان، وعليه فالالتزام بانعقاد الاصطلاح غير بعيد كما نصّ عليه أيضا غير واحد.

قال في مفتاح الكرامة(1) ناقلا عن شرح المفاتيح: «وليعلم أنّ قضيّة قولهم النيّة شرط في الطهارة وشرط في العبادات دون المعاملات، أنّها منقولة عن معناها إلى قصد الفعل طاعة وإخلاصا مع قصد الوجه أو غير ذلك على اختلاف آرائهم، ولو لم تكن منقولة لم يكن لاشتراطها معنى أصلا. لأنّ الفعل الاختياري لا يمكن صدوره بغير قصد ذلك الفعل وغايته، فلو كلّفنا اللّه بالفعل من دون القصدين كان تكليفا بالمحال، والعبادات وغيرها في ذلك سواء، فلا وجه حينئذ لاشتراطها وتجويز انفكاكها، وأمّا على المعنى المنقول إليه كما قلنا فإنّه يصحّ اشتراطها ويجوز انفكاكها»(2).

وفي معناه ما في شرح الدروس للخوانساري من «أنّ النية في اللغة العزم والقصد، يقال: نواك الله بخير أي قصدك، ونويت السفر أي قصدته وعزمت عليه، وفي الاصطلاح القصد الخاصّ الّذي يختلف بالنسبة إلى الأفعال، وبالنظر إلى المذاهب»(3) الخ.

والظاهر أنّ ذكر الفعل في التعاريف المذكورة وفي كلماتهم عند تفسير النيّة مثال أو مراد به المعنى الأعمّ لمكان قولهم: لا تجب النية في التروك، ولا يبعد القول بعموم هذا

ص: 431


1- مفتاح الكرامة 280:2.
2- مصابيح الظلام 363:3-364.
3- مشارق الشموس: 88.

الاصطلاح لعرف المتشرّعة تبعا للفقهاء، بل هو ممّا ينبغي القطع به لولا غلبة إطلاقها في لسانهم على الصورة المخطرة المغايرة لها بمعنى الإرادة كما هو المعنى المراد منها في لسان المشهور.

وعليه فربّما يشكل الحال في استقرار اصطلاح الفقهاء أيضا على شيء بملاحظة ما سيأتي من الاختلاف بينهم في ذلك، فيتردّد الاصطلاح حينئذ بين الإرادة المخصوصة المعبّر عنها بالداعي، والصورة المخطرة الّتي هي في الحقيقة متعلّقة لتلك الإرادة ومعروضة لها، ويمكن تعدّد الاصطلاح بالنظر إلى الفريقين.

وأمّا كون أصل الاصطلاح كائنا ما كان من الشارع باعتبار وضع شرعي ليكون النية ممّا ثبت فيه الحقيقة الشرعيّة فهو وإن كان ربّما يحكي القول به ويومى إليه الإطلاق الوارد في بعض الأخبار. كما في المرويّ عن المجالس وغيره عن أبي ذرّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في وصيته له قال: «يا أبا ذرّ ليكن لك في كلّ شيء نية حتّى في النوم والأكل»(1) لكن يبعّده بعد شذوذ القائل به شيوع إطلاقها في الأخبار على المعنى الأعمّ كما يقف عليه المتتبّع.

ومن جملة ذلك: ما في المرويّ عن المجالس عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهما السلام عن رسول الله في حديث قال: «إنّما الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند اللّه فقد وقع أجره على اللّه عزّ و جلّ ، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلّا ما نوى»(2).

وما في المرويّ عن الكافي عن أبي هاشم قال قال أبو عبدالله عليه السلام: «إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا اللّه أبدا، وإنّما خلّد أهل الجنة في الجنة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء، ثمّ تلا قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شٰاكِلَتِهِ (3) قال:

على نيته»(4).

ص: 432


1- الوسائل 48:1 الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ح 7 و 10.
2- الوسائل 48:1 الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ح 7 و 10.
3- الاسراء: 84.
4- الوسائل 50:1 الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ح 4.

وما في المرويّ عنه عن السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم:

نيّة المؤمن خير من عمله، ونيّة الكافر شرّ من عمله وكلّ عامل يعمل على نيته»(1) وفي خبر آخر عن أبي جعفر عليه السلام أنه كان يقول: «نيّة المؤمن أفضل من عمله، وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه، ونيّة الكافر شرّ من عمله وذلك لأنّ الكافر ينوي الشرّ ويأمل من الشرّ ما لا يدركه»(2) إلى غير ذلك ممّا لا يخفى.

البحث الثاني: النيّة واجبة في الوضوء بل مطلق الطهارة حتّى الترابيّة،

وشرط في صحّة الجميع بالإجماع المستفيض نقله عن كثير من أساطين الطائفة، ومنهم الشيخ في الخلاف(3) من غير خلاف نقل فيه عن أصحابنا عدا ما يوهمه محكيّ الشهيد في الذكرى(4) عن ابن الجنيد بقوله: «وإبن الجنيد عطف على المستحبّ قوله: وأن يعتقد عند إرادة طهارته أنّه يؤدي فرض اللّه فيها لصلاته» من القول باستحبابها ولكنّه - مع أنّه معارض بما عن المعتبر(5) من إسناد القول بالوجوب إلى الثلاثة وابن الجنيد - محمول على إرادة استحباب قصد كونها للصلاة، ومرجعه إلى قصد الاستباحة بل قصد الوجوب أيضا على ما يشعر به قوله: «فرض الله» لا استحباب أصل النية.

أو على الصورة المخطرة والحديث النفسي، كما احتمله غير واحد وإن كان بعيدا في الغاية.

وإن كان ربّما يشهد له المحكيّ عنه أيضا «ولو غربت عنه النيّة قبل ابتداء الطهارة ثمّ اعتقد ذلك وهو في عملها أجزأه ذلك» بناء على أنّ المراد بغروبها طروّ الغفلة عنها بعد ما أوجدها قبل الشروع في فعل الطهارة، ومرجعه إلى اعتبار النيّة بمعنى الداعي الّذي لا ينافي وجود. طروّ الغفلة.

وعلى فرض انعقاد كلامه في المخالفة فهو لشذوذه غير قادح، خصوصا مع ملاحظة ما قيل من أنّ فتاويه كثيرا ما توافق مذاهب العامّة، فإنّهم على ما نقل بين قائل باشتراطها في الطهارة مطلقا كما عن جماعة منهم الشافعي ومالك، وقائل بعدم

ص: 433


1- الوسائل 5:1 الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ح 3.
2- الوسائل 54:1 الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ح 17.
3- الخلاف 71:1.
4- الذكرى 105:2.
5- المعتبر 138:1.

اشتراطها في شيء من الطهارات كما عن الحسن بن صالح، وقائل بعدم اشتراطها في المائيّة مع اشتراطها للتيمّم كما عن أبي حنيفة والثوري، وعن الأوزاعي روايتان..

إحداهما كقول الحسن، والاخرى كقول أبي حنيفة.

وليس لعدم تعرّض قدماء الأصحاب لها - على ما في المعتبر «ولم أعرف لقدمائنا فيه نصّا على التعيين»(1) وما عن الذكرى «ولم يذكرها قدماء الأصحاب ومصنّفاتهم كالصدوقين»(2) - إشعار بالمخالفة.

إمّا لاعتمادهم في اعتبار أصلها على حكم العقل باعتبارها في كلّ فعل اختياري، وفي اعتبار غاية التقرّب على ما هو اللازم من فرض كونه من العبادات المأخوذ فيها قصد التقرّب والإطاعة كما أفاده بعض مشايخنا.

أو لأنّ من قاعدتهم أنّهم يذكرون لزوم النية ووجوب كون العمل لله تعالى خالصا في موضع واحد على سبيل القاعدة الكلّية بالنسبة إلى جميع الأعمال لا كلّ عمل كما أفاده العلّامة البهبهاني في حاشية المدارك(3) على ما حكي، ومراده قدس سره بالقاعدة الكلّيّه القاعدة الشرعية الثانويّة القاضيّة بأصالة التعبّد في كلّ واجب في الشريعة عدا ما أخرجه الدليل كإزالة النجاسة عن المسجد والثوب والبدن وأداء الدين وردّي الدين والوديعة وما أشبه ذلك من التوصليّات على ما قرّرها جماعة من أصحابنا واردة على الأصل الأوّلي المقتضي للتوصّل في كلّ واجب عدا ما أخرجه الدليل المأخوذ من أصلي البراءة وإطلاق الأمر فيما ثبت وجوبه بخطاب اللفظ النافيين لمدخليّة ما يشك في مدخليته شطرا وشرطا حتّى في الماهيّات المخترعة الشرعيّة، بناء على المختار في ألفاظها من كونها لما يعمّ الفاسدة المنتج لكونه من مجاري أصل البراءة مطلقا بل الإطلاق أيضا بناء على شرطيّة النيّة.

نعم على القول بالصحيحة اتّجه بل تعين البناء على أصل الشغل المقتضي لمراعاة جميع ما احتمل دخله في الماهيّة حتّى نحو النيّة، وعليه فالقاعدة الثانوية تعتضد بالأصل الأوّلي، فعلى هذه القاعدة - على تقدير انعقادها كما هو الأظهر بل الحق الّذي

ص: 434


1- المعتبر 138:1.
2- الذكرى 105:2.
3- حاشية المدارك 237:1.

لا محيص عنه - لا حاجة إلى تكلّف الاستدلال بحكم الوضوء وغيره بدليل خاصّ من إجماع وغيره. والعمدة من دليلها على ما اشتهر بينهم عمومات الكتاب والسنّة، فمن الأوّل قوله تعالى: وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ اَلْقَيِّمَةِ (1).

وجه الاستدلال: أنّه تعالى حصر الغرض المقصود من الأوامر في مدخول اللام الظاهرة هنا في الغاية، فيكون التقدير: «وما أمروا بشيء من الغايات إلّا غاية أن يعبدوا اللّه، والعبادة على ما يرشد إليه الاستعمالات العرفيّة وتنصيص أئمّة اللغة عبارة عن التذلّل والانقياد وغاية الخضوع، ولا ريب أنّ التذلّل لا يتأتّى إلّا بمقارنة قصد امتثال الأمر، فإنّه مفهوم منتزع عن أداء المأمور به بقصد الامتثال، فلا يتأتّى بأداء غيره ولا بأدائه لا بهذا القصد.

واحتمال إرادة المعهد من الأمر المقصور على غاية العبادة، يدفعه ظهور كون المنفيّ عمّا عداها من الغايات ماهيّة الأمر كما يعلم بالتدبّر ومراجعة متفاهم العرف، ولا ينافيه عطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بعد ملاحظة كون إفرادهما بالذكر - مع اندراجهما لأنّهما أيضا من المصاديق المنتزع عنها في المعطوف عليه العامّ - لكثرة الاهتمام بشأنهما وكونهما أهمّ فروع الدين على حدّ قوله تعالى: حٰافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوٰاتِ وَ اَلصَّلاٰةِ اَلْوُسْطىٰ (2) فلا يلزم كون الغرض من الأوامر مقصورا عليهما كما توهّم.

نعم لابدّ من إخراج التوصّليات الصرفة التي لا غرض فيها إلّا مجرّد حصول الفعل كيفما اتّفق كإزالة النجاسة وغيرها ممّا ذكر عن عموم هذا الحكم، إلّا أنّه لا يستتبع محذورا من لزوم تخصيص العموم بأكثر من الباقي كما توهّم أيضا. لكون مرجعه في الحقيقة إلى التصرّف في مادّة «أمروا» بتقييد الماهيّة المنفيّة كما هو الظاهر بل المتعيّن، فيكون التقدير: «وما امروا في غير نحو هذه الأمور إلّا لغرض التعبّد»، ولو قدّر اللّام للتقوّي كما قد يحتمل على حدّ ما في قوله تعالى: إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ (3)، و يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ (4) إن ساعد عليه مادّة الآمر، حيث إنّه لا يتعدّى إلى

ص: 435


1- البيّنه: 5.
2- البقرة: 238.
3- الأحزاب: 33.
4- النساء: 26.

المفعول الثاني إلّا بواسطة الباء - كان الاستدلال أيضا ناهضا بعموم الدعوى لولا شبهة لزوم تخصيص الأكثر، لكون التقدير حينئذ في حاصل المعنى: «وما أمروا بشيء إلّا العبادة لله».

والمناقشة فيه: بلزوم اعتبار مدخول اللام نفس المأمور به، على معنى لزوم تقدير المامور به من جنس المستثنى، فيكون المعنى: «وما امروا بالعبادة إلّا العبادة للّه على وجه الإخلاص»، وحاصله: أنّ العبادة لابدّ وأن تقع على وجه الإخلاص، وهذا أمر لا ينكر حتّى يحتجّ له بالآية، ولا يلزم منه المطلوب.

تندفع: بأنّها خلاف ظاهر سياق الحصر بالنفي والاستثناء المقتضي بوضع المركب لعموم المنفي، ولا شهادة لما عن ابن هشام من أنّ اللام إذا كانت للتقوّي فلابدّ من كون مدخولها مفعولا للفعل المتقدّم عليها، على معنى لزوم أنّ يقدّر مفعول ذلك الفعل من جنس مدخولها بصحّة التقدير المذكور، لأنّ ذلك إنّما يستقيم في غير سياق الحصر كما في ثاني المثالين، هذا مع أنّ كون التقوّي مع استلزامه تخصيص الأكثر إنّما يؤتى به في الكلام لتقوية العامل في العمل إذا كان صالحا لأن يعمل فيه بنفسه، والمقام ليس منه حيث لا يغني تجريده عن اللام عن إضمار كلمة الباء لصرفها إلى كونها للغاية.

وبما قرّرناه من وجه الاستدلال يعلم أنّه لا حاجة في تتميمه إلى النظر في قيد «المخلصين» كما في كلام جماعة، بزعم أنّه مناط الاستدلال ليتوجّه إليه ما توهّم من أنّ مفاد الآية حينئذ إيجاب التوحيد ونفي الشرك ردّا على المشركين، نظرا إلى أنّ إخلاص الدين تجريده عن شوائب الشرك، فالمحصور فيه هو العبادة الخالصة عن الشرك، والحصر إضافي بالنسبة إلى العبادة الغير الخالصة عن الشرك، فيكون حاصل معنى الآية: «أنّهم امروا بأن لا يشركوا ولا يتّخذوا في عباداتهم شركاء لله سبحانه، كما هو دأب المشركين» وهذا كلّه كما ترى غفلة عن حقيقة ما قرّرناه.

وفائدة قيدي «المخلصين» و «الحنفاء» حينئذ اعتبار شرط زيادة على قصد القربة لصحّة العبادات، وهو الإيمان الّذي مرجعه إلى التوحيد والالتزام بشريعة خاتم النبيين عليهما السلام وذلك لأنّ التذلّل لله تعالى لمّا كان في زعم المشركين أعمّ ممّا ي تأتّى مع تشريك غيره له تعالى فيه، ولو بعنوان كونه واسطة في القرب إليه كما نطقوا به في قولهم

ص: 436

مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلاّٰ لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اَللّٰهِ (1) فقيّده تعالى لإخراج صورة التشريك بقوله مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ سواء اريد بالدين مجموع الأصول والفروع، أو الطاعة بالمعنى المرادف للتذلّل، ولمّا كان التذلّل الخالص للّه تعالى بزعم غير المشركين من أهل الكتاب أعمّ ممّا يحصل بأديانهم المعهودة لديهم، فأخرجه اللّه تعالى بقوله: «حنفاء» أي مائلين عن الأديان الباطلة إلى دين الإسلام.

ثمّ إنّ الآية وإن نزلت في شأن أهل الكتاب والمشركين، غير أنّ سياقها باعتبار السابق واللاحق يعطي كون المراد بالأوامر الواردة عليهم المقصورة على غاية التعبّد حال الإيمان ومنها الأمر بالصلاة والزكاة إنّما هي أوامر شرعنا لا غير.

فلا حاجة في تتميم الاستدلال إلى توسيط الاستصحاب وأصالة عدم النسخ، ليتوجّه إليه ما قيل من أنّ جريانه فرع بقاء موضوع المستصحب وقد تغيّر، لأنّ ما أمر به أهل الكتاب من الصلاة وغيرها من عباداتهم غير ما هو ثابت في هذه الأمّة، مع عدم كون المأمور به مشتركا بين النوعين للقطع بفساد ما كان ثابتا لهم، ولا إلى إنضمام قوله تعالى: وَ ذٰلِكَ دِينُ اَلْقَيِّمَةِ (2) أي الملّة الثابتة، ليرد عليه أنّه إنّما يتمّ إذا كان الحمل في قضيّه الإشارة على طريق المواطاة ليفيد انحصار الدين في العبادة، وهذا مع أنّه يفضي إلى تخصيص الأكثر خلاف ظاهر الحمل، وإذا حمل على ظاهره وهو المتعارفي كان حاصل معنى القضيّة: أنّ العبادة على وجه الإخلاص من جملة أفراد هذا الدين، وهذا ممّا لا ينكر. ولا يلازم كون كلّ ما ثبت في الدين من أنواع المأمور به عبادة إلّا ما أخرجه الدليل.

ثمّ لا يخفى أنّ الطهارات الثلاث بناء على القول بكون وجوبها لغيرها - كما هو الأقوى - ربّما يشكل اندراجها في هذا الأصل الكلّي من حيث استفادته من الآية الشريفة، لوضوح أنّ ما وجب لغرض التوصّل به إلى غيره لا يلائم ما امر به لمجرّد التعبّد، بل هي على تقدير الاندراج أوفق بما وجب لنفسه فينافي وجوبها لغيرها، فلابدّ في الالتزام باشتراط النيّة فيها من الاستناد إلى ما يختصّ بها من الأدلّة كالإجماعات

ص: 437


1- الزمر: 3.
2- البينّة: 5.

المتقدّم إليها الإشارة أو إلى هذا الأصل الكلّي لكن من حيث استفادته من السنة كالخبر المتقدّم في البحث الأوّل «إنّما الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على اللّه عزّ و جلّ ، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلّا ما نوى»(1) وفي آخر رواه الشيخ مرسلا «إنما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرئ ما نوي» وخبر أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عليه السلام قال: «لا عمل إلّا بنيّة» وخبر أبي عثمان العبدي عن جعفر عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهما السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: لا قول إلّا بعمل، ولا قول ولا عمل إلّا بنيّة، ولا قول وعمل ونيّة إلّا بإصابة السنّة»(2).

وهذه الأخبار وإن قصر أسانيدها غير أنّها تلقّاها الأصحاب بالقبول، والّذي سهّل الخطب في وجه الاستدلال بها - مضافا إلى تعذر رجوع النفي الوارد فيها إلى الماهيّة لقبح الكذب إن أريد به الامتناع العقلي، ولزوم توضيح الواضح إن أريد به الامتناع العادي، نظرا إلى أن القصد إلى الفعل في الأفعال الاختيارية ممّا ثبت لزومه لها وكونه من مقدّماتها بحكم العادة فيقبح التعرّض له سيّما ممّن ليس شأنه بيان القضايا العادية، وأنّ أقرب محامله حينئذ إنّما هو نفي الفائدة والآثار المترتّبة عليه كما يساعد عليه متفاهم العرف، ويقتضيه خبر أبي عثمان المتقدّم لما فيه من القرينة الواضحة - إنما هو تعرّض الإمام عليه السلام في الخبر الأوّل لتفصيل ما أعطاه أوّلا من قصر الأعمال على النيّات بقوله: «فمن غزا ابتغاء ما عند اللّه» إلخ فإنّه يصرف الأعمال إلى نحو الغزوة من الأعمال الصالحة واجبة كانت أو مندوبة.

مضافا إلى أنّ إرادتها هي المعلومة بتتبّع الاخبار البالغة فوق حدّ التواتر الواردة على اختلاف ألفاظها بإناطة الأعمال بالنيّات، كما أنّه تصرف النية إلى كون المراد منها خصوص قصد الغايات المترتّبة والآثار المتفرّعة على الأعمال شرعيّة وعادية، ولا ريب أنّ ابتغاء ما عند اللّه بحكم بداهة الوجدان يتضمّن القصد إلى كون العمل للّه

ص: 438


1- الوسائل 48:1 الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ح 10.
2- الوسائل 47:1 الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ح 2.

خالصا لوجهه ولو على الإجمال، فهو النيّة المقصور عليها.

ومعنى قصر الأعمال عليه كون ترتّب الأثار الشرعية المقصودة من الأعمال الصالحة عليها مقصورا وموقوفا على هذا القصد، وقضية ذلك بمقتضى عموم الحصر المستفاد من «إنّما» ومن النفي والاستثناء في قوله عليه السلام: «لم يكن له إلّا ما نوي» عدم ترتّب شيء منها بدونه، على معنى عدم كون العمل بدونه مؤثّرا في ترتّبها ولا يكون ذلك إلّا لتطرّق نقص إليه باعتبار انتفائه، فيلزم منه أن يكون المامور به بالأمر الإيجابي أو الندبي بمقتضى عموم الاعمال الصالحة بالقياس إليهما هو العمل المقرون بذلك القصد، على أن يكون نفسه قيدا للمطلوب والتقيّد به جزءا فيه، وهذا هو معنى اشتراط الصحّة بالنية سواء اخذت الصحّة بمعنى مطلق ترتّب الأثر أو بمعنى موافقة الأمر و نحوها.

وعلى إرادة هذا المعنى تحمل الروايات الأخر بملاحظة ما أشرنا إليه من المقدّمتين الصارفتين للعمل إلى الأعمال الصالحة والنية عن قصد الفعل إلى قصد كونه طاعة للّه، وهما الاستقراء القطعي في أخبار الأئمّة عليهما السلام الكاشف عن أوّل الأمرين، وعدم كون بيان القضايا العادية الواضحة من وظيفة الحكيم بل قبحه الكاشف عن ثانيهما.

ويؤكد الجميع خبر أبي بصير قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن حدّ العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤدّيا؟ فقال: حسن النيّة بالطاعة»(1) وخبر السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به، فإذا صعد بحسناته يقول الله عزّ و جلّ : اجعلوها في سجّين، أنّه ليس إياي أراد به»(2).

فما قيل اعتراضا على الخبر الأوّل من أنّ الأظهر حمله على إرادة نفي الجزاء على الأعمال إلّا بحسب النية، فالعمل لا يكون عملا للعبد يكتب له أو عليه إلّا بحسب نيّته، فإذا لم يكن له نيّة فيه لم يكتب أصلا، وإذا نوى كتب على حسب ما نواه حسنا أو سيئا، ليس على ما ينبغي، إذ لا وجه له إلّا اعتبار الحصرين إضافيّا، ولا داعي إليه إلّا شبهة لزوم تخصيص الأكثر بإخراج المحرّمات والمكروهات والمباحات بل سائر

ص: 439


1- الوسائل 49:1 الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ح 2.
2- الوسائل 71:1 الباب 12 من ابواب مقدّمة العبادات ح 3.

العقود والإيقاعات لعدم اعتبار نيّة التقرّب في شيء منها، وليست الواجبات والمندوبات بالإضافة إليها إلّا كشعرة بيضاء في بقرة سوداء.

وتندفع: بملاحظة إرادة الأعمال الصالحة بقرينة ما تقدّم، التفاتا إلى أنه تصرّف في مادّة العامّ لا هيئته.

ولزومه بالنسبة إلى التوصّليّات بعد ملاحظة عموم الأعمال الصالحة للمندوبات موضع منع.

وأضعف منه ما عساه يقال على خبر «لا عمل إلا بنيّة» من أنّ الّذي يظهر بملاحظة أنّ الشارع ليس من شأنه إلّا بيان ما يتعلّق بشرعه، مع مراعاة سائر القواعد بقدر الإمكان إنّما هو التصرّف في النافية بحملها على نفي الآثار مع إبقاء العمل والنيّة على ما هما عليه بحسب اللغة، فيرجع مفاد الرواية إلى عدم الاعتداد بعمل الغافل والساهي والهازل والمكره في عقودهم وإيقاعاتهم بل مطلق معاملاتهم وعباداتهم، فلا يبقى لها دلالة على أنّ العمل لا يكون عملا إلّا بنيته، ووجه الضعف يعلم بملاحظة ما تقدّم.

وبالجملة يستفاد من الروايات المذكورة وغيرها أصل كلّي يندرج فيه الطهارات الثلاث أيضا الّتي قصد من الأمر بها الطهارة أو التوصّل إلى الصلاة وغيرها من مشروط بالطهارة، وقابل للتخصيص بالقياس إلى التوصّليّات الّتي منها إزالة النجاسة بأنواعهما.

فما في المدارك من «أنّ الفرق بين ما يجب فيه النيّة من الطهارة ونحوها وما لا يجب من إزالة النجاسة وما شابهها ملتبس جدّا لخلوّ الأخبار من هذا البيان...»(1) الخ لعلّه غفلة عن حقيقة هذا الأصل أو عن قبوله التخصيص أو عن مخصصه، أو بناء منه على عدم انعقاده بزعم عدم نهوض دليل عليه، والكلّ ضعيف. فالاستدلال بإطلاق الآية لنفي اعتبار النيّة في الوضوء والغسل - كما عن بعض العامّة - واضح السقوط، بعد ملاحظة حكومة هذا الأصل على جميع الأوامر المطلقة.

البحث الثالثة لا اعتبار للّفظ في النية لا شرعا ولا عقلا،

أمّا الأوّل: فلعدم دخوله في مفهومها لينهض الأدلّة المقامة بها على اعتباره، وأمّا الثاني: فلأنها أمر قلبي لا يعقل

ص: 440


1- المدارك 184:1.

للّفظ مدخل في انعقاده، وبه صرّح العلّامة في قواعده بقوله: «ومحلّها القلب فان نطق بها مع عقد القلب صحّ وإلّا فلا، ولو نطق بغير ما قصده كان الاعتبار بالقصد»(1) وفي معناه العبارة الآتية من التذكرة، وإليه أومأ المحقّق في الشرائع حيث قال: «وهي إرادة تفعل بالقلب»(2) بل المستفاد من أصحابنا اتّفاقهم على ذلك كما يظهر من العلّامة في محكيّ صلاة التذكرة قائلا: «ولا عبرة به عندنا ولا يستحبّ الجمع بينهما»(3) نعم عنه في نهاية الإحكام قول بوجوب التلفّظ إن لم يمكن قصد الخلوص بدونه(4) ولعلّه على تقدير صحّة الفرض ممّا لا خلاف فيه أيضا، بناء على وجوب المقدّمة وإن لم نقف على مصرّح به غيره.

خلافا لبعض أصحاب الشافعي القائل بوجوب التلفّظ بها، لكن عن أكثر اصحابه تخطئة هذا القائل مع القول باستحبابه، وربّما وافقهم بعض أصحابنا تعليلا بأنّه أشدّ عونا على قصد الخلوص، قال العلّامة في طهارة التذكرة: «ولا اعتبار باللفظ، نعم ينبغي الجمع، فإنّ اللفظ أعون له على خلوص القصد، ولو تلفّظ بلسانه ولم ينو بقلبه لم يجزئه وبالعكس يجزئ، ولو اختلف القصد واللفظ فالعبرة بالقصد»(5) انتهى.

ولم يظهر في أصحابنا من وافقه على القول بالاستحباب أيضا، بل عن جماعة النصّ بنفيه، بل عن الشهيد في صلاة البيان «أنّ الأقرب أنّه مكروه»(6) وفي النفلية استحباب الاقتصار على القلب(7) وقال في كشف اللثام: «الحقّ أنّه لا رجحان له بنفسه، ويختلف باختلاف الناوين وأحوالهم، فقد يعين على القصد فيترجّح، وقد يخلّ به فالخلاف وبذلك يمكن ارتفاع الخلاف»(8).

ثمّ إنّ معنى التلفّظ بالنية في الوضوء أو الغسل أو الصلاة مثلا أن يتلفّظ المكلّف بعبارة «أتوضّؤ» أو «أغتسل» أو «اصلّي امتثالا لأمر اللّه تعالى» وهذا هو الّذي اتّفق الأصحاب على نفي اعتباره في العبادات وضعا وتكليفا، وهل المعتبر بعد سقوط اعتباره احضار صورة هذه العبارة في البال المعبّر عنها بالصورة المخطرة والحديث

ص: 441


1- القواعد 199:1.
2- الشرائع 20:1.
3- التذكرة 100:3.
4- نهاية الإحكام 445:1.
5- التذكرة 140:1.
6- البيان: 78.
7- النفلية: 112.
8- كشف اللثام 503:1.

النفسي، أو المعتبر جزمه بمضمون هذه العبارة المعبّر عنه في لسان المتأخّرين بالداعي ؟

ومحصّل معناه صيرورة المكلّف بتصوّر الفعل وتصوّر كونه مأمورا به جازما بأن يوقعه امتثالا للأمر، فيه خلاف، فالمشهور من فقهائنا على ما حكي هو الأوّل، بزعم أن النيّة المعتبرة هو هذا.

وعليه فرّعوا وجوب مقارنتها لأوّل جزء واجب أو مندوب من العمل، وجوب الاستدامة الحكمية المختلف في تفسيرها على ما ستعرفه، وعليه ينطبق كلام الشهيد في القواعد - على ما حكي - «قضية الأصل استحضار النية فعلا في كلّ جزء من أجزاء العبادة لقيام دليل الكلّ في الأجزاء فإنّها عبادة أيضا، ولكن لمّا تعذر ذلك في العبادة البعيدة المسافة، وتعسّر في القريبة اكتفى بالاستمرار الحكمي» واتّفق متأخّر و المتأخّرين كالمحقق الأردبيلي وشيخنا البهائي والمحقّق صدر الدين الشيرازي والعلّامة البهبهاني(1) وغيره(2) إلى اعصارنا هذه على الثاني.

وعليه فرّعوا سقوط كلفة البحث عن اعتبار المقارنة ووجوب الاستدامة الحكميّة، فقالوا: إنّ النيّة بالنسبة إلى الصلاة وسائر العبادات ليست إلّا كغيرها من سائر أفعال المكلّفين من قيامهم وقعودهم وأكلهم وشربهم ونحو ذلك، ولا ريب أنّ كلّ عاقل غير غافل ولا ذاهل لا يصدر عنه فعل من هذه الأعمال إلّا مع قصد ونيّة سابقة عليه، ناشئة من تصوّر ما يترتّب عليه من الأغراض الباعثة والأسباب الداعية، بل هو أمر طبيعي وخلق جبلّي، ومع هذا لا ترى المكلّف في حال إرادة فعل من هذه الأفعال يحصل له عسر في النيّة ولا إشكال ولا وسوسة ولا فكر ولا ملاحظة مقارنة، مع أنّ فعله قطعا واقع بنية وقصد مقارن.

إلى أن قالوا: واستوضح ذلك من نفسك، إذا كنت جالسا ودخل عليك رجل جليل عند اللّه حقيق بالقيام والإكرام والتواضع له، ففي حال دخوله تقوم له إجلالا وإعظاما، ولا تقول: أقوم تواضعا لفلان قرية إلى اللّه تعالى، فهل يكون هدا القيام والتواضع خاليا

ص: 442


1- مجمع الفائدة 981 الأربعين 231، نقل عنه في الحدائق 185:2-186، مصابيح الظلام 372:3.
2- كما في المعتبر 139:1، تحرير الأحكام 9:1، المسالك 34:1.

عن الثواب والمدح لخلوّه عن هذه النيّة، أم يكفي مجرّد قيامك خاليا عن هذا التصوّر وأنّه واقع بنيّة وقصد على جهة الإجلال والإعظام الموجب للمدح والثواب.؟

ومن المقطوع به أنّه لو تكلّفت تخيّل ذلك بجنانك، أو ذكرته بلسانك كنت مضحكة في المجامع واعجوبة لكلّ سامع، وهكذا شأن النيّة في العبادات، فإنّ المكلّف إذا دخل عليه وقت الظهر مثلا وهو عالم بوجوب ذلك الفرض سابقا، وعالم بكيفيته وكمّيته وأنّ الغرض الحاصل له من الإتيان به الامتثال لأمر اللّه تعالى، ثمّ قام من مكانه وتوجّه إلى المسجد ووقف في مصلّاه مستقبلا وأذّن وأقام وكبّر واستمرّ في صلاته فإنّ صلاته صحيحة شرعيّة مشتملة على النية والقربة.

وبهذا يعلم أنّ النية المعتبرة مطلقا ليست منحصرة في المخطر بالبال، بل إنّما هي عبارة عن انبعاث النفس والميل إذا لم يكن حاصلا لها قبل، فلا يمكنه اختراعه واكتسابه بتصوّر المعاني في الجنان، أو مجرّد النطق باللسان، ألا ترى إلى المرائي فإنّه لا يمكنه التقرّب في فعله وإن قال بلسانه أو تصوّر بجنانه: «اصلّي أو أدرس قربة إلى اللّه».

فظهر من هذا أنّه من المستحيل وقوع جزء من أجزاء العيادة من دون نيّه القربة، فلا وجه لاشتراط المقارنة لأوّل جزء منها ثمّ الاكتفاء بالاستدامة الحكميّة كما اختاره أكثر المتاخرين. لا يقال: إنّ المحال هو تحقّق الفعل بغير قصده وقصد غايته فيه لا النية المعتبرة عند الفقهاء، إذ هي أمر آخر يجوز تخلّفه بل يصعب تحقّقه، لأنّا نقول: اللازم التحقق في فعله الاختياري هو كونه طاعة وامتثالا وتقرّبا إلى اللّه تعالى لا أمرا آخر، فلابدّ أن يتحقّق كلّ جزء من الأجزاء بذلك الغرض ويقصده بتلك الغاية، وبعد اختيار ذلك الغرض يستحيل وقوع جزء من الأجزاء بلا نية، فأيّ داع إلى اشتراط المقارنة واعتبار الاستدامة الحكمية دون الفعليّة، نعم جعل النيّة هي المخطرة بالبال خاصّة كما فعله جمع من المتأخرين يوجب اعتبار المقارنة والاستدامة الحكميّة الخ.

هكذا قرّره في مفتاح الكرامة(1) وجزم به ناقلا له ملخّصا عن شرح المفاتيح

ص: 443


1- مفتاح الكرامة 299:2-300.

للعلّامة البهبهاني(1) وفي الحدائق(2) وغيره ما يقرب منه، وإنّما نقلناه بطوله لينكشف بالتدبّر في فقراته صدق ما بيّنّاه من موضع الخلاف، ويتّضح به جملة من الاشتباهات التي سبقت إلى غير واحد في هذا المقام.

ومن جملة ذلك ما سبق إلى بعض مشايخنا فإنّه بعد ما حقّق المقام جعل النيّة على المشهور هي الإرادة التفصيليّة المنبعثة عن تصوّر الفعل وغايته لأوّل الجزء المفقودة فعلا فيما عداه، وإن كان حكما مستداما، إلى أن قال: إذا عرفت هذا علمت أنّ ما نسب إلى المشهور من أنّ النية هي الصورة المخطرة بالبال، وأنّها عندهم حديث نفسي لا يخلو عن شيء، لأنّ النيّة عند هؤلاء هي الإرادة المنبعثة عن تصوّر الفعل وتصوّر غايته، فالصورة المخطرة مقدّمة للنيّة لا نفسها»(3) انتهى.

وهذا كما ترى، فإنّ الإرادة التفصيليّة إن اراد به صيرورة المكلّف المتصوّر للفعل وغايته جازما بأن يوقعه ويوجده امتثالا للأمر به كما هو ظاهر جعلها منبعثة عن التصوّرين، ففيه: أنّه ليس إلّا الداعي، ويلغو مع اعتباره اعتبار المقارنة لأوّل أجزاء العمل واعتبار الاستدامة الحكميّة، لأنّه مستدام بنفسه من حين حدوثه إلى الفراغ من العمل، وإن قارن حدوثه لبعض مقدّماته كإحضار الماء، أو اخذ الإبريق للصبّ ونحوه في الوضوء ولبس الثياب، أو لبس النعلين أو القيام للمشي إلى الحمّام مثلا في الغسل، والقيام ونحوه للمشي إلى المسجد في الصلاة، وارتفع الخلاف معه بالمرّة.

وإن اراد به إيجاد صورة العبارة المتقدّمة في القلب مقارنة لأوّل جزء من العمل، ففيه: أنّه ليس إلا الحديث النفسي وإخطار الصورة في البال، فكيف يعترض على نسبته ذلك المشهور، مع أنّها الحق الّذي لا محيص عنه، ولعلّه قدس سره حملها على تصوّر الفعل وتصوّر غايته كما يرشد إليه قوله: «فالصورة المخطرة مقدّمة للنية لا نفسها» وقد اتّضح بملاحظة الكلمات السابقة عدم كون ذلك مرادهم كيف ولا يصحّ التعبير عن مجرّد التصوّرين بالحديث النفسي ولا الصورة المخطرة عند التحقيق.

ثمّ يبقي المناقشة معه في حمله القول الآخر على ما يعمّ الإرادة التفصيلية والأمر

ص: 444


1- مصابيح الظلام 371:3-372.
2- الحدائق 176:2.
3- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري 20:2.

الإجمالي المركوز في الذهن لو أراد بها المعنى المذكور كما يقتضيه التعميم، ومن جملة ذلك ما في كلام شيخنا الآخر في الجواهر قائلا: «وحاصل الفرق بين القول بالإخطار والداعي إمّا بأن يقال: إنّ الأوّل يؤول إلى إيجاب العلم بالحضور وقت الفعل بخلاف الثاني، فإنّه يكتفي بالحضور من دون علم والتفات للذهن، وما عساه يظهر من بعضهم - من أنّه بناء على الداعي يكتفي بوجوده وإن غاب عن ذهنك حال الفعل، ولذا لم يفرّقوا بين الابتداء والاستدامة - ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ويقطع بفساده، وكيف يعدّ مثل هذا الفعل في العرف بمجرّد هذا العزم السابق منويّا ومقصودا.

أو يقال في الفرق بينهما: إنّ المراد بالداعي إنّما هو العلّة الغائيّة للفعل الباعث للمكلّف على إيجاده في الخارج، وهو ليس من النية في شيء، بناء على ما ذكرنا أنّها مجرّد القصد والإرادة، وإطلاق لفظ «النية» عليه في لسان بعضهم إنّما هو بحسب الاصطلاح المتأخّر، فنقول حينئذ: يكتفي بقيام الداعي في المكلّف، لكن لابدّ من حصول الإرادة للفعل حين التعقّل وإن غفل عن الداعي له في ذلك الوقت، لكن بحيث لو سئل لقال: أريد الفعل لذلك، وبهذا تظهر الثمرة بينه وبين القول بالإخطار فتأمّل جيّدا، ولعلّ الأولى أن يجعل المدار بناء على الداعي على ما لا يعدّ في العرف أنّه فعل ساه خال عن القصد ليكتفي بذلك»(1) انتهى.

ولا يخفى ما في كلّ من الوجهين من عدم تعلّقه بشيء من كلمات أصحاب القولين، فإنّها بين صريحة وظاهرة فيما بيّنّاه لا غير، والتدبّر في كلام أهل القول بالداعي يعطي أنّ مرادهم به الجزم على إيقاع الفعل امتثالا للأمر به، وهو المسبّب الناشئ عن تصوّره وتصوّر غايته المحرّك للمكلف إلى الإيجاد، وعليه مدار الفعل الاختياري وجودا وعدما ولذا عبّر عنه بالداعي، ولا ينافيه التعبير عنه في بعض ما تقدّم بانبعاث النفس وميله إلى الإيجاد إذ ليس المراد من انبعاثها إلّا صيرورتها جازمة بأن توجده، وعليه ينطبق ما يقال: من أنّه يكتفى بوجوده وإن غاب عن ذهنك، ولا يقدح ذلك في كون الفعل ممّا يعدّ في العرف منويّا ومقصودا، إذ المراد بغيبوبته عن

ص: 445


1- الجواهر 80:2-81.

الذهن زوال هذا الجزم عن المدركة، وهذا لا ينافي وجوده في الحافظة وخزانة القلب، ولذا قالوا: إنّ الفعل بناء على الداعي لا ينفك عن النيّة في شيء من أجزائه بل يستحيل ذلك، وإليه أيضا يرجع ما ارتضاه وجعله أولى، فإنّ الفعل إنّما لا يعدّ عرفا فعل سماه بمجرّد وجود صورة الجزم في الحافظة وإن كابت عن المدركة.

وقد علم بجميع ما تقدّم أنّه لا خلاف عند الفريقين أنّ النيّة بمقتضى قاعدة الشرطيّة يلزمها دوام المقارنة للعمل على معنى استمرار وجودها معه من أوّله إلى آخره وبجميع أجرائه، إلّا أنّها بالمعنى الّذي اعتبره غير المشهور لا ينفك عنها دوام المقارنة على وجه الحقيقة واستمرار وجودها بنفسهما، وإن كان أصل الإرادة بمعني صورة الجزم منقدحة في النفس قبل الشروع في الفعل بكثير مقارنة لما يتعلّق به من مقدّماته ومعدّاته أو مطلق لوازمه، بقيت في المدركة إلى أن تقارن أوّل جزء منه أو غيره إلى آخر الأجزاء أو لا.

وهذا معنى سقوط كلفة البحث عن اشتراط المقارنة لأوّل جزء من العمل واعتبار الاستدامة الحكميّة، لأنّ اشتراط شيء في شي فرع كون الشرط جائز التخلّف عن مشروطه، كما أنّ الاكتفاء بما هو بدل عن الشيء اضطرارا فرع تعذّر المبدل، وكلّ ذلك خلاف مفروضهم باطل بدليل الخلف، والمعنى الّذي التزم به المشهور ممّا لا يمكن أو يتعسّر عادة دوامه واستمراره بنفسه، وكان وجوده عند أوّل أجزاء العمل متيسّرا فاضطرّوا إلى اعتبار مقارنته بنفسه لأوّل الأجزاء واشتراط استمراره بحكمه الباقي على تقدير عدم بقائه بنفسه.

وإنّما لم يكتفوا باستمرار الحكم في الجميع لأنّ الضرورة تتقدّر بقدرها، وقضية ذلك قيام الحاجة إلى كلفة البحث عن الأمرين كما صنعوه حسبما يأتي التعرّض لهما، فما يقال: من أنّه يمكن أن يجعل خلافهم بعد اتفاقهم على كون النيّة هي الإرادة التفصيلية المتوقّفة على الإخطار في أنّ المعنى مقارنة تلك الإرادة لنفس المأمور به، أو يكفي مقارنتها لما يتعلّق به ممّا يعدّ معه فعلا راجحا، ليس بسديد.

ثمّ بالتأمّل في جميع ما قرّرناه يعلم أنّ الحقّ في المسألة الّذي ينبغي أن يقطع به إنّما هو القول بالداعي بالمعنى المتكرّر ذكره لأنه حقيقة النيّة الواردة في الأدلّة، وما

ص: 446

عليه المشهور من الحديث النفسي بالمعني المتقدّم ليس منها في شيء فلا يعدل عنها إليه إلّا لصارف وهو مقطوع بانتفائه عمّا بين الأدلّة، هذا إذا كان مرادهم صرف النية الواردة في الأدلّة إلى ذلك.

وأمّا لو كان مرادهم اعتبار امر زائد على النيّة بمعنى الداعي بزعم أنّه بمجرّده غير كاف في انعقاد العمل منويا فهو قول بلا دليل واجتهاد في مقابلة النصّ ، وإغماض عن متفاهم العرف فلا يلتفت إليه.

البحث الرابع: فيما يتفرّع على القول بالإخطار من وجوب مقارنة النية لأوّل الأجزاء والاستدامة الحكميّة،

فهاهنا مسألتان ربّما وقع نزاع صغروي في بعض موارد أوليهما كما في الوضوء من حيث تعيين أوّل أجزائه، واختلاف ولو بحسب التعبير في تفسير ثانيتهما.

أمّا الأوّل فتوضيحه: أنه لا خلاف عندهم في عدم جواز تأخير النيّة في الوضوء عن غسل الوجه لاستلزامه وقوع بعض العمل بلا نيّة، فلا يكون المجموع منويا فيفسد، ولا ينافيه ما تقدّم عن ابن الجنيد(1) من «أنّه لو غربت عنه النيّة قبل ابتداء الطهارة، ثمّ اعتقد ذلك وهو في عملها أجزأ ذلك» لجواز كون مراده بها قصد الاستباحة أو الوجوب أو الصورة المخطرة لكن بناء منه على أنّ المعتبر في العبادات هو النيّة بمعنى الداعي، فلا تنافي وجوده طروّ الغفلة عنها بمعنى الصورة المخطرة أو الداعي على هذا البناء أيضا، مع كون المراد بغروبها زوالها عن المدركة الغير المنافي لوجودها في الحافظة.

كما لا خلاف عندهم في عدم جواز تقديمها على غسل اليدين ولو عند التسمية والسواك فلا يكفي مقارنتها لهما أيضا، كما عن الملّامة التصريح به في النهاية(2) وهو المنقول عن شرح الارشاد(3) بل عن الروض والمجمع الإجماع على عدم جواز المقارنة لهما(4) وعن الذكرى «لم يذكر الأصحاب إيقاع النية عندهما»(5) ولا ينافيه ما عن الجعفي من «أنه لا عمل إلّا بنيّة، ولا بأس إن تقدّمت النيّة العمل، أو كانت معه»

ص: 447


1- نقل عنه في الذكرى 105:2.
2- نهاية الإحكام 28:1.
3- نقل عنه في كشف اللثام 504:1.
4- روض الجنان 96:1، مجمع الفائدة 100:1.
5- الذكرى 105:2.

لجواز أن يريد بالعمل الواجب منه أو بالنيّة الداعي بمعنى الصورة الجزميّة الموجودة في المدركة.

وأمّا جواز تقديمها عند غسل اليدين على معنى مقارنتها له فهو المشهور المدّعى فيه الشهرة في كلام غير واحد، بل عن كثير منهم كالوسيلة والمعتبر والتذكرة والمنتهى والتبصرة والدروس وجامع المقاصد(1) وغيره الحكم عليه بالاستحباب، نعم عن ابن طاووس في البشرى التوقف في ذلك، وربّما يعزى إليه المنع من التقديم مطلقا.

وعن السرائر الفرق بين الغسل فجوّز التقديم عند غسل اليدين والوضوء فجوّزه عند المضمضة والاستنشاق(2) وعن البيان والنفليّة والمجمع والمدارك وشرحي اثنى عشرية للشيخ حسن: أنّ الأولى تأخيرها إلى غسل الوجه(3) وإطلاقهم يقتضي ذلك بالنسبة إلى المضمضة والاستنشاق أيضا، كما أنّ فحوى المجوّزين يقتضيه فيهما بطريق أولى، بل عن الدروس وجامع المقاصد التصريح باستحبابه عندهما(4) وعن الذكرى «والمشهور جواز فعلها عند غسل اليدين»(5) وأولى منه المضمضة والاستنشاق.

ومبنى الخلاف كما يستفاد من جماعة التشكيك في كونه من أفعال الوضوء وأجزائه المسنونة وإن استحبّ له بشروطه الآتية في محلّه كما صرّح به كاشف اللثام(6)فإنّه عند عبارة العلّامة «ووقتها استحبابا عند غسل كفّيه» قال: «وفاقا للأكثر بناء على كونه من الأجزاء المندوبة للوضوء، وهو غير معلوم ولذا جعل في البيان والنفلية التأخير إلى غسل الوجه أولى» الخ.

وفي شرح الدروس للمحقّق الخوانساري: «واعلم أنّ استفادة أنّ هذا الغسل من جملة أفعال الوضوء من الروايات مشكل جدّا، فلو كان بناء جواز تقديم النية عليه لكان الظاهر عدم الجواز»(7) وقد تبعهما في إشكال الجزئية جماعة ممّن تأخر عنهما

ص: 448


1- الوسيلة: 51، المعتبر 140:1، التذكرة 141:1، المنتهى 15:2، التبصرة: 6. الدروس 90:1، جامع المقاصد 99:1.
2- السرائر 98:1.
3- البيان: 7، النفليّة: 112، مجمع الفائدة 100:1، المدارك 192:1، الأنوار القهريّة في كيفية الوضوء (مخطوط).
4- الدروس 90:1، جامع المقاصد 199:1.
5- الذكرى 108:2.
6- كشف اللثام 502:1.
7- مشارق الشموس: 92.

استنادا إلى احتمال كون شرع هذا الغسل لرفع النجاسة الموهومة ولعلّ الأصل في إبداء هذا الاحتمال العلّامة في المنتهى قائلا: «وهل غسلهما من سنن الوضوء؟ فيه احتمال، من حيث الأمر به عند الوضوء، ومن حيث إن الأمر به لتوهّم النجاسة».

ومن مشايخنا من أخذ بموجب هذا الاحتمال بل جعله ظاهر أخبار الباب قائلا:

«وبالجملة استحباب غسل اليدين يحتمل وجوها أربع: الاستحباب النفسي نظير السواك، والاستحباب الغيري وهو إمّا على أن يكون جزء مستحبّا نظير الغسلات الثانية في الوجه واليدين، وإمّا على أن يكون على وجه الشرطيّة لكون ماء الوضوء أو أعضائه على الوجه الكامل أعني متيقّن الطهارة، وإمّا على أن يكون على وجه شرط الكمال لاستعمالهما في الاغتراف والغسل تعبّدا، وظاهر الأخبار أحد الأخيرين والذي يجدي هو الثاني» انتهي(1).

أقول: والذي يسهّل الأمر في الدلالة على الجزئيّة صحيحة بكير وزرارة بن أعين «أنّهما سألا أبا جعفر عليه السلام عن وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم: فدعا بطست أو بتور فيه ماء، فغسل كفّيه ثمّ غمس كفّه اليمنى في التور فغسل وجهه بها...»(2) الخ، فإنّ سبق السؤال عن وضوء رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ومقارنة هذه الأفعال المشتملة على غسل اليدين له يدلّ دلالة واضحة على أنّه أيضا من وضوء رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم - واحتمال كونه لرفع النجاسة المتوهّمة فيكون مقدّمة مستحبّة لغسل الأعضاء، فمرجعه إلى استحباب صيانة ماء الوضوء وأعضائه عن النجاسة المحتملة، فيه من البعد ما لا يخفى، بل لا وجه له في حقّ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وظاهر النصّ كون الغسل ممّا يفعله صلى الله عليه و آله وسلم في وضوئه. وكونه منه صلى الله عليه و آله وسلم لسبق توهّم النجاسة إليه خصوصا مع المداومة عليه كما ترى.

ودون الصحيحة في الدلالة على الجزئيّة رواية الحلبي قال: «سألته عن الرجل كم يفرغ الرجل على يده اليمنى قبل أن يدخلها في الإناء؟ قال: واحدة من حدث البول.

واثنتان من حدث الغائط، وثلاث من الجنابة»(3) فإنّ ذكر الحدث مدخولا لكلمة «من» النشويّة ظاهر في أن الحيثيّة الباعثة على غسل اليد هي الحيثية الباعثة على أصل

ص: 449


1- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري 112111:2.
2- الوسائل 393:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 11.
3- الوسائل 427:1 الباب 27 من أبواب الوضوء ح 1.

الوضوء وهو الحدث، مع أنّه لو كان ذلك لتوهم النجاسة لكان البول أولى باعتبار التعدّد من الغائط والجنابة، فالعكس يشعر بكونهما أغلظ من البول من حيث الحدثيّة.

نعم في رواية عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل يبول ولم تمسّ يده اليمنى شيء أيدخلها في وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال: لا حتّى يغسلها، قلت: فإنّه استيقظ من نومه ولم يبل، أيدخل يده في وضوئه قبل أن يغسلها؟

قال: لا، لأنه لا يدري حيث باتت يده فليغسها»(1) فإنّ التعليل ربّما يوجب سبق الذهن إلى ما ذكر من كون الباعث على غسل اليد هو النجاسة المتوهّمة.

لكنّ الإنصاف أنّ ما تقدّم أظهر في إفادة الجزئيّة ولا مضايقة كون توهّم النجاسة حكمة اخرى مؤكدة للحكمة المقتضية للجزئيّه فلا منافاة. وبجميع ما ذكر يعلم أنّ جواز مقارنة النيّة لغسل اليدين مقصور على ما لو حصل بعنوان الجزئيّة كما لو استحبّ للوضوء على أنّه من أفعاله وإلّا فلا يجزئ المقارنة له، ومن هنا قال في تعليق الشرائع - كما عن التذكرة(2) وجامع المقاصد -(3): «إنما يكون ذلك إذا كان غسل الكفّين مستحبّا للوضوء، فلو كان الغسل واجبا لنجاستهما أو محرّما لأنّ ماء الوضوء ينقص بغسلهما ولا يكون الباقي كافيا للوضوء، أو مكروها لتوهّم ذلك، أو مستحبّا لغير الوضوء كالغسل من الأكل، أو مباحا كما إذا كان الإنماء غير واسع الرأس أو كان كرّا ونحوه، أو لم يكن الوضوء من حدث النوم أو البول أو الغائط لم يكن الغسل مستحبّا للوضوء، فلم يعتدّ بالنيّة الواقعة عنده لكونها لم يقع عند أوّل الوضوء»(4) انتهى.

وسيلحقك الكلام في بعض هذه التقييدات في محلّه إن شاء الله، وعن الذكرى نحو هذا التفصيل، غير أنّه قال: «ففي جوازه عند الواجب كإزالة النجاسة المعلومة وجه، لأنّه أولى من الندب بالمراعاة، وإلّا قرّب المنع لأنّه لا يعدّ من افعال الوضوء»(5).

وأمّا الثاني: فالمحكيّ عن المبسوط(6) وجماعة المعزى إلى كثير من الأصحاب تارة وأكثرهم اخرى، ومذهب الجمهور ثالثة تفسير الاستدامة الحكميّه بأن لا ينتقل من

ص: 450


1- الوسائل 428:1 الباب 27 من أبواب الوضوء ح 3.
2- التذكرة 143:1.
3- جامع المقاصد: 199.
4- حاشية الشرائع (حياة المحقق الكركي وآثاره ج 10):44.
5- الذكرى 110:1.
6- المبسوط 19:1.

تلك النيّة إلى نيّة تخالفها، وعن بعضهم(1) زيادة وتخالف بعض مميّزاتها، وعن الذكرى والتنقيح(2) أنّ هذا التفسير منهم بناء على أنّ الباقي مستغن عن المؤثّر، وعن الغنية والسرائر تفسيرها «بأن يكون ذاكرا لها غير فاعل لنيّة تخالفها»(3) وعن الشهيد في الذكرى تفسيرها «بالبقاء على حكمها والعزم على مقتضاها».

أقول: الاستدامة الحكمية يراد بها ما يقابل الاستدامة الفعلية التي انتسابها إلى الفعل باعتبار كون المستدام هو فعل النيّة بمعنى نفس الإخطار، فانتساب مقابلها إلى الحكم باعتبار كون المستدام هو حكم النيّة، والمراد بحكم النيّة ما يلزمها من الأثر السبّب عنها المستند اليها على القول يتمانع الأضداد الوجوديّة وهو عدم الانتقال إلى نية تخالفهما، فإنّ الصورة المخطرة ما دام إخطارها موجودا في البال فهو على التمانع مانع عن إخطار صورة اخرى تخالفها، فيكون عدم الانتقال إلى هذه النية لازما منه وأثرا مسبّبا عنه، وهذا هو المستدام على تقدير تعذّر أو تعسّر أصل النية الّتي هي السبب له المؤثّر فيه حينما كانت موجودة، وهذا معنى ما عرفته عن الذكرى والتنقيح من أنّ هذا التفسير منهم بناء على أنّ الباقي مستغن عن المؤثّر، لا ما احتمل من أن يكون المراد من الباقي هو أجزاء العبادة الّتي يريد أن يأتي بها المكلّف بعد النية فيكون المراد من المؤثّر هو النيّة، ولا ما احتمل أيضا من أن يكون المراد به أثر النية بمعنى الصحّة، ولا ما جزم به جماعة من كون المراد به الخلوص، فإنه إذا أخلص في العمل للّه تعالى ابتداء بقي الخلوص وإن غفل عنه في الأثناء، فإن هذا كلّه غفلة عن حقيقة المراد.

ثمّ إنّ استدامة الحكم بهذا المعنى قد تجامع العزم على الفعل وغاية التقرّب، على معنى الجزم بهما بالمعنى المركوز في الذهن المحفوظ في الخزانة بحيث لو التفت إلى عمله لم يلتفت إلّا اليهما، وقد تفارقه بحيث لو التفت يبقي متردّدا في أصل العمل أو في غايته، وتفسيرها بما عرفته عن المشهور وإن كان باعتبار المفهوم يعمّ الصورتين معا، إلّا أنّ الذي ينبغي أن يقطع به هو أنّ اكتفاءهم باستدامة الحكم إنما هو بعد الفراغ عن

ص: 451


1- كما في المسالك 34:1.
2- الذكرى 110:1، النتقيح الرائع 77:1.
3- الغنية: 54، السرائر 98:1.

اعتبار العزم بالمعنى المذكور، لظهور اتّفاقهم على بطلان العبادة في العورة الثانية، بل هو لازم الاعتبار مع الاستدامة الفعليّة أيضا على فرض إمكانها، إذ لا يظنّ عليهم القول بكفاية إخطار الصورة في صحّة العبادة مطلقا حتّى مع الجزم بخلاف مقتضي القربة أو مع التردّد فيها، وإنّما لم يأخذوه في تفسير الاستدامة الحكميّة لخروجه عن حقيقة حكم النيّة بالمعنى المذكور، ولأنّ الكلام في تفسير ما هو بدل اضطرارا عمّا تعذر أو تعسّر بقاؤه وليس إلّا نفس النية لا ما هو معتبر معها.

وبهذا كلّه يعلم أنّ هذا التفسير أسدّ ممّا عرفته عن الغنية والسرائر(1) وما عرفته عن الذكرى(2) وإن كان مؤّداهما صحيحا، بناء على أن المراد بذكر «أن النيّة في الأوّل» ما يرجع إلى الجزم بالمعنى المذكور كما هو الظاهر، إذ لا يراد به ما يقابل الغفلة والذهول عن الصورة المخطرة، فإنّ الذهول لا ينافي صحّه العيادة اتّفاقا كما ادّعاه جماعة، بل ما يقابل نسيانها بالمرّة الموجب للتردّد عند الالتفات، وعلى أنّ المراد بالعزم على مقتضاها في الثاني هو هذا الجزم أيضا كما هو الظاهر، فإنّ مقتضي النيّة هو العمل الخاصّ المتقرّب به إلى الله تعالى.

فما قيل في الاعتراض عليه: من أنّ هذا التفسير للاستدامة الفعليّة هو بعينه معنى الاستدامة الفعليّة الّتي نفاها أوّلا بل نفس النيّة إذ هي عبارة عن العزم المخصوص، ليس على ما ينبغي، كما علم أيضا أنّه لا مخالفة بين التفاسير الثلاثة بحسب المعنى فيكون اختلافها في مجرّد العبارة، وإن نقل عن الذكرى أنّه صرّح بكون ما ذكره مخالف لما ذكره كثير لابتنائه على توهّم ورود التفسير من المشهور على الوجه الأعمّ بالقياس إلى الصورتين المتقدم إليهما الإشارة، وقد بيّنّا ما يصرف العبارة عن جهة العموم.

البحث الخامس: [في وجوب القربة في النية و معانيها]

قد علم بتضاعيف ما سبق، أنّ النيّة بالمعنى الّذي به يمتاز العبادات عن غيرها هو قصد الطاعة للّه وامتثال أمره وموافقة إرادته، وهذا هو حقيقة معنى الإخلاص الّذي عليه مدار الصحّة وترتّب الآثار، وله باعتبار ما يلحقه من الاعتبارات والحيثيّات مراتب مختلفة من حيث الكمال وخلافه، فإنّ المطيع القاصد

ص: 452


1- الغنية: 54، السرائر 98:1.
2- الذكرى 110:1.

إطاعة اللّه تعالى يقصدها إمّا لأنّه أهله ومستحقّه، أو لفرط محبّته إيّاه، أو لاستحيائه منه، أو لطلب القرب إليه والرفعة وعلوّ الدرجة لديه، أو لطمع ثوابه واستحقاق جنّته، أو لخوف عقابه والبعد عن ناره، وكلّ من هذه الحيثيات عند التحقيق من دواعي قصد الإطاعة، كما أنّ قصد الإطاعة من دواعي العمل. والفرق بين الثلاث الأولى مع الثلاث الأخيرة بعد اشتراك الجميع في كون كلّ مفعولا لأجله، كالفرق بين الحصول والتحصيل، فإن كلّا من الثلاث الأخيرة من الغايات والفوائد الّتي يقصد العبد بإطاعته للّه تعالى تحصيلهما، بخلاف الثلاث الأولى الّتي حصولها يدعوه إلى الإطاعة، وبهذا يعلم أنّها أعلى المراتب وأكملها، فإنّ الإنسان الكامل من شأنه أن لا يقصد بطاعته فائدة عائدة إليه، سواء سبقها العود أو قصدها لتوقّع العود، ومرجعه إلى أنّه يطيعه من حيث ذاتيه لا من حيث إحسانه إليه، كما أنّ الأعلى في هذه الثلاث هي المرتبة الأولى التي لا تكاد تتأتّى إلّا ممّن اصطفاهم اللّه وطهّرهم تطهيرا، كما نطق بقوله صلوات الله عليه «ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنّتك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك»(1).

وقد جرت عادتهم بالتعبير عن النيّة في جميع المراتب المذكورة بقصد القربة ونية التقرّب، إمّا لتكرّر ورودها في الكتاب و السنّة بهذه العبارة، أو لأنّها القدر الجامع المشترك بين جميع المراتب ولو باعتبار التلازم التفاتا إلى كونها منوية لا محالة إمّا بنفسها أو بما هو من ملزوماتهما أو من لوازمها، فهي منويّة على التفصيل أو على الإجمال باعتبار نية ملزومها أو لازمها، إلّا أنّ مناط الصحّة في الجميع إنّما هو نيّة الإطاعة ولو على الإجمال، باعتبار كونهما مركوزة في الذهن حتّى فيما لو كان المنويّ على التفصيل هو القربة أو جلب الثواب أو دفع العقاب، فإنّ كون هذه الغايات ممّا لا يتوصّل إليها على وجه الاستحقاق إلّا بالإطاعة أمر معلوم بالوجدان بل هو من القضايا الّتي قياساتها معها، فقصد التوصّل إلى كلّ واحد منها على التفصيل يتضمّن القصد إلى الإطاعة ولو على الإجمال، كما نيه عليه الشهيد في كلام له في الذكرى(2)على ما تقف عليه وبهذا كلّه علم أنّه لا ينبغي التأمّل والارتياب في صحّة العبادة في

ص: 453


1- بحارالأنوار 14:41.
2- الذكرى 106:1.

شيء من الصور المذكورة حتّى الصورتين الأخيرتين، كما قطع به جماعة من أساطين المتاخّرين ومتأخّريهم، حتى أنّ منهم كالفاضل الهندي(1) جعل معنى القربة طلب القرب إليه تعالى أي رفع الدرجة لإطاعته، ونحوه عزي إلى الغنية(2) حيث قال: «إن مرادنا بالقربة طلب المنزلة الرفيعة عنده بنيل ثوابه».

ويدلّ على الصحّة جميع ما ورد في الكتاب والسنّة من المرغبات والمرهّبات وما اشتمل على الوعد أو الوعيد من الآيات والروايات، وخصوصا ما ورد في الحسن عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «العبادة ثلاثة، قوم عبدوا اللّه عزّ و جلّ خوفا فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله عزّ و جلّ حبّا له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة»(3) فإنّ التفصيل يدلّ على المشاركة في الفضيلة وهو يلازم الصحّة مع أنّه قد ورد في النصوص المستفيضة ترتّب الثواب على المحتمل إذا أتى به التماس ذلك الثواب فكيف بالمحقّق، ولا ريب أنّ ترتّب الثواب على وجه الاستحقاق فرع على الصحّة.

ومع هذا كلّه قد عرفت أنّ قصد نيل الثواب أو التخلّص من العقاب لا ينافي قصد الإطاعة بل يلازمه، ولم يثبت من أدلّة الإخلاص واشتراط النية في صحّة العبادة إلّا وجوب قصد الإطاعة على وجه يكون هو الداعي إلى العمل الباعث عليه لا غير، وقصد غاية أخري مترتّبة على الإطاعة لا يخرج العمل عن كونه منويّا به الإطاعة لا غير، نعم لو عمل بداعي أنّه بنفسه الواسطة بينه و بين نيل الثواب على معنى الاعتقاد بكون الثواب إنّما يترتب عليه من حيث ذاته من باب الخاصيّة كان فساده ممّا لا شبهة فيه.

وعلى ذلك يحمل كلام العلّامة في نهاية الإحكام «ويجب أن يقصد إيقاع الواجب لوجوبه والمندوب لندبه أو لوجههما لا للرياء وطلب الثواب وغيرهما»(4) فإنّ العطف على الرياء يقتضي كون مفروضه في صورة جعل الداعي إلى العمل طلب الثواب لا غير، وربّما يحمل الثواب على العوض العائد إليه عن المخلوقين من حيث كونه في

ص: 454


1- كشف اللثام 508:1.
2- الغنية: 53.
3- الوسائل 62:1 الباب 9 من أبواب مقدّمة العبادات ح 1.
4- نهاية الإحكام 32:1.

اعتقادهم من أهل الصلاح الّذين امر الله بصلتهم والإحسان اليهم فيكون تفسيرا للرياء، ولا يخفى بعده.

وبما قرّرناه يعلم وجه الصحّة والفساد في الأعمال المأتيّ بها للأغراض الدنيويّة، فإنّ الإتيان بها إن كان لداعي الإطاعة وامتثال الأوامر بها باعتقاد أنّ هذا الوصف العنواني هو العلّة الباعثة على التوصّل إلى تلك الأغراض كانت صحيحة، وإن كان لداعي التوصّل إليها باعتقاد أنّها لذواتها مؤثّرة فيها من باب الخاصية كانت فاسدة، فمن واظب بصلاة الليل أو غيرها طلبا لازدياد الرزق ونحوه وفعلها لذلك مع قطع النظر عن أمر الشارع لم يصحّ عمله، بخلاف ما لو عملها طاعة لله وامتثالا لأمره ليترتّب عليه تلك الفائدة فإنّه ممّا لا إشكال في صحّته، وهذا هو وجه الصحّة في صلاة الحاجة وغيرها من الأعمال والأدعية والأذكار المعلّق عليها الأغراض الدنيويّة والثمرات المترتّبة عليها في العاجل حسبما ورد في الأخبار.

وحاصل الفرق بين الصورتين كالفرق بين عمل الأجير وعمل الخادم، فإنّ الأوّل إنّما يطلب بعمله العوض لا غير، والثاني يطلب انتظام معاشه بإطاعته، فهذا قاصد بعمله الإطاعة وإن كان داعيه إلى الإطاعة نظم المعاش. والأجير لا يقصد به إلّا الأجرة.

وعليه فما عن العلّامة في أجوبة المسائل المهنائيّة(1) من «أنّه اتفقت العدليّة على أنّ من فعل فعلا لطلب الثواب أو لخوف العقاب لا يستحق بذلك ثوابا، والأصل في ذلك أنّ من فعل فعلا ليجلب نفعا أو يدفع به ضررا فإنّه لا يستحق المدح على ذلك ولا يسمّى من أفاد غيره ليستعطي عن فعله جوادا»(2) وارد على خلاف التحقيق، أو منزّل على صورة انتفاء عنوان الإطاعة بالمرّة.

ومثله الكلام فيما حكاه الشهيد في القواعد بقوله: «أمّا نيّة الثواب والعقاب فقد قطع أكثر الأصحاب بفساد العبادة بقصدهما»(3) وما عن ابن طاووس من الاحتجاج على بطلان العبادة بهاتين الغايتين بأنّ قاصد ذلك إنما قصد الرشوة والبرطيل ولم يقصد

ص: 455


1- الّتي سأل عنها مهنّان بن سعيد.
2- أجوبة المسائل المهنائيّة: 90.
3- القواعد والفوائد 77:1.

وجه الربّ الجليل وهو دالّ على أنّ عمله سقيم وأنّه عبد لئيم، فإنّ قصد الثواب أو العقاب حسبما بينّاه لا ينافي الإخلاص. قال الشهيد: في كلام محكيّ له عن الذكرى «والظاهر أنّ كلّا منهما محصّل للإخلاص، وقد توهّم قوم أنّ قصد الثواب يخرج عنه لأنّه جعله واسطة بينه وبين الله، وليس بذلك لدلالة الآية والأخبار عليه، ومرغّبات القرآن والسنّة مشعرة به، ولا نسلّم أنّ قصد الثواب مخرج عن ابتغاء الله بالعمل، لأنّ الثواب لمّا كان من عند الله فمبتغيه مبتغ لوجه الله تعالى، نعم قصد الطاعة الّتي موافقة الإرادة أولى لأنه وصول بغير واسطة. ولو قصد المكلّف في تقرّبه الطاعة للّه أو ابتغاء وجه اللّه كان كافيا، ويكفي عن الجميع قصد اللّه سبحانه الذي هو غاية كلّ مقصد»(1) انتهى.

البحث السادس: [في عدم وجوب قصد الوجه في النية]
اشارة

قد علم بملاحظة ما سبق أيضا أنّ النيّة المعتبرة في العبادات، عبارة عمّا ينحلّ إلى القصد إلى إيقاع المأمور به مع القصد إلى كون إيقاعه لغاية الإطاعة والقربة بأحد معانيها المتقدّمة، فالثاني مسبوق بالأوّل كما أنّ الأوّل مسبوق بتصوّر المأمور به بأصل عنوانه الّذي أمر به، مع جميع قيوده ومشخصاته المأخوذة في لحاظ الأمر المعتبرة في نظر الآمر، فالأوّل من الثاني كالتصوّر من الأوّل بمنزلة الشرط المقوّم، وظاهر أنّ الشرط حيثما انتفى قضى انتفاؤه باستحالة المشروط.

وقضيّة ذلك أن يكون كلّ من التصوّر والقصد السابقين على الوجه المذكور شرطا عقليا للقصد الثاني الّذي هو النية بمعنى الداعي، ولازمه عدم انعقاد داعي التقرّب مع انتفاء أحد الأوّلين وبطل معه العبادة بلا شبهة، فلو أمر المولى عبده بإكرام زيد بن عمرو مثلا، وقام من الخارج ما يقضي بإرادة التعبّد فأتى العبد بما يوجب إكرام زيد بن عمرو، ولكن لا بقصد أنّه إكرام أو لا بقصد أنّه إكرام زيد أو لا بقصد أنّه إكرام ابن عمرو لم يكن ممتثلا، لأنّ ما قصده لم يؤمر به وما امر به لم يقصده، و إن صدق عليه أنّه إكرام زيد بن عمرو، ومرجعه إلى عدم تحقّق داعي التقرّب والإطاعة، لأنّ قصد ما لم يؤمر به يستحيل أن يكون الداعي إليه التقرّب.

وبعبارة اخرى: استحالة التقرّب بغير ما امر به، وإنّما يتأتّى التقرّب وقصده إذا قصد

ص: 456


1- الذكرى 104:2.

به الإكرام على أنّه إكرام زيد بن عمرو لا غيره.

ومن طريق هذا البحث ظهر أنّه يشترط في صحّة العبادة قصد التعيين فيما لو أمر بعنوانين متشاركين في جامع مشترك بينهما، مختلفين باعتبار قيدين متغايرين ماخوذين في لحاظ الأمر، ومنه ما لو أّمر تارة بإكرام زيد بن عمرو، واخرى بإكرام زيد ابن هند وهو ابن عمرو وهند، وبنينا في مثله على تعدّد التكليف باعتبار تعدّد عنوان المأمور به ولو بحسب الذهن، فإنّه إذا أكرمه بقصد أنّه إكرام رجل من دون ملاحظه الزيدية، أو أنّه إكرام زيد من دون ملاحظة كونه ابنا لعمرو ولا هند لم يقع لشيء منهما، ولم يكن صحيحا أصلا لانتفاء داعي التقرّب، فإنّ مرجع عدم قصد التعيين إلى عدم قصد المأمور به بعنوانه الواقعي الماخوذ في متن الأمر، فيتعذّر معه تحقّق داعي التقرّب، بل لو قصد الفراغ عمّا في الذمّة على فرض تحقق الداعي منه بنحو من الاعتبار لم يكن صحيحا أيضا، ولا مجزئا عن شيء من العنوانين المأمور بهما، لأنّ ما في الذمّة عنوانان متغايران ويستحيل وقوع الواحد منهما خصوصا على أصالة عدم التداخل، ووقوعه عن أحدهما أشدّ استحالة لكونه ترجّحا بلا مرجّع.

ومنه بان الحكم في صلاة النائب عن زيد إذا اشتغلت ذمّته بمثلها أصالة عن نفسه أو نيابة عن عمرو أيضا، فإنّه يشترط في صحّة صلاته نيابة مثلا قصد النيابة، ولو مع عدم قصد الإضافة في الأوّل وقصدها مع قصد الإضافة في الثاني، ولا يكفيه قصد مطلق الصلاة ولا قصد ما في الذمّه، نعم إذا اشتغلت ذمّته بالصلاة نيابة عن زيد فقط فالأقرب كفاية القصد إلى ما الذمّة، إلّا أنّة بناء على المختار من أنّ النيّة هو الّداعي وأنّه أعمّ من الاعتقاد الجازم الموجود في المدركة والاعتقاد المركوز في الخزانة لا تثمر إلّا في صورة نسيان القيد كما إذا تذكر اشتغال الذمّة بصلاة مردّدة في نظره بين النيابة عن زيد مثلا و الأصالة عن نفسه، ولا يكفيه قصد مطلق الصلاة في الصورتين معا، فإنّه إذا تصوّر الصلاة على وجه الإطلاق واعتقد إيقاعها على هذا الوجه مع العلم بأنّها على هذا الوجه ليست مأمورا بها لم يكن الداعي له إلى فعلها هو القرب.

ومن جميع ما ذكر يعلم وجه الصحّة والبطلان عند الاشتغال بالظهرين، فإنّه لابدّ في الصحّه من قصد إيقاعها ظهرا أو عصرا، وفي معنى قصد القيد المأخوذ مع

ص: 457

المأمور به قصد ما هو لازم مساو له، وعليه فلو قصد المكلّف بصلاتي المغرب والعشاء بما يأتيه أوّلا إيقاع ثلاث ركعات من دون القصد إلى كونها للمغرب أجزءه وصحّت صلاته، فإنّ قصد القيد إنّما يلتزم به لقصد التعيين المتوصّل به إلى إيجاد داعي القرب وقد حصل بالفرض.

وكذا لو نوى فريضة الوقت في الوقت المختصّ كفى في التعيين عن قصد قيدي الظهر والعصر وغيرهما، قال الشهيد في الذكرى: «لو نوى فريضة الوقت أجزأ عن نية الظهر أو العصر لحصول التعيين، هذا إذا كان في الوقت المختصّ ، أمّا في المشترك فيحتمل المنع لاشتراك الوقت، ووجه الإجزاء أنّ قضيّة الترتيب يجعل الوقت مختصا بالأوّل، ولو صلّى الظهر ثمّ نوى فريضة الوقت أجزأ وإن كان في المشترك» انتهى.

ويشكل وجه المنع بأنّ فائدة الاشتراك إنّما تظهر في صورة النسيان، فالوقت مشترك بالنسبة إلى الناسي لا الذاكر، كما يشكل وجه الإجزاء بأنّ تأثير الترتيب في تخصيص الوقت بالأوّل إن أريد به بالنسبة إلى الناسي فلا ترتيب عليه لتخصيص الوقت بالأوّل فلا يتأتّى منه نيّة فريضة الوقت، بل الّذي يتأتّى منه بالفرض إنّما هو لنيّه العصر مقدّما له لنسيانه الظهر، وإن اريد كونه كذلك بالنسبة إلى الذاكر فهو بقصده فريضة الوقت قاصد للظهرية أيضا لتذكره إياه، فلا ثمرة لانضمام نيّة فريضة الوقت إلى قصدها إلّا إذا فرض المصلّي جاهلا بعنواني المظهر والعصر المأخوذين مع الصلاتين، وعليه فثمرة نيّة فريضة الوقت في الوقت المختصّ أيضا يظهر في صورة الجهل أو نسيان القيد مع تذكر الصلاتين.

بخلاف الجميع ما لو أمر بفردين من ماهيّة متغايرين في مميّز الفرد ومشخّصه الّذي لم يؤخذ في لحاظ الأمر، أو بالماهيّه باعتبار وجودها في ضمن فردين فصاعدا متمايزين في مميّز لم يؤخذ في لحاظ الأمر، ومنه ما لو قال: «صم يومين» وفي معناه «صم يوما صم يوما» و «صلّ ركعتين صلّ ركعتين» إلى غير ذلك ممّا يكون مرجعه إلى إيجاب الماهية على وجه التكرار، فإنّه لا حاجة فيه إلى قصد تعيين ولا أمر آخر زائدا على أصل الماهيّة، لأنّ المأمور به نفس الماهية فيقصد القرب بإيقاعها كلّ مرّة، والضابط في ذلك ورود الأمر بشيئين متشاركين في العنوان متمايزين بمميّز غير

ص: 458

ملحوظ في متن الأمر.

نعم ربّما يشكل الحال في الأمر بشيئين متشاركين في العنوان متغايرين في علّة الحكم مع اتّحاده فيهما، كالأمر إيجابا بركعتين احتياطا وبمثلهما نذرا، وندبا بركعتين نافلة وبمثلهما للزيارة، فهل هذا من الاشتراك القاضي بلزوم قصد التعيين في الصحّة أو لا؟ فيصحّ الصلاة إذا أتى بهما مرّتين من دون قصد التعيين.

وأشكل منه ما لو امر بشيئين متشاركين في العنوان متغايرين في الحكم إيجابا وندبا، كما لو آمر بركعتين إيجابا وبمثلهما ندبا، ولا يبعد في الأوّل عدم اعتبار قصد التعيين بخروج علّة الحكم عن موضوعه، فلا يوجب اختلافها اختلاف الموضوع، فيرجع الأمران حينئذ إلى إيجاب الماهية على جهة التكرار، فيقصد في كلّ مرّة إيقاع الماهية طاعة لله قربة إلى الله، وكذلك يمكن القول بالصحّة في الثاني بدون اشتراط قصد الوجوب والندب، فإنّ المعتبر في النية على ما عرفت إنّما هو تصوّر الفعل بجميع ما اخذ معه من القيود ثمّ القصد إلى إيقاعه على هذا الوجه، وأنّ الغرض من إيقاعه إنّما هو الإطاعة والقربة، ومن الواضح أنّ الوجوب والندب ليسا من قيود المأمور به لئلّا يمكن تحقّق داعي التقرّب بدون آخذهما في قيود الفعل المتصوّر المقصود بجميع قيوده هذا.

ولكن الأصحّ في الصورتين معا لزوم مراعاة قصد التعيين لعدم صدق الامتثال عرفا بدونه، نعم الأقوى والأصحّ عدم لزوم قصد الوجوب أو الندب في صورة اتحاد المأمور به وانحصاره في واجب أو مندوب، وإن كان الفعل بحسب القابليّة صالحا لأن يطرأه الوصفان معا بالقياس إلى هذا المكلّف أو غيره من مكلّف آخر أو غيره، كصلاة الظهر فإنّها مع كونها بنوعها فريضة قد تصير مندوبة كما في الصبيّ المميّز وفي المعادة لإدراك الجماعة وفاقا لجماعة كالمقنعة والنهاية(1) وظاهر المبسوط والمرتضى والبصروي وابن طاووس على ما حكي(2) حيث لم يذكروا الوجه، والروضة ومجمع الفائدة والمدارك والمشارق والذخيرة والحدائق والرياض(3) وغيرها بل ربّما يحكى

ص: 459


1- المقنعة: 48، النهاية: 15.
2- نقل عنهم في مفتاح الكرامة 317:2.
3- الروضة 71:1، مجمع الفوائد 98:1، المدارك 188:1، مشارق الشموس: 89، الذخيرة: 24، الحدائق 190:2، الرياض 118:1.

عليه اتّفاق متأخّري المتأخّرين، خلافا لآخرين حيث اعتبروا نيّة الوجوب أو الندب.

وقد يعبّر عنهما بالوجه، وقد يضاف إليهما الوجه كما في القواعد(1) وأن يوقعه لوجوبه أو ندبه أو لوجههما على رأي» وعزي هذا التعبير إلى الغنية والسرائر والتذكرة ونهاية الإحكام وجامع المقاصد(2) أيضا.

والأصل في ذلك ما عن المتكلّمين في كتبهم الكلاميّة من أنّه يشترط في استحقاق الثواب على فعل الواجب أن يوقعه لوجوبه أو وجه وجوبه وكذا المندوب لا للذة أو عادة أو غيرهما كما في الذخيرة(3) وربّما يعدّ هذا من مذهب العدلية، ثمّ إنّ معتبري الوجه بمعنى الوجوب و الندب بين من اعتبره من باب الوصف كأن ينوي «أتوضّؤ الوضوء الواجب». مثلا، ومن اعتبر، من باب التعليل كأن ينوي «الوضوء مثلا لوجوبه» ومن اعتبره وصفا وتعليلا كأن ينوي «الوضوء الواجب لوجوبه».

وكيف كان فهذا القول ربّما يدّعى فيه الشهرة، بل ربّما يستظهر من الفاضلين في التذكرة والمعتبر عدم الخلاف فيه، حيث قال في صلاة التذكرة: «وأمّا الفرضية أو الندبية فلابدّ من التعرّض لهما عندنا، وهو أحد وجهي الشافعي، لأنّ الظهر مثلا تقع على وجهي الفرض والنفل كصلاة الصبيّ ومن أعادها للجماعة فلا يتخصلى الله عليه و آله وسلم بأحدهما إلّا بالقصد، وقال أبو حنيفة تكفي صلاة الظهر عن نية الفرض، وبه قال ابن أبي هريرة من الشافعيّة لأن الظهر لا تكون إلّا واجبة»(4) انتهى، وعن المعتبر(5) أنّه حكى القول بكفاية نيّة الظهر عن نيّة الفرضيّة عن ابن أبي هريرة فقط ثمّ ردّه بنحو ما عرفته عن التذكرة، وعن غير واحد من معتبري الوجه بالمعنى المذكور أنّهم اكتفوا بالقربة في صوم رمضان.

وممّا يتفرّع على هذا القول وجوب معرفة الوجه واستعلام حكم العبادة من وجوب أو ندب مقدّمة بالاجتهاد أو التقليد كما نقل التصريح به عن العلّامة في غير واحد من كتبه، وربّما يستظهر ممّن أطلق وجوب قصد الوجه الظاهر في وجوبه المطلق المستلزم لوجوب معرفته من باب المقدّمة.

ص: 460


1- القواعد 199:1.
2- الغنية: 54، السرائر 98:1، التذكرة 140:1، نهاية الإحكام 29:1، جامع المقاصد 201:1.
3- الذخيرة: 24.
4- التذكرة 101:3.
5- المعنى 139:1.

واعلم أن أثر هذا الخلاف على المختار في النيّة من كونها الداعي لا غير إنما يظهر في صورة الجهل بالوجه أو العلم به مع الغفلة عن المعلوم حين إنشاء النية، فيبطل العمل على القول باعتبار الوجه ويصحّ على غيره، وكذلك ما في كلام غير واحد من المانعين عن اعتباره من التصريح بالصحّة مع نيّه الخلاف أيضا، كما لو نوى الندب في الواجب أو العكس، ومن هنا قد يعلّل الصحّة بأن المقصود الأصلي إتيان الفعل من حيث إنه مطلوب للمولى بالطلب الثابت له واقعا، إلّا أنّه اعتقد ذلك الطلب على خلاف ما هو عليه، فهو كمن قصد الاقتداء بالشخص الحاضر من حيث هو حاضر، إلّا أنّه اعتقده زيدا فبان عمرا.

وأمّا في صورة العلم مع عدم الغفلة عن المعلوم فلا يظهر له أثر أصلا، ضرورة أنّ اعتقاد إيقاع الفعل مع العلم بوجهه وجوبا أو ندبا على تقدير تحقّق داعي التقرّب يستلزم الاعتقاد يكون إيقاعه إنما هو لداعي الإطاعة وامتثال ذلك الأمر المعلوم وإن لم يخطر ذلك بباله على التفصيل، وكذلك في مسألة نيّة الخلاف فإنّ من اعتقد وجوب الواجب أو ندب المندوب يستحيل منه كون داعيه إلى العمل مع التذكر اعتقاد أنّه إيقاع للمندوب أو الواجب، ولا اعتقاد أنّ إيقاعه إنّما هو لغرض امتثال الأمر الندبي أو الأمر الإيجابي، نعم له أن يأخذ في النيّة بمعنى الصورة المخطرة من القيود ما شاء وإن خالف بعضها لمعتقده، وأن لا يأخذ شيئا منها أو بعضا منها، إلّا أنّ إخطار الصورة على الداعي لا عبرة به، فمن هنا يتّجه أن يقال: إنّ أصل النزاع وعقد المسألة من متفرّعات القول بالإخطار كما يساعد عليه أيضا ظاهر كلماتهم وعباراتهم على ما يجده المتتبّع المنصف.

وكيف كان فالحقّ في المقام هو ما أشرنا إليه من عدم وجوب قصد الوجوب ولا الندب في الواجبات والمندوبات، وتوضيحه: أنّه لا يشترط في صحّة العمل ولا في انعقاد النية المتوقف عليها صحّة العمل - ولا سيما على القول المختار - قصد الوجه بمعنى الوجوب والندب، وإذا لم يكن ذلك شرطا فمعرفة الوجه بهذا المعنى أولى بعدم الشرطيّة سواء اخذت قيدا لأصل العمل كالنية أو مقدّمة لقصد الوجه.

لنا على ذلك - بعد الأصل مضافا إلى ما قرّرناه سابقا - إنّه لم يوجد في الأدلّة مما يقضي بوجوب شيء من الأمرين، بل الدليل عند التحقيق موجود على خلافه، وهو

ص: 461

السيرة القطعية المتّصلة بأعصار الأئمّة عليهما السلام بل النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم الكاشفة عن رضاهم، فإنا نقطع بعدم كون أصحابهم ملتزمين بمعرفة وجه العمل على أنّها بنفسها أو أنها مقدّمة لما هو شرط بعد ما عرفوا أصل رجحان العمل وما اخذ فيه من الأجزاء والشروط، بل كانوا بمجرّد ذلك يأتون به ويكتفون بما أتوا به خاليا عن قصد الوجوب أو الندب وعن معرفتهما، ولذا تراهم كثيرا ما كانوا يتعبّدون لمجرّد التأسّي للنبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أو غيره من الأئمّة عليهما السلام بإتيان ما وجدوهما أنّهما يأتون به.

مع ما قرّر في محلّه من أنّ غاية ما يستفاد من الفعل الصادر من المعصوم إنما هو مطلق الرجحان من دون دلالته على وجهه من وجوب أو استحباب، والنبيّ صلى الله عليه و آله وسلم مع الأئمّة عليهما السلام كانوا يقرّرونهم على هذه الطريقة من دون أن يكون له جهة في ذلك سوي الرضاء، بل كثيرا ما كانوا في مقام التعليم يأمرونهم بالمتابعة في فعلهم الساكت عن الدلالة على وجهه بنحو قوله صلى الله عليه و آله وسلم: «خذوا عني مناسككم»(1) و «صلّوا كما رأيتموني اصلّي»(2) من دون تنبيه على الوجه، كيف ولو كان أحد الأمرين من شروط الصحّة لاشير إليه في الأخبار لا محالة ولورد لبيانه نصوص البتة، ولاهتمّ أصحابهم غاية الاهتمام في المسألة عنه والتوالي بأسرها باطلة.

وما ترى في النصوص الكثيرة من الاسئلة المتعقّبة للأجوبة بما يفيدهم الوجوب أو الندب فليس لأجل أنّهم زعموا وجوب أصل المعرفة أو وجوب قصدهما أو أنهم عليهما السلام أفادوهم بما دل على أصل وجوب الشيء أو ندبه بذلك، بل سؤالهم إنّما كان لاستعلام حكم الترك من حيث الجواز وعدمه ليجديهم في مقام إرادة اختياره على الفعل لا ليجديهم في مقام الفعل، وممّا يرشد إلى ذلك كلّه أنّ أوامر المستحبّات قد ورد أكثرها بلا قرينة مفيدة لإرادة الاستحباب ونحن إنما فهمناه بملاحظة الأمور الخارجة من القرائن المنفصلة، مثل أنّه وجدنا في قضية شخصيّة أنّهم أمروا السائل بإعادة ما أتى به لنحس إخلال فيه، ونفوا وجوبها في حقّ سائل آخر بقولهم: «لا بأس به» ونحوه، فينهض ذلك قرينة على أن الأمر الوارد بالإعادة كان للاستحباب، فلو أنّ معرفة

ص: 462


1- سنن البيهقي 125:5.
2- صحيح البخارى 162:1، سنن البيهقي 345:2.

الوجه أو قصده من الأمور المعتبرة في صحّة العمل لكانت هذه الأوامر لتجرّدها عمّا يفيد معرفة الاستحباب من القرائن المتّصلة لغوا واردا على خلاف الحكمة.

وبهذا كلّه يعلم أنّه لا وقع لما عن شرح المفاتيح وحاشية المدارك(1) من أنّ الحكم بصحّة العبادة لابدّ وأن يكون من نصّ أو إجماع، والأوّل منتف فتعيّن الثاني، ولا إجماع فيما خلى من ذلك القصد المتوقف على المعرفة، ولا حاجة بعد ما ذكر إلى التمسّك في نفي المدخلية في الصحّة بالأصل، ليتوجه أنّه على قول من يقول إنّها جزء وأنّ العبادات أسماء للصحيحة أو التوقّف في كونها أسماء للأعمّ لا يتمشّى هذا الأصل، هذا مع أنّ المقرّر عندنا كونهما اسماء للأعمّ ، فالأصل في محلّه سواء جعلنا النية شرطا أو جزءا.

حجّة القول بالاشتراط أمران:
الأوّل: أنّ الامتثال في العبادة إنّما يتحقق بإيقاعها على الوجه المطلوب،

ولا يتحقّق ذلك الوجه في الفعل المأتيّ به إلّا بنية الوجه.

الثاني: أنّ الفعل لمّا جاز وقوعه تارة على وجه الوجوب واخرى على الندب فتخصيصه بأحدهما لا يحصل إلّا بالنية.

ولا خفاء في ضعفهما، وأضعف منهما ما قيل:

من أنّ الإطاعة لا تتحقّق عرفا إلّا بقصد تعيين المطلوب فيما إذا كان أمرين متغايرين متمايزين. فإذا أتى بأحدهما لابدّ من تعيينه بملاحظة ما به الامتياز كركعتي الفجر والصحيح، نعم إذا تميّزت الفريضة عن النافلة بالماهيّة أو بلازم آخر سوى الوجوب أمكن الاكتفاء بقصد الماهية أو اللازم الآخر.

وربّما استدلّ عليه أيضا بما ورد في الخبر من الحكم بوجوب الطهور إذا دخل الوقت، فإنّه لابدّ له من ثمرة بالنسبة إلى المكلّف، إذ بمجرّد دخول الوقت لا يترتّب عقاب على تركه، والصحّة والمشروعية كانت حاصلة قبل الوقت، واشتراطها للصلاة لا يفهم من هذا الخبر بل لابدّ أن يكون مفهوما من الخارج، وكونه واجبا بالأصالة باطل قطعا، وقد مرّ أنّ ثمرة النزاع في الوجوب الغيري والنفسي تظهر في نيّة الوجوب

ص: 463


1- مصابيح الظلام 383:3، حاشية المدارك 243:1.

والاستحباب.

وربّما ايد أو استدل بما عرفته عن العدليّة من توقف حسن الفعل واستحقاق الثواب عليه على الإتيان به لوجوبه أو ندبه أو لوجههما.

والجواب عن الأوّل: بأنّ معنى إيقاع العبادة على الوجه المطلوب إيجادها بجميع ما اخذ معها من القيود الّتي لها دخل في المطلوبيّة وتعلّق الطلب بها، وكون قصد الوجه منها أوّل المسألة بل الدليل على ما عرفت ناهض بخلافه، ولّو أريد به ما يرجع إلى قاعدة الشغل على معنى أنّ العلم يكون الفعل المأتيّ به ممّا أتى به على الوجه المطلوب لا يحصل إلّا بنية الوجه فتكون النيّة مقدّمة علميّة، ففيه: أنّ المرجع في نحو المقام - على ما قرّر في محلّه - أصل البراءة لا الاشتغال، مع أنّه بملاحظة ما سبق لا يبقى شبهة موجبة للرجوع إلى نحو ما ذكر.

وعن الثاني: بمنع وجوب التعيين والتخصيص في مفروض المسألة من اتحاد العنوان المامور به إيجابا وندبا، غاية ما هنالك أنّ الأمر الإيجابي بطبعه يوجب انصراف المأتيّ به أوّلا إليه ويكون ما عداه هو المنطبق على الأمر الندبي الّذي جاز تركه، والسرّ فيه أنّ اختلاف حكم العنوان بالإيجاب والندب إنّما هو لاختلاف المصلحة المقتضية له في التأكد البالغ حدّ الإلزام وعدمه، وإذا حصل في الخارج على ما هو عليه في الواقع أوجب حصوله أن يرتفع من مصلحته المتأكدة ما هو بالغ حدّ الإلزام قهرا فيكون الباقي بعده هو الغير البالغ هذا الحدّ، ويلزم منه كون حصوله الثاني ممّا رضى تركه.

ولو كان النظر في الاستدلال إلى صورة ما لو تغاير مورد الأمرين بحسب العنوان ولو باعتبار القيد المأخوذ في أحدهما أو كليهما فالتعيين في مثله بالنيّة وإن كان معتبرا حسبما بيّنّاه إلّا أنّه يكفي فيه ملاحظة القيد، ولا حاجة معه إلى ملاحظة الوجوب والندب، نعم ربّما يشتبه الحال بتردّد مورديهما بين كونه عنوانا واحدا أو عنوانين متغايرين ولو بحسب الماهيّة بالنظر إلى جعل الشارع واختراعه، فالمتّجه حينئذ قصد الوجوب والندب إحرازا للتعيين المتوقّف عليه تحقق داعي القربة، إلّا أنّه ليس من اشتراط قصد الوجه ووجوبه بقول مطلق كما هو المتنازع، ولعلّه من هذا القبيل ركعتا الفجر والصبح مع إمكان أن يقال: بكفاية قصد عنوان النافلة والفريضة في نحوه أيضا،

ص: 464

نظرا إلى أنّه ملزوم للاستحباب أو الوجوب لا أنّه نفسه، هذا على القول بالوجه التعليلي.

وأمّا على القول بالوجه الوصفي فهو التزام بقصد الوجه أيضا كما هو واضح، وبالجملة قصد الوجوب أو الندب إنّما يجب في. موضع اشتراك العبادة بين عنوانين حيث انحصر المميّز فيه، وأمّا إذا كان لها مميزا آخر من العنوان المعلوم المعلّق عليه الحكم إيجابا وندبا، أو ما هو لازم له مساو معه في الوجود ذهنا أو خارجا فقصد هذا المميّز كاف ولا يجب معه قصد الوجوب ولا الندب.

وعن الثالث: بأنّ نفي الوجوب عمّا قبل الوقت تنبيها على عدم وجوبه لنفسه من أعظم الفوائد.

وعن الرابع: بأنّ الإنصاف - على ما يساعد عليه التدبّر - أنّ ما عليه المتكلّمون لا تعلّق له بمحلّ البحث، بل هو في الحقيقة راجع إلى اعتبار الإطاعة وداعي القربة فإنّ «اللام» في قولهم: «لوجوبه أو ندبه أو لوجههما» للتعليل، فيكون مفاده أن يكون العلّة الباعثة له على الفعل وجوبه أو ندبه لا غيره من الأسباب الأخر كاللذّة والعادة والرياء ونحوها كما يرشد إليه ما عرفت عن الذخيرة(1).

وفي معناه قصد الوجه أيضا لأنّه على ما في كلام جماعة منهم المحقّق الثاني عبارة عن السبب الباعث على إيجاب الواجب وندب المندوب، ومن المعلوم أنّ قصد السبب على التفصيل يتضمّن قصد المسبّب لكن على الإجمال، قال في جامع المقاصد:

«وإنّما كانت نيّة الوجه كافية لأنّه يستلزم نيّة الوجوب والندب لاشتمالها عليهما وزيادة فكان أبلغ» وبهذا ربّما يمكن التوجيه في كلام بعض القائلين بالوجوب أو الندب التعليلين كما لا يخفى.

لمّ إنّ ما عرفت من التفسير للوجه إنما هو بحسب المفهوم، وأمّا بحسب المصداق ففي تفسيره خلاف بن المتكلّمين فعن الأشاعرة أنّه مجرّد الأمر، وعن الكعبي أنّه الشكر على معنى أنّ الفعل إنّما يجب لكونه شكرا للمنعم، وعن بعض المعتزلة أنّه ترك المفسدة اللازمة من الترك ولو عبّر عنه بوجود المصلحة في الفعل والمفسدة في الترك

ص: 465


1- الذخيرة: 24.

كان أولى، وعن جمهور العدليّة من الإماميّة والمعتزلة أنّه اللطف في الواجبات والمندوبات العقليّة.

وبيانه على ما في كلام جماعة منهم المحقّق الثاني: «أنّ السمعيّات ألطاف في العقليّات، ومعناه أنّ الواجب السمعي مقرّب من الواجب العقلي، بمعنى أنّ امتثاله باعت على امتثاله، فإنّ من امتثل الواجبات السمعية كان أقرب إلى امتثال الواجبات العقليّة من غيره، ولا معنى للّطف إلّا ما يكون المكلّف معه أقرب إلى الطاعة، وكذا الندب السمعي مقرّب من الندب العقلي أو مؤكد لامتثال الواجب العقلي فهو زيادة في اللطف، والزيادة في الواجب لا يمتنع أن يكون ندبا، ولا نعني أنّ اللطف في العقليات منحصر في السمعيّات، إذ النبوّة والإمامة ووجود العلماء والوعد والوعيد بل جميع الآلام تصلح للألطاف فيها»(1) وهذه الأقوال كما ترى لا دليل على أكثرها.

البحث السابع: في وجوب القصد إلى رفع الحدث واستباحة فعل مشروط بالطهارة معا في النية،

كما عن الكافي والغنية والمهذب والوسيلة(2) والإصباح والإشارة(3) وغيرها، أو القصد إلى أحدهما على التخيير، كما عن المبسوط والسرائر والمعتبر والمنتهى والمختلف والتذكرة والرسالة الفخرية والدروس والذكرى وغاية المراد وجامع المقاصد(4) وغيرها، وعن السرائر «إجماعنا منعقد على أنّه لا تستباح الصلاة إلّا بنيّة رفع الحدث أو بنيّة استباحة الصلاة بالطهارة»(5) أو القصد إلى الأوّل خاصّة كما هو ظاهر المحكيّ عن الشيخ في رسالة عمل يوم وليلة(6) حيث إنّه اقتصر فيها على الرفع، أو إلى الثاني وحده كما عن السيّد(7) والشيخ في الاقتصاد(8)

ص: 466


1- جامع المقاصد 202:1.
2- الكافي في الفقه: 131، الغنية: 54، المهذب 43:1، الوسيلة: 51.
3- الإصباح (الينابيع الفقهيّة) 6:2، إشارة السبق: 70.
4- المبسوط 19:1، السرائر 98:1، المعتبر 139:1، المنتهى 15:2، المختلف 274:1، التذكرة 1: 144، الفخريّة (كلمات المحقّقين): 424، الدروس 90:1، الذكرى 106:2، غاية المراد 35:1، جامع المقاصد 201:1.
5- السرائر 98:1.
6- عمل اليوم والليلة (الرسائل العشر للشيخ الطوسي): 142.
7- نقله عنه في مصابيح الظلام 378:3.
8- الاقتصاد: 243.

لاقتصارهما على الاستباحة، أو لا يجب شيء منهما؟ كما عليه جماعة من متأخري المتأخرين(1) ولا يبعد كونه المشهور فيما بينهم بل ربّما يستظهر اتفاقهم عليه، وعزي أيضا إلى المفيد والشيخ في المقنعة والنهاية(2) وإلى السيّد ابن طاووس في البشرى(3)فقال: «لم أعرف نقلا متواترا ولا آحادا يقتضي القصد إلى رفع الحدث أو استباحة الصلاة، لكن علمنا يقينا أنّه لابدّ من نيّة القربة».

وهذا هو الأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه، فلا عبرة بالقصد إلى أحد الأمرين لا من باب كونه شرطا في صحّه العمل وقيدا للعبادة كالمأمور به، ولا من باب كونه شرطا في انعقاد النيّة المشترط بها العبادة، سواء اريد برفع الحدث رفع المانع أو رفع منعه كما في السلس والمبطون للأصل وعدم نهوض ما يوجب الخروج عنه من الأدلّة، وأنّ النيّة المعتبرة في العبادة لا يعتبر في انعقادها إلّا تصوّر المأمور به بعنوانه وقيوده والقصد إلى إيقاعه كذلك وكون ذلك الإيقاع لغاية القربة، وهذا كلّه على ما يدرك بالوجدان يتأتّى بدون القصد إلى الأمرين، لوضوح أنّ علّة الحكم والغاية المقصودة من تشريع موضوعه ليست من الحكم ولا من موضوعه، فلا يعقل كونها موردا للأوّل ولا قيدا للثاني ليتوقف على تصوّرها قصد الإيقاع المتوقّف عليه انعقاد داعي القربة.

وبذلك يعلم فساد استدلال المعتبرين بقوله تعالى: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (4) فإنّ الظاهر منه كونه لأجل الصلاة فلابدّ من إيقاع الأفعال لأجل الصلاة، كما يفهم ذلك من نحو قولك: «إذا لقيت الأسد فخذ سلاحك، وإذا لقيت الأمير فخذ أهبتك فانّ المفهوم منه كون الأخذ لأجل اللقاء.

ووجه الفساد: أنّ علّة الحكم على ما هو من مقتضي الشرطيّة لا يصلح معروضا له ولا قيدا في موضوعه، لا يقال: قصد العنوان معتبر في انعقاد الداعي على ما ذكرته، والوضوء إنّما أمر به من حيث كونه طهورا كما يشعر به قوله عليه السلام: «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة»(5) فلابدّ من القصد إلى إيقاع الوضوء بعنوان أنّه طهور، وقضية

ص: 467


1- كما في المدارك 189:1، مشارق الشموس: 90، المستند للنراقي 63:2.
2- المقنعة: 46، النهاية: 15.
3- نقل عنه في الذكرى 108:2.
4- المائدة: 6.
5- الوسائل 372:1 الباب 4 من أبواب الوضوء ح 1.

ذلك لزوم قصد حصول الطهارة اللازم لرفع الحدث، لأنّ معنى كون الوضوء طهورا أنّه سبب للطهارة، ولا ريب أنّ المسبّب ليس عنوانا للسبب ولا قيدا فيه، والمأمور به بنصّ الآية وغيرها إنّما هو إيجاد السبب، والتعبير عنه بالطهور في بعض الاخبار لا يعطيه عنوان الطهوريّة، لا على وجه الجزئيّة ولا على وجه القيديّة وبالجملة الحيثيّة تعليليّة فلا يعقل دخلها في الموضوع.

وأمّا الاستدلال بنحو «إنّما الأعمال بالنيّات» و «إنما لكلّ امرئ ما نوى»(1) الدالّ بمفهومه على نفي الغير المنويّ ، ففيه: ما تبيّن سابقا من أن هذه الرواية ونظائرها مسوقة لإعطاء شرطيّة القربة، وأمّا إجماع السرائر فيتوهّن بما عرفته من الأقوال والشهرة العظيمة بين متأخّري المتأخرين التي كادت تكون إجماعا كما ادّعي، نعم لا يجوز له أن ينوي الخلاف كأن ينوي الوضوء لوجوبه أو ندبه لفنسه لا للرفع والاستباحة، وفاقا للفاضل في كشفه(2) لأنّ نحو هذا الوضوء في مفروض المسألة ممّا لم يؤمر به في الشريعة، وقد تقدّم في ذيل الوضوءات المندوبة جملة من الأبحاث المتعلّقة بالمقام، كما أوردنا ثمّة في مسألة جواز الدخول في الفريضة بالوضوء المندوب مطلقا ما ينفعك في المقام فراجع.

البحث الثامن: في ضمائم النيّة،
اشارة

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في الضميمة المحرّمة من رياء ونحوه،

واعلم أنّ الرياء على ما يرشد إليه تتبّع الأخبار وملاحظة الإطلاقات الواردة في روايات الأثمّة الأطهار هو القصد بفعل العبادة إلى غيره تعالى من المخلوقين لطلب منزلة أو جلب منفعة أو دفع مضرّة، ومنه عبادة من يراعيها لمجرّد التحرّز عن إصابة من هدّده على تركها.

قال الشهيد في محكيّ القواعد: «ويتحقّق الرياء بقصد مدح الرائي والانتفاع به، أو دفع ضرره. فإن قلت فما تقول في العبادة المشوبة بالتقيّة ؟ قلنا: أصل العبادة واقع على وجه الإخلاص وما فعل فيها تقية، فإنّ له اعتبارين: بالنظر إلى أصله فهو قربة، وبالنسبة إلى ما طرأه من استدفاع الضرر فهو لازم لذلك فلا يقدح في اعتباره، أمّا لو فرض

ص: 468


1- عوالي اللآلئ 11:2/20.
2- كشف اللثام 502:1.

إحداثه صلاة تقية فإنّه من باب الرياء»(1) فإنّ الظاهر من قوله «أو دفع ضرره» إرادة نحو ما فرضناه من دفع الضرر المتوعّد به على ترك العبادة، وعليه فلا حاجة إلى أن يقال: إنّ قضيّة كلامه أن لا يكون مطلق الرياء محرّما لأنّ التوصّل إلى دفع الضرر ولو بطلب المنزلة عند الناس لا يوجب تحريما بل قد يجب، ليخدشه أنّ ظاهر الأخبار حرمة الرياء بقول مطلق.

ثمّ مراده بالتقيّة في قوله: «أمّا لو فرض» إلخ لعلّه التقيّة الغير المشروعة فيرجع إلى ما ذكرناه أيضا، وإلّا فالتقيّة المشروعة في موردها واجبة فكيف تكون من باب الرياء، إلّا أن يراد به كونهما كذلك موضوعا لا حكما ولو بنحو من التخصيص في دليل حرمته، أو يراد بإحداث الصلاة إيقاعهما لداعي التقية لا لداعي الأمر بها لمصلحة التقية، لكن حرمته حينئذ للجهة عنوان الرياء موضع نظر، غاية ما هنالك عدم الإجزاء عن المأمور به من حيث عدم اشتماله على القربة.

ولو أتى بها بداعي الأمر بالتّقية لا بداعي نفس التقيّة ولا بداعى الأمر بالعبادة لمصلحة التقيّة ففي بطلانها وجهان: من أنّه لم يقصد امتثال الأمر بنفس العبادة، ومن أنّ الأمر بالتقيّة مرجعه إلى الأمر بالعبادة بالكيفيّة الموافقة للتقية، فقصد امتثاله راجع إلى قصد امتثال الأمر بالعبادة، ولا يبعد التفصيل فيختلف الحكم بحسب القصد والاعتقاد فليتدبّر.

ومن أعظم الرياء مواظبة الطاعات والأعمال الحسنة ليعدّه الناس من أهل الصلاح الّذين أمر اللّه بتعظيمهم أو صلتهم وإحسانهم، كما أن من الرياء المطلق السمعة الّتي هي عبارة عن القصد بالعمل إلى إسماع الناس به فيعظم رتبته عندهم، وليس منها إسماعه بعد مراعاة القربة لرفع اتّهامه بترك العبادة أو لتعليم العبادة ذاتا أو وصفا لمن جهلها كذلك، ويشترط في الصورتين كون الإسماع لرفع الاتّهام أو التعليم مقصودا بالتبع بعدم بلوغه حدّ الداعي إلى فعل العبادة ولا إلى جزء الداعي فلو بلغ بطلت لا من حيث السمعة المحرّمة بل من حيث انتفاء شرط الصحّة و هو قصد القربة مع الإخلاص ثمّ إنّ

ص: 469


1- القواعد والفوائد 76:1.

الرياء في العبادة له صور:

منها: ان يكون الباعث على الإتيان بها والمحرّك اليها هو الرياء من دون نظر إلى الأمر أصلا.

ومنها: أن يكون الباعث والمحرّك المجموع منه ومن القربة، مع عدم كون شيء منهما بانفراده كافيا في البعث والتحريك.

ومنها: أن يتحقّق كلّ منهما على وجه يكون كلّ كافيا بانفراده في البعث، إلّا أنّه بملاحظة استحالة اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد يرجع إلى الصورة السابقة، فيكون التأثير في البعث والتحريك أيضا مستندا إلى المجموع.

ولا إشكال كما لا خلاف في حرمته بجميع صوره المذكورة، كما لا إشكال في بطلان العبادة به مطلقا، وإن خرجت الصورة الأولى عن عنوان الضميمة حسبما أخذ في عناوين الفقهاء، بل لا خلاف أيضا في البطلان عدا ما يحكى عن المرتضى في الانتصار(1) كما صرّح به أو بما يرادفه أو بما يقرب منه جماعة من الأساطين. وأمّا السيّد فظاهره أنّ الرياء غير مانع من الإجزاء وإنّما يمنع من الثواب، وعبارته على ما نقل أنّ لفظة «مقبول» يستفاد منها في الشرع أمران، أحدهما: الإجزاء كقولنا:

«لا تقبل صلاة بغير طهارة» والآخر: الثواب كقولنا: «الصلاة المقصود بها الرياء غير مقبولة» بمعنى سقوط الثواب وإن لم يجب إعادتها. ولعلّه لذا قال في الذخيرة(2)، عند بيان هذا المذهب: «وهو مبنيّ على قاعدته من عدم الملازمة بين صحّة الأعمال وقبولها، فبالصحّة يحصل الامتثال وبالقبول يستحقّ الثواب»، وربّما يظهر الميل إليه من كاشف اللثام حيث قال: «ويقوى الإجزاء أصل البراءة، وأنّ الواجب أمران أحدها الفعل المأمور به، والآخر الإخلاص في نيته، ولا يوجب الإخلال بالأخير الإخلال بالأوّل وإن أوجب الإثم، وأخذ الإخلاص في مفهوم العبادات حتّى يلزم أن لا يكون الواقع بدونه وضوء أو صلاة أو نحوهما ممنوع، وقوله: «إنّما الأعمال بالنيّات» ليس على ظاهره لتحقّق حقيقة العمل بدونها، فالمعني صحّتها أو كمالهما أو ثوابها، والصحّه

ص: 470


1- الانتصار: 17.
2- الذخيرة: 25.

غير متعينة للتقدير ليفيد عدم الإجزاء، وفيه: أنّها أقرب المجازات إلى الحقيقة لكن غايته توقّف الصحّة على أن لا يقع لا عن قصد إليها لا على نيّة القربة فضلا عن الإخلاص»(1) انتهى.

ومرجع هذا الكلام إلى تسليم وجوب قصد القربة شرعا ومنع وجوبه شرطا، والأصل يساعد عليه لولا الدلالة على الشرطيّة، غير أنّه قد عرفت ممّا أسلفناه نهوضها عليها فلا ينبغي الالتفات إلى ما ذكره، وعليها فالبطلان في بعض الصور المذكورة من مقتضي الشرطية، هذا مضافا إلى قضاء النهي في العبادة بفسادها في الجميع، فإنّ عروض صفة الرياء للعمل في نظر الشارع جهة في القبح مقتضية للمنع، إذ قد عرفت أنّ الحرمة ممّا لا إشكال فيه حتّى عند القائل بالإجزاء فهي إجماعيّة. والنصوص لها مع ذلك متواترة معنى، كما أنّها بالبطلان مستفيضة إن لم نقل فيه بالتواتر.

ومن جملة ذلك: خبر هشام بن سالم في الصحيح عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «يقول اللّه عزّ و جلّ : أنا خير شريك، فمن عمل لي ولغيري فهو لمن عمله غيري»(2). وخبر عليّ بن عقبة - في طريق لا يبعد كونه موثّقا - عن أبيه قال: «سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: اجعلوا أمركم هذا للّه، ولا تجعلوه للناس، فإنّه ما كان للّه فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله»(3). وخبر زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لو أنّ عبدا عمل عملا يطلب به وجه اللّه والدار الآخرة وأدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركا، وقال أبو عبدالله عليه السلام: من عمل للناس كان ثوابه على الناس. يا زرارة كلّ رياء شرك، وقال عليه السلام: قال اللّه عزّ و جلّ : من عمل لي ولغيري فهو لمن عمل له»(4). وخبر مسعدة بن زياد في الصحيح عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهما السلام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم سئل فيما النجاة غدا؟ فقال: إنّما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم، فإنّه من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان ونفسه يخدع لو يشعر، قيل له: فكيف يخادع اللّه ؟ قال: يعمل

ص: 471


1- كشف اللثام 511:1-512
2- الوسائل 72:1 الباب 12 من أبواب مقدّمة العبادات ح 7.
3- الوسائل 71:1 الباب 12 من أبواب مقدّمة العبادات ح 5.
4- الوسائل 67:1 الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات ح 11.

بما أمره اللّه ثمّ يريد به غيره، فاتّقوا اللّه في الرياء فإنّه الشرك باللّه، أنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء يا فاجر، يا كافر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك وبطل أجرك، فلا خلاص لك اليوم فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له»(1). وخبر المحاسن في المرسل عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ما بين الحقّ والباطل إلّا قلّة العقل، قيل: وكيف ذلك يابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؟ قال: إنّ العبد يعمل العمل الّذي هو للّه رضا فيريد به غير اللّه، فلو أنّه أخلص لله لجاءه الّذي يريد في أسرع من ذلك»(2). وخبر عليّ بن سالم البقّال سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «قال اللّه عزّ و جلّ : أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلّا ما كان لي خالصا»(3). وخبره الآخر قال: «سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: قال اللّه تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشريك، فمن أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلّا ما كان لي خالصا»(2) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع فلا ينبغي التأمّل في البطلان.

ودعوى عدم الملازمة بين الصحّة والقبول على ما عرفته عن المرتضى غير مسموعة، فإنّ عدم القول بمعنى الردّ لا يلائم الحكمة إلّا مع منقصة مخرجة عن موافقة الإرادة كما لا يخفى، ومحصّل مفاد هذه الأخبار المعتضدة بالشهرة العظيمة مضافة إلى ما تقدّم في بحث اشتراط النية. أنّ العبادة يشترط في صحّتها أمران قصد القربة والإخلاص فيه، وهو أن لا يقصد مع القصد إليه تعالى غيره، وفي خبر سفيان بن عيينة عن أبي عبدالله عليه السلام في حديث «قال: الاتقاء على العمل حتى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص الّذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا الله عزّ و جلّ »(3) وفي صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث قال: «وكلّ عمل تعمله للّه فليكن نقيا من الدنس»(6) وكلام الأصحاب في الحكم ببطلان العبادة بضميمة الرياء يرجع إلى بيان اشتراط ثاني الأمرين.

فعلم بهذا كلّه أنّ الرياء بجميع صوره الثلاث المتقدّمة مبطل للعبادة، إلّا أنّه في

ص: 472


1- الوسائل 69:1 الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات ح 11. (2و3و6) الوسائل 61:1 الباب 8 من أبواب مقدّمة العبادات ح 11 و 9 و 10.
2- الوسائل 73:1 الباب 12 من أبواب مقدّمة العبادات ح 11.
3- الوسائل 60:1 الباب 8 من أبواب مقدّمة العبادات ح 4.

الصورة الأولى لكونه مخلّا بالشرط الأوّل وفي غيرها لكونه مخلّا بالشرط الثاني، ولا يفترق الحال في ذلك بين ما لو حصل الرياء ابتداءا أو بدا له في الأثناء، ولا بين ما لو تعلّق بجميع العيادة أو بعض أجزائها الواجبة، ولا بين ما لو تعلّق بأصل العيادة أو بعض أفرادها كالصلاة في المسجد مثلا إذا اختارها لداعي الرياء بالنسبة إلى الخصوصيّة لا الماهية، وليس معنى كونه موجبا للبطلان إذا تعلّق بجزء العبادة أنّه يبطل به الكلّ ليجب الاستيناف بعد تجديد النيّة، ولا يعتدّ بشيء ممّا أتى به قبل هذا الجزء المنوي به الرياء حتّى في نحو الوضوء، فلو بدا له الرياء عند مسح الرجل أو الرأس مثلا يجب استيناف الوضوء بعد إيجاد داعي القربة مع الخلوص، ولا يكفي إعادة مجرّد هذا الجزء فلو قارنه القربة والخلوص، بل معناه أنّ الباطل هو الجزء خاصّة فإذا أمكن تداركه مقرونا بالقربة والإخلاص بلا مصادفة ما يوجب الاستيناف من فوات موالاة أو زيادة ركن أو تحقّق فعل كثير. يمحو الصورة ونحو ذلك صحّ العمل، لتحقّق ما هو مناط الصحّة في الجميع وهو القربة والإخلاص، فيصدق على المجموع أنّه عمل قارنه النيّة ولم يرد به غيره تعالى.

لا يقال: إن ما طرأ الجزء من الرياء قد صادم الداعي الأوّل المتحقّق بالنسبة إلى المجموع وصير وجوده كعدمه، من حيث إنّه أمر بسيط لا يتوزّع على الأجزاء حتّى لا ينافي ارتفاعه بالنسبة إلى البعض بقاءه بالنسبة إلى غيره ممّا أتى به، فيكون بمنزلة عمل ناوي الرياء بنحو ذلك الجزء من أوّل العمل، فإنّه لم يزل باطلا من الابتداء وإن عدل عند إيقاع ذلك الجزء عمّا نواه إلى القربة والإخلاص.

لأنّا نقول: إنّه إنّما صادم الداعي المتحقق بالنسبة إلى المجموع من حيث ذلك الجزء المنويّ به الرياء لا من حيث سائر الأجزاء المأتيّ بها، إذ المفروض وقوعها عن داعي القربة والإخلاص، فإذا اعيد الجزء المذكور عن هذا الداعي أيضا بعد إيجاده ثانيا صدق على المجموع أنّه وقع عن داعي القربة والإخلاص.

ومنه يظهر أنّ ما نحن فيه ليس كالصورة المفروضة فإنّه فيها إنّما نوى ابتداء الإتيان بغير المأمور به، لأنّ نيّة عمل مع نيّة إفساد بعض أجزائه كنية ذلك العمل خاليا عن ذلك الجزء. وهذا ليس هو المأمور به، فبطلانه إنّما هو من هذه الجهة لا لمجرّد

ص: 473

انتفاء القربة أو الإخلاص.

وتوهّم أنّ النيّة المتحقّقة بالنسبة إلى الجزء المتدارك لا تؤثّر في صحّة العمل، لكونها كالنيّة الموزّعة على أجزاء العمل فيما لو لم ينو ابتداء العمل بمجموع أجزائه، بل نوى كلّ جزء عند الإتيان به بداعي الأمر به.

يندفع: بأنّه إنّما يلزم ذلك لو نوى الجزء المتدارك بداعي الأمر به بانفراد، وأمّا لو نواه بداعي الأمر بالمجموع مع الإخلاص فلا كما هو واضح. كما أنّ توهّم أنّ الاعتبار المذكور لإحراز الصحّة لا يتمّ فيما اعتبر في صحّته هيئة اتّصالية كالصلاة لأنّ الجزء المأتيّ به بوصف البطلان يقطعها فتبطل من هذه الجهة، يندفع بأنّه لا يقطع الهيئة الاتّصاليّة إلّا ما ثبت قاطعيته شرعا، ولذا كانت القواطع محصورة وأطبقوا على أنّ الفعل القليل لا يقطع، واختلفوا في الفعل الكثير إلّا ما يكون ماحيا للصورة، ولا دليل على قاطعيّة ما ذكر والأصل عدمه.

وتوهّم اندراجه في الفعل الكثير أو الماحي منه واضح المنع، إمّا لأنّه ليس من الأفعال الخارجة من الصلاة. أو لأنّه لا يلازم الكثرة، أو لأنّه لا يلازم محو الصورة.

وأولى بعدم بطلان العمل من أصله في نحو ما نحن فيه ما لو كان الجزء المنويّ به الرياء مستحبّا، سواء قدّرنا استحبابه بمعنى استحباب العبادة مشتملة على ذلك الجزء، ومرجعه إلى كونه جزء لأفضل فردي الماهيّة، على معنى أنّها مع هذا الجزء أفضل الفردين، أو بمعنى كونه مستحبّا بنفسه ومحلّه العبادة، ولا حاجة فيه إلى التدارك، من غير فرق بين كونه ناويا للفرد المستحب، أو الإتيان بذلك الجزء المستحبّ من أوّل الأمر فبدا له الرياء من حين إيقاعه، أو ناويا لأقلّ الواجب أو ما خلى عن هذا الجزء فبدا له الإتيان به في الأثناء فأوجده على وجه الرياء، لعدم منافاة ذلك تحقق القربة والإخلاص بالنسبة إلى أقلّ الواجب.

وتخيّل البطلان في صورة ما لو نوى الإتيان بالفرد المستحبّ من أوّل الآمر، تعليلا بأنّه نوى الرياء بمجموع ما نوى التعبّد به ولو باعتبار جزئه واستنادا إلى ظاهر قوله عليه السلام «ثمّ أدخل فيه رضى أحد من الناس» وقوله عليه السلام حكاية عن الله تعالى «من عمل لي ولغيري تركته لغيري» يدفعه ما تقدّم، فإنّ بطلان المركب من حيث أحد أجزائه

ص: 474

لا يستلزم بطلانه من حيث سائر أجزائه، خصوصا إذا كان الجزء الباطل مستحبّا مع تحقّق شرط الصحّة بالنسبة إلى غيره، وإطلاق الخبرين وغيرهما ممّا تقدّم لا يقتضي إلّا بطلان معروض الرياء، وهو ليس إلّا الجزء المغاير الماهيّة المتقرّب بها في الوجود.

نعم لو كان الفرد المستحبّ استحبابه لخصوصيّة متّحدة مع الماهيّة في الوجود، كالصلاة في المسجد إذا وقع الرياء على خصوص إيقاعها في المسجد، فالمتّجه فيه البطلان مطلقا كما أشرنا إليه قضية لاستحالة اجتماع الأمر والنهي في الأمر الواحد الشخصي، أو لأن النهي في العبادة مفسد سيّما في النهي عنه لوصفه الذي يرجع النهي فيه إلى محلّ الوصف.

ولا ينتقض ذلك بما مرّ في الجزء ولو كان واجبا، لرجوع النهي في المنهيّ عنه لجزئه إلى الجزء خاصّة نظرا إلى تغايره مع سائر الأجزاء في الوجود، غاية ما هنالك توقف الصحّة على تدارك الجزء المأتيّ به على وجه الفساد إن أمكن في الواجب، أو عدم مصادفة حيثيّة أخرى مقتضية للفساد من غير مدخل فيه للنهي ولو في المستحبّ ، ومنه ما لو وقع الرياء في الوضوء على الغسلة الثانية من غسل اليد اليسرى المحكوم عليها بالاستحباب، فإنّه يقضي ببطلان الوضوء رأسا من حيث استلزامه تعذر المسح بماء الوضوء.

وبما ذكرناه في وجه عدم فساد العبادة بفساد جزئها يعلم أنّه لا يبطل العبادة بوقوع الرياء على بعض الخصوصيات الخارجة عن الماهيّة المغايرة للفرد أيضا في الوجود، سواء كانت مستحبّة كما لو صلّى متخاضعا أو متحنّكا، أو لم تكن مستحبّة كما لو توضّأ مستقبلا فإنّ النهي في الحقيقة متعلّق بأمر خارج غير متّحد في الوجود، هذا إذا كان الرياء في أصل التواضع أو التحنّك في الصلاة والاستقبال في الوضوء، وأمّا إذا كان في العمل باعتبار وقوعه في هذه الأحوال رجع إلى كونه كالصلاة في المسجد فبطل.

ومن هذا التفصيل بان حكم الرياء في الشروط كالاستقبال والتستّر والطهارة عن الخبث في الصلاة، فإن كان الرياء في المشروط من حيث وقوعه في هذه الأحوال بطل، وإن كان في الشروط من حيث إنّها صفات ثابتة في المكلّف لم يبطل، التفاتا إلى أنّ المقصود في شروط العبادة وجودها حال إيجادها، ووقوع الرياء فيها لا يوجب

ص: 475

زوالها ولو وقع الرياء في مبادئ هذه الشروط ومقدّماتها الّتي منها الاستقبال والستر والغسل من حيث إنّها أفعال يقصد بها تحصيل هذه الصفات، فأولى بعدم بطلان العبادة به.

تذنيب: ليس من الرياء موضوعا ولا حكما ما يحدث في نفس الإنسان بلا اختيار منه من الخطرات الغير البالغة حدّ الجزم المحرّك، ولازمه أن لا يكون لها دخل وتأثير في العمل، ولا ما ينقدح في نفسه من السرور باطلاع الغير على عمله الصادر منه متقرّبا به ولا محبّة اطّلاع الغير عليه، بل ولو أحبّ قبل العمل أو حينه استماع الغير لعمله أو رؤية الغير له لسروره به وبأن يحمد عليه لا بأس به إذا لم يكن عمله لذلك، ضرورة أنّ مجرّد محبّه شيء ليس من العزم الباعث على العمل لذلك الشيء، وهذا مع ذلك مصرّح به في النصوص ففي الحسن كالصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسرّه ذلك ؟ قال: لا بأس ما من أحد إلّا وهو يحبّ أن يظهر له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك»(1).

وليس منه أيضا ما لو عمد إلى ترك ينبئ عن أنّه غير مراء في أعماله، أو إلى فعل ينبئ عن أنّه يلازم التقوى ويواظب الآداب الشرعيّة، ويعتبر في الصورتين معا عدم كون الإنباء المذكور مقصودا بالأصالة من الترك أو الفعل، بأن يكون كلّ منهما لغرض صحيح وكان الإنباء حاصلا منهما بطبعهما وإن علم به المكلّف وإلّا كان من الرياء المحرم بلا شبهة. ولا ما لو راعى وضعا خاصّا في طاعته يكشف عن صفة ممدوحة له ليحمد عليها، كما إذا اختار في قراءته من السور الطوال ما يكشف عن كونه حافظا للقرآن، أو في قنوته من الأدعية الجليلة ما يكشف عن كونه حاملا لها، أو في القراءة أيضا ما يكشف عن خبرته بهذا الفن. ولا ما لو راعى صلاة الجماعة ليقتدى به من يثق به بملازمة الجماعة، ولا ما لو ائتمّ بشخص مجهول حاله لينكشف قابليّته لهذا المنصب لمن يثق به، ولا ما لو لازم الاقتداء بمقتدر استصلاحا لأمور معاشيه. ولا ما لو راعى في طاعاته ما يظهرها للناس لينجلب إليه قلوبهم توصّلا إلى ترويج حقّ أو إزهاق باطل، بل قد يجب ذلك في موضع وجوب أحد الأمرين.

ص: 476


1- الوسائل 75:1 الباب 15 من أبواب مقدّمة العبادات ح 1.

فإنّ هذه الفروض يندرج أكثرها في المسائل الآتية، فيعتبر في الجميع كونه مقصودا بالتبع لا بالأصالة حتّى يكون هو الداعي أو جزء الداعي، فتبطل العبادة من جهة انتفاء شرط الصحّة وهو القربة أو الإخلاص، والأولى أن يتحرّز عن كثير منها لئلّا ينجرّ إلى الرياء، فإنّ من رتع حول الحماء أو شك أن يقع فيه، بل قد يجب التحرّز مقدّمة إذا علم أو ظنّ بإفضائه إليه، فإنّ دفع الضرر المظنون كدفع الضرر المعلوم واجب، هذا كلّه إذا كانت الضميمة المحرّمة رياء. وأمّا إذا كانت غيره فهو يتصوّر على قسمين:

أحدهما: أن يكون ضميمة بالقياس إلى المنويّ وهو المأمور به، كأن ينوي مع نية هذا العنوان عنوانا آخر محرّما يجامعه ويتّحد معه في المصداق، كما لو صلّى على وضع خاصّ أو كيفيّة مخصوصة يعتادهما شخص آخر قاصدا إلى الاغتياب عنه، فإنّه بناء على أن الغيبة المحرّمة تتأتّى بغير القول أيضا غيبة محرّمة جامعت عنوان الصلاة المأمور بها ولا إشكال في بطلانها حينئذ لاستحالة اجتماع الواجب والحرام في شخص واحد.

وثانيهما: أن تكون ضميمة بالقياس إلى أصل النيّة بمعنى الداعي، بأن يقصد من إيقاع الفعل المأمور به غاية محرّمة منضمّة إلى غاية القربة، والظاهر أنّه فرض لا يمكن تحقّقه، فإنّ قصد القربة بفعل المأمور به ينافيه القصد إلى غاية مبعدّة 0 وبهذا يعلم بطلان العبادة في نحو هذه الصورة أيضا، ولو كان فعل المأمور به مقدّمة لتلك الغاية المحرّمة المترتّبة عليه كان وجها آخر للبطلان، قضية لحرمة مقدّمة الحرام واستحالة اجتماع الوجوب والحرمة.

المسألة الثانية: في الضميمة الراجحة بحسب الشرع كتكبيرة الإحرام إذا قصد بها اعلام القوم،

والصوم إذا قصد به الحمية، والزكاة إذا قصد بها اقتداء الناس ونحو ذلك، نصّ فيه جماعة بأنّها لا تخلّ بصحّة العبادة بل في شرح الدروس الاتّفاق عليه(1) وعن المدارك عدم الخلاف فيه(2) وقد يفصّل بين ما لو كان الغرض الأصلي هو العبادة بحيث لولا الضميمة أيضا لفعلت فالصحّة بلا إشكال، وما لو انعكس الأمر فالصحّة موضع

ص: 477


1- مشارق الشموس: 98.
2- المدارك 191:1.

إشكال، من أنّ الضميمة إنّما تعتبر لوجه اللّه تعالى فلا تنافي الإخلاص المأمور به، وأنّ الباعث الأصلي إذا لم يكن قصد العبادة المخصوصة فلا يصدق أنّه مطيع لله تعالى فيها.

والإنصاف أنّ هذا التفصيل حسن فيما إذا قصدت الضميمة الراجحة بنفس العبادة، وأمّا إذا قصدت باختيار خصوصيّة خارجة عنها بأن يكون الداعي إلى أصل العبادة هو الطاعة للّه وإلى اختيار الخصوصيّة مراعاة الضميمة كرفع الصوت في تكبيرة الإحرام للإعلام والإعلان في الزكاة للتأسّي فالوجه هو إطلاق الصحّة، وإن كانت الضميمة مقصودة بالأصالة، لأنّ المفروض تعدّد موضوعي القصدين فلا تنافي بينهما وإن استقلّ كلّمنهما.

وبالجملة فالضميمة إن كانت ممّا يترتّب على أصل العبادة فإنّما لا تخلّ بصحّة العبادة إذا لم تكن هي الغرض الأصلي من فعل العبادة، وإن كانت ممّا يترتب على خصوصيّة خارجة عن العبادة فلا تخلّ بالصحّة ولو كانت مقصودة بالأصالة كما هو واضح.

المسألة الثالثة: في الضميمة المباحة كالتبريد والتسخين أو التنظيف في الوضوء أو الغسل،

واختلف فيه كلمة الأصحاب فذهب جماعة كما عن المبسوط والجامع وجملة من كتب العلّامة إلى الصحّه(1) وعن قواعد الشهيد نسبته إلى أكثر الأصحاب(2)وعن المدارك كونه أشهر القولين(3) خلافا لجماعة كنهاية الإحكام والإيضاح والبيان وجامع المقاصد والمجمع فصاروا إلى عدم الصحّة(4) وعن قواعد الشهيد احتمال أن يقال: إن كان غرضه الأصلي القربة ثمّ طرأ التبرّد عند ابتداء الفعل لم يضرّ، وإن انعكس أو كان الغرض مجموعهما لم يصحّ ، تعليلا بأنّه لا أولويّة حينئذ فتدافعا وتساقطا، فكأنّه عنها وعن غير واحد من المتأخّرين الجزم بهذا التفصيل، وفي شرح الفاضل(5) «وهو الأجود [الوجه] وعليه ينزّل إطلاق الأصحاب، وربّما يشعر به عنوان المسألة في كلامهم من حيث تعبيرهم بضمّ نيّة التبرد إلى نيّة التقرّب لقضائه باستقلال نيّة التقرّب أصالة ولحوق نية التبرّد من باب الطارئ».

ص: 478


1- المبسوط 19:1، الجامع للشرائع: 35، كما في المنتهى 17:2.
2- القواعد والفوائد 80:1.
3- المدارك 191:1،
4- نهاية الإحكام 29:1، الإيضاح 36:1، البيان: 7، جامع المقاصد 203:1، مجمع الفائدة 99:1.
5- كشف اللثام 51:1.

أقول: والأقوى فيه أيضا هو التفصيل المتقدّم في المسألة السابقة، ووجهه واضح بملاحظة ما سبق، فلا حاجة إلى الإعادة كما لا حاجة إلى التعرّض لذكر حجج سائر الأقوال.

البحث التاسع: في كون النية جزء أو شرطا قولان ؟

أقواهما الثاني، بل هو الحقّ الّذي لا محيص عنه، فإنّها على ما تقدّم في شرحها عبارة عن إرادة الفعل والعزم عليه كما في كلام أهل اللغة أو عن الإرادة المقارنة للعمل كما في تعريف الفقهاء، وأيا ما كان فقضيّة ذلك مضافا إلى قضاء الوجدان هو الشرطيّة لا غير.

لكن الإنصاف أنّ هذا البيان في إثبات الشرطيّة بعيد عن مساق كلامهم بل خارج عن محط الخلاف، فإنّ النيّة بهذا المعنى قد علم أنها من مقدّمات كلّ فعل اختياري بحكم العقل أو العادة فلا يصلح موردا لخطاب الشرع، ولذا قيل إنّه لو كلّفنا الله بالفعل بلا نيّه كان تكليفا بما لا يطاق، وظاهر كلماتهم كون هذا النزاع فيما ثبت اعتباره شرعا في العبادات وليس إلّا القدر الزائد على إرادة الفعل أعني التقرّب والإخلاص، ولا ريب أنّ كلام أهل اللغة أجنبيّ عن ذلك.

نعم يتّجه أن يقال على هذا التقدير: أنّ أقصى ما اقتضته الأدلة المقامة على اعتبار النية في العبادات شرعا إنما هو وجوب كون الداعي إلى فعل المأمور به هو قصد التقرّب بالمعنى المتضمّن لقصد الإطاعة وامتثال الأمر ولا ريب أنّ الداعي بمعنى العلّة المحرّكة إلى فعل شيء بحكم العقل والعرف خارج عن حقيقة المدعوّ إليه، سواء أريد به ما هو الفارق بين الشاعر الغير الغافل وغيره الداعي إلى الفعل لذاته، أو ما هو الفارق بين المطيع الغير المرائي الداعي إليه لوصفه الحاصل من جهة الأمر، فيرجع مفاد الأدلّة الشرعيّة حينئذ إلى اشتراط كون الإتيان بالمأمور به عن داعي التقرّب لا غيره من الدواعي الاخر، من غير فرق في ذلك بين ما لو قرّر النزاع على وجه رجع إلى تشخيص مسمّى الفاظ العبادات.

ومحصّله أنّ مسمّي لفظ الصلاة وغيرها ممّا ثبت فيه اختراع شرعي هل هو الفعل مع نيته أو الفعل المنويّ به التقرّب أو على وجه رجع إلى تشخيص المأمور به بعد الاتفاق على خروجها عن المسمّى في الفاظ العبادات ؟ وإن كان أكثر كلماتهم أظهر في

ص: 479

الأوّل، ويدلّ عليه أيضا ظواهر الأخبار البيانيّة المسوقة لبيان أجزاء العبادات من مثل قوله صلى الله عليه و آله وسلم «تحريمها التكبير» وقوله «افتتاحها التكبير».

واستدلّ عليه أيضا بأنّها لو كانت جزء لافتقرت إلى نيّة اخرى فيتسلسل، أمّا الملازمة فلوجهين:

الأوّل: أنّ مقتضي النصوص ملابسة جميع أجزاء العبادة بالنية، فلو كانت النيّة جزء لها للزم ملابستها أيضا بها فينقل الكلام إلى النيّة الثانية، فإن كانت شرطا فقد ثبت المطلوب وإلّا فيلزم أن يكون هناك نيّة ثالثة وهكذا.

الثاني: أنّها لو كانت جزء للصلاة لكانت أوّل أجزائها، والإجماع بل الضرورة قائمان على وجوب مقارنة أوّل أجزاء العمل بالنيّة، فينقل الكلام إلى النيّة الثانية فإمّا أن يكون شرطا فهو المطلوب أو جزءا فيتسلسل، وضعفه بعد صرف الأدلّة مع الإجماع والضرورة إلى كون المراد بالعبادة الواجب ملابسة جميع أجزائها أو مقارنة أوّل أجزائها بالنيّة ما عدا النيّة ممّا يضاف إليه النيّة لا ما يعمّ النية أيضا ظاهر، واستدلّ أيضا بما لا يكاد يتمّ . والمسالة غير قابلة لأن يتكلّم فيها أزيد من ذلك مع ما فيها من قلّة الثمرة وندرة الفائدة، وإن اشتهر أنّها تظهر في اشتراط النيّة بشروط العبادة كالطهارة والستر والاستقبال والقيام في الصلاة.

فإنّ الشهيد اعترضه بأنّ المقارنة المعتبرة فيها للتكبير ينفي هذه، وقد يقال أيضا:

إنّ الإجماع منعقد على أنّه يعتبر فيها ما يعتبر في الصلاة وقد يفرّع فروعات منها:

ما لو نذر الصلاة في وقت معيّن فاتفق مقارنة التكبير لأوّله فإن جعلناها شرطا برء وإلّا فلا، والسرّ فيه أنّه على تقدير مقارنة التكبير لأوّل الوقت يقع النيّة خارج الوقت، وهو على تقدير الجزئيّة يخلّ بالصحّة بخلافه على تقدير الشرطية. ولا يذهب عليك أنّ هذا إنّما يتمّ على القول بالإخطار، ولعلّ الخلاف في المسألة أيضا مبنيّ على هذا القول، لما عرفت من أنّ الجزئيّة على القول بالداعي غير معقول.

وثانيها: غسل الوجه
اشارة

الّذي وجوبه في الوضوء وكونه جزءا منه ثابت بالنصّ كتابا وسنّة والإجماع فتوى وعملا بل الضرورة مذهبا ودينا، وهذا كما ترى ممّا لا ينبغي التكلّم فيه. بل العمدة في هذا المقام إنما هو النظر في أمرين: حدّ الغسل المأمور به،

ص: 480

وحدّ الوجه المأمور بغسله، فالكلام في مقامين:

المقام الأوّل: أن في كون المعتبر في الغسل ما لا يتحقّق بنحو الدهن مطلقا

ولازمه اعتبار الّجريان المستتبع لانفصال بعض الماء المفسول به فيه، أو ما يتحقّق به أيضا ولكن مع الجريان انفصل أو لم ينفصل، أو ما يتحقّق به أيضا مطلقا وإن لم يجر، أو لم ينفصل على تقدير الجريان، أو يفصّل بين الضرورة بعوز الماء ونحوه فالاكتفاء بالدهن مطلقا وغيرها فيعتبر الجريان مطلقا احتمالات ؟

إلا أنّ الأوّل منها لم يظهر به قائل، وإن قيل بأن الظاهر المتبادر من الغسل في العرف معنى لا يصدق على مثل الدهن بل يعتبر فيه استيلاء الماء على المحلّ وانفصال بعضه عنه، ومرجعه إلى أنّ الغسل لا ينفك عن الغسالة.

وأمّا ثاني الاحتمالات فهو المشهور بين الأصحاب كما في كلام غير واحد، وعن ثاني الشهيدين في بعض تحقيقاته «أنّه المعروف بين الفقهاء سيما المتأخّرين»(1) بل عن المجلسي في حاشية التهذيب أنّ ظاهر الأصحاب الاتّفاق عليه.

وأمّا ثالثها فربّما يتوهّم من إطلاق من عبّر بأنّ أقلّ الغسل ما يحصل به مسمّاه ولو دهنا أو بما يرادفه كما في الشرائع والنافع(2) لكن حمله غير واحد تبعا للروض والمسالك(3) على صورة الجريان، بناء على أنّ ذكر الدهن مبالغة في جواز التقليل الغير المنافي لاعتبار الجريان لا أنّه تجويز لعدم مراعاة الجريان، ومرجعه أنّه لرفع توهّم اعتبار استيلاء الماء المغسول به وانفصاله عن المحل المغسول كما هو الحال في رفع الأخباث والقذارات.

ومحصّله إبداء الفرق بين الغسل المأمور به في رفع الخبث والغسل المأمور به في رفع الحدث، وربّما يرشد إلى صدق هذا الحمل عبارة المعتبر(4) فإنّه بعد ما عبّر فيه بنحو ما عرفت ذكر بلا فصل: «ولا يجزئ ما يسمّى مسحا لأنّه لا يتحقّق معه الامتثال» انتهى. ولا ينافيه عبارته الأخرى في موضع آخر منه: «ظنّ قوم أنّ دهن الأعضاء في الطهارة يقصر عن الغسل ومنعوا الاجتزاء به إلّا حال الضرورة وهو خطأ، فإنّه

ص: 481


1- نقله عنه في الحدائق 369:2.
2- الشرائع 23:1، النافع: 6 و 8.
3- روض الجنان 97:1، المسالك 41:1.
4- المعتبر 182:1.

لو لم يسمّ غسلا لما اجتزأ به لأنّه لا يكون ممتثلا، وإن كان غسلا لم يشترط فيه الضرورة» لعدم وروده منه قدس سره تحقيقا وإنّما أورده اعتراضا على الفرق بين الضرورة وغيرها كما هو رابع الاحتمالات، وعزي إلى الشيخين في المقنعة والنهاية(1) وقد تبعه في هذا الاعتراض جماعة ممّن تأخّر عنه.

وملخّصه أنّ الدهن الغير المتحقق معه الجريان إن كان ممّا «يصدق عليه الغسل فلا معنى للاجتزاء به حال الضرورة بل الوجه حينئذ تعيّن التيمّم، وإن كان ممّا يصدق عليه الغسل فلا معنى للفرق بين الضرورة وغيرها، بل الوجه حينئذ الاجتزاء به في غيرها أيضا.

فتلخّص بجميع ما ذكر أنّه ليس في المسألة قول محقّق بعدم اشتراط الجريان وكفاية مثل الدهن بقول مطلق، وإن كان قد يمنع اعتبار الجريان في مسمّي الغسل بدعوى عدم كونه مفهوما من كلام أهل اللغة، كما يظهر من صاحب الحدائق ومحكيّ الشهيد الثاني في بعض تحقيقاته، فإنّه لا يقضي بنفي اعتبار الجريان أصلا لجواز البناء على خروجه من مفهوم اللفظ مع ثبوت اعتباره بدليل ينفصل ومرجعه إلى تقييد الغسل بصورة الجريان لدليل اعتباره.

وكيف كان فينبغي التكلّم تارة في أنّ الغسل هل اخذ الجريان في مفهومه باعتبار العرف واللغة أو لا؟ واخرى في أنّه على الأولى هل سقط اعتبار الجريان في محلّ البحث بدليل من الخارج قاض بقيام الدهن مطلقا مقام الغسل وعدمه ؟ وثالثة في أنّه على الثاني هل ثبث اعتبار الجريان مع الغسل بدليل من الخارج أو لا؟

أمّا الجهة الاولى: فالأقوى فيها الأوّل للتبادر وغيره، وفاقا لجماعة منهم الحلّي في السرائر قائلا: «وأقلّ ما يجزئ من الماء في الأعضاء المغسولة ما يكون غاسلا وإن كان مثل الدهن بفتح الدال بعد أن يكون جاريا على العضو وإلّا فلا يجزئه لأنّه يكون ماسحا، وفي اصحابنا من أطلق الدهن من غير تقييد بالجريان وقيده بذلك في كتاب آخر له، والصحيح تقييده لأنّه موافق للبيان الّذي أنزل به القرآن»(2) وعن الروض

ص: 482


1- المقنعة: 53، النهاية 231:1.
2- السرائر 100:1.

والأنوار القمريّة أنّه في اللغة إجراء الماء على الشيء على وجه التنظيف والتحسين وإزالة الوسخ ونحوها، والمراد به هنا ما يحصل معه الجريان على جميع أجزاء ما يجب غسله، وأقلّه أن يجري جزء من الماء على جزئين من البشرة ولو بمعاون، وعن المدارك في مبحث الغسل «قد قطع الأصحاب بأنّه إنّما يتحقّق مع جريان الماء على البشرة ولو بمعاون»(1) وفي لمجمع «غسل الشيء إزالة الوسخ ونحوه بإجراء الماء عليه»(2) وممّا يفصح عنه أيضا قرينة المقابلة بينه وبين المسح في النصّ آية ورواية، فإنّ ما لا جريان فيه من الدهن مسح واتّحد معه الغسل بالفرض وهو واضح البطلان فتأمّل، وفي رواية محمّد بن مروان قال: «قال أبو عبداللّه عليه السلام: إنّه يأتي على الرجل ستون وسبعون سنة ما قبل الله منه صلاة قلت: كيف ذاك! قال: لأنّه يغسل ما أمر الله بمسحه»(3).

وأمّا الجهة الثانية: فقد يتوهّم الدلالة على سقوط اعتبار الجريان من روايات الدهن، ففي صحيحة أو حسنة زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّما الوضوء حدّ من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه، وأن المؤمن لا ينجّسه شيء، وإنّما يكفيه مثل الدهن»(4) وصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده والماء أوسع من ذلك»(5) وموثقة زرارة في غسل الجنابة قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن غسل الجنابة، قال: افض على رأسك ثلاث أكف وعن يمينك وعن يسارك إنّما يكفيك مثل الدهن»(6) قال شارح الدروس:

«والدهن إمّا من الأدهان بمعنى الإطلاء بالدهن أو من دهين المطر الأرض إذا بلّها يسيرا، وعلى التقديرين فالظاهر أنه لا جريان فيه»(7).

أقول: الإنصاف أنّ هذه الروايات وما بمعناها واردة في سياق التشبيه، ولا تعرّض فيها للجريان بإثبات ولا نفي، والمشبّه به وإن كان لا يعتبر فيه الجريان إلّا أن التشبيه

ص: 483


1- المدارك 291:1.
2- مجمع البحرين 343:5 مادة «غسل».
3- الوسائل 418:1 الباب 25 من أبواب الوضوء ح 2.
4- الوسائل 484:1 الباب 52 من ابواب الوضوء ح 1.
5- الوسائل 391:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 7.
6- الوسائل 241:2 الباب 31 من أبواب الجنابة ح 6.
7- مشارق الشموس: 107.

لا يقتضي إلّا المشاركة فيما سيق لبيانه الكلام، وليس إلّا نفي الحاجة إلى تكثير الماء حسبما يحتاج إليه في إزالة النجاسة، ولذا قال في الحسنة: «وأنّ المؤمن لا ينجّسه شيء».

وملخّص معناها: أنّ المقصود من غسل الوضوء ليس هو إزالة النجاسة المتضمّنة لاعتبار زوال العين وانفصال الغسالة، بل المقصود ما هو المقصود من الدهن وهو إيصال الدهن إلى جميع العضو، ولا ريب أنّه يحصل في الوضوء بالماء القليل أيضا، ويتأكد إرادة هذا المعنى بملاحظة الصحيحة الثانية فإنّ مقتضي أو سعيّة الماء أن يكون قليله كافيا في بلّ العضو كلّه، ما أنّ قليل الدهن وهو مقدار الراحة منه كاف في ذلك من حيث إنّه يملأ به الجسد كلّة.

وممّا يكشف عن عدم كون المراد من هذه الأخبار وغيرها ما ينافي دليل اعتبار الجريان في الغسل مفهوما أو معه في وضع الحكم الشرعي موثقة إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله عليه السلام «إنّ عليا عليه السلام كان يقول: الغسل من الجنابة والوضوء يجزئ منه ما أجزأ من الدهن الّذي يبلّ الجسد»(1) فإنّها تنهض قرينة على أنّ المراد من الدهن في هذه الأخبار ما يتضمّن الجريان، ولو سلّم فلا أقلّ من كونه القدر المتيقّن ممّا اريد من مساقها.

وأمّا الجهة الثالثة: فالحقّ أن هاهنا روايات دالّة بظاهرها منطوقا ومفهوما على اعتبار الجريان ولو في موضوع الحكم.

منها: الموثقة المتقدّمة، ومنها: صحيحة محمّد بن بمسلم عن أحدهما قال: «سألته عن غسل الجنابة ؟ فقال: تبدأ بكفّيك فتغسلهما، ثمّ تغسل فرجك، ثمّ تصبّ على رأسك ثلاثا، ثمّ تصبّ على سائر جسدك مرّتين، فما جرى عليه الماء فقد طهر»(2).

ومنها: صحيحة زرارة الواردة في الغسل أيضا المتضمّنة لقوله عليه السلام: «فما جرى عليه الماء فقد أجزأه»(3).

ومنها: حسنة أو صحيحة زراة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكتيره فقد أجزأه»(4).

ص: 484


1- الوسائل 485:1 الباب 52 من أبواب الوضوء ح 5.
2- الوسائل 239:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 1 و 2.
3- الوسائل 239:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 1 و 2.
4- الوسائل 24.:2 الباب 31 من أبواب الجنابة ح 3.

ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام بعد سؤاله عن حدّ الوجه قال: «قلت له:

أرأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال: كلّما أحاط به من الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه، ولكن يجري عليه الماء»(1) وهذه الروايات وإن اختصّ أكثرها بالغسل إلّا أنّ ظاهرهم الاتّفاق على عدم الفرق في هذا الحكم بينه وبين الوضوء.

فعلم بجميع ما ذكر أنّ الأدلّة المتعلّقة بالمقام على ثلاثة أنواع، أحدها: ما هو آمر بالّغسل، وثانيها: ما هو مجوّز للاكتفاء بنحو ما في الدهن فيه، وثالثها: ما هو دالّ بظهوره على اعتبار الجريان، وهذه الأنواع كما ترى لا تعارض بينها أصلا بل بعضها يعاضد بعضا ويؤكده، إذ النوع الأوّل إن قلنا بظهوره في اعتبار الجريان وقلنا بإطلاقه في هذا الظهور بالنسبة إلى محلّ البحث أيضا وهو الجريان بنحو الدهن - على معنى عدم انصرافه إلى غيره كما يظهر من غير واحد - كان كلّ من النوعين الأخيرين تأكيدا له، هذا في إفادته اعتبار الجريان وذاك في إفادته جواز الاكتفاء بما في نحو الدهن.

وإن قلنا بعدم ظهور الأوّل في اعتبار الجريان كما سبق إلى بعض الأوهام كان النوع الثاني تأكيدا له في بعض ما أفاده بإطلاقه، والنوع الثالث بيانا له بكشفه عن خروج بعض ما كان يتناوله إطلاقه عن حقيقة المراد، ومرجعه إلى تقييده بالجريان، كما أنّ الثاني بالقياس إلى الثالث ينهض حاكما عليه بكشفه عن كون المراد بالجريان فيه ما يعمّ نحو ما في ضمن الدهن، وإن قصر هو عن إفادة هذا العموم من جهة الانصراف إلى غير هذا النحو من الجريان، ومرجعه إلى بيان الفرد الخفيّ للجريان.

وإن قلنا بانصراف الأوّل مع ظهوره في اعتبار الجريان إلى غير محلّ البحث وهو الجريان المستتبع للانفصال كما هو الأظهر كان النوع الثالث تأكيدا له والثاني حاكما عليه بكشفه عن كون المراد من الغسل ما يعمّ فرده الخفيّ ، وهو ما يحصل بطريق الدهن.

فظهر أنّ الأقوى على كلّ تقدير هو المشهور المنصور من اشتراط الجريان في الغسل مطلقا ولو بنحو ما يتحقّق في الدهن. وهذا ممّا لا منافي له في الأخبار عدى ما توهّم من قوله عليه السلام في صحيحة زرارة في الوضوء «إذا مسّ جلدك الماء فحسبك»(2)

ص: 485


1- الوسائل 476:1 الباب 46 من ابواب الوضوء ح 3.
2- الوسائل 485:1 الباب 52 من أبواب الوضوء ح 3.

وما في صحيحة ابن سنان من قول أبي عبداللّه عليه السلام «اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء، فقال أبي عليه السلام: ما كان عليك لو سكتت، ثمّ مسح تلك اللمعة»(1).

وفيه: أنّهما مع عدم مقاومتهما لما مرّ من جهة القلّة وإعراض الأصحاب عنهما غير دالّين على المنافي، فإنّ الصحيحة الأولى على ما يساعد عليه الانصاف مسوقة في سياق روايات الدهن، فيراد منه نفي اعتبار التكثير في الماء على نحو ما هو معتبر في إزالة النجاسة، هذا مع احتمال كونها لرفع توهّم وجوب الدلك في تحقّق الغسل، كما ذكره الفاضل(2) والصحيحة الثانية ليست نصّا ولا ظاهرة في عدم تحقّق الجريان في ضمن المسح، لجواز أن يكون على يده عليه السلام من البلّة الباقية أو على غير اللمعة من جسده من القطرات المتخلّفة ما تحقّق معه بواسطة للمسح الذي شاهده الراوي نحو جريان، وكان عليه السلام قد قصد الغسل بذلك المسح المتضمّن لذلك الجريان اكتفاء بمسمّى الغسل، وعلى تسليم الدلالة فيهما فلا إشكال في أنّها في مقابلة ما سبق أضعف فلا يلتفت اليها.

وأمّا التفصيل المتقدّم فمع ما عرفت من بطلانه في نفسه لا مستند له ولا دليل يعتمد عليه، ويمكن الاستناد له إلى أنّه طريق جمع بين ما دلّ على اعتبار الجريان وما دلّ على كفاية الدهن، ويندفع بعدم التعارض بينهما حسبما بينّاه، وقد يحتمل كون مستنده صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «اسبغ الوضوء إن وجدت ماء، وإلّا فإنّه يكفيك اليسير»(3).

وفيه: منع ظهورها في القول المذكور لقوّة احتمال كونه تفصيلا بين قسمي الجريان، ومرجعه إلى الفرق بينهما في الأفضليّة، فيكون الضرورة المفروضة جهة للعدول عن الأفضل إلى غيره، وربّما يحمل كلام الشيخين على ذلك أيضا كما عن الذكرى(4) إلّا أنّ عبارتهما الآتية لا تتحمّله، فعلى ما ذكرنا يتعيّن العدول في مقام الضرورة المفوّتة لمراعاة الجريان لعوز الماء ونحوه إلى التيمّم، وإن كان الأحوط الجمع

ص: 486


1- الوسائل 259:2 الباب 41 من أبواب الجنابة ح 1.
2- كشف اللثام 526:1.
3- الوسائل 485:1 الباب 52 من أبواب الوضوء ح 4.
4- الذكرى 130:1.

بينه وبين استعمال الماء بالطريق المفروض، ولا يذهب عليك أنّ تعين العدول في نحو الصورة المفروضة إلى التيمّم ممّا لا (يأباه) المحكى عن الشيخين، بل يقتضي بظاهر ما فيه من فرض الضرورة بالنسبة إلى الماء والتراب معا فلا ينطبق على التفصيل، لأنّ عبارة النهاية وكذا المقنعة على ما نقله السيّد قدس سره في مفتاح الكرامة هكذا «وإذا حصل الإنسان في أرض ثلج ولا يقدر على الماء ولا على التراب، فليضع يديه جميعا على الثلج باعتماد حتّى يتنديا، ثمّ يمسح وجهه من قصاص شعر رأسه إلى محادر شعر ذقنه مثل الدهن»(1) وهذا كما ترى من فروع مسألة التمسّح بالثلج ولها محلّ آخر، ومقتضى قولهما «ولا على التراب» عدم الاجتزاء بالتمسّح مع القدرة على التراب، فليتدبّر.

ثمّ عن ابن الجنيد وجوب الدلك وإمرار اليد لاشتمال الوضوء البياني عليه، والمشهور على ما في كلام غير واحد عدمه لصدق الغسل بدونه، وعن الناصريّات دعوى الإجماع على عدم وجوبه(2) وعن المنتهى «إمرار اليد ليس بواجب في الطهارتين لكنّه مستحب وهو مذهب أهل البيت»(3) وعن المعتبر في باب الغسل «أنّ إمرار اليد على الجسد مستحبّ ، وهو اختيار فقهاء أهل البيت»(4) ويمكن الاستدلال عليه أيضا بظهور ما تقدّم من أخبار الجريان، فهذا هو المعتمد ما لم يتوقّف عليه الجريان المأمور به أو الحلم بوصول الماء إلى جميع العضو، وإلّا فيجب تحقيقا للجريان أو تحصيلا ليقين الوصول.

وقد يفرّع عليه جواز غمس الأعضاء في الماء، وفيه إشكال لمكان التأمّل في تناول النصّ والفتوى لمثله. وقد يستشكل أيضا من جهة استلزام الغمس للمسح بالماء المستأنف كما عن السيد جمال الدين بن طاووس، ودفع تارة بأنّ ذلك لا يسمّى في العرف استينافا كما في الذخيرة(5) واخرى باعتبار النيّة فينوي الغسل بالخروج أو بالدخول والخروج معا كما في كلام بعض مشايخنا، ثمّ قال: «والأحوط ترك غمس المقدار الّذي يمسح به».

المقام الثاني: المعروف في تحديد الوجه أنّه من قصاص شعر الرأس إلى محادر

ص: 487


1- مفتاح الكرامة 368:2.
2- الناصريات 221.
3- المنتهى 207:2.
4- المعتبر 185:1.
5- الذخيرة: 26.

شعر الذقن طولا، وما اشتمل عليه الإبهام والوسطى عرضا، بل عن الخلاف والغنية والمدارك(1) وغيرها نقل الإجماع عليه، وعن الذكرى: «هذا هو القدر الذي رواه المسلمون ورواه الأصحاب»(2) وفي المعتبر كما عن المنتهى «هو مذهب أهل البيت»(3).

والأصل فيه صحيحة زرارة أنّه قال لأبي جعفر الباقر عليه السلام: «اخبرني عن حدّ الوجه الّذي ينبغي أن يوضّأ الّذي قال الله عزّ و جلّ؟ فقال: الوجه الّذي قال الله وأمر الله عزّ و جلّ يغسله، الّذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه، إن زاد عليه لم يوجر وإن نقص منه أثم، ما دارت عليه الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، وما جرت عليه الإصبعان مستديرا فهو من الوجه، وما سوى ذلك فليس من الوجه، فقال له: الصدغ من الوجه ؟ فقال: لا»(4) هذا على ما عن الفقيه، وكذا ما عن الكافي والتهذيب إلّا أنّ فيهما «ما دارت عليه السبّابة والوسطى والإبهام» ولعلّه لا ينافي ما في الفقيه نظرا إلى أنّ التحديد بالوسطى يستلزم غالبا انضمام السبّابة إليها، فالاعتبار إنّما هو بالوسطى وإن قصرت عنها السبّابة في الغالب وإلّا في اعتبار انضمام الزائد.

واحتمال كون ذكرهما على التخيير لا يستقيم إلّا على تقدير صرف «الواو» عن ظاهرها وهو كما ترى.

والقصاص لغة باعتبار اللفظ مثلّث القاف والضمّ أفصح، وباعتبار المعنى حبث ينتهي إليه نبت الشعر من مقدّمه أو مؤخّره أو حواليه، لكن المراد به هنا المقدّم خاصّة، لكن لا مطلقا بل مقيدا بما يخرج عنه النزعتين وهما البياضان المكتنفان للناصية، ولذا فسّره الفقهاء بمنتهى منبت الشعر عند الناصية، وفي كشف اللثام: «وهو عند انتهاء استدارة الرأس وابتداء تسطيح الجبهة» ثمّ قال: «فالنزعتان من الرأس»(5) وكان نظره قدس سره إلى الغالب وإلّا فقد ينتهي نبات الشعر قبل انتهاء الاستدارة. وأمّا تفسيره «بأنّه يأخذ من كلّ جانب من الناصية ويرتفع عن النزعة، ثمّ ينحطّ (ينحدر) إلى مواضع التحذيف ويمرّ فوق الصدغ ويتّصل بالعذار» كما في المجمع وغيره، فإنّما يصلح إذا اريد

ص: 488


1- الخلاف 76:1، الغنية: 54، المدارك 197:1.
2- الذكرى 119:1.
3- المعتبر 141:1، المنتهى 21:2.
4- الوسائل 403:1 الباب 17 من ابواب الوضوء ح 1.
5- كشف اللثام 526:1.

بالقصاص المقدّم المطلق، ولا يصحّ إلّا في غير المقام.

وبذلك كلّه يعلم مبنى ورود ما اعترضه البهائي فيما يأتي على المشهور في استنباط ما ذهبوا إليه من الرواية من استلزامه دخول النزعتين والصدغين في التحديد المذكور مع أنهم لا يقولون به... الخ، ومدفعه، فإنّ ذلك إنّما يلزم على التفسير الأخير كما فسّره هو قدس سره به في كلام محكيّ له عن الحبل المتين(1) لا على تفسير الفقهاء كما هو واضح.

نعم إنما يبقى عليهم مسألة أنّه ما الداعي إلى التزامهم بهذا التفسير مع أنّ الوارد في الرواية هو القصاص بقول مطلق، غاية ما هنالك صرفه بقرينة السياق من حيث ورودها في تحديد الوجه، وقرينة مقابلة الذقن المجعول منتهى للحدّ وهو مجمع اللحيين اللذين يثبت عليهما الأسنان السفلى إلى إرادة المقدّم، وأمّا أنّ المراد منه المقدّم الخاصّ المخرج عنه النزعتان وغيرهما فلابدّ له من قرينة أخرى لعلّها غير موجودة في المقام.

ويمكن الذبّ عنها إمّا بأنّ ذلك هو المتبادر المنساق من نحو هذه العبارة عرفا، أو لأنّ الجواب إنّما ورد على طبق السؤال، وإنّما وقع السؤال عن موضع الاشتباه ممّا يظنّه الناس من الوجه، ولا اشتباه في غير هذا الموضع الّذي منه ما ارتفع عن النزعتين من حيث كونه من الرأس. ومن هنا قال في الذخيرة: «جعل الموافق والمخالف مبدء الوجه مبدء التسطيح، حتّى أنّهم جعلوا الدخول فيه والخروج عنه ضابطا في هذا الباب»(2)ولا ريب أنّ النزعة داخلة في التدوير فوق التسطيح فلا ينبغي أن يظنّ كونه من الوجه، أو يقال: إنّ الابتداء في التحديد بالقصاص لمنتهى هو الذقن ينهض شاهدا بكون الضابط في الحدّ إنّما هو ما يحاذي الذقن من المقدّم لا مطلقا، فيعتبر تمام الحدّ عرضا منه بفرضه مبدء الخطّين مستقيمين يمينا ويسارا، طولهما طول الإصبعين الإبهام والوسطى، فتبقى النزعتان خارجتين عن الخطّ، أو لأنّ الإصبعين إذا وضعتا على آخر منابت الشعر من المقدّم، وهو ما يحاذي الذقن على ما هو المتبادر من النصّ ومعقد الإجماع لا تشتملان على النزعتين، وستعرف أنّ هذا أيضا عندهم ضابط دخول ما دخل في الحدّ، وخروج ما خرج عنه كما هو ظاهر الرواية، بل صريحها من حيث

ص: 489


1- الحبل المتين 69:1.
2- الذخيرة: 22.

ورودها لإناطة معرفة الوجه بما اشتمل عليه الإصبعان.

وملخّص ما استفاده الأصحاب من الرواية، أنّ الوجه بمقتضي ظاهر الرواية له حدّان: عرضي وهو ما اشتملت عليه الابهام والوسطى، وطولي وهو من قصاص الشعر أي منتهى شعر الناصية إلى الذقن، قال البهائي في كلام محكيّ له عن الحبل المتين:

«والأصحاب حملوها على أنّ قوله عليه السلام: «ما دارت عليه الإبهام والوسطى» بيان لعرض الوجه، وقوله عليه السلام: «من قصاص الشعر إلى الذقن» بيان لطوله، وقوله عليه السلام: «وما جرت عليه الاصبعان» تأكيد لبيان العرض(1) انتهى.

ولا يذهب عليك أنّ إطلاق الطول على هذا التحديد ليس مبناه على كون الخطّ الطولي المنطبق على الوجه المخرج من وسط مبدء الناعجة إلى الذقن أطول من الخطّ العرضي، فإنّ الخطّين على ما يشهد به المسّ واعترف به غير واحد قد يتساويان وقد يتخالفان، وقد يكون الخطّ الطولي أقصر من العرضي، بل مبناه على قامة الإنسان فطول الوجه إنّما هو بالقياس إلى القامة الّتي هي في الإنسان مقدار طولي، وكيف كان فأورد عليه البهائي: «بإنّه متى جعل الحدّ الطولي من القصاص الذي هو عبارة عن منابت الشعر من المقدّم - والحال أنّ منتهى منابت الشعر يأخذ من كلّ جانب من الناصية ويرتفع عن النزعة، ثمّ ينحدر إلى مواضع التحذيف ويمرّ فوق الصدغ حتّى يتصّل بالعذار - لزم دخول النزعتين والصدغين في التحديد المذكور مع أنّه لا يقولون به، وخروج العذارين مع أنّ بعضهم أدخله وكيف يصدر مثل هذا التحديد الظاهر القصور الموجب لهذا الاختلاف عنهم عليهما السلام».

ثمّ اختار لنفسه مسلكا آخر، ملخّصه: أنّ الوجه طوله وعرضه مقدار واحد، يضبطه تقاطع خطّين متساويين كلّ منهما قطر دائرة مجموع سطحهما مجموع الوجه، وتحليله:

أن كلّا من طول الوجه وعرضه ما اشتمل عليه الإبهام والوسطى، بمعنى أنّ الخطّ الواصل من القصاص إلى طرف الذقن - وهو مقدار ما بين الإصبعين غالبا - إذا فرض ثبات وسطه وأدير على نفسه. ليحصل شبه دائرة فذلك القدر هو الوجه الّذي يجب غسله.

ص: 490


1- الحبل المتين: 14.

واستدلّ عليه بأنّ الجارّ والمجرور في قول عليه السلام: «من قصاص شعر الرأس» إمّا متعلّق بقوله «دارت» أو صفة مصدر محذوف، والمعنى: أنّ الدوران يبتدئ من القصاص منتهيا إلى الذقن. وإمّا حال من الموصول الواقع خبرا عن الوجه. وهو لفظة «ما» ان جوّزنا الحال عن الخبر. والمعنى: أنّ الوجه هو القدر الّذي دارت عليه الإصبعان حال كونه من القصاص إلى الذقن، فإذا وضع طرف الوسطى مثلا على قصاص الناصية، وطرف الإبهام على طرف الذقن، ثمّ أثبت وسط انفراجهما ودار طرف الوسطى مثلا على الجانب الأيسر إلى أسفل دار طرف الابهام على الجانب الأيمن إلى فوق، وتمت الدائرة المستفادة من قوله عليه السلام «مستديرا» وتحقّق ما نطق به قوله عليه السلام: «ما جرى عليه الإصبعان مستديرا فهو من الوجه».

وبهذا يظهر أنّ كلّا من طول الوجه وعرضه قطر من أقطار تلك الدائرة من غير تفاوت، ويتّضح خروج النزعتين والصدغين عن الوجه وعدم دخولهما في التحديد انتهى.(1) هذا على ما حكي عن الحبل المتين.

وفي معناه مع زيادة توضيح كلامه في أربعينه قائلا: «والّذي يظهر لي من الرواية أنّ كلّا من طول الوجه وعرضه هو ما اشتمل عليه الإصبعان، بمعنى أنّ الخطّ المتوهّم من القصاص إلى طرف الذقن وهو الّذي يشتمل عليه الإصبعان غالبا إذا أثبت وسطه وادير على نفسه حتّى يحصل شبه دائرة، فذلك القدر هو الّذي يجب غسله، بيان ذلك أنّ قوله عليه السلام «من قصاص الشعر» إمّا حال من الموصول الواقع خبرا عن الوجه وهو «ما» والمعنى: أنّ الوجه هو القدر الّذي دارت عليه الإصبعان حال كونه من قصاص الشعر إلى الذقن، وإمّا متعلّق ب - «دارت، والمعنى: أن الدوران يبتدئ من قصاص الشعر منتهيا إلى الذقن، ولا ريب أنّه إذا اعتبرت الدوران على هذه الصفة للوسطى اعتبر للابهام عكسه تتميما للدائرة المستفادة من قوله عليه السلام «مستديرا» فاكتفى عليه السلام بذكر أحدهما عن الاخر، وأوضحه بقوله عليه السلام «وما جرت عليه الإصبعان مستديرا فهو من الوجه» فقوله: «مستدبرا» حال من المبتدا، وهذا صريح في أنّ كلّا من طول الوجه

ص: 491


1- الحبل المتين 71:1.

وعرضه شيء واحد هو ما اشتمل عليه الإصبعان عند دورانهما كما ذكرناه، وحينئذ فيستقيم التحديد ولا يدخل فيه مواضع التحذيف ولا الصدغان، لأنّ أغلب الناس إذا طبق الخطّ المتوهّم من انفراج الإبهام والوسطى ما بين قصاص ناصيته إلى طرف ذقنه وأداره مثبتا وسطه ليحصل شبه الدائرة وقعت مواضع التحذيف والصدغين خارجة عنها، فالتحديد المشهور يزيد على ما فهمناه من الرواية بنصف تفاضل ما بين مربع معمول على دائرة قطرها انفراج الإصبعين، وتلك الدائرة أعني مثلّثين يحيط بكلّ منهما خطّان مستقيمان وقوس من تلك الدائرة، ومواضع التحذيف والصدغان واقعان في هذين المثلّثين»(1) انتهى.

وفي كلام غير واحد أنه تبعه على ذلك تلميذه المحدّث الكاشاني(2) وفي الحدائق(3) أنّه تلقّاه بالقبول جماعة من الفحول، بل عنه في بعض حواشيه أنّ هذا يستفاد من كلام بعض أصحابنا المتقدّمين، فإنّهم حدّدوا الوجه بما حواه الإبهام والوسطى ولم يخصّوا ذلك بالعرض كما فعله المتأخّرون.

أقول: الأظهر في معنى الرواية ما فهمه الأصحاب، ولا ينافيه كون الجارّ متعلّقا ب - «دارات» أو صفة للمصدر أو حالا لكن للضمير المجرور العائد إلى الخبر لا لنفس الخبر كما لا يخفى، كما لا ينافيه أيضا مفهوم لفظ «دارت» بمادّته، إذ ليس المراد بالدوران على ما ينساق منه عرفا ما يحدث به الدائرة، بل هو عبارة عن الحركة حول الشيء وهو صادق على ما فهموه، ولا مفهوم قوله «مستديرا» الظاهر في كونه صفة للمصدر أي جريانا مستديرا، واريد منه ما يحترز به عن الجريان المستقيم المستلزم لحدوث مربّع خرج عنه الذقن أو دخل فيه شيء ممّا ليس من اللحيين، فيجب غسل شيء ممّا تحتهما تتميما للمربّع المتوهّم. والموصول في هذه الفقرة إمّا كناية عن المعنى الجنسي أو عن العموم المجموعي، على معنى كون مجموع ما جرى عليه الإصبعان من الوجه، أو عن العموم الاستغراقي على معنى كون كلّ واحد ممّا جرى عليه الإصبعان من الوجه، والأوّلان لا يلائمان لفظة «من» الظاهرة في التبعيض، وإلّا كان ما حدّه عليه السلام

ص: 492


1- الأربعين 29.
2- مفاتيح الشرايع 44:1.
3- الحدائق 228:2.

بعض الوجه، وهو كما ترى خلاف ظاهر الرواية بل صريحها، ومع هذا يوافق مذهب العامّة، فإنّ المحكيّ عن فقهائهم عدا مالك أنّ حدّ الوجه عرضا من وتد الأذن إلى وتد الاذن لحصول المواجهة به من الأمر، فتعيّن الثالث ومفاده بمقتضى مفهوم الشرط أنّ كلّما لم يجر عليه الإصبعان فهو ليس من الوجه، وقد نطق بذلك المفهوم أيضا بقوله عليه السلام: وما سوى ذلك فليس من الوجه».

وأمّا الإيراد المتقدّم فقد عرفت ما يدفعه. وأمّا المعنى الّذي استنبطه البهائي فمع بعده عن متفاهم العرف الّذي ورد على طبقه خطابات الشرع وبياناته، يدفعه أوّلا: أنّ ما يحدث بمرور الإصبعين ليس هو الداثرة في الحقيقة، بل هو على ما يرشد إليه الحسّ أشبه بمثلّث غير مستقيمة الأضلاع، لكون محيطيه قوسين وتره قوس آخر من أعلى الوجه، ولعلّه لذا عبّر عنه بشبه الدائرة.

وثانيا: أنّ ظاهر الرواية كون ابتداء دوران الإصبعين معا من القصاص، وقضيّة ما ذكراه كون كلّ من القصاص والذقن مبدأ و منتهيا كلّ لنصف الدائرة، فيكون ابتداء أحد النصفين من القصاص وانتهاؤه إلى الذقن والنصف الآخر بالعكس.

وثالثا: ما أشرنا إليه من أن مقدار الطول غالبا يخالف مقدار العرض، بل قد يقال:

إنّ الغالب أنّ ما بين القصاص إلى الذقن يقصر عمّا بين الإصبعين كما أشار إليه في الذخيرة(1) أيضا، فبطل به قوله المتقدّم «من أنّ كلّا من طول الوجه وعرضه شيء واحد» إلّا وان يلتزم بإخراج بعض الوجه عن الحدّ، وهو كما ترى.

ورابعا: أنّ اعتبار الدائرة على الوجه المذكور يوجب خروج شيء من الجبهة وبعض الجبينين أيضا، كما صرّح به في الذخيرة. بل وجزء من اللحيين من الطرف الأسفل أيضا، أمّا الأوّل: فلأنّ خط الجبهة مستقيم أو متحدّب بأقلّ من تحديب القوس المتوهّم عليها من الدائرة المفروضة، وأمّا الثاني: فلأنّ القصاص لا ينطبق من هذه الدائرة إلّا جزء منها على النقطه المحاذية منه لنقطة الذقن، ضرورة أنّ الخطّ المتوهّم المتّصل ابتداؤه بالموضع المذكور من القصاص كلّما اخذ بالتحدّب يتباعد عن منبت

ص: 493


1- الذخيرة: 26.

الشعر. وكلّحا زاد تحدّبا زاد بعدا، وكلّما زاد بعدا خرج عنه شيء من الجبينين حتّى ينتهي الخط إلى ما يقرب من العذار والعارض.

وأمّا الثالث: فلأنّ اللحيين وإن كانا متحدّبين إلّا أنّ القوس الواقع عليهما من أسفل الدائرة أزيد تحدّبا منهما، فلا جرم يخرج منهما شيء من الأسفل خاصّة أو منه ومن الأعلى معا كما يعلم بالتامّل، وقد أورد عليه بوجوه كثيرة أخر لا جدوى في التعرّض لها ولما فيها.

ثمّ إنّ هاهنا مواضع تكلّم فيها الأصحاب من حيث غسلها والعدم باعتبار الشبهة في دخولها في الوجه وخروجها عنه.

فمنها: مواضع التحذيف وهو ما بين الصدغ والنزغة من منابت الشعر الخفيف الّذي يتّصل بالرأس كما مي الذخيرة(1) وغيره، وعزي إلى جماعة، وإنّما سمّيت به لكثرة ما في النساء والمترفين من حذف الشعر منها، ففي حاشية الشرائح(2) أنّها من الوجه فيجب غسلها كما عن الروضة والمسالك والمدارك وشرح المفاتيح(3) وغيرها، بل عن شرح المفاتيح «أنّ ذلك هو المعروف من الفقهاء» وعن الذكرى والمقاصد العليّة «أن غسلهما أحوط»(4) وفي التذكرة «أنّه ليس من الوجه لنبات الشعر عليه فهو من الرأس»(5) والأقوى الأوّل لعموم ما جرى عليه الإصبعان ولو بقى منه ما خرج عن الإصبعين فالأظهر عدم وجوب غسله لعموم ما سوى ذلك فلا محلّ للاحتياط.

ومنها: الصدغ، وفي تفسيره عبارات فعن بعض أهل اللغة أنّه ما بين العين والاذن، وفي المجمع ما بين لحظ العين إلى أصل الاذن، ويسمّى الشعر المتدلّي عليه أيضا صدغا(6) وعن القاموس ما بين الاذن والعين والشعر المتدلّي على هذا الموضع(7)ونحوه ما عن الصحاح(8) وعن المنتهى «الشعر الّذي بعد انتهاء العذار المحاذي لرأس الأذن وينزل عن رأسها قليلا»(9) وفي معناه ما عن الذكرى وحاشية الشرائع وجامع

ص: 494


1- الذخيرة: 26.
2- حاشية الشرائع (حياة المحقّق الكركي وآثاره ج 10):46.
3- الروضة 323:1، المسالك 35:1، المدارك 199:1، مصابيح الظلام 278:3.
4- الذكرى 123:1، المقاصد العليّة: 87.
5- التذكرة 153:1.
6- مجمع البحرين 13:5.
7- القاموس 109:3.
8- الصحاح 1323:4.
9- المنتهى 24:2.

المقاصد(1) وغيره، وعن حاشية الفقيه لمولانا ملّا مراد، هو الشعر المتدلّي بين العين والاذن أو منبت ذلك الشعر دون مجموع ما بين العين والأذن(2) وعن شرح المفاتيح «وهذا الشعر هو الّذي يقال بالفارسيّة «زلف» ومنه قول الشاعر: صدغ الحبيب وحالي كلاهما كالليالي»(3).

ويمكن الّجمع بين هذه الكلمات بإرجاع الأوّل إلى ما عن الفقهاء حملا للموصول على إرادة الشعر المذكور أو موضعه كما يقتضيه ظاهر ما عرفته عن المجمع، بناء على أنّ الشعر إنّما يتدلّى على الموضع الخاصّ لا على مجموع ما بين العين والاذن، فلا اختلاف حينئذ بين أهل اللغة والفقهاء في تفسيره كما قد يتوهّم، ويؤيّد الإرجاع المذكور أيضا نصّ الرواية من حيث إن هذا الشعر أو موضعه ربّما يشتبه الحال فيه وأمّا ما عداه فهو معلوم الدخول في الوجه فلا يسأل عنه ولا يحكم عليه بأنّه ليس من الوجه، مع أنّه الّذي لا يبلغه الإصبعان في الغالب فتفسير الفقهاء وارد على طبق ما أريد من النصّ ، كما أنّ النصّ وارد على طبق العرف واللغة.

نعم مقتضي الكلمات المذكورة أنّه مقول بالاشتراك بين الشعر المتدلّي وموضعه فلا إشكال فيه موضوعا وكذلك حكما بمقتضي النصّ ، وخروجه عن الاصبعين غالبا فلا يجب غسله وفاقا للأكثر بل في الحدائق «أنّه المشهور»(4) وفي الذخيرة «هو مذهب جمهور العلماء»(5) وقيل إنّه إجماعي، وعن البحار(6) دعوي الإجماع عليه خلافا للرا(7) وندي الّذاهب في ظاهر الأحكام على ما حكي إلى غسل الصدغين، ولعلّه بناء على تفسير الصدغ بمطلق ما بين العين والاذن مع كون المراد بغسلهما وجوبه على وجه الإيجاب الجزئي أي بعضه، فيعود الخلاف لفظيّا.

ومنها: العذار وهو المحاذي للاذن يتّصل أعلاه بالصدغ وأسفله بالعارض، كما في حاشية الشرائع(8) وفي الذخيرة «وهو النابت على العظم الناتى الّذي هو سمت الصماخ

ص: 495


1- الذكرى 122:1، حاشية الشرائع (حياة المحقق الكركي وآثاره ج 10):47. جامع المقاصد 213:1.
2- نقله عنه في مفتاح الكرامة 373:2.
3- مصابيح الظلام 274:3.
4- الحدائق 229:2.
5- الذخيرة: 26.
6- البحار 80:81.
7- فقه القرآن 13:1.
8- حاشية الشرائع (حياة المحقّق الكركي و آثاره ج 10):47.

وما انحطّ عنه إلى وتد الاذن»(1) ففي دخوله في الوجه وخروجه عنه خلاف وإن كان المشهور على ما في الحدائق خروجه(2) وفي التذكرة «أنّه ليس من الوجه عندنا خلافا للشافعي»(3) وظاهره إجماع أصحابنا عليه.

لكن في حاشية الشرائع «وفي وجوب غسله قوّة» ونسب الدخول أيضا إلى المسالك والروضة(4) وعن الذكري والدروس والمقاصد العليّة أنّ غسله أحوط(5)وعزي الدخول إلى صريح. المبسوط والخلاف والمرتضى(6) وجدّه الناصر وظاهر الإسكافي(7) ومنهم من فصّل فأدخل بعضه وهو الّذي يشمله الإصبعان وأخرج البعض الآخر وهو الّذي لا يشملان، كما في شرج الدروس(8) ونسب إلى الرياض(9) أيضا، بل الأوّل نزّل ما عرفته من القولين إلى هذا التفصيل تمسّكا بكونه الذي يشعر به تتبّع كلماتهم، وكيف كان فالمسألة غير خالية عن الإشكال، والاحتياط فيه بالغسل لا ينبغي تركه، فإنّ مقتضي قاعدة الشغل في نحوه الوجوب.

وأما البياض الّذي فيما بين العذار والأذن فلا ينبغي التأمّل في خروجه عن الوجه، فلا يجب غسله بل لا نظنّ عن أصحابنا فيه قولا بالوجوب، بل ظاهر التذكرة اجماعهم عليه حيض قال: «لا يجب غسل ما بين الأذنين والعذار من البياض عندنا، وبه قال مالك وداود لأنّه ليس من الوجه، وقال الشافعي: يجب على الأمرد والملتحي، وقال أبو يوسف: يجب على الأمرد خاصّة»(10).

ومنها: العارض، وهو على ما في حاشية الشرائع ما على العظم الّذي عليه الأسنان السفلى(11) وعلى ما في الذخيرة «الشعر المنحط عن القدر المحاذي للاذن نابتا على اللحية إلى الذقن»(12) وفي معناهما غيرهما، قال في الحاشية: «ويجب غسله قطعا كما صرّح به في الذكرى(13) وعن أبي عليّ (14) والشهيدان(15) القطع بل عن المسالك نفي

ص: 496


1- الذخيرة: 26.
2- الحدائق 228:2.
3- التذكرة 152:1.
4- المسالك 36:1، الروضة 73:1.
5- الذكرى 122:1، الدروس 91:1، المقاعد العليّة: 87.
6- المبسوط 20:1، الخلاف 76:1، الناصريات: 16.
7- نقل عنه في الذكرى 122:1.
8- مشارق الشموس: 101.
9- الرياض 122:1.
10- التذكرة 152:1.
11- فوائد الشرائع: 10.
12- الذخيرة: 26.
13- الذكرى 122:1.
14- نقل عنه في الذكرى 123:1.
15- الدروس 91:1.

الخلاف عنه(1) لكن عن المنتهى القطع بخروجه من غير نقل خلاف(2) وعن النهاية القطع بخروج ما خرج منه عن إحاطة الإصبعين(3) وحكي هذا التفصيل عن المشكاة(4)أيضا، وربّما نسب إلى جماعة من المحقّقين، ودليل الدخول بلوغ الإصبعين فيدخل في تحديد الوجه الواجب غسله، وترد على ما عن المدارك بأنّ ذلك إنّما يعتبر في وسط التدوير من الوجه خاصّة، وإلّا لوجب غسل ما نالته الإبهام والوسطى وإن تجاوز العارض وهو باطل إجماعا(5) ويظهر ضعفه بملاحظة قيد المستدير الوارد في الرواية بالبيان المتقدّم منا فراجع وتأمّل. وعليه فالتفصيل متّجه عملا بنصّ الرواية، ومع تعذر الاستعلام ولو باعتبار اختلاف الأصابع والأيادي بالطول والقصر أو الكبر والصغر.

فالمتّجه غسل الجميع عملا بقاعدة الشغل.

ثمّ اعلم أنّ الحكم في غسل الوجه بمقتضى ظاهر الخطابات الّتي منها قوله تعالى:

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (6) معلّق على حقيقة الوجه، والمعتبر فيه بحكم ظاهر مقابلة «وُجُوهَكُمْ » من حيث إنّه صيغة جمع ل - «اغسلوا» من حيث إنه صيغة جمع أخرى المقتضية في نحوه التوزيع على ما هو قاعدة مقرّرة في محلّه بالنسبة إلى كلّ مكلّف وجه نفسه لا غير، كبيرا كان وجهه أو صغيرا أو متوسّطا بينهما.

ولا. بعقل فيه الرجوع إلى مستوى الخلقة بعد الفراغ عن تعيين حقيقة الوجه بمراجمة ما ورد فيه من ميزان كلّي وتحديد شرعي، وهو إدارة الإصبعين حسبما ورد في النصّ ، نظرا إلى ما أشرنا إليه من أنّه تحديد للوجه الواجب غسله لا لما وجب غسله من الوجه، فإن ساعد هذا الميزان على كون حقيقة الوجه هو ما دخل فيه العذاران والعارضان وجب مراعاة غسله كذلك في جميع الصور الثلاث المذكورة، كما أنّه إن ساعد على كونها ما خرج عنه العذاران مثلا وجب مراعاته في الغسل كذلك مطلقا من غير فرق بين الصور المذكورة، فهذا ممّا لا إشكال فيه.

نعم قد يقع الإشكال في تحقيق هذا الميزان نظرا إلى اختلاف الإصبعين في الطول والقصر، كاختلاف الوجوه في الصغر والكبر والمتوسّط بينهما، وهذا الاختلاف كما ترى

ص: 497


1- المسالك 36:1.
2- المنتهى 24:2.
3- نهاية الإحكام 36:1.
4- نقل عنه في مفتاح الكرامة 377:2.
5- المدارك 198:1.
6- المائدة: 6.

ممّا يفضي إلى اختلاف حقيقة الوجه بحسب الأشخاص بعد ملاحظة صور التسع المرتفعة من صور الوجه في صور الإصبعين، وإنّما يرد ذلك لو كان العبرة في التحديد بالنسبة إلى كلّ مكلّف بوجهه وإصبعيه، ولأجل ذلك خصّوا الحدّ بمستوى الخلقة وجها وإصبعا، وقالوا: بأنّ غيره يرجع إليه، فكبير الوجه أو صغيره يرجع إلى مستوى الخلقة وجها كما نصّ به جماعة، كما أنّ طويل الإصبعين أو قصيرهما يرجع إليه، ومعنى رجوع كبير الوجه أنّه يغسل من وجهه ما يغسله مستوى الخلقة، وكذا معنى رجوع صغير الوجه، كما حكي التصريح به عن الشهيد الثاني في المقاصد العليّة(1) والشيخ نجيب الدين في شرحه(2).

وهذا معنى ما عن الفاضل الميسي في حاشية الشرائع من قوله: «ومعنى رجوع كبير الوجه إلى مستوى الخلقة أنّه يغسل من عرض وجهه إلى منتهى العذارين والعارضين وإن لم تبلغهما أصابعه»(3) فإنّ ذلك بناء منه رحمه الله على كون العذارين والعارضين من الوجه لدخولهما في الحدّ بعد مراعاة التحديد بإصبعي مستوي الخلقة ووجهه.

ولا ينافي ما ذكرناه ما عن الهداية(4) من «أنّ العبرة بمستوى الخلقة في الحدّ دون المحدود، فيقدّر الأنزع والأغم وقصير الأصابع وطويلها وفاقد المرفق والكعب دون صغير الوجه وكبيره وطويل اليد والرجل وقصيريهما» فإنّ المراد بالمحدود هو الوجه الواجب غسله، وقد عرفت أنّه بالنسبة إلى كلّ مكلّف وجه نفسه فلا يعقل فيه الرجوع إلى غيره، وبالحدّ ما عين الميزان الشرعي كونه وجها ممّا دخل فيه العذاران والعارضان أو ما خرج عنه أحدهما، فإنّ المتعيّن في استعلامه الرجوع إلى مستوى الخلقة، وعلّل ذلك على ما في كلام جماعة منهم كاشف اللثام(5) ببناء الحدود الشرعيّة [على الغالب] فيحمل قوله عليه السلام: «ما دار عليه الوسطى والإبهام من قصاص الشعر إلى الذقن» على مستوى الخلقة وجها وإصبعا، ومرجعه إلى تقييد الرواية بذلك.

وقد يعلّل بانصراف المطلق إلى المتعارف الغالب، ثمّ يدّعى عدم جريان هذا

ص: 498


1- المقاصد العليّة: 86.
2- نقل عنه في مفتاح الكرامة 380:2.
3- لم نعثر عليه ونقله عنه في مفتاح الكرامة 380:2.
4- نقل عنه في مفتاح الكرامة 381:2.
5- كشف اللثام 527:1.

الانصراف في لّفظ «الوجه» لأنّ المفروض إضافته إلى المكلّف ووجه كلّ مكلّف أمر واحد شخصي. ويشكل بأنّ الانصراف يتبع المعهوديّة في نظر المخاطب على وجه أوجب في إرادة الغير المعهود من غير بيان خارجي قبحا على المتكلّم من حيث تضمّنه الإغراء بالجهل، فغلبة الوجود أو الإطلاق ما لم توجب هذه المعهوديّة لا يجدي نفعا في الانصراف، ولا ريب أنّ المنصرف إليه إطلاق الإصبع ونحوه لو خلّى وطبعه بالنسبة إلى المخاطب إنّما هو اصبع نفسه لا غير، لأنّه المعهود في نظره وإن خالف ما هو الغالب المتعارف، فلابدّ في الانصراف إلى غيره من صارف خارجي من غلبة اعتبار في نظر الشارع أو نحوها.

وأمّا حكاية عدم جريان الانصراف في لفظ «الوجه» فيدفعهما وضوح الفرق بين ما اضيف إلى المكلّف في نحو «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ » وما ورد في رواية التحديد.

فلو لم يحمل الوجه فيه إلى الغالب المتعارف لم يكن حمل الإصبع عليه بمجرّده مجديا، ضرورة أنّه قد يكون الإصبع على طبق المتعارف مع خروج الوجه عنه بصغر أو كبر، فلابدّ فيهما من الأخذ بمقدار عينه الميزان المعمول في المستوي وجها وإصبعا، فلا يستقيم ذلك إلّا على تقدير التصرّف في لفظ «الوجه» أيضا، نعم إنما لا يتصرّف في الوجه المنساق من قوله تعالى: «وُجُوهَكُمْ » لأنّه بإضافته إلى ذي الوجه واحد شخصي لا يقبل الحمل على غيره من متعارف أو غيره.

وبجميع ما ذكر علم أنّه لا عبرة بالأنزع، وهو من انحسر شعره عن القصاص المتعارف، ومنه فاقد شعر الرأس، ولا الأغم وهو من علا بعض جبهته الشعر، بل يعتبر فيهما الرجوع إلى غيرهما فيغسلان الوجه من الموضع الذي يغسله غيرهما.

ثمّ بقى ممّا يتعلّق بالمقام مسائل:
المسألة الاولى: المشهور المستفيض نقل الشهرة فيه أنّه يجب في غسل الوجه البدءة من أعلى الوجه فإن نكس بطل،

وعن آيات الأحكام للأردبيلي قدس سره «أنه المعروف من فعل أهل البيت عليهما السلام»(1) بل عن الشيخ في التبيان دعوى الإجماع عليه(2)

ص: 499


1- زبدة البيان: 16.
2- التبيان 451:3.

ونسبه في المختلف إلى الشيخ وابني أبي عقيل والجنيد، وسلّار وابني حمزة وزهرة وظاهر أبي الصلاح وابن بابويه، خلافا للسيّد المرتضى فقال: إنّه مستحب وليس بواجب فلو نكس عمدا لم يبطل وضوؤه ولم يكن قد فعل محرّما، كذا نقله في المختلف، ثمّ قال: «وهو اختيار ابن إدريس»(1) وربّما نسب إلى ابن سعيد وصاحب المعالم(2) وفي الحدائق «اختاره جمع من المتأخرين ومتأخّريهم»(3) وفي مفتاح الكرامة «مال إليه البهائي وصاحب المدارك والذخيرة»(4).

والعمدة من حجّة المشهور صحيحة زرارة المرويّة بطريقين 0 أحدهما: ما عن الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس بن عبدالرحمن عن أبان وجميل عن زرارة قال: «حكى لنا أبو جعفر عليه السلام وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فدعا بقدح من ماء، فأدخل يده اليمنى فأخذ كفّا من ماء فأسدله على وجهه من أعلى الوجه، ثمّ مسح وجهه من الجانبين...»(5) إلخ، وثانيهما: ما عن التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير وفضالة عن جميل بن درّاج عن زرارة بن أعين قال: «حكى لنا أبو جعفر وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم...»(6) فذكر نحو ما ذكر مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه الغير الموجب لاختلاف المعنى.

وفي معناهما صحيحته الأخرى قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ؟ فقلنا: بلى! فدعا بعقب فيه شيء من ماء، فوضعه بين يديه، ثمّ حسر عن ذراعيه ثمّ غمس فيه كفّه اليمنى، ثمّ قال: هكذا إذا كانت الكفّ طاهرة، ثمّ غرف ملأها ماء فوضعها على جبينه، ثمّ قال: بسم اللّه، وسدّله على أطراف لحيته ثمّ أمرّ يده على وجهه وظاهر جنبيه مرّة واحدة...»(7) إلخ، وجه الاستدلال - على ما قرّره العلّامة

ص: 500


1- المختلف 276:1.
2- الجامع للشرائع: 35، قال به في الاثني عشرية على ما حكاه عنه في مفتاح الكرامة 382:2.
3- الحدائق 233:2.
4- مفتاح الكرامة 383:2.
5- الوسائل 390:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 6.
6- الوسائل 392:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ج 10.
7- الوسائل 387:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 2.

في جملة من كتبه(1) وتبعه غيره -: أنّ فعله عليه السلام إذا كان بيانا للمجمل وجب اتباعه فيه.

أقول: ينبغي القطع بأن المراد من فعله عليه السلام الواقع بيانا الوضوء الّذي أتى به عليه السلام حكاية، والظاهر دنّ المراد بالمجمل إنّما هو وضوء رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بناء على ما قرّر في محلّه من أنّ الإجمال كما يجري في القول يجري في الفعل أيضا، فإنّ تتبّع الأخبار البيانيّة يعطي كون وضوء النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم مشوبا بالشبهة في أعصار الأئمّة عليهما السلام لدى أصحابهم ولو بسبب حدوث مذاهب باطلة لأهل البدع والضلالة، كتجويزهم النكس في غسل الوجه وإيجابهم غسل الوجه من وتد الاذن إلى وتد الاذن، وتجويزهم البدءة في غسل اليدين من الأصابع إلى المرفقين، وإيجابهم غسل الرجلين، والوضوء ثلاثا ثلاثا، وغير ذلك ممّا لا يكاد بخفي على الفقيه.

ولذا صدرت الأخبار عنهم عليهما السلام على انواع مختلفة كلّ نوع يوجب الردّ عليهم في مذهب، وأكثر هذه الأخيار وردت بعنوان الحكاية لوضوئه صلى الله عليه و آله وسلم لوقوع التصريح بها فيها مع اختلافها في سبق السؤال عنه، كما في طائفة منها الحسن كالصحيح عن زرارة وبكير أنّهما سألا أبا جعفر عليه السلام عن وضوء رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم» الخ، وتعرّض المعصوم لحكايته ابتداء بقوله عليه السلام: «ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم...» كما في طائفة اخرى. ونقل الراوي لحكايته بقوله: «حكى لنا أبو جعفر عليه السلام وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم» كما هي ثالثة منها ما تقدم، فإن هذا كلّه قرينة واضحة على طروّ الإجمال لحقيقة وضوئه صلى الله عليه و آله وسلم لجهات عديدة منها محلّ البحث.

وقضيّة ذلك كون ورود الأخبار المشار اليها على كثرتهما ورود البيان مقصودا بها رفع جهات الإجمال الطارئة له، لكن كلّ طائفة في موضع حاجة الراوي، ولعلّ هذا الإجمال أوجب إجمالا في قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرٰافِقِ ولا ريب أنّ قضيّة البيان أن يكون كلّ خصوصيّة مأخوذة في الفعل البياني له مدخل في الماهيّة المجملة عدى ما أخرجه الدليل، ومنه الإمرار الوارد في الصحيحة الثالثة المتقدّمة، فيلزم أن يكون الابتداء من أعلى الوجه في غسله داخلا في حقيقة وضوء

ص: 501


1- كما في التذكرة 16:1، المنتهى 32:2.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم هذا.

مضافا إلى أنّ قضيّة التعريف قصر المعرّف على المعرّف عدي ما قضى الدليل بخروجه، فالمتجه حينئذ إنّما هو القول المشهور بل هو الحقّ الّذي لا محيص عنه.

وبما قرّرناه يندفع ما آورده جمع تبعا لصاحب المدارك(1) على الحجّة المذكورة بالتقرير المتقدّم من أنّه من الجائز أن يكون ابتداؤه بالأعلى أحد جزئيّات مطلق الغسل المأمور به لا لوجوبه بخصوصيّة، فإنّ امتثال الامر الكلّي إنّما يتحقّق بفعل جزئي من جزئيّاته، وقوله: «إنّ فعله إذا وقع بيانا وجب اتّباعه فيه» مسلّم إلّا أنّه لا إجمال في غسل الوجه حتّى يحتاج إلى البيان، مع أنّ أكثر الأخبار الواردة هي وصف وضوء رسول الله خالية من ذلك.

كما يندفع به ما أورده بعض مشايخنا من «أنّ الوضوءات البيانية مشتملة على مندوبات، مع أنّ إثبات الوجوب بها مشكل، مع أنّ المشتمل على الغسل من الأعلى ليس فيه أنّه وضوء بياني»(2) فإنّ الإشكال إذا كان في صغرى المسألة بعد تسليم الكبرى فالأمر في دفعه سهل بعد ملاحظة ما قرّرناه من إجمال فعل النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بالنسبة إلى الوضوء، وإلّا لما تكثّرت الأخبار الحاكية له كما هو واضح.

ولعلّ الشبهة نشأت عن توهّم كون مراد المستدلّ ممّا ادّعاه من الإجمال إنّما هو في الآية الآمرة بغسل الوجه كما يستفاد من جماعة، وقد عرفت أنّه ليس كذلك، وإن كان إجمال فعله صلى الله عليه و آله وسلم ربّما يوجب إجمال الآية بملاحظة ما نبّهنا عليه. وبذلك ظهر أنّ وجه مراعاة الابتداء بالأعلى في مقام البيان هو كونه جزءا لا جزئيا حسبما جوّزه المجيب، وممّا يرشد إليه أيضا تعرّض الراوي في الصحيحتين لذكر القيد مع تمامية الكلام بدونه لولا أنّه فهم من فعل الإمام عليه السلام كونه جزءا كما يشهد به المتأمّل في مظانّ النقل والحكاية.

وممّا يؤيد المطلب أو يدلّ عليه في الجملة انصراف الآية إلى المعهود المتعارف المركوز في الأذهان وليس إلّا البدءة من الأعلى، ولا يقدح فيما ذكر خلوّ أكثر الأخبار

ص: 502


1- المدارك 201:1.
2- كتاب الطهارة للشيخ الانصاري 172:2.

عن ذكر ذلك لما في البعض المتقدّم ذكره من الكفاية. وقد عرفت أنّ جهالت إجمال فعل النبيّ كثيرة فورد كلّ طائفة من الأخبار لبيانة من جهة بحسب حوائج الرواة، وما هو متعلّق بالمقام من هذه الأخبار غير مشتمل على المندوب، مع أنه غير مضرّ في القاعدة فإنّ ما علم كونه مندوبا خرج عنها بالدليل. واشتمال جملة كثيرة منها على عنوان الحكاية بعبارات مختلفة صريح في البيانيّة، وكان - الكلام المذكور نشأ عن توهّم كون مبنى الاستدلال على أخذ فعل النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم الّذي هو المحكيّ بيانا كما ربّما يلوح من بعض العبارات كالمعتبر(1) وقد ظهر بما قرّرناه خلافه، ثمّ إنّهم احتجّوا. على المشهور بوجوه آخر لا يكاد يتمّ شيء منها ومن يطلبها يراجع مظانّها.

حجّه السيّد: إطلاق الخطاب بالوضوء آية ورواية، وخصوص خبر حمّاد في الصحيح «لا بأس يمسح الوضوء مقبلا ومدبرا»، والجواب: أنّ الإطلاق على فرض تسليمه يخرج عنه بخصوص ما مرّ، والمسح غير الغسل فلا كلام فيه، وكونه للمعنى الأعمّ هنا تجوّز لا يصار إليه إلّا لقرينة مفقودة.

ثمّ إنّ ظاهر ما تقدّم من أدلّة المختار كما ينفي الاجتزاء بالنكس كذلك ينفي الاجتزاء بالمقارنة، وهو أن يغسل الوجه بحيث الغسل الأعلى والأسفل دفعة واحدة، بل الاجتزاء بالعرض أيضا وهو الابتداء في الغسل بأحد طرفي العرض، ويتأكد هذا كلّه بملاحظة ظاهر قوله: «فأسدله» أو «أسدلها».

والظاهر أنّ كلّ من منع عن النكس منع عنهما أيضا كما هو مقتضي تعبيرهم بأعلى الوجه، ولا ينافيه الاقتصار في التفريع على المنع عن النكس لأنّ غرضهم بذلك الردّ على السيد وغيره من مجوّزيه وهو لا يستلزم اختصاص المنع به، ومن هنا ربّما أمكن إسناد المنع فيهما إلى السيد وأتباعه أيضا، وإلّا لم يكن جهة لاقتصارهم في نقل مذهبه على تجويز النكس فقط، وإن كان استدلاله المتقدّم بإطلاق الآية والرواية ربّما يوهم البناء على العموم كما لا يخفى.

ثمّ بعد البناء على الابتداء من الأعلى ففي وجوب الترتيب في أجزاء الوجه المقتضي

ص: 503


1- المعتبر 143:1.

لمراعاة الأعلى فالأعلى حقيقة أو عرفا المانعة عن غسل مطلق الاسفل قبل الأعلى وإن لم يسامته، أو عن غسل الأسفل المسامت بالخصوص، أو عدم وجوبه المقتضي للاكتفاء في الغسل بابتداء جزء من أعلى الوجه ثمّ اتّباعه بغسل الباقي منكوسا أو عرضا أو مقارنة، أو أنّ المعتبر الغسل بنحو السدل المعبّر عنه في الفارسيّة بقولهم «از بالا به پايين شستن» المقتضي للبدء من أعلى الوجه والختم بأسفله وإن تحقّق معه نكس يسير أو مقارنة يسيرة أو غسل عرضي يسير بالنسبة إلى بعض الأجزاء، وجوه.

ظاهر النصّ هو الأخير، وهو المتداول فيما بين المعتدلين من المتشرّعة، ولعلّه المحفوظ من أهل العصمة عليهما السلام و أمّا الوجه الأوّل فهو وإن لم نقف على مصرّح به من أصحابنا إلّا أنّه ممّا يقتضيه اطلاق ما نقله في المدارك من تخيّل بعض قائلا: «وأمّا ما تخيله بعض القاصرين من عدم جواز غسل شيء من الأسفل قبل غسل الأعلى وإن لم يكن في سمته فهو من الخرافات الباردة والأوهام الفاسدة»(1).

وأمّا الوجه الّثاني فهو ظاهر المحكيّ عن ثاني الشهيدين في شرح الرسالة قائلا:

«إنّ المعتبر في غسل الوجه غسل الأعلى فالأعلى، لكن لا حقيقة لتعسّره أو لتعذّره بل عرفا، فلا تضرّ المخالفة اليسيرة الّتي لا يخرج بها في العرف عن كونه غسل الأعلى فالأعلى»، ويحتمل قويّا رجوعه إلى الوجه الأخير.

وأمّا الوجه الثالث فهو ما استوجهه الشهيد الثاني حيث قال - بعد العبارة المذكورة -: «وفي الاكتفاء بكون كلّ جزء من العضو لا يغسل قبل ما فوقه على خطّه، وإن غسل ذلك الّجزء قبل الأعلى من غير جهته وجه وجيه».

وأمّا الوجه الرابع باحتمالاته الثلاث فهو ما يقتضيه إطلاق شيخنا البهائي في أربعينه قائلا: «والّذي يخطر بالبال، أنّه إذا حصل الابتداء بغسل جزء من أعلى الوجه كفى، وأنّ مراعاة الأعلى فالأعلى في بقيّة أجزاء الوجه غير واجبة لا حقيقة ولا عرفا، سواء أخذت الأجزاء بالنسبة إلى ما على خطها أو بالنسبة إلى غيره لأصالة براءة الذمّة من ذلك ولما فيه من المشقّة...»(2) الخ.

ص: 504


1- المدارك 201:1.
2- لم نعثر على هذه العبارات في الأربعين للبهائي، فراجع.

ويظهر ذلك أيضا من غيره كصاحب المدارك حيث قال قبل عبارته المتقدّمة:

«واعلم أنّ أقصى ما يستفاد من الأخبار وكلام الأصحاب وجوب البدءة بالأعلى أعني صبّ الماء على أعلى الوجه ثمّ اتّباعه بغسل الباقي»(1) وتبعهما جماعة ممّن تأخّر عنهما، ويمكن إرجاع ما ذكروه أيضا إلى الوجه الأخير.

وكيف كان فالوجه الأوّل ممّا لا يساعد عليه شيء من أدلّة المسألة مع تضمّنه العسر الشديد بل العذر الأكيد، ومثله في تضمنّه العسر الوجه الثاني، كما أن مثله في تضمّنه العسر والعذر الوجه الثالث إن اريد بمراعاة الأعلى فالأعلى في خصوص الأجزاء المتسامتة المتشاركة في الجهة ما هو على وجه الحقيقة بالمداقّة الحكمية، وإن اريد به ما هو بحسب العرف فمرجعه إلى الوجه الأخير، كما أنّ الوجه الثاني إن اريد به مراعاة الأعلى بالنسبة إلى المسامت فقط مرجعه إلى الوجه الأخير.

وممّا يدلّ على عدم وجوب مراعاة الأعلى الغير المسامت لا حقيقة ولا عرفا ما في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام عند حكاية وضوء النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم من قوله: «فأخذ كفّا من ماء فصبّه على وجهه، ثمّ مسح جانبيه حتّى مسح كلّه»(2) فإنّه ظاهر كالصريح في تعدّد المسح المضاف إلى الجالبين المحقّق لمسح الكلّ ، ودونه في الظهور ما في الصحيحين الأوّلين(3) المتقدّم ذكرهما من قوله: «ثمّ مسح وجهه من الجانبين جميعا» كما في أوّلهما، أو «ثمّ مسح بيده الجانبين جميعا» كما في. ثانيهما، ودونهما ما في الصحيحة الثالثة المتقدّمة(4) من قوله: «وسدّله على أطراف لحيته، ثمّ أمرّ يده على وجهه وظاهر جنبيه».

وبالجملة الظاهر المنساق من هذه الصحاح وغيرها من الأخبار البيانية ما هو المتداول فيما بين المعتدلين من المتشرّعة وليس إلّا الوجه الأخير، فهذا هو الأقوى وغيره من الوجوه الأخر ساقط حتّى الوجه الرابع بجميع احتمالاته الثلاث لمخالفته الاحتياط مضافا إلى ظاهر النصّ ، حسبما بيّنّاه، والله أعلم بحقائق أحكامه.

المسألة الثانية: الأقوي عدم وجوب تخليل ما يفتقر وصول الماء إلى بشرة الوجه

ص: 505


1- المدارك 201:1.
2- الوسائل 391:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 7.
3- تقدّما في الصفحة: 500 الرقم 5 و 6.
4- تقدّم في الصفحة: 500 الرقم 7.

إلى تخليله من الشعر من لحية أو حاجب أو هدب أو عنفقه بل يكفي إجراء الماء على ما ظهر منه سمّي كثيفا أو خفيفا، وفاقا للمبسوط(1) «لا يلزم تخليل شعر اللحية سواء كانت خفيفة أو كثيفة، أو بعضها كثيفة وبعضها خفيفة، ويكفيه إمرار الماء عليها»(2) وهو ظاهر المحكيّ عن الخلاف «لا يجب إيصال الماء إلى ما يستره شعر اللحية ولا تخليلها»(3)وصريح المعتبر «لا يلزم تخليل شعر اللحية ولا الشارب ولا العنفقة ولا الأهداب، كثيفا كان الشعر أو خفيفا بل لا يستحبّ »(4) والمحكيّ عن المنتهى «لا يلزم تخليل شعر اللحية، ولا الشارب ولا العنفقة ولا الأهداب، سواء كانت كثيفة أو خفيفة ولا يستحبّ أيضا، بل الواجب إن فقد الشعر غسل هذه المواضع، وإن وجد فإمرار الماء على ظاهر الشعر»(5) كما عن التحرير والتلخيص والإرشاد والذكرى وجامع المقاصد وحاشية الشرائع والروضة والمسالك وشرح المفاتيح والهداية(6) وهو المشهور كما عن الذكرى والدروس وجامع المقاصد وشرح المفاتيح(7)، بل مذهب المعظم كما عن الروضة(8).

نعم عن القديمين ابن أبي عقيل وابن الجنيد(9) والسيد في المسائل الناصريّة ما هو ظاهر في الخلاف بالفرق. فعن الأوّل: «ومتى خرجت اللحية ولم تكثر فعلى المتوضّئ غسل الوجه حتّى يستيقن وصول الماء إلى بشرته، لأنّها لم تستر مواضعها».

وعن الثاني: «إذا خرجت اللحية فلم تكثر فيتوارى بنباتها البعثرة من الوجه، فعلى المتوضّئ غسل الوجه كما كان قبل أن ينبت الشعر حتّى يستيقن وصول الماء إلى بشرته الّتي يقع عليها حسّ البصر إمّا بالتخليل أو غيره، لأنّ الشعر إذا ستر البشرة قام مقامها، وإذا لم يسترها كان على المتوضّئ إيصال الماء اليها».

وعن الثالث: «الأمرد وكلّ من لا شعر على وجهه يجب عليه غسل وجهه» ومن

ص: 506


1- المبسوط 20:1.
2- المبسوط 20:1.
3- الخلاف 75:1.
4- المعتبر 142:1.
5- المنتهى 24:2.
6- التحرير 9:1، التلخيص (الينابيع الفقهيّة) 263:26، الإرشاد 223:1، الذكرى 124:1، جامع المقاعد 214:1، حاشيه الشرائع: 10، الروضة 324:1، المسالك 36:1، مصابيح الظلام 3: 281، نقل عنه في مفتاح الكرامة 388:2.
7- الذكرى 124:1، الدروس 91:1. جامع المقاصد 214:1. مصابيح الظلام 281:3.
8- الروضة 324:1.
9- نقل عنهما في المختلف 280:1-281.

كان ذا لحية كثيفة تغطّي بشرة وجهه فالواجب عليه غسل ما ظهر من بشرة وجهه، وما لا يظهر ممّا يغطيه اللحية لا يلزمه إيصال الماء إليه، ويجزئه إجراء الماء على اللحيّة من غير إيصال الماء إلى البشرة المستورة، وعنه أيضا أنّه حكى عن الناصر «وجوب غسل العذار بعد نبات اللحية كوجوبه قبل نباتها» ثمّ قال: «وهذا غير صحيح، والكلام فيه ما قد بينّاه في تخليل اللحية، فإنّا بيّنّا أنّ الشعر إذا علا البعثرة انتقل الفرض إليه»(1)وعباراتهم كما ترى غير صريحه في المخالفة لإطلاق ما مرّ.

ومن هنا اختلفت أنظار المتأخرين ومتأخّريهم في إثبات الخلاف في المسألة ونفيه، وأوّل من أثبته الفاضلان في المعنى والمختلف(2) حيث إنّ الأوّل نقل قول ابن عقيل بعين عبارته المتقدّمة في مقابلة ما أطلقه، كما أنّ الثاني جعل كلام ابن الجنيد في مقابلة ما عرفته عن المبسوط، ثمّ استظهره عن السيد فنقل عبارته المتقدّمة ثمّ اختاره أيضا كما نسب اختياره أيضا إلى التذكرة والدروس والبيان والألفية واللمعة والتنقيح وكشف اللثام(3) وأوّل من نفاه الشهيد في الذكري(4) لكن احتمالا - على ما حكي - حيث احتمل إرادة البشرة الّتي لا شعر عليها في كلام من أوجب غسل البشرة، ففرّع عليه أنّه لا يخالف الشيخ والجماعة، ويظهر من المحكيّ من المحقق الثاني الجزم به قائلا: «وعبارة البعض وإن أشعرت بوجوب تخليل الخفيف إلّا أنّها عند التحقيق تفيد خلافه كما عليه الباقون»(5) ونسب ذلك إلى المسالك(6) أيضا، وتبعه صاحب الحدائق قائلا: «إنّ التخليل عبارة عن إيصال الماء إلى المبشرة المستورة وإيصاله إلى الظاهرة لا يسمّى تخليلا»(7).

وربّما وقع الخلاف بين الجازمين بالخلاف ممّن تأخّر عن الفاضلين في تعيين محلّ الخلاف، ففي شرح الألفية للشهيد الثاني - بعد ميله إلى القول المشهور - «واعلم أنّ الخلاف في غسل بشرة الخفيف إنما هو في المستور منها كما بيّنّاه، لا في البشرة

ص: 507


1- الناصريّات: 113-114.
2- المعتبر 142:1، المختلف 280:1.
3- التذكرة 155:1، الدروس 91:1، البيان: 8، الألفية: 43، اللمعة: 18، التنقيح 17:1، كشف اللثام 531:1.
4- الذكرى 125:1.
5- جامع المقاصد 215:1.
6- المسالك 36:1.
7- الحدائق 239:2.

الظاهرة خلال الشعر على كلّ حال فإنّه يجب غسلها إجماعا، لعدم انتقال اسم الوجه عنها وعدم إحاطة الشعر بها»(1).

وعكس الخوانساري في شرح الدروس، فإنّه بعد ما نسب إلى الشيخ والمحقّق والعلّامة إطلاق عدم التخليل، نسب إلى القديمين والمرتضى والعلّامة في المختلف وجوب إيصال الماء إلى البشرة الظاهرة خلال الشعر في الخفيف، فقال: «وأمّا ما يستر تحت الشعر ولو كان في الخفيف فالظاهر أنّه لا نزاع لأحد في عدم وجوب غسله ولا أظنّك في مرية من هذا»(2).

وربّما يظهر منهم اختلاف آخر في مناط الظهور والستر من حيث إنّ العبرة في الأوّل بظهور البشرة في جميع الأحوال فيكون المراد بالثاني سترها ولو في بعض الأحوال، أو أنّ العبرة في الثاني بسترها في جميع الأحوال فيكون المراد بالأوّل ظهورها ولو في بعض الأحوال. وربّما اختلف أيضا في تفسير الخفيف فقد يفسّر بما يرى البشرة من خلاله في مجلس التخاطب، وقد يفسّر بما يصل الماء إلى منبته من غير مبالغة، وهذا كما ترى أخصّ من الأوّل.

وتحقيق المقام: أنّ الشعر الخفيف إن اريد به الشعر الغير الغليظ المتقارب المنابت الملتفّ بعضه ببعض الّذي كالثوب الرقيق يحكي ما تحته من البشرة الّتي تفتقر في وصول الماء إليها إلى عمل زائد على ما هو متعارف في غسل الوجه الخالي عن الشعر من إدخال أنملة أو دلك شديد أو نحو ذلك، فالحق ما عليه الشيخ وأتباعه من عدم وجوب إيصال الماء إلى البشرة. لكنّه لم يظهر من القديمين والسيد ما يخالف ذلك كما لا يخفى على المتأمّل.

وإن اريد به الشعر الضعيف بقصر أو تباعد منابت بحيض لا حاجة في إيصال الماء إلى البشرة إلى عمل زائد على المتعارف في غسل البشرة الخالية عن الشعر، كما يتّفق كثيرا فيما بين الحاجبين وفي جنبي العنفقة، فالحقّ كما عليه القديمان من وجوب إيصال الماء إلى البشرة، إلّا أنّه ليس من التخليل في شيء، كما أنّه لم يظهر من الشيخ

ص: 508


1- شرح الألفية (المقاصد العلية): 436.
2- مشارق الشموس: 103.

وأتباعه ما يخالف ذلك لأنّ كلامهم في التخليل لا غير، ومن هنا أمكن جعل النزاع لفظيا كما حكى التصريح به عن المحقّق البهبهاني في شرحه للمفاتيح(1).

والعمدة في دليل المسألة إطلاق صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال:

«سألته عن الرجل يتوضّأ أيبطّن لحيته ؟ قال: لا»(2) وإطلاق ما في صحيح زرارة المتقدّم في تحديد الوجه قلت له: «أرأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال: كلّ ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه، ولكن يجري عليه الماء»(3) وعن نسخة التهذيب موضع «يطلبوه» «يغسلوه» ودلالتهما من جهة الإطلاق المعتضد بترك الاستفصال واضحة، لكن الاحتياط الّذي لا يجوز تركه هنا غسل اللمعة الخالية عن الشعر الّتي أحاط بها الشعر النابت من جوانبها، ومثلها في وجوب الغسل احتياطا ما استرسل إليه الشعر النابت من موضع آخر لحية كانت أو غيرها من بشرة الوجه وهي خالية عن الشعر. وفي كلام جماعة الحاق لحية المرأة بلحية الرجل فعن المبسوط والمعتبر والمنتهى والإرشاد والذكرى وجامع المقاصد(4) وغيرها إطلاق الإلحاق بالقياس إلى الخفيفة والكثيفة، وعن شرح المفاتيح أنّه نقل الإجماع عليه(5) وعن التذكرة «أنّ لحية المرأة كلحية الرجل، وكذا الخنثى المشكل»(6).

المسألة الثالثة: لا يجب غسل ما استرسل من اللحية وهو الخارج عن الحدّ المتقدّم عرضا وطولا،

ووجهه واضح بملاحظة ما سبق.

وثالثها: غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع،
اشارة

واعلم أنّ وجوب غسلهما وكونه من أفعال الوضوء ممّا علم بالنصّ كتابا وسنة والإجماع محصّلا ومنقولا بل الضرورة دينا ومذهبا، فهذا ممّا لا ينبغي التكلّم فيه. نعم هاهنا مسائل ينبغي التكلّم فيها:

المسألة الأولى: يجب إدخال المرفقين في الغسل أصالة على أنّهما من اليدين المأمور بغسلهما أصالة كما هو صريح جماعة،

وظاهر غير واحد من أساطين الطائفة

ص: 509


1- مصابيح الظلام 283:3.
2- الوسائل 476:1 الباب 46 من أبواب الوضوء ح 1.
3- الوسائل 476:1 الباب 46 من أبواب الوضوء ح 3.
4- المبسوط 22:1، المعتبر 142:1، المنتهى 25:2-26، الإرشاد 223:1، الذكرى 124:2، جامع المقاصد 214:1.
5- مصابيح الظلام 283:3.
6- التذكرة 155:1.

المتعرّضين للمسألة، بل هو ظاهر معاقد الإجماعات المنقولة على وجوب غسلهما، ففي المعتبر: «ويجب غسل اليدين مع المرفقين - إلى أن قال -: وعليه الإجماع خلا زفر ومن لا عبرة بخلافه»، وعن الخلاف: أنّ غسل المرفقين واجب مع اليدين وبه قال جميع الفقهاء إلّا زفر» - إلى أن قال -: «وقد ثبت عن الأئمّة عليهما السلام أنّ «إلى» في الآية بمعنى «مع».

وعن المنتهى: «ويجب غسل اليدين بالإجماع والنصّ وأكثر أهل العلم على وجوب إدخال المرفقين، خلافا لبعض أصحاب مالك وداود وزفر» وعن كاشف اللثام: «الإجماع على الإدخال إلّا من زفر» وعن جمع الجوامع «لا دليل في الآية على دخول المرفقين في الوضوء إلّا أنّ أكثر الفقهاء ذهبوا إلى وجوب غسلهما وهو مذهب أهل البيت»(1)وهو ظاهر كلّ من تعرّض لذكر المرفقين مع اليدين عند بيان وجوب غسلهما.

ووجه الظهور: قضاء بيان أفعال الوضوء بارادة الوجوب الأصلي، وما يجب مقدّمة خارج عنها فيبعد إرادة وجوبه عند بيان وجوبها. فما عن بعض المتعرّضين لنقل الإجماع على وجوب غسل المرافق مع الذراعين كالمقداد والمحقّق والشهيد الثانيين من ترديده بين الأصلي والمقدّمي(2) ليس على ما ينبغي، مع أنّه لم يعهد من أصحابنا ممّن تقدّم على صاحب المدارك(3) ولا من تأخّر عنه قول بالوجوب مقدّمة، كيف وهو في الحقيقة قول بعدم وجوب غسلهما وعدم دخوله في أفعال الوضوء، وهذا القول لم ينقله المتعرّضون لنقل الخلاف إلّا عن زفر وغيره من شذوذ العامّة ولم يظهر منهم إنكار وجوبه المقدّمي، ولو ظهر فهو قول عن مسألة اصوليّة من نفي وجوب المقدّمة، نعم صاحب المدارك لمصيره إلى الوجوب المقدّمي قد وافق البعض النافي لوجوب غسلهما رأسا.

وأمّا نسبة ذلك إلى العلّامه في المنتهى فلعلّها وهم ممّا صار إليه في مسألة الأقطع من المرفق من عدم وجوب غسل ما بقي من طرف العضد إلّا من باب المقدّمة، وفيه أنّه

ص: 510


1- جوامع الجامع 324:1.
2- التنقيع الرائع 79:1-80، جامع المقاصد 215:1، روض الجنان 99:1.
3- المدارك 206:1.

بناء منه على عدم دخول طرف العضد في المرفق، إن شئت لاحظ كلامه، فإنّه بعد ما علّل سقوط فرض غسل اليد في تلك المسألة بفوات محلّه قال: «وللشافعي في غسل العظم الباقي وهو طرف العضد وجهان، أصحّهما الوجوب لأنّ غسل العظمين المتلاقيين من العضد والمرفق واجب، فإذا زال أحدهما غسل الآخر، ونحن نقول: إنما وجب غسل طرف العضد توصّلا إلى غسل المرفق ومع سقوط الأصل انتفى الوجوب»(1) انتهى. وعلى نحو ذلك يحمل ما عن الشهيد في النفلية(2) من استحباب غسل ما بقي من المرفق، بناء على أن يكون كلمة «من» ابتدائيّة، فبناء الشارح له على وجوب غسل المرفق من باب المقدّمة لعلّه ليس في محلّه، فاستفادة الخلاف في الوجوب الأصلي والمقدّمي من خلافهم في مسالة الأقطع لعلّها من قلّة التدبّر، لابتناء هذا الخلاف على الخلاف في تفسير المرفق فمن نفي وجوب طرف العضد بان على أنّ المرفق هو طرف الساعد كما ظهر من العلّامة في المنتهى. وعليه فليس في المسألة إلّا قولان: الوجوب وعدمه، وجعل القول بالوجوب المقدّمي مقابلا لثاني القولين كتثليث أقوال المسألة كما ترى، وانتظر لزيادة تحقيق لهذا المقام في مسألة الأقطع.

ثمّ إنّ للأصحاب في إثبات وجوب غسل المرفقين طرقا ثلاث:

أحدها: استفادته ممّا نسبوه إلى أئمّتهم من كون «إلى» في الآية بمعنى «مع» وقد غرفت التصريح بذلك عن الشيخ في الخلاف(3) وعن جامع المقاصد: أنّه ذكر المرتضى وجماعة من الموثوق بهم أنّ «إلى» هنا بمعنى «مع»(4) انتهى. وهذا الطريق عندي لا يخلو عن نظر لقضاء المعية بمغايرة ما بعدها لما قبلها، وعنوان الحكم الوارد في الآية إذا كان هو اليدين بالمعنى المجازي فلا مغايرة بينه وبين المرفق حينئذ ليصحّ تشريكه في الحكم بواسطة حرف المعية، واحتمال كون اليد في الآية مرادا بها ما عدى المرفق مع فرض كونه مجازا كما ترى، بل أريد بها المجموع من المرفق وما تحته إلى أطراف الأصابع. فالمعتمد حينئذ رواية الهيثم بن عروة التميمي قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قوله فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرٰافِقِ فقال: ليس هكذا تنزيلها، إنّما هو

ص: 511


1- المنتهى 33:2.
2- الألفيّة والنفلية: 93.
3- الخلاف 78:1.
4- جامع المقاصد 215:1.

«فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق» ثمّ أمرّ يده من مرفقه إلى أصابعه»(1) هذا على ما في التهذيب وكذا في الكافي ولكن بزيادة قوله: «فقلت هكذا: ومسحت من ظهر كفّي إلى المرافق» عقيب الآية.

وكون تنزيل الآية «من المرافق» يحتمل وجهن، كون ذلك هو المنزل من الله بلفظه أو بمعناه مجازا، ولا بعد في شيء من ذلك بعد ورود النصّ به، وقصور السند على تقديره ينجبر بالعمل فهذا هو ثاني الطرق.

وثالثها: الأخبار البيانيّة المستفيضة التي فيها الصحيح وفيها غيرها المشتملة لقوله:

«فوضع الماء على مرفقه، فأمرّ كفّه على ساعده»(2) كما في الصحيح الحاكي لوضوء رسول الله، وعلى قوله: «فغرف بها غرفة، فأفرغ على ذراعه اليمنى، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردّها إلى المرفق» كما في آخر، إلى غير ذلك، ولولا في المسألة شيء من ذلك لكفانا الإجماعات المنقولة، فحكم المسألة بحمد الله واضح.

والعمدة إنّما هو تحقّق موضوع المسألة وهو المرفق، فانّ فيه عبارات مختلفة، فعن المغرب تفسيره بموصل الذراع بالعضد(3) وعن الصحاح بموصل الذراع في العضد(4) وعن القاموس بموصل العضد في الذراع(5) والموصل مفعل من الوصل بمعنى الاتّصال، فيكون اسم مكان بمعنى موضع الاتّصال، فيكون عبارة عن البشرة المشتملة على العظمين المتصل أحدهما بالآخر ولو باعتبار أحدهما وهو عظم الذراع أو عظم العضد، لا عن نفس أحد العظمين المتواصلين لاستحالة وقوع فاعل الوصف محلّا له بمعنى مكانه الّذي يعبّر عنه باسم المكان، وإنّما وقع تفسير المرفق به مع أنّ ظاهر العرف والاستعمال يقضي بكونه عبارة عن العظمين المتواصلين أو أحدهما حال تواصلهما توسّعا من باب التفسير باللازم.

والفرق بين تفسير المغرب وتفسيري الصحاح والقاموس أنّ الظرف في الأوّل ظاهر في اللغو، على أنّ كلمة «الباء» صلة للوصل، وفي الأخيرين ظاهر في المستقرّ

ص: 512


1- الوسائل 405:1 الباب 19 من أبواب الوضوء ح 1.
2- الوسائل 387:1 الباب 15 من ابواب الوضوء ح 2.
3- المغرب: 194 «رفق».
4- الصحاح 482:4.
5- الصحاح 482:4.

متعلّق بمقدّر حالا عن الموصل، فيكون المعنى: موضع اتّصال الذراع حال كون ذلك الموضع حاصلا في العضد، أو موضع اتصال العضد حال كون ذلك الموضع حاصلا في الذراع، وإنّما قيّدا بهما احترازا عن الطرف الأسفل من الذراع والطرف الأعلى من العضد.

وهذه التفاسير الثلاث متشاركة في عدم الدلالة على كون مجموع العظمين المتواصلين هو المرفق، كما فهمه جمال الملّة والدين في حاشية الروضة(1) وإن يفارق التفسيران الآخران في جعل أحدهما المرفق عبارة عن عظم الذراع المتصل بعظم العضد، والآخر عبارة عن عظم العضد المتّصل بعظم الذراع.

ولعلّ من أحد التفسيرين الأوّلين أو كليهما نشأ ما عليه العلّامة في المنتهى(2) من جعله المرفق عبارة عن طرف الذراع فقط، على ما يظهر من عبارته المتقدّمة القائلة:

«نحن نقول إنما وجب غسل طرف العضد توصّلا إلى غسل المرفق، ومع سقوط الأصل انتفى الوجوب» وله قول آخر في التذكرة(3) حيث فسّره بمجمع عظم العضد وعظم الذراع، وتبعه في هذا التفسير غير واحد ممّن تأخّر عنه كالروضة والرياض(4) وغيرهما، وفي معناه ما عن الذكرى من أنّه مجموع عظم العضد وعظم الذراع(5) وما عن الروض - شرح الإرشاد - لثاني الشهيدين والمقاصد العليّة من أنّه العظمان المتداخلان(6).

والفرق بين هذين التعبيرين وتعبير التذكرة أنّه جعله عبارة عن البشرة المشتملة على هذين العظمين، حيث فسّره بالمجمع الّذي هو مع الموصل بمعني. وهذان جعلاه عبارة عن نفس هذين العظمين.

وظاهر الجميع كونه عبارة عن تمام المقدار المتداخل من العظمين أعني تمام المتداخلين منهما، ومستند هذا التفسير لعلّه الجمع بين تفسيري الصحاح والقاموس.

وفي حاشية الشرائع: «المرفق كمنبر ومجلس هو المفصل، وهو عبارة عن رأس عظمي الذراع والعضد»(7) ولعلّه راجع إلى ما عرفته بناء على أن يكون مراده قدس سره من

ص: 513


1- حاشية الروضة: 31.
2- المنتهى 317:2.
3- التذكرة 159:1.
4- الروضة 325:1، الرياض 222:1.
5- الذكرى 134:2.
6- روض الجنان 101:1، المقاصد العليّة: 89.
7- حاشية الشرائع (حياة المحقق الكركي و آثاره 10):48.

رأسي العظمين الجزءين المتداخلين من الذراع والعضد، كما يحتمل أن يراد به المسمّى من رأس كلّ منهما.

كما يظهر الحمل عليه من صاحب الحدائق حيث جعل التفسير به مقابلا لتفسيره بمجمع عظمي الذراع والعضد ونسبه إلى المشهور قائلا: «المرفق كمنبر ومجلس المفصل وهو رأس عظمي الذراع والعضد كما هو المشهور، أو مجمع عظمي الذراع والعضد، فعلى هذا شيء منه داخل في الّذراع وشيء منه داخل في العضد»(1) انتهى.

وعليه فيحتمل أن يكون المراد بالرأس بالنسبة إلى العضد رأس شقتيه اللتين يدخل فيهما رأس الذراع، ويحتمل أن يكون المراد به رأس الحدّ المتوسّط منهما بينهما الّذي يلاصقه رأس الذراع عند جعله مع العضد على الاستقامة، وقد يفسّر بما احتمله غير واحد في المجمع(2) المأخوذ في تفسير من تقدّم من الأصحاب من الحدّ المشترك بين الذراع والعضد، بل في شرح الدروس «هو الظاهر من كلام أهل اللغة»(3) وتبعه في دعوى هذا الظهور ولده المحقّق في حاشية الروضة مع حمله المفصل على إرادة هذا المعنى، حيث إنّه بعد ما نقل كلام أهل اللغة قال: «ولا يخفى أنّه لا دلالة لكلامهم على أنّه المجموع، إذ الموصل يحتمل المفصل احتمالا لو لم يكن حمله عليه أقرب»(4) انتهى.

ومبنى هذا التفسير على أخذ الوصل بمعنى الوصل الخطّي وهو الخط المستدير المفروض في طرفي الذراعين والعضد المنطبق عليهما حال الانضمام، كما أنّ مبنى ما وجّهناه لكلام أهل اللغة على أخذه بمعنى الوصل السطحي المتحقّق في مجموع الجزءين الداخل أحدهما كما هو واضح.

ويشكل هذا التفسير بأنّ هذا الخط إن فرض من طرف الذراع لا يقع على طرف العضد وهو رأس الشقّتين حسبما أشرنا اليهما وقوعا حقيقيا، بل يمرّ على ما فوقه خصوصا حال استقامة الذراع، وإن اعتبر من طرف العضد لا يقع على طرف الذراع وقوعا حقيقيّا، بل يمرّ على ما فوقه خصوصا مع استقامته كما يظهر بأدني تأمّل، بل

ص: 514


1- الحدائق 240:2.
2- مجمع البحرين 170:5.
3- مشارق الشموس: 110.
4- حاشية الروضة: 31.

يبعّد هذا التفسير لو أجرى في كلام الفقهاء لقضائه ظاهرا بعود النزاع الواقع بينهم في دخول المرفق وخروجه غير مفيد، والأقرب بل المتعيّن أنّه لا محمل له في كلام الفقهاء إلّا المعنيين المتقدّم أحدهما عن المنتهى(1) والآخر عن التذكرة(2) وغيرها.

وربّما أكد كونه في كلامهم بالمعنى الثاني وهو المجموع بوقوع الخلاف بينهم في دخول المرفق في الغسل وعدم دخوله، تعليلا بأنّه إذا كان هو الحدّ المشترك وكان داخلا فيلزم أن يكون فوقه حدّ آخر يكون هو حدّا مشتركا خارجا عن الطرفين فيلزم تنالي الحدّين، إلّا أن يكون بناء كلامهم على القول بالجزء الّذي لا يتجزّأ كما هو المشهور بينهم، أو يقال: إنّما يلزم تتالي الحدّين لو وجب الابتداء بغسل الحدّ ولم يجز غسل ما فوقه، وأمّا إذا جاز ذلك بل وجب من باب المقدّمة فلا يلزم ذلك، لجواز الابتداء بغسل جزء فوقه فيكون بين الحدّين فاصلة ولا يلزم تتاليهما، غاية الأمر أن يكون غسل جزء من العضد مقدّمة عقليّة لغسل اليد إلى المرفق لا مقدّمة عاديّة فقط كما يتوهّم.

نعم يمكن أن يقال: إنّ الحدّ بمعنى الخطّ لا يصلح للغسل إلّا بالعرض، بمعنى غسل السطحين المحيطين به فكونه داخلا في المحدود يرجع إلى لزوم غسل المجموع، لكن هذا إنّما يتوجّه إذا اريد بالمجموع مجموع المسمّى من رأس كلّ منهما لا مجموع العظمين المتداخلين، إذ يكفي في غسل الخطّ غسل المسمّى من طرفيه فلا يلزم غسل مجموع القدر المتلاقي، اللهمّ إلّا إذا كان لازما لغسل المسمّى عادة، وكذا ما ذكرنا من الوجه الأوّل فإنّ التتالي يرتفع بإدخال جزء من العضد، فلا يلزم إدخال كلّ القدر الملاقي إلّا أن يفرض الملزم المذكور، هكذا في حاشية الروضة(3) كما أنّه لا محمل له في موضوع الحكم الوارد في الآية إلّا المعنى الثاني على ما يساعد عليه النظر القاصر، فإنّ مصير من عرفتهم من أجلّاء متأخّري اصحابنا مع عدم ظهور مخالفة القدماء لهم في ذلك يوجب الظنّ الغالب البالغ حدّ الاطمئنان بكونه حقيقة المرفق المعلّق عليه الحكم لكشفه عن بلوغ مستند صحيح إليهم في ذلك، ولا سيما مع عدم مساعدة كلام

ص: 515


1- المنتهى 37:2.
2- التذكرة 195:1.
3- حاشية الروضة: 31.

من عرفتهم من أهل اللغة عليه أو مساعدته على خلافه. يدل عليه صحيحة عليّ بن جعفر الآتية في مسألة الأقطع بالمعنى الّذي نستظهره.

ويمكن أن يؤيّد ذلك بورود اللفظ في الآية بصيغة الجمع على خلاف الكعب الوارد في مسح الرجلين بصيغة التثنية، فإنّه ربّما يشعر في المرفق بالتعدّد البالغ حدّ مرتبة الجمع بملاحظة انضمام اليدين خصوصا على تقدير كون كلّ من العظمين المتداخلين بانفراده مرفقا، بناء على وقوع اللفظ على كلّ منهما على وجه التواطي، كما احتمله شارح الدروس في أثناء كلامه.

وربّما يتأكد ذلك أيضا ورود المرفق لغة على ما في كلام بعض أهل اللغة بمعنى المخدّة الّتي يتّكأ عليها، بناء على كونه مأخوذا منه بالمعنى المبحوث عنه من باب الاستعارة أو بالعكس، نظرا الى أنّه بالمعنى المبحوث عنه ممّا يتّكأ عليه أيضا، وقد نرى أنّه قد يتّكأ على مجموعي العظمين وقد يتّكأ على عظم الذراع بانفراده وقد يتّكأ على عظم العضد كذلك، ويختلف ذلك باختلاف أوضاع الإنسان في جلوسه، ويظهر ثمرة الخلاف بين المعنيين في وجوب غسل عظم العضد أصالة ومقدّمة عاديّة، وفي وجوب غسله أصالة وعدمه في الأقطع لو قطع من مفصل مرفقه، والله العالم.

المسألة الثانية: يجب الابتداء من المرفق فلو نكس بطل كما عليه الأكثر خلافا للسيّد فحكم باستحبابه،

وابن إدريس فحكم بكراهة النكس ومن تبعهما من المتأخّرين، وقد مرّ في غسل الوجه كثير ممّا يتعلّق بالمقام. والعمدة هنا التعرّض لدليل المسألة وهو الروايات كالأخبار البيانيّة الّتي منها: موثقة بكير وزرارة أنّهما «سألا أبا جعفر عليه السلام عن وضوء رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فدعا بطست أو بتور فيه ماء فغسل كفّيه، ثمّ غمس كفّه اليمنى في التور فغسل وجهه بها واستعان بيده اليسرى بكفّة على غسل وجهه، ثمّ غمس كفّه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء، فغسل يده اليمنى من المرفق إلى الأصابع، لا يردّ الماء إلى المرفق، ثمّ غمس كفّه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء على يده اليسرى من المرفق إلى الكفّ ، لا يردّ الماء إلى المرفق كما صنع باليمني...»(1)

ص: 516


1- الوسائل 392:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 11.

الخ. ورواية الهيثم بن عروة التميمي المتقدّمة الحاكمة على الآية بأنّ تنزيلها إنّما هي فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق، ثمّ أمرّ يده من مرفقه إلى أصابعه(1). ورواية صفوان المرويّة عن البحار عن العياشي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «سألته عن قول الله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ - إلى أن قال -: قلت: فإنّه قال: اغسلوا أيديكم إلى المرافق... فكيف الغسل ؟ قال هكذا أن يأخذ الماء بيده اليمنى فيصبّه في اليسرى ثمّ يفضه على المرفق، ثمّ يمسح إلى الكفّ ، قلت له: مرّة واحدة فقال: كان أبي يفعل ذلك مرّتين قلت: يرد الشعر قال: إذا كان عنده آخر فعل وإلّا فلا»(2). وما عن البحار أيضا عن كشف الغمّة قال: ذكر عليّ بن إبراهيم بن هاشم وهو من أجلّاء رواة أصحابنا في كتابه عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وذكر حديثا في ابتداء النبوّة يقول فيه: «فنزل عليه جبرئيل:

وأنزل عليه ماء من السماء، فقال له: يا محمّد! قم توضّا للصلاة، فعلّمه جبرئيل الوضوء على الوجه واليدين من المرفق، ومسح الرأس والرجلين - إلى الكعبين»(3). والمرويّ عن إرشاد المفيد بسنده عن عليّ بن يقطين أنّه كتب عليه السلام إلى عليّ بن يقطين بعد ما ارتفع عنه التهمة وظهر صلاح حاله عند السلطان «يا عليّ توضّأ كما أمر اللّه اغسل وجهك مرّة واحدة فريضة واخرى، واغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح بمقدّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كنّا نخاف منه عليك والسلام»(4). - وليس للقول الآخر إلّا وجوه ضعيفة كالأصل وإطلاق الآية، والصحيحة النافية للبأس عن مسح الوضوء مقبلا ومدبرا، والإجماع المحكيّ عن الانتصار. والأوّل يخرج عنه بما مرّ، والثاني والثالث قد ظهر ما فيهما في غسل الوجه. والثالث غير ثابت وعلى فرضه موهون بمصير المعظم إلى خلافه فلا تعويل علية جدّا.

المسألة الثالثة: فيما يدخل في غسل اليد تبعا وما لا يدخل، وهو أمور:
الأوّل: شعر اليد،

فإنّه يجب غسله مع بشرة اليد تبعا لما يفهم عرفا من الأمر بغسل

ص: 517


1- الوسائل 405:1 الباب 19 من أبواب الوضوء ح 1.
2- المستدرك 311:1 الباب 18 من أبواب الوضوء ح 3.
3- الوسائل 399:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 24 -
4- الوسائل 444:1 الباب 32 من أبواب الوضوء ح 3.

اليد غسله قصر أو طال خفّ أو كثف، حتّى أنّه لو توقّف غسل البشرة على تخليله وجب هنا وفاقا في جميع ذلك لجماعة منهم الذكرى والذخيرة وغيرهما، ففي المحكيّ عن الذكرى «الأقرب وجوب تخليل الشعر لو كان على اليد وإن كثف لتوقّف غسل اليد عليه، وهل يجب غسله ؟ الاقرب ذلك لأنّه من توابع اليد»(1) انتهى. واستحسنه في الذخيرة(2) فهذا الشعر يفارق شعر الوجه من وجهين:

احدهما: في عدم وجوب غسل ما استرسل من شعر اللحية، ووجوب ما استرسل من شعر اليد بزيادة طوله.

وثانيهما: في عدم وجوب تخليل الشعر في الوجه ووجوبه في اليد، والفارق في المقامين هو النصّ ، أمّا الأوّل فهو النصّ المتقدّم المحدّد للوجه طولا وعرضا فما خرج عن الحدّ حينئذ خارج عن الغسل الواجب، ولا يوجد نحوه في اليد بالنسبة إلى العرض، فيدخل ما خرج بطوله عن عرض اليد بحكم التبعية في الغسل، ومن هنا ما قيل: من كون عدم غسل مسترسل الشعر النابت في محلّ الفرض على خلاف الأصل للدليل، واستوجه بأنّ الشعر خارج عن خلقة الوجه وليس منه، وربّما أيّد الخروج بما في نهاية الإحكام من أنّه بعد ما نفى كون اللحية من الوجه قال: «وإنّما سمّي الشعر النابت في محلّ الفرض بالوجه للمجاورة»(3) ولا ينافيه ما في التذكرة(4)كما عن المنتهى(5) من «أنّه لو غسل شعر وجهه ثمّ سقط لم يؤثّر في طهارته لأنّه من الخلقة كالجلد المنكشط من الوجه بعد غسله» إذ ليس المراد بالتعليل كونه من خلقة الوجه، بل معناه أنّ قيام الشعر مقام الوجه وانتقال الفرض إليه إنّما هو من مقتضي الخلقة الإلهيّة، فلا يؤثّر سقوطه بعد غسله في زوال الطهارة كما في الجلد المنكشط.

وأمّا الثاني فهو النصّ المتقدّم النافي للتخليل الغير الشامل لليد بقرينة العهد سؤالا وجوابا الموجب لاختصاص الحكم بالوجه، ولا ينافيه قوله عليه السلام: «إنّما عليك أن تغسل ما ظهر» في خبر زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ليس المضمضة والاستنشاق فريضة

ص: 518


1- الذكرى 132:2.
2- الذخيرة: 29.
3- نهاية الإحكام 37:1.
4- التذكرة 155:1.
5- المنتهى 33:2.

ولا سنة، وإنّما عليك أن تغسل ما ظهر»(1) لوروده في نفي غسل ما يقابل الظاهر بمعنى الجوف والباطن بقرينة سبق المضمضة والاستنشاق، لا نحو ما يكون مستورا تحت الشعر من البشرة الظاهرة.

الثاني: الظفر الّذي لا إشكال في وجوب غسله في الجملة لكونه من أجزاء اليد فيشمله دليل وجوب غسلها بجميع أجزائها،

نعم ربّما يشكل الحال في شيئين أحدهما:

ما إذا طال الظفر حتّى خرج عن حدّ اليد فهل يجب غسله كما هو صريح قواعد العلّامة(2) وظاهر الدروس(3) وعن الذكرى والبيان والجعفرية وشرحها والمقاصد العلية(4) أو لا يجب ؟ كما استظهره شارح الدروس تمسّكا بالأصل وعدم دليل صالح للخروج عنه(5) وربّما عزي إلى المشكاة على إشكال(6) وفي التذكرة «يحتمل وجوب غسله لأنّه جزء اليد، والعدم كالمسترسل من اللحية»(7) فلم يرجّح شيئا من الاحتمالين كما عن المنتهى ونهاية الإحكام وجامع المقاصد وكشف اللثام أيضا(8) وعن الذكرى الفرق بينه وبين فاضل اللحية باتّصال الأظفار بمتّصل دائما(9) وعن جامع المقاصد(10)وهذا الفرق غير ظاهر.

أقول: ولعلّ مراده قدس سره اتّصال القدر الزائد من الظفر بالقدر المتعارف منه الّذي هو متّصل دائمي باليد. ومرجعه إلى أنّه جزء من جزء اليد، بخلاف فاضل اللحية فإنّه جزء ممّا ليس جزء من الوجه، والأولى إحالة الفرق إلى النصّ حسبما أشرنا اليه، والمسألة لا تخلو عن إشكال. والأصل سليم عمّا يوجب الخروج عنه لولا استصحاب الحدث، لكنّ الاحتياط مع ذلك واضح، وأحوط منه تقليم المقدار الزائد بل قد يجب مقدّمة لو كان مانعا عن وصول الماء إلى طرف الاصبع للشك في انتقال الفرض منه إليه في

ص: 519


1- الوسائل 4311 الباب 29 من أبواب الوضوء ح 6.
2- القواعد 202:1.
3- الدروس 91:1.
4- الذكرى 132:2، البيان: 9، الجعفرية (رسائل المحقّق الكركي) 87:10، المطالب الجعفرية: 46، المقاصد العليّة: 90.
5- مشارق الشموس: 109.
6- نقل عنه في مفتاح الكرامة 405:2.
7- التذكرة 160:1.
8- المنتهى 39:2، نهاية الإحكام 41:1، جامع المقاصد 217:1، كشف اللثام 536:1.
9- الذكرى 132:2.
10- جامع المقاصد 217:1.

نحو هذه الصورة. وعلى كلّ حال فمقتضى الاحتياط أن لا يترك الأظفار إلى أن يخرج عن الحدّ المتعارف، كما نصّ عليه شارح الدروس(1).

وثانيهما: ما لو كان تحته وسخ مانع عن وصول الماء، فالّذي نصّ عليه جماعة كالمعتبر والقواعد والتذكرة وجوب إزالته إن أمكن بغير مشقّة(2) كما عن المقاصد العليّة(3) وعن جامع المقاصد أنّه الأقوى(4) وعن المنتهى احتمال العدم وإن قرّب الوجوب أيضا، وعبارته - على ما حكي - «ولقائل أن يقول: إنّه حائل عمّا يجب غسله يمكن إزالته من غير مشقّة فيجب، ويمكن أن يقال: إنّه ساتر عادة فكان يجب على النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بيانه ولمّا لم يبيّن دلّ على عدم الوجوب، ولأنّه يستر عادة فأشبه ما يسره الشعر من الوجه»(5) ثمّ قرّب الأوّل. وفي الذخيرة «أنّ ما قرّبه غير بعيد لكن الصواب تقييده بالوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة الظاهرة، أمّا المانع من بشرة مستورة تحت الظفر بحيث لا يظهر للحش لولا الوسخ فالظاهر عدم الوجوب» ثمّ قال: «مع إمكان النزاع في أصل الغسل نظرا إلى صدق غسل اليد بدونه ولم يثبت أمر النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أعراب البادية وأمثالهم بذلك أمر وجوب، مع أنّ الظاهر عدم انفكاكهم عن ذلك»(6).

أقول: الظاهر أنّ كلام الجماعة أيضا منزّل إلى ما قيّده قدس سره كما يومى إليه تعليلهم الوجوب بإمكان الإزالة من غير مشقة، وكيف كان فهذا هو الأقوى مع مراعاة القيد، وضابطه كون البشرة المستورة تحت الوسخ بحيث لولا الوسخ لم يحتج إيصال الماء إليها إلى مبالغة كثيرة، وإلّا كان المانع عن وصول الّماء إليها هو الظفر الساتر لها، وإنّما قارنه وجود الوسخ من باب الاتّفاق فلا يترتّب عليه بنفسه حكم حينئذ، وظاهرهم في نحو ذلك يعطي الاتّفاق على سقوط الفرض من البشرة وانتقاله إلى الظفر ولازمه عدم وجوب تقليمه، لكن هذا كلّه إذا لم يستند الستر إلى طول الظفر الخارج عن الحدّ المعتاد وإلّا عاد الكلام إلى المسألة المتقدّمة، وقد عرفت أنّ مقتضي الأصل في نحوه وجوب التقليم.

ص: 520


1- مشارق الشموس: 109.
2- المعتبر 144:1، القواعد 202:1، التذكرة 160:1.
3- المقاصد العليّة: 90.
4- جامع المقاصد 217:1.
5- المنتهى 39:2.
6- الذخيرة: 29.
الثالث: لو كان له إصبع زائدة في كفّه أو كفّ زائدة في ذراعه أو ذراع زائد أو لحم نابت أو عظم نابت وكل ذلك تحت المرفق،

فظاهرهم الاتفاق على وجوب غسل الزائد. وفي شرح الدروس «لم نقف على خلاف بين الأصحاب في هذا الحكم»(1) وفي الحدائق «الظاهر أنّه لا خلاف في وجوب غسل ما تحت المرفق ممّا زاد على أصل الخلقة من يد ولحم زائد وجلد متولّد وإصبع زائدة»(2) وعلّله في التذكرة وغيرها بأنّه في محلّ الّفرض فهو تابع له، وربّما علّل بكونها أجزاء. من اليد المأمور بغسلها، وعلّل أيضا بأنّها كالأجزاء، ولا خفاء في ضعفه لرجوعه إلى نحو من القياس، ودونه في الضعف ظاهرا سابقا فإنّ المسلّم ممّا شمله النصّ آية ورواية من الجزء والتابع ما كان جزءا أو تابعا لنوع اليد، وهذا ليس منه لكونه من زيادات الشخص، فلم يظهر في النصّ المنصرف إلى النوع شمول له.

لا يقال: إنّ النصّ قد ورد بلفظ العامّ ومن حكمه الشمول لنادر أفراده أيضا، لورود هذا العامّ بصيغة الخطاب ولم يظهر في المخاطبين من كان يده على هذه الصفة، فالأولى الاستناد في الحكم إلى استصحاب الحدث المتأيّد بالاحتياط الوارد في نحو المقام على أصل البراءة.

ثمّ ظاهر إطلاقهم عدم الفرق بين ما لو طالت الإصبع الزائدة ونحوها بحيث تجاوزت العادة وبين غيره، ومقتضى كلامهم في عدم وجوب غسل فاضل اللحية أنّه كلّما ينبت في الوجه من لحم أو عظم زائدين أن لا بغسل منه إلّا ما لم يتجاوز حدّ الوجه في الطول والمعرض، كما استفاده مفتاح الكرامة(3) من تعليلاتهم ومطاوي كلماتهم.

وربّما يشتبه الفرق حتى أنّ منهم على ما حكاه في مفتاح الكرامة - من نفاه تعليلا «بأنّ المدار في وجوب الغسل إمّا على أنّه نبض في محلّ الفرض أو على وقوعه في محلّ الفرض، أو عليهما معا، والأخيران منفيان بالإجماع فتعيّن الأوّل، فكلّما نبت في الوجه وإن طال يجب غسله، وإنّما لم يتعرّض لذلك الأصحاب لندرة وقوعه» - إلى أن قال -: «فعلى هذا يكون عدم غسل مسترسل الشعر النابت في محلّ الفرض على

ص: 521


1- مشارق الشموس: 109.
2- الحدائق 247:2.
3- مفتاح الكرامة 397:2.

خلاف الأصل للدليل»(1).

أقول: لا دليل على ذلك إلّا التحديد الوارد في النصّ طولا وعرضا، ومقتضاه عدم وجوب غسل ما خرج عن الحدّ طولا وعرضا وهو عامّ ، فلا فرق بين الشعر وغيره إذا كان في الوجه، بخلافه اليد حيث لم يرد لعرضه تحديد ولا لطوله من غير جهة المرافق، فحصل الفارق كما تنبّه عليه في مفتاح الكرامة قائلا: «والتحقيق أن يقال: إنّ الوجه لمّا كان محدودا في الطول والعرض كان كلّما خرج عن ذلك ليس منه فلا يجب غسله، وأمّا اليد فلمّا كانت غير محدودة في جهة العرض فكلّما ينبت فيها فإنّما ينبت في عرضها فيجب غسله»(2) لهذا استشكل في الأظفار لأنها كانت في طولها فتأمّل جيّدا.

الرابع: لو كان له يد زائدة،

فالأصحاب فيه بين من أطلق عدم وجوب غسلها - كما في المعتبر(3) وعن المبسوط(4) أيضا - ومن أطلق وجوبه كما في الشرائع(5) ومن فصّل بأنّها إن كانت غير متميّزة عن الأصليّة أو كانت تحت المرفق وجب غسلها وإلّا لم يجب، كما في التذكرة والقواعد والدروس(6) وعن المنتهى والبيان والذكرى وحاشية الشرائع والمسالك والروضة والمقاصد العليّة والأنوار القمرية(7) وربّما ينزّل عبارة المطلقين على هذا التفصيل.

ويعرف الزائدة عن الأصليّة على ما يستفاد من عبائرهم بقصرها ونقص أصابعها وانتفاء البطش أو ضعفه، وقد يلوح من بعض العبارات الوفاق على وجوب الغسل مع أحد الشرطين، بل في كلام غير واحد استظهار عدم الخلاف فيه مع وقوع الاختلاف عند انتفائهما كما لو كانت متميّزة فوق المرفق.

وقال في المدارك: «إذا لم يكن اليد الزائدة لها مرفق لم يجب غسلها قطعا»(8)

ص: 522


1- مفتاح الكرامة 398:2.
2- مفتاح الكرامة 397:2-398.
3- المعتبر 144:1.
4- المبسوط 21:1.
5- الشرائع 21:1.
6- التذكرة 160:1، القواعد 202:1، الدروس 91:1.
7- المنتهى 38:2، البيان: 9، الذكرى 133:2، حاشية الشرائع للشهيد الثاني: 32، المسالك 37! 1، الروضة 325:1، المقاصد العليّة: 90، نقله عنه في مفتاح الكرامة 395:2.
8- المدارك 206:1.

والظاهر أن مراده قدس سره دعوى خروج ما لا مرفق له عن معقد المسألة، وهو جيّد بقرينة فرض صورة الاشتباه باليد الأصلية، نظرا إلى أنّ الأصليّة لها مرفق فلا يشتبه به ما لا مرفق له، لكن ينبغي تقييد الحكم بعدم وجوب الغسل بما لو كان ذلك فوق المرفق لدخول ما هو تحته في عنوان المسألة المتقدّمة المحكوم عليه فيها بوجوب الغسل.

والوجه في القطع بخروج ما ذكر وعدم وجوب غسله أنّ فقدان المرفق ينهض قرينه لعدم اندراجه في اليد المامور بغسلها مع المرافق. والمعتمد عندي أيضا هو التفصيل، فأمّا وجوب غسل ما تحت المرفق فلأنّه من جزئيّات المسالة السابقة، وقد ظهر حكمها.

وأمّا وجوب غسل الجميع مع الاشتباه فلقاعدة الشغل واستصحاب الحدث اللذين لا يعارضهما أصل البراءة للشك في تحقّق غسل اليد بالمعنى المراد من الآية بدونه.

وأمّا عدم وجوب غسل الزائدة مع التمييز فلأصالة البراءة مع صدق غسل اليد بالمعنى المراد من الآية على غسل الأصليّة جزما، وربّما يقع الإشكال لو قطع الأصليّة.

ونحوه في الإشكال ما لو انحصر يده بحسب الخلقة فيما لا مرفق له، فإنّ الالتزام بعدم وجوب غسلهما حينئذ مشكل، وأشكل منه بعد البناء على قصور دلالة النصّ بالنسبة إليهما إيجاب غسلهما إلّا أن يكون هناك إجماع، لكن لم نقف على من نقله إلّا الوحيد البهبهاني في الثاني في حاشية المدارك(1) آمرا بالتأمّل فيه، فالمسألة بالنسبة إليهما موضع توقّف.

الخامس: لو كان على يده ما علم كونه مانعا عن وصول الماء إلى البشرة

من خاتم أو سبر أو دملج أو غيرها من الأجسام ولو نحو الشمع والقير والوسخ، وجب تحريكه أو نزعه إجراء للماء على المحلّ بلا إشكال، وفاقا للمقنعة والمراسم(2) وغيرهما من أساطين الطائفة، كالمعتبر والشرائع والنافع والتذكرة والرياض(3) بل لا نعرف في ذلك خلافا، بل في الحدائق «الظاهر أنّه لا خلاف فيه»(4) بل في المعتبر «وهو مذهب

ص: 523


1- حاشية المدارك 296:1.
2- المقنعة: 49، المراسم: 39.
3- المعتبر 144:1، الشرائع 21:1، النافع 6:1، التذكرة 161:1، الرياض 157:1.
4- الحدائق 248:2.

فقهائنا» هذا.

مضافا إلى أنّ الواجب بالنصّ والإجماع إنّما هو غسل العضو، فيجب رفع ما يمنع عنه مقدّمة بأحد وجوهه، وإلى فحوى ما ستعرفه من الخبر الصحيح الآمر بالتحريك في صورة الشك. وليس في كلام من خصّ النزع - كما عن المقنعة والمراسم وغيرهما - أو التحريك بالذكر كما في الشرائع والنافع والتذكرة دلالة على اختصاص الحكم، بعد ملاحظة إرادة المثال أو مراعاة الفرد الغالب أو الطريق الأسهل.

ولو كان على يده ما يشك كونه مانعا فلم نقف في أكثر المتعرّضين لصورة العلم على من تعرّض لحكمه صراحة أو ظهورا، لظهور عباراتهم حيث عبّروا بقولهم «ويحرّك ما يمنع وصول الماء إلى البشرة» وما يقرب من ذلك في صورة العلم، نعم احتمل العموم بناء على إرادة ما من شأنه أن يمنع سواء علم بالمنع أو شك فيه لمجرّد ما فيه من صلاحية المنع. وكيف كان فالشك المتصوّر في المقام على قسمين:

أحدهما: ما يتعلّق بوجود المانع المعبّر عنه بالحاجب لحجبه العضو، كما لو شك في وجود شيء من القير أو الشمع أو الوسخ الغليظ عليه.

وثانيهما: ما يتعلّق بمنع الموجود المعبّر عنه هنا بالحجب، وهو قد يكون باعتبار الشك في غلظة ما علم لصوقه به على وجه تمنع عن نفوذ الماء، كما لو علم بلصوق وسخ أو جسم رقيق آخر بالعضو مع الشك في أنّه هل له غلظة مانعة عن النفوذ أو لا؟

وقد يكون باعتبار الشك في لصوق ما علم غلظته المانعة على تقدير اللصوق، كالخاتم والسبر المشكوك في سعته وضيقه، فإنّ كلّا من هذين من باب الشك في حجب الشيء الموجود، نظرا إلى أنّ الحجب مشروط تحقّقه بأمرين اللصوق وغلظة اللاصق، وعلى ذلك يبنى كلام من مثّل له بالخاتم والسبر المذكورين، فالإيراد عليه بأنّه من قبيل الشك في وجود الحاجب لأنّ الشك حينئذ في اتّصال أطراف الخاتم ولصوقها بجميع ما يحاذيها من البدن وانفصال بعضها ومجرّد وجود الحاجب مع الشك في اتّصاله ولصوقه لا يخرجه عن الشك في وجود الحاجب ليس على ما ينبغي.

والاستدلال عليه بأنّ مناط الشك في الصفة أو الموصوف أن يكون ما عدى المشكوك فيه من الأمور الّتي لها دخل في الحجب معلوما، فالشك في لصوق الخاتم

ص: 524

بجميع ما يحاذيه من البدن مع العلم بحجبه على تقدير اللصوق شك في وجود الحاجب على جزء من البدن، غير ناهض وإلّا انتقض بمثل الوسخ والجسم الرقيق لكون الحجب فيهما أيضا على تقدير الغلظة معلوما، كما أنّه في الخاتم على تقدير اللصوق معلوم.

والتحقيق - بناء على المناط المذكور - انّ المشكوك فيه إذا كان هو الحجب فما له دخل فيه غلظة الحاجب، ومنه لصوقه ومنه وجوده، والمعلوم محقّقا في مثال الخاتم كمثال الوسخ هو الأخير دون أحد الأوّلين بالقياس إلى المثالين، ولا ريب أنّ الشك في أحدهما بضابطة أنّ الشك في الشرط شك في المشروط هو الموجب للشك في الحجب، فهو معلوم مقدّرا لا محقّقا، والمعتبر فيما يشخص المشكوك فيه بناء على المناط المذكور هو المعلوم المحقّق لا المقدّر، فلو أوجب مجرّد معلوميّه الحجب على تقدير اللصوق خروج أوّل المثالين عن الشك في الحجب، لأوجب معلوميته على تقدير الغلظة خروج ثاني المثالين أيضا عن الشك في الحجب، لكون المعلوميّة فيهما معا معلّقة على تحقّق شرط غير معلوم التحقّق، ولزم منه انحصار صور الشك في المقام في الشك في وجود الحاجب وهذا خلاف فرض المورد، حيث أدرج ثاني المثالين في الشك في الحجب، فليتدبّر.

وعلى أيّ حال فلا إشكال في أنّ القسم الأوّل من الشك يبني فيه على أصالة عدم الوجود. ودعوى معارضتها بأصالة عدم وصول الماء إلى البشرة وأصالة عدم الفراغ من التكليف كما ترى غفلة عن قاعدة الورود. وما عساه يتوهّم من أنّ أصل العدم لا يثبت به وصول الماء الّذي هو لازم عادي للعدم المستصحب، يدفعه: أنّ وصول الماء لا يستند ثبوته إلى الأصل، بل إلى وجود مقتضيه وهو صبّ الماء وإمراره فإنه سبب عادي له، والتمسّك بالأصل إنّما هو لغرض نفي احتمال المانع، والبناء على نحو هذا الأصل ممّا استقرّ عليه طريقة العقلاء وأهل الشرع، ولا سيما في المقام المدّعى فيه السيرة القطعيّة الكاشفة عن الواقع.

وأمّا القسم الثاني منه فالظاهر أنّ أصالة عدم وصول الماء إلى البشرة سليمة عمّا يصلح للورود عليها، فإنّ غاية ما يتخيّل وروده عليهما إنّما هو أصالة عدم احتجاب البشرة في صورة ما لو كان الشك في الحجب باعتبار الشك في غلظة الشيء الموجود

ص: 525

ورقته، أو هي مع أصالة عدم اللصوق في الصورة الأخري وهو غير صالح له.

أمّا في الصورة الأولى: فلأنّ الشك في كلّ من الوصول والحجب مسبّب عن الشك في غلظت الموجود ورقته، وأصالة عدم الاحتجاب لا تصلح لإثبات الرقة، فموضوع أصالة عدم الوصول بعد على حاله.

وأمّا في الصورة الثانية: فلأنّ الشك فيهما مسبّب عن احتمالي سعة الخاتم وضيقه، وأصالة عدم الاحتجاب مع أصالة عدم اللصوق لا تعطيانه وصف السعة لعدم اعتبار الأصول المثبتة، فيكون موضوع أصالة عدم الوصول أيضا على حاله، فالبناء على هذا الأصل في كلتا الصورتين، والمفروض عدم قيام مخرج عنه من إجماع أو سيرة أو غيرهما هذا، مضافا إلى ما ورد في نحو الصورة الثانية من الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام، قال: «سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها، لا تدري يجري الماء تحته أم لا كيف تصنع إذا توضّأت أو اغتسلت ؟ قال:

تحرّكه حتّى يدخل الماء تحته، أو تنزعه، وعن الخاتم الضيّق لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضّأ أم لا كيف يصنع ؟ قال: إن علم أنّ الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضّأ»(1)وفي معناه الحسن عن الحسين بن أبي العلاء قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الخاتم إذا اغتسلت ؟ قال: حوّله من مكانه، وقال: في الوضوء تديره، وإن نسيت حتّى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة»(2) بناء على كون الجهة في نفي الإعادة هو الشك بعد الفراغ إمّا لأنّ النسيان يراد به الغفلة رأسا، أو كون دليل دخوله في الشك بعد الفراغ هو هذا الخبر [وإلّا] فنسيان الشك بعد عروضه ثمّ الالتفات إليه بعد الفراغ ليس من الشك بعد الفراغ كما قيل، وربّما يحمل فيه الأمر على الاستحباب بحمل الخاتم على الواسع بقرينة نفي الإعادة.

وربّما توهّم التعارض في الصحيح بين مفهوم ذيله ومنطوق صدره من حيث إنّ المفهوم نفى وجوب الإخراج مع عدم العلم وهو خلاف منطوق الصدر، ودفع تارة يكون المنطوق أقوى دلالة فينهض قرينة على عدم اعتبار المفهوم هنا، أو بتقييد

ص: 526


1- الوسائل 467:1 الباب 41 من أبواب الوضوء ح 1.
2- الوسائل 468:1 البابا 41 من أبواب الوضوء ح 2.

المفهوم بالمنطوق نظرا إلى كونه خاصّا بصورة عدم العلم بالدخول والمفهوم عامّا لها ولصورة العلم بالدخول، فإنّ عدم العلم بعدم الدخول قد يكون للعلم بالدخول وقد يكون للشك في الدخول والعدم.

ويزيفه: أنّه إخراج للجواب أجنبيّا عن مورد السؤال لفوات المطابقة معه بينه و بين السؤال، فإنّ مرجع أوّل الوجهين بعد إلقاء المفهوم إلى تعرّض الجواب منطوقا لبيان حكم صورة العلم بعدم الدخول، ومرجع ثأنيهما بعد إخراج صورة الشك عن المفهوم إلى تعرّض الجواب منطوقا لصورة العلم بعدم الدخول ومفهوما لصورة العلم بالدخول، فيبقى مورد السؤال خارجا عن الجواب على كلا الوجهين وهو كما ترى، ولا معنى للفرار عن محذور بارتكاب ما يفضي إلى محذور آخر في كلام المعصوم.

ومن هنا ما اعترض عليه بأنّ مورد السؤال في المطلق صورة عدم العلم بالوصول، فالمطلق بالنسبة إليها نصّ غير قابل للتقييد بما عدا.، إذ يصير المنطوق والمفهوم كلاهما أجنبيّا عن مورد السؤال كما لا يخفى، ومن هنا يعلم عدم جواز الترجيح يكون الصدر منطوقا، لأنّ المفهوم إذا جيء به لبيان الحكم فالجملة الشرطية نصّ في المفهوم لا أنّه ظاهر، لعدم احتمال خلوّها عنه فيكون في حكم المنطوق.

وبالجملة فتعارض المنطوق والمفهوم المذكورين هنا من قبيل المتكافئين، فلا رجحان للمنطوق على المفهوم لا بالتقييد ولا بكونه منطوقا، والسرّ في ذلك كون الكلام نصّا في مورد السؤال فلا يجري عليه بالنسبة إليه في باب الترجيح حكم المطلق ولا حكم المفهوم.

واخرى(1): بحمل العلم بعدم الدخول على العلم يعدم استمرار الدخول، بجعل النفي الداخل على المضارع المشعر بالاستمرار راجعا إلى نفي الاستمرار لا إلى أصل الدخول، وحاصله أنّه إذا علم أنّه ليس بحيث يدخله الماء دائما بمجرّد الإجراء فليخرجه، وهذا وإن كان خلاف الظاهر إلّا أنّه لا بأس به في مقابل الصدر، بل لعلّ هذا المعنى هو الظاهر بملاحظة أنّ إحالة الجواب عن مورد السؤال إلى المفهوم وذكر

ص: 527


1- عطف على قوله: «ودفع تارة...» الخ.

المنطوق الأجنبيّ عنه في غاية البعد، بل كان ينبغي أن يصرّح بعدم وجوب الإخراج في مورد السؤال، فلابدّ من حمل المنطوق على معنى ينطبق على مورد السؤال، وهو الشك في وصول الماء تحت الخاتم من جهة أنّه قد يتّفق الدخول وقد لا يتفق، فقال:

إذا علم أنّه بحيث لا يدخله على وجه الاستمرار فليخرجه.

أقول: ويشكل هذا أيضا - مع كونه تنزيلا لمورد السؤال على ما لا يساعد عليه مساقه، وهو صورة نادرة تتحقّق أحيانا فيما يعلم تارة دخول الماء واخرى عدم دخوله، أو جعلا للجواب أيضا أجنبيا عن مورد السؤال لو كان النظر فيه إلى صورة عدم العلم بالدخول كما هو الظاهر لا إلى صورة العلم بعدم استمرار الدخول - أنّه لا يجدي نفعا في حسم مادّة إشكال التعارض بين الصدر والذيل، غاية الأمر أنه يقع حينئذ بين المنطوقين من حيث ظهور الأوّل في وجوب أحد الأمرين من التحريك والنزع تخييرا وظهور، الثاني في وجوب الإخراج المرادف للنزع تعيينا كما لا يخفى، وجعل ذلك فرقا بينهما بحسب الموارد من حيث كون مورد السؤال في الأوّل هو السوار والدملج وفي الثاني هو الخاتم مع كونه ممّا يضحك به الثكلى دفع لتوهّم التعارض من طريق آخر، فلا حاجة معه إلى تكلّف ما ذكر.

فالّذي يساعد عليه النظر - بعد ملاحظة الانفهام العرفي من ظاهر مساق السؤال والجواب - هو أنّ السائل بعد ما استفاد من جواب سؤاله الأوّل عموم الحكم التخييري للخاتم أيضا، توهّم أنّ لضيقه لعلّه باعتبار ما فيه من وصف الضيق خصوصيّة أوجبت اختلافا في الحكم بينه وبين نوع الخاتم، كما يشعر به أخذ ذلك الوصف في مورد السؤال، ثمّ سأله استعلاما لواقع الأمر فصدر الجواب على طبقه، وملخّصه أنّه ليس لضيق الخاتم خصوصية موجبة لاختلاف إلّا إذا بلغ في الضيق حدّا لا يدخل تحته الماء إلّا بالإخراج، فإن علم أنّه لا يدخله لضيقه فليخرجه، ويكون مفهومه حينئذ أنّه إذا لم يعلم ذلك منه باعتبار عدم علمه بهذه المرتبة من الضيق فلا يجب عليه إخراجه تعيينا، وهذا كما ترى لا ينافي منطوق الصدر لأنّ عدم وجوب الشيء بعينه لا ينافي كونه أحد فردي الواجب التخييري كما لا يخفى.

وربّما احتمل في الأمر بإلاخراج إرادة الاستحباب، ولكنه بعد ملاحظة ما بينّاه

ص: 528

ليس بشيء، وأضعف منه ما في كلام بعضهم من الجمع بين الصدر والذيل بتخصيص الأوّل بالغسل والثاني بالوضوء، ثمّ الاعتذار عن الفرق بينهما بكفاية عدم العلم في الأوّل في وجوب التخليل واشتراط العلم بالعدم في الثاني يكون الأمر في الغسل أشدّ، ثمّ قال: «ويمكن حمل ما في الوضوء على الوجوب وما في الغسل على الاستحباب، أو على أنّه لمّا كان الغالب في الأوّل لاشتماله على الدملج عدم وصول الماء يكفي فيه عدم العلم بخلاف الثاني فإنّه بخلافه» وهذا كلّه كما ترى.

ثمّ في كلام جماعة الحكم باستحباب التحريك لو كان الخاتم ونحوه واسعا غير مانع عن وصول الماء، بل ظاهر عبارة المعتبر حيث قال: «ويحرّك ما يمنع وصول الماء إلى البشرة وجوبا، ولو لم يمنع حرّكه استحبابا وهو مذهب فقهائنا»(1) كونه إجماعا وعلّل في كلام جماعة منهم المعتبر أيضا بكونه للاستظهار.

واعترض عليه في حاشية المدارك «بأنّه إن لم يحصل العلم بالوصول فلابدّ من التحريك أو النزع تحصيلا للعلم بالامتثال والبراءة اليقينيّة، وإن حصل العلم فكيف يتأتّى الاستظهار»، ثمّ وجّهه: «بأنّ مراتب العلم متفاوتة، وحصول الأقوى أولى لكونه أوثق وأحوط» ثمّ دفعه: «بأنّ هذا لا يلائم طريقة الشارع»(2) وقد يوجّه بأنّ معنى الاحتياط هنا استحباب الإيصال بالتحريك، لا استحباب التحريك بعد العلم بالوصول، وفائدته حينئذ دفع الشك الواقع بعد ذلك الموجب لكلفة العود إن كان قبل الفراغ، وتزلزل النفس من حيث الواقع إن كان بعده، أو لدفع تبين عدم وصول الماء إليه الموجب لكلفة الإعادة، وربّما استدلّ عليه برواية الحسين بن أبي العلاء، المتقدّمة بنا على ما تقدّم الإشارة إليه. والكلّ لا يخلو عن شيء، والتمسّك بذيل قاعدة التسامح لعلّه أحسن، خصوصا مع ظهور دعوى الإجماع فيه.

السادس: قال في التذكرة: «لو انكشطت جلدة من محلّ الفرض وتدلّت منه وجب غسلها، ولو تدلّت من غيره لم يجب،

ولو انكشطت من غير محلّ الفرض وتدلّت من محلّ وجب غسلها»(3) انتهى. وإلى الفرع الأخير يشير ما في المعتبر «لو تدلّت لحمة

ص: 529


1- المعتبر 144:1.
2- حاشية المدارك 297:1.
3- التذكرة 159:1.

من غير موضع الفرض إلى موضع الفرض متصلة به غسلت، كما يغسل الإصبع الزائدة، وربّما احتمل عدم وجوب المقدار الزائد على المنكشط عن محلّ الفرض. واختصاص الوجوب بالمنكشط عنه إبقاء لكلّ منهما على حكمه السابق، والأوّل أحوط» وإلى الفرع الثاني يشير ما عن البيان من «أنّ الجلدة المتدلّية من محلّ الفرض إلى غيره يسقط غسله»(1) وعن المنتهى أنّه نفى عنه الخلاف(2) وفي التذكرة أيضا بعد ما تقدّم «وان انقطعت من أحد المحلّين فالتحم رأسها في الآخر، وبقى وسطها متجافيا فهي كالنابتة في المحلّين يجب غسل ما حاذى محلّ الفرض من ظاهرها وباطنها وما تحتها من محلّ الفرض»(3) والوجه في كلّ هذه الفروع واضح ممّا تقدّم فلاحظ.

المسألة الرابعة: الأقطع لا شيء عليه بالنسبة إلى يده المقطوعة،

إن كانت مقطوعة ممّا فوق المرفق بحيث عمّ القطع بعض عضديه لا غسلا ولا مسحا لا وجوبا ولا استحبابا، للأصل. وضرورة سقوط الفرض بانتفاء محلّه الّذي ليس منه الباقي، مع عدم قيام ما يعطى من الأدلّة بالنسبة إليه حكما من وجوب غسل أو استحبابه أو استحباب مسح مع ظهور الإجماع على عدم وجوب شيء كما ادّعاه العلّامة على ما حكي عنه في المنتهي(4) وربّما حكي عن الروض(5) أيضا حيث لم بعهد الخلاف عن أحد من أصحابنا إلّا ما اشتهر نسبته إلى ابن الجنيد من القول بوجوب غسل العضد. لكن عبارته المحكيّة «إذا كان أقطع من مرفقه غسل ما بقى من عضده» ليست بصريحة ولا ظاهرة في المخالفة، بل هي بملاحظة أنها إفتاء بمتن الرواية الوارد في صحيحة عليّ بن جعفر الآتية ظاهرة فيما نستظهره من تلك الصحيحة من وجوب غسل الباقي من المرفق الّذي هو بعض العضد. فالقول المذكور ليس بمحقّق، كما أنّ قائله من أصحابنا كمستنده ليس بواضح.

نعم ذهب جماعة - كما في التذكرة والدروس والمدارك وعن نهاية الإحكام والمنتهى والذكرى والبيان - إلى استحباب غسل العضد(6) وغير واحد كما في المعبر(7)

ص: 530


1- البيان: 9.
2- المنتهى 37:2.
3- التذكرة 159:1-160.
4- المنتهى 37:2.
5- روض الجنان 102:1.
6- التذكرة 159:1، الدروس 92:1، المدارك 205:1، نهاية الإحكام 38:1، المنتهى 37:2، الذكرى 133:2، البيان: 9.
7- المعتبر 144:1.

وعن المبسوط(1) حيث قال: «يستحبّ مسح الباقي من العضد» إلى استحباب مسحه، وربّما عزي ذلك إلى التذكرة أيضا لكن الموجود في النسخة الحاضرة عندنا هو الغسل.

ومستند الأوّلين الصحيحة المشار إليها بناء على ما فهموه من ظهورها في غسل الباقي بعد القطع من العضد، حملا للأمر الوارد فيها على الاستحباب لمخالفة ظاهره الإجماع، وعليه مبنيّ نسبة القول بالوجوب إلى ابن الجنيد، قال في المدارك - بعد نقل الرواية وعبارة ابن الجنيد -: «ولم يعتبر العلّامة في المنتهى خلافه حيث أجاب عن هذه الرواية بأنّها مخالفة للإجماع، ثمّ حملها على الاستحباب وهو حسن» انتهى(2).

وبما سنقرّره في توجيه الرواية تعرف ضعفه.

وأمّا استحباب المسح فلم يظهر له مستند كما اعترف به جماعة من أساطين الطائفة، وربّما يقوى في كلام أهل هذا القول احتمال إرادة الغسل من المسح كما ذكره غير واحد.

وإن كانت مقطوعة ممّا دون المرفق أو من مفصل المرفق يجب عليه غسل الباقي إلى المرفق ولو كان هو طرف العضد الّذي هو بعض المرفق كما في الصورة الأخيرة.

أمّا فيما لو كان القطع ممّا دون المرفق فعليه الإجماع كما في المدارك وغيره، وعن المنتهى «وهو قول أهل العلم للاستصحاب»(3) - بمعنى استصحاب الحالة المانعة من الصلاة وهو الحدث، أو بمعنى استصحاب وجوب غسل هذا الجزء الثابت قبل القطع إذا اخذ لا بشرط الانفراد لئلّا يخدشه انتفاء الحالة السابقة، ولا بشرط الاجتماع لئلّا يخدشه انتفاء الموضوع على ما في كلام غير واحد من متأخري المتأخرين، فإنّ الجزء إذا أخذ لا بشرط شيء من الشرطين يصلح لأن يكون مجرى الاستصحاب، وضابطه على ما قرّر في الأصول كون القضيّة المتيقّنة في الآن السابق بعينها مشكوكة في الآن اللاحق، على معنى اتّحاد القضيّتين من جميع الجهات إلّا في وصفي اليقين والشك وزمانيهما، ولا ريب أنّ وجوب غسل هذا الجزء إذا اخذ على الوجه المذكور يصدق عليه أنّه كان متيقنا قبل القطع فصار مشكوكا بعده، ولعلّ المعنى الأوّل أولى لكونه أعمّ ،

ص: 531


1- المبسوط 21:1.
2- المدارك 25:1.
3- المنتهى 36:2.

إلّا أنّ المذكور في كلام القوم أخذ. بالمعنى [الثاني] ولا ضير فيه، وإن افتقر في تعميم الحكم إلى ضميمة عدم القول بالفصل كما لا يخفى - ولفحوى ما سيأتي من صحيحة عليّ بن جعفر، ولإطلاق صحيحة رفاعة، وحسنته عن أبي عبدالله عليه السلام ففي أوليهما قال:

«سألته عن الأقطع اليد والرجل كيف يتوضّا؟ قال: ذلك المكان الّذي قطع منه»(1) وفي ثانيتهما قال: «سألته عن الأقطع ؟ قال: يغسل ما قطع منه»(2) وحسنة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن الأقطع اليد والرجل ؟ قال: يغسلهما»(3).

والطعن في دلالة الأوليين بالإجمال لقيام احتمال إرادة محلّ القطع كما في كلام شارح الدروس(4) وغير واحد ممّن تبعه تعسّف، وكأنّه نشأ عن التعبير في الصحيحة «بالمكان»، وفيه: أنّ إطلاق المكان ليس باعتبار أنّه محلّ القطع، بل الظاهر بحكم الانسياق العرفي أنّه باعتبار كونه محلّ الفرض، فيراد به العضو الّذي وقع عليه القطع ذراعا كان أو مرفقا، ومحصّل المراد بقيّة اليد بعد القطع. وأظهر في هذا المعنى الحسنة المعبّرة بالموصول الظاهر في العضو، وصرفه إلى محلّ القطع بعيد عن الفهم جدّا، والضمير المرفوع بالنيابة عن الفاعل في جملة «قطع» عائد في كلتا الروايتين إلى الأقطع بضرب من المجاز في الإسناد، والمجرور عائد إلى العضو الّذي اريد من لفظ المكان والموصول، فلا قصور في دلالتهما أصلا، كما أنّه لا قصور في دلالة الحسنة، ولا يقدح فيها إطلاق الغسل بالنسبة إلى الرجل، لقوّة احتمال إرادة عموم المجاز ليشمل للمسح أيضا ولو بداعي التقيّة الّتي تندفع هنا بإرادة خلاف الظاهر نظرا إلى كونها قوليّة.

وقد يستدلّ عليه أيضا بقاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور»(5) و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(6) و «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(7) وفيه من جهة السند والدلالة تأمّل.

ونوقش أيضا: بأنّ وجوب الوضوء إنّما هو لرفع الحدث أو إباحة الصلاة نظير غسل الثوب مرّتين لإزالة الخبث، فالواجب حقيقة وهو الطهر ليس مركبا ذا أجزاء.

ص: 532


1- الوسائل 480:1 الباب 49 من أبواب الوضوء ح 4 و 3.
2- الوسائل 479:1 الباب 49 من ابواب الوضوء ح 1.
3- الوسائل 480:1 الباب 49 من أبواب الوضوء ح 4 و 3.
4- مشارق الشموس: 110. (5و6و7) عوالي اللآلئ 58:4/205 و 207 و 206.

ودفع: بأنّ عموم القاعدة لهذا المقام يكشف عن حصول الغرض المقصود من الكلّ وهو الطهر بالأجزاء الممكنة، نعم لو علم من الخارج عدم حصوله بها فلا مجال لجريان هذه القاعدة كما في مثال الغسل مرّتين، فإنا نعلم أنّ الواجب الّذي هو الطهر لا يحصل بها، فلا يجوز التمسّك بهذه القاعدة لوجوب المرّة عند تعذّر المرّتين مع الاعتراف بعدم حصول الطهارة.

وأمّا فيما لو كان القطع من مفصل المرفق على معنى أنّها ابينت من مفصل العضد والذراع من غير قطع لعظم العضد فعليه المعظم، ولعلّه إجماعي على تقدير الإجماع على تفسير المرفق بما دخل فيه طرف العضد، فمن نفى وجوب غسله كالعلّامة في المنتهى تعليلا «بأنّه إنّما وجب غسله توصّلا إلى غسل المرهق، ومع سقوط الأصل انتفى الوجوب» فإنّما بني على خروجه عنه كما هو قضيّة عبارة المنتهى(1) وقد تقدّمت، وعن نهاية الإحكام(2) أيضا احتماله لكون المرفق طرف عظم الساعد خاصّة، وممّا ذكرنا علم أنّه لا خلاف في المسألة بعد الاتفاق على تفسير المرفق، كيف ولا نافي لوجوب غسله إلّا العلّامة وقد عرفت وجه مخالفته، مع أنّه أوجب في التذكرة غسله قائلا: «وإن قطعت من المرفق فقد بقي من محلّ الفرض بقيّة وهو طرف عظم العضد لأنّه من جملة الرفق فإنّ المرفق مجمع عظم العضد وعظم الذراع»(3).

وربّما يتوهّم المخالفة من عبارة الشرائع حيث قال «وإن قطعت من المرفق سقط فرض غسلها»(4) ويزيّفه: أنّ هذه العبارة مفروضة فيما لو دخل المرفق الّذي منه طرف عظم العضد في القطع، بقرينة تعبيره في الّمعتبر بنحو هذه العبارة مع إردافها بما يشهد بدخوله فيه، فإنّه قال: «من قطعت يداه من المرفقين سقط عنه غسلهما ويستحبّ مسح موضع القطع بالماء، ولو قطعت إحداهما غسل الأخرى، ولو بقي المرفق وجب غسله، ولو قطع من دونه غسل ما بقى لأنّ غسل الجميع بتقدير وجوده واجب، فإذا زال البعض لم يسقط الآخر»(5) انتهى.

نعم ما تقدّم من عبارة التذكرة مفروض فيما دخل بعضه وهو طرف الذراع فيه

ص: 533


1- المنتهى 37:2.
2- نهاية الإحكام 38:1.
3- التذكرة 159:1.
4- الشرائع 21:1.
5- المعتبر 144:1.

وخرج عنه بعض وهو طرف العضد، وفي معناه عبارة المبسوط «ومن كانت يده مقطوعة من المرفق أو دونها وجب عليه أن يغسل من العضو ما بقى إلى المرفق مع المرفق»(1) وعبارة ابن الجنيد «إذا كان أقطع من مرفقه غسل ما بقى من عضده»(2).

وملخّص مفاد هذه العبارات فرض القطع من مفصل المرفق على وجه لم يقطع معه شيء من العضد، كما هو صريح عبارة الذكرى «ولو قطعت من مفصل المرفق فالأقرب وجوب غسل الباقي، لأنّ المرفق مجموع عظم العضد وعظم الذراع، فإذا فقد بعضه غسل الباقي»(3) فما توهّمه غير واحد من كون المسألة خلافيّة أمر عجيب.

وأعجب منه ما في كلام جماعة من احتمال بناء الخلاف فيها على الخلاف في كون وجوب غسل المرفق أصليّا أو مقدّميّا، إذ قد عرفت سابقا عدم قائل من أصحابنا ممّن تقدّم على صاحب المدارك بالوجوب المقدّمي، حتّى أنّ العلّامة المنسوب إليه هذا القول في المنتهى غير قائل، ودوّل من نسب إليه هذا القول ظاهرا صاحب المدارك، حيث إنّه بعد ما صرّح بعدم دخول المرفق في اليد المأمور بغسلها في الآية تعليلا بعدم دخول الغاية في المغيا مطلقا، ثمّ استجود الطبرسي في دعواه المتقدّمة في المسألة الأولى، قال «ومن هنا ذهب العلّامة رحمه الله في المنتهى وجمع من المتأخّرين إلى أن غسلها غير واجب بالأصالة وإنّما هو من باب المقدّمة، ولا بأس به لأنّه المتيقن»(4) انتهى.

وهذا كما ترى غفلة عن حقيقة المعنى المراد من عبارة المنتهى، لوضوح الفرق بين قولنا: «يجب غسل طرف العضد مقدّمة لغسل المرفق» وقولنا: «يجب غسل المرفق مقدّمة لغسل اليد» وصريح عبارة المنتهى هو الأوّل، وهو صريح في وجوب غسل المرفق أصالة، والواجب غسله مقدّمة إنّما هو طرف العضد وهو على مذهبه في هذا الكتاب ليس من المرفق، ووجه كونه مقدّمة أنّ غسله عادة لا ينفك عن غسل طرف عظم الذراع وهو المرفق عنده هنا وقد تقدّم الإشارة إلى ما عليه مبنى قوله هذا من كلام أهل اللغة فليتدبّر..

وكيف كان، فالعمدة من دليل المسألة - بعد ما تقدّم من الاستصحاب و الخبرين بل

ص: 534


1- المبسوط 21:1.
2- نقل عنه في المختلف 287:1.
3- الذكرى 134:2.
4- المدارك 204:1.

الأخبار - خصوص الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال:

«سألته عن رجل قطعت يده من المرفق كيف يتوضّأ؟ قال: يغسل ما بقي من عضده»(1)لا لما في كلام جماعة من بناء الاستدلال به على جعل الموصول للعهد بإرادة الباقي من موضع الفرض والجارّ ظرفا مستقرّا على أنه حال مؤكدة، أو لغوا متعلّقا ب «يغسل» مع كونه للتبعيض.

بل بتقريب أنّ البقاء بمفهومه يستدعي ما يكون مبقيا منه مجرورا بما يتعلّق به من حرف الابتداء، ولا يجوز أن يكون ذلك هو العضد مع كون الموصول كناية عنه أو عن طرفه الّذي هو بعض المرفق، لاستحالة كون الشيء باقيا من نفسه، كاستحالة كونه باقيا ممّا ليس بذاهب فيقدّر من يده المأمور بغسلها.

وإن شئت قلت: إنه ليس بتقدير بل مدلول التزامي لمفهوم البقاء يساعد عليه العرف بل العقل أيضا، وحينئذ فلا ينبغي أن يكون الموصول كناية عن نفس العضد ليكون الجارّ في قوله «من عضده» بيانا له، لبعده عن مساق العبارة، وإلّا كان ينبغي أن يقال:

«بغسل عضده أو ما بقى من يده» فالعدول عن هذين التعبير [ين] ينهض شاهدا بكون الجارّ للابتداء متعلّقا ب - «يغسل». فيكون التقدير يغسل من عضده ما بقى من يده المامور بغسلها، وقضية ذلك كون الموصول نصّا في طرف العضد الذي هو بقيّة اليد المأمور بغسلها، وبهذا التقريب ينهض الرواية دليلا على كون طرف العضد أيضا من المرفق، كما استدلّ بها عليه جماعة، وهذا كما ترى ليس تصرّفا في الرواية واردا على خلاف الظاهر، بل هو أخذ بظاهرها بملاحظة الانفهام العرفي أو القرينة العقلّية حسبما بيّنّاه.

فما يقال(2) في دفع الاستدلال - من أنّ مبناه على إرادة القطع من الحدّ المشترك وبقاء العضد بتمامه، وحينئذ فلابدّ من التصرّف في الجواب إمّا بإرادة غسل ما بقى من المرفق من عضده، بمعنى أنّه يغسل من عده ما بقى من المرفق، وإمّا بالحمل على الاستحباب، ولا شك في أولويّة الثاني - ليس على ما ينبغي، بل الحمل على الاستحباب لا يغني عن اعتبار كون بقاء الباقي من المرفق أو من اليد المأمور بغسلها

ص: 535


1- الوسائل 479:1 الباب 49 من أبواب الوضوح 2.
2- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري 2/201.

بملاحظة ما قرّرناه من البرهان، فيكون الحمل على الاستحباب تصرّفا بلا جهة داعية إليه، وعلى هذا المعنى يحمل العبارة المتقدّمة عن ابن الجنيد، لما عرفت سابقا من أنّها إفتاء بمتن الرواية.

فما قيل: من ظهورها في المصير إلى وجوب غسل العضد بتمامه كاستظهار ذلك من الرواية أيضا، وهم منشؤه عدم إعطاء النظر في فهم العبارة حقّه، ومن الأفاضل من استظهر إرادة ذلك من عبارته بنهج آخر حيث قال: «يمكن أن يكون مراده وجوب غسل الباقي من المرفق الّذي هو بعض العضد، بل يمكن أن يقال: إنّ هذا هو الظاهر بملاحظة لفظ «بقي» فإنّه يدلّ على وجودا مجموع ذهب بعضه وبقي الآخر، وهو إمّا الذراع أو اليد المأمور بغسلها أو العضد أو المرفق، والأوّل والثالث باطلان قطعا فتعيّن أحد الأمرين من الثاني والرابع، فإن كان الرابع فالذي حكم بوجوب غسله هو الباقي من المرفق، وهو إمّا تمام العضد أو طرفه الّذي هو بعضه، لا سبيل إلى الأوّل لأنّه لم يقل أحد بأنّ . كل العضد بعض المرفق فتعين الثاني، فيكون المراد غسل الباقي من المرفق وهو طرف العضد»(1) انتهى.

ورابعها: مسح بعض مقدّم الرأس أو شعره المختصّ به
اشارة

الثابت وجوبه بالنصّ كتابا وسنة والإجماع محصّلا ومنقولا بل الضرورة مذهبا، ويتعلّق بهذا المقام مسائل كثيرة:

المسألة الأولى: فرض الرأس بل الرجلين حسبما تعرفه إنّما هو المسح،

وهو إمرار اليد على العضو لا الغسل فهو إجراء الماء عليه بحيث انتقل من جزء إلى غيره، فلو غسل موضع المسح لم يجزأ عنه بلا خلاف بل إجماعا كما ادّعاه جماعة من أساطين الطائفة، عملا بالأوامر الواردة كتابا وسنة بالمسح، فإنّ الأمر يقتضي وجوب الامتثال، ولا يعقل الامتثال بأداء غير المأمور به.

هذا مضافا إلى ما في الرجلين من صحيحة زرارة قال: «قال لي: لو أنّك توضّأت فجعلت مسح الرجلين غسلا، ثمّ أضمرت أنّ ذلك من المفروض لم يكن ذلك بوضوء، ثمّ قال: ابدأ بالمسح على الرجلين فإن بدا لك غسل فغسلته فامسح بعده، ليكون آخر

ص: 536


1- مشارق الشموس 110:1.

ذلك المفروض»(1).

وفي معناها ظاهرا خبر محمّد بن مروان أو محمّد بن سهل قال: «قال أبو عبدالله عليه السلام: يأتي على الرجل ستون وسبعون سنة ما قبل اللّه منه صلاة، قلت: وكيف ذلك ؟ قال: لأنّه يغسل ما أمر الله بمسحه»(2).

واستدلّ عليه في التذكرة باشتماله على الاستيناف(3) وفيه ما لا يخفى.

ثمّ في اشتراط عدم تحقّق الجربان في ضمن المسح مطلقا أو إذا كان كثيرا مفرطا وعدمه مطلقا وجوه بل أقوال، نسب أوّلها إلى جماعة قال في المدارك: «ذكر جماعة من الأصحاب أنّ بين حقيقتي الغسل والمسح تباينا، لاشتراط الجريان في الأول وعدمه في الثاني»(4) وربّما يستظهر ذلك من معاقد الإجماعات كإجماع المتذكرة «لو غسل بدلا عن المسح لم يجز عندنا إجماعا»(5) وإجماع السرائر في مسألة الوضوء بالثلج «أنّه لا خلاف بين فقهاء أهل الّبيت أن الغسل غير المسح» قاله بعد ما قال: «حدّ الغسل ما جرى على العضو المغسول والمسح بخلافه»(6).

حتّى أنّ ثاني الشهيدين أخذ إجماع العلّامة وغيره حجّة على من زعم أنّ بينهما عموما من وجه. حيث قال: - في محكيّ المقاصد العليّة - «الحقّ اشتراط عدم الجريان في المسح مطلقا، وأنّ بين المفهومين تباينا كلّيّا، لدلالة الآية والأخبار والإجماع على اختصاص أعضاء الغسل به وأعضاء المسح به، والتفصيل قاطع للشركة ولو أمكن اجتماعهما في مادّة أمكن غسل الممسوح بتحقّق الاشتراك وقد نقل العلّامة وغيره الإجماع على أنّ الغسل لا يجزئ عن المسح، ولا شك أنّ الماء الجاري على العضو على ذلك الوجه غسل لتحقّق مفهومه فيه، فيجوز سوق الإجماع إلى عدم إجزائه».

والفرق بين ماء الوضوء وغيره لا وجه له، لأنّ تحقّق مسمّي الغسل لا يتوقف على كونه بماء جديد بل هو أعمّ منه. إلى أن قال: «والاحتجاج على الإجزاء بتحقّق الامتثال بذلك وكون الغسل غير مقصود مع وجوده ضعيف، لأنّ الامتثال يتحقّق بالمسح لا بالغسل

ص: 537


1- الوسائل 420:1 الباب 25 من أبواب الوضوء ح 12.
2- الوسائل 418:1 الباب 25 من أبواب الوضوء ح 2.
3- التذكرة 167:1.
4- المدارك 214:1.
5- التذكرة 167:1.
6- السرائر 104:1.

فهو أوّل المسألة، وعدم كون الغسل مقصودا مع وجوده لا يخرجه عن كونه غسلا، لأنّ الاسم تابع للحقيقة لا للنيّة»(1) انتهى.

وثانيها: ما يستفاد من شارح الدروس وصاحب الذخيرة(2) وغيرهما.

وثالثها: ما اختار جماعة منهم أوّل الشهيدين في الذكرى وثاني المحقّقين في جامع المقاصد وحاشية الشرائع، فعن الذكرى «ولا يقدّح قصد إكثار الماء لأجل المسح لأنّه من بلل الوضوء، وكذا لو مسح بماء جار على العضو وإن أفرط الجريان لصدق الامتثال ولأنّ الغسل غير مقصود»(3) وعن جامع المقاصد «ولا يجزئ الغسل عنه إمّا بأن يستأنف ماء جديدا أو يقطر ماء الوضوء على محلّ للمسح، أو يجري على المحلّ البلّة غير اليد اختيارا، أمّا لو كان بلل الوضوء كثيرا بحيث يجري على المحلّ ، وكان إجراؤه ببطن اليد فإنّه لا يخلّ بصحة المسح»(4) ويرادفه عبارة الحاشية(5).

ومبنى هذين القولين على توهّم أنّ بين الغسل والمسح عموما من وجه يجمعان مع إمرار اليد والجريان، ويتحقّق الغسل خاصّة مع انتفاء الأوّل والمسح خاصّة مع انتفاء الثاني، كما صرّح به صاحب المدارك(6) وشيخه صاحب المجمع(7) وشارح الدروس وصاحب الذخيرة وغيرهم.

كما أن مبنى القول [الأوّل] كما عرفت على توهّم التباين بينهما كلّيا، ويمكن منعه بأنّ من القائلين بالتباين - كما عن المشكاة والهداية(8) وحاشية المدارك القائلة بأنّهما متباينان في الصدق وإن اقترنا وجودا في الإمرار مع الجريان - من قال بالإجزاء مع الجريان كما عن حاشية المدارك من «أنّه لّو قصد أنّ الغسل غير واجب وتحقّق المسح يكون وضوؤء صحيحا لأنّ الأعمال بالنيّات، فإذا لم يكن مقصودا فلا مانع من الصحّة، كما أن المسح يدخل في الغالب في غسل الأعضاء للاستعانة للجريان من غير قصد كونه معتبرا وداخلا في الوضوء، فلو نوى المكلّف كونه جزءا بأن نوى أن المطلوب في

ص: 538


1- المقاعد العلية: 107-108.
2- مشارق الشموس: 112، الذخيرة: 31.
3- الذكرى 143:2.
4- جامع المقاعد 319:1.
5- حاشية الشرائع (حياة المحقق الكركي وآثاره ج 10):49.
6- المدارك 215:1.
7- مجمع الفائدة 104:1.
8- نقل عنهما في مفتاح الكرامة 424:2.

غسل الوجه الغسل والمسح معا أثم، وإن نوى الغسل خاصّة صحّ » انتهى. إلّا أن يقال:

إنّ العموم من وجه في كلام أهل القول عبارة عمّا كان بحسب الوجود لا بحسب الحمل والصدق.

وتحقيق المقام: أنّ الجريان إذا استند وجوده إلى إمرار اليد وإن كثر ما لم يقصد به الغسل - على أنّه المأمور به وبداعي امتثال الأمر في ابتداء الوضوء أو عند الإتيان به - غير قادح في صحّة المسح إن قصده بإمرار اليد على أنّه المأمور به وبداعي امتثال الأمر به، ولو في ابتداء الوضوء المنويّ جميع أفعاله إجمالا الّتي منها المسح بداعي الأمر بها، لا لأنّ بينه وبين الغسل عموما من وجه ومورد الاشتراك الّذي هو مادّة الاجتماع تتميّز بالنيّة كما زعمه الجماعة، فإنّه إن اريد به كونه كذلك بحسب الحمل المقتضي لاتّحاد الوجود [فهو] خلاف ما يساعد عليه النظر بل يكذبه ضرورة الوجدان، فإنّ حقيقة الغسل إجراء الماء على الشيء المغسول، وحقيقة المسح إمرار اليد على العضو، أو إمرار الشيء على الشيء على ما في كلام بعض أهل اللغة، ولم يؤخذ فيه عقلا ولا وضعا ولا عرفا كونه بماء فضلا عن جريان الماء. فهو يغاير الغسل ذهنا وخارجا مفهوما ومصداقا، ومعه يستحيل الحمل بيتهما ولو في بعض الموادّ.

غاية الأمر. أنّ المسح قد يكون لكون الماسح مبلولا واشتماله في بعض الأحيان على أجزاء مائيّة يتحقق بوجوده إجراء الماء على الممسوح بوجود آخر مغاير لوجوده. وإن شئت قلت: إنّ أحد أفراد إمرار اليد أحد علل إجراء الماء على المحلّ ، ولا ريب في تغاير وجودي العلّة والمعلول، وإليه يرجع ما عرفته عن المشكاة والهداية وحاشية المدارك، وهذا هو معنى ما قيل من أنهما مفهومان متغايران يوجدان بحركة واحدة في محلّ واحد، فإمرار اليد لأجل بلّ المحل بما في الماسح مسح، وإجراء الماء ونقله من الجزء الأوّل من المحلّ إلى الجزء الثاني منه غسل، وهو أيضا حاصل بالإمرار المذكور، بل(1) لوضوح الفرق بين الإمرار قصدا إلى إجراء الماء لأجل امتثال الآمر به، أو القصد إلى إجراء الماء بالإمرار امتثالا للأمر به، وبين الإمرار قصدا إلى امتثال الأمر

ص: 539


1- عطف على قوله: لا لأنّ بينه وبين الغسل عموما من وجه...».

بنفسه من دون قصد إلى إجراء الماء المتحقق معه على أنّه المأمور به، فإنه قد يرد الأمر بالمعلول فيقصد بإيجاد العلّة التوصّل إلى امتثال الأمر به، وقد يؤمر بالعلّة فيقصد بإيجادها امتثال الأمر بها وإن دخل معها المعلول أيضا في الوجود، فلو كان ذلك مخلّا بصحّة العلّة لم يعقل امتثال في شيء من موارد الأمر بالعلّة، وهذا كما ترى.

بل بهذا يعلم أنّه لو قصد بإجراء الماء المتحقّق معه غاية أخرى من الغايات المياحة كالتنظيف وإزالة الوسخ أو الغبار أو التبريد أو غير ذلك لم يكن قادحا في صحّة الإمرار مسحا، لأنّه حينئذ يصير من قبيل الضمائم للقربة، وقد تقدّم الكلام في عدم القدح بها في الصحّة، ولعلّه إلى جميع ما ذكرناه يشير ما في صحيحة زرارة المتقدّمة، بناء على أنّ العلّة في سلب الماهيّة أو الصحّة هو القيد، أعني إضمار أن يكون ذلك من المفروض، ولا يبعد الالتزام بالمفهوم في هذا المقام، ومقتضاه الصحّة في جميع فروض انتفاء القيد كما لا يخفى.

ولا ينافي ما تقدّم من الإجماعات شيئا ممّا ذكرناه، أمّا إجماع التذكرة وما هو بمثابته في التعبير، فلأنّه لا يقتضي أزيد من البطلان فيما لو وقع الغسل موقع المسح على أنّه المأمور به، وأمّا إجماع السرائر فلأنّه لا يقتضي من المغايرة أزيد ممّا هو نحو مغايرة العلّة لمعلولها ولازمه البطلان في المعلول لو وقع موقع العلّة على أنّه المامور به لا غير، وبالتأمّل في جميع ما ذكر يعلم الجواب عن فقرات كلام المقاصد العليّة.

المسألة الثانية: المعتبر في مسح الرأس من حيث المحلّ الممسوح إنّما هو مسح بعض الرأس لا كلّه،

للإجماع بل الضرورة وخصوص الصحيح المرويّ عن كتب المحمّدين الثلاث قدّس الله أرواحهم عن زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: ألا تخبرني من أين علمت ؟ وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك، وقال:

يا زرارة قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم: ونزل به الكتاب من اللّه، لأنّ الله عزّ و جلّ قال: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثمّ قال وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرٰافِقِ فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصل بين الكلامين، فقال: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فعرفنا حين قال: بِرُؤُسِكُمْ أنّ المسح ببعض الرأس لمكان (الباء)، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين

ص: 540

بالوجه، فقال: وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما، ثمّ فسّر ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم للناس فضيّعوه»(1).

وبهذه الرواية وغيرها بناء على كونها تنصيصا من المعصوم بمجيء (الباء) للتبعيض كما فهمه الأصحاب اتّجه عدم الاعتناء بما عن سيبويه من إنكاره ذلك في سبعة عشر موضعا من كتابه، كما عن ابن جنّي أيضا إنكاره، مع معارضته لما عن الأصمعي من إصراره على خلافه، قال شارح الدروس: «وقد وافقه أيضا جمع من النحويين كأبي عليّ وابن كيسان وابن مالك ونقل أيضا عن الكوفيين جميعا، وحملت على التبعيض في قوله تعالى «عينا يشرب بها عباد الله» وفي قول الشاعر: شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت»(2) الخ.

وربّما يتطرّق المنع إلى دلالتها على ورودها لخصوص التبعيض وضعا أو استعمالا فإنّها لست بصريحة ولا ظاهرة فيه، ولا ينافيه التفسير بما يلزمه الاكتفاء بالبعض لجواز ابتنائه على ورودها في الآية بمعنى الإلصاق الّذي هو ممّا يقتضي ذلك، كما يقوى بملاحظة أن المسح بمعنى الإمرار يتضمّن الإلصاق، ولذا قال في كنز العرفان:

«إنّها تدلّ على تضمين الفعل معنى الإلصاق فكأنّه قال: الصقوا المسح برؤوسكم، وذلك لا يقتضي الاستيعاب وعدمه»(3).

لكن يدفعه: أنّ ظاهر مساق الرواية سؤالا وجوابا دخول البعضيّة في المراد، والتعليل بمجرّد وجود «الباء» يقتضي استقلالها في إفادة البعضيّة، ويؤيّده كون الفعل بنفسه متعدّيا مع صحّة وقوع لفظ «البعض» مكان «الباء» ولذا قيل: إنها إذا دخلت على اللازم كانت للتعدية وإذا دخلت على المتعدّي كانت للتبعيض.

ولكنّك خبير بأنّ هذا لا يكشف إلّا عن الاستعمال، والتعليل بوجود «الباء» لعلّه للنظر إلى هذه القرينة، ولذا قال شارح الدروس: «إنّ الإمام ما حكم بأنّ معنى الباء التبعيض بل أنّ تغيير الأسلوب وإدخال «الباء» هاهنا إنّما يدلّ على أنّ المراد المسح ببعض الرأس»(4).

ص: 541


1- الوسائل 412:1 الباب 23 من ابواب الوضوء ح 1.
2- مشارق الشموس: 112.
3- كنز العرفان 10:1.
4- مشارق الشموس: 112.

وممّا يدلّ بصراحته على المطلب ما في صحيحتي زرارة وبكير ابني أعين من قوله عليه السلام: «وإذا مسحت بشيء من رأسك أو بشيء من قدميك ما بين كفّيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك»(1) وما في صحيحتهما الأخرى أيضا من قوله: «فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأ.»(2).

ثمّ إن هذا البعض لابدّ وأن يكون مقدّم الرأس لا مؤخره أو وسطه أو أحد جانبيه، فلا يجزئ غيره بالإجماع المستفيض نقله، للأخبار المستفيضة المقيّدة لإطلاقات مسح بعض الرأس، ففي الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «مسح الرأس على مقدّمه»(3) وفي آخر عنه قال: «قال أبو عبدالله عليه السلام: امسح الرأس على مقدّمه»(4)وفي الحسن بإبراهيم عنه قال: «وذكر المسح، فقال: امسح على مقدم رأسك وامسح على القدمين وابتدئ بالشقّ الأيمن»(5) والحسن أو الصحيح عن زرارة قال: «وقال أبو جعفر عليه السلام: إنّ اللّه وتر يحبّ الوتر، فقد يجزئك من الوضوء ثلاث غرفات، واحدة للوجه واثنتان للذراعين، وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك وما بقى من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى»(6).

وأمّا ما يخالفها من الأخبار لدلالتها على مسح المؤخر أو هو مع المقدّم كالخبر قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل يمسح رأسه من خلفه وعليه عمامة بإصبعه أيجزئه ذلك ؟ قال: نعم»(7) وآخر قال: «قال أبو عبداللّه عليه السلام: امسح الرأس على مقدّمه ومؤخّره»(8) وثالث عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «مسح الرأس واحدة من مقدّم الرأس ومؤخّره ومسح القدمين ظاهرهما وباطنهما»(9) ورابع قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن

ص: 542


1- الوسائل 414:1 الباب 23 من ابواب الوضوء ح 4.
2- الوسائل 388:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 3.
3- الوسائل 410:1 الباب 22 من أبواب الوضوء ح 1 و 2.
4- الوسائل 410:1 الباب 22 من أبواب الوضوء ح 1 و 2.
5- الوسائل 418:1 الباب 25 من ابواب الوضوء ح 1.
6- الوسائل 436:1 الباب 31 من ابواب الوضوء ح 2.
7- الوسائل 411:1 الباب 22 من أبواب الوضوء ح 4.
8- الوسائل 412:1 الباب 22 من أبواب الوضوء ح 6.
9- الوسائل 415:1 الباب 23 من أبواب الوضوء ح 7.

المسح على الرأس ؟ فقال: كأنّي أنظر إلى عكة في قفاء أبي يمرّ عليها يده، وسألته عن الوضوء يمسح الرأس مقدّمه ومؤخّره ؟ قال: كأنّي أنظر إلى عكة في رقبة أبي يمسح»(1) فكلّها مع عدم مقاومتها سندا لما مرّ متروكة الظواهر معروض عنها، فتأوّل: إن أمكن أو تطرح أو تحمل على التقيّة لموافقتها العامّة.

وهل المراد بالمقدّم في نصوص الباب وفتاوي الأصحاب من معاقد الإجماع وغيرها هو ما يقابل المؤخّر والجانبين الّذي حدّده غير واحد بربع الرأس وهو من قبّة الرأس إلى القصاص ممّا يلي الجبهة، فبأيّ موضع من هذه المسافة مسح كان مؤدّيا للفرض كما اختاره في الرياض(2) ناسبا له إلى ظاهر كلمة الأصحاب، بل في الحدائق(3) عن شيخه الشيخ عبداللّه بن صالح البحراني في رسالة له عن بعض معاصريه دعوى إجماع الطائفة عليه وعدم الخلاف فيه.

أو خصوص الناصية التي فسّرها غير واحد بما بين النزعتين. أو ما ارتفع من القصاص حتّى يسامت أعلى النزعتين، وحدّدها في التذكرة بأقلّ من نصف الربع، فلو مسح ما ارتفع هذا المقدار لم يكن مجزئا كما حكى القول به عن بعضهم، ولعلّه شيخ الحدائق المتقدّم على ما يستفاد من كلماته المحكيّة في هذا الكتاب ناسبا له إلى ظاهر أكثر عبارات الأصحاب والأخبار وأهل اللغة، غير أن المستفاد من بعض كلماته تعيّن المسح بما هو أقلّ من الحدّ المذكور، حيث إنه بعد ما ادّعى ظهور المذكورات في كون المقدّم عبارة عن قصاص الشعر والناصية، قال: «والمستفاد منها أنّ ذلك هو محلّ الفرض ويكفي مسمّاه، وأفضله مقدار ثلاث أصابع مضمومة من قصاص الشعر إلى ما بلغت لا أزيد، فإنّه لو مسح ما فوق ذلك بدون مسح الناصية لم يكفه وكان الوضوء باطلا، لعدم الدليل الثابت على جواز التعبّد به»(4) الخ.

ولعلّ منشأه تفسير جماعة من أهل اللغة ومنهم صاحب القاموس(5) للناصية بقصاص الشعر، ويزيفه: ما عرفته عن التذكرة وغيره من الفقهاء وما عن البيضاوي(6)

ص: 543


1- الوسائل 411:1 الباب 22 من ابواب الوضوء ح 5.
2- الرياض 130:1.
3- الحدائق 254:2-255.
4- القاموس 398:4.
5- التذكرة 163:1.
6- الكشاف 610:1.

وغيره من تفسيرها بربع الرأس، وما عن الشيخ الطبرسي في تفسير قوله تعالى: فَيُؤْخَذُ بِالنَّوٰاصِي وَ اَلْأَقْدٰامِ (1) وغيره من تفسيرها بشعر مقدم الرأس، وما عن الكشّاف من الاستدلال على كونه عند أهل اللغة عبارة عن المسافة الّتي من القصاص ممّا يلي الوجه إلى قمّة الرأس «بأنّهم لم يعيّنوا لهذه المسافة بانفرادها اسما، مع تعيينهم لكلّ واحد من سائر مواضع الرأس اسما على حدة»(2) وعليه فما التزم به من الضيق ممّا لا يساعد عليه شيء من أدلّة المسألة بل هي مساعدة على خلافه، كما أنّ ظاهر كلمات الأكثر يساعد على اختيار القول الأوّل وهو معقد إجماع السيد في الناصريّات على ما حكي، فإنّه بعد ما نقل عن والده الناصر في المسائل الناصريّة أنّه قال: «فرض الشيخ متيقّن بمقدّم الرأس والغاية إلى الناصية» قال: «هذا صحيح وهو مذهبنا، وبعض الفقهاء يخالفون في ذلك، ويجوّزون المسح على أيّ بعض كان من الرأس، والدليل على صحّة مذهبنا الإجماع المقدّم ذكره، وأيضا لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من مسح على مقدّم الرأس فقد أدّى الفرض وليس كذلك من مسح مؤخّر الرأس، فما عليه الإجماع أولى»(3) فإنّ ذلك ظاهر كالصريح في كون المراد بالمقدّم المجمع على اعتباره عند أصحابنا قبالا للعامّة إنما هو المعنى المقابل للمؤخّر، وهو صريح ما حكى عنه في الانتصار من قوله: «وممّا انفرد به الإماميّة القول بأنّ الفرض مسح مقدّم الرأس دون سائر أبعاضه، والفقهاء كلّهم مخالفون في هذه الكيفيّة ولا يوجبونها»(4) ولا شبهة في أنّ الفرض عند الإماميّة متعلّق بمقدّم الرأس دون سائر أبعاضه، بل لم نقف من أصحابنا على مخالفة في ذلك عدى ما يوهمه التعبير عن المقدّم بالناصية في كلام جماعة كالصدوق في الفقيه(5) «ويمسح من مقدّم رأسه مقدار ثلاث أصابع مضمومة من ناصيته إلى قصاص شعر رأسه مرّة واحدة» ونحوه عبارته في الهداية(6) والمفيد في المقنعة «يمسح برأسه مقدار ثلاث أصابع مضمومة من ناصيته إلى قصاص شعر رأسه مرّة واحدة»(7) والشيخ في النهاية «ثمّ ليتمسّح بباقي نداوة يده من قصاص شعر رأسه مقدار

ص: 544


1- مجمع البيان 341:9 و 397:10.
2- لم نعثر عليه في الكشّاف.
3- الناصريّات: 119.
4- الانتصار: 103.
5- من لا يحضره الفقيه 45:1/88.
6- الهداية: 17.
7- المقنعة: 48.

ثلاث أصابع مضمومة»(1) والحلّي في السرائر «وأقلّ ما يجزئ في مسح الناصية ما وقع عليه اسم المسح» وهذه العبارات كما ترى ليست بصريحة ولا ظاهرة في المخالفة، لقوّة احتمال كون الناصية في كلامهم مرادا بها المقدّم مطلقا خصوصا على ما احتمله المحقّق الأردبيلي(2) في كلام محكيّ له من كونها اسما له على وجه الحقيقة، كما عرفت تفسيرها به في كلام الجماعة.

وممّا يؤيد ذلك أيضا أنّ الشيخ في التهذيب(3) عند ذكر شواهد من الأخبار لعبارة المقنعة أورد صحيحة محمّد بن بمسلم المتقدّمة المشتملة على المقدّم، فإنّ قضيّة هذا كلّه أنّ المقدّم والناصية عندهم بمعنى.

والعمدة في المقام معالجة الاختلاف الواقع في الأخبار المتقدّمة في التعبير، فهل يؤخذ فيها بإطلاق ما اطلق فيه المقدّم حملا للناصية فيما ذكرت فيه على أنّ ذكرها لأجل أنّها الغالب من أفراد المطلق، أو حملا للأمر الوارد بها على الاستحباب بقرينة أنّه بظاهره يقتضي وجوب مجموع الناصية ولا قائل به، أو تأويلا لقوله عليه السلام «تمسح» بما خرج معه عن حيّز الأمر إمّا بجعله مصدرا عطفا على قوله: «ثلاث غرفات» أو مضارعا مبدوّا بالمصدرية المقدّرة عطفا على ما ذكر أيضا، فيكون المقصود على المديرين بيان حصول الاجزاء بذلك لا إيجابه على التعيين لينافي إجزاء غيره، أو يؤخذ بظاهر الأمر بالناصية بناء على مغايرتها المقدّم بحسب المفهوم، حملا لمطلق المقدم عليها أو نفيا لإطلاقه بدعوى انصرافه إلى ما يغلب وقوعه وهو مسح الناصية بالخصوص ولا سيما ما يقرب منها بالقصاص إليه وجهان بل وجوه.

أجودها الأوّل، لسلامة الإطلاق عمّا يزاحمه من جانب الأمر بالناصية التفاتا إلى عدم تبيّن كونه متعرّضا للإطلاق، لما عرفت فيه من الاختلاف في تفسير الناصية بما يرجع إلى ثلاثة أقوال بل أربعة أقوال بضميمة ما تقدّم عن شيخ الحدائق، ومحصّله عدم صلوحه بملاحظة هذا الاختلاف لمعارضة الإطلاق. وتوهّم منع الإطلاق من جهة الانصراف حسبما أشرنا إليه، يندفع: بأنّ الحاضر في أذهان أهل هذا العرف من جهة

ص: 545


1- النهاية 219:1.
2- مجمع الفائدة 103:1.
3- التهذيب 89:1.

جريان العادة وغلبة الوقوع وإن كان هو ما ذكر، لكن تتبّع الأخبار بملاحظة ما تقدّم من الأخبار الآمرة بمسح المقدّم والمؤخّر معا المحمولة على التقيّة، يعطي أنّ المعهود عند أصحاب الأثمّة عليهما السلام من المقدم إنّما هو المعنى العامّ المقابل للمؤخّر، خصوصا مع اشتهار مذهب العامّة في تجويز مسح المقدّم والمؤخّر معا ثمّة وكونه معلوما لديهم، وينهض ذلك باعثا على انصرافي أذهانهم في الأوامر الواردة بالمقدّم إلى كونها واردة في ردّ العامّة، ولهذا كلّه قال في المجمع: «والمقدّم بفتح الدال والتشديد نقيض المؤخر ومنه: مسح مقدّم رأسه»(1).

لا يقال: جريان العادة عند المتشرّعة الحاضرة على ما اعترفت به ينهض سيرة كاشفة عن أنّ معتقد الأئمّة عليهما السلام إنّما هو مسح الناصية، لأنّ هذه العادة الجارية لا تكشف عن الاعتبار لجواز كونها من جهة الاجتزاء بأحد أفراد المطلق، كما يتأكد ذلك بملاحظة أنّ العمامة أو القناع أو غيرهما لا يرفع لمسح ما فوق الناصية إلّا لدواع أخر، وعليه يجمل فعل النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم على ما نقله في المعتبر(2) عن العامّة من أنّهم رووا عن المغيرة بن شعبة «أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم مسح بناصيته» فالمسألة بحمد الله ممّا لا إشكال فيه، لكن الاحتياط أيضا حسن على كلّ حال وهو في الاقتصار على الناصية.

المسألة الثالثة: أقلّ الواجب من مسح الرأس باعتبار نفس المسح ما يقع عليه اسمه،

على ما عليه المعظم المدّعى فيه الشهرة في كلام جماعة المنقول عليه الإجماع عن غير واحد كمجمع البيان(3) وغيره، كما عن ظاهر الأردبيلي في آيات الأحكام(4)وعن التبيان «أنّه مذهبنا»(5) وعن التنقيح «أنّه مذهب الأصحاب ما عدا الصدوق والشيخ في النهاية»(6) لإطلاق الآية مع ضميمة الصحيحة المتقدّمة المفسّرة لها بالبعض، وإطلاق صحيحة زرارة المتقدّمة المذيلة لقوله عليه السلام «فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع أجزأه»(7) والصحيحة الاخرى المتضمّنة لقوله: «وإذا مسحت بشيء من رأسك أو بشيء من قدميك ما بين كعبيك إلى

ص: 546


1- مجمع البحرين 135:6.
2- المعتبر 144:1.
3- مجمع البيان 164:3.
4- زبدة البيان: 17.
5- التبيان 451:3.
6- التنقيح 82:1.
7- الوسائل 388:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 3.

أطراف الأصابع فقد أجزأك».

خلافا لظاهر الصدوق في الفقيه القائل بأنّ «حدّ مسح الرأس أن يمسح بثلاث أصابع مضمومة من مقدّم الرأس»(1) ولظاهر الشيخ في النهاية قائلا: «وامسح بالرأس لا يجوز أقلّ من ثلاث أصابع مضمومة مع الاختيار، فإن خاف البرد من كشف الرأس أجزأه مقدار إصبع واحدة»(2) وللإسكافي على ما نسب إليه في الذكرى القائل «بأنّه يجزئ الرجل في المقدّم إصبع والمرأة ثلاثة أصابع»(3) وقد يحكى عن هداية الصدوق(4) القول بأنّ أقلّ ما يجزئ مقدار أربع أصابع، وقول آخر عن المحدّث الاسترابادي وهو «أن يكون الممسوح من عرض الرأس كونه بقدر طول اصبع، ومن طوله بقدر ثلاث أصابع مضمومة».

وربّما احتمل في كلامه في الفقيه كون المراد أنّ ذلك هو محلّ الفرض في المسح بحيث أيّ شيء وقع منه أجزأه، كما في المختلف(5) المصرّح بكونه حقّا على هذا التقدير وهو يعطي ارتضاءه بالتحديد بهذا المعنى، كما يظهر الجزم بذلك أيضا من المحقّق الثاني في حاشية الشرائع حيث قال: «لمسح الرأس بعدان في طول الرأس وعرضه، فأمّا في الطول فما به يتحقق صدق المسح من غير تقدير، وأمّا في المرض فما صدق عليه الاسم إلى قدر ثلاث أصابع، فيكون الواجب أمرا كلّيّا بالنسبة إلى أفراد هذا المقدار مقولا بالشدّة والضعف فيكون مشككا، وعلى هذا فيكون ما زاد على أقلّ ما صدق عليه اسم المسح موصوفا بالوجوب على أنّه بعض أفراد ذلك الكلّي، وهذا هو أصحّ القولين عند المحقّقين، وفتواهم أنّ المندوب مقدار ثلاث أصابع يريدون به استحباب هذا الفرد بعينه مع كونه واجبا مخيّرا فيه لأنّه بعض أفراد الواجب أعني الأمر الكلّي، إذ لا منافاة بين الوجوب التخييري والاستحباب المعيني»(6) انتهى.

واحتمل في المختلف أيضا في كلام الشيخ في النهاية إرادة الاستحباب تعليلا بأن كثيرا ما يطلق على المندوب أنّه لا يجوز تركه، ثمّ استشهد له أيضا بأنّه قال في

ص: 547


1- الفقيه 28:1.
2- النهاية: 219.
3- الذكرى 137:2.
4- الهداية: 170.
5- المختلف 290:1.
6- حاشية الشرائع (حياة المحقق الكركي وآثاره ج 10):48.

الكتاب بالنسبة إلى للمسح على الرجلين «وإن اقتصر في المسح عليهما بإصبع واحدة لم يكن به بأس إلّا أنّ الأفضل ما ذكرناه»(1) وهذا كما ترى يعطي كون الحكم في مسح الرأس ومسح الرجلين واحدا، وأنّ الخلاف المتقدّم في الأوّل جار بعينه في الثاني، وممّا يرشد إلى ذلك أيضا أنّه نقل في الكتاب لمعتبري ثلاث أصابع الاحتجاج بصحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفّه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم، فقلت: جعلت فداك، لو أنّ رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا؟ فقال: لا إلّا بكفّه»(2).

وعلى أيّ حال كان فحجّة هذا القول هذه الرواية على ما نقله في المختلف.

ورواية معمّر بن عمر عن أبي جعفر عليه السلام قال: «يجزئ من الشيخ على الرأس موضع ثلاث أصابع وكذلك الرجل»(3) وصحيحة زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السلام: المرأة يجزئها من مسح الرأس أن تمسح مقدّمه قدر ثلاث أصابع ولا تلقي عنها خمارها»(4) وما رواه الكشّي في رجاله عن محمّد بن نصر عن محمّد بن عيسى عن يونس قال: «قلت لحريز يوما: يا أبا عبد اللّه كم يجزئك أن تمسح من شعر رأسك في وضوء الصلاة ؟ قال: مقدار ثلاث أصابع، وأومأ إلى السبّابة والوسطى والثالثة، وكان يونس يذكر عنه فقها كثيرا»(5)وظاهره أنّ حريزا كان يرى المسح بقدر ثلاث أصابع، كما أنّ الظاهر أنّ مثله لا يفتي في الشرعيّات إلّا بما سمعه.

والجواب عنها على الإجمال: أنّها لإعراض المظعم عنها لا تنهض لتقييد ما تقدّم من المطلقات، وعلى التفصيل: أنّ الرواية الأولى لظهورها في الاستيعاب المجمع على عدم وجوبه كما ادّعاه غير واحد من أساطين الطائفة محمولة على الاستحباب، كما صرّح به كلّ من تعرّض لذكرها هنا أو في بحث مسح الرجلين.

والثانية مع ضعفها سندا بجهالة معمّر، غير واضحة الدلالة لقوّة احتمال كون الحكم على المقدار المذكور بالإجزاء لرفع توهّم وجوب مسح الجميع، أو ما زاد على المقدار، ومحصّله أنّه منتهى محلّ الفرض فلا ينافي إجزاء الأقلّ ، والمذكور في كلام الأصحاب

ص: 548


1- المختلف 289:1.
2- الوسائل 417:1 الباب 24 من أبواب الوضوء ح 4 و 5.
3- الوسائل 417:1 الباب 24 من أبواب الوضوء ح 4 و 5.
4- الوسائل 416:1 الباب 24 من أبواب الوضوء ح 3.
5- اختيار معرفة الرجال 627:2.

حملها على الاستحباب جمعا، أو لقرينة إلحاق الرجل بالرأس مع ما ادّعاه جماعة كالمحقّق والعلّامة في المعتبر والتذكرة(1) في ظاهر كلاميهما، وعن المقاصد العليّة(2)وغيره من الإجماع على كفاية اصبع واحدة فيها، لكن ربّما يزيّفه ما عرفته عن مختلف العلّامة ممّا يعطي جريان الخلاف فيها أيضا، مع أنّه قال في التذكرة بفاصلة: «ويستحبّ أن يكون بثلاث أصابع مضمومة وقال بعض علمائنا يجب» ومنه ربّما يتوهّم التنافي بين ذلك و بين سابقه من دعوى الإجماع، والأجود ما ذكرناه.

وبنحوه يجاب عن الثالثة، وربّما يجاب باحتمال رجوع الاجزاء إلى القيد وهو عدم إلقاء الخمار دفعا لتوهّم وجوب إلقائه، كما ربّما يشير إليه رواية الحسين بن زيد ابن عليّ عن أبي عبدالله عليه السلام «لا تمسح المرأة بالرأس كما يمسح الرجال، إنّما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها وتضع الخمار عنها، فإذا كان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها»(3).

وأمّا ما عرفته عن حريز فأمره سهل، لجواز كونه اجتهادا منه، كما ربّما يومئ إليه الإضافة المأخوذة في السؤال فلا يجب اتّباعه، أو بناء منه على الفضل أو مراعاة جانب الاحتياط. وبالجملة فهذه القضية على تقدير كونها من قبيل الفتوى لا يكشف بعد ملاحظة ما مرّ عن وجود مدرك صحيح يجب البناء عليه، وبدونه لا حكم لها ولّذا لم يتعرّض لذكرها الاكثر.

وحجّة قول الصدوق في الهداية لعلّها صحيحة أحمد المتقدّمة بناء على أنّ عرض الكفّ لا يزيد على أربعة أصابع، وقد تبين الجواب عنها.

وحجّة تفصيل النهاية فلعلّهما الجمع بين ما مرّ ومرسلة حمّاد بن عيسى عن بعض اصحابه عن أحدهما عليهما السلام «في الرجل يتوضّأ وعليه العمامة ؟ قال: يرفع العمامة، قال:

يرفع العمامة بقدر ما يدخل اصبعه فيمسح على مقدّم رأسه»(4) بشهادة رواية حمّاد عن الحسين قال: «قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: رحل توضّأ وهو معمّم فثقل عليه نزع العمامة

ص: 549


1- المعتبر 145:1، التذكرة 161:1.
2- المقاصد العليّة: 97.
3- الوسائل 414:1 الباب 23 من أبواب الوضوء ح 5.
4- الوسائل 411:1 الباب 22 من أبواب الوضوء، ح 3.

لمكان البرد؟ فقال: ليدخل إصبعه»(1).

والجواب: أنّ روايات الإصبع لا تنافي ما مرّ من المطلقات على ما ستعرفه، وحملها على الاضطرار تقييد بلا شاهد، حيث لا شهادة فيها بالاضطرار كما هو واضح، وأمّا ما مرّ من روايات الثلاث فقد اتّضح حالها.

وحجّة تفصيل الإسكافي لعلّها الجمع بين روايات الإصبع وصحيحة زرارة المتقدّمة، والجواب منع التعارض بينهما بملاحظة ما مرّ وعدم نهوضهما لتقييد مطلقات الاكتفاء بالمسمّى حسبما عرفت.

حجّة قول الاسترابادي على ما ادّعاه ظهور الروايات في ذلك، كصحيحة زرارة المشتملة على قوله عليه السلام «وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك» فإنّ المتبادر منها مسح كلّها ورواية عدم إلقاء الخمار المتقدّمة في المرأة، ورواية معمّر بن عمر المتقدّمة، ثمّ قال:

«والناصية في غالب الناس عرضها قدر طول إصبع، وطولها قدر ثلاث أصابع مضمومة»(2) والجواب عنه يعلم بملاحظة ما سبق مع توجّه المنع إلى ظهور الخاصية في الحدّ المذكور.

ثمّ إنّ المعظم النافين لوجوب الثلاث بين من أناط الأقلّ بحصول المسمّى وصدق الاسم كما في الشرائع(3) وغيره، وفي المدارك «ما اختاره المصنّف من أنّ الواجب في المسح مسمّاه هو المشهور بين الأصحاب»(4) وبين من حدّده بإصبع واحدة كما عن جمع كثير، وفي المختلف «المشهور بين علمائنا الاكتفاء في مسح الرأس والرجلين بإصبع واحدة، اختاره الشيخ في أكثر كتبه وابن أبي عقيل وابن الجنيد وسلّار وأبو الصلاح وابن البرّاج وابن إدريس»(5) ومن الأوّلين من صرّح بالتعميم بالنسبة إلى جزء إصبع واحدة كما في الروضة(6) وغيرهما، واختاره شارح الدروس(7) المصرّح بعدم التحديد بهذا الحدّ أيضا يعني الإصبع الواحدة بل يكفي ما يسمّى مسحا مستظهرا له من

ص: 550


1- الوسائل 416:1 الباب 24 من أبواب الوضوء ح 3.
2- نقل عنه في الحدائق 270:2.
3- الشرائع 21:1.
4- المدارك 207:1.
5- المختلف 289:1.
6- الروضة 325:1.
7- مشارق الشموس: 113.

كلام المبسوط والمعتبر والتذكرة والمنتهى والسرائر(1) ومن الآخرين من صرّح بعدم كفاية الأقل من الإصبع الواحدة إمّا لدلالة السنّة عليه كما عن الشيخ في التهذيب في شرح عبارة المقنعة القائلة: «بأنّه يجزي الإنسان في مسح رأسه أن يمسح من مقدّمه مقدار إصبع يضعها عليه عرضا مع الشعر إلى قصاصه» الخ، فقال الشيخ: «يدل على ذلك قوله تعالى وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ ومن مسح رأسه ورجليه بإصبع واحدة فقد دخل تحت الاسم ويسمّى ماسحا، ولا يلزم على ذلك ما دون الاصبع لأنّا لو خلينا والظاهر لقلنا بجواز ذلك لكن السنّة منعت منه»(2) أو لعدم تحقّق المسمّى بالأقلّ كما هو صريح الدروس القائل: «ثمّ مسح مقدّم الرأس بمسمّاه ولا يحصل بأقلّ من أصبع»(3).

وأمّا عبارته في الذكرى(4) «لا يجزئ أقلّ من إصبع قاله الراوندي»(5)، فيحتمل وجوها: الرجوع إلى عبارة الدروس، والرجوع إلى عبارة التهذيب، والبناء على عدم انصراف إطلاق النصّ إليه بناء على كون الشيخ على مقدّم الرّأس مشككا، وربّما ينزّل إطلاق الأوّلين في اعتبار أقلّ المسمّى على إرادة الاصبع، كما عن شرح المفاتيح للعلّامة البهبهاني(6) ولا خفاء في بعده.

وربّما يعكس فيحمل كلام الآخرين على الاكتفاء بالمسمّى ولو بجزء من إصبع، بناء على كون التحديد بالاصبع لأنه آلة للمسيح كما عن الشهيد الثاني في شرح الإرشاد(7) أو لأجل غلبة تحقّق المسمّى به لا بدونه، أو لغلبة التعبير عن الأقل بذلك نظير تحديد الافتراق المسقط لخيار المجلس بالخطوة كما في كلام بعض مشايخنا(8)وهذا هو الأوجه، فلم يظهر خلاف بين المطلقين من المكتفين بالمسمّى ومعتبري الإصبع، نعم ما عرفته عن التهذيب والدروس والذكرى ممّا لا يمكن إخراجه عن وصمة الخلاف لمكان التصريح فيها بعدم الاكتفاء بأقلّ من إصبع.

ومستند المنع على ما عرفت إمّا قيام السنّة به، ففيه: أنّه لم نقف من السنّة إلّا على

ص: 551


1- المبسوط 21:1، المعتبر 150:1، التذكرة 171:1، المنتهى 69:2، السرائر 101:1.
2- التهذيب 89:1.
3- الدروس 92:1.
4- الذكرى 136:2.
5- فقه القرآن 29:1.
6- مصابيح الظلام 259:3.
7- روض الجنان 103:1.
8- كتاب الطهارة 214:2.

ما تقدّم من روايتي حمّاد والحسين، وفيهما مع قصورهما سندا قصورهما دلالة، إذ لا صراحة ولا ظهور لهما في اعتبار الاصبع والمنع من الأقلّ ، لقوّة احتمال الأمر بإدخال الاصبع فيهما لكونه(1) على أنّ الإصبع آلة للمسح، بل هو الظاهر بملاحظة عدم إمكان المسح بدون إدخالها على تقدير عدم رفع العمامة أو(2) عدم حصول المسمّى بالأقلّ الموجب لعدم اندراجه في الاوامر الواردة بالمسح المحمول على المسمّى، ففيه منع واضح على ما يرشد إليه التدبّر وملاحظة العرف. نعم لو علّل المنع بالصراف المطلقات إلى غير المفروض فله وجه، إلّا أنّ الأقوى خلافه أيضا، ولذا لم نقف على من التفت إلى ذلك وإن كان الأحوط ترك الاكتفاء بالأقل.

كما أنّ الأفضل مقدار ثلاث أصابع مضمومة المصرّح باستحبابه، كما في الشرائع والمعتبر والتذكرة والقواعد والدروس(3) وعن المقنعة والمبسوط والخلاف والوسيلة والمراسم والغنية والسرائر والمنتهى والتحرير وجامع المقاصد(4) والمشكاة(5) وغيرها، عملا بمحتمل أخبار الثلاث المتأيّد بفهم الجماعة.

ومعنى استحباب الواجب كونه أفضل الفردين المخيّر فيهما شرعا أو عقلا على التحقيق، لا اجتماع الاستحباب الفعلي مع الوجوب الفعلي لاستحالته، وفي وجوب الزائد على مقدار الثلاث ما لم يتجاوز المقدّم إشكال، وإن كان الأقوى هو الأوّل بالنظر إلى ما سنحقّقه، وإن كان لا فضل فيه.

ولو مسح الجميع فعن الخلاف الإجماع على أنّه بدعة(6) وعن ابن حمزة التصريح بالحرمة(7) وعن الشهيدين في الدروس والذكرى والمقاصد العليّة والروضة الكراهة(8)

ص: 552


1- كذا في الأصل.
2- عطف على قوله: «ومستند المنع على ما عرفت إمّا قيام السنة به...» الخ.
3- الشرائع 21:1، المعتبر 145:1، التذكرة 161:1، القواعد 203:1. الدروس 92:1.
4- المقنعة: 48، المبسوط 21:1، الخلاف 81:1، الوسيلة: 52، المراسم: 37، الغنية: 55، السرائر 101:1، المنتهى 45:2، التحرير 10:1، جامع المقاصد 218:1.
5- نقل عنه في مفتاح الكرامة 41:2.
6- الخلاف 81:1.
7- الوسيلة: 50.
8- الدروس 92:1، الذكرى 142:2، المقاعد العليّة: 95، الروضة 325:1.

وعن الذكرى التعليل بأنّه تكلّف ما لا يحتاج إليه(1) وضعفه واضح كضعف ما عن ابن حمزة من التعليل بمخالفة الشرع، إلّا أن يريد به التشريع، والأقوى أنّه يحرم إن فعله بعنوان المشروعيّة مع اعتقاد العدم، لكنّه لم يؤثّر في البطلان بالنسبة إلى محلّ الفرض على الأقوى، خلافا لابن الجنيد «لو مسح من مقدّم رأسه إلى مؤخّره أجزأه إذا كان غير معتقد فرضه، ولو اعتقد فرضه لم يجزأ»(2) وأبي الصلاح أبطل الوضوء لو تدين بالزيادة في الغسل أو المسح، يزيفه: أنّ الحرام ما لم يتّحد مع الواجب في الوجود لم يؤثّر في بطلانه، والمعتاد الممكن وقوعه عادة في مسح جميع الرأس حصوله بالتدريج بالنسبة إلى أجزاء الممسوح، ولازمه تعدّد وجوداته بالنسبة إلى هذه الأجزاء، وإنّما يتّحد وجوده في الجميع لو فرض وقوعه دفعة في الجميع ولعلّه محال عادة، إلّا أن يقال: إنّ العبرة في وحدة الفعل وتعدّده إنما هو بما يسند إلى فاعله عرفا لا بما يسند إلى متعلّقه عقلا الذي هو هنا المحلّ الممسوح، والمفروض. بالقياس إلى فاعله الموجد له يعدّ في نظر العرف مسحا واحدا، على معنى أنّه بإمرار اليد على جميع الرأس مسحه بإيجاد واحد، والمفروض أنّ متعلّق الحكم هو إيجاد الماهيّة الحدثيّة، وهو بوحدته لا يتحمّل حكمين متضادّين كما قرّر في محلّه، وعليه فالأقوى عدم الاكتفاء بهذا المسح من غير فرق في ذلك بين ما لو قصد الجميع ومشروعيته ابتداء، أو بدأ له ذلك في الأثناء فتأمّل.

ثمّ إنّ في كون المعتبر لمقدار ثلاث أصابع من الرأس هو عرضه أو طوله المتحقّق فيه الإمرار المأخوذ في المسح، أو كلّ من عرضه وطوله، أو أحدهما على التخيير وجوها.

وربّما يذكر في المقام وجه آخر وهو ملاحظة التقدير من حيث موضع الأصابع، بأن يكون عرضه مقدار عرض الثلاث وطوله مقدار طولها الذي هو طول إصبع، سواء كان مقدار عرضها من عرض الرأس وطولها من طوله أم بالعكس. وقد عرفت عن المحدث الاسترابادي فيما سبق وجها آخر وهو «أن يكون الممسوح من عرض الرأس كونه بقدر طول إصبع، ومن طوله بقدر ثلاث أصابع مضمومة»(3) لكن ظاهر

ص: 553


1- الذكرى 142:2.
2- نقل عنه في المختلف 292:1.
3- نقله عنه في الحدائق 270:2.

بعض الروايات كرواية معمّر بن عمر حيث الحق فيها الرجل بالرأس أوّل هذه الوجوه، نظرا إلى أنّ هذا التقدير في الرجل لا يكون إلّا من حيث العرض.

ويمكن استظهار ذلك أيضا من سائر الروايات المقدّرة بثلاث أصابع، لملاحظة متعارف التقدير بالاصبع أو الاصبعين أو الأصابع من إرادة العرض، مع متعارف المسح المتضمّن للإمرار من كونه من الأعلى بطول الأصابع، فلا يبقى للمقدار المذكور محلّ إلّا ما عدى عرض الرأس، وبهذا التقريب يمكن استظهاره من حكاية حريز المتقدّمة، ومن عبارة الأصحاب المتعرّضين للتقدير بالثلاث.

مضافا إلى أنّه ظاهر جماعة منهم من طريق آخر حيث قيد التقدير بالثلاث بالعرض، كما في الشرائع(1) وعن النفلية والمقنعة(2) بتقريب أنّه لو رجع قيد العرض إلى الأصابع كما قد يتوهّم لخرج إلى كونه للتوضيح، لظهور التقدير بالأصابع في إرادة العرض، وعلى تقدير كونه احترازا كما هو الظاهر في نظائر المقام لا محلّ له إلّا الرأس كما لا يخفى.

وهو صريح جماعة آخرين كالمحقّق الثاني في جامع المقاصد وحاشية الشرائع والشهيد الثاني في شرح النفلية وشارح الدروس(3) فعن الأوّل «أنّ المراد بمقدار ثلاث أصابع في عرض الرأس، أمّا في طوله فمقدار ما يسمّى ماسحا، ويتأدّى الفضل بمسح المقدار المذكور ولو بإصبع» وفي الثاني ما تقدّم من عبارته المتضمّنة لقوله: «وأمّا في العرض فما صدق عليه الاسم إلى قدر ثلاث أصابع» وعن الثالث عند قول الشهيد «المسح بثلاث أصابع مضمومة عرضا» قوله: «أي في عرض الرأس» وفي الرابع:

«واعلم أنّ ما ذكر كلّه إنّما هو بالنسبة إلى عرض مقدّم الرأس، وأمّا بالنسبة إلى طوله فالظاهر فيه أيضا الاكتفاء بإمرار اليد في الجملة بما يسمّى مسحا» ويظهر منه الوفاق بالنسبة إلى طول الرأس على عدم التقدير بالثلاث لأنّه خصّ الخلاف المتقدّم في كفاية المسمّى أو اعتبار الإصبع الواحدة أو الثلاث أصابع بعرضه بقوله: «هذا كلّه» وربّما يظهر دعوى الوفاق المذكور عن عارة حاشية الشرائع المتقدّمة.

ص: 554


1- الشرائع 21:1.
2- النفلية: 93، المقنعة: 48.
3- جامع المقاصد 218:1، حاشية الشرائع (حياة المحقق الكركي وآثاره ح 10):48، الفوائد الملية: 26، مشارق الشموس: 114.

والعجب من الشهيد في المسالك أنّه عند قول المحقّق «مقدار ثلاث أصابع عرضا» قال: «حال من الأصابع، والمراد مرور الماسح على الرأس بهذا المقدار وإن كان بأصبع لا كون آلة المسح ثلاث أصابع مع مرورها أقلّ من مقدار ثلاث أصابع»(1)وقد تبعه في ذلك شيخنا في الجواهر حيث قال: «والظاهر أنّ المراد من المستحبّ مقدار عرض ثلاث أصابع، لأنّه المتبادر من التقدير بالثلاث أصابع»(2) ثمّ جعل الأظهر من الروايات إرادة العرض من الأصابع لأنّه المعروف من التقدير، وهذا كما ترى هفوة منهما، وتوهّم التبادر كأنّه خلط بين تبادر العرض من نفس التقدير بثلاث أصابع وبين تبادر رجوع قيد العرض في الكلام إلى الأصابع، فإنّ الأوّل مسلّم والثاني محلّ منع، بل المتبادر على ما عرفت من ظهوره في الاحتراز خلافه، ودعوى الأظهريّة في الروايات أيضا قد عرفت ما فيها ممّا يقع سندا لمنعها.

ثمّ إنّه قد اختلف في القدر الزائد على المسمّى هل يوصف بالوجوب ؟ كما عليه جماعة، ومنهم المحقّق الثاني المصرّح في حاشية الشرائع(3) بكونه أصحّ القولين عند المحقّقين وقد مرّ كلامه، أو بالندب كما حكاه في المنتهى عن المحقّقين وقال: - على ما نقل عنه -: «أنّ المحقّقين منعوا عن وصف الزائد بالوجوب لأنّ ما يجوز تركه لا يكون واجبا»(4) أو يفرّق بين الدفعي فالوجوب والتدريجي فالندب كما عليه جماعة(5)، وربّما قيل بكونه أفضل أفراد الواجب في كلّ من الدفعي والتدريجي بشرط اتّصال المسح وعدم انفصاله في الثاني لما يظهر من العرف من أنّه مسح واحد كالغسل المتّصل، وقيل قد يدّعى أنّه ظاهر من قول الأصحاب: «المندوب مسح ثلاث أصابع».

والأقوى هو القول الأوّل، على أنّ هذا المقدار من المسح بمجموعه أحد أفراد الواجب التخييري بالتخيير العقلي بينه بجميع صوره وبين المسح بإصبع واحدة أو أقلّ بعد ما ساعد نظر العرف على كونه في الجميع مسحا واحدا، على معنى إيجاد واحد للمسح حتّى في مقدار ثلاث أصابع، وإن وقع على سبيل التدريج المستلزم لترتّب

ص: 555


1- المسالك 38:1.
2- الجواهر 173:2.
3- حاشية الشرائع (حياة المحقق الكركي وآثاره 10):49.
4- المنتهى 48:2.
5- كما في المسالك 38:1، المدارك 209:1.

أجزائه في الوجود اتصل كلّ لاحق بسابقه أو انفصل بتخلّل فصل زماني بينهما، ولا ينافيه كون القدر المكتفى به في الامتثال هو الإيجاد الواحد للماهيّة، لأنّه في نظر العرف يعدّ في جميع الصور إيجادا واحدا حتى في صورة التدريج المتضمّن لترتّب الإيجادات، غاية الامر أن يقال: إنها في نظرهم بمنزلة الإيجاد الواحد، وعليه فالإيجاد الواحد المكتفى به في الامتثال إمّا تحقيقي أو تنزيلي، والشاهد بذلك صدق الامتثال وكونه حاصلا بالجميع على تقدير اختيار الأكثر المستلزم لكون الزائد جزء من الواجب في نظر العرف.

وتوهّم أنّ بحصول الجزء الأوّل يصدق إيجاد الماهيّة، ولازمه حصول الامتثال المقتضي لسقوط الأمر فلا جهة لكون ما عداه امتثالا لهذا الأمر، يدفعه: عدم سقوط الأمر ما لم يحصل الفراغ عن الفعل المتشاغل به للامتثال، فالأمر ما دامت حالة التشاغل باقية باق ولازمه بقاء الامتثال إلى الفراغ.

وبالجملة الأمر سقوطا وبقاء يتبع مع صدق إيجاد الماهيّة حالة التشاغل بقاء وانقطاعا، والمفروض أنّ حالة التشاغل بعد حصول الجزء الأوّل على حسب ما اختاره المكلّف باقية إلى أن يحصل الجزء الأخير، ومعه لا جهة لسقوط الأمر ما لم يحصل سائر الأجزاء، وعليه فلو نوى المسيح بأقلّ مسمّاه ففعله ثمّ بدا له اعتبار الزيادة قبل زوال حالة التشاغل ففعله كان الزائد من الامتثال، كما أنه لو نوى الأكثر فأتى بجزء ثمّ بدا له الاقتصار عليه كان الامتثال حاصلا به ولا حاجة إلى إلحاق الزيادة.

ثمّ مسيح المقدار المذكور قد يكون على سبيل الدفعة وهو ظاهر، وقد يكون على سبيل التدريج مع اتّصال الأجزاء في الوجود، وهو أن يضع مقدار إصبعين وزيادة لا تبلغ واحدة على مقدّم الرأس معوجّا فيمسح مورّبا إلى أن يحدث شكل ذو أربعة أضلاع كالمعين(1) ينصفه خطّ عرضي مخرج عن إحدى الزاويتين العرضيتين إلى الأخرى، فهذا هو المقدار المذكور الواقع على عرض الرأس، ويمكن هذا الفرض بوضع إصبع واحدة ثمّ إمرارها في عرض الرّأس إلى أن يتحقّق مسح المقدار، أو مع

ص: 556


1- كذا في الأصل.

الانفصال في الوجود بأن يمسح مقدار اصبع ثمّ نحوه متصلا به، والأقوى الاجتزاء بجميع هذه الصور.

المسألة الرابعة: لا يختصّ مسح الرأس بمسح بشرته بل يجزئه مسح شعره أيضا،

وإن لم يكن البشرة مستورة تحته خفيفا كان الشعر أو كثيفا، تيسّر تخليله أو تعسّر أو تعذّر، والحجّة فيه مضافا إلى الإجماعات المتكرّرة في كلام الأصحاب البالغة حدّ الاستفاضة إطلاقات النصوص الآمرة بمسح الرأس، أو بعضه أو مقدّمه أو الناصية من دون إشارة فيها إلى اعتبار البشرة ولا إلى تخليل الشعر مع صدق مسح الرأس في نظر العرف على مسح الشعر صدقا ظاهرا، وكون الغالب في أحوال غالب آحاد المكلّفين ولا سيما النسوان وجود الشعر المانع عن مسح البشرة، بل قد يقال: إنّ تخليل الشعر لأجل مسح مقدار أصبع فضلا عن أربع أصابع كالمتعذر عادة غالبا، وعليه فبعيد غاية البعد أن يكون النظر فيها إلى مراعاة البشرة بل ينبغي القطع بفساده، فتكون هي بأنفسها ناصّة في الاجتزاء بمسح الشعر مطلقا.

ولعلّ هذا هو المراد بالنصّ في عبارة الممالك حيث إنّه عند شرح عبارة الشرائع «ويجب المسح على بشرة القدم» قال: يعلم من قوله «بشرة القدم مع قوله في الرأس بمسح الشعر أو البشرة» عدم إجزاء المسح على الشعر المختصّ بالقدم إذا قطع الخطّ الّذي يحصل به مسمّي المسح، وهذا هو الحقّ والفارق النصّ (1) انتهى.

ولا ينافيها المرفوعة فيمن يخضب رأسه بالحنّاء ثمّ يبدو له في الوضوء قال:

«لا يجوز حتّى يصل بشرته الماء»(2) لظهور الحصر المستفاد منها في الإضافي الذي اعتبر هنا في مقابلة الحنّا، الّذي هو من قبيل الحائل الّذي لا يجزئ مسحه على ما ستعرفه، أو يراد بالبشرة ما يعمّ الشعر كما احتمله غير واحد، ومع ذلك فالحكم إجماعي ظاهرا.

بل قد يقال: إنّ الاجتزاء بالمسح على الشعر مجمع عليه بين العامّة والخاصّة، بل يقرب إلى حدّ الضرورة من الدين، ولا ينافيه المحكيّ عن المنتهى في ردّ بعض العامّة

ص: 557


1- المسالك 38:1.
2- الوسائل 455:1 الباب 37 من أبواب الوضوء ح 1.

القائل بإيجاب المسح على الشعر حيث تكون البشرة به مستورة لكونه بدلا عنها مسقطا للتكليف بمسحها فتكون كالمستورة باللحية فكما لا يجوز هناك لا يجوز هنا.

فأجاب عنه في المنتهى «بأنه إنما اعتبر الظاهر من اللحية لانتقال اسم الوجه إليه وزواله عن البشرة، بخلاف الرأس الّذي اسمه لازم مع ستره بالشعر فافترقا» لابتنائه على مجرّد إبداء الفارق ليبطل به استدلال بعض العامّة بناء على ما استظهر منه كونه قياسا، أو بيان الفرق بين المقامين بمنع كون الحكم الثابت بالقياس إلى شعر الرأس هو الإيجاب كما زعمه هذا القائل، بل غايته الجواز بخلافه اللحية فتأمّل.

ثمّ إنّ إجزاء مسح الشعر إنما هو في الشعر المختصّ بالمقدّم وهو النابت عليه إذا لم يخرج بمدّه عن حدّه، فلا يجزئه شعر غيره وإن كان عليه، ولا القدر الخارج من شعره إلى غيره لعدم صدق مسح مقدّم الرّأس على شيء من ذلك، مع وجود الإجماع المنقول في كلام غير واحد في كلّ من ذلك.

نعم لو مسح أصول الشعر الخارج عن الحدّ فالظاهر الإجزاء لصدق الاسم، وربّما ادّعي ظهور عدم الخلاف فيه، ولو امتدّ شعر أعلى المقدّم ثمّ تدلّى عليه حتى انتهى بانتهائه ففي الاجتزاء بمسحه وعدم الحاجة إلى مسح ما تحته من منابت الشعر الملحوق نظر، لصدق الحيلولة على مثله عرفا.

ونحوه الإشكال فيما لو كان الشعر النابت على المقدّم عليه ولكنّه في الطول بحيث لو مدّ خرج عن حدّه، إذا مسح على الّذي من شأنه أن يخرج لا على اصوله، بل في شرح الدروس «المشهور بين القوم بحيث لم نعرف خلافا عدم الجواز»(1) وكان وجهه صدق الحائل.

وأقوى منهما إشكالا مسح الجمّة، ولذا قال الشهيد في محكيّ الذكرى: «وكذا لا يجزي المسح على الجمّة، وهي مجتمع شعر الناصية عند عقصه(2) نعم لو أدخل يده تحت الجمّة ومسح بشرة الرأس أو أصل شعر الناصية أجزأه»(3) انتهى. فالاحتياط الّذي لا يجوز تركه عدم الاجتزاء بمسح الشعر في هذه الصور.

ص: 558


1- مشارق الشموس: 114.
2- جمعه، منه.
3- الذكرى 142:2.

ومن طريق إشكال المسألة يعلم أنّه لا يجوز المسح على حائل من عمامة أو قلنسوة أو مقنعة أو ثوب آخر ولو كان رقيقا ينفذ منه الماء إلى الرأس، وكذلك الحناء وغيره ممّا يطلى به الرأس، للإجماعات البالغة ما فوق حدّ الاستفاضة، وعدم صدق مسح الرأس عرفا فلا يحصل به امتثال الأمر، والأخبار الآمرة برفع العمامة والقناع وإدخال الإصبع تحت العمامة، وخصوص الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام «إنّه سئل عن المسح على الخفّين وعلى العمامة ؟ قال: لا يمسح عليهما»(1) والخبر المحكيّ عن كتاب عليّ بن جعفر عن أخيه عن المرأة «هل تصلح لها أن تمسح على الخمار؟ قال: لا يصلح حتّى تمسح على رأسها»(2) والمرفوعة المتقدّمة(3) في الحنّاء القائلة بأنّه «لا يجوز حتّى يصيب الماء بشرة رأسه».

وأمّا ما دلّ على خلاف ذلك كصحيح عمر بن يزيد قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يخضب رأسه بالحناء ثمّ يبدو له في الوضوء؟ قال: يمسح فوق الحنّاء»(4)وصحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه السلام «في الرجل يحلق رأسه ثمّ يطليه بالحناء ويتوضّأ؟ فقال. لا بأس بأن يمسح رأسه والحنّاء عليه»(5) فمعرض عنه عند الأصحاب حيث لم نقف على قائل به تحصيلا و لا نقلا.

وإن كان المحكيّ عن الذكرى(6) ربّما يشير إلى وجود الخلاف حيث إنّه نقل الإجماع على عدم الاجتزاء بالمسح على العمامة والأشهرية على الحنّاء، لكنّه يعارضه الاتفاق المنقول عن بعضهم، وعليه فلا ينهض لمعارضة ما تقدّم فيطرح أو يؤوّل بما ذكروه من الحمل على اللون والأثر أو عدم الاستيعاب أو الضرورة أو الإنكار أو غير ذلك وإن بعد أكثرها، ومن العامّة(7) من جوّزه على العمامة حتّى أنّهم قالوا:

إنّ أبا بكر مسح عليها، ومنهم من جوّزه على الرقيق الّذي ينفد منه الماء» هذا كلّه في حال الاختيار.

ص: 559


1- الوسائل 459:1 الباب 38 من ابواب الوضوء ح 8.
2- الوسائل 456:1 الباب 37 من أبواب الوضوء ح 5 و 4.
3- تقدّم في الصفحة: 557 الرقم 2.
4- الوسائل 455:1 الباب 37 من ابواب الوضوء ح 3.
5- الوسائل 456:1 الباب 37 من أبواب الوضوء ح 5 و 4.
6- الذكرى 138:2.
7- نقل عنهم في مفتاح الكرامة 426:2.

وأمّا مع الاضطرار فقد صرّح غير واحد بالجواز، وقد ينقل فيه حكاية الاتفاق كما في الرياض(1) واستدلّ بعموم أدلّة المسح على الجباير، ومنها ما في الحسن من قوله عليه السلام: «إن كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة»(2) بعد ما سئل عن الرجل يكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من موضع الوضوء فيعصبها بخرقة ويتوضّأ، وعليه فالاجتزاء به دون العدول إلى التيمّم متعين.

المسألة الخامسة: يجوز الاستقبال والاستدبار معا في مسح الرأس،

وفاقا للمعتبر والشرائع والنافع والتذكرة والإرشاد والقواعد وحاشية الشرائع والمدارك والمشارق والروض(3) كما عن المبسوط والسرائر وكشف الرموز والمنتهى والتحرير والألفية والمقتصر والتنقيح وجامع المقاصد والمقاصد العليّة ومجمع الفائدة والمشكاة والبرهان والكفاية والمفاتيح(4) وعن البحار أنّه المشهور(5) وفي معناه ما في الرياض(6) وعن الحبل المتين وشرح المفاتيح انّه المشهور بين المتأخّرين(7). خلافا للخلاف والإنتصار والمصباح و الوسيلة والنهاية والفقيه والدروس لمصيرهم إلى عدم الجواز(8) وفي الدروس «أنّه على المشهور» وعن الذكرى والمقاصد العليّة «أنّه مذهب الأكثر»(9)وعن الخلاف «الإجماع على عدم جواز الاستقبال» وعن الانتصار «أنّه ممّا انفردت به الإمامية» وعن الذكرى والمهذّب البارع والروضة التوقّف(10).

ص: 560


1- الرياض 136:1.
2- الوسائل 463:1/2، ب 39 من أبواب الوضوء.
3- المعتبر 145:1، الشرائع 22:1. النافع: 6، التذكرة 163:1، الإرشاد 223:1، القواعد 203:1، حاشية الشرائع (حياة المحقّق الكركي وآثاره ج 10):49، المدارك 214:1، مشارق الشموس: 114، روض الجنان 107:1.
4- المبسوط 21:1، السرائر 102:1، كشف الرموز 67:1، المنتهى 49:2، التحرير 10:1، الألفيّة: 44، المقتصر: 47. التنقيع 3:1 ما جامع المقاصد 219:1، المقاصد العليّة: 95، مجمع الفائدة 1: 105، نقل عنه في مفتاح الكرامة 419:2، الكفاية: 2، مفاتيح الشرائع 45:1.
5- البحار 259:80.
6- الرياض 134:1.
7- الحبل المتين 83:1، مصابيح الظلام 297:3.
8- الخلاف 83:1، الانتصار: 19، المصباح: 9، الوسيلة: 50، النهاية 219:1، الفقيه 45:1/88، الدروس 92:1.
9- الذكرى 2؛ 138، المقاصد العليّة: 95.
10- المهذّب البارع 130:1، الروضة 326:1.

حجّة المختار بعد إطلاق المسح كتابا وسنّة صحيحة حمّاد بن عثمان أو حمّاد بن عيسى عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومديرا»(1).

والمناقشة في الإطلاق بانصرافه إلى الفرد الشائع الّذي هو البدءة من الأعلى، يدفعها: منع شيوع هذا الفرد في غير الوضوء، وهو في الوضوء إنّما يسلّم عند المتشرّعة المتاخّرة عن زمن النزول ولكنّه غير مجد، لأن العبرة بما كان منه موجودا حين النزول ولم يكن ثمّة وضوء فضلا عن شيوع البدءة في مسحه من الأعلى، وليس فيه عند المتشرّعة المتأخّرة دلالة على الاعتبار، لجواز كون اختياره وجريان العادة به لأنّه الفرد الأفضل، أو لأنّه الطريق الأسهل.

كما أنّ المناقشة في الصحيحة بالاضطراب في المتن الّذي يوجبه أنّ حمّادا بالسند المشار إليه قد روى أيضا «لا بأس بمسح القدمين مقبلا ومدبرا» على ما هو في موضع آخر من تهذيب الشيخ، لقضاء ذلك مع ملاحظة اتّحاد الراوي والمرويّ عنه باتّحاد الرواية لمكان بعد التعدّد، فأقصى ما يثبت بها حينئذ جواز النكس في مسح القدمين، وهو ممّا لا كلام فيه على ما ستعرفه. وتوهّم الإلحاق بعدم القائل بالفرق مع وجود الخلاف الّذي هو بعينه قول بالفرق غلط.

يدفعها: أنّ تعدّد أسناد المفيد حيض رواها بالمتن الأوّل عن أبي القاسم جعفر بن محمّد عن أبيه، وبالمتن الثاني عن أحمد بن محمّد عن أبيه علي ما أوردهما الشيخ في التهذيب يوجب ظهور التعدّد، ويؤكده تعدّد الراوي على ما في الوسائل، حيث إن ابن أبي عمير يروي بالمتن الأوّل عن حمّاد بن عيسى، وبالمتن الثاني عن حمّاد بن عثمان، ولولا مخالفة ذلك للنسخة الحاضرة عندنا من التهذيب - لكون المذكور فيها في كلا الموضعين هو حمّاد بن عثمان، وما في نسخة الاستبصار الحاضرة عندنا من اشتمال السند بالمتن الأوّل على ابن عثمان - لكان ذلك بنفسه قرينة واضحة ودليلا لائحا على التعدّد، وممّا يرشد إلى صحّة المتن الأوّل أنّ الشيخ أوردها بهذا المتن في الاستبصار في باب النهي عن استقبال الشعر في غسل الأعضاء، وجعلها مخصوصة

ص: 561


1- الوسائل 406:1 الباب 20 من أبواب الوضوء ح 1.

بمسح الرجلين تعليلا بأنّه يجوز استقبالهما واستدبارهما، واستشهد له بخبر يونس قال: «أخبرني من رأى أبا الحسن عليه السلام بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب، ومن الكعب إلى أعلى القدم»(1) فلولا الصادر من المعصوم هو هذا المتن لما حاجة إلى تكلّف دعوى التخصيص وإقامة الشاهد.

نعم يبقى الكلام معه في تلك الدعوى، ويدفعها: أنّ التخصيص لا جهة له حيث لا تنافي بين الروايتين ولا بين المتنين على تقدير صحّتهما معا، كما تنبّه عليه صاحب المدارك في حاشية الاستبصار قائلا: «لا وجه لتخصيص الرواية بمسح الرجلين فإنّها متناولة لمسح الرأس أيضا، وما استدلّ به على ذلك لا دلالة عليه بوجه».

وأمّا ما يقال: من أنّ الإقبال والإدبار في المسح يناسبان القدم، فإنّ الإقبال هو تحريك الماسح يده مقبلة إلى نفسه والإدبار خلافه، فكان اليد المتحرّكة للمسح مقبلة إليه أو مدبرة عنه بخلاف الرأس، فإنّ المناسب له إنّما هو الصعود والهبوط. ومن هنا ظهر أنّه لو كان لفظ الرواية «لا بأس بمسح الوضوء» أمكن ذلك قرينة على إرادة مسح الرجلين.

ففيه: أنّ الإقبال والإدبار لا ينافران الرأس، كما أنّ الصعود والهبوط لا ينافران القدم، غاية الأمر أنّ الرأس أشدّ مناسبة للأوّلين، كما أنّ القدم أشدّ مناسبة للآخرين، وهذا بمجرّده لا يوجب اختصاص الرواية بالقدمين لا لفظا ولا معنى بعد مساعدة الفهم العرفي على إرادة الأعمّ .

وأضعف من ذلك ما قيل للقدح في الدلالة من جواز كون نفي البأس بيانا لجواز الجمع بين الإقبال والإدبار لا جواز الاكتفاء بكلّ واحد منهما، فإنّ ذلك خلاف ما ينساق من عبارة الرواية في متفاهم العرف.

وليس للقول الآخر إلّا الأصل المقتضي ليقين البراءة الغير الحاصل مع استقبال الشعر، والإجماع المحكيّ عن الخلاف والانتصار، والوضوءات البيانيّة فإنّها وإن اشتملت على أنّه مسح برأسه وما يرادفه غير أنّ القطع حاصل بأنّه إنّما كان يمسح

ص: 562


1- الوسائل 407:1 الباب 20 من أبواب الوضوء ح 3.

مقبلا، إذ لا إشكال في رجحانه فلا يتركه النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم على وجه الاستمرار، وعليه اتّجه القول بوجوبه إمّا لوجوب التأسّي أو لقوله صلى الله عليه و آله وسلم: «هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلّا به»(1).

والكلّ كما ترى. فإنّ الأصل مع وجود الإطلاق والنصّ ممّا لا محلّ له، والإجماع المحكيّ يتوهن بمصير المتأخّرين أو معظمهم إلى الخلاف، والوضوءات البيانيّة يدفعها وجود القرينة الواضحة على عدم الوجوب، وهو عدم تعرّض الرواة لذكر البدءة من الأعلى هنا مع تعرّضهم لذكرها في غسل الوجه واليدين، وهذا آية أنّهم فهموا الفرق بين المقامين بالوجوب وعدمه وإلّا لما أهملوا التنبيه عليه في احدهما، ولو سلّم فلا دقلّ من عدم فهم الوجوب هنا، وهذا كاف في سقوط الأخبار البيانيّة عن الدلالة بعد ملاحظة منع وجوب التأسّي مطلقا، ومنع الجدوى في انضمام الخبر المذكور، لقوّة احتمال كون الحصر المستفاد منه إضافيا بالقياس إلى سائر الجهات المعتبرة في الوضوء ممّا خالف فيها أهل الخلاف.

ثمّ إنّ في كلام جماعة من مجوّزي الاستقبال هنا استحباب الإقبال وكراهة الإدبار، ولعلّ وجهه الاحتياط والمحافظة على الوقوع في مخالفة الواقع، أو لأنّه القدر المعلوم من مراتب رجحان فعل النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم، وعلى أيّ حال فلا إشكال في الاستحباب ولو من جهة التسامح وحيث إن الاستحباب في العبادة عبارة عن الأفضليّة أو أقلّيّة الثواب والكراهة عن خلافهما فلا إشكال فيها أيضا، ولو علّق من جهتها أيضا على التسامح لم يكن به بأس.

خامسها: مسح بشرة الرجلين،
اشارة

واعلم أن وجوب مسح الرجلين في الوضوء على التعيين ممّا انعقد عليه إجماع الإماميّة، بل هو من ضروريّات مذهبهم كما ادّعاها جماعة، خلافا للعامّة فإنّهم بين من أوجبه تخييرا بينه وبين الغسل كما عن أبي علي الجبائي وأبي الحسين البصري وابن جرير الطبري، ومن أوجب الغسل تعيينا كالفقهاء الاربعة وباقي الجمهور، ومن أوجبهما معا كما عن داود(2).

والحقّ الّذي لا يدانيه شك وريب هو مذهب الاصحاب، والدليل عليه بعد الإجماع

ص: 563


1- الوسائل 438:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 11.
2- نقل عنهم في مفتاح الكرامة 449:2.

محصّلا ومنقولا على حدّ الاستفاضة نصّ الكتاب واستفاضة السنّة إن لم نقل بتواترها معني، فمن الأوّل قوله عزّ من قائل: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ (1) بناء على ما هو الظاهر من عطف الأرجل على الرؤوس المقتضي للمشاركة في للمسح، كعطف الأيدي على الوجوه المقتضي لمشاركتهما في الغسل.

أمّا على قراءة الجرّ - كما عن ابن كثير وأبي عمرو وحمزة وعاصم على ما في رواية أبي بكر عنه، وبها من طريق أصحابنا خبر غالب بن هذيل قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ على الخفض هي أم على النصب ؟ قال: بل هي على الخفض»(2) - فظاهر.

وأمّا على قراءة النصب - كما عن نافع وابن عامر والكسائي وعاصم على ما في رواية حفص - فبناء على العطف على المحلّ وهو أولى من العطف على اللفظ المقتضي للمشاركة مع الأيدي في الغسل قضيّة لقرب وركاكة الفصل بالأجنبيّ خصوصا إذا كان جملة فيما بين المعطوف والمعطوف عليه.

ومن هنا يظهر ما في المناقشة في قراءة الجرّ من تجويز كونه من باب الإعراب بالمجاورة كما في قوله: «هذا جحر ضبّ ضرب» فلا ينافي العطف على الأيدي، فإنّه ممّا يبعّده الفصل، مضافا إلى شذوذ الإعراب بالمجاورة حتّى عن بعض النحاة إنكار وروده في الكلام الفصيح لغير ضرورة، واشتراطه بالأمن من اللبس كما إذا لم يكن هناك عطف موجب للالتباس والشرط منتف، ومع هذا كلّه فهو مقصور على ألفاظ مخصوصة فلا يقاس عليها غيرهاكما قيل.

ومن الثاني أكثر ما تقدّم من الأخبار المتعلّقة بأفعال الوضوء المتفرّقة في أبوابها وغيرها ممّا لا يكاد يخفى على المتتبّع، والعمدة في المقام التعرّض لسائر ما يتعلّق بمسح القدمين ويتمّ ذلك في طي مسائل:

المسألة الأولى: محلّ الشيخ ظاهر القدم الغير المتناول للطرفين فلا يجزئ مسح الباطن وما يلحق به من الطرفين،

لأنّه المعلوم من مذهب الأصحاب المنقول عليه

ص: 564


1- المائدة: 6.
2- الوسائل 420:1 الباب 25 من أبواب الوضوء ح 10.

الإجماع في كلام جماعة من الأساطين المدلول عليه بأخبار مستفيضة، ففي الصحيح الحاكي لوضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فعلا «ومسح مقدّم رأسه وظهر قدميه ببلّة يساره وبقيّة بلّة يمناه»(1) وقولا «وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك وما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك الميسرى»(2) وفي مكاتبة أبي المحسن عليه السلام لعليّ بن يقطين: «وامسح بمقدّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك»(3) وفي خبر جعفر بن سليمان قال: «سألت أبا الحسن موسى عليه السلام قلت: جعلت فداك يكون خفّ الرجل مخرّقا فيدخل يده فيمسح ظهر قدمه، أيجزئه ذلك ؟ قال: نعم»(4) وفي المرسل وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «لولا إنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يمسح ظاهر قدميه لظننت أنّ باطنهما أولى بالمسح من ظاهرهما»(5).

وأمّا ما في شواذ الأخبار ممّا تدلّ على مسح ظاهر القدمين وباطنهما كما في الخبرين - فمع أنّه متروك الظاهر - محمول على التقيّة على ما في كلام جماعة تبعا للشيخ، قال:

«لأنّهما موافقان لمذهب بعض العامّة ممّن يرى للمسح ويقول باستيعاب الرجل»(6).

المسألة الثانية: حدّه عرضا أقلّ مسمّاه،

ولو مقدار أصبع أو أقلّ منه كما هو المشهور على ما حكاه غير واحد، بل عن المقاصد العليّة «أنّه موضع وفاق»(7) وفي المعتبر «ولا يجب استيعاب الرجلين بالمسح بل يكفي المسح من رؤوس الأصابع إلى الكعبين ولو بإصبع واحدة وهو إجماع فقهاء أهل البيت عليهما السلام»(8) وفي التذكرة «لا يجب استيعاب الرجلين بالمسح بل يكفي الشيخ من رؤوس الأصابع إلى الكعبين ولو بإصبع واحدة عند فقهاء أهل البيت»(9) ونحوه ما عن المنتهى إلّا أنّه قال في الأوّل بعد فاصلة:

«ويستحبّ أن يكون بثلاث أصابع مضمومة، وقال بعض علمائنا: يجب»(10) ويظهر منه

ص: 565


1- الوسائل 387:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 2.
2- الوسائل 387:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 2.
3- الوسائل 444:1 الباب 32 من أبواب الوضوء ح 3.
4- الوسائل 414:1 الباب 23 من ابواب الوضوء ح 2.
5- الوسائل 416:1 الباب 23 من ابواب الوضوء ح 9.
6- التهذيب 92:1/94.
7- المقاصد العليّة: 94.
8- المعتبر 150:1.
9- التذكرة 171:1.
10- المنتهى 69:2.

رجوع الإجماع إلى نفي الاستيعاب لا كفاية الاصبع الواحدة، وعن الغنية «أن أقلّ ما يجزئ عرضا هو مقدار اصبعين»(1) مدّعيا عليه الإجماع، وعن الراوندي «القول بأنّ أقلّ ما يجب في مسح الرجلين مقدار اصبع»(2) لنا: النصوص المستفيضة القريبة من التواتر معنى، وربّما يدّعى تواترها كذلك كالصحيح المفسّر للآية المذيّل بقوله: فقال وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فعرفنا حين قال رُؤُسِكُمْ أنّ للمسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه، فقال: وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما والآخر وإذا مسحت بشيء من رأسك أو بشيء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك»(3)والحسن «فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع لقد أجزأه»(4) إلى غير ذلك من الأخبار الغير الخفيّة على المتتبّع.

وأمّا خبر معمّر بن عمر عن أبي جعفر عليه السلام قال: «يجزئ من للمسح على الرأس موضع ثلاث أصابع، وكذلك الرجل»(5) فالمتعيّن حمله على الاستحباب لعدم مقاومته لما تقدّم. ونحوه في الحمل على الاستحباب صحيحة البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «سألته عن الشيخ على القدمين كيف هو؟ فوضع كفّه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم، فقلت: جعلت فداك لو أنّ رجلا قال بإصبعين من أصابعه، فقال: لا إلّا بكفّه»(6) لكون «شيء» على ما يقتضيه الإنصاف أظهر في الإطلاق بل التعليل منها في الوجوب، فلا تصلح لمعارضة ما تقدّم من حيث الدلالة ليجب الخروج عن إطلاقه حملا له على المقيّد.

وقد يستدلّ لوجوب الاستيعاب برواية عبدالأعلى قال: «قلت لأبي عبداللّه عليه السلام:

عثرت فانقطع ظفري فجعلت على اصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزّ و جلّ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ إمسح عليه»(7)

ص: 566


1- الغنية: 56.
2- فقه القرآن 29:1.
3- الوسائل 412:1 الباب 23 من ابواب الوضوء ح 1.
4- الوسائل 388:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 3.
5- الوسائل 417:1 الباب 24 من ابواب الوضوء ح 5 و 4.
6- الوسائل 417:1 الباب 24 من ابواب الوضوء ح 5 و 4.
7- الوسائل 464:1 الباب 39 من أبواب الوضوء ح 5.

إذ لولا وجوب الاستيعاب لم يكن للاستشهاد بالآية الظاهرة في نفي إيجاب الحرج ولا للأمر بالمسح على ما وضع عليه المرارة وجه. وبقوّة احتمال كون المرارة موضوعة على جميع الأصابع ولو من باب كونه لازما لوضعها على الاصبع الواحدة الّتي انقطع عنها ظفرها تتوهّن هذه الدلالة، ومع ذلك فهي لا تقاوم ما تقدّم سندا فتعين حملها على الاستحباب.

المسألة الثالثة: حدّه طولا من رؤوس الأصابع إلى الكعبين على وجه يستوعب المسح لتمام هذه المسافة إجماعا،

كما عن الخلاف والانتصار والغنية والسرائر والمنتهى والتذكرة(1) وغيرها، وعن المعتبر(2) التردّد في وجوب الاستيعاب دوّلا ثمّ ترجيحه تعليلا بأنّ الغاية لابدّ من الإتيان بها، ومبنى عدم الوجوب كون الغاية غاية للممسوح لا المسح، ولازمه وجوب إيقاع للمسح على ما دخل في المحدود على جهة التخيير بين أجزائه كما في الرأس بالنسبة إلى مقدّمه، واحتمله في الذكرى حيث قال:

«هل ظهر القدم محلّ للمسح كالمقدّم في الرأس بحيث لو وقع المسح على جزء منه يجزئ كالرأس ؟ ويكون التحديد للقدم الممسوح لا للمسح يحتمل ذلك تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه»(3).

وعن جامع المقاصد «أنّه ذكر هذا الاحتمال واستبعده»(4).

لنا: بعد الإجماعات، وظهور قوله تعالى: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ (5) ظواهر جملة من الأخبار البيانيّة الّتي منها صحيحة الأخوين زرارة وبكير أنّهما سألا عن وضوء رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم «فدعا بطست أو بتور فيه ماء - إلى أن قالا -:

ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه»(6) ولا يحتمل فيه ما يحتمل في الآية ممّا ستعرفه، ونحوها خبر يونس «قال: أخبرني من رأي أبا الحسن عليه السلام بمنى يمسح ظهر القدمين من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم، ويقول: الأمر في مسح الرجلين موسّع من شاء مسح مقبلا، ومن شاء مسح مدبرا، فإنّه من الأمر الموسّع

ص: 567


1- الخلاف 93:1، الانتصار: 28، الغنية: 56، السرائر 2:1، 1، المنتهى 69:2، التذكرة 170:1.
2- المعتبر 152:1.
3- الذكرى 153:2.
4- جامع المقاصد 220:1.
5- المائدة: 7.
6- الوسائل 392:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 11.

إن شاء اللّه»(1) وفي الخبر «أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال لعليّ عليه السلام وخديجة لمّا أسلما: «أنّ جبرئيل عليه السلام عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام ويقول لكما أنّ للإسلام شروطا - إلى أن قال: وإسباغ الوضوء على المكاره الوجه واليدين والذراعين ومسح الرأس ومسح الرجلين إلى الكعبين....»(2) إلخ وفي آخر «أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال للمقداد وسلمان وأبي ذرّ: أتعرفون شرائع الإسلام ؟ فقالوا: نعرف ما عرّفنا اللّه ورسوله، فقال: هي أكثر من أن تحصى، - إلى أن قال -: «والوضوء الكامل على الوجه واليدين والذراعين إلى المرافق والمسح على الرأس والقدمين إلى الكعبين» الخ.

والمناقشة في الآية بجواز كون حرف الانتهاء لغاية الممسوح الموجّه تارة بالنظر إلى لفظة «إلى المرفقين»(3) المجعولة غاية للمغسول، واخرى بشهادة العطف على الرأس المقتضي للتسوية بين المعطوف والمعطوف عليه، وثالثة بمساعدة ما دلّ على جواز النكس فيه، إذ لولا عدم كونه غاية للمسح لما جاز ذلك.

يدفعها: أنّ الظاهر لا يخرج عنه لمجرّد الاحتمال، ولا سياق هنا صارف عن الظهور، وما ذكر تصرّف في لفظي بمعونة الخارج ولا يلزم منه التصرّف في لفظ آخر غيره، ولو سلّم فهو ينتج عكس المطلوب لوجوب الاستيعاب في اليدين فيجب في الرجلين أيضا قضيّة للسياق وإن قدّر الغاية غاية للمحل:

والعطف إنما يقتضي التسوية لو اشتمل المعطوف عليه على غاية محمولة على المحل، ولا غاية بالنسبة إلى الرأس حتّى تحمل على المحلّ .

ودليل النكس وإن كان على ما ستعرفه مسلّما غير أنّه لا يقضي بالتزام جعلها غاية للممسوح، لجواز التصرّف بوجه آخر أقرب بالاعتبار بل العرف أيضا وهو جعل ما في الآية من الابتداء بالأصابع والانتهاء إلى الكعبين على أنّه أحد فردي الواجب التخييري، ولا يلزم استعمال الأمر بعد ملاحظة الرأس في معنيين، لأنّ التخيير تصرّف في متعلّق الأمر لا في الأمر، فيقيد المسح إلى الكعبين بحالة عدم حصول معادله كما

ص: 568


1- الوسائل 407:1 الباب 20 من أبواب الوضوء ح 3.
2- الوسائل 400:1 الباب 15 من ابواب الوضوء ح 25.
3- كذا في الأصل، والصواب «إِلَى اَلْمَرٰافِقِ » نظرا إلى الآية المباركة.

قرّر في محلّه.

ولو سلّم الالتزام بما ذكر فلا يسلّم استلزامه ظهور الاكتفاء بمسح أيّ جزء من المحلّ المحدود كما توهّم. بل هو على هذا التقدير أيضا ظاهر في الاستيعاب كما تنبّه عليه بعض مشايخنا قدس سره(1) والسرّ فيه أنّ إخراج الأداة عن كونها غاية للمسح إخراج لها عن تعلّقها بالعامل المذكور، فيقدّر لها عامل حالا على حدّ الحال المؤكدة، ولا ريب أنّ هذه الحمال المقدّرة بنفسها قيد للمسح ومن متعلّقاته ومن الواجب حصول القيد امتثالا للأمر بالمقيّد عقلا وعرفا ولا يحصل إلّا بالاستيعاب كما هو واضح.

نعم هاهنا نبذة من الأخبار ربّما توهّم لبعض الأنظار عدم وجوب الاستيعاب كالنصوص الدالّة على عدم استبطان الشراكين في مسح الرجلين، وما ورد في خفّ الرجل يكون مخرّقا فيدخل يده فيمسح ظهر قدمه أيجزئه ذلك ؟ قال: «نعم»(2)وخصوص صحيحة الأخوين المشتملة على قوله عليه السلام: «فاذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه»(3) تفريعا على قوله تعالى: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ (4) وصحيحتهما الأخرى عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال في المسح: تمسح على النعلين، ولا تدخل يدك تحت الشراك، وإذا مسحت بشيء من رأسك أو بشيء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك»(5) بناء على جعل «ما» بدلا من القدمين أو الشيء مع حمل الباء على التبعيض، وقد يقرّر بأنّ الموصول إن كان بدلا عن القدمين فدلالته على كون ما بين القدم والكعب نظير الرأس محلّا للمسح واضحة، وإن جعل بدلا عن الشيء بأن يكون المراد به مسح شيء من القدمين هو ما بين الكعب إلى أطراف الأصابع، فإن جعل الباء في شيء للتبعيض كان كالأوّل في وضوح الدلالة على ما ذكر، وإن جعل زائدة أو لمجرّد الإلصاق فهو وإن دلّ على الاستيعاب طولا لكنّه يدلّ على الاستيعاب عرضا أيضا، ويجب مسح جميع ما بين الأمرين طولا وعرضا وهو خلاف الإجماع، فيجب

ص: 569


1- الجواهر 211:2.
2- الوسائل 414:1 الباب 23 من أبواب الوضوء ح 2.
3- الوسائل 388:1 الباب 15 من ابواب الوضوء ح 3.
4- المائدة: 6.
5- الوسائل 414:1 الباب 23 من ابواب الوضوء ح 4.

مخالفة الظاهر في الرواية والأصل عدمها.

نعم لو جعل «ما» مع كونها بدلا عن الشيء موصوفة يعني إذا مسح من القدمين شيئا يكون بين الكعب إلى أطراف الأصابع، فإن أريد ممّا بين الكعب إلى الأصابع ما يقع متوسّطا بينهما فلا يدلّ على الاستيعاب الطولي، وإن أريد منه ما بين الأمرين بأن يكون أوّله احدهما وآخره الآخر، فيدلّ على مطلب المشهور وهو الاستيعاب لكنّه خلاف ظاهري الموصول ولفظ «ما بين».

والجواب: أنّ أخبار الشراك وإن كانت في مساق نفي الاستيعاب، غير أنّ الظاهر منها نفي الاستيعاب العرضي لا غير، بناء على ما قيل من أنّ معقد الشراكين إمّا عند المفصل أو أسفل منه غير متجاوز عن الكعب، ولو سلّم فلا أقلّ من عدم ظهورها في نفي الاستيعاب الطولي وما دلّ على الإجزاء في الخفّ المخروق ليس بظاهر في عدم الاستيعاب الطولي إن لم نقل بظهوره في الاستيعاب مطلقا بناء على ظهور ظهر القدم في ظهر مجموع القدم، ولا ينافيه الحكم بالإجزاء إذ لا كلام لأحد في كفاية استيعاب المجموع بل استحبابه على ما يظهر من كلمة الأصحاب، وإنّما الكلام في وجوب الاستيعاب الطولي والنصّ لا ينفيه لا سؤالا ولا جوابا.

وأوّل الوجوه في الصحيحتين منفيّ بأصالة الحقيقة في القدمين، وثانيها منفيّ بركاكة معنى هذا التعبير إذ لا معنى لبعض البعض، مع أنّ «شيئا» بنفسه أبلغ في إفادة البعضيّة، فتعين بهذا ثالثها المفيد للاستيعاب طولا، ودلالته عليه من جهة العرض أيضا يخرج عنها بدليل نفي هذا الاستيعاب وهو الإجماع. فيلزم حمل الموصول على المعهود وهو الخط الطولي المارّ على الكعب إلى أطراف الأصابع، بناء على ظهور «البين» الّذي من عادته الإضافة إلى اثنين وما يقوم مقامهما في تقوّم ما قبله وقيامه بكلّ من الاثنين، كما في «المال بين زيد وعمرو» و «القتل بين عمرو وبكر» لا في توسّطه بينهما.

وقضية ذلك مضافا إلى الاستيعاب دخول الكعبين أيضا في المسح، ولا صير فيما يلزمه هذا الفرض من مخالفة الظاهر إن سلّمنا عدم ظهور الموصول في المعهود بعد مساعدة الدليل عليها وكونها أرجح ممّا تقدّم كما هو واضح، وربّما يحمل الموصول

ص: 570

على كونه خبرا لمبتداء محذوف أو بيانا للشيء، ولكنّه لا يتمّ إلّا بانضمام ما عرفته من البيان لقصوره بدونه عن إفادة المقصود.

وبهذا البيان ظهر قوّة القول بدخول الكعبين وحجّته كما عليه جماعة كالمنتهى والتحرير والمقاصد العليّة وحاشية الشرائع والمجمع(1) وغيرها، بل في مفتاح الكرامة «المشهور الدخول»(2) وفي النهج «أنّه عزي إلى ظاهر الأصحاب»(3) خلافا لجمع هم بين من جعل الأشبه عدم الدخول كالمعتبر(4) ومن قرّبه كالمدارك(5) ومن يظهر منه ذلك كالوسيلة(6) ومن جرم به كالكاشاني(7) بل عن الذكرى حكاية نسبته إلى ظاهر الأصحاب(8) ولا حاجة إلى التكلّم في المسألة أزيد من ذلك.

والعمدة في المقام تحقيق موضوع المسألة أعني «الكعب» وهو العظم الناتي في وسط القدم المعبّر عنه بقبّة القدم، قال في المقنعة: «والكعبان هما قبّتا القدم أمام الساقين ما بين المفصل والمشط» إلى قوله: «الكعب في كلّ قدم واحد، وهو ما علا منه في وسط القدم»(9) قال في المعتبر: «يجب مسح الرجلين إلى الكعبين، وهما قبّتا القدم»(10) وفي معناه عبارته الأخرى فيه الّتي سنذكرها.

وعليه المعظم على ما يستفاد صراحة وظهورا من عباراتهم الواصفة له عند التفسير بأوصاف متلازمة متشاركة في موصوف واحد منطبق على ما عرفت، كوصفه بالناتي في ظهر القدم عند معقد الشراك في عبارة، وبكونه في ظهر القدم في ثانية، وكونه معقد الشراك في ثالثة، والناتي في وسط القدم في رابعة، وكونه في ظهر القدمين عند معقد الشراك في خامسة، وكونه معقد الشراك وقبّة القدم في سادسة، والناتي في وسط القدم عند معقد الشراك في سابعة، والناشز في وسط القدم في ثامنة، وكونه قبّة القدم في تاسعة، والمرتفع في ظهر القدم الواقع فيما بين المفصل والمشط في عاشرة،

ص: 571


1- المنتهى 76:2، التحرير 10:1، المقاصد العليّة: 97، حاشية الشرائع (حياة المحقّق الكركي وآثاره ج 10):50، مجمع الفائدة 107:1-108.
2- مفتاح الكرامة 433:2،
3- لم نعثر عليه.
4- المعتبر 152:1.
5- المدارك 221:1.
6- الوسيلة: 50.
7- مفاتيح الشرائع 44:1.
8- الذكرى 152:2.
9- المقنعة: 44.
10- المعتبر 152:1.

إلى غير ذلك ممّا يقرب من هذه.

وقد كثر نقل الإجماع عليه بل عن كشف اللثام «المشهور أنّهما الناتيان في ظهر القدم وهما قبّتاهما، واستفاض نقل الإجماع» عليه(1).

وفي معناه ما في المنهج(2) وغيره.

ومن إجماعاتهم المنقولة على ما عرنا عليه عن الانتصار وممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّ مسح الرجلين هو من أطراف الأصابع إلى الكعبين، والكعبان هما العظمان الناتيان في ظهر القدم عند معقد الشراك»(3) ووافقهم محمّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة في أنّ الكعب هو ما ذكرناه، وأنّ الكعب هو الّذي في ظهر القدم. فالقول بخلاف ذلك خارج عن الاجماع.

وما في التهذيب عند الاستدلال على ما عرفته عن المقنعة «ويدلّ عليه أيضا إجماع الامّة»(4).

وما عن مجمع البيان «الكعبان عند الإمامية هما العظمان الناتيان في ظهر القدم عند معقد الشراك»(5).

وما عن الغنية «وهما العظمان الناتيان في وسط القدم عند معقد الشراك» إلى قوله:

«وإذا ثبت أنّ فرض الرجلين المسح دون غيره ثبت أنّ الكعبين هما ما ذكرناه، لأنّ كلّ من أوجب من الامّة في الرجلين الشيخ دون غيره قال بأنّ الكعب هو الّذي في ظهر القدم، فالقول بخلاف ذلك خروج عن الإجماع»(6).

وما عن الخلاف «والكعبان هما الناتيان في وسط القدم» إلى قوله: «وأمّا الّذي يدلّ على أن الكعبين ما قلنا هو أنّه إذا ثبت وجوب مسح الرجلين من غير تخيير، فكلّ من قال بذلك قال إنّ الكعبين ما قلناه، والتفرقة بين المسألتين خروج عن الإجماع»(7).

وما في المعتبر «وعندنا الكعبان هما العظمان الناتيان في وسط القدم وهما معقد الشراك، وهذا مذهب فقهاء أهل البيت»(8).

وما عن الذكرى «الكعبان عندنا معقد الشراك وقبّتا القدم، وعليه إجماعنا، وهو

ص: 572


1- كشف اللثام 547:1.
2- لم نعثر عليه.
3- الانتصار: 115.
4- التهذيب 75:1.
5- مجمع البيان 167:3.
6- الغنية: 56.
7- الخلاف 92:1.
8- المعتبر 151:1.

مذهب الحنفية وبعض الشافعيّة»(1).

وما عن التنقيح «قال أصحابنا: هما قبّتا القدمين»(2).

وما عن جامع المقاصد - في شرح قول العلّامة: «وهما حدّ المفصل بين الساق والقدم»: «ما ذكره في تفسير الكعبين خلاف ما عليه جميع أصحابنا وهو من متفرّداته»(3).

وما في شرح الدروس «الظاهر من كلام الأصحاب أنّ الكعب هو العظم الناشز في وسط القدم وأنّ إجماعنا قد انعقد عليه»(4).

وما عن الذخيرة «وبالغ في إنكار المصنّف جماعة من أصحابنا المتأخّرين منهم الشهيد ونسبوه إلى مخالفة الإجماع، والتحقيق معهم إذ الظاهر أنّ قول المصنّف مخالف لما ذهب إليه الأصحاب ونقلوا الإجماع عليه»(5).

وفي كلام غير واحد من العامّه دعوى ما فوق الإجماع، منه ما عن النهاية الأثيرية «الكعبان الناتيان عند مفصل الساق والقدم عن الجنبين، وذهب قوم إلى أنّهما العظمان اللذان في ظهر القدم وهو مذهب الشيعة»(6) وما عن مجمع البحار(7) «وقيل هما العظمان في ظهر القدم وهو مذهب الشيعة»(8) فإنّ هذا يعطي كون ذلك من واضحات هذا المذهب التي لا يخفى حالها على أحد، وفي معناهما ما عن المصباح «ذهب الشيعة إلى أنّ الكعب في ظهر القدم»(9).

بل المستفاد من جماعة من الأساطين إجماع الأمّة على الملازمة بين وجوب المسح وكون الكعب هو ما ذكر، كما يظهر ذلك من عبارتي الخلاف والغنية المتقدّمتين، ومنه ما في التهذيب بعد ما ادّعاه من الإجماع المتقدّم من قوله: «وهو أنّ الأمّة بين قائلين قائل يقول بوجوب المسح دون غيره ولا يجوز التخيير ويقطع على أنّ المراد بالكعبين ما ذكرناه، وقائل يقول بوجوب الغسل أو الغسل والمسح على طريق التخيير، ويقول الكعبان هما العظمان الناتيان خلف الساق ولا قول ثالث، فإذا ثبت بالدليل الّذي قدّمنا ذكره وجوب مسح الرجلين وأنّه لا يجوز غيره ثبت ما قلناه من ماهيّة

ص: 573


1- الذكرى 149:2.
2- التنقيح 83:1.
3- جامع المقاصد 220:1.
4- مشارق الشموس: 119.
5- الذخيرة: 32.
6- النهاية لابن الأثير 178:4.
7- كذا في الأصل.
8- مجمع البحرين 47:4.
9- المصباح المنير 734:2.

الكعبين»(1).

ومنه ما في المعتبر حيث اخذ في الاحتجاج على ما عرفته منه وقال: «لنا: أنّ الكعب مأخوذ من كعب ثدي المرأة أي ارتفع، فهو بالاشتقاق أنسب من عظمي الساق، ولأنّ القول بتحتّم المسح مع أنّ الكعب غير ما ذكرناه منفيّ بالإجماع، دمّا عندنا فلثبوت الأمرين، وأمّا عند الخصم فلانتفاء الأمرين».

ولم نقف من كلمات من تقدّم على العلّامة ما ينافي هذه الإجماعات عدا محتمل عبارة ابن الجنيد «الكعب في ظهر القدم دون عظم الساق وهو المفصل الّذي هو قدّام العرقوب»(2) بناء على عود الضمير إلى الكعب، ويدفعه ظهور رجوعه إلى عظم الساق.

نعم عن العلّامة في كتبه المصير إلى أنه المفصل بين الساق والقدم المعبّر عنه بمجمع القدم وأصل الساق، بل عنه أنه نزّل كلمات من تقدّم على ذلك، ومن هنا قال في التذكرة: «إنّ الكعبين هما العظمان الناتيان في وسط القدم وهما معقد الشراك أعني مجمع الساق والقدم ذهب إليه علماؤنا»(3) وعنه في المنتهى بعد ما فتره بعين ما عرفته عن التذكرة: «قد يشتبه عبارة علمائنا على بعض من لا مزيد تحصيل له في معنى الكعب، والضابط فيه ما رواه زرارة وبكير في الصحيح»(4) وعن المختلف: «ويراد بالّكعبين هنا المفصل بين الساق والقدم، وفي عبارة علمائنا اشتباه على غير المحصّل»(5) وملخّص مراده: أنّ المحصّل يعلم أنّ مرادهم بالكعب المفصل لا العظم الّذي في وسط القدم، وتبعه على ذلك الشهيد في الألفيّة(6) مع أنّه شنّع عليه في الذكرى(7) بتشنيعات كثيرة، والمحدّث الكاشاني في المفاتيح وأبو العبّاس في الموجز والفاضل المقداد في كنز العرفان(8) على ما حكي عنهم، بل عن الأخير الطعن على القول المجمع عليه بأنّه لا شاهد له لغة ولا عرفا ولا شرعا. والمعروف بينهم نسبة هذا القول أيضا إلى شيخنا البهائي، وفيه نظر فإنّ قضية العبارة المحكيّة عنه اختيار. معنى

ص: 574


1- التهذيب 75:1.
2- نقل عنه في المختلف 293:2.
3- التذكرة 170:1.
4- المنتهى 72:2.
5- المختلف 293:2.
6- الألفيّة: 44.
7- الذكرى 150:2-151.
8- مفاتيح الشرائع 46:1، الموجز (الرسائل العشر): 41، كنز العرفان 18:1.

ثالثا، نعم نزّل عليه خيرة العلّامة فإنّه على ما حكي عن الحبل المتين قال: الكعب يطلق على معان أربعة:

الأوّل: العظم المرتفع في ظهر القدم الواقع فيما بين المفصل والمشط.

الثاني: المفصل بين الساق والقدم.

الثالث: عظم مائل إلى الاستدارة واقع في منتهى الساق والقدم، له زائدتان في أعلاه يدخلان في حفرتي قصبة الساق، وزائدتان في أسفله يدخلان في حفرتي العقب وهو نات في وسط ظهر القدم أعني وسطه العرضي، ولكن نتوؤه غير ظاهر لحسّ البصر لارتكاز أعلاه في حفرتي الساق، وقد يعبّر عنه بالمفصل أيضا إمّا للمجاورة له أو من قبيل تسمية الحالّ باسم المحلّ .

الرابع: أحد الناتيين عن يمين القدم وشماله اللذين يقال لهما: المنجّمين، وهذا المعنى الأخير هو الّذي حمل أكثر العامّة الكعب عليه في الآية وأصحابنا أيضا مطبقون على خلافه.

وأمّا المعالي الثلاثة الاول فكلامهم قدّس اللّه أرواحهم لا يخرج عنها، وإن كان بعض عباراتهم أشدّ انطباقا على بعضها من بعض، فالمعنى الأوّل ذكره من اصحابنا اللغويين عميد الرؤساء في كتابه الّذي ألّفه في الكعب، وصريح عبارة المفيد طاب ثراه منطبق عليه، فإنّه قال: «الكعبان» إلى آخر ما نقلنا عنه آنفا والمعنى الثاني ذكره جماعة من أهل اللغة إلى أن قال: «وهو المفهوم بحسب الظاهر من كلام ابن الجنيد والمعنى الثالث هو الّذي يكون في أرجل البعير والغنم أيضا، وربّما يلعب به الناس كما قال صاحب القاموس، وهو الّذي بحث عنه علماء التشريح» - إلى أن قال: - «وهو الكعب على التحقيق عند العلّامة طاب ثراه - إلى أن قال - بعد نقل عبارتي المختلف والمنتهى المشتملتين على نسبة الاشتباه - إلى غير المحصّلين: - «وأراد باشتباه عبارات علمائنا أنّها لمّا كانت مجملة بحيث يحتمل المعنى الأوّل والثالث بل ظاهرها أقرب إلى الأوّل وقع الاشتباه فيها على غير المحصّلين، فحملوها على المعنى الأوّل، والتحقيق يقتضي حملها على المعنى الثالث وهو الّذي انطبق عليه الرواية الصحيحة، واعتضد بكلام علماء التشريح، وشاع نسبته إلى كلّ من قال بالمسح» - إلى أن قال بعد نقل عبارات

ص: 575

الأصحاب -: «ولا يخفى عدم إبائها عن الانطباق على ما قاله العلّامة، فإنّه لا ينكر أنّ الكعب عظم نات في وسط القدم كيف وقد فسّره في المنتهى والتذكرة وغيرهما بذلك، ولكن يقول ليس هو العظم الواقع أمام الساق بين المفصل والمشط، بل هو العظم الواقع في ملتقى الساق والقدم وهو الّذي ذكره المشرّحون وغيرهم، وأنت خبير بأنّ تنزيل عبارات الأصحاب على هذا المعنى غير بعيد»(1) انتهى مختصرأ.

وفي هذا الكلام من البعد ما لا يخفى، كما هو كذلك [في] ما عرفته عن العلّامة من تنزيل كلمات من تقدّم ومعاقد إجماعاتهم على ما اختاره، مع صراحة بعضها وظهور البعض الغالب في الخلاف، والإنصاف أنّ التعرّض لهذا المقام وبيان ما يصلح هذين التنزيلين أو ما يفسدهما لا يرجع إلى طائل، والمعتمد هو القول الأوّل.

وأظهر ما يدلّ عليه بعد الإجماعات المتقدّمة - الّتي هي مع ملاحظة معاقدها الظاهرة في القبّة الّتي في ظهر القدم كالنصوص المستفيضة بل المتواترة الواردة بألفاظ مترادفة - صحيح الأخوين الّذي لم نقف على من تمسّك به بخصوصه هنا، وفي آخره:

«ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه»(2) وغير. ممّا اشتمل على مسح القدمين مقيّدا بغاية الكعبيين، بناء على ظهور التقييد بها في نحو المقام في الاحتراز، ولا يتأتّي ذلك إلّا بأن لا يكون الكعب هو المفصل التفاتا إلى أنّه منتهى القدم، فيكفي في اعتبار انتهاء المسح إليه ذكر القدم لعدم شموله بوضعه غيره ممّا هو داخل في الساق، ولأنّ هذه العبارة إذا لوحظت مع ما في صحيح زرارة من قوله: «وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك وما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى»(3)وغير. ممّا اشتمل على مسح القدم يفهم فيهما التعارض عرفا تعارض الإطلاق والتقييد، وليس إلّا لأنّ إطلاق المقدّم يشمل منتهاه وهو المفصل وقيّد الكعب لا يشمله.

ودونه في الظهور صحيح محمّد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال:

«سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفّه على الأصابع فمسحها إلى

ص: 576


1- الحبل المتين 89:1-93.
2- الوسائل 392:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 11.
3- الوسائل 436:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 2.

الكعبين إلى ظاهر القدم»(1) بتقريب: أن «إلى ظاهر القدم» بدل عن قوله: «إلى الكعب» وليس المراد بالظاهر هنا ما يقابل الباطن وإلّا لما حاجة إلى التصريح بذكره لكفاية قوله: «فمسحها إلى الكعبين» في إفادة وقوع الشيخ على الظاهر بهذا المعنى، بل هو عبارة عن الواضح المحسوس وليس إلّا العظم الناتي في وسط القدم.

ودونهما خبر يونس قال: «أخبرني من رأى أبا الحسن عليه السلام بمنى يمسح ظهر القدمين من أعلى القدم إلى الكعب، ومن الكعب إلى أعلى القدم»(2) بناء على أنّ إطلاق الأعلى هنا إنما هو باعتبار المبدأ فيراد به رؤوس الأصابع، فلو أنّ الكعب عبارة عن المفصل كان المناسب للتعبير بالأعلى بالمعنى المذكور أن يعبّر بالأسفل، فالعدول إلى الكعب ظاهر في عدم كونه المفصل.

ودون الجميع، الحسن عن ميسّر عن أبي جعفر عليه السلام قال: «الوضوء واحد، ووصف الكعب في ظهر القدم»(3) بناء على ظهور وصفه بكونه في ظهر القدم فيما هو في وسط القدم وإلّا كان الأنسب أن يقال: «وصفه في مفصل القدم أو في منتهاه أو في أسفله» ونحوه خبره الآخر عن أبي جعفر عليه السلام أيضا وفيه: «ثمّ مسح رأسه وقدميه، ثمّ وضع يده على ظهر القدم، ثمّ قال: هذا هو الكعب، قال: فأومأ بيده إلى أسفل العرقوب، ثمّ قال: إنّ هذا هو الظنبوب»(4) بناء على أنّ أسفل العرقوب لا يراد به هنا معناه الاسمي وهو أصل العرقوب، ضرورة أنّه بهذا المعنى ليس كعبا عند أحد حتّى العلّامة، فلابدّ وأن يراد به معناه الوصفي التفصيلي، فيكون ظاهرا فيما توهّم كونه كعبا ولو باعتبار اشتقاقه عن الكعب بمعنى المرتفع الجامع بين الناتي في وسط القدم والناتي في جانبي الساق، ويؤكده في هذا الظهور. واستدلّ أيضا بصحيحة الأخوين الآتية. وبأخيار عدم استبطان الشراك(5)

ص: 577


1- الوسائل 417:1 الباب 24 من أبواب الوضوء ح 4.
2- الوسائل 4:1.7 الباب 21 من أبواب الوضوء ح 3.
3- الوسائل 435:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 1.
4- الوسائل 392:1، الباب 15 من ابواب الوضوء ح 9، الظنبوب: حرف الساق أو عظمه راجع القاموس 103:1.
5- الوسائل 414:1 الباب 23 من أبواب الوضوء ح 3 و 4 و 8.

وبأخبار قطع السارق كصحيحة زرارة عن الباقر عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا قطع اليد قطعها دون المفصل، وإذا قطع الرجل قطعها من الكعب»(1) والخبر عن الصادق عليه السلام قلت له: «أخبرني - إلى أن قال -: وكيف يقوم وقد قطعت رجله ؟ فقال: إن القطع ليس من حيث رأيت، يقطع إنّما يقطع الرجل من الكعب ويترك له من قدمه ما يقوم عليه ويصلّي ويعبد اللّه»(2) وفي رواية سماعة عن الصادق عليه السلام «إذا اخذ قطع يده من وسط الكفّ ، فإن عاد قطع رجله من وسط القدم»(3) مع انضمام ما عن الشيخ في الخلاف والمبسوط من «أنّ القطع عندنا في الرجل من عند معقد الشراك من عند الناتي على ظهر القدم»(4) ونحوه عزي إلى كلام السيّد وابن حمزة والحلبي(5).

واحتجّ العلّامة لما اختاره بصحيحة الأخوين وفيها «قلنا: أصلحك الله فأين الكعبان ؟ قال: هاهنا يعني المفصل دون عظم الساق، فقالا: هذا ما هو؟ قال: هذا عظم الساق» هذا على ما في التهذيب، وفي الكافي «فقلنا: هذا ما هو؟ فقال: هذا من عظم الساق والكعب أسفل منه»(6) وبأنّ استيعاب ظهر القدم كما يعطيه بعض الروايات كالمرويّ عن الباقر عليه السلام في حكاية وضوء رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وفيه: «ومسح مقدّم رأسه وظهر قدميه»(7) يوجب الانتهاء الّيه وبأنّه أقرب إلى ما حدّده أهل اللغة.

واجيب عن الأوّل تارة: بأنّ المراد من المفصل ما يقرب منه مجازا جمعا بين الأدلّة. واخرى: بأنّ دون في قوله: «دون عظم الساق» عبارة عن الأسفل سواء كان من قول الراوي أو من قول الإمام عليه السلام ويؤكده ما في نسخة الكافي من قوله عليه السلام: «والكعب أسفل منه» بتقريب: أنّ هذا في قوله: «هذا عظم الساق» أو «من عظم الساق» إشارة إمّا إلى المنجّم أو إلى منتهى عظم الساق، فإن كان الأوّل فهو عند المفصل وحكمه عليه السلام بأنّ

ص: 578


1- الوسائل 254:28 الباب 4 من أبواب حدّ السرقة ح 8.
2- الوسائل 257:28 الباب 5 من أبواب حدّ السرقة ح 8.
3- الوسائل 256:28 الباب 5 من أبواب حدّ السرقة ح 4.
4- الخلاف 202:3، المبسوط 489:8.
5- الانتصار: 262، الوسيله: 420، الكافي في الفقه: 411.
6- الوسائل 388:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 3.
7- الوسائل 387:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 2.

الكعب أسفل منه ظاهر في أنّه المعنى المعروف، وإن كان الثاني فالأمر واضح. وثالثة بحمل المفصل على إرادة المفصل الشرعي وهو موضع قطع السارق الّذي هو الكعب، كما صرّح به أيضا في الغوالي على ما حكى حيث إنّه عند ذكر الحديث قال: «وهذا يدلّ على أنّ الكعب هو مفصل القدم الّذي عند وسطه في قبّة القدم»(1).

وربّما اكد ذلك أيضا يكون الراويين من الفقهاء العارفين بأنّ قطع رجل السارق من معقد الشراك، وأنّه المفصل الشرعي عند الشيعة.

وعن [الثاني:] تارة بالنقض بالمقدّم الّذي لا يجب استيعابه إجماعا، واخرى: بأنّ مطلق هذه الرواية يحمل على مقيّد ما تقدّم، بل يجب ذلك على مذهب المستدلّ أيضا بالنسبة إلى استيعاب العرض الّذي لا يقول به أحد.

وعن الثالث: بأن أهل اللغة إن اريد به لغويّة الخاصّة فهم متفقون على أنّه العظم الناتي في وسط القدم، حتّى أنّ العلّامة اللغوي عميد الرؤساء صنّف في الكعب كتابا مفردا، وأكثر فيه من الشواهد على أنّه قبّة القدم، وإن اريد به لغوية العامّة فهم مختلفون فوافق جمع منهم لغويّينا وربّما نسب ذلك إلى جميعهم وعلّل بعدم الخلاف بينهم في تسمية ذلك كعبا، وإنّما الخلاف في تسمية ما عداه به، وعن الصحاح «كونه مذهب الناس عدا الأصمعي»(2) وعن القاموس «الكعب كلّ مفصل للعظام والعظم الناشز فوق القدم والناشزان عن جانبهما»(3).

المسألة الرابعة: يجوز فيه النكس بأن يبدأ من الكعبين إلى رؤوس الأصابع،

كما هو المصرّح به في كلام جمع من الأساطين المعزي إلي معظم الأصحاب من المتقدّمين و المتاخرين بل عن الذكري «هذا هو المشهور بين الأصحاب»(4) ونحوه عن المفاتيح(5) وغيره.

خلافا للدروس قائلا: «لا يجزئ النكس على الأولى»(6) وعزى القطع به إلى السرائر والبيان والألفية(7) وإلى ظاهر المشارق والمرتضى والغنية والذكرى(8) وغيرهم،

ص: 579


1- غوالي اللآلئ 196:2.
2- الصحاح 213:1.
3- القاموس 129:1.
4- الذكري 153:2.
5- مفاتيح الشرائع 45:1.
6- الدروس 92:1.
7- السرائر 99:1، البيان: 10، الالفية: 44.
8- مشارق الشموسة 124، الانتصار: 27، الغنية: 57، الذكرى 155:2.

بل ربّما يستظهر دعوى إجماع الإماميّة عليه من عبارة الانتصار القائلة: «وممّا انفردت به الإمامية القول بأنّ مسح الرجل هو من طرف الأصابع إلى الكعبين» ثمّ قال: «إنّ كلّ من أوجب من الامّة المسح في الرجلين دون غيره يوجبه على هذه الصفة الّتي ذكرناها».

لنا: بعد إطلاق مسح القدمين أو الرجلين على ما ورد في طائفة من الأخيار خصوص صحيحة حمّاد المتقدّمة(1) في مسح الرأس بكلا متنيها، وخبر يونس المتقدّم(2) الحاكي لفعل أبي الحسن عليه السلام والقدح في دلالته بظهوره في الجمع بين الإقبال والإدبار، يدفعه: ما في الكافي من الزيادة بقوله: «ويقول الأمر في مسح الرجلين موسّع من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا، فإنّه من الأمر الموسّع إن شاء». وما قيل: من أنّه يمكن أن يكون المراد مسح القدم ظاهرا أو باطنا، احتمال بعيد لا يلتفت إليه قطعا للقول وليس للقول الآخر إلّا الاحتياط المحصّل ليقين البراءة، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم مسح الرجلين مقبلا فيجب للتأسّي، أو لقوله صلى الله عليه و آله وسلم: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به»(3)وقوله تعالى: «إلى الكعبين» لظهوره في غاية المسح.

وفي الأوّلين ما تقدّم في مسألة جواز النكس في مسح الرأس. وفي الأخير أن ظاهر الآية يخرج عنه بصريح ما تقدّم، فتحمل إمّا على غاية الممسوح كما هو المعروف بينهم، أو على أنّه اعتبر على أنه أحد الفردين المخيّر فيهما، وربّما تأوّل بحمل «إلى» على إرادة معنى «مع»، وهذا عندنا غير مرضيّ حسبما بيّنّاه في بحث غسل اليدين. لكن ينبغي القطع باستحباب البدءة من رؤوس الأصابع إلى الكعبين للتأسّي والخروج عن شبهة مخالفة الواقع كما نصّ عليه جماعة، وربّما قيل بكراهة العكس وهو غير واضح الوجه.

فرع: لو قلنا بعدم جواز النكس هنا وفي مسح الرأس كما أنّه لا يجوز في الغسل، فهل يفسد الوضوء أو المأتيّ به على هذا الوجه خاصّة وجهان ؟ بل قبل قولان، عزي

ص: 580


1- الوسائل 406:1 الباب 20 من أبواب الوضوء ح 1.
2- الوسائل 407:1 الباب 20 من ابواب الوضوء ح 3.
3- الوسائل 438:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 11.

أوّلهما إلى ظاهر جماعة منهم القواعد والذكري(1) والأقوى هو الثاني، ويظهر الفائدة فيما لو تداركه على الوجه المعتبر شرعا مع بقاء الموالاة والمحافظة على الترتيب، فيجزئ على الثاني دون الأوّل.

المسألة الخامسة: يجب كونه على بشرة الرجلين

فلا يجزئ المسح على الحائل من خفّ أو شبهه بالإجماع المستفيض نقله بل المحقّق أيضا، ومع ذلك فالنصوص الواردة به في الخفّ من الصحاح وغيرها بالغة فوق حدّ الاستفاضة، ولولا شيء من ذلك لكفانا الأوامر الواردة كتابا وسنّة بمسح الرجلين أو القدمين، نظرا إلى أنّ امتثالها لا يحصل إلّا بأداء المأمور به، والمسح على الحمائل ولو خفّا ليس مسحا للرجل ولا القدم.

وكأنّه إلى هذا الطريق من الاستدلال يشير قول مولانا أمير المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى أولاده المعصومين: «سبق الكتاب الخفّين»(2) يريد به أنّ الكتاب أمر بالمسح على الرجل لا الخفّ ، فالمسح على الخفّين حادث فلا يكون مجزئا على ما ورد حكاية ذلك عنه عليه السلام في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمعته يقول: جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وفيهم عليّ عليه السلام فقال: ما تقولون في المسح على الخفّين ؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يمسح على الخفّين ؟ فقال عليّ عليه السلام: قبل المائدة أو بعدها؟ فقال: لا أدري، فقال عليّ عليه السلام: سبق الكتاب الخفّين، إنما انزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة»(3).

ومن طريق الاستدلال يعلم أنّه لا يجزئ المسح على الشعر النابت على ظهر القدم حيثما كان مانعا عن مسح البشرة، فإنّه لا يسمّى مسحا على الرجل والقدم، كما نصّ عليه غير واحد ويظهر من كلّ من عبّر بمسح البشرة أيضا. بل عن الحدائق «أنّ ظاهر الأصحاب الاتّفاق عليه»(4) فلا جهة لتأمّله فيه، ومقايسة المقام على مسح الرأس المجزئ فيه مسح الشعر المختصّ بمقدّم الرأس باطلة، لوجود الفارق وهو النصّ الّذي لولاه لم يكن فيه أيضا مجزئا، قال في المقاصد العلية - على ما حكي -: «والفارق بين الرأس والرجل النصّ بإطلاقه على وجوب مسح الرجلين والشعر لا يسمّى رجلا

ص: 581


1- القواعد 203:1، الذكرى 154:2.
2- الوسائل 458:1 الباب 38 من أبواب الوضوء ح 7 و 6.
3- الوسائل 458:1 الباب 38 من أبواب الوضوء ح 7 و 6.
4- الحدائق 312:2.

ولا جزءا منها، مع التصريح ببعض الأخبار بجواز المسح على شعر الرأس، وإنّما لم يصرّح الأصحاب بالمنع منه لندور الشعر الحائل القاطع لخطّ المسح فاكتفوا باستفادته من لفظ البشرة»(1) انتهى.

وربّما استثني عن حكم الحائل شراك النعل فيمن يمسح على النعل، قال العلّامة في التذكرة: «يجوز المسح على النعل العربيّة وإن لم يدخل يده تحت الشراك، وهل يجزئ لو تخلّف ما تحته أو بعضه ؟ إشكال أقربه ذلك، وهل ينسحب إلى ما يشبهها كالسير في الخشب ؟ إشكال. وكذا لو ربط رجله بسير للحاجة، وفي العبث إشكال»(2)انتهى. وهذا كما ترى خلاف ما تقدّم من أدلّة المسح لو كان ما تحت الشراك من موضع الفرض، فلابدّ له من مستند وليس إلّا أخبار عدم استبطان الشراك النافية لوجوب إدخال اليد تحته.

وفيه: إنّها إنما تصلح لذلك على ما اختاره في الكعب من كونه المفصل المقتضي لكون جميع المسافة من رؤوس الأصابع إلى منتهى القدم من موضع الفرض، فيدفعه جميع ما تقدّم في تزييف هذا المذهب، وعليه فتحمل الأخبار المذكورة على ما كان معقد الشراك خارجا عن محلّ الفرض، ولذا قال الشيخ في التهذيب بعد ما ذكر قول أبي جعفر عليه السلام «إنّ عليّا عليه السلام مسح على النعلين ولم يستبطن الشراكين» يعني إذا كانا عربيين فإنهما لا يمنعان من وصول الماء إلى الرجل بقدر ما يجب عليه المسح» قال في الوسائل(3) بعد نقل هذه العبارة: «ذكر الشراكين يدلّ على ذلك».

ويستفاد من بعضهم كون النعل على نوعين فيخصص الله عليه و آله وسلم الأخبار بأحدهما، قال في السرائر - على ما حكى -: «وأمّا النعال فما كان منها حائلا بين الماء والقدم لم يجز المسح عليه، وما لم لمنع من ذلك جاز الشيخ عليه سواء كان منسوبا إلى العرب أو العجم»(4) قيل: وهو صريح المنتهى(5) نعم يظهر الانحصار في غير الممانع من عبارة المعتبر(6) «ويجوز المسح على النعل وإن لم يدخل يده تحت الشراك لأنّها لا تمنع

ص: 582


1- المقاعد العليّة: 96.
2- التذكرة 172:1.
3- الوسائل 418:1 الباب 24 من ابواب الوضوء ح 6.
4- السرائر 104:1.
5- المنتهى 77:2.
6- المعتبر 160:1.

مسح موضع الفرض».

المسألة السادسة: يجوز المسح على الخفّ لتقية من المخالفين،

كما نصّ عليه الأصحاب فيما نعلم، وفي شرح الدروس «لم نجد مخالفا له»(1) بل عن صريح المختلف(2)وغيره الإجماع عليه، واستدلّ عليه بالحرج والضرر المنفيّين كما في المعتبر(3) معلّلا بأنّ في إيجاب نزعه على هذه الحال إضرارا بالمكلّف وحرجا وهما منفيان.

وفيه نظر لعدم وفائهما بأنفسهما بتعيين المسح على الخفّ لاندفاعهما بسقوط اعتبار المسح حينئذ أو بالعدول إلى التيمّم أو بالنزع والعدول إلى الغسل، إلّا أن ينضمّ اليهما الإجماع على نفي جميع ما ذكر أو غيره كخبر أبي الأعلى مولى آل سام قال:

قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: «عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ و جلّ ، قال الله تعالى: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (4) امسح عليه»(5) بناء على عموم أشباهه لنحو المقام أو كون المناط منقّحا.

والأولى الاستناد إلى النصوص ففي رواية أبي الورد قلت لأبي جعفر عليه السلام: «إنّ أبا ظبيان حدّثني أنّه رأى عليّا عليه السلام أراق الماء ثمّ مسح على الخفّين ؟ فقال: كذب أبو ظبيان، أما بلغك قول عليّ عليه السلام: سبق الكتاب الخفين، فقلت: فهل فيهما رخصة ؟

فقال: لا، إلّا من عدوّ تتّقيه، أو ثلج تخاف على رجلك»(6) والقدح فيها سندا بأنّ أبا الورد مجهول فلا يعتدّ بما رواه، يندفع: بانجبارها بعمل المتعرّضين للمسألة، مضافا إلى رواية حمّاد وهو من أصحاب الإجماع، مع ما قيل من أنّ أبا الورد ممدوح.

وربّما عزى إلى المقنع عدم الجواز للتقيّة(7) وعن المفاتيح(8) أنّه مال إليه، ولعلّه للأخبار النافية للتقية عن ثلاث، منها الشيخ على الخفّين، ففي صحيحة زرارة قال:

قلت له: «هل في المسح على الخفّين تقيّة ؟ قال: ثلاث لا أتّقي فيهن أحدا: شرب

ص: 583


1- مشارق الشموس: 125.
2- المختلف 303:1.
3- المعتبر 154:1.
4- الحجّ : 78.
5- الوسائل 464:1 الباب 39 من ابواب الوضوء ح 4.
6- الوسائل 458:1 الباب 38 من ابواب الوضوء ح 5.
7- المقنع: 17.
8- مفاتيح الشرائع 46:1.

المسكر، ومسح الخفّين ومتعة الحجّ ، قال زرارة: ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتّقوا فيهنّ أحدا»(1).

وصحيحته الأخرى المروية عن باب الأطعمة والأشربة من الكافي قلت لأبي جعفر عليه السلام: «هل في المسح على الخفّين تقية ؟ قال: لا تتّق في ثلاث، قلت:

وما هن ؟ قال: شرب المسكر، والمسح على الخفّين، ومتعة الحجّ »(2).

و المرويّ عن هشام في الصحيح عن أبي عمر قال: «قال أبو عبداللّه عليه السلام: يا أبا عمر تسعة أعشار الدين التقيّة، لا دين لمن لا تقية له، والتقية في كلّ شيء إلّا في شرب النبيذ، وامسح على الخفّين ومتعة الحجّ »(3).

والمرويّ عن دعائم الإسلام عن الصادق عليه السلام «التقية ديني ودين آبائي إلّا في ثلاث: شرب المسكر، والمسح على الخفّين، وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم»(4).

والمرويّ عن الخصال عن عليّ عليه السلام في حديث الأربعمائة قال: «ليس في شرب المسكر والمسح على الخفين تقيّة»(5) إلى غير ذلك مما بلغ فوق حدّ الاستفاضة، ولكنها على كثرتها موهونة بإعراض المعظم عنها ومصيرهم إلى خلاف ما يظهر منها مع مخالفتها الاعتبار في كثير من صور المسألة، فلابدّ من تأويلها بالحمل على كونه من الأحكام المختصّة بالإمام عليه السلام لمصلحة فيه، كما هو أحد محتملات كلام زرارة المتقدّم في الصحيحة الأولى، وإن كان لا يقبله بعضها.

أو على أنّ النقيّة في هذه الثلاث ليست على وجه العزيمة كما في سائر الأشياء بل على وجه الرخصة فيجوز العدول عنها.

أو على أنّه لا تقيّة فيها إذا لم تبلغ حدّ الخوف على النفس أو المال وإن لحقه أدنى مشقّة وإنّما يسوغ التقية في هذه عند الخوف الشديد على النفس أو المال أو على نفي

ص: 584


1- الوسائل 457:1 الباب 38 من ابواب الوضوء ح 1.
2- الوسائل 457:1 الباب 22 من ابواب الاشربة المحرّمة ح 1.
3- الوسائل 457:1 الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ح 3.
4- المستدرك 334:1 الباب 33 من أبواب الوضوء ح 763.
5- الوسائل 461:1 الباب 38 من أبواب الوضوء ح 18.

موضوع التقيّة عن هذه كما إليه يرجع ما عن الذكري من «أنّ هذه الثلاث لا يقع الإنكار فيها من العامّة غالبا، لأنّهم لا ينكرون متعة الحجّ ، وأكثرهم يحرم المسكر ومن خلع خفّه وغسل رجليه فلا إنكار عليه، والغسل أولى منه عند انحصار الحال فيهما».

وكما يجوز المسح على الخفّين للتقيّه فكذا يجوز للضرورة، كما نصّ عليه كلّ من جوّزه للتقيّة بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه ومنها ما عن المختلف: «يجوز المسح على الخفّين عند التقيّة والضرورة إجماعا»(1) وربّما يظهر ذلك من عبارتي التذكرة والذكرى(2) ففي الأوّل: «لا يجوز المسح على الخفّين ولا على ساتر إلّا للضرورة أو التقيّة ذهب إليه علماؤنا أجمع» وعن الثاني: «لا يجوز المسح على حائل من خف أو ، غيره إلّا لضرورة أو تقيّة إجماعا منّا» بناء على رجوع الإجماع إلى كلّ من النفي والإثبات، وإن كان لا يخلو عن بعد بل لم نقف على مخالف في المسألة ولا على من تردّد فيها. عدا صاحب المدارك حيث قال - بعد ما نسب الجواز إلى المحقّق وجمع من الأصحاب وناقش في دليلهم بجهالة الراوي -: والمسألة محلّ تردّد(3).

لنا: مما تقدّم من روايتي أبي الورد وعبد الأعلى مولى آل سام.

ومن الضرورة شدّة البرد الّذي يخاف على العضو وخوف اللصّ أو عدوّ آخر ديني أو دنيوي، وخوف فوت الرفقة بنزع الخفّ ونحوه قال الشيخ في النهاية الّذي يفتي فيه بمضامين الروايات: «ولا يجوز للمسح على غير العربي من النعال، فمن فعل ذلك فلا طهارة له إلّا في حال الضرورة، لدنّ من خاف على نفسه في بعض الأحوال من نزع الخفّين من عدوّ أو لصّ أو سبع أو برد شديد فإنّه لا بأس بالمسح عليها ولا يجوز ذلك مع الاختيار» انتهى(4).

لنا: على العموم إمّا الإجماع على عدم الفصل على ما يظهر من تتبّع كلماتهم، أو إطلاق معقد الإجماعات المنقولة المعبّر عنه بالضرورة، أو فهم العلّيّة من وصف «تخاف على رجليك» في رواية أبي الورد فيكون خصوصية الثلج والرجل ملغاة بل بما يجري الأولويّه مع الخوف على النفس أو العرض وفي المال إشكال، أو

ص: 585


1- المختلف 303:1.
2- التذكرة 172:1، الذكري 156:2.
3- المدارك 224:1.
4- النهاية: 14.

عموم قوله عليه السلام: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزّ و جلّ » ولا سيّما استناده عليه السلام للحكم إلى نفي الحرج في الدين، فإنّه تعليل للحكم الخاصّ بعلّة عامّة غير مشتملة على إضافة، كما أنّ قوله: «يعرف» تعليم لطريق استنباط الفروع عن قاعدة عامّة، فكأنّه قال: «كلّ مسح على البشرة إذا تضمّن حرجا بنزع الساتر عنها يعدل عنه إلى مسح الساتر» ومن هنا أمكن تعميم الحكم بالنسبة إلى جميع أفراد الساتر من دون اختصاص له بالخفّ لعموم العلّة.

ومن هنا قال في التذكرة: «الضابط في تسويغ المسح على الخفّين وغيرهما حصول الضرورة، فلا شرط سواه ولا يتقدّر بمدّة غيرها، ولا فرق بين اللبس على طهارة أو حدث، ولا بين أن يكونا خفّين أو جوربين أو جرموقين، اللذان فوق الخفّ ، ولا بين أن يكونا صحيحين أو لا، بل المعتبر إمكان المسح على البشرة فإن أمكن وجب، وإلّا جاز المسح على ذلك كلّه مدّة الضرورة وإن زالت»(1) وفي معناه عبارة المعتبر. ولو احتيط في غير مورد النصّ بالجمع بين المسح والتيمّم كان حسنا. لو كان ما على القدم متعدّدا لم يجب التخفيف بنزع البعض قضية لإطلاق النصّ ومعقد الإجماع، وكونه أقرب إلى المأمور به وجه اعتباري لا يعوّل عليه في استنباط الحكم الشرعي، وفي كون ضيق الوقت من الضرورة المسقطة لاعتبار النزع وجهان، اقربهما ذلك وأحوطهما الجمع بينه وبين التيمّم لو لم يخل بالوقت وإلّا سقط الاحتياط.

فروع(2)، المعتبر في الضرر الّذي يخاف على الخروج عن مقتضي التقيّة هو الضرر الشخصي، وهو ما يحصل لشخص الفاعل ولو في نوع فعله، فلا يكفي حصوله لنوع الشيعة على تقدير خروجهم عن مقتضاها في مشروعيتها لمن لا يتضرّر به أصلا لو كان الضرر المترتّب عليه لمجرّد كون العمل المخالف لطريقة أهل الخلاف مبغوضا لهم مكروها لديهم فيؤذون الفاعل لمجرّد أنّهم يكرهون العمل لا غير، أو لانكشاف كونه من الشيعة فيتضرّر لأجل أنّه من الشيعة، لا لأجل كون أصل العمل المخالف مبغوضا لهم، فمناط مشروعيّة التقيّة خوف تضرّر شخص الفاعل بعمله المخالف ولو كان

ص: 586


1- التذكرة 174:1-175.
2- كذا في الأصل.

معروفا بالرفض أو بانكشاف كونه رافضيا وإن لم يكن أصل العمل مبغوضا لهم، ومن لا خوف له بحسب العادة بارتفاع كلّ من الجهتين في حقّه أو بغيره لا يشرع له التقية لارتفاع موضوعها، من حيث إنّ الماخوذ في مفهومها خوف الضرر فلا يشمله العمومات من نحو «التقيّة ديني ودين آبائي» و «لا دين لمن لا تقيّة له».

لنا على أن العبرة فيها بالضرر الشخصى على أحد الوجهين إطلاق قوله: «إلّا من عدوّ تتّقيه» في خبر أبي الورد المتقدّم، ورواية الحسن بن عليّ الوشّا - في الصحيح على الظاهر - عن داود بن زربي قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الوضوء؟ فقال لي:

توضّأ ثلاثا ثلاثا، قال: ثمّ قال لي: أليس تشهد بغداد وعساكرهم ؟ قلت: بلى، قال:

فكنت يوما أتوضّأ في دار المهديّ فرآني بعضهم وأنا لا أعلم به، فقال: كذب من زعم أنّك فلاني وأنت تتوضّأ هذا الوضوء، قال: فقلت: لهذا واللّه أمرني».

ورواية احمد بن سليمان عن داود الرقّي قال: «دخلت على أبي عبداللّه عليه السلام فقلت له: جعلت فداك كم عدّة الطهارة ؟ فقال: ما أوجبه اللّه فواحدة، وأضاف اليها رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم واحدة لضعف الناس، ومن توضّأ ثلاثا فلا صلاة له، أنا معه في ذا حتّى جاءه داود بن زربي فسأله عن عدّة الطهارة ؟ فقال: ثلاثا ثلاثا من نقص عنه فلا صلاة له، قال: فارتعدت فرائصي وكاد أن يدخلني الشيطان، فأبصر أبو عبداللّه عليه السلام إليّ وقد تغير لوني، فقال: اسكن يا داود هذا هو الكفر، أو ضرب الأعناق، قال: فخرجنا من عنده، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور، وكان قد ألقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربى، وأنّه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمّد عليه السلام، فقال أبو جعفر المنصور: إنّي مطّلع على طهارته فإن هو توضّأ وضوء جعفر بن محمّد - فإنّي لأعرف طهارته - حقّقت عليه القول وقتلته، فاطّلع وداود يتهيّأ للصلاة من حيث لا يراه، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثا ثلاثا كما أمره أبو عبدالله عليه السلام، فما تمّ وضوءه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه، قال: فقال داود: فلمّا أن دخلت عليه رحّب بي، وقال:

يا داود قيل فيك شيء باطل وما أنت كذلك، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة، فاجعلني في حلّ ، وأمر له بمائة ألف درهم، قال: فقال داود الرقي:

التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبداللّه عليه السلام فقال له داود، جعلت فداك حقنت دماءنا

ص: 587

في دار الدنيا، ونرجو أن ندخل بيمنك وبركتك الجنة، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين، فقال أبو عبد الله عليه السلام لداود بن زربي: حدّث داود الرقي بما مرّ عليكم حتّى تسكن روعته، قال: فحدّثته بالأمر كلّه، قال: فقال أبو عبدالله عليه السلام: لهذا أفتيته لأنّه كان أشرف على القتل من يد هذا العدوّ، ثمّ قال: يا داود ابن زربي توضّأ مثنى مثنى ولا تزدنّ عليه وأنّك إن زدت عليه فلا صلاة لك»(1).

ورواية محمّد بن الفضل «أنّ عليّ بن يقطين كتب إلى أبي الحسن موسى عليه السلام يسأله عن الوضوء؟ فكتب إليه أبو الحسن عليه السلام فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء والّذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثا، وتغسل وجهك ثلاثا، وتخلّل شعر لحيتك وتغسل يديك إلى المرفقين ثلاثا، وتمسح رأسك كلّه، وتمسح ظاهر اذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثا ولا تخالف ذلك إلى غيره. فلمّا وصل الكتاب إلى عليّ بن يقطين تعجّب بما رسم له أبو الحسن عليه السلام فيه ممّا جميع العصابة على خلافه، ثمّ قال: مولاي أعلم بما قال وأنا أمتثل أمره، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحدّ ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالا لأمر أبي الحسن عليه السلام وسعي بعليّ بن يقطين إلى الرشيد وقيل إنّه رافضي، فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر، فلمّا نظر إلى وضوئه ناداه: كذب يا عليّ بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة، وصلحت حاله عنده. وورد عليه كتاب أبي الحسن عليه السلام ابتداء من الآن يا عليّ بن يقطين وتوضّأ كما أمرك الله تعالى، واغسل وجهك مرّة فريضة، واخرى إسباغا، واغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح بمقدّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كنّا نخاف منه عليك والسلام»(2).

ورواية عليّ بن سعد البصري قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّي نازل في بني عدي ومؤذّنهم وإمامهم وجميع أهل المسجد عثمانية يبرؤون منكم ومن شيعتكم. وأنا نازل فيهم فما تري في الصلاة خلف الإمام ؟ قال: صلّ خلفه، قال قال: وأحتسب بما تسمع.

ولو قدمت البصرة لقد سألك الفضيل بن يسار وأخبرته بما أفتيتك فتأخذ بقول الفضيل

ص: 588


1- الوسائل 443:1 الباب 32 من ابواب الوضوء ح 2.
2- الوسائل 444:1 الباب 32 من ابواب الوضوء ح 3.

وتدع قولي، قال علي: فقدمت البصرة فأخبرت فضيلا بما قال، فقال: هو أعلم بما قال، لكنّي قد سمعت وسمعت أباه يقولان: لا تعتدّ بالصلاة خلف الناصب، واقرأ لنفسك كأنّك وحدك، قال: فأخذت بقول الفضيل وتركت قول أبي عبدالله عليه السلام»(1).

ورواية إسماعيل الجعفي قال: «قلت لأبي عبدالله عليه السلام: رجل يحبّ أميرالمؤمنين عليه السلام ولا يبرأ من عدوّه، ويقول: هو أحبّ إليّ ممّن خالفه، فقال: هذا مخلّط وهو عدوّ لا تصلّ خلفه ولا كرامة إلا أن تتّقيه»(2) إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد منها كون التقيّة كسائر الأعذار فيعتبر فيها خوف ترتّب الضرر على المخالفة في خصوص الواقعة الّتي يبتلى بها شخص المكلّف كما هو كذلك في سائر الأعذار المدّعى فيها الإجماع على اعتبار الضرر الشخصي.

نعم ظاهر إطلاق خبر أبي الورد كظاهر مساق غيره من الأخبار المذكورة يعطي أنّ الدائرة في باب التقية أوسع من غيرها من الأعذار من جهة أخرى، وهي أنّه لا يعتبر فيها عدم المندوحة والعجز عن التخلّص من الضرر المخوف بضرب من الحيلة كتأخير الفعل أو تغيير المكان أو نحو ذلك كما عليه جماعة من متأخري المتأخرين تبعا للبيان وجامع المقاصد وروض الجنان(3).

وضابطه المخالط لأهل الخلاف مخالطة غالبيّة توقّف عليها شأنه وشغله، وعليها مدار أمور معاشه، أو أحيانية حصلت له من باب الاتفاق في سفر. أو منزل نزل عندهم أو نزلوا عنده. أو مجمع لهم حضره أو له حضروه أو نحو ذلك، كإضافتهم له أو إضافته لهم فالواجب عليه حينئذ موافقتهم فيما يحضره من العبادات والطاعات ومراعاة ما هو من مقتضي أصولهم فيها، وفي آدابها وأجزائها وشرائطها، ولا يجب عليه مراعاة ما هو الحقّ عنده ولو بالتستّر عنهم أو الخروج عن مجمعهم أو مسجدهم أو نحو ذلك.

خلافا لصريح المدارك(4) ومحكيّ المحقق البهبهاني(5) فاعتبر عدم المندوحة كما

ص: 589


1- الوسائل 365:8 الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة ح 7.
2- الوسائل 309:8 الباب 10 من أبواب صلاة الجماعة ح 3.
3- البيان: 10، جامع المقاصد 222:1، روض الجنان 112:1.
4- المدارك 223:1.
5- مصابيح الظلام 331:3.

في سائر الأعذار، استنادا إلى انتفاء الضرر مع المندوحة، وربّما يستظهر ذلك عن كلّ من تمسّك في اعتبار التقيّة بأدلّة الضرر والحرج كالفاضلين(1). ويمكن الاستناد له أيضا بروايات نفي التقية عن ثلاث منها مسح الخفّين بتنزيلها على صورة المندوحة، ورواية أبي الورد المتقدّمة بملاحظة عطف الثلج الّذي يعتبر فيه ذلك بلا كلام، وبرواية البزنطي عن إبراهيم بن هاشم قال: «كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام أسأله عن الصلاة خلف من تولّى أمير المؤمنين عليه السلام وهو يمسح على الخفّين ؟ قال: فكتب: لا تصلّ خلف من يمسح على الخفّين فإن جامعك وإياهم موضع لا تجد بدّا من الصلاّة معهم فأذّن لنفسك وأقم»(2) الخ.

ويندفع الجميع بعدم انحصار دليل مشروعيّة التقيّه فيما ذكر، بل العمدة الأخبار القاضية إطلاقا وسياقا بعدم اعتبار المندوحة، والاحتمال المذكور في الروايات النافية للتقيّة عن الثلاث تعارضه سائر ما تقدّم فيها من الاحتمالات، والعطف لا يقتضي اتّحادهما في الاختصاص بالصورة المذكورة، نعم ليس له الخروج من منزله مع عدم المخالطة إلى فعل العبادة في محاضرهم على وجه التقيّة مع وجود المندوحة وعليه يحمل رواية البزنطي.

ولا يعارضها الأخبار الدالّة على الحثّ العظيم على الصلاة معهم ووعد الصلاة عليها، حتّى ورد(3) أنّ الصلاة معهم كالصلاة مع رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم لأنّها مخصوصة بحكم صريح كثير من هذه الأخبار بما لو صلّى الفريضة في بيته ثمّ خرج إلى الصلاة معهم تطوّعا، نعم لو كان تركه الخروج إلى مجامعهم للصلاة معهم بحيث يظهر لهم تشيعه أو معاندته لهم مع خوف ترتّب الضرر عليه جاز التعرّض للخروج حينئذ إلى فعلها معهم، كما لعلّه الظاهر من رواية إسحاق بن عمّار قال: «قلت لأبي عبدالله عليه السلام: إنّي أدخل المسجد فأجد الإمام قد ركع وقد ركع القوم فلا يمكنني أن اؤذّن واقيم أو اكبّر، فقال لي: وإذا كان ذلك فأدخل معهم في الركعة وأعتدّ بها فإنّها من أفضل ركعاتك، قال

ص: 590


1- المعتبر 154:1، المنتهى 84:2.
2- الوسائل 363:8 الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة ح 2.
3- الوسائل 299:8 الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة ح 1 و 4.

إسحاق: فلمّا سمعت أذان المغرب وأنا على بابي قاعد، قلت للغلام: انظر اقيمت الصلاة، فجائني، فقال: نعم، فقمت مبادرا فدخلت المسجد فوجدت الناس قد ركعوا فركعت مع أوّل صفّ أدركت واعتددت بها ثمّ صلّيت بعد الانصراف أربع ركعات ثمّ انصرفت. فإذا خمسة أو ستّة من جيراني قد قاموا إليّ من المخزوميّين والامويين فأقعدوني، ثمّ قالوا: يا أبا هاشم جزاك الله عن نفسك خيرا فقد والله خلاف ما ظننّا بك وما قيل فيك، فقلت: وأيّ شيء ذاك ؟ فقالوا: تبعناك حين قمت إلى الصلاة ونحن نرى أنّك لا تقتدي بالصلاة معنا فقد وجدناك قد اعتددت بالصلاة معنا وصلّيت بصلاتنا، فرضي اللّه عنك وجزاك الله خيرا، قال: فقلت لهم: سبحان الله ألمثلي يقال هذا؟ قال:

فعلمت أنّ أبا عبدالله عليه السلام لم يأمرني إلّا وهو يخاف عليّ هذا وشبهه»(1).

ويمكن حمل هذه الرواية على صورة المخالطة، فالأقرب حينئذ في نحو الصورة المفروضة اعتبار مراعاة المندوحة، ولو بأداء الفريضة أوّلا في المنزل ثمّ اللحوق بهم للصلاة تطوّعا للمرويّ عن دعائم الإسلام بسنده عن أبي جعفر عليه السلام «لا تصلّوا خلف ناصب ولا كرامة إلّا أن تخافوا على أنفسكم أن تشهروا ويشار إليكم فصلّوا في بيوتكم ثمّ صلّوا معهم واجعلوا صلاتكم معهم تطوّعا»(2) وعليه يحمل رواية عبدالله بن سنان قال:

«سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول: اوصيكم بتقوى اللّه عزّ و جلّ ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلّوا، أنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: وَ قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً (3) ثمّ قال: عودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم واشهدوا لهم وعليهم و صلّوا معهم في مساجدهم...»(4) الخ.

ثمّ إنّ بما بينّاه من عدم اعتبار عدم المندوحة في موضع مشروعيّة التقيّة، يعلم أنّه لا يجب العدول إلى غسل الرجلين في موضع الضرورة إلى مسح الخفّين للتقيّة كما استقربه العلّامة في التّذكرة(5) وأفتى به بعض من تأخّر عنه وجعله الشهيد في عبارة الذكرى المتقدّمة أولى(6).

ص: 591


1- الوسائل 368:8 الباب 34 من أبواب صلاة الجمعة ح 4.
2- دعائم الإسلام 151:1، مستدرك الوسائل 458:6.
3- البقرة: 83.
4- الوسائل 301:8 الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة ح 8.
5- التذكرة 174:1.
6- الذكرى 156:2.

وربّما يعلّل بأنّ الغسل أقرب إلى المفروض بالأصل للإلصاق بالبشرة وكونه مشتملا على الشيخ مع زيادة بخلاف المسح على الخفّين.

وفيه ما لا يخفى من التعويل على مجرّد الاستحسان، مع ما فيه من أنّ المأمور به هو المسح بماء الوضوء، وانّ هذا من الغسل بالماء الجديد. وقد يقال: بأنّ مقتضي الأخبار المتقدّمة النهي عن التقيّة في للمسح على الخفّين فيخصص بها العمومات الدالة على جواز التقيّة مطلقا، ويبقى غسل الرجلين تقيّة مندرجة تحت عمومات التقيّة السالمة عن المعارض.

وقد يبنى المسألة على أنّ مباشرة اليد لبشرة الرجل بالنداوة واجبة بالأصالة أو للمقدّمة، فإن كان الأوّل اتّجه الّوجوب وإلّا فلا، ولعلّه عند الشك يبنى على الوجوب الأصلي. وهذه كلّها كما ترى اجتهادات في مقابلة النصّ وهو إطلاق رواية أبي الورد المتقدّمة، مع ما عرفت من القدح في دلالة الروايات الناهية عن مسح الخفّين، فالعمل على إطلاق هذه الرواية.

ثمّ إنّ الأظهر أنّ التقيّة عن غير المخالفين - كالكفّار وظلمة الشيعة وغيرهم - لا تلحق بها عن المخالفين في عدم اعتبار عدم المندوحة، بل الأظهر لحوقها بسائر الأعذار في اعتبار عدم المندوحة، كما نصّ عليه بعض مشايخنا، ولد مدّ ظلّه كلام يعجبني أن أذكره بعين عبارته، لاشتماله على فروع لطيفة. وهو «أنّ الفعل المأتيّ به تقيّة إن كان ممّا سوّغه في العبادة ضرورة اخرى غير التقيّة كالمسح على الخفّ الّذي سوّغه البرد الشديد، وجب فيه نيّة القربة والجزئيّة للعبادة، فكان مباشرة اليد لبشرة الرجل ساقطة في مسح الرجل، نظير المسح على المرارة المأمور به في رواية عبد الأعلى المتقدّمة فلا يجوز الإخلال به ولا بشيء من شرائط المسح المعتبرة، فلو أخلّ عمدا أو لا عن عمد بطل، لفوات باقي(1) الواجبات غير المباشرة، ولو مسح مع ا لتقيّة على البشرة فحكمه كالمتضرّر بمسح البشرة يبطل. عمدا إذا لم يتداركه، ويصحّ لا مع العمد واحتمل في الروض عدم الفساد في الأوّل، لتوجّه النهي إلى أمر خارج.

ص: 592


1- كذا في المصدر، وفي ظاهر الأصل: ما في.

وفيه أنّ الأمر الخارج متّحد مع المأمور به في الوجود، فلا. ينفع كونه خارجا نظير الغصب. ودفعه بعض بانقلاب تكليفه إلى موافق التقية فلم يأت بالمأمور به وهذا الدفع يؤذن بالبطلان مع عدم العمد أيضا. ويردّه منع انقلاب التكليف بل الامتثال بالمأمور به ممتنع كالمتضرّر بالغسل»(1).

أقول: وللنظر في الردّ مجال، بل الأظهر من ملاحظة نصوص التقية كونها من باب انقلاب التكليف، وأظهرها دلالة عليه خبر ابن عليّ الوشّا المتقدّم المشتمل تاره على قوله عليه السلام: «ومن توضّأ ثلاثا ثلاثا فلا وضوء له» واخرى على قوله عليه السلام: «ثلاثا ثلاثا ومن نقص عليه فلا صلاة له» وثالثة على قوله عليه السلام: «توضّأ مثنى مثنى ولا تزدنّ عليه وأنّك إن زدت عليه فلا صلاة لك» فإنّ النفي المتكرّر في مواضع ثلاث لا محمل له إلّا نفي الصحّة، وإطلاقه في الموضع الثاني يشمل صورتي العمد وغيره.

ثمّ قال: «ولو كان خفّه نجسا ولم يتمكن من لبس طاهر فمسح عليه تقية لم يصحّ فوجب استئنافه، لأنّ التقية لم توجب المسح على النجس، وإنّما انحصرت فيه من حيث عدم الفرد الآخر. وإن كان ممّا لم يسوّغه في العبادة ضرورة أخرى غير التقيّة، فإن كان التقيّة في إتيانه في العبادة جزءا كمسح الزائد على الواجب عندنا، أو مستحبّا كالتأمين في الصلاة والتكفير، جاز إتيانه لا بقصد الجزئيّة. وإن كان مبطلا عندنا، ولو تركه عصيانا لم تبطل العبادة. ولو الجأت التقيه إلى غسل الرّجلين، فإن قلنا بجواز ذلك في الضرورة، كما إذا لم ينفك إيصال الماء إلى بشرة الرجل عن الجريان، فهو غير مخالف للواجب الاختياري. وإن كان على وجه مخرج عن اسم المسح وقلنا بجواز ذلك عند تعذّر المسح كان حكمه حكم المسح على الخفّين. وإن فرض على وجه لا نقول بكفايته عن المسح، لكمال مغايرته معه كغمس الرجل في الماء، فالظاهر أنّ العامّة لا يقولون به، فلو فرض كان ذلك الوضوء كفاقد المسح رأسا، وفي صحّته - لكون الفقد مستندا إلى التقيّة، وعدمها لأنّ قولهم ليس على هذا الغسل بالخصوص وإنّما انحصر فيه بالفرض نظير المسح على الخفّ النجس - وجهان»(2) انتهى. وبعض

ص: 593


1- الطهارة 287:2-288.
2- الطهارة 288:2-289.

ما ذكره أيضا موضع تأمّل كما يظهر وجهه بالتأمّل.

المسألة السابعة: إذا أتى بالوضوء العذري المشتمل على غسل الرجلين لتقية،
اشارة

أو المسح على الخفّين لها أو لضرورة اخرى مسوّغة له، أو على الجباير في موضع جوازها ثمّ زال العذر المسوّغ من التقيّة أو الضرورة، فلا يخلو إمّا أن يكون قد صلّى الصلاة الّتي توضّأ هذا الوضوء لأجلها في زمان العذر، أو لم يأت بها حتّى زال العذر وعلى الأوّل: فيتكلّم فيه تارة: بالنسبة إلى إجزاء الصلاة المأتيّ بها بالوضوء العذري فلا يجب تداركها إعادة وقضاء بالوضوء التامّ ، وعدم إجزائها فيجب التدارك، واخرى:

في إباحة صلاة أخرى مع التمكن من الوضوء التامّ لها بهذا الوضوء إلى أن ينتقض يحدث، وعدمها إلّا بما تمكن منه من الوضوء التامّ كالمتيمّم إذا زال عذره وتمكن من المائيّة بالقياس إلى الصلوات المستقبلة. وعلى الثاني: فيتكلّم تارة في إباحة الدخول في الصلاة المأتيّ لأجلهما هذا الوضوء حال الاختيار من دون تجديد له بالوضوء التامّ ، وعدمها إلّا بالتجديد، واخرى: في إباحة الدخول فيما عداها من الصلوات المستقبلة على تقدير إباحة الدخول فيها إلى أن يحدث وعدمها. فالبحث في مقامات أربع:

المقام الأوّل: في إجزاء الصلاة المأتيّ بها حال العذر بالوضوء العذري،

وهذا هو الحقّ الّذي لا يمكن الاسترابة فيه، لفرض حصول أداء المأمور به الواقعي في الحالة المذكورة المجعول بدلا عن المأمور به الاختياري فلا يشرع له إعادة ولا قضاء، وهذا هو المستفاد من أدلّة الأعذار على ما يعطيه التدبّر في مساقها، ولذا لم نقف على متأمّل في هذا المقام، بل عن شارح الموجز «لا يجب إعادة الصلاة التي فعلها بالطهارة الضروريّة إجماعا»(1) ويدلّ على الإجماع ظاهرا عدم تعرّض أحد للمسألة في هذا المقام، فكأنّهم أرسلوا الإجزاء إرسال المسلّمات.

نعم ربّما يفصّل في التقيّة كما عن المحقّق الثاني في بعض فوائده القائل: «بانه إن كان متعلّق التقيّة مأذونا فيه بالخصوص كمسح الرجلين في الوضوء والتكتّف في الصلاة، فإنّه إذا فعل على الوجه الماذون فيه كان صحيحا مجزئا، وإن كان للمكلّف

ص: 594


1- كشف الالتباس 176:1.

مندوحة من فعله، التفاتا إلى أنّ الشارع أقام ذلك الفعل مقام المأمور به حين التقية، فكان الإتيان به امتثالا يقتضي الإجزاء فلا يجب الإعادة، ولو تمكن منها على غير وجه التقية قبل خروج الوقت ولا أعلم في ذلك خلافا. وأمّا إذا كان متعلّقها لم يرد فيه نصّ على الخصوص كفعل الصلاة إلى غير القبلة، والوضوء بالنبيذ، ومع الإخلال بالموالاة فيجفّ كما يراه بعض العامّة، فإنّ المكلّف يجب عليه إذا اقتضت الضرورة موافقة أهل الخلاف إظهارا للموافقة لهم، ثمّ إن أمكن الإعادة في الوقت بعد الإتيان وجبت، ولو خرج الوقت نظر في دليل القضاء فإن وجد قيل به، لأنّ القضاء إنّما يجب بفرض جديد. ثمّ عنه إنّه نقل عن بعض أصحابنا القول بعدم الإعادة مطلقا، نظرا إلى أنّ المأتيّ به وقع شرعيّا فيكون مجزئا على كلّ تقدير. ورده بأنّ الإذن في التقيّة من جهة الإطلاق لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقه لهم مع الحاجة»(1) انتهى.

ولعلّه قدس سره أراد بالإطلاق الغير المقتضي لأزيد من إظهار الموافقة لهم ما دلّ من الروايات على رجحان إظهار الموافقة لهم دفعا لشبهة التشيّع أو معاندة الشيعة لهم، كما سبق الإشارة إلى جملة منها، ومن هذه الجملة أيضا ما رواه في الفقيه عن زيد الشحّام عن جعفر بن محمّد أنّه قال: «يا زيد خالطوا الناس بأخلاقهم صلّوا في مساجدهم وعودا مرضاهم واشهدوا جنائزهم وإن استطعتم أن تكونوا الأئمّة والمؤذّنين، فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفريّة رحم اللّه جعفرا ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه، وإذا تركتم قالوا: هؤلاء الجعفريّة فعل اللّه بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحاب»(2).

بل ربّما يستفاد من هذه النصوص وجوب التقيّة على هذا الوجه، لكن لا قضاء فيها على صحّة ما يقع التقية فيه من العبادات، ونعم ما قيل من أنّ التكتّف في الصلاة إذا كان مبطلة للصلاة، والأكل مبطلا للصوم، واطلاق ماء الوضوء شرطا فيه، فوجوب هذه الأفعال لنفسه توصّلا إلى مصلحة حفظ النفس أو المال لا ينافي وقوعها باطلة، غاية الأمر أنّ دليل حفظ النفس دلّ على وجوب الإتيان بعبادة باطلة، كما دلّ في الأكل على وجوب الإفطار في شهر رمضان، وأمّا أوامر الصلاة فلم يقع الفعل موافقة لها

ص: 595


1- رسائل المحقّق الكركي (رسالة التقية) 52:2.
2- الوسائل 430:8 الباب 75 من أبواب صلاة الجماعة ح 1.

اختيارا ولا اضطرارا، كما لو اكره على الصلاة بغير طهارة، فهذا المأتيّ به لا مجال للتأمّل في عدم إجزائه عن المأمور به الواقعي، بل يجب الخروج عن عهده الأمر به في الوقت وخارجه، كما لو منعه مانع من أصل الصلاة في جزء من الوقت أو في تمامه لصدق الفوات.

وأمّا لو أراد بالإطلاق المذكور الإطلاقات المرخّصة في فعل العبادات على طبق التقيّة، من نحو قوله عليه السلام: «التقيّة ديني، ودين آبائي، وأنّه لا دين لمن لا تقيّة له»، و «أنّ التقيّة تسعة أعشار الدين»، و «أن التقيّة في كلّ شيء إلّا في المسح على الخفّين وشرب المسكر ومتعة الحجّ » فلا ريب أنها قاضية بالصحّة ويتبعها الإجزاء، وعليه فلا فرق في حصول الاجزاء بوضوء التقيّة بين ورود الدليل عليه بالخصوص أو شموله له بالعموم.

المقام الثاني: في كون أثر هذا الوضوء وهو إباحة الدخول في الصلاة يدور مدار العذر والضرورة

كالتيمّم فيزول بزوالها فلا يباح الدخول بعده في الصلاة إلّا بالوضوء التامّ وعدمه فلا ينتقض إلّا بالحدث ؟ قولان، ذهب إلى أوّلهما المعتبر(1) وقرّبه في التذكرة(2) كما عن موضع من المنتهى(3) وعزي إلى المبسوط والإيضاح وكاشف اللثام وحاشية المدارك(4) وإلى ثانيهما الدروس وشارحه وحاشية الشرائع(5) كما في محكيّ جامع المقاصد أيضا، والمدارك(6) كما عن المختلف والذكرى والبيان والمشكاة والجامع(7) بل في الحدائق ظاهر المشهور بقاءا وجواز الدخول به في الصلاة(8).

والمعروف من مستند القول الأوّل: أنّها طهارة مشروطة بالضرورة فتزول بزوالها وتتقدّر بقدرها. وردّ بأنّه إن أريد بتقدّر الطهارة بقدر الضرورة عدم جواز نحو هذه الطهارة بعد زوال الضرورة فحقّ ولكن غير ما نحن فيه، وإن اريد عدم إباحتها فهو محلّ النزاع.

ص: 596


1- المعتبر 154:1.
2- التذكرة 174:1.
3- المنتهى 84:2.
4- المبسوط 22:1، الإيضاح 40:1، كشف اللثام 549:1، حاشية المدارك 285:1.
5- الدروس 92:1، مشارق الشموس: 126، حاشية الشرائع (حياة المحقّق الكركي و آثاره ج 10):50.
6- جامع المقاصد 222:1، المدارك 224:1.
7- المختلف 303:1، الذكرى 161:2، البيان: 10، نقل عنه مفتاح الكرامة 445:2، الجامع للشرائع: 38.
8- الحدائق 313:2.

واستدلّ أيضا بالآية الآمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة عكن الحدث مطلقا، أو عن النوم خاصّة على ما فسّرت به، وورد على طبقه رواية خرج عنها المتوضئ حال الضرورة وبقى الباقي ومنه المقام.

واستدلّ أيضا بقوله صلى الله عليه و آله وسلم: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به»(1) بالتقريب المذكور.

واستدلّ في حاشية المدارك بالأخيار - الّتي كادت تبلغ التواتر - المحرّمة للمسح على الحائل من خفّ ونحوه، فإنّ مقتضاها عدم صحّة هذه الطهارة وعدم جوازها لصلاة من الصلوات أصلا، خرج منها ما أجازوه للضرورة والاضطرار وبقى الباقي، ولا يظهر ممّا أجازوا أزيد من حال الاضطرار بل ربّما كان الّظاهر منه الاختصاص بحال الاضطرار.

ويزيّف الأوّل: أنّ الآية مخصوصة بحكم الإجماع ونحوه بالمحدثين بالحدث المطلق أو حدث النوم بالخصوص وكون المفروض محدثا غير ثابت، فاندراجه في الآية غير ظاهر.

كما يزيّف الثاني: أنّ الحصر الوارد في الرواية إنّما هو من باب قصر الصفة على الموصوف الّذي هو المجرور بالباء، باعتبار أنّه الواقع عقيب إلّا، فيكون مفهوم هذا الحصر «لا يقبل اللّه الصلاة بشيء من غيره» وقد خرج عن هذا العموم وضوء المضطرّ ويكون مفاد الدليل المخرج له «أنّه ما يقبل الله الصلاة به» والباقي تحت العامّ حينئذ هو الوضوء الناقص إذا تجدّد بعد زوال الاضطرار لا الصلاة المأتيّ بها بعد الاضطرار بالوضوء المأتيّ به حال الاضطرار كما هو مفروض المسألة، إلّا إذا اعتبر الصلاة أو حال الاضطرار موردا للنفي والإثبات، ليكون مفهوم الحصر «لا يقبل اللّه شيئا من الصلاة بغيره» على الأوّل، أو «لا يقبل الله بغيره في شيء من الأحوال إلّا في حال الاضطرار» فيكون المخرج بالدليل حينئذ خصوص الصلاة في حال الاضطرار أو خصوص حال الاضطرار، وهذا كما ترى خلاف ما يساعد عليه ظاهر التركيب

ص: 597


1- الوسائل 438:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 1.

الكلامي على ما هو مقرّر في بابه.

وأمّا الثالث فيزيّفه: أنّ العمومات المانعة عن المسح على الحائل مسوقة لبيان حال الوضوء، من دون تعرّض فيها لحال الصلاة، فلابدّ وأن يعتبر عمومها بالقياس إلى أفراد الحائل أو أحوال المكلّف لا بالقياس إلى أفراد الصلاة، فيكون المخرج عنها بالدليل هو المسح على الحائل من خفّ أو غيره في حال الضرورة والاضطرار لا غيره، وكون صحّة هذا الوضوء حينئذ مقصورة على الصلاة الحاصلة في تلك الحال دون غيره يحتاج إلى دليل آخر غير هذه العمومات، لعدم نعرّض فيها لنفي الصحّة بالقياس إلى ما يحصل من الصلاة بعد زوال الضرورة والاضطرار.

نعم قد يقال: إنّ ظاهر استناد الإمام عليه السلام في حديث الشيخ على المرارة إلى آية نفي الحرج إرادة لزوم الحرج من الأمر بالصلاة مع الوضوء التامّ في هذا الفرض، وإلّا فالوضوء الناقص في ذاته ومن حيث نفسه ليس مأمورا به، فنفي الحرج لا يقيمه مقام الوضوء التامّ إلا من حيث الحكم التكليفي، وهو وجوبه بدلا عن الوضوء التامّ فيتبعه الحكم الوضعي بمعنى التأثير في إباحة ما وجب له، لا مطلقا حتى لا يحتاج باقي الصلوات إلى مقدّمة بزعم حصول الأثر المقصود منها عن مقدّمة ذلك الواجب الّذي اتي به حال الاضطرار.

ودعوى: أن الوضوء عند الزوال مقدّمة للظهرين فليكتف فيه عند الحرج بالناقص لهما وإن كان عند إرادة العصر قادرا على التامّ ، مدفوعة: مع عدم جريانه في غير صورة اشتراك الصلاتين. في وقت الوجوب بأنّ الاكتفاء بالنافض ليس إلّا للحرج اللازم من الأمر بالدخول في العبادة الأولى مع الوضوء التامّ لا مطلقا، ولذا لو علم أنّه حال فعل العصر تمكن من الوضوء التامّ لم يصحّ نيّة إباحة الفعلين، لعدم ثبوت إباحة الأخيرة من أدلّة الحرج فقد نوي إباحة ما لا يباح به، كما لو ضمّ إلى نيّة التيمّم إباحة الصلاة في حال وجدان الماء.

أقول: دعوى الظهور المذكور في غاية الإشكال، خصوصا مع ملاحظة كون إشكال الراوي في نفس الوضوء الّذي امر به لأجل الصلاة حال وجود المرارة على إصبعه، ولذا قال في السؤال: «كيف أصنع بالوضوء؟» وكون الصلاه مع الوضوء التامّ حرجا إنّما

ص: 598

هو باعتبار هذا القيد الجعلي لا باعتبار نفس الصلاة، على معنى أن الحرج إنّما هو في الوضوء التامّ للصلاة فيكون هو بنفسه موردا للآية النافية للحرج، نظرا إلى أنّه أيضا باعتبار ورود الأمر الغيري به من الشارع [يكون] أصالة من الدين، وكون المصلحة الباعثة على هذا الأمر جهة مرتبطة بغيره لا يخرجه عن عموم نفي الحرج ولا يخصص الله عليه و آله وسلم ذلك العامّ بذلك الغير المأمور به لنفسه كما هو واضح.

ومع هذا ربّما يمكن أن يستظهر كون هذا الوضوء مؤثّرا في إباحة مطلق ما وجب له الوضوء من العبادة، لا خصوص ما يقع منها حال الضرورة من بعض نصوص الأعذار، كالوارد منها في قضيّة داود بن زربي، وعليّ بن يقطين حيث إنّ الإمام عليه السلام منعهما بعد زوال العذر عن الوضوء العذري آمرا لهما بالوضوء التامّ الاختياري، لا عن فعل العبادة بالمأتيّ به حال العذر من الوضوء الاضطراري، ولو سلّم أنه إنما لم يمنع عنه لعلمه بانتقاض ذلك الوضوء حين أمره لهما بالوضوء الاختياري.

نقول: ظاهر رواية ابن زربي أنه قد صلّى بوضوئه الاضطراري الّذي شاهده أبو جعفر المنصور، وهو كما ترى صلاة وقعت بالوضوء الاضطراري بعد زوال العذر لفرض زواله بمقتضى. صريح الرواية من حين الفراغ عن هذا الوضوء، فلو أنّه غير مجز في فعل العبادة به بعد زوال العذر لكان اللازم على الإمام عليه السلام أمره بإعادة هذه الصلاة أو قضائها، لا الاقتصار على مجرّد الأمر بالوضوء الاختياري فيما بعد، إلّا أن نفرّق بين العبادة المأتيّ بهذا الوضوء لأجلها وبين غيرها بالصحّة في الأولى دون الثانية، وهو مع بعده منفيّ بما لعلّه يظهر منهم من عدم القول بالفصل، كما ادّعاه القائل في موضع آخر من كلامه. وبالجملة فما عرفته من مستند القول الأوّل بجميع وجوهه بمكان من الضعف.

وأمّا مستند القول الآخر فعلى ما يستفاد من تتبّع كلماتهم لا يخلو عن أمور:

أحدها: الاستصحاب، وأجود تقاريره أنّه إذا خرج المضطرّ عن عموم المنع عمّا عدا الوضوء التامّ ، وثبت أنّ الوضوء الناقص بالنسبة إليه مؤثّر في إباحة الصلاة، فيشك في بقاء هذا الحكم له أو رجوعه إلى المختار من وجوب الوضوء التامّ عليه وعدم إباحة هذا الوضوء الناقص في حقّه، فاللازم الحكم بالبقاء بحكم الاستصحاب،

ص: 599

فالمقام من مقام استصحاب حكم الخاصّ لا التمسك بعموم العامّ .

وثانيها: عدم تحقّق ناقض لهذا الوضوء بحكم الفرض، ويقرّر بأنّ الموجب للوضوء الاضطراري لا يقتضي إلّا ما فعله فيجتزي به، لأنّه لو وجب ثانيا لوجب بموجب جديد والفرض عدمه، وبعبارة اخرى: أنّ الوضوء إذا وجد فلا ينقضه إلّا حدث كما في الموثّقة «إذا توضأت فإيّاك أن تحدث وضوء حتى تستيقن أنّك قد أحدثت»(1).

وثالثها: أن دليل وجوب الوضوء للصلاة إنما هو الآية وهي غير شاملة للمقام لاختصاصها بالمحدثين، وبعبارة أخرى أنّ كلّ وضوء رافع للحدث، فإذا فرض هذا المكلّف مرتفع الحدث ولو بحكم الاستصحاب لم يشمله الآية للاتفاق - كما قيل - على اختصاصها بالمحدثين وهذا غير داخل فيهم.

ويندفع الأوّل: بأنّ هذا الاستصحاب - بعد الإغماض عن قوّة احتمال تبدّل موضوع المستصحب وهو المضطرّ، بناء على كون الضرورة والاضطرار جزءا للموضوع لا علّة للحكم، وعمّا قيل من أنّ المستصحب هنا مردّد بين إباحة الصلاة المأتيّ بها حال الضرورة أو كلّ صلاة، فالأوّل لا ينفع والثاني مشكوك الحدوث - معارض باستصحاب الحالة السابقة على هذا الوضوء المانعة عن الدخول في الصلاة مطلقا وهو الحدث، لمكان الشك في كونه رافعا أو مبيحا محضا، بل منقطع به نظرا إلى أنّ القدر المقطوع بارتفاعه من منع هذه الحالة إنما هو ما دامت الضرورة موجودة، ومع زوالها كان المانع ومنعه موجودين بحكم الاستصحاب.

بل لك أن تقول: إنّ هذا المكلّف بعد إحراز الحدث فيه بالاستصحاب يشمله عموم الآية المختصّة بالمحدثين، فإنّ القدر المخرج من أحوال حدث المكلّف عن العموم إنما هو حال الضرورة.

وبالتأمّل في ذلك أيضا يندفع الثاني، فإنّ الموجب للوضوء لباقي الصلوات إنّما هو الموجب الأوّل لعدم ثبوت ارتفاع أثره بهذا الوضوء، فإذا كان أثره باقيا ولو بحكم الاستصحاب أوجب الوضوء لكلّ مشروط بالطهارة، لعموم ما دلّ على كونه موجبا،

ص: 600


1- التهذيب 102:1/117.

والتمسّك بالموثّقة ليس في محلّه، لاختصاصها بصورة الشك في وقوع الحدث، والمقام من باب الشك في رافعيّة الموجود لأثر الحدث الواقع. غاية ما هنالك توهّم تعارض استصحابين استصحاب الموضوع وهو الحدث، واستصحاب الحكم وهو الإباحة، فيقدّم الأوّل لسببيّة شكه.

كما يندفع الثالث أيضا، لتطرّق المنع إلى كون هذا المكلّف مرتفع الحدث، بل غاية ما هنالك ترتّب الآثار على هذا الوضوء في خصوص حال الاضطرار، فيجوز له الدخول فيما يشترط بالطهارة، ويحصل له كمال ما يتوقّف كماله عليها حتّى نحو الحالة النفسانيّة المقتضية لاستحباب الكون على الطهارة، ولا يلزم من ذلك حصول هذه الآثار حال التمكن من الوضوء التامّ .

ومن ملاحظة هذه الكلمات يعلم أنّ الأقوي في هذا المقام هو القول الأوّل المتضمّن لوجوب استيناف الوضوء. وربّما يستدلّ عليه أيضا بقاعدة لزوم إحراز الطهور المستفادة من قوله عليه السلام: «لا صلاة إلّا بطهور» و «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة»(1) بناء على إرادة رفع الحدث، وعدم ثبوت ارتفاعه في مفروض المسألة. ولا بأس به.

المقام الثالث: في جواز الدخول في الصلاة بهذا الوضوء بعد ارتفاع الضرورة والاضطرار قبل أن يصلّي به حالهما وعدمه،

ومبنى الكلام في ذلك على أنّ الأعذار المسوّغة للوضوء الناقص هل يعتبر وجودها حين الصلاة المأتيّ لأجلها بهذا الوضوء أو يكفي وجودها عند الوضوء؟

ظاهر إطلاق كلّ من لا يوجب الإعادة بزوال العذر وأناط وجوب الوضوء بتجدّد الحدث هو الثاني، كما أنّ ظاهر العلّامة في التذكرة والمحقّق في المعتبر(2) وغيرهما الأوّل، وهو الأقوى في النظر عملا بظاهر الآية الآمرة بالوضوء التامّ على المحدثين المتمكنين منه، والمفروض محدث ولو بحكم الاستصحاب ومتمكن من الوضوء التامّ بحكم الفرض، ولم يظهر من أدلّة الأعذار خروج ما عدا الغير المتمكن منه حال

ص: 601


1- الوسائل 372:1 الباب 4 من أبواب الوضوء ح 1.
2- التذكرة 174:1، المعتبر 154:1.

الوضوء والصلاة معا عن الآية. والمنع عن عمومها استنادا إلى أنّ «إذا» للإهمال، يدفعه ورودها بحكم ظاهر سياقها مورد إعطاء القاعدة الكلّيّة، مع ما قيل من أنّ المقصود من هذه الخطابات بحكم فهم العرف هو بيان علّة الحكم أو معرّفه كما في قوله: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء»(1).

نعم قد يتوهّم منافاة ذلك لقاعدة توسعة الوقت المقتضية لتخيير المكلّف في كلّ جزء من الوقت بين الفعل فيه على الوجه الموظّف فيه بحسب حاله من القدرة على الشرائط والعجز عنها وبين التأخير عنه، وحينئذ فلو عجز المكلّف عن الوضوء التامّ في الجزء الأوّل من الوقت وهو يريد للصلاة فأتى بالوضوء الناقص في ذلك ثمّ تيسّر له التامّ من حين الفراغ عنه كفاه هذا الوضوء المأتيّ لصلاته في الجزء المتأخّر من الوقت المتّصل بزمان الوضوء، لأنّه لولاه للزم إلزامه على تأخير الصلاة عن الجزء من الوقت الّذي أراد إيقاعها فيه، وهو خلاف الفرض بحكم القاعدة.

ومن هنا لو أنّه علم من أوّل الأمر طروّ القدرة على الوضوء التامّ بعد الفراغ عن وضوئه الناقص أو قبل الدخول في الصلاة صحّ ذلك الوضوء في حقّه، لأنّ إلزام التأخير عنه إلزام لتأخير الصلاة عن ذلك الوقت [و] هو ينافي التخيير المفروض.

لكن يدفعه: أنّ هذا التخيير قد قيده أدلّة إحراز الطهور للصلاة وغيره من شرائطها المقرّرة في الشريعة، أو إحراز ما ثبت شرعا كونه بدلا عنها، والمفروض فيما نحن فيه أنّ الطهور غير محرز، وبدليّة الوضوء الناقص عنه بقول مطلق غير ثابتة من أدلّة الأعذار، فإلزام التأخير عن الوقت المذكور إحرازا للطهور لا ينافي قاعدة التخيير، نظرا إلى أنّه تخيير له في الصلاة بشرائطها المقرّرة لا في ذات الصلاة، ولذا لا ينافيهما إلزام المتيمّم على المائية إذا قدر عليها بمجرّد الفراغ عن تيمّمه.

نعم إنما يحصل المنافاة لو الزم تأخيرها عن وقت لا يتمكن من الوضوء التامّ بعد وضوئه الناقص إلى وقت آخر يعلم أو يرجى تمكنه منه، وحينئذ فلا فرق في عدم الاكتفاء بهذا الوضوء بين ما لو علم من أوّل الأمر روال عذره من حين الفراغ أو قبل

ص: 602


1- الوسائل 158:1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1.

الدخول في الصلاة أو جهله فانكشف الزوال بعده، بل على الأوّل لا يسوّغ له هذا الوضوء لأجل التشريع المحرم، وعلى الثاني ينكشف عدم انتقال الأمر عن الوضوء التامّ إلى الناقص، بل لو فعله باعتقاد استمرار العذر في تمام الوقت ثمّ طرأ القدرة قبل أن يصلّي به كشف ذلك عن عدم الأمر به ابتداء، وعليه فليس له الاكتفاء بهذا الوضوء المأتيّ به في أوّل الوقت لو أخّر الصلاة معه إلى آخر الوقت فطرأته القدرة على التامّ في وقت يسعه مع الصلاة، سواء كان على جهل بطروّها حين الإتيان بالوضوء أو على علم به.

وأمّا ما يقال: من أنّه لو قلنا باستحباب الوضوء الناقص لأجل الكون على الطهارة يلزمه الصحّة، إذ بمجرّد الفراغ يترتّب عليه الكون على الطهارة، ومقتضاه جواز الدخول في كلّ مشروط بالطهارة زال العذر بعد الوضوء المذكور أو لا.

ففيه: بعد تسليم وفاء أدلّة الأعذار ببدلية الوضوء الناقص عن التامّ لغاية الكون على الطهارة أو غيرها من الغايات المستحبّة، أنّ أقصي ما يسلّم ثبوته إنّما هو ترتّب الآثار المقصودة من الكون على الطهارة ولو كانت نحو الزيادة في العمر أو تناثر الذنوب أو كونه في حكم الشهيد لو اتّفق موته مع هذا الوضوء، لا ترتّب صفة الطهارة . المضادّة لصفة الحدث، وهكذا تقول في سائر غايات الوضوء المستحبّة.

نعم يبقى الكلام - فيما نبّهنا عليه سابقا - من ظهور حديث داود بن زربي في صحّة العمل بعد زوال العذر ولو ما حصل الوضوء لأجله، لكنّ الأمر فيه سهل لعدم كون ذلك ظهورا تامّا تطمئنّ إليه النفس.

وبما عرفت من تحقيق الحال في هذا المقام، يعلم حقيقة الحال في المقام الرابع أيضا، فملخّص المسألة في جميع المقامات الثلاث على ما يساعد عليه القاعدة، أنّ الوضوء الناقص بعد التمكن من التامّ ممّا لا يجوز الاعتداد به على حال، بل يجب لكل مشروط بالطهارة الإتيان بالوضوء التامّ وقع منه حدث أو لم يقع. كما يعلم من باب التفريع على المسألة أنّه إذا زالت الضرورة قبل إكمال الوضوء أو بعده قبل الجفاف والدخول في الصلاه يجب نزع الحائل مثلا والمسح بالبلّة قبل الدخول كما نصّ عليه

ص: 603

غير واحد، وعن صاحب الحدائق(1) وشيخه أنّهما قوّاه، وهو ظاهر محكيّ المنتهى «لو زالت الضرورة أو نزع الخفّ استأنف، لأنّها طهارة مشروطة بالضرورة فتزول مع زوالها، ولا تتمّ طهارته بالمسح مع نزعه لأنّ الموالاة لم تحصل»(2) وعزي إلى ظاهر المعتبر والمبسوط(3) كما عن كشف اللثام(4) قال في مفتاح الكرامة: «ويأتي العدم على عدم الإعادة»(5).

المسألة الثامنة: يجب كون مسح الرأس والقدمين بنداوة الوضوء الباقية على اليد أو غيرها،

فلا يجوز بل لا يجزئ استيناف ماء جديد بالإجماع المستفيض نقله، وعن السيد في الانتصار «أنّه ممّا انفردت به الإماميّة»(6) ولعلّه لعدم الاعتداد بخلاف ابن الجنيد القائل بأنّه «إذا كان بيد المتطهر نداوة يستبقيها من غسل يديه مسح بيمينه رأسه ورجله اليمنى، وبيده اليسرى رجله اليسرى، ولو لم يستبق ذلك أخذ ماء جديدا لرأسه ورجليه»(7) ولذا قال صاحب المدارك: «هذا ما استقرّ عليه مذهب الأصحاب بعد ابن الجنيد»(8) وفي معناه ما عن الذكرى والروض وجامع المقاصد(9) أو لعدم كون عبارته نصّا في المخالفة كما في كلام غير واحد لاحتمال أخذ الماء الجديد إرادة أخذ ما على نحو اللحية والأشفار من بقيّة ماء الوضوء، أو احتمال عدم الإستبقاء لإرادة عدم إمكانه، كما ربّما يشهد له ما عن شارح الموجز عنه في موضع آخر أنّه «لو تعذّر بقاء البلل للمسح جاز الاستيناف لضرورة ونفي الحرج»(10) وعليه فلابدّ وأن يكون ذكر اليد تمثيلا، وربّما احتمل كلامه هذا كونه رجوعا، وربّما خصّ خلافه بجفاف جميع الأعضاء، فيكون لفظ «اليد» أيضا على سبيل التمثيل، وعليه يكون موافقا للمشهور.

وكيف كان، لدليل المسألة النصوص المتكاثرة البالغة فوق حدّ الاستفاضة إن

ص: 604


1- الحدائق 314:2.
2- المنتهى 84:2.
3- المعتبر 154:1، المبسوط 22:1.
4- كشف اللثام 55:1.
5- مفتاح الكرامة 447:2.
6- الانتصار: 104.
7- نقل عنه في المختلف 296:1.
8- المدارك 210:1.
9- الذكرى 152:2، روض الجنان 113:1، جامع المقاصد 221:1.
10- كشف الالتباس: 158.

لم نقل ببلوغها حدّ التواتر معنى، ككثير من الأخبار البيانيّة الحاكية لوضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ولا سيّما ما اشتمل منها على قوله: «ثمّ مسح رأسه وقدميه يبلّ كفّيه لم يحدث لهما ماء جديدا»(1) كما في صحيحة، وعلى قوله: «ثمّ مسح ببلّة ما بقى في يديه رأسه ورجليه، ولم يعدهما في الإناء»(2) كما في اخرى، وعلى قوله: «ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه لم يجدّد ماء»(3) كما في ثالثة، نظرا إلي أنّ التعرّض لنفي الاستئناف يكشف عن فهم الاعتبار.

والخبر المتقدّم في قضيّة عليّ بن يقطين المذيل بقوله عليه السلام: «وامسح بمقدّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك»(4) والمرسل عن الصادق عليه السلام «إن نسيت مسح رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلّة وضوئك، فإن لم يكن بقى في يدك من نداوة وضوئك شيء فخذ ما بقي منه في لحيتك وامسح به رأسك ورجليك، وإن لم يكن لك لحية فخذ من حاجبيك وأشفار عينيك وامسح به رأسك ورجليك، وإن لم يبق من بلّة وضوئك شيء أعدت الوضوء»(5) فإنّ الأمر بالإعادة بعد عدم البلّة أصلا صريح في عدم إجزاء غيرها، وهي معناها رواية مالك بن أعين(6) وغيرها ممّا اشتمل على صورة النسيان. والمناقشة فيها باحتمال كون الأمر بالإعادة لفوات الموالاة بالجفاف، مدفوعة بأنّ عدم بقاء بلل قابل للأخذ لا يستلزم الجفاف المفوّت للموالاة.

واستدلّ عليه في المعتبر(7) بعد الروايات بأنّ الأمر بالمسح مطلق، والأمر المطلق للفور، والإتيان به ممكن من غير استئناف ماء جديد، فيجب الاقتصار عليه تحصيلا للامتثال، ولا يلزم مثله في غسل اليدين لأنّ الغسل يستلزم استئناف الماء وفيه من الضعف ما لا يخفى، لتوجّه المنع إلى كلّ من كبراه وصغراه، أمّا الأوّل فلما قرّر في الاصول، وأمّا الثاني فلما في المدارك(8) من أنّ تخلّل مقدار استئناف. الماء

ص: 605


1- الوسائل 388:1 الباب 15 من أبواب الوضوح 3.
2- الوسائل 390:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 6.
3- الوسائل 392:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 11.
4- الوسائل 444:1 الباب 32 من أبواب الوضوء ح 3.
5- الوسائل 409:1 الباب 21 من أبواب الوضوء ح 8 و 7.
6- الوسائل 409:1 الباب 21 من أبواب الوضوء ح 8 و 7.
7- المعتبر 147:1.
8- المدارك 211:1.

للمسح لا ينافي الفوريّة، وعن جماعة من العامّة على ما في التذكرة وغيرها أنّه «لا يجوز إلّا بماء جديد، استنادا إلى ما رووه عن عليّ عليه السلام وإلى أنّه مستعمل»(1).

ومنه يعلم وجه خروج جلة من روايات أصحابنا مخرج التقيّة، كرواية المثنّى «ثمّ وضع يده في الإناء فمسح رأسه ورجليه»(2) ورواية أبي بصير قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام قلت: امسح بما في يدي من الندى رأسي ؟ قال: لا بل تضع يدك في الماء ثمّ تمسح»(3)و رواية معمّر بن خلّاد عن أبي الحسن عليه السلام قال: «أيجزئ الرجل أن يمسح قدمه بفضل رأسه ؟ فقال: رأسه لا، فقلت: أبماء جديد؟ قال برأسه نعم»(4) وربّما يستدلّ بهذه الروايات على مذهب ابن الجنيد كما عن المختلف(5) وليس بسديد لعدم انطباقها على ظاهر كلامه المتقدّم لقضائها بتعيّن تجديد الماء وإن بقى ما في اليد من البلل.

نعم ربّما يحتمل الاستدلال له بخبر منصور عن أبي عبدالله عليه السلام «فيمن نسى مسح رأسه حتّى قام في الصلاة ؟ قال: ينصرف ويمسح رأسه ورجله»(6) بناء على شمول حكم صورة النسيان لحالة التذكر، لكن وجب تقييده بصريح ما تقدّم، ونحوه الكلام في خبر أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام «في رجل نسي أن يمسح على رأسه فذكر وهو في الصلاة، فقال: إن كان استيقن ذلك انصرف فمسح على رأسه وعلى رجليه، واستقبل الصلاة، وإن شك فلم يدر مسح أو لم يمسح، فليتناول من لحيته إن كانت مبتلّة وليمسح على رأسه، وإن كان أمامه ماء فليتناول منه فليمسح به رأسه»(7) ثمّ إن استأنف الماء للمسح بطل المسح خاصّة، فيعيده بما بقى من بلل الوضوء إن أمكن بعد أن يجفّف ما على المحلّ الممسوح من الماء الجديد - ان قلنا باشتراط الجفاف فيه. وسيأتي الكلام فيه - كما في حاشية الشرائع ومحكيّ جامع المقاصد(8) وهو ظاهر محكيّ المقاصد العليّة(9) لحصول الامتثال بصدق المسح بالبلّة بعد إعادة المسح خاصّة، نعم إن

ص: 606


1- التذكرة 166:1.
2- بحارالأنوار 271:77، السرائر 553:3.
3- الوسائل 408:1 الباب 21 من أبواب الوضوء ح 4.
4- الوسائل 409:1 الباب 21 من ابواب الوضوء ح 5.
5- المختلف 296:1.
6- الوسائل 451:1 الباب 35 من أبواب الوضوء ح 3.
7- الوسائل 471:1 الباب 42 من أبواب الوضوء ح 8.
8- حاشية الشرائع: 37، جامع المقاصد 222:1.
9- المقاصد العليّة: 98.

تعذّر إعادته يعيد الوضوء، لكن في التذكرة «فلو استأنف ماء جديدا ومسح به بطل وضوؤه»(1) و في القواعد كما النهاية «فإن استأنف بطل عند علمائنا كافّة»(2) بناء على عود الضمير إلى الوضوء. لكن يمكن عوده إلى المسح، وعلى الأوّل كما هو صريح التذكرة يحمل بطلان الوضوء على ما لو اكتفى بهذا المسح وتعذّر المسح بالبة كما في محكيّ جامع المقاصد بعد عبارة القواعد من قوله: «أي إن اكتفى بهذا المسح وتعذّر المسح بالبلّة، وإلّا أعاد المسح بها وصحّ وضوؤه وذلك بأن يجفّف ما على محلّ الاستئناف ويأخذ من نداوة الوضوء»(3) انتهى.

ثمّ إنّ من طريق المبحث علمت أنّه لا يبطل الوضوء بجفاف اليد ما دامت البلّة باقية في غيرها من اللحية أو أشفار العين وغيرها من مواضع الوضوء، ولا يجوز استئناف ماء جديد بل يجب أخذ البلّة من اللحية وغيرها بلا خلاف يظهر، ولا بنقل ممّن عدا ابن الجنيد من اصحابنا، وما في بعض عباراتهم كما عن سلّار في المراسم - من الاقتصار في ذكر واجبات الوضوء على المسح بالبلّة الباقية في اليد(4) لا يشعر بالمخالفة، لوروده في مقابلة العامة تعريضا عليهم كما ترشد إليه العبارة المحكيّة عن الانتصار «وممّا انفردت به الإماميّه القول بأنّ مسح الرأس يجب ببلّة اليد فإن استأنف ماء جديدا لم يجز، حتى أنّهم يقولون: إذا لم يبق في اليد بلّة أعاد الوضوء»(5) بقرينة الإسناد إلى الإمامية مع ما فرّع عليه، وقوله: «حتّى أنّهم. بقولون» مبالغة في نفي الماء الجديد.

وذكر اليد إمّا مثال، أو يراد ببلّتها الغير الباقية ما يعمّ ما كان عليه ابتداء وما يصلح أن يحصل فيها ثانيا بالأخذ عن موضع آخر وإلّا لم يحسن التفريع المتقدّم جدّا، فإنّ الحكم الّذي فرّع عليه الفرع المذكور المسوق لأجله كلام إمّا نفي الماء الجديد خاصّة أو الأخذ من بلّة اللحية وغيرها على تقدير جفاف اليد، أو نفيهما معا، وتفريع عدم إجزاء استئناف الماء الجديد دون غيره لا يستقيم إلّا على الأوّل، وقضيّة ذلك عدم تعرّض هذه العبارة ونحوها لمسألة الأخذ من البلّة إثباتا ونفيا.

ص: 607


1- التذكرة 165:1.
2- القواعد 203:1، نهاية الإحكام 43:1.
3- جامع المقاصد 223:1.
4- المراسم: 37.
5- الانتصار: 104.

وكيف كان فحجّة وجوب الأخذ النصوص المستفيضة الّتي تقدّم بعضها كالمرسل(1) المتقدّم، ومنها رواية خلف بن حمّاد عمّن أخبره عن أبي عبداللّه عليه السلام قال:

«قلت له: الرجل ينسى مسح رأسه وهو في الصلاة، قال: إن كان في لحيته بلل فليمسح به، قلت: فإن لم يكن له لحية قال: يسمح من حاجبيه أو من أشفار عينيه»(2). ورواية مالك بن أعين عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «من نسي مسح رأسه ثمّ ذكر أنّه لم يمسح رأسه وإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه، وإن لم يكن في لحيته بل فلينصرف وليعد الوضوء»(3) ورواية زرارة عن أبي عبداللّه عليه السلام «في الرجل ينسى مسح رأسه حتى يدخل في الصلاة، قال: إن كان في لحيته بلل بقدر ما يمسح الرأس ورجليه فليفعل ذلك وليصلّ »(4). ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام «في رجل. نسى مسح رأسه، قال: فليمسح، قال: لم يذكره حتّى دخل في الصلاة، قال: فليمسح رأسه من بلل لحيته»(5) ورواية الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إذا ذكرت وأنت في صلاتك أنّك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض عليك فانصرف فأتمّ الذي نسيته من وضوئك وأعد صلاتك، ويكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك فتمسح به مقدّم رأسك»(6).

والقدح فيها سندا بالضعف أو الإرسال، ودلالة بتجويز كون الأمر بالمسح من بلل اللحية لأنّه أحد الفردين المخيّر فيهما مع عدم تيسّر الفرد الآخر حال الصلاة على ما هو الغالب فيها من عدم تيسّر الماء الجديد، يندفع بالعمل والكثرة المورثة لاطمئنان الصدور، وإطلاق الأمر بالإعادة على تقدير انتفاء البلّة بالمزة ممّا يعيّن المسح ببلل اللحية، مع أنّ الروايات بين صريحة وظاهرة في بطلان الصلاة رأسا ووجوب استئنافها فسقط اعتبار عدم تيسّر الفرد الآخر حالها. واحتمال كون الأمر بالإعادة لفوات الموالاة بالجفاف قد عرفت ما فيه من أنّ انتفاء البلّة القابلة للأخذ والمسح أعمّ من الجفاف

ص: 608


1- تقدم في الصفحة 605، الرقم 5.
2- الوسائل 407:1 الباب 21 من ابواب الوضوء ح 1.
3- الوسائل 409:1 الباب 21 من أبواب الوضوء ح 7.
4- الوسائل 408:1 الباب 21 من ابواب الوضوء ح 3 و 2.
5- الوسائل 410:1 الباب 21 من أبواب الوضوء ج 9.
6- الوسائل 408:1 الباب 21 من ابواب الوضوء ح 3 و 2.

المفوّت للموالاة.

ثمّ إنّ صريح جماعة كالمسالك والمدارك والمشارق(1) وغيرهم كظاهر الآخرين عدم اختصاص أخذ البلّة بالمواضع المذكورة في روايات الباب وكلمات الاصحاب من اللحية والحاجبين وأشفار العينين، بل يجوز الأخذ منها ومن غيرها من غير ترتيب بينها أيضا بتقديم اللحية على غيرها، كما هو مقتضي إطلاق خبر عليّ بن يقطين وغيره وصدر المرسلة المتقدّمة، وهو أيضا ظاهر ما في ذيلها من قوله: «فإن لم يكن بقي من بلّة وضوئك شيء فأعد الوضوء» بالنظر إلى المفهوم، وعليه فتخصيص اللحية والحاجبين وأشفار العينين إنّما هو لمراعاة كون الشعر أحفظ للماء من غيره كما فهموه، وهذا هو السرّ في تقديم اللحية على أخويها فإنّها أحفظ للماء منهما كما لا يخفى، ولذا علّق الأخذ منهما على عدم اللحيّة لا على عدم وجود البلّة فيها.

ولا فرق في الأخذ من اللحية بين ظاهرها وباطنها، وفيما تحتها ممّا على البشرة المستورة إشكال، لكن الوجه فيه التفصيل بين ما وجب تخليله وما لم يجب على القول به في الخفيف، إلّا أن يقال: بصدق قضيّة المفهوم في قوله عليه السلام: «إن لم يبق من بلّة وضوئك شيء» بناء على كون المراد ببلّة الوضوء البلّة الحاصلة من الوضوء وإن لم تكن في موضع الفرض.

ويدفعه: ظهور الإضافة في البلّه الموجودة في محلّ الفرض، ولذا لا يصحّ الأخذ ممّا سقط من الغسل الواجب إلى ثوبه أو موضع آخر من بدنه الخارج عن أعضاء الوضوء، ومنه ما يجري من الوجه إلى الخارج عن حدّه كالعنق والصدر ونحوهما.

وأولى منه بعدم الصحّة ما يسبق عند صبّ الماء على الوجه لغسله إلى ما خرج عن حدّه كالنزعتين والصدع وغيرهما، بل ما تبلّل منها بماء الغسل عند الغسل كما يغلب وقوعه، مع أنّه لو سلّم عدم الظهور فيما ذكرنا فلا أقل من عدم ظهور ما عداه، فوجب الاقتصار في مورد النصّ والفتوى على القدر المقطوع به، وهو الأخذ من بلّة

ص: 609


1- المسالك 38:1، المدارك 213:1، مشارق الشموس: 115.

ما ثبت بالدليل كونه من مواضع الغسل أصالة.

ومن هذا علم عدم جواز الأخذ ممّا يجب غسله مقدّمة كجزء من الرأس أو ما فوق المرفق، أو احتياطا كبعض المواضع المشتبهة بكونها من محلّ الفرض وعدمه. وتوهّم كون الاعتبار بالماء المستعمل لأجل الوضوء ولو من باب المقدّمة الوجوديّة أو العلميّة، لعلّه رجم بالغيب، لعدم وفاء النصّ والفتوى به.

نعم ينبغي المصير إلى جواز الأخذ في اللحية المسترسلة من القدر الزائد الخارج عن محاذاة الذقن، بل القدر المسترسل منها في طول أو عرض وفاقا للمحقّق الخوانساري ومحكيّ الذكرى(1) وجمع من متأخري المتأخّرين لإطلاق اللحية في النصوص والفتاوى، قال في شرح المفاتيح - على ما حكي -: «لا يخفى أنّ ظاهر الأخبار الأخذ من اللحية من غير تقييد بعدم الاسترسال والخروج عن محاذاة الذقن، ولعلّه لكونه ماء الوضوء وإن كان في الخارج، ومن هذا لم يرد الأمر بتجفيف موضع المسح في الرأس أصلا، مع كون الغالب تبلّله بماء غسل الوجه بلّة كثيرة» ثمّ قال:

«ولعلّ الأحوط عدم الأخذ من الخارج، وتجفيف موضع المسح في الرأس، لكن ليس احتياطا لازما»(2) انتهى.

لكن يبقى في المقام شيء لا يخلو عن إشكال وهو أنّ الأخذ من اللحية ونحوها هل يشترط بجفاف اليد - كما عن كاشف اللثام(3) وبعده جماعة من متأخّري المتأخّرين منهم شارح المفاتيح فيه وفي حاشية المدارك(4) وربّما يستظهر من كلام أكثر الأصحاب لما فيه من التعليق على جفاف اليد - أو لا؟ بل يجوز اختيارا ولو مع وجود البلّة في اليد، كما في المدارك(5) تبعا للمقاصد العليّة والروض(6) وتبعهما غير واحد ممّن تأخر عنهما.

وفي المدارك تبعا لما في المسالك أنّ التعليق على الجفاف في عبارات الأصحاب خرج مخرج الغالب(7) ونحوه عن الروض مع احتجاجه على الجواز مطلقا باشتراك

ص: 610


1- مشارق الشموس: 115، الذكرى 152:2.
2- مصابيح الظلام 326:3.
3- كشف اللثام 551:1.
4- مصابيح الظلام 325:3، حاشية المدارك 269:1.
5- المدارك 213:1.
6- المقاصد العليّة: 98، روض الجنان 113:1.
7- المسالك 38:1.

الجميع في كونه بلل الوضوء فلا يصدق عليه الاستئناف(1) وبإطلاق قول الصادق عليه السلام في حسنة مالّك المتقدّمة «من نسى مسح رأسه، ثمّ ذكر أنّه لم يمسح رأسه فإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه...»(2) الخ حيث جوّز الأخذ من اللحية من غير تقييد له بالجفاف.

وربّما يظهر الجواز مطلقا عن محكيّ العلّامة في المنتهى فإنّه بعد ما عبّر كتعبير الأصحاب قال: «وإن لم يكن في يده أخذ من لحيته» ثمّ استدلّ عليه بالأخبار المتقدّمة و «بأنّه ماء الوضوء فأشبه ما لو كان على اليد، إذ الاعتبار بالبقيّة لا بمحلّها»(3) فإن إناطة الجواز بالبقيّه مع نفي مدخليّة المحلّ ظاهر كالصريح في نفي الاشتراط، وعليه فيخرج عبارته الموهمة للاشتراط عن ظهورها. وربّما يتطرّق الوهن بذلك إلى عبارات الآخرين، مع أنّ التعليق الواقع في هذه العبارات غير دالّ عليه بنفسه لا صراحة ولا ظهورا، إذ ليس فيه إلّا المفهوم، ونفي الوجوب غير ملازم للمنع، وإن كان لا يلازم التجويز أيضا.

نعم تعبيرهم بما يوجب التفكيك بين اليد واللحية مع أخذ جفاف اليد في العدول إلى اللحية ربّما يقضي باعتبار الترتيب الملازم للاشتراط، إذ لولاه لكان المناسب التعبير على وجه عامّ مفيد لنفي الاشتراط، كعبارة «بلّة الوضوء» أو «بلّة موضع الفرض» أو نحو ذلك، كما صنعه جماعة من قدماء أصحابنا على ما حكي من عباراتهم المطلقة.

لكن يمكن الذبّ عنه بجواز كونهم إنما عبّروا بنحو ذلك لمصيرهم فيما صاروا إليه من إيجاب المسح بالبلّة، ومنعهم عن الماء الجديد مطلقا مع جفاف اليد ولا معه، قبالا لمن خالفهم في إيجاب الماء الجديد ابتداء كالعامّة، وإيجابه بشرط جفاف اليد كابن الجنيد، فنبّهوا بعنوانهم الأوّل على ردّ العامّة، وبعنوانهم الثماني المشتمل على التعليق على رد ابن الجنيد، فلا يبقى في كلامهم حينئذ دلالة على الاشتراط أصلا.

وهذا التوجيه أجود ممّا عرفته عن المدارك تبعا لجدّه، لأنّ الحمل على المغالب إنّما يجدي إذا كان في عبائرهم إطلاق يرجع إليه في استظهار كون بنائهم على الاكتفاء ببلّة

ص: 611


1- روض الجنان 113:1.
2- تقدّم في الصفحة: 608، الرقم 3.
3- المنتهى 55:2.

أيّ موضع مطلقا، ولعلّه محلّ منع لتطرّق شبهة الخروج مخرج الغالب في إطلاقاتهم أيضا، التفاتا إلى وجود البلّة في اليد في غالب أحوال المتوضيّ .

فالإنصاف أنّه لا يمكن التعويل على تقييداتهم في الإذعان بمصيرهم إلى الاشتراط، ولا على إطلاقاتهم في الإذعان بمصيرهم إلى عدم الاشتراط، والعمدة الرجوع إلى أدلّة المسألة ونصوص الباب.

فنقول: إنّه ليس فيها ما يمكن أن يستدلّ به على الاشراط إلّا الوضوءات البيانيّة المتقدّم إلى جملة منها الإشارة، وخصوص الصحيح المرويّ عن الكافي والعلل المتضمّن لقصّة أمر النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بالوضوء ليلة المعراج، وفيه «ثمّ امسح رأسك بفضل ما بقى في يدك من الماء ورجليك إلى الكعبين»(1) وصحيح زرارة عن الباقر عليه السلام وفيه «أنّ الله وتر يحبّ الوتر فقد يجزئك من الوضوء ثلاث غرفات، واحدة للوجه واثنتان للذراعين وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك، وما بقي من بلّة يمناك ظهر قدمك اليمنى وتمسح ببلّة يسراك ظهر قدمك اليسرى»(2) والمرسل المتقدّم «إن نسيت مسح رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلّة وضوئك، فإن لم يبق في يدك من نداوة وضوئك شيء فخذ من لحيتك وامسح به رأسك ورجليك»(3).

والإنصاف أنّه لا دلالة في شيء من ذلك على الاشتراط، أمّا الوضوءات البيانيّة فلأنّ فعل المعصوم إذا كان من الجبلّيات لا يفيد حكما، ولا ريب أن أخذ البلّة مع وجودها في اليد من غيرها غير متعارف بل خلاف مقتضي الجبلّة الإنسانيّة، بل ربّما يعدّ من سوء الرأي لكونه من باب السؤال فيما لا حاجة إلى السؤال فيه، ومن هنا يظهر الوجه في عدم دلالة الصحيحين أيضا لقوّة احتمال كون ذكر اليد من مقتضي المعهود المتعارف بحسب الجبلّة، التفاتا إلى ما يغلب من بقاء بلّة اليد إلى زمان المسح.

وأمّا المرسل فإن كان النظر في دلالته إلى التعليق، ففيه: ما عرفت من أنّ المفهوم في نحوه ليس إلّا نفي الوجوب وهو لا ينافي الجواز. وإن كان النظر فيها إلى الترتيب الذكري، ففيه: قوّة احتمال كونه جريا على مقتضي الترتيب الجبلّي، فلا يكشف عن

ص: 612


1- الوسائل 390:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 5.
2- الوسائل 387:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 2.
3- تقدّم في الصفحة: 605، الرقم 3.

اعتبار ذلك الترتيب في نظر الشارع، بل ربّما يمكن أخذ الأمر بالأخذ من اللحية على تقدير عدم بقاء البلّة في اليد شاهدا على كون المدار في المسح على بلّة الوضوء من حيث هي لا من حيث خصوصيّة المحلّ صرفا لذهن السامع عن توهم الاختصاص نظرا إلى الغلبة المشار إليها، كما فهمه الشهيد وظهر من عبارة المنتهى، فلا يبقى في المقام إلّا إطلاق النصّ بنداوة الوضوء كما في خبر عليّ بن يقطين، وهو يساعد على القول بعدم الاشتراط. ولو سلّم انصرافه إلى ما غلب وجوده من نداوة اليد فبقي إطلاق النصوص الآمرة بالمسح كتابا وسنّة سليما، إذ أقصى ما ارتفع منه إنّما هو بالنسبة إلى اعتبار البلّة، وأمّا كونها بلّة اليد على التعيين فلم يقم على اعتباره شاهد من النصوص ليرتفع الإطلاق في هذه الجهة أيضا، ومع الغضّ عن ذلك أيضاّ فالأصل يساعد على عدم الاشتراط، ومعه سقط استصحاب الحديث واشتغال الذمّة بالطهارة الشرعيّة و المشروط بها من أنواع العبادة، سيما مع ملاحظة صدق اسم «الوضوء» الّرافع لهذه الاصول في فرض المقام، فالأقوى إذن عدم الاشراط وإن كان الأحوط مراعاة الجفاف.

ثمّ إنّه لو جفّ جميع أعضاء الوضوء اختيارا أو اضطرارا لنسيان ونحوه استأنف الوضوء إن تمكن من المسح ببلّة الوضوء الثاني، بلا خلاف أجده عدا محتمل عبارة الإسكافي المتقدّمة كما تقدّم إليه الإشارة، لوجوب امتثال الأمر بأداء المأمور به مهما أمكن، والمرسل وخبر مالك بن أعين المتقدّمان الآمران بالإعادة في نحو الصورة المفروضة، ولا يقدح اختصاصهما بصورة النسيان للأولويّة. ولو كان الجفاف لشدّة هواء أو حرارة أو نحوهما وأمكنه حفظ البلّة في الوضوء الثاني، أو في الوضوء الّذي هو فيه بعلاج نحو القعود في مكان رطب، أو التعجيل في غسل الأعضاء أو العضو المتأخّر أو إكثار الماء عليه، أو إسباغه أو غمسه في الماء لغسله بشرط أن بنوي الغسل بالاخراج وجب، لما عرفت من وجوب أداء المأمور به امتثالا للأمر به بقدر الإمكان. ومنه أن يبقى جزءا من العضو المتأخّر أيضا ثمّ بأخذ كفّا لغسله، ويعجّل المسح على رأسه ورجليه، كما نصّ عليه العلّامة في التذكرة(1).

ص: 613


1- التذكرة 166:1.

وإن تعذر إبقاء البلّة مطلقا ولو لعلاج(1) ففي سقوط الوضوء رأسا ثمّ العدول إلى التيمّم لتعذر الكل بتعذّر بعضه، أو سقوط المسح خاصّة لارتفاع المفيّد بانتفاء قيده، أو سقوط كونه بالبلّة فيمسح بلا نداوة لإطلاق دليل وجوب المسح واختصاص دليل اعتبار البلّة بصورة إمكان بلّة الوضوء، أو سقوط كونه ببلّة الوضوء خاصّة فيمسح بالماء الجديد لعموم «الميسور لا يسقط بالمعسور»، أو الاحتياط بالجمع بين المسح بالماء الجديد والتيمّم، أو بين المسح بلا نداوة والمسح بماء جديد والتيمّم تحصيلا ليقين البراءة ؟ وجوه.

غير أنّ الأوّل منهما لم يتحقّق به قائل، وإن احتمله بعضهم بل عن المقاصد العلية(2)أنّه نقل قولا بالانتقال على تقدير الجفاف على كل حال إلى التيمّم لفقد شرط صحّة الوضوء، وعن محكيّ هامش(3) نسخة من التحرير جعل ذلك قولا للمصنف، لكنّه لا يساعد عليه ظاهر المحكيّ من عبارة المتن وهو قوله في باب الموالاة: «ولو جفّ الوضوء لحرارة الهواء المفرط جاز البناء، ولا يجوز استئناف ماء جديد للمسح»(4)لورودهما لبيان سقوط الموالاة في الصورة المفروضة، وهو لا ينافي اعتبار المسح بلا بلّة أو بالبلّة المؤثّرة أو الغير المؤثرة كما استقربه في محكيّ النهاية، «لو أتى بأقلّ مسمّى الغسل لقلّة الماء حالة الهواء والحرّ المفرطين بحيث لا تبقى رطوبة على اليد وغيرها فالأقرب الشيخ، إذ لا ينفك عن أقلّ رطوبة وإن لم يؤثّر»(5).

كما أنّ الثاني أيضا ممّا لم يتحقّق به قائل، نعم ربّما يذكر احتمالا وهو محتمل عبارة التحرير(6) ونحوها عبارة المنتهي(7) على إحدي النسختين، بل الثالث أيضا ممّا لا قاتل به من أصحابنا، نعم هو أحد محتملات عبارتي التحرير والمنتهى، إلّا أنّه قوّاه بعض مشايخنا(8) لكنّه ضعيف لضعف مستنده لتطرّق المنع إلى ما ادّعى من الإطلاق، بل ربّما يظهر من قرينة مقابلته للغسل اعتبار كونه بالبلّة بل بلّة الوضوء أيضا بملاحظة

ص: 614


1- كذا في الأصل، والأنسب: «بعلاج» بدل «لعلاج».
2- المقاعد العليّة: 103.
3- نقل عنه في كتاب الطهارة 245:2 - هذا لفظه: «فلو تعذّر المسح بالبلل انتقل إلي التيمّم عند المصنّف».
4- التحرير 10:1.
5- نهاية الإحكام 43:1.
6- التحرير 10:1.
7- نقل عنه في مفتاح الكرامة 455:2.
8- الجواهر 194:2-195.

عدم انفكاك اليد في الغالب عنها.

وأمّا الرابع: فالظاهر أنّه الّذي استقرّ عليه مذهب الأصحاب لتظافر الفتاوى المصرّحة به عليه، وعدم العثور على ما يقضي بخلافه صراحة ولا ظهورا، ففي المعتبر في باب الموالاة: «لو جفّ ماء الوضوء من الحرّ المفرط أو الهواء المنحرف جاز البناء واستئناف الماء الجديد للمسح دفعا للحرج»(1) ونحوه ما عن أصحّ نسختي المنتهى(2)وعن الذكرى: «لو تعذر بقاء البلل للمسح جاز الاستئناف للضرورة ونفي الحرج، ولو أمكن غمس العضو أو إسباغ العضو المتأخر وجب ولم يستأنف»(3) وعن المقاصد العلية: «يجوز حينئذ تجديد ماء للمسح لمكان الضرورة، ودفعا للحرج»(4) وعزي إلى الروض والذخيرة وشرح الألفيّة لوالد الشيخ البهائي والجعفرية وجامع المقاصد أيضا(5) وفي المدارك: «لو تعذّر ب قاء البلل للمسح جاز الاستئناف لضرورة ونفي الحرج وصدق الامتثال واختصاص وجوب المسح بالبلل بحالة الإمكان»(6) وعن شرح المفاتيح بعد نقل هذه العبارة: «والأمر كما قال لكن هذا بعد السعي بقدر المقدور في تحصيل البلل» الخ.

نعم قد عرفت في عبارة التحرير نفي الاستئناف ونحوها عبارة النسخة الاخرى من المنتهى، لكنّها ليست بصريحة ولا ظاهرة في المخالفة لاحتمالهما صورة إمكان إبقاء البلّة في اليد المسيح، ويمكن دعوى ظهور عبارة النهاية المتقدّمة في المخالفة.

وكيف كان فالعمدة بيان دليل هذا القول، وقد ظهر بملاحظة عباراتهم الاستناد له إلى قاعدتي نفي الحرج ودفع الضرورة، ويخدشه: أنّ أقصى ما يستفاد منهما إنّما هو نفي التكليف الإلزامي لا تبديل محلّه بغيره، إلّا أن يضاف إليهما النصوص المتقدّمة في الشيخ على الحائل، ولا سيّما رواية عبد الأعلى بدعوى أنّ المنساق منها ومن روايات الجبائر الآتية عدم ارتفاع التكليف عن الوضوء أو شيء من أبعاضه بمجرّد تعذّر شيء

ص: 615


1- المعتبر 158:1.
2- نقل عنه في مفتاح الكرامة 455:2.
3- الذكرى 171:2.
4- المقاصد العلية: 103.
5- روض الجنان 113:1-114، الذخيرة: 41، شرح الألفيّة (رسائل المحقّق الكركي) 198:3، الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 88:1، جامع المقاصد 226:1.
6- المدارك 230:1.

ممّا اعتبر فيهما بل ينتقل عن المتعذّر إلى ما هو أقرب الأبدال إليه مع إمكانه.

والأوجه الاستناد له إلى قاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور» كما نبّهنا عليه.

والمناقشة فيها بعدم جريانها في القيود، يدفعها: عدم الفرق في متفاهم العرف بينها وبين الأجزاء، ومن الظاهر في نحو المقام أنّ المستفاد من الأدلّة إنّما هو المسح بالبلّة وكون البلّة من الوضوء، فإذا تعذّر الثاني يصدق على الأوّل أنّه ميسور فيشمله أنّه لا يسقط بالمعسور. وبذلك يظهر أنّ احتمال الانتقال إلى التيمّم مع عدم قائل به صريحا غير جيد، فإنّ هذه القاعدة وسابقتها توجبان خروج المقام عن موضوع أدلّة المتيمّم القاصية بمشروعيته عند تعذّر الطهارة المائيّة. فحكم المسألة بحمد الله واضح، والاحتياط بالمسح بلا بلّة والاستئناف والتيمّم أوضح.

ثمّ إنّه لو كانت البلّة الباقية في الكثرة بحيث يتحقّق معها الجريان في المحلّ الممسوح لم يجب تخفيفها بل يجوز المسح وإن تحقّق الجريان ما لم يقصد بها الغسل، وقد مرّ القول في مسح الرأس.

وهل يجب تأثير المسيح في المحلّ بإحداث النداوة فيه وسرايتهما من الماسح إليه ؟

وجهان بل قيل قولان أحوطهما بل أظهرهما بملاحظة الروايات أوّلهما، وفاقا لجماعة منهم صاحب المدارك والحدائق ومحكيّ النهاية(1) وربّما عزي إلى التذكرة أيضا(2)وأظهر ما يدلّ عليه منها ظاهر الاستعلاء في المرسل المتقدّم المتضمّن لقوله عليه السلام:

«فامسح عليه وعلى رجليك من بلّة وضوئك» فإنّه. بعطي اعتبار حصول شيء من البلّة عليهما بالمسح، وعليه فيحمل «الباء» في سائر ما اشتمل منها على المسح بالبلّة أو بالنداوة أو بفضل ما بقي في اليد على التعدية أو الإلّصاق فتفيد أيضا اعتبار وصول البلّة إلى المحلّ الممسوح، نعم يعتبر كون الوصول بواسطة اليد فلا يكفي غيره، ولذا قال في الذكرى - على ما حكي -: «الفرض عندنا وصول البلّة بواسطة اليد فلا يكفي وصول البلّة وحدها»(3).

وإذا كان في محلّ المسح رطوبة ففي وجوب تجفيفها للمسح مطلقا وعدمه كذلك،

ص: 616


1- المدارك 212:1، الحدائق 279:2، نهاية الإحكام 43:1.
2- التذكرة 166:1.
3- الذكرى 141:2.

أو إذا كانت رطوبة اليد الحاصلة من الوضوء عليها، أقوال أوّلها لجماعة منهم العلّامة في المختلف(1) حاكيا له فيه وفي المنتهى(2) عن والده محتجّا بحرمة التجديد ومع الرطوبة يكون المسح بماء جديد قطعا.

وثانيها للمحقّق في المعتبر(3) تبعا لابن الجنيد وابن إدريس حيث جوّزوا مسح الرجلين وهو في الماء، حتّى إنّ ابن الجنيد جوّزه من دون اعتبار إخراج رجليه من الماء، نعم اعتبر ابن إدريس إخراجهما منه، وكلام المحقّق محتمل لهما وإن كان أظهر في موافقة ابن الجنيد، وعلّله بأنّ بدنه لم ينفك من ماء الوضوء ولم يضرّه ما كان على القدمين من الماء، واستدلّ لهم أيضا بصدق الامتثال وتناول الآية والأخبار.

وثالثها للشهيد في الدروس(4) وعنه في الذكرى بعد نقل قول الجماعة ومذهب العلّامة قال: «نعم لو غلب ماء المسح رطوبة الرجلين ارتفع الإشكال، وبالجملة ما ذكروه قويّ وما ذكره أحوط»(5) انتهى.

والإنصاف أن إثبات كون جفاف المحلّ بالمعنى المقابل لكونه مبلولا شرطا برأسه زائدا على اشتراط كون المسح ببلّة الوضوء، وعلى تأثيره في المحلّ بالمعنى المتقدّم على وجه يرجع ذلك إلى تقييد آخر في إطلاقات المسح كتابا وسنّة مشكل، لفقد ما يصلح مخرجا عنها، والظاهر أنّ الفائلين بوجوب التجفيف أيضا لا يدّعون الاشتراط على هذا الوجه كما يرشد إليه تعليلاتهم، فالأقوى إذن إناطة الأمر بكون رطوبة المحلّ مصادمة لتحقّق الشرطين المذكورين أو أحدهما، أو مانعة عن العلم بتحقّقهما وعدمه، وعليه فإن كان في الكثرة بمثابة لم يصدق معها المسح بالبلّة أو وصولهما إلى المحلّ أو شك في الصدق اعتبر تجفيفها إلى أن يحصل الصدق إحرازا للشرط المأمور به، أو تحصيلا لليقين بأداء المأمور به، وإلاّ فلا نرى وجها في اشتراط الجفاف وإيجاب التجفيف، وإن كان الأحوط هو ذلك، واللّه العالم بحقائق أحكامه.

ثمّ إنّه يجب كون الشيخ باليد لا بآلة اخرى غير اليد، ومنها الخرقة المبلولة بماء الوضوء ولو كانت مشدودة على اليد في غير حال الضرورة، كما في صورة الجبيرة

ص: 617


1- المختلف 303:1.
2- المنتهى 58:2.
3- المعتبر 160:1.
4- الدروس 93:1.
5- الذكرى 153:3.

بلا خلاف يظهر نصّا وفتوى، بل في كلام غير واحد نفي الخلاف عنه، واستظهار الاتّفاق عليه وعن جماعة دعواه أيضا، وهو المستفاد من مجموع النصوص من الوضوءات البيانية وغيرها، ولا سيّما المقيّدات منها المشتملة على المسح باليد أو الكفّ أو الاصبع أو نحو ذلك، بل هو الظاهر المتبادر من إطلاقات الشيخ كتابا وسنّة تبادرا لا يبعد كونه بالقياس إلى لفظ «الشيخ» وضعيّا، كما ربّما يرشد إليه ظاهر ما عن الفيّومي في المصباح المنير من قوله: «مسحت الشيء بالماء أمررت اليد عليه»(1) فهذا ممّا لا إشكال فيه بحمد الله.

نعم ربّما يقع الإشكال في أنّه هل يتعيّن حال الاختيار كونه بالكفّ أو يتخيّر بينه وبين الذراع ؟ وعلى الأوّل فهل يتعيّن فيه باطن الكفّ أو يتخيّر بينه وبين الظاهر؟ فإنّ كلماتهم مختلفة في ذلك كلّه، وأمّا كونه بالأصابع على تقدير تعيّن الكفّ فالظاهر عدم التزامهم بتعينه، وإن نسب في الحدائق إلى جملتهم «أنّهم ذكروا أنّ الواجب كونه بالأصابع»(2) ولا ظهور لعبائرهم المحدّدة المسيح بالاصبع أو الأصابع في ذلك، لوضوح ورود هذه منهم لتحديد الممسوح لا لتعيين الماسح، ومع ذلك فالعمدة هو الأخذ بموجب الروايات، ولا ريب أنّ إطلاقات اليد والكفّ تشمل ما عدا الأصابع أيضا، ودعوى انصرافها إلى ما غلب وجوده وهو المسح بالأصابع وهم، يدفعه وضوح أنّه ليس انصرافا موجبا لتشكيك اللفظ الموجب لإجماله في نظر السامع بالنسبة إلى غير الغالب، بل هو انصراف عن محض جريان العادة في مسح الشيء بمسحه بالأصابع لمجرّد كونه الأسهل، وأنّه ما يتأدّى به الغرض، والعدول عنه إلى المسح بما عداها يشبه بالأكل من القفاء.

فالإنصاف أنّ مطلقات اليد والكفّ بل مطلقات المسح أيضا لا صارف لها عن الإطلاقات كما لا مخرج عنها، فالمتّجه حينئذ جواز للمسح بأيّ موضع من الكفّ ، بل أنت بملاحظة البيان المذكور تقدر أن تستظهر عدم الفرق في الكفّ بين باطنه وظاهره، بل وفي اليد بين الكفّ والذراع كما يظهر إطلاق القول بذّلك عن شارح الدروس في

ص: 618


1- المصباح المنير 784:2.
2- الحدائق 288:2.

مشارقه قائلا: «والظاهر الإجزاء بأيّ جزء كان من اليد»(1) الخ عملا بالمطلقات المشار إليها، وإن كان في نهوض إطلاقها فيهما بالتقريب المتقدّم نوع خفاء، وهو في ثانيهما أخفي منه في أوّلهما، لكن فيهما معا أيضا نهوضه وإن كان الانصراف المتقدم ذكره موجودا بالقياس إليهما، إذ المتبادر من المسح باليد هو المسح بالكفّ ومنه المسح بباطنه، غير أنّه استحضار بدويّ لمجرّد استحضار مجرى العادة في مقام الشيخ باليد، ومنشاؤه على ما بيّنّاه الأخذ بالوجه الأسهل وعدم الركوب على ما يشبه بكونه أكلا من القفاء، فليس وجه انفهام خصوص باطن الكفّ دون ظاهره ودون الذراع وجه الاعتبار في لحاظ الاستعمال.

وبالجملة الّذي يظهر ويقوى في النفس أنّه ليس مبنى المحاورة في إطلاقات المسح والمسح باليد على اعتبار ظاهر الكفّ ، وإن كان ذلك هو الحاضر في الذهن عند الإطلاق، ولذا لو قال السيّد: «من مسح رأس اليتيم فأعطه درهما»، يجب عليه إعطاء المماسح بظاهر كفّه والماسح بذراعه ولو في غير حال الضرورة، وليس في الوضوءات البيانيّة ما توهم الخروج عن المطلقات عدا ما اشتمل منها على حكاية المسح بالكفّ كما في جملة منها، وهذا بملاحظة ما بيّنّاه من أنّ مراعاة نحو ذلك في نحو المقام إنّما هو لمجرّد جري العادة ولا أقلّ من احتماله المساوي فلا يكشف عن وجه الاعتبار.

إلّا أن يقال: بأنّ تعرّض الراوي لحكاية الخصوصيّات الواردة في الوضوءات البيانيّة ممّا يكشف عن فهم الاعتبار، وهذا على تقدير تسليمه في خصوص المقام إنّما يتمّ لإخراج الدراع عن الإطلاق لا ظاهر الكفّ ، لكنّ الاحتياط ممّا ينبغي مراعاته في المقامات الثلاث بل لا ينبغي تركه في المقام الثالث، هذا كلّه مع الاختيار.

وأمّا مع الضرورة كما لو اختصت البلّة بالظاهر أو بالذراع ولم يمكن نقلها إلى باطن الكفّ فلا إشكال في الجواز بل لا خلاف فيه ظاهرا، ولو دار الأمر حينئذ بين الظاهر والذراع مع وجود البلّة فيهما معا لا ببعد ترجيح الأوّل، لأنّ ما تقدّم من الإشكال من جهة الإطلاقات فيه أهون منه في الذراع، ومع ذلك فهو أحوط بل هذا

ص: 619


1- مشارق الشموس! 118.

الاحتياط أيضا ممّا لا ينبغي تركه إحرازا للطهور المأمور به للصلاة، أو تحصيلا ليقين البراءة الّذي لا يحصل بدونه.

ثمّ إنّ ظاهر صحيحة زرارة المذيّلة بقوله عليه السلام: «وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك وما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى»(1)وجوب مسح الرأس والرجل اليمنى باليمنى والرجل اليسرى [باليسرى] ويظهر العمل بمضمونه من ابن الجنيد(2) في عبارته المتقدّمة في مسألة المسح بالبلّة، وقيل: يفهم ذلك من الصدوق(3) أيضا، وقيل أيضا: وقد يفهم من صاحب المعالم(4) وبعض المحشّين للتهذيب، لكن ظاهر سائر الإطلاقات عدم وجوبه كما هو الظاهر من إطلاقات علمائنا، بل في كلام غير واحد جواز مسح المواضع الثلاث بيد واحدة، بل عن مجمع البرهان:

«ولعلّه لم يقل أحد بوجوب مسح الرأس والرجل اليمنى باليد اليمنى واليسرى باليسرى»(5) وفي كلام جماعة تبعا للشهيدين في الألفيّة(6) وشرحها استحباب ذلك، وفي المدارك «أنّ الأولى ذلك»(7).

أقول: ولعلّ السرّ في تركهم العمل بظاهر الصحيحة ترجيح دلالة المطلقات من حيث كونها لورودها في معرض البيان، ولا سيما الوضوءات البيانيّة الحاكية لوضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الغير المتعرّضة لحكاية هذا الواجب أظهر في الدلالة على الإطلاق المقتضي للتخيير من هذه الصحيحة الدالّة على الوجوب المقتضي للتعيين الغير المجامع للتخيير، فلابدّ من حملها على الاستحباب. وعليه فالمتّجه هو ما صاروا إليه من الاستحباب وعدم الوجوب، وربّما ايّد ذلك بما في هذه الصحيحة من «أنّه عليه السلام غسل وجهه بيده اليمنى» وظاهر الأصحاب عدم وجوب ذلك، بل في النفلية والفوائد المليّة:

«يستحبّ غسل الوجه باليمن وحدها لا باليسرى ولا بهما، وإن أجزأ الجميع على كراهية»(8) كما ايّد ذلك بإجماع الأصحاب على استحباب الإغتراف لغسل الوجه

ص: 620


1- الوسائل 388:1، الباب 15 من أبواب الوضوء ح 2.
2- نقل عنه في المختلف 296:1،
3- الهداية: 16.
4- نقله عنها في مفتاح الكرامة 456:2-457.
5- مجمع الفائدة 104:1.
6- الألفيّة: 93.
7- المدارك 212:1.
8- النفليّة: 93.

باليمنى، كما يظهر دعواه من الذكرى وجامع المقاصد(1) لما فيهما من «أنّه ما قاله الأصحاب».

ثمّ بقى من واجبات الوضوء وسائر ما يتعلّق بواجباته أمور تذكر في طيّ مسائل:
المسألة الأولى: يجب الترتيب بين أعضاء الوضوء،

وهو شرط في صحّته بأن يبدأ بغسل الوجه ثمّ اليد اليمنى ثمّ اليسرى ثمّ يمسح الرأس ثمّ الرجلين، وهو على هذا الوجه إجماعيّ بين أصحابنا، ودعاوي الإجماع عليه متكاثرة إن لم تكن متواترة، مضافا إلى أنّه المستفاد من الوضوءات البيانيّة، فإنّ ملاحظة مساق المجموع تعطي كونهما متعرّضة لبيان وجوب الترتيب، كما أنّها متعرّضة لوجوب نفس الأعضاء، مضافا إلى خصوص صحيحة زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السلام: تابع بين الوضوء كما قال اللّه تعالى، ابدأ بالوجه، ثمّ باليدين ثمّ امسح بالرأس والرجلين، ولا تقدمنّ شيئا بين يدي شيء تخالف ما امرت به، فإن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد على الذراع، وإن مسحت الرجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ثمّ أعد على الرجل، ابدأ بما بدأ الله عزّ و جلّ به»(2) مع ضميمة صحيحة منصور بن حازم عن الصادق عليه السلام «في الرجل يتوضّأ فيبدأ بالشمال قبل اليمين ؟ قال: يغسل اليمين ويعيد اليسار»(3).

وربّما يقال: بظهور الترتيب الذكري في الآية في وجوب الترتيب، وربّما يستند في ذلك إلى قول جماعة من النحاة يكون «الواو» للترتيب، وعن الذكرى أنّه استند في ذلك إلى أنّه سبحانه غيى الغسل بالمرافق والمسح بالكعبين وهو يعطي الترتيب، وعنه أي ضا أنّه قال: «ولأنّ الفاء في فَاغْسِلُوا يفيد الترتيب قطعا بين إرادة القيام وبين غسل الوجه، فيجب البدءة بغسل الوجه قضيّة للفاء، وكلّ من قال بوجوب البدءة به قال بالترتيب بين باقي الأعضاء»(4) وفي هذه الوجوه تأمّل، والعمدة ما ذكرناه.

وفي كلام جماعة إلحاق الترتيب القصدي بالترتيب الحسّي كما لو كان في مطر

ص: 621


1- الذكرى 173:2، جامع المقاصد 229:1.
2- الوسائل 448:1 الباب 34 من أبواب الوضوء ح 1.
3- الوسائل 451:1 الباب 35 من ابواب الوضوء ح 2.
4- الذكرى 161:2.

فينوي الأوّل فالأوّل، وعليه حملوا صحيح عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن الرجل لا يكون على وضوء فيصيبه المطر حتّى يبتلّ رأسه ولحيته وجسده ويداه ورجلاه هل يجزئه ذلك من الوضوء؟ قال: إن غسله فإنّ ذلك يجزئه»(1)وعليه يحمل أيضا ما في المعتبر والتذكرة(2) وغيرهما «من أنّه لو كان في ماء جار وتعاقبت عليه جريات ثلاث صحّت الأعضاء المغسولة، ولو نزل في الواقف ناويا فانغسلت الأعضاء المغسولة دفعة حصل له غسل الوجه، ولو أخرج أعضاءه مرتبا صحّ الوجه واليدان وافتقر إلى مسح الرأس ثمّ مسح الرجلين، ولو لم يرتّب في الاخراج حصل له غسل الوجه نزولا واليمنى من اليدين خروجا».

ثمّ اختلفوا في وجوب الترتيب بين الرجلين في المسح فكثير منهم إلى عدم وجوبه بتقديم اليمنى بل يجوز العكس ومسحهما معا، بل عن جماعة «أنّه المشهور بين الأصحاب» وعن جماعة اخرى «أنّه مذهب الأكثر»، بل عن السرائر: «لا أظن أحدا منّا يخالف فيه»(3) وذهب جماعة إلى وجوبه بتقديم اليمنى فلا يجزئ العكس ولا مسحهما معا، وعن غير واحد تجويز المسح معا دون تقديم اليسرى على اليمنى، وربّما يحكى قول رابع عن المفيد في المقنعة(4) وهو الاقتصار على المقارنة، ولكنّ الظاهر أنّه ليس على وجه اللزوم، لأنّ ظاهرهم عدم الخلاف في أنّ الفضل والكمال في تقديم اليمنى، لاحظ المحكيّ عن شرح الإرشاد: «أنّ الفقهاء من اصحابنا قد نصّوا بأنّ الأصل البدءة باليمنى، لقوله صلى الله عليه و آله وسلم: «إنّ الله يحبّ التيامن»(5) فلا كلام في أنّ الفضل والكمال فيهما الترتيب.

والمعتمد هو الأوّل، لإطلاق الآية والنصوص المتكاثرة المتكفّلة لبيان كيفيّة الوضوء من دون إشارة إلى هذا الترتيب، ولا سيما الوضوءات البيانيّة المتعرّضة للترتيب فيما عدا الرجلين الغير المتعرّضة له فيهما الكاشفة عن فهم الاعتبار في الأوّل

ص: 622


1- الوسائل 454:1 الباب 36 من أبواب الوضوء ح 1.
2- المعتبر 156:1، التذكرة 185:1.
3- السرائر 99:1.
4- المقنعة: 44.
5- عوالي اللآلئ 200:2/101.

وفهم عدمه في الثاني.

وليس للقول الثاني إلّا طريقة الاحتياط، وما عن فعل الرسول صلى الله عليه و آله وسلم أنّه كان إذا توضّأ بدأ بميامنه، مع قوله صلى الله عليه و آله وسلم: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به»(1) وما رواه النجاشي في كتاب الرجال بإسناده عن عبدالله بن أبي رافع عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان يقول: «إذا توضّأ أحدكم للصلاة فليبدأ باليمين قبل الشمال من جسده»(2)وخصوص الحسن أو الصحيح عن محمّد بن بمسلم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «وذكر للمسح فقال: امسح على القدمين، وابدأ بالشق الأيمن»(3) ووجوب الأوّل محلّ منع، ولا سيّما بعد ما كان المقام من مجاري الأصلين، ودلالة الروايتين مع عدم جابر يطمئنّ به لسنديهما غير واضحة، وما تقدّم من الإطلاق بملاحظة ما عرفت المعتضد بعمل الأكثر والشهرة المستفيض حكايتها أظهر في نفي الوجوب من الأمر الوارد في الحسن الظاهر في الوجوب كما لا يخفى.

وللقول الثالث الخبر المرويّ عن احتجاج الطبرسي عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان عليه السلام «أنّه كتب إليه يسأله عن المسح على الرجلين بأيهما يبدأ باليمين أو يمسح عليهما جميعا؟ فأجاب عليه السلام: يمسح عليهما جميعا معا فإن بدأ بإحداهما قبل الآخر فلا يبدأ إلّا باليمين»(4) وفيه أيضا بعد الإغماض عن سنده وشذوذ القائل عدم مقاومته دلالة لما تقدّم، مع أنّه يوافقه في جزء المدّعى.

ثمّ إنّه لو أخلّ بالترتيب الواجب إلى أن حصل الجفاف يعيد الوضوء بتمامه إمّا لفوات الترتيب إن بقي على حاله، أو لفوات الموالاة إن أعاد ما يحصل معه الترتيب، مع عدم إمكان الإعادة في بعض الصور لانتفاء البلّة للمسح، من غير فرق فيما ذكر بين صورتي العمد والنسيان.

وإن أخلّ ولم يحصل الجفاف فإن كان عامدا فيه من ابتداء الوضوء مع العلم

ص: 623


1- الوسائل 438:1 الباب 13 من ابواب الوضوء ح 11.
2- الوسائل 449:1 الباب 34 من ابواب الوضوء ح 4 و 2.
3- الوسائل 449:1 الباب 34 من ابواب الوضوء ح 4 و 2.
4- الوسائل 450:1 الباب 34 من أبواب الوضوء ح 5.

بالحكم يعيده أيضا لفوات النيّة، فإنّها مع العلم بالبطلان والعمد في الإخلال غير ممكنة، وكذلك مع الجهل به إن لم يعلم من نفسه انعقادها كما لو كان مقصّرا واحتمل وجوب الترتيب. وأمّا لو علم انعقادها أو بدأ له الإخلال في الأثناء أو كان ناسيا في إخلاله يعيد ما يحصل معه الترتيب مع ما بعده، لوجوب الإتيان بالمأمور به على وجهه ولم يحصل، وللنصوص المستفيضة الآمرة بذلك كالصحيحتين المتقدّمتين، وصحيحة اخرى لمنصور بن حازم قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عمّن نسي أن يمسح رأسه حتّى قام في الصلاة ؟ قال: ينصرف ويمسح رأسه ورجليه»(1) وصحيحة الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: «إذا نسي الرجل أن يغسل يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجليه، فذكر بعد ذلك غسل يمينه وشماله ومسح رأسه ورجليه، وإن كان إنما نسي شماله فليغسل الشمال ولا يعيد على ما كان توضّأ، وقال: اتبع وضوءك بعضه بعضا»(2).

وصحيحة زرارة قال: «سئل أحدهما عليهما السلام عن رجل بدأ بيده قبل وجهه وبرجليه قبل يديه ؟ قال: يبدأ بما بدأ اللّه به وليعد ما كان»(3) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

وأمّا ما رواه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن رجل توضّأ ونسي غسل يساره ؟ فقال: يغسل يساره وحدها ولا يعيد وضوء شيء غيرها»(4)- فمع عدم مقاومته لما مرّ، وعدم عامل بظاهره - محمول على ما ذكره الشيخ من أنّ معناه لا يعيد شيئا ممّا تقدّم قبل غسل يساره، وإنّما يجب عليه إتمام ما يلي هذا العضو.

وهل الواجب إذا خالف الترتيب إعادة ما قدّم ممّا حقّه التأخير خاصّة فلا يجب إعادة ما أخّر ممّا حقّه التقديم أو الواجب إعادتهما معا، مثلا إذا غسل وجهه بعد ما غسل يمينه، فهل يجب إعادة الوجه أيضا فيغسله ثانيا، أو يكتفي بإعادة اليمين ؟ وجهان بل قولان، أوّلهما وهو الاكتفاء بإعادة ما قدّم للمعتبر والتذكرة(5)وعزي إلى المنتهى وجامع المقاصد(6) بل في المشارق «أنّه الظاهر من كلام

ص: 624


1- الوسائل 451:1 الباب 35 من أبواب الوضوء ح 3.
2- الوسائل 452:1 الباب 35 من ابواب الوضوء ح 9 و 7.
3- الوسائل 450:1 الباب 35 من أبواب الوضوء ح 1.
4- الوسائل 452:1 الباب 35 من ابواب الوضوء ح 9 و 7.
5- المعتبر 156:1، التذكرة 188:1.
6- المنتهى 112:2، جامع المقاصد 234:1.

الأصحاب»(1) وعن المصابيح «أنّه مذهب الأكثر بل يمكن دعوى عدم الخلاف فيه»(2)والثاني محكيّ عن المقنعة والنهاية والسرائر(3) وعن الأخير دعوى الإجماع عليه، لكن قيل كلامه يحتمل ما هو المشهور، وكذا عبارة النهاية. وليس في شيء من الأخبار المتقدّمة ما يساعد على أحد القولين لظهور الّصحيحتين الأوليين في وقوع التذكر قبل غسل الوجه ومسح الرأس كما في الأولى، وقبل غسل اليمين كما في الثانية بقرينة تخصيص الإعادة بالذراع والرجل واليسار، وعليه يحمل الصحيحة الأخيرة بعد حملهما على السؤال عن واقعتين، كما هو الظاهر بقرينة عدم إمكان تقديم الرجلين على جميع الأعضاء مع تعين مسحهما بالبلّة، وبنائه على إرادة الغسل إخراج لها مخرج التقية فيسقط الاستدلال بها بالمرّة.

نعم موثّقة ابن أبي يعفور عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت رأسك ورجليك، ثمّ استيقنت بعد أنّك بدأت بها غسلت يسارك ثمّ مسحت رأسك ورجليك»(4) ظاهرة كالصريح في الأوّل، لكن يعارضها مرسلة الصدوق حيث قال: «وروي في حديث آخر فيمن بدأ بغسل يساره قبل يمينه أنّه يعيد على يمينه ثمّ يعيد على يساره»(5) وموثّقة أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إن نسيت فغسلت ذراعيك قبل وجهك فأعد غسل وجهك، ثمّ اغسل ذراعيك بعد الوجه، فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد على غسل الأيمن ثمّ اغسل اليسار، وإن نسيت مسح رأسك حتّى تغسل رجليك فامسح رأسك ثمّ اغسل رجليك»(6) لظهورهما في الثاني.

ويقرب منهما في الظهور رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام المرويّة عن قرب الإسناد قال: «سألته عن رجل توضّأ وغسل يساره قبل يمينه كيف

ص: 625


1- مشارق الشموس: 127.
2- الموجود في المصابيح هو نسبة الحكم إلى المشهور فراجع المصابيح 335:3.
3- المقنعة: 44، النهاية 220:1، السرائر 99:1.
4- الوسائل 454:1 الباب 35 من أبواب الوضوء ح 14.
5- الوسائل 453:1 الباب 35 من ابواب الوضوء ح 10.
6- الوسائل 452:1 الباب 35 من أبواب الوضوء ح 8.

يصنع ؟ قال: يعيد الوضوء من حيث أخطأ، يغسل يمينه ثمّ يساره ثمّ يمسح رأسه ورجليه»(1) بناء على أنّ قوله عليه السلام: «يغسل يمينه...» الخ تفصيل لقوله عليه السلام: «يعيد الوضوء من حيث أخطأ» فيكون هذا الغسل من أفراد الإعادة، مع أنّ «من حيث أخطأ» قيد ل - «يعيد ويشمل بعمومه تأخير ما حقه التقديم أيضا، لأنّه أيضا خطأ، غير أنّها لما فيها من القصور فالأولى بالإرسال والثانية لشبهة التقيّة بشهادة الذيل والثالثة بجهالة عبدالله الحسن الّذي في سندها مع عدم ظهور جابر لها لا تقاوم الموثقة، فالعمل إذن عليها وبها يضعف الاعتبار الّذي قد يستند إليه من أنّه كما يبطل الأوّل لوقوعه في غير موضعه فكذلك الثاني لترتّبه عليه ووقوعه في غير موضعه، فالاقوى هو القول الأوّل، وإن كان الأحوط هو الثاني.

المسألة الثانية: يجب الموالاة في الوضوء لنفسها أو لغيرها أو لنفسها ولغيرها،
اشارة

بلا خلاف بين أصحابنا للإجماع المستفيض نقله بل البالغ حدّ التواتر، ولجماعة من العامّة - على ما حكي - قول بالخلاف، واختلفت كلمة أصحابنا في تفسيرها على أقوال، أصلها على ما ضبطه بعض الأجلّة أربع:

أوّلها: أنها المتابعة بين الأفعال بأن ينتقل عن السابق عند كماله إلى لاحقه بلا فصل بينهما ولا تفريق، نسبه في التذكرة إلى السيّد والشيخ واختاره(2) وعزاه في المعتبر إلى الشيخ في الخلاف والسيد في المصباح(3) وربّما عزي إلى المقنعة والنهاية والمبسوط وكتب العلّامة(4) لكن عبارة النهاية والمحكيّ من عبارة الّخلاف يوافق ظاهرهما القول الثالث الآتي، وربّما قيدت بالحقيقيّة كما عن كاشف اللثام(5) وبالعرفية كما عن شرح المفاتيح(6) وعن الخلاف دعوى الإجماع عليه(7) وقد أشرنا إلى ما يقضي بفساد هذه النسبة، وهؤلاء على ما حكي بين من جعلها واجبة لنفسها فلا تكون شرطا في الصحّة بل الشرط عدم الجفاف فلا يترتّب على المخالفة إلّا الإثم، و بين من جعلها

ص: 626


1- الوسائل 454:1 الباب 35 من أبواب الوضوء ح 15.
2- التذكرة 189:1.
3- المعتبر 157:1، الخلاف 93:1.
4- المقنعة: 48، النهاية 225:1، المبسوط 23:1، المنتهى 112:2، نهاية الإحكام 49:1.
5- كشف اللثام 555:1.
6- مصابيح الظلام 339:3.
7- الخلاف 94:1.

واجبة لغيرها أو له لنفسه فيأثم ويبطل بالمخالفة.

وثانيها: أنّها متابعة الاعضاء بحيث لا يجفّ السابق من الأعضاء عند اللاحق وإن لم يتتابعا حقيقة أو عرفا ذهب إليه المعظم واستفاضت حكاية الشهرة فيه، وعن الغنية وظاهر السرائر دعوى الإجماع عليه(1) وعن الذكرى أنّه بعد ما نزّل عبارات الأصحاب عليه حصر الخلاف في الشيخين، ثمّ قال: «لكنّ الشيخ في الجمل وافق الأصحاب في اعتبار الجفاف فانحصرت المخالفة في المفيد رحمه الله» ثمّ قال: «ولو حمل قوله (ولا يجوز) على الكراهة انعقد الإجماع»(2) وهؤلاء بين من اعتبر في الجفاف جفاف جميع ما سبق من الأعضاء المغسولة، كما عن الأكثر منهم الشيخ في الجمل(3) وعن المقاصد العليّة وشرح المفاتيح أنّه المشهور(4) وعن المفاتيح أنّه مذهب الأكثر(5) وعن الذكرى وجامع المقاصد والمدارك أنّه مذهب باقي الأصحاب ما عدى الكاتب والمرتضى والعجلي(6)فلو أخلّ حتّى جفّ الجميع يأثم ويبطل الوضوء، فتكون واجبة لنفسها ولغيرها كما عن بعضهم بل عن ظاهر الأكثر، أو يبطل الوضوء فقط فتكون واجبة لغيرها كما عن آخر، ومن. اعتبر فيه جفاف عضو واحد كائنا ما كان أو أزيد، ومرجعه مراعاة عدم جفاف شيء من الأعضاء كما عن الكاتب حيث اشترط بقاء البلل على جميع الأعضاء إلى مسح الرجلين ليقرب من الموالاة الحقيقيّة.

ومن اعتبر فيه أن لا يجفّ قبل كلّ عضو متلوه المغسول كما عن الناصريّات والمراسم والمهذّب والإشارة(7).

ومن اعتبر فيه أن لا يجفّ قبل كلّ عضو متلوّه مغسولا كان أو ممسوحا كما عن السرائر. لكنّه لا يساعد عليه المحكيّ من عبارته بل يساعد على مذهب الأكثر لأنّه قال: «ويتعمّد على أن يكون فراغه من مسح رجليه وعلى أعضائه المغسولة أو

ص: 627


1- الغنية: 59، السرائر 110:1.
2- الذكرى 167:2-168.
3- الجمل والعقود؛ 151.
4- المقاعد العليّة: 98، مصابيح الظلام 279:1.
5- مفاتيح الشرائع 47:1.
6- الذكرى 269:2، جامع المقاعد 225:1، المدارك 226:1.
7- الناصريّات: 126، المراسم: 38، المهذّب 45:1، إشارة السبق: 271.

الممسوحة نداوة الماء»(1).

وثالثها: أنّها المتابعة اختيارا ومراعاة الجفاف اضطرارا، وقد أثبته الشهيد الثاني وسبطه في المدارك(2) وعن روض الجنان أنّه نقله عن المفيد في المقنعة وعن الشيخ في غير المبسوط(3) وربّما عزي إلى إرشاد العلّامة(4) لكن عن جامع المقاصد إنكاره قائلا - في كلام محكيّ له -: «وفي بعض حواشي الشهيد حكاية قول ثالث جامع بين التفسيرين، وهو المتابعة اختيارا ومراعاة الجفاف اضطرارا وعندي أنّ هذا القول هو القول الثاني - يعني به أوّل ما نقلناه - لأنّ القائل به لا يحكم بالبطلان بمجرّد الإخلال بالمتابعة ما لم يجفّ البلل، فلم يبق لوجوب المتابعة إلّا ترتّب الإثم على فواتها، ولا يعقل تأثيم بفواتها إلّا إذا كان مختارا لامتناع التكليف بغير المقدور»(5).

ورابعها: أنّها الأمر الدائر بين المتابعة ومراعاة الجفاف، فلا يقدح الجفاف مع تحقّق المتابعة كما لا يقدح فوات المتابعة مع عدم الجفاف، ومحصّله أنّ أيهما حصل فهو كاف في صحّة الوضوء، فلو تابع بين الأعضاء واتّفق الجفاف لضرورة كان أم لا صحّ ، ولو لم يتابع بل فرّق بين الأعضاء لعذر كان أم لا فإن جفّ بطل وإلّا فلا، وعزي ذلك إلى الصدوقين في الرسالة والفقيه وإلى الشيخ الحرّ في الهداية(6) وعبارة الرسالة والفقيه «إن فرغت من بعض وضوئك وانقطع بك الماء من قبل أن تتمّه فأتيت بالماء فأتمّ وضوءك إن كان ما غسلته رطبا، وإن كان قد جفّ فأعد وضوءك، فإن جفّ بعض وضوئك قبل أن تتمّ الوضوء من غير أن ينقطع عنك الماء فاغسل ما بقى، جفّ وضوؤك أو لم يجفّ »(7) انتهى.

أقول: والظاهر أنّه لا خلاف بينهم في أنّ الموالاة المعتبرة في الوضوء عبارة عن متابعة أعضائه بعضها بعضا، وإنّما الاختلاف المذكور يرجع إلى أنّ المدار في المتابعة المعتبرة هل هو على عدم الفصل مطلقا أو على عدم الجفاف كذلك بأجد وجوهه الأربع المتقدّمة، أو على الأوّل في حق المختار، وعلى الثاني في حقّ المضطرّ، أو على

ص: 628


1- السرائر 101:1.
2- المقاصد العليّة: 58، المدارك 228:1.
3- روض الجنان 115:1.
4- الإرشاد 223:1.
5- جامع المقاعد 225:1.
6- الناسب الإصبهاني في كشف اللثام 556:1، بداية الهداية 10:1.
7- الفقيه 57:1.

أحد الأمرين على طريقة منع الخلوّ؟ فيكون اختلافا في مناط المتابعة الشرعيّة.

ويمكن أن يقال: بعدم كون مبنى كلام الصدوقين على اعتبار أحد الأمرين على وجه يرجع إلى تقييد المأمور به بأحدهما على وجه منع الخلوّ كما فهموه، بل على كون المجموع من التفريق وجفاف جميع ما تقدّم على العضو الّذي هو فيه مخلا بالصحّة وقادحا فيه، فمع انتفاء المجموع ولو بانتفاء أحدهما وجبت الصحّة، ومرجعه إلى تقييد المأمور به بعدم المجموع من حيث هو، وهذا هو الظاهر من عبارتهما المتقدّمة وتبعهما عليه المحقق الخوانساري في شرح الدروس(1) وولده جمال الملّة والدين في حاشية الرّوضة واختاره أيضا صاحب المدارك حيث إنّه بعد ما اختار مذهب الاكثر واستدلّ عليه قال: «وينبغي التنبيه لأمور إلى أن قال -: الثاني: لو والى في وضوئه فاتّفق الجفاف والتجفيف لم يقدح ذلك في صحّة الوضوء، لأنّ مورد الأخبار المتضمّنة للبطلان مع الجفاف الجفاف الحاصل باعتبار التفريق...»(2) الخ، وعليه فيمكن نسبة اختياره إلى الأكثر خصوصا بعد ملاحظة أنّهم لم يتعرّضوا إلّا الجفاف الّذي يتّفق مع التفريق، فحكموا على الوضوء معه بالبطلان.

لكن عن الذكرى(3) أنّه مع موافقته الأكثر في القول بمراعاة الجفاف ذهب إلى بطلان الوضوء مع الجفاف وإن حصل الموالاة بمعنى المتابعة إلّا مع إفراط الحرّ وشبهه وقد يقال: إنّ مع رعاية المتابعة لا يتّفق جفاف الجميع إلّا مع إفراط الحرّ ونحوه ومعه لا نزاع بينهم.

وكيف كان فقد يعزى الميل إليه إلى جملة من متأخّري المتأخرين، ويظهر اختياره من الوسائل كما سمعت حكايته عنه في الهداية، واختاره بعض مشايخنا(4) مدّت إفاداته وهذا هو المعتمد بل الحق الّذي لا محيص عنه، ومرجعه إلى تفسير الموالاة الواجبة بمراعاة عدم جفاف جميع ما تقدّم مع التفريق الواجبة بالوجوب الغيري الّذي يترتّب على مخالفته من حيث هي مخالفته البطلان لا الإثم.

لنا عليه: إطلاق الآية وغيرها من النصوص الآمرة بأفعال الوضوء مفصّلة، وصدق

ص: 629


1- مشارق الشموس: 127.
2- المدارك 230:1.
3- الذكرى 171:2.
4- كتاب الطهارة 313:2

هذه الأفعال بإطلاقها على ما يحصل منها مع المتابعة ومع التفريق مع جفاف الجميع في احدهما أو في كليهما ولا معه فيهما، وهذه أربع صور كلّها مشمولة للإطلاق آية ورواية، ولم يرد في الأدلة ما يوجب الخروج عنه إلّا ما رواه أبو بصير في الموثق عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إذا توضّأت بعض وضوئك فعرضت لك حاجة حتّى يبس وضوؤك فأعد وضوءك، فإنّ الوضوء لا يبعّض»(1) وما رواه معاوية بن عمّار في الصحيح قال: «قلت لأبي عبدالله عليه السلام: ربّما توضّأت فنفد الماء فدعوت الجارية فأبطأت عليّ بالماء فيجفّ وضوئي فقال: أعد»(2).

فإنّ يبس الوضوء وجفافه ظاهر في جفاف جميع ما وقع من أفعاله، كما أن كلّا من الخبرين بحسب ما فرض فيهما نصّ في صورة التفريق، فيكون الأمر بالإعادة فيهما معلّقا على التفريق المستتبع للجفاف، وهذا يكشف عن البطلان، وقضيّة ذلك تقييد إطلاق ما تقدّم بعدم المجموع أو عدم الجفاف خاصّة، مضافا إلى أنّ التعليل في الموثّقة يقضي يكون هذا التفريق تبعيضا في الوضوء، ونفيه يدلّ على أنّه مانع عن الصحّة وهو ملزوم لشرطيّة عدم المجموع.

والخبران بحسب منطوقيهما وإن كانا خاصّين بصورة الحاجة والإضطرار، إلّا أنّ الحكم يتسرّى منها إلى صورة الاختيار لمفهوم الموافقة ومن جهة الأولوية ولا ينافيهما صحيحة حريز في الوضوء يجفّ قال: «قلت: فإن جفّ الأوّل قبل أن أغسل الّذي يليه ؟

قال: جفّ أو لم يجفّ اغسل ما بقى، قلت وكذلك غسل الجنابة ؟ قال: هو بتلك المنزلة، وابدأ بالرأس ثمّ أفض على سائر جسدك، قلت: وإن كان بعض يوم ؟ قال: نعم»(3)لجواز كون المراد بالأوّل العضو السابق على ما هو عليه وجفافه لا يستلزم جفاف سابقه، أو أنّ المراد بجفافه ما يحصل مع تحقّق المتابعة.

هذا مع ما ذكره الشيخ من «أنّ الوجه في هذا الخبر أنّه إذا لم يقطع وضوءه وإنّما تجفّفه الريح الشديدة أو الحرّ العظيم وإنّما تجب عليه الإعادة في تفريق الوضوء مع اعتدال الوقت والهواء، [قال:] ويحتمل أن يكون ورد مورد التقيّة لأن ذلك مذهب كثير

ص: 630


1- الوسائل 446:1 الباب 33 من أبواب الوضوح 2.
2- الوسائل 447:1 الباب 33 من أبواب الوضوء ح 3 و 4.
3- الوسائل 447:1 الباب 33 من أبواب الوضوء ح 3 و 4.

من العامّة»(1) انتهى.

وربّما استدلّ على المختار بما تقدّم من النصوص الدالّة على بطلان الوضوء بعدم بقاء شيء من بلّة الوضوء للمسح فيمن نسي مسح رأسه، ولا سيّما مرسلة الفقيه المذيلة بقوله عليه السلام: «وإن لم يبق من بلّة وضوئك شيء أعدت الوضوء»، ولعلّه ليس بسديد كما جزم به غير واحد، لوضوح الفرق بين فوات الجزء بفوات ما اعتبر فيه وبين فوات الشرط، والكلام إنّما هو في الثاني، والنصوص المشار إليها منساقة لإعطاء الحكم في الأوّل.

ومن هما ربّما أمكن القول بأنّ مسألة الموالاة بالمعنى المذكور لا يظهر لها ثمرة مختصة بها إلّا بالنسبة إلى الأعضاء المغسولة، فإنّها الّتي يؤثّر جفاف جميع ما تقدّم منها على العضو الّذي هو فيه في بطلان الوضوء من جهة الإخلال بالموالاة، وأمّا الأعضاء الممسوحة فغاية ما يقال فيها على تقدير جفاف جميع ما تقدّم عليها أو على بعضها إنما هو استناد البطلان إلى الإخلال في الجزء وهو المسح ببلّة الوضوء والإخلال في الشرط معا، وهذا كما ترى ليس ثمرة تترتّب على مسألة الموالاة على جهة الاختصاص، ولذا لا يمكن استفادة حكم الموالاة عن الروايات المذكورة.

نعم يمكن أن يستظهر منها بطريق الإشارة عدم كون جفاف العضو المتلوّ مضرّا في الصحّة، بل عدم كون التفريق الاضطراري الناشئ عن النسيان مع عدم اتّفاق جفاف الجميع قادحا فيها، وهذا ينافي اعتبار الموالاة بمعنى عدم جفاف العضو المتلوّ مغسولا كان أو ممسوحا، كما ينافي اعتبار الموالاة بمعنى المتابعة الحقيقية أو العرفيّة على أن تكون شرطا في الصحّة.

كما يمكن أن يستظهر ذلك من صحيحة زرارة قال: «قال لي: لو أنّك توضّأت فجعلت مسح الرجلين غسلا، ثمّ أضمرت أنّ ذلك من المفروض لم يكن ذلك بوضوء، ثمّ قال، ابدأ بالمسح على الرجلين فإن بدا لك غسل فغسلته فامسح بعده، ليكون آخر ذلك المفروض»(2) إن لم يتضمّن المسح بالماء الجديد الموجب لطرحها من هذه الجهة،

ص: 631


1- حكى عنه في الوسائل 448447:1، انظر التهذيب 88:1/232.
2- الوسائل 420.1 الباب 25 من أبواب الوضوء ح 12.

وحملها على الضرورة كما صنعه شارح الدروس(1) غير جيّد، هذا.

مع أنّه ليس لاعتبار المتابعة إلّا وجوه لا ينهض شيء منها دليلا عليها لا بعنوان الوجوب النفسي ولا بعنوان الوجوب الغيري الملزوم للشرطيّة، كأصل الشغل باعتبار أنّ يقين البراءة الواجب تحصيله لا يحصل إلّا بها فيجب مقدّمة للواجب، والإجماع المنقول عن الخلاف والناصريّة(2) وقوله تعالى فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... (3) الآية، فإنّ الأمر للفور ولأنّ «الفاء» تفيد التعقيب بلا مهل فيجب غسل الوجه واليديين ومسح الرأس والرجلين عقيب إرادة القيام إلى الصلاة، بلا مهل وفصل، وفعل الجميع دفعة متعذّر فيحمل على الممكن وهو المتابعة العرفية، والوضوء البياني الواقع على المتابعة مع قوله عليه السلام: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به»، وجملة من الروايات كصحيحة زرارة المتقدّمة في بحث الترتيب «تابع بين الوضوء كما قال اللّه تعالى ابدأ بالوجه...» الخ، وصحيحة الحلبي المتقدّمة ثمّة أيضا المذيّلة بقوله عليه السلام: «اتّبع وضوءك بعضه بعضا»، وما في ذيل الموثّقة من قوله عليه السلام: «فإنّ الوضوء لا ببعض» ورواية حكيم بن حكيم قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن رجل نسي من الوضوء الذراع والرأس ؟ قال:

يعيد الوضوء، إنّ الوضوء يتبع بعضه بعضا»(4).

والأوّل يندفع بما تقدّم من الأصل اللفظي مع ورود أصل البراءة في نحو المقام على أصل الشغل. والثاني بمعارضة ما تقدّم عن الغنية وظاهر السرائر(5) مع أنّ الإجماع في محلّ الخلاف ممّا لا معنى له خصوصا مع مخالفة الأكثر فيكون نقله بذلك موهونا. والثالث بأنّ كون الأمر للفور خلاف التحقيق ولا دليل على إرادته في خصوص المقام. ودعوى الإجماع عليه هنا بالخصوص كما عن المختلف(6) موهونة بما عرفت، والتعقيب بلا مهل إنما يسلّم في «فاء» العطف لا مطلقا. والرابع بأنّ المتابعة بين أجزاء الشيء في مقام التعليم والبيان من جملة الأمور العادية، فلا يمكن بالنسبة إليها فهم الاعتبار، والحصر في النبوي ليس بظاهر الشمول لنحوها. والخامس بظهور

ص: 632


1- مشارق الشموس: 128.
2- الخلاف 94:1، الناصريات: 128.
3- المائده: 6.
4- الوسائل 448:1 الباب 33 من أبواب الوضوء ح 6.
5- الغنية: 59، السرائر 103:1.
6- المختلف 301:1.

الصحيحتين بملاحظة السياق وتأدية العبارة في المتابعة بمعنى الترتيب. وتعليل الأمر بالإعادة في الموثّقة بنفي التبعيض عن الوضوء مع كونه معلّقا على مجموع التفريق والجفاف قرينة واضحة على كون المراد بالتبعيض المنفيّ هو التفريق المتعقب لجفاف الجميع، فهذا من أدلّة قول الأكثر على ما تقدّم، وعلى ذلك يحمل التعليل في رواية حكيم بن حكيم بعد الغضّ عن قصور سندها، مع قوّة احتمال إرادة الترتيب من المتابعة.

وأمّا ما عن الذكرى من أنّ ظاهر ابن بابويه دنّ الجفاف لا يضرّ مع الولاء والأخبار الكثيرة بخلافه مع إمكان حمله على الضرورة فممّا لا ينبغي الإصغاء اليه، إذ ليس من الأخيار ما له دخل بالمقام إلّا ما عرفته، وقد اتّضح حاله.

ثمّ ينبغي التنبيه لأمور.
الأوّل: ظاهر النصّ والفتوى كون المدار في الجفاف المبطل على الجفاف المتحقّق عند الشروع في غسل العضو اللاحق،

وأمّا ما طرأ منه في الأثناء فغير قادح في الصحّة، كما نصّ عليه غير واحد بل ربّما عزي إلى ظاهر الأصحاب.

الثاني: في كلام كثير من الأصحاب تقييد الجفاف المبطل باعتدال الهواء،

بل عن الذكرى(1) نسبته هذا القيد إلى الأصحاب المؤذن باتّفاقهم عليه، وغرضهم بذلك على ما يظهر من كلماتهم كما فهمه الشهيد في الذكرى إخراج ما لو اتّفق الجفاف عند التأخير لشدّة الريح، أو إفراط حرارة الهواء لبنائهم فيه على عدم البطلان.

أقول: وكان السرّ في هذا التقييد - مع أنّ القيد ممّا لم يصرّح به في الخبرين المتقدّمين - أنّ تفريع اليبس والجفاف المعلّق عليهما البطلان في الخبرين على التأخير لعروض الحاجة أو نفود الماء وبطؤ وصوله ظاهر في كونه العلّة الباعثة عليهما من دون دخل لغيره فيهما من فرط حرارة أو شدّة ريح أو نحو ذلك ولا ينطبق ذلك إلّا على اعتدال الهواء، فيكون المخرج عن إطلاق ما تقدّم المقتضي لنفي اعتبار الموالاة هو الجفاف الحاصل بالتأخير في هذه الصورة خاصّة، وإن كان. يلحق بها أيضا صورة ما لو حصل الجفاف بالتأخير مع إفراط الهواء في البرودة لدخولها في منطوق الخبرين.

ص: 633


1- الذكرى 168:2.

نعم يدخل هذه الصورة في كلام المتعرّضين للتقييد من باب مفهوم الموافقة، فإنّ الجفاف بالتأخير فيها أولى بالإبطال، وعليه فالصحّة في صورة الجفاف المستند إلى شدّة الريح أو فرط الحرارة أو سموميّة الهواء أو نحو ذلك متّجهة، من غير فرق في ذلك بين بلوغ الحرارة في الشدّة حدّا يسوغ معه استئناف الماء للمسيح وعدمه، فلا يجب عليه حينئذ تحصيل الطريق الممكن لحفظ البلل من إكثار الماء أو الانتقال إلى مكان معتدل محفوظ عن الريح أو شدّة الحرارة إلّا إذا توقّف إبقاء البلّة للمسح عليه، فيجب مراعاة المسح بالبلّة ما دام الإمكان على ما تقدّم في محلّه لا لمراعاة الموالاة والفرق واضح، كما أنّ ثمرة الفرق واضحة، ومن ثمرته أنّه لا يجب اختيار الطريق الممكن معه حفظ البلّة عند غسل ما يجب غسله من الأعضاء، أو إنّما يجب ذلك عند مسح ما يجب مسحه خاصّة.

الثالث: قال في المدارك تبعا للشهيدين في الذكرى والمسالك «لو كان الهواء رطبا بحيث لو اعتدل لجفّ البلل لم يضرّ لوجود البلل حسّا،

وكذا لو أسبغ بحيث لو كان معتدلا لجفّ »(1) قال الشهيد في المحكيّ عن الذكرى في فائدة قيد اعتدال الهواء: «إنّ المقصود به إخراج طرف الإفراط بالحرارة لا طرف الإفراط في البرودة، فلو كان الهواء مثلا رطبا جدّا أو المكان كذلك وأخّر إلى وقت بحيث لو كان معتدلا لجفّ لم يقدح ذلك في الصحّه لمكان وجود البلل حسّا، وكذا لو أسبغ الماء بحيث لو اعتدل لجفّ » ومبناه على اعتبار الجفاف الحسّي ونفي اعتبار التقدير في الجفاف كما صرّح به في الروضة(2) وتبعه غيره ممّن تأخّر عنه، وهو ظاهر المحقّق الشيخ عليّ في حاشية الشرائع حيث قال في شرح الموالاة: «وهي أن يغسل كلّ عضو قبل أن يجفّ ما تقدّمه...»(3) الخ، كما هو ظاهر المحكيّ عن المبسوط والمهذّب والتحرير(4) وغيرهم ممّن عبّر بنحو ما عرفت أو بما يرادفه، لظهور هذه العبارات في أنّ العبرة في الموالاة وقطعها على الجفاف - نفيا وإثباتا - الظاهر في الحسّي.

ص: 634


1- الذكرى 171:2، المسالك 40:1، المدارك 230:1.
2- الروضة 327:1.
3- فوائد الشرائع (حياة المحقّق الكركي وآثاره ج 10):51.
4- المبسوط 23:1، المهذب 45:1، التحرير 10:1.

نعم في عبارات جماعة ما يوهم اعتبار التقدير مع إفراط الهواء في البرودة ونحوه، كعبارة الناصريّات: «ومن فرّق بمقدار ما يجفّ معه غسل العضو الّذي انتهى إليه وقطع منه الموالاة في الهواء المعتدل وجب عليه إعادة الوضوء»(1) وعبارة الغنية في تفسير الموالاة: «وهي أن لا يؤخّر غسل الأعضاء بمقدار ما يجفّ ما تقدّم في الهواء المعتدل»(2) وعبارة المنتهى: «متابعة بعض الأعضاء ببعض فلا يؤخّر المؤخر عمّا يتقدّم بمقدار ما يجفّ المتقدّم في الزمان المعتدل»(3) إذ ربّما ينساق منها كون المدار في الموالاة على مقدار زمان الجفاف في الهواء المعتدل، فلا عبرة بالجفاف قبله كما لا عبرة بعدمه بعده فإنّ الأوّل غير قادح والثاني غير نافع، ولو جعل قيد «في الهواء المعتدل» فيها راجعا إلى التأخير أو التفريق ارتفع هذا الإبهام لكونها متعرّضة حينئذ لبيان الموالاة أو حكمها في صورة اعتدال الهواء ساكتة عنها في صورتي إفراطه حرارة أو برودة، لكنّ الإنصاف أنّها مساقة لإفادة إناطة الأمر بالجفاف الفعلي وإن كان لفظ «المقدار» يوهم خلافه على تقدير رجوع القيد المذكور إلى الجفاف.

وممّا يفصح عن ذلك عبارة المعتبر فإنّه بعد ما فسّر الموالاة «بأن لا يؤخّر بعض الأعضاء عن بعض بمقدار ما يجفّ ما تقدّمه» قال بفاصلة: «فإن فرّق لعذر فالصواب أنّه لا يجب إعادة الوضوء إلّا أن يجفّ جميع ما تقدّم من ماء الأعضاء في الهواء المعتدل لا العضو السابق على العضو المفرّق»(4) فإنّ ذلك يقضي بأنّ مقدار ما يجفّ في عباراتهم يراد به اعتبار فعليّة الجفاف في تحديد الموالاة، ولعلّه من ذلك اختلاف عبارة الحلّي في السرائر حيث قال: «حدّ الموالاة على الصحيح من أقوال اصحابنا المحصّلين، هو أن لا يجفّ غسل العضو المقدّم في الهواء المعتدل، ولا يجوز التفريق بين الوضوء بمقدار ما يجفّ غسل العضو الّذي انتهى إليه وقطع الموالاة منه في الهواء المعتدل»(5) انتهى.

وكيف كان فهذه العبارات إمّا ظاهرة في مؤدّى العبارات الاولة أو ليست بظاهرة في خلافه بل هي مجملة. وإنّما تصير ظاهرة في الخلاف على تقدير إضمار الزمان

ص: 635


1- الناصريات: 126.
2- الغنية: 59.
3- المنتهى 117:2.
4- المعتبر 157:1.
5- السرائر 101:1.

عقيب المقدار، وهذا بنفسه تأويل لا شاهد له في كلامهم، والعمدة هو الرجوع إلى الأدلّة والأخذ بما ينساق منها، وقد عرفت أنّه ليس في المسألة من الأدلّة إلّا الموثقة والصحيحة المتقدّمتين المسوقتين لبيان المبطل للوضوء في نظر الشارع، وهو بحسب بادي النظر باعتبار قابليّة اللفظ لا يخلو عن وجوه: كونه التأخير المحدود باعتبار الزمان بحدّ معيّن في نظر الشارع ضابطه المعرّف له جفاف ما وقع من الأفعال في الهواء المعتدل، كونه التأخير المحدود على الوجه المذكور أيضا مع كونه ضابطه المعرّف له الجفاف المستند إليه لا غير، كونه الجفاف المستند إلى التاخير لا إلى غيره، وكونه المجموع من التأخير والجفاف المستند إليه لا إلى غيره.

والمتّجه على الأوّل لزوم التقدير في صورة إفراط الهواء في البرودة، فيكون المخرج عن إطلاقات الصحّة حينئذ هو هذه الصورة إذا بلغ زمان التأخير الحدّ الّذي عينه التقدير، وصورة التأخير إلى الجفاف الفعلي مع اعتدال الهواء، وعلى الثلاث الباقية كون المدار على الجفاف الحسّي وسقوط اعتبار التقدير، إلّا أنّ الأوّل ممّا لا معيّن له من الظهورات اللفظية سوى ظهور لفظ الروايتين في استناد الجفاف إلى نفس التاخير، بتوهّم عدم صدق ذلك إلّا مع اعتدال الهواء، فيكون المعزف للحدّ المعين عند الشارع هو الجفاف الحاصل في الهواء المعتدل.

وفيه: أنّ قضية استناد الجفاف إلى نفس التأخير كما أنّها صادقة في هذه الصورة فكذلك في صورة إفراط الهواء في البرودة، لأنّ شدّة البرودة لا تؤثّر في حصول الجفاف، وإنّما تؤثر في بطؤ حصوله لأنّها مانعة عن تعجيل الجفاف، فيكون الجفاف متى ما حصل مستندا إلى الطرف الافراط من التأخير، فلا يخرج عن الجفاف السيد إلى نفس التأخير كما لا يخفى، فهذا الوجه مع شمول لفظ الروايتين للصورتين معا تقييد له فلا يصار إليه بلا قرينة واضحة، كما لا يصار إلى الوجه الثاني أيضا بل لا سبيل إليه بالمنظر إلى الفرض، لعدم إمكان تعريف الحدّ المعيّن بما لزمه الاختلاف قلّة وكثرة بالنظر إلى صورتي الاعتدال وفرط البرودة، فتعيّن أحد الوجهين الأخيرين، وإن كان الأظهر منهما بالنظر إلى التعليل الواقع في الموثّقة ثانيهما، وأيا منهما كان فسقط اعتبار التقدير مع إفراط الهواء في البرودة بموجب ظاهر الروايتين، فالمتّجه حينئذ لزوم

ص: 636

مراعاة الجفاف الحسّي مطلقا، وكما لا تقدير هنا فكذلك لا تقدير فيما لو وقع على العضو المغسول أو الممسوح ماء أجنبيّ استهلك معه رطوبة الوضوء، فإنّ العبرة في نحوه بجفاف تمام الرطوبة، نظرا إلى بقاء بعض الرطوبة الأصليّة معها ما دامت باقية، فلا يقدّر زمانه بما لو يطرأ عليه هذه الرطوبة، خلافا لبعض متأخّري المتأخّرين ا لمحكيّ عنه هنا القطع بالتقدير.

الرابع: قد عرفت من طريق المبحث وكيفيّة الاستدلال على مراعاة الجفاف مع التفريق في الموالاة،

أنّ الجفاف المتحقق مع الموالاة بمعنى المتابعة غير قادح في صحّة الوضوء قضيّة للإطلاق، من غير فرق فيه بين حصوله اضطرارا لشدّة الحرّ أو قلّة الماء، أو سخونة بدن المكلّف، أو اختيارا بتجفيف أو تقليل ماء أو نحوهما.

ثمّ اعلم أنّ كلّ بلل يجوز المسح به يكفي بقاؤه في الموالاة ولو كان من الغسل المستحبّ إذا كان معنى استحبابه كونه من مستحبّات الوضوء ولا عكس، إذ قد يكفي بقاء ما لا يجوز المسح به كما عرفت في صورة ما لو وقع على العضو المغسول ماء أجنبيّ استهلك معه بلّة الوضوء.

الخامس: لو نذر الموالاة بمعنى المتابعة في وضوئه أو نذر الوضوء الموالى فيه فلا إشكال كما لا خلاف في انعقاده لرجحان متعلّقه،

لظهور عدم الخلاف في رجحان الموالاة بهذا المعنى، وما عرفته من الخلاف إنما هو في وجوبها، ولذا نصّ غير واحد من نفاة الوجوب على استحبابها استنادا إلى استحباب المسارعة إلى الخيرات، وحينئذ فلو خالف فأتى بالوضوء بلا موالاة بهذا المعنى مع المحافظة على سائر شروط الصحّة حتّى الموالاة بمعنى مراعاة الجفاف. فالمتعرّضون للمسألة من الأصحاب بين متردّد في صحّته وبطلانه، كما في المحكيّ عن الإيضاح والذكرى(1) ومرجّح لصحّته كما في التذكرة والقواعد(2) ومرجّح لبطلانه كما عن المحكيّ عن جامع المقاصد(3) ومفصّل بين ما لو نذر التتابع في الوضوء فالصحّة، وما لو نذر الوضوء المتتابع فيه فالبطلان كما في المدارك(4).

ص: 637


1- الإيضاح 40:1، الذكري 171:2.
2- التذكرة 190:1، القواعد 204:1.
3- جامع المقاعد 226:2.
4- المدارك 231:1.

فعن الإيضاح احتمل صحّة الوضوء، لأنّ المنذور يشترط فيه ما يشترط في الواجب، والموالاة ليست شرطا في صحّة الواجب بل واجبة فيه فيصحّ الوضوء، ويحتمل عدم الصحّة لأنّ الصحّة المشترطة في النذر لم تحصل فيبطل، فإن قلنا بالبطلان والوقت باق أعاد ولا كفّارة، وإن قلنا بالصحّة وجب الكفارة، وإن خرج الوقت وجب الكفّارة سواء قلنا بالبطلان أو الصحّة»(1).

وعن الذكري فيما لو نذر المتابعة في الوضوء فأخلّ بها ولم يجفّ : «إن في الصحّة وجهين مبنيّين على اعتبار حال الفعل أو أصله، فعلى الأوّل لا يصحّ وعلى الثاني يصحّ أمّا الكفّارة فلازمة مع تشخيص الزمان، قطعا لتحقّق المخالفة، وهذا يطّرد في كل مستحب وجب لعارض»(2).

وعن جامع المقاصد الاستناد في البطلان إلى عدم المطابقة، لأنّ المعتبر في صحّة النذر حاله الذي اقتضاه النذر، فما نواه لم يقع وما وقع لم ينوه(3) وفي المدارك «لو نذر المتابعة في الوضوء الواجب أو المندوب إن فعله انعقد نذره قطعا، لما في ذلك من المسارعة إلى فعل الطاعة، ومتى أخلّ بها أثم ولزمته الكفارة، والأظهر صحّة الوضوء لأنّ النذر هنا أمر خارج عن حقيقته، فلا يكون الإخلال به مؤثّرا في صحّته، كما لو نذر المكلّف القنوت في صلاة الفريضة، أو تسبيحا زائدا على قدر الواجب في الركوع والسجود، وقيل بالبطلان لأنّ المنذور يفسد بالإخلال بشيء من صفاته وهو ضعيف جدّا، أمّا لو كان المنذور هو الوضوء المتتابع اتّجه البطلان مع قصد المنذور لعدم المطابقة، ولو نوى غيره أجزأ وكفّر مع تشخيص الزمان»(4) انتهى.

أقول: المتّجه عندي هو القول بالصحّة مطلقا، لأنّ الأمر النذري المتعلّق بالموالاة أو الوضوء الموالى فيه لا يزاحم الأمر الأصلي المتعلّق بالوضوء، إيجابيّا كان أو ندبيّا الّذي هو بين الموالى فيه والغير الموالى فيه مفروض على وجه التخيير ولو بحكم العقل، لكونه تكليفا زائدا على هذا الأمر طارئا عليه متعلّقا بأمر خارج عن الوضوء أو بأحد فرديه المخيّر فيهما، فإن أتى بالوضوء مواليا خرج عن عهدة التكليفين معا.

ص: 638


1- الإيضاح 40:1.
2- الذكري 171:2.
3- جامع المقاصد 226:1.
4- المدارك 230:1-231.

أمّا على الأوّل: فلفرض امتثالهما معا، وأمّا على الثاني فمن باب التداخل القهري، وإن أتى به بلا موالاة فقد خرج عن عهدة احدهما وهو الامر الأصلي، لأنّه أداء للمأمور به الكلّي في ضمن فرد. الغير الموالى فيه، من غير فرق فيه بين عدم كونه من ابتداء العمل ناويا للمنذور، وبين كونه ناويا له فبدا له عدم مراعاة الموالاة، لأنّ الإتيان بالوضوء على كلّ تقدير يحصل بداعي امتثال الأمر الأصلي، والنذر زيادة عليه فيكون قصده زائدا على هذا الداعي حاصلا بعد تحقّقه، فلا يضرّ عدم مطابقة المأتيّ به لهذا المنويّ في صحّة العمل من جهة مطابقته للمنوي الأصلي.

وأمّا الكفّارة فلازمة على تقدير التعيين أو التعميم بالقياس إلى كلّ وضوء، كما لو نذر الموالاة في هذا الوضوء الّذي خوطب به فعلا إيجابا أو ندبا أو في كلّ وضوء يخاطب به كذلك مع تعدّد الكفّارة حينئذ حيثما يتعدّد المخالفة، أمّا لو أطلق كما لو نذرها في وضوء فيبقى المنذور على ذمّته على حدّ الواجب الموسّع إلى أن يحصل أداؤه، أو يتحقّق تركه حسبما يترك سائر الواجبات الموسعة فيكفّر.

المسألة الثالثة: لا يصحّ الوضوء بتولّي الغير أفعاله غسلا ومسحا المتحقّق بصبّه الماء على العضو وإجرائه عليه الّذي هو حقيقة الغسل،

دون صبّه على اليد للغسل لكونه استعانة على ما نصّوا عليه، وضابطه كون الفعل البارز في الخارج من الغسل والمسح في نظر العرف مسندا إلى الغير، والأصل فيه بعد الإجماع عليه المستفيض نقله ظهور الأمر بالوضوء كتابا وسنّة في المباشرة فلا يسقط بدونها.

وهذا أصل كلّي يبنى عليه في جميع الأوامر ما لم ينهض في الأدلة ما يقضي بسقوط اعتبار المباشرة في نظر الآمر في لحاظ الاستعمال، بكشفه عن أنّ المراد من اللفظ حمل المكلّف على تحصيل الفعل المامور به ولو بنحو التسبيب على حدّ قوله:

يٰا هٰامٰانُ اِبْنِ لِي (1) ومنه الأمر ببناء المسجد ونحوه، أو في لحاظ الخارج يكشفه عن أنّ غرضه الأصلي حصول الفعل المامور به في الخارج كيفما اتّفق، فيسقط الأمر بفعل الغير أيضا ولو على غير جهة التسبيب كالامر بإزالة الخبث وغيره من التوصّليّات.

ص: 639


1- غافر: 36.

وما يقال: من أنّ ظاهر الأوامر لا يقتضي سوى كونه مأمورا بالمباشرة أمّا الشرطيّة فلا دليل فيها عليه، فتبقى عمومات الوكالة والنيابة محكمة يصحّ إثبات المشروعيّة بها، فيكون الأصل جواز الوكالة والنيابة في جميع العبادات.

ففيه من الفساد ما لا يخفى، فإنّ المباشرة عبارة عن صدور الفعل المأمور به عن المخاطب المامور بذلك الفعل، فلا تكون قيدا زائدا في الكلام لينظر في شرطيّته والعدم، بل هي من أركان الطلب ومقوّمات الفعل المأمور به، فمعنى كونه مأمورا بالمباشرة مطلوبيّة صدور الفعل منه، ولا ريب أنّ ما يصدر من غيره ليس صادرا منه فلا يكون من المأمور به في شيء، وبالجملة قولك لمخاطبك: «اضرب زيدا» كما أنّه يقتضي بهيئته التركيبيّة مضروبيّة زيد فضرب شخص آخر غير زيد ليس امتثالا لهذا الأمر ولا مسقطا له، فكذلك يقتضي بهيئته الإفراديّة أو التركيبيّة ضاربية مخاطبك، فضرب شخص آخر غيره ليس امتثالا له.

وأمّا كونه مسقطا له فمحتاج إلى الدليل، وليس في أدلّة النيابة والوكالة عموم يصلح دليلا عليه في كافّة العبادات، مع أنّ درج مسألة عدم اعتبار المباشرة في أدلّة النيابة على تقدير وجود عموم فيها مشكل بل لا وجه له عند التحقيق، لأنّ مرجع المسألة إلى عدم اعتبار مباشرة المكلّف في امتثال الأمر الفعلي المتوجّه إليه، ومعناه تنزيل المكلّف غيره منزلة نفسه، على أن يكون هذا الغير منه بمنزلة الآلة، ويكون عمله بمنزلة عمل نفسه، ويكون بذلك ممتثلا للأمر المتوجّه إليه، كما في بناء المسجد ونحوه، وهذا هو مقصود الفقهاء في مسألة تولية المكلّف غيره في أفعال وضوئه، والنيابة في مواردها تنزيل شرعي لعمل النائب منزلة عمل المنوب عنه، ليحصل له من الثمرات ما من شأنه أن يحصل للنائب في عمله لنفسه من الأجر والثواب والقربة وارتفاع الدرجة ونحو ذلك من الثمرات الاخروية.

وهذا كما تري ليس مبنيّا على كون المنوب عنه مكلّفا بذلك العمل بالفعل، ولذا تختصّ النيابة ظاهرا بموارد عجز المنوب عنه عن العمل كما في الحجّ عن العاجز، والزيارات عن النائي الغير المتمكن منها، ومنه فوائت الميّت المؤدّات عنه بعنوان الإجارة أو التبرّع أو غيرهما.

ص: 640

ومن هنا يعلم فساد ما توهّم من أنّ الأصل في كلّ عبادة قبول النيابة وعدم اعتبار المباشرة إلّا ما خرج بالدليل، لما ورد من أنّ المؤمن. كلّ ما يعمل لنفسه من الأعمال الصالحة فيجوز أن لعمله عن الميت، وبه روايات كثيرة أوردها المجلسي قدس سره في باب أحكام الأموات من البحار، فإنّ هذا الأصل على فرض صحّته وعمومه للأحياء أيضا ممّا لا تعلّق له بمسألة عدم اعتبار المباشرة النفسيّة في امتثال التكاليف، إذ ليس مبناه على تعميم المأمور به في أوامر العبادات بالقياس إلى عمل المكلف وعمل غيره الذي يعدّ منه بمنزلة الآلة.

وممّا ذكرنا يعلم أيضا أنّ تفريع ما يختصّ بالأوامر التوصّلية من سقوطها بعمل غير آلمكلّف على مسألة عدم اعتبار المباشرة النفسية في امتثال الأمر وأخذه وجها للفرق بينها وبين التعبّديّات كما هو المعروف بين أواخر الاصوليين - بدعوى امتياز الأوامر التعبّديّة عن التوصّليّة باشتراط المباشرة في الاولى وعدم اشتراطهما في الثمانية - ليس على ما ينبغي، لوضوح الفرق بين سقوط الأمر لحصول امتثاله بعمل غير المكلّف المنزّل منزلة عمله، وبين سقوطه بحصول ما هو الغرض الأصلي منه بفعل الغير لئلّا يلزم من بقاء الأمر به طلب الحاصل، كما في غسل الثوب الّذي يقصد من الأمر به طهارته وزوال النجاسة عنه للتوصّل بها إلى مشروط بالطهارة عن الخبث الحاصلة بفعل الغير أيضا.

وبالجملة المطلب المهمّ في مسألة عدم اشتراط المباشرة إثبات كون المدار في امتثال الأوامر - تعبّدية وتوصّليّة الّذي ينوط به المدح والذمّ ويترتّب عليه استحقاق الثواب والعقاب - على الأمر الدائر بين عمل المكلّف المخاطب بتلك الأوامر وعمل غيره بحيث يعدّ صدوره منه امتثالا للمخاطب امر نفسه. ولو بإرجاع الأمر إلى إرادة حمله على تحصيل المأمور به بالمعنى الأعمّ من مباشرته له بنفسه أو إقامة غيره مقام نفسه على أن يكون منه بمنزلة الآلة، وهذا منه كما ترى خلاف ظواهر الأوامر باعتبار أوضاعها الافراديّه أو التركيبيّة، لظهورها كلّا في إرادة تحصيله بطريق المباشرة، فلابدّ في نفي اعتبارها عموما أو خصوصا من إقامة دليل من الخارج يكون حاكما عليها مخرجا عن هذا الظهور، وليس في أدلّة النيابة ما يصلح لذلك، ولا أنّ مبنى الحكم في

ص: 641

التوصّليّات على ذلك.

وقضية هذا كلّه أن يكون الأصل في الواجبات مطلقة هو اعتبار المباشرة إلّا ما خرج بالدليل، ومن ثمرات هذا الأصل عدم جواز تولية الغير في افعال الوضوء كلّا أو بعضا غسلا أو مسحا مع الاختيار، فلو تولّى غيره حينئذ بطل وضوؤه جزما على معنى عدم وقوعه مجزئا له عن أمره، هذا كلّه بالنسبة إلى الحكم الوضعي.

وأمّا من حيث التكليف فهل يحرم تولية الغير، ظاهر تعبير غير واحد ب - «لا يجوز» كما في المعتبر والشرائع وعن المنتهى الأوّل(1) بل ظاهر المعتبر كما عن المنتهى الإجماع عليه، بل في التذكرة كما عن الروض «يحرم التولية»(2) لكنّ التعويل على نحو هذه العبارات في استظهار الحرمة منهم مشكل، بل لا وجه له في خصوص المقام، لا لما علّله شارح الدروس من «أنّهم كثيرا ما يستعملون عدم الجواز في عدم الإجزاء»(3) بل لوجود قرينة في كلامهم قاضية بظهور إرادتهم عدم الجواز الوضعي، ففي المعتبر احتجّ لما حكم به بعبارة «لا يجوز» بقوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ (4) قائلا: «وهو خطاب لمريدي الصلاة، والأمر للوجوب فلا يسقط» كالعلّامة في التذكرة احتجّ «بأنّه مأمور بالغسل فلا يخرج عن العهدة بفعل غيره» لكن من أفاضل من عاصرناهم من جزم بالحرمة، ولعلّه ظاهر المحقّق الثماني في حاشية الشرائع(5) محتجّا بظاهر النهي في قوله تعالى: فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (6) وصحيحة أو حسنة الحسن بن عليّ الوشا قال:

«دخلت على الرضا عليه السلام و بين يديه ابريق يريد أن يتهيّأ منه للصلاة فدنوت لأصبّ عليه فأبى ذلك، وقال: مه يا حسن! فقلت: لم تنهاني أن أصبّ على يدك، تكره أن اوجر؟

فقال: توجر أنت واوزر أنا، فقلت له: وكيف ذلك ؟ فقال: أما سمعت اللّه يقول فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً وها أنا ذا أتوضّأ للصلاة،

ص: 642


1- المعتبر 162:1، الشرائع 24:1، المنتهى 132:2.
2- التذكرة 203:1، روض الحنان 127:1.
3- مشارق الشموس: 130.
4- المائدة: 6.
5- حاشية الشرائع (حياة المحقّق الكركي وآثاره ج 10):52.
6- الكهف: 110.

وهي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد»(1) فإنّ الوزر هو الإثم مع ظهور لفظ النهي في الحرمة فيدلّ على حرمة التولية والتولّي معا.

ويشكل بأنّ الإشراك المنهيّ عنه في الآية كما يحتمل أن يراد منه اتّخاذ المكلّف في عبادة ربّه شريكا لنفسه في العلّة الفاعليّة كذلك يحتمل أن يراد منه اتّخاذه شريكا لربّه في العلّة الغالية كما في موارد الرياء، فتكون الآية مجملة إن لم نقل بكونها أظهر في الثاني.

ولا يجوز الجمع بينهما في الإرادة لكونهما معنيين متغايرين وتفسيرها بما يوافق الأوّل في الرواية المذكورة معارض بتفسيرها بما يوافق الثاني في رواية جراح المدائني عن أبي عبدالله عليه السلام في قول اللّه عزّ و جلّ : فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً قال: الرجل يعمل شيئا من الثواب لا بطلب به وجه الله، إنّما يطلب تزكية النفس يشتهي أن يسمع به الناس، فهذا الّذي أشرك بعبادة ربّه...»(2) الخ، والمرويّ عن تفسير عليّ بن إبراهيم قال: «في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: سئل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عن تفسير قول الله عزّ و جلّ : فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً فقال: من صلّى مراءاة الناس فهو مشرك - إلى أن قال -: ومن عمل عملا ممّا أمر الله به مراءاة الناس فهو مشرك، ولا يقبل اللّه عمل مراء»(3).

هذا مع ما في الرواية المفسّرة لها بالمعنى الأوّل من أمارة إرادة الكراهة الكاشفة عن أنّ المراد من الاشراك تولية الغير فعل المقدّمات فيكون من الاستعانه المجمع على كراهتها، وذلك من وجهين.

أحدهما: قول الراوي: «لم تنهاني أصبّ على يدك» فإن الصبّ على اليد من مقدّمات الغسل، ولا يمكن أن يراد به غسل اليد الّذي هو من واجبات الوضوء، لأنّ اليد لا يغسل قبل الوجه بعد ملاحظة وجوب الترتيب.

ص: 643


1- الوسائل 476:1 الباب 48 من ابواب الوضوء ح 1.
2- الوسائل 71:1 الباب 12 من مقدّمة العبادات ح 1.
3- الوسائل 68:1 الباب 11 من ابواب مقدّمة العبادات ح 13.

وثانيهما: قوله: عليه السلام «وهي العبادة» مريدا به الصلاة والاشتراك المفروض الّذي ردع عنه الإمام عليه السلام حسبما رامه الراوي أمر متعلّق بالوضوء وهو من مقدّمات الصلاة. وبما يبّنّاه يظهر سقوط الاحتجاج بتلك الرواية أيضا، فإنّ الإنصاف أنّ قول الراوي: «أن أصبّ على يدك» في إرادة الصبّ الّذي هو من مقدّمات الغسل أظهر من لفظي النهي والوزر في إرادة التحريم والإثم، فليحمل هذان اللفظان كقوله عليه السلام: «مه» على شدّة الكراهة الّتي هي في حق الإمام عليه السلام بمنزلة الحرمة هذا.

مع ما قيل: من أنّ حرمة الإشراك على وجه يبطل به العيادة ممّا لا يجامع كون الرجل مأجورا على الاشتراك في العمل الباطل ولا على إعانة الإمام عليه السلام من حيث إنّها إعانة على المحرّم والباطل.

وما قيل في الذبّ عنه: من أن الراوي لمّا كان يظنّ أنّه إعانة على البرّ فهو مأجور بظنه، وإن كان الإمام عليه السلام مأزورا بقبوله الشركة، ففيه: أنّ الواجب على الإمام في نحو المقام إنّما هو ردع الجاهل عمّا اعتقده لا تقريره على معتقده، وهذا قرينة اخرى على خروج عمله عن عنوان الإعالة على الإثم، وينهض ذلك شاهدا بعدم إرادة الإثم بالمعنى اللازم لفعل المحرّم من الوزر المسند إلى الإمام عليه السلام.

فالإنصاف أنّ حرمة التوليه والتولّي إن أريد بها الحرمة الذاتية فلم نقف عليها دليل يعتمد عليه، وإن أريد بها الحرمة التشريعيّة فلا يبعد الالتزام بها في التولية خاصّة، وربّما يحتمل إثبات الحرمة الذاتيّة باندراج المقام في عموم النهي عن إبطال العمل، وهذا أضعف ممّا مرّ.

ثمّ إنّه لا فرق في عدم إجزاء تولّي الغير بين كون المتولّي إنسانا بالغا أو غير بالغ أو غير إنسان معلّما أو غير معلّم، وفي الإنسان بين كونه أجيرا أو غير أجير، حصل الفعل منه على الانفراد أو على الاشتراك بينه وبين المكلّف على وجه استند إليهما معا، أمّا لو استند إلى كلّ منهما على الاستقلال اتّجهت الصحّة، لحصول المباشرة من المكلّف حينئذ الّتي عليها مدار صدق النسبة هذا كلّه مع الاختيار.

أمّا مع الاضطرار فالمعروف من مذهب الأصحاب المصرّح به فيما عثرنا عليه من عبائر المتعرّضين للمسألة جواز تولية الغير بل وجوبه حينئذ، وفي المعتبر «عليه اتّفاق

ص: 644

الفقهاء»(1) وعن المنتهى دعوى الإجماع عليه(2) وربّما يشكل الحال في دليل الحكم ومدرك المسألة، مع أنّ قضية تعذّر المكثف به وهو الفعل المباشري هنا بالفرض سقوط التكليف بالمائية، غاية ما هنالك دخوله في عنوان فاقد الطهورين إن تعذر عليه التيمّم أيضا كما هو لازم عادي لفرض تعذر المباشرة على الماليّة، فالعدول إلى تولية الغير تحصيلا للماليّة يحتاج إلى دليل من قاعدة أو نصّ عامّ أو خاصّ .

وقد يتوهّم عدم ورود هذا الحكم على خلاف القاعدة حتّى يطالب بدليله، نظرا إلى شمول خطابات الوضوء لنحو المقام، وما دلّ على اشتراط المباشرة إنّما دلّ عليه مع الإمكان، لكونه بواسطة الأوامر المقيدة بالقدرة. وكان مراده بخطابات الوضوء ما ورد منها بصورة خطاب الوضع نحو ما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام من قوله: «لا صلاة إلّا بطهور»(3) وما في صحيحته الاخرى قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الفرض في الصلاة ؟ فقال: الوقت والطهور والقبلة والتوجّه والركوع والسجود والدعاء»(4) وما في المرسل من قول الصادق عليه السلام: «الصلاة ثلاثة أثلاث، ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود»(5) وما في المرويّ عن العيون والعلل من قول الرضا عليه السلام:

«وإنّما جوّزنا الصلاة على الميّت بغير وضوء، لأنّه ليس فيها ركوع ولا سجود، وإنّما يجب الوضوء في الصلاة الّتي فيها ركوع وسجود»(6).

فإنّ قضيّة هذه الخطابات اشتراط الصلاة بإحراز طهور مّا ولو نحو الوضوء الحاصل بمباشرة الغير، خرج منها صورة إمكان المباشرة بأوامر الوضوء الظاهرة في المباشرة المخصوصة بصورة الإمكان وبقي الباقي.

وفيه: أنّه إنّما يستقيم ذلك على تقدير إطلاق في هذه الخطابات بالنسبة إلى الطهور، ولعلّه موضع منع لورودها مورد حكم آخر، فإنّها إنّما سيقت لبيان حكم

ص: 645


1- المعتبر 162:1.
2- المنتهى 132:2.
3- الوسائل 315:1 الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
4- الوسائل 365:1 الباب 1 من أبواب الوضوء ح 3.
5- الوسائل 366:1 الباب 1 من أبواب الوضوء ح 7.
6- الوسائل 367:1 الباب 1 من أبواب الوضوء ح 9.

للصلاة، وهو أنّها لا تقع من غير طهور لا لبيان حكم للطهور حتى ينتقل من إطلاقه إلى كفاية أيّ فرد منه، مع إمكان المناقشة في صدق طهور على الوضوء الغير المباشري، فإنّه عبارة عن الماء أو التراب المستعملين على كيفيّة خاصّة قرّرها الشرع، ولا يدري اندراج ما لا يباشره المكلّف في هذه الكيفيّة.

وعن الشهيدين في الذكرى وشرح الإرشاد الاستدلال على الحكم بأنّ المجاز إنّما يصار إليه عند تعذّر الحقيقة(1) وظاهره - بحسب المعنى وإن كان بعيدا بحسب اللفظ والتأدية - دنّ حقيقة الأوامر وإن كانت هي المباشرة إلّا أنّها في حق المضطرّ متعذّرة فوجب المصير إلى المجاز وهو ما لا يباشره المكلّف، ويزيّفه: لزوم الاستعمال في المعنيين الحقيقي والمجازي، إذ الحقيقة بالنسبة إلى المختار مرادة لا محالة، هذا مع انتفاء القرينة على دخول المعنى المجازي في المراد على تقدير صحّة أصل الاستعمال.

وبهذا يندفع الاستدلال أيضا، لو وجّه فرارا عن محذور الاستعمال في معنيين بالتزام استعمال الأوامر في الأعمّ ، وهو إرادة تحصيل الفعل أعمّ من التسبيب له مع ثبوت اعتبار المباشرة في حقّ المختار بدليل من الخارج، فإنّ هذا يدير الكلام السابق، ضرورة أنّ الحقيقة إنّما تتعذّر مع وجود قرينة المجاز لا مع فقدها، وقد عرفت سابقا فقد الدليل على هذا التجوّز.

ولو وجّه بجعل الحقيقة كناية عن مباشرة المكلّف والمجاز كناية عن مباشرة غيره، ومحصّله أنّ مباشرة المكلّف بنفسه إنّما تجب مع الإمكان أمّا مع العذر وجب العدول إلى مباشرة غيره، لدفعه: مع بعده عن العبارة لفظا ومعنى، أنّ بقاء التكليف بالوضوء مع تعذّر مباشرة أفعاله أوّل المسألة.

وهاهنا معنى ثالث وهو كون المجاز كناية عن التيمّم وهو إنّما يعدل إليه عند تعذّر المائيّة، وهي مع إمكان الوضوء بمباشرة الغير غير متعذرة.

وفيه: مع أنّ تعذر مباشرة أفعال الوضوء يستلزم تعذّر مباشرة التيمّم أيضا إن تعذر مباشرة استعمال الماء بعد قضاء الدليل باعتبارها كتعذّر أصل الماء في

ص: 646


1- الذكرى 172:2، روض الجنان 127:1.

قضائه بتعذّر الحقيقة.

وقد يتمسّك أيضا بقاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور» فإنّ تحصيل الوضوء بالتسبيب ميسور فلا يسقط بمعسوريّة تحصيله بالمباشرة.

وفيه: أنّه إنّما يصحّ إذا فرض المأمور به تحصيل الوضوء المفيّد بالمباشرة، فإذا تعذّر قيده لم يلزم منه سقوط المطلق بموجب القاعدة المذكورة، ويدفعه ما تقدّم من أنّ المباشرة المستفادة من الأوامر ليست من قبيل القيد، بل هي من قبيل المقوّم فيرجع الاستدلال حينئذ إلى إجراء القاعدة فيما لو تعذّر اصل الفعل المأمور به لإلزام المكلّف على مراعاة فعل آخر ميسور له، وليس من المأمور به في شيء، وهو كما ترى.

وقريب منه في الضعف الاستناد إلى القاعدة المستفادة من رواية «ما غلب الله عليه فاللّه أولى بالعذر»(1) فإنّها إنّما تنهض دليلا على نفي وجوب المباشرة لا على إثبات وجوب التولية كما لا يخفى.

وقد يتمسّك أيضا بالقاعدة المستنبطة عن رواية عبد الأعلى(2) المرخّصة للمسح على الحائل تفريعا له على نفي الحرج، بتقريب: أنّ تقوّم الفعل بالمفعول ليس بأدون من تقوّمه بالفاعل، لاشتراك الفاعل والمفعول في تقوّم الفعل بهما، فمقتضى تفريع سقوط مباشرة المسح للبشرة وجواز المسح على الحائل في الرواية المذكورة على نفي الحرج سقوط مباشرة المكلّف عند عجزه وجواز التولية.

ويشكل بأنّه ما لم يرجع إلى اتّحاد طريق المسألتين لم يخلص عن ضرب من القياس، مع قيام الفارق بين الأصل والفرع في كون الفاعل بالنسبة إلى الفعل مقوّما والمفعول قيدا مقسّما كما هو واضح، فيكون مدخليّة المفعول المعيّن في تقوّم الفعل أهون من مدخليّة الفاعل المعيّن، أمّا إرجاعه إلى اتّحاد الطريق فلا يخلو عن تأمّل، إذ ليس في الرواية عموم ولا أنّها منقّحة للمناط إلّا بالنسبة إلى أفراد تعذّر مباشره البشرة التي هي أشباه مورد السؤال الوارد فيها.

ص: 647


1- الوسائل 80:4، الباب 2 أبواب أعداد الفرائض ح 2.
2- الوسائل 464:1 الباب 39 من أبواب الوضوء ح 5.

وأولى منه للتأمّل ما يقال في نفي تأثير الفارق المذكور من: أنّ معنى إلقاء مباشرة الفاعل ليس إلّا دعوى أن مقصود الآمر مجرّد تحصيل المخاطب الفعل ولو بغيره، وهذا ليس بأبعد من إلقاء المباشرة في المحلّ بإرادة غسل ما عليه من الحائل إذا تعذّرت، فإنّ مبنى الأحكام الشرعيّة على التوقيف من الشارع ولم يثبت فيما نحن فيه، ولا ريب أنّ مجرّد الاستبعاد غير صالح لإثباته سيّما مع ملاحظة أنّ الأمر بظاهره دلّ على اعتبار المباشرة، وإذا تعذّرت فإلزام المخاطب على تحصيل الفعل بغيره فرع على بقاء الأمر المتوجّه إليه وهذا أوّل المسألة.

ولا ينتقض ذلك بصورة تعذّر مباشرة البشرة، لورود النصّ فيها ببقاء الأمر، ولو فرض بقاء الأمر فيما نحن فيه أيضا فلا حاجة حينئذ في الالتزام بوجوب التولية إلى التشبّث بنحو القاعدة، لكفاية العقل المستقلّ في إثبات هذا الحكم، إذ لا طريق إلى امتثاله إلّا تولية الغير، فإشكال المسألة على ما أشرنا إليه إنّما هو في بقاء الأمر بالوضوء مع تعذّر مباشرة، وهذا كما ترى ممّا لا يفي بإثباته الأوامر الواردة كتابا وسنّة، بل هو في الحقيقة تكليف لموضوع المضطرّ يشك في ثبوته عليه، نعم يمكن الاستناد في إثباته إلى الإجماع كما يكشف عنه الإجماعات المنقولة على وجوب التولية.

أو يقال: إنّ وجوب الصلاة على هذا المكلّف الثابت بالإجماع وعمومات الصلاة مع انضمام نحو «لا صلاة إلّا بطهور» يستلزم كون الطهور مقدورا له، ولا مقدور بالفرض إلّا الوضوء بتولية الغير فيجب مقدّمة، ولعلّه إليه يشير ما في المعتبر من الاستدلال على الوجوب «بأنّه توصّل إلى الطهارة بالقدر الممكن»(1).

والأولى الاستناد فيه إلى ما ورد من الروايات في تيمّم المجدور الّذي غسلوه عن حدث الجنابة فمات المتضمّنه للتوبيخ على الّفعل وهو الغسل مكان التيمّم، لا على الفاعل الّذي هو غير المكلّف، فتكشف عن الرخصة في مباشرة غير المكلّف عند عجزه عن المباشرة بنفسه، بل في بعضها التوبيخ على ترك مباشرتهم في التيمّم لمكان قوله عليه السلام: «قتلوه ألّا سألوا؟ ألّا يمّموه ؟ إنّ شفا العيّ السؤال»(2) وجه الاستدلال: عدم

ص: 648


1- المعتبر 162:1.
2- الوسائل 346:3 الباب 5 من أبواب اليتمّ ح 1.

الفرق في اعتبار المباشرة مع الإمكان وسقوطها مع العجز بين الطهارات الثلاث.

ويدلّ عليه أيضا ما في حديث مرويّ بطرق متعدّدة عن أبي عبداللّه عليه السلام «أنّه كان وجعا شديد الوجع، فأصابته جنابة وهو في مكان بارد، قال: فدعوت الغلمة، فقلت: لهم احملوني فاغسلوني، فحملوني ووضعوني على خشبات، ثمّ صبّوا عليّ الماء فغسلوني»(1).

والمناقشة فيها بتضمّنها ما يخالف القاعدة المقرّرة في التيمّم، بل لأصول المذهب من عروض الاحتلام للإمام عليه السلام استبعادا لحملها على تعمّد الجنابة حين الوجع الشديد المسقط للمباشرة لعلّها في غير محلها، لجواز كون ما عرضه عليه السلام من الوجع الشديد ممّا لم يضرّه الماء وهو عليه السلام أعرف بما عرضه، والاحتلام الغير اللائق بحاله هو الذي ينشأ عن القوّة الشهويّة الحيوانية، أو هو مع ما يكون بنفسه مرضا مستقلّا، كما يتّفق لكثير من الأشخاص دون ما يستند إلى وجع أو مرض آخر، فإنّ عروضه له عليه السلام باعتبار ما عرضه من الوجع أو المرض ليس بأبعد من عروضهما له. وكيف كان فالنيّة تتعلّق بالعاجز لأنّه المتوضّئ المأمور بالوضوء، والمباشر منه بمنزلة الآلة فلا يتعلّق به حكم ولو نوياه معا كان حسنا. فما في المدارك من «أنّ النيّة تتعلّق بالمباشر لأنّه الفاعل حقيقة»(2) ليس بجيّد.

ويجب الاقتصار في التولية على أقلّ ما يندفع به الضرورة، وعليه فيجب كون الشيخ بيد العاجز لإمكانه ولو بإعانة الغير، ولو اندفعت الضرورة بأن يقف في مطر أو تحت ميزاب أو ينزل على ماء أو انغمس فيه العضو ولو بإعانة الغير في الجميع مراعيا للترتيب ولو في القصد والنيّة على الوجه المتقدّم في محلّه وجب ذلك ولا يجوز معه تولية الغير، بل ولو اندفعت بالجري من ميزاب ولو بصبّ الغير الماء فيه تعيّن ذلك.

ولا يجب على الغير حيثما وجبت التولية الإجابة، ولو توقّفت على اجرة وجب بذلها وإن كثرت ما لم يضرّ بحاله.

المسألة الرابعة: الفرض من غسلات الوضوء بالنسبة إلى الأعضاء الثلاث الغسلة الواحدة ولو بأزيد من غرفة واحدة بلا خلاف في شيء منهما،

أمّا الأوّل: فمن الكتاب

ص: 649


1- الوسائل 4781 الباب 48 من ابواب الوضوء ح 1.
2- المدارك 240:1.

لإطلاق الأمر بالغسل، بناء على ما قرّر في محلّه من كون الأمر لطلب الماهيّة، وأنّ القدر المكتفي به في امتثال الأمر بالماهيّة إنما هو المرّة على معنى الإيجاد الواحد للماهيّة. ومن السنة ما بلغ من النصوص حدّ التواتر معنى ولا سيّما الوضوءات البيانيّة الظاهرة كالصريحة في الاكتفاء بالمرّة. وغيرها ممّا ستعرف جملة منه ممّا أخذه النافون لاستحباب المرّة الثانية حجّة على النفي، وأمّا الثاني: فلأنّ الغرفة مقدّمة للغسل فلا تتقدّر بعدد معيّن، بل العبرة فيها بما يفي بتحقّق الفرض وإن زاد على الواحدة أو الاثنتين أو الثلاث.

أمّا الغسلة الثانية: ففي حكمها من حيث الاستحباب أو الجواز الغير المقتضي للأمر عليها لكونها تكلّفا زائدا غير محتاج إليها، أو الحرمة من باب البدعة المحرّمة أقوال، مرجعها على ما هو المعروف الواقع في المحكيّ عن الخلاف إلى ثلاثة، قال في الخلاف - على ما حكي -: «الفرض في الغسلات مرّة واحدة، والثانية سنّة، والثالثة بدعة، وفي أصحابنا من قال: الثانية بدعة، وليس بمعوّل عليه. ومنهم من قال: إنّ الثمانية تكلّف ولم يقل بأنها بدعة. والصحيح الأوّل»(1) انتهى.

والقول بالاستحباب للمعظم المحكيّ فيه الشهرة في حدّ الاستفاضة، بل عن جماعة نقل الإجماع عليه، وبالجواز المبنيّ على التكلّف الغير المأجور عليه للصدوق في الأمالي حيث قال في كلام محكيّ له في وصف دين الإماميّة: «إنّ الوضوء مرّة مرّة، ومن توضّأ مرّتين فهو جائز إلّا أنّه لا يؤجر عليه»(2).

وبالبدعة عن جامع البزنطي والفقيه والكافي للكليني(3) وإن كان العبارة المحكيّة عن بعض هؤلاء لا يساعد عليه، كما يظهر للواقف على عباراتهم، وربّما يحكي عن جماعة ما يقضي بتربيع الأقوال. فعن المقنعة «أنّ التثليث تكلّف، ومن زاد على ثلاث فقد أبدع وكان مأزورا»(4) وعن العمّاني «إن تعدّى المرّتين لم يؤجر» وعن الإسكافي «أنّ الثالثة زيادة غير محتاج إليها»(5) وعن مصباح الشيخ «أنّ ما زاد على الاثنين

ص: 650


1- الخلاف 87:1.
2- أمالي الصدوق: 514.
3- حكاه عنه في مستطرفات السرائر 533:3، الفقيه 47:1، الكافي 27:3.
4- المقنعة: 49.
5- نقل عنهما في المختلف 285:1.

تكلّف غير مجز»(1).

فمرجع الأقوال على ما ضبطها بعض مشايخنا(2) إلى أنّ الواجب أقلّ أفراد الغسل الحاصل بالمرّة الأولى ولم يشرّع الزائد فيكون محرّما وهو القول بحرمة الثانية، أو مع مشروعيّة الزائد على وجه الاستحباب وهو قول المشهور، أو أنّ الواجب القدر المشترك بين المرّة والمرّتين فيكون الثانية جزءا من الواجب غير مأجور عليه بالخصوص بل الأجر على الطبيعة المتحققة في ضمنهما، وهو قول من قال: إنّ الثانية تكلّف أو جائز غير مأجور عليه، أو أنّه القدر المشترك بين المرّة والمرّتين والثلاث والزائد غير مشروع فيكون محرّما وهو قول المفيد والعمّاني والإسكافي والشيخ في المصباح.

أقول: ويحتمل وجود قول خامس لمن عبّر بأنّ الفرض مرّة واحدة والثانية سنة، بناء على أن يراد بالفرض ما ثبت وجوبه بالكتاب وبالسنة ما ثبت وجوبه بسنّة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كما هو المعنى المصطلح المعروف بين القدماء الوارد في الأخبار أيضا، كما ربّما يوهمه ما في جملة من النصوص من أنّ الثانية ما أضافه النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إلى ما فرضه الله سبحانه.

لكن في كلام غير واحد دعوى الإجماع على نفي الوجوب، هذا مع ما في المعتبر من قرينة إرادة الاستحباب حيث إنّه استدلّ على استحباب الثانية بصحيحتي معاوية بن وهب عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألت عن الوضوء؟ فقال: مثنى مثنى»(3) وصفوان عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «الوضوء مثنى مثنى»(4) فقال: ولا يجوز أن يراد بذلك الوجوب لما سبق من جواز الاقتصار على المرّة فتعيّن الاستحباب(5).

وعلى أيّ حال فتحقيق المقام أنّ الروايات المأثورة عن أهل العصمة سلام الله عليهم اجمعين مختلفة في ذلك، فإنها بين ما هي ظاهرة أو موهمة لعدم مشروعيّة الزائد على المزة، ومنها ما هي ظاهرة أو صريحة في مشروعية المرّة الخانية أيضا.

فمن الأوّل: مضافا إلى الوضوءات البيانيّة الصريحة أو الظاهرة في الاقتصار على

ص: 651


1- مصباح المتهجّد: 7.
2- كتاب الطهارة 342:2.
3- الوسائل 441:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 28.
4- الوسائل 442:1 الباب 31 من ابواب الوضوء ح 29.
5- المعتبر 159:1.

المرّة ما في موثقة ميسر عن أبي جعفر عليه السلام قال: «الوضوء واحدة واحدة»(1)وما في موثقة يونس بن عمّار قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الوضوء للصلاة ؟ فقال:

مرّة مرّة هو»(2) و ما رواه فضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام أنّه قال: «فيما كتبه إلى المأمون الوضوء كما امر اللّه في كتابه غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس والرجلين مرّة مرّة»(3) وما أرسله الصدوق قال: «قال الصادق عليه السلام: واللّه ما كان وضوء رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم إلّا مرّة مرّة، قال: وتوضّأ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم مرّة مرّة، فقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به»(4) وما رواه عبد الكريم بن عمر وقال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الوضوء؟ فقال: ما كان وضوء عليّ عليه السلام إلّا مرّة مرّة»(5) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

ومن الثاني: صحيحة معاوية بن وهب وصحيحة صفوان المتقدّمتان(6) وما رواه زرارة في القويّ عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «الوضوء مثنى مثنى من زاد لم يؤجر عليه، وحكى لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فغسل وجهه مرّة واحدة ومسح رأسه بفضل وضوئه ورجليه»(7) وموثّقة يونس بن يعقوب عن الوضوء الّذي افترضه الله تعالى على العباد لمن جاء بالغائط وبال قال: «يغسل ذكره ويذهب بالغائط، ثمّ يتوضّأ مرّتين مرّتين»(8) و ما رواه عمرو بن أبي مقدام قال: «حدّثني من سمع أبا عبداللّه عليه السلام يقول: إنّي لأعجب من يرغب أن يتوضّأ اثنتين اثنتين وقد توضّأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم اثنتين اثنتين»(9) وما في ذيل رواية داود الرقي عن أبي عبدالله عليه السلام المتقدّمة في المباحث السابقة من قوله عليه السلام: «يا داود بن زربي توضّأ مثنى مثنى ولا تزدنّ عليه فان زدت

ص: 652


1- الوسائل 435:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 1 و 6.
2- الوسائل 435:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 1 و 6.
3- الوسائل 440:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 22.
4- الوسائل 438:1 الباب 12 من أبواب الوضوء ح 10.
5- الوسائل 437:1 الباب 21 من أبواب الوضوء ح 7.
6- تقدّم في الصفحة: 651، الرقم 3 و 4.
7- الوسائل 436:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 5.
8- الوسائل 316:1 الباب 9 من أبواب الوضوء ح 5.
9- الوسائل 439:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 16.

فلا صلاة لك»(1) إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع.

ويمكن الجمع بينهما بحمل الروايات الأولة على بيان المشروعية على وجه الفرض والثانية على بيان المشروعيّة على وجه الاستحباب كما عليه المعظم، أو بحمل الأولة على بيان المشروعيّة المطلقة مع إرادة الغسلة من المرّة والثانية على إرادة الغرفة بإيقاع كلّ غسلة بغرفتين كما عن الفاضل الهندي والمحدّث الكاشاني في الوافي(2) أو على ما عن الحبل المتين(3) من إرادة التثنية في الغسل والمسح. فالمراد بقوله عليه السلام:

«مثنى مثنى» من أنّ الوضوء غسلتان ومسحتان لا كما يزعمه المخالفون من أنّه ثلاث غسلات ومسحة واحدة، أو على إرادة تجديد الوضوء لكلّ صلاة المحكوم عليه باستحبابه للنصّ والإجماع كما يستفاد من عبارة الفقيه(4) أو على التقية كما عن منتقى الجمان(5) تعليلا بأنّ العامّة تنكر الوحدة وتري في أخبارهم التثنية، ويؤيده ما عزي إلى مالك(6) من أنّ مرّة أفضل من مرّتين، وما إلى الشافعي(7) من أنّ الفرض واحد واثنتان أفضل والسنّة ثلاثا.

لكن أقرب المحامل وأظهرها وأجود طرق وأتقنها الوجه الأوّل لا غير، بل هو الحقّ الّذي لا محيص عنه بشهادة أنّ الغسلة الثانية من الإسباغ المندوب إليه في الوضوء وهو إكماله بمراعاة جميع مستحبّاته، أمّا الاوّل فللروايات المستفيضة المصرّحة يكونها إسباغا كالمرويّ عن إرشاد المفيد بإسناده إلى عليّ بن يقطين في حكاية عليّ بن يقطين، وقد تقدّم بطوله في المباحث السابقة، وفي ذيله «وورد عليه كتاب أبي الحسن عليه السلام ابتدئ الآن يا عليّ بن يقطين وتوضّأ كما أمرك الله تعالى، اغسل وجهك مرّة فريضة واخرى إسباغا»(8) الحديث.

والمرويّ عن كشف الغمّة أنّه كتب إليه بعض أصحابنا اختلفوا في مسح الرجلين - إلى أن قال - فكتب الكاظم عليه السلام «توضّأ كما أمر الله اغسل وجهك مرّة فريضة واخرى

ص: 653


1- الوسائل 443:1 الباب 32 من أبواب الوضوء ح 2.
2- كشف اللثام 55:1، الوافي 317:6.
3- الحبل المتين 113:1.
4- الفقيه 47:1.
5- منتقى الجمان 148:1.
6- المدوّنة الكبرى 2:1.
7- فتح الباري 260:1.
8- الوسائل 445:1 الباب 32 من أبواب الوضوء ح 3.

إسباغا»(1) و المرويّ عن التوقيع إلى العريضي من أولاد الصادق عليه السلام «أنّ الوضوء كما أمر اللّه غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين واحد واثنان إسباغ الوضوء، وإن زاد أثم»(2) و المرويّ عن العيون بإسناده عن عليّ بن شاذان عن الرضا عليه السلام أنّه كتب إلى المامون، وفيه «أنّ الوضوء مرّة فريضة واثنتان إسباغ»(3).

وفي بعض الروايات أنّ هذه الغسلة الداخلة في عنوان الإسباغ زيادة من النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كما في المرويّ عن أبي جعفر الأحول عمّن رواه عن أبي عبدالله عليه السلام قال:

«فرض الله الوضوء واحدة واحدة، ووضع رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم للناس اثنين اثنين»(4)وحمله على كونه واردا على وجه الإنكار لا على وجه الإخبار كما صنعه الصدوق بعيد بنفسه، ويبعّده صدر المرويّ عن داود الرقي قال: «قلت لأبي عبدالله: جعلت فداك كم عدّة الطهارة ؟ فقال عليه السلام: أمّا ما أوجب الله تعالى فواحدة، وأضاف رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم واحدة لضعف الناس، ومن توضّأ ثلاثا فلا صلاة له، أنا معه في ذا حتّى جاء داود بن زربي، فسأله عن عدّة الطهارة ؟ فقال: ثلاثا ثلاثا من نقص فلا صلاة له»(5) الخ.

وفيه تنبيه على نكتة ما صنعه صلى الله عليه و آله وسلم من إضافة هذه الزيادة، وأنّها تسهيل الأمر على الناس والتوسعة في أمر الوضوء لهم لضعف موادّهم القابلة للوساوس الشيطانيّة المدخلة فيهم الشك في استيعاب الماء في المرّة الأولى لجميع العضو، وإذا اعتبر ذلك علّة التشريع كما هو الظاهر اندفع إشكال الاطراد بالقياس إلى من لم يطرأ عليه هذه الحالة.

وأمّا الثاني فللمستفيضة القريبة من التواتر، ففي الصحيح عن الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «اسبغ الوضوء إن وجدت ماء وإلّا فإنّه يكفيك اليسير»(6) وفي المرويّة في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لعليّ عليه السلام «قال: يا عليّ ثلاث درجات إسباغ الوضوء في

ص: 654


1- كشف الغمة 18:3.
2- لم نعثر عليه في المجامع الروائية، نعم نقله في الجواهر 269:2.
3- الوسائل 440:1 الباب 31 من ابواب الوضوء ح 23.
4- الوسائل 439:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 15.
5- الوسائل 443:1 الباب 32 من ابواب الوضوء ح 2.
6- الوسائل 485:1 الباب 52 من أبواب الوضوء ح 4.

السبرات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والمشي بالليل والنهار إلى الجماعات، يا عليّ سبعة من كنّ فيه استكمل حقيقة الإيمان وأبواب الجنّة مفتّحة له، من أسبغ وضوءه، وأحسن صلاته»(1) الخ.

وفي الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمّد عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: من أسبغ وضوءه، وأحسن صلاته - إلى قوله عليه السلام -: فقد استكمل حقائق الإيمان، وأبواب الجنة مفتحة له»(2) وفي المروّي عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم: ألا أدلّكلم على شيء يكفّر الله به الخطايا ويزيد في الحسنات ؟ قيل: بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه و آله وسلم: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى هذه المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة»(3) إلخ وفي المرويّ عن أنس قال: «قال رسول اللّه: اسبغ الوضوء تمرّ على الصراط مرّ السحاب، افش السلام يكثر خير بيتك، أكثر من صدقة السرّ فإنّها تطفئ غضب الربّ »(4) وفي المرويّ عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: «ثلاث كفارات إسباغ الوضوء بالسبرات والمشي بالليل والنهار إلى الصلاة، والمحافظة على الجماعات»(5) إلى غير ذلك ممّا يظهر بالتتبّع.

وحمل الإسباغ في هذه الروايات على الإسباغ بمعنى إكمال فرائضه. أو على المبالغة في إيصال الماء إلى تمام العضو ليكون الغسلتان غسلة تامّة سابغة، ممّا يكذّبه السياق الظاهر كالصريح في الإكمال بمعنى مراعاة مسنوناته، خصوصا مع ملاحظة قيد السبرات في روايتين ممّا عرفت المناسب لهذا المعنى المقتضي لطول الفراغ عن الوضوء وتكرّر مباشرة اليد للماء، مع أنّ إكمال الفرائض لا يكون إلّا واجبا، كما أنّ المبالغة في الإيصال كثيرا ما تكون واجبا ولو من باب المقدّمة.

فمحصّل وجه هذا الجمع أنّ تكرير غسلات الوضوء من إسباغ الوضوء، و كلّ ما هو من إسباغ الوضوء فهو مستحبّ ، والدليل على كلّ من الصغرى والكبرى

ص: 655


1- الوسائل 487:1 الباب 54 من ابواب الوضوء ح 1 و 2.
2- الوسائل 487:1 الباب 54 من ابواب الوضوء ح 1 و 2.
3- الوسائل 488:1 الباب 54 من ابواب الوضوء ح 3.
4- الوسائل 489:1 الباب 54 من ابواب الوضوء ح 6.
5- الوسائل 489:1 الباب 54 من ابواب الوضوء ح 7.

ما عرفت من الروايات الّتي لا مجال إلى المناقشة في اعتبارها، ولو من جهة الاستفاضة والاعتضاد بالكثرة والاشتمال على الصحيح وغيره من المعتبرة.

وبهذا كلّه يذبّ عن الروايات النافية للاستحباب وإن لم تكن نافية للمشروعيّة، كالمرسل عن الصادق عليه السلام «من توضّأ مرّتين لم يؤجر»(1) ورواية ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «الوضوء واحدة فرض واثنتان لا يؤجر والثالثة بدعة»(2) ونحو ذلك فإنها لا تقاوم ما مرّ من وجوه شتّى مع أنّها معارضة بمفهوم مرسلة اخرى رواها الصدق قال: «وروي من زاد على مرّتين لم يؤجر»(3) ورواية عبد الكريم بن عمرو عن ابن أبي يعفور عن أبي عبداللّه عليه السلام في الوضوء قال: «اعلم أنّ الفضل في واحدة ومن زاد على اثنين لم يؤجر»(4).

مع احتمال الاولى بل الثانية أيضا لأن يراد من مرّتين أو اثنتين أن يؤتى بالغسلتين التامّتين على أن يحصل الامتثال بالماهيّة المتحقّقة في ضمنهما تنزيلا لإيجاديها منزلة الإيجاد الواحد، فإنّ الإتيان بالزائد على هذا الوجه تكلّف غير مأجور عليه، أو ما لو أتى بالمرّة الثانية لعدم الاطمئنان بكفاية المرّة الأولى من جهة عدم استيقان وقوعها مستوعبة لتمام العضو، كما يرشد إليه رواية عبدالله بن بكير عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «من لم يستيقن أنّ واحدة من الوضوء تجزئه لم يؤجر على الثنتين»(5) بناء على احتمالهما الظاهر فإنّ الإتيان بالغسلة الثانية على هذا الوجه إنّما يحصل من باب المقدّمة العلميّة وهذا ممّا لا يوجب استحقاق الأجر، وقد يحمل هذه الرواية كما في المدارك(6)وغيره على ما لو زاد على الواحدة معتقدا وجوبها، وما ذكرناه أوجه كما لا يخفى.

وبجميع ما بينّاه يظهر مستند القولين الآخرين والجواب عنهما أيضا، كما يعلم أيضا كون المرّة الثالثة بدعة لعدم مشرعيتها إيجابا ولا ندبا، بناء على ما علم بملاحظة

ص: 656


1- الوسائل 438:1 الباب 31 من ابواب الوضوء ح 14.
2- الوسائل 436:1 الباب 31 من ابواب الوضوء ح 3.
3- الوسائل 439:1 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 18.
4- الوسائل 441:1 الباب 31 من ابواب الوضوء ح 27.
5- الوسائل 436:1 الباب 31 من ابواب الوضوء ح 4.
6- المدارك 234:1.

النصوص المتقدّمة من كون مبنى الأمر الإيجابي بغسلات الوضوء على إرادة المرّة وأنّ الأمر الندبي بالثانية إنما هو من دليل آخر لا لمجرّد هذا الأمر الإيجابي، بناء على فرض ورودها على الماهيّة لا بشرط، فلا إشكال في كونهما محرّمة من حيث التشريع كما هو مقتضي التوقيع المتقدّم المصرّح بكونها «إثما»، ومرسلة ابن أبي عمير المتقدّمة المصرّحة بكونهما «بدعة»، خلافا لمن خصّ البدعيّة بالرابعة كما عرفت عن المقنعة(1)والكاتب(2) ومصباح الشيخ(3) ولم نقف له على مستند.

وهل يبطل الوضوء بالثالثة ؟ ففيه قولان أو أقوال، أجودها البطلان إن مسح ببلّتها دون بلّة الوضوء الأصلي لتعذره أو عدم مراعاته مع إمكانه كما عليه جماعة، بل قيل بأنّه المشهور، وإليه يرجع ما في نهاية الإحكام والدروس(4) على ما حكي من تقييد البطلان بما لو غسل اليسرى ثلاثا، إذ لا جهة له حينئذ إلّا أنّه يستلزم للمسح بغير ماء الوضوء فتأمّل.

وقضيّة ظاهر خبر داود الرقي صدرا وذيلا البطلان مطلقا كما عليه جماعة، ففي صدره: «من توضّأ ثلاثا فلا وضوء له» وفي ذيله: «فإن زدت فلا صلاة لك». وربّما يحمل على ما لو مسح ببلّتها، ولا شاهد له.

ويمكن حمله على ما لو قصد من أوّل الأمر امتثال الأمر بالوضوء بالإتيان بهذه الهيئة الغير المشروعة مع اعتقاد عدم المشروعيّة بل ومع عدم اعتقاد المشروعيّة أيضا فإنّ الأقرب فيه البطلان.

والقول بالصحّة مطلقا للمحقّق في المعتبر حيث استوجه الجواز تعليلا «بأنّ اليد لا تنفك من ماء الوضوء»(5) وليس بجيّد. والأحوط عدم الاكتفاء بهذا الوضوء مطلقا خروجا عن شبهة إطلاق النصّ الّذي لو علم له جابر لكان المصير إليه متعيّنا.

ثمّ إنّه لا تكرار في المسح لا إيجابا ولا ندبا للإجماع المستفيض نقله، وعدم اتّضاح ما يرخّص فيه من النصوص، مع ما عرفت من قضاء روايات المرّة الواحدة

ص: 657


1- المقنعة: 44.
2- نقل عنه في المختلف 285:1.
3- مصباح المتهجّد: 7.
4- نهاية الاحكام 40:1، الدروس 93:1.
5- المعتبر 160:1.

بكون مبنى الأمر بأفعال الوضوء الوارد في الكتاب على إرادة المرّة دون الماهيّة المطلقة، ولا أقل من طروّ الإجمال إليه بالنسبة إلى المسح، فيبقى أصالة عدم المشروعيّة سليمة فيحرم الزائد على المرّة حينئذ من حيث البدعة المحرّمة إذا حصل بقصد المشروعيّة، والأقرب أنّه لا يخلّ بصحّة الوضوء مطلقا بلا خلاف، كما عن السرائر(1) وإجماعا كما في المدارك(2) وقد يخصص الله عليه و آله وسلم الصحّة بما إذا لم يبتلّ اليد الماسحة ببلل الممسوح مع ثبوت المنع من المسح به، ولا أرى وجها لهذا المنع. نعم لو قصد الامتثال بهذه الهيئة الغير المشروعة من أوّل الأمر إتّجه البطلان مع عدم اعتقاد المشروعية على وجه صحيح شرعي، والله العالم بحقائق أحكامه.

المسألة الخامسة: فيما يتعلّق بالجبائر،
اشارة

وهي اسما بحسب الأصل - على ما نصّ عليه جماعة - العودان والألواح أو هي والخرق الّتي يشدّ بها العظام المكسورة، وحكما على ما في كلام جمع تبعا لشارح الدروس(3) ما يعمّها وما يشدّ على الجروح والقروح من الخرق وغيرها ممّا يجعل على الجراحة أو القرحة شدّا أو لطوخا أو ضمادا.

فمن كان على بعض اعضاء طهارته جبيرة بالمعنى الأعمّ فإن أمكنه غسله بالمعنى المتضمّن لجريان الماء على العضو ولو يسيرا بنزع الجبيرة أو تكرير الماء عليها إلى أن يصل البشرة مع الجريان، أو غمس العضو المجبور في الماء حتّى يصل الماء إلى البشرة وجب ذلك على التعيين إن تمكن من أحدها لا غير، أو على التخيير بين اثنين منها إن لم يتمكن عن غيرهما، أو بين الجميع إن تمكن عن الجميع اداء للغسل المأمور به الّذي يتأتّي بكلّ من هذه الوجوه. ويصدق اسمه مع كل، بناء على ما تقدّم تحقيقه من عدم اعتبار الدلك فيه مع الاجتزاء بأقلّ مسمّاه الّذي يتأتّى بنحو الدهن أيضا بشرط تحقّق الجريان المكتفى فيه بانتقال الماء من جزء إلى آخر، وقضيّة ذلك أن يجب بوجوبه الطرق الثلاث تعيينا أو تخييرا من باب المقدّمة، وعبارات أصحابنا بين ما يعطي تعين الأوّل مع إمكانه ومع عدمه فالتخيير بين الأخيرين كما في المحكيّ عن التذكرة(4) وربّما

ص: 658


1- السرائر 100:1.
2- المدارك 235:1.
3- مشارق الشموس: 149.
4- التذكرة 207:1.

يلوح ذلك عن إطلاق غير واحد، وما يعطي التخيير بين الأوّلين مع إمكانهما، ولعلّه المشهور كما يلوح عن غير واحد ونصّ عليه بعضهم، وما يعطي التخيير بين الجميع استنادا إلى نحو ما بيّنّاه.

ولم أعثر على مستند الثاني، ولعلّه ليس على وجه إنكار الثالث لاحتمال الذهول عمّا عدا الأوّلين، أو كونه منزلا على فرض تعذّر الغير، أو لمراعاة ما غلب وقوعه، أو لبيان عدم مشروعيّه المسح على الجبيرة مع التمكن من تحصيل الغسل ولو بنحو النزع أو التكرير، فلا ينافي الاجتزاء بنحو الغمس أيضا لفرض كونه محصّلا للغرض.

ولم أعثر للأوّل على مستند صحيح وما علّله به في التذكرة من «أنّ غسل موضع الفرض ممكن فلا يجزئ المسح على الحائل»(1) لا يقتضي الترتيب المذكور.

ولعلّه رام به الجمع بين الوجه المذكور وما رواه الحلبي في الحسن عن أبي عبداللّه عليه السلام «أنّه سئل عن الرجل يكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من موضع الوضوء فيعصبها بالفرقة ويتوضّأ، ويمسح عليها إذا توضّأ؟ فقال: إن كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة، وإن كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثمّ ليغسلها، قال: وسألته عن الجرح كيف يصنع به في غسله ؟ فقال: اغسل ما حوله»(2).

ويدفعه: منع المعارضة، وعدم المنافاة بين الرواية وإطلاقات الغسل بعد ملاحظة أنّ اعتبار النزع ليس لوجوبه لنفسه ولا لدخله في صحّة الغسل المأمور به بكونه من قيوده إجماعا، وإنّما هو لمجرّد كونه طريقا موصلا إليه، وحينئذ فالنكتة في تخصيصه بالذكر لعلّه لضرب من الاستحباب أو لكونه أحد أفراد الطريق أو لكون النظر في الرواية سؤالا وجوابا في صورة الانحصار.

وربّما يؤيّد المشهور أو يدلّ عليه موثّقة عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبداللّه عليه السلام «في الرجل ينكسر ساعده، أّو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر على أن يمسح عليه لحال الجبر إذا جبر كيف يصنع ؟ قال: إذا أراد أن يتوضّأ فليضع إناء فيه ماء، ويضع موضع الجبر في الماء حتّى يصل الماء إلى جلده، وقد أجزأه ذلك من غير

ص: 659


1- التذكرة 207:1.
2- الوسائل 463:1 الباب 39 من ابواب الوضوء ح 2.

أن يحلّه»(1) هذا على ما في التهذيب في باب تطهير الثياب والبدن من النجاسات من زيادات كتاب الطهارة، ورواها أيضا في الاستبصار لكن فيه مكان قوله: «فلا يقدر أن يمسح عليه لحال الجبر»، «فلا يقدر أن يحلّه لحال الجبر».

ودلالته على الأوّل واضحة بناء على أنّ مورد الرواية سؤال عن عدم إمكان مباشرة اليد للبشرة وإمرارها على الجلد لوجود الحائل، وهو أعمّ من إمكان نزعه وتعذّره، فالأمر بالغمس المتضمّن لترك الاستفصال المستتبع للحكم بالإجزاء الظاهر في إمكان غيره، مع قوله «من غير أن يحلّه» الظاهر في إمكان الحلّ تنبيها على عدم اعتبار الإمرار في ماهيّة الغسل المأمور به، وكونه ممّا يتحقّق بنحو الغمس أيضا يتناول إمكان النزع بل التكرير أيضا وتعذّرهما، بل الإجزاء المصرّح به يفيد جواز غيره أيضا.

وأمّا على الثاني: فيمكن توجيه الدلالة بأنّ لفظ «الإجزاء» ظاهر في كون الغمس أقلّ ما يتأدّى به الواجب، فلابدّ وأن يكون له معادل سائغ يجوز العدول إليه بدلا عن الغمس، ولا يجوز أن يكون هو المسيح على الجبيرة للإجماع على عدم التخيير بينه وبين الغمس على تقدير كون الغمس سائغا، فلابدّ وأن يكون نحو تكرير الماء حتّى يصل إلى الجلد.

ثمّ إنّ قوله عليه السلام: «من غير أن يحلّه» مع أنّ مفروض السؤال عدم القدرة على حلّ الجبيرة، كأنه تنبيه على أنّه لا حاجة في ذي الجبيرة إلى فرض عدم القدرة على حلّها، بل هو وإن قدر على الحلّ لو غمس موضع الجبيرة في الماء حتّى يصل الماء إلى البشرة أجزأه ذلك من غير الحاجة إلى حلّها.

وكيف كان فالمعتبر في إمكان النزع واخويه كلّا أو بعضا انتفاء المانع عقلا وشرعا، ومن المانع الشرعي تضرّر العضو المكسور مثلا بغسله ووصول الماء إليه، ومنه أيضا نجاسته الغير المقدور على رفعها وإزالتها، فلو تضرّر أو كان نجسا ولا يقدر على تطهيره كان كمن لا يمكنه النزع ولا التكرير ولا الغمس، بل الظاهر أنّه كمن لا يمكنه أحد هذه الأمور لو أمكنه إيصال الماء بالتكرير إلى البشرة من غير أن يتحقق معه

ص: 660


1- الوسائل 4651 الباب 39 من أبواب الوضوء ح 7.

جريان ما على ما هو مأخوذ في مفهوم الغسل.

وما يتوهّم من دنّه حينئذ يقدّم على المسح على الجبيرة عند تعذّر النزع والغسل لكونه أقرب إلى المأمور به، أو لأنّ مباشرة الماء للجسد واجبة للأمر بالصبّ ونحوه والغسل واجب آخر وتعذّر الثاني لا يوجب سقوط الأوّل قصيّة لعموم «الميسور لا يسقط بالمعسور» و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» لعلّه ليس بجيد.

نعم لا يبعد الاستناد في ذلك إلى الخبر المتقدّم بالنظر إلى قوله: «حتّى يصل الماء إلى جلده» لقضائه بأنّ المدار في غسل ذي الجيرة على إيصال الماء إلى البشرة، ولكنّه مشكل إلا على تقدير ثبوت عدم استلزام الغمس في مفروض المسألة جريانا مّا ولو بحسب الغالب وهو موضع تأمّل، فالأحوط إذن الجمع بين الإيصال وما يأتي من المسح، بأن يمسح الجبيره أوّلا ثمّ يكرّر الماء عليها إلى حدّ الإيصال، هذا إذا لم يستلزم ذلك المسح بالماء المستأنف وإلّا فالأحوط ترك هذا الاحتياط.

ثمّ إنّ المحلّ لو كان نجسا وأمكن تطهيره متوقّفا على النزع تعيّن، والأقوى عدم كفاية الغسلة الواحدة لإزالة الخبث ورفع الحدث، بل لابدّ أوّلا من الإزالة بما يعتبر فيها من العدد ولو مرّة ثمّ غسله لرفع الحدث.

. ثمّ إنّه لو لم يمكنه أحد الأمور الثلاث المذكورة ولو لتضرّر المحلّ عن الماء أو نجاسته مع تعذّر تطهيره، فالمشهور فيه بين الأصحاب المحكيّ فيه الشهرة كما عن المفاتيح(1) بل المنقول عليه الإجماع كما عن جماعة من أساطين الطائفة أنّه يمسح على الجبيرة وجوبا ولو في موضع الغسل.

وهو كذلك لنصوص المستفيضة الآمرة به ففي الحسن كالصحيح عن الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام «أنّه سئل عن الرجل...» الخ وقد تقدّم(2) وحسنة كليب الأسدي بل صحيحته على الظاهر، قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل إذا كان كسيرا كيف يصنع بالصلاة ؟ قال: إن كان يتخوّف على نفسه فليمسح على جبائره وليصلّ »(3). وخبر أبي الأعلى مولى آل سام قال: «قلت لأبي عبدالله عليه السلام: عثرت فانقطع ظفري، فجعلت

ص: 661


1- مفاتيح الشرائع 49:1.
2- تقدّم في الصفحة: 659، الرقم 2.
3- الوسائل 465:1 الباب 39 من أبواب الوضوء ح 8.

على اصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا واشباهه من كتاب الله عزّ و جلّ قال اللّه تعالى: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ امسح عليه»(1) ورواية الحسن بن عليّ الوشّاء عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «سألته عن الدواء يكون على يدي الرجل، أيجزئه أن يمسح في الوضوء على الدواء المطلى عليه ؟ فقال: نعم يمسح عليه ويجزئه»(2). وعن تفسير العيّاشي بسنده عن عليّ بن أبي طالب، قال: «سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عن الجبائر تكون على الكسير، كيف يتوضّأ صاحبها، وكيف يغتسل إذا اجنب ؟ قال: يجزئه المسح بالماء عليها في الجنابة والوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده ؟ فقرأ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً (3)» وهذه الأخبار إذا حمل مطلقها على مقيدها يثبت المطلوب.

وربّما يتوهّم المعارضة بينها و بين الآمرة بغسل ما حول الجراحة أو الجبيرة من غير تعرّض المسح عليها، وذلك كما في ذيل رواية الحلبي المتقدّمة قال: «وسألته عن الجرح كيف يصنع به في غسله ؟ قال: اغسل ما حوله» ونحوه رواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن الجرح كيف يصنع به صاحبه ؟ قال: يغسل ما حوله»(4) وما أرسله الصدوق قال: «وقد روي في الجبائر عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: يغسل ما حولها»(5) وصحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الكسير تكون عليه الجباير، أو تكون به الجراحة كيف يصنع بالوضوء عند غسل الجنابة وغسل الجمعة ؟ فقال: يغسل ما وصل إليه الغسل ممّا ظهر ممّا ليس عليه الجبائر، ويدع ما سوى ذلك ممّا لا يستطيع غسله، ولا ينزع الجبائر ولا يعبث بجراحته»(6) حتّى أنّ منهم من اتّخذ حمل الأمر بالمسح على الاستحباب وجها للجمع لولا الإجماع على الوجوب كما في المدارك(7) تبعا لشيخه المحقّق الأردبيلي(8).

ص: 662


1- الوسائل 464:1 الباب 39 من أبواب الوضوء ح 5.
2- الوسائل 466:1 الباب 39 من أبواب الوضوء ح 10 و 11.
3- الوسائل 466:1 الباب 39 من أبواب الوضوء ح 10 و 11.
4- الوسائل 464:1 الباب 39 من أبواب الوضوء ح 3 و 4.
5- الوسائل 464:1 الباب 39 من أبواب الوضوء ح 3 و 4.
6- الوسائل 463:1 الباب 39 من أبواب الوضوء ح 1.
7- المدارك 238:1.
8- مجمع الفائدة 111:1.

وليس كما توهّم إذ السكوت عن حكم المسح على الجبيرة إثباتا ونفيا في سياق التعرّض لبيان وجوب غسل ما عدى الموضع المجبور من العضو لا ينهض دلالة ولو ظهورا على النفي، ولو سلّم فالأمر بالمسح أظهر دلالة على الوجوب منه في دلالته على عدمه، ولو سلّم التكافؤ فالواجب في الجمع هنا طرح نفي كلّ بإثبات الآخر، فإنّ الآمرة بمسح الجبيرة ساكتة عن غسل ما حولها، مع أنّه واجب بلا خلاف، ولا يمكن العكس لذلك.

وهذا كلّه بالنسبة إلى صحيحة عبدالرحمن وأمّا بالنسبة إلى غيره ممّا اشتمل على الجرح فأصل المعارضة غير متحقّقة، إذ لم يظهر كون المراد بالجرح ما عليه الجبيرة فمن الجائز إرادة الجرح المكشوف بل هو الظاهر على ما ستعرفه، فيكون عدم التعرّض لمسحه حينئذ لكفاية غسل ما حوله كما عليه الأكثر على ما ستعرفه أيضا. وبالجملة فهذا مما لا إشكال فيه، وإنّما الإشكال في مواضع اخر:

الأوّل: عن نهاية الإحكام أنّه احتمل في المقام وجوب أقلّ مسمّي الغسل

حملا للمسح الوارد في الأخبار عليه(1) واستجوده في كشف اللثام على ما نقل عنه قائلا:

«ولا ينافيه الأخبار لدخوله فيه»(2) وقد ينتصر ذلك استظهارا له من حسنة الحلبي ورواية الوشّاء المتقدّمين من حيث ظهور السؤال الوارد فيهما في كونه سؤالا عن قيام الجبيرة مقام البشرة في كفاية وصول الماء إليها، وأنّ المراد بالسمح المسؤول عنه هو إمرار اليد على الحائل في مقام الغسل لأنّه الّذي يسبق إلى الأذهان جوازه شرعا، فيسأل عنه دون المسح في مقابل الغسل، فإنّ مشروعيته في محلّ الغسل وصيرورة مسح البدل مقام غسل المبدل ممّا لا منشأ لتوهّم إجزائه قبل الاطلاع على تعبّد الشارع به.

ويشكل بأن الخروج عن ظاهر اللفظ بلا صارف ممّا لا معنى له، خصوصا ولا يلائمه سياق الجواب في حسنة الحلبي، فإنّ التفكيك بين صورتي الإيذاء وعدمه بإطلاق الشيخ في الأولى والغسل في الثمانية ممّا يعطي الفرق بينهما في المراد، وليس

ص: 663


1- نهاية الإحكام 65:1.
2- كشف اللثام 577:1.

إلّا إرادة ما يقابل الغسل من المسح. فدعوى ظهور الحسنة في إرادة إمرار اليد على الحائط لإيصال الماء إليه غير سديدة، والاعتبار المذكور يندفع بجواز مسبوقيّة السؤال باستماع المسح على الجبيرة ممّن لا يوثق بقوله أو اشتهاره في الأفواه على وجه لم يوجب الاطمئنان، فصدر السؤال استعلاما لحقيقة الحال واستكشافا عن صدق هذا المقال وكذبه.

وبنحو ذلك يوجّه السؤال في الرواية الأخرى، بجواز كون السائل بعد ما عرف حكم الجبيرة من حيث قيام المسح عليها مقام غسل البشرة بتعبّد من الشارع، اشتبه عليه الحكم في الدواء المطلى على موضع الوضوء لجراحة أو قرحة من دون وضع جبيرة أو خرقة عليه فسئل عنه، وبالتأمّل في السؤال الثاني الوارد في ذيل الحسنة يظهر قرينة أخرى على كون المسح في السؤال الأوّل مرادا به ما يقابل الغسل، هذا.

مع أنّ الحمل على إمرار اليد في موضع إرادة الغسل، ممّا يزيّفه: عدم كون الإمرار من الغسل في شيء لا عينا ولا لازما ولا ملزوما، لما عرفت في محلّه وهو المصرّح به في كلماتهم من عدم دخول الدلك في حقيقة الغسل، نعم قد يكون من مقدّماته.

وأبعد من صرفه إلى إرادة الغسل، حمله على إرادة مجرّد إيصال الماء إلى الجبيرة تحقّق معه الغسل بأقلّ مسمّاه أو أكثره أو لم يتحقّق. صدق معه اسم المسح أو لم يصدق كما قد يتوهّم، فإنّ إبداء هذا الاحتمال رجم بالغيب، حيث لا إيماء في الأخبار إليه.

ثمّ ظاهر نصوص الباب كفتاوي أكثر الأصحاب بل صريح بعضهم كشارح الجعفريّة القائل: «بأنّه لا يجب الإجراء بل لا يجوز»(1) كون المسح على الجبيرة عزيمة. وقد يستظهر من كلام الشهيدين في الذكرى والروض والمسالك «لا يجب إجراء الماء عليها لأنّه لم يتعبّد بغسلها»(2) كونه رخصة.

وربّما يظهر أيضا ممّا استند في الحكم إلى نفي الضرر والحرج كالمعبر والمنتهى(3) لكنّ الوجه ما ذكرناه.

وليس المسح هاهنا إذا كانت الجبيرة في موضع الغسل كالمسح على البشرة في

ص: 664


1- المطالب الجعفريّة: في الجبائر.
2- الذكرى 199:2، روض الجنان 118:1، المسالك 41:1.
3- المعتبر 161:1. المنتهى 128:2.

الرأس والرجلين ليكفي مسمّاه كما قد يتوهّم، بل يجب استيعاب الجبيرة بالمسح عملا بظاهر الأخبار وإجراء الحكم المبدل في البدل ما لم يدلّ دليل على سقوطه، نعم يراعى في ذلك صدق الاسم عرفا، فلا يجب المبالغة لإيصال الرطوبة إلى ما في الجبيرة من الخلل والفرج ما لم يخلّ عدمه بصدق الاسم على وجه الاستيعاب عملا بالإطلاق، مضافا إلى نفي الحرج، ولا يجب كونه بماء الوضوء، بل يجوز له استيناف الماء.

ولو استوعبت الجبائر جميع أعضاء الغسل في موضع الضرورة، وتعذّر غسل البشرة فالمصرّح به في كلام جمع - كالفاضلين الشهيدين وغيرهم - وجوب المسح على الجميع على وجه الاستيعاب، ولعلّه من جهة تنقيح المناط، ولا يبعد استفادته من إطلاق بعض النصوص المتقدّمة. وعن شرح المفاتيح(1) احتمال الانتقال إلى التيمّم لبعد فهم هذا النوع من الجبيرة من الأخبار، وطريق الاحتياط بالجمع بين المسح استيعابا والتيمّم واضح. ويجب البدءة في مسح الجبيرة إذا كانت في محلّ الغسل في جميع فروضها من الأعلى كما في الأصل، بل يجب مراعاة سائر ما يجب مراعاته في الأصل، اقتصارا فيما يسقط من أحكام الغسل مع الجبيرة على مورد النصّ .

الثاني: إذا تمكن من نزع الجبيرة وامسح على البشرة خاصّة

ففي تعيّن المسح عليها وتقديمه على الشيخ على الجبيرة، أو جواز الاكتفاء بالمسح على الجبيرة مطلقا وجهان: من قاعدة وجوب مراعاة الأقرب إلى الواجب المفروض كونه متعذّرا، ومن إطلاقات فتاوي الأصحاب ونصوص الباب، ولا سيّما خبر عبد الأعلى القاضية يكون مناط للمسح على الجبيرة تعذّر الغسل ولو لخوف الضرر وإيذاء الماء وإن تيسّر للمسح على تقدير إمكان النزع.

ويمكن المناقشة في القاعدة بأنّ مراعاة الأقرب اعتبار لا يشهد له هنا شيء من الأدلّة حتّى الإجماع، وإلّا لم يخل كلماتهم عن التعرّض لحكم هذا الفرع، كيف وهم في الجرح المجرّد عن الجبيرة على ما يأتي غير جازمين بلزوم مراعاة المسح على البشرة فكيف به هنا. والتمسّك له بقاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور» واضح المنع على

ص: 665


1- مصابيح الظلام 425:3.

تقدير جريان هذه القاعدة في القيود أيضا، لوضوح عدم كون مباشرة اليد للبشرة في محلّ الغسل من الغسل الواجب جزءا ولا قيدا ولا لازما عاديا، كما يعلم ذلك بملاحظة ما تقدّم من تباين مفهومي الغسل والمسح، وعدم كون الدلك وإمرار اليد مخوذا في ماهيّة الغسل.

ويمكن القدح في الإطلاقات بقوّة احتمال ورودها مورد الغالب، من أنّه مهما تعذّر النزع للغسل تعذّر للمسح أيضا، ولو لخوف الضرر بوصول الماء إلى المحلّ المجبور ولو نحو ما يستلزمه المسح، كما نصّ عليه الوحيد البهبهاني في المحكيّ عنه في شرح المفاتيح(1) في مسألة الجرح والقرح الخاليين عن الجبيرة، حيث إنه بعد ما جعل المسح عليهما أحوط حمل قول الصادق عليه السلام في خبر ابن سنان «يغسل ما حوله» على صورة ما لو تضرّر بالمسح، تعليلا بأنّ الغالب أنّه إذا تضرّر بالغسل تضرّر بالماء مطلقا.

وبالجملة فالمسألة لا تخلو عن إشكال قويّ ، لعدم اتفاق العثور في النصوص ولا في كلماتهم على ما يطمئنّ به ويسكن إليه النفس، فالاحتياط بالجمع بين المسحين لا يترك، وأحوط منه إضافة التيمّم إليهما معا.

الثالث: إذا التصق بالجراحة أو القرحة أو نحوهما بلا اختيار منه في غير موضع الضرورة أو الحاجة ما تعذّر نزعه من خرقة أو قطنة أو غيرهما،

ففي إلحاقه بالجبيرة وما بحكمها في وجوب المسح عليه إشكال، من عدم ظهور اندراجه في إطلاق الأخبار، لمكان انصرافه سؤالا وجوابا إلى الحاجب الحاصل لضرورة، وأشكل منه ما لو ألصق اختيارا بلا ضرورة ولا حاجة دعت إليه ما تعذر نزعه، لكن عن الذكرى(2)التصريح بإلحاقه بالجبيرة في الصورتين.

وربّما يوجّه بإدراجه في القاعدة المستفادة من مثل قولهم «الميسور لا يسقط بالمعسور» وخصوص رواية عبد الأعلى، فإنّ إحالة استفادة المسح على المرارة الى الآية النافية للحرج لمجرّد نفي وجوب المسح على البشرة، ظاهرة في أنّ الواجب هو الاقتصار في الترك على ما تعذّر من مباشرة الماسح للممسوح من دون سقوط الأصل

ص: 666


1- مصابيح الظلام 433:3.
2- الذكرى 200:2.

من غسل أو مسح.

وفي التمسّك بالقاعدة ما غرفت من عدم جريانها في نظائر المقام، والسرّ فيه مع ما أشرنا إليه أنّ الحكم على الميسور بعدم السقوط الظاهر في السقوط عن الذمّة، يعطي كون المراد بكلّ من الميسور والمعسور ما دخل في مورد التكليف بكونهما جزءين خارجيين، كما لو كان المورد كلّا مجموعيّا تعذّر أو تعسّر بعض أجزائه أو جزءين عقليّين على إشكال فيه، كما لو كان ماهيّة مقيّدة تعذّر أو تعسّر قيدها، فلا يسقط حينئذ الميسور منهما مع سقوط معسوريهما أو بسبب سقوطه، بناء على احتمالي المصاحبة والسببيّة في لفظة «الباء».

ولا ريب في عدم دخول الشيخ على الحاجب في مورد التكليف الأصلي من غسلات الوضوء، لا بعنوان الأجزاء الخارجيّة ولا بعنوان الأجزاء العقليّة، وقضية ذلك الاقتصار على غسل باقي العضو لأنّه الميسور ممّا تعذر بعض أجزائه الخارجّية إن كان النظر إلى الوضوء أو العضو المتعذر غسل بعضه، أو مراعاة غسل الحاجب لأنه الميسور، فما تعذر أحد جزءيه العقليّين إن كان النظر إلى الموضع المتعذر غسله لوجود الحاجب، بناء على كون مباشرة الماء للبشرة اللازمة في غسل البشرة من قبيل القيود.

أمّا الاستناد إلى الرواية، فيزيّفه: أنّ إشكال الراوي لمّا كان في الوضوء التامّ الّذي امر به لأجل الصلاة من جهة صيرورته حرجا لوجود المرارة في موضع المسح، فعلّمه الإمام عليه السلام طريق الاستدلال بالآية لنفي التكليف عن مورد السؤال ونظائره ممّا دخل في عنوان الحرج، وهذا لا يقتضي انتقال التكليف إلى بدل له، فضلا عن تعيين البدل وكونه مسح الحاجب في موضع الغسل.

أمّا أمره عليه السلام بالمسح على المرارة في محلّ مسح البشرة ليس تبيها على نتيجة هذا الاستدلال، بل هو حكم آخر أعطاه الإمام عليه السلام من دون استفادة له عن مجرّد نفي الحرج، فلابدّ من الاقتصار فيه على مورده، وهو كلّ حاجب متعذّر نزعه حصل في محلّ الشيخ لضرورة مّا طرأ عليه من الجراحة أو القرحة أو غيرهما، ولو سلّمنا ظهور مناط كلّي مطرد في مواضع الغسل لكان مقصورا على الحاجب لضرورة لا مطلقا، لظهور سياق الرواية سؤالا وجوابا فيه لا غير، ومع ذلك فهو لا يقتضي إلّا بدليّة غسل

ص: 667

الحاجب عن غسل البشرة لا المسح عليه، والمقصود إلحاقه في مفروض المسألة بالجبيرة في مشروعيّة المسح عليه مطلقا.

وبالجملة فالوجوه المحتملة في مفروض المسألة أربع: سقوط التكليف عن الوضوء بالمرّة وانتقاله إلى التيمّم، وبقاء التكليف به مع الاقتصار فيه على غسل ما بقي من العضو أو مسحه، وبقاؤه مع غسل الحاجب في محلّ الغسل ومسحه في محلّ المسح، وبقاؤه مع المسح عليه، ولا يستفاد من قاعدة «الميسور» ولا الرواية أحد هذه الوجوه على التعيين بحيث يطمئنّ به النفس، فالاحتياط في نحوه بالجمع بين المسح عليه أوّلا مطلقا، ثمّ غسله إذا كان في موضع الغسل، ثمّ التيمّم ممّا لا يترك.

وقد يذكر في المقام بالنسبة إلى ما لو حصل اللصوق باختيار منه وجه آخر، وهو بقاء التكليف بالوضوء التامّ وإن كان تكليفا بالّمحال أو المعسر، استنادا إلى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار وهو مقطوع الفساد، وممّا يؤيّد عدم مشروعيّة المسح على الحائل في مفروض المسألة موثقة عمّار قال: «سئل أبو عبدالله عليه السلام عن الرجل ينقطع ظفره هل يجوز له أن يجعل علكا؟ قال: لا، ولا يجعل عليه إلّا ما يقدر على أخذه عنه عند الوضوء، ولا يجعل عليه ما لا يصل إليه الماء»(1) بناء على أنّ السائل إنّما سأل عن جواز جعل العلك على موضع الظفر المنقطع، لا لضرورة الانقطاع بل اتّخاذا منه ما يكن له شبه ظفر، بأن يكون العلك الموضوع عليه قائما مقام ظفره المنقطع كما هو ظاهر السؤال، فلو أنّ المسح على الحائل فيه وفي نظائره ممّا يوضع عبثا كان مشروعا لما كان في المنع عن وضعه مع المبالغة فيه وجه، لكن يحتمل فيه الكراهة، ولو حمل السؤال على صورة الضرورة وجب حمل الجواب على صورة عدم تضرّر البشرة بوصول الماء إليها، فتأمّل.

الرابع: إذا كان ظاهر الجبيرة نجسا وأمكن تطهيرها أو إزالة النجاسة عنها وجب بلا خلاف لوجوب المقدّمة،

وإن لم يمكن فالمشهور وضع طاهر عليها ومسحه، بل عن المدارك أنّه لا خلاف فيه(2) وعن الذكرى(3) أنّه احتمل إجراءهما مجري الجرح في

ص: 668


1- الوسائل 4641 الباب 39 من ابواب الوضوء ح 6.
2- المدارك 237:1.
3- الذكرى 198:2.

الاكتفاء بغسل ما حولها، وعن شرح المفاتيح(1) احتمال أنّه ينتقل إلى التيمّم، وربّما يحكى قول بالمسح على الجبيرة النجسة، وليس لشيء من هذه الاحتمالات وجه يعتمد عليه حتّى ما صار إليه المشهور، فإنّ المسح على الظاهر الموضوع على الجبيرة ليس من المسح على الجبيرة في ظاهر الأخبار، ولا أنّ وضع الطاهر عليها تطهير لها ليجب من حيث المقدّمية، والاحتياط في نحوه أيضا بالجمع بين الوجوه الثلاث بل الأربع بانضمام التيمّم ممّا لا يترك.

الخامس: إذا كانت الجبيرة أو غيرها من الحواجب الضروريّة من الأطلية ونحوها على أعضاء المسح،

فإن لم تكن مستوعبة لمحلّ المسح ولو ببقاء أقلّ ما يقع فيه مسمّى للمسح كفاه المسح على هذا المقدار بلا إشكال، وإن كانت مستوعبة فإن أمكن نزعها والمسح على البشرة إذا كانت طاهرة أو كانت نجسة لكن أمكنه تطهيرها وجب النزع والمسح بلا خلاف، تحصيلا لحقيقة المسح المأمور به المفروض إمكان حصوله، ولا يجزئه مجرّد إيصال الماء إلى البشرة من دون نزع بتكرير أو غمس في الماء هنا على خلاف ما مرّ في اعضاء الغسل.

وإن لم يمكن نزعها وجب المسح عليها بلا خلاف أيضا كما عن شرح المفاتيح(2)وغيره، لخبر المرارة الظاهر في فرض الواقعة في الرجل الّذي هو من محلّ المسح، ويتناوله غيره ممّا مرّ لا سيّما صحيحة الحلبي لما في السؤال من التعميم الكاشف عن اعتقاد السائل بوحدة الحكم في جميع مواضع الوضوء المعصّبة بالخرقة من حيث للمسح وغيره.

ولا ينافيه قصور الجواب باعتبار ذيله عن العموم بالنسبة إلى محلّ المسح حيث عبّر فيه بالغسل الغير الجاري هنا إلّا باعتبار إرادة ما يعمّه مجازا، لقوّة احتمال كونه مساهلة في الأداء إحالة لاستفادة العموم ممّا اعتقده السائل من وحدة الحكم، هذا مع ما في إطلاق المسح في صدر الجواب من الإيماء إلى تقرير السائل فيما اعتقده بل الظهور فيه.

ص: 669


1- مصابيح الظلام 425:3 و 422.
2- مصابيح الظلام 425:3 و 422.

وفي اعتبار كون هذا المسح باعتبار كونه بدلا عن مسح الأصل ببلّة الوضوء كما في الأصل أو بالماء الجديد؟ وجهان: من قاعدة مساواة البدل للمبدل، ومن ظهور مساق نصوص الباب الآمرة بإطلاقها بالمسح فيه بالماء الجديد، وربّما يحتمل التخيير بينهما بناء على إطلاق المسح في الآمرة به، ولم نقف من الأصحاب على نصّ في ذلك، والاحتياط في الشيخ بهما معا وفي الاكتفاء مسمّي المسح هنا كما في الأصل وجه قويّ .

وهلي جب تكراره بحيث يصل الماء إلى ما تحتها إن أمكن وكان طاهرا ولا يتضرّر بوصوله ؟ قولان، أشهرهما الثاني وأحوطهما الأوّل، بل هو أظهرهما عند المحقق الثاني في جامع المقاصد(1) استنادا إلى أنّ «الميسور لا يسقط بالمعسور» وجنح إليه الفاضل الهندي(2) وقوّاه صاحب الحدائق(3) محتجّا بأنّ في المسح أمرين: احدهما إمرار اليد على البشرة، وثانيهما إيصال الماء إليها، وإذا تعذّر الأوّل لا يسقط الثاني لعموم ما ورد عن عليّ من «أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور»(4) و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(5)واحتجّ أيضا بما لا كرامة في التعرّض لنقله.

وربّما يكون اختياره لازما لمن جعل غسل الغسلين عند التقيّة إذا تأدّت به أرجح من المسح على الخفين حيثما دار الأمر بينهما، وإن أوجبنا المسح بالبلّة هنا سقط هذا المبحث، لأنّ البلّة الباقية من الوضوء في الغالب ليس لها استعداد في الكثرة بحيث أوجب تكرار المسح على الجبيرة وصولها إلى ما تحتها من البشرة، وعلى هذا فيمكن أخذ بناء الجماعة على إيجاب التكرار لغاية وصول الماء إليها شاهدا بعدم التزامهم بالمسح بالبلّة هنا، كما أنّهم غير ملتزمين به في محلّ الغسل، وطريق الجمع بين الاحتياط هنا والاحتياط في المسألة السابقة أن يمسح أوّلا بالبلّة ثمّ يمسح بالماء على وجه التكرار.

السادس: إذا كان على موضع الغسل جرح مجرّد عن الجبيرة والخرقة وغيرها

من

ص: 670


1- جامع المقاعد 233:1.
2- كشف اللثام 576:1.
3- الحدائق 383:2.
4- عوالي اللآلئ 58:4/205 و 207.
5- عوالي اللآلئ 58:4/205 و 207.

الأدوية والأطلية، وفي حكمه القرح والكسر المجرّدان على ما يقتضيه ظاهر كلام الأصحاب، فلا إشكال في وجوب غسله إن أمكن بلا خوف ضرر من تلف أو زيادة أو نحوه، وإن لم يمكن غسله ففي الاكتفاء بغسل ما حوله مطلقا، أو إذا لم يمكن المسح عليه مطلقا، أو إذا لم يمكن المسح ولا وضع لصوق عليه والمسح على اللصوق، وجوه بل أقوال، ثالثها ما ذهب إليه الشهيد في الدروس تبعا للعلّامة في المنتهى ونهاية الإحكام(1) وتبعهما شارح المفاتيح وصاحب روض الجنان(2).

وأوّلها ما ذهب إليه جماعة من المتأخّرين ومتأخّريهم، وربّما عزي الثاني إلى نصّ الأصحاب، كما في ظاهر المحكيّ عن جامع المقاصد «أنّ الأصحاب نصّوا على أنّ الجرح الّذي لا لصوق عليه والكسر الّذي لم يوضع عليه جبيرة إذا تضرّر بالماء يكفي غسل ما حوله»(3) انتهى.

وأدلّة هذه الأقوال مدخولة، إذ ليس للأوّل إلّا ما في ذيل صحيحة الحلبي «سألته عن الجرح كيف أصنع به في غسله ؟ قال: اغسل ما حوله»(4) وصحيحة عبد الله بن سنان «عن الجرح كيف يصنع صاحبه ؟ قال: يغسل ما حوله»(5) فإن إطلاقهما مع السكوت عن مسح البشرة يقتضي عدم الفرق بين التمكن من المسح وعده ويخدشه قوّة احتمال خروجه مخرج الغالب من استلزام التضرّر بالماء في الغسل تضرّر به أيضا في المسح، وقد تقدم عن المحقّق البهبهاني عبارة في دعوى هذه الملازمة المستندة إلى الغلبة.

وليس للثاني إلّا ما عن نهاية الإحكام من «أنّ المسح أحد الواجبين لتضمّن الغسل إيّاه فلا يسقط بتعذّر أصيله»(6) وربّما يعلّل بأنّ فيه تحصيلا لشبه الغسل لتعذر حقيقته.

ولا للثالث إلّا ما قيل من أنّ المسح بدل عن الغسل فينتسب إليه بقدر الإمكان.

وضعف الكلّ واضح، أمّا الأوّل: فلمباينة للمسح للغسل كما عرفت مرارا، وأمّا الثاني: فلأنّ وجوب تحصيل الشبه بعد تعذّر الحقيقة ممّا لابدّ له من دليل

ص: 671


1- الدروس 99:1، المنتهى 131:2، نهاية الإحكام 64:1.
2- مصابيح الظلام 432:3، روض الجنان 118:1.
3- جامع المقاصد 515:1.
4- الوسائل 463:1 الباب 39 من ابواب الوضوء ح 2.
5- الوسائل 464:1 الباب 39 من ابواب الوضوء ح 3.
6- نهاية الإحكام 66:1.

مفقود في المقام، ومجرّد كونه شبها غير صالح له، وأمّا الثالث: فلمنع عموم بدليّة المسح عن الغسل.

وتوهّم وجوب وضع الجبيرة مقدّمة لثبوت وجوب المسح عليها مطلقا، مدفوع بظهور أوامر المسح على الجبيرة في ذي الجبيرة الموضوعة لضرورة الإصلاح، فتكون مشروطة بسبق وجودها.

هذا لكن الأقوى هو القول الأوّل عملا بالأصل النافي لوجوب ما زاد على غسل ما حول الجرح، من حيث إنّه لا دليل على الوجوب، فيؤول الشك إلى كونه في التكليف بالزائد، إلّا أنّ الأحوط هو الشيخ على البشرة أيضا مع إمكانه.

أمّا وضع اللصوق عليها فينبغي القطع بعدم وجوبه أمكن المسح عليها أو لم يمكن، لظهور عدم تعرّض الروايتين له في العدم خصوصا رواية عبدالله بن سنان المشتملة على السؤال عن كيفيّة الوضوء مع الجرح كما لا يخفى، هذا مضافا إلى الأصل المشار إليه.

ثمّ إنّ الغسل مثل الوضوء في جميع الأحكام المذكورة فذو الجبيرة يمسح عليها بشرائطه المتقدّمة، وذو الجرح ونحوه غسل ما حوله بالشرط المتقدّم، لعموم خبر كليب الأسدي وخصوص العيّاشي في الأوّل، وعموم صحيحة عبداللّه بن سنان وخصوص صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج في الثاني، والظاهر أنه ممّا لا خلاف فيه بين الأصحاب بل المحكيّ عن الذكرى من نسبته إلى ظاهر الأصحاب(1) ونحوه ما عن المنتهى(2) بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه، وفي كلام جماعة كما عن الذكرى والتذكره(3) إلحاق التيمّم بالطهارتين في إيجاب المسح على الجبيرة لو كانت في مواضع التيمّم لمن استضرّ بنزعها والمسح على البشرة، وعلّلوه ببقاء التكليف بالصلاة المشروطة بالطهارة المنحصرة هنا في ذلك.

وإذا لم يتمكن ذو الجبيرة في الطهارتين من للمسح عليها وذو الجرح عن غسل ما حوله ولو لخوف الضرر انتقل فرضه إلى التيمّم، كما أنّه كذلك لو كان الكسر أو ما يجري مجراه في غير اعضاء الوضوء ولكن يتضرّر بغسل أعضائه أو مسحها، ومثله

ص: 672


1- الذكرى 199:2.
2- المنتهى 130:2.
3- الذكري 199:2، التذكرة 209:1.

ما لو كان العضو مريضا كالوجع في العين ونحوها واستضرّ بالغسل أو المسح، كما نصّ على ذلك جماعة.

تذنيب: ربّما يتوهّم الإجمال والاضطراب في كلمات الفقهاء هنا وفي باب التيمّم.

حيث إن ظاهرهم الإطباق هنا على أنّ الجرح والقرح المجرّدين بغسل ما حولهما عند التمكن منه، ويمسح نفس الجرح والقرح عند جماعة منهم مع إمكانه ومع عدمه يمسح على طاهر موضوع عليهما عند جماعة أيضا، وفي باب التيمّم جعلوا من مسوّغاته الخوف من استعمال الماء بسبب الجرح والقرح والشين، ولم يشترطوا ثمّة تعذّر المسح أو وضع شيء عليها والمسح عليه، وأوّل من سبقه هذا الإشكال ظاهرا صاحب المدارك(1) وتبعه غيره، قال في المدارك: «واعلم أنّ في كلام الأصحاب في هذه المسألة إجمالا، فإنّهم صرّحوا هنا بإلحاق الجرح والقرح بالجبيرة سواء كان عليهما خرقة أم لا، ونصّ جماعة منهم على أنّه لا فرق بين أن يكون الجبيرة مختصّه بعضو أو شاملة للجميع، وفي التيمّم جعلوا من أسباب الخوف من استعمال الماء بسبب القرح والجرح والشين ولم يشترط أكثرهم في ذلك تعذر وضع شيء عليها والمسح عليه، وأمّا الأخبار ففي بعضها أنّ من هذا شأنه يغسل ما حول الجرح وقد تقدّم، وفي كثير منها أنّه ينتقل إلى التيمّم...»(2) الخ.

أقول: التدبّر في كلماتهم الواقعة في المقامين يعطي أنّ كلامهم في مسألة غسل ما حول الجرح وما أشبهه، مفروض فيمن تمكن منه ولم تستضرّ به ولا بالمسح على الجرح أو وضع شيء عليه ثمّ الشيخ عليه، كما أنّ كلامهم في للمسح على الجبائر مفروض في المتمكن منه، بخلاف كلامهم في باب التيمّم المشروع لذي الجرح والقرح، فإنّه مفروض فيمن لم يتمكن من الغسل المذكور ولا المسح على الجرح، ولذا يذكرونه في فروع عدم التمكن من استعمال الماء الّذي اعتبروه من مسوّغات التيمّم وأحد شروطه، وإن شئت لاحظ نهاية الشيخ فإنّه عند ذكر الشروط قال: «أمّا الّذي يجب عليه التيمّم، فكلّ من عدم الماء من المكلّفين للصلاة، أو وجده غير أنّه لم يتمكن من

ص: 673


1- المدارك 238:1.
2- المدارك 238:1.

استعماله من برد شديد، أو مشقّة عظيمة تلحقه، أو مرض يخافه...»(1) إلى آخر ما ذكره. ثمّ أخذ بذكر أمثلة عدم التمكن فقال في جملتها: «وصاحب القروح والمكسور والمجدور إذا خافوا على نفوسهم استعمال الماء وجب عليهم التيمّم عند حضور الصلاة» وعنه في المبسوط في باب التيمّم «ومن كان بعض جسده أو بعض اعضاء طهارته ما لا ضرر عليه والباقي عليه جراح أو عليه ضرر في إيصال الماء إليه جاز له التيمّم، ولا يجب عليه غسل الأعضاء الصحيحة، فإن غسلها وتيمّم كان أحوط سواء كان الأكثر صحيحا أم عليلا، وإذا حصل لبعض أعضاء طهارته نجاسة ولا بقدر على غسلها لألم فيه أو قرح أو جرح تيمّم وصلّى ولا إعادة عليه»(2). وعنه نحو ذلك في الخلاف(3) وفي المعتبر «أنّه لو تضرّر بعض أعضائه بالماء لمرض تيمّم ولم يغسل الصحيح - إلى أن قال -: وكذا لو كان بعض أعضائه نجسا ولا يقدر على طهارته تيمّم وصلّى ولا يعيد»(4) ويقرب ممّا ذكر عبارات غيرهم من فحول أصحابنا، ولأجل هذا كلّه قال الوحيد البهبهاني في محكيّ شرح المفاتيح: «إنّ من تأمّل في كلام الأصحاب في مبحث التيمّم ظهر له أنّه طهارة اضطراريّة والوضوء طهارة مائية فمتى صحّت الماليّة كيف تصحّ الترابيّه، فأيّ إجمال في كلامهم فإذا صرّحوا بإلحاق الجرح والقرح بالجبيرة صرّحوا بأنّه طهارة مائية صحيحة، ففي التيمّم إذا جعلوا من أسبابه الخوف من استعمال الماء بسبب القروح والجروح لا شبهة في كون هذا التيمّم بعد العجز عن تلك الماليّة، وكيف يمكن تجويز غير هذا عليهم ؟ فمرادهم أنّ هذا إذا لم يمكن غسل ما حولها، ولم يمكن المسح على الجبيرة، إذ ظاهرهم الاتفاق على وجوب هذا الشيخ على ما صرّحوا به، بل ادّعى الإجماع غير واحد...»(5) الخ.

وربّما يتوهّم التنافي بين اخبار التيمّم الواردة في المجروح ونحوه إذا أجنب، وما تقدّم في الجرح من الأخبار الآمرة بغسل ما حوله، وأوّل من سبق إليه هذا التوهّم أيضا صاحب المدارك كما أشار إليه في ذيل عبارته المتقدّمة، ثمّ ذكر طائفة من اخبار

ص: 674


1- النهاية 258:1-259.
2- المبسوط 35:1.
3- الخلاف 154:1.
4- المعتبر 410:1.
5- مصابيح الظلام 438:3.

التيمّم، ثمّ تصدّى للجمع إمّا بحمل أخبار التيمّم على ما إذا تضرّر بغسل ما حوله، أو بالتخيير بين الأمرين.

أقول: المتامّل في مساق هذه الأخيار أيضا يجزم بعدم تناف بينها وبين ما تقدّم، من حيث إنّها وإن كانت في صور. الإطلاق، غير أنّها لاختصاص موردها بالجنابة خرجت مخرج الغالب من أن الجنب المجروح أو المقروح أو المجدور أو المكسور يتضرّر بكشف بدنه للاغتسال لبرودة الهواء أو إصابة الرياح أو نحو ذلك، فتكون مخصوصة بصورة الخوف على التلف أو زيادة المرض أو بطؤ برئه ولّو لغير جهة استعمال الماء، بخلاف الآمرة بغسل ما حول الجرح فإنّها مخصوصة بصورة التمكن من الغسل، وإنّما يتمكن عند انتفاء الضرر لا مطلقا، وقد ذكروا وجوها أخر للجمع لا يكاد يستقيم شيء منها يطّلع عليها المتتبّع.

وإذا زال السبب المجوّز للاكتفاء بهذه الطهارة الناقصة فكوضوء التقيّة وقد مرّ البحث عنه بجميع فروعه مستوفي فلا حاجة إلى الإعادة هنا. وعلى المختار من وجوب إعادة الوضوء للصلاة الغير المأتيّ بها حال العذر. فإن توهّم البرء فكشف للإتيان بالوضوء التامّ فظهر عدمه، فوجوب الإعادة وعدمه حينئذ مبنيّ على الأمن من الضرر بوصول الماء إلى البشرة بالغسل أو بالمسح وخوفه، سواء احتاج إلى الجبيرة وما يجري مجراها ثانيا أو لا؟ فما عن الذكرى تفريعا على القول بالإعادة «من أنه لو توهّم البرء فكشف فظهر عدمه، أمكن وجوب إعادة الوضوء، لظهور ما يجب غسله، ووجه العدم ظهور بطلان ظنّه»(1) ليس بجيد، لأنّ ظهور ما يجب غسله مع خوف الضرر لا يجدي في وجوب الإعادة المتضمّنة لغسل هذا العضو أو مسحه، كما أنّ ظهور بطلان الظنّ مع الأمن من الضرر لا يجدي في نفي وجوبها، لأنّه يصير حينئذ كمن أمكنه غسل البشرة بنزع الجبيرة ابتداء.

وفي الجواهر بعد ما اختار القول بعدم وجوب الإعادة بعد زوال العذر قال تفريعا عليه: «نعم يتّجه الإعادة فيما لو ظهر سبق البرء وكان لا يعلم»(2) وكان مبناه على توهّم

ص: 675


1- الذكرى 201:2.
2- الجواهر 311:2.

كون السبب المسوّغ للاكتفاء بالوضوء الناقص هو الضرر الواقعي، فإذا تبيّن انتفاؤه بانكشاف فساد الطريق إليه وهو الظنّ تعيّن الإعادة لوقوع الوضوء الأوّل في غير موضوعه، ويشكل: بأنّ ظاهر أدلّة الباب كفتاوي الاصحاب كون السبب هو خوف الضرر وظنّه فهو موضوع الحكم في الوضوء الناقص. فلا جهة لوجوب أعادته في الصورة المفروضة لوقوع الوضوء الأوّل في موضوعة الواقعي.

ثمّ إنّه قد ظهر لك من تضاعيف المسألة أنّ المكلّف إذا تعذر عليه الوضوء الكامل التامّ الأفعال فتكليفه لا يخلو عن الوضوء الناقص حسبما يقتضيه العذر الطارئ عليه وعن التيمّم بدلا عن الوضوء، فكلّ واقعة من الأعذار إن ثبت اندراجها في أدلّة الوضوءات الناقصة الموجودة في الجبائر وما يجري مجراها وغيرها ممّا تقدّم في بحث المسح على الخفّين ونحوه فلا إشكال، كما أنّه لو ظهر اندراجها في أدلّة التيمّم فلا إشكال، أمّا لو لم يظهر اندراجها في أدلّة شيء من المقامين كان التكليف مردّدا بين الوضوء الناقص والتيمّم، وقضية الأصل بمعنى قاعدة الشغل بالنسبة إلى الصلاة المشروطة بالطهارة المستدعية ليقين البراءة هو الجمع بينهما، لرجوع الشك إلى أنّ هذه الصلاة المأمور بها هل تنحقّق بالوضوء الناقص أو بالتيمّم ؟ فيكون من باب الشك في المكلّف به مع دوران الأمر بين المتبائنين، ولا ريب أنّ يقين البراءة في نحوه لا يتأتّى إلّا بالجمع.

لا يقال: إنّ الأمر بالتيمّم في الآية وإن كان معلّقا على عدم وجدان الماء إلّا أنّ المراد بعدم وجدانه على ما كشفت عنه الأدلّة الخارجيّة الواردة في أبواب التيمّم هو العجز عن استعمال الماء، إمّا لفقده رأسا أو عدم الوصلة إليه أو حصول مانع عن استعماله كالبرد والمرض، ومحصّله أنّ مشروعيّة الطهارة الترابيّة مشروطة بعدم التمكن من الطهارة المائيّة، والمفروض بمقتضى أدلّة الجبائر وجواز التقيّة في مسح الخفّين وغيرها أنّ المائيّة الّتي يكون عدم التمكن منها شرط للمشروعيّة الترابيّة أعمّ من الوضوء التامّ والوضوء الناقص، فلا يكلون شرط التيمّم في مفروض المسألة محرزا، لمكان التمكن من المالئة الناقصة على النحو المفروض فيها، وقضية ذلك تعيّن الوضوء الناقص.

ص: 676

لأنّا نقول: إنّ قيام الوضوء الناقص مقام الوضوء التامّ في منع تحقّق شرط مشروعيّة التيمّم إنما ثبت على طريقة القضيّة المهملة، إذ ليس في أدلّة الوضوءات الناقصة عموم أو إطلاق يقضي بمشروعيّة الوضوء الناقص بجميع أفراده وفروضه، بل هي أدلّة خاصّة وردت في فروض مخصوصة، ولم ينقّح فيها مناط كلّي يرجع إليه في الفروض المشكوكة، فكما أنّه يشك في مشروعيّة التيمّم للشك في تحقّق شرطه، فكذلك يشك في مشروعيّة هذا الوضوء الناقص، ونحن إن لم نقل بكفاية أصالة عدم المشروعيّة في إحراز الشرط كما هو الحق الواضح الّذي ينبغي الإذعان به، فلا أقلّ من الوقف في تعيين الوضوء.

نعم لو صحّ العمل بعموم قاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور» و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» مع صحّة تعميمها بالنسبة إلى القيود أيضا لكفى في إثبات مشروعيّة الوضوء الناقص بقولي مطلق. غير أنّه خلاف ما يظهر من طريقة الأصحاب في نصوصهم وفتاويهم، لكون الفروض الداخلة في باب الوضوء ونحوه تحت هذه القاعدة قبالا للفروض المخرجة عنها في غاية القلّة كما لا يخفى على المتتبّع. فتكون هذه القاعدة بنفسها مسترابا فيها فلا يجوز التعويل عليها في إثبات عموم مشروعيّة الوضوء الناقص، واللّه العالم.

المسألة السادسة: قال الشيخ في الخلاف «إنّ صاحب السلس - وهو الّذي يتقاطر بوله ولا يتمكن من إمساكه - يتوضّأ لكلّ صلاة كالمستحاضة»
اشارة

المسألة السادسة: قال الشيخ في الخلاف «إنّ صاحب السلس - وهو الّذي يتقاطر بوله ولا يتمكن من إمساكه - يتوضّأ لكلّ صلاة كالمستحاضة»(1)

وتبعه المحقق في كتبه الثلاث(2) والعلّامة في أكثر كتبه(3) والشهيد في الذكرى والدروس والبيان(4) وهو الأشهر كما عن الكفاية والذخيرة(5) والمشهور كما عن جامع المقاصد(6) بل عن الخلاف نقل الإجماع عليه فيه وفي المستحاضة(7) لكن عن الذكرى أنّ إجماع الخلاف خاصّ بالمستحاضة(8) وهب في المبسوط إلى «أنّ لصاحب السلس أن يصلّي بوضوء

ص: 677


1- الخلاف 249:1.
2- الشرائع 23:1، المختصر: 6، المعتبر 163:1.
3- التذكرة 206:1، المنتهى 137:2، المختلف 310:1.
4- الذكرى 201:2، الدروس 94:1، البيان: 12.
5- الكفاية: 3، الذخيرة: 39.
6- جامع المقاصد 234:1.
7- الخلاف 249:1.
8- الذكرى 201:2.

واحد صلوات كثيرة، لأنه لا دليل على وجوب تجديد الوضوء، وحمله على المستحاضة قياس لا نقول به»(1) وعن اليوسفي - صاحب كشف الرموز - الميل إليه بل اختياره تعليلا «بأنّ الوضوء لاستباحة الصلاة لا لرفع الحدث»(2).

وفي كلام جماعة(3) أنّ كلام الشيخ يحتمل وجهين، أحدهما: عدم جعل البول بالنسبة إليه حدثا بدعوى انحصار احداثه فيما عداه، والآخر عدم جعل ما يخرج بالتقاطر حدثا، أمّا الّذي يخرج بالطريق المعهود فهو حدث.

أقول: الوجه في جريان هذين الاحتمالين في كلامه، أنّ أثر الوضوء الواحد المكتفى به لصلوات كثيرة لابدّ وأن يكون مغيّا بغاية، وهي إمّا حدوث ما عدا البول من الأحداث الأخر المناقضة للوضوء، فيلزم أن لا يكون البول في حقّه ناقضا بقول مطلق، أو أحد الأمرين من البول بالطريق المعهود، أو ما عدا. من الأحداث فيلزم أن لا يكون ما يخرج من البول بالتقاطر حدثا ناقضا للوضوء.

وعن العلّامة أنّه يجوز له أن يجمع بين الظهرين بوضوء واحد وبين العشاءين كذلك ويفرد الصبح بوضوء(4) وعن المدارك والحدائق تقوية هذا القول(5) وعن مجمع البرهان نفي البعد عنه(6) وعن السرائر في كتاب الصلاة «المريض من سلس البول على ضربين، أحدهما: أن يتراخى زمان الحدث عنه فليتوضّأ للدخول في الصلاة، فإذا بدره الحدث وهو فيها خرج من مكانه من غير استدبار للقبلة ولا تعمّد لكلام ليس من الصلاة فتوضّأ وبنى على صلاته، والضرب الثاني: أن يتبادره على التوالي من غير تراجع بين الأحوال، فينبغي أن يتوضّأ عند دخوله إلى الصلاة ويستعمل خريطة يجعل فيها احليله ويمضي في صلاته، ولا يلتفت إلى الحادث المتبادر على اتّصال الأوقات، فإذا فرغ من الصلاة الأولى توضّأ وضوءا آخر للفريضة الثانية ولا يجمع بين صلاتين بوضوء واحد...»(7) انتهى.

وعلى هذا يصير الأقوال أربعة. ويمكن إرجاع الثلاث الأولى إلى هذا التفصيل بناء

ص: 678


1- المبسوط 68:1.
2- كشف الرموز 69:1.
3- كما في مفتاح الكرامة 549:2.
4- المنتهى 137:2.
5- المدارك 243:1، الحدائق 388:2.
6- مجمع الفائدة 113:1.
7- السرائر 349:1-250.

على كون محلّ نزاعهم ما لو خرج البول المتقاطر على نحو التوالي من دون فرصة ومهلة بين دفعاته، لكن لم نقف على من صرّح بهذا التنزيل، وإن كان يمكن استفادته من أكثر كلماتهم، وليس في الروايات ما يساعد بظاهره على شيء من هذه الأقوال حتّى قول المنتهى(1) وإن عزي إليه الاحتجاج بما رواه الفقيه في الصحيح عن حريز عين أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: «إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم، إذا كان حين الصلاة اتّخذ كيسا، وجعل فيه قطنا ثمّ علّقه عليه، وأدخل ذكره فيه، ثمّ صلّى يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر، يؤخّر الظهر ويعجّل العصر بأذان وإقامتين، ويؤخّر المغرب ويعجّل العشاء بأذان وإقامتين، ويفعل ذلك في الصبح»(2) بقريب أنّه لولا كفاية الوضوء الواحد لهما لما كان للجمع بينهما وجه، ثمّ تخصيص الصلاتين بالذكر يدلّ على نفي ما عداهما، فلا يكفي الواحد عمّا زاد عليهما.

وفيه من الضعف ما لا يخفى، فإنّ الجمع بين البول والدم ثمّ تعليم طريق التحفّظ على البول أو الدم عن السراية إلى الثوب أو البدن قرينة واضحة على تعرّض المعصوم لعلاج جهة خبثية البول الّتي هي كجهته الحدثيّة مانعة عن الصلاة، وما أفاده عليه السلام من طريق العلاج وإن كان لا يفيد التحفّظ الكلي على النجاسة بعدم وصولها إلى شيء من البدن والثوب، فإنّ الداخل من الذكر في الكيس لا ينفك عن وصول البول أو الدم إليه أو إلى رأسه وهو جزء من البدن، إلّا أنّه يفيد تقليلا وتحفّظا عن الزيادة، ولعلّ غرض الشارع هو التحفّظ بهذا المقدار لخروج التحفظ الكلّي عن حدّ الوسع والطاقة، فيكون فائدة الجمع بين الصلاتين بأذان وإقامتين مراعاة تقليل النجاسة عن الوصول إلى ما لا يجوز وصولها إليه من الثوب والبدن، ولذا قال: «يجمع بينهما بأذان وإقامتين» ولم يقل بوضوء واحد فلا تعرّض في الرواية لجهة حدثية البول ولا لحكم الوضوء من حيث كفاية الواحد منه لصلاتين وعدمها.

وأضعف منه ما في كلام بعضهم من الاحتجاج لمذهب المبسوط(3) بموثّقة سماعه

ص: 679


1- المنتهى 137:2.
2- الوسائل 297:1 الباب 19 من نواقض الوضوء ح 1.
3- المبسوط 68:1.

قال: «سألته عن رجل أخذه تقطير في فرجه إمّا دم أو غيره ؟ قال: فليصنع خريطة وليتوضّأ وليصلّ ، فإنّما ذلك بلاء ابتلي به، فلا يعيدنّ إلّا من الحدث الّذي يتوضّأ منه»(1)بتقريب: أنّ الحدث الّذي يتوضّأ منه لا يجوز أن يكون شاملا للبول أيضا، لأنّه يلزم حينئذ وجوب إعادة الوضوء أو الصلاة للتقطير في أثناء الصلاة، والمشهور أيضا لا يقول به، وإذا لم يكن شاملا للبول فثبت المطلوب، وحسنة منصور بن حازم قال:

«قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «الرجل يعتريه البول ولا يقدر على حبسه ؟ قال: فقال لى: إذا لم يقدر على حبسه فالله أولى بالعذر يجعل خريطة»(2) بتقريب: أنّ المعذوريّة إنّما يستلزم سقوط حكم الخارج مطلقا وإلّا لم يكن معذورا.

ووجه الضعف أمّا في الموثقة: فلأنّ سياق الجواب يرشد إلى أنّ شبهة الراوي إنّما كانت فيما يتقاطر عن الفرج من الدم وغيره من حيث خبثيته، باعتبار أنّه بتقاطره حال الصلاة هل يوجب من هذه الحيثّية الإخلال بهذه الصلاة الموجب لإعادتها أولا؟

وقوله عليه السلام في الجواب: «فلا يعيدنّ إلّا من الحدث الّذي يتوضّأ منه» إنّما يحسن بالنسبة إلى من كان يعرف حكم البول المتقاطر حال الصلاة باعتبار عدم كونه من حيث حدثيته موجبا للوضوء ليلزم منه بطلان هذه الصلاة الموجب لإعادتها لأجل وقوع الحدث في أثنائها، ولا منافاة بين معرفة عدم الإخلال من حيث الحدثيّة والشبهة في الإخلال من حيث الخبثية في الدم وغيره الشامل للبول أيضا، ولو باعتبار جهالة كيفيّة التحفظ بعد العلم الإجمالي بوجوبه، فقوله عليه السلام: «إلّا من الحدث الّذي يتوضّأ منه» حصر للمخلّ بالصلاة الموجب لإعادتها في الحدث المقيّد بكونه موجبا للوضوء بوقوعه في أثناء الصلاة.

ومحصّله أنّ المفسد للصلاة باعتبار وقوعه في أثنائها من حيث الخبثيّة كلّ حدث موجب للوضوء من حيث الحدثية إذا وقع في أثنائها، فخرج بالحدث ما ليس منه كالدم المتقاطر في أثنائها، ويقيّده ما لا يوجب الوضوء من الأحداث إذا وقع في

ص: 680


1- الوسائل 266:1 الباب 17 من ابواب الوضوء ح 9.
2- الوسائل 297:1 الباب 19 من أبواب نواقض الوضوء ح 2.

اثنائها كالبول المتقاطر، وقضيّة ذلك أنّ تقاطر البول في أثناء الصلاة لا يوجب تجديد الوضوء وإعادته ما دام التشاغل بها باقيا، وهذا ممّا يقول به ويسلّمه أصحاب جميع الأقوال الثلاث، ويبقى حكم الوضوء من حيث كفاية الواحد منه لصلوات كثيرة غير مستفاد من الرواية.

وأمّا في الحسنة فلأنّ رفع الحكم عن الخارج من حيث الخبثيه كاف في صدق المعذوريّة، والرواية من حيث تعرّضها للأمر بالخريطة وعدم تعرضها للوضوء لا تفيد أزيد من ذلك، والمفروض دنّ ما صار إليه المشهور من إيجاب الوضوء لكلّ صلاة لا ينافي المعذورية، لعدم كونه تكليفا بما فوق الطاقة، ولا بما فيه الحرج والمشقّة.

وأضعف من الجميع، توهّم الظهور من صحيحة الحلبي عن الصادق عليه السلام قال:

«سئل عن تقطير البول ؟ قال: يجعل خريطة إذا صلّى»(1) وبالجملة التأمّل في مساق الروايات المذكورة يعطي عدم كونها مسوقة إلّا لبيان طريق علاج النجاسة الخبثية المانعة عن الصلاة عمّا يتقاطر عن الفرج حال الصلاة من بول أو دم أو نحوهما، من دون نظر فيها سؤالا وجوابا إلى حكم الوضوء الدائر بين الأقوال المتقدّمة، فلابدّ من استعلام هذا الحكم على وجه ينطبق على أحدها بمراجعة القواعد العامّة أو الاصول الكلّية العمليّه.

فنقول: إنّ قول الشيخ في المبسوط - بعد ملاحظة أنّ سقوط التكليف بالصلاة رأسا الّذي يقتضيه الجمع بين ما دلّ على كون مطلق البول حدثا ناقضا للوضوء، ومادلّ على اعتبار الطهور في الصلاة، وما دلّ على بطلانها بوقوع الفعل الكثير فيها، وما دل على قبح التكليف بغير المقدور، وما دلّ على نفي العسر والحرج في الدين خلاف الإجماع - وإن كان يقتضيه أصل البراءة الّذي أشار إليه في تعليله، بقوله: «لأنّه لا دليل على تجديد الوضوء عليه، وحمله على المستحاضة قياس لا نقول به، وإنّما يجب عليه أن يشدد رأس الإحليل بقطن أو يجعله في كيس أو خرقة ويحتاط في ذلك»(2) انتهى.

نظرا إلى أنّ أصحاب الأقوال اجتمعوا على وجوب وضوء للصلاة، وهو مردّد بين

ص: 681


1- الوسائل 298:1 الباب 19 من أبواب نواقض الوضوء ح 5.
2- المبسوط 68:1.

الوضوء لكل صلاة أو الوضوء لكلّ صلاتين أو الوضوء الواحد لجميع الصلوات، والقدر المتيقّن من معقد هذا الإجماع هو الوضوء الواحد، فرجع الشك بالنسبة إلى الزائد إلى كونه شكا في أصل التكليف، فينفى بالأصل المشار إليه.

لكن يزيّفه: أنّ هذا الأصل إنّما يصلح مرجعا حيث يسلم عن معارض وارد عليه، وهو في المقام متشاغل بمعارضة أصالة عدم رفع المنع عمّا زاد على صلاة واحدة، وهو بعد ثبوت التكليف بأصل الصلاة كاف في إحراز التكليف بالوضوء لكلّ صلاة، فإنّ الوضوء الّذي يجب على المكلّف حال تقاطر بوله بالإجماع بل النصّ أيضا لا يجوز أن يكون هو الوضوء الرافع للحدث بمعنى الحالة الحاصلة من وقوع البول، لأنّ ارتفاع هذه الحالة مع وجود السبب المقتضي لها غير معقول، فوجب أن يكون هو الوضوء المبيح وإن لم يكن رافعا، ولذا لا يجوز به قصد الرفع عند معتبريه في نيّة الوضوء، فرجع الإجماع المتقدّم على اعتبار الوضوء هنا إلى أنّ الوضوء ممّن يتقاطر بوله مبيح على معنى الإجماع على أنّه يفيد استباحة الصلاة، ومعناه أنّه وإن لم يكن رافعا للمانعّ وهو أصل الحدث إلّا أنّه رافع لمنعه، إلّا أنّ معقد هذا الإجماع كمفاد النصّ الدالّ على اعتبار هذا الوضوء محمل، إذ لا يدري أنّ الوضوء الواحد يرفع المنع عن صلاة واحدة أو عن صلاتين أو عن جميع الصلوات، والقدر المتيقن هو الأوّل ويبقى ما عدا مشكوكا فيه، وقضيّه الأصل عدم الرفع والارتفاع بالنسبة إلى ما زاد على صلاة واحدة.

وليس لأحد أن يقول: إن الوضوء الأوّل أفاد إباحة وهي بعد الصلاة الأولى مستصحبة، ومعه لا حاجة إلى وضوء آخر للصلاة الثانية فصاعدة إلى أن يرفعها حدث آخر غير البول أو هو إذا خرج بالطريق المعهود، إذ لو أريد بالإباحة الحاصلة بالوضوء الأوّل ما هو بالنسبة إلى الصلاة الأولى المأتيّ بها فهو ليس بمحلّ بحث، ولو أريد بها ما هو بالنسبة إلى الصلاة الثانية الغير المأتيّ بها فحصولها من أوّل الأمر محلّ شك والأصل يقتضي عدمه، ولا معارض له وهو رافع لموضوع الأصل الّذي اعتمد عليه الشيخ في المبسوط، ومن هنا يعلم دنّ الأوفق بالأصول هو المشهور فهو المعتمد، والحقّ الّذي لا محيص عنه.

وقد يقال انتصارا لمذهب المبسوط: إنّ الأوفق بقاعدة «ما غلب اللّه عليه فاللّه أولى

ص: 682

بالعذر»(1) بعد بطلان سقوط التكليف بالصلاة بالإجماع هو العفو عمّا يتقاطر من البول بغير اختياره، ويدلّ عليه أيضا حسنة منصور بن حازم المتقدّمة، فإنّ مفادها أنّ ما لا يقدر المكلّف على حبسه فهو معذور فيه، فلا يجب عليه إزالته لأجل الصلاة ولا تجديد طهارة وإن كان بين صلاتين.

وفيه: أنّ مفاد هذه القاعدة على ما وردت بها روايات كثيرة حسبما ينساق منها في متفاهم العرف أنّ كلّ حالة عارضة للمكلّف من قبل اللّه سبحانه وتعالى موجبة لتعذّر أو تعسّر ما كلّف به، فاللّه سبحانه يعذره ويعفو عنه ويرفع عنه المؤاخذة، ومقتضاه رفع التكليف عمّا لولا رفعه عنه لأدّى إلى التكلّف بالمتعذّر أو المتعسّر، وإنّما يلزم ذلك فيما نحن فيه لو كلّف بالصلاة بشرط عدم تقاطر البول إحرازا للطهارة عن الحدث والخبث معا، أو بها بشرط مقارنتها للغسلات والوضوءات المتعدّدة على حسب عديد قطرات البول المتقاطر، أو بالتحفظ الكلّي عن النجاسة الخبثية للصلاة والوضوء الرافع للحدث المبيح لها. أو بالغسلات والوضوءات الكثيرة على حسب كثرة قطرات البول المتقاطر، وأمّا لو كلّف بالصلاة بشرط مقارنتها للتحفّظ عن النجاسة فيما زاد على الذكر أو رأسه، ولكونه متوضّأ وإن لم يكن مرتفع الحدث، أو بالتحفّظ المذكور والوضوء لكل صلاة فليس فيه شيء من المحذورين، والقاعدة لا تقتضي أزيد من انتقال التكليف عن مرتبة أحد المحذورين إلى ما تحتها، ولا تقتضي العفو عن البول المتقاطر على وجه لم يجب التوقي فيما عدا الذكر أو رأسه من الثوب أو البدن، أو لم يجب تجديد الوضوء لما عدا الصلاة الاولى المأتيّ بها.

وأمّا توهّم دلالة الحسنة فقد عرفت ما فيه، فالمذهب المشهور لا يخالف القاعدة بل يوافقها فهو الأوفق لها، لا مذهب المبسوط.

وفي استباحة مش كتابة القرآن بهذا الوضوء وعدمها وجهان: من طريق الأولويّة، ومن تعليق الجواز في ظاهر الآية على الطهارة الّغير الحاصلة به بالفرض، والأوجه الثاني حتّى في حال الصلاة عملا بأصالة بقاء المنع.

ص: 683


1- الوسائل 80:4 الباب 20 من أعداد الفرض 2.

وفي إلحاق غير الصلاة من مشروط بالطهارة واجبا كالطواف أو مندوبا كالنافلة بها في استباحة الدخول فيه بهذا الوضوء - ومرجعه إلى أنّ حكم الحدث بالنسبة إلى هذه الأمور أيضا مغتفر كما أنّه مغتفر بالنسبة إلى الفريضة - وعدمهما احتمالان، مبنيّان على ثبوت الإجماع على عدم سقوط التكليف بهذه الأمور عن صاحب السلس وعدم ثبوته، فالمتّجه مع العدم العدم تعويلا على الأصل المشار إليه، وربّما قيل بالإلحاق في النوافل استنادا إلى إطلاق قوله عليه السلام: «يصلّي» و نحوه في بعض ما تقدّم، وهو موضع منع، هذا كلّه فيمن استمرّ سلسه ودام تقاطر بوله، كما هو معقد كلام الأصحاب على ما يظهر من كلماتهم، ولا سيّما عنوان المسألة في كلام جمع منهم، أمّا غيره فعلى أقسام:

[من لم يستمر سلسه فعلى أقسام]
الأوّل: من كان لحدثه فترة معتادة تسع الوضوء والصلاة،

وهذا على ما صرّح به جماعة من أساطين أصحابنا يجب عليه الصبر إليهما، ولا يجزئه الوضوء والصلاة حال الحدث لزوال الضرورة الّتي هي مناط التخفيف، بل لم نعهد خلافا في ذلك عدا ما عزي إلى الأردبيلي(1) من احتمال عدم الوجوب، لإطلاق الأدلّة وحصول الخطاب بالصلاة فيقع الفعل بحسب الإمكان في ذلك الوقت، والأقرب ما عليه الجماعة لما وجّهوه به.

وتوضيحه: أنّ الاجتزاء بالوضوء والصلاة حال وجود الحدث إنّما سوّغته ضرورة عدم سقوط التكليف بالصلاة مع عدم التمكن من الوضوء الرافع بالصلاة مع الطهارة المخرجة عن أدلّة اشتراط الطهارة، وأمّا مع الفترة المفروضة فادلّة اشراط الطهارة سليمة فيجب العمل عليها، ولا يتأتي إلّا بالتأخير إلى الفترة المتّسعة، هذا مضافا إلى أصالة عدم تدثير الوضوء في غير زمان الفترة في استباحة الصلاة، على معنى عدم ارتفاع المنع به، وقد علم بما بيّنّاه أنّ الاجتزاء بالوضوء والصلاة حال وجود الحدث ليس عن دليل لفظي ليصحّ التمسّك بإطلاقه، وحصول التكليف بالصلاة من أوّل الوقت بعد انحصار التمكن من المكلف به فيما عداه من أجزاء الوقت بحكم الفرض لا يقتضي المبادرة، وبذلك يظهر الجواب عن أدلّة الأوقات فإنّهما إنّما تقتضي التوسعة بحسب

ص: 684


1- مجمع الفائدة 112:1.

الإمكان فيما فرض كونه مكلّفا به، وهو في مفروض المسألة ليس إلّا الصلاة مع الطهارة، واختصاص إمكانها ببعض أجزاء الوقت يوجب تعيّن ذلك الجزء لها لعارض، نظير ما لو تضيّق الموسّع لعارض.

الثاني: من توضّأ حال وجود الحدث ودخل في الصلاة معتقدا للاستمرار فظهر في الأثناء خلافه باتّفاق فترة تسع تجديد الوضوء واستيناف الصلاة،

ففي وجوب التجديد والاستيناف أو التجديد والبناء على ما صلّاه بإتمام الباقي أو جواز الاستمرار في الصلاة بل وجوبه احتمالات ؟ أجودها الأوّل بالنظر إلى القاعدة من جهة تبين عدم ضرورة مخرجة عن أدلّة اشتراط الطهارة، وهو في معنى تبيّن عدم الأمر بالوضوء والصلاة المفروضين، فيكون ما وقع من أفعالها واقعا بلا مبيح شرعي فيكون باطلا، فمقتضى وجوب العمل بأدلّة اشتراط الطهارة اعتبار التجديد واستيناف الصلاة، ولا ينافيه أدلّة حرمة إبطال العمل، لدنّ رفع اليد عمّا لم يحرز كونه صحيحا في نفسه ليس من إبطال العمل في شيء، وتوهّم حمله على رفع اليد عن مطلق العمل، يدفعه ظهور خلافه، ومن هنا - مع ضميمة ما تقرّر في الأصول من أنّ الأمر الظاهري العقلي غير مفيد للإجزاء - يعلم أنّ الوجه فيما لو صلّى ثمّ اتّفق له الفترة المتّسعة لزوم الإعادة للصلاة بعد تجديد الوضوء لانكشاف أنّ الحاصل غير مأمور به والمأمور به غير حاصل.

الثالث: من اتّفق له حال انقطاع فتوضّأ وتلبّس بالصلاة ثمّ فجأه الحدث في أثنائها،

فإن بقى مستمّرا ولم يمكنه التحفّظ بقى على حاله مصلّيا وليس عليه تجديد الوضوء ثمّ البناء أو الاستيناف لكونه كلفة زائدة لا يترتّب عليه فائدة، فإنّ مبنى تأثيره في استباحة بقيّة الصلاة على إلغاء ما يتجدّد من الحدث بعد. عن التأثير في رفع أثره، وهذا ليس بأولي من إلغاء ذلك الحدث من ابتدائه عن التاثير في رفع أثر الوضوء الأوّل، غاية ما هنالك مسيس الحاجة إلى توسيط أصالة العدم المعتضدة بأصالة البراءة، ويمكن إجراء هذا الكلام بعينه فيما لو فجأه الحدث المستمرّ قبل التلبّس بالصلاة أيضا، بل يتسرّى هذا إلى ما لو طرأ مرض السلس من ابتداء عروضه على المتطهّر أيضا.

إلّا أن يقال: بأنّ ما حصل الإجماع على عدم انتقاضه يحدث المسلوس هو ما وقع حال وجود الحدث المستمرّ لا مطلقا، وعليه فالمتّجه انتقاض الوضوء السابق في

ص: 685

جميع هذه الصور الثلاث عملا بعموم أدلّة كونه حدثا ناقضا للوضوء، خرج منه بحكم الضرورة والإجماع الفرد المقارن لوقوع الوضوء مع ما بعده إلى أن يحصل الفراغ من الصلاة، ولذا يسمّى هذا الوضوء بالطهارة الضروريّة. فيقع الإشكال بعد الالتزام بوجوب التجديد بالنسبة إلى الصورة الأولى من حيث البناء على ما مضى من الصلاة واستينافها، ويمكن الالتزام بوجوب البناء عملا بعموم حرمة إبطال العمل. لكن يدفعه:

ما أشرنا إليه من أنّ رفع اليد عمّا لم يثبت كونه صحيحا في نفسه ليس إبطالا له، وكون الصلاة الواقع في أثنائها الوضوء صحيحة أوّل المسألة. فلم يبق ذلّا أصالة الصحّه الواردة على قاعدة الشغل المقتضية لوجوب الاستيناف، فإنّ المأتيّ به من أفعال الصلاة قبل الحدث والوضوء المتخلّلين إنّما وقع بوصف الصحّة وهي مستصحبة. ويزيفه: أنّ الصحّة وصف اعتباري ينتزع عن المأتيّ به باعتبار انطباقه على المأمور به الكلّي وموافقته له، وكون البعض المأتيّ به من أفعال الصلاة من مورد الصحّة بهذا المعنى إنّما يصحّ إذا لحقه البعض الباقي من افعالها على الوجه المعتبر في المامور به، وضابطه انطباق المجموع منهما عليه، وهو مع تخلّل أفعال الوضوء بينهما أوّل الكلام، فالصحّة في نحو هذه الصلاة المتخلّل بين أفعالها الوضوء غير متيقّنة، ومعه يسري الشك من حين وقوع الوضوء إلى البعض المأتيّ به، فلا معنى لاستصحاب الصحّة حينئذ مع كونها من أصلها مشكوكة، فانحصر المرجع في قاعدة الشغل المقتضية ليقين البراءة الغير الحاصل إلّا مع الاستيناف.

لكن هذا كلّه إذا لم يثبت الإجماع على البناء في نحو مفروض المسألة، وظاهر كلماتهم يعطي خلافه، فإنّ المتعرّضين لمسألة تجدّد الحدث في أثناء الصلاة منهم من أوجب البناء مع تجديد الوضوء، وأطلق في القول به على وجه يتناول إطلاقه لصورة استمرار الحدث المتجدّد وصورة انقطاعه أو التمكن من التحفّظ إلى آخر الصلاة كما في المحكيّ عن السرائر(1) وقد عرفت عبارته، وفي معناها عبارة ابن حمزة في الوسيلة: «وإذا كان مبطونا وحدث به ما ينقض الصلاة قطع وتطهّر وبنى وإن كان به

ص: 686


1- السرائر 350:1.

سلس البول فكذلك»(1) وفي معناهما عبارة الدروس: «والسلس والمبطون فيتوضّآن لكل صلاة خلافا للمبسوط ولو فجأه في الصلاة توضّأ المبطون وبنى في الأشهر بخلاف السلس، إلّا أن يكون له فترات فيساوي المبطون»(2) ونحوه عزي إليه في الذكرى والبيان(3).

ومنهم من أوجب البناء من غير وضوء، وخصّه بصورة الاستمرار كما في التذكرة قائلا: «لو تلبّس المبطون أو صاحب السلس أو الريح بالصلاة ثمّ فجأه الحدث، فإن كان مستمرّا فالوجه عندي الاستمرار لأنّها طهارة ضررويه كالمستحاضة، وإن كان يمكنه التحفظ استأنف الطهارة بالصلاة، وقيل في المبطون إن كان الحدث مستمرّا يتطهّر ويبني على صلاته...»(4) الخ.

ومنهم من يظهر منه البناء والاستمرار مع كون كلامه في إيجاب الوضوء وعدمه محتمل الوجهين كالشيخ في النهاية قائلا: «والمبطون إذا صلّى ثمّ حدث به ما ينقض صلاته فليعد الوضوء وليبن على صلاته، ومن به سلس البول فلا بأس أن يصلّي كذلك بعد الاستبراء»(5) بناء على احتمال انطباقه على قول الجماعة لرجوع الإشارة إلى ما أفاده في المبطون، وانطباقه على قول التذكرة لرجوع الإشارة إلى ما هو عليه من حالة تجدّد الحدث أي «لا بأس أن يصلّي على تلك الحالة».

ومنهم من تكلّم في وجوب تجديد الوضوء وعدمه من دون تعرّض الإشكال ولا نقل الخلاف في عدم بطلان الصلاة رأسا، وهذا كلّه يعطي إجماعهم على نفي وجوب الاستيناف، وكونه ممّا يرسلونه إرسال المسلّمات، وممّا يومئ إلى ذلك ايضا احتجاج العلّامة في المحكيّ عن المختلف فإنّه بعد ما نقل القول بالتطهّر مع البناء في المبطون قال: «والوجه عندي أنّ عذر. إن كان دائما لا ينقطع، فإنّه يبني على صلاته من غير أن يجدّد وضوءا كصاحب السلس، وإن كان يتمكن من تحفّظ نفسه بمقدار زمان الصلاة فإنّه يتطهّر ويستأنف الصلاة. احتجّ : بأنّ الحدث المتكرّر لو نقض الطهارة لأبطل

ص: 687


1- الوسيلة: 144.
2- الدروس 94:1.
3- الذكرى 202:2، البيان: 12.
4- التذكرة 206:1.
5- النهاية 369:1.

الصلاة، لأنّ شرط صحّة الصلاة استمرار الطهارة»(1) فإنّ ظاهر نحو ذلك كون بطلان التالي إجماعيّا مسلّما فيما بينه وبين الموجبين لتجديد الوضوء وعموم التعليل مضافا إلى ما في العبارة من التشبيه يقضي بمساواة صاحب السلس للمبطون فيما تضمّنه من دعوى الإجماع.

واستظهر الإجماع مع الاستمرار شارح الدروس(2) أيضا، وعليه فيقع التعارض كما قيل بين أدلّة إبطال الفعل الكثير وأدلّة حدثيّة مطلق البول المنضمّة إلى أنه «لا صلاة إلّا بطهور» والظاهر أنّ مرجع كلام الجماعة في إيجاب التجديد إلى ترجيح الأوّل، كما أنّ مرجع كلام العلّامة على ترجيح نحو «لا صلاة إلّا بطهور» على ما هو مقتضي احتجاجه في المختلف ويساعد عليه تعليله المتقدّم عن التذكرة، بناء على ما فهمه من ظهوره في شرطيّة استمرار الطهارة، ومن يرى الرجوع في نحو التعارض المذكور مع فقد المرجّح إلى الأصول كبعض مشايخنا(3) استند في نفي اعتبار التجديد إلى أصالة عدم الحدث الناقض، أو استصحاب إباحة الصلاة، ومع المناقشة فيهما فلا إقلّ من أصالة البراءة من وجوب الوضوء في الاثناء.

ويمكن أن يقال: بأنّ ما دلّ على بطلان الصلاة بالفعل الكثير على ما يعطيه تتبّع كلماتهم ليس إلّا الإجماع، وهو ممّا لا يعارضه الدليل اللفظي، فتخصص الله عليه و آله وسلم به ما دلّ بعمومه أو إطلاقه على ناقضيّة البول، ومعه لا حاجة إلى التشبّث بنحو الاصول المذكورة.

لكن يمكن قلبه، بأنّ دليل الإبطال وإن كان هو الإجماع إلّا أنّ معقده من جهة اختلاف المجمعين في إيجاب الوضوء ونفيه في مفروض المسألة صار مجملا من حيث شموله لنحو الوضوء في أثناء الصلاة وعدمه، وحينئذ يبقى دليل ناقضيّة البول سليما.

نعم لو كان مدرك الحكم هو الإجماع المنقول لمن لم يحصّل الإجماع كان فرض التعارض بينه من حيث الإطلاق وبين دليل الناقضيّة من هذه الحيثية أيضا متّجها، إن لم نقل يكون الخلاف المذكور أيضا مضرّا بإطلاقه، فالأقوى حينئذ الأوفق بالقواعد ما عليه الجماعة من وجوب تجديد الوضوء، ولعلّه المشهور لكن يشترط فيه عدم فعل

ص: 688


1- المختلف 311:1.
2- مشارق الشموس: 156.
3- كتاب الطهارة 417:2.

المنافي من الكلام عمدا والاستدبار ونحوه، هذا فيمن استمرّ حدثه المتجدّد في أثناء الصلاة، وفي حكمه من كان له بعد تجدّد حدثه فترة لا تسع فعل الطهارة مع الصلاة بتمامها، سواء تمكن من فعل بعض ما بقى من الصلاة عقيب الطهارة قبل تخلّل حدث أو لا؟ غير أنّه على تقدير التمكن يتكرّر عليه الوضوء بتكرّر الحدث مع الفترة بعده ما لم يفض إلى العسر والحرج المنفيّ في الدين، كما نصّ عليه غير واحد.

وأمّا إذا لم يكن مستمرّا أو أمكنه حفظ نفسه مقدارا من الزمان يسع فعل الوضوء بالصلاة بتمامها حال الطهارة، فالظاهر أنّه على عكس صورة الاستمرار، من حيث اتّفاق الأصحاب فيه على وجوب تجديد الوضوء واختلافهم في البناء أو الاستيناف، فإنّ مقتضي إطلاق السرائر و الوسيلة وغيرهما هو البناء(1) وفي صريح التذكرة وظاهر المحكيّ عن المختلف اعتبار الاستيناف(2) وربّما أمكن تنزيل إطلاق الجماعة على صورة الاستمرار وإن كان بعيدا بالنظر إلى عبارة بعضهم.

وبالجملة لا إجماع على وجوب البناء بعد تجديد الطهارة في هذه الصورة. وعليه فالأوفق بأدلّة ناقضيّة البول، وما دلّ على إبطال الفعل الكثير هو الاستيناف كما هو قضية قاعدة الشغل، ولا وارد عليها في القواعد والأصول، والأحوط بعد تجديد الطهارة هو الجمع بين البناء والاستيناف.

وحمله على المبطون في تجديد الطهارة والبناء مطلقا إن قلنا به فيه لظاهر النصّ قياس، لعدم كون المناط منقّحا. والمراد بالمبطون من به داء البطن بالتحريك، وهو مرض يوجب الإسهال، قال في التذكرة والمعتبر «المبطون هو الّذي به البطن وهو الذرب»(3) قال في المجمع: «الذرب بالتحريك الداء الّذي يعرض المعدة فلا تهضم الطعام ويفسد فيها فلا تمسكه»(4).

وقد يقال: إنّ المراد به عليل البطن أعمّ من أن يكون بريح أو بغائط كما عن الروضة وجامع المقاصد(5) وتفصيل القول في حكمه أنّه صرّح جماعة بأنّه كصاحب

ص: 689


1- السرائر 350:1، الوسيلة: 114.
2- التذكرة 206:1، المختلف 311:1.
3- التذكرة 206:1، المعتبر 163:1.
4- مجمع البحرين 58:2.
5- الروضة 858:1، جامع المقاعد 234:1.

السلس يتوضّأ لكلّ صلاة كما في المعتبر والنافع والتذكرة والإرشاد والدروس(1) وعن السرائر والبيان والمقتصر والتنقيح وجامع المقاصد(2) وعنه أنّه نسبه إلى المشهور، بل عن العلّامة في المنتهى أنّه مع ما غرفت عنه في صاحب السلس صرّح هنا بوجوب الوضوء لكلّ صلاه ومنع من الجمع بين الصلاتين، واستند فيه إلى «أنّ الغائط حدث فلا تستباح معه الدخول في الصلاة إلّا مع الضرورة وهي متحقّقة في الواحدة دون غيرها»(3) انتهى.

وبهذا ظهر أنّ كلامهم هذا مفروض فيمن دام حدثه واستمرّ باستمرار الوقت، ولم يتمكن من حفظ نفسه مقدارا من الزمان يقع فيه الصلاة بتمامها أو بعضها كما نصّ عليه أيضا غير واحد. وعليه فالحكم المذكور حينئذ متّجه ولا إشكال فيه، بل لم نقف فيه على مخالف لعين مابينّاه في صاحب السلس المستمرّ، وملخّصه ما عرفته عن المنتهى(4).

وأمّا من لم يستمرّ حدثه فإن كان له فترة تسع فعل الطهارة والصلاة معا وجب عليه انتظارها والصبر إليها، كما نصّ عليه جماعة، بل لم نقف فيه أيضا على مخالف.

وإن قلّ في كلامهم التعرّض لتلك الصورة، ووجهه ما قدّمناه أيضا في المسلوس. ويأتي فيه ما سبق أيضا من وجوب إعادة الطهارة والصلاة فيمن تلبّس بها حال وجود الحدث باعتقاد الاستمرار، فاتّفقت الفترة في الاثناء أو بعد الفراغ.

وإن لم يكن له فترة متسعة فإن توضّأ حال الانقطاع وتلبّس بالصلاة متطهّرا ففجأه الحدث وتجدّد في الأثناء، ففيه خلاف على قولين: وجوب تجديد الوضوء والبناء مطلقا، والتفصيل بين ما لو بقى الحدث بعد تجدّده مستمرّا فيستمرّ في صلاته بلا تجديد للوضوء، وما لو انقطع فيستأنف الصلاة بعد تجديد الوضوء.

ويعلم الانحصار فيهما من مختلف العلّامة فإنّه بعد ما ذكر القول بوجوب التجديد والبناء قال: «والوجه عندي أنّ عذره إن كان دائما لا ينقطع فإنّه يبني على صلاته من

ص: 690


1- المعتبر 163:1. النافع: 6، التذكرة 206:1، الإرشاد 223:1، الدروس 94:1.
2- السرائر 350:1، البيان: 12، المقتصر: 48، التنقيح 88:1، جامع المقاصد 234:1.
3- المنتهى 138:2.
4- المنتهى 138:2.

غير أن يجدّد وضوءه كصاحب السلس، وإن كان يتمكن من تحفّظ بمقدار زمان الصلاة فإنّه يتطهّر ويستأنف الصلاة»(1) انتهى.

فالقول بالتفصيل للعلّامة في المختلف. واختاره في التذكرة أيضا كما عرفت سابقا وربّما عزى إليه في كتبه الاخر، ولم نقف على من يوافقه، وظهر من عبارته هنا كما في السلس أنّه خالف المشهور في كلّ شقي التفصيل، ففي الشقّ الأوّل بإنكار تجديد الطهارة، وفي الشقّ الثاني بإنكار البناء، وحجّته كما في المختلف على ما حكي «أنّ الحديث المتكرّر لو نقض الطهارة لأبطل الصلاة لأنّ شرط صحّة الصلاة استمرار الطهارة، وأمّا مع التمكن من التحفّظ فإنه يجب عليه الاستيناف لأنّه يتمكن من فعل الصلاة كملا بطهارة فوجب عليه ما يتمكن منه ممّا كلّف به»(2) انتهى.

أمّا القول الآخر فعليه المعظم كما في المدارك(3) وهو المشهور كما عن البيان وحاشية النافع وجامع المقاصد(4) والأشهر كما في الدروس(5) وحجّتهم ظاهر جملة من الروايات، ففي موثّقة محمّد بن مسلم بابن بكير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «صاحب البطن الغالب يتوضّأ ثمّ يرجع في صلاته فيتمّ ما بقي»(6) وفي صحيحته عنه عليه السلام إنّه قال:

«صاحب البطن الغالب يتوضّأ ويبني على صلاته»(7) وفي صحيحته الأخرى قال:

«سألت أبا جعفر عليه السلام عن المبطون ؟ فقال: يبني على صلاته»(8) فإنّ غلبة البطن في الأوّلين عبارة عن استيلائه وهو خروجه قهرا، وإطلاقه يشمل صورتي الاستمرار والانقطاع أو التمكن من الحفظ، والرجوع في صلاته مع البناء عليها ظاهر في اعتبار تتميم الصلاة الّتي وقع الحدث في أثنائها.

فالمناقشة فيهما بنحو ما في تذكرة العلّامة من احتمال إرادة الرجوع فيما بقى من الاخرى لا تتمّة الصلاه الاولى(9) خروج عن الظاهر لمجرّد الاحتمال المرجوح.

وتوهّم كونه للملازمة المتوهمة بين بطلان الطهارة وبطلان الصلاة، يدفعه: أنّ هذه

ص: 691


1- المختلف 311:1.
2- المختلف 311:1.
3- المدارك 243:1.
4- البيان: 12، حاشية النافع: 206، جامع المقاصد 234:1.
5- الدروس 94:1.
6- الوسائل 298:1 الباب 19 من أبواب نواقض الوضوء ح 4.
7- الفقيه 363:1/1043.
8- الوسائل 297:1 الباب 19 من أبواب نواقض الوضوء ح 3.
9- التذكرة 206:1.

الملازمة لا مدرك لها إلّا توهّم ظهور نحو «لا صلاة إلّا بطهور» في شرطيّه استمرار الطهارة، على معنى كون الشرط هو الطهارة الواحدة السمتمرّة من أوّل الصلاة إلى آخرها فلا يكفي طهارتان موزّعتان، أو طهارات موزّعة كلّ على بعض افعال الصلاة كما هو اللازم من وقوع الوضوء في أثناء الصلاة من دون إخلال بها.

وفيه: أنّ هذا الظهور على تقدير تسليمه إنّما ثبت بخطاب عامّ فلا يصلح لمعارضة الأخبار الخاصّة المعتضدة دلالة بفهم المعظم، مع ظهورها في حدّ أنفسها. وقضيّة ذلك بناء العامّ على الخاصّ لا طرح الخاصّ لمجرّد الاحتمال المرجوح الغير الملتفت لدى الاصحاب، وبدّلك ظهر ضعف حجّة العلّامة على أوّل شقّي تفصيله. ومنه أيضا يعلم ضعف ما ذكره لشقّه الثاني، فإنّه يشبه بكونه اجتهادا في مقابلة النصّ فلا يلتفت إليه.

وربّما يذكر في ردّه ما لا يكاد يسلم عن الغفلة عن حقيقة مراده وهو: «أنّ اشتراط عدم تخلّل الحدث في أثناء الصلاة غير اشتراط الطهارة في الصلاة المستفاد من قوله:

(لا صلاة إلّا بطهور) لأنّه يدلّ على اشتراط الطهارة في الصلاة الّتي هي عبارة عن الافعال فيكفي فيه وقوع الأفعال مع الطهارة، ولا يقدح من هذه الجهة تخلّل الحدث أو الطهر لأفعالها، فقوله عليه السلام: (لا صلاة إلّا بطهور) نظير قوله: (لا عمل إلّا بنيّة) في اعتبار وجودها في أجراء العمل لا في أحوال الكون فيه وإن لم يشتغل بجزء منه. نعم تخلّل الحدث وكونه ناقضا للصلاة حكم آخر ثبت بالدليل، لكنّ المفروض إنّ فقد هذا الشرط لا يقدح في صحّة الصلاة إجماعا، فإهماله لا يوجب إهمال مقتضي قوله: لا صلاه إلّا بطهور»(1) انتهى.

ثمّ إنّه عن بعض الأصحاب الحق صاحب الريح والنوم الغالبين بالمبطون من جميع الوجوه، وعن المنتهى إلحاق صاحب الريح به(2) وهذا من جهة النصّ أو تنقيح المناط مشكل بل لا وجه [له] لفقدهما، فالمرجع فيهما أيضا هو الأصول والقواعد كما في المسلوس، فمن استمرّ حدثه باستمرار الوقت بحيث لا يتمكن من حفظ نفسه عن وقوع الحدث حال الطهارة بالصلاة يتوضّأ لكلّ صلاة ولا يلتفت إلى الحدث الواقع في

ص: 692


1- كتاب الطهارة 421:2.
2- المنتهى 139:2.

الأثناء، ومن كان له فترة متّسعة للطهارة والصلاة معا يصير إليها. ومن تطهّر حال انقطاع الحدث وتلبّس بالصلاة متطهّرا فتجدّد حدثه في الأثناء وبقى مستمرّا أو انقطع أو تمكن من التحفظ إلى مقدار فإن ثبت الإجماع على وجوب التجديد والبناء في إحدي الصورتين أو كلتيهما وجب المصير إليه، وإلّا فقضيّة أصالة الشغل هو التجديد والاستيناف في الصورتين معا.

ومن صاحب النوم الغالب الشيخ الكبير الّذي اعتاد أكل الأفيون فعرض له النعاس في أوقات الصلاة وأحوالها فإنّ هذا لا يجب عليه الترك إذا تضرّر به. وفي وجوب العلاج عليه وعلى غيره من أصحاب الحدث الغالب بولا أو غائطا أو ريحا إذا أمكن بحيث أثم واستحقّ العقاب على تركه إشكال، وإن أفتى بعض الأصحاب به كما عن شرح المفاتيح قائلا: «وإذا أمكن هؤلاء العلاج وتركوه إهمالا ومسامحة فلا شك في الإثم والعقاب، ويمكن أن يكون عبادته باطلة، لأنّه ما اعتدّ بصحّتها...»(1) الخ.

والإنصاف أنّ العلاج إن أمكنه في وقت وجوب الصلاة فالمتّجه وجوبه مقدّمة، فالإخلال به إخلال بالصلاة المامور بها مع الطهارة عن الحدث والخبث فيكون آثما من هذه الجهة، ولا إشكال في بطلان الصلاة.

وإن أمكنه قبل الوقت على معنى أنّ الوقت بانفراده لا يسعه بالصلاة معا فلا دليل على وجوبه، فالأصل براءة الذمّة عنه وعن استحقاق العقاب على تركه ولو باعتبار إفضائه إلى ترك الصلاة مع الطهارة في وقته.

وعن السرائر وجوب التحفظ من الحدث إذا أمكنه باختصار الصلاة أو الجلوس أو الاضطجاع فيها أو الإيماء للركوع والسجود، وملخّصه: «أنّ مستدام الحدث يخفّف الصلاة ولا يطيلها، ويقتصر فيها على أدنى ما يجزئ المصلّي عند الضرورة. وعبارته: أنّه يجزئه أن يقرأ في الأوليين بامّ الكتاب وحده، وفي الأخيرتين تسبيح في كلّ واحدة أربع تسبيحات، وإن لم يتمكن من قراءة فاتحة الكتاب سبّح في جميع الركعات، فإن لم يتمكن من التسبيحات الأربع - لتوالي الحدث منه - فليقتصر على ما دون التسبيح

ص: 693


1- مصابيح الظلام 549:3، وفيها: ما اعتذر لصحّتها.

في العدد، ويجزئه منه تسبيحة واحدة في قيامه وتسبيحة في ركوعه وتسبيحة في سجوده، وفي التشهّد ذكر الشهادتين خاصّة والصلاة على محمّد وآله ممّا لابدّ منه في التشهّدين، ويصلّي على أحوط ما يقدر عليه في بدار الحدث من جلوس أو اضطجاع، وإن كان صلاته بالإيماء أحوط له في حفظ الحدث ومنعه من الخروج صلّى مومئا، ويكون سجوده أخفض من ركوعه»(1) انتهى.

وهذا كما ترى جرأة عظيمة بل يشبه بكونه خرقا للإجماع خصوصاّ في المسلوس والمبطون، فإنّ كلماتهم فيهما ظاهرة كالصريحة في أنّهما يصلّيان الصلاة بالنّحو المتعارف وإن تمكنا من حفظ عن الخروج بالصلاة بغير هذا النحو، ومبناه على أنّ هذا المرض يوجب العفو عن الحدث لا الرخصة في ترك أكثر واجبات الصلاة، وهذا مع ذلك مستفاد من الاخبار المتقدّمة في كلّ من السلس والبطن.

نعم يجب على ذي الحدث مطلقا أن يتوضّأ عند الشروع في الصلاة لا قبله، ومرجعه وجوب المبادرة بعد الوضوء إلى الصلاة، إذ لا دليل على العفو عمّا يتخلّل فيما بينهما حدثا وخبثا، كما يجب على ذي السلس التحفّظ عن نجاسة ثوبه وبدنه زائد على حشفته أو احليله بوضع خريطة أو كيس فيه شيء من القطن عملا بما مرّ من الروايات.

أمّا المبطون فالأحوط فيه أيضا ذلك وإن كان إطلاق ما ورد فيه من الروايات ربّما يومى إلى عدمه، وهل يجب عليه إزالة الخبث عند تجديد الطهارة فيما تجدّد حدثه في اثناء الصلاة ؟ فيه إشكال من عموم أدلّته ومن معارضتها بأدلّة إبطال الفعل الكثير في أثناء الصلاة، خرج ما اتّفقوا على جوازه وهو التطهير من الحدث، فيرجع إلى أصالة عدم الوجوب، ومقتضى ظاهر صحيحة حريز المتقدّمة وجوب الجمع بين الصلاتين بل وجوب المبادرة إلى الصلاة الثانية بعد الفراغ عن الأولى تحفّظا على النجاسة عن زيادة السراية، لكن لم نعثر من الأصحاب على مصرّح به وكونه أحوط ممّا لا إشكال فيه فينبغي مراعاته.

وعن الذكرى وغيرها مع إيجابه الوضوء في ذي السلس لكلّ صلاة، إيجابه تطهير

ص: 694


1- السرائر 351:1.

الحشفة وتغيير القطنة لكلّ صلاة(1) وفيه: أنه ينافي إطلاق الصحيحة المشار إليها بل لا يلائم ما فيها من الأمر بالجمع، بل يوجب سقوط فائدة الجمع كما لا يخفى، فتأمّل.

فالأقرب عدم الوجوب لكن طريق الاحتياط واضح. وفي وجوب انتظار زمن خفّة الحدث احتمال غير بعيد، وربّما يمكن استشمامه من الاخبار الآمرة بوضع الكيس أو خريطة، بناء على أن النكتة فيه مراعاة تقليل النجاسة، لكن الخروج عن الأصل لمجرّد ذلك مشكل وطريق الاحتياط فيه واضح.

ص: 695


1- الذكرى 203:2.
[المقام الثاني] في سنن الوضوء بالمعنى الأعمّ من مستحبّاته ومكروهاته
أمّا المستحبّات فامور:

منها: وضع الإناء على اليمين كما هو المشهور محقّقا ومحكيّا، وعزاه في المعتبر وغيره إلى مذهب الأصحاب(1) لكن عن نهاية الإحكام أنّه «لو كان الإناء ممّا يصبّ منه كالإبريق استحبّ وضعه على اليسار»(2) ويؤدّي مؤدّاه تقييد الإناء في كلام جماعة بما يمكن الاغتراف منه باليد، قال في المدارك - تبعا لجدّه في المسالك -: «هذا إذا كان الإناء ممّا يمكن الاغتراف منه، وإلا وضع على اليسار ليصبّ منه في اليمين الغسل بها أو للإدارة إلى اليسار»(3) إلّا أنّه جعل الأولى العمل بمقتضى صحيحة زرارة المتضمّنة لوضع الإناء بين اليدين»، ونحوه ما في كلام شارح الدروس(4) لولا الشهرة بين الأصحاب فيما ذكر.

وقضية ما عرفت من الكلمات اختصاص الحكم بما لو توضّأ من الإناء، لا من الّحوض والغدير وغيرهما، وليس له مستند واضح عدا متابعة الشهرة، ولعلّها كافية في نحو المقام بعد مراعاة قاعدة المسامحة.

وأمّا ما في كلام جماعة من الاستناد له إلى ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم «أنّ الله يحبّ التيامن في كلّ شيء»(5) وما روي عن عائشة «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كان يحبّ التيامن في تنعّله وترجّله وطهوره وفي شأنه كلّه»(6) فلا يرى له وجها، لظهورهما في تقديم اليمين وأعماله يدا ورجلا في الأفعال الصادرة منهما والأحوال المتعلّقة بهما، وهذا ممّا لا دخل له بالمقام.

ص: 696


1- المعتبر 164:1.
2- نهاية الإحكام 53:1.
3- المدارك 245:1.
4- مشارق الشموس: 131.
5- عوالي اللآلى 200:2/101.
6- صحيح البخاري 53:1.

وممّا يرشد إلى ذلك أنّه لو كان النظر في الخبرين إلى ما نحن فيه أو ما يشمله كان اللازم اعتبار التيامن في غير الإناء أيضا من الحوض والنهر والبحر بجعلها على اليمين، ولا أظنّهم يرضون بذلك وإلّا لما خصّ الإناء بالذكر، إلّا أن يكون لمراعاة ما غلب وقوعه، وهو بعيد.

وفي المعتبر علّل الحكم بأنّه أمكن في الاستعمال وهو نوع من تدبير(1) ولعلّه أراد أنّ فيه باعتبار أمكنيته في الاستعمال من المسارعة إلى الخير ما ليس في غيره، وربّما يوجّه بإدراجه فيما ادّعى من الأخبار الواردة بأن الله تعالى «يحبّ الأيسر والأسهل»(2) وكيف كان فالتعليل المذكور لا يخلو عن إجمال، وهو إن تمّ لقضى بما عرفت عن الجماعة من تقييد الإناء بما يغترف منه، لوضوح أنّ الأمكن من حيث الاستعمال في غيره هو الوضع على اليسار، خصوصا بعد ملاحظة المستحث الآخر من الاغتراف باليمنى.

ومنها: الاغتراف باليمنى كما صرّحوا به، وهو المشهور المدّعى فيه الشهرة بل في المعتبر كما عن الذكرى أنّه مذهب الأصحاب(3) مؤذنا بدعوى الإجماع فهو الحجّة، مضافا إلى عموم الخبرين النبويين المتقدّم ذكرهما، وخصوص ما في الصحيح أو الحسن الحاكي لوضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في العرش من قوله: «فتلقّى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم الماء بيده اليمنى فمن أجل ذلك صار الوضوء باليمني...»(4) الخ.

ومقتضى إطلاق الأصحاب عدم الغرق في الاستحباب بين الاغتراف بها لغسل غيرها من الوجه واليسرى أو لغسل نفسها بأن يديره منها إلى اليسرى للغسل بها لعدم إمكان غيره، وهو كذلك لجملة من الوضوءات البيانيّة، وفيها أنّه أخذ كفّا آخر بيمينه فصبّه على يساره ثمّ غسلّ به ذراعه الأيمن، فإنّ العدول عن الأخذ باليسرى إلى الأخذ باليمنى للصبّ في اليسرى يشبه الأكل بالقفاء لولا كونه راجحا.

ولا ينافيه ما في جملة كثيرة منها من غمس اليسرى في الإناء والاغتراف

ص: 697


1- المعتبر 164:1.
2- كما في الوسائل 324:11 الباب 11 من أبواب المواقيت ح 6.
3- المعتبر 164:1، الذكرى 173:2.
4- الوسائل 390:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 5.

بها لغسل اليمنى، لكونه من مقتضي العادة أو لقوّة احتمال وروده إرشادا إلى نفي وجوب ما عداه.

وبالجملة ما ذكرناه أظهر في إفادة الاستحباب من هذه في إفادة نفيه، فليحمل هذه على إرادة التعليم والإرشاد ونحوهما، قال الشهيد الثاني في كلام له محكي عن شرح الإرشاد: «وفي حديث عن الباقر عليه السلام أنّه أخذ باليسرى فغسل اليمنى وهو لبيان الجواز»(1) انتهى. فما في المشارق «من أنّ الدولى الحكم باستحباب الاغتراف باليسرى لغسل اليمنى أو بالتساوي بينهما»(2) ليس على ما ينبغي.

ومنها: التسمية المنقول على استحبابها في كلام جماعة منهم شارح الدروس في المشارق، وفي المعتبر(3) أنّه مذهب العلماء للنصوص المستفيضة المصرّحة بأنّ «من سمّي أو ذكر اسم الله في وضوئه طهر جسده كلّه، ومن لم يسمّ لم يطهر منه إلّا ما أصابه الماء»(4) وفي بعضها «أنّ من ذكر اسم الله تعالى على وضوئه فكانما اغتسل ويجزئه فيها قول بسم اللّه»(5) كما نصّ عليه في المعتبر وغيره، أخذا بإطلاق ما عرفت.

والأفضل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، لقول الباقر عليه السلام للثقفي في حديث محمّد ابن قيس: «فاعلم أنّك إذا ضربت يدك في الماء، وقلت: بسم الله الرحمن الرحيم تناثرت الذنوب الّتي اكتسبتها يداك...»(6) الخ.

وأفضل منه الجمع بينه وبين ما في صحيح زرارة عن دبي جعفر عليه السلام قال: «إذا وضعت يدك في الماء، فقل: بسم اللّه وباللّه اللهمّ اجعلني من التوّابين، واجعلني من المتطهّرين، فإذا فرغت فقل: الحمد لله»(7) وفي المرسل المرويّ عن الفقيه قال: «وكان أمير المؤمنين عليه السلام إذا توضّأ قال: بسم الله وباللّه وخير الأسماء لله، وأكبر الأسماء لله، وقاهر لمن في السماء، وقاهر لمن في الأرض، الحمد لله الّذي جعل من الماء كلّ شيء

ص: 698


1- روض الجنان 122:1.
2- مشارق الشموس: 131.
3- المعتبر 165:1.
4- الوسائل 426:1 الباب 26 من أبواب الوضوء ح 11.
5- الوسائل 423:1 الباب 26 من أبواب الوضوء ح 3.
6- الوسائل 393:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 12.
7- الوسائل 423:1 الباب 21 من أبواب الوضوء ح 1.

حيّ ، وأحيى قلبي بالإيمان، اللهمّ تب عليّ وطهّرني واقض لي بالحسنى، وأرني كلّ الّذي أحبّ ، وافتح لي بالخيرات من عندك يا سميع الدعاء»(1) ولو احتاط بالجمع بينه وبين سابقه كان أفضل.

ثمّ إنّ قضيّة صريح هذه الروايات كون وقت التسمية حين وضع اليد في الماء، لكن في المرويّ عن الخصال عن عليّ عليه السلام قال: «لا يتوضّأ الرجل حتّى يسمّي يقول قبل أن يمسّ الماء: بسم اللّه وباللّه اللهمّ اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهّرين»(2) ويمكن الحمل على التخيير، وعلى أيّ تقدير فمحلّها بمقتضى صريح الروايات قبل الوضوء.

وهل تتدارك في الأثناء إذا تركها في الأوّل نسيانا أو عمدا؟ قيل نعم، بل عن الحدائق(3)نسبته إلى الأصحاب لقوله: «لا يترك الميسور» ولكونه أقرب إلى المشروع، ولأنّه كالأكل. وفي الكلّ ما ترى، نعم لو استند في ذلك إلى قوله عليه السلام: «إذا سمّيت في الوضوء طهر جسدك كلّه»(4) بتوهّم الإطلاق كما سبق إلى بعض الأوهام كان له وجه.

ومنها: غسل اليدين عن حدث النوم والبول مرّة، وعن حدث الغائط مرّتين قبل الاغتراف، بلاخلاف في أصل استحباب الغسل بل في المعتبر والتذكرة: «وهو مذهب فقهائنا وأكثر أهل العلم»(5) بل عليه الإجماع عن الغنية(6) وإجماع الفرقة عن الخلاف(7) للنصوص المنجبر قصور القاصر منها بالعمل، وبكون المقام مقام المسامحة، ففي الصحيح عن الحلبي قال: «سألته عن الوضوء كم يفرغ الرجل قبل أن يدخلها في الإناء؟ قال: واحدة من حديث البول، واثنتان من حدث الغائط، وثلاث من الجنابة»(8)وفي معناه مرسلة الفقيه قال: «قال الصادق عليه السلام: اغسل يدك من البول مرّة، ومن الغائط مرّتين، ومن الجنابة ثلاثا»(9) وفي الرسل عنه أيضا قال: «وقال أيضا: اغسل يدك من

ص: 699


1- الوسائل 424:1 الباب 26 من أبواب الوضوح 7.
2- الوسائل 426:1 الباب 26 من أبواب الوضوء ح 10.
3- الحدائق 152:2.
4- الوسائل 424:1 الباب 26 من ابواب الوضوء ح 5.
5- المعتبر 165:1، التذكرة 193:1.
6- الغنية: 61.
7- الخلاف 73:1.
8- الوسائل 427:1 الباب 27 من أبواب الوضوء ح 1.
9- الوسائل 428:1 الباب 27 من أبواب الوضوء ح 4.

النوم مرّة»(1) وفي معناه بالنسبة إلى النوم ما رواه حريز في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال: «يغسل الرجل يده من النوم مرّة 0 ومن الغائط والبول مرّتين، ومن الجنابة ثلاثا»(2).

ومخالفته لما تقدّم في البول محمولة في كلام الأصحاب على صورة اجتماعه مع الغائط كما هو الغالب في الوقوع الخارجي، بناء على تداخل الأسباب هنا بدخول الأقلّ في ضمن الأكثر كما نصّ عليه جماعة، ولعلّه إجماع الأصحاب، وربّما يظهر إرادة الاجتماع من العطف كما تنبّه عليه في الوسائل(3) وعليه فلا مخالفة في هذا الحمل للظاهر، نعم جميع ما عرفته مصروف عن ظهوره في الوجوب إلى الاستحباب بالإجماع نصّا وفتوى.

ثمّ يتأكد ذلك بصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما «عن الرجل يبول ولم يمسّ يده شئ أيغمسها في الماء؟ قال: نعم وإن كان جنبا»(4) فتأمّل.

فما عن الشهيد في البيان والنفليّة من إطلاق استحباب المرّة في الثلاثة(5) وما عنه في اللمعة من إطلاق المرّتين فيها(6) ليس على ما ينبغي لخلوّه عن المستند، و مخالفته الأوّل في الغائط، والثاني في النوم لما مرّ فيكون ذلك حجّة عليه في كلا القولين.

ثمّ إنّ ظاهر إطلاق النصّ والفتوى كون هذا الغسل تعبّديّا غير منوط بقيام احتمال ملاقاة اليد للنجاسة، فيكون الاستحباب قائما مع العلم بالطهارة كما نصّ عليه جماعة، وعن المنتهى «أنّ الأقرب أنّ غسل اليدين تعبّد محض فلو تيقّن طهارة يده استحبّ له غسلها»(7) وعنه في نهاية الإحكام قرب كونه تعبّدا(8) وعن ثاني الشهيدين الجزم بالتعميم بالنسبة إلى الماء القليل وغيره رعاية لجانب التعبّد(9) وعن حاشية المدارك القطع به، بل عنه أنّه نسبه إلى فتوى الأصحاب(10).

ولا يعارض هذا كلّه برواية عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال: «سألت

ص: 700


1- الوسائل 428:1 الباب 27 من أبواب الوضوء ح 5.
2- الوسائل 427:1 الباب 27 من أبواب الوضوء ح 2.
3- الوسائل 427:1.
4- الوسائل 235:1 الباب 7 من أبواب الأسآر ح 4.
5- البيان: 11، النفليّة: 92.
6- اللمعة: 329.
7- المنتهى 296:1.
8- نهاية الإحكام 54:1.
9- المسالك 6:1.
10- حاشيه المدارك 309:1.

أبا عبداللّه عليه السلام عن الرجل يبول ولم يمسّ يده اليمنى شيء أيدخلها في وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال: لا حتى يغسلها، قلت: فإنّه استيقظ من نومه ولم يبل أيدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها؟ قال: لا، لأنّه لا يدري حيث باتت يده فليغسلها»(1) لقصورها سندا ودلالة، ولو استفيد من التعليل شيء وهو إناطة الحكم بالنجاسة الوهميّة، كما قد يتوهّم لم يصلح ذلك لصرف ما تقدّم عن الإطلاق والظهور في التعبّد، لقوّة احتمال كونه معتبرا من باب الحكمة لا العلة حتى يعتبر معها الطرد والعكس.

وقضية إطلاق بعض ما تقدّم عدم اختصاص الحكم بما إذا كان الوضوء من إناء واسع الرأس الّذي يمكن الاغتراف منه بل يجري في غيره أيضا بل في غير الإناء، من غير فرق أيضا بين قلّة الماء وكثرته كما نصّ عليه جماعة من الفحول خلافا لمتوهّمي الاختصاص كما يظهر من جماعة، ولا ينافيه ما في بعض ما تقدّم من ذكر الإناء في كلام الراوي كما هو واضح، واختصاص مورد الأخيار بالقليل كما قد يتوهّم غير واضح.

وفي كلام غير واحد تحديد اليد هنا بالزند بل قيل الظاهر أنه لا خلاف فيه، وعلّل بالتبادر وبالاقتصار على المتيقّن، والمراد بالتبادر هو التبادر من مساق الاخبار لا من لفظ «اليد» وليس ببعيد.

والاستناد إلى القذر المتيقّن ممّا أريد من المعنى المجازي أيضا له وجه، لو لم يرد الإشكال بالنسبة إلى الغسل عن الجنابة ثلاثا لما حدّدوه على ما يأتي في محلّه بالمرفق، نعم القدر المتيقّن ممّا ثبت له الحكم من المعنى المجازي هو ما ذكر فينبغي الاقتصار عليه. وينبغي القطع بعدم جريان الحكم في باقي الأحداث ممّا عدا الثلاث المذكورة اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد النصّ ، وهو المصرّح به في كلام - جماعة أيضا، نعم لا فرق في النوم بين أحواله ولا بين أوقاته فيعمّ الحكم لنومي الليل والنهار معا.

ومنها: المضمضة والاستنشاق، وهما إدارة الماء في الفم واجتذابه إلى الأنف، واستحبابهما معروف بين الأصحاب منقول فيه الإجماع في كلام غير واحد، مدلول

ص: 701


1- الوسائل 428:1 الباب 27 من أبواب الوضوء ح 3.

عليه بأخبار كثيرة. ولا يعارض بما ورد في غير واحد من الأخبار من أنهما ليسا من الوضوء، لقوّة احتمال خروجها مخرج التعريض على العامّة لذهاب جماعة منهم إلى وجوبهما فيراد أنّهما ليسا من واجبات الوضوء، ولا بما ورد في بعضها من قوله عليه السلام:

«ليس المضمضة والاستنشاق فريضة ولا سنة، إنما عليك أن تغسل ما ظهر»(1) لقوّة احتمال نفي الوجوب أيضا بإرادة قسمي الواجب تعريضا كما يعطيه قوله عليه السلام: «إنما عليك أن تغسل» وعليه يحمل قول العمّاني من أصحابنا: «أنّهما ليسا بفرض ولا سنّة»(2).

والمصرّح به في كلام جماعة اعتبار التثليث فيهما وربّما عزي إلى جمهور الأصحاب، بل عن الغنية وشرح المفاتيح الإجماع عليه(3) ويشهد له طائفة من الأخبار، ففي المرويّ عن الأمالي لولد شيخ الطائفة عن أمير المؤمنين عليه السلام في عهده إلى محمّد بن أبي بكر حين ولّاه مصر، وفيه: «وانظر إلى الوضوء فإنّه من تمام الصلاة، وتمضمض ثلاث مرّات واستنشق ثلاثا - إلى أن قال -: فإنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يفعل»(4) وفي مكاتبة عليّ بن يقطين «تمضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا»(5) ويمكن جعل الثلاث مستحبّا آخر عملا بمطلقات الأخبار الشاملة لهما مرّة واحدة مع ملاحظة عدم تنافي المقيّدات لها.

وأمّا اعتبار كون الثلاث بثلاث أكفّ ، ومع إعواز الماء بكفّ واحدة كما في كلام جماعة منهم الشهيد في الذكرى: «وكيفيته أن يبدأ بالمضمضة ثلاثا بثلاث أكفّ ، ومع الإعواز بكفّ واحد يدير الماء في جميع فمه ثمّ يمجّه ثمّ يستنشق»(6) فمستنده غير واضح، والاكتفاء مسمّي الثلاث ولو بكفّ واحد قويّ ولذا لم ينقل هذه التقدير عن أحد من القدماء، بل المنقول عن جماعة منهم الشيخ في المبسوط والإصباح خلافه(7)قال في الأوّل «لا فرق بين أن يكونا بغرفة واحدة أو بغرفتين» وفي الثاني «يتمضمض

ص: 702


1- الوسائل 431:1 الباب 29 من ابواب الوضوء ح 6.
2- نقل عنه في المختلف 278:1.
3- الغنية: 60، مصابيح الظلام 460:3.
4- الوسائل 397:1 الباب 15 من ابواب الوضوء ح 19.
5- الوسائل 444:1 الباب 32 من أبواب الوضوء ح 3.
6- الذكري 177:2..
7- المبسوط 20:1، الإصباح 427:2.

ثلاثا ويستنشق بغرفة أو غرفتين أو ثلاث» ويمكن أن يكون التقدير بثلاث انفهاما عرفيا من التثليث ولو باعتبار المتعارف، وربّما يجعل مستنده أدلّة الإسباغ ولا يخلو عن بعد، نعم الاحتياط لإدراك وظيفة الاستحباب على وجه الجزم ربّما يقتضي ذلك، فالأمر سهل.

وأمّا اعتبار الترتيب بتقديم المضمضة فلو عكس أعاد الاستنشاق استحبابا كما عليه جماعة فلا يبعد المصير إليه لما في المرويّ من فعل أمير المؤمنين عليه السلام من أنّه تمضمض ثمّ استنشق، وفي الترتيب الذكري بينهما في كثير من الاخبار أيضا إشعار بذلك.

وأمّا المجّ في الأوّل والاستنشاق في الثاني، فالمصرّح به في كلام جماعة عدم اعتبارهما، وإن كان المستفاد ممّا عرفت عن الذكرى(1) هو الاعتبار، ويظهر من التذكرة اشتراط المجّ (2) وربّما يحكى عن ظاهر الشيخ نجيب الدين في شرح الرسالة(3).

ومنها: الدعاء بالمأثور عند المضمضة وعند الاستنشاق وعند غسل الوجه وعند غسل اليد اليمنى وعند غسل اليسرى وعند مسح الرأس وعند مسح الرجلين، فيقول:

في الأوّل: «اللهمّ لقّني حجّتك يوم ألقاك، وأطلق لساني بذكرك» وفي الثاني: «اللهمّ لا تحرّم عليّ ريح الجنّة، واجعلني ممّن يشمّ ريحها وروحها وطيبها» وفي الثالث:

«اللهمّ بيض وجهي يوم تسودّ فيه الوجوه، ولا تسوّد وجهي يوم تبيضّ فيه الوجوه» وفي الرابع: «اللهمّ أعطني كتابي بيميني، والخلد في الجنان بيساري، وحاسبني حسابا يسيرا» وفي الخامس: «اللهمّ لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري، ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي، وأعوذ بك من مقطعات النيران» وفي السادس: «اللهمّ غشّني برحمتك وبركاتك» وفي السابع: «اللهمّ ثبّتني على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام، واجعل سعيي فيما يرضيك عنّي يا ذا الجلال والإكرام» روى جميع ذلك في خبر عبدالرحمن ابن كثير عن الصادق عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام وروي استحباب أن يقول: «الحمد لله

ص: 703


1- الذكرى 177:2.
2- التذكرة 196:1.
3- نقل عنه في مفتاح الكرامة 500:2.

ربّ العالمين»(1) عند الفراغ من الوضوء.

وهاهنا أمور أخر وردت في الروايات تطلب من المطوّلات.

ومنها: بدءة الرجل في غسل اليد من ظاهر الذراع، والمرأة من باطنه كما عليه جماعة، بل في جملة من الكتب نسبته إلى الأكثر، وفي المدارك إلى أكثر القدماء(2) بل عن المنتهى دعوى الإجماع عليه(3) وربّما ينزل إلى أصل الاستحباب، خلافا لجماعة تبعا للشيخ في المبسوط(4) ففرّقوا بين الرجل والمرأة في الغسلتين معا، فالأوّل يبدأ في الغسلة الأولى من ظاهر ذراعه وفي الثانية من باطنه والمرأة بالعكس، وفي التذكرة كما عن الغنية إجماع علمائنا عليه(5) وما ورد في أخبار العترة الطاهرة سلام الله عليهم يساعد على الأوّل.

ففي خبر محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «فرض الله على النساء في الوضوء أن يبدأن بباطن أذرعهنّ ، وفي الرجال بظاهر الذراع»(6) وفي مرسل الفقيه قال: «قال الرضا عليه السلام: فرض الله عزّ و جلّ على الناس في الوضوء أن تبدأ المرأة بباطن ذراعها والرجل بظاهر الذراع»(7) فلذا اعترف جماعة كما عن مجمع الفائدة والبرهان والمدارك وشرح المفاتيح(8) وغيره بعدم الدليل على الفرق المذكور، وعن الذكرى «أنّه شيء ذكره في المبسوط، وتبعه ابن زهرة وابن إدريس والفاضلان»(9).

وربّما يوجّه الفرق بأنّه لعلّ الشيخ ومن تبعه لم يفهموا إطلاق الرواية بالنسبة إلى الغسلة الثانية كما يقتضيه، وإنّما رجّحوا العكس في الغسلة الثانية لأنّ المقصود منها الإسباغ والاحتياط في الاستيعاب، وكمال الأمرين إنّما يحصل إذا ابتدأ فيها بغير

ص: 704


1- الفقيه 43:1/84.
2- المدارك 249:1.
3- المنتهى 308:1.
4- المبسوط 20:1.
5- التذكرة 202:1، الغنية: 61.
6- الوسائل 466:1 الباب 40 من ابواب الوضوء ح 1.
7- الوسائل 467:1 الباب 40 من أبواب الوضوء ح 2.
8- مجمع الفائدة والبرهان 119:1، المدارك 249:1، مصابيح الظلام 473:3.
9- الذكرى 185:2.

ما ابتدأ في الأولى، ولذا ذكر الإسكافي في كيفيّة غسل اليدين «أنّه لو غسل بظهر ذراعه غرفة وبطنها اخرى كان أحوط» انتهى. ولا يخلو عن تكلّف، بل الاحتياط الاستحبابي ربّما يقتضي مراعاة البدءة في الغسلة الثانية أيضا كما هو وظيفة الغسلة الأولى على فرض عدم إطلاق الرواية، لكشف الأمر بها في الغسلة الأولى عن مزيّة فيها محتملة لقيامها في الثمانية أيضا.

فظهر أنّ الأوجه ما عليه الأكثر من إطلاق اعتبار الظهر في الرجل والبطن في المرأة، والخنثى المشكل تتخيّر بين الوظيفتين ومرجعه إلى عدم ثبوت حكم استحبابي لها هنا لعدم اندراجها في الخبرين من حيث عدم شمول الرجل والمرأة لها.

ومنها: كون الوضوء بمدّ بالإجماع المستفيض نقله في كلام أساطين الطائفة للأخبار المستفيضة، ففي المرسل قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: الوضوء مدّ والغسل صاع، وسيأتي أقوام بعدي يستقلّون ذلك فأولئك على خلاف سنّتي والثابت على سنّتي معي في حظيرة القدس»(1) وفي الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كان رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يتوضّا بمدّ ويغتسل بصاع، والمدّ رطل ونصف، والصاع ستّة أرطال»(2)إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع.

وتحديد المدّ والصاع بما في الخبر مبنيّ على إرادة المدنيّ من الرطل، وعلى هذا فالصاع بالعراقي تسعة أرطال والمدّ رطلان وربع، لأنّ المدنيّ يزيد على العراقي بنصفه، فيكون العرافي ثلثي المدني وهو بالعراقي مائة وثلاثون درهما على الأصحّ ، فالمدّ مائتان وإثنان وتسعون درهما ونصف درهم، وهي مائة وثلاثة وخمسون مثقالا ونصفا ونصف عشر وربع نصف العشر بالمثقال الصيرفي، فهو يقرب من ربع المنّ التبريزي، وينقص منه بيسير لأنّ ربع المنّ مائة وستّون مثقالا.

وفي الذكرى استشكل في تقدير الاستحباب بالمدّ «بأنّ المدّ لا يكاد يبلغه الوضوء»(3) ثمّ تفصّى عنه بإمكان أن يدخل فيه ماء الاستنجاء كما تضمّنته رواية ابن كثير عن أمير المؤمنين عليه السلام الحاكية لوضوئه عليه السلام ورواية أبي عبيدة الحذّاء، ففي

ص: 705


1- الوسائل 483:1 الباب 50 من أبواب الوضوء ح 6.
2- الوسائل 481:1 الباب 50 من أبواب الوضوء ح 1.
3- الذكرى 188:2.

الأولى عن أبي عبدالله عليه السلام «قال بينا أمير المؤمنين عليه السلام ذات يوم جالس مع ابن الحنفيّة إذ قال له: يا محمّد ايتني بإناء من ماء أتوضّأ للصلاة، فأتاه محمّد بالماء فأكفاه بيده اليسري على يده اليمنى، ثمّ قال: بسم اللّه والحمد للّه الّذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجسا، قال: ثمّ استنجى فقال: اللهمّ حصّن فرجي واعفه واستره وحرّمني على النار، قال: ثمّ تمضمض فقال... الحديث»(1) وفي الثانية قال: «وضّأت أبا جعفر عليه السلام بجمع، وقد بال فناولته ماء فاستنجى، ثمّ صببت عليه كفّا فغسل وجهه، وكفّا غسل به ذراعه الأيمن، وكفّا غسل به ذراعه الأيسر، ثمّ مسح بفضل النداء رأسه ورجليه»(2).

واعترضه في الحبل المتين «بأنّه إنّما يتمشّى على القول بعدم استحباب الغسلة الثانية، وعدم كون المضمضة والاستنشاق من أفعال الوضوء، وأمّا على القول بذلك فيبلغ ثلاث عشرة أو أربع عشرة كفّا، وهذا إن اكتفى بغسل كلّ عضو بكفّ واحد وإلّا زادت على ذلك، فأين ما يفضل للاستنجاء» ثمّ عنه أنّه قال: «إن أراد بماء الاستنجاء الاستنجاء من البول وحده فهو شيء قليل حتّى قدر بمثلي ما على الحشفة، وهو لا يؤثّر زيادة ونقصانا أثرا محسوسا، وإن أراد ماء الاستنجاء من الغائط ومنهما معا لم يتمّ استدلاله بالروايتين المذكورتين، إذ ليس في شيء منهما دلالة على ذلك، بل في رواية الحذاء ما يشعر بأنّ الاستنجاء كان من البول وحده فلا تغفل»(3) انتهى.

وفي حاشية المدارك(4) أنّه صدّقه غيره من المحقّقين.

ومنها: السواك ذكره جماعة وادّعى على استحباب الإجماع في المشارق(5)للروايات، ففي رواية عبداللّه بن ميمون القدّاح عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «ركعتان بالسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك»(6) وفي المرسل قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لعليّ عليه السلام: «يا عليّ عليك بالسواك عند وضوء كلّ صلاة، قال: وقال صلى الله عليه و آله وسلم: السواك شطر الوضوء، قال: وقال النبيّ : لولا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك عند وضوء

ص: 706


1- الوسائل 401:1 الباب 16 من أبواب الوضوء ح 1.
2- الوسائل 391:1 الباب 15 من أبواب الوضوء ح 8.
3- الحبل المتين 125:1.
4- حاشية المدارك 312:1.
5- مشارق الشموس: 132.
6- الوسائل 19:2 الباب 5 من أبواب السواك ح 2.

كل صلاة»(1) وفي روايات متكرّرة قول النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في وصيّته لعليّ عليه السلام «عليك بالسواك عند كلّ وضوء. وأقلّ ما يستاك به الإصبع»(2) ففي مرسله «أدنى السواك أن تدلك بإصبعك»(3) وفي رواية السكوني «أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال: التسويك بالإبهام والمسبّحة عند الوضوء سواك»(4) قيل: ويستحبّ بقضيب الشجر، والمعروف أنّ أفضله الأراك ومحلّه قبل غسل اليدين على الظاهر المصرّح به في كلام بعضهم، ففي محكيّ الذكرى(5) «والظاهر أنّ محلّه قبل غسل اليدين» انتهى. وفي النبويّ المتقدّم دلالة عليه إن قلنا بكون غسل اليدين من الوضوء.

ومنها: فتح العين عند الوضوء، نقله في الدروس(6) وغيره عن ابن بابويه، ومستنده ظاهرا ما اورده في الفقيه مرسلا قال: «وقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: افتحوا عيونكم عند الوضوء لعلّها لا ترى نار جهنّم»(7) وروي نحوه عن علل الشرائع. وفي المشارق «واعلم أنّ الظاهر أنّ مرادهم باستحباب فتح العين مجرّد فتحها استظهارا لغسل نواحيها»(8).

وأمّا المكروهات فامور أيضا:

منها: الاستعانة المصرّح بكراهتها في كلام جماعة بل هو المعروف من المذهب كما في المدارك(9) بل لا يوجد فيه خلاف بين الطائفة عدا ما في المدارك كما عن الحدائق أيضا من التوقّف في الحكم استضعافا لدليله(10).

وأحسن ما يتمسّك به هاهنا ما رواه في الفقيه مرسلا قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا توضّأ لم يدع أحدا يصبّ عليه الماء، فقيل له: يا أمير المؤمنين لم لا تدعهم يصبّون عليك ؟ فقال: لا احبّ أن أشرك في صلاتي أحدا، وقال الله تبارك وتعالى: فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربّه أحدا»(11). وما عن الخصال

ص: 707


1- الوسائل 17:2 الباب 3 من أبواب السواك ح 2 و 4.
2- بحارالأنوار 271:77، السرائر 553:3.
3- الوسائل 24:2 الباب 9 من ابواب السواك ح 3 و 4.
4- الوسائل 24:2 الباب 9 من ابواب السواك ح 3 و 4.
5- الذكرى 178:2.
6- الدروس 14:1.
7- الوسائل 486:1 الباب 53 من ابواب الوضوء ح 1.
8- مشارق الشموس: 136.
9- المدارك 251:1.
10- الحدائق 364:2.
11- الوسائل 477:1، الباب 47 من أبواب الوضوء ح 2.

بسنده عن السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام عن آبائه عن عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: «خصلتان لا احبّ أن يشاركني فيها أحد، وضوئي فإنّه من صلاتي، وصدقتي فإنّها من يدي إلى يد السائل فإنّها تقع في يد الرحمن»(1).

فإنّ إشراك الغير ومشاركته في الوضوء لا ينبغي صرفه إلى أفعال الوضوء، لأنّه من التولية المحرّمة فلا ينبغي تأديته باللفظ الظاهر في الكراهة فيجب صرفه إلى مقدّمات الوضوء، وحيث إن الحكم ورد في الأخبار بعنوان الإشراك والمشاركة فيعمّ طلب المعاونة وقبولها معا فلا يختصّ بالاستعانة فقط كما يوهمه التعبير بها في كلام الجماعة، ولذا صرّح غير واحد بالتعميم، لكن يختصّ الحكم بالمعان فلا يجزي في المعين للاصل وعدم تناول النصّ والفتوى له.

وما تضمّنه رواية أبي عبيدة الحذاء المتقدّمة من قبوله عليه السلام لمعاونة الغير له في وضوئه بصبّ الماء على يده لا يصلح لمعارضة ما عرفت، لأنّ الفعل باعتبار ما فيه من الإجمال لا يعارض القول فليحمل على الضرورة أو بيان الرخصة، أو مصلحة أخرى مرجّحة للفعل في خصوص الواقعة على الترك.

وقضية ورود الاستعانة في الأخبار بعنوان الشركة أن لا يتحقّق موضوع الكراهة إلّا فيما جرت العادة بمباشرة المكلّف لفعله من المقدّمات، كصبّ الماء على اليد لغسل العضو، فوجب الاقتصار عليه وفاقا لجماعة من المحقّقين، فلا كراهية في استحضار الماء وطلب تسخينه ونحوه، خلافا لمن يرى شمول الكراهية لهما أيضا صاحب المدارك القائل «بأنّ الأظهر تحققها بنحو إحضار الماء وتسخينه حيث يحتاج إليه»(2)وقيّده في المسالك(3) بما بعد العزم على الوضوء، أمّا قبله فلا كراهة فيه.

ومبنى قولهم هذا على صدق الاستعانة على نحو ما ذكر أيضا، وهذا إنّما يحسن لو كان الحكم في الأخبار معلّقا على مفهوم الاستعانة، وهو بمكان من المنع، حيث لم يرد هذا اللفظ في شيء من الاخبار، والشركة الواردة فيها لا يتناول إلّا الاستعانة

ص: 708


1- الوسائل 478:1 الباب 47 من ابواب الوضوء ح 3.
2- المدارك 251:1.
3- المسالك 44:1.

فيما جرت العادة بالمباشرة فيه كما لا يخفى. وبذلك يلتئم الأخبار المأثورة من العترة الطاهرة من حيث تضمّن كثير منها لاستحضارهم الماء للوضوء، وقد تقدّم بعض من ذلك في استحباب المدّ، ومعه لا حاجة إلى كلفة الحمل كما صنعه في شرح المفاتيح قائلا: «بأنّه تعيّن حمل ما ورد عنهم في طلب إحضار الماء على صورة العسر أو بيان الجواز، أو بيان عدم الكراهة بالنسبة إلى مثل الابن والمملوك»(1). ومثل صبّ الماء في اليد صبّه على العضو مع تولّي المكلّف للإجراء ورفع الثياب عن اعضاء الوضوء ورفع اليد الغاسلة أو الماسحة. وهل يعتبر في موضع الكراهة عدم السر؟ إشكال، لكن في محكيّ شرح المفاتيح «أنّ الاستحباب لا ينافي العسر بل الحرج أيضا»(2) وفتاوي الأصحاب مطلقة حتى بالنسبة إلى الولد والمملوك.

أقول: مبنى الإشكال على جريان أدلّة نفي العسر والحرج في المستحبّات والمكروهات وعدمه، ولعلّ الأقوي العدم.

ومنها: التمندل وهو مسح بلل الوضوء وتجفيفها عن أعضائه بالمنديل على المشهور على ما نسب إليه في جملة من الكتب، وعن الخلاف الإجماع على أفضليّة تركه(3) و عن جماعة الحكم باستحباب الترك(4).

وهذا كما ترى يوافق ما عرفت عن الخلاف، ولا يلازم الكراهة المصطلحة، ولعلّه لظاهر النصّ الوارد في المسألة كالمرويّ عن ثواب الأعمال والمحاسن وغيرهما عن الصادق عليه السلام قال: «من توضّأ وتمندل كتبت له حسنة، ومن توضّأ ولم يتمندل حتى يجفّ وضوؤه كتبت له ثلاثون»(5) لقصورها عن إفادة الكراهة التي مرجعها إلى مرجوحيّة الفعل. ولو اعتبرت بالمعنى الّذي يضاف إلى العبادات وهو أقلّية الثواب، إذ المعيار فيه كون الفرد باعتبار ما فيه من الخصوصيّة أقلّ ثوابا بالقياس إلى الماهيّة، بأن يفرض كون ما يترتّب على ماهيّة الوضوء لو خلّيت وطبعها ثلاثين حسنة، وإذا طرأها التمندل نقص عنها تسعة وعشرون، لا بالقياس إلى بعض أفرادها، ولا دليل في الرواية

ص: 709


1- مصابيح الظلام 489:3 و 491.
2- مصابيح الظلام 489:3 و 491.
3- الخلاف 97:1.
4- كما في النهاية 221:1، الوسيلة: 52، الذكرى 189:2.
5- الوسائل 474:1 الباب 45 من أبواب الوضوء ح 5.

على الأوّل لجواز كون مبناها على كون الزيادة من لوازم الفرد الكامل مع كون ما يترتّب على أصل الماهيّة حسنة واحدة لا غير، ونحو هذا ممّا لا يطلق عليه الكراهة حتّى بالمعنى المذكور.

فقول الجماعة باستحباب الترك الغير المنافي لعدم كراهة الفعل - كقول الشيخ في الخلاف بأفضليته المدّعى عليها الإجماع - قوي جدّا بالنظر إلى الخبر مع ضميمة الأصل.

لكن قد يقال: إنّ التمندل كان ممّا يداومه العامّة على المشهور فيما بينهم، حتى عن أبي حنيفة وجماعة أنّهم لقولهم بنجاسة غسالة الوضوء كانوا يعدّون منديلا يجفّفون به أعضاء الوضوء ويغسلون المنديل، وحينئذ فإذا انضمّ إليه قاعدة كون الرشد في خلافهم، وقاعدة مرجوحيّة التشبّه بهم المستفادة عن روايات كثيرة، أمكن إثبات الكراهة على إشكال فيه أيضا، من حيث إنهم كانوا إنّما يستعملون المنديل في وضوئهم بزعم نجاسة غسالة الوضوء، وكون الرشد في خلافهم يقتضي عدم الاجتناب عن هذه الغسالة، لا ترك استعمال المنديل وتجفيف البلل به.

نعم يسهّل الأمر في الأخبار المستفيضة المتضمّنة لفعلهم عليهما السلام التمندل بل مداومتهم إيّاه، والأخبار الاخر النافية للبأس عنه على تقدير ظهور نفي البأس في انتفاء الكراهة أيضا، لقوّة احتمال خروجها حينئذ مخرج التقيّة مع احتمال الأولى لبيان الجواز والثانية لإرادة نفي الحرمة خاصّة.

وبالجملة فمأخذ القول بالكراهة من غير هذا الطريق الّذي تنبّه عليه غير واحد غير واضح، وقاعدة المسامحة في أدلّة السنن لا تقتضي أزيد من رجحان الترك بالإضافة إلى الفعل، وهو على ما عرفت لا. يلازم مرجوحيّة الفعل بالإضافة إلى أصل ماهيّة الوضوء.

وهل الكراهة مخصوصة بالتمندل أو تعمّه والتمسّح بذيل الثوب أو كمّه أو نحوهما، أو يعمّ الكلّ والتجفيف بالنار والشمس ونحوهما؟ في كلام غير واحد أنّ ظاهر المشهور الأوّل، وإطلاق جمله من عبائر الطائفة يقتضي الثاني، وقيل بالثالث تمسّكا بأن فيه إزالة أثر العبادة، ولقوله عليه السلام عليه السلام في رواية عبد الرحمن بن كثير المتقدّمة:

«يا محمّد من توضّأ مثل وضوئي وقال مثل قولي خلق اللّه من كلّ قطرة ملكا يقدّسه

ص: 710

ويسبّحه ويكبّره...»(1) الخ، والتجفيف يخرجه عن التقاطر، وضعف الوجهين غير خفيّ .

والإنصاف أنّه إن صحّحنا الاستناد إلى الرواية اختّصت الكراهة بالتمندل اقتصارا في الحكم المخالف للأصل على مورد النصّ ، بل وكذلك على تقدير الاستناد إلى القاعدة، إذ لم يثبت من العامّة أنّه يجففون البلل بغير المنديل أيضا فالأصل يقتضي العدم مطلقا.

ومنها: إيقاع الوضوء من حدث البول والغائط في المساجد على ما أفتى به غير واحد لخبر رفاعة قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الوضوء في المسجد فكرهه من البول والغائط»(2) وربّما يستفاد من مفهوم خبر بكير بن أعين عن أحدهما قال: «إذا كان الحدث في المسجد فلا بأس بالوضوء في المسجد»(3) اختصاص الكراهة بما لو وقع الحدث في خارج المسجد. وقد يحمل هذا الخبر بقرينة فرض وقوع الحدث في المسجد على غير الحدثين، وعليه فالحكم يعمّ الحدثين وغيرهما وإن كان يختصّ بالحدث الواقع في غير المسجد، واللّه الهادي.

في أحكام الوضوء، وفيه مسائل:
المسألة الاولى: من تيقّن الحدث وشك في الطهارة بني على يقينه،

كما أنّه من تيقّن الطهارة وشك في الحدث بني على يقينه، فيتطهّر الأوّل دون التاني إلى أن يحصل له اليقين بالحدث إجماعا على الظاهر المصرّح به في كثير من العبائر.

ويدلّ على الحكمين - بعد الاستصحاب المتفق عليه في خصوص المقام المدّعى فيه كونه من ضروريات الإسلام كما عن المحدّث الاسترابادي(4) في بعض فوائده - من الأخبار - خصوصا ما رواه في التهذيب في الموثق عن عبدالله بن بكير عن ابيه قال:

«قال لي أبو عبدالله عليه السلام: إذا استيقنت أنّك توضّأت فإياك أن تحدث وضوء أبدا حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت»(5) فإنّ الشرط بمفهومه يدلّ على الحكم الأوّل المعلّق على عدم استيقان الوضوء الّذي لا يتأتّى فرضه إلّا في صورة استيقان الحدث، كما أنّ

ص: 711


1- الوسائل 401:1 الباب 16 من أبواب الوضوء ح 1.
2- الوسائل 492:1 الباب 57 من ابواب الوضوء ح 1 و 2.
3- الوسائل 492:1 الباب 57 من ابواب الوضوء ح 1 و 2.
4- الفوائد المدنية: 143.
5- الوسائل 247:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 7،

المنطوق المغيّا بغاية استيقان الحدث يدلّ على الحكم الثاني المعلق على استيقان الوضوء المجامع تارة لاستيقان عدم وقوع الحدث، واخرى للظنّ بوقوعه، وثالثة للظنّ بعدم وقوعه، ورابعة للشك في وقوعه والعدم، هذا على ما في التهذيب. وأمّا على ما في الكافي من قوله عليه السلام: «إذا استيقنت أنّك قد أحدثت فتوضّأ وإيّاك وأن تحدث وضوءا أبدا حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت»(1) فيدل بكلّ من مفهوم الشرط والمنطوق المغيّا على الحكم الثاني، ونحوه في الدلالة عليه خاصّة صحيحة زرارة الواردة في الخفقة والخفقتين وفيها «لا حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر»(2).

وعموما(3) ذيل هذه الصحيحة، وغيرها من المعتبرة المستفيضة الناهية عن نقض اليقين بالشك الحاصرة لناقض اليقين في اليقين الشاملة بعمومها لجميع موارد اليقين والشك الّتي منها المقام بالنسبة إلى الحكمين معا، ومقتضى إطلاق هذه الأخبار كما هو ظاهر الحصر الواقع في جملة [منها] عدم الفرق في وجوب البناء على اليقين مطلقا بين صورة تساوي الاحتمالين وغيرها من صورتي الظنّ بالبقاء والظنّ بعدمه، كما نصّ عليه جماعة وعزاه شارح الدروس إلى ظاهر كلام الأصحاب(4) وعليه مبنى تعبّديّه الاستصحاب على ما يراه المتأخرون من أصحابنا، استنادا إلى عمومات الأخبار.

فما يقال: من أن المستفاد من قوله عليه السلام: «لا ينقض اليقين بالشك» أنّ غير الشك ناقض مع ملاحظة قوله عليه السلام: «ولكن ينقضه بيقين آخر» ونحوه ممّا لا ينبغي الالتفات إليه، مع تطرّق المنع إلى وروده في الروايات بمعنى تساوي الطرفين، فإنّه اصطلاح محدث من أهل المعقول فلا ينبغي تنزيل خطاب الشرع إليه، وإلّا فالمصرّح به في كلام جماعة أنّ الشك بحسب العرف واللغة يشمل كلّ من الاحتمال المساوي والاحتمال الراجح والاحتمال المرجوح، كما هو مقتضي نصّ غير واحد من أئمّة اللغة، فعن الصحاح

ص: 712


1- الوسائل 472:1 الباب 44 من أبواب الوضوء ح 1.
2- الوسائل 245:1 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 1.
3- عطف على قوله: «ويدلّ على الحكمين... من الأخبار خصوصا» الخ.
4- مشارق الشموس: 142.

والقاموس «أنّه خلاف اليقين»(1) فما يستفاد من كلمات شيخنا البهائي في الحبل المتين من قصر الاستصحاب على صورة الظنّ ببقاء المستصحب في كلّ مورد شخصي(2)خروج عن أخذ الاستصحاب من الأخبار، أو خروج عن إطلاقها من غير دليل.

وهاهنا مغالطة أوردها الشهيد في الذكرى وهو «أنّ اليقين والشك يمتنع اجتماعهما في وجود أمرين متنافيين في زمان واحد، لأنّ يقين وجود أحدهما يقتضي يقين عدم الآخر، والشك في أحدهما يقتضي الشك في الآخر»(3) وهذا منه قدس سره عجيب، وأعجب منه ما ذكره في الذبّ عنه من حمل اليقين(4) على الظنّ .

وأعجب من الجميع ما عن بعض المتأخّرين في اعتراضه عليه بأنّه عند ملاحظة الاستصحاب ينقلب أحد طرفي الشك ظنّا والطرف الآخر وهما، فلم يجتمع الظنّ والشك في الزمان الواحد، فإنّ غرض الشهيد من الحمل المذكور جعل اليقين عبارة عن الاحتمال الراجح والشك عبارة عن الاحتمال المرجوح، وهما مجتمعان دائما مع صورة الظنّ المصطلح.

نعم هذا تكلّف غير محتاج إليه في الذبّ عن الإشكال بعد ملاحظة أن الممتنع إنّما هو اجتماع اليقين والشك في زمان واحد مع اتحاد زمان متعلّقيهما، ومفروض المقام كما هو مفروضهم في مورد الاستصحاب ليس كذلك، لأنّ المتيقّن وجود أحد الأمرين المتنافيين في زمان ماض، والمشكوك فيه وجود الآخر في زمان آخر لاحق بالأوّل، وكما أنّه لا تنافي بين وجود أحدهما في زمان ووجود الآخر في زمان آخر، فكذلك لا تنافي بين اليقين بوجود أحدهما في زمان والشك في وجود الآخر في زمان آخر.

المسألة الثانية: لو تيقنهما وشك في المتقدّم والمتأخّر،

فاصحابنا فيه بين قائل بأنّه يتطهّر كما عليه الصدوق والمفيد والشيخ(5) ومن تأخّر عنهم، بل هو المشهور المحكيّ

ص: 713


1- الصحاح 1594:4، القاموس 1252:2.
2- الحبل المتين 37:1.
3- الذكرى 207:2.
4- في الأصل: «من حمل اليقين على اليقين على الظنّ » والظاهر أنّ قوله «على اليقين» سهو من قلمه الشريف ولدّا صحّحناه بما في المتن.
5- المقنع: 7، المقنعة: 50، المبسوط 24:1.

فيه الشهرة فوق حدّ الاستفاضة المعزيّ في محكيّ الذكرى إلى الاصحاب(1) مؤذنا بدعوى الإجماع.

وقائل بالفرق بين ما لو جهل حاله قبلهما من طهارة أو حدث فكالمشهور، وما لو علمه فيأخذ ضدّ ما علمه من حاله قبلهما فإن كان طهارة فهو الآن محدث فتطهّر، وإن كان حدثا فهو الآن متطهّر فلا يتطهّر، كما احتمله المحقّق في المعتبر(2) واختاره من تأخّر عنه المحقّق الثاني في حاشية الشرائع(3) كما عنه أيضا في جامع المقاصد و الجعفريّة(4).

وقائل بالفرق أيضا بين صورتي الجهل بحاله قبلهما فكالمشهور، وعلمه بحاله فيأخذه بمثل ما علمه من طهارة أو حدث، فإن كان ما علمه الطهارة فهو الآن متطهّر، أو الحدث فهو الآن محدث، كما عليه العلّامة في المختلف والتذكرة والقواعد(5) هذا على ما حكاه جماعة، وفي ورود القولين الأخيرين على موضوع واحد نظر، يظهر وجهه بما سنشير إليه. وربّما يحكي هذه المذاهب الثلاث عن العامّة أيضا كما في التذكرة(6).

ومبنى إشكال المسألة في صورة العلم بما قبلهما من الحال على احتمالي التوالي والتعاقب المستلزم أوّلهما لتأخّر الحدث عن الطهارة فيما لو كانت الحالة المعلومة قبلهما هي الطهارة، وتأخّر الطهارة عن الحدث فيما لّو كانت الحالة المعلومة قبلهما هو الحدث، وثانيهما لتأخّر الطهارة عن الحدث في الصورة الأولى، وتأخّره عنها في الصورة الشانية، ولذا قال في حاشية الشرائع: «الأصحّ التفصيل، بأن يقال: إن لم يعلم حاله قبل زمانهما تطهّر، وإن علم فإن جوّز توالي حدثين أو توالي طهارتين أخذ بضدّ ما قبلهما، وإن قطع بتعاقب الحدث والطهارة أخذ بمثل ما كان قبلهما»(7) وفي معناه المحكيّ عن جامع المقاصد(8) والمراد بالتوالي أن يتوالى طهارتان من دون تخلّل حدث بينهما أو حدثا من دون تخلّل طهارة بينهما، وبالتعاقب أن يقع طهارة عقيب حدث أو حدث عقيب طهارة.

ص: 714


1- الذكرى 205:2.
2- المعتبر 171:1.
3- رسائل المحقّق الكركي 88:1.
4- جامع المقاصد 237:1، فوائد الشرائع. 10.
5- المختلف 308:1، التذكرة 211:1، القواعد 206:1.
6- التذكرة 211:1.
7- حاشية الشرائع (حياة المحقق الكركي وآثاره ج 10):54.
8- جامع المقاصد 237:1.

وبما بيّنّاه ظهر أن هاهنا صورا خارجة عن موضوع المسألة من جهة زوال الجهة المقتضية للشك والإشكال في التقدّم والتأخّر.

منها: أن يعلم بالتوالي بحسب عادته أو في الواقعة الشخصيّة، فإنه مع تذكر كون حاله قبلهما هو الطهارة يعلم كون المتأخّر منهما هو الحدث، كما أنّه مع تذكر كونه الحدث يعلم كون المتأخّر منهما هو الطهارة.

ومنها: أن يعلم بالتعاقب بحسب عادته أيضا أو في الواقعة الشخصية بعد تذكر حاله قبلهما، لأنّه يعلم حينئذ كون المتأخّر منهما هو الطهارة لو كانت حالته المعلومة قبلهما هي الطهارة، أو كونه الحدث لو كانت حالته المعلومة هو الحدث، وربّما يقيّد ذلك بعلمه بالاتّحاد أيضا، والمراد به ما يقابل الاختلاف في العدد وهو الاستواء في العدد كطهارة وحدث وطهارتين وحدثين.

والسرّ فيه أنّه مع احتمال عدم الاتّحاد لم يتبيّن كونه متطهّرا فيما لو كان حاله قبلهما الطهارة لاحتمال طروّ حدث آخر عقيب الطهارة، ولا كونه محدثا لو كان حاله قبلهما الحدث لاحتمال وقوع طهارة اخرى عقيب الحدث المعلوم، والظاهر عدم الحاجة إلى هذا التقييد في الإخراج عن مسألة تيقّن الطهارة والحدث مع الشك في المتقدّم، لكفاية فرض التعاقب في الإخراج عنها مطلقا.

غاية الأمر دخولها مع قيام الاحتمال المذكور في مسألة تيقّن الطهارة مع الشك في الحدث أو تيقّن الحدث مع الشك في الطهارة.

وكيف كان فحجّة المشهور تصادم اليقينين المقتضي أحدهما البناء على الطهارة، والآخر البناء على الحدث بسبب تكافؤ الاحتمالين، تقدّم الحدث على الطهارة أو تقدّمها عليه الموجب للرجوع إلى أصالة الاشتغال المستدعية ليقين البراءة الّذي لا يتأتّى إلّا بالتطهّر، فإنّ قضيّة أدلّة اشتراط الصلاة بالطهارة وجوب إحراز الطهارة حين التلبّس بها بطريق اليقين أو ما قام مقامه، ومعناه تلبّس المكلّف بالطهارة حال الاشتغال بالصلاة وهو في مفروض المسألة متعذر، لمكان الشك في التلبّس والعدم مع عدم رافع عقلي ولا شرعي. ولا ريب أنّ الشك في الشرط يستلزم الشك في المشروط فانحصر طريق اليقين بالبراءة في التطهير، فيجب لوجوب تحصيل هذا اليقين بحكم

ص: 715

العقل المستقلّ .

وتوهّم الرجوع إلى أصالة البراءة الواردة على أصالة الاشتغال، يدفعه: أنّ مجري أصالة البراءة إنما هو الشك في الشرطيّة لا الشك في وجود الشرط.

ويمكن تتميم الحجّة على القول يكون الحدث مانعا أيضا، أمّا على القول يكون الطهارة عبارة عن عدم الحدث، فلدنّ مرجع هذا المانع إلى شرطيّة عدمه، ولا ريب أنّ الشرط لا يحرز إلّا باليقين ولو كان أمرا عدميّا. وأمّا على غيره فلأنّ مجرّد عدم اليقين بوجود المانع لا يكفي في إحراز عدمه ما لم يستند إلى الأصل، وهو في نحو المقام متعذّر ولو بمعارضة مثله له كما زعمه جماعة.

واستدلّ أيضا بما عن الفقيه «وإن كنت على يقين من الوضوء والحدث ولا تدري أيّهما أسبق فتوضّأ»(1) إمّا لاعتباره في نفسه أو لانجباره بالشهرة بقسميها، والأوّل غير ثابت، وكون الشهرة هنا استناديّة غير واضح، وبدونه يشكل الانجبار بها كما حرّر في محلّه. وبقوله تعالى: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (2) الآية أوجب الوضوء عند كلّ صلاة، ويزيّفه: كونها مخصص بالمحدثين فخرج عنها بمقتضى الأدلّة المخصصه المتطهّر بنوعه، ومفروض المقام مردّد بين كونه مصداقا للنوع الباقي تحت العامّ أو للنوع المخرج عنه فلا يتناوله العامّ ، لأنّ الحكم المعلّق عليه لم يتعلّق بعنوان المكلّف من حيث هو بل به من حيث وصف عنواني وهو كونه محدثا، فلابدّ في إدراج المصداق الخارجي تحته من إحراز هذا الوصف العنواني له بطريق اليقين ولو بحكم الأصل، وقد عرفت أنّه في نحو المقام متعذر.

ومن هنا ظهر ضعف الاستدلال بنحو قوله: «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة»(3) فإنه مخصوص إمّا بحكم الانصراف العرفي أو بمخصص خارجي بمن لم يسبقه طهور غير متعقّب بالحدث، سواء أريد بالطهور نفس الوضوء أو هو بوصف كونه مؤثّرا في الطهارة ورفع الحدث، ومفروض المقام سبقه طهور وحدث ولم يعلم تعقّب الأوّل بالثاني أو تعقّب الثاني بالأوّل، فلا يصدق عليه أنّه من لم يسبقه طهور غير

ص: 716


1- الفقيه 61:1.
2- المائدة: 6.
3- الوسائل 372:1 الباب 4 من أبواب الوضوء ح 1.

متعقّب بالحدث ولو بحكم الأصل.

وأضعف منه توهّم جواز التمسّك بعمومات وجوب الوضوء عقيب حصول أسبابه، ولو قرّر بأنّ مقتضي أصالة عدم التداخل هو كون كلّ واحد من تلك الأسباب ولو وقع عقيب مثله مقتضيا لتكليف مستقلّ بالطهارة، غاية الأمر أنّه إذا علم تعاقبهما اكتفى الشارع في امتثال التكليفين بفعل واحد، فإذا لم يعلم تواليهما لم يعلم سقوط التكليفين بفعل واحد، فلابدّ من فعل آخر ليعلم بالسقوط، فإنّها إنّما وردت لإعطاء حكم السببيّة لمسبّب، موضوعه المكلّف الغير المتلبّس بالطهارة الحاصلة عقيب وقوع السبب، وظاهر أنّ دليل الحكم لا يصلح محرزا لموضوعه فلابدّ في إحرازه من دليل آخر مفقود في المقام، فيكون دليل الحكم بالقياس إليه مجملا فاستحمال التمسّك به حينئذ.

وأمّا التمسّك بقوله عليه السلام: «إذا استيقنت أنّك أحدثت فتوضّأ» فمع معارضته بقوله عليه السلام:

«إذا استيقنت أنّك توضّأت، فإيّاك أن تحدث وضوء» واضح الضعف أيضا، لظهوره بحسب متفاهم العرف في «أنّك إذا استيقنت بأنّك متلبّس بوصف المحدثيّة حال توجّه الخطاب بالصلاة مثلا فتوضّا» فلا يكون شاملا لنحو مفروض المقام.

وربّما يتمسّك بالاستصحاب، فإن اريد به استصحاب عدم تحقّق المسبّب وهو الوضوء، وعدم دخوله في ظرف الخارج احرازا الموضوع أدلّة الأسباب، ففيه: أنّ مرجعه إلى أصالة عدم تحقق رافع للحدث المفروض وقوعه فيحكم بتقدّم الوضوء وإن استلزم توالي الطهارتين. وهذا كما ترى يعارضه أصالة عدم تحقق ناقض للوضوء المفروض وقوعه، ولازمه الحكم بتقدّم الحدث وإن استلزم توالي الحدثين.

وإن اريد به استصحاب المانع عن الدخول في الصلاة، فإن أريد به ذات المانع فلا معنى لاستصحابه، وإن أريد به منعه فإن اريد به المنع الفعلي فالاستصحاب بالنسبة إليه ساقط الاعتبار لسريان شكه من جهة قيام احتمال توالي الحدثين الموجب لعدم تأثير ثانيهما فيما أثّر فيه أوّلهما من المنع الفعلي. وإن أريد به المنع التعليقي وهو المعلّق على مصادفة الحدث للطهارة، ففيه: على تقدير اعتبار نحو هذا الاستصحاب أنّه معارض بمثله وهو استصحاب استباحة الصلاة اللازمة لما فرض وقوعه من الطهارة ولو أخذت بالمعنى التعليمي، نظرا إلى مراعاة احتمال توالي الطهارتين الموجب لعدم

ص: 717

تأثير ثانيتهما فيما أثّر فيه أولاهما من الاستباحة الفعليّة.

حجّة القول بوجوب الأخذ بضدّ ما علمه من الحالة السابقة على ما يستفاد من المعتبر: «أنّ الحال السابق إن كان طهارة فقد علم انتقاضهما بالحدث المتأخر وهو شاك في ارتفاع الناقض لاحتمال توالي الطهارتين، فيكون كمن تيقّن الحدث وشك في الطهارة فيبنى على الحدث، وإن كان حدثا فقد علم ارتفاعه بالطهارة المتأخّرة، وهو شاك في انتقاض الرافع لاحتمال توالي الحدثين، فيكون كمن تيقّن الطهارة وشك في الحدث فيبني على الطهارة»(1) وكأنّه فرض اليقين والشك في الأثر الناشئ عن الحدث والطهارة وهو الحالة المانعة أو المبيحة لا في المؤثّر، فإنّه لذاته متيقّن فيهما معا، وحينئذ فدعوى تيقّن الحدث في الأوّل والطهارة في الثاني لا يخلو عن قوّة لكون تأثير ما احتمل تواليه لمثله من طهارة أو حدث مشكوكا فيه من أصله، فيأتي اصالة العدم بالنسبة إلى أثره القاضية بعدم تحقّقه ودخوله في ظرف الخارج منضمّة إلى اصالة بقاء أثر ما علم تأثيره.

وبما قرّرناه يندفع ما قيل في الاعتراض عليه من: أنّ الطهارة السابقة في الصورة الأولى و إن انتقضت بالحدث المعلوم إلّا أنّ الطهارة المفروضة مع الحدث متيقنة الوقوع فلابدّ من العلم بناقضها وهو غير معلوم، لجواز تقدّم الحدث عليها، وكذا الحدث السابق في الصورة الثانية وإن ارتفع بالطهارة المعلومة إلّا أنّ الحدث المفروض مع الطهارة متيقّن الوقوع أيضا، فلابدّ من العلم برافعه وهو غير معلوم لجواز تقدّم الطهارة، إذ المتيقّن وقوعه إنّما هو ذات الطهارة وذات الحدث في الصورتين، وليس مبنى الحجّة على ملاحظة تيقّن وقوع ذاتيهما، بل على تيقّن تحقّق أثريهما وهو في الطهارة الثانية في الصورة الأولى والحدث الثاني في الصورة الثانية غير متيقّن، ومجرّد احتمال تقدم الحدث في الاولى والطهارة في الثانية بعد ملاحظة مصادمة مثله له لا يجدي نفعا في تيقّن التأثير وتحقّق الأثر.

وأمّا ما يعترض عليه أيضا بأنّ الطهارة الثانية والحدث الثاني وإن لم يعلم تأثيرهما

ص: 718


1- المعتبر 171:1.

بأنفسهما، لكن العلم بوجود الأثر حال وقوع كلّ منهما ضروري الحصول، غاية الأمر تردّده في النظر بين كونه مستندا إلى ما فرض كونه معلوما من الحالة السابقة أو إلى مماثله المشكوك في تأثيره، وتيقّن هذا الأمر المردّد كاف في لزوم مراعاة رافع يقيني وهو غير متحقّق في المقام.

ففيه: أنّ استصحاب الأمر المردّد إنّما يصحّ حيث لم يعلم بحصول رافع يقيني لهذا الأثر الموجود على تقدير استناده إلى الحالة السابقة، وهذا كما فيما لو توضّأ أوّلا ثمّ جدّد الوضوء بقصد الوضوء المجدّد مع احتمال إخلال في الوضوء الأوّل، ثمّ عرفه شك في وقوع الناقض، فإنّ استصحاب الأمر المردّد المتيقّن وجوده حين وقوع الوضوء الثاني ممّا لا إشكال فيه، والمقام ليس منه لأنّ المفروض حصول رافع يقيني مردّد بين وقوعه بعد المماثلين أو تخلّله بينهما، وحينئذ لا معنى لاستصحاب الأثر بمعنى الأمر المردّد، لأنّه إمّا أن يراد به أثر المماثل الأوّل فهو غير مشكوك الارتفاع، أو يراد به أثر المماثل الثاني المشكوك في تأثيره فهو غير متيقن الحدوث.

ومعنى الشك في بقائه أنّ هذا الأمر الموجود حين وقوع ما يشك في تأثيره هل هو مستند إليه ليكون باقيا أو إلى مماثله السابق عليه ليكون مرتفعا؟ ومرجعه إلى انتفاء أحد ركني الاستصحاب من الشك اللاحق أو اليقين السابق، نعم إنّما يصحّ أن يفرض بالنسبة إلى المماثل المشكوك في تأثيره فعلا استصحاب الأثر التعليقي لكن في صلوحه لمعارضة استصحاب الأثر الفعلي تأمّل.

والأولى في هدم الاستدلال منع اندراج المقام في ضابط الاستصحاب، ولا في العمومات الناهية عن نقض اليقين بالشك، فإنّ المكلّف يعلم على سبيل الجزم بأنّه قد حصل له التلبّس بحالتين حالة مانعة وحالة مبيحة، ويعلم أيضا كذلك أنّه قد انتقضت إحدى هاتين الحالتين بالأخرى ولكنّه لا يدري بسبب الشك في التقدّم والتأخّر أن الحالة المنتقضة هل هي الحالة المبيحة ليكون الآن محدثا أو الحالة المانعة ليكون الآن متطهّرا؟ وهذا ممّا لا يمكن الظنّ فيه ببقاء إحدي الحالتين على التعين، ولا أنّه مندرج في نقض اليقين بالشك، بل لو نقض اليقينان وأمكن كان نقضا لهما بالعلم الإجمالي. من غير فرق في ذلك بين صورتي العلم بالحالة السابقة عليهما مع كونها الطهارة أو الحدث

ص: 719

وعدمه، فلابدّ من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال حسبما اعتمد عليها الجمهور.

ونظير المقام ما لو طرأ المكلّف حالة حدث وحالة [خبث] وعلم بارتفاع إحداهما برافعها المردّد بين كونه الغسل أو التطهّر، وكما أنّ ذلك ليس من مجاري الاستصحاب، ولا من موارد نقض اليقين بالشك، فلابدّ من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال المقتضية للغسل والتطهّر إحرازا للشرطين معا الطهارة عن الحدث والطهارة عن الخبث، فكذلك المقام على ما قرّرناه، غاية الفرق بينه و بين المثال أن الحالتين هنا مترتّبتان مع كون الناقض لإحداهما المعلوم انتقاضها هي الحالة الأخرى بخلاف المثال، وهذا لا يوجب فرقا بينهما بحسب الحكم كما هو واضح.

حجّة القول بالبناء على الحالة السابقة على ما حكاه غير واحد: أنّ الطهارة والحدث المعلومين بعد الحال السابق لتكافؤ احتمالي التقدّم والتأخّر فيهما معا تعارضا وتساقطا فيرجع إلى الحال المعلوم أوّلا، وفيه من الضعف ما لا يحتاج إلى البيان، فإن الحال السابق بعد تيقّن انتقاضها على كلّ حال كيف يسوغ الرجوع إليه، وتوهّم استصحابها مع تيقن انتقاضها أوضح فسادا، والاستناد إلى قاعدة الاشتغال وإن كان صحيحا إلّا أنّ مبنى الاستدلال ليس عليه وإلّا بطل الفرق المفروض.

واعلم أنّ هذا القول وإن كان عزاه جماعة(1) إلى العلّامة في المختلف، غير أنّ عبارته المحكيّة عن هذا الكتاب لا ينطبق على العنوان الّذي عليه كلام الأصحاب وهو معقد الخلاف ومصبّ الأقوال الثلاث، فإنّه على ما حكي قال: «أطلق الأصحاب القول بإعادة الطهارة على من تيقن الحدث والطهارة وشك في المتأخر منهما، ونحن فصّلنا ذلك في أكثر كتبنا، وقلنا: إن كان في الزمان السابق على تصادم الاحتمالين محدثا وجب عليه الطهارة، وإن كان متطهّرا لم يجب، ومثاله: أنه إذا تيقّن عند الزوال أنّه نقض طهارة وتوضّأ عن حدث وشك في السابق فإنه يستصحب حال السابق على الزوال، فإن كان في تلك الحال متطهّرا فهو على طهارته لأنه تيقّن أنّه نقض تلك الطهارة ثمّ توضّأ، ولا يمكن أن يتوضّأ عن حدث مع بقاء تلك الطهارة، ونقض الطهارة الثانية

ص: 720


1- كما في الذكرى 206:2، جامع المقاصد 236:1.

مشكوك فيه فلا يزول اليقين بالشك، وإن كان قبل الزوال محدثا فهو الآن محدث لأنّه تيقن أنّه انتقل عنه إلى طهارة ثمّ نقضها، والطهارة بعد نقضها مشكوك فيه»(1) إنتهي.

وهذا كما ترى ممّا لا مدخل له بالعنوان المعروف، إذ بعد التفطن بكون الطهارة الثانية طهارة عن حدث أو يكون الحدث الثاني نقضا لطهارة يتبيّن كون الحدث في الصورة الأولى متخلّلا بين الطهارتين، أو كون الطهارة في الصورة الثانية متخلّلة بين الحدثين، ولازمه انكشاف كونه في الأولى على طهارة يقينا، وفي الثانية على حدث كذلك، فيكون الشك المفروض في التقدّم والتأخّر ابتدائيّا محضا يزول بالتأمّل والتروّي، ولو فرض بقاء شك في الطهارة الثانية أو الحدث الثاني فإنما هو لأمر خارج لا تعلّق له بمسالة الشك فيهما لاشتباه المتقدّم والمتأخّر، بل هو من مسألة متيقّن أحدهما والشك في طروّ الآخر موضوعا وحكما، فالبناء على الحالة السابقة حينئذ ممّا لإشكال فيه، لكن ينبغي أن يراد به البناء على نوعها لا على شخصها كما لا يخفى، وإليه يرجع المعنى المراد من الاستصحاب على ما عبّر به في العبارة المتقدّمة كما يوضحه ما حكي عنه في جواب اعتراض البيضاوي بأنّه لا معنى لاستصحاب الأوّل بعد العلم بانقطاعه فقال: «إنّ المراد لازم الاستصحاب» أي البناء على مثل الحال الأوّل، فهذه الصورة أيضا من الصور الخارجة عن موضوع المسألة كما أشرنا إلى جملة منها.

ثمّ إنّ الحكم المذكور بجميع شقوقها جار فيمن تيقّن الجنابة والغسل وشك في المتاخّر، كما عزي التصريح به إلى المنتهى في مسألة الماء المستعمل في الحدث الأكبر، بل قيل الظاهر عدم الخلاف فيه، ولذا عبّروا عن العنوان بلفظ الطهارة.

المسألة الثالثة: لو شك في فعل شيء من أفعال الوضوء غسلا كان أو مسحا حال تلبّسه واشتغاله به أتى بالمشكوك فيه

بل بما بعده أيضا إن كان الشك فيما عدا الجزء الأخر تحصيلا الترتيب الواجب فيه، ولا يجب عليه إعادة الوضوء بتمامه ما لم يحصل الجفاف المنافي لما يعتبر فيه من الموالاة وإلّا يعيده من أوّله تحصيلا للموالاة أيضا، كما هو المعروف من قول اصحابنا من غير أن يعهد في ذلك خلاف عدا ما يوهمه عبارات

ص: 721


1- المختلف 308:1.

جماعة من القدماء، كالشيخين في المقنعة والنهاية والحلّي في السرائر(1) القابلة للتأويل من إيجاب إعادة الوضوء مطلقا، وكأنّه لما أشرنا إليه قال في المدارك: «ولا خلاف بين الأصحاب في وجوب الإتيان بالمشكوك فيه ثمّ بما بعده»(2) ونحو. ما في كلام شارح الدروس(3) مع تصريحه بالإجماع أيضا فيما بعد ذلك، بل عن العلّامة البهبهاني(4) حكاية نقله عن جماعة و إن أنكره غير واحد.

وكيف كان فمستند الحكم - بعد الأصول من استصحاب الحدث، وأصالة عدم إباحة الدخول في الصلاه، وأصالة عدم وقوع المشكوك فيه، وأصالة الاشتغال - صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا؟ فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى الله ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو في غيرها، فشككت في بعض ما قد سمّى اللّه ممّا أوجب الله عليك فيه وضوءه فلا شيء عليك فيه، فإن شككت في مسح رأسك فأصبت في لحيتك بللا فامسح بها عليه وعلى ظهر قدميك، فإن لم تصب بللا فلا تنقض الوضوء بالشك وامض في صلاتك، وإن تيقّنت أنّك لم تتمّ وضوءك فأعد على ما تركت يقينا حتى تأتي على الوضوء»(5).

وبذلك يخرج عن عموم قاعدة عدم الالتفات إلى الشك في الشيء بعد تجاوز محلّه المستفادة من نحو قوله عليه السلام في صحيحة زرارة: «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء»(6) وقوله عليه السلام في الموثق: «كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه»(7) فإنّ العامّ يخرج عنه بالخاصّ خصوصا إذا كان الخاصّ معتضدا بالصحّة والشهرة ونقل الإجماع، نعم ربّما يتوهّم المعارضة بينه وبين موثقة عبدالله بن أبي يعفور عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس

ص: 722


1- المقنعة: 50، النهاية 224:1، السرائر 104:1.
2- المدارك 256:1.
3- مشارق الشموس: 139.
4- مصابيح الظلام 409:3.
5- الوسائل 469:1 الباب 42 من أبواب الوضوء ح 1.
6- الوسائل 237:8 الباب 23 من ابواب الخلل الواقع في الصلاة ح 1.
7- الوسائل 246:8 الباب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 2.

شكك بشيء، إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه»(1) بناء على عود ضمير «غيره» إلى الشيء لا إلى الوضوء، وهي أخصّ من الصحيحة لاختصاصها بما لو تلبّس بغير المشكوك فيه، فيخصص الصحيحة بما إذا لم يتجاوز المحلّ ، ولو سلّم عدم عمومها من هذه الجهة فلا دقلّ من كون التمارض بينهما على وجه التباين، فيرجع إلى القاعدة المشار إليها المستنبطة من الخبرين.

وفيه - بعد الإغماض عن عدم مكافئة الخاصّ للعامّ أو الترجيح بالشهرة ونقل الإجماع -: منع جدوى عود الضمير إلى الشيء في صرف الرواية عن الشك بعد الفراغ إلى الشك في الأثناء، فإنّ المرجع المنكر العامّ إذا قيد بنوع أو صنف كان الضمير في متفاهم العرف راجعا إليه بهذا الاعتبار ولئلّا يلزم الاستخدام.

وقضيّة ذلك أن يكون المراد به الشيء المقيّد بكونه من الوضوء، فيكون الغير عبارة عن غير هذا المقيّد ولا يكون إلّا ما هو خارج عن الوضوء، فالرواية على كلا احتمالي الضمير منطبقة على الشك بعد الفراغ، هذا مع ما في قوله عليه السلام: «إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» من القرينة على تعين عوده إلى الوضوء، فإنّ الشك في الشيء ممّا لا يجامع كون المكلّف في ذلك الشيء غير مجاوز له، إلّا إذا فرّق بين متعلّق الشك وما هو كائن فيه يكون الثاني كلّا مجموعيّا وقع الشك حال التلبّس به من حيث هو كلّ في وقوع بعض أجزائه.

وهذا المعنى وإن احتمله العضو إذا شك في بعضه حال التلبّس بالبعض الآخر، إلّا أنّ الأظهر كونه مفروضا في نفس الوضوء أو غيره أيضا من العبادات الأصليّة المركبة، بناء على أنّ «لام» الشك إمّا أن يكون للعهد فيكون المراد من مدخوله الشك في شيء من الوضوء، أو يكون للجنس، وعلى الأوّل لابدّ وأن يكون المراد من شيء شيئا من الوضوء غير ما هو متعلّق للشك، فيكون مفاد الرواية قصر الحكم على الشك في أفعال الوضوء ما دام التلبّس به باقيا.

وعلى الثاني لابدّ وأن يراد منه شيء من العبادات المركبة الأصليّة شامل للوضوء

ص: 723


1- الوسائل 469:1 الباب 42 من أبواب الوضوء ح 2.

وغيره، فيكون مفاد الرواية قصر اعتبار الشك على كون المكلّف في العمل المركب، ومعناه عدم كونه مجاوزا إيّاه خارجا عنه، فيكون الرواية على كلى الوجهين من أدلّة المسألة لا من منافيات دليلها، وظاهر كلام الأصحاب كما هو صريح غير واحد منهم عدم كون الحكم مقصورا على صورة الشك بالمعنى المصطلح عليه بل يعمّها وصورة الظنّ بالوقوع أيضا، وهو المستفاد من النصّ لظاهر قوله عليه السلام في الصحيحة: «ولم تدر».

ثمّ إنّ ظاهر كلامهم أيضا كما هو صريح جماعة منهم عدم الفرق في المشكوك فيه المحكوم عليه بالالتفات إلى شكه بين النيّة وغيرها، فالشك فيها كالشك في سائر أفعال الوضوء فيجب الإتيان بها وبما بعدها المتحقق باستيناف الوضوء، كما عن نهاية الإحكام والدروس والبيان والإرشاد والجعفريّة والمقاصد العليّة(1) بل لم نقف على من يخدش فيه عدا شارح الدروس(2) المستظهر للحكم بعدم الإعادة للشك فيها ما لم يثبت الإجماع على خلافه.

وربّما يبنى المسألة على كون النيّة من قبيل أفعال الوضوء أو من قبيل شروطه، بناء على عدم جريان الحكم في الشروط، ولعلّه لذا استند بعضهم تبعا للذكرى(3) بأنّ الشك فيها شك في الأفعال، ويزيّفه: أنّه إنّما يستقيم إذا ورد الحكم في نصوص الباب أو معاقد الإجماع على عنوان الفعل، وهو موضع منع.

والإنصاف أن إثبات الحكم فيها من جهة نصوص الباب غير خال عن إشكال إلّا أن يستند بعد الأصول المتقدّمة إلى قوله عليه السلام: «إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» لكن مع الغضّ عن ذلك كانت الأصول كافية على الظاهر بعد ملاحظة رجوع الشك في النيّة إلى الشك في انعقاد المامور به بما وقع من الأفعال التي لا تنعقد من المأمور به إلّا بمقارنة النيّة، مع تطرّق القدح إلى شمول دليل قاعدة الشك بعد تجاوز المحلّ لمفروض المسألة كما يظهر بالتأمّل، فتسلم الأصول حينئذ عمّا يوجب الخروج عنهما، ولعلّك من هذا البيان تقدر على إجراء الحكم فيما لو تعلّق الشك في الأثناء بما هو من قبيل

ص: 724


1- نهاية الإحكام 61:1، الدروس 94:1، البيان: 12، إرشاد الأذهان 224:1، الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 88:1، المقاصد العلية: 109.
2- مشارق الشموس: 140.
3- الذكرى 204:2.

الشروط، كما لو شك في طهارة الماء المغسول به الوجه مثلا أو إطلاقه عند غسل اليدين ونحوه، فإنه في الحقيقة راجع إلى انعقاد المأمور به من أوّل الأمر بعد ملاحظة كونه الفعل المقرون بالطهارة والإطلاق، أو أنّ حقيقة الغسل المامور به في الوضوء هو ما يحصل بالماء المطلق فلا يصدق عليه حينئذ قوله عليه السلام: «إذا خرجت عن شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء».

وبالجملة هذا شك في دخوله من أوّل الامر في الفعل المأمور به على ما امر به، فلا يشمله قاعدة الشك في الشيء بعد تجاوز المحلّ ولا قاعدة الشك بعد الفراغ، لاختصاصها بالشك الطارئ بعد الفراغ عن إحراز الدخول في المامور به على الوجه الّذي امر به، فيكون المفروض نظير الشك في أنّه أتى بالمأمور به أو لا، أو أنّه شرع فيه أو لا، الذي لا يستريب أحد في أنّه لا يلغي، فيكون الأصول المذكورة محكمة، هذا مضافا إلى عموم الحصر الواقع في الموثقة حسبما قرّرناه.

وأمّا ما يتخيّل من صحّة التمسّك بأصالة صحّة ما مضى من الأفعال لإلغاء هذا الشك، ففيه: أنّ أصالة الصحّة إن اريد بها استصحاب الصحّة فهو لسريان شكه فاسد الوضع، وإن اريد بها القاعدة الحاكمة بصحّة العمل فلا محمل لها إلّا قاعدة الشك بعد الفراغ أو تجاوز المحلّ ، وقد عرفت حالها.

ومن القضايا الغريبة ما قد يتخيّل أيضا من الصحّة المبتنية على الحكم بتحقّق الشرط حتّى بالنسبة إلى الافعال المستقبلة، تعليلا بأنّه شك في إطلاق الماء بعد التجاوز عن محلّه، لأنّ محلّ إحراز هذا الشرط ولو بحكم العادة هو ما قبل الشروع في الوضوء، كالشك في الطهارة الحدثيّه في أثناء الصلاة حيث إنّه يمضي.

ويزيّفه: أنّ الشرط من حيث إنّه شرط ليس له محلّ قصد من جعله شرطا إلّا عند التلبّس بمشروطه، فاللازم إحرازه إنّما هو وجوده المقارن وهو بحكم الفرض محلّ شك، فمرجع الشك في إحرازه إلى الشك في كون ما وقع من الأعمال الماضية وما سيقع من المستقبلة من المامور به على الوجه الّذي امر به أو شيئا أجنبيّا، ولا ريب أنّ الشك في كون الواقع سابقا أو لاحقا من المامور به ليس من الشك في وقوع شيء من المأمور به بعد تجاوز محلّه، بل نقول: إنّ محلّ إحراز الشرط إنّما هو حال التلبّس

ص: 725

بمشروطه، والمحلّ بهذا المعنى إذا وقع فيه في الأثناء لم يتجاوز بعد فيجب التلافي المقتضي للإعادة، ومن هنا يعلم أنّ المضيّ في الصلاة عندى الشك في الطهارة الحدثيّة في أثنائها ما لم يكن المورد من مجري الاستصحاب خلاف التحقيق، فالأقوى إذن كون الشروط ملحقة بالأجزاء، ولازمه وجوب استيناف الوضوء بعد إحراز الشرط.

لكن هذا كلّه إذا لم يكن للشرط المشكوك فيه حالة سابقة وإلّا كما لو شك في الأثناء في زوال الإطلاق أو الطهارة أو الإباحة عن الماء أو العضو أو مكان التوضّي بعد ما احرز فيها هذه الأوصاف فلا يلتفت إلى الشك، لأصالة بقاء الحالة السابقة وعدم طروّ ما يضادها الواردة على جميع الأصول المذكورة، ونحوها أصالة عدم الحدث إذا شك في طروّه في الأثناء، فإنّ هذا الشك أيضا لا يلتفت إليه عملا بالأصل المذكور الوارد على غيره من الأصول.

ثمّ إنّ في الرياض تبعا لجماعة كالعلّامة في التذكرة وفخر الدين والشهيدين والمحقّق الثاني(1) وغيرهم إلحاق الغسل بالوضوء، وقد يدّعى فيه الشهرة ومقتضاه إلحاق التيمّم به أيضا، ومستنده غير واضح، ولعلّه ما تقدّم في الموثّق من قوله عليه السلام:

«إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» حملا له على معنى عامّ يشمل نحو المقام على ما بيّنّاه في ثاني الوجهين، أو الاصول المتقدّم إليها الإشارة، وأيّا ما كان فهو حسن لولا عمومات الشك بعد الفراغ كصحيحة زرارة وموثّقة محمّد بن مسلم المتقدّمتين(2)وغيرهما، فإنها لعمومها شاملة لمطلق الطهارة.

غاية ما هنالك أنّه خرج منها الوضوء بدليله الخاصّ مع عدم منقح لمناط الحكم، ولا إجماع على عدم الفرق، ومعه فلا جهة للإلحاق المذكور إلّا على تقدير الاسترابة في شمول هذه العمومات لنحو المقام بدعوى اختصاصها بالصلاة.

كما ربّما يقوى في صحيحة زرارة من حيث اختصاص موردها بالصلاة، أو يقال: إنّ التعارض بينها وبين الموثقة من باب تعارض العامّين من وجه فيرجع بعد التوقف في مادّة الاجتماع إلى الأصول.

ص: 726


1- الرياض 181:1، التذكرة 212:1، إيضاح الفوائد 42:1، الألفيّة: 46، المقاصد العلية: 73، جامع المقاصد 238:1.
2- تقدّم في الصفحة: 722، الرقم 6 و 7.

ويشكل بأنّ التوقف ممّا يأباه العمل في الصلاة وغيرها على طبق العمومات، بل العمل في الحقيقة بكلّ من المتعارضين بالنسبة إلى مادّة الاجتماع حاصل في الجملة كما يعلم ذلك بملاحظة اختلاف الحكم في الوضوء والصلاة، وقضية ذلك تطرّق التخصيص إلى كلّ من العامين بالنسبة إلى موارد محلّ التعارض، وهذا طريق جمع بينهما يتبع دليل التخصيص بحسب مورده، ولا يجدي في دفع التعارض بالنسبة إلى المورد الّذي لم يثبت له مخصص كمفروض المسألة، لكن التوقّف بالنسبة إليه كاف في صحّة الرجوع إلى الأصول، إلّا أنّ هذا كلّه على تقدير تعيّن الأخذ بالموثقة على الوجه العامّ وهو محلّ تأمّل، لقيام احتمال غيره كما عرفت.

فالأولى الاسترابة في عموم أدلّة الشك بعد الفراغ ولو باعتبار مخالفة فهم المشهور، فإنّه ممّا يتوهّن به نحو هذا العموم فتسلم الأصول عمّا يمنع عن الرجوع إليها، فالأقوى حينئذ هو القول بالإلحاق، مضافا إلى أنّه أحوط.

ثمّ إنّ في كلام جماعة(1) تبعا للحلّي في السرائر(2) استثناء كثير الشك عن هذا الحكم، فيمضي في وضوئه ولا يلتفت إلى ما عرضه من الشك، استنادا إلى لزوم العسر والحرج، مضافا إلى ما ورد فيه في الصلاة من الأخبار المستفيضة فإنّها وإن اختصّت موردا بالصلاة إلّا أنّ المناط المستفاد منها عامّ من حيث إنّه يستفاد منها أنّ كثرة الشك ما يعرض الإنسان من قبل الشيطان، وأنّ العلّة في إلغاء هذا الشك دفع هذا الخبيث والتخلّص من شرّه وقد قال الإمام عليه السلام: «إنّما يريد الخبيث أن يطاع فإذا عصي لم يعد إلى أحدكم»(3) وقال أيضا: «إذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك فإنه يوشك أن يدعك فإنّما ذلك من الشيطان»(4).

ومن طريق المبحث علم أنّه لو تيقّن ترك عضو أو بعضه أتي به وبما بعده مع بقاء البلل فيما قبل المتروك، أمّا مع الجفاف فالواجب استيناف الوضوء بلا خلاف في شيء من ذلك عدا ما عن الإسكافي من الاقتصار على الإتيان بالمتروك إذا كان دون سعة

ص: 727


1- كما في الذكرى 204:2، جامع المقاصد 237:1، المدارك 257:1، مشارق الشموس: 140.
2- السرائر 248:1.
3- الوسائل 228:8 الباب 16 من أبواب الخلل ح 2.
4- الوسائل 227:8 الباب 16 من ابواب الخلل ح 1.

الدرهم، وهو لعدم وضوح مستنده محجوج عليه بأدلّة اعتبار الترتيب والموالاة بمعنى مراعاة عدم الجفاف، وخصوص الصحيح عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام «في رجل نسي أن يمسح على رأسه فذكر وهو في الصلاة ؟ فقال: إن كان استيقن ذلك انصرف فمسح على رأسه وعلى رجليه واستقبل الصلاة...»(1) الخ.

نعم في ذيل صحيحة زرارة المتقدّمة «وإن تيقّنت أنّك لم تتمّ وضوءك فأعد على ما تركت يقينا حتى تأتي على الوضوء...»(2) إلخ وفي صحيحة الحلبي أو حسنته عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إذا ذكرت وأنت في صلاتك أنّك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض عليك فانصرف فأتمّ الّذي نسيته في وضوئك وأعد صلاتك»(3) وفي المرسل عن الصدوق «أنّه سئل أبو الحسن عليه السلام عن الرجل يبقى من وجهه إذا توضّأ موضع لم يصبه الماء؟ فقال: يجزئه أن يبلّه من بعض جسده»(4) وفيها مع عدم دلالتها على تحديد الإسكافي أنّها لا تنفي اعتبار غير المتروك، فلا منافاة بينها وبين ما مرّ، ولو سلّم فهي ساقطة عن درجة الاعتبار بإعراض المعظم عنها.

المسألة الرابعة: لو شك في فعل شيء من أفعال الوضوء بعد الفراغ منه والانصراف عن حاله لم يلتفت

فلا شيء عليه من الإعادة أو تلافي المشكوك فيه بلا خلاف في ذلك بين أصحابنا في الجملة، وفي كلام جماعة من الأساطين(5) نقل الإجماع عليه للنصوص المستفيضة الّتي منها ما مرّ في صحيحة زرارة من قوله عليه السلام: «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه، وقد صرت في حالة اخرى في الصلاة، أو في غيرها، فشككت في بعض ما سمّى اللّه ممّا أوجب اللّه عليك فيه وضوءه، لا شيء عليك فيه»(6).

ومنها: قوله عليه السلام في الموثّقة المتقدّمة: «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد

ص: 728


1- الوسائل 471:1 الباب 42 من أبواب الوضوء ح 8.
2- الوسائل 469:1 الباب 42 من أبواب الوضوء ح 1.
3- الوسائل 470:1 الباب 42 من أبواب الوضوء ح 2.
4- الوسائل 472:1 الباب 43 من أبواب الوضوء ح 1.
5- كما في المنتهى 143:2، الإيضاح 42:1، المدارك 257:1، مصابيح الظلام 409:3.
6- الوسائل 469:1 الباب 42 من أبواب الوضوء ح 1.

دخلت في غيره فليس شكك بشيء»(1) بناء على ما استظهرناه من كون المراد من الغير غير الوضوء.

ومنها: الصحيح عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبدالله: «رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة ؟ قال: يمضي على صلاته ولا يعيد»(2) ومنها: الصحيح عن بكير بن أعين قال: قلت له: «الرجل يشك بعد ما يتوضّأ؟ قال: هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك»(3).

ومنها: الموثق عن محمّد بن مسلم قال: «سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول: كلّما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه ولا إعادة عليك فيه»(4).

نعم هاهنا كلاما(5) وهو أنّ المدار في عدم الاعتناء بهذا الشك هل هو على مجرّد الفراغ عن الوضوء وهو زوال التشاغل بأفعاله، سواء قام من مكانه أو لم يقم، تشاغل بأمر آخر أو لم يتشاغل، طال قعوده أو لم يطل كما هو المشهور المعزي إلى ظاهر الأصحاب، كما عن مجمع الفائدة والبرهان(6) بل المدّعى عليه الإجماع كما في المدارك وعن الروضة(7) بل عن شرح المفاتيح(8) نسبة فساد اشتراط القيام إلى الضرورة من الدين، أو على أحد الأمرين من القيام أو التشاغل بأمر آخر كما عن ظاهر جماعة(9) من القدماء، أو على أحد الأمرين من القيام أو إطالة الجلوس كما عليه الشهيد في الذكرى قائلا: «ولو أطال القعود فالظاهر التحاقه بالقيام»(10) وهو ظاهر عبارة الدروس «ولو انتقل عن محلّه ولو تقديرا لم يلتفت»(11) قال غير واحد تبعا لشارحه يعني به أنّه لو أطال القعود بعد الوضوء في محلّه فإنّما هو في حكم القيام، وإليه مال

ص: 729


1- الوسائل 479:1 الباب 42 من أبواب الوضوء ح 2.
2- الوسائل 470:1 الباب 42 من أبواب الوضوء ح 5.
3- الوسائل 471:1 الباب 42 من ابواب الوضوء ح 7 و 6.
4- الوسائل 471:1 الباب 42 من ابواب الوضوء ح 7 و 6.
5- كذا في الأصل. والصواب: كلام.
6- مجمع الفائدة 122:1.
7- المدارك 257:1، الروضة 332:1.
8- مصابيح الظلام 412:3.
9- كما في الهداية: 17، الفقيه 60:1، المقنعة: 49، المراسم: 40، السرائر: 104، الوسيلة: 53.
10- الذكرى 204:2.
11- الدروس 94:1.

هذا الشارح حيث قال بعد كلام له: «الأولى رعاية القيام من الوضوء أو ما هو في حكمه كما هو ظاهر المتن»(1) وعن كاشف اللثام الفرق بين آخر الأجزاء وغير.

بقوله: «وعندي أنّ الانتقال وما في حكمه كطول الجلوس يعتبر في الشك في آخر الأعضاء دون غيره»(2) وعن الأردبيلي في الكتابين المتقدّم ذكرهما التوقّف. وفي كلام غير واحد حمل عبارات القدماء كالأخبار على الخروج مخرج الغالب من انتقال المتوضّئ بعد الفراغ إلى القيام أو الاشتغال بأمر آخر.

وكيف كان، فالأقوى ما عليه المعظم من كفاية مجرّد الفراغ في سقوط الشك عن الاعتبار، لظاهر الموثقة الحاصرة للشك الملتفت إليه في حال التشاغل بالعمل وعدم الجواز الّذي هو عبارة اخرى لعدم الفراغ، ولا ينافيه ما في صدرها من التعبير بالدخول في غير الوضوء، لأنّ المراد به غير حالة الوضوء وهو يعمّ حالة الفراغ أيضا، فإنّ زوال التشاغل حال أخرى غير حال الوضوء وقد دخل المكلّف فيها، ولو سلّم ظهوره في الأمر الوجودي فلابدّ من صرفه إلى عدم إرادة الاعتبار أو إرادة ما يعمّ الأمر العدمي المتحقّق بعدم القيام وعدم التشاغل بأمر آخر تقديما للأظهر على الظاهر، فإنّ الذيل أظهر في الحصر منه في عدمه كما هو واضح.

هذا مضافا إلى ما في موثّق ابن مسلم من التعبير بالمعنى الظاهر في مجرّد الفراغ بمعنى زوال التشاغل الشامل بإطلاقه لكلّ أمر وجودي أو عدمي تلبّس به المكلّف بعد انصرافه عن الوضوء، ونحوه ما في موثّق ابن بكير الشامل بعمومه المقام من قوله عليه السلام:

«كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو»(3) وقوله في صحيحة زرارة: «ما دمت في حال الوضوء» الظاهر كالصريح في أن العبرة في التلافي المبنيّ على الاعتناء بالشك إنما هو بحالة التشاغل لا غير وهو المنساق من قوله: «إذا كنت قاعدا على وضوئك» باعتبار عموم مفهومه الشامل لصورتي القيام من الوضوء والقعود لا على الوضوء.

ولا يعارضه قوله عليه السلام: «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وصرت في حال أخرى في صلاة أو غيرها» لظهور عطف الفراغ في التفسير، مع إطلاق الصيرورة في حال

ص: 730


1- مشارق الشموس: 141.
2- كشف اللثام 587:1.
3- الوسائل 237:8 الباب 23 من أبواب الخلل في الصلاة ح 3.

اخرى لغير أحوال الأمور الوجوديّة كما هو قضيّة إطلاق «غيرها» المعطوف على الصلاة، مع أنه لولا الحمل على التفسير لقضى ظاهر العطف باعتبار المجموع من القيام والتشاغل بأمر آخر من نحو الصلاة وغيرها ولا يقول به أحد.

فقضيّة هذا كلّه كون ذكر القيام من باب المثال أو الخروج مخرج الغالب، كما أنّ ذكر القعود في الشرطيّة الأولى كذلك لا على وجه الاعتبار، وممّا يفصح عن عدم كون ذكر القيام على وجه الاعتبار أنه لو كان له دخل في القضية لقضى بعدم جريان الحكم المنطوقي في الشرطيّة الأولى فيمن توضّأ قائما فشك حال كونه متوضّأ وهو ضروري البطلان، فلا جهة لذكره حينئذ إلّا إرادة المثال أو الفروج مخرج الغالب 0 وكذا يقال في القيام المذكور في الشرطيّة الثانية قضيّة للمقابلة، وبعد إلغاء القعود في الشرطيّة الأولى والقيام في الشرطية الثانية عن المدخليّة بالقرائن المذكورة تعيّن كون مناط الحكم في الشرطيّتين حالة التشاغل بالوضوء وحالة زوال هذا التشاغل، قارنه أمر وجودي أو لا.

لكن ربّما يستشكل بالنسبة إلى العضو الأخير كما في المدارك قال: «وقد يشكل مع تعلّق الشك بالعضو الأخير لعدم تحقّق الإكمال، فالاحوط تداركه قبل الانصراف ومنه الجلوس وإن لم يطل زمانه على الأظهر»(1) انتهى.

وهذا ممّا لا نرى له وجها إذ العبرة إذا كانت بحال التشاغل فبقاؤه وزواله ممّا يدرك بالوجدان، ولذا قال شارح الدروس: «بأنّ الفراغ بالنسبة إلى الجزء الأخير قد يتحقّق بأن لا يجد الإنسان نفسه مشغولا بالوضوء»(2) ولا ريب أنّ زوال التشاغل قد يجامع القيام عن مكانه وقد يجامع القعود في مكانه مع الاشتغال بأمر آخر وجودي مناف للوضوء أو غير مناف له ومع عدمه، ولا يتوقف على شيء من ذلك، وقوله: «لعدم تحقق الإكمال» لا نتحقّق معناه إذ ليس مبنى الفراغ على تحقّق الإكمال على معنى إتمام الوضوء بإتيان أفعاله وإلّا لم يتحقّق شك بعد الفراغ أصلا، بل على ما ذكرناه مرارا من زوال حالة الاشتغال بأفعاله، ولا يتفاوت الحال في تحقّق الفراغ بهذا المعنى بين الجزء الأخير وبين غيره ولا بين فوات الموالاة وعدمه.

ص: 731


1- المدارك 257:1.
2- مشارق الشموس: 141.

نعم لو شك في تحقّقه يبنى على العدم استصحابا للحالة السابقة فقوله: «والأحوط تداركه قبل الانصراف» إن أراد به بما قبل الانصراف ما قبل زوال التشاغل فالمتعيّن فيه التدارك، ولا معنى لجعله أحوط، وإن أراد به ما قبل الدخول في حالة وجودية أخرى غير حالة الوضوء، أو ما بقي من حالة الجلوس المتحققة حال الوضوء وإن حصل الانصراف بمعني زوال حالة التشاغل بالوضوء، فلا جهة لأحوطية التدارك بعد ما مرّ من دليل كفاية مطلق الفراغ الغير المتوقّف على شيء من الامور الوجوديّة في سقوط التدارك وعدم الالتفات إلى الشك الطارئ.

وبما بينّاه علم أنّه لا حاجة في التفصّي عن الإشكال إلى تكلّف أن يقال: بأنّ الفراغ قد يتحقّق بأن يعتقد الفراغ في زمان ويكون فيه على يقين من الفراغ كما عن كاشف اللثام(1) في مسألة الشك في عدد الطواف بعد الانصراف، حتّى يرد عليه عدم الدليل على اعتبار هذا اليقين بعد زواله، نظرا إلى أنّ مجرّد الاعتقاد بشيء في زمان لا يكون دليلا عليه شرعا حتى يرجع إليه عند الشك، إلّا أن يراد به اليقين بالفراغ حال الشك في الإخلال لا اليقين به حال الشك فيه نفسه، فيرجع إلى ما بيّنّاه من أنّ الفراغ أمر وجداني يحصل اليقين بتحقّقه بمراجعة الوجدان كما عرفته عن شارح الدروس ايضا.

ثمّ إنّ الإخلال بترك ما يجب فعله في الوضوء قد يكون على وجه السهو والنسيان، وقد يكون على وجه العمد، فالشك بعد الفراغ قد يتعلّق به على الوجه الأوّل، وقد يتعلّق به على الوجه الثاني، والمتيقّن من معقد نصوص الباب وفتاوى الأصحاب هو الأوّل، بل هو المنصرف إليه الإطلاق نصّا وفتوى، وعليه فيشكل الحكم في الثاني، ولو سلّم سلامة الإطلاق بالنسبة إلى الفتوى يتطرّق المناقشة إلى إطلاق النصّ ، وقد يدّعي ظهور قوله: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك» في صوره تعمّد الإخلال، لأنّه بمنزلة صغرى لكبرى هي: «أنّه إذا كان أذكر فلا يخلّ بفعل» وهذه الملازمة لا تكون إلّا بإلقاء احتمال تعمّد الإخلال.

ويشكل بأنّ محصّل معنى الذكر هنا هو الالتفات إلى الوضوء وأفعاله، ومعنى كلام

ص: 732


1- كشف اللثام 587:1.

الإمام عليه السلام: أنّ التفاته إلى الوضوء وأفعاله حين هو متشاغل بالوضوء أكثر من التفاته إليه حين هو شاك فيه. ولا ملازمة بين الالتفات إليه وبين عدم تعمّد الإخلال عقلا ولا عادة ولا شرعا، إلّا بتقريب ما قيل من أنّ إفساد الوضوء حرام فلا يحمل فعل المسلم عليه، وهو بمقدّمتيه عند المدّعي للظهور موضع نظر، والّذي يظهر من سياق الجواب - والله أعلم - أنّ فرض كلام السائل على ما استفاده الإمام عليه السلام من حاله إنما كان في شبهة الإخلال نسيانا، بحيث لولا احتمال النسيان لم يكن هناك إخلال على سبيل الجزم واليقين ولمّا كان منشأ النسيان عدم الذكر بمعنى عدم الالتفات إلى المنسيّ حين التشاغل بالعمل وكان مرجع التردّد والتحيّر إلى تجويز الغفلة وعدم الالتفات إلى بعض ما يجب فعله أو مراعاته في الوضوء فأجاب الإمام عليه السلام بما يرفع هذا التجويز، وهو كونه أذكر للوضوء وما يجب فعله ومراعاته فيه حال التشاغل بالقياس إلى حال الفراغ منه، فإذا التفت إليه حال الفراغ فحال التشاغل أولى بالالتفات فيها إلى ما احتمل نسيانه، نظرا إلى كون الذكر والالتفات ملزوما لعدم وقوع الإخلال حسبما فرضه السائل ومنافيا لمنشائه الّذي جوّزه حال الفراغ.

وهذا كما ترى كظهور سائر النصوص ولو من جهة الانصراف ممّا يستفاد منه حكم احتمال تعمّد الإخلال إلّا على تقدير استظهار ما يكون مناطا كلّيّا للحكم من الجواب.

على وجه يطمئنّ به النفس، بأن يقال: إنّ الملازمة بين حال التشاغل وكون الفاعل فيه «اذكر» الّتي نبّه عليها الإمام عليه السلام مبنيّة على الظهور ولو باعتبار الغلبة و هي غلبة الذكر حال التشاغل، فيكون مرجع الجواب إلى تعليم طريق الاستناد إلى الظاهر، ونحو هذا الظهور ولو من جهة الغلبة موجود في صورة احتمال تعمّد الإخلال، لأنّ الغالب في المكلّف المتشاغل يفعل المكلّف به عدم تعمّد الإخلال بترك بعض ما يجب فعله أو مراعاته في العمل المتشاغل به.

وهذه الدعوى وإن لم تكن بذلك البعيد إلّا أنّ كونها في حدّ الاطمئنان مشكل، وبالجملة إلحاق احتمال تعمّد الاخلال باحتمال الإخلال على وجه النسيان بالنظر إلى نصوص الباب لا يخلو عن إشكال، نعم لو ثبت عدم القول بالفصل بمعناه الأخصّ ارتفع الإشكال بحذافيره، وهو من حيث الظهور ليس ببعيد بل لا يبعد دعوى الاطمئنان فيه،

ص: 733

نظرا إلى كمال بعد إهمالهم الصورة مع عدم تعرّضهم لها بانفرادها، ولا يكون نحو ذلك إلّا لاعتقاد وحدة الحكم على وجه يكشف عن رأي المعصوم كشفا ظنّيا.

وممّا يشكل الحال فيه من فروع المسألة ما لو جزم بعد الفراغ بوقوع ما له بحسب المشروعية جهة صحّة وجهة فساد في وضوئه، وهو في هذه الواقعة الخاصّة متردّد بين الجهتين، كما لو قطع بأنّه حين التشاغل مسح على الحائل من خف أو غيره أو مسح في موضع الغسل على البشرة أو على حائل غيرها، مع التردّد بين كونه لداعي الضرورة المسوّغة له وكونه لا لهذا الداعي، أو قطع بأنّه مسح بالماء المستأنف مع التردد بين كونه لتعذّر المسح بالبلّة لأجل فقدانها أو لا؟ لكون الأوّل إنّما يثمر على القول بجواز الدخول بالوضوء الناقص العذري في الصلاة الغير المؤدّاة حال العذر.

ومنه أيضا ما لو قطع بتعمّد ما كان الإخلال على تقدير حصوله واقعا لا على وجه القصد فيما يستتبع الإخلال في بعض فروضه، كما لو قطع بأنّه لم يخلّل الحائل الّذي قد يمنع عن وصول الماء إلى البشرة وقد لا يمنع، إلّا أنّه يشك في وصوله في هذه الواقعة لضرب من الاتّفاق.

ومنه ما لو وجد على العضو بعد الفراغ شيئا شد في حجبه للبشرة بحيث لا يقطع بعدم حجبه في بعض الأحيان مع القطع بوجود. حال الوضوء، وطريق الاحتياط في هذه الفروض ونظايرها بإعادة الوضوء على تقدير فوات الموالاة واضح، بناء على أنّ عدم الالتفات إلى الشك وعدم تلافي المشكوك فيه إنّما هو من باب الرخصة لا العزيمة بأن يحرم فعله، كما تنبّه عليه غير واحد تبعا للمولى الأردبيلي(1) هذا مع أنه من مقتضي الاصول المتعدّدة المتقدّم إليها الإشارة في المسألة السابقة.

ص: 734


1- مجمع الفائدة 122:1.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على اعدائهم أجمعين إلى يوم الدين، وبعد فهذا الثالث من أجزاء كتاب ينابيع الأحكام في تحرير الحلال والحرام.

ينبوع [أسباب الجنابة و كيفية غسلها و أحكامها]

اشارة

قد عرفت في مباحث غايات الطهارات الثلاث من الجزء الثاني من الكتاب أنّ الغسل ينقسم إلى واجب و مندوب. أمّا الواجب فستّة أغسال الجنابة و الحيض و النفاس و الاستحاضة و مسّ الأموات و غسل الميّت لا يزيد عليها و لا ينقص عنها على الأشهر الأظهر الأقوى. خلافا لمن أوجب ما زاد عليها كالجمعة و نحوها ممّا مرّ، و لمن أنكر وجوب غسل مسّ الأموات كما عليه علم الهدى(1) القائل باستحبابه.

أمّا الجنابة فوجوبها لوجوب غاية مشروطة بها في الوضوح يقرب من الضروريّات، بل هو منها عند التحقيق، فالبحث عنه حينئذ يشبه بكونه بحثا في الضروري، و الاستدلال عليه يجري مجرى الاستدلال على الأمر الواضح البديهي و هو ليس بلائق، بل اللائق بالبحث اُمور اُخر: موجب الجنابة و سببها و كيفيّة غسلها و أحكامها بالمعنى الأعمّ ممّا يلحق الجنب، فلا بدّ من التكلّم في مباحث:

المبحث الأوّل: في موجب الجنابة

اشارة

بمعنى السبب الباعث على مخاطبة المكلّف

ص: 735


1- جمل العلم و العمل: 54.

بالغسل إيجابا أو ندبا، وهو بحكم الحصر الاستقرائي المستفاد من تتبّع الأدلّة منحصر في أمرين.

أحدهما: الإنزال بمعنى خروج المنيّ وظهوره في الخارج،
اشارة

لا مجرّد انتقاله من محلّه إلى محلّ غيره وإن لم يخرج، فإنّه على ما ستقف عليه ممّا لا عبرة به في نظر الشارع، وهاهنا مسألتان.

المسألة الأولى: أنّه إذا خرج من الإنسان رجلا كان أو امرأة في يقظة أو نوم بجماع أو غيره ما علم كونه منيّا
اشارة

بشهوة أو غيرها بدفق أو غيره فإنّه يوجب عليه الغسل بالإجماع المحصّل في الجملة بل المستفيض نقله مطلقا في عبائر جماعة من أساطين الطائفة، بل عن المعتبر(1) نوما كان أو يقظة بشهوة أو غيرها بإجماع المسلمين، وكأنّهما لم يعتدّا بخلاف مالك وأحمد وأبي حنيفة في اعتبارهم الشهوة، وإلّا فالموافق للأصحاب هو الشافعي كما قيل للنصوص المستفيضة بل المتواترة في الجملة، بل البالغة فوق حدّ التواتر معنى.

وأقواها من حيث الدلالة قول الصادق عليه السلام في صحيحة عنبسة بن مصعب: «كان عليّ عليه السلام لا يرى في شيء الغسل إلّا في الماء الأكبر»(2) ونحوه الصحيح عن عنبسة بن مصعب قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «رجل احتلم فلمّا أصبح نظر إلى ثوبه فلم ير به شيئا؟ قال: يصلّي فيه، قلت: فرجل رأى في المنام أنّه احتلم فلمّا قام وجد بللا قليلا على طرف ذكره ؟ قال: ليس عليه غسل، أنّ عليّا عليه السلام كان يقول: إنما الغسل من الماء الأكبر»(3) ونحوهما حسنة الحسين بن أبي العلاء قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل يرى في المنام حتّى يجد الشهوة، وهو يرى أنّه قد احتلم فإذا استيقظ لم ير في ثوبه الماء ولا في جسده ؟ قال: ليس عليه الغسل، وقال: كان عليّ عليه السلام يقول: إنّما الغسل من الماء الأكبر، فإذا رأى في منامه ولم ير الماء الأكبر فليس عليه غسل»(4).

والحصر في هذه الأخبار الثلاث إضافي بالنسبة إلى المياه الخارجة من الإنسان

ص: 736


1- المعتبر 177:1.
2- الوسائل 188:2 الباب 7 من ابواب الجنابة ح 11.
3- الوسائل 179:2 الباب 9 من أبواب الجنابة ح 2.
4- الوسائل 196:2 الباب 9 من أبواب الجنابة ح 1.

كالمذي ونحوه، بشهادة رواية عنبسة بن مصعب أيضا قال: «سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: كان عليّ لا يرى في المذي وضوءا ولا غسلا ما أصاب الثوب منه إلّا في الماء الأكبر»(1) ونحو ما تقدّم أيضا رواية عبدالله بن سنان في الصحيح عن أبي عبدالله عليه السلام قال:

«ثلاث يخرجن من الإحليل وهنّ المني وفيه الغسل...»(2) الحديث. ورواية الحلبي في الصحيح أو الحسن كالصحيح قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المفخّذ عليه غسل ؟ قال:

نعم إذا أنزل»(3).

وليس في كلمات العلماء ما يوهم الخلاف في الكلّيّة المذكورة في صورة تيقّن كون الخارج منيّا إلّا ما في كلام جماعة من القدماء من التعبير عن المنيّ بالماء الدافق الموهم لاعتبار الدفق في موضوع الحكم، ففي النهاية «الجنابة تكون بشيئين، أحدهما إنزال الماء الدافق في النوم واليقظة وعلى كلّ حال»(4) وعن المبسوط «إنزال الماء الدافق الّذي هو المنيّ في النوم واليقظة بشهوة وغير شهوة وعلى كلّ حال»(5) ونحوه عزي إلى المفيد والمرتضى وسلّار وأبي الصلاح والوسيلة(6). وما عن المقنع من «أنّه إن احتلمت المرأة فأنزلت فليس عليها غسل، وروي أنّ عليها الغسل إذا أنزلت»(7) الظاهر في إنكار الحكم في احتلام المرأة وإنزالها.

لكن الخطب فيهما سهل أمّا في الأوّل فلأنّ تقييد الماء بالدفق تعريف للمنيّ ، على أنّه من أوصافه الغالبة لا لإخراج ما لا دفق له عن المنيّ موضوعا أو حكما، ولذا قال الحلّي في المحكيّ عن السرائر: «خروج المنيّ على كلّ حال سواء كان دافقا أو غير دافق بشهوة أو بغير شهوة، وما يوجد في بعض كتب أصحابنا من تقييده بالدفق فغير واضح، إلّا أنّه لمّا كان الأغلب في أحواله الدفق قيّد به»(8) انتهى. ولمحلّ النكتة في

ص: 737


1- الوسائل 187:2 الباب 7 من أبواب الجنابة ح 6.
2- الوسائل 188:2/10، ب 7 أبواب الجنابة.
3- الوسائل 186:2 الباب 7 من ابواب الجنابة ح 1.
4- النهاية 227:1.
5- المبسوط 27:1.
6- المقنعة: 57، جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 25:3، المراسم: 41، الكافي في الفقه: 127، الوسيلة: 55.
7- المقنع: 13.
8- السرائر 107:1.

تعبيرهم هذا التبرّك بما ورد في القرآن من نحو هذا التعبير في قوله تعالى: خُلِقَ مِنْ مٰاءٍ دٰافِقٍ (1) نعم قد يقال: بأنّ عبارة الوسيلة لعلّها لا تقبل ذلك حيث يقول:

«وإن كان صحيحا لم يكن ذلك منيّا إذا لم يكن معه دفق» وفيه: أنّه محتمل لصورة الاشتباه، وكلام الأصحاب مفروض في صورة تيقّن كونه منيّا فلا تكون العبارة صريحة في المخالفة، بل مع كونها مسوقة لغير صورة الاشتباه لا تكون مخالفة في أصل المسألة لظهورها في إخراج الفاقد للوصف عن الموضوع لا عن الحكم، فرجع الخلاف إلى أمر لفظي.

وأمّا في الثاني فبعدم الصراحة في المخالفة إمّا بحملها على الاشتباه وعدم تحقّق كون الخارج منيا، أو على أنّها رأت في النوم أنّها أنزلت فلمّا انتبهت لم تجد شيئا، أو على أنّها أحسّت بانتقال المنيّ عن محلّه إلى موضع آخر ولم يخرج منه شيء، فإنّ منيّ المرأة على ما قيل قلّما يخرج من فرجها لأنّه يستقرّ في رحمها، مع أنّها لو كانت قولا بالخلاف فهو لشذوذه ساقط عن درجة الاعتبار وارد على خلاف النصوص المستفيضة المصرّحة بوجوب الغسل عليها مع إنزالها نوما ويقظة.

ففي صحيحة عبداللّه بن سنان قال: «سدلت الصادق عليه السلام عن المرأة ترى أنّ الرجل يجامعها في المنام في فرجها حتّى تنزل ؟ قال: تغتسل»(2) وفي صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه السلام «عن الرجل يجامع المرأة فيما دون الفرج فتنزل المرأة هل عليها غسل ؟ قال: نعم»(3) وصحيحة الحلبي عن الصادق عليه السلام «عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل ؟ قال: إن أنزلت فعليهما الغسل، وإن لم تنزل فليس عليها الغسل»(4)وصحيحة محمّد بن إسماعيل عن أبي الحسن عليه السلام «عن المرأة ترى في منامها فتنزل عليها غسل ؟ قال: نعم»(5) إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع.

لكن في جملة من الروايات ما يخالفها بظاهرها، ولعلّها مستند المقنع ففي الصحيح

ص: 738


1- الطارق: 6.
2- الوسائل 188:2 الباب 7 من أبواب الجنابة ح 7.
3- الوسائل 186:2 الباب 7 من ابواب الجنابة ح 3.
4- الوسائل 187:2 الباب 7 من ابواب الجنابة ح 5.
5- الوسائل 190:2 الباب 7 من أبواب الجنابة ح 16.

عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: «الرجل يضع ذكره على فرج المرأة فيمني عليها غسل ؟ فقال: إن أصابها من الماء شيء فلتغسله وليس عليها شئ إلّا أن يدخله، قلت: فإن أمنت هي ولم يدخله ؟ قال: ليس عليها الغسل»(1) وفيه أيضا عنه قال:

«اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة ولبست ثيابي وتطيبت فمرّت بي وصيفة ففخّذت لها فأمذيت دنا وأمنت هي فدخلني من ذلك ضيق فسألت أبا عبدالله عليه السلام عن ذلك ؟ فقال:

ليس عليك وضوء و لا عليها غسل»(2).

ورواية عمر بن اذينة قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «المرأة تحتلم في المنام فتهريق الماء الأعظم ؟ قال: ليس عليها غسل»(3).

ورواية عبيد بن زرارة قال: قلت له: «هل على المرأة غسل من جنابتها إذا لم يأتها الرجل ؟ قال: لا وأيكم يرضى أو يصبر على ذلك ان يرى ابنته أو اخته أو امّه أو زوجته إو أحدا من قرابته قائمة تغتسل فيقول: ما لك ؟ فتقول: احتلمت، وليس لها بعل. ثمّ قال:

لا ليس عليهنّ ذلك وقد وضع اللّه ذلك عليكم فقال: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (4) ولم يقل ذلك لهنّ »(5).

وهذه الروايات وما بمعناها لكونها معرضا عنها الأصحاب مطروحة أو مؤوّلة بنحو ما عرفت في تأويل عبارة المقنع، واحتمل في الوسائل خروجها للتقيّة لموافقتها لبعض، قال: «وإن ادّعى المحقق في المعتبر إجماع المسلمين، فإنّ ذلك خاصّ بالرجل، وقد تحقّق الخلاف من العامّة...»(6) إلى آخر كلامه أعلى الله مقامه.

وبالجملة لا ينبغي الإشكال والتأمّل في عموم الحكم بالنسبة إلى الجهتين المذكورتين لعموم الأدلّة وعدم وضوح معارض لها، أو عدم مقاومة المعارض للمعارضة، نعم يحصل الإشكال في جهتين أخريين.

إحداهما: أنّ الإنزال قد يتحقّق من المخرج الخلقي، وقد يتحقّق من غيره كثقبة في الإحليل أو الخصية أو الظهار أو الصلب أو غيره مع الاعتياد ومع عدمه مع انسداد

ص: 739


1- الوسائل 190:2 الباب 7 من أبواب الجنابة ح 18.
2- الوسائل 191:2 الباب 7 من ابواب الجنابة ح 20 و 21.
3- الوسائل 191:2 الباب 7 من ابواب الجنابة ح 20 و 21.
4- المائدة: 6.
5- الوسائل 192:2 الباب 7 من أبواب الجنابة ح 22.
6- الوسائل 192:2.

الخلقي ومع عدمه، فهل يختصّ الحكم بما لو خرج من الخلقي أو غيره بشرط أحد الأمرين من الاعتياد آو انسداد الخلقي، كما هو خيرة جماعة منهم العلّامة في التذكرة ونهاية الإحكام والسيّد في الرياض(1) استنادا إلى الأصل وعدم انصراف ما مرّ إلى غيره، أو يعمّه وما لو خرج من غير الخلقي مطلقا ولو مع عدم الأمرين ؟ كما هو ظاهر إطلاق الأكثر، والمحكيّ من خيرة العلّامة في المنتهى(2) تمسّكا بإطلاق ما مرّ. وهذا هو الأقوى للإطلاق المشار إليه المنساق من خبري عنبسة و خبر الحسين بن أبي العلاء.

والمناقشة فيه بمنع الانصراف إلى غير الخلقي، إنّما تتّجه لو كان مستند الإطلاق المقدّمة العقلية القاضية بلزوم الإغراء بالجهل لولا إرادة الإطلاق الغير الجارية في هذه المطلقات لقوّة شبهة ورودها مورد حكم آخر، وهو تخصيص الحكم بالمنيّ المعبّر عنه بالماء الأكبر المتضمّن لنفيه عن غيره من المياه الخارجة من الإنسان، لا تعميمه بالنسبة إلى جميع أفراد المنيّ أو تخصيصه ببعضها، فتبقي المطلقات بالنسبة إلى التعميم والتخصيص في أفراده مجملة لتردّدها بين إرادة الماهيّة من حيث هي ومن حيث صلاحية تحقّقها في ضمن أيّ فرد منها، أو إرادتها من حيث وجودها في ضمن أفرادها الشائعة، لكن هاهنا قرينة أخري سليمة عن هذه المناقشة كاشفة عن إرادة الإطلاق وهي القرينة اللفظيّة المستفادة من تعليل الإمام عليه السلام في خبر الحسين وثاني خبري عنبسة، فإنّ الاستشهاد بقول عليّ عليه السلام «إنّما الغسل من الماء الأكبر»(3) فيهما لنفي وجوب الغسل عمّا يشك في كونه منيّا من البلل الخارج وعمّا يشك في خروجه مع الاحتلام تقضي يكون معنى هذا القول إنّما الغسل من الماء الأكبر ولو خرج بالاحتلام، فيكشف عن فهمه عليه السلام منه ما يعمّ الخارج بالاحتلام الّذي هو من الأفراد النادرة، وهذا يكشف عن إرادة عليّ عليه السلام الماهيّة المطلقة من حيث صلاحيتها لجميع الأفراد.

وبذلك يرتفع الإشكال عن الجهة الثانية وهي ما لو خرج الماء الأكبر من أحد فرجي الخنثى المشكل مع الاعتياد ومع عدمه، فإنّ فيه خلافا فمنهم من اعتبر خروجه عن المخرجين معا أو أحدهما مع الاعتياد، كما عن ثاني المحقّقين وثاني الشهيدين

ص: 740


1- التذكرة 222:1، نهاية الإحكام 99:1، الرياض 192:1.
2- المنتهى 171:2.
3- الوسائل 196:2 الباب 9 من أبواب الجنابة ح 1.

وصاحب المدارك(1) وقيل بعمومه لما يخرج من احدهما لا مع الاعتياد وفي الحدائق «الظاهر أنّه أشهر القولين»(2) وهو المعتمد للإطلاق الناهض بالقرينة المذكورة، فإنّ مفروض الكلام ما تيقّن كونه منيّا فإذا صدق على الخارج من أحد الفرجين هذا العنوان اندرج في إطلاق الأخبار بلا إشكال.

فرعان،
الأوّل: قد عرفت أنّ الإنزال المعتبر في المقام المعلّق عليه الحكم خروج المنيّ وظهوره في خارج الجسد لا مجرّد انتقاله عن محلّه الأصلي واستقراره في محلّ آخر من دون أن يخرج،

لأنه معقد الإجماعات المنصرف إليه الإنزال الوارد في النصوص بل المصرّح به في بعضها، كما في صحيحة عبدالله بن سنان المتقدّمة وحينئذ فلو انتقل ولم يخرج لم يقدح في الطهارة ولا يوجب غسلا، وعليه فلو كان متطهّرا فأحسّ انتقال المنيّ إلى أن أشرف على الخروج فأمسكه فهو على طهارته ما دام مسكا، ويجوز له الدخول في الصلاة في هذه الحالة، بل قد يجب هذا الإمساك بشرط عدم تضرّره به إذا علم من حاله في وقت الفريضة تعذّر الاغتسال لإعواز الماء أو ضيق الوقت أو مانع آخر عن استعماله عقلي أو شرعي بحكم مقدّمة الواجب، فإنّ قاعدة وجوب المقدّمة كما أنّها تقتضي وجوب إيجاد المقدّمة المعدومة كذلك تقتضي وجوب إبقاء المقدّمة الموجودة إذا تعذّر إيجادها بعد انعدامها فيحرم إعدامها حينئذ، وقضيّة ذلك وجوب الإمساك في الصورة المفروضة، وحرمة إطلاقه ليخرج محافظة على الطهارة الموجودة عن الانتقاص.

لكن هذا على ما أشرنا إليه إذا كان عروض هذه الحمالة في وقت وجوب المشروط بالطهارة لا مطلقا، لأصالة البراءة وعدم تعقّل وجوب المقدّمة مع عدم وجوب ذيها، ويشترط أيضا عدم ترتّب ضرر في بدنه على الإمساك، وإلّا لم يجب ولو في وقت المشروط بالطهارة لوجوب دفع الضرر ولو مظنونا بل محتملا بالاحتمال العقلائي.

الثاني: لو خرج المنيّ من جهة كثرة الوقاع بلون الدم،

ففي وجوب الغسل به وجهان: من أن المنيّ في أصله دم فلمّا لم يستحل الحق بالدماء كما حكي احتماله عن

ص: 741


1- جامع المقاصد 255:1، المسالك 48:1، المدارك 268:1.
2- الحدائق 19:3.

العلّامة في النهاية(1) ومن فرض تيقّن كونه منيّا فيشمله عموم دليل إيجاب الغسل لخروج ما تيقّن كونه منيّا، كما استقربه في المدارك(2) وحكي عن الشهيد رحمه الله(3) وهذا هو الأقوى بحكم الفرض المحرز للصغرى.

المسألة الثانية: انّه إذا اشتبه المنيّ فله صور:
الأولى: ما لو خرج من المرأة بعد اغتسالها عن المواقعة ما تيقّنت كونهما منيا،

ولكن اشتبه فتردّد بين كونه لنفسها أو للرجل.

الثانية: ما لو خرج من المكلّف مطلقا ماء تردّد بين المنيّ وغيره.

الثالثة: ما لو وجد المكلّف في ثوبه المختص به ما تيقّن كونه منيا، وتردّد بين كون منه أو من غيره.

الرابعة: ما لو وجد في الثوب المشترك بين مكلّفين من المنيّ ما يتردّد بينهما.

أمّا الصورة الأولى: فتحرير المسألة فيها أنّه إن خرج من المرأة ما يتيقن كونه منها أو كونه ما اختلط فيه منيها ومنيّ الرجل، فلا ينبغي التأمّل في انتقاض طهارتها ووجوب الغسل عليها لعموم دليل وجوبه بخروج المنيّ ، كما أنّه لو خرج منها ما يتيقّن كونه من الرجل خاصّة لا ينبغي التأمّل في أنّه ليس عليها شيء من انتقاض الطهارة ووجوب الغسل للقطع بعدم الجنابة الموجبة لهما، أمّا لو خرج منها ما يتردّد بينهما فهذا أيضا كالفرض السابق في عدم وجوب شيء عليها بلا إشكال، للأصل المنحلّ إلى أصالة البراءة عن وجوب الغسل واستصحاب الطهارة السابقة واستصحاب إباحة الدخول في الصلاة، مضافا إلى ظهور عدم الخلاف فيه بل الإجماع عليه كما ادّعاه غير واحد مع تأيده بصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول فخرج منه شيء؟ قال: يعيد الغسل. قال: فالمرأة يخرج منها شيء بعد الغسل ؟ قال: لا تعيد. قلت: فما الفرق بينهما؟ قال: لأنّ ما يخرج من المرأة إنّما هو من ماء الرجل»(4) ورواية عبد الرحمن بن أبي عبداللّه قال: «سألت

ص: 742


1- نهاية الإحكام 98:1.
2- المدارك 268:1.
3- الذكرى 224:1.
4- الوسائل 252:2 الباب 37 من أبواب الجنابة ح 10.

أبا عبدالله عليه السلام عن المرأة تغتسل من الجنابة ثمّ ترى نطفة الرجل بعد ذلك هل عليها غسل ؟ فقال: لا»(1).

[الثانية: ما لو خرج من المكلّف مطلقا ماء تردّد بين المنيّ وغيره]

وأمّا الصورة الثانية: فإن لم يشتمل الماء الخارج فيها على شيء من الصفات المنصوصة، وهي الثلاثة الواردة في الروايات الدفق والشهوة والفتور، وغير المنصوصة وهي على ما اعتبره جماعة من الفقهاء قرب رائحته من رائحة الطلع والعجين رطبا وبياض البيض جافّا، فلا حكم له وليس على المكلّف شيء بلا خلاف للأصل، وإن اشتمل عليهما وحدانية أو ثنائية أو ثلاثيّة أو رباعية فاتّفق فيه الأصحاب على اعتباره منيا بالصفات، ولكنّهم اختلفوا في كمّية الصفة المعتبرة على أقوال ترتقي على ما يستفاد من عباراتهم المحصّلة والمحكية ظهورا وصراحة إلى سبعة أقوال.

اعتباره منيا بالأربع المذكورة كما هو ظاهر الدروس(2) واعتباره منيّا بالثلاث المنصوصة كما عليه جمع كثير(3) واعتباره منيا بالدفق والشهوة كما في القواعد(4)واعتباره منيّا بالدفق والفتور كما في النافع(5) والاكتفاء بالدفق خاصّة كما عن ظاهر نهاية الإحكام والوسيلة والمبسوط والاقتصاد والمصباح ومختصره وجمل العلم والعمل والعقود والمقنعة والتبيان والمراسم والكافي والإصباح ومجمع البيان وروض الجنان وأحكام الراوندي(6) والاكتفاء بواحدة من الأربع كما عن جامع المقاصد والروض(7) والاكتفاء بواحدة من الثلاث المنصوصة كما عن المسالك(8)، ولعلّ الثالث والرابع مرجعهما إلى الثاني لما ادّعى من التلازم الخارجي بين الشهوة والفتور، بناء على أنّ الشهوة هنا لا يراد منها الحالة المنبعثة عن القوّة البهيميّة المحرصة

ص: 743


1- الوسائل 202:2 الباب 13 من أبواب الجنابة ح 3.
2- الدروس 95:1.
3- كما في الشرائع 26:1، المعتبر 177:1، التذكرة 122:1، التحرير 12:1، البيان: 13، جامع المقاصد 256:1.
4- القواعد 208:1.
5- النافع: 7.
6- نهاية الإحكام 98:1، الوسيلة: 55، المبسوط 27:1، الاقتصاد: 244، المصباح: 9، مختصر المصباح: 10، جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 25:3، الجمل والعقود: 41، المقنعة: 51، التبيان 457:3، المراسم: 41، الكافي في الفقه: 127، مجمع البيان 167:2، روض الجنان 143:1، أحكام القرآن 32:1.
7- روض الجنان 143:1، جامع المقاصد 256:1.
8- المسالك 48:1.

على إصابة النساء، بل التلذّذ الحاصل من حين حركة المنيّ عن محلّه إلى أن يخرج، كما فسّره به في الذخيرة(1) على ما حكي عنه موحيا بأنّه المراد منها حيث اطلقت، بل عبّر به في التذكرة(2) عند ذكر الصفات دون الشهوة، وهذا أيضا ظاهر القواعد حيث قال: «وصفاته الخاصّة رائحة الطلع والتلذّذ بخروجه والتدفّق فإن اشتبه اعتبر بالتدفّق والشهوة»(3) ولا ريب أنّ الشهوة بهذا المعنى يلازم فتور الجسد لأنّه يستتبعه، كما أنّ الفتور يلازم الشهوة، وعليه لمن اعتبر أحدهما مع الدفق فقد اعتبر الآخر أيضا معه، وإن لم يذكره في صريح العبارة فتصير الأقوال خمسة.

وتحقيق المقام: أنّ المكلّف بعد التأمّل في الصفة الموجودة مع ما خرج منه فإمّا أن يزول اشتباهه بالقطع بكونه منيّا فلا إشكال فيه أيضا لرجوعه إلى المسألة السابقة، أو لا يزول وحينئذ فمقتضى الأصل الأوّلي - المتقدّم شرحه - عدم ترتّب أحكام المنيّ عليه، من غير فرق بين الرجل الصحيح أو غيره، ولا في الصفة الموجودة بين كونها واحدة أو اثنتين أو ثلاثة أو أربعة ولا بين صورة الشك أو الظنّ بكونه منيّا أو بعدمه، لأنّ الأصل يخرج عنه بظنّ لم يثبت اعتباره شرعا بالخصوص أو العموم، وهو الظنّ في الموضوع الخارجي لأنّه في حكم الشك فلابدّ في الخروج عنه من دليل على اعتبار الصفات حسبما ينساق بحسب الكمّيّة منه، وعليه فمقتضى الدليل المخرج عن الأصل هو الفرق بين الرجل الصحيح والمرأة والرجل المريض، فيعتبر في الأوّل وجود الثلاثة المنصوصة فما اشتمل عليها جمع يجرى عليه أحكام المنيّ وإلّا فلا، وفي الأخيرين وجود الشهوة خاصّة وإن لم يوجد معها سائر الصفات فما لم يشتمل على الشهوة لا يجري عليه أحكام المنيّ وإن اشتمل على باقي الصفات، فهذا هو الأقوى في المسألة.

أمّا الأوّل فلصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يلعب مع المرأة ويقبّلها فيخرج منه المني فما عليه ؟ قال: إذا جاءت الشهوة ودفع وفتر لخروجه فعليه الغسل، وإن كان إنّما هو شيء لم يجد له فترة ولا شهوة فلا بأس»(4)هذا على ما [في] تهذيب الشيخ لكن المنقول عن كتاب عليّ بن جعفر التعبير

ص: 744


1- الذخيرة: 51.
2- التذكرة 221:1.
3- القواعد 208:1.
4- مسائل عليّ بن جعفر: 157/230.

ب - «الشيء» مكان «المنّي» ولعلّه الأصحّ على ما ستعرفه.

لا يقال: الشرطيّة الثانية في الرواية بمفهومها تعارض منطوق الشرطيّة الأولى ومفهومها معا، لأنّ مفهوم الثانية ثبوت المحكم مع اجتماع الشهوة والفتور وهو ينافي إناطة الحكم باجتماع الثلاث كما هو منطوق الأولى، ونفيه عند انتفاء الهيئة الاجتماعيّة مطلقا حتّى في صورة وجود الشهوة والفترة أيضا.

لأنّا نقول: إنّه لا يعتبر في متفاهم العرف مفهوم في نحو تركيب الرواية لشيء من الشرطيّتين، كما يعلم ذلك بملاحظة قول القائل «إن جاءك زيد فأكرمه، وإن لم يجئك فلا تكرمه» فإنّ التصريح بذكرهما في إفادة الحكم الإيجابي والحكم السلبي دون الاقتصار على إحداهما مع كفايتها في إفادة الحكمين باعتبار دلالتها المنطوقيّة والمفهومية يدلّ على أنّه عدل في إفادة الحكم السلبي في الأولى والحكم الإيجابي في الثانية بطريق الدلالة المفهوميّة إلى إفادتهما بطريق الدلالة المنطوقيّة، ففي نحو الرواية ليس للشرطيّتين مفهوم ليعارض مفهوم الثانية منطوق الأولى ومفهومها.

فإن قلت: الصفات الثلاثة متلازمة في الوجود الخارجي إلّا لعارض أوجب انفكاك بعضها عن بعض، فمن الجائز كون التصريح بذكرها لمجرّد التلازم الخارجي فيما بينها لا لقصر الحكم على اجتماعها، فهو لا. بنافي ثبوت الحكم مع انتفاء هذه الهيئة الاجتماعية.

قلت: ظاهر «واو» العطف مدخليّه الهيئة الاجتماعية، وكون ذكر الجميع لمجرّد التلازم الخارجي احتمال لا يضرّ في الظاهر، ولا ريب أنّ الأصل لا يعدل عنه لمجرّد الاحتمال.

فإن قلت: هذه الثلاثة لكونها صفات غالبة للمنيّ تفيد الظنّ بكون الموصوف بها منيا، فورود النصّ بها يعطي اعتبار هذا الظنّ بالخصوص، وكثيرا مّا يحصل بوجود واحدة منها أو أزيد بل بوجود الرائحة فقط، فليعتبر بحكم النصّ بالاعتبار.

قلت: لا دلالة في النصّ على أنّ المناط هو الظنّ لا صراحة ولا ظهورا، بل الظاهر منه إناطة ترتيب أحكام المنيّ بذوات هذه الصفات عند اجتماعها لا غير. ولو سلّم عدم ظهوره فلا يسلّم ظهور خلافه، وقضيّة الأخذ بالقدير المتيقّن ممّا خرج عن الأصل بالنصّ الاقتصار على اجتماع الثلاثة.

ص: 745

وربّما يتأمّل في انطباق الرواية على صورة الاشتباه كما هو محلّ البحث، لمكان قول الراوي «يخرج منه المنيّ » المقتضي للقطع بكونه منيّا، لكن يدفعه ما عرفت من أنّ المنقول من كتاب عليّ بن جعفر لفظ «الشيء» مكان «المنيّ » ومع الغضّ عن ذلك فقوله: «فما عليه» يعطي جهله بحكم هذا الخارج، ومن البعيد في الغاية كون عليّ بن جعفر مع جلالة شأنه وعلوّ رتبته في الفقه ومعرفة المسائل الدينيّة جاهلا بحكم المنيّ من حيث إيجابه الغسل مع كونه من جملة الواضحات، فلابدّ من صرفه إلى صورة الاشتباه بحمل قوله: «يخرج المنيّ » على أنّه يخرج المنيّ بحسب ظنّه، فخرج الجواب بأنّ المناط في صورة الظنّ مراعاة اجتماع الصفات الثلاث لا اتّباع الظنّ بما هو ظن، هذا مع أن الإجماع على عدم ملاحظة الصفات فيما قطع كونه منيّا يصرفه إلى صورة الاشتباه.

والمناقشة فيه بأنّ الخروج عن مخالفة الإجماع يكفي فيه الحمل على التقيّة، وقد نصّوا على أنّ اعتبار الصفات فيما قطع كونه منيا لإجراء الأحكام عليه مذهب جمهور العامّة كأبي حنيفة وأحمد ومالك، يدفعها: أنّ أصالة عدم التقيّة ممّا يقدّم التأويل على الحمل المذكور، ولعلّه المعهود من العلماء أيضا لجريان عادتهم بتقديم التأويل حيثما أمكن.

ثمّ إنّ الرواية سؤالا وجوابا مخصوصة بالرجل بل الصحيح منه، أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلفرض اللعب مع المرأة وتقبيلها في السؤال الّذي ليس إلّا من شأن الأصحّاء، لعدم اقتضاء حالة المرض شيئا من ذلك، وعليه فيشكل إطلاق أهل القول باعتبار الصفات الشامل للمرأة والمريض أيضا لكونه بلا مستند شرعي فيكون التعدّي إليهما قياسا محرّما.

وربّما يحتمل كون مستنده إطلاق الآية بتوصيف الماء بالدافق، بتقريب: أنّه يتناول ماء المرأة أيضا، وإذا اعتبر فيه الدفق فليعتبر الوصفان الآخران للتلازم الغالبي فيما بينه وبينهما، وإنّما لم يصرّح بهما في الآية اكتفاء بهذا التلازم.

وفيه من الوهن ما لا يخفى، أمّا أوّلا: فلأنّ التلازم الخارجي لا ينهض دليلا شرعيّا على اعتبار الانضمام في ترتيب آثار المنيّ على موضع الاشتباه، بل لابدّ له من دليل آخر.

ص: 746

وأمّا ثانيا: فلأنّ الآية إنّما سيقت لبيان أمر متعلق بمقام التكوين لا أمر متعلّق بمقام التشريع، فلا يقضي بوجوب ترتيب أحكام المنيّ على ما اشتبه به، فغاية ما فيها من الدلالة إن سلّمناه الدلالة على أنّ المنيّ لا بدّ فيه من الدفق ولا يلزم من ذلك وجوب ترتيب أحكام المنيّ على ما له دفق إلّا على تقدير الدلالة على أنّ كلّ ما له دفق فهو منيّ ، والآية قاصرة عن ذلك.

وبذلك يعلم ضعف القول بالاكتفاء بالدفق فقط مطلقا لو كان مستنده الآية كما احتمل، ويمكن أن يكون مستند الإطلاق في المرأة والمريض فحوى ما دلّ فيهما على الاكتفاء بالشهوة من الأخبار المستفيضة التي منها صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري قال: «سألت الرضا عليه السلام عن الرجل يلمس فرج جاريته حتى تنزل الماء من غير أن يباشر يعبث بيده حتّى تنزل ؟ قال: إذا أنزلت من شهوة فعليها الغسل»(1) وصحيحة محمّد بن الفضيل قال: «سألت أبا الحسب عليه السلام عن المرأة تعانق زوجها من خلفه فتحرّك على ظهره، فيأتيها الشهوة فتنزل الماء، عليها الغسل أو لا يجب عليها الغسل ؟ قال: إذا جاءت الشهوة فأنزلت الماء وجب عليها الغسل»(2) وصحيحته الاخرى عن أبي الحسن عليه السلام قال: قلت له: «تلزمني المرأة أو الجارية من خلفي وأنا متّكئ على جنبي فتتحرّك على ظهري فيأتيها الشهوة وتنزل الماء، أفعليها غسل أم لا؟ قال: نعم إذا جاءت الشهوة وأنزلت الماء وجب عليها الغسل»(3).

فإنّ تعليق الحكم على الشهوة إمّا لدخلها في موضوع الحكم وهو المنيّ ، بمعنى أنّ ما لا شهوة فيه فليس بمنيّ ، أو لدخلها في أصل الحكم المعلّق على عنوان المنيّ ، بمعنى أنّ ما لا شهوة فيه وإن كان منيا لكن لا يحكم عليه بوجوب الغسل معه إلّا على تقدير مقارنة الشهوة، أو لكونها مناطا لترتيب أحكام المنيّ على المشتبه. والأوّل خلاف الفرض بحكم الإجماع من إمكان تحقّق المنيّ بلا شهوة، كما أنّ التاني خلاف إجماع الشيعة ومقتضى رواياتهم من عدم توقّف جريان أحكام المنيّ على الشهوة فيما أحرز

ص: 747


1- الوسائل 186:2 الباب 7 من ابواب الجنابة ح 2.
2- الوسائل 187:2 الباب 7 من أبواب الجنابة ح 4.
3- الوسائل 189:2 الباب 7 من أبواب الجنابة ح 13.

كونه منيا، فتعيّن الثالث، فتكون الروايات المذكورة منطبقة على محلّ البحث مسوقة لبيان الحكم في صورة الاشتباه. وتوهّم احتمال الحمل على التقيّة قد عرفت ما فيه.

وأمّا ما ورد في المريض فصحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قلت له:

«الرجل يري في المنام ويجد الشهوة فيستيقظ فينظر فلا يجد شيئا ثمّ يمكث الهوين بعد فيخرج ؟ قال: إن كان مريضا فليغتسل، وإن لم يكن مريضا فلا شيء عليه. قلت: فما فرق بينهما؟ فقال: لأنّ الرجل إذا كان صحيحا جاء الماء بدفعة وقوّة، وإذا لم يكن صحيحا لم يجئ إلّا بعد»(1) وصحيحة زرارة أو حسنته قال: «إذا كنت مريضا فأصابتك شهوة فإنّه ربّما كان هو الدافق لكنّه يجيء مجيئا ضعيفا ليس له قوّة، لمكان مرضك ساعة بعد ساعة قليلا قليلا فاغتسل منه»(2) وعليهما يحمل ما في صحيحة محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: «رجل رأى في منامه فوجد اللذة والشهوة، ثمّ قام فلم ير في ثوبه شيئا؟ قال: فقال: إن كان مريضا فعليه الغسل، وإن كان صحيحا فلا شيء عليه»(3) فبجميع ما ذكر ظهر الدليل على تمام ما اخترناه من التفصيل هذا.

ولكنّ الأحوط مراعاة الغسل مطلقا ولو مع وجود أحد الصفات حتى الرائحة، لكن الاحتياط بالنسبة إلى الصلاة حينئذ أن لا يدخل فيها بمجرّد هذا الغسل بل ينقضه بأحد الأحداث الموجبة للوضوء ثمّ يتوضّأ للصلاة، وهذا الاحتياط لا يترك.

[الثالثة: ما لو وجد المكلّف في ثوبه المختص به ما تيقّن كونه منيا]

وأمّا الصورة الثالثة: فإن زال الاشتباه فيها بملاحظة خصوصيّات الواقعة والأمارات الموجودة فيها من اختصاص الثوب بالمكلّف وكون الوجدان متحقّقا حالة الانتباه من النوم وكون المنيّ على الجسد وكونه رطبا ونحوه، بأن يحصل من جهتها القطع بكونه منه كما هو الغالب من حصول العلم بذلك، فلا إشكال بل ولا خلاف في وجوب الغسل عليه حينئذ لتحقّق كونه منيّا فيشمله عموم ما دلّ على أنّ المنيّ كائنا إذا خرج من المكلّف أوجب عليه الغسل مطلقا، وعلى ذلك ينطبق إجماع العلّامة في التذكرة قائلا:

«ولو رأى المنيّ على جسده أو ثوبه وجب الغسل إجماعا لأنّه منه وإن لم يذكر الاحتلام»(4) بناء على ظاهر التعليل.

ص: 748


1- الوسائل 195:2 الباب 8 من ابواب الجنابة ح 3 و 4.
2- الوسائل 196:2 الباب 8 من ابواب الجنابة ح 5.
3- الوسائل 195:2 الباب 8 من ابواب الجنابة ح 3 و 4.
4- التذكرة 223:1.

وإن لم يزل الاشتباه بشيء من الملاحظات فمقتضى الأصل المعبّر عنه هنا بقاعدة اليقين المدلول عليها بالنصوص بل المتّفق عليها بالخصوص كما ادّعي الاتفاق عليها جماعة منهم صاحب الحدائق(1) وهي «أنّ اليقين لا ينقض إلّا بيقين مثله» المعتضدة بأصل البراءة ونحوه عدم وجوب غسل عليه، سواء كان الوجدان حالة الانتباه عن النوم أو غير هذه الحالة، كان المنيّ من آدمي أو احتمل كونه من غير آدمي، ظن بكونه منه نظرا إلى ظاهر الحال أو لم يظنّ ، لأنّ الظن الغير المعتبر كالشك في عدم الالتفات إليه في مقابلة الأصل. فما عن نهاية الإحكام في عنوان المسألة من إطلاق القول بوجوب الغسل تعليلا بكونه عملا بالظاهر وهو الاستناد إليه(2) ليس على ما ينبغي، لأنّ العمل بالظاهر لابدّ له من موجب مفقود في المقام.

نعم ربّما يتوهّم دلالة الخبرين الموثقين عن سماعة عن أبي عبداللّه عليه السلام عليه، ففي أحدهما: «عن الرجل ينام ولم ير في نومه أنّه احتلم، فوجد في ثوبه وعلى فخذه الماء، هل عليه غسل ؟ قال: نعم»(3) وفي الآخر «عن الرجل يرى في ثوبه المنيّ بعد ما يصبح ولم يكن رأى في منامه أنّه قد احتلم ؟ قال: فليغتسل، وليغسل ثوبه، ويعيد الصلاة»(4)بالنظر إلى إطلاق الجواب فيهما المقرون بترك الاستفصال.

يدفعه: منع دلالتهما الواضحة على صورة عدم القطع لو لم ندّع وضوح دلالتهما على صورة القطع، فإنّ عدم تذكر الاحتلام الّذي ذكره السائل بيان لمنشأ الشك الّذي هو إمّا شك في الموضوع على معنى أنّه أوجب الشك في كون المنيّ الموجود منه أو من غيره، أو شك في حكمة بعد تيقّن كونه [منه] إمّا بتوهّم أنّ الموجب للغسل هو المنيّ المستند خروجه إلى الاحتلام وهو [غير] محرز في الفرض المذكور، أو بتوهّم أنّ ما لم يحرز فيه وجود الصفات وهي الدفق والشهوة والفتور - كما هو لازم عدم تذكر الاحتلام - لا يوجب الغسل، فكلام السائل لاحتماله المعنيين مجمل إن لم نقل بظهوره في ثانيهما، وقضيّة ذلك إجمال الجواب المتضمّن للأمر بالاغتسال في الصورة التي فرضها السائل.

ص: 749


1- الحدائق 22:3.
2- نهاية الإحكام 101:1.
3- الوسائل 198:2، الباب 10 من أبواب الجنابة ح 1 و 2.
4- الوسائل 198:2، الباب 10 من أبواب الجنابة ح 1 و 2.

فلعلّ الإمام عليه السلام قد استفاد من السائل إرادة المعنى الأوّل فأمره بالاغتسال فيكون دليلا على اعتبار الظاهر في هذه الصورة، أو استفاد منه إرادة المعنى الثاني فأمره بالاغتسال تنبيها له على عدم اعتبار استناد خروج المنيّ إلى الاحتلام، أو على عدم اعتبار وجود الصفات في تأثير المنيّ في وجوب الغسل، فلم يكن الخبران متعرّضين لصورة عدم القطع أصلا.

فما عن الحدائق من احتمال تخصيص القاعدة بالخبرين(1) ليس على ما ينبغي.

وليس في كلام الفقهاء أيضا ممّن عدا العلّامة في نهاية الإحكام(2) ما ينافي ما ذكرنا، فإنّ لهم في هذا المقام عبارات ثلاث متضمّنة لمسائل ثلاث:

إحداها: إيجاب الغسل على من استيقظ وانتبه من النوم فوجد حالة الانتباه على ثوبه أو جسده منيّا ولم يذكر الاحتلام في نومه.

وثانيتها: إيجاب الغسل على من وجد المنيّ على جسده أو ثوبه المختصّ به فيما بعد حالة الانتباه من النوم.

وثالثتها: نفي إيجاب الغسل عن وجدان المنيّ في الثوب المشترك، وهذه تمتاز عن الأوليين بالشك في استناد المنيّ إلى أيّ المكلّفين لما اخذ فيها من مانع العلم وهي الاشتراك، بخلاف الأوليين المفروضتين في صورة العلم لانتفاء مانع العلم فيهما وهو الاشتراك بقرينة المقابلة، وهما تمتازان بعدم احتمال سبق المنيّ في الأولى على النومة الأخيرة الّتي انتبه منها، واحتماله سبقه في الثانية على النومة الأخيرة أيضا.

ويظهر فائدة الفرق بينهما في وجوب إعادة الصلاة وعدمه، فعلى الأوّل لا يجب عليه إعادة، لأن المفروض عدم سبق إتيانه بها على وجدان المنيّ لفرض تحقّقه حالة الانتباه من هذه النومة الّتي تحقّق فيها خروج المنيّ ، وعلى الثانية يجب عليه إعادة كلّ صلاة لم يحتمل سبقها على الجنابة وهو كلّ صلاة صلّاها بعد النومة الأخيرة، كما عليه جماعة منهم الشهيد في الدروس حيث قال: «وواجد المنيّ على جسده أو ثوبه المختصّ يغتسل ويعيد كلّ صلاة لا يمكن سبقها»(3) انتهى. أو «إعادة كلّ صلاة صلّاها

ص: 750


1- الحدائق 23:3.
2- نهاية الإحكام 101:1.
3- الدروس 9:1.

بعد آخر غسل رافع» كما عن المبسوط(1).

والعبارة الجامعة لجميع هذه المسائل الثلاث عبارة الشيخ في النهاية حيث قال:

«ومتى انتبه الرجل فرأى على ثوبه أو فراشه منيا ولم يذكر الاحتلام وجب عليه الغسل، فإن قام من موضعه ثمّ رأى بعد ذلك فإن كان ذلك الثوب أو الفراش ممّا يستعمل غيره لم يجب عليه غسل، فإن كان ممّا لا يستعمله غيره وجب عليه الغسل»(2).

بناء على أنّ المراد من قيامه من موضعه فرض تحقّق وجدان المنيّ فيما بعد حالة الانتباه من النوم، وهو غالبا يتحقق بعد القيام عن محلّ النوم والانصراف عن موضعه بفاصلة زمان قليل أو كثير، فإنّه الذي يوجب تردّد المنيّ الموجود بين النومة الأخيرة وما قبلها كما لا يخفى.

فما اعترض عليه جماعة تبعا لابن إدريس من أنّه لا مدخلية للقيام في التفصيل بالاشتراك والاختصاص بعد القيام، ليس على ما ينبغي، فإنّه على ما وجّهناه محلّ لهذا التفصيل لا غير.

وفي معنى هذه العبارة الجامعة ما في التذكرة من عباراتها الثلاث فإنّه قال أوّلا:

«لو رأي المنيّ على جسده أو ثوبه وجب الغسل إجماعا لأنّه منه وإن لم يذكر الاحتلام لأنّ الصادق سئل عن الرجل يرى في ثوبه المنيّ بعد ما يصبح ولم يكن في منامه أنّه قد احتلم ؟ قال: فليغتسل ثوبه...»(3) الخ، ثمّ قال - فيما بعد ذلك -: «لو رأي في ثوبه المختصّ منيا وجب عليه الغسل وإن كان قد نزعه ما لم يشك في أنّه منيّ من آدمي، ويعيد من آخر نومة فيه إلّا مع ظنّ السبق، وقال الشيخ: من آخر غسل رفع به الحدث والوجه استحبابه من الوقت الّذي تتيقّن أنّه لم يكن فيه» ثمّ قال: «لو كان مشتركا لم يجب على أحدهما الغسل بل يستحبّ ، ولا يحرم على أحدهما ما يحرم على الجنب، ولأحدهما أن يأتمّ بصاحبه لأنّها جنابة سقط اعتبارها في نظر الشرع(4)، وقيل: تبطل صلاة المؤتّم لأنّ الجنابة لا تعدوهما»(5) انتهى.

ص: 751


1- المبسوط 28:1 و 51.
2- النهاية 227:1.
3- الوسائل 198:2 الباب 10 من أبواب الجنابة ح 2.
4- المبسوط 28:1 و 51.
5- التذكرة 223:1-224.

وبالجملة فمن تأمّل في كلمات الفقهاء جزم بأنّ كلامهم في غير مسالة الثوب المشترك. مفروض في صورة العلم يكون المنيّ من الواجد له، ولذا قال في المدارك: في مسألة الثوب المختصّ بواجده «إنّ المعتبر العلم يكون المنيّ من واجده»(1) وعزي إلى السرائر(2) وغيرها عملا بعموم عدم نقض اليقين بالشك، ونحوه عزي إلى الوافي(3) وهو المستفاد من كاشف اللثام في قوله: «إذا أمكن كونه منه ولم يحتمل أن يكون من غيره»(4) نعم يرد عليه المناقشة في التعبير باعتبار كون عدم احتماله الغير مغنيا عن اعتبار إمكان كونه منه كما لا يخفى.

والعجب عن السيد في الرياض أنّه أتى في ذيل كلامه بعين هذه العبارة المنزلة لعبارة النافع على صورة العلم كما هو ظاهر كلام الفقهاء على ما عرفت، ثمّ استند بالخبرين المتقدّمين للحكم بوجوب الغسل، ثمّ قال: «فظاهر إطلاقهما جواز الاكتفاء بالظاهر هنا عملا بشهادة الحال»(5) ثمّ ساق الكلام إلى ما يفيد من القرائن كون الكلام مفروضا في صورة الظنّ والظهور، فصدر كلامه مع ذيله متدافعان. وأعجب منه أنه نقل إجماع التذكرة(6) في هذا المقام، مع أنّه قد عرفت أنّ العلّامة ادّعاه على الحكم في صورة العلم لمكان قوله في التعليل: «لأنّه منه» الظاهر في أنّ كونه منه محرز مفروغ عنه، والكلام إنما هو في إيجابه الغسل.

فظهر بجميع ما يبّنّاه أنّه ليس في كلام الفقهاء في شيء من المسألتين أعني ماعدا مسألة الثوب المشترك المحكوم فيهما بوجوب الغسل مخالفة لقاعدة اليقين فليتأمّل جيّدا.

وبقى الكلام من فروع المسألة الثانية من المسألتين في تحقيق الإعادة، والأقوى فيها المشهور من أنّه يعيد كلّ صلاة لا يحتمل سبقها على الجنابة لأنّه القدر المتيقن ممّا وقع الإخلال فيه، بناء على بطلان صلاة وقعت بلا طهارة عمدا كان أو سهوا أو جهلا بالحدث في الوقت أو في خارجه، وأمّا ما عليه المبسوط من إعادة ما صلّاه بعد آخر

ص: 752


1- المدارك 270:1.
2- السرائر 115:1.
3- الوافي 402:6.
4- كشف اللثام 9:2.
5- الرياض 196:1.
6- التذكرة 223:1.

غسل رافع(1) فلا دليل عليه إلّا الاحتياط، ووجوبه ممنوع للأصل. وإن اريد به الاستحباب فهو حسن، وإن كان يرد عليه: أنّه لا قاضي بإعادة ما وقع بعد الغسل الرافع، بل الوجه حينئذ إعادة كلّ صلاة لم يعلم سبقها على الجنابة، وهو ما وقع بعد أوّل نومة له ممّا بعد الغسل الرافع لأنّ غيره ممّا صلّاه بعد آخر غسل رافع وقبل أوّل نومة له ممّا بعد الغسل، فهو ما علم سبقه على الجنابة فلا وجه للاحتياط بإعادته لا وجوبا ولا استحبابا كما لا يخفى على المتأمّل.

[الرابعة: ما لو وجد في الثوب المشترك بين مكلّفين من المنيّ ما يتردّد بينهما]
اشارة

وأمّا الصورة الرابعة: في وجدان المنيّ في الثوب المشترك ومنه اللحاف والكساء والفراش، فاعلم أن ليس المراد بالاشتراك هنا الاشتراك في الملكيّة بل الاشتراك في الاستعمال، كما نبّه عليه في عبارة النهاية(2) المتقدّمة، وهو أن يكون الثوب ممّا يستعمله المكلفان على سبيل الاجتماع أو على سبيل التعاقب والتناوب اشتركا في الملك، أو اختصّ الملك بأحدهما وكان استعمال الآخر منوطا بإذن المالك وإباحته أو إعارته أو إجارته أو نحو ذلك، أو كان الملك لثالث خارج عن الاستعمال. فالكلام في هذا العنوان في موضعين:

أحدهما: في الغسل من جهة هذه الجنابة المردّدة بينهما من حيث إنّه يجب على كلّ منهما أو على أحدهما أو لا يجب على شيء منهما،

والأصحاب في ذلك - بعد ما اتّفقوا على عدم وجوب الغسل على كلّ منهما للأصل - اختلفوا في وجوبه على أحدهما وعدمه، فالمعظم على عدم الوجوب مطلقا من غير فرق بين الاشتراك على سبيل المعية أو على سبيل النوبة لأصالة الطهارة، والإجماع على أنّ الشك في الحدث لا يوجب شيئا، بل عن مسائل خلاف السيّد ظهور دعوى الإجماع على المسألة بالخصوص حيث قال: «عندنا أنّه من وجد ذلك في ثوب أو فراش يستعمله هو وغيره ولم يذكر الاحتلام فلا غسل عليه»(3) وذهب جماعة إلى وجوب الغسل على صاحب النوبة إذا وجد في نوبته.

وأوّل من فتح باب هذا القول الشهيد في الدروس حيث قال: «ولو قيل بأنّ

ص: 753


1- المبسوط 28:1.
2- النهاية 228:1.
3- نقل عنه في السرائر 115:1.

الاشتراك إن كان معا سقط عنهما، وإن تعاقب وجب على صاحب النوبة كان وجها، ولو لم يعلم صاحب النوبة فكالمعيّة»(1) فاستوجه الوجوب على صاحب النوبة إذا كان معلوما، ثمّ تبعه على ما حكى المحقّق الثاني في جامعه وحاشيته والشهيد الثاني وسبطه في الروض والمسالك والمدارك(2) ولا مستند لهم إلّا أصالة تأخّر الحادث وهو الجنابة، فإنّها تعيّن كون الجنب صاحب النوبة لأنّ المتيقن من حدوث هذه الجنابة حدوثها في نوبت.

وربّما يستند لهم بإطلاق الموثّقين المتقدّمين من حيث ترك الاستفصال، واجيب عن الأوّل: بمعارضته لأصالة الطهارة واستصحاب عدم وقوع الجنابة منه، ويزيّفه: أنه لو سلم أصالة التأخر عن المناقشة من جهة أخرى كانت وارده على هذين الأصلين رافعة لموضوعيهما وهو الشك، لأنّها تعيّن كون الجنب صاحب النوبة ومعه لا معنى للأصلين، نعم يرد عليها أنّها تؤول من جهة إفادتها التعيين إلى الأصل المثبت، ولا تعويل على الأصول المثبتة في جهة إثباتها، وإطلاق الخبرين يدفعه: منعه لظهورهما من حيث الإضافة المفيدة للاختصاص في الثوب المنفرد وهو المختصّ بواجد المنيّ ، فبقيت أصالة الطهارة وغيرها سليمة. وعليه فالأقوى في المسألة هو القول الأوّل ولو احتاط صاحب النوبة بالاغتسال احتياطا كان حسنا، وأحسن منه اغتسالهما معا مطلقا.

وثانيهما: في ائتمام أحدهما بالآخر والاكتفاء في تتميم عدد الجمعة بهما

من حيث إنه يجوز، فيصحّ صلاة المأموم كصلاة الإمام في الأوّل ويصحّ الجمعة مطلقا في الثاني، أو لا يجوز فلا يصحّ صلاة الماموم ولا الجمعة مطلقا.

وتحرير المسألة: أنّه لا إشكال كما لا كلام لأحد في أنّ واجدي المنيّ في الثوب [المشترك] لا يلتفتان إلى الجنابة المردّدة فيما بينهما في جملة كثيرة من الوقائع المتعلّقة، على معنى عدم جريان أحكام الجنب عليهما في هذه الوقائع، كالجلوس في غير المسجدين والاجتياز فيهما ووضع شيء في المساجد، وقراءة العزائم ومسّ كتابة

ص: 754


1- الدروس 95:1.
2- جامع المقاصد 258.:1، حاشية الشرائع (حياة المحقق الكركي وآثاره ج 10):58، روض الجنان 144:1، المسالك 48:1-49، المدارك 269:1.

القرآن وغيره، فيجوز لكلّ منهما جميع ذلك على الانفراد وعلى المعيّة، لسقوط الجنابة المرددة عن الاعتبار بالنسبة إليهما في هذه الوقائع.

ولكن الكلام في أنّ هذه القضيّة هل هي ثابتة على طريقة المحصورة الكلّية فلا يلتفت إلى هذه الجنابة في جميع الوقائع المتعلّقة بهما حتّى واقعة الإئتمام وانعقاد عدد الجمعة، أو [على] وجه الجزئيّة ؟ فعدم الالتفات إليها لا يتعدّى الوقائع المذكورة إلى غيرها من الواقعتين، فإنّ فيه خلافا بين أصحابنا، فالعلّامة في جملة من كتبه كالقواعد والتذكرة ونهاية الإحكام والمنتهى والتحرير وصاحبي المدارك والحدائق إلى الأوّل لتجويزهم الائتمام(1) والمعتبر والإيضاح والبيان وجامع المقاصد وحاشية الشرائع والمسالك وكشف اللثام(2) وغيرهم [إلى الثاني] وضابطه - على ما عن الإيضاح وجامع المقاصد -(3) كلّ فعل يتوقّف صحّته من أحدهما على صحّته من الآخر كمسألة الائتمام، أو يتوقّف صحّته من كلّ منهما على صحّته من الآخر كمسألة الجمعة، فعلى الأوّل تبطل الصلاة المتوقّف وعلى الثاني صلاة كلّ [منهما].

واستدلّ على الأوّل بسقوط الغسل عن كلّ منهما، ولذا جرى عليهما احكام المتطهّر في سائر الوقائع.

وفيه: أنّ سقوط الغسل عن كلّ منهما إنّما كان بحكم الأصل الّذي أجراه كلّ منهما في حق نفسه، لمكان عدم علمه بوقوع موجب الغسل منه، وهذا لا يثمر فيما نحن فيه، لأنّ المأموم بوصف كونه مأموما مكلّف بالصلاة المصحوبة للطهارة الحاصلة بتطهّر نفسه وتطهّر إمامه، فلابدّ له من إحراز طهارتين ولا مستند له إلّا الأصل وهو لا يتمكن من إجرائه لنفسه وللإمام معا لعلمه بانتقاض إحدي الّحالتين السابقتين، والتمسّك بالأصل مع العلم بانتقاض الحالة ولو إجمالا غير ممكن. نعم هو إذا لاحظ نفسه

ص: 755


1- القواعد 208:1، التذكرة 224:1، نهايد الإحكام 101:1، المنتهى 179:2، التحوير 12:1، المدارك 270:1، الحدائق 26:3.
2- المعتبر 179:1، الإيضاح 46:1، البيان: 14، جامع المقاصد 259:1، حاشية الشرائع (حياة المحقّق الكركي وآثاره ج 10):58، المسالك 49:1، كشف اللثام 11:2.
3- الإيضاح 46:1، جامع المقاصد 259:1.

بانفراده يتمكن منه لا مطلقا، لانتفاء العلم الإجمالي باعتبار هذه الملاحظة، وهذا بخلاف ما لو لاحظ نفسه مع الإمام لإحراز طهارتين.

وبذلك يعلم ضعف ما استدلّ به العلّامة في التذكرة(1) وغيره في غيرها من أنّها جنابة سقط اعتبارها في نظر الشرع فلا مانع من الائتمام، لأنّ معنى سقوط اعتبارها أنّه لا يلتفت إلى هذه الجنابة المردّدة كما في سائر الوقائع.

ووجه الضعف: أنّ سقوط اعتبارها بالمعنى المذكور ليس لنصّ ورد من الشارع فيها بالخصوص ليؤخذ بعمومه أو إطلاقه أو ينقّح من جهته مناط كلّي جار في جميع الوقائع، بل إنّما هو من جهة الأصل النافي لأحكام الجنب، وهذا إنّما يصحّ في كلّ واقعة لم يلزم من عدم الالتفات إلى هذه الجنابة المردّدة مخالفه علم تفصيلي أو إجمالي، كما في الوقائع المذكورة ممّا عدا ما نحن فيه، وقد عرفت أن المأموم عالم بالإجمال بانتقاض طهارة من الطهارتين الواجب إحرازهما عليه، فلو لم يلتفت حينئذ إلى الجنابة المردّدة لزم طرح هذا العلم الإجمالي، وهو ليس بسائغ لحجّية العلم الإجمالي إذا حصل في أمر متعلق بمكلّف واحد.

وأمّا ما يقال: من أنّ المعتبر في جواز الائتمام وصحّة صلاة المأموم إنّما هو عدم علمه لفساد صلاة الإمام، لأنّه قصارى ما ثبت بالأدلّة الشرعيّة، والمفروض أنّه في المقام غير عالم بالفساد في صلاه الإمام بالخصوص.

ففيه: أنّ الثابت من الأدلّة اشتراط صحّة الائتمام بصحّة صلاة الإمام الّتي يحرزها الماموم بطريق يتمكن من الركون إليه ولو نحو أصالة الصحّة في فعل المسلم وهو غير متمكن منه في خصوص المقام، إذ لو فرض ذلك الطريق أصالة الطهارة بمعنى استصحاب الحالة السابقة فقد عرفت عدم إمكانه لوجود العلم الإجمالي، وإن كان أصالة الصحّة في فعل المسلم فهي هنا ليست في مجراها، لأنّها إنّما تجري إذا كان الشك في حدوث المبطل لا فيما إذا كان الشك في المبطل الحادث المردّد بينه وبين الإمام كما لا يخفى. نعم إنّما يتمكن الإمام من إحراز الصحّة لنفسه استنادا إلى أصالة

ص: 756


1- التذكرة 224:1.

الطهارة، ولكنّها غير مجدية في حقّ المأموم.

ومن هنا سقط ما يقال أيضا: من أنّ الصحّة الّتي هي شرط لصحّة الائتمام حاصلة في المقام، إذ المفروض أنّ الإمام أحرزها بحكم الأصل وهذه وإن كانت صحّة ظاهريّة غير أنّها كافية في صحّة صلاة المأموم، ولذا يقال: إنّ الحكم الظاهري للإمام موضوع واقعي لحكم المأموم، فإن الصحّة الظاهريّة في صلاة الإمام إنّما تكفي للمأموم إذا أحرزها المأموم لا مطلقا، مع أنّه قد يقال: إنّ الشرط في صحّة الائتمام إنما هو الصحّة الواقعية لصلاة الإمام فإنّه الأصل المستفاد من الأدلّة إلّا ما خرج بالدليل، فانقدح بجميع ما قرّرناه أنّ الأقوى هو القول الثاني لأصالة الاشتغال المقتضية ليقين البراءة الغير الحاصل إلّا بترك الائتمام.

وهل يجوز لثالث الائتمام بأحدهما في فرض كصلاة الظهر مثلا وبالآخر في آخر كصلاة العصر أو لا؟ الأقرب الأوّل بناء على أنّ كلّ صلاة بانفرادها واقعة مستقلّة فهو في كلّ واقعة بانفرادها متمكن من إحراز الصحّة، ولو من جهة الأصل المبتنية على إحراز طهارتين ولو كان مستنده في إحراز إحداهما اصالة الطهارة، لأنّه عند الإقدام على كلّ واقعة لا يعلم إجمالا بانتقاض إحدى الطهارتين في خصوص تلك الواقعة، وما يحصل له من العلم بأنّ أحد الفرضين يقع لا محالة مع الإمام الجنب غير قادح إلّا إذا فرضنا الفرضين واقعة واحدة لا مطلقا، ولعلّ هذا هو السر في عدم ظهور خلاف بين الأصحاب في جواز هذا الائتمام على ما ادّعي، فليتدبّر.

وثانيهما: الجماع
اشارة

وثانيهما:(1) الجماع

وهو حيثما اضيف إلى النساء عبارة عن التقاء الختانين على ما ورد في الصحاح(2) البالغة فوق حدّ الاستفاضة من إناطة الامر بالاغتسال بذلك.

والمراد به غيبوبة الحشفة الظاهرة في غيبوبة تمامها للإجماع، وخصوص الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، قال: «سألت الرضا عليه السلام عن الرجل يجامع المرأة قريبا من الفرج فلا ينزلان متى يجب الغسل ؟ فقال: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فقلت:

التقاء الختانين هو غيبوبة الحشفة ؟ قال: نعم»(3) وعليه فالتقاء الختانين كناية عن التقاء

ص: 757


1- هذا ثاني موجبات الجنابة.
2- الوسائل 182:2 الباب 6 من أبواب الجنابة ح 1 و 2.
3- الوسائل 183:2 الباب 6 من أبواب الجنابة ح 2.

فرج الرجل لفرج المرأة المحدود بالحدّ الوارد في الصحيحة، فمعضل المعنى المراد منه التقاء ما عليه الختان لما فيه الختان، وعليه يحمل ما في الصحيح الآخر من قول أبي الحسن عليه السلام «إذا وقع الختان على الختان فقد وجب الغسل البكر وغير البكر»(1)وما في آخر من قول أبي عبد الله عليه السلام: «إذا مسّ الختان الختان فقد وجب الغسل»(2)فحقيقة المراد منهما وقوع ما عليه الختان على ما فيه الختان و مسّ ما عليه الختان ما فيه الختان، ثمّ يقيّد إطلاقهما بما عرفت في الصحيحة، ويؤيّد المعنى المذكور الوارد في تفسير التقاء الختانين الاعتبار على ما ذكره المحقّق الخوانساري وغيره من «أنّ التقاء الختانين بالمعنى الحقيقي غير متصوّر، لأنّ مدخل الذكر أسفل الفرج وهو مخرج الولد والحيض، وموضع الختان أعلاه وبينهما ثقبة البول»(1) وكيف كان فهاهنا مسائل:

المسألة الأولى: الجماع مع المرأة بمعنى الإدخال في فرجها قبلا يوجب الغسل عليهما مع الإنزال ومع عدمه بالإجماع محصّلا بل المستفيض نقلا،

ومنه ما في المدارك «وقد اتّفق العلماء كافة على وجوب الغسل به للصحاح المتكاثرة القريبة من التواتر التي منها ما مرّ»(2).

ومنها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فقال: ما تقولون في الرجل يأتي أهله فيخالطها ولا ينزل ؟ فقالت الأنصار:

الماء من الماء، وقال المهاجرون: إذا التقى الختان الختان فقد وجب عليه الغسل، فقال عمر لعليّ عليه السلام: ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال عليّ عليه السلام: أتوجبون عليه الحدّ والرجم ولا توجبون عليه صاعا من الماء إذا التقى الختانان فقد وجب عليه الغسل، فقال عمر:

القول ما قال المهاجرون، ودعوا ما قالت الأنصار»(3).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليه السلام قال: «سألته متى يجب الغسل على الرجل والمرأة ؟ فقال: إذا أدخله فقد وجب الغسل والمهر والرجم»(4) وصحيحته الأخري عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: «كيف جعل على المرأة إذا رأت

ص: 758


1- مشارق الشموس: 160
2- المدارك 271:1.
3- الوسائل 184:2
4- الباب 6 من ابواب الجنابة ح 5.

في النوم أنّ الرجل يجامعها في فرجها الغسل، ولم يجعل عليها الغسل إذا جامعها دون الفرج في اليقظة فأمنت ؟ قال: لأنّها رأت في منامها أنّ الرجل يجامعها في فرجها فوجب عليها الغسل، والآخر إنّما جامعها دون الفرج فلم يجب عليها الغسل، ولو كان أدخله في اليقظة وجب عليها الغسل أمنت أو لم تمن»(1).

وصحيحة عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «الرجل يضع ذكره على فرج المرأة فيمني عليها غسل ؟ فقال: إذا أصابها من الماء شيء فلتغسله، ليس عليها شيء إلّا أن يدخله...»(2) الحديث.

وصحيحة محمّد بن عذافر قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام متى يجب على الرجل والمرأة الغسل ؟ فقال: يجب عليهما الغسل حين يدخله وإذا التقى الختانان فيغسلان فرجهما»(3) بناء على عطف مدخول «إذا» على مدخول «حين» فلا يعارض ما مرّ وفي رواية عن الرضا قال: «سألته ما يوجب الغسل على الرجل والمرأة ؟ فقال: إذا أولجه وجب الغسل والمهر والرجم»(4).

ثمّ المعروف من مذهب الأصحاب المصرّح به في كلام جماعة من أساطينهم الحاق المرأة الميتة بالحيّة في وجوب الغسل بوطيها، بل لا يعرف في ذلك خلاف فيما بينهم، بل ظاهر الخلاف ومحكيّ التذكرة والمنتهى عدم الخلاف فيه بين اصحابنا(2)حيث خصّا الخلاف بأبي حنيفة وأصحابه، ولعلّه لذا صرّح بالإجماع منّا خاصّة في الرياض(3).

نعم توقّف في ذلك الحكم شارح الدروس تمسّكا بالأصل(4) ووافقه عليه في الحدائق(5) والعمدة بيان دليل الحكم.

فقد يستدلّ عليه بالاستصحاب. وعن الخلاف التمسّك بما روي عنهم عليهما السلام «من أنّ حرمة الميت كحرمة الحيّ »(6) ولأنّ الظواهر المتضمّنة لوجوب الغسل على من أولج

ص: 759


1- الوسائل 191:2 الباب 7 من أبواب الجنابة ح 19. (2و3و4) الوسائل 185:2 الباب 6 من أبواب الجنابة ح 7 و 9 و 8.
2- الخلاف 116:1، التذكرة 227:1، المنتهي 186:2.
3- الرياض 198:1.
4- مشارق الشموس: 162.
5- الحدائق 12:3.
6- التهذيب 62:10/229.

في الفرج يدلّ على ذلك لعمومها وطريقة الاحتياط تقتضيه(1).

وفي الكلّ ما ترى، فإنّ الاستصحاب مع تبدّل الموضوع غير معقول، إذ موضوع المستصحب في حال اليقين إنّما هو الوطء في فرج الحيّ وهو في آن الشك الوطء في فرج الميتة. وفرض الحالتين في هذه المرأة المعيّنه بأن يقال: إنّ الوطء في فرجها حال حياتها كان موجبا للغسل فكذا في حال مماتها للاستصحاب، لا يجدي نفعا في وحدة موضوع الحكم في الحالتين، لأنّ موضوع الحكم في زمان اليقين لم يكن هذه المرأة الشخصيّة من حيث هي هذه بل هي باعتبار كونها جزئيا من جزئيّات عنوان كلّي وارد في الأدلّة، وهو الوطء في فرج المرأة الحية فهذا هو موضوع الحكم، بناء على أنه عبارة عمّا اخذ عنوانا في الأدلّة ولو بحكم الانصراف، فهي بعد الموت خرجت عن هذا العنوان ودخلت في عنوان آخر غيره ممّا لم يرد بحكمه نصّ خصوصا ولا عموما، ولو سلّم أنّ الموضوع هو هذه المرأة ولكن لا يعلم أنّه هذه المرأة لذاتها أو هي بشرط الحياة، فالموضوع مع وجود هذا الشك غير محرز فلا وجه معه أيضا للاستصحاب.

وكون حرمة الميت كحرمة الحي ممّا لا مدخل له في المقام أصلا، لعدم كون العلّة في وجوب الغسل على الرجل الواطئ في فرج المرأة الحيّة حرمة تلك المرأة حتى يقال: بأنّ هذه العلّة بعينها موجودة في الميتة أيضا.

والظواهر المدّعاة من جهة العموم غير مسموعة، لمنع عموم في نصوص الباب يفي بحكم المسألة كما لا يخفى على من لاحظ أسئلة هذه النصوص وأجوبتها. وقصور طريقة الاحتياط في إفادة الوجوب في نحو المقام من حيث رجوع الشك فيه إلى التكليف واضح، على ما هو مقرّر في محلّه.

نعم إنّما يتّجّه الاستناد لهذا الحكم إلى الملازمة المستفادة من قوله عليه السلام: «أتوجبون عليه الحدّ والرجم ولا توجبون عليه صاعا من الماء»(2) في صحيحة زرارة المتقدّمة، فإنّه على ما هو ظاهر السياق ورد في مقام التعجّب أو التوبيخ عليهم من حيث توقفهم واختلافهم فيما لا ينبغي التوقّف ولا الاختلاف فيه، من لزوم وجوب الغسل بمجرّد

ص: 760


1- الخلاف 117:1.
2- الوسائل 184:2 الباب 6 من أبواب الجنابة ح 5.

الإدخال لوجوب الحدّ والرجم به مع إذعانهم بالملزوم، فكأنّه عليه السلام قال: «كلّما يؤثّر من مخالطة النساء في وجوب الحدّ والرجم فهو يؤثّر في وجوب الغسل» وهذه ملازمة كليّة أعطاها الإمام عليه السلام وإن لم يتعرض لبيان جزئيّات الملزوم في تلك الملازمة، فإذا قام دليل من الخارج في مورد لإثبات الملزوم ممّا يوجب الحدّ والرجم يترتب عليه اللازم وهو كونه موجبا للغسل بحكم تلك الملازمة، والمفروض أنّ الوطء بالمرأة الميتة الأجنبيّه يوجبها بحكم النصّ والإجماع فليوجب الغسل أيضا بحكم الملازمة الّتي ورد لبيانها النصّ ، ثمّ يتأيّد ذلك بمنقول الإجماع وظهور عدم الخلاف هذا بالنسبة إلى الواطى.

أمّا الموطوءة فالظاهر عدم وجوب غسل بالنسبة اليها لا عليها ولا على غيرها واطئا ولا غيره ممّن يطّلع بما جرى عليها من الفعل الفاحش وليا كان أو غيره، أمّا أنّه لا يجب عليها فلعدم صلوحها لتوجّه الخطاب إليها، وأمّا أنّه لا يجب على غيرها أن يغسلها فلعدم الدليل عليه من نصّ أو إجماع فالأصل براءة الذمّة عنه.

ثمّ إنّ في عدم وجوب الغسل على مقطوع الحشفة بمجرّد الإيلاج مطلقا أو وجوبه بشرط إيلاج تمام الباقي من ذكره، أو بشرط تحقّق مسمّي الإدخال وهو دقلّ ما يصدق عليه اسمه، أو بشرط إيلاج قدر الحشفة من الباقي، وجوه: من عموم مفهوم «إذا التقى الختان فقد وجب الغسل» على ما ورد في الصحاح، ومن الأخذ بالقدير المقطوع به ممّا خرج عن الأصل بالدليل، ومن إطلاق «أدخله» في صحيحتي محمّد بن مسلم «وأولجه» في الرواية الأخيرة ممّا تقدّم، ومن ظهور الإجماع من كلماتهم على التقدير بمقدار الحشفة.

لكن ينبغي القطع ببطلان الأوّل للإجماع على أنّ مقطوع الحشفة ليس بحيث لم يتوجّه إليه الخطاب بالغسل، كما أنّه ينبغي القطع ببطلان الثالث لعدم بقاء الإطلاق - على تقدير تسليمه بمنع الانصراف إلى ذي الحشفة - على حاله لوجوب تقييده بغيبوبة الحشفة الواردة في صحيحة محمّد بن بمسلم، ومعه فإذا أريد منه الإطلاق أيضا يلزم استعمال اللفظ في المطلق والمقيد بالنسبة إلى مقطوع الحشفة وذي الحشفة، أو يلزم الإغراء بالجهل بالنسبة إلى إرادة أحدهما، لأنّ المتكلّم إن اتّكل في إفادة ما في

ص: 761

ضميره إلى إطلاق اللفظ يلزم الاعراء بالنسبة إلى إرادة المقيّد، وإن اتّكل إلى دليل التقييد يلزم الاغراء بالنسبة إلى إرادة المطلق. والكلّ باطل، فتبقى من الاحتمالات وجوب الغسل بشرط ايلاج تمام الباقي من الذكر ووجوبه بشرط إيلاج مقدار الحشفة، والأوّل وإن كان يعضده الأصل لكنّ المتعين منهما هو الثّاني لظهور قوله «التقاء الختانين هو غيبوبة الحشفة قال: نعم».

فإنه إمّا سؤال عن موضوع [الحكم] من حيث إنّه يعتبر فيه الغيبوبة أو لا تعتبر؟ في مقابلة توهّم كفاية مجرّد وضع الذكر على الفرج وإن لم يدخل فيه، فورد الجواب بالاعتبار رافعا للتوهّم المذكور.

أو سؤال عن موضوع الحكم من حيث مدخليّة الحشفة فيه وعدمها في مقابلة توهّم عدم الوجوب في مقطوعها، فورد الجواب بالمدخلية نافيا للحكم عن المقطوع.

أو سؤال عن المقدار المكتفى به من إدخال الذكر في الفرج في تحقق موجب الغسل مع فرض اعتبار الغيبوبة وعدم مدخليّة الحشفة في مقابلة توهّم كفاية مسمّي الغيبوبة وإن لم يبلغ حدّ مقدار الحشفة، أو في مقابلة توهّم اعتبار الزيادة على غيبوبة مقدار الحشفة، فورد الجواب بكفاية مقدار الحشفة أو اعتبار ذلك المقدار، وهذه احتمالات ثلاث جارية في وجه سؤال السائل ومنشائه.

لكنّ الثاني منها ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه محمل السؤال المنطبق عليه الجواب عليه، لكمال بعده باعتبار ندور مورد التوهّم فيبعد الالتفات إليه حين السؤال فبقى الأوّل والثالث، إلّا أنّ أظهرهما الثالث بشهادة ظاهر السياق، فإذا كان ظاهر السياق سؤالا عن المقدار فيكون مفاد الجواب أنّ المدار في موجب الغسل على غيبوبة هذا المقدار، وقضيّة ذلك بعد الإجماع على وجوب غسل على مقطوع الحشفة في الجملة اعتبار التقدير فيه أيضا بذلك لا غير، وهو المطلوب.

ولو قطع بعض الحشفة ففي اعتبار مقدارها أيضا، أو كفاية الباقي منها مطلقا، أو كفايته إن صدق عليه التقاء الختانين، وإلاّ فيعتبر قدر الحشفة أو القدر الّذي يصدق معه الالتقاء، أو كفاية الباقي إلّا أن يذهب المعظم فيعتبر مقدار الحشفة، أوجه:

أوجهها أوّلها لعين ما مرّ من ظهور الخبر المتقدّم في بيان المقدار لا اعتبار

ص: 762

الخصوصيّة، وأمّا الثاني فلا مستند له إلّا توهّم صدق غيبوبة الحشفة، كما أنّ الثالث لا مستند له إلّا توهّم إطلاق الالتقاء، والثالث لا مستند له أيضا إلّا توهّم صدق غيبوبة الحشفة مع غيبوبة البعض الّذي لم يذهب معه البعض المعظم.

والكلّ كما تري، أمّا الأوّل: فلظهور غيبوبة الحشفة في غيبوبة تمامها فلا يشمل غيبوبة البعض لعدم صدق الحشفة عليه على وجه الحقيقة، وأمّا الثاني: فلأنّ النظر في إطلاق الالتقاء إنّما يصحّ إذا لم يكن ورد تفسيره بغيبوبة الحشفة، ومع هذا التفسير فالعبرة بإطلاق المفسّر، وقد عرفت أنّه ظاهر في غيبوبة تمام الباقي، وأمّا الثالث: فلمنع الصدق على ما عرفت أيضا.

وفي وجوب الغسل بإيلاج الملفوف لصدق الإدخال، وعدمه لأنّ استكمال اللذّة إنّما يحصل بارتفاع الحجاب، أو التفصيل باعتبار الخرقة، فإن كانت لينّة رقيقة لا يمنع وصول بلل الفرح إلى الذكر ووصول الحرارة من أحدهما إلى الآخر فوجب الغسل، وإن كانت ثخينة وغليظة لم يجب، احتمالات نقلت عن النهاية(1) والظاهر أنّها نهاية الإحكام لأن نهاية الشيخ ليست متعرّضة لهذا الفرد.

وكيف كان، فينبغي أن يعلم أنّ إشكال المسألة ليس في صدق الإدخال وعدمه على إيلاج الملفوف بالنظر إلى ندوره، بل في شرطيّة لصوق البشرة بالبشرة، فإن لم نقل بانصراف النصوص إلى صورة الملاصقة فلا دقلّ من عدم إفادتها نفي الاشتراط، وحينئذ فالمتّجه هو القول الثاني للأصل، فإن الشك في الشرطيّة يوجب الشك في تأثير ما انتفى عنه الشرط، وقضيّة الأصل هو العدم، نعم لو كان الرقيق في الرقّة بحيث لم يصدق عليه الحاجب وصدق معه ملاصقة البشرة للبشرة اتّجه وجوب الغسل.

المسألة الثانية: في دبر المرأة

فالمعروف المشهور بين الأصحاب المنسوب في المدارك(2) إلى مذهب المعظم وجوب الغسل بوطئه، بل لم يعرف فيه خلاف إلّا ما عن ظاهر الشيخ في التهذيب والاستبصار(3) لطعنه في مرسلة حفص الآتية وحملها

ص: 763


1- نهاية الإحكام 96:1.
2- المدارك 272:1.
3- التهذيب 460:7، الاستبصار 12:1.

على التقيّة وعملها على ما ينافيها من الروايات، وما عن سلّار في المراسم وظاهر الفقيه حيث روي ما يدلّ على عدم الوجوب، والكليني حيث أورد في الكافي(1)مرفوعة البرقي الدالة على عدم الغسل ولم يرد ما ينافيها، وربّما ينسب إلى ظاهر النهاية لقوله فيها: «لا غسل في الجماع في غير الفرج مع عدم الإنزال»(2) ولعلّه بناء على حمل الفرج على القبل لا ما يعمّه والدبر، بل عن السيّد نقل الإجماع بل دعوى الضرورة على الوجوب(3) وعن ابن إدريس أيضا دعوى إجماع المسلمين عليه(4).

قال السيّد في المحكيّ عنه: «لا أعلم خلافا بين المسلمين في أنّ الوطء في الموضع المكروه من ذكر وانثى يجري مجري الوطء في القبل مع الإيقاب وغيبوبة الحشفة في وجوب الغسل على الفاعل والمفعول به وإن لم يكن إنزال، ولا وجدت في الكتب المصنّفة لأصحابنا الإمامية إلّا ذلك، ولا سمعت ممّن عاصرني منهم من الشيوخ نحوا من ستين سنة يفتي إلّا بذلك، فهذه مسالة إجماع من الكلّ ولو شئت أن أقول معلوم ضرورة من دين الرسول أنه لا خلاف بين الفرجين في هذا الحكم، وأنّ داود وإن خالف في أنّ الإيلاج في القبل إذا لم يكن معه إنزال لا يوجب الغسل، فإنه لا يفرّق بين الفرجين كما لا يفرّق باقي الامّة بينهما في وجوب الغسل بالإيلاج في كلّ واحد منهما.

واتّصل بي في هذه الأزمان عن بعض الشيعة الإماميّة أنّ الوطء في الدبر لا يوجب الغسل تعويلا على أنّ الأصل عدم الوجوب، أو على خبر يذكر في منتخبات سعد(5) أو غيرها. فهذا ممّا لا يلتفت إليه، أمّا الأوّل فباطل لأنّ الإجماع والقرآن لقوله تعالى: أَوْ لاٰمَسْتُمُ اَلنِّسٰاءَ (6) يزيل حكمه. وأمّا الخبر فلا يعتمد عليه في معارضة الإجماع والقرآن، مع أنّه لم يفت به فقيه ولا اعتمد عالم، مع أنّ الأخبار تدلّ على ما أردناه، لأنّ كلّ خبر تضمّن تعليق الغسل بالجماع والإيلاج في الفرج فإنّه يدلّ على ما ادّعيناه، لأنّ

ص: 764


1- المراسم: 41، الفقيه 84:1/186، الكافي 47:3/8.
2- النهاية 227:1.
3- نقل عنه المختلف 328:1.
4- السرائر 110:1.
5- هو سعد بن عبدالله بن أبي خلف الاشعري القميّ ، صنف كتبا كثيرة منها «كتاب المنتخبات» رجال النجاشي: 178.
6- المائدة: 6.

الفرج يتناول القبل والدبر إذ لا خلاف بين أهل اللغة وأهل الشرع بذلك»(1) انتهى.

فالأقوى في النظر القاصر هو الوجوب، ودليله بعد الإجماع المنقول - المتضمّن لما عرفت من التأكيدات والمبالغات مع دعوى الضرورة من دين الرسول صلى الله عليه و آله وسلم المعتضد بالشهرة العظيمة بل عدم ظهور الخلاف لما قيل من عدول الشيخ في سائر تصانيفه المتأخرة عن الكتابين، وعدم صراحة كلام الباقي في المخالفة، بل عدم ظهوره أيضا المورث للاطمينان - عموم الملازمة المستفادة من كلام مولانا أمير المؤمنين في الصحيحة المتقدّمة القاضية بأنّ «ما يوجب الحدّ والرجم يوجب الغسل» على معنى أنّ وجوب الحدّ والرجم ملزوم لوجوب الغسل ومنه الوطء في دبر الأجنبّية فإنّه يوجبهما فليوجب الغسل أيضا.

وخصوص مرسلة حفص بن سوقة عمّن أخيره قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل يأتي أهله من خلفها؟ قال: هو أحد المأتيين فيه الغسل»(2) المنجبر قصورها بالإرسال بعمل المعظم والإجماع المنقول. واستدلّ أيضا بالآية الكريمة أَوْ لاٰمَسْتُمُ اَلنِّسٰاءَ المفسّرة في النصّ والإجماع بالمواقعة الشاملة بإطلاقها للجماع في الدبر، بناء على أنّ إيجاب البدل مع تعذر المبدل يستلزم وجوب المبدل مع عدم تعذّره.

وبصدق الفرج على الدبر أيضا، فيشمله ما علّق فيه وجوب الغسل على الإدخال أو الإيلاج في الفرج، أمّا الأوّل: فلأنّه المستفاد من إطلاقات الأصحاب بل تنصيصاتهم وتنصيصات أهل اللغة، قال في القواعد - كما عن صوم المبسوط وطهارة الوسيلة والسرائر -: «وغيبوبة الحشفة في فرج آدمي قيل أو دبر»(3) وعن السرائر «سمّي الدبر فرجا بغير خلاف بين أهل اللغة» وعن المعتبر والمنتهى والذكرى وجامع المقاصد التصريح بأنّ الدبر فرج(4) وعن المختلف «أنّ الدبر عندنا سمّي فرجا لغة وعرفا»(5)

ص: 765


1- نقل عنه في المختلف 328:1-329.
2- الوسائل 200:2 الباب 12 من ابواب الجنابة ح 1.
3- القواعد 208:1، المبسوط 27:1، الوسيلة: 55، السرائر 111:1.
4- المعتبر 181:1، المنتهى 185:2، الذكرى 221:1، جامع المقاصد 256:1.
5- المختلف 327:1.

وعن الإيضاح والتنقيح «أنّ الدبر سمّي فرجا»(1) وعن تلخيص التلخيص أنّ القاضي قال: «إنّ لفظ الفرج شامل لهما»(2) وعن شرح المفاتيح «أنّ الفرج أعمّ من الدبر لغة وعرفا وشرعا»(3) وقد عرفت عن السيد التصريح بالتعميم.

وفي مجمع البحرين «الفرج من الإنسان كفلس قبله ودبره، لأن كلّ واحد منهما منفرج، وكثر استعماله في العرف في القبل»(4) انتهى.

واستدلّ أيضا بإطلاق «ادخله ويدخله» الواردين في بعض الأخبار(5).

وفي نهوض هذه الوجوه الثلاث دليلا تدمّل من حيث الدلالة، والعمدة ما بينّاه. هذا كلّه بالنسبة إلى الفاعل.

وأمّا بالنسبة إلى القابل فكذلك لما عرفت من نصّ إجماع الشيخ، مضافا إلى الإجماع المركب المحكيّ دعواه عن السرائر حيث قال «فإن قيل قد دللتم على أنّ الفاعل يجب عليه الغسل فمن أين أنّ الغسل واجب على المفعول به ؟ قلنا: كلّ من أوجب ذلك على الفاعل أوجب على المفعول، فالقول بخلاف ذلك خروج عن الاجماع»(6) وليس للقول الآخر إلّا الأصل وروايات مرسلة هي بما فيها من الإرسال مع إعراض المعظم عنها ساقطة عن درجة الاعتبار، مع عدم وضوح دلالتها وقبولها التأويل فلا تصلح لمكافئة ما مرّ جدّا، ومن يطلبها يراجع مظانّها.

المسألة الثالثة: في دبر الغلام،

والكلام فيه كالكلام في سابقه بل الخلاف فيه أوضح، إلّا أن المشهور فيه أيضا كما ادّعاه جماعة وجوب الغسل، بل قد عرفت عن السيد دعوى الإجماع فيه(7) وعن السرائر أنّه اجماع المسلمين(8)وعن كاشف أنّه المشهور في الفاعل والمفعول معا(9) وفي صريح النافع كما عن كشف الرموز وظاهر المبسوط والخلاف التردّد(10) وعن المعتبر كما هو ظاهر الشرائع

ص: 766


1- الإيضاح 45:1، التنقيح 94:1.
2- نقل عنه في مفتاح الكرامة 13:3.
3- مصابيح الظلام 65:4.
4- مجمع البحرين 322:2.
5- الوسائل 182:2 الباب 6 من أبواب الجنابة ح 1 و 6.
6- السرائر 110:1 و 108.
7- نقل عنه في المختلف 328:1.
8- السرائر 110:1 و 108.
9- كشف اللثام 7:2.
10- النافع: 8، كشف الرموز 72:1، المبسوط 27:1-28، الخلاف 116:1.

عدم الوجوب(1) وعن مجمع الفائدة والبرهان أنّه لا يجب إلّا أن يثبت الإجماع المركب(2) وعن المدارك والمفاتيح عدم ترجيح شيء(3).

والأقوى هو الأوّل لعموم الملازمة المتقدّمة مضافا إلى الإجماع المذكور من السيد والحلّي، والإجماع المركب المحكيّ عن المختلف قائلا «بأنّ كلّ من أوجبه في دبر المرأة أوجبه في دبر الغلام»(4) وربّما [استدلّ ] بإطلاق قوله: «إذا أدخله وأولجه» وهو محلّ منع، نعم في حسنة الحضرمي المرويّة عن الكافي عن الصادق قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: «من جامع غلاما جاء جنبا يوم القيامة لا ينقّيه ماء الدنيا»(5) وهذا لا يخلو عن تأييد إن لم نقل بدلالته على المطلب، فإن قوله صلى الله عليه و آله وسلم: «جاء جنبا» يقضي بأن مجامعة الغلام يؤثر في الجنابة، فيضمّ إليه ما دلّ من الكتاب والسنّة على وجوب الغسل بالجنابة، ولا ينافيه بقاؤه إلى يوم القيامة على وصف الجنابة، فإنّه تغليظ في القبح والخاصية، ويراد به بقاء باطن الجنابة و إن ارتفع بالغسل ظاهرها، ومعنى «لا ينقية ماء الدنيا» أنّ الغسل المشروع له لا يرفع الباطن بل الباطن يرفعه نار الآخرة، وإن كان رفع منه الأحكام الظاهريّة الدنيويّة المتعلّقة بالجنب.

فروع: لو أولج الرجل في الخنثى دبرا يجب الغسل عليهما لما علم في المسألتين السابقتين، فإنّها بحسب الواقع إمّا رجل أو انثى، وأيّا ما كان فالوطء في دبره يوجب الغسل على الواطئ والموطوء، بخلاف ما أولج فيها قبلا فإنّه كما لو أولج الخنثى في مثلها قبلا أو دبرا أو في الأنثى قبلا أو دبرا فلا يجب الغسل في الأوّل على الرجل ولا عليها، لاحتمال كونها في الواقع رجلا، وكان موضع الإيلاج ثقبة زائدة، ولا في الثاني على الخنثى ولا موطوئها خنثى كانت أو انثى، لجواز كونها في الواقع انثى وكان الإيلاج حاصلا بآلة زائدة غير آلة الرجوليّة الّتي يمتاز بها الرجل عن المرأة وعلّق عليها الحكم.

ومن هنا علم أنّه لو توالجت الخنثيان لا يجب عليهما الغسل لقيام احتمال الزيادة

ص: 767


1- المعتبر 181:1، الشرائع 26:1.
2- مجمع الفائدة 133:1.
3- المدارك 274:1-275، مفاتيح الشرائع 53:1.
4- المختلف 329:1.
5- الوسائل 329:20 الباب 17 من ابواب النكاح المحرم ح 1.

في كلّ منهما، نعم لو أولج الرجل على الخنثى والخنثى على الأنثى وجب الغسل على الخنثى دون الرجل والانثى، أمّا الأوّل فلأنّها بحسب الواقع إن كانت امرأة فقد أدخل في فرجها، و إن كانت رجلاً فقد أدخل في فرج المرأة فقد تحقّق فيها سبب الجنابة وموجب الغسل قطعا إجماليّا وإن لم يعلم ذلك على وجه التفصيل.

وأمّا الرجل والانثى فهما كواجدي المني في الثوب المشترك فإن أحدهما جنب لا على التعيين، والأصل في كلّ بانفراده يقتضي عدم وجوب الغسل، ويجري فيهما أيضا سائر الأحكام المتقدّمة لواجدي المنيّ حتى عدم صحّة الائتمام.

ولو أولج الصبيّ في البالغ أو البالغ في الصبيّة وجب الغسل فيهما على البالغ، ولو أولج الصبيّ في الصبيّة ففي وجوب الغسل عليهما إشكال، وعلى تقدير الوجوب ففي وجوب منعهما عمّا يحرم علي الجنب البالغ كالجلوس في المساجد غير المسجدين، والاجتياز فيهما وقراءة العزائم ومسّ كتابة القرآن إشكال آخر، وإن أفتى بوجوبه جماعة بل الأقوى عملا بالأصل العدم، لعدم دليل يصلح مخرجا عنه.

ولو اغتسلا ففي صحّته وجهان، مبنيّان على كون عبادات الصبيّ شرعيّة أو تمرينيّة، وإذا لم يغتسلا حتى بلغا يجب أن يغتسلا حينئذ، والأحوط إعادة الغسل إن كانا اغتسلا قبل، وأحوط منه عدم الاكتفاء بهذا الغسل للدخول في الصلاة، بل ينقض بموجب الوضوء ليشرع الوضوء فيدخلان الصلاة بالوضوء.

وفي وطء البهيمة قبلا ودبرا من غير إنزال قولان، اشهرهما أنّه لا يوجب الغسل وهو مذهب الأكثر، كما عن شرح المفاتيح(1) وعن الخلاف والمبسوط أنّه الّذي يقتضيه المذهب(2) لكن عن صوم المبسوط فيما يفسد الصوم: «والجماع في الفرج أنزل أم لا قبلا أو دبرا فرج امرأة أو غلام أو ميتة أو بهيمة على الظاهر من المذهب»(3) انتهى.

ومستند القول الاوّل واضح، وهو الأصل مع فقد النصّ . وأمّا الثاني فلم نقف له على مستند عدا ما في الرياض(4) من فحوى ما تقدّم في النبويّ : «من جامع غلاما جاء

ص: 768


1- مصابيح الظلام 68:4.
2- الخلاف 117:1، المبسوط 28:1.
3- المبسوط 270:1.
4- الرياض 201:1.

يوم القيامة جنبا لا ينقّيه ماء الدنيا» وما روي عن الأمير عليه السلام: «ما أوجب الحدّ أوجب الغسل»(1) وفي الأوّل: أنّ الخبر ليس له دلالة واضحة في وطء الغلام فكيف بالبهيمة، وعلى تقدير وضوح دلالته في الأوّل يمنع الفحوى بالنسبة إلى الثاني، فإنّ الفحوى يتأتّى في الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، والأولى بالحكم لعلّه الغلام لغلظة حكمه وشدّة قبحه، ولذا كان الثابت فيه الحدّ دون البهيمة فإنّه يوجب التعزير. وفي الثاني: منع أصل هذا الخبر لعدم ثبوته في كتاب أخبارنا إلّا أن يراد به مضمون الملازمة المستفادة من الصحيح المتقدّم، وحينئذ فيتطرّق المنع إلى تناوله المقام، لأنّ الثابت فيه التعزير لا الحدّ، وكون المراد بالحدّ ما يعمّ التعزير موضع منع، فالأقوى فيه إذن عدم الغسل وإن كان الأحوط مراعاته، وإذا اغتسل فالاحتياط للصلاة نقض هذا الغسل والوضوء لها، هذا إذا كانت البهيمة مفعولا بها، وكذا الكلام إذا وقعت فاعلة في دبر ذكر أو قبل إمرأة أو دبرها.

المبحث الثاني: في كيفية الغسل من أفعاله الواجبة والمسنونة،

اشارة

فالكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في واجباته،
اشارة

والتحقيق أنّها ثلاثة النيّة وغسل البشرة والترتيب.

فما في الشرائع والنافع من عدها خمسة ثانيها الاستدامة الحكمية ورابعها التخليل(2)ليس على ما ينبغي، إذ الاستدامة الحكميّة كالمقارنة لغسل الرأس من توابع النيّة ولواحقها فلا ينبغي عدّها مقابلا لها. كما أنّ التخليل من توابع الغسل وأحكامه اللازمة فكيف يعدّ قسما مقابلا له مع أنّ اعتبار الاستدامة الحكميّة كالمقارنة على المختار من كون النيّة هو الداعي ساقط، كما عرفت في بحث الوضوء.

[الأوّل النيّة]

وبالجملة فالأوّل من الواجبات النيّة، والكلام فيها موضوعا و حكما ودليلا وجميع ما يتعلّق بها على ما تقدّم في الوضوء مستوفى فلا نعيد شيئا من ذلك، نعم ينبغي أن يعلم هنا أنه لو أخّر بعض الغسل اعتمادا على عدم الموالاة فيه حتّى ذهل فزال عنه النيّة بالمرّة فعند الإتيان بالباقي لابدّ من تجديدها.

الثاني منها: غسل بشرة الجسد بتمامه،

واعلم أنّ الّكلام في ماهيّة الغسل وما يعتبر

ص: 769


1- كنز العمّال 543:9/27337.
2- الشرائع 27:1، النافع: 8.

فيه كالجريان، وما لا يعتبر كالدلك إلّا في موضع توقف الجريان عليه، ومقدار ما يتحقّق به الغسل المتضمّن للجريان ويكتفى به شرعا وهو أقلّ مسمّاه ولو كالدهن، فهو على ما تقدّم أيضا في الوضوء فلا حاجة هنا إلى الإعادة.

نعم لابدّ أن يتكلّم هنا في مقدار ما يتحقّق به الغسل بالمعنى المذكور من حيث المحل المغسول، فنقول: إنّ الواجب فيه غسل بشرة الجسد بجميع أجزائه على سبيل التحقيق، بأن لا يبقى منه شيء ولو خيرا حتّى مقدار شعرة بل رأس إبرة إلّا وقد وصل إليه الماء وتحقّق فيه الغسل. وبالجملة يجب استيعاب البدن كلّه بالغسل بالإجماع المستفيض نقله للنصوص الآمرة يغسل الجسد أو سائر [الجسد] الظاهر كالصريح في تمام الجسد.

ففي رواية إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه عليه السلام «أنّ عليّا عليه السلام كان يقول:

الغسل من الجنابة والوضوء يجزئ منه ما أجزء من الدهن الّذي يبلّ الجسد»(1)وصحيحة زرارة أو حسنة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه»(2) وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال:

«سألته عن غسل الجنابة ؟ فقال: تبدأ بكفّيك فتغسلهما، ثمّ تغسل فرجك ثمّ تصبّ على رأسك ثلاثا، ثمّ تصبّ على سائر جسدك مرّتين فما جرى عليه الماء فقد طهر»(3).

وصحيحة محمّد بن أبي نصر عن الرضا «إنّه قال في غسل الجنابة تغسل يدك اليمنى من المرفق إلى أصابعك، ثمّ تدخلها في الإناء ثمّ اغسل ما أصاب منك ثمّ افض على رأسك وسائر جسدك»(4) وخصوص صحيحة حجر بن زائدة عن أبي عبدالله عليه السلام قال:

«من ترك شعرة من الجنابة متعمّدا فهو في النار»(5) بناء على أنّ المراد مقدار شعرة ممّا يصيبه الجنابة من جسده كما هو الظاهر بملاحظة الهيئة الكلاميّة، فلا وجه لما في كلام شارح الدروس من قوله: «ولا يبعد أيضا القول بعدم الاعتداد ببقاء شيء يسير لا يخل

ص: 770


1- التهذيب 138:1/385.
2- الوسائل 240:2 الباب 31 من أبواب الجنابة ح 3.
3- الوسائل 229:2 الباب 31 من أبواب الجنابة ح 1.
4- الوسائل 233:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 16.
5- الوسائل 175:2 الباب 1 من أبواب الجنابة ح 5.

عرفا بغسل جميع البدن إمّا مطلقا أو مع النسيان»(1).

ثمّ المعتبر في الواجب غسله من الجسد ظواهر البدن لا بواطنه بلا خلاف يظهر بين الأصحاب، وعن الحدائق نفي الخلاف فيه(2) ونحوه عن المنتهى قائلا: «ويجب عليه إيصال الماء إلى جميع الظاهر من بدنه دون الباطن»(3) لظهور الجسد في الأخبار الأمرة بغسله في ظاهر الجسد دون باطنه، مضافا إلى صحيحة عبدالله بن سنان قال:

قال أبو عبداللّه عليه السلام: «لا يجنب الأنف والفمّ لأنهما سائلان»(4) والمرسل عن أبي يحيى الواسطي عن بعض اصحابه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: «الجنب يتمضمض ويستنشق ؟

قال: لا إنما يجنب الظاهر»(5) وعن الصدوق في العلل في رواية أبي يحيى الواسطي عمّن حدّثه قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: «الجنب يتمضمض ؟ فقال: لا إنّما يجنب الظاهر ولا يجنب الباطن والفمّ من الباطن»(6) عنه قال: وروي في حديث آخر «أنّ الصادق عليه السلام قال في غسل الجنابة: إن شئت أن تتمضمض وتستنشق فافعل وليس بواجب، لأنّ الغسل على ما ظهر لا على ما بطن»(7).

ثمّ المراد بالظاهر على ما يستفاد من كلام الأصحاب ما يراه الرائي إن تعمد إلى رؤيته، فإن علم كون العضو من الظاهر فلا إشكال في وجوب غسله، كما أنه لو علم كونه من الباطن فلا إشكال في عدم وجوب غسله ومنه داخل الفم وداخل الأنف، نعم يجب غسل شيء من أوائل داخلهما من باب المقدّمة العلميّة حيثما توقّف العلم بغسل الظاهر من جوانبهما على غسله، ومن الظاهر ظهر الإذن بل سطح بطنه، ولعلّه المراد من باطن الأذنين في كلام التذكرة والمقنعة الحاكمين بوجوب غسله(4).

وأمّا ما يشك كونه من الظاهر أو الباطن فقضيّة وجوب المقدّمة العلميّة وجوب غسله، ولعلّه لذا حكم المحقّق الثاني بوجوب غسل الثقب الّذي يكون في الاذن على ما حكي عنه(5) لكن عدّه في المدارك من الباطن ناقلا عن شيخه المعاصر الجزم به، إلّا أنّه قيّده بأن يكون بحيث لا يرى باطنه(6).

ص: 771


1- مشارق الشموس: 70.
2- الحدائق 91:3.
3- المنتهى 205:2. (4و5و6و7) الوسائل 226:2 الباب 24 من أبواب الجنابة ح 5 و 6 و 7 و 8.
4- التذكرة 231:1، المقنعة: 54.
5- فوائد الشرائع: 15.
6- المدارك 292:1.

وأمّا العين فلم نقف هنا على من تعرّض لها هنا، وظاهر عدم التفاتهم إليها اتّفاقهم على عدم وجوب غسلها بل هو المعلوم من سيرة المتشرّعة وعملهم، وهذا إمّا لبنائهم على أنّها من البواطن وهو مشكل أو لما في غسلها وإيصال الماء إليها من المضرّة العظيمة كما في كلام غير واحد في الوضوء في مسألة استحباب فتح العين عند غسل الوجه. قال شارح الدروس: «واعلم دنّ الظاهر أنّ مرادهم باستحباب فتح العين مجرّد فتحها استظهارا لغسل نواحيها لا مع ضمّه بغسلها أيضا لأنّه مضرّة عظيمة كادت أن تكون حراما، وروي أنّ ابن عمر كان يفعله فعمي لذلك، والشيخ أيضا في الخلاف ادّعى الإجماع منّا على عدم وجوبها واستحبابها»(1).

ثمّ إذ قد عرفت وجوب غسل تمام ظاهر بشرة الجسد فحينئذ لو توقّف غسل شيء منه وإيصال الماء إليه على تخليل ما لا يصل الماء إلى البشرة إلّا بتخليله بالمعنى الأعمّ ، من إدخال الماء تحت الشعر الّذي يكون على الجسد إذا كان مانعا عن وصول الماء إلى منابته وتحريك ما يمنع عن وصوله إليه، أو نزعه إذا توقّف الوصول عليهما كالخاتم الضيّق والدملج والسوار، وإزالة ما عليه من الوسخ أو القير أو الشمع أو غيرها من الحواجب وجب ذلك التخليل - من غير فرق في الشعر بين الخفيف والكثيف واللحية وغيرها - للإجماع المستفيض نقله ومنه ما في المدارك «وهو مذهب الأصحاب»(2). ولقاعدة وجوب مقدّمة الواجب المستفاد وجوبه ممّا مرّ. وصحيحة عليّ ابن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال: «سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها لا تدري أيجري الماء تحتهما أم لا كيف تصنع إذا توضّأت أو اغتسلت ؟

قال: تحرّكه حتّى يدخل الماء تحته أو تنزعه، وعن الخاتم الضيّق لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضّأ أم لا كيف يصنع ؟ قال: إن علم أنّ الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضّأ»(3)ويؤيّدها الرضوي «ميز الشعر بأنا ملك عند غسل الجنابة فإنّه يروى عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم تحت كلّ شعرة جنابة فبلّغ الماء تحتها في أصول الشعر كلّها وخلل

ص: 772


1- مشارق الشموس: 136، الخلاف 85:1.
2- المدارك 291:1
3- الوسائل 467:1 الباب 41 من أبواب الوضوء ح 1.

اذنيك بإصبعك وانظر إلى أن لا يبقى شعرة من شعرك ولحيتك إلّا وتدخل تحتها الماء»(1) والنبويّ «تحت كلّ شعرة جنابة فبلّوا الشعر وانقوا البشرة»(2).

وعليه فالفارق بين الغسل والوضوء في اللحية هو النصّ كما ذكره جماعة، فلا وجه لما حكي عن الاردبيلي في مجمع الفائدة من التأمّل في الحكم قال: منشؤه ما يدلّ على إجزاء غرفتين للرأس أو الثلاثة لعدم وصول هذا المقدار تحت كلّ شعرة، سيما إذا كان شعر الرأس كثيرا كثيفا كما في النساء والأعراب وبعض اللحى، فيمكن العفو عمّا تحت هذه الشعور والاكتفاء بالظاهر كما يدل عليه عدم وجوب حلّ الشعر على النساء وما رواه في الكافي عن محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام قال: «الحائض ما بلغ بلل الماء من شعرها أجزأها»(3) إلّا أن يقيد بعلم الوصول إلى ما تحت الشعور بالإجماع ونحوه من الأخبار فلولا الإجماع كان القول به ممكنا(4). انتهى.

فما في بعض الشواذ ممّا يوهم خلاف ذلك مطروح أو مأوّل، ففي صحيح الحسين بن أبي العلاء قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الخاتم إذا اغتسل ؟ قال: حوّله من مكانه، وقال في الوضوء تديره، فإن نسيت حتّى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاه»(5)وصحيح إبراهيم بن أبي محمود قال: «قلت للرضا عليه السلام: الرجل يجنب فيصيب جسده وردسه الخلوق والطيب والشيء اللزق مثل علك الروم والطرار وما أشبهه فيغتسل، فإذا فرغ وجد شيئا قد بقى في جسده من أثر الخلوق وغيره ؟ فقال: لا بأس»(6) والخبر «كنّ نساء النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطيب على أجسادهن، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أمرهنّ أن يصببن الماء صبّا»(7) فإنّ هذه الأخبار لشذوذها وإعراض الأصحاب عنها لو لم تطرح فلا أقلّ من تطرّق التأويل إليها، بحمل الأوّل على ما يقبله من وسعة الخاتم على وجه لا يمنع عن وصول الماء إلى ما تحته فيكون الأمر

ص: 773


1- مستدرك الوسائل 4791 الباب 29 من ابواب الجنابة ح 3.
2- سنن ابن ماجة 196:1/597، سنن الترمذي 71:1/106.
3- الوسائل 241:2 الباب 31 من أبواب الجنابة ح 4.
4- مجمع الفائدة 137:1.
5- الوسائل 468:1 الباب 41 من أبواب الوضوء ح 2.
6- الوسائل 239:2 الباب 30 من أبواب الجنابة ح 1 و 2.
7- الوسائل 239:2 الباب 30 من أبواب الجنابة ح 1 و 2.

بالتحويل والإدارة للاستحباب إستظهارا، والثاني على ما يحتملانه من الأثر المجرّد عن الجسميّة المانعة عن وصول الماء.

ثمّ إنّ المستفاد من كلام الأصحاب عدم وجوب غسل الشعرات الّتي تكون على اليدين قليلة أو كثيرة خفيفة أو كثيفة قصيرة أو طويلة لرأس أو غيره من امرأة أو غيرها إلّا في موضع توقّف وصول الماء إلى البشرة على غسلها، وهو المصرّح به في كلام كثير من الأساطين، بل عن المعتبر والذكرى «أنّ هذا مذهب الأصحاب»(1) وعن المنتهى «لا نعرف فيه خلافا»(2) لعدم دخول الشعر في الجسد أو البدن أو غيرهما المعلّق عليهما أوامر الغسل، مضافا إلى خبر غياث عن الصادق عن أبيه عليهما السلام عن عليّ عليه السلام قال:

«لا تنقض المرأة شعرها إذا اغتسلت»(3) فإنّها بإطلاقها تشمل ما لا يصل الماء إلى جميع أجزائه إلّا بالنقض هذا مع الأصل. وأمّا ما تقدّم في الصحيح من التوعيد على ترك شعرة، فقد عرفت مفاده بحسب ظاهر متفاهم. وأمّا النبويّ الآمر ببلّ الشعر المتقدّم، فلعلّه ناظر إلى موضع توقّف وصوله إلى البشرة على بلّه.

الثالث: الترتيب وهو غسل الرأس أوّلا ثمّ غسل الجانب الأيمن ثمّ الأيسر،
اشارة

وهاهنا مسائل:

المسألة الاولى: في الترتيب الأوّل وهو تقديم الرأس على الجانبين،

وهذا هو المعروف فيما بين أصحابنا، وعليه الإجماعات المنقولة في كلام اساطين الطائفة فوق حدّ الاستفاضة، بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه عدا ما استظهر من الصدوقين وعبارة الإسكافي حيث إنّهم لم يتعرّضوا لوجوب الترتيب في ظاهر كلامهم، لكن يندفع النسبة إلى الصدوقين بما نقله الصدوق في الفقيه من عبارة والده في الرسالة «فإن بدأت بغسل جسدك قبل الرأس فأعد الغسل على جسدك بعد غسل رأسك»(4) فإنّ الأمر بإعادة غسل الجسد بعد غسل الرأس مبنيّ على مراعاة الترتيب بين الرأس والجسد، وقد أفتى به والد الصدوق ورضي به الصدوق، لأنّ من دابه أنّه ينقل عبارة والده لإظهار المذهب،

ص: 774


1- المعتبر 194:1، الذكرى 217:2.
2- المنتهى 202:2.
3- الوسائل 255:2 الباب 38 من أبواب الجنابة ح 3.
4- الفقيه 82:1.

كما يندفعها إلى الاسكافي عدم كون عبارته صريحة في المخالفة كما ذكره جماعة بل في الرياض(1) أنّها ربّما أشعرت بثبوته.

وكيف كان، فالأصل في المسألة - بعد الإجماعات المنقولة المتأيدة بظهور عدم الخلاف - النصوص المستفيضة المعتبرة من الصحاح وغيرها، ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما قال: «سألته عن غسل الجنابة ؟ فقال: تبدأ بكفّيك فتغسلهما، ثمّ تغسل فرجك، ثمّ تصبّ على رأسك ثلاثا، ثمّ تصبّ على سائر جسدك مرّتين فما جرى عليه الماء فقد طهر»(2) وفي الصحيح أو الحسن كالصحيح عن زرارة قال: قلت له: «كيف يغتسل الجنب ؟ فقال: إن لم يكن أصاب كفّه شيء غمسها في الماء، ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه، ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكفّ ، ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين فما جرى عليه الماء فقد أجزأه»(3) ولا يقدح إضمار نحو زرارة مع أنّ هذا الخبر رواه في المعتبر والتذكرة مسندا إلى الصادق عليه السلام(4). وفي موثّقة سماعة عن الصادق عليه السلام قال: «إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل فليفرغ على كفّيه فليغسلهما دون المرفق، ثمّ يدخل يده في إنائه ثمّ يغسل فرجه ثمّ يصبّ على رأسه ثلاث مرّات ملء كفّيه ثمّ يضرب بكفّ من ماء على صدره وكفّ بين كتفيه، ثمّ يفيض الماء على جسده كلّه...»(5) الحديث، وصحيحة زرارة عن الصادق عليه السلام قال: «من اغتسل من جنابة فلم يغسل رأسه ثمّ بدا له أن يغسل رأسه، فلم يجد بدّا من إعادة الغسل»(6) ومقطوعة حريز وفيها: «وابدأ بالرأس ثمّ أفض على سائر جسدك»(7).

وبذلك كلّه يقيّد مطلقات الروايات الّتي منها: الصحيح، وفيه: «ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك وليس قبله ولا بعده وضوء»(8) ومنها: الصحيح، وفيه: «ثمّ أفض

ص: 775


1- الرياض 2061.
2- الوسائل 229:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 1 و 2.
3- الوسائل 229:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 1 و 2.
4- المعتبر 182:1. التذكرة 231:1.
5- الوسائل 231:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 8.
6- الوسائل 235:2 الباب 28 من ابواب الجنابة ح 1.
7- الوسائل 447:1 الباب 33 من أبواب الوضوء ح 4.
8- الوسائل 23.:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 5.

على رأسك وجسدك ولا وضوء فيه»(1) ومنها: الصحيح، وفيه: «وتصبّ الماء على رأسك ثلاث مرّات، وتغسل وجهك وتفيض على جسدك الماء»(2) نعم ربّما يعارضها صحيحة هشام بن سالم «قال: كان الصادق عليه السلام فيما بين مكة والمدينة ومعه امّ إسماعيل، فأصاب من جارية له فأمرها فغسلت جسدها وتركت رأسها، وقال لها: إذ أردت أن تركبي فاغسلي رأسك ففعلت ذلك»(3) لكن الخطب فيه سهل لأنّ هشاما راوي هذا الحديث قد روى هذه الواقعة على عكس ما تضمّنه الحديث.

رواها عن محمّد بن مسلم قال: «دخلت على أبي عبداللّه في فسطاطه وهو يكلّم امرأته، فأبطأت عليه، فقال: إذن هذه امّ إسماعيل جاءت وأنا أزعم أنّ هذا المكان الّذي أحبط اللّه فيه حجّها عام أوّل، كنت أردت الإحرام فقلت ضعوا لي الماء في الخباء فذهبت الجارية بالماء فوضعته، فاستخففتها فأصبت منها، فقلت: اغسلي رأسك وامسحيه مسحا شديدا لا تعلم به مولاتك، فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك فتستريب مولاتك فدخلت فسطاط مولاتها، فذهبت تناول شيئا فمسّت مولاتها رأسها، فإذا لزوجة الماء، فحلقت رأسها وضربتها، فقلت لها: هذا المكان الذي أحبط الله فيه عملك»(4).

وربّما حملت الرواية الأولى على التقيّة أو على إرادة غسل الإحرام، وليس بجيّد.

نعم لو حملت على توهّم الراويّ وسهوه كما صنعه الشيخ وجمع ممّن تأخّر عنه، ليس بذلّك ببعيد. وبالجملة أصل المسألة ممّا لا إشكال فيه.

نعم ربّما يقع الإشكال في شيء آخر وهو أنّ العنق هل يدخل في الرأس اسما وحكما دو حكما فقط أو لا بل يدخل في الجسد؟ فإنّ عبارات الأصحاب فيه مختلفة، فإنّ منهم من عبّر بتقديم الرأس من دون ذكر الرقبة، بناء على أنّ المراد من الرأس ما يعمّها كما في كلام جماعة، وعلّل بأنّهما عضو واحد في الغسل الترتيبي توسّعا أو

ص: 776


1- الوسائل 230:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 6.
2- الوسائل 231:2/9، ب 26 أبواب الجنابة.
3- الوسائل 236:2 الباب 28 من ابواب الجنابة ح 4.
4- الوسائل 237:2 الباب 29 من أبواب الجنابة ح 1.

على سبيل الاشتراك، وعن جمع الجمع بين الرأس والرقبة، وعن الغنية والكافي والمهذّب غسل الرأس إلى أصل العنق(1) وظاهره إرادة الطرف المتصل بالمنكبين من أصل العنق، ويحتمل بعيدا إرادة الطرف المتّصل منه باللحيين، وعن إشارة السبق للحلبي غسل كلّ من الجانبين من رأس العنق(2) وظاهره إرادة ما يتّصل منه باللحيين، ويحتمل بعيدا إرادة ما يتّصل منه بالمنكبين، وعن الذخيرة ورياض المسائل الاستشكال في الحكم(3) لفقد النصّ الصريح في الدخول وعدمه، وعن الشيخ عبدالله البحراني(4) جعل المسألة من المتشابهات فعيّن فيها الاحتياط بالجمع بين غسلها مع الرأس كما قاله الأصحاب وغسلها مع اليدين كما استظهره.

وتحقيق المقام: أنّ المسألة إمّا لغويّة بأن يكون مبنى الإشكال فيها على دخول العنق في مسمّي الرأس واسمه بحسب الوضع لغة، فلا ينبغي التأمّل في العدم لتطابق العرف واللغة بحكم الأمارات وتنصيص أهل اللغة على كون الرأس اسما لعضو مخصوص لا يدخل فيه العنق، وهو السطح الكرويّ الّذي يشبه نصف الدائرة وضابطه منبت الشعر، بل هذا من واضحات العرف واللغة. ولا يظنّ بقائل من أصحابنا ولا غيرهم يزعم دخوله في اسم الرأس وضعا. ولا ينافيه ما عن بعض المحقّقين - من أن الرأس عند فقهائنا يقال على معان الأوّل: منبت الشعر وهذا رأس المحرم، الثاني: ذلك مع الأذنين وهو رأس الصائم، الثالث: ذلك مع الوجه وهو رأس الجناية في الشجاج، الرابع: أنه ذلك كلّه مع الرقبة وهو رأس المغتسل - لعدم كون ذلك تعرّضا لبيان حقائق اللفظ عندهم، بل غرضه ضبط ما يطلق عليه هذا اللفظ عندهم ولو بحسب التوسّع والمجاز، فإنّ إطلاق الرأس مجازا على ما يعمّ العنق في العرف والاصطلاح شائع.

فما في كلام غير واحد من ترديد هذا الإطلاق بين كونه على سبيل التوسّع أو الاشتراك، ليس على ما ينبغي.

وإن كانت شرعيّة - كما هو الأظهر - بأن يكون مبنى الإشكال على أنّ الشارع هل

ص: 777


1- الغنية 61، الكافي في الفقه 133، المهذّب 46:1.
2- إشارة السبق: 72.
3- الذخيرة: 56، الرياض 207:1.
4- نقل عنه في الحدائق 65:3.

أتبع العنق للرأس وألحقه به في الحكم، بناء على أنّ المراد من الرأس حيثما أطلقه ما يعمّه فلا ينبغي التأمّل في الدخول - على ما هو المعروف من مذهب الأصحاب. بل في الحدائق: «غسل الرأس ومنه الرقبة من غير خلاف يعرف بين الأصحاب ولا إشكال يوصف في الباب إلى أن انتهت النوبة إلى جملة من متأخري المتأخرين»(1)انتهى - لظاهر ما في الصحيح أو الحسن كالصحيح المتقدّم عن زرارة من قوله عليه السلام: «ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكفّ ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين»(2) فإنّه ذكر الرأس والمنكبين من دون ذكر العنق فإمّا أنّه أهمله، أو أراد من الرأس ما يعمّه، أو من المنكبين ما يعمّه، والأوّل منفيّ بشهادة السياق الظاهر في وروده في مقام البيان الذي لا يناسبه الإهمال، فلا محالة أنّه تجوّز في أحد اللفظين، ولا ينبغي أن يكون ذلك هو لفظ «المنكب» لندور ورود استعماله في المحاورات فيما يعمّ العنق، بخلاف «الرأس» فإنّ استعماله في الأعمّ كثير شائع. بل ربّما أمكن القول بعدم معهودية استعمال المنكب فيه. بل قد يقال: بأنّه لا ريب في عدم دخوله فيه لا لغة ولا عرفا ولا في عرف المتشرّعة لا حقيقة ولا مجازا، لعدم معهوديّة هذا المجاز سيما في كتب الفقهاء، فتعيّن الالتزام بالتجوّز في لفظ «الرأس» ونحو هذا الخبر في الدلالة وتقريبها ما في الموثّق المتقدّم من قوله عليه السلام: «ثمّ يصبّ على رأسه ثلاث مرّات ملء كفّيه ثمّ يضرب بكفّ من ماء على صدره وكفّ بين كتفيه»(3) فإنه بعد نفي احتمال الإهمال بالنسبة إلى العنق بشهادة السياق يتعيّن التجوّز بإرادة ما يعمّه في الرأس دون الصدر والمنكب كما هو واضح. وعليه فلا وجه لما عرفت من استشكال الذخيرة ولا احتياط الشيخ البحراني، فإنّ المسألة بحمد الله واضحة ولا تشابه فيها أصلا.

المسألة الثانية: في الترتيب الثاني المعتبر بين الجانبين وهو تقديم الأيمن على الأيسر،

فإنّ المعروف من مذهب الأصحاب وجوب هذا الترتيب أيضا، وفيه من الإجماعات المنقولة ما في حدّ الاستفاضة بل كلّ من ادّعى الإجماع في المسألة

ص: 778


1- نقل عنه في الحدائق 65:3.
2- الوسائل 235:2 الباب 28 من أبواب الجنابة ح 2.
3- الوسائل 231:2 الباب 26 من ابواب الجنابة ح 8

السابقة ادّعاه على الترتيب بالمعنى الأعمّ الّذي منه هذا الترتيب، ويزيد عليه ما ف يكلام جماعة أيضا من دعوي الإجماع المركب، وهو أنّ كلّ من أوجب الترتيب بين الرأس والحسد فقد أوجبه بين الأيمن والأيسر، ويزيد عليهما أيضا ما ادّعاه غير واحد من الإجماع المركب في الوضوء والغسل، فإنّ من أوجب الترتيب في الأوّل بين اليمين واليسار أوجبه بينهما في الثاني، فهاهنا ثلاث أنحاء من الإجماع المنقول بل لم يعرف خلاف صريح في المسألة عدا ما عزي إلى ظاهر الصدوقين(1) وابن الجنيد، وربّما نسب إلى ظاهر ابن أبي عقيل وغيره. والكلّ محلّ منع، ولذا قال في المعتبر: «إنّ فقهاءنا اليوم بأجمعهم يفتون بتقديم اليمين على الشمال ويجعلونه شرطا وقد أفتى بذلك الثلاثة وأتباعهم»(2) وعلى أيّ حال فهذا هو المعتمد.

والأصل فيه - بعد ما عرفت من الإجماعات المنقولة بطرقها الثلاثة المورثة للظن والاطمئنان - أمران:

أحدهما: قوله عليه السلام في الصحيح أو الحسن المتقدّم: «ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكفّ ثمّ صبّ على منكبيه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين».

وجه الدلالة أمّا أوّلا: فلفهم المستدلّين بذلك الخبر من الأصحاب ولعلّهم الأكثر، فإنّه ممّا ينجبر قصور الدلالة لكشفه عن وجود قرينة موضّحة للدلالة عندهم، وقد بلغهم كشفيا ظنّيا فيغلب في الظن إرادة الصبّ على المنكبين على وجه الترتيب لا غير، وإن كان في الدلالة عليه مع قطع النظر عن فهم الأصحاب نوع خفاء بل نحو إجمال.

وأمّا ثانيا: فلأنّ قوله عليه السلام: «صبّ على رأسه ثمّ صبّ على منكبه الأيمن وصبّ على منكبه الأيسر» يدلّ دلالة واضحة على أنّ الجسد المغتسل ثلاثة اعضاء أو للغسل ثلاثة أجزاء غسل الرأس وغسل اليمين وغسل اليسار، وهذا بحسب الواقع إمّا أن يكون على وجه تقديم اليسار على اليمين، أو على وجه التخيير بينهما في التقديم والتأخير، أو على وجه تقديم اليمين على اليسار، والأوّل ينفيه الإجماع البسيط إذ لم يقل أحد من الأصحاب ولا غيرهم بتعين تقديم اليسار، كما أنّ الثاني ينفيه

ص: 779


1- الهداية: 20، الفقيه 82:1.
2- المعتبر 184:1.

الإجماع المركب لأنّ كلّ من قال من الأصحاب بانقسام جسد المغتسل إلى ثلاثة اعضاء قال بنفي التخيير، وكلّ من قال بالتخيير لم يقل بالانقسام المذكور، فتعيّن الثالث، وهو المطلوب.

وأمّا ثالثا: فلأنّه عليه السلام فصّل في الأمر بالصبّ مرّتين بين المنكبين مقدّما للأيمن على الأيسر في الذكر، مع إمكان التعبير في الأمر بالصبّ مرّتين بعبارة جامعة لهما مشتركة بينهما، وهو أن يقول: «ثمّ صبّ على جسده مرّتين» فالتقديم والتفصيل مع العدول عن العبارة الجامعة ممّا يقضي في متفاهم العرف باعتبار ذلك التقديم في الحكم الشرعي، فبعبارة اخرى: أن التقديم الذكري في نحوه ممّا يوجب ظهور اعتبار التقديم الحكمي.

فبجميع ما قرّرناه من وجوه الدلالة علم أنّ هذا الظهور ليس من جهة كلمة «الواو» حتّى يرد علينا ما ذكره المحقق في المعتبر في منع الدلالة بقوله: «واعلم أنّ الروايات دلّت على وجوب تقديم الرأس على الجسد أمّا اليمين على الشمال فغير صريحة بذلك. ورواية زرارة دلت على تقديم الرأس على اليمين ولم تدل على تقديم اليمين على الشمال، لأنّ الواو لا يقتضي ترتيبا فانّك لو قلت: «قام زيد ثمّ عمرو وخالد» دلّ ذلك على تقديم قيام زيد على عمرو، أمّا تقديم عمرو على خالد فلا، لكن فقهاءنا اليوم بأجمعهم يفتون بتقديم اليمين على الشمال ويجعلونه شرطا في صحة الغسل وقد أفتى بذلك الثلاثة وأتباعهم»(1).

لا يقال: إنّ ما ذكرته من توجيه الدلالة في الوجه الأخير منقوض بالمثال المذكور في عبارة المعتبر، لأنّ الإتيان بعبارة جامعة فيه لولا إرادة الاعتبار غير متيسّر، فلعلّ التقديم الذكري مع الفصل لعدم تيسّر ذلك فلا قاضي فيه بظهور إرادة الترتيب بخلاف ما نحن فيه ونظائره فإنّ الموجب لظهور إرادة الترتيب هو الفصل والتقديم مع إمكان أداء المطلب لولا إرادة الترتيب بعبارة اخرى جامعة.

و ثانيهما: ما ورد في غسل الميّت من الأخبار المستفيضة الدالّة على وجوب

ص: 780


1- المعتبر 184:1.

الترتيب فيه بين جانبي الميّت اليمين واليسار، مع ما في غير واحد من الأخبار(1)الواردة ثمّة المصرّحة يكون غسل الميت مثل غسل الجنابة، فإذا ثبت الترتيب في غسل الميّت بموجب الطائفة الأولى من الأخبار يلزمه أن يثبت في غسل الجنابة أيضا بمقتضى التشبيه الوارد في الطائفة الأخرى منها، نظرا إلى ظهور سياقها في إرادة التشبيه في الكيفية، وقد دلّ الدليل على أنّ تقديم الأيمن على الأيسر من الكيفيّة الثابتة في غسل الميت فينتقل من التشبيه بكون هذه الكيفية ثابتة في غسل الجنابة أيضا.

لا يقال: إنّ وضع التشبيه للانتقال من حال المشبّه به إلى حال المشبّه، وبعبارة اخرى: أنّه للدلالة على مشاركة المشبّه للمشبّه به في الصفات الثابتة للمشبّه به لا للدلالة على مشاركة المشبّه به للمشبّه في الصفات الثابتة للمشبّه الّذى هو انتقال عن حال المشبّه إلى حال المشبّه به، وما ذكر من الاستدلال انتقال من حال المشبّه إلى حال المشبّه به وهو خلاف وضع التشبيه فلا يعبأ به.

لأنّا نقول: إنّ هذا إنّما يتوجّه في التشبيه الملقى إلى السامع بالنسبة إلى السامع، على معنى أنّ السامع ليس له بمقتضى وضع التشبيه أن يثبت صفات المشبّه المعلومة لديه للمشبّه به، بل وظيفته إثبات الصفات الثابتة للمشبّه به المعلومة لديه للمشبّه والمقام ليس من هذا الباب، بل الناظر في التشبيه نحن المستدلين به ونحن نعلم أنّ السامع الملقى إليه التشبيه الوارد في الرواية انتقل بمقتضى هذا التشبيه من الكيفيّات الثابتة لغسل الجنابة المعلومة لديه إلى ثبوتها لغسل الميت، ولكنّا لا ندري أنّ هذه الكيفيّات الثابتة لغسل الجنابة المعلومة لديه السامع أيّ شيء هي ؟ لمكان الإجمال بالنسبة إلينا، فإذا دلّنا دليل آخر على أنّ تقديم اليمين على اليسار من كيفيّات غسل الميّت أوجب ذلك ارتفاع الإجمال المفروض في أصل التشبيه، فننتقل من جهته إلى أنّ هذه الكيفيّة الخاصّة من الكيفيّات الثابتة لغسل الجنابة المعلومة لدى السامع الّذي انتقل بمقتضى التشبيه إلى ثبوتها لغسل الميت، كما يرشد إليه ملاحظة النظائر الواردة في المحاورات، فلو علمنا أحدا قال لأحد: «زيد مثل عمرو» ونحن لا نعرف زيدا

ص: 781


1- الوسائل 486:2 الباب 3 من أبواب غسل الميّت ح 1.

ولا عمرا ولا صفاتهما، فنعلم أنّ السامع بمقتضى التشبيه انتقل من حال عمرو إلى حال زيد، وانكشف له ثبوت صفات عمرو المعلومة لديه لزيد، فإذا علمنا بخارج بكون زيد أحمري اللون مثلا فنفهم عن ذلك كون أحمرية اللون من جملة صفات عمرو المعلومة لدى السامع الملقى إليه التشبيه المذكور وهذا واضح.

وليس فيما بين نصوص الباب ما يخالف الوجوه المذكورة في إثبات الترتيب المذكور إلّا ما عرفت من الأخبار المطلقة الآمرة بغسل الجسد من دون تعرّض للترتيب أصلا، لكن الأمر في ذلك سهل لأنّها ليست إلّا مطلقا، فيخرج عن إطلاقها بما قرّرناه من الوجوه كما لا يخفى، فيقيّد الجميع بإرادة الترتيب بمعنى تقديم الرّأس على اليمين واليمين على اليسار.

نعم في حديث اللمعة ما ربّما يوهم المخالفة حيض إن أبا بصير روى عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: قد بقيت لمعة من ظهرك لم يصبها الماء، فقال له: ما كان عليك لو سكتّ؟ ثمّ مسح تلك اللمعة بيده»(1) فإنّه أطلق في القول بمسح اللمعة من غير تعرّض لذكر الإعادة فيشمل إطلاقه ما لو كانت اللمعة في الجانب اليمين.

وفيه: أنّ الرواية ليس فيها لفظ عامّ ولا مطلق يقضي بعمومه أو إطلاقه بنفي الترتيب بل هو قضيّة في واقعة حكاها الإمام عليه السلام ومن الجائز كون اللمعة المفروضة في الجانب الأيسر أو في الجانب الأيمن لكن مع عدم فراغه عليه السلام عن غسل الأيسر بأن يكون المراد ب «اغتسل» كونه متشاغلا بالوضوء(2) فالرواية كما أنّها لا تعاضد ما نحن فيه كذلك لا تعارضه، فليتدبّر.

بقى في المقام امور ينبغي التنبيه عليها:

أحدها: في اللمعة المغفول عنها إذا تذكرها بعد الغسل، فإن كانت في الجانب الأيسر ولم يشتبه موضعها وجب غسلها خاصة، وإن كانت في الأيمن ولم يشتبه موضعها

ص: 782


1- الوسائل 259:2 الباب 41 من ابواب الجنابة ح 1.
2- كذا في الأصل والّذي يقتضيه السياق هو: «كونه متشاغلا بالغسل» ولعلّه سهو من قلمه الشريف. والعلم عندالله.

وجب غسلها وإعادة الغسل على الأيسر تحصيلا للترتيب الواجب، كما أنها لو كانت في الرأس ولم يشتبه موضعها وجب غسلها مع إعادة الغسل على الأيمن ثمّ اليسر تحصيلا للترتيب، ولو كانت في الأيسر واشتبه موضعها منه وجب إعادة الغسل على الأيسر بأجمعه تحصيلا للعلم بغسلها، ولو تردّد بين الأيمن والأيسر مع اشتباه موضعها ممّا هي فيه وجب إعادة الغسل عليهما بأجمعهما تحصيلا للعلم أيضا، كما أنها لو تردّدت بين الأعضاء الثلاث كذلك وجب إعادة الغسل على الجميع لذلك.

ثانيها: في السرّة والعورتين وغيرهما من الأجزاء المشتركة بين الجانبين، وقد اختلفت كلمة الأصحاب فيها حتّى حصلت لهم على ما يستفاد منها محصّلا ومنقولا آراء مختلفة وأقوال متشتّتة منها: أنها توزّع عليهما فيغسل مع كلّ من الجانبين نصفها، وإن كان يجب عند غسل كلّ نصف اعتبار غسل ما يزيد عليه مقدّمة كما عليه السيّد في الرياض(1) تبعا لكشف اللثام(2) وغيره.

ومنها: عدّها عضوا رابعا، فتغسل بانفرادها كما عن بعض الأصحاب.

ومنها: التحيير في غسلها بين الجانبين فمع أيّ منهما تغسل أجزأ، كما عن الألفيّة والجعفرية(3) وغيرهما.

ومنها: أنّها تغسل مع كلّ من الجانبين، كما عن الذكرى(4) وغيرها.

ومنها: أنّها تغسل بعد الرّأس أو بعد الجانبين أو مع أحدهما أو معهما على وجه التخيير، كما عن نهاية الإحكام والموجز الحاوي وكشف الالتباس(5).

والأجود هو القول الأوّل، لظاهر قوله عليه السلام: «ثمّ يصبّ على منكبه الأيمن مرّتين، وعلى منكبه الأيسر مرّتين» فإنّه على تقدير استفادة الترتيب منه يدلّ على اعتبار غسل الأيمن بالخطّ الطولي المنصّف للجسد نصفين متساويين، ويلزم منه اعتبار التوزيع في الأجزاء المشتركة بأن يتبع كلّ نصف منها جانبا من الجانبين، فيغسل النصف الأيمن مع الجانب الأيمن والنصف الأيسر مع الجانب الأيسر، ولا يرد أنّ تشخيص كلّ من

ص: 783


1- الرياض 209:1.
2- كشف اللثام 18:2.
3- الألفيّة: 45، الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 90:1.
4- الذكرى 228:2.
5- نهاية الإحكام 108:1، الموجز (الرسائل العشر): 43، كشف الالتباس: 33.

النصفين يتضمّن كلفة على المكلّف، لأنّ له طريقا أسهل لإحراز غسل كلّ نصف مع متبوعه، وهو أن يصبّ الماء مع كلّ جانب على تمام الجزء المشترك أو ما زاد على نصفه ناويا لغسل نصفه الّذي يتبع ذلك الجانب، بأن يكون غسل المجموع مقصودا بالتبع لإحراز غسل النصف الواقعي الّذي هو مقصود بالأصالة.

وأمّا سائر الأقوال فلا نرى لها وجها أصلا إلّا كونها تجشّمات واجتهادات خارجة عن مقتضي نصوص الباب، ولا سيما القول الثاني فإنّ عدّ الأجزاء المشتركة عضوا رابعا خلاف مقتضي النصّ الدال على انحصار جسد المغتسل في اعضاء ثلاث، كما أنّ إفراده بالغسل خروج عن مقتضي ذلك النصّ الدالّ على انحصار الغسل في ثلاث غسلات، والتخيير فيها بين الجانبين أيضا مبنيّ على كونها عضوا خارجا عن العضوين فيكون خلاف مقتضي النصّ بملاحظة ما ذكرناه.

وأمّا اعتبار غسلها مع كلّ من الجانبين إن رجع إلى ما بينّاه من كونه طريقا إلى إحراز غسل النصف التابع لذلك الجانب فحسن وإلّا فلا وجه له إلّا الاحتياط، وهو إنّما يلتزم به في محلّ الاشتباه ولا اشتباه هنا بعد ما استظهرناه من تبعيّة كل نصف لجانب.

وأضعف الأقوال هو القول الخامس، خصوصا ما تضمّنه من تجويز غسلها بعد غسل الرأس، فإنه خلاف مقتضي كلمة «ثمّ » في قوله: «تمّ صبّ على منكبه الأيمن» القاضية باعتبار تعقّبه بحسب المرتبة لغسل الرأس بلا تخلّل فاصل بينهما يكون من أجزاء الغسل.

ثالثها: ظاهر كلام الأصحاب المصرّح به في عبائر جماعة من أساطينهم أنّه لا ترتيب في كلّ عضو بين أبعاضه ليلزم منه وجوب مراعاة الابتداء من الأعلى فالأعلى، بل يجوز العكس بالابتداء من الأسفل إلى الأعلى أيضا، بل ربّما يظهر من بعض كلماتهم عدم الخلاف في ذلك بينهم وهو كذلك للأصل النافي لشرطيّة هذا النحو من الترتيب للعبادة، مضافا إلى إطلاق مطلقات النصوص فإنّها بإطلاقها تنفي الترتيب بجميع أنحائه خرجنا عنها بدليل الترتيب بين الأعضاء الثلاث فتبقى على إطلاقها بالنسبة إلى الباقي. ويؤيّده أو يدل عليه خبر اللمعة المتقدم، فإنّ اكتفاءه عليه السلام بمسح اللمعة كما هو ظاهر الحكاية الغر المتعرّضة لغسل ما تحتها يدلّ على نفي هذا الترتيب.

ص: 784

ولا ينبغي المناقشة في هذا الخبر باعتبار اشتماله على نسبة الغفلة إلى الإمام الغير المناسبة لعصمته، وعلى قيام المسح مقام الغسل الّذي ينفيه النصوص والإجماع، إذ ليس فيه ما يدل على دنّ بقاء اللمعة إنّما كان عن غفلة لجواز أنّه عليه السلام تعمّد في إبقائها تعليما وتنبيها للحاضر على أنّها [لا] توجب إعادة الغسل ولا شيئا آخر، بل يكفي في استكمال الغسل غسلها خاصّة إذا كانت في الجانب الأيسر، والتعبير بالمسح لا ينافي كونه ناويا به إيجاد الغسل بناء على ما مرّ من كفاية أقلّ مسمّاه ولو كالدهن، فيراد بالمسح إمرار اليد على الموضع، ومن الجائز أنّ فيها من الرطوبة والأجزاء المائيّه ما يتحقّق معه بالإمرار دقلّ مسمّى الجريان.

ولا ينافي ما ذكرناه من نفي اعتبار الترتيب بين أجزاء كل عضو المستلزم للابتداء بالأعلى فالأعلى قوله عليه السلام: «صبّ على منكبه الأيمن وعلى منكبه الأيسر» وما في صحيح محمّد بن بمسلم من قوله عليه السلام: «ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك» لقوّة احتمال ابتنائه على المعتاد الطبيعي في غسل البدن من الابتداء بالأعلى من حيث كونه الطريق الأسهل، مع أنّه لو كان نحو هذه التعبيرات ظاهرا في الوجوب فيتوهّن ظهوره بفهم الأصحاب خلافه، وربّما يحتمل إرادة الاستحباب بل عن الشهيد في الذكرى(1) استظهاره، وحينئذ فالاستحباب لعلّه لا بأس به كما ارتضاه غير واحد.

رابعها: أنّ الطهر وزوال حدث الجنابة المقصود من وضع الغسل بحسب الشرع هل يتبّعض بالنسبة إلى الأعضاء الثلاث - بأن يحصل لكلّ عضو يغسله ولو قبل غسل الأعضاء الباقية - أولا بل يتوقّف حصوله في تمام الجسد على استكمال الغسل فلو لم يستكمل لم يحصل طهر حتّى بالنسبة إلى العضو المغسول ؟ وجهان. ويظهر الفائدة في جواز مسح كتابة القرآن بالعضو المغسول قبل استكمال الغسل وعدمه، ولم نقف من الأصحاب هنا على نصّ في ذلك، ولا على من تعرّض لهذا الفرع، فيمكن القول بقبول التبعيض استنادا إلى إطلاق قوله عليه السلام: «فما جرى عليه الماء فقد طهر» في صحيح محمّد بن مسلم المتقدّم، وأمكن القول بخلافه وهو الأحوط لاستصحاب

ص: 785


1- الذكرى 245:2.

الحدث إلى أن يحصل اليقين بارتفاعه ولا يكون إلّا بعد استكمال الغسل، وإن كان الاوّل أحوط بالنظر إلى قوّة ما أشرنا إليه من الإطلاق.

المسألة الثالثة: يسقط الترتيب بالارتماس على المشهور،
اشارة

كما عن المختلف(1) بل لا خلاف فيه كما عن شرح رسالة صاحب المعالم(2) بل عليه الإجماع كما في المدارك وعن السرائر والمفاتيح(3) وغيرهما، لنصوص المعتبرة.

ففي صحيحة زرارة «ولو أنّ رجلا جنبا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك وإن لم يدلك جسده»(4) وفي الصحيح أو الحسن كالصحيح عن الحلبي قال:

«سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول: إذا ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله»(5) وفي مرسلة عبيداللّه بن علي الحلبي قال: «حدّثني من سمعه يقول: إذا اغتمس الجنب في الماء اغتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله»(6) وفي رواية السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قلت له: «الرجل يجنب فيرتمس في الماء ارتماسة واحدة ويخرج يجزئه ذلك من غسله ؟ قال: نعم»(7).

ولا يخفى أنّ هذه الروايات في الدلالة على إجزاء ما لا ترتيب فيه يعارض ما مرّ من الأدلة الآمرة بالترتيب المقتضية لعدم إجزاء غيره، إلّا أنّ هذا تعارض بدوي يرتفع بملاحظة متفاهم العرف، نظرا إلى أنّ منشأه ظهور الأمر بالترتيب في وجوب الغسل المشتمل عليه على التعيين، ومقتضى روايات الارتماس كون الغسل واجبا على التخيير بينه وبين ما لا ترتيب فيه، فتنهض هذه الروايات قرينة صارفة للأمر بالترتيب عن ظاهره بانكشاف كون بناء وروده بالترتيب على أنّه أحد فردي الواجب التخييري، كما يرشد إليه ملاحظة قول القائل: «أعتق رقبة مؤمنة» مع قوله الآخر: «إن أعتقت الكافرة أجزءك» وهذان الخطابان كما ترى لا معارضة بينهما في نفس الامر وإن توهّمت في

ص: 786


1- المختلف 336:1.
2- نقل عنه في مفتاح الكرامة 51:3.
3- المدارك 295:1، السرائر 121:1، مفاتيح الشرائع 56:1.
4- الوسائل 230:2 الباب 26 من ابواب الجنابة ح 5.
5- الوسائل 232:2 الباب 26 من ابواب الجنابة ح 12 و 13.
6- الوسائل 233:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 15.
7- الوسائل 232:2 الباب 26 من ابواب الجنابة ح 12 و 13.

بادئ النظر..

والعجب عن الشيخ في الاستبصار(1) أنّه لمّا أورد وجوب الترتيب في الغسل، وأورد إجزاء الارتماس كيف غفل عمّا بينّاه في دفع المنافاة، فدفعها بقوله: «لا ينافي ما قدّمناه من وجوب الترتيب لأنّ المرتمس يترتّب حكما وإن لم يترتّب فعلا، لأنه إذا خرج من الماء حكم له أوّلا بطهارة رأسه ثمّ جانبه الأيمن ثمّ جانبه الأيسر، فيكون على هذا التقدير مرتّبا» إلى آخر ما ذكره.

ومحصّله أنّ أدلّة الارتماس لا تنفي الترتيب بالمرّة لاستلزام الارتماس ترتيبا حكميّا وإن لم يتضمّن ترتيبا فعليا، فلا تنافي أخبار الترتيب لأنّ الترتيب الحكمي بالمعنى المذكور أيضا نحو من الترتيب.

وفيه - مع عدم جدواه في دفع المنافاة، لأنّ اخبار الترتيب إنّما اقتضت الترتيب الفعلي وهو الخارجي الّذي يدرك بالحسّ لا مطلق الترتيب فالمنافاة على حالها -: أنّ ما قرّره في وجه عدم المنافاة يتضمّن دعويين، إحداهما: تضمّن الغسل بالارتماس الترتيب الحكمي المفسّر بالحكم بطهارة الرأس أوّلا ثمّ طهارة الأيمن ثمّ الأيسر، والثانية: إناطة حصول هذا الترتيب بالخروج عن الماء، وما تقدّم من روايات الارتماس لا يساعد على شيء من الدعويين، ولا سيّما الدعوي الثمانية بل يساعد على خلاف هذه الدعوى، فإنّ قوله عليه السلام: «إذا ارتمس ارتماسة واحدة أجزأه» إناطة للإجزاء الّذي هو تنبيه على حصول الطهارة بمجرّد تحقّق الارتماسة الواحدة. ولا ريب أنّ الخروج من الماء ليس جزءا من مفهوم الارتماس، ولا أنّه قيد معتبر معه بحسب الشرع لإطلاق النصّ الوارد فيه، فيكون اعتباره في الحكم بالطهارة منفيا بالإطلاق.

لا يقال: قوله: «ويخرج» في رواية السكوني لعلّه كاف في إفادة اعتبار الخروج، لأنّه شيء ذكر في كلام الراوي ولم يظهر من المرويّ عنه إناطة الجواب بما اعتبر معه الخروج، بل ظاهره كون المناط هو الارتماس لا غير بل لم يظهر من الراوي أنّه ذكر الخروج بتوهّم أنّ له مدخليّة.

ص: 787


1- الاستبصار 125:1.

وأمّا ما عن بعض الأصحاب من انه يترتّب حال الارتماس حكما، كما نقله في المبسوط والسرائر(1) على ما حكي عنهما، فإنّ أريد به أنّ الغسل ارتماس في حكم الغسل ترتيبا لقيامه مقامه في إسقاطه الأمر بالغسل ورفعه حدث الجنابه، فهو حسن وإن بعد إرادته من صوغ هذه العبارة، ولكنّه لا يلزم منه الخلاف في الارتماس من حيث تضمّنه الترتيب الحكمي وعدمه كما زعمه غير واحد بل هو المعروف فيما بينهم، وإن أريد به ما عن الفاضل في المختلف(2) واحتمله الشهيد في الذكرى(3) في معنى هذه العبارة من أنّه يعتقد الترتيب وينويه، بأن ينوي بارتماسه حصول غسل الرأس أوّلا ثمّ غسل اليمين ثمّ اليسار، فهو مع أنّه لا يناسب لفظ «الترتب» الملازم للّزوم ممّا ينفيه إطلاق تعليق الاجزاء في نصوص الباب على الارتماس، لوضوح أنّ الاعتقاد المذكور ليس من مفهوم الارتماس ولا من لوازمه العقلية ولا العادية، وكونه من لوازمه الشرعيّة تقييد له ولابدّ له من شاهد مفقود في المقام.

وتوهّم أنّ الباعث على التزام هذا التقييد كونه طريق الجمع بين أدلّة الارتماس وأدلّة الترتيب، يدفعه: ما بيّنّاه من عدم معارضة بينهما تقتضي تكلّف هذا الجمع.

وإن أريد به أنه بنفسه يقع مترتّبا بانغسال الرأس أوّلا ثمّ الأيمن ثمّ الأيسر قهرا وإن لم يظهر ذلك الترتّب في المسّ ولم ينوه المغتسل أيضا، فيكون ترتيبا حكميّا بالمعنى المقابل للترتيب الخارجي الذي يظهر في المسّ .

ففيه: أنّه التزام بما لا يكاد يشهد له دليل من عقل ولا نقل، أمّا الأوّل وأمّا الثاني فلعدم دلالة عليه ولا إيماء إليه في نصوص الباب، مضافا إلى كونه التزاما بما لا فائدة فيه من الفروع أصلا، فالحق أنّ معنى سقوط الترتيب بالارتماس أنه لا ترتيب فيه أصلا لا حقيقة ولا حكما بجميع معانيه الثلاث كما جزم به المحقّقون.

وينبغي التنبيه على أمور:
الأوّل: المعروف من كلام الأصحاب وصف الارتماس في الغسل الارتماسي بالوحدة،

والمستفاد من كلام جماعة أنّه مأخوذ على وجه الاشتراط، بل في حاشية

ص: 788


1- المبسوط 29:1، السرائر 121:1.
2- المختلف 336:1.
3- الذكري 224:2.

المدارك جزم بأنّها شرط في الغسل الارتماسي، كما أنّ الترتيب شرط في الغسل الترتيبي، بل فيها: «الظاهر اتّفاق الأصحاب على اشتراط الوحدة المذكورة في الارتماسي كاتّفاقهم على اشتراط الترتيب في الترتيبي»(1).

أقول: وفي كونه في كلامهم على وجه الاشتراط نظر، بل الظاهر خلافه كما يظهر بملاحظة كلماتهم في مواضع اخر، مثل مسألة اللمعة المغفولة ومسألة الوقوف تحت المطر أو شبهه الملحق عند أكثرهم بالغسل ارتماسا، وكيف كان فمنشأ وروده في كلامهم وروده في نصوص الباب كما عرفت.

واختلفوا في المعنى المراد منها، فعن بعض شرّاح الألفية(2) كما عن ظاهرها أنّه شمول الماء واستيلاؤه البدن كلّه بحيث يحيط بأسافله وأعاليه جملة في زمان واحد، ومرجعه إلى اعتبار الدفعة الحقيقيّة، وعزي إلى المشهور بين المتأخرين الاكتفاء بالدفعة العرفيّة، وهو توالي غمس الأعضاء بحيث يتّحد عرفا، وقالوا: إنّ الدفعة العرفيّة لا ينافيها توقّف إيصال الماء على تخليل ما يعتبر تخليله من شعر أو عكة أو حاجب آخر.

وعن بعض المحقّقين عدم اعتبار شيء منهما حتّى أنّه إذا نوى فوضع رجله مثلا في الماء ثمّ صبر ساعة فغمس عضوا آخر وهكذا إلى أن ارتمس كفاه، وربّما يظهر الميل إليه من كاشف اللثام(3) قال: «على احتمال أن يكون المعنى إحاطة الماء بالبدن إحاطة واحدة لا متفرّقة» وهو ظاهر المحكيّ عن الذخيرة من «أنّه يكفي الارتماس الواحد وإن لم يتحقّق شمول الماء لجميع البدن إلّا بعد ما خرج وغسل تلك اللمعة خارجا عن الماء وإن طال الزمان»(4). واختاره في الحدائق بناء منه على أنّ الوحدة احتراز عن التعدّد المعتبر في الغسل الأصلي لا بمعنى الدفعة، وحينئذ فلو حصل فيها تأنّ ينافي الدفعة العرفيّة لم يضرّ بصحّة الغسل، قال: «الظاهر أنّ المراد بالارتماسة الواحدة إنما هي المقابلة للارتماسات المتعدّدة، فنبّه على أنّه لا يحتاج في الغسل

ص: 789


1- حاشية المدارك 335:1.
2- كما في المقاعد العليّة: 453، ورسائل المحقق الكركي 201:3.
3- كشف اللثام 20:2.
4- الذخيرة: 57.

الارتماسي إلى رمس كلّ عضو على حدة أو إلى ارتماسات متعدّدة لأجل كلّ عضو بل تكفي ارتماسة واحدة»(1) انتهى ملخّصا.

أقول: وهذا القول قويّ بل في غاية القوّة بالنظر إلى ظاهر النصوص، والسرّ فيه أنّ الوحدة في جميع النصوص اعتبرت وصفا للارتماس، والارتماسة الموصوفة بالوحدة لا مقابل لها إلّا الإرتماسات العديدة، ولعلّه لئلّا يتوهّم السامع اعتبار ارتماسات ثلاث أو الارتماس بأعضاء ثلاث تحصيلا للغسلات الثلاث بالنسبة إلى هذه الأعضاء حسبما اعتبرت في الترتيبي، فيكون المقصود نفي اعتبار التثليث لا غير.

وممّا يؤيّد ذلك بل يرشد إليه دنّ الارتماس المحكوم عليه بالإجزاء إنّما حكم عليه بالإجزاء على أنّه غسل والغسل معتبر في الغسل، ولذا جعله عليه السلام في صحيحة زرارة من فروع ما أعطاه أوّلا من وجوب غسلّ الجسد كلّه بقوله: «ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك»، وقوله في ذيل هذه الصحيحة: «وإن لم يدلك جسده» أيضا إشارة اليه، لقضائه بأنّ الغسل المعتبر في الغسل الحاصل بالارتماس لا يعتبر في تحقّقه الدلك بل يكفي فيه الجريان الحاصل بالارتماس أيضا، فلا ريب أن الغسل الموصوف بكونه واحدا لا مقابل له إلّا الغسل المتعدّد. وهذا ممّا لا مصداق له إلّا ثلاث غسلات الغسل الترتيبي، وأمّا اعتبار كون ذلك الغسل الواحد أو الارتماس الواحد حاصلا دفعة حقيقيّة أو عرفيّة فممّا لا قاضي به إلّا أخذ الوحدة وصفا للزمان، وهذا خلاف ظاهر لا يساعد عليه أصل ولا قرينة. وتوهّم انصراف الارتماسة الواحدة إلى ما يقع منها في الدفعة الزمانية محلّ منع، هذا بحسب الاجتهاد، إلّا أنّ الأحوط مراعاة الدفعة العرفيّة خروجا عن شبهة مخالفة الشهرة وإن كان انعقادها موضع نظر.

الثاني: أنّه في اللمعة الباقية بعد خروج المرتمس من الماء احتمالات،

استيناف الغسل من رأسه كما عن والد العلّامة وجماعة من المتأخرين، والاكتفاء بغسلها خاصّة مطلقا كما اختاره غير واحد، وعن القواعد(2) كونه أقوى الاحتمالات، وغسلها مع إعادة ما بعدها إن كانت في الأيسر كما احتمله غير واحد، والفرق بين طول وقصره

ص: 790


1- الحدائق 77:3-78.
2- القواعد 209:1.

فيعيد على الأوّل ويكتفى بغسلها على الثاني كما عن المحقّق الثاني في جامع المقاصد(1) وغيره.

وهاهنا احتمال خامس إن لم ينعقد الإجماع على بطلانه وهو صحّة الغسل وإن لم يغسل اللمعة، بل هذا أظهر الوجوه بالنظر إلى ظاهر قوله عليه السلام: «إذا ارتمس في الماء» لو أريد به إناطة الحكم بصدق الارتماس لصدقه بمجرّد تحقّق الغمر التامّ وإن بقي من الجسد تحت الماء ما لم يصيبه الما،، إلّا أنّ الظاهر المتبادر من قضية هذا الكلام ونحوه أنّه إذا ارتمس ارتماسا يتضمّن شمول الماء لجميع البدن، فيكون الحكم بالإجزاء معلّقا بمقتضى هذا الظهور على الشمول التامّ الحاصل بالارتماس، وقضية ذلك بالنظر إلى مفهوم الشرط عدم إجزاء غيره فيكون الغسل باطلا من رأسه، ولا يصحّحه غسل اللمعة مطلقا حيث لا مقتضي له إلّا ما يتوهّم من عموم قوله عليه السلام في صحيحة محمّد بن مسلم:

«فما جري عليه الماء فقد طهر» وقوله عليه السلام الآخر في صحيحة زرارة: «فما جرى عليه الماء فقد أجزأه» وقوله عليه السلام الثالث في صحيحته الأخرى: «وكلّ شيء أمسسته الماء فقد أنقيته»، ويزيّفة اختصاص هذه العمومات بغير صورة الارتماس كما يظهر وجهه بملاحظة سياقاتها.

نعم ربّما أمكن الاستدلال على كفاية غسل اللمعة برواية اللمعة المتقدّمة لما فيها من قوله عليه السلام: «فقيل له قد بقيت لمعة في ظهرك» إلى قوله عليه السلام: «ثمّ مسح تلك اللمعة بيده» وفي معناها المرويّ عن نوادر الراوندي باسناده عن موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه قال: قال عليّ عليه السلام: «اغتسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من جنابته فإذا لمعة من جسده لم يصبها ماء فأخذ من بلل شعره فمسح ذلك الموضع فصلّى بالناس»(2).

ونحوهما صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: قلت له: «رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة ؟ فقال: إذا شك وكانت به بلّة وهو في صلاته مسح بها عليه، وإن كان استيقن رجع فأعاد عليهما ما لم يصب بلّة، فإن دخله الشك وقد دخل في صلاته فليمض في صلاته ولا شيء عليه، وإن استيقن رجع فأعاد

ص: 791


1- جامع المقاعد 262:1.
2- مستدرك الوسائل 481:1.

عليه الماء، وإن رآه وبه بلّة مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان، وإن كان شاكا فليس عليه في شكه شيء، فليمض في صلاته»(1).

لكن يندفع الأوّلان بما فيها من إجمال الفعل من حيث تردّده بين الاغتسال ترتيبا والاغتسال ارتماسا، مع ما في ثانيهما من قصور السند، كما يندفع الثالث بظهوره في الترتيب لمكان ما في السؤال من قوله: «ترك» مع ما فيه من اضطراب المتن باعتبار اشتماله على التكرار المخلّ بفصاحة الكلام، فيبعد صدوره من المعصوم، فظهر أنّ المتّجه هو الوجه الاوّل وهو الأقوى مع أنّه أحوط، وأحوط منه غسل البلّة أو هي مع ما بعدها ثمّ إعادة الغسل ثانيا.

الثالث: ظاهر إطلاق النصّ والفتوى عدم اعتبار الخروج من الماء في الارتماس لا موضوعا ولا حكما،

فإنّ قوله «إذا ارتمس» يقضي يكون الارتماس بنفسه لا بشرط شيء من الأمور الوجودية والامور العدميّة سببا تامّا للإجزاء. وتوهّم عدم صدق قضية «ارتمس» من دون خروج، يدفعه: شهادة العرف بخلافه، وحينئذ فلو كان في الماء ببعض بدنه فارتمس بالباقي ناويا للغسل أجزأه.

لا يقال: إنّ وصف الوحدة المحمول على الدفعة الوارد في أخبار الارتماس ينافي الإجزاء مع عدم الخروج، لمنع كون الوصف على ما عرفت لإفادة اعتبار الدفعة بل إنّما هو لنفي اعتبار التعدّد الشرعي المعتبر في باب الغسل، ولو سلّم فهو لا يقضي باعتبار الخروج من الماء، لأنه إنّما أفاد اعتبار الدفعة في الارتماس المنويّ به الغسل، والّذي ينوي به الغسل هو الّذي حصل في الماء بالنسبة إلى باقي البدن الخارج من الماء وهذا يحصل دفعة. وبالجملة يصدق عليه أنه ارتمس ارتماسة واحدة.

فما عن غير واحد من متأخّري المتأخرين كصاحب الكفاية(2) والشيخ عبدالله بن الصالح البحراني «من أنّه يجب على المرتمس أن يخرج نفسه من الماء ثمّ يلقي نفسه فيه»(3) ممّا ينبغي القطع بخروجه عن السداد، ولذا قال الشيخ عليّ سبط الشهيد الثاني

ص: 792


1- الوسائل 260:2 الباب 41 من ابواب الجنابة ح 2.
2- كفاية الأحكام: 3.
3- نقل عنه في مفتاح الكرامة 58:3.

في كتاب الدرّ المنظوم والمنثور على ما حكيّ -: «أنّ ما احدث في هذا الزمان من أنّ الإنسان ينبغي أن يلقي نفسه في الماء بعد أن يكون جميع جسده خارجا عنه ناش عن الوسواس المأمور بالتحرّز فيه. ومن توهم كون الارتماس يدلّ على ذلك فهذا ليس بسديد، لأنّ الارتماس في الماء يصدق على من كان في الماء بحيث يبقى من بدنه جزء خارج وعلى من كان خارجا كلّه، بل ربّما يقال إنه صادق على من كان جميع بدنه في الماء ونوى الغسل بذلك مع حركة مّا بل بغير حركة»(1) انتهى.

وكما أنّ إطلاق النصّ والفتوى بالنسبة إلى الارتماس يشمل الخروج من الماء وعدمه، فكذلك بالنسبة إلى الماء يشمل الجاري والواقف الكثير منه والقليل ما لم يشتمل بدنه على نجاسة موجبة لانفعال القليل، أمّا معه فبعد تطهيره وإزالتها خارجا فيصحّ الغسل في الجميع وفاقا لصريح جماعة.

نعم يكره لغير المرتمس في القليل أن يغتسل فيه أو به حسبما بيّنّاه في أحكام المياه. فما عن مقنعة المفيد من «أنه لا ينبغي له أن يرتمس في الماء الراكد، فإنّه إن كان قليلا أفسده، وإن كان كثيرا خالف السنّة بالاغتسال»(2). غير واضح الوجه أراد به المنع أو الكراهة عدا ما استدل به الشيخ في التهذيب له من «أنّ الجنب حكمه حكم النجس إلى أن يغتسل، فمتى لاقى الماء الّذي يصحّ فيه قبول النجاسة فسد»(3) بالنسبة إلى الحكم الأوّل، ومن صحيحة محمّد بن بزيع قال: «كتبت إلى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء أو يستقي فيه من بئر فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغسل الجنب ما حدّه الّذي لا يجوز؟ فكتب: لا توضّأ من مثل هذا إلّا من ضرورة»(4) بالنسبة إلى الحكم الثاني.

وفيه: أنّ الجنب ليس حكمه حكم النجس إلّا في المنع عن الدخول في الصلاة، ولا يلزم منه تنجّس القليل الملاقي له إلّا إذا اشتمل البدن على نجاسة خارجيّة، وهذا كلام آخر ليس البحث فيه ولو أراد بالفساد سلب الطهورية عنه كما يراه في المساء المستعمل في الحدث الأكبر فهو خلاف التحقيق على ما قرّرناه في محلّه، كما أنّ توهّم

ص: 793


1- نقل عنه في مفتاح الكرامة 58:3.
2- المقنعة؛ 54.
3- التهذيب 149:1.
4- الوسائل 163:1 الباب 9 من أبواب الماء المطلق ح 15.

كون الجنابة موجبة للنجاسة الخبثيّة أيضا خلاف التحقيق، وعلى تقدير تسليم كونه سالبا للطهوريّة فهو لا يوجب منعا ولا كراهة بالنسبة إلى هذا الاغتسال، غاية الأمر أنّه ليس له ولا لغيره الاغتسال به ثانيا، والرواية بشهادة استثناء الضرورة ظاهرة في الكراهة مع قوّة انصرافها بصورة القلّة، مع أنّها غير منطبقة على المدّعى من حيث إنها نهى عن الاغتسال فيما اغتسل فيه الجنب، والكلام إنّما هو في ابتداء الاغتسال بالراكد لا في راكد اغتسل فيه الجنب.

نعم في النبوي «لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه عن جنابة»(1) لكن يتطرّق إليه القدح في السند، فغاية ما يمكن الالتزام به في هذا الخبر هو الكراهة إن لم يخالف إجماعا، والأقرب فيه تعيّن الطرح.

الرابع: عن الشيخ في المبسوط وتبعه العلّامة في جملة من كتبه أنّه يجري الوقوف تحت المجرى والمطر مجرى الارتماس فيسقط عنه الترتيب أيضا

الرابع: عن الشيخ في المبسوط(2) وتبعه العلّامة في جملة من كتبه أنّه يجري الوقوف تحت المجرى والمطر مجرى الارتماس فيسقط عنه الترتيب أيضا(3)

وعن التذكرة التعدّي بإلحاق الوقوف تحت الميزاب وشبهه(4) وعن بعض الأصحاب أنّ الصبّ بالإناء الشامل للبدن كلّه يجري مجرى ذلك، قال في الذكرى - على ما حكي -: «أنّ ذلك لازم للشيخ أيضا»(5) وعن الحلّي وجماعة من المتأخرين ومتأخّريهم المنع من ذلك كلّه فخصّوا الارتماس المسقط للترتيب بالدخول تحت الماء، واعتبروا في الصور المذكورة مراعاة الترتيب بحسب القصد، فينوي أوّلا غسل رأسه ثمّ الأيمن ثمّ الأيسر، فالظاهر أنّه لا خلاف بينهم في وقوع هذا الغسل بجميع الفروض المذكورة(6).

بل الخلاف إنما هو في سقوط الترتيب واعتباره، ولذا قال في المعتبر - مع أنّه من أهل القول بالمنع -: «لو وقف تحت الغيث حتّى بلّ جسده طهر، لما رواه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام - إلى أن قال -: وهذا الخبر مطلق وينبغي أن يقيّد بالترتيب في الغسل»(7) وربّما يحكى هنا قول آخر عن الحبل المتين ورياض المسائل

ص: 794


1- الوسائل 352:1 الباب 33 من أبواب أحكام الخلوة ح 6.
2- المبسوط 29:1.
3- كما في المنتهى 198:2، التحرير 12:1.
4- التذكرة 232:1.
5- الذكرى 226:2.
6- السرائر 135:1.
7- المعتبر 184:1.

والحدائق(1) وهو أنّ المطر إن كان غزيرا أو حصلت به الدفعة العرفيّة صحّ الاغتسال به ارتماسا، وإن لم يكن كذلك فيغتسل ترتيبا فيجوز للمغتسل قصد الارتماس على الأوّل والترتيب على الثاني، وربّما يرجع كلام من قيّد المطر والمجري بالغزارة إلى ذلك.

والأصل في المسألة صحيحة عليّ بن جعفر المروية في التهذيب وغيره عن أخيه موسى عليه السلام «أنه سأله عن الرجل يجنب هل يجزئه من غسل الجنابة أن يقوم في المطر حتّى يغسل رأسه وجسده ؟ وهو يقدر على ما سوى ذلك ؟ فقال: إن كان يغسله اغتساله ؟ بالماء أجزأ. ذلك»(2) وفي الوسائل رواه عليّ بن جعفر في كتابه مثله وزاد «إلّا أنه ينبغي له أن يتمضمض ويستنشق ويمرّ يده على ما نالت من جسده، قال:

وسألته عن الرجل تصيبه الجنابة ولا يقدر على الماء فيصيبه المطر أيجزئه ذلك أو عليه التيمّم ؟ فقال: إن غسله أجزأ. وإلّا تيمّم»(3) ومرسلة محمّد بن أبي حمزة عن رجل عن الصادق عليه السلام «في رجل أصابته جنابة فقام في المطر حتى سال على جسده أيجزئه ذلك من الغسل ؟ قال: نعم»(4).

والعمدة من مادّة الإشكال هو الصحيحة لاختلاف الأنظار في فهم ما هو حقيقة المعنى، ومنشؤه إمّا الاختلاف في فهم دلالة الخبر بالمطابقة على سقوط الترتيب، أو على اعتباره، فمن قال بالسقوط، قال به بزعم أنّه يدلّ مطابقة على سقوطه في المطر، ومن قال بلزوم مراعاة الترتيب قال به بزعم أنه يدلّ مطابقة على اعتباره. أو الاختلاف في فهم البيان والإجمال الموجب للرجوع إلى أدلّة الغسل الترتيبي لأنّه الأصل في باب الغسل، فمن يدّعي السقوط يدّعيه بزعم البيان في الخبر من حيث الإطلاق المتناول لصورتي مراعاة الترتيب بحسب القصد والنيّة وعدم مراعاته، ومن يدّعي خلافه يدّعيه بزعم أنّ الخبر من حيث الدلالة على أحد الوجهين محمل فيرجع إلى أدلّة الترتيب ويبنى عليه.

أو الاختلاف في فهم التعارض بين هذا الخبر وأدلّة الترتيب وعدم فهم التعارض

ص: 795


1- الحبل المتين 181:1، الرياض 211:1، الحدائق 81:3.
2- الوسائل 231:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 10 و 14.
3- الوسائل 232:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 11.
4- الوسائل 231:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 10 و 14.

أو فهم عدمه مع الاتفاق على إطلاقه المقتضي للتخيير بين مراعاة الترتيب وعدم مراعاته، فمن يدّعي السقوط يبني على عدم التعارض، ومن يدّعى خلافه يبني على التعارض من باب تعارض المطلق والمقيد. واعتبار الترتيب طريق جمع حملا للمطلق على المقيّد.

فإن كان الاختلاف ناشئا من الجهة الأولى فالحق فيها عدم دلالة الخبر بالمطابقة على شيء من الترتيب وسقوطه، لا من حيث السؤال ولا من حيث الجواب، أمّا من حيث السؤال فلأنّه ليس في السؤال إلّا قول السائل: «حتّى يغسل رأسه وجسده» وهو قابل لكلا وجهي مراعاة الترتيب وعدم مراعاته فيكون أعمّ ، وأمّا من حيث الجواب فلأنه ليس فيه إلّا قوله عليه السلام «إن كان يغسله اغتسالة بالماء أجزأه» وهذا أيضا بنفسه قابل لكلا الوجهين لأنّ اغتسال الرجل بالماء بحسب الخارج قد يقع على وجه [الترتيب] وقد يقع على وجه الارتماس المسقط فيكون أعمّ .

وإن كان ناشئا من الجهة الثانية فالحق فيها هو البيان من حيث الإطلاق كما يعلم بملاحظة عود الضمير المرفوع في قوله: «إن كان يغسله اغتسالة بالماء» إلى المطر والمنصوب إلى الرجل، وكذلك الضمير المرفوع في قول السائل: «حتى يغسل» على ما ينساق من السياق ويرشد إليه ظاهر قوله عليه السلام: «إن غسله» في الواقعة الثانية الّتي فرضها السائل، فقوله عليه السلام: «اغتسالة بالماء» تشبيه لغسل المطر باغتسال الرجل بالماء، وظاهر أنّ التشبيه يقتضي مشاركة المشبّه للمشبّه به فيما هو من اللوازم الخاصّه بالمشبّه به، فلابدّ أن يكون وجه الشبه من لوازم الاغتسال بالماء بالماهيّة والّذي هو من لوازم ماهيّة الاغتسال بالماء إنما هو إصابة الماء وشموله للبدن كلّه لأنّه معتبر في كلّ من الغسل الترتيبي والارتماسي.

وأمّا الترتيب وسقوطه فليس شيء منهما من لوازم الماهيّة لكون كلّ أخصّ منها والأخصّ لا يصلح لازما للأعمّ ، فلا يسوغ رجوع التشبيه إلى شيء منهما، فانحصر وجه الشبه فيما ذكرناه، فيدلّ الخبر بمقتضى هذا التشبيه على أنّه يعتبر في الغسل بالمطر إصابة الماء لجميع البدن، وقوله: «أجزأه» وارد على هذا الشرط، فيكون معناه:

أنّه إذا تحقّق بالمطر إصابة جميع البدن وجريان الماء عليه كلّه أجزأه، ولا ريب أنّ

ص: 796

إطلاق الحكم عليه بالإجزاء ينفي اعتبار غير هذا الشرط.

وإن كان ناشئا من الجهة الثالثة فالحق فيها عدم التعارض بين الإطلاق المذكور وما دلّ على اعتبار الترتيب، لأنّ توهّم التعارض ينشأ من ملاحظة ظهور الأمر بالترتيب الوارد في أخبار الترتيب في وجوبه على التعيين، وقد تقدّم بيان خروجه عن هذا الظهور بأدلّة الارتماس، فإنها ناهضة قرينة على أنّ ورود الأمر بالترتيب إنما هو لكون الغسل مرتّبا أحد فردي الواجب التخييري، هذا مع تطرّق المنع إلى انصراف أخبار الترتيب لنحو المقام لما فيها من التعبير بالصبّ والإفاضة ونحوهما الغير الشاملة للصور المذكورة.

ثمّ يؤيّد الصحيحة في اقتضاء عدم لزوم مراعاة الترتيب مرسلة محمّد بن أبي حمزة الظاهرة بنفسها في عدم لزوم مراعاته كما لا يخفى. وإنّما لا تنهض دليلا لتطرّق الطعن اليها سندا من جهة الإرسال، فالمتّجه حينئذ هو القول بالسقوط في المطر خاصّة لأنّه مورد النصّ .

أمّا التعدّي منه إلى غيره من المجرى والميزاب وشبهه والصبّ من الإناء الشامل للبدن كلّه فيبنى على تنقيح المناط، وهذا وإن كان ليس ببعيد خصوصا بملاحظة أخبار الارتماس بناء على ما تقدّم من ظهور قوله: «ارتمس ارتماسة واحدة» في الارتماس المتضمّن لشمول الماء للبدن كلّه، فقضيّة ذلك - مضافا إلى ما يبّنّاه في توجيه التشبيه - أنّ المناط في سقوط الترتيب إصابة الماء وشموله البدن كلّه، وهذا حاصل في المذكورات بالفرض، لكن كونه بحيث يطمئنّ النفس بحذف الإضافات وعدم مدخلية الفارق في الحكم محلّ تأمّل، فالاحتياط اللازم مراعاته ولو من جهة استصحاب الحدث ونحوه مراعاة الترتيب فيما عدا المطر خصوصا في الإناء الشامل، والأحوط مراعاته أيضا في المطر لأنّه المبرئ للذمّة على وجه اليقين.

الخامس: في أنّ نصوص الباب وفتاوي الأصحاب في باب الارتماس وإن اختصّتا بغسل الجنابة،

إلّا أنّ المصرّح به في كلام جماعة عدم الفرق بينه وبين غيره من الأغسال الواجبة والمندوبة، بل عن الذكرى كما هو ظاهر المدارك أنّه لم يفرّق أحد

ص: 797

بين غسل الجنابة وغيره في ذلك(1) وعن الحدائق أنّه عزاه إلى ظاهر الأصحاب(2).

أقول: وينبغي أن يكون كذلك لما قرّرناه في بحث تداخل الأغسال من أنّ الأغسال الخمس الواجبة وغيرها لا تتغاير بحسب مفاهيمها وماهياتها باعتبار الجعل الشرعي، بل هي بأسرها ماهية واحدة تتغاير إضافاتها من حيث إنّها تضاف تارة إلى أسباب الغسل كالجنابة والحيض والنفاس والاستحاضة ومسّ الميت، واخرى إلى غاياته كالجمعة والزياة وغيرها، ولعلّه إلى هذا المعنى يشير ما في صحيح عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام من قوله عليه السلام: «غسل الجنابة والحيض واحد»(3) فإذا كان هذه الماهيّه الواحدة بحسب الوضع الشرعي له كيفيّتان فلا يفترق الحال فيها باعتبار اختلاف إضافاتهما، مع أنّ المعلوم بالاستقراء اشتراك غسل الجنابة وغسل الحيض في الأحكام الجارية عليهما فليكن هذا منها، بل قد يقال: إنّ الأصل فيهما الاشتراك في الأحكام إلّا ما علم بالدليل اختصاصه بأحدهما، مع أنّ الحكم في حدّ نفسه معلوم بملاحظة عمل المتسرّعة والمركوز في أذهانهم، فهذا ممّا لا ينبغي التأمّل فيه إن شاء اللّه.

السادس: قد عرفت أنّ مورد الارتماس المسقط للترتيب هو الماء الّذي يدخل فيه

وينبغي انّ الغسل ارتماسا في هذا المورد رخصة كما هو واضح. وعليه فيجوز للداخل في الماء أن يغتسل مرتّبا بأن يغمس رأسه أوّلا ثمّ جانبه الأيمن ثمّ جانبه الأيسر. ومن هنا يعلم أنّ الغسل ترتيبا باعتبار أنّه يحصل تارة بالصبّ واخرى بالغمس له صور كثيرة، منها: ما يحصل بالصبّ على كلّ من الأعضاء الثلاث، ومنها: ما يحصل بغمس كلّ واحد، ومنها: غسل الرأس بالصبّ والأيمن بالغمس والأيسر أيضا بالصبّ ، ومنها: غسل الرأس بالغمس والأيمن بالصب والأيسر أيضا بالغمس ومنها: غسل الرأس بالصبّ وكلّ من الأيمن والأيسر بالغمس، ومنها: غسل كلّ من الرأس والأيمن بالصبّ والأيسر بالغمس، ومنها: غسل الرأس بالغمس وكلّ من الأيمن والأيسر بالصبّ ، ومنها:

غسل كلّ من الرأس والأيمن بالغمس والأيسر بالصبّ ، ومنها: غسل كلّ من الرأس

ص: 798


1- الذكرى 2؛ 237، المدارك 296:1.
2- الحدائق 79:3.
3- الوسائل 175:2 الباب 1 من ابواب الجناية ج 6.

والأيمن بالغبس والأيسر بالصبّ وهاهنا صور اخرى كثيرة تظهر للمتامّل.

والظاهر أنّه لا خلاف في إجزاء الكلّ كما هو قضية إطلاق الأخبار.

لا يقال: إنّ ظاهر الأخبار يدفعه، لورود بيان الترتيب بعبارة الصبّ ونحوه كما لا يخفى، وقضيّة ذللك عدم إجزاء الترتيب بغير طريق الصبّ . لأنّا نقطع بأنّ الصبّ لا مدخليّة له بخصوصه في موضوع الحكم بل المعتبر إجراء الماء على الأعضاء الثلاث وإيصاله إلى جميع مواضع كلّ واحد والصبّ مقدّمة له فيحصل الغرض حينئذ بكلّ ما افاد الجريان جزما، ومن جملة الصور القعود تحت المجرى أو المطر أو الميزاب أو الإنماء الشامل لجميع البدن على القول بمراعاة الترتيب وعدم سقوطه.

ومنها ما لو كان داخلا في الماء إلى الركبة أو ما فوقها أو ما دونها فيغسل رأسه صبّا أو غمسا ثمّ ينوي غسل الداخل من طرفه الأيمن في الماء بالغمس وإن افتقر إلى تحريك الرجل فحرّكها بل الأحوط مراعاة التحريك مطلقا، ثمّ يغسل ما فوقه بالصبّ وهكذا يصنع مع الطرف الأيسر، بناء على ما عرفت من عدم اعتبار [الترتيب] بين أبعاض الأعضاء الثلاث ارتماسا. ثمّ المصرّح به في كلام غير واحد كون الغسل ترتيبا أفضل منه ارتماسا، ولعلّه لظاهر قوله، «أجزأه» الوارد في روايات الترتيب، بناء على أنّه يفيد كون مورده أقل مراتب الواجب، وعليه فدعوى الأفضليّة لا سترة عليها.

ثمّ إنّه بقى ممّا يتعلّق بكيفيّة الغسل مسألتان:
المسألة الاولى: ظاهر كلام الأصحاب من حيث عدم تعرّضهم لبيان الموالاة هنا عدم وجوبها ولا كونها شرطا في الغسل بكلا معنييها التتابع وعدم الجفاف،

بل هو المصرّح به في كلام جماعة من الأساطين بل عن جماعة دعوي الإجماع عليه، فالظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه عندهم لإطلاق مطلقات الروايات الآمرة بغسل الجسد أو الرأس [أ] و سائر الجسد فإنها مطلقة بالنسبة إلى جميع الجهات الخارجة عن ماهيّة الغسل حتى الترتيب والموالاة، غاية الأمر خروجها عن الإطلاق بالنسبة إلى الترتيب بدليل وجوبه، فتبقى بالنسبة إلى الباقي ومنه الموالاة على إطلاقها فهو الحجّة المحكمة، مضافا إلى خصوص طائفة من النصوص القاضية بذلك. كالصحيحة المتقدّمة في قضية امّ إسماعيل المتضمّنة لأمر الإمام عليه السلام الجارية بالتفريق في اغتسالها لجنابتها بغسل

ص: 799

الرأس أوّلا وتأخير غسل باقي الجسد إلى الإحرام، وخبر إبراهيم بن عمر - الموصوف بالحسن في كلام غير واحد - عن الصادق عليه السلام قال: «إنّ عليّا عليه السلام لم ير بأسا أن يغسل الجنب رأسه غدوة ويغسل سائر جسده عند الصلاة»(1) فأصل المسألة ممّا لا إشكال فيه إن شاء اللّه.

نعم ربّما تجب لعارض كما لو نذرها أو نذر الاغتسال مواليا فإنّه لا إشكال في انعقاده بناء على رجحانها واستحبابها كما صرّح به جماعة، وهو الأظهر لرجحان المسارعة والتعجيل إلى فعل الخير ولو باعتبار استقلال العقل به كما هو الظاهر. وهل يبطل الغسل بالمخالفة حينئذ؟ فيه إشكال وإن كان الأقرب في ظاهر النظر العدم، وممّا يجب الموالاة لعارض ما لو ضاق وقت الصلاة المشترطة بالطهارة فيجب الغسل مواليا حينئذ لوجوب مقدّمة الواجب المضيّق، وربّما يذكر منه ما لو خيف فجأة الحدث كما في السلس والمبطون بناء على بطلانه بعروض تخلّل الحدث الأصغر في الأثناء، وهذا موضع تأمّل لابتنائه على صدق إبطال العمل على نحو المفروض مع حرمة إبطال كلّ عمل حتّى نحو الوضوء والغسل، والمقدّمتان بكلتيهما موضع منع. ونحوه في التأمّل ما ذكر أيضا من خوف عروض الحدث الأكبر المبطل للماضي من أجزاء الغسل فإنّها تجب حينئذ محافظة على سلامة العمل عن الإبطال، وكونه إبطالا ممنوع كالمنع عن حرمة إبطال كلّ عمل.

المسألة الثانية: إذا كانت على بدن المغتسل ترتيبا أو ارتماسا نجاسة، ففي وجوب إزالتها واشتراط التطهير عنها قبل الشروع في الاغتسال وعدمه أقوال:
الأوّل: وجوب إزالها وكونها شرطا قبل الاغتسال

كما عن قواعد العلّامة وعزي أيضا إلى جماعة، بل عن الغنية الإجماع عليه(2) وعن أمالي الصدوق أنّه من دين الإمامية(3) وعن شرح المفاتيح للبهبهاني أنّه ظاهر الأصحاب(4).

الثاني: أنّ المعتبر إزالتها قبل غسل المحلّ ولو بعد الشروع في الاغتسال

كما عن

ص: 800


1- الوسائل 238:2 الباب 29 من أبواب الجنابة ح 3.
2- الغنية: 61.
3- الأمالي: 647.
4- لم نعثر عليه.

جماعة، منهم الشهيد والمحقّق الثاني في جامع المقاصد بانين على استحباب تقديم الإزالة على الاغتسال(1) وربّما نقل الإجماعات المنقولة المذكورة في هذا القول.

الثالث: أنّ المعتبر طهر المحلّ بعد غسله فيجوز الاكتفاء بغسلة واحدة لرفع الحدث والخبث معا،

نقل ذلك قولا، وقائله غير معلوم(2).

الرابع: ما عن العلّامة في نهاية الإحكام في تعداد سنن الغسل،

من قوله: «الرابع يغسل ما على جسده من الأذى والنجاسة ليصادف ماء الغسل محلّا طاهرا فيرفع الحدث ولو زالت النجاسة به طهر المحلّ قطعا، والأقرب حصول رفع الحدث أيضا إن كان في ماء كثير، ولو اخرى الماء القليل عليه فإن كان في آخر العضو فكذلك وإلّا فالوجه عدمه لانفعاله بالنجاسة»(3).

الخامس: ما عن الشيخ في المبسوط من قوله: «وإن كان على بدنه نجاسة أزالها ثمّ اغتسل،

وإن خالف واغتسل أوّلا ارتفع حدث الجنابة وعليه أن يزيل النجاسة إن كانت لم تزل بالغسل، وإن زالت بالاغتسال فقد أجزأه عن غسلها»(4) انتهى.

وهذا يدلّ على أنّ إزالة النجاسة قبل الاغتسال وإن كانت واجبة إلّا أنّها ليست واجبا غيريّا، وعلى أنّ طهارة المحلّ ليست شرطا في الغسل، وعلى أنّ الغسل الواحد يجزئ لرفع الحدث والخبث معا، وعلى أنّه لو لم تزل النجاسة الخبثيّة بغسل واحد ارتفع حدثه ووجب عليه بعد الغسل إزالة الخبثية.

لكن قيّد ذلك في كلام غير واحد بما إذا لم يكن للنجاسة عين مانعة من وصول الماء إلى البشرة، كما لو كانت النجاسة حكميّة مثلا، واعتبر في التطهير عنها التعدّد كالبول لوجوب إيصال الماء إلى البشرة.

فمرجع الأقوال إلى أنّ طهر البدن قبل الشروع في الغسل هل هو شرط في صحّة الغسل أو لا؟ وعلى الثاني فهل يكون طهر المحلّ قبل غسل المحلّ شرطا أو لا؟ وعلى الثاني هل يكون طهره بعد غسل المحلّ شرطا أو لا؟ ومرجعه دنّ بقاء النجاسة في

ص: 801


1- الدروس 97:1، جامع المقاصد 28:1.
2- ربما يستفاد من كلام شارح الدروس الميل إليه، مشارق الشموس: 182.
3- نهاية الإحكام 109:1.
4- المبسوط 29:1.

المحلّ هل هو مانع عن صحّة الغسل أو لا؟ وأمّا الأدلّة الموجودة في المسألة ممّا يساعد على قول المبسوط أو على قول القواعد أو على غيرهما فامور:

منها: الأصل المعبّر عنه بأصالة البراءة النافية لشرطيّة شيء أو مانعيته في العبادة.

وهذا كما ترى يساعد على قول المبسوط.

لا يقال: إنّ هذا الأصل لكونه نافيا لحكم شرعي وهو الشرطيّة أو المانعية أصل حكمي، ومن المقرّر أنّ الحكمي إنما يجري ويتّبع إذا لم يكن هناك أصل موضوعي محرز للموضوع، واستصحاب الحدث أصل موضوعي لأنّ مفاده كون هذا الرجل جنبا وحينئذ يجب عليه الاغتسال على وجه أوجب القطع بارتفاع حدث الجنابة، لأنّ إعمال [الأصل] الموضوعي دون الحكمي إنّما هو لوروده عليه، وإنّما يرد عليه إذا كان شكه سببيّا بأن يكون الشك الموجود مع الأصل الحكمي مسبّبا عن الشك الموجود في الأصل الموضوعي، والأمر هاهنا بالعكس لوضوح أنّ الشك في بقاء حدث الجنابة وارتفاعه مسبّب عن الشك في شرطيّه الطهر ومانعيّة النجاسة، وعليه فيكون الأصل الحكمي واردا على الاستصحاب لارتفاع الشك المسبّب بارتفاع الشك الذي هو سبب، فجريان هذا الأصل في جانب قول الشيخ ممّا لا سترة عليه.

منها: إطلاق الغسل في النصوص الآمرة يغسل الجسد أو بغسل الرأس وسائر الجسد فإنه يشمل طهر المحلّ قبل الاغتسال وقبل غسل المحلّ وبعد غسله ونجاسة البدن الباقية بعد الغسل، وهذا أيضا إن تمّ لكان في جانب قول الشيخ، لكن يزيّفه: أنّ الإطلاق حيثما ينهض بيانا حكم عقلي لئلّا يلزم تأخير البيان المستلزم للإغراء بالجهل، والعقل إنما يحكم به إذا لم يسبق المطلق ما يصلح لتعويل المتكلّم عليه في إفادة إرادة المقيد، والمفروض أنّ الإطلاق المذكور مسبوق بالأمر بغسل الفرج كما في أكثر النصوص الآمرة بغسل الجسد، وبالأمر بغسله بعد الأمر بغسل ما أصاب الجسد من الأذى كما في بعضها، فلعلّ الإمام عليه السلام أراد المقيّد وهو الغسل المقّيّد بسبق طهارة البدن على الاغتسال أو على غسل المحلّ تعويلا على ما أسبقه من الأمر بغسل الفرج وغسل الجسد عن الأذى، فالعقل في نحو ذلك متوقف عن الحكم بإرادة الإطلاق لعدم لزوم الإغراء بالجهل على التقدير المذكور.

ص: 802

ومنها: ما ورد في نصوص الباب من الأمر بغسل الفرج كما في أكثرها، وبغسل ما أصاب البدن من الأذي الّذي هو عبارة عن النجاسة المنويّة أو مطلق النجاسة مع الأمر يغسل الفرج. كما في صحيحة حكم بن حكيم(1) فإنّه ظاهر في الوجوب الظاهر هنا بحكم السياق - الّذي هو سياق بيان كيفيّة الغسل - في الغيري المفيد لشرطيّة الطهر قبل الاغتسال أو قبل غسل المحلّ ، [أ] و مانعيّة النجاسة الموجودة في الجسد بحكم السياق من حيث تعرّضه لبيان كيفيّه الغسل، أو ظاهر في الإرشاد إلى الشرطيّة والمانعيّة على ما قرر في محلّه، من أنّ الاوامر الواردة في بيان العبادات ظاهرة بحكم السياق في الإرشاد كما هو الحال في النواهي الواردة فيها من حيث ظهورها في الإرشاد إلى المانعيّة، ولا يقدح اختصاص الأمر بغسل الفرج في أكثر النصوص لأنّه ليس قصرا للحكم على ذلك، بل إنما هو لأنّ الغالب ممّا يحصل فيه النجاسة من بدن الجنب من حيث كونه جنبا إنّما هو فرجه، فالمناط اعتبار تطهير البدن عن النجاسة ولو كانت في غير الفرج، وهذا الوجه كما ترى يساعد على القول الأوّل.

والمناقشة في هذه الأوامر بورودها في قرن المستحبّات كغسل اليدين والمضمضة والاستنشاق فيكون ذلك صارفا للأمر بغسل الفرج ونحوه عن ظهور. في الوجوب كما في كلام جماعة، يدفعها: أنّه لو صحّ ذلك لوجب حمل الأمر بغسل الرأس وسائر الجسد أيضا على الاستحباب لوروده أيضا في قرن المستحبّات، مع أنّهم لا يرضون بذلك بل لا يقول به أحد.

والحلّ أنّ الأمر بنفسه ظاهر في الوجوب بحكم أصالة الحقيقة، فمقتضى هذا الأصل حمل جميع الأوامر الواردة في بيان الكيفيّة على الوجوب حتى الأمر بغسل اليدين والأمر بالمضمضة والأمر بالاستنشاق، غاية الأمر خرجنا عن الأصل في هذه الثلاث لأجل القرينة وهو الإجماع أو النصّ القاضي بعدم وجوب هذه الأمور وعدم كونها من شروط الصحّة، ولا يلزم من ذلك الخروج عنه في غيرها إلّا مع قيام قرينة بالنسبة إليه أيضا من نصّ أو اجماع، فلذا لا يخرج عنه في غسل الجسد ولا في غسل

ص: 803


1- الوسائل 230:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 7.

الرأس وسائر الجسد.

وبالجملة إذا ورد في الخطاب لفظ متكرّر وحصل قرينة على التجوّز في بعضها لا يلزم من ذلك الالتزام بالتجوّز في البعض البافي بل لا يجوز التزامه، وكما أن الأمر بغسل الجسد محمول على الوجوب من حيث انتفاء القرينة على التجوّز فكذلك الأمر بغسل الفرج وغسل الأذى من الجسد، لفرض انتفاء القرينة عليه من نصّ أو إجماع.

ومن هنا علم فساد ما في كلام غير واحد من ورود هذا الأمر في سياق المستحبّات فيكون محمولا على الاستحباب، فإنّ سياق المستحبّ هاهنا ممّا لا معنى له بل السياق سياق بيان كيفيّة الغسل، غاية الأمر أنّ من الكيفيّة ما هو مستحبّ لقرينة دلّت على استحباب الأمر الوارد به، ومنه ما هو واجب لظهور الأمر به في الوجوب ومنه الأمر يغسل الفرج وما في الجسد من الأذى لفقد ما يدلّ على كونه للاستحباب.

ومنها: ما عن المحقّق الثاني من الاستدلال على وجوب الإزالة أوّلا ثمّ الاغتسال ثانيا «بأنهما سببان فوجب تعدّد حكمهما لأنّ التداخل خلاف الأصل، ولأنّ ماء الغسل لابدّ أن يقع على محلّ طاهر وإلّا لأجزأ الغسل مع بقاء عين النجاسة، ولانفعال الماء القليل، وماء الطهارة يشترط أن يكون طاهرا إجماعا»(1).

وضعف جميع هذه الوجوه غير خفيّ على المتأمّل.

أمّا الوجه الأوّل فأوّل ما يرد عليه: انّه لا يقضي باشتراط إزالة النجاسة على غسل المحلّ فضلا عن تقديمها على الشروع في الغسل كما لا يخفي. وثاني ما يرد عليه: أنّ أصالة عدم التداخل وإن كانت مسلّمة غير أنّها مخصوصة بغير ما يتداخل قهرا ولا تجري في موارد التداخل القهري كما في الوضوء، والتداخل بالنسبة إلى إزالة النجاسة على القول بكفاية الغسلة الواحدة عنها وعن رفع الحدث قهري، لما علم بالأدلّة الشرعيّة من كون وجوب الإزالة توصليّا، فيكفي في سقوطه حصولها بأيّ وجه اتّفق من فعل المكلّف نفسه عن شعور أو لا عن شعور وفعل غيره وإصابة المطر ونحوه مع تحقّق ما اعتبر شرعا في زوالها، وحينئذ فللقائل بكفاية الغسلة أن يعتبر الإتيان

ص: 804


1- جامع المقاعد 279:1.

بغسل المحلّ المنويّ به رفع الحديث، فإذا استتبع ذلك زوال النجاسة لزمه سقوط الأمر بالإزالة لعلّا يلزم من بقائه طلب الحاصل.

وأمّا الثاني: فلأنّ دعوي لا بدّية وقوع ماء الغسل على محلّ طاهر عين مدّعى المستدلّ ، فيكون الاستناد إليه مصادرة وما ذكره سندا لذلك من لزوم إجزاء الغسل مع بقاء عين النجاسة، يدفعه: منع الملازمة على تقدير، ومنع بطلان اللازم على، آخر، إذ لو اريد بعين النجاسة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة فالملازمة ممنوعة، إذ حيثية منع الوصول حيثيّة اخرى لا مدخل لها في عنوان المسألة، لأنّا نتكلّم في مانعيّة النجاسة من حيث هي واشتراط زوالها في صحّة الغسل، وهذه الحيثيّة لا تلازم منع الوصول كما لا يخفى، فيفرض الكلام في نجاسة ليس لها عين مانعة ونقول بكفاية غسل محلّها عن غسل الغسل وإن بقيت النجاسة بعد الغسل، كما لو كانت بولا يجب في إزالته التعدّد، ولو أريد بها ما لا يمنع الوصول فبطلان اللازم ممنوع، لأنّ الخصم قائل بموجبه ولا يراه باطلا. فدعوى البطلان من المستدلّ حينئذ إعادة لأصل المطلب.

وأمّا الثالث فأوّل ما يرد عليه: أنّ الدليل أخصّ من المدّعى، فإنّ موضوع المسألة ليس ما ينفعل قليله بملاقاة النجاسة فضلا عن القليل منه، بل أعمّ منه ومن غيره. وثاني ما يرد عليه: أنّه خلط في معقد الإجماع على اشتراط طهارة الماء المستعمل في الغسل بين سبق طهارة الماء على الاستعمال وبقائه على وصف الطهارة بعد الاستعمال، والمعلوم بما ثبت الإجماع على اشتراطه في الغسل هو الأوّل دون الثاني لأنه عين المتنازع فيه، والإجماع في محلّ النزاع غير معقول، فلا يبقى من وجوه مدارك المسألة إلّا الأصل والإجماعات المنقولة وما تقدّم من الأوامر القاضية بوجوب إزالة النجاسة وكونها شرطا، ولا ريب أنّ الأصل إنّما يستند إليه على تقدير فقد الأخيرين، وقد عرفت أنّ دلالتها على الوجوب والاشتراط ناهضة فيسقط بها الأصل.

نعم يبقى الإشكال في تطبيق هذين الوجهين على أيّ من القولين الأوّلين، إلّا أنّ ظاهر الترتيب الذكري وتقديم الأمر بإزالة النجاسة في الذكر على الآمر بغسل الرأس وسائر ونحوه يقضي باشتراط تقديم الإزالة على أصل الغسل والمشروع فيه، ولا سيما بعد ملاحظة عطف غسل الرأس ونحوه بكلمة «ثمّ » لكن كون ذلك دلالة على

ص: 805

الاشتراط موجبة للاطمئنان به مشكل، لقوّة احتمال كون الغرض الأصلي إفادة اشتراط أصل الإزالة، وتقديمها على الاغتسال إرشاد للمكلّف إلى ما هو الأسهل له في اغتساله، وهو إزالة النجاسة اللازم إزالتها أوّلا ثمّ الشروع في الاغتسال على وجه السهولة بالفراغ عن إحراز كلّ ما يعتبر إحرازه في صحّته، ويمكن أن يكون إرشادا إلى التحفّظ عن الوقوع في الوسواس كما ربّما يتّفق لو أراد الإزالة في الأثناء مع كون الماء المعدّ للغسل قليلا ينفعل بملاقاة النجس والمتنجّس كما لا يخفى على المتأمّل، فالقدر المتيقّن من مورد النصّ اعتبار إحراز الطهر قبل غسل محلّ النجاسة.

وأمّا تقديم ذلك على الشروع في الغسل فينفي احتمال اشتراطه بالأصل. وأمّا الإجماعات المنقولة فمع إمكان الاسترابة فيها بملاحظة الخلاف العظيم في المسألة قد غرفت الاختلاف في معقدها، فالقدر المتيقّن من معقدها الإزالة قبل غسل المحلّ ويكون المرجع في غيره الأصل، فالمتّجه حينئذ هو القول الثاني، فلو قدّمها على الشروع كان أفضل بل أحوط خروجا عن احتمال مخالفة النصّ والإجماع.

المقام الثاني: في مسنوناته وهي أمور:
أوّلها: الاستبراء بالبول إن تيسّر وإلّا فبالاجتهاد للرجل المنزل بل المرأة المنزلة،
فهاهنا دعويان.
الأولى: أنّ الاستبراء قبل الغسل ليس بواجب

كما عن المرتضى والحلّي(1) وربّما عزي إلى ابني حمزة والبرّاج والحلبي(2) وعليه العلّامة في أكثر كتبه(3) والمحقّق في المعتبر والشرائع(4) وعامّة من تأخّر وعن التذكرة أنّه مذهب أكثر علمائنا(5) وفي كلام جماعة حكاية الشهرة بين المتأخّرين فيه، خلافا لما عليه أكثر القدماء من وجوبه، بل في محكي الذكرى نسبته القول به إلى معظم الأصحاب(6).

لكن عباراتهم من حيث الموضوع مختلفة على وجه يظهر منه الاختلاف في

ص: 806


1- نقل عنه في المعتبر 134:1، السرائر 118:1.
2- الوسيلة: 55، المهذب 45:1، الكافي في الفقه: 133.
3- التذكرة 232:1، 1 لقواعد 209:1.
4- المعتبر 185:1، الشرائع 25:1.
5- التذكرة 233:1.
6- الذكرى 230:2.

المذهب من حيث إنّها بين التعبير بإلزام مريد الغسل الاستبراء وإيجاب البول وإيجابه إن تيسّر وإلّا فالاجتهاد كما عن المقنعة والوسيلة والجامع(1) وإيجابهما كما عن المراسم والجعفي مع الاكتفاء بالاجتهاد إن تعذّر البول كما عن المراسم، والتخيير بينهما كما عن المبسوط والغنية(2) وعن الغنية الإجماع عليه، وربّما حمل الوجوب في كلامهم كما عن كشف اللثام(3) على إرادة الوجوب الشرطي وهو وجوبه بمعنى كونه شرطا لعدم انتقاض الغسل وعدم لزوم إعادته بخروج البلل، وعليه فلا نزاع بحيث يكون معنويا، وربّما يرشد إليه ما سيأتي من الاستدلال عليه بأدلّة إعادة الغسل بخروج البلل.

وعلى تقدير كون مرادهم الوجوب الشرعي فظاهر كلماتهم الوجوب النفسي الاستقلالي، لا الغيري التوصّلي ليكون الاستبراء معتبرا في صحّة الغسل بل لم نقف على قائل ولا حكاية قول باعتباره في الصحّة.

وكيف كان فالأقوى عدم الوجوب لا لنفسه ولا لغير [ه] للأصل النافي لاستحقاق العقاب بتركه وكونه معتبرا في صحّة الغسل على وجه الشرطية واستدلّ أيضا بخلوّ أكثر الأخبار البيانيّة عن الأمر به مع تكفّلها لبيان مستحبّات الغسل وواجباته.

ويمكن المناقشة فيه بعدم نهوضه لنفي الوجوب الاستقلالي من حيث إنّها وردت في سياق بيان كيفيّة الغسل ولو مستحبّة، وهو على القول بالوجوب ليس من الكيفيّة.

وبالاخبار(4) الآمرة لتارك الاستبراء بإعادة الغسل معلّقة على خروج البلل، فإنّ تعليق الأمر على خروج البلل يدلّ على صحّة الغسل من غير خروج كما لا يخفى.

ويزيفه: نظير ما سبق من أنّه ينفي الوجوب الغيري المستلزم لشرطيّته في الصحّة لا الوجوب الاستقلالي، فإنّ تركه حينئذ لا ينافي صحّة الغسل، غاية الأمر أنّه يوجب عصيانا واستحقاقا للعقاب.

ويمكن تقرير الاستدلال بها من حيث كشفها عن تقرير المعصومين عليهما السلام لرواتها على كونهم تاركين للاستبراء قبل الاغتسال كما اعترفوا به في أسئلتها، فإنه لو كان

ص: 807


1- المقنعة: 52، الوسيلة: 55، الجامع للشرائع: 39.
2- المبسوط 29:1، الغنية: 61.
3- كشف اللثام 26:2.
4- عطف على قوله: «واستدلّ أيضا بخلّو الخ».

واجبا كان تركه تركا للواجب، والتقرير عليه وعدم النكير عليهم لا يناسب شأنهم عليهما السلام سيّما مع ملاحظة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

واستدلّ أيضا بما في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام من قوله عليه السلام:

«من اغتسل وهو جنب قبل أن يبول ثمّ وجد بللا فقد انتقض غسله، وإن كان بال ثمّ اغتسل ثمّ وجد بللا فليس ينقض غسله ولكن عليه الوضوء لأنّ البول لم يدع شيئا»(1)وفيه: أيضا نظير ما مرّ من أنّه لا ينفي إلّا الوجوب الغيري المتضمّن للشرطيّة، فالعمدة هو الأصل ثمّ التقرير المستفاد من أخبار إعادة الغسل.

حجّة القول بالوجوب: بما دلّ من الأخبار على إعادة الغسل مع الإخلال به على تقدير خروج البلل المشتبه، وضعفه غير خفيّ من حيث سكوته عن إفادة الوجوب الشرعي، نعم إنما يفيد الوجوب الشرطي بالمعنى المتقدّم، ولعلّه المقصود من الاستدلال فينهض ذلك شاهد بما تقدّم من التأويل في كلام الموجبين.

وعن الشهيد في الذكرى الاستناد إلى وجوه ثلاث حيث قال: «ولا بأس بالوجوب محافظة على الغسل عن طروّ مزيله، ومصيرا إلى قول معظم الأصحاب، وأخذا بالاحتياط»(2).

وضعف هذه الوجوه أيضا أظهر من أن يظهر، فإنّ وجوب المحافظة على الغسل عن طروّ ما يزيله وينقضه أوّل المسألة، حيث لم يقم عليه دليل فيتطرّق المنع حينئذ إلى وجوب الاستبراء المبنيّ على كونه مقدّمة للمحافظة. والمصير إلى قول المعظم لابدّ له من مستند دلّ على الوجوب وليس. وأخذ الشهرة مستندا له يدفعه أوّلا: تطرّق المنع إلى تحقّق أصل الشهرة لو أريد بها الشهرة القدمائيّة، لجواز كون مراد المعظم من الوجوب هو الوجوب الشرطي كما عرفت احتماله في كلامهم فلا شهرة حينئذ في الوجوب الشرعي. وثانيا: تطرّق المنع إلى اعتبار هذه الشهرة، فإنّها إنّما تعتبر حيث تعتبر إذا أفادت الظنّ الاطمئناني ومخالفة الشهرة بين المتأخرين مانعة عن كونها بهذه المثابة. والاحتياط في نحو المقام ليس بواجب لكونه باعتبار الشك في التكليف من

ص: 808


1- الوسائل 251:2 الباب 36 من أبواب الجنابة ح 7.
2- الذكرى 230:2.

مجاري أصل البراءة.

واستدلّ أيضا بخبر أحمد بن هلال قال: «سألته عن رجل اغتسل قبل أن يبول ؟

فكتب: أنّ الغسل بعد البول إلّا أن يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل»(1) وفيه: ضعف الخبر بغلوّ الراوي وإرساله وكونه مكاتبة فلا يصلح مستندا لحكم مخالف للأصل.

وتوهّم انجباره بالإجماع المنقول كما عن الغنية(2) يدفعه: أنّ منقول الإجماع - مع أنّه في خصوص المقام مستراب فيه لمكان الخلاف العظيم - لا يصلح جابرا لضعف الخبر ما لم يعلم باستناد المجمعين. ومنه يعلم ضعف توهّم الانجبار بالشهرة القدمائية، فإنّ أصل الشهرة على ما بيّنّاه غير معلوم التحقّق، وعلى فرض تحققها فهي إنما تنهض جابرة إذا كانت استناديّة والشرط ليس بثابت، فلا يحصل بها ظن الاعتبار.

واستدلّ أيضا بصحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن غسل الجنابة ؟ قال: تغسل يدك من المرفقين إلى أصابعك، وتبول إن قدرت على البول ثمّ تدخل يدك الإنماء»(3) ونوقش من حيث الدلالة بورود الحكم بعبارة الجملة الخبريّة الممنوع ظهورها في الوجوب، وبورود الأمر به في سياق المستحبّات.

ولا يخفى ضعف الكلّ ، والّذي يسهّل الأمر في سقوط ذلك أيضا عن صلوح الدليلية إعراض معظم المتأخرين عنه، فإنّه إن لم يكشف عن عثورهم على قرينة إرادة الاستحباب فلا أقلّ من نهوضه موهنا لظهوره في الوجوب، ولا يزاحمه شهرة القدماء إنّ سلّمنا تحقّقها لأنّها إن صحّ استنادها إلى هذه الرواية لكانت مستندة إلى الظهور، وشهرة المتأخرين مستندة إلى قرينة خلاف الظاهر، فيمكن ترجيحهما بمقايسة أصل القرينة المترجّحة على الظهور ولو من جهة أصالة الحقيقة.

وبالجملة فالأصل ممّا لم يثبت ما يوجب الخروج عنه على وجه يوجب الاطمئنان، فالمتعيّن هو العمل به، وإن كان الأحوط هو مراعاة الاستبراء خروجا عن شبهة مخالفة النصّ هذا كلّه في الدعوى الاولى وهو نفي الوجوب.

ص: 809


1- الوسائل 252:2 الباب 36 من أبواب الجنابة ح 12.
2- الغنية: 61.
3- الوسائل 230:2 الباب 26 من أبواب الجنابة ح 6.
وأمّا الثانية: ففي إثبات الاستحباب،

ويكفي فيه الشهرة بين المتأخّرين ولو باعتبار قاعدة المسامحة في أدلّة السنن، وبعدها الصحيحة المتقدّمة فإنّها قاصرة عن إفادة الوجوب دون الرجحان لكونه القدر المتيقّن، ولا ريب أنّ أقلّ مراتبه الّذي هو القدير المقطوع به هو الاستحباب فتأمّل، هذا مع رجحان الاحتياط لنفسه الغير البالغ حدّ الوجوب. مضافا إلى خصوص النبويّ . «من ترك البول على أثر الجنابة أو شك تردّد بقية الماء في بدنه فيورثه الداء الّذي لا دواء له»(1) وهذه الرواية في إفادة الاستحباب بالنظر إلى قاعدة التسامح لا يقصر عن الصحيحة المذكورة، هذا كلّه في الاستبراء بالبول.

وأمّا الاستبراء بالاجتهاد على تقدير تعذّر البول فلم نقف على وجه يعتد عليه من نصّ وغيره يدلّ على استحبابه، إلّا ما يمكن أن يقال: من أنّ الغرض من شرع الاستبراء بالبول على ما استفيد من أدلّته إنما هو تفريغ المجرى عن بقايا البول، فإذا تعذّر البول قام الاجتهاد مقامه بدلا عنه لأنه أيضا يفيد هذه الفائدة. ويشكل بأنّه لو صحّ بدلا لقام مقام مبدله في إفادة سقوط الإعادة بخروج البلل، والتالي باطل على ما ستعرفه من عدم إفادته سقوط الإعادة.

إلّا أن يقال: إنّ الحكمة الباعثة على شرع الاستبراء بالبول إنّما هو التفريغ لا لفائدة حفظ الغسل عن الانتقاض بل لفائدة أخرى مقصودة بالأصالة، وهو التحرّز عن الداء الذي يورثه بقايا المنيّ في المجرى كما يرشد إليه النبويّ . نعم يترتّب عليه فائدة عدم انتقاض الغسل من باب الفوائد الغير المقصودة بالأصالة من شرع الاستبراء بالبول، ومع ذلك ففتوى جماعة من الأصحاب بل أكثرهم مع ملاحظة حسن الاحتياط في نحو المقام كافيان في الالتزام به إن شاء الله تعالى، هذا كلّه فيما لو كان الجنب المنزل ذكرا.

فأمّا المرأة المنزلة فالشهور بين الاصحاب على ما حكاه جماعة أنّه لا استبراء في حقّها لعدم ترتّب فائدة على استبرائها، من حيث إنّ البلل المشتبه إذا خرجت منها لا توجب إعادة الغسل عليها، وقد يعلّل باختلاف مخرجيها، وجماعة على استحبابه لها أيضا.

ص: 810


1- الفقيه 83:1.

واختلفوا فيما هو وظيفتها من الاستبراء فمنهم من عيّن لها البول، ومنهم من عيّن لها الاجتهاد بالعصر عرضا، ومنهم من جعلها كالذكر في الاستبراء بالبول ومع تعذره بالاجتهاد. والأرجح في النظر القاصر استحباب لها بالبول عملا بالصحيحة الآمرة به، واختصاصها بالذكر من حيث الخطاب غير قادح في عموم الحكم عملا بأصالة الاشتراك، كيف ولولا ذلك لزم اختصاص جميع أحكام الغسل به لاختصاص النصوص الواردة لها من حيث الخطاب به، وأمّا الاجتهاد مع تعذّر البول فلا نجد وجها لاستحبابه لها إلّا إذا احتمل كونه راجحا في نظر الشارع مطلوبا، أو أفاد فراغ المجري عن نقاء الماء، أو يكتفي بفتوي من صرّح باستحبابه فالقول باستحبابه أيضا لا يخلو عن قوّة.

وهل يجري الحكم في محتمل الإنزال تعيّن عليه الغسل - كما لو أجنب بغيبوته الحشفة من غير إنزال مع احتماله - أو استحبّ كما لو رأي في المنام أنّه احتلم فلمّا استيقظ لم يجد شيئا من آثار الاحتلام، ولم نقف على من اعتبر له الاستبراء إلّا غير واحد من متأخري المتأخرين، واحتمله الشهيد في الذكرى احتياطا، والمقام لا يخلو عن تأمّل إلّا على تقدير التسامح في الاكتفاء بفتوى البعض 0 أو مطلق احتمال الرجحان إن كان قائما.

ثمّ إنّ الجنب إذا اغتسل فخرج عنه البلل فإن علمه منيّا أو بولا أو غيرهما لحقه أحكام هذه الثلاث، فيغتسل في الأوّل بحكم الإجماع وما دلّ على إيجاب خروج المنيّ الغسل، ويتوضّأ في الثاني بحكم الإجماع وما دلّ على إيجاب البول الوضوء، ولا شيء عليه من غسل ولا وضوء في الثالث بحكم الإجماع وما دل على عدم ناقضيّة نحو المذي والوذي. وإن اشتبه وكان الاشتباه بين المنيّ والبول أو هما مع شيء ثالث كالمذي مثلا، فلا يخلو إمّا أن يكون قبل الغسل قد بال واستبرأ منه بالاجتهاد، أو لم يبل ولم يستبرئ، أو بال ولم يستبرئ أو استبرأ ولم يبل مع إمكانه أو عدم إمكانه، فهذه صور خمس. أمّا الصورة الأولى(1).

ص: 811


1- هنا جفّ قلمه الشريف عن بيان حكم الصور الخمس، وكانت النسخة بعد قوله: «أمّا الصورة الاولى» بياضا.

المبحث الثالث: في أحكام الجنابة، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: يحرم على الجنب قراءة العزائم بالإجماع البالغ نقله فوق حدّ الاستفاضة،

والنصوص به مع ذلك مستفيضة، ففي صحيحة زرارة المنقولة عن كتاب العلل عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: قلت له: «الحائض والجنب هل يقرآن من القرآن شيئا؟ قال: نعم ما شاءا إلّا السجدة ويذكران الله على كلّ حال»(1) وموثقة زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: «الحائض والجنب يقرآن شيئا؟ قال:

نعم ما شاء إلّا السجدة»(2) وحسنة محمّد بن مسلم قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب، ويقرآن من القرآن ما شاءا إلّا السجدة»(3)والمرويّ في محكيّ المعتبر عن جامع البزنطي حيث قال: «يجوز للحائض والجنب أن يقرأ ما شاءا من القرآن إلّا سور العزائم الأربع وهي اقرء والنجم وتنزيل السجدة وحم السجدة، روى ذلك البزنطي في جامعه عن المثنى عن الحسن الصيقل عن أبي عبدالله وهو مذهب فقهائنا أجمع»(4) انتهى. وكيف كان فلا إشكال في حكم المسألة.

نعم ربّما يشكل الحال في موضوع المسألة من حيث إنّه خصوص آية السجدة كما جوّزه الفاضل في كشف اللثام على ما حكي قائلا: «يجوز اختصاص الحرمة بآية السجدة»(5) أو يعمّها وغيرها من سائر أبعاض السورة حتّى البسملة بل لفظ «بسم» إذا نواها منها كما صرّح به في الشرائع(6) وتبعه غيره ممّن تأخّر عنه، وفي مفتاح الكرامة «يعطيه كلام المقنعة والنهاية والتهذيب»(7) وصرّح به الروضة أيضا(8) وعزي إلى المنتهى والقواعد والإرشاد والذكرى والدروس والروض(9) وعن الكفاية والذخيرة «أنّ

ص: 812


1- الوسائل 216:2 الباب 19 من أبواب الجنابة ح 4، في العلل أيضا زرارة ومحمد بن مسلم، فلا يكونان روايتان بل رواية واحدة.
2- الوسائل 216:2 الباب 19 من أبواب الجنابة ح 4.
3- الوسائل 217:2 الباب 19 من أبواب الجنابة ح 7.
4- المعتبر 186:1.
5- كشف اللثام 32:2.
6- الشرائع 11:1.
7- مفتاح الكرامة 54:1، المقنعة: 52، النهاية 229:1، التهذيب 128:1.
8- الروضة 92:1.
9- المنتهى 215:2، القواعد 210:1، الإرشاد 225:1، الذكرى 268:1 و 277، الدروس 16:1، روض الجنان 145:1.

الحكم في السور مشهور»(1) بل عن الذكرى والروض الإجماع عليه، بل عن الروض الإجماع على البسملة إذا نواها منها بل على لفظ «بسم» أيضا.

أقول: إن اريد استفادة هذا التعميم من معقد الفتاوي والإجماعات المنقولة، ففيه:

أنّه ليس إلّا قراءة العزائم. وأقصى ما يمكن تسليمه في العزائم هو أنّ المراد بالعزيمة نفس السورة لا خصوص آية السجدة، كما عزي إلى المقنعة والمراسم والسرائر والخلاف ونهاية الإحكام ومجمع الفوائد(2) ويستفاد من المحكيّ في باب الصلاة من الفقيه والهداية والغنية والانتصار(3) لاتّفاقها على عبارة واحدة وهي هذه «إلّا العزائم التي يسجد فيها وهي سجدة لقمان وحم السجدة والنجم وسورة اقرأ» أو انها بحسب الشرع أو في عرف المتشرّعة اسم للسورة كما يستفاد من كلماتهم في باب الصلاة ومن الأخبار الواردة ثمّة.

لكن هذا لا يجدي نفعا في التعميم المذكور، لقضائه يكون الحكم المجمع عليه معلّقا على المجموع لكون اللفظ على التقدير المذكور اسما للمجموع، وظاهر أنّ الحكم المعلّق على المجموع لا يتناول أبعاض ذلك المجموع، إلّا أن يقال: يكون هذا اللفظ بعد تسليم عدم اختصاصه بآية السجدة كلفظ القرآن اسم للقدر المشترك بين المجموع وأبعاضه، فيكون الحكم معلّقا على القدر المشترك، ويلزم منه شموله لجميع أفراده الّتي منها كلّ بعض، وهو مشكل من حيث عدم شهادة أمارة بذلك.

وإن اريد استفادته من العنوان الوارد في الأخبار، ففيه: أنّه ليس إلّا لفظ «السجدة» كما عرفت، وغاية ما يمكن تسليمه في هذه اللفظة أيضا كون المراد بها نفس السورة لا خصوص الآية كما عزي فهمه إلى الأصحاب. أو أنّها بحسب الشرع أو عند المتشرّعة اسم للسورة كما يرشد إليه التعبير عن السور بأشهر الفاظها كالبقرة وآل عمران والأنعام والرحمن والواقعة ونحوها، وهذا أيضا لا يفيد إلّا نفي اختصاص الحكم بالآية وأمّا عمومه لها ولكلّ بعض فلا إلّا على تقدير فرضه اسما للقدر

ص: 813


1- كفاية الأحكام: 3، الذخيرة: 52.
2- نقل عنهم في مفتاح الكرامة 55:1.
3- الفقيه 86:1، الهداية: 20، الغنية: 78، الانتصار: 121.

المشترك، وهو أيضا مشكل لما عرفت.

ولكنّ الّذي يسهّل الخطب ويهوّن الأمر هو أنّ عموم الحكم مشهور يحكى فيه الشهرة ومنقول عليه الإجماع عن غير واحد كما عرفت، وربّما يمكن استفادة الإجماع المركب منهم من حيث إنّ الحكم مردّد بين الخصوص والعموم لما عرفت من الاختلاف فيه من هذه الجهة، وأمّا كونه متعلّقا بمجموع السورة من حيث المجموع فلا يظهر قائل به من الأصحاب فيكون منفيّا باتّفاق الفريقين، فهذا كلّه يوجب الاطمئنان بالتعميم إمّا لكونه كاشفا عن كون لفظي «العزيمة» و «السجدة» اسما للقدر الجامع، أو عن إرادة ما يعمّ المجموع والإبعاض ولو من باب عموم المجاز، وعليه فلا ينبغي الإشكال والتأمّل في عموم الحكم بالنسبة إلى كلّ بعض، لكنّه إذا كان بعضا مشتركا فيتبع جريان الحكم فيه قصد القارئ، وأمّا البعض المختصّ فيحرم قراءته وإن لم يقصد بقراءته عنوان الجزئيّة، فلا إشكال في المسألة بحمد الله سبحانه.

المسألة الثانية: يحرم عليه مسّ كتابة القرآن

بإجماع علماء الإسلام المستفيض نقله مع استثناء داود من العامّه على ما عن تذكرة العلّامة(1) والأصل فيه بعد الآية الكريمة فحوى ما دلّ على حرمة مسّها على المحدث بالأصغر، وقد مرّ الكلام فيما يتعلّق بهذا العنوان موضوعا ودليلا وفروعا في مباحث غايات الوضوء والغسل مستوفي على وجه لا نحتاج هنا إلى الإعادة.

المسألة الثالثة: يحرم عليه مسّ اسم اللّه سبحانه في دينار أو درهم أو غيرهما،

والكلام فيه أيضا وفي أقواله ودليل الحرمة ومعارضاته قد تقدّم مستوفي في مباحث غايات الغسل فراجع وتأمّل. نعم يبقى الكلام هاهنا في بعض فروع هذا العنوان ممّا لم نتعرّض له ثمّة، وهو أنّ الحكم هل هو مقصور على لفظ الجلالة بناء على كون إضافة الاسم إليها في عناوين المسألة وفتاوي الأصحاب وما ورد فيها من النصّ بيانيّة أو يعمّها وكلّ اسم له تعالى ممّا هو علم لذاته وما هو بمنزلته كالرحمن، وما يدلّ على صفة من صفاته كالرحيم ونحوه، بناء على كون الإضافة المذكورة لاميّة مبنيّة على كون

ص: 814


1- التذكرة 238:1.

المراد من لفظ «الله» في هذه الإضافة معناه أو يعمّها وما يجري مجراها في الاختصاص به بكونه علما له تعالى ولو بالغلبة كلفظ الرحمن وجوه ؟

عزي المصير إلى أوّلها إلى الموجز الحاوي(1) ونسب ثانيها إلى ظاهر عبارة جماعة كالغنية والوسيلة والجامع ففي الأوّل على ما حكي: «واسم من اسماء الله تعالى»(2) وفي الثاني: «في كلّ كتابة معظّمة من اسماء اللّه»(3) وفي الثالث: «كلّ كتابة فيها من أسماء اللّه»(4) لكن الأظهر بالنظر إلى النصوص هو الأوّل، كما يرشد إليه رواية أبي الربيع المنقولة عن كتاب حسن بن محبوب عن الصادق عليه السلام «في الجنب يمسّ الدراهم وفيها اسم الله واسم رسوله لا بأس ربّما فعلت ذلك»(5) فإنّ اسم اللّه حيث ما يذكر مع اسم رسوله فيراد منه لفظ الجلالة، كما يراد من اسم رسوله لفظ «محمّد» وهذا واضح، فهو الأقوى بملاحظة قواعد الاجتهاد لكن طريق الاحتياط واضح كوضوح طريقه في أعلامه تعالى من سائر اللغات، وأمّا لحوقها بلفظ الجلالة فلم نعرف عليه دليلا يعتمد عليه.

نعم لو قيل بأنّ شرافة الاسم باعتبار شرافة مسمّاه فحكم الحرمة على مسّه باعتبار تشرّفه بشرافة المسمّى، وقضية ذلك عدم الفرق أصلا حتى في سائر أسمائه تعالى من لغة العرب كان العموم متّجها، لكنّه مشكل لقوّة احتمال كون هذه اللفظة لخصوصيّتها دخلا في الحكم.

وأمّا قاعدة تعميم شعائر الله فهي على ما سنبينه غير وافية بإثبات المطلب، وإن اعتمد عليها جماعة ويظهر الاعتماد عليهما من عبارة الوسيلة(6).

وهل يجري الحكم فيما جعل جزءا لعلم آدمي كما في «عبدالله» ونحوه ؟ وجهان:

من أنّ المناط هذه الصورة المخصوصة من الكتابة، أو أنّه هذه الصورة إذا قصد بها مسمّاه الأصلي، وهذا هو القدر المتيقن من مورد النصّ ، والأوّل محتمل فلا يخرج عن الأصل لمجرّد احتمال، لكن طريق الاحتياط هنا أيضا وفيما رسم لمجرّد إيجاد الصورة

ص: 815


1- الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 43.
2- الغنية: 37.
3- الوسيلة: 55.
4- الجامع للشرايع: 39.
5- الوسائل 215:2 الباب 18 من أبواب الجنابة ح 4.
6- الوسيلة: 55.

من غير قصد إلى المسمّى الأصلي أيضا الإشكال والاحتياط معا.

وفي إلحاق اسم النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وسائر الأنبياء وأئمّة الهدى عليهما السلام باسم اللّه تعالى وجه قويّ من جهة الشهرة محقّقة ومحكيّه ومنقول إجماع الغنية(1) لكنّ المعتمد في الإلحاق ما قرّرناه من طريق الاستدلال في مباحث غايات الغسل فراجع وتأمّل. وعليه فالمتّجه في سائر اسماء الله تعالى أيضا الإلحاق فيحرم مسّ الجميع والله العالم بحقائق أحكامه.

وفيما جعل جزء من اسم النبي وسائر الأنبياء واسماء الأئمّة لعلم إنساني الإشكال المتقدّم فالاحتياط فيه ممّا ينبغي مراعاته.

المسألة الرابعة: يحرم عليه دخول المساجد مطلقا إلّا اجتيازا،

أمّا الأوّل فالحكم فيه مجمع عليه بالإجماع البالغ نقله حدّ التواتر ولو معنى على ما ادّعي، وكأنّه لعدم الاعتداد بخلاف سلّار(2) على ما حكي عنه. وكيف كان فالأصل فيه - بعد الإجماعات - الآية الكريمة لاٰ تَقْرَبُوا اَلصَّلاٰةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ حَتّٰى تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لاٰ جُنُباً إِلاّٰ عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا (3) المفسّرة في النصّ الصحيح وكلام غير واحد من اصحابنا بالدخول في المساجد من باب تسمية المحلّ باسم الحالّ ، بل في الحبل المتين(4) أنّه منقول عن جماعة من خواصّ الصحابة والتابعين، بل فيه: «أنّه عمل به أصحابنا - رضي الله عنهم - على هذا الوجه» ومع ذلك فالنصوص به مستفيضة بل قريبة من التواتر إن لم تكن متواترة.

ومنها: الصحيح المرويّ عن العلل بسنده عن زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام «قالا: قلنا له: الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال: الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلّا مجتازين إنّ الله تبارك وتعالى يقول وَ لاٰ جُنُباً إِلاّٰ عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ويأخذان من المسجد ولا يضعان فيه شيئا، قال زرارة: قلت له:

فما بالهما يأخذان منه ولا يضعان فيه ؟ قال: لأنّهما لا يقدران على أخذ ما فيه إلّا منه ويقدران على وضع ما بيدهما في غيره»(5) فما عن المراسم من أنّه يندب للجنب أن لا يقرب المساجد إلّا عابري سبيل(6) ليس على ما ينبغي.

ص: 816


1- الغنية: 37.
2- المراسم: 42.
3- النساء: 43.
4- الحبل المتين 196:1.
5- الوسائل 213:2 الباب 17 من ابواب الجنابة ح 2.
6- المراسم: 42.

ولا يخفى أنّ عنوان الحكم في الآية والخبر المذكور وغيره من جملة من الأخبار هو مطلق الدخول فهو المحرّم لأيّ غرض يكون، فالتعبير عنه بالجلوس كما في بعض العبائر، أو المكث كما في البعض الآخر، أو اللبث كما في ثالث إن اريد به ما يرجع إلى مطلق الدخول المتقدّم على هذه الامور فحسن، وإن أريد به قصر الحكم عليها فهو خروج عن مقتضي أدلة الباب من غير صارف، ولا ينافيه ما في بعض الأخبار المانعة من التعبير بالجلوس لأنّ مطلق الدخول إذا كان محرّما فالجلوس الحاصل بعده أيضا محرّم بل بطريق أولى، فلا تنافي بينهما ليوجب حمل المطلق على المقيّد كما هو واضح.

وأمّا الحكم الثاني فمستنده بعد الإجماع ما عرفت من الاستثناء الواقع في الآية وفي الصحيح المفسّر له، وغيره من جملة النصوص فالدخول لغاية الاجتياز مستثنى من مطلق الدخول، ويلزم منه استثناء الاجتياز وهو العبور من المسجد بالدخول من باب له والخروج من باب آخر، وهل يشمل الدخول والخروج من باب واحد؟ الأظهر العدم لأنّ المتبادر من عبور السبيل في قوله تعالى: إِلاّٰ عٰابِرِي سَبِيلٍ أن يعبر الإنسان من طريق عليه مسجد لا يتأتّى العبور منه إلّا بالعبور من المسجد، وهذا المعنى غير متحقّق في الصورة المفروضة، مع أنّ الاجتياز الوارد في التفسير أيضا لا يتناول نحو ذلك كما لا يخفى، كما أنّه لا يتناول التردّد من جوانب المسجد والمشي فيه من غير مكث، فالقول بجواز ذلك كما عن بعضهم ليس بسديد.

وهل يلحق بالمساجد الروضات المتبرّكة والضرايح المقدّسة ؟ قيل: نعم كما عن جماعة، وعن الذكرى(1) أنّه نقله عن المفيد في العزّيّة وعن ابن الجنيد واستحسنه، ولم يظهر لهم مستند في ذلك إلّا مجموع ما دلّ من الروايات على «أنّ حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيّا»(2).

وما دلّ منها على حرمة الدخول في بيوتهم جنبا حال حياتهم، ففي رواية عن بكر ابن محمّد الأزدي قال: «خرجنا إلى المدينة نريد منزل أبي عبداللّه عليه السلام فلحقنا أبو بصير

ص: 817


1- الذكرى 278:1.
2- الوسائل 55:3 الباب 33 من أبواب التكفين ح 1.

خارجا من زقاق وهو جنب ونحن لا نعلم حتّى دخلنا على أبي عبدالله عليه السلام قال:

فرفع رأسه إلى أبي بصير فقال: يا أبا محمّد أما تعلم أنه لا ينبغي لجنب أن يدخل بيوت الأنبياء، قال: فرجع أبو بصير ودخلنا»(1).

وفي مرسلة عن بكير قال: «لقيت أبا بصير المرادي فقال: أين تريد؟ قلت: أريد مولاك، قال: أنا أتبعك فمضى فدخلنا عليه وأحدّ النظر إليه، وقال: هكذا تدخل بيوت الأنبياء وأنت جنب ؟ فقال: أعوذ باللّه من غضب اللّه وغضبك، وقال: استغفر اللّه ولا أعود»(1).

وعن إرشاد المفيد عن أبي بصير قال: «دخلت المدينة وكانت معي جويرة لي فأصبت منها، ثمّ خرجت إلى الحمّام فلقيت اصحابنا الشيعة وهم متوجّهون إلى أبي عبدالله عليه السلام فخشيت أن يفوتني الدخول إليه فمشيت معهم حتّى دخلت الدار، فلمّا مثلت بين يدي أبي عبدالله عليه السلام نظر إليّ ثمّ قال: يا أبا بصير أمّا علمت أنّ بيوت الأنبياء وأولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب، فاستحييت فقلت: إنّي لقيت أصحابنا فخشيت أن يفوتني الدخول معهم، ولن أعود إلى مثلها وخرجت»(3).

وعن كشف الغمّة(2) عن كتاب الدلائل لعبداللّه جعفر الحميري عن أبي بصير قال:

«دخلت على أبي عبدالله عليه السلام وأنا أريد أن يعطيني من دلالة الإمامة مثل ما أعطاني أبو جعفر عليه السلام فلمّا دخلت وكنت جنبا فقال: يا أبا محمّدا ما كان ذلك فيما كنت فيه شغل، تدخل عليّ وأنت جنب ؟ فقلت: ما عملته إلّا عمدا. قال: أو لم تؤمن ؟ قلت: بلى ولكن ليطمئنّ قلبي»(5) إلى غير ذلك من هذا القبيل من الروايات.

وفيه: كلتا مقدّمتي الاستدلال ما لا يخفى من الوهن، أمّا المقدّمة الأولى: فلأنّ المقام ممّا لا دخل له في مسألة حرمة المؤمن الّتي هي في مماته كحرمته في حياته، فإنّ حرمته في حياته عبارة عن أن لا يتعرّض له ولا يتعدّى إليه بضرب أو شتم أو جرح أو إيذاء أو استغابة أو سوء ظن أو اتهام أو هتك عرض أو نهب مال أو نحو ذلك كما يرشد إليه ملاحظة ما ورد في أحكام قبور الموتى. وكون دخول الجنب على

ص: 818


1- الوسائل 212:2 الباب 16 من أبواب الجنابة ح 5.
2- كشف الغمّة 188:2.

المؤمن حال حياته ممّا ينافي حرمته بالمعنى المذكور غير واضح.

وأمّا المقدّمة الثانية: فبعد الإغماض عن أسانيد الأخبار المذكورة، والإغماض عن دلالتها على الحرمة - فإنّ غاية ما فيها الكراهة من حيث إنّ العمل المذكور ينافي الأدب الراجح لذاته - أنّ شمول بيوت الأنبياء لنحو الروضات محلّ منع، فإنّها بحسب الأصل كانت مقابر اتّخذه الناس قبابا. ولعلّه لذا كلّه لم يتّخذ الفقهاء من سلفهم إلى خلفهم دخول الجنب إلى قبورهم ودخوله إلى بيوت الأنبياء وبيوت اولادهم عنوانا للحرمة مع ورود نحو هذه الروايات الكثيرة، مع اتخاذهم نحو الدخول في المساجد أو وضع شيء فيها أو مسّ كتابة القرآن أو اسم اللّه عنوانا لها لمجرّد ورود خبر أو خبرين فيها، فإنّ هذا كلّه آية قصور تبيّن لهم في أسانيد هذ. الروايات أو دلالاتها من جهات كثيرة.

وربّما استدلّ أيضا بقاعدة وجوب تعظيم شعائر اللّه، وهذا أيضا بمكان من الوهن فإنّ وجوب تعظيم شعائر الله وإن كان مسلّما، غير أنّ تعظيمها عبارة عن عدّها عظيمة، وقضية وجوب عدّها عظيمة أن لا يفعل ما يوجب تحقيرها. وكون دخول الجنب في المشاهد ولو لغرض صحيح - كالتبرّك والزيارة ونحوهما - ممّا ينافي التعظيم بالمعنى المذكور ممنوع.

وقد يعلّل بتحقّق معنى المسجديّة فيها وزيادة، وهذا ممّا لا يتحقّق معناه فإنّ تحقّق معنى المسجديّة فيها إن أريد به جريان أحكام المسجد عليها فهو أوّل المسألة، وإن أريد به صدق عنوان المسجد عليها ففيه منع واضح. وبالجملة لا نجد دلالة يوثق بها على الإلحاق، غير أنّ ترك الدخول إلّا بعد الاغتسال من الأدب الراجح لذاته بالعقل المستقلّ ، وأمّا بلوغ هذا الرجحان حدّ المنع من النقيض ممنوع وهو غاية ما يستفاد من الروايات المذكورة على تقدير شمولها للمقام خصوصا بملاحظة كلمة «لا ينبغي» وما في قول الراوي في بعضها «فاستحييت» ونحو ذلك. فالّذي يقوي في النفس عدم الإلحاق للأصل، ولكنّ الاحتياط الشديد في الترك خروجا عن التجري على الإمام.

وعلى القول بالإلحاق ينبغي أن يعلم أنّه لا يستثنى منه الاجتياز، لأنّ الإستثناء حكم مخالف للأصل الثانوي وهو حرمة الدخول الوارد على الأصل الأوّلي وهو إباحة

ص: 819

الدخول، فيقتصر فيه على مورد النصّ وهو المسجد الغير الشامل لما نحن فيه بحكم الفرض.

وهل يلحق بالجنب الحائض والنفساء والمستحاضة الغير القائمة بوظائفها من الوضوء لكلّ صلاة والغسل في المتوسّطة للفجر وفي الكثيرة له وللظهرين والعشاءين ؟

فيه إشكال: من الأصل وعدم النصّ واختصاص ما عرفت من الروايات بالجنب الغير الشامل بمفهومه لها، ومن مشاركتها له في كثير من الأحكام، والعمل بالأصل قويّ .

وكون المشاركة في أكثر الأحكام مخرجا عنه غير واضح. وربّما يؤيّد العدم بأن الحائض والنفساء كثيرا مّا يتردّدون إلى بيوتهم عليهما السلام للسؤال من المسائل المشكلة الواردة عليهنّ ، بل بيوتهم لم تكن خالية عن النساء والجواري والمماليك والخدمة، ولا ريب عدم ثبوت المنع فيهنّ وإلّا لشاع وانتشر، هذا لكن طريق الاحتياط واضح بحمد الله وبه يتوصّل إلى النجاة.

المسألة الخامسة: يحرم عليه الجواز في المسجدين المسجد الحرام ومسجد النبيّ ،

وهذا في الحقيقة مستثنى من المستثنى من دخول المساجد المحرّم الشامل بإطلاقه أو عمومه في الفتاوي والنصوص للمسجدين أيضا، وهذا الاستثناء هو المشهور بين الأصحاب بالشهرة المحقّقة والمحكيّة، وعزاه في التذكرة إلى علمائنا(1)وعن صريح الغنية كالمدارك الإجماع عليه(2) بل لم بعهد فيه خلاف صريح ومخالف محقّق، نعم عن ظاهر جماعة من القدماء كالصدوقين والمفيد وسلّار والشيخ في الاقتصاد والجمل والمصباح ومختصره الخلاف فيه(3) من حيث إطلاقهم جواز الاجتياز في المساجد وعدم تعرّضهم لاستثناء المسجدين، وربّما أوّل بإرادتهم ما عداهما بقرينة الإجماعات المنقولة.

وقد يوجّه عدم تعرّضهم لاستثناهما بأنّه إحالة إلى وضوح الحكم لديهم وضوحا موجبا للغنية عن التصريح به، وكيف كان فالأصل في المسأله نصوص كثيرة فيهاما هو

ص: 820


1- التذكرة 240:1.
2- الغنية: 37. المدارك 282:1.
3- الهداية: 21، الفقيه 48:1، المقنعة: 51، المراسم: 43، الاقتصاد: 244، الجمل والعقود: 42، المصباح: 8.

معتبر سندا وغيره.

منها: صحيحة جميل بن درّاج قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الجنب يجلس في المساجد؟ قال: لا. ولكن يمرّ فيها كلّها إلّا المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه و آله وسلم»(1).

ومنها: حسنة جميل عن أبي عبدالله قال: «للجنب أن يمشي في المساجد كلّها ولا يجلس فيها إلّا المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه و آله وسلم»(2) ومنها: رواية محمّد بن حمران عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن الجنب يجلس في المسجد؟ قال: لا ولكن يمرّ فيه إلّا السجّد الحرام ومسجد المدينة»(3) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

واعلم أنّ المستفاد من النصوص والإجماع أنّه استثني من عنوان الدخول في المساجد أمران:

أحدهما: الدخول فيها للاجتياز كما عرفت، وثاثيهما: الدخول فيها لأخذ شيء منها. والمتكفّل لهذين الاستثناءين معا من النصوص ما تقدّم من صحيحة زرارة ومحمّد ابن مسلم المفسّرة للآية، فإنّ ما في ذيلها من قوله عليه السلام: «ويأخذان من المسجد ولا يضعان فيه شيئا» تعرّض للاستثناء الثاني بعد الاستثناء الأوّل بقوله عليه السلام: «إلّا مجتازين» وما عرفت من النصوص الممانعة عن المرور من المسجدين والمشي فيهما لا إشكال في أنّها متعرّضة للصحيحة في الاستثناء الأوّل بإخراجهما عنه، فهل هي متعرّضة لها في الاستثناء الثاني أيضا أو لا؟ ويرجع الكلام إلى أنّه هل يحرم الدخول فيهما للأخذ منها أيضا كما يحرم الاجتياز منهما أو لا؟

فإنّ فيه وجهين: من أنّ المراد بالمرور والمشي فيهما الوارد عنوانا لحكم المنع في النصوص المذكورة الواردة فيهما، هل هو المرور والمشي الاجتيازي خاصّة، أو ما يعمّه والمرور والمشي للأخذ أيضا؟ فعلى الأوّل يبقى الاستثناء الثاني سليما عمّا يخرج عنه بخلافه على الثماني، فيلزم منه حرمة مطلق الدخول فيهما حتّى للأخذ، وعلى الوجه الثاني ربّما يشكل الحال من حيث وقوع التعارض بالنسبة إلى المستثنى منه بين

ص: 821


1- الوسائل 205:2 الباب 15 من أبواب الجنابة ح 2.
2- الوسائل 206:2 الباب 15 من أبواب الجنابة ح 4 و 5.
3- الوسائل 206:2 الباب 15 من أبواب الجنابة ح 4 و 5.

الصحيحة وبين هذه النصوص، من حيث إنّ قوله عليه السلام: «الحائض والجنب لا يدخلان المسجد» يقتضي منع مطلق الدخول في المسجد الشامل بإطلاقه للمسجدين، وقوله عليه السلام: «لكن يمرّ فيها كلّها» مع قوله: «يمشي في المساجد» يقتضي الرخصة في الدخول مطلقا، ولكنّ الأمر في هذا التعارض هيّن من حيث إنّه من باب تعارض العامّين المتبائنين فيجمع بينهما بما هو الطريق المألوف في الجمع بين المتبائنين، وهو التصرّف فيهما معا بحمل أحدهما على بعض أفرادهما والآخر على البعض الآخر، فيحمل عموم الصحيحة هنا على الدخول لغير الاجتياز ولغير الأخذ، وعموم هذه النصوص على الدخول لأحد الأمرين الاجتياز والأخذ، وشاهد هذا الجمع ما في الصحيحة من الاستثناءين.

فإن قلت: من المقرّر في محله في الجمع بين المتبائنين بالتصرّف فيهما معا لا بدّ من شاهدين ينهض أحدهما قرينة على التصرّف في أحدهما والآخر قرينة عليه في صاحبه، وما ذكرته من الاستثناءين شاهد واحد مختصّ بأحد العامّين.

قلت: قضيّة اعتبار شاهدين في الجمع بين المتبائنين وإن كان حقّا لكن لو وجد لأحد العامّين مخصص متّصل أو منفصل يخصصه ببعض أفراده فينهض هذا العمائم المخصص مع ضميمة مخصصه شاهدا لتخصيص العامّ الآخر بالبعض الآخر من أفرادهما، لأنّ مع التخصيص المذكور ينقلب التعارض بنحو التباين فيما بينهما إلى نحو التعارض بين النصّ والظاهر، ضرورة أنّ العامّ المخصص بضميمة مخصصه يصير نصّا في البعض المراد من أفراده، والعامّ الآخر بالنسبة إليه ظاهر في هذا البعض من أفرادهما وغيره، ومن المعلوم تقديم النصّ على الظاهر فينهض العامّ المذكور بعد ما صار نصّا بالتخصيص شاهدا ثانيا للتصرّف في العامّ الآخر بالتخصيص، ولا حاجة معه إلى شاهد خارجي وهذا واضح.

ولكن يبقى الكلام في تحقيق تعرّض نصوص المسجدين للصحيحة المذكورة في كلّ من الاستثناءين أو في الأوّل منهما، والإنصاف أنّ لفظ «المرور» في بعض هذه النصوص غير شامل للمرور بغير عنوان الاجتياز، بل المرور في الحقيقة بحسب متفاهم العرف إمّا مرادف للعبور والاجتياز أو مقارب له في المفهوم، فلا يتعرّض ذلك إلّا

ص: 822

الاستثناء الأوّل في الصحيحة، نعم لفظ «المشي» الوارد في البعض الآخر من هذه النصوص غير واضح الاختصاص بالاجتياز والعبور، بل هو بمفهومه أعمّ منه ومن غيره، وقضيته تعرّض ذلك لكلا الاستثناءين، فالمتجه حينئذ حرمة مطلق الدخول في المسجدين حتّى للأخذ منهما. والله الهادي.

المسألة السادسة: إذا احتلم المكلّف في أحد المسجدين تيمّم لخروجه،
اشارة

وتحقيق القول فيه أنّ وجوب التيمّم لمن احتلم في أحد المسجدين هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة تكاد تبلغ الإجماع، بل ظاهر المحكيّ عن مختلف العلّامة حيث نسبه إلى مذهب علمائنا(1) دعوى الإجماع فيه، وعزي دعوى الإجماع أيضا إلى المنتهى والمعتبر(2) ولعلّها لشذوذ المخالف الّذي مخالفته لشذوذ. غير قادحة في الإجماع، فإنّه لا مخالف في المسألة إلّا ابن حمزة في الوسيلة القائل باستحباب هذا التيمّم، حيث إنّه - على ما حكي - قال: «ويستحبّ التيمّم في أربعة مواضع لغير استباحة الصلاة»(3)وذكر هذا منها.

والأصل في المسألة الرواية المروية في التهذيب بسند صحيح ينتهي إلى أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام، أو مسجد الرسول صلى الله عليه و آله وسلم فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمّم، ولا يمرّ في المسجد إلّا متيمّما، ولا بأس أن يمرّ في سائر المساجد ولا يجلس في شيء من المساجد»(4). ونحوها المرفوعة المروية في الكافي رواها عن محمّد بن يحيى ثمّ رفعها إلى أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلى الله عليه و آله وسلم فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمّم، ولا يمرّ في المسجد إلّا متيمّما حتّى يخرج ثمّ يغتسل، وكذلك الحائض إذا أصابها الحيض تفعل ذلك، ولا بأس أن يمرّا في سائر المساجد ولا يجلسان فيها»(5) ولا إشكال في وضوح الدلالة على الوجوب وظهورها.

ص: 823


1- لم نعثر عليه في المختلف ولا على من حكماه عنه.
2- المنتهى 226:2، المعتبر 189:1.
3- الوسيلة: 70.
4- الوسائل 206:2 الباب 15 من أبواب الجنابة ح 6.
5- الوسائل 205:2 الباب 15 من ابواب الجنابة ح 3.
وهاهنا فروع كثيرة ينبغي التعرّض لها برسم امور:
الأمر الأوّل: في كون وجوب التيمّم هاهنا شرعيا

- بدعوى كون هذا التيمّم بنفسه واجبا شرعيّا أثبته الشارع في هذا المورد لخصوصيّة فيه فيستحق العقاب بتركه - أو شرطيّا بدعوى كون التيمّم شرطا لإباحة المرور في المسجد للخروج المحرّم من دون تيمّم فلا يستحق العقاب إلّا بالمرور بلا تيمّم لكونه محرّما، وجهان: من ظاهر النصّ المفيدة للحكم بصيغة الأمر الظاهرة في الوجوب الشرعي والفتوى من حيث اشتمالها على نحو ما ذكر وما يرادفه كلفظ الوجوب، ومن قوله عليه السلام: «ولا تمرّ في المسجد إلّا متيمّما» من حيث إنّ المستثنى بعمومه يفيد حرمة المرور في جميع الأحوال واستثناء حالة التيمّم يفيد كون التيمّم مبيحا، فيفيد أنّ وضع هذا التيمّم لكونه شرطا للإباحة.

ويظهر الفائدة في تعدّد العقاب عند ترك التيمّم واتّحاده، فعلى الأوّل يستحق عقابين على ترك الواجب وعلى فعل المحرّم، وعلى الثاني لا يستحقّ إلّا عقابا واحدا على فعل الحرام، لكنّ الأجود الأوّل عملا بظهور النصّ وأخذا بموجب أصالة الحقيقة التي لابدّ في الخروج عنها من صارف، وما ذكر غير صالح لذلك فإنّ قرينة المجاز لابدّ وأن تعاند الحقيقة حتّى تصرفها إلى المجاز، وكون هذا التيمّم مبيحا لا ينافي وجوبه الشرعي، لأنّه إذا كان واجبا شرعيّا كان مبيحا أيضا كما في الغسل على القول بوجوبه لنفسه، فإنّه ممّا يستباح به الصلاة وغيرها ممّا يحرم بلا طهارة أيضا، وبالجملة كونه مبيحا لازم أعمّ للوجوب الشرطي واللازم الأعمّ لا يستلزم الملزوم الأخصّ ، فالالتزام بوجوبه الشرعي متّجه جدّا ولذا لم نقف من الأصحاب على من صرّح هنا بالوجوب الشرطي(1) ولم نعثر أيضا على حكاية قول به، وإن كان قد يستشمّ من بعض كلمات بعضهم الوجوب الشرطي كما يظهر للمتتبّع، وممّا رجّحناه يعلم أنّ ما ضايقه غير واحد من لزوم مراعاة التيمّم ماشيا إن تمكن عنه غير سديد، بل هو اجتهاد في مقابلة النصّ لوروده مطلقا وظاهره إيجاب التيمّم في محلّ الاحتلام.

ص: 824


1- وفي الأصل: «الشرعي» والصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق، ولعلّه سهو من قلمه الشريف، واللّه العالم.
الأمر الثاني: في أنّ لخروج المحتلم المتيمّم عن المسجد من حيث عدم استلزامه مرورا فيه

كما لو كان نائما عند باب المسجد، أو استلزامه مرورا قصر زمانه عن زمان التيمّم أو ساواه أو زاد عليه صورا قد يشتبه عموم لها وعدمه، لكنّ الإنصاف خروج الصورة الأولى عن معقد كلام الفقهاء، لأنّ المستفاد من تتبّع كلماتهم فرض المسألة في محتلم يفتقر في خروجه إلى المرور، كما أنّها خارجة عن النصّ لمكان قوله عليه السلام:

«ولا يمرّ في المسجد إلّا متيمّما» لقضائه يكون المقصود إعطاء الحكم للمفتقر الى المرور للخروج، وأمّا الصور الثلاث الباقية فظاهر المحكيّ عن الشهيد في الذكرى(1)بل صريحه شمول الحكم للجميع حيث قال: «ولو كان قريبا من الباب وجب التيمّم وإن زاد زمانه على زمان المرور» وقرّبه في الدلائل على ما حكي، وعن الذخيرة أنّه تأمّل فيه(2) وعن شرح المفاتيح(3) القطع بالخروج من غير تيمّم في الصورة المذكورة في كلام الشهيد.

ويلوح العموم عن كلام الأكثر، وهو الأقوي، عملا بإطلاق النصّ ، ولا مانع من التمسّك به إلّا توهّم انصرافه إلى صورة قصور زمان التيمّم، ويدفعه: أنّ الانصراف لابدّ وأن يستند إلى غلبة ككون الغالب الوقوع المركوز في الأذهان المعهود عند الراوي من التيمّم في المسجدين ما قصر زمانه عن زمان المرور وهي غير ثابتة، لأنّ اختلاف التيمّم بحسب الخارج في قصر زمانه أو مساواته أو زيادته بالقياس إلى زمان المرور إنما ينشأ عن اختلاف محلّ النوم والاحتلام في بعده عن باب المسجد أو قربة منه أو كونه متوسّطا بينهما، ولا يتعقّل الغلبة المذكورة إلّا يكون الغالب من محلّ النوم ما بعد عن باب المسجد، ودعوى هذه الغلبة مجازة فلا تكون مسموعة.

نعم لو قلنا بكون وجوب التيمّم معناه هنا الوجوب الشرطي اتّجه القول بكون الحكم مقصورا على صورة قصور زمان التيمّم، لدوران الأمر حينئذ بين الكون في المسجد بلا تيمّم في زمان قليل وهو زمان التيمّم المستلزم للكون فيه بلا تيمّم في هذا المقدار من الزمان، والكون فيه بلا تيمّم في زمان كثير وهو زمان المرور بلا تيمّم،

ص: 825


1- الذكرى 207:1.
2- الذخيرة: 10.
3- مصابيح الظلام 201:4.

ومقتضى الحكمة الباعثة على تشريع التيمّم لمجرّد إباحة الكون تجويز الأوّل دون الثاني، وفي صورة قصور زمان المرور ينعكس الأمر، ومقتضى(1) تجويز الكون المروري بلا تيمّم.

وأمّا في صورة المساواة فالأمر دائر بين أحد الكونين المتساويين بلا تيمّم، ولا ريب أنّ تجويز الكون اللازم للتيمّم بلا تيمّم ليس بأولى من تجويز ما هو لازم للمرور بلا تيمّم، بل ربّما أمكن استفادة كون الثاني أولى ممّا دلّ في سائر المساجد على الفرق بين كون الجنب فيها للمرور والاجتياز وسائر الأكوان بالترخيص في الأوّل والمنع عن الثاني، فإنه يكشف عن اشتمال الكون لغير المرور والاجتياز على مفسدة غير موجودة في الكون لهما، ولذا منع عن الأوّل ورخصّ في الثاني، لكن قد عرفت أن الأقوى كون الوجوب شرعيّا فيكون التيمم تعبّدا من الشارع فيعمّ وجوبه لجميع الصور قضيّة للإطلاق.

الأمر الثالث: في أنّ المحتلم في أحد المسجدين قد لا يتمكن من الاغتسال في المسجد

وهو الغالب لمانع عقلي كفقدان الماء، أو شرعي كنجاسة في بدنه يستلزم إزالتها تنجيس المسجد أو آلاته أو مطلقا، بناء على المنع من إزالة النجاسة في المساجد مطلقا كما نسب القول به في المدارك إلى جمع من الأصحاب(2) بل نسب إلى بعضهم التصريح بالمنع عنها ولو في الكثير، وقد يتمكن منه مع قصور زمان التيمّم عن زمان الغسل أو مساواته له أو زيادته عليه فهذه صور أربع.

ربّما يشكل الحال في إطلاق النصّ الوارد بالتيمّم بالقياس إليها أو تقييده بعدم التمكن من الاغتسال، أو قصور زمان التيمّم مع التمكن من الاغتسال، ومع انتفاء الأمرين بالتمكن وقصور زمان الغسل أو مساواته يتعيّن الاغتسال. ولأجل هذا الإشكال اختلفوا فيه على قولين:

أحدهما: ما صار إليه المحقّق الثاني في حاشية الشرائع وصاحب المدارك(3)

ص: 826


1- كذا في الأصل، والأنسب بالسياق: «ومقضاه» بدل «ومقتضى»، فتدبّر.
2- المدارك 20:1.
3- حاشية الشرائع (حياة المحقق الكركي وآثاره ج 10):20، المدارك 21:1.

وصاحب الدلائل(1) على ما عزي إليه من الإطلاق القاضي بعموم التيمّم لجميع الصور الأربع، وعدم جواز العدول إلى الاغتسال حتّى في صورة قصور زمان الاغتسال، وربّما نزّل عليه إطلاق الاكثر من حيث إطلاقهم التيمّم وعدم تعرّضهم للاغتسال، ونوقش بوروده مورد الغالب من عدم التمكن من الاغتسال. وذهب جماعة كالتذكرة والذكرى والدروس وشرح الألفية وروض الجنان والمسالك والذخيرة وحاشية المدارك على ما حكي عنهم إلى لزوم الغسل مع انتفاء الأمرين(2) بل ربّما يظهر عن محكيّ روض الجنان جواز الغسل مع كون زمانه أزيد من زمان التيمّم، إلّا أنّه لم يفت به لعدم قائل به حيث قال: «وإنّما قيّدنا الجواز في المسجد مع إمكانه بمساواة زمانه لزمان التيمّم أو قصوره عنه مع أنّ الدليل يقتضي تقديمه مطلقا مع إمكانه لعدم القائل بتقديمه مطلقا وإلّا لكان القول به متّجها»(3) انتهى. ومرجع الخلاف إلى كون الأمر بالتيمّم مطلقا شاملا بإطلاقه لجميع الأحوال، أو مشروطا بأحد الأمرين من عدم التمكن من الاغتسال أو قصور زمان التيمّم عن زمان الاغتسال، فمرجع القول بالتقييد إلى دعوي كون التيمّم من الواجبات المشروطة، ويتضمّن هذا دعوى اخرى وهي وجوب الغسل مع انتفاء الشرطين. ولازم هاتين الدعويين وجوب التيمّم في صورتين والغسل في اخريين.

ويرد على هؤلاء في دعواهم الأولى: أن التمكن عن الغسل إذا كان فردا نادرا - كما اعترفتم به في منع الإطلاق الذي تمسّك به أهل القول بعموم التيمّم بدعوى وروده مورد الغالب - فلا يشمله الأمر بالتيمّم، ومعه لا وجوب له ليكون مشروطا بقصور زمانه عن زمان الغسل، ومع الغضّ عن ذلك فإذا دار الأمر بالتيمّم بين الإطلاق والتقييد كما هو المفروض فلابدّ فيه من الأخذ بمقتضى الأصل المقرّر في نحوه وهو الإطلاق، سلّمنا أنّ الإطلاق وارد مورد الغالب فعدم ذكر القيد لعلّه لعدم الحاجة إلى بيانه من جهة حصوله الواقعي فلا يجري الأصل المذكور في نحوه، لكن نقول: إنّه لا يلزم من مجرّد ذلك كونه مشروطا بأحد الأمرين، فدعوى الاشتراط خصوصا

ص: 827


1- لم نعثر عليه.
2- التذكرة 240:1-241، الذكرى 207:1، الدروس 86:1، الألفيّة: 42، روض الجنان 65:1، المسالك 11:1، الذخيرة: 10، حاشية المدارك 34:1.
3- روض الجنان 66:1.

بالنسبة إلى قصور زمان التيمّم يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

ونظير ذلك يرد على دعواهم الثانية: فإنّ وجوب الغسل مع انتفاء الامرين تكليف مخالف للأصل فلا يلتزم به إلاّ لدليل، ومجرّد ورود الأمر بالتيمّم مورد الغالب لا يصلح دليلا عليه، لأنّه يقتضي أنّ النادر ليس مخاطبا بالتيمّم، ولا يقتضي أنّه مخاطب بالغسل ولا ملازمة بين عدم الخطاب بالتيمّم والخطاب بالغسل.

فإن قيل: إنّ الدليل على وجوب الغسل هو الجمع بين ما دلّ على الأمر بالتيمّم مطلقا كصحيحة أبي حمزة، وما دلّ على اشتراط التيمّم بعدم التمكن من المائيّة كما هو حجّة أهل القول بالتقييد.

لقلنا: مع أنّه ينافي دعوى الورود مورد الغالب، إن أدلّة اشتراط التيمّم بعدم التمكن من المائيّة لو كانت شاملة لهذا التيمّم لم يكن بينها وبين دليله تعارض ليجب الجمع بينهما بنحو ما ذكر، لكونها حاكمة عليه ومقتضى الحكومة تقييد التيمّم بعدم التمكن من الغسل مطلقا، ولازمه تعين الغسل مع التمكن بقول مطلق حتّى مع قصور زمان التيمّم عن زمانه، فما وجه التفصيل وإيجاب التيمّم مع قصور زمانه ؟ هذا مع توجّه المنع إلى تناول أدلّة الاشتراط لهذا التيمّم، لأنّها مختصّة بكلّ تيمّم يكون بدلا عن الماليّة، وكون هذا التيمّم بدلا عن الغسل في المسجد أوّل المسألة لأنّه دعوى لا شاهد عليها، مع [إمكان] أن يستظهر عدم كونه بدلة من عدّة امور:

منها: مما عليه هؤلاء من إيجاب التيمّم في صورة قصور زمانه عن زمان الغسل. بل يظهر من ثاني الشهيدين في عبارته المتقدّمة عن الروض كونه إجماعيّا حيث نفى القول بوجوب الغسل هاهنا، وهذا ينافي بدليّة التيمّم لأنّ قضيّة البدليّة سقوط الأمر بالبدل مع التمكن من المبدل، وحيث لم يكن ساقطا يكشف عن انتفاء البدليّة.

ومنها: ما عليه جماعة ولعلّه الأقوى على ما سنقرّره من لحوق الحائض بالجنب في هذا الحكم كما نصّت به المرفوعة أيضا، والمراد بالحائض الملحقة به من كانت في ابتداء الحيض بأن يعرضها الحيض في المسجد فيجب عليها بمجرّد عروضه لها التيمّم كما هو مورد المرفوعة أيضا. ولا ريب أنّ الحائض ليس عليها في ابتداء حيضها غسل ومعه كيف يعقل كون التيمّم بدلّة عنه ؟ والفرق بينها وبين الجنب غلط.

ص: 828

ومنها: أنّ التيمّم هنا على ما تقدّم من كون وجوبه شرعيّا واجب شرعي إمّا لغيره بأن يقال: بأنّه لمّا وجب الخروج من المسجد متيمّما وهو لا يتمّ إلّا بالتيمّم فيه فوجب التيمّم لأجل التوصّل إلى هذا الواجب، أو لنفسه كما هو الأظهر نصّا بأن يقال: إنّ القدر المسلّم حرمة الخروج من غير تيمّم لا وجوب الخروج مع التيمّم، وأيا ما كان فالغسل هنا ليس بشيء من القسمين.

أمّا الأوّل: فلعدم وجوب الخروج مغتسلا لوضوح أنّ الجنب إذا اغتسل في المسجد وارتفع جنابته يسوغ له المكث والجلوس وغيرهما من سائر الأكوان.

وأمّا الثاني: فلكون وجوبه لنفسه هاهنا مخالف للأصل المقرّر في غسل الجنابة في مسألة كون وجوبه لنفسه أو لغيره، فإنّ الامّة فيها فريقان قائل بوجوبه لنفسه ولازمه الوجوب في جميع مواضع عروض الجنابة حتّى غير المسجد فضلا عن أحد المسجدين، وقائل بوجوبه لغيره بدعوى أنّه يجب عند وجوب غاياته المشترطة بالطهارة، فالقول بوجوبه لنفسه في أحد المسجدين ولغيره لغاياته المشترطة بالطهارة منفيّ عمّا بين الامّة ثمّة، فإذا انتفى عنه الوجوب الشرعي لكلّ من القسمين لم يكن التيمّم المردّد بينهما بدلا عنه كما لا يخفى.

وتوهّم أنّ البدلية تثبت هاهنا بالأصل فيه فإن الأصل في التيمّم كونه بدلا عن المائية.

يدفعه: أنّ الأصل المذكور على فرض تسليمه لا مدرك له إلّا الغلبة، وهي إنّما يستند إليها حيث أفادت الظنّ والاطمئنان، والامور المذكورة لاستكشاف عدم البدليّة إن لم تكن مقتضية للظنّ بعدم البدليّه فلا أقلّ من كونها مانعة عن تأثير الغلبهّ في الظنّ بالبدليّة، فالأصل المذكور حينئذ ممّا لا يجوز التعويل عليه في الالتزام بالبدلية، فالأقوى حينئذ عدم وجوب الغسل عند التمكن منه هنا أصلا.

ويتفرّع على عدم بدليّة التيمّم هنا عن الغسل فروع:

منها: عدم لزوم قصد البدليّة هنا إن اعتبرناه في التيمّمات البدلية.

ومنها: كفاية ضربة واحدة إن اعتبرنا في سائر التيمّمات ضربتين، لإطلاق التيمّم في النصّ وصدقه على ما يتحقّق بضربة واحدة.

ص: 829

ومنها: عدم جواز الاكتفاء بهذا التيمم بعد خروجه عن المسجد في الصلاة وغيرها من مشروط بالطهارة إن صادف خروجه فقد الماء، لأنّ القدر المعلوم ممّا يستباح لهذا التيمّم إنّما هو المرور للخروج لا غير، فالأصل بقاء المنع عن الدخول في الصلاة إلى أن يتحقّق رافعه اليقيني وهو التيمم المتجدّد الحاصل بدلا عن الغسل.

ومنها: عدم جواز الجلوس أو المكث أو كون آخر غير الكون اللازم للمرور في المسجد بعد التيمّم ولو لحظة، بل يجب عليه الخروج من حين الفراغ عن التيمّم فورا، لأنّ مقتضي الأدلة حرمة كون الجنب في المسجدين بجميع أنحائه إذا عرضه الجنابة في خارج المسجد، ويستثنى عن عموم الحرمة الكون المروري اللازم للخروج فيمن عرضه الجنابة في المسجد بحكم العقل المستقلّ ، مع قطع النظر عن ورود النصّ بالتيمّم لئلّا يلزم التكليف بما لا يطاق، فإنّ هذا الكون من لوازم الخروج فلو منع عن ذلك أيضا لزم المحذور، لكن يجب المسارعة في الفروج وتحرّي أقرب الطرق وأقلّهما استلزاما للكون، لأنّ الضرورة تتقدّر بقدرها.

ولكن لمّا ورد النصّ بالتيمّم أوجب ذلك استثناء كونين، أحدهما: ما هو لازم للخروج، وثانيهما: ما هو لازم للتيمّم، لأنّ الإذن في الشيء إذن في لوازمه وإلّا لزم التكليف بالمحال، وبقى الباقي تحت عموم الحرمة ومنه الجلوس أو غيره بعد التيمّم، بخلاف ما لو كان التيمّم بدلا عن الغسل فإنّ الغسل في صورة إمكانه إذا حصل أوجب إباحة الجلوس وسائر الأكوان أيضا وبدله في صورة عدم إمكانه إن قلنا بكلّية «كلّما يستباح بالماليّة يستباح بالتيمّم» وعلى المختار فهل يجب تحرّي أقرب الطرق للخروج أو إيقاع التيمّم ماشيا إن أمكن ؟ قيل: نعم، والأظهر العدم عملا بإطلاق النصّ .

ثمّ إنّه بعد ما تبيّن على ما رجّحناه من عدم بدلية هذا التيمّم عدم وجوب الغسل مع إمكانه مطلقا.

يبقى الكلام في وجه عموم التيمّم لجميع الصور الأربع المتقدّمة، فإنّه بعد ملاحظة أنّ الغالب من المحتلم في المسجدين هو الغير المتمكن عن الغسل وأنّ المتمكن منه فرد نادر لا يخلو عن إشكال، لأنّ قضيّة ذلك ورود النصّ المطلق مورد الغالب فلا يكون النادر مشمولا له، ولازمه عدم كون المتمكن عن الغسل مخاطبا بالتيمّم كما

ص: 830

انّه ليس مخاطبا بالغسل، ومن هنا ينفتح باب سؤال على القائلين بعموم التيمّم في تمسّكهم بإطلاق النصّ ، فإنّه مع ملاحظة الورود مورد الغالب غير واضح الوجه، ولذا ورد عليهم من القائلين بالتخصيص منع الإطلاق كما تقدّم.

هذا إشكال قائم في المقام بحسب بادئ النظر، لكنّه يندفع بعد تعمّق النظر بأنّ المراد بإطلاق النصّ هنا إطلاق الأمر الوارد بالتيمّم، وإطلاق الأمر في جميع موارده يلاحظ بالنسبة إلى الأحوال كحالة عدم التمكن عن الغسل مع حالة التمكن منه بكلّ من صورها الثلاث، وحالة عدم التمكن هنا وإن كانت غالبة إلّا أنّ الغلبة المفروضة لها لا تمنع عن التمسّك بإطلاق الأمر، إلّا إذا أوجبت كون هذه الحالة مركوزة في النفوس حاضرة في الأذهان بحيث أوجب حضورها في ذهن السامع انصراف المطلق إليها، على معنى عدم انتقال الذهن عند سماع اللفظ إلّا إليها، والغلبة إنما يوجب كونها كذلك إذا كانت تحقيقيّة وفعليّه لا إذا كانت تقديرية فرضيّة، وهي فيما نحن فيه إنّما تكون تحقيقيّة إذا غلب قبل ورود النصّ وقوع الاحتلام في أحد المسجدين على وجه اطّلع على غلبة وقوعه المكلّفون فيتضمّن هذه الغلبة غلبة حالة عدم التمكن عن الغسل على التحقيق.

وكونها فيما نحن فيه كذلك محلّ منع، إذ لم يتحقّق لسامع الرواية قبل سماعها غلبة وقوع الاحتلام في المسجدين، ولو كان بحسب الخارج غالب الوقوع لا يسلّم اطلاعه عليها. وقوله عليه السلام: «إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلى الله عليه و آله وسلم فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمّم» قضيّه فرضيّة، ومفادها أنّه لو فرض وقوع نحو ذلك كان حكمه وجوب التيمّم. فيكون غلبة وقوعه المتضمّنة لغلبة حالة عدم التمكن فرضية، ومعناه أنه لو غلب وقوع الاحتلام في أحد المسجدين كان الغالب فيه حالة عدم التمكن، وظاهر أنّ الغلبة التقديريّة الفرضيّة بالنسبة إلى هذه الحالة لا توجب كونها مركوزة في ذهن السامع حاضرة لديه لينصرف من الأمر إليها ولا ينتقل إلى الإطلاق، ومعه فلا صارف عن الإطلاق فلا مانع من التمسّك به.

نعم، أمكن أن يقال: إنّ ورود اعتبارها شرعا في غالب التيمّمات ربّما أوجب معهوديّتها في الأذهان، فأوجب ذلك حيثما أطلق الأمر بالتيمم إلى انصرافه إليها.

ص: 831

لكن يدفعه: أنّ هذا إنّما ينفع إذا سبق الخطاب بالتيمّم مشروعيّة المائيّة بالنسبة إلى المورد، فينصرف الذهن مع سبق الاطلاع على المشروعيّة المذكورة إلى اختصاص الأمر بالتيمّم بحالة عدم التمكن من المائيّة، وهو في المقام غير ثابت وإلّا لما أهمل الفقهاء ذكره في باب الغسل الّذي يذكر فيه غايات الغسل بعنوان مستقلّ ، فالإنصاف أنّ إطلاق الأمر بالتيمّم محكم والتمسّك به متّجه، فالمتّجه إذن هو القول بعموم التيمّم في الصور الأربع.

الأمر الرابع: في أنّه لا إشكال في أنّ مورد النصّ بالتيمّم في المسجدين إنما هو المحتلم فيها،

وهل يخصّ الحكم المستفاد منه لهذا المورد ولا يتعدّاه إلى غيره، أو يعمّه وكلّ جنب حصل جنابته في المسجد ولو يقظة اختيارا أو اضطرارا، أو يعمّهما وكلّ جنب يكون في المسجد وإن حصل جنابته في خارجه فدخل فيه نسيانا أو عمدا اضطرارا أو اختيارا لجهل بالحكم أو الموضوع أو بهما أو عصيانا لعلمه بهما؟

احتمالات بل أقوال، صار إلى كلّ طائفة من أصحابنا. وينبغي النظر أوّلا في مقتضي القاعدة من حيث إنّها تقتضي وجوب التيمّم بالخصوص أو العموم بأحد الوجهين، أو لا تقتضيه أصلا أو تقتضي خلافه، ثمّ النظر في مفاد النصّ الوارد في المسألة لكن بعد البناء على عدم اقتضاء القاعدة وجوبه أصلا أو على وجه العموم.

فنقول: إن مقتضي القاعدة بمعنى أصل البراءة عدم وجوبه مطلقا حتّى في صورة الاحتلام، لأنّه إن اريد من وجوبه كونه واجبا لنفسه فينفيه الأصل المذكور، وإن اريد كونه واجبا لغيره فالأصل عدم وجوب الغير الّذي يجب هذا لأجله كالخروج متيمّما، ولكن لمّا ورد النصّ انتقض الأصل بالنسبة إلى الاحتلام، وأمّا ما عداه فالأصل على حاله، لأنّ قوله عليه السلام: «إذا كان الرجل نائما في المسجد فاحتلم فأصابته جنابة» يفيد في متفاهم العرف كون المجموع من النوم والاحتلام وإصابة الجنابة علّة لوجوب التيمّم كما هو كذلك في نحو قولك: «إن أكل زيد فشبع فحمد الله فأكرمه».

وتوهّم أنّ ذكر إصابة الجنابة بعد الاحتلام يقضي بأنّ العلّة هو الإصابة ولو بغير احتلام وفي غير حالة النوم وإلّا كان ذكر الاحتلام كافيا، يدفعه: أنّ الاحتلام لغة لا يستلزم الجنابة الّتي مناطها هنا الإنزال، لأنّه على ما نصّ عليه أئمّة اللغة عبارة عن

ص: 832

«رؤية اللذّة وإن لم ينزل». وكون اعتبارين الوصفين إحرازا لما هو الموضوع الغالبي لإصابة الجنابة في المسجد أو لوجودها فيه وإلّا فعلّة التيمّم إصابة الجنابة أو وجودها، يدفعه: أنّه خلاف ما يقتضيه ظاهر التعليق في الجملة الشرطيّة، على ما قرّر في محلّه.

حجّة القول بالعموم عدم معقوليّة الفرق، ويدفعه: أنّ عدم معقوليّة الفرق بحسب الأنظار القاصرة في الأمور المنوطة بالحكم الخفية لا يقضي بانتفاء الفرق في الواقع بحسب نظر الشارع.

وقد يستدلّ بتنقيح المناط المبنيّ على إلغاء الفارق وحذف الإضافات، وكونه بحيث يجزم أو يطمئنّ به ممنوع، وبدونه لا عبرة به فيؤول إلى القياس.

واستدلّ أيضا بحرمة المرور من أحد المسجدين، كما هو مقتضي عموم حرمة الكون فيها المستفاد من عموم ما مرّ.

ويدفعه: أنّ حرمة الكون المروري على فرض تسليمها وتسليم مشروعيّة التيمّم فيها لا تستلزم وجوبه بالمعنى الشرعي، لأنّ غاية ما هنالك بعد تسليم المقدّمتين أنّ هذا الكون المحزم يستدعي مبيحا يتوقف عليه زوال الحرمة عنه، فيكون التيمّم حينئد مبيحا، ولا ملازمة بين كون شيء مبيحا وكونه واجبا شرعيّا، كما في الوضوء بالقياس إلى مسّ كتابة القرآن حيث لم يكن آلمسّ واجبا لعارض، مع تطرّق المنع إلى إطلاق حرمة الكون بجميع أنحائه، فإنّه إنما يسلّم فيمن له مندوحة. وتمكن من التجنّب عن الجميع كالجنب خارج المسجد إذا لم يضطرّ إلى الدخول. وأمّا غيره الداخل في المسجد فليس له مندوحة عن المرور والكون الّذي يتضمّنه الخروج فلو كان منهيّا عنه لزم التكليف بغير المقدور، مع تطرّق المنع أيضا إلى عموم مشروعية التيمّم مبيحا، فالأقوى إذن هو القول باختصاص التيمّم بالاحتلام كما هو مورد النصّ ، وفاقا لجمع كثير منهم الشيخ والصدوق وأبي المكارم وابن حمزة وإن استحبّه وأبي عبدالله وابن سعيد في الجامع والنافع والمعتبر والتحرير والمنتهى والكاشاني، وهل تلحق الحائض بالجنب في هذا الحكم إذا عرضها الحيض في أحد المسجدين فيجب عليها التيمّم لخروجها عن المسجّد ولا تمرّ فيه إلاّ متيمّمة حتى تخرج أو لا؟ كلام الأكثر خالية عن التعرّض للإلحاق ولعلّه إحالة منهم إلى الأصل

ص: 833

المسلّم عندهم المتفق عليه لديهم من المشاركة بينهما في غالب الأحكام، ولا سيّما أحكام المساجد المتقدّمة على ما علم من المشاركة بينهما، بل عن غير واحد كالعلّامة في المنتهى والتحرير والشهيد في الدروس والبيان والذكرى والألفيّة وغيرها الجزم بالإلحاق(1) وعليه المحقّق الثاني، بل عنه: «والظاهر أنّ النفساء كالحائض دون المستحاضة»(2) وربّما يظهر من عبارة المنتهى الإجماع عليه حيث قال:

«والرواية وإن كانت مقطوعة إلّا أنّها مناسبة للمذهب»(3) لكن عن المجمع الجزم بعدم الإلحاق(4) وعن المعتبر القول بالاستحباب استضعافا للنصّ (5) وانتصر له في الروض والمدارك بأنّ النص مقطوع فلا يدلّ على أكثر من الاستحباب(6) والأقوى هو الإلحاق تعويلا على النصّ المشار إليه المعتضد بما عرفت وهو المرفوعة المتقدّمة(7) ولا يقدح هنا ما فيها من القطع لما يظهر من اتحاد السند بينه وبين الخبر الصحيح الّذي نقله الكليني أوّلا في مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم عن محمّد بن يحيى عن أحمد ابن محمّد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن مالك بن عطيّة عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام، فإنّ اتّحاد الطرفين بينه و بين المرفوعة يوجب ظهور كون الوسائط المحذوفين عنها هم المذكورون في الخبر المشار إليه وهم بأجمعهم ثقات، فلا وجه حينئذ لترك العمل بها، كما لا وجه لحملها على الاستحباب بل هو عند التحقيق فاسد، لأنّ هذا الحمل لا يتمّ إلّا بضميمة قاعدة التسامح في أدلّة السنن وهي هنا ليست في مجراها لقيام احتمال الحرمة.

ولا يلحق سائر المساجد بأحد المسجدين لجواز الاجتياز فيها بلا طهارة، وعن الذكرى الحكم باستحباب التيمّم للخروج منها لما فيه من القرب إلى الطهارة وعدم زيادة الكون فيها له على الكون له في المسجدين(8) ولا يخفى ضعفه بل حرمة الكون فيها من غير جهة الاجتياز تقتضي المنع باعتبار ما يستلزمه من الكون الزائد على

ص: 834


1- المنتهى 226:2، التحرير 15:1، الدروس 86:1، البيان: 3، الذكرى 207:1، الألفيّة: 42.
2- جامع المقاعد 79:1.
3- المنتهى 352:2.
4- مجمع الفائدة 86:1.
5- المعتبر 189:1.
6- الروض 66:1، المدارك 22:1.
7- الوسائل 205:2 الباب 15 من أبواب الجنابة ح 3.
8- الذكرى 207:1.

الكون للاجتياز والخروج.

المسألة السابعة: في انّه يحرم على الجنب وضع شيء في المساجد كما هو المشهور بين الأصحاب،

بل عن الغنية دعوى الإجماع عليه(1) ولا مخالف هنا إلّا سلّار(2) لمصير. إلى الكراهة. والأصل في المسألة نصوص صحيحة مستفيضة تقدّم ذكر بعضها، كصحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم المتقدّمة في تفسير الآية، ولا فرق في الوضع المحرّم بين مستلزم المكث وغيره بمعنى أنّه حرام و إن لم يستلزم مكثا، ولا يحرم عليه أخذ شيء منها بل الأخذ جائز وإن استلزم مكثا لكن إذا كان المكث من لوازم الأخذ بأن لا يتحقّق الأخذ إلّا بالمكث ولو طويلا لإطلاق الأخذ في النصوص المجوّزة له، وليس من الوضع المحرّم طرح شيء في المسجد من خارجه لعدم صدق الوضع عليه وهو عنوان الحرمة لا غير، مضافا إلى أنّ الوضع إنّما يحرم من حيث استلزامه الدخول المحرّم لا لخصوصية فيه، وما ذكر لا يستلزم دخولا ليحرم.

المسألة الثامنة: في قراءة الجنب ممّا عدا العزائم الأربع من القرآن،

وكلمات الفقهاء فيه مختلفة حتّى أنه حصل لهم في المسألة أقوال:

أحدها: أنّه يجوز إلى سبع آيات فيكره الزائد إلى سبعين آية، فيشتدّ الكراهة من الزائد على السبعين كما هو المشهور المنصور المدّعى على الجواز فيه الإجماع فوق حدّ الاستفاضة، كما عن الانتصار والخلاف والغنية والمعتبر والمنتهى ونهاية الإحكام والإيضاح وأحكام الراوندي(3).

وثانيها: الجواز بلا كراهية مطلقا كما عن ظاهر الجمل والمصباح والسرائر(4).

وثالثها: الكراهية مطلقا كما عن الخصال وابن سعيد والمراسم(5) حيث قال: «والندب أن لا يمسّ المصحف ولا يقرأ القرآن» بناء على كون خلاف المندوب مكروها.

ص: 835


1- الغنية: 37.
2- المراسم: 42،
3- الانتصار: 31، الخلاف 100:1، الغنية: 37، المعتبر 186:1-187، المنتهى 216:2، نهاية الإحكام 102:1، الإيضاح 48:1، فقه القرآن 50:1.
4- الجمل والعقود: 42، المصباح: 8، السرائر 117:1.
5- الخصال 358:2/42، الجامع للشرائع: 39، المراسم: 42.

ورابعها: الحرمة مطلقا كما عن سلّار في الأبواب على ما حكاه الذكرى(1).

وخامسها: الحرمة فيما زاد على السبع كما عن القاضي(2).

وسادسها: الحرمة فيما زاد على السبعين، كما حكاه في المنتهى(3) عن بعض الأصحاب على ما حكي، واختلفت كلمة العامّة فعن الشافعي: «أنّه يحرم أن يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن» وعن مالك: «للحائض القراءة دون الجنب» وعن أبي حنيفة أنّه حرّم قراءة الآية دون ما دونها، وعن أحمد في بعض الآية تفصيل «فإن كان لا يتميّز القرآن عن غيره فلا بأس وإلّا فالمنع»(4) والأقوى المعتمد هو القول الأوّل.

لنا: على أصل الجواز - بعد الأصل والإجماعات المنقولة البالغة فوق حدّ الاستفاضة - الأخبار المتكاثرة المستفيضة القريبة من التواتر بل المتواترة على ما ادّعي التي فيها الصحاح وغيرها، ففي صحيح عبيدالله بن عليّ الحلبي عن الصادق عليه السلام قال:

«سألته أتقرأ النفساء والحائض والجنب والرجل يتغوّط القرآن ؟ قال: يقرأون ما شاؤوا»(5). وصحيحة فضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لا بأس أن تتلو الحائض والجنب القرآن»(6) وصحيحة زرارة المرويّة عن العلل عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: قلت له: «الحائض والجنب هل يقرآن من القرآن شيئا؟ قال: نعم ما شاءا إلّا السجدة ويذكران الله على كلّ حال»(7) وموثّقة ابن بكير قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الجنب يأكل ويشرب ويقرأ القرآن ؟ قال: نعم يأكل ويشرب ويقرأ ويذكر اللّه عزّ و جلّ ما شاء»(8). والحسن عن زيد الشحّام عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «تقرأ الحائض القرآن والنفساء والجنب أيضا»(9).

وعلى الكراهية فيما زاد على السبع والسبعين موثّقة سماعة قال: «سألته عن

ص: 836


1- الذكري 269:1.
2- المهذّب 43:1.
3- المنتهى 216:2.
4- نقل عنهم في التذكرة 236:1-237.
5- الوسائل 217:2 الباب 19 من أبواب الجنابة ح 6 و 5.
6- الوسائل 217:2 الباب 19 من أبواب الجنابة ح 6 و 5.
7- الوسائل 216:2 الباب 19 من ابواب الجنابة ح 4.
8- الوسائل 215:2 الباب 19 من أبواب الجنابة ح 2 و 1.
9- الوسائل 215:2 الباب 19 من أبواب الجنابة ح 2 و 1.

الجنب هل يقرأ القرآن ؟ قال: ما بينه وبين سبع آيات»(1) قال الشيخ بعد نقل هذه الرواية: «وفي رواية زرعة عن سماعة قال: سبعين آية»(2) ومعنى الخبر يقرأ ما بينه من حيث القرآنية وبين سبع آيات أو سبعين من حيث المقدار.

وحاصله تجويز هذا المقدار من أيّ موضع من القرآن شاء واراد أن يقرأه، فإنّ الجمع بين الخبرين وما تقدّم من الأخبار المجوّزة مطلقا على طريقة تقديم الأظهر على الظاهر الموجب للتصرّف في الظاهر يقضي بما اخترناه، فإنّ دلالة الخبرين على المنع فيما زاد على السبع والسبعين إنّما هي بالمهفوم من باب مفهوم العدد، وهذا المنع المستفاد من المفهوم وإن كان ظاهرا في المنع التحريمي، غير أنّ الأخبار المجوّزة الواردة في مقام الحظر في دلالتها بالمنطوق على رفع الحظر المتوهّم الملازم للجواز والإباحة بالمعنى الأعمّ القابل للكراهة أظهر من الخبرين في الدلالة بالمفهوم على المنع التحريمي، ومن الواجب المقرّر في محلّه تقديم الأظهر على الظاهر ولازمه التصرّف في الظاهر، بعمل المنع المستفاد منه على المنع التنزيهي الغير المنافي للإباحة المطلقة المستفادة من الاخبار المجوّزة.

وأمّا اشتداد الكراهة في الزائد على السبعين، فيجمع بين مفهوم الخبر الأوّل ومنطوق الثاني المقتضي للجواز من دون كراهية ومفهومه المقتضي للكراهة بحملهما على اختلاف مراتب الكراهة، فأوّل مراتبها كراهة الزائد على السبع إلى سبعين، وثانيهما الكراهة من الزائد على السبعين، وقضية ذلك كون الزائد على السبعين أشدّ كراهة من الزائد على السبع.

وأمّا القول بعدم الكراهة مطلقا فلعلّ مبناه على الترجيح السندي للأخبار المجوّزة، فإنّها لكثرتها وصحّة أكثرها أقوى سندا من الخبرين، وقضيّة ترجيحها السندي طرح الخبرين فلا مقتضي للكراهة حينئذ.

ويزيفه: أنّ الترجيح من حيث الدلالة بعد إحراز الحجّية الذاتيّه لسند

ص: 837


1- الوسائل 218:2 الباب 19 من أبواب الجنابة ح 9.
2- التهذيب 128:1، الاستبصار 114:1.

كلا المتعارضين مقدّم على الترجيع، ومرجعه إلى أنّ الجمع مع إمكانه وقيام شاهد عرفي عليه كأظهرية أحد المتعارضين كما في المقام أولى من طرح أحدهما. وبالجملة المرجّحات الدلاليّة مقدّمة على المرجّحات السنديّه، وقضية ذلك إعمال الخبرين أيضا بحملهما على المنع التنزيهي.

وأمّا القول بالكراهة المطلقة فلعلّ مستنده رواية أبي سعيد الخدري المرويّة عن الفقيه في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لعليّ عليه السلام أنّه قال: «يا عليّ من كان جنبا في الفراش مع امرأته فلا يقرآ القرآن، إنّي أخشى أن تنزل عليهما نار فتحرقهما»(1) مضافا إلى رواية السكوني عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن عليّ عليهما السلام قال: «سبعة لا يقرأون: الراكع والساجد وفي الكنيف وفي الحمام والجنب والنفساء والحائض»(2) فإنّهما لضعف سنديهما لا ينهضان لإثبات التحريم مع ظهورهما فيه، فليحملا على الكراهة تسامحا في دليلها.

وفيه: أنّهما مع شذوذهما وضعف سنديهما موافقان لمذاهب العامّة، فالمتعيّن حينئذ حملهما على التقيّة كما هو القانون المقرّر. وبالجملة بعد قيام احتمال التقيّة فيهما بل ظهورها لا يبقى لدلالتهما على المنع ظهور، بل لا وجه للأخذ بدلالتيهما كما لا يخفى.

وأمّا القول بالحرمة المطلقة، فلم نقف له على مستند، ولعلّه الخبران المذكوران وقد عرفت ما فيهما من تعيّن الحمل على التقيّة، مضافا إلى عدم صلوحهما لضعف سنديهما وشذوذهما دليلا على التحريم.

وأمّا القول بالحرمة في الزائد على السبع كالقول بها في الزائد على السبعين فلعلّ مبناهما على الجمع بين الموثّقين والأخبار المجوّزة بطريق التخصيص، فإنّه إذا اخذ بظاهر مفهوميهما من المنع التحريمي يتعيّن تخصيص الأخبار المجوّزة بمفهوميهما.

وفيه: أنّ بناء العامّ على الخاصّ فرع التكافؤ من حيث الدلالة إن لم نقل باعتبار

ص: 838


1- الوسائل 216:2 الباب 19 من ابواب الجنابة ح 3.
2- الوسائل 246:6 الباب 47 من أبواب قراءة القرآن ح 1.

كون الخاصّ أظهر بالقياس إلى العامّ ، وقد عرفت انعكاس الأمر هنا، وقضيّه كون المجوزات أظهر دلالة في الجواز من المفهوم الخاصّ تقدّم العمائم على الخاصّ المقتضي للتصرّف في الخاصّ بنحو ما تقدّم، وهل تكرار آية واحدة سبع مرّات يعدّ من قراءة آيات أو لا؟ احتمالان بل قولان، أقواهما الثاني لعدم صدق سبع آيات على الآية المكرّرة سبع مرّات كما لا يخفى. وتظهر الثمرة في قراءة هذه الآية في المرّة الثامنة أو قراءة آية اخرى بعد التكرار بسبع مرّات، فهل يكره أو لا؟ وجهان مبنيّان على الاحتمالين، وعلى المختار لا يكون مكروها. والحائض والنفساء تلحقان على الجنب في جميع ما ذكر، ووجهه واضح.

المسألة التاسعة: في نوم الجنب قبل الاغتسال،
اشارة

ولا إشكال بل لا خلاف في جوازه بالمعنى المقابل للحرمة، على معنى أنّه لا يحرم. والأصل فيه - بعد الأصل والإجماع محصّلا ومنقولا - جملة من النصوص المعتبرة المصرّحة بذلك كصحيحة سعيد الأعرج عن الصادق عليه السلام قال: «سمعته يقول: ينام الرجل وهو جنب وتنام المرأة وهي جنب»(1) وما في ذيل موثقة سماعة قال: «سألته عن الجنب يجنب ثمّ يريد النوم ؟ قال: إن أحبّ أن يتوضّأ فليفعل، والغسل أفضل من ذلك، فإن هو نام ولم يتوضّأ ولم يغتسل فليس عليه شيء»(2).

نعم إنما ثبت هذا الجواز في ضمن الكراهة، ومحصّله كراهة النوم للجنب قبل أن يغتسل. والأصل فيه - بعد الإجماع محصّلا ومنقولا كما عن ظاهر التذكرة(3) وصريح الغنية والمعتبر والمنتهى وشرح الدروس(4) للخوانساري - صحيحة عبيدالله الحلبي عن الصادق عليه السلام «عن الرجل أينبغي أن ينام وهو جنب قال: يكر. ذلك حتى يتوضّأ»(5) فإنّ لفظ «الكراهة» وإن شاع إطلاقه في الأخبار على الحرمة لكن الواجب حمله هنا على الكراهة المطلحة للإجماع على انتفاء الحرمة كما عرفت، مضافا إلى أنّه طريق

ص: 839


1- الوسائل 228:2 الباب 25 من أبواب الجنابة ح 5.
2- الوسائل 228:2 الباب 25 من أبواب الجنابة ح 6.
3- التذكرة 242:1.
4- الغنية: 37، المعتبر 191:1، المنتهى 230:2، مشارق الشموس: 167.
5- الوسائل 227:2 الباب 25 من أبواب الجنابة ح 1.

الجمع بينه وبين ما تقدّم من المصرّحة بالجواز.

ويستفاد الكراهة أيضا من المرويّ عن علل الصدوق بإسناده عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «لا ينام المسلم وهو جنب ولا ينام إلّا على طهور، فإن لم يجد الماء فليتمّم بالصعيد»(1) فإنّه وإن ظهر في المنع إلّا أنّه لقصور سنده ومخالفة ظاهره الإجماع وعدم صلوحه لمعارضة ما مرّ يحمل على الكراهة.

وظاهر الغاية في الصحيحة زوال الكراهة بالوضوء كما عن ظاهر الأكثر، قيل وهو المعتمد عملا بظاهر النصّ ، فإنّ التعليق على الغاية يدلّ على الانتفاء عمّا بعدها، وربّما قيل بالخفّة مع الوضوء دون زوال الكراهة بالمرّة، وقد يستظهر ذلك من عبارة السرائر «ويكرهه أن ينام قبل الاغتسال فإن أراد ذلك توضّأ ونام إلى وقت الاغتسال»(2)وكذلك عبارة النهاية(3).

وفيه نظر، ومستند هذا القول صحيحة عبدالرحمن بن أبي عبداللّه عن الصادق «عن الرجل يواقع أهله أينام على ذلك ؟ قال: إن اللّه يتوفّى الأنفس حين منامها ولا يدري ما يطرقه من البليّة، إذا فرغ فليغتسل»(4) فإنّ إطلاق الأمر بالاغتسال بعد الاغتسال(5)يدلّ على أنّه المزيل للكراهة دون الوضوء. وقد يستند إلى الموثقة المتقدّمة ولعلّه لمكان قوله عليه السلام: «والغسل أفضل من ذلك» بناء على توهّم أنّ الوجه في أفضلية الغسل أنه رافع للكراهة بالمزة دون الوضوء فإنّ غايته التخفيف.

وضعف هذا القول بملاحظة ما تقدّم غير خفيّ كضعف مستنده، فإنّ الصحيحة لا تعرّض فيها للكراهة بغير اغتسال فضلا عن تعرّضه لعدم زوال الكراهة بالوضوء، بل غاية ما فيها الدلالة على استحباب الغسل لنفسه لحكمة أن لا يتّفق الموت على الجنابة ولذا علّق الأمر بالاغتسال على الفراغ، وأطلق على وجه يتناول إرادة النوم وغيرها،

ص: 840


1- الوسائل 227:2 الباب 25 من ابواب الجنابة ح 3.
2- السرائر 18:1.
3- النهاية 229:1.
4- الوسائل 228:2 الباب 25 من ابواب الجنابة ح 4.
5- كذا في الأصل، والظاهر انه سهو من قلمه الشريف، والصواب: «بعد الوقاع» بدل «بعد الاغتسال» نظرا إلى السياق، فتدبّر.

ولازمه ثبوت الحكم وإن لم يكن مريدا للنوم، ولا يظنّ بأحد القول بالكراهة مع البقاء على الجنابة يقظة، ولا ريب أنّ استحباب الغسل لنفسه لحكمة ما ذكر لا يستلزم كراهة النوم من غير اغتسال، كما أنّه لا يستلزم كراهة البقاء على الجنابة إلى آن الاغتسال إلّا على القول بأن ترك المندوب مكروه وهو خلاف التحقيق، فلا منافاة للصحيحة لمقتضى ما تقدّم من زوال الكراهة بالوضوء.

كما أنّه كذلك في الموثّقة أيضا فإنها أيضا لا تنافي صحيحة الحلبي القاضية بكون الوضوء رافعا للكراهة بالمرّة، فإنّها إنّما تنافيها إذا كان الوجه في أفضليّة الغسل هو ما ذكر، وهو محلّ منع لجواز أن يكون الوجه فيها أنّ الوضوء لا يرفع إلّا الكراهة بخلاف الغسل فإنّه يرفع الكراهة وحدث الجنابة معا فيكون أفضل، أو أنّ الوضوء للنوم امتثال لتكليف واحد وهو النهي التنزيهي والغسل له امتثال لتكليفين النهي التنزيهي والاستحباب النفسي، ولا ريب أنّه إذا دار الأمر بين موجب امتثال تكليف وموجب امتثال تكليفين كان الثاني أفضل وأكمل. وربّما يحتمل شيء آخر. فكلّ هذه الوجوه محتمل، ولا دلالة للصحيحة على تعيين ما ذكر دون غيره.

نعم ربّما يبقى الإشكال في مفاد المرويّ عن العلل لقضائه بانحصار رافع الكراهة في الاغتسال، بناء على أنه المراد من الطهور حملا له على رافع الحدث لا على مطلق الماء وإن لم يرفع. ويمكن الذبّ عنه: بأنّ دلالته إنّما هي بالعموم فيخصص بما مرّ، فيكون مفاد قوله عليه السلام: «لا ينام إلّا على طهور» بضميمة المخصص المتّصل والمخصص المنفصل «لا ينام على حال إلّا حال الغسل أو حال الوضوء» ولا ضير في كون دلالة المخصص الثاني بالمفهوم لجواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة، سيّما إذا كان المفهوم أقوى سندا هذا.

ولكنّ الإنصاف أنّ هذا الخبر لا يعارض الصحيحة المقتضية لزوال الكراهة بالوضوء، لا في فقرته الأولى وهو قوله عليه السلام: «لا ينام المسلم وهو جنب» بتوهّم أنّه بعمومه يقتضي كراهة النوم توضّأ أو لم يتوضّا، ولا في فقرته الثانية وهو قوله:

«ولا ينام إلّا على طهور» بدعوى قضائه بانحصار مزيل الكراهة في الطهور الّذي ليس في الجنب إلّا الغسل لأنّه المطهّر بمعنى رافع الحدث لا الوضوء.

ص: 841

أمّا الأوّل: فلأنّ النسبة بين قوله: «لا ينام المسلم وهو جنب» وبين قوله: «يكره ذلك حتى يتوضّا» من باب النسبة بين المطلق والمقيد، والقاعدة تقتضي حمل مطلق الخبر على مقيد الصحيحة، فيكون المعنى المراد من قوله: «لا ينام المسلم وهو جنب» أنّه لا ينام وهو جنب ما لم يتوضّأ.

وأمّا الثاني: فلأنّ ظاهر قوله: «ولا ينام إلّا على طهور» أنّه مبالغة في استحباب النوم على طهور غسلا إذا كان جنبا ووضوء في غير الجنب من المحدث بالأصغر، ولذا استدلّ غير واحد بهذا الخبر على استحباب الوضوء للنوم في غير الجنب في مسألة كون النوم من الغايات الّتي يستحبّ لها الوضوء. وقضيّة استحباب النوم على طهور غسلا أو وضوء استحباب الغسل في الجنب للنوم واستحباب الوضوء له في غيره، وهذا لا يستلزم كراهة النوم من غير غسل ولا كراهته من غير وضوء، ولذا لم يقل أحد بالكراهة في غير الجنب تمسّكا بهذا الخبر. فهو في فقرته الثانية لا ينافي ظهور قوله:

«يكره ذلك حتّى يتوضّأ» المقتضي للكراهة وزوالها بالوضوء كما هو واضح.

فروع،
الأوّل: لا فرق في كراهة نوم الجنب من غير وضوء بين النوم في الليل والنوم في النهار ولا فيهما بين أوقات النوم فيهما،

عملا بعموم قوله: «يكره ذلك» فإنّه جواب ورد على وفق السؤال المفروض من باب القضيّة الفرضيّة فيشمل بإطلاقه جميع صور النوم ومواقعه، فإطلاق الجواب المنطبق على السؤال يشمل جميع ما شمله إطلاق السؤال.

الثاني: الأظهر أنّه لا يكتفي بوضوء واحد لما زاد على نومة واحدة،

كما لو توضّأ ونام ثمّ تنبّه إلى أن أراد النوم في وقت آخر، بل يعتبر لكلّ نومة وضوء، وقضيّة ذلك تكرّر الوضوء بتكرّر النومات ثنائيّة أو ثلاثية ورباعية وهكذا عملا بعموم ما دلّ على ناقضية النوم للوضوء مع إطلاق قوله عليه السلام: «يكره ذلك حتّى يتوضّأ» فإنّ الوضوء الأوّل قد انتقض بالنومة الأولى فيكون ممّن نام جنبا من غير وضوء، ومقتضى إطلاق «يكره» كون النومة الثانيّة والثالثّة وغيرهما مكروهة، فيتوقف زوال الكراهة على مراعاة الوضوء لكلّ نومة، وقضيّة ذلك أيضا تكرّر الوضوء فيمن نام على فراشه بتكرّر الاستيقاظات الّتي تتّفق له في الفراش، وممّا ذكر ظهر أنّه لو توضّأ لأن ينام فصدر منه

ص: 842

حدث من بول أو غائط أو ريح قبل أن ينام فلا يكتفي بالوضوء المذكور بل يعتبر وضوء آخر للنوم عملا بعموم أدلّة النواقض مع عموم دليل كراهة النوم من غير وضوء.

الثالث: أنّ المستفاد من نصوص الباب أنّ الجنب المريد للنوم مخاطب بخطابين:

احدهما: استحباب الوضوء لنومه لكون النوم من غير وضوء مكروها.

وثانيهما: استحباب الغسل له لكونه أمرا راجحا في نظر الشارع لحكمة أن لا يتّفق موته جنبا، وحينئذ فإذا توضّأ فلا ريب في أنّه لا يوجب سقوط الخطاب بالغسل لعدم حصول امتثاله مع بقاء موضوعه وهو الجنابة، نظرا إلى أنّ الوضوء غير رافع لها، وأمّا إذا عكس فاغتسل فإنّه يوجب سقوط الخطاب بالوضوء لارتفاع موضوعه وهو الجنابة بالغسل، هذا كلّه فيما لو تمكن من الوضوء والغسل معا، وأمّا إذا لم يتمكن فإمّا لا يتمكن من الغسل فقط كما لو كان راجحا من الماء ما لا يكفيه إلّا للوضوء، أو لا يتمكن منهما معا.

أمّا الاوّل: فلا إشكال في أنّه من حيث عدم تمكنه من الغسل مخاطب بالتيمّم لخصوص ما في الخبر المتقدّم من قوله عليه السلام: «وإذا لم يجد الماء فليتيمّم بالصعيد».

وهل يجمع بين التيمّم بدلا عن الغسل والوضوء المتمكن منه بالفرض ؟ وجهان من أنّ الغسل حيثما حصل مسقط عن الوضوء فكذلك بدله عملا بقاعدة مساواة البدل مبدله في الاحكام، ومن أنّ الغسل إنّما كان مسقطا من حيث رفعه موضوع الوضوء ولا يشاركه بدله في الرفع لأنّه لا يرفع الحدث فلا يشاركه في الحكم، وهذا هو الأوجه. فالجمع بين الوضوء والتيمّم بدلأ عن الغسل ليس ببعيد، عملا بعموم قوله:

«يكره ذلك حتّى يتوضّأ» مع قوله: «إذا لم يجد الماء فليتيمّم بالصعيد» فإنه لا مخرج عن شيء من الخطابين.

وأمّا الثاني فهل يكون مخاطبا بالتيمم بدلا عن الوضوء كما أنّه مخاطب به بدلا عن الغسل أو لا يكون مخاطبا إلّا ببدل الغسل ؟ وجهان مبنيّان على عموم بدليّة التيمّم لكلّ وضوء وغسل حتى نحو هذا الوضوء وعدمه، وعلى القول بالعموم كما عليه جماعة يكون مخاطبا بتيمّمين، وحينئذ فالأظهر أنهما لا يتداخلان لأصالة عدم التداخل على ما حقّقناه في محلّه، سيّما على القول باعتبار ضربتين في بدل الغسل،

ص: 843

وأمّا على القول بأصالة التداخل مع القول بالاكتفاء بضربة واحدة فهما يتداخلان فيكتفي بتيمّم واحد، فإن قلنا بعدم اعتبار قصد البدليّة في التيمّم يكفي فيه قصد القربة، وأمّا على القول الآخر فالأحوط مراعاة قصد البدليّة عن الوضوء والغسل معا تحصيلا ليقين امتثال التكليفين.

المسألة العاشرة: في أكل الجنب وشربه،

ولا إشكال في جوازه بالمعنى المقابل للتحريم، للأصل ويشمله الإجماعات المنقولة على الكراهة بل لا خلاف فيه ظاهرا عدا ما يظهر من الصدوق في عبارته المحكية عن الفقيه والهداية «الجنب إذا أراد أن يأكل ويشرب لم يجز له إلّا أن يغسل يديه ويتمضمض ويستنشق»(1) وهو مع شذوذه وعدم مستند صحيح له محتمل لإرادة الكراهة كما يكثر منه من التعبير عنها بعدم الجواز، ويدلّ عليه من النصوص المعبرة موثقة ابن بكير عن الصادق عليه السلام «عن الجنب يأكل ويشرب ويقرأ القرآن ؟ قال: نعم يأكل ويشرب ويقرأ ويذكر اللّه ما شاء»(2).

نعم إنما ثبت هذا الجواز على وجه الكراهية، فيكره له الأكل والشرب ما لم يأت بما يرفعها من الامور الآتية، وعليها الأكثر كما في المدارك وعن جامع المقاصد(3)ونسب إلى المشهور كما عن المسالك وكشف اللثام(4) بل ظاهر المحكيّ عن التذكرة وفوائد الشرائع وحاشية المدارك دعوي الإجماع عليه(5) حيث نسبوها إلى علمائنا، بل عن الغنية دعوى الإجماع صريحا(6) وكلّ هذه الأمور يكفي في الحجّة عليها ولو بانضمام قاعدة المسامحة في دليلها إن لم نقل بحجّيّة الإجماع المنقول والشهرة.

مضافا إلى النصوص المستفيضة ففي حديث المناهي المذكور في آخر الفقيه قال:

«نهى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عن الأكل على الجنابة، وقال: إنه يورث الفقر»(7) وفي رواية السكوني في حديث قال: «لا يذوق الجنب شيئا حتّى يغسل يديه ويتمضمض فإنّه يخاف منه الوضح»(8) قيل: الوضح هو البرص كما في كلام جماعة. وفي المرويّ عن

ص: 844


1- الفقيه 83:1، الهداية: 20.
2- الوسائل 215:2 الباب 19 من أبواب الجنابة ح 2.
3- المدارك 283:1، جامع المقاصد: 268:1.
4- المسالك 52:1، كشف اللثام 36:2.
5- التذكرة 242:1، فوائد الشرائع: 15، حاشية المدارك 329:1.
6- الغنية: 37.
7- الوسائل 219:2 الباب 20 من أبواب الجنابة ح 5 و 2.
8- الوسائل 219:2 الباب 20 من أبواب الجنابة ح 5 و 2.

الفقه الرضوي «وإذا أردت أن تأكل على جنابتك فاغسل يديك وتمضمض واستنشق ثمّ كل واشرب إلى أن تغتسل، فإن أكلت وضربت قبل ذلك أخاف عليك البرص ولا تعود إلى ذلك»(1) ظاهر النهي فيها وإن كان هو التحريم لكنّها لقصور أسانيدها الموجب لعدم صلاحيتها لإثبات التحريم بها مع عدم عامل بها في هذا الظهور معروفة إلى إرادتها، ولا ضير حينئذ في قصور اسانيدها بملاحظة قاعدة التسامح، مع أنّ في الصحاح أيضا ما يوافقها.

ففي صحيح عبيدالله بن عليّ الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: «إن كان الرجل جنبا لم يأكل ولم يشرب حتّى يتوضّأ»(2) وإن افتقر إلى صرفه عن ظاهر النهي أيضا بملاحظة إعراض الأصحاب عن هذا الظاهر.

نعم لا يفتقر إلى هذا التصرّف ما في صحيح عبد الرحمن قال: «قلت للصادق عليه السلام:

أ يأكل الجنب قبل أن يتوضّأ؟ قال: إنما لنكسل، ولكن يغسل يده أو يتوضأ»(3) بناء على رجوع قوله عليه السلام: «إنّا لنكسل» إلى الأكل حال الجنابة من غير وضوء ليكون معناه: «إنّا نتثاقل في هذا الأمر ولا نتسارع اليه» فإنّه حينئذ ظاهر كالصريح في مطلق المرجوحيّة بل الكراهة أيضا لا إلى الوضوء كما فهمه الكاشاني في الوافي(4) فأشكل عليه الأمر حينئذ لكونهم عليهما السلام أجلّ من أن يكسلوا في شيء من عبادات ربّهم، فاحتمل أن يكون قوله: «لنكسل» مصحّف «إنّا لنغتسل» مع أنه على الفرض المذكور لا يتوجّه الإشكال المزبور إذا كان مراده عليه السلام من قوله عليه السلام: «إنّا لنكسل» تعريضا على غيره من حضّار المجلس أو أصحابه المتعوّدين للأكل والشرب من غير وضوء ردعا لهم كما هو الدّأب والديدن من أنّ المتكلّم كثيرا ما عند إرادة التعريض والتعيير على غيره يشارك نفسه إياه في الإسناد وإن لم يشاركه بحسب الواقع.

والظاهر كفاية مسمّى الأكل والشرب في انعقاد الكراهة، وانعقادها بما دونه وإن

ص: 845


1- المستدرك 466:1 الباب 13 من أبواب الجنابة ح 2.
2- الوسائل 219:2 الباب 20 من ابواب الجنابة ح 4.
3- الوسائل 220:2 الباب 20 من ابواب الجنابة ح 7، في الوسائل: «ولكن ليغسل يده فالوضوء أفضل».
4- الوافي 423:6.

لم يساعد عليه كلام الأصحاب غير أنّ ما في رواية السكوني من أخذ الذوق موضوعا للحكم ربّما يقتضيه لأنّه يشمل ما لا يشمله الأكل والشرب.

وكيف كان فكما يكره للجنب الأكل والشرب على جنابته، فكذلك يستحبّ له ما اختلفت فيه نصوص الباب مع فتاوي الأصحاب فالمستفاد من صحيح الحلبي أنه الوضوء، ومن صحيحة عبد الرحمن أنّه غسل اليد والوضوء على وجه التخيير بينهما مع كون الوضوء أفضل، ومن صحيح زرارة عن الباقر عليه السلام قال: «الجنب إذا أراد أن يأكل ويشرب غسل يده وتمضمض وغسل وجهه»(1) أنه الثلاث المذكورة فيه، ومن رواية السكوني أنّه غسل اليدين والتمضمض، ومن المرويّ عن الرضوي أنّه غسل اليدين والتمضمض والاستنشاق، والمصرّح به في كلام الأكثر المنسوب إلى المشهور بل المدّعى عليه الإجماع كما عن ظاهر الغنية والتذكرة أنّه التمضمض والاستنشاق(2).

والمحكيّ عن المنتهى والتحرير ونهاية الإحكام والدروس أنه الوضوء أو التمضمض والاستنشاق(3) على وجه التخيير بينهما، وعن الفقيه والهداية والأمالي أنّه غسل اليدين والتمضمض والاستنشاق كما في الرضوي، وعن المعتبر أنّه غسل اليدين والتمضمض كما في رواية السكوني، وعن المقنع أنّه غسل الفرج والوضوء(4) وعن النفلية أنّه غسل اليدين والتمضمض والاستنشاق وغسل الوجه(5).

وقضيّة الجمع بين النصوص والفتاوي مع ضميمة قاعدة التسامح استحباب أحد الأمور على وجه التخيير، ولذا اخذ جماعة التخيير بين الوضوء ثمّ غسل اليدين والتمضمض والاستنشاق وغسل الوجه ثمّ الثلاث الأولى ثمّ الأخيران ثمّ الأوّل مصرّحين باختلاف مراتبها في الفضل والكمال بالترتيب المذكور، فأفضل الكلّ وأكملها الوضوء، ودون الجميع غسل اليدين، ولا بأس بهذا كلّه.

ثمّ هل(6) المذكورة إذا حصل. أحدها هل ترفع الكراهة بالمرّة أو توجب فيها الخفّة ؟ قولان، قيل بالأوّل كما هو ظاهر الأكثر، وهو ظاهر النصوص أيضا فهو المعتمد،

ص: 846


1- الوسائل 219:2 الباب 20 من أبواب الجنابة ح 1.
2- الغنية: 37، التذكرة 242:1.
3- المنتهى 232:2، التحرير 12:1، نهاية الإحكام 104:1، الدروس 96:1.
4- المقنع: 13.
5- النفليّة: 98.
6- كذا في الأصل.

وقيل بالثاني كما نصّ عليه في الشرائع(1) وعزي إلى الاقتصاد والإصباح ومختصره والسرائر ونهاية الإحكام(2) ونفي البأس عنه في الرياض(3) استنادا - كما في كلام جماعة - إلى تعليل كراهة الأكل على الجنابة في حديث المناهي بايراثه الفقر والفاقة، بتقريب: أنّ شيئا من الأمور المذكورة لا يرفع الجنابة الّتي هي المناط في هذه الآفة.

ويزيّفه: منع كون الجنابة علّة تامّة لآفة الفقر والفاقة، لجواز كونه هي مع قيد عدمي وهو عدم مراعاة أحد الأمور المذكورة كما هو مقتضي الروايات الأخر الظاهرة في ارتفاع الكراهة بأحدها، فإنّه لا يستقيم إلّا مع مدخليّة القيد العدمي، كيف ولو لم يكن له مدخليّة لم يعقل حصول الخفّة بأحدها مع العلّة التامّة للآفة المذكورة الّتي حصولها الجهة المقتضية للكراهة، فغاية ما في حديث المناهي الإطلاق وهو صالح للتقييد فتأمّل.

ثمّ إنّ في كفاية الإتيان بأحد الأمور مرّة واحدة لكلّ أكل وشرب في تأدّي السنة، أو تكرّره عند كلّ أكل وشرب مع الفصل بالمعتاد بين الأكلين أو الشربين، أو مع تخلّل الحدث أو مع صدق التعدّد عرفا احتمالات، ولا يبعد القول بإناطة التكرار وعدمه في الوضوء خاصّة بتخلّل الحدث وعدمه عملا بعموم دليل ناقضية الحدث للوضوء بل هو الأقوى، وفي غيره إشكال لعدم الدلالة على انتقاضه بالحدث. إلّا أن يقال بالأولوية، وهو موضع منع. ولقائل أن يقول: بالتكرار في غير الوضوء لكلّ أكل وشرب عند صدق التعدّد عرفا عملا بظاهر الشرطيّة الظاهرة في السببيّة المفيدة للتكرار في صحيحة زرارة، كما تنبّه عليه بعض مشايخنا(4) واللّه العالم

المسألة الحادية عشر: في خضاب الجنب،

وهو ما يتلوّن به من حناء وغيره كما في كلام جماعة، وهو أيضا مكروه على المشهور كما في الحدائق(5) وهو مذهب أكثر علمائنا كما عن التذكرة(6) وعن الغنية الإجماع عليه(7) لكن عن الفقيه «ولا بأس أن

ص: 847


1- الشرائع 27:1.
2- الإقتصاد: 244، المصباح: 9، السرائر 117:1، نهاية الإحكام 104:1.
3- الرياض 232:1.
4- الجواهر 67:3.
5- الحدائق 147:3.
6- التذكرة 243:1.
7- الغنية: 37.

يختضب الجنب ويجنب وهو مختضب ويحتجم ويذكر الله ويتنوّر ويذبح ويلبس الخاتم وينام في المسجد»(1) ويمكن حمله على إرادة نفي التحريم فلا خلاف حينئذ.

وكيف كان فمستند الحكم بعد ما ذكر النصوص المستفيضة الناهية عنه ففي رواية كردين المسمعي قال: «سمعت الصادق عليه السلام يقول: لا يختضب الرجل وهو جنب، ولا يغتسل وهو مختضب»(2) ورواية عامر بن جذاعة عن الصادق عليه السلام قال: «سمعته يقول: لا تختضب الحائض ولا الجنب ولا تجنب وعليها خضاب ولا يجنب هو وعليه خضاب ولا يختضب وهو جنب»(3) والمرويّ عن مكارم الأخلاق للطبرسي عن كتاب اللباس للعيّاشي عن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قال: «يكره أن يختضب الرجل وهو جنب، وقال: من اختضب وهو جنب أو أجنب في خضابه لم يؤمن عليه أن يصيبه الشيطان بسوء»(3) وعن جعفر بن محمّد قال: «لا تختضب وأنت جنب ولا تجنّب وأنت مختضب ولا الطامث فإنّ الشيطان يحضرها عند ذلك، ولا بأس به للنفساء»(4).

والنهي فيها وإن كان ظاهرا في التحريم، غير أنّه مصروف إلى الكراهة لشهادة سياق بعضهما مع قصور أسانيدها المانع عن إثبات التحريم بها مع عدم عامل بظاهر النهي فيها، مع أنّ في النصوص ما هو ظاهر فيها كرواية جعفر بن محمّد بن يونس «إنّ أباه كتب إلى أبي الحسن الأوّل يسأله عن الجنب يختضب ويجنب وهو مختضب ؟

فكتب: لا احبّ ذلك»(6).

مع أنه مقتضي الجمع بينها وبين المستفيضة الآخر النافية للبأس عن الأمرين، كصحيحة البزنطي عن أبي الحسن الأوّل قال: «لا بأس بأن يختضب الجنب ويجنب المختضب ويطلي بالنورة»(5) ورواية السكوني عن الصادق عليه السلام قال: «لا بأس بأن يختضب الرجل وهو جنب ويجنب وهو مختضب»(6) ورواية عليّ عن العبد الصالح عليه السلام قال: قلت: «الرجل يختضب وهو جنب ؟ قال: لا بأس»(9) وموثّقة سماعة قال: «سألت

ص: 848


1- الفقيه 87:1.
2- الوسائل 222:2 الباب 22 من ابواب الجنابة ح 5. (3و6و9) الوسائل 222:2 الباب 22 من ابواب الجنابة ح 9 و 8 و 7.
3- الوسائل 223:2 الباب 22 من أبواب الجنابة ح 10 و 11.
4- الوسائل 223:2 الباب 22 من أبواب الجنابة ح 10 و 11.
5- الوسائل 221:2 الباب 22 من أبواب الجنابة ح 1 و 3.
6- الوسائل 221:2 الباب 22 من أبواب الجنابة ح 1 و 3.

العبد الصالح عن الجنب والحائض يختضبان ؟ قال: لا بأس»(1) وصحيحة الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: «لا بأس أن يختضب الرجل وهو جنب»(2).

وعن المفيد رحمه الله تعليل الكراهة «بأنّه يمنع وصول الماء إلى ظاهر الجوارح الّتي عليها الخضاب»(3) وهذا كما ترى لا ينطبق على القواعد، ولا يجديه ما عن المعتبر(4)من توجيهه «بأنّه لعلّه نظر إلى أنّ اللون عرض وهو لا ينتقل فيلزم حصول أجزاء من الخضاب في محلّ اللون لكنّها خفيفة لا تمنع الماء منعا تامّا فكرهت لذلك» انتهى.

وكيف كان، فالاعتماد على النصوص وهي كفتاوي الأصحاب كما تقتضي كراهة الخضاب على الجنابة كذلك تقتضي كراهة العكس وهو الجنابة اختيارا على الخضاب، لكن ينبغي أن يقطع بأنّه لا كراهة فيما لو أجنب بعد الخضاب وهو حال وجود اللون كما نصّ عليه المفيد في عبارته المحكيّة عن المقنعة: «فإن أجنب بعد الخضاب لم يحرج بذلك»(5) بل في بعض الأخبار ارتفاع الكراهة بما لو أجنب بعد ما أخذ الحنّاء مأخذه، ففي خبر أبي سعيد قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: «أيختضب الرجل وهو جنب ؟ قال: لا، قلت: فيجنب وهو مختضب ؟ قال: لا، ثمّ سكت قليلا، ثمّ قال: يا أبا سعيد ألا أدلّك على شيء تفعله ؟ قلت: بلى ؟ قال: إذا اختضبت بالحناء وأخذ الحنّاء مأخذه وبلغ فحينئذ فجامع»(6).

ثمّ لا فرق في الكراهة في المسألتين بين كون الخضاب على الكفّ أو اللحية أو الرأس، لكن يختصّ الحكم بما إذا كان الخضاب بالحناء والوسمة لأنّهما من الأفراد المتعارفة المنصرف اليها الإطلاق، فلا يكره بغيرهما ممّا يتلوّن به للأصل وعدم الدلالة المخرجة عنه. واللّه العالم.

ثمّ بقي ممّا يتعلّق بغسل الجنابة مسألتان مهمّتان:
المسألة الأولى: فيما لو تخلّل حدث أصغر في أثناء الغسل الترتيبي،

ففي وجوب إعادة الغسل من أوّله كما عن الرسالة والفقيه والهداية للصدوقين والمبسوط والنهاية

ص: 849


1- الوسائل 222:2 الباب 22 من ابواب الجنابة ح 6.
2- الوسائل 223:2 الباب 23 من أبواب الجنابة ح 1، وفيه: أن يحتجم الرجل.
3- المقنعة: 58.
4- المعتبر 192:1.
5- المقنعة: 58.
6- الوسائل 221:2 الباب 22 من أبواب الجنابة 4.

ونهاية الإحكام والمنتهى والتحرير والتذكرة والقواعد والمختلف والإرشاد والدروس والذكرى والبيان واللمعة والمقتصر وغاية المرام والتنقيح وحاشية المدارك والحدائق(1)ونقل عن الإصباح والجامع(2) وعن حاشية المدارك نسبته إلى المشهور(3) كما عن شرح الألفية أيضا(4) أو الإتمام والوضوء معه كما عن المرتضى والمحقّق في كتبه الثلاث وتلميذه اليوسفي والشهيد الثاني وولده وسبطه وتلميذه الشيخ حسين بن عبد الصمد والسيّد علي الصايغ في شرح الإرشاد والمحقّق الأردبيلي والشيخ البهائي ووالده والشيخ نجيب الدين والفاضل الهندي(5). أو الإتمام من دون وضوء كما عن القاضي والعجلي والكركي في كتبه الثلاث والباقر الداماد والفاضل الخراساني والصالح سليمان البحراني(6) أقوال.

ولكلّ واحد منها وجوه من الاحتجاج، لا يخلو أكثرها عن شيء. وينبغي النظر أوّلا في الأصول الجارية في المقام فإنّها على ما وقع التمسّك بها أصول أربع، أصل البراءة المتمسّك به تارة لنفي وجوب الوضوء واخرى لنفي وجوب الإعادة، وقاعدة الشغل المتمسّك بها تارة لإثبات وجوب الإعادة واخرى لإثبات وجوب الوضوء مع الإتمام، واستصحاب الصحّة المتمسّك به لنفي وجوب الإعادة وكفاية إتمام هذا الغسل،

ص: 850


1- الفقيه 88:1، الهداية: 21، المبسوط 30:1، النهاية 233:1، نهاية الإحكام 114:1، المنتهى 254:2، التحرير 13:1، التذكرة 246:1، القواعد 210:1. المختلف 338:1، إرشاد الأذهان 226:1، الدروس 97:1، الذكرى 248:1، البيان: 15، اللمعة: 20، المقصر: 50، غاية المرام 1: 68، التنقيح 98:1، حاشية المدارك 346:1، الحدائق 134:3.
2- إصباح الشيعة (سلسلة الينابيع الفقهيّة) 430:2، الجامع للشرائع: 40.
3- حاشية المدارك 346:1.
4- شرح الألفيّة (رسائل المحقّق الكركي) 203:3.
5- نقل عنه في المعتبر 196:1، الشرائع 28:1، النافع: 9، المعتبر 196:1، كشف الرموز 73:1، الروضة 358:1، الاثنا عشرية: 58 (مخطوط)، المدارك 307:1، نقل عنه في الحدائق 129:3، مجمع الفائدة 140:1-141، الحبل المتين 183:1، نقل عنه في مفتاح الكرامة 107:3، كشف اللثام 46:2.
6- جواهر الفقه: 12، السرائر 119:1، جامع المقاصد 276:1، الرسالة الجعفرية (رسائل المحقق الكركي وآثاره) 9.:1، شرح الألفيّة (رسائل الكركي) 203:3، نقل عنه في الحدائق 129:3، كفاية الأحكام: 32-33، الذخيرة: 60.

وأصالة عدم ارتفاع حدث الجنابة واستصحاب بقائه للتمسّك به لنفي كفاية إتمام هذا الغسل وإثبات وجوب الإعادة.

ولكن الصحيح منها على وجه يعتمد عليه أصلان استصحاب الصحّة وقاعدة الشغل بالنسبة إلى الصلاه المشترطة بالطهارة عن الحدث الأكبر والحدث الأصغر ومقتضاهما تعيّن المصير إلى القول الثاني، فالأقوى والمعتمد هو هذا القول عملا - مضافا إلى ما سيأتي - بالأصلين، إذ باستصحاب الصحّة يثبت كفاية هذا الغسل بعد إتمامه في رفع الحدث الأكبر، إذ المراد بالصحّة المستصحبة هي الصحّة التأهلية، والصحّة بحسب الصلاحية أي صلاحية الجزء من الغسل المتقدّم على الحدث المتخلّل للتأثير في رفع الحدث وإباحة الدخول في الصلاة.

إذ لا ريب في كونه قبل طروّ الحدث بحيث إذا لحقه الأجزاء الباقية من الغسل وارتبطت بها كان مؤثّرا ورافعا لحدث الجنابة ومبيحا للصلاه، فإذا طرأ الحدث بعده يشك بقاء هذه الحيثّية وتلك الصلاحية وارتفاعها فتكون مستصحبة، فإذا بقى فيه الصلاحية ارتبطت الأجزاء الباقية ولازم المجموع بحسب الشرعي الصحّة الفعليّة وهو زوال الجنابة واستباحة الصلاة.

كما أن قاعده الشغل بالنسبة إلى الصلاة يثبت بها اعتبار الوضوء، فإنّ اليقين بالبراءة عن الصلاة المشتغل بها الذمّة لا يحصل إلّا بإحراز طهارتين، الطهارة عن الحدث الأكبر وهو الجنابة، والطهارة عن الحدث الأصغر، والاولى ممّا يحرزها الغسل المذكور بعد إتمامه إلّا أن الثانية على تقدير حصول الحدث الأصغر بالحدث المتخلّل لا تحرز بالغسل، لأنّه لا. يرفع الحدث الأصغر الطارئ في الأثناء، وغايته أنّه يشك في ارتفاعه على تقدير حصوله بالغسل وعدم ارتفاعه، فيشك في حصول البراءة عن الصلاة من دون وضوء، وحيث إنّ اليقين بالبراءة بعد اليقين بالاشتغال لا يحصل إلّا بالوضوء فيجب تحصيلا ليقين البراءة.

لا يقال: إنّ استصحاب الصحّة يعارضه قاعدة الشغل بالنسبة إلى الغسل، فإنّ الاشتغال به بعد تحقّق الجنابة حاصل يقينا ولا يحصل اليقين بالبراءة منه إلّا بالإعادة، لأنّه إذا أعاد الغسل فإن كان وظيفته في الواقع هو الإعادة فقد حصلت وإن كانت هو

ص: 851

الإتمام فلا يخلّ الإعادة بها، غايته أن يكون غسل ما غسله أوّلا من الأعضاء ثانيا لغوا فيقع غسل ما لم يحصل غسله أوّلا في محلّه، وما تخلّل بينه وبين غسل ما غسل أوّلا لا يقدح في صحّته فيحصل به اليقين بالبراءة لا محالة، بخلافه الإتمام فإنّه لا يوجب يقين البراءة لبقاء احتمال كون وظيفته الإعادة.

لأنّا نقول: إنّ استصحاب الصحّة وارد على القاعدة لسببية شكه، فبعد إعماله لا مجرى لها لارتفاع موضوعها وهو الشك المسبّب، ومن هنا يندفع ما عورض الاستصحاب المذكور بأصالة بقاء حدث الجنابة وعدم ارتفاعها بهذا الغسل المقتضي لاعتبار الإعادة، لأنّ الشك في ارتفاع الحدث إنّما نشأ عن الشك في صحّة هذا الغسل، على معنى كونه صالحا للتأثير باعتبار الشك في بقاء صلاحية التأثير في الجزء المتقدّم على الحدث المتخلّل، فإذا نفى هذا الشك باستصحاب الصحّة ارتفع الشك المسبّب عنه.

وحاصله أنّ استصحاب الصحّة وارد على أصالة بقاء الحدث لسببيّة شكه. لا يقال:

أصالة البراءة تنفي اعتبار الوضوء، إذ ليس وجوب الوضوء على تقديره وجوبا نفسيّا حتّى ينفيه أصل البراءة في موضع الاحتمال والشك، بل إنّما هو وجوب غيري فأصل البراءة بعد إجراء قاعدة الشغل بالنسبة إلى الصلاة غير جار لعين ما ذكر كما هو واضح.

لا يقال: إنّ اعتبار الوضوء مع الغسل ينفيه قاعدة أنّه لا وضوء مع غسل الجنابة قبله وبعده، لأنّا نقول: إنّ هذه القاعدة إنّما تنفي عن غسل الجنابة كلّ وضوء أثبتته في سائر الأغسال، فإنّ الإثبات والنفي في النصّ وهو قوله عليه السلام: «كلّ غسل قبله وضوء إلّا غسل الجنابة»(1) لابدّ وأن يردا على موضوع واحد، والوضوء المفروض في المقام ليس بهذا الوضوء المنفيّ بالقاعدة المستفادة من النصّ ، لأنّ هذا الوضوء هو الوضوء الّذي حيثما يعتبر مع الغسل فإنّما يعتبر لرفع الحدث الأصغر الطارئ قبل الغسل، أو لرفع الحدث الأصغر الناشئ عن موجب الغسل، فالوضوء المفروض في المقام ليس لرفع شيء من الحديثين، بل إنّما هو لرفع الحدث المحتمل حصوله بالحدث المتخلل في أثناء الغسل، والقاعدة ليست متعرّضة لنفيه من حيث إنّ النصّ النافي للوضوء ليس

ص: 852


1- الوسائل 248:2 الباب 35 من أبواب الوضوء ح 1.

متعرّضا لنفي هذا الوضوء كما هو واضح.

هذا كلّه مضافا إلى أنّ المتجه بالنظر إلى الأدلّة أيضا هو المصير إلى هذا القول، عملا بعمومات بابي الغسل وموجبات الوضوء، فبالأولى يثبت اعتبار إتمام هذا الغسل وجواز الاجتزاء به، وبالثانية يثبت اعتبار الوضوء ووجوبه، أمّا الأولى: فلقوله عليه السلام:

«فما جري عليه الماء فقد أجزأه» كما في صحيحة وقوله عليه السلام: «فما جرى عليه الماء فقد طهر» كما في اخرى، وقوله عليه السلام: «فما أمسسته الماء فقد أنقيته» كما في ثالثة، فإنّ بإتمام هذا الغسل يصدق أنه ما جرى عليه الماء سواء أريد به كلّ بعض من الجسد الّذي جرى عليه، أو الجسد الّذي جرى عليه الماء، فيترتّب عليه قوله عليه السلام: «فقد أجزأه» مع قوله: «فقد طهر».

وبالجملة لا إشكال في اندراج ما نحن فيه في هذه العمومات، ومقتضاه كفاية هذا الغسل وجواز الاجتزاء.

وتوهّم أنّ الجريان في قوله: «فما جرى عليه» مطلق ورد مورد الغالب، إذ الغالب في جريان الماء لبدن الجنب وشموله له جريانه في غير صورة وقوع الحدث في أثناء الغسل، فإنّ ذلك إنّما يتحقّق في صورة نادرة، وقضيّة ذلك انصرافه إلى الغالب فلا يندرج فيه ما نحن فيه.

يدفعه: أنّ الغلبة وإن كانت مسلّمة، غير أنّها ما لم تكن مؤثّرة وهو كونها منشأ لمركوزيّة الأفراد الغالبة في الأذهان ومعهوديّتها لدي السامع لم تكن موجبة لصرف المطلق عن الماهيّة إلى المورد الغالب، وهي فيما نحن فيه ليست بهذه المثابة، إذ لا يلتفت في التخاطب بنحو «ما جرى عليه الماء» وعند استماعه إلى القيد العدمي وهو خصوص عدم كون الجريان في ضمن تخلّل الحدث في أثنائه، كما لا يلتفت إلى القيد الوجودي وهو خصوص كونه مع تخلّل الحدث في الأثناء، بل المنساق من الخطاب الملتفت إليه من الطرفين إنما هو الجريان المعرّى عن القيدين كما لا يخفى على المتامّل، فيكون الإطلاق سليما عمّا يوجب انصرافه عن الماهيّة وقضيّة ذلك شمول الحكم المعلّق عليه لكلا القيدين.

ص: 853

وأمّا الثانية: فلقوله عليه السلام: «إنما الوضوء من طرفيك اللذين أنعم الله بهما عليك»(1)وقوله عليه السلام: «لا يوجب الوضوء إلّا من الغائط أو بول أو ضرطة تسمع صوتها أو فسوة تجد ريحها»(2) وقوله عليه السلام: «من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا فإنّما أوجب عليه الوضوء»(3) وقوله عليه السلام: «من نام وهو راكع أو ساجد أو ماش على أيّ الحالات فعليه الوضوء»(4) إلى غير ذلك ممّا مرّ في محلّه، فإنها بإطلاقها أو عمومها مع ضميمة ما دلّ على أنّ الوضوء إنّما يجب لأجل الصلاه مثلا لا لنفسه، تقضي بأنه حيثما وقع من المكلّف أحد المذكورات وجب بسببه الوضوء لأجل الصلاة، خرج عنها ما وقع من المذكورات قبل تحقّق سبب الجنابة وبعد تحقّقه وقبل الغسل بما دل على أنّ غسل الجنابة يجزئ عن الوضوء عمّا وقع في الصورتين، وبقى الباقي تحتها ومنه ما وقع منها في أثناء الغسل، ومقتضاه وجوب الوضوء بسببه لأجل الصلاة.

وتوهّم خروجه أيضا عنها بما دلّ على أنّ غسل الجنابة لا وضوء معه، يدفعه:

ما قدّمناه، ومحصّله: ورود إطلاق النفي مورد حكم آخر، وهو نفي اعتبار غير هذا الوضوء بما ثبت اعتباره في غير غسل الجنابة، ومحلّ البحث لا يندرج في هذا النفي فالنصوص النافية للوضوء عن غسل الجنابة ليست متعرّضة لهذا الوضوء بنفي ولا إثبات، فبقى إطلاق ما ذكر بل عموم قوله: «وعلى أيّ الحالات» سليما عمّا يوجب الخروج عنه. وقضية وروده مورد الغالب وهو ما وقع من المذكورات في غير أثناء الغسل يرد عليها نحو ما تقدّم، من أنّ المنساق إلى الذهن من نحو الخطابات المذكورة إنّما هو الامور المذكورة المعزاة عن قيدي عدم وقوعها في أثناء الغسل ووقوعها في أثنائه، فلا موجب للانصراف المانع عن التمسّك بالإطلاق.

احتجّ للقول بالإعادة بقاعدة الشغل المستدعية ليقين البراءة الغير الحاصل إلّا بإعادة الغسل، ولأنّ الحدث الواقع في الأثناء له أثر لا محالة فلابدّ له من رافع، وهو إمّا

ص: 854


1- الوسائل 250:1 الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 5.
2- الوسائل 245:1 الباب 1 من ابواب نواقض الوضوء ح 2.
3- الوسائل 245:1 الباب 3 من ابواب نواقض الوضوء ح 9.
4- الوسائل 253:1 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 3.

الوضوء أو الغسل التامّ ، أو ما بقي من أبعاض الغسل المفروض، ولا سبيل إلى الأوّل وإلّا لزم اعتبار الوضوء مع غسل الجنابة وهو منفيّ بالإجماع والنصّ ، ولا إلى الثالث لأنّ رافع الأصغر هو الوضوء التام أو غسل الجنابة التامّ ، وما بقي من الغسل المفروض بعض الغسل ولا يصلح رافعا، فتعيّن الثاني وهو المطلوب.

ولأنّ الحدث المتخلّل قد أبطل تأثير ذلك البعض في الرفع والباقي من الغسل غير صالح للتأثير.

ولأنّ الصحيح من غسل الجنابة ما يرفع الأحداث الصغار بأجمعها وهذا الغسل بعد إتمامه ليس بهذه المثابة، لأنه لا يرفع الحدث المتخلّل فلا يكون صحيحا.

ولأنّ الحدث الأصغر ينقض الطهارة بعد كمالها فلأن ينقض بعضها طريق الأولوية.

وللخبر المرويّ عن كتاب (عرض المجالس) للصدوق عن الصادق عليه السلام قال:

«لا بأس بتبعيض الغسل، تغسل يدك وفرجك ورأسك، وتؤخّر غسل جسدك إلى وقت الصلاة، ثمّ تغسل جسدك إذا أردت ذلك، فإن أحدثت حدثا من بول أو غائط أو ريح أو منيّ بعد ما غسلت رأسك من قبل أن تغسل جسدك، فأعد الغسل من أوّله»(1) وضعف سنده ينجبر بالشهرة المحكيّة عن بعض المحققين، وموافقة ما عن الفقه الرضوي.

ولا يخفى ما في الكلّ من الضعف أمّا القاعدة: فلما تقدّم من ورود استصحاب الصحّة عليها وأمّا الوجه الثاني: فباختيار أنّ الرافع هو الوضوء، ومنع تناول ما دلّ على نفي الوضوء مع غسل الجنابة لمثله كما مرّ مرارا. وأمّا الثالث: فبمنع الإبطال إن أريد به رفع حكمه من حيث الحدث الأكبر، نعم إنما يرفع تأثيره من حيث الحدث الأصغر والوضوء رافع لهذا الأثر. وأمّا الرابع: فبأنّ صحيح غسل الجنابة ما يرفع الأحداث الصغار الواقعة قبل الغسل. وكون رفعه ما وقع في أثنائه معتبرا في صحّته أوّل الكلام، لعدم قيام ما يدلّ على ذلك، فإذا شمله عمومات الصحّة كان صحيحا. وأمّا الخامس:

فبأنّه ينقض في الطهارة الكاملة الطهارة عن الأصغر لا الاكبر وهو في البعض مسلّم ويكفيه الوضوء. وأمّا السادس: فبمنع ثبوت أصل هذا الخبر كما اعترف به جماعة

ص: 855


1- الوسائل 238:2 الباب 29 من أبواب الجنابة ح 4.

حيث أنكروا وجدانه في الكتاب المزبور، وعلى فرض ثبوت أصله لابدّ له من جابر وليس، والشهرة المحكيّة لا تصلح جابرة كما لا يخفى. وموافقة ما في الفقه الرضوي - مع عدم ثبوت اعتبار هذا الكتاب - غير مجدية، وإلّا كان المستند هو ذلك ولا حاجة معه إلى الخبر.

حجّة القول الثالث: عمومات الغسل المقتضية للصحّة مع ضميمة عموم ما دلّ على نفي الوضوء مع غسل الجنابة. وجوابه يظهر ممّا مرّ مرارا. وبهذا يعلم الجواب عمّا استدلّ به أيضا من أنّ الحدث الأصغر غير موجب للغسل فلا معنى للإعادة والوضوء منفيّ مع غسل الجنابة بالنصّ والإجماع.

وعن المعتبر الاعتراض على أصحاب هذا القول «بأنّه يلزمهم أنّه لو بقى من الغسل قدر الدرهم من الجانب الأيسر ثمّ تغوّط أن يكتفي عن وضوئه بغسل موضع الدرهم وهو باطل»(1) وفيه أيضا ما لا يخفى خصوصا على القول بأنّ غسل الجنابة ما لم يكمل لا يرفع حدثا ولا يفيد طهرا لا عن الأكبر ولا عن الأصغر كما عليه مبنى قول الجماعة على ما يظهر من كلام بعضهم، ولعلّه الأقوى، فتأمّل.

ثمّ لا ينبغي التأمّل في أنّ الأحوط ومراعاة الاحتياط المحصّل للقطع بإدراك [الواقع] هو الجمع بين الأقوال الثلاث بإتمام الغسل ثمّ الوضوء بعده ثمّ إعادة الغسل.

ولو اقتصرت على الإعادة مع الوضوء من دون مراعاة القول بالإتمام كان الاحتياط أيضا حاصلا، لأنّ الإعادة على ما يبّنّاه لا تنافي العمل بالإتمام لو كان الوظيفة الواقعيّة هو الإتمام، غاية ما هنالك وقوع فعل لغو في الأثناء وهو غير قادح في الصحّة بالضرورة، وهنا طريق آخر لإدراك الواقع على سبيل الجزم أخصر وأسهل، وهو أن يجدّد سبب الجنابة ولو بمجرّد إدخال الحشفة ثمّ الغسل وحده بعده.

بقى الكلام في امور:

أحدها: عن بعض أهل القول الثاني الموافقين لنا كالسيّد الصائغ المتقدّم ذكره، أنّه خصّ الاكتفاء بالإتمام مع وضوء بما إذا لم ينو بحدثه قطع الغسل حيث قال: «وغير

ص: 856


1- المعتبر 197:1.

بعيد الاكتفاء باستينافه إذا نوى قطعه لبطلانه حينئذ وكان الحدث متقدّما على الغسل»(1) انتهى. فإنّ التعليل يقتضي كون مقارنة نيّة القطع للحدث توجب بطلان ما وقع من الغسل فيجب استينافه. وقوله: «وكان الحدث متقدّما على الغسل» تنبيه على سقوط الوضوء مع الغسل، ولذا اعترضه جماعة من المحققين منهم صاحب المدارك بأنّ «نيّة القطع إنّما تقتضي بطلان ما يقع بعدها لا ما سبق»(2) كما عن المحقّق وغيره أيضا التصريح به.

أقول: السرّ في ذلك أنّ نية القطع لو كانت قادحة فإنّما تقدح في الاستدامة الحكمية المعتبرة في المبادة، وزوالها إنّما يوجب بطلان ما بقي من الأجزاء لا ما سبق منها، فما وقع من الغسل قبل وقوع الحدث على صحّته فيقع الغسل بعد إتمامه صحيحا لكن ينبغي تقييده بتجديد النيّة عند الإتيان بالباقي لا مطلقا، فالحكم بالصحّة بإطلاقه غير جيّد، فظهر أنّه على المذهب المختار لا يتفاوت الحال في لزوم إتمام الغسل ثمّ الوضوء بعده بين أن لا ينوي بإيقاع الحدث قطع الغسل أو ينويه بشرط تجديد النية عند الشروع بالإتمام.

ثانيها: أنّ المستفاد من كلماتهم صراحة وظهورا عنوانا ودليلا ونقضا وإبراما اشتمال عنوان المسألة على خصوصيتين إحداهما كون الغسل الواقع في أثنائه غسل جنابة، والاخرى كون الحدث الواقع فيه هو الحدث الأصغر، وهل اعتبار الخصوصيّتين لدخلهما في محلّ النزاع ؟ فلا خلاف في موضع انتفائهما، فلا نزاع في غير غسل الجنابة من الأغسال واجبة ومندوبة إذا وقع الحدث في أثنائه، بل ينبغي أن يتّفق الجميع على قول واحد إمّا الإعادة أو الإتمام مع الوضوء، أو هو من غير وضوء، أو لا لدخلهما في محلّ النزاع بل الخلاف يتمشّى في غير غسل الجنابة أيضا، وإنّما خصّ غسل الجنابة بالذكر لكونه أظهر أفراد الغسل وأشيعها فاحيل حكم ما عداه وإجراء الخلاف فيه إلى المقايسة والإلحاق، والإنصاف أنّ الخصوصيّه الاولى لها دخل في النزاع من جهة، ولا دخل لها في جهة أخرى.

ص: 857


1- نقل عنه في مفتاح الكرامة 3؛ 111-112.
2- المدارك 309:1-310.

وتوضيحه: إنّ الّذي يظهر من مطاوي كلماتهم أنّ مرجع النزاع إلى جهتين، إحداهما: ما هو محلّ النزاع بين أصحاب القول الأوّل وغيرهم من أصحابي القولين الآخرين، وهي بطلان ما وقع من الغسل بالحدث الواقع بعده وعدمه، فالأوّلون إلى البطلان كما يقتضيه التعبير بالإعادة في كلماتهم، نظرا إلى أنّ المراد بها إعادة ما وقع من الغسل، وإنّما يطلق الإعادة على الإتيان ثانيا لاختلال في المأتيّ به أوّلا، ولذا احتجّوا بوجوه تقضي على تقدير تمامها بالبطلان كأصالة بقاء الحدث وعدم ارتفاعه، وكون الحدث موجبا لبطلان ما وقع، وبعض الغسل لا يرفع تأثيره، وكون الغسل الصحيح ما ارتفع معه الأحداث الصغار بأجمعها وما ليس كذلك فليس بصحيح ونحو ذلك، ومرجع قول الباقين إلى منع البطلان، ولذا احتجّوا باستصحاب الصحّة والعمومات المقتضية لها.

وثانيتهما: ما هو محلّ النزاع بين غير أصحاب القول الاوّل، على معنى أنّ أصحاب القولين الآخرين بعد ما أطبقوا على أنّ ما وقع من الغسل لا يبطل بما وقع من الحدث، اختلفوا في إيجابه الوضوء وعدمه فصاروا فريقين، ولذا احتجّ القائلون بالإيجاب بعموم أدلّة موجبات الوضوء، والقائلون بعدمه بعموم أدلّة عدم مجامعة الوضوء لغسل الجنابة، فبالنسبة إلى الجهة الأولى ينبغي القطع بعموم النزاع بحسب المعنى، على معنى جريانه في غير غسل الجنابة كجريانه فيه، لعدم الفارق بينه وبين سائر الأغسال في كون الحدث المتخلّل ناقضا ومبطلا لما وقع من بعض الغسل وعدمه، إذ لا يعقل لخصوصيّة كون الغسل غسل جنابة في مدخليّة في نقض الحدث وإبطاله لما وقع منه، فجميع أدلّة القول بالبطلان على تقدير تمامها يجري في غير غسل الجنابة جريها فيه.

نعم في الغسل المندوب ربّما أمكن القول بعدم النقض والإبطال على القول بالإبطال في الأغسال الواجبة، ولذا صرّح جماعة بأنّ الاغسال الواجبة في هذا الحكم كغسل الجنابة، قال في البيان في بحث الجنابة - على ما حكي -: «والحدث في أثنائه يبطله وإن كان أصغر، وكذا في أثناء غيره من الأغسال. ويعيد فيها الوضوء أيضا لو كان قد قدّمه أمّا الأغسال المسنونة فلا أثر»(1) انتهى.

ص: 858


1- البيان: 15.

والسرّ في استثناء الأغسال المسنونة لعلّه عدم الدليل على انتقاصها بالحدث خصوصا إذا كان المعتبر فيها صدق كون المكلّف مغتسلا، فإنّ هذا الوصف لا يزول بالحدث.

وبالنسبة إلى الجهة الثانية ينبغي القطع بعدم جريان الخلاف في غير غسل الجنابة، لوجوب اتّفاق الفريقين فيه على اعتبار الوضوء لرفع أثر الحدث المتخلّل عملا بعموم أدلّة كون الحدث موجبا له، لعدم جريان ما دلّ على سقوط الوضوء على تقدير تمامه وهو عمومات عدم مجامعة الوضوء لغسل الجنابة، فقول أصحاب القول الثالث من نفي وجوب الوضوء ساقط في غير غسل الجنابة، لأنّهم إنّما قالوا به في غسل الجنابة لجهة منتفية في غير غسل الجنابة، فيبقى عمومات موجبات الوضوء على اقتضائها.

نعم على مذهب المرتضى من إجزاء غير غسل الجنابة أيضا عن الوضوء ربّما أمكن القول بعدم الوضوء في غير غسل الجنابة وإن كان فيه منع واضح، لأنّ العمدة في أصحاب القول الثاني ورئيسهم هو السيّد، وهو مع أنّه لا يقول بالوضوء مع غسل الجنابة وغيره ذهب إلى الوضوء للحدث الواقع في الأثناء فيبعد منه الفرق بينه وبين غيره كما لا يخفى. فالأقوى بالنسبة إلى المسألتين في غير غسل الجنابة أيضا هو ما تقدّم في غسل الجنابة، فوظيفة المكلّف فيه أيضا هو الإتمام مع وضوء بعده، أمّا الأوّل: فمستنده بعد استصحاب الصحّة عموم قوله: «فما جرى عليه الماء فقد أجزأه» ونحوه مع ضميمة ما دل من النصّ وغيره على أنّ غسل الجنابة وغسل الحيض واحد، ومعناه أنّهما بحسب الجعل الشرعي ماهيّة واحدة، وإنّما تتعدّد إضافاتها فباعتبار إضافتها إلى الجنابة من حيث كونهما رافعة لها يقال لها غسل الجنابة، وباعتبار إضافتها إلى الحيض من حيث رفعها له يقال لها غسل الحيض. وهكذا غيره.

وظاهر أن مجرد تعدّد إضافات الشيء لا يوجب تعدّد ذلك الشيء بحسب الماهيّة، وقوله: «ما جرى عليه الماء فقد أجزاء» وإن كان مصبّه غسل الجنابة لكنّه يدلّ على أنّ المدار في تحقّق ماهية غسل الجنابة ومناطه جريان الماء على جميع الجسد وشموله له، وإذا اتّحدت الماهيّة بينه وبين غيره من الأغسال بموجب ما ذكرنا يتفرّع عليه كفاية جريان الماء على جميع الجسد في تحقّق هذه الماهيّة المتّحدة في غير

ص: 859

غسل الجنابة أيضا، وإذا تحقّقت الماهيّة لزمها الصحّة لأنّ الشك في الصحّة وعدمها هنا باعتبار الشك في تحقّق الماهية وعدمه.

وأمّا الثاني: فلعموم أدلّة موجبات الوضوء، فوجب بعد إتمام الغسل وضوء أيضا من غير فرق بين ما قدّم الوضوء الّذي كان لازما للغسل على الغسل أو أخّره، فعلى تقدير التقديم وجب وضوء آخر بعد الغسل، وعلى التقدير الآخر كفى وضوء واحدا بعد الغسل للتداخل هذا إذا تخلّل الحدث في أثناء الغسل، وأمّا إذا تخلّل بين الوضوء والغسل فالظاهر وجوب الوضوء أيضا لهذا الحدث، سواء قلنا بنقضه الوضوء الأوّل ورفعه أثره بالمرّة أو لا، فعلى التقدير يكفي وضوء واحد بناء على التداخل على أحد التقديرين، هذا في الواجب من سائر الأغسال.

وأمّا المسنون منها فالظاهر أيضا عدم الفرق في المسألتين معا، خصوصا على القول بعدم رفع المسنون حدثا، فلابدّ بعد إتمام الغسل من وضوء لاستباحة الصلاة، هذا كلّه في الخصوصية الأولى.

أمّا الخصوصية الثانية المأخوذة في عنوان المسألة فتفصيل القول فيها أنّه كما يقع الحدث الأصغر في أثناء الغسل لجنابة أو غيرها، فكذلك أمكن أن يقع فيه الحدث الاكبر أيضا كالجنابة في أثناء الغسل عن الجنابة، وهي في أثناء الغسل عن غير الجنابة، وغير الجنابة في أثناء الغسل عن غير الجنابة، وغير الجنابة في أثناء الغسل عن الجنابة، وهذه صور أربع.

وهل النزاع المتقدّم مقصور على تخلّل الحدث الأصغر كما هو ظاهر العنوان فلا يتمشّى في تخلّل الحدث الأكبر بشيء من صوره الأربع أو لا؟ بل يجري في الحدث الأكبر أيضا جريه في الحدث الأصغر، ويتكلّم فيه تارة في كون ذلك الحدث موجبا لغسل آخر أو لا؟ واخرى في كونه ناقضا لما وقع من الغسل الأوّل وعدمه ؟

أمّا الكلام في الجهة الأولى: فالظاهر عدم الإشكال بل عدم الخلاف لأحد في إيجابه الغسل كما صرّح به غير واحد أيضا لعموم أدلّة موجباته، غاية الأمر أنّه على الإعادة في الجهة الثانية يكتفي بغسل واحد تداخلا بخلافه على القول بالإتمام فيجب غسل آخر بعده.

ص: 860

وأمّا الكلام في الجهة الثانية: فالظاهر أنّه لا كلام لهم فيما إذا تخلّل الجنابة في أثناء غسلها من حيث نقضها لما وقع من الغسل، كما صرّح به جماعة بل في كشف اللثام الاتّفاق عليه(1) وكأنّه لكليّة كلّ حدث في الأثناء فهو ناقض لرافعه، فالحدث الأصغر ناقض لما وقع من رافعه وهو الوضوء والجنابة ناقضة لما وقع من رافعها وهو الغسل، والسرّ فيه الأولوية بالقياس إلى ناقض الرافع بعد كماله، فلأن يكون ناقضا لبعض رافعه طريق الأولويّة، وعليه فيتعدّى الحكم إلى غير الجنابة كالمسّ إذا وقع في أثناء رافع مجانسه كالغسل عن آلمسّ .

نعم يستثنى عن هذه الكلّيّة موردان، أحدهما: بول سلس فإنّه في أثناء وضوئه كما بعد الوضوء وحال الاشتغال بالصلاه مغتفر، وثانيهما: حدث المستحاضة في أثناء غسلها عن هذا الحدث متوسّطا أو كثيرا فإنّه لا يعتبر في هذا الغسل انقطاع هذا الدم فلا يكون وجوده ناقضا لما وقع منه، كما أنه لا ينقضه بعد كماله حتى الفراغ عن الصلاة، فبقى من الصور الأربع صورتان حدث الجنابة في أثناء رافع غيرها، وغيرها في أثناء رافعها، فالظاهر بناء كونه ناقضا وعدمه على كون الحدث الأكبر الّذي هو حالة معنوية تعرض المكلّف عند تحقّق أحد أسبابه. هل في حصوله الخارجي وعروضه المكلّف حالة واحدة شخصيّة تتعدّد أسبابها من حيث إنّها قد تستند إلى الجنابة، واخرى إلى الحيض، وثالثة إلى النفاس، ورابعة إلى الاستحاضة، وخامسة إلى المسّ؟ أو هو بملاحظة تعدّد الأسباب أحوال معنوية متمايزة متعدّدة على حسب تعدّد الأسباب، فما يوجبه الجنابة حالة معنويّة مغايرة للحالة المعنويّة التي يوجبها الحيض، وما يوجبه النفاس حالة أخرى مغايرة للأوليين ؟ وهكذا.

والظاهر أنّ لهم خلاف في ذلك على ما يظهر من كلماتهم في بحث تداخل الأغسال أو غيره، فعلى الأوّل ينبغي أن لا يتأمّل في نقض ما وقع في الأثناء لما وقع من الغسل، وعلى الثاني ينبغي القطع بعدم النقض، غاية الأمر أنه يوجب غسلا آخر لرفعه، وأمّا ما وقع من الغسل فعلى صحّته، وتظهر فائدته في كون إتمامه رافعا للحدث

ص: 861


1- كشف اللثام 46:2.

الأوّل فيرتفع معه الاحكام والآثار المختصّة بذلك الحدث إن كان له آثار مختصّة، ويبقى بعده الحدث الثاني الطارئ وأحكامه المختصّة مع الأحكام المشتركة بينه وبين الحدث الأوّل موقوفا على حصول رافعه، والأظهر في الوجهين المذكورين بملاحظة إشارات النصوص وإيماءات [الأخبار] خصوصا قوله: «وقد جاءها ما يفسد الصلاه»، وقوله الآخر: «وقد جاءها ما هو أعظم من ذلك» هو الوجه الثاني. فالمتّجه حينئذ في الصورتين عدم انتقاض ما وقع من الغسل بالحدث المتخلّل.

فما في كاشف اللثام وتبعه غير واحد ممّن تأخّر عنه من أنه يجري الأوجه الثلاثة فيما إذا تخلّله حدث أكبر غير الجنابة، إلّا أنّه على القول بوجوب الإتمام والوضوء يجب هنا مع الوضوء غسل آخر لذلك الحدث(1) غير سديد، لما فيه من وجوه النظر كما يظهر بالتامّل.

وبالتأمّل في جميع ما ذكر يعلم أنّ الخلاف المتقدّم في الحدث الأصغر المتضمّن للأقوال الثلاث المتقدّمة لا يجري في الحدث الأكبر، لكون هذا الخلاف ثمّة لجهة غير موجودة هنا كما لا يخفى، ولذا خصّ العنوان في كلام الأكثر بالحدث الأصغر، نعم لو كان هنا خلاف فهو مبنيّ على شيء آخر غير ما هو جهة الخلاف ثمّة.

وثالثها: أنّ ظاهرهم في عنوان المسألة كون الخلاف في الحدث الواقع في أثناء الغسل الترتيبي، والظاهر جريانه في الغسل الارتماسي أيضا إذا فرض فيه الاثناء.

ويتصوّر فيه ذلك إذا وقع الحدث بعد الشروع في الغمس وقبل كمال الانغماس، من غير فرق في ذلك بين اعتبار الدفعة العرفيّة وعدمه، لأنّ الأثناء بالمعنى المذكور متحقّق فيه على التقديرين، ولا يتفاوت الحال أيضا بين ما لو قلنا بالترتيب الحكمي بأحد تفاسيره الثلاث المتقدّمة وما لو لم نقل به، ولذا أطلق في المدارك(2) وتبعه غيره بأنّ الظاهر عدم الفرق في غسل الجنابة بين كونه غسل ترتيب أو ارتماس، ويتصوّر ذلك في غسل الارتماس بوقوع الحدث بعد النيّة وقبل إتمام الغسل.

فما عن الذكرى من «أنّه لو كان الحدث من المرتمس فإن قلنا بسقوط الترتيب

ص: 862


1- كشف اللثام 46:2..
2- المدارك 309:1.

حكما، فإن وقع بعد ملاقاة الماء جميع البدن أوجب الوضوء لا غير، وإلّا فليس له أثر، وإن قلنا بوجوب الترتيب الحكمي القصدي فهو كالمرتّب، وإن قلنا بحصوله في نفسه أو فسّرناه بتفسير الاستبصار(1) أمكن انسحاب البحث فيه»(2).

ليس على ما ينبغي، إذ بعد ما صوّرناه من الأثناء لا حاجة إلى التفصيل ولا يفترق الحال بين التقادير، وربّما يتوهّم بناء المسألة في الارتماس على كون حصوله دفعيا فلا يطّرد فيه الخلاف أو تدريجيّا فيطرد.

ويضعّفه: أنّ الدفعية والتعدريجيّة إنّما تلاحظان في الأثر الحاصل من الغسل وهو الطهر، والمعتبر من الأثناء الّذي عليه مبنى طرد الخلاف تحقّقه في الغسل وهو الّذي يتأتّى بالانغماس، وهذا يحصل دائما على وجه التدريج حتى على القول بالدفعة العرفيّة. والله أعلم.

المسألة الثانية: أجمع أصحابنا على أنّه لا وضوء مع غسل الجنابة،

ونقل الإجماع عليه بالغ فوق حدّ الاستفاضة، وهو مع ذلك ممّا نطق به الكتاب في قوله عزّ من قائل:

وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (3) فإنه يفيد أنّ ما تقدّم في الآيه من الأمر بالوضوء بقوله: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... الخ مخصوص بغير الجنب، فيكون التقدير:

فاغسلوا وجوهكم إن لم تكونوا جنبا، فقوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا عطف على الشرط المقدّر، ولذا استشهد به الإمام عليه السلام على نفي الوضوء عن غسل الجنابة في مرسلة يعقوب بن شعيب عن حريز أو عمّن رواه عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: «إن أهل الكوفة يروون عن عليّ عليه السلام أنّه كان يأمر بالوضوء قبل الغسل من الجنابة، قال: كذبوا على عليّ عليه السلام ما وجدوا ذلك في كتاب عليّ عليه السلام قال اللّه تعالى:

وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا »(4).

والنصوص به مع ذلك مستفيضة بل قد يدّعى بلوغها التواتر معنى كما في بعض حواشي الاستبصار لصاحب المدارك، ففي المرسل ما عرفت وفي صحيحة حكم بن

ص: 863


1- راجع الاستبصار 125:1.
2- الذكرى 249:2.
3- المائدة: 6.
4- الوسائل 2؛ 247 الباب 34 من أبواب الجنابة ح 5.

حكيم الواردة في بيان كيفيّة الغسل عن الجنابة قلت: «إنّ الناس يقولون يتوضّأ وضوء الصلاة قبل الغسل، فضحك وقال: وأيّ وضوء أنقي من الغسل وأبلغ»(1) وفي ذيل صحيحة يعقوب بن يقطين عن أبي الحسن عليه السلام الوارد في بيان كيفية غسل الجنابة أيضا «ثمّ يصبّ على رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كلّه، ثمّ قد قضى الغسل ولا وضوء عليه»(1) ونحوه ما في ذيل صحيحة أحمد بن محمّد عن محمّد بن بمسلم عن غسل الجنابة ففيه: «ثمّ أفض على رأسك وجسدك، ولا وضوء فيه»(3) إلى غير ذلك ممّا ستعرفه إن شاء الله.

وهذه النصوص كما تري ظاهرة كالصريحة في نفي مشروعيّة الوضوء مع غسل الجنابة. وقضيّة ذلك عدم استحبابه أيضا فيكون حراما كما هو ظاهر الأكثر وصريح جماعة، بل لا يظهر فيه خلاف لأحد، إلّا ما يظهر من الشيخ في التهذيبين من البناء على الاستحباب حيث إنّه بعد ما نقل رواية أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام الآمرة بالوضوء فيه قال: «سألته كيف أصنع إذا أجنبت ؟ قال: اغسل كفّك وفرجك وتوضّأ وضوء الصلاة، ثمّ اغتسل»(4) حملها على الاستحباب بقوله: «فالوجه في هذا الخبر أن نحمله على ضرب من الاستحباب، ولا ينافي ذلك ما رواه محمّد بن أحمد بن يحيى مرسلا «بأن الوضوء قبل الغسل وبعده بدعة» لأنّ هذا خبر مرسل لم يسنده إلى إمام، ولو سلّم لكان معناه إذا اعتقد أنّه فرض قبل الغسل فإنّه يكون مبدعا، فأمّا إذا توضّأ ندبا واستحبابا فليس بمبدع»(2) انتهى.

وفيه ما لا يخفى، فإنّ المتعيّن في نحو هذا الخبر حمله على التقية، فإنّ المخالفين على ما قيل بين قائل بالوجوب وقائل بالاستحباب، فأيّا ما اريد منه من الوجوب أو الاستحباب كان على وجه التقيّة، كما ربّما يشعر مرسلة شعيب وصحيحة حكم بن حكيم، ولذا اعترضه صاحب المدارك في حاشية الاستبصار «بأنّ هذا الوجه ضعيف جدّا بل يكاد أن يكون معلوم البطلان، لأنّ الأخبار الواردة بسقوط الوضوء مع غسل

ص: 864


1- الوسائل 246:2 الباب 34 من أبواب الجنابة ح 1.
2- التهذيب 140:1.

الجنابة مستفيضة جدّا بل ربّما بلغت حدّ التواتر المعنوي مع مطابقتها للأصل وظاهر القرآن، وهذه الرواية في غاية الضعف فإنّ راويها وهو أبو بكر لم يثبت إيمانه فضلا عن كونه ممّن يقبل خبره، فتعيّن إطراح روايته ولو كانت الرواية بذلك صحيحة لوجب حملها على التقيّة كما تشعر به صحيحة حكم بن حكيم ورواية ابن مسلم. وأمّا استحباب الوضوء معه فمقطوع بعدمه بل ينبغي القطع بتحريمه»(1) إنتهى.

وأمّا الأغسال الأخر واجبة ومندوبة ممّا عدا الجنابة فالمعروف من مذهب الأصحاب وجوب الوضوء مع كلّ منها، وعزاه جماعة إلى الأكثر، وعن الشهيد في الذكرى كونه المشهور شهرة تكاد تبلغ الإجماع(2) وعن أمالى الصدوق أن الإقرار بوجوبه في كلّ غسل إلّا الجنابة من دين الإمامية(3) خلافا لجماعة ممّن تأخّر كالمحقّق الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك وبعدهما صاحب الذخيرة وبعدهم صاحب الحدائق(4) تبعا للمرتضى وابن الجنيد ممّن تقدّم(5) فذهبوا إلى نفي الوضوء في غير الجنابة أيضا، والمعروف من مذهب السيّد أنّه ينفيه في مطلق الغسل ولو مندوبا، لكن عنه في جمله أنّه نفاه في الواجب من الغسل، وقد يقال: أنّه لا إشكال عندهم في استحبابه أو إنما خالفوا في الوجوب خاصّة.

ثمّ إنّ المتنازع فيه إمّا اعتبار الوضوء مع الوضوء على أنّه متمّم له إمّا لدخله في تحقق ماهيّة الغسل أو في صحّته المقصودة وترتّب الآثار المطلوبة منه عليه، كرفع الحدث الأكبر ونحوه، أو اعتباره على أنّه مبيح للصلاة ؟ احتمالان، ظاهر كلمات المشهور كما هو صريح جماعة منهم وهو مقتضي أكثر أدلّتهم بل جميعها بعد مراعاة نحو جمع بينها وبين أدلّة القول الآخر هو الثاني، بل لا يبعد دعوى إجماع الفريقين على عدم دخله في تحقّق ماهيّة الغسل أو الصحّة المطلوبة منه.

وكيف كان، فالأقوى هو القول الأوّل، فالأصل فيما عدا غسل الجنابة عدم كونه مجزئا عن الوضوء فيجب مع كلّ غسل وضوء لأن يستباح به الصلاة، والأصل فيه أوّلا

ص: 865


1- لا يوجد لدينا.
2- الذكرى 204:2.
3- أمالي الصدوق: 515.
4- مجمع الفائدة 130:1، المدارك 309:1، الذخيرة: 48، الحدائق 120:3.
5- نقل عنهما في المختلف 340:1.

عموم قوله [تعالى]: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فإن ضمير الجمع عامّ لجميع آحاد المكلّفين الحاضرين، وكذا «واو» الجمع في «اغسلوا» فيكون المعنى في حاصل المراد: إذا قام كلّ واحد منكم إلى الصلاه يغسل وجهه... الآية، خرج عنه المتطّهر بالمعنى المبيح للصلاة وهو من سبقه الوضوء على إقامته إلى الصلاة بالإجماع والنصوص المستفيضة بل المتواترة معنى وبقى الباقي و منه المقام تحته.

والمناقشة فيها باختصاصها بالمحدثين للإجماع على أنّ الوضوء لا يجب إلّا على المحدثين، وموثّقة ابن بكير الواردة في تفسير الآية «قلت: قوله: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ ما يعني بذلك ؟ قال: إذا قمتم من النوم»(1) واتّفاق المفسّرين على أنّ المراد: إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم محدثين بالحدث الأصغر، فلا تتناول نحو المقام لعدم ثبوت كونه محدثا.

يدفعها: منع كون المحدثين عنوانا في الآية، بل غاية ما يمكن تسليمه إنّما هو خروج المتطهّرين بالمعنى المبيح للصلاة عن عمومها، فلا يجب عليه الوضوء عند القيام إلى الصلاه، وكون المقام من التطهّر بهذا المعنى غير ثابت فلم يثبت خروجه عن العموم، والإجماع المدّعى على الوجه المذكور محلّ منع، بل المسلّم منه أيضا الإجماع على أنّ المتطهّر بالمعنى المبيح لا يجب عليه الوضوء، والرواية غير منافية لذلك كلّه لأنّ القائم من النوم غير متطهّر فذكره مثال، واتّفاق المفسّرين مع أنّه منقول غير مفيد لعدم حجّيّته.

وثانيا: عمومات الأحداث الموجبة للوضوء التي تقدّم الإشارة إلى نبذة منها، فإنّها تقضي بأنّ الأحداث المعهودة من البول والغائط ونحوهما حيثما وقعت توجب الوضوء، ولا ريب أنّ الخطاب بالوضوء يقتضي الامتثال الّذي لا يحصل إلّا بأداء المأمور به وإجزاء الغسل عنه يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

وثالثا: خصوص مرسلة ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «كلّ غسل قبله وضوء إلّا غسل الجنابة»(2) ومرسلته الأخرى عن حمّاد بن عثمان أو غيره

ص: 866


1- الوسائل 253:1 الباب 3 من ابواب الوضوء ح 7.
2- الوسائل 248:2 الباب 35 من أبواب الجنابة ح 1، التهذيب 139:1/391.

عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «في كلّ غسل وضوء إلّا غسل الجنابة»(1) وفي المدارك أنّهما رواية مرسلة واحدة رواها الشيخ في التهذيب بطريقين(2) ويدفعه: اختلاف المتن المقتضي للتعدّد مع ظهور كلام الشيخ فيه أيضا في كونهما روايتين، كما لا يخفى على من لاحظ جيدا.

والاولى محتملة للمعنيين المتقدّمين، وهما أنّ قبل كلّ غسل وضوء على أنّه متمّم للغسل أو مبيح للصلاة، والثانية أظهر في أوّل المعنيين لمكان التعبير فيها بكلمة «في» الظاهرة في الظرفيّة، فيفيد أنّ في تحقّق كلّ غسل أو في صحّته يعتبر وضوء، لكنّهما لابدّ وأن تحملا على المعنى الثاني جمعا بينهما وبين ما يأتي من النصوص المتمسّك بها للقول الثاني، فإنّها على ما تعرف لا تنفي إلّا المعنى الثاني، فلابدّ من حمل كلمة «في» على إرادة معنى «مع» فيكون المعنى المراد منهما: أنّ قبل كلّ غسل أو معه وضوء على أنّه مبيح للصلاة، بمعنى أنه يعتبر لاستباحة الصلاة لا لتتميم الغسل.

احتجّ أهل القول الثاني بالأصل، فإنّ الأصل براءة الذمّه عن الوضوء مع الغسل وبخلّو الأخبار الواردة في الحيض والاستحاضة والنفاس عن ذكر الوضوء مع ورودها في مقام الحاجة.

وبنصوص كثيرة من الصحاح وغيرها ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «الغسل يجزئ عن الوضوء وأيّ وضوء أطهر من الغسل»(3)والتعريف في الغسل ليس للعهد لعدم تقدّم معهود ولا للعهد الذهني إذ لا فائدة فيه فيكون للاستغراق، ويؤكده التأكيد المستفاد من قوله عليه السلام: «وأيّ وضوء أطهر من الغسل» فإنّه ظاهر في العموم، إذ لا خصوصيّة لغسل الجنابة بالنسبة إلى غيره من الأغسال في هذا الوصف.

وقد ورد هذا التعليل بعينه في غسل الجمعة في مرسلة حمّاد بن عثمان عن أبي عبداللّه عليه السلام «في الرجل يغتسل للجمعة أو غير ذلك، أيجزئه عن الوضوء؟ فقال عليه السلام:

ص: 867


1- الوسائل 248:2 الباب 35 من ابواب الجنابة ح 2، التهذيب 143:1/403.
2- المدارك 358:1.
3- الوسائل 244:2 الباب 33 من أبواب الجنابة ح 1.

وأيّ وضوء أظهر من الغسل»(1) وفي الصحيح عن حكم بن حكيم قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن غسل الجنابة ثمّ وصفه قال: قلت: إنّ الناس يقولون: يتوضّأ وضوء الصلاة قبل الغسل، فضحك وقال: أيّ وضوء أنقى من الغسل وأبلغ»(2).

وتقريب الاستدلال ما تقدّم. وفي مكاتبة عبدالرحمن الهمداني إلى أبي الحسن الثالث يسأله عن الوضوء للصلاة في غسل الجمعة فكتبة «لا وضوء للصلاة في غسل الجمعة»(3) وروى الشيخ في الموثق عن عمّار الساباطي قال: «سئل أبو عبدالله عليه السلام عن الرجل إذا اغتسل من جنابة أو يوم جمعة أو يوم عيد، هل عليه الوضوء قبل ذلك أو بعده ؟ فقال: لا، ليس عليه قبل ولا بعد، قد أجزأه الغسل، والمرأة مثل ذلك إذا اغتسلت من حيض أو غير ذلك فليس عليها الوضوء لا قبل ولا بعد، قد أجزأها الغسل»(4)وروي أيضا في عدّة أخبار «أنّ الوضوء بعد الغسل بدعة»(5) وفي بعضها «أنّ الوضوء قبل الغسل وبعده بدعة»(6).

وفي جميع هذه الوجوه ما لا يخفى، أمّا الأصل فلعدم كونه بعد وجود الدليل على الوجوب في مجراه، وأمّا خلوّ اخبار الأبواب الثلاث عن التعرّض لذكر الوضوء مع ورودها في مقام البيان، فلإنّها إنّما وردت في مقام بيان وجوب الغسل في الأبواب الثلاث وما يتعلّق به ممّا يعتبر فيه وما لا يعتبر، وليس مبنى وجوب الوضوء على أنّه معتبر في الغسل لدخله فيه تحقّقا أو صحّة، بل على أنّه مبيح للصلاة فخلوّها عن التعرّض لذكره غير مضرّ فيما هو مقصود منها بالبيان، وكون الاستباحة مأخوذة في صحّته إنّما يسلّم في مقدار ما يفيده من ارتفاع المانع الّذي عدمه شرط في الصحّة وهو الحدث الأكبر لا مطلقا، فلا ينافي كون الوضوء أو الطهر الحاصل شرطا آخر للصلاة فلها شرطان، الطهارة عن الحدث الأكبر ويفيدها الغسل وهذا معنى صحّته، والطهارة عن الحدث الأصغر ولا يفيدها إلّا الوضوء. أو يقال: إنّ هنا منعين ما يستند إلى الحدث

ص: 868


1- الوسائل 245:2 الباب 35 من أبواب الجنابة ح 4.
2- الوسائل 247:2 الباب 34 من أبواب الجنابة ح 4.
3- الوسائل 244:2 الباب 33 من أبواب الجنابة ح 2 و 3.
4- الوسائل 244:2 الباب 33 من أبواب الجنابة ح 2 و 3.
5- الوسائل 245:2 الباب 33 من أبواب الجنابة ح 6 و 5.
6- الوسائل 245:2 الباب 33 من أبواب الجنابة ح 6 و 5.

الأكبر فيرتفع بالغسل، والمنع الشرعي فلا يرفعه إلّا الوضوء.

وأمّا الأخبار المذكورة - فبعد الإغماض عمّا فيها سندا على تقدير سلامة دلالتها على النفي من الوهن بإعراض معظم الأصحاب المانع من الوثوق والاطمئنان بصدورها ولو كانت صحيحة بأصل اسانيدها - يرد عليها منع دلالتها صراحة أو ظهورا على نفي اعتبار الوضوء بالمعنى المبحوث عنه.

أمّا ما في صحيحة محمّد بن مسلم من قوله عليه السلام: «الغسل يجزئ عن الوضوء» فلأنّ النسبة بينه على تقدير عمومه من حيث الإطلاق وبين ما في مرسل ابن أبي عمير من قوله عليه السلام: «كلّ غسل قبله وضو» مع قطع النظر عمّا فيه من الاستثناء وإن كانت نسبة التباين إلّا أنّها مع ضميمة الاستثناء ترجع إلى نسبة الخاصّ والعامّ المتنافيي الظاهر، فإنّ معنى المرسلة بعد ملاحظة الاستثناء أنّ ما عدا غسل الجنابة لا يجزئ عن الوضوء، وهو أخصّ مطلقا من قوله: «الغسل يجزئ عن الوضوء» ومقتضى القاعدة في نحو ذلك الخروج عن عموم العامّ مطلقا بإخراج ما عدا غسل الجنابة عنه. وعليه فيكون قوله: «الغسل يجزئ عن الوضوء» مخصوصا يغسل الجنابة.

وأمّا ما اشتمل منها على نحو قوله عليه السلام: «وأيّ وضوء أطهر من الغسل» فبعد تسليم إطلاقها بالقياس إلى كلّ غسل وعدم اختصاصها يغسل الجنابة كما هو ظاهر سياق بعضها، أنّها إنّما تنفي المعنى التفصيلي عن الوضوء، وهو لا ينافي المشاركة في المعنى المصدري والمدخليّة في أصل إفادة التطهير، ألا ترى أنه لو قيل: «أيّ رجل أفضل من زيد» فهو لا يفيد إلّا نفي زيادة فضل غير زيد على زيد، وهو لا ينافي مشاركة غيره له في الفضل، فإنّ النفي الوارد على اسم التفضيل إنما يتوجّه إلى المعنى التفصيلي وهو الزيادة في المعنى المصدري، فلا يدلّ هذه الطائفة من الأخبار على عدم مدخليّة الوضوء في أصل التطهير ورفع الحدث.

ولو سلّم الدلالة عليه أيضا فإنّما يدلّ على نفي اعتبار الوضوء مع الغسل على أنّه متمّم للغسل وأنّ له مدخليّة في تماميّته، وعدم اعتباره على هذا الوجه لا ينافي اعتباره على الوجه وهو وجوبه لمجرّد استباحة الصلاة لا غير، بحيث لولا حصوله لم يلزم إخلال في الغسل ولا في صحّته، غاية الامر أنّه لا يستباح الدخول في الصلاة والحال هذه.

ص: 869

وأمّا ما اشتمل منها على نحو قوله عليه السلام: «ليس عليه وضوء لا قبل ولا بعد» فلأنّ الجواب إنّما يرد على طبق السؤال من الحيثّية الّتي فرض السؤال لاجلها، والسائل في نحو ما ذكر وإن سئل عن وجوب الوضوء على المغتسل من جنابة أو يوم الجمعة أو يوم عيد لكنّه ظاهر في السؤال عن وضوء المغتسل لهذه الأمور من حيث إنه يغتسل، وكأنّه توهّم وجوب الوضوء عليه من هذه الحيثية بتوهّم دخله في تماميّة الغسل تحقّقا أو صحّة، فورد الجواب على طبق هذا السؤال، ومفاده نفي وجوب الوضوء على المغتسل من حيث اغتساله، وهذا لا ينافي وجوبه من الحيثّية الاخرى وهو حيثّية استباحة الصلاة.

ومحصّله وجوب الوضوء على المصلّي من حيث إنّه مصلّ ، فوجوب الوضوء على المغتسل من حيث اغتساله مع وجوبه على المصلّي من حيث صلاته، قضيتان ليس إحداهما بعين الأخرى، فنفي إحداهما لا يناقض إثبات الأخرى.

وأمّا ما اشتمل منها على الحكم ببدعيّة الوضوء بعد الغسل أو قبله وبعده، فبعد تصحيح إطلاقها على وجه يتناول ما عدا الجنابة أيضا محتملة لإرادة بدعيّة الوضوء المأتيّ به على أنّه متمّم للغسل وأنّ له مدخلا في تماميّته تحقّقا أو صحّة، ومع قيام هذا الاحتمال لا يبقى فيها الدلالة على بدعيّة الوضوء على إطلاقه حتّى ما يؤتى به منه لأجل استباحة الصلاة.

وبالجملة فالقدر المسلّم ممّا يدلّ هذه الأخبار وغيرها إنّما هو نفي اعتبار الوضوء مع الغسل في الجملة لا مطلقا، فمقتضى الجمع بينها وبين ما تقدّم اعتبار وجوب الوضوء لاستباحة الصلاة، وهذا ممّا لا ينفيه شيء من الأخبار لا صراحة ولا ظهورا.

فعلم بجميع ما ذكر أنّ الّذي يفيده أدلّة وجوب الوضوء مع ما عدا غسل الجنابة إنّما هو اعتباره على الوجه المذكور لا مطلقا، فهو الّذي ينبغي أن يريده قائلو وجوبه، بل هو الّذي ينبغي أن يكون مطرحا للنزاع لئلّا يعود لفظيّا.

فما في المدارك من قوله: «حدث الحيض وغيره من الأحداث الموجبة للوضوء والغسل عند القائل به، هل هو حدث واحد أكبر لا يرتفع إلّا بالوضوء والغسل ؟ أو حدثان أصغر وأكبر؟ ثمّ إن قلنا بالتعدّد، فهل الوضوء ينصرف إلى الأصغر والغسل إلى

ص: 870

الأكبر؟ أم هما معا يرفعان الحدثين على سبيل الاشتراك ؟ احتمالات ثلاث، وليس في النصوص دلالة على شيء من ذلك»(1) ليس على ما ينبغي.

كما أنّه كذلك ما عن الذكرى(2) من احتمال مدخليّة الوضوء في تحقّق غايات الأغسال، بل قيل ظاهره ذلك حتى في الأغسال المندوبة فضلا عن غيرها، وجعل العدم وأنّه شرط في تحقّق غاياته كالصلاة والطواف احتمالا، لما عرفت أنّ اعتبار الوضوء على وجه يكون دخيلا في الغسل تحقّقا أو صحة خارج عن مساق أدلّة قائليه بل عن مساق كلامهم، ولذا قال في السرائر - على ما حكي في باب الحيض -: «أنّ الحائض [نوت] بالغسل الرفع تقدّم أو تأخّر وبالوضوء الاستباحة تقدّم أو تأخر، وعلّله بالنسبة إلى الوضوء أنّه قبل الغسل لا رفع لمكان بقاء الحدث الأكبر وبعده بأن الحدث ارتفع»(3) انتهى.

نعم كون الوضوء لرفع أصغر نشأ عن نحو الحيض وغيره احتمال قائم في المقام، بناء على أنّه أفاد حدثين أكبر وأصغر، ولكن ليس في النصوص ما يدلّ بصراحته أو ظهوره عليه.

ثمّ إنه على المختار ففي التخيير بين تقديم الوضوء على الغسل وتأخيره عنه مع أفضليته التقديم أو وجوبه قولان ؟ أوّلهما ظاهر كلام الأكثر وعن المعتبر هو مذهب الأكثر(4) وعن السرائر نفي الخلاف عنه(5) وثانيهما ما صرّح به في الغنية على ما حكي(6) ونسب إلى ظاهر الصدوقين والمفيد والتقيّ - وهو أبي الصلاح الحلبي - والديلمي وفي موضع من المبسوط(7) لكن بناء على ما قرّرناه من أنّه يجب لاستباحة الصلاة ينبغي القطع بجواز الأمرين، إذ لا يعقل لخصوصيّة التقديم مدخليّة في الاستباحة.

نعم على احتمال وجوبه تعبّدا فهنا تكليفان، أصل الوضوء لمصلحة الاستباحة،

ص: 871


1- المدارك 361:1-362.
2- الذكرى 203:2.
3- السرائر 151:1.
4- المعتبر 196:1.
5- السرائر 113:1.
6- الغنية: 62.
7- نقل عنه المختلف 343:1، الفقيه 46:1، المقنعة: 52، الكافي في الفقه: 134، المراسم: 42، المبسوط 30:1.

وتقديمه للتعبّد، فإذا أخّر أثم في أحد التكليفين، وصحّ الوضوء بالنظر إلى التكليف كما هو مراد القائلين بوجوب التقديم على ما نسب إليهم كان له وجه، إلّا أنّه يزيّف بالأصل لعدم نهوض دليل واضح على هذا التكليف، وما في المرسلة ونحوها من قوله: «قبله» لا يفيد.، لقوّة احتمال كون ذكره لأجل أنه أحد فردي الواجب التخييري، أو أنه أفضل فرديهما، فلا منافاة بينه وبين ما في المرسلة الأخرى من الإطلاق المقتضي للتخيير، فالأقوي هو التخيير حينئذ وفاقا للأكثر. نعم لا ريب في أفضلية التقديم تسامحا في دليل الاستحباب، نظرا إلى فتوى جماعة بها واحتياطا لإدراك الواقع والخروج عن مخالفة النصّ وغيره، والله العالم.

ص: 872

الفهرس

الصورة

ص: 873

الصورة

ص: 874

الصورة

ص: 875

الصورة

ص: 876

الصورة

ص: 877

الصورة

ص: 878

الصورة

ص: 879

الصورة

ص: 880

الصورة

ص: 881

الصورة

ص: 882

الصورة

ص: 883

الصورة

ص: 884

الصورة

ص: 885

الصورة

ص: 886

الصورة

ص: 887

الصورة

ص: 888

الصورة

ص: 889

الصورة

ص: 890

الصورة

ص: 891

الصورة

ص: 892

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.