ینابیع الأحکام في معرفة الحلال و الحرام المجلد 1

هوية الكتاب

بطاقة تعريف:قزویني، علي بن اسماعیل، 1237 - 1298ق.

عنوان المؤلف واسمه:ینابیع الاحکام في معرفة الحلال و الحرام/ تالیف علي الموسوي القزویني ؛ تحقیق علي العلوي القزویني.

تفاصيل النشر:قم: جامعة المدرسین في الحوزة العلمیه بقم، موسسه النشر الاسلامي، 1424ق.-= 1382 -

مواصفات المظهر:5ج.

فروست:موسسه النشر الاسلامي التابعه لجماعة المدرسین بقم المشرفه؛ 1075، 1076، 1079.

ISBN:دوره 978-964-470-077-4 : ؛ 46000 ریال : ج.1: 964-470-077-5 ؛ 105000 ریال: ج. 5 : 978-964-470-850-3 ؛ ج. 2 978-964-470-847-3 :

لسان:العربية.

ملحوظة:محقق جلد پنجم عبدالرحیم الجزمئی القزوینی است.

ملحوظة:ج. 2 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) (فیپا).

ملحوظة:ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

ملحوظة:کتابنامه.

موضوع:فقه جعفری -- قرن 13ق.

الحلال والحرام

طهارت

معرف المضافة:علوي قزویني، علي، محقق

معرف المضافة:جزمئي قزویني، عبدالرحیم

معرف المضافة:جامعة المدرسین في الحوزة العلمیه بقم. موسسه النشر الاسلامي

تصنيف الكونجرس:BP183/3/ق4ی9 1382

تصنيف ديوي:297/342

رقم الببليوغرافيا الوطنية:1 1 4 1 6 5 0

ص: 1

اشارة

ینابیع الاحکام فی معرفه الحلال و الحرام

تالیف علی الموسوی القزوینی

تحقیق علی العلوی القزوینی.

ص: 2

مقدمة الناشر

بِسْمِ اللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ

الحمد للّه، و الصلاة و السلام على رسول اللّه، و على آله المعصومين ينابيع أحكام اللّه.

و بعد، فإنّ من نعم اللّه الكبرى على هذه الامّة المرحومة أن هيّأ لها في كلّ عصر و زمان رجالا أفذاذا و علماء عدولا يذبّون عن حوزة الدين و يدافعون عن شريعة سيّد المرسلين بفكرهم الوقّاد و بيانهم النقّاد، فكتبوا في مختلف الميادين، و ثبّتوا في قلوب الناس اسس الحكمة و اليقين، و وقفوا بحقّ وقفة الاسود في الدفاع عن الثقلين المقدّسين الأكبر و الأصغر، بعد أن بيّنوا المجملات، و أوضحوا المبهمات، و فسّروا الآيات، و شرحوا الأخبار و ما اعضل من الروايات، و عرّفوا الناس الحلال من الحرام، و أرشدوهم إلى ما به سعادتهم في الدنيا و الختام. فها هي آثارهم تشهد لهم بالحسنى، و ها هي كتبهم تدلّ على مدى الإخلاص الّذي انطوت عليه سرائرهم، و صلاح النوايا الّتي انعقدت عليه ضمائرهم، فشروا أنفسهم ابتغاء مرضاة اللّه فأثابهم و أكرمهم بأفضل حلل الكرامة. فللّه سبحانه درّهم و عليه تعالى أجرهم.

و من هؤلاء الأنجم الزاهرة و الأعلام الباهرة: فقيه العصر و اعجوبة الدهر سماحة العلاّمة السيّد عليّ الموسوي القزويني (المتوفّى سنة 1298 ه ق) صاحب الحاشية على المعالم و القوانين و مؤلّفات ثمينة اخرى، منها هذه الموسوعة الفقهيّة المنيفة، يأتي وصفها في تقدمة حفيده الفاضل سماحة الحجّة السيّد علي العلوي القزويني - دامت إفاضاته - و نحن نباهي بهذا التوفيق الغالي الّذي توفّقت مؤسّستنا في طريق إحياء هذا التراث القيّم، شاكرين الخلف الصالح للمؤلّف و حفيده العالم سماحة حجّة الإسلام و المسلمين الحاج السيّد جواد الموسوي العلوي القزوينى - دام ظلّه - كفاء ما تفضّل به من النسخة الأصلية؛ و نشكر أيضا لنجله الفاضل المحقّق على ما بذل من الجهود في تصحيح و تحقيق الكتاب، مزدانا بتخريجات نافعة و تعاليق لائقة.

مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 3

نبذة من حياة المؤلّف:

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ الحمد للّه الّذي رفع درجات العلماء، و جعلهم ورثة الأنبياء، و فضّل مدادهم على دماء الشهداء، و الصلاة و السلام على الصادع بالشريعة الغرّاء، و مؤسّس الملّة البيضاء، شمس فلك الاصطفاء، محمّد المصطفى و آله الطيّبين الأصفياء.

أمّا بعد، فهذه نبذة حول حياة أحد الشخصيّات العلميّة الخالدة، و النوابغ القلائل اللامعة، ذي النفس الزاكية، و الآراء الراقية، و التصانيف العالية، الّذي يضنّ بأمثاله الدهر إلاّ في المجالات المتقطّعة و الفترات النادرة، بحر الفواضل و الفضائل، و فخر الأواخر و الأوائل، قدوة المحقّقين و نخبة المدقّقين و اسوة العلماء الراسخين، سلالة المصطفين، المحرز لقصبات السبق في مضمار الفضل، وحيد عصره و فريد دهره، سيّد الفقهاء و المجتهدين، جدّ جدّنا الأمجد، و سمي مولانا الممجّد فخر الأساطين، صاحب الحاشية على القوانين، السيّد عليّ بن إسماعيل الموسوي القزويني قدّس اللّه نفسه الزكيّة.

و حيث لم يصل إلينا من تاريخ حياته و تفصيل مجاري أحواله إلاّ ما ذكره بعض أصحاب التراجم و الفهرستات، و ما كتبه والدي الماجد - دام ظلّه الوارف - في مقدمة رسالة العدالة (المطبوعة بقم المشرّفة سنة 1419 ه. ق) لمؤلّفه العلاّمة رحمه اللّه و لم يتيسّر لنا مزيد تتبّع و فحص إلاّ اليسير، فنكتفي بنقل ما ذكروه و ما تيسّر لنا من الإضافات، فنقول و من اللّه التوفيق:

مولده و اسرته و هجرته:

كان ميلاده الشريف في شهر ربيع المولود سنة 1237 ه. ق في مدينة قزوين(1)

ص: 4


1- كما صرّح بذلك في ختام المجلد الأوّل من حاشيته على القوانين بقوله: «قد تمّ بيد مؤلّفه الفقير إلى اللّه الغني عليّ بن إسماعيل الموسوي القزويني مولدا و مسكنا في العشر الأوّل من الربيع الأوّل سنة اثني و تسعين و مائتين بعد الألف 1292 من الهجرة النبويّة».

حسب ما يستفاد من وصيّته الّتي أرّخ فيها زمن بلوغه بقوله: «براى من از قيمت آنها (ثلث أموال) از أوّل زمان تكليف من كه ربيع المولود سنة 1252 هزار و دويست و پنجاه و دو باشد، إلى يوم وفاة استيجار صوم و صلاة نمايند».

و كانت أمّه من أرحام السيّد إبراهيم الموسوي القزويني صاحب ضوابط الاصول (المتوفّى سنة 1262 ه) كما ذكره العلاّمة الطهراني في ذيل ترجمة السيّد رضي الدين القزويني خال سيّدنا المترجم له بقوله:

«السيد رضي الدين القزويني: كان من العلماء الأعلام و المراجع في التدريس و نشر الأحكام و كان زاهدا مرتاضا، و هو خال السيّد عليّ القزويني صاحب حاشية القوانين، و قد قرأ عليه ابن اخته المذكور في الأوائل قليلا - إلى أن قال -: أنّ اسم والد المترجم له السيّد علي أكبر و أنّه كان ابن عمّ السيّد إبراهيم بن محمّد باقر الموسوي القزويني صاحب «الضوابط»(1).

و من أجل ذا كان يعبّر سيّدنا المترجم له عنه كثيرا في مختلف مجالات هذا الكتاب ب «ابن عمّنا السيّد» أو «ابن عمّنا السيّد في ضوابطه»(2).

و أمّا أبوه السيّد إسماعيل فلم يصل إلينا شيء من أحواله غير ما ذكره والدي - دام ظلّه - بقوله: «و من المظنون أنّ مسقط رأس والده كان في قرية خوئين من قرى زنجان»(3).

و يؤيّده ما ذكره العلاّمة الطهراني في ترجمة السيّد رضي الدين المتقدّم ذكره بقوله: «... إنّ أصلهم من خوئين لكن جدّهم سكن قزوين فتعاقبوا من بعده و نسبوا

ص: 5


1- الكرام البررة: ج 2 ص 576.
2- كما جاء في المجلد الثالث من التعليقة - حسب تجزئتنا - في مبحث الأوامر بقوله: هل يعتبر كون الأمر مستفادا من القول أو أعمّ منه و ممّا يستفاد من الفعل؟ فيه وجهان بل قولان، اختار أوّلهما العلاّمة في التهذيب و النهاية و صار إلى ثانيهما جمع من متأخّري الأعلام منهم «ابن عمّنا السيّد» قدّس اللّه روحه و علّله السيّد في ضوابطه بأنّ المتبادر عند الإطلاق و إن كان هو الأوّل و لكنّه إطلاقي لعدم صحّة السلب عن طلب الأخرس بالإشارة أو الكتابة إلى آخره.
3- رسالة في العدالة - للسيّد عليّ القزويني - المطبوعة بقم المشرفة سنة 1419 ه ص 4.

إليها».(1).

ثمّ مات أبوه و هو لم يبلغ الحلم، فعاش في كنف خاله العلاّمة السيّد رضي الدين القزويني(2) - المتقدّم ذكره - عيشة تعزّز و نعمة. و قد حدب خاله العلاّمة على تربيته تربية علميّة صالحة، و مهّد له السبيل إلى تحصيل العلم فظهرت معالم النبوغ الفطري على هذا الطفل المؤمّل من أوائل أمره حتّى فرغ من تحصيل مقدّمات العلوم في حداثة سنّه و بداية أمره، ثمّ هاجر في طلب العلم و تكميل مباني الفقاهة و الاجتهاد إلى حائر الحسين عليه السّلام في شهر شعبان المعظّم سنة مائتين و اثنين و ستّين بعد الألف من الهجرة النبويّة (1262 ه. ق) كما سجّل ذلك بخطّ يده الشريفة على ظهر حاشية السيّد الشريف على الرسالة الوضعيّة العضديّة بقوله:

«هو المالك بالاستحقاق، كيف أقول هذا ملكي و أنا مملوك ربّي، بل هو من عواري الدهر عندي استعرتها بالمبايعة الشرعيّة تحت قبّة سيّدي الحسين عليه و على أولاده المعصومين ألف تحيّة و سلام، و كان ذلك في شهر رمضان المبارك من شهور مائتين و اثنتين و ستّين بعد الألف من الهجرة النبويّة - على هاجرها ألف تحيّة و سلام - و لقد كان الشهر المزبور الثاني من السنة الاولى من ورودي في هذه الأرض الأقدس، و إنّي أقلّ الخليفة بل ليس موجودا في الحقيقة، عبده العاصي عليّ الموسوي. (محلّ خاتمه الشريف)».

ثمّ هاجر الهجرتين إلى الأرض الأقدس النجف الأشرف لائذا بمنبع العلم و الفضيلة مولى الموحّدين أمير المؤمنين - عليه آلاف التحيّة و الثناء - و لكن لم نعثر على تاريخ هجرته الثانية، و لا يبعد كونها بعد وفاة السيّد إبراهيم القزويني صاحب «ضوابط الاصول» حسبما يساعده الاعتبار. و اللّه العالم.

و أمّا تاريخ عوده إلى موطنه قزوين فلم نقف على تفصيله في مظانّه، عدا ما قاله

ص: 6


1- الكرام البررة: ج 2 ص 576.
2- قال في المآثر و الآثار (ص 152) في ترجمته: آقا سيّد رضي الدين: مجتهد قزويني، خال آقا سيّد علي صاحب تعليقۀ معالم و حاشيۀ قوانين بود و در قزوين و متعلّقاتش رياستى بزرگ و مجلس فقه خارجى به مثابۀ رؤساى عراق عرب مشحون به گروهى از مستعدّين علماى عجم داشت، جلالت قدر و عظمت شأن آن بزرگوار در اين گونه اختصارات نمى گنجد (قدّس سرّه).

كيوان القزويني - الذي عاصر سيّدنا المترجم له - في كتابه الموسوم ب «كيوان نامه» بقوله: «آقا سيد على از شاگردان شريف العلماء بود و قدرى هم نزد شيخ أنصارى درس خوانده بود و هنوز شيخ انصارى زنده بود كه او آمد قزوين و بساط رياستش گسترده شد»(1).

بعض مشايخه:

كان سيّدنا قدّس سرّه قد ترعرع في أحضان أساتذة عظام، و تتلمذ عند أساطين العلم و عباقرة الفضل في عصره، منهم:

1 - خاله العلاّمة السيّد رضي الدين القزويني، كما قال العلاّمة الطهراني في ذيل ترجمته:

«و هو خال السيّد عليّ القزويني صاحب حاشية القوانين، و قد قرأ عليه ابن اخته المذكور في الأوائل قليلا»(2).

2 - الميرزا محمّد التنكابني رحمه اللّه صاحب «قصص العلماء» حيث قال: «ابن فقير را تلامذۀ چنديست كه أرباب كمالند، و بعضى از اين فقير اجازه دارند، از آن جمله:

«آقا سيّد علي كه مسلّم بلد است، و از خويشان استاد آقا إبراهيم است»(3).

3 - السيّد الجليل و الاستاذ النبيل السيّد إبراهيم الموسوي القزويني صاحب «ضوابط الاصول» (المتوفّى سنة 1262 ه. ق) كما ذكره في مستدركات أعيان الشيعة بقوله:

«... ثمّ هاجر إلى العراق قاصدا الحوزة العلميّة الكبرى و سكن كربلاء و التحق بحوزة السيّد إبراهيم الموسوي الذي كان يرتبط به بصلة القرابة و لكن لم تطل أيّامه و توفّي السيّد في نفس العام فتوجّه المترجم له إلى النجف الأشرف...»(4).

هذا و إن ساعد عليه الاعتبار، و لكنّا لم نقف على ما يدلّ عليه صراحة من خلال كلماته و عباراته، نعم يؤيّده ما أورده في تقريرات بعض مشايخه بقوله: «كذا ذكره السيّد الاستاذ عن استاذه الشريف»(5).

ص: 7


1- كيوان نامه ص 59.
2- الكرام البررة: ج 2 ص 576.
3- قصص العلماء: ص 67.
4- مستدركات أعيان الشيعة: ج 3 ص 138.
5- و المراد ب «الاستاد الشريف» هو الشيخ محمّد الشريف المعروف بشريف العلماء المازندراني أصلا و الحائري مسكنا و مدفنا (المتوفّى سنة 1246 ه. ق) و هو الّذي تتلمذ عنده السيّد إبراهيم القزويني صاحب ضوابط الاصول (المتوفّى سنة 1262 ه. ق).

4 - شيخ المشايخ، استاذ الفقهاء و المجتهدين الشيخ محمّد حسن النجفي رحمه اللّه (صاحب الجواهر) (المتوفّى سنة 1266 ه. ق) و يستفاد ذلك من صريح كلامه في مواضع عديدة من كتابه الكبير في الفقه الموسوم ب «ينابيع الأحكام في معرفة الحلال و الحرام» حيث يعبّر عنه ب «شيخنا في جواهره» أو «شيخنا في الجواهر».

منها: ما في مبحث استحباب مسح الرأس بمقدار ثلاث أصابع، حيث قال - بعد ما نقل مقالة الشهيد قدّس سرّه في المسالك عند قول المحقّق: «و المندوب مقدار ثلاث أصابع عرضا» -: و قد تبعه على ذلك شيخنا في الجواهر، حيث قال: و الظاهر أنّ المراد من المستحبّ مقدار عرض ثلاث أصابع لأنّه المتبادر من التقدير... إلى آخره.

5 - قدوة المحقّقين و فخر المجتهدين وحيد عصره و فريد دهره الشيخ مرتضى الأنصاري (المتوفّى سنة 1281 ه. ق) حيث عبّر عنه ب «شيخنا» أو «شيخنا الاستاذ» و هذا يبدو من مجالات متعدّدة من مؤلّفاته في الفقه و الاصول.

منها: ما ذكره في المجلد الخامس من التعليقة على المعالم عند ختام البحث عن حجّية ظواهر الكتاب بقوله: «ثمّ إنّه ينبغي ختم المسألة بذكر امور، أوّلها: ما حكاه شيخنا قدّس سرّه من أنّه ربّما يتوهّم أنّ الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى... إلى آخره».

و منها: ما في مبحث حرمة العمل بالظنّ، حيث قال - بعد ما نقل عن المحقّق البهبهاني رحمه اللّه بداهة عدم جواز العمل بالظنّ عند العوام فضلا عن العلماء -: «و نقل الضرورة ربّما يكون أقوى من نقل الإجماع كما نبّه عليه شيخنا الاستاذ عند تتلمذنا عنده».

6 - و قد قيل:(1) بتتلمذه عند شريف العلماء المازندراني الحائري رحمه اللّه، و لكنّه أمر لا يساعده الاعتبار، لأنّ الاستاذ الشريف مات بكربلاء بمرض الطاعون في سنة (1246 ه. ق) - على الأصحّ -(2) و هو آنذاك لم يكمل عشر سنين و من البعيد جدّا تتلمذه

ص: 8


1- تاريخ روابط ايران و عراق - مرتضى مدرس چهاردهى - ص 207. كيوان نامه - كيوان قزويني - ص 59.
2- حكى في «مكارم الآثار» (ج 4 ص 1271) عن بعض تلامذة صاحب الفصول رحمه اللّه - الذي كان آنذاك قاطنا بكربلاء المعلّى و ابتلي أيضا بالطاعون و لكن نجى منها - ما هذا لفظه: «اليوم 24 شهر ذي القعدة الحرام سنة 1246 روزى بى دروغ تخمينا در كربلاى معلّى دويست و پنجاه تا سيصد نفر از طاعون مى ميرند... و جناب شريف العلماء اليوم وفات كرد و زنش و دختر و پسرش...». و قال في موضع آخر: «اليوم 24 شهر ذي قعدة سنة 1246 احوالم بحمد اللّه خوب است لكن خلق بسيار مردند، و جناب شريف العلماء ملا شريف مازندرانى ملقّب به آخوند مطلق اليوم مرد با يك زنش و يك دختر و يك پسرش به چند يوم قبل...». (1) مستدركات اعيان الشيعة: ج 3 ص 138.

عنده، هذا مضافا إلى أنّ وروده بكربلاء كان في سنة (1262 ه. ق) كما تقدّم آنفا.

7 - قد عدّ صاحب مستدركات أعيان الشيعة(1) جملة من العلماء الأعلام القاطنين آنذاك بقزوين في زمرة مشايخه كالشهيد الثالث المولى محمّد تقي البرغاني، و المولى آغا الحكمي، و الشيخ ميرزا عبد الوهّاب البرغاني، و غيرهم - قدّس اللّه اسرارهم - و لكنّا مع شدّة فحصنا في آثاره رحمه اللّه لم نعثر على ما يدلّ عليه صراحة أو ظهورا، و لا تكفي فيه المعاصرة أيضا كما لا يخفى.

هذا مع أنّه لم يصرّح به في كلمات غيره من أصحاب الفهارس و التراجم، و لم نقف على مستنده في ذلك.

بعض تلامذته:

قد ارتوى من منهل علمه العذب كثير من الأجلّة الأفاضل منهم:

1 - العلاّمة الحكيم الحاج مولى محمّد المدعوّ بالهيدجي ابن الحاج معصوم علي(2).

(المتوفّى في حدود سنة 1349 ه)

2 - العلاّمة المحقّق و الفقيه الاصولي الشيخ عبد اللّه المازندراني (سنة 1259 - 1331)(3).

3 - العلاّمة الهمام فخر المحقّقين الحاج الشيخ جواد بن مولى محرّمعلى الطارمي (سنة 1263-1325)(4).

ص: 9


1- مستدركات اعيان الشيعة: ج 3 ص 138.
2- فهرست مشاهير علماء زنجان - الشيخ موسى الزنجاني -: ص 135.
3- ذيل سياحت شرق - آقا نجفى قوچاني -: ص 366.
4- نقباء البشر: ج 1 ص 339، أعيان الشيعة: ج 4 ص 279، فهرست مشاهير علماء زنجان: ص 22.

4 - العالم الفقيه و الفاضل الجليل السيّد حسين الاشكوري (المتوفّى سنة 1349 ه. ق)(1).

5 - العلاّمة المحقّق الشيخ شعبان الجيلاني النجفي (سنة 1275-1348) الّذي كان من الفقهاء الأعلام و مراجع التقليد في عصره(2).

6 - الفقيه الزاهد السيّد حسين الزرآبادي (المتوفّى بعد سنة 1300 ه -. ق)(3).

7 - العالم الفقيه السيّد مهدي بن حسن ابن السيّد أحمد القزويني النجفي الحلّي (المتوفّى سنة 1300)(2).

8 - العلاّمة الشيخ جعفر بن عبد اللّه (المتوفّى سنة 1334 ه. ق)(5).

9 - العلاّمة الشيخ فتحعلي بن الحاج ولي بن علي عسكر (المتوفّى سنة 1338 ه. ق)(6).

10 - العالم البارع المولى علي أصغر بن غلامعلي (المتوفّى سنة 1341 ه. ق)(7).

11 - العالم الفقيه الميرزا نصر اللّه شيخ الإسلام والد الميرزا فضل اللّه المعروف بشيخ الإسلام الزنجاني(3).

12 - العالم الفقيه السيّد أبو الحسن بن هادي بن محمّد رضا الحسيني التنكابني (المتوفّى سنة 1286 ه. ق)(4).

و لعلّ هناك كثيرا ممّن لم نعثر على أساميهم، الّتي قد اهملت أسماؤهم و لم يضبط أحوالهم في كتب التراجم فلم نقف عليها.

تأليفاته:

ترك سيّدنا الجدّ قدّس سرّه آثارا جليلة، أهمّها ما يلي:

1 - الحاشية على القوانين: و هو الكتاب الّذي نال به مؤلّفه شهرته الخالدة في علم الاصول حتّى صار يعرّف المؤلّف بالمؤلّف و يوصف ب «صاحب الحاشية على القوانين».

و هذه من أشهر حواشي القوانين و أحسنها تنقيحا و أجودها توضيحا و أمتنها تعبيرا و تحريرا.

ص: 10


1- نقباء البشر: ج 2 ص 590. (2 و 3) نقباء البشر: ج 2 ص 838 و 501.
2- أعيان الشيعة: ج 2 ص 145. (5-7) فهرست مشاهير علماء زنجان: ص 33 و 97 و 135.
3- مستدركات أعيان الشيعة: ج 7 ص 210.
4- المصدر السابق: ج 3 ص 7.

و قد حكي في «تاريخ روابط ايران و عراق» عن العلاّمة محمّد صالح المازندراني السمناني في شأن هذا الكتاب ما هذا نصّه: «اين دو كتاب (حاشيه سيد على بر قوانين و حاشيه ميرزا محمّد على مدرّس رشتى) از نظر دقت و تحقيق علم اصول از شاهكارهاى علمى در قرون اخير بشمار مى روند»(1).

و قال في أحسن الوديعة في ذيل ترجمته: «أقول: و قد طبعت حاشية صاحب العنوان في هامش القوانين و مستقلاّ و عندنا نسخة منها و لعمري أنّها تكشف عن غاية مهارته في الاصول و نهاية بارعيّته الخ»(2).

و قد طبعت هذه الحاشية المباركة في (سنة 1299 ه. ق) في عاصمة طهران و طبعت أيضا بهامش القوانين كرارا.

2 - التعليقة على معالم الاصول: و هذا السفر الجليل أبسط تعليقة علّقت على المعالم، و هذه التعليقة المباركة منذ تأليفه كانت حبيسة في زوايا المكتبات يعلوها التراب، و لم يطّلع عليها إلاّ بعض النابهين من الأعلام ممّن يفتّشون عن النفائس دون الزخارف.

و اليوم - بحمد اللّه و المنّة - قد خرجت في أحسن هيئة و أجمل اسلوب إلى الحوزات العلميّة و الملأ العلمي، و للّه الحمد على ما أنعم و الشكر على ما ألهم.

3 - رسالة في تحقيق حقيقة المفرد المحلّى باللام.

4 - رسالة في أقسام الواجب و أحكامها.

5 - رسالة في تداخل الأسباب و المسبّبات.

6 - رسالة في قاعدة نفي الضرر و الضرار، و قد أحال إليها في مبحث البراءة من حاشيته على القوانين.

7 - رسالة في الولاية و قد أشار إليها في حاشية القوانين في مبحث الاجتهاد و التقليد.

8 - رسالة في قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، طبعت في (سنة 1419 ه. ق) بقم المشرّفة.

9 - رسالة في العدالة، و قد فرغ من تأليفها في محرّم الحرام (سنة 1286 ه. ق)

ص: 11


1- تاريخ روابط ايران و عراق: ص 245.
2- احسن الوديعة ص 125.

طبعت في (سنة 1419 ه. ق) بقم المشرّفة.

10 - رسالة في حمل فعل المسلم على الصحّة، قد فرغ منها في إحدى و عشرين من شهر ذي القعدة الحرام سنة (1288 ه. ق) طبعت في (سنة 1419 ه. ق) بقم المشرّفة.

11 - رسالة في أنّ الأصل في المعاملات الصحّة أو الفساد.

12 - رسالة فارسيّة في الاجتهاد و التقليد و الطهارة و الصلاة و الزكاة و الخمس و الصوم و الرضاع طبعت في (سنة 1290 ه. ق).

13 - رسالة فارسيّة في أنواع التكسّب و البيع و الخيارات و القرض.

14 - رسالة فارسيّة المسمّاة ب «اصول الدين و شرح أفعال الصلاة» طبعت في (سنة 1331 ه. ق) في العاصمة طهران.

15 - رسالة سؤال و جواب بالفارسية، المشتملة على أجوبة الاستفتاءات و غيرها من المسائل الفقهيّة، و فيها بيان لمعاني بعض الأخبار المشكلة.

و لقد أشار المحقّق الطهراني إلى تلك الرسائل في الذريعة ذيل عنوان «الرسائل الكثيرة»(1).

16 - شرح على شرائع الإسلام: من أوّل كتاب التجارة إلى الاجرة على الأذان، و من أوّل الفصل الثاني في عقد البيع إلى بيع السمك في الآجام.

و شرح على كتاب الصيد و الذباحة من أوّله إلى مسألة القطعة المبانة من الحيّ.

و شرح على كتاب الصوم من أوّله إلى إيصال الغبار و الدخان إلى الحلق، و يلحق به البحث عن شرائط المتعاقدين في النكاح.

17 - كتاب البيع من أوّله إلى آخره، و يشتمل على البحث من جملة من المشتركات بين المسلمين، كالمساجد و المدارس و الربط و المعادن.

18 - تعليقة على كتاب الرضاع للشيخ مرتضى الأنصاري رحمه اللّه.

19 - كتاب الرضاع بالفارسيّة: قال في مفتتح هذا الكتاب: «بدان كه چون أقلّ عباد اللّه سابق بر اين رساله رضاعيّة منسوب به شيخ استاد - طاب ثراه - را ملاحظه كرده و بر بعض مواضع آن حاشيه نوشته بودم و مقلّدين را اذن در رجوع به آن و عمل

ص: 12


1- الذريعة: ج 10 ص 256.

كردن بر مسائل آن داده بودم و مسائل آن نيز در ميان مردم كثير الحاجة و عامّ البلوى است خواستم آن را هم جزء اين رساله قرار داده باشم، حواشى آن را داخل در متن نموده و مجموع را جزء اين رسالة قرار دادم كه مردم در مسائل رضاع نيز كه محتاج به آنها مى شوند معطّل نباشند».

20 - تعليقة على تفسير البيضاوي.

21 - ينابيع الأحكام في معرفة الحلال و الحرام(1): و هذا التراث الفقهيّ الكبير - كأكثر تآليفه القيّمة - بقيت منذ تأليفه حتّى اليوم مخطوطة عند اسرته الشريفة حتّى انتهت النوبة إلينا و قد منّ اللّه علينا حيث وفّقنا لإحيائها بالتحقيق و التدقيق - حسب ما في وسعنا و طاقتنا -.

ثمّ هذا السفر الجليل يشتمل على خمس مجلّدات كبار:

المجلد الأوّل: في المياه، و هذا هو الكتاب الماثل بين يديك.

المجلد الثاني: في الطهارات الثلاث و توابعها.

المجلّد الثالث: في الصلاة.

المجلد الرابع: في الزكاة.

المجلد الخامس: في التجارة.

و قد أحال إليه في مبحث اجتماع الأمر و النهي من حاشيته على القوانين. (ص 105)

منزلته العلميّة و زهده و مرجعيّته:

كان - قدّس اللّه نفسه الزكيّة - من أحد الشخصيّات النادرة في تاريخ الفقه و الاصول، و قد آتاه اللّه فكرا قويّا ثاقبا و ذوقا سليما سويّا في التفكير و الاستدلال، كما يكشف عنه حاشيته المعروفة على القوانين بما فيها من الكنوز الثمينة من الآراء الناضجة و التحقيقات الراقية، و هذا يجعلنا في غنى و كفاية عن تبيين موقفه العلمي.

كان قدّس سرّه دائم التفكير لا يفارقه العمل العلمي تدريسا أو تأليفا إلاّ في أوقات العبادة

ص: 13


1- الذريعة: ج 25 ص 886.

و الراحة كما يومئ إليه ما كتبه في ختام المجلّد الأوّل من ينابيعه بقوله:

«قد فرغ من تسويده مؤلّفه الفقير إلى اللّه الغني عليّ بن إسماعيل المرحوم الموسوي عند طلوع الفجر من يوم الثلاثاء الاثنى عشر من شهر رجب المرجب من شهور سنة 1272 ه. ق».

و مع ذلك كان من مراجع عصره قد رجع إليه جمع من المؤمنين، و طبعت رسالته العمليّة في (سنة 1290 ه. ق) لتنبيه امور المقلّدين الّذين يرجعون إليه في التقليد، و قد علّق عليه فقيه الطائفة المحقّة السيّد محمّد كاظم اليزدي صاحب العروة الوثقى(1).

و من جانب آخر كان في حياته الشخصيّة زاهدا قانعا معرضا عن الدنيا و أربابها و رئاساتها الفانية، كما أشار إليه كلّ من تصدّى لترجمته من أصحاب التراجم و الفهرستات كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و ممّا ينبغي الإشارة إليه هنا، ما حكى بعض المعاصرين(2) عن بعض من عاصره رحمه اللّه في شأنه رحمه اللّه بقوله:

«... درس اصول - خصوص قوانين - و پيشنمازى و وثوق قلبى و حتّى تقليد بعضى منحصر به آقا سيّد علي بود، و لو قضاوت نمى كرد، مراوده با أعيان و اشراف هم نداشت، خمس و زكاة و مظالم مى گرفت و فورا تقسيم مى كرد ميان علماء و طلاّب، و از اين جهت روى دل طلاّب به او بود...

در مسجد آقا سيّد على هركه اقتداء مى نمود هيچ مقيّد نبود كه خود را به او نشان دهد زيرا به هركه چيزى مى داد توقّع اقتداء از او نداشت...

مسجد آقا سيّد علي چنان پر از مأمومين مى شد كه غالبا جا نبود با آنكه مسجد بزرگى بود جنب خانه اش، در ماه رمضان مسجد آقا سيّد علي براى نماز جا خريده مى شد و هر واعظى آرزو داشت كه در آنجا منبر رود...»

أولاده:

قد أنجب قدّس سرّه ابنا و أربع بنات، و أمّا ابنه فهو:

ص: 14


1- و هو موجود في مكتبة والدي دام ظلّه بقزوين.
2- سيماى تاريخ و فرهنگ قزوين - دكتر پرويز و رجاوند: ج 2 ص 1102 نقلا عن كيوان نامه ص 53-56.

العالم الفقيه الاصولي السيّد محمّد باقر الموسوي القزويني رحمه اللّه (المتوفّى سنة 1338 ه. ق) الّذي كان من أجلاّء عصره و مشاهير دهره، ولد في أرض الغري و تخرّج على الميرزا حبيب اللّه الرشتي و الشيخ محمّد حسن بن عبد اللّه الممقاني، و له إجازات من أعلام عصره كالفاضل الشربياني و السيّد المجدّد آية اللّه السيّد محمّد حسن الشيرازي و غيرهما من الأعلام، و برز منه تأليفات كثيرة و توفّي يوم الأربعين (سنة 1338 ه. ق) بكربلاء المشرّفة و دفن في جوار مولانا الحسين عليه السّلام(1).

و أمّا بناته فهنّ:

1 - زوجة العالم الورع الميرزا حسين بن المولى آغا القزويني (الخوئيني) كما نبّه عليه العلاّمة الطهراني في الكرام البررة(2).

2 - زوجة العالم الفقيه السيّد أبو القاسم الحسيني القزويني، و هي أمّ العالم الأورع و الفقيه الزاهد السيّد محمّد الحسيني المدعوّ ب «الجزمئي» قدّس سرّه.

3 - زوجة السيّد زين العابدين التنكابني رحمه اللّه، و هي أمّ العالم الفقيه السيّد أبو الحسن التنكابني رحمه اللّه.

4 - زوجة العالم الجليل السيّد خليل بن السيّد رفيع القزويني، و هي أمّ الحكيم الإلهي و الفيلسوف الربّاني، فقيه الطائفة آية اللّه السيّد أبو الحسن الرفيعي القزويني (المتوفّى سنة 1396 ه. ق).

الثناء عليه:

تعرّض لوصفه ببالغ المديح و الثناء كثير من العلماء العظام و أصحاب التراجم و الفهرستات.

1 - و في طليعتهم ما أثنى عليه السيّد المجدّد آية اللّه الميرزا محمّد حسن الشيرازي رحمه اللّه (المتوفّى سنة 1312 ه. ق) عند إجازته لولده العالم السيّد محمّد باقر - المتقدّم ذكره - حيث عبّر عن والده قدّس سرّه ب «مجتهد الزماني» مع ما هو معلوم من سيرته

ص: 15


1- راجع مقدمة رسالة العدالة ص 11 - نقباء البشر: ج 1 ص 214.
2- الكرام البررة: ج 2 ص 577.

و طريقته من شدّة تجنّبه عن بذل العناوين و الألقاب إلى غير أهلها، و هذا يكشف جليّا عن جلالة قدر سيّدنا المترجم له و علوّ شأنه(1).

2 - قال في المآثر و الآثار (ص 142):

«آقا سيد على قزويني: از أعاظم مجتهدين و أجلّۀ حفظۀ شريعت و دين بود و در علم فقه مقام تحقيق او را از معاصرين إحدى انكار نداشت ولى در اين اصول مسلّم تر مى نمود، غالب اوقات قوانين محقّق قمى را عنوان افادت قرار مى داد و به آن كتاب كريم اعتقادى عظيم داشت و هم بر قوانين حاشيه نگاشته كه به طبع رسيده و نيز بر معالم الاصول تعليقۀ مبسوطى پرداخته است، به زهد و تقوى و قدس او كمتر كسى ديده شده و آن علامۀ عهد و زاهد عصر همشيره زادۀ حاج سيد رضى الدين مجتهد قزوينى است رضوان اللّه عليهما».

3 - و في ريحانة الأدب (ج 4 ص 454) لميرزا محمّد على المدرّس الخياباني -:

«قزويني سيّد على بن اسماعيل موسوى عالمى است فاضل، عابد، زاهد، فقيه، اصولى، محدّث، رجالى، مفسّر، معقولى، منقولى، از فحول علماى أواخر قرن سيزدهم هجرت كه اغلب اوقات قوانين الاصول ميرزاى قمى را تدريس مى كرده و از تأليفات اوست:

1 - حاشيۀ قوانين مذكور كه بسيار مرغوب و بين العلماء محلّ توجه و مطلوب و از تبحّر و رشاقت بيان مؤلّف خود حاكى است و در تهران چاپ شده.

2 - حاشيۀ معالم الاصول.

3 - قاعدۀ لا ضرر، و در سال هزار و دويست و نود و هشت هجرت وفات يافته».

3 - قال في نقباء البشر (ج 4 ص 1308):

ص: 16


1- هذه صورة ما أجازه: بسم اللّه الرحمن الرحيم: بر قاطبه مؤمنين أيّدهم اللّه تعالى مخفى نماند كه جناب مستطاب سلالة السادات العظام عمدة العلماء الأعلام كرّوبى نصاب، قدسى خطاب آقا سيّد باقر ابن مرحوم «مجتهد الزماني» آقا سيّد علي أعلى اللّه مقامه، آراسته به زينت تقوى و متحلّى به حليه پرهيزكارى از جمله موثّقين بوده و مى باشند لهذا آن جناب مأذون مى باشد در تصرف كردن در جميع امور حسبيه كمال احتياط را مراعات خواهند فرمود... الأحقر محمّد حسن الشيرازي (محل خاتمه الشريف)

«السيّد عليّ القزويني: من الفضلاء الأجلّة و العلماء الكاملين، و من أرحام السيّد إبراهيم القزويني صاحب «الضوابط» و قد أجازه العلاّمة الميرزا محمّد التنكابني صاحب «قصص العلماء» (المتوفّى في سنة 1302 ه. ق) كما ذكره فيه».

4 - قال في أحسن الوديعة (ص 125): «العالم المحقّق و الفقيه المدقّق المجتهد الاصوليّ مولانا الآقا سيد على ابن السيّد اسماعيل القزويني مولدا و مسكنا، كان رحمه اللّه عالما فاضلا و محقّقا كاملا، شهد له اعيان الرجال بالكمال في الفقه و الاصول و الحديث و التفسير و الرجال و كان بيته في قزوين مجمع الفضلاء و محطّ رحال العلماء» الخ.

و كذا ذكره في الذريعة ج 6 ص 177، ج 10 ص 256، و هكذا تصدّى لترجمته غيرهم من أصحاب التراجم كما جاء في نجوم السماء (ج 1 ص 331) و «مينودر» يا باب الجنّة ج 2.

وفاته و مدفنه:

قد جرى عليه قضاء اللّه و لبّى نداء ربّه في يوم الثلاثاء أربع مضين من شهر محرم الحرام سنة مائتين و ثمان و تسعين بعد الألف من الهجرة النبويّة (1298 ه. ق) بعد ساعتين من النهار في بلدة قزوين، و حمل جثمانه الشريف إلى حائر الحسين عليه السّلام و دفن في بقعة فيها مرقد السيّد إبراهيم القزويني صاحب ضوابط الاصول و خاليه السيّد تقي و الحاج السيّد رضي الدين القزويني قدّس سرّهم.

و جاء في تاريخ وفاته:

بر پيغمبريه(1) آسمان گفت *** چنين: يا ليتني كنت ترابا

پى تاريخ ديدم بر مزارى *** بود سيد على رضوان مآبا

فسلام عليه يوم ولد و يوم مات و يوم يبعث حيّا.

منهجيّة التحقيق:

لا يخفى على المتتبّع ما يواجهه المحقّق من مصاعب شتّى في مسيرة عمله

ص: 17


1- پيغمبريه: مقبرة معروفة بقزوين، يقال: دفن فيها أربعة أنبياء من بني إسرائيل.

التحقيقي، و بالخصوص فيما لو عزّت عليه النسخ لأجل تثبيت المواضع المضطربة أو تشخيص المقاطع المبهمة، ممّا يضعه في دوّامة لا محيص عنها. و هذا ما دعانا إلى اتّباع الدقّة و الانتباه بقدر الممكن لابتغاء المطلوب الذي جهدنا على تحقيقه.

و لذا فقد بادرنا إلى تشكيل برنامج عمل يتّخذ ما يلي أساسا له:

1 - اعتمدنا في مراحل عملنا على النسخة الوحيدة المدوّنة بخطّ المؤلّف رحمه اللّه.

2 - قمنا بتقويم النصّ، و قد آلينا الدقّة المطلوبة فيها، و تلخّص في: تقطيع النصّ إلى عدّة فقرات حسب ما تقتضيه المطالب، و وضع العلامات الإملائيّة بين العبائر لغرض تسهيل القراءة و الإعانة على فهم المطالب المذكورة، و توضيح المبهمات، و شرح الكلمات الغريبة و إدراجها في ذيل صفحات الكتاب.

3 - بذلنا ما في الوسع لتخريج الآيات الكريمة و الروايات الشريفة و الأقوال الفقهيّة الّتي أوردها المصنّف و استدلّ بها أو ناقشها أثناء بحثه، و إرجاعها إلى مصادرها الاصليّة و الاشارة إلى ذلك في الهامش.

4 - أضفنا إلى المتن بعض الكلمات الّتي نراها مناسبة لمقتضى السياق، حرصا منّا على توضيح المراد، و إعانة للقارئ الكريم على الوصول إلى بغيته المرجوّة. هذا و قد حرصنا على أن نجعل الإضافة الواردة بين معقوفتين [] حفظا منّا على الأصل الّذي هو أمانة في أعناقنا.

و في الختام يجب علينا أن نتقدّم بالشكر و الامتنان إلى الأخ الأعزّ الفاضل سبط المؤلّف سماحة الحجّة السيد عبد الرحيم الحسيني الجزمئي الّذي ساعدني في إنجاح هذا المأمول بما تيسّر له من الجهود المشكورة، جزاه اللّه عن سلفه الصالحين خير الجزاء.

و نسأل اللّه تعالى أن يتقبّل منّا هذا المجهود القليل خالصا لوجهه الكريم، و يجعلنا من محيي تراث مدرسة أهل البيت: و يجعلنا نعم الخلف لأولئك الماضين من علمائنا الّذي كانوا نعم السلف لنا إن شاء اللّه، و نسأل اللّه تعالى التوفيق و التسديد في إخراج بقيّة الأجزاء الاخر بالشكل المطلوب إن شاء اللّه تعالى، و آخر. دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

قم المشرّفة - حفيد المؤلّف السيّد عليّ العلوي القزويني

ص: 18

مصادر الترجمة

1 - طبقات أعلام الشيعة (نقباء البشر - الكرام البررة) للعلاّمة الشيخ آغابزرگ الطهراني.

2 - قصص العلماء، لميرزا محمّد التنكابني.

3 - نجوم السماء، لميرزا محمّد مهدي الكشميري.

4 - أحسن الوديعة، للسيّد مهدي بن السيّد محمّد الموسوي الخوانساري.

5 - تاريخ روابط ايران و عراق، لمرتضى مدرسى چهاردهى.

6 - سيماى تاريخ و فرهنگ قزوين، للدكتور پرويز ورجاوند.

7 - مقدمة على رسالة في العدالة، للسيّد جواد العلوي.

8 - اختلافيه كيوان، لعباس على كيوان.

9 - كيوان نامه، لعباس على كيوان.

10 - المآثر و الآثار، لاعتماد السلطنة.

11 - ريحانة الأدب، لميرزا محمّد علي مدرّس الخياباني.

12 - حاشية القوانين، للسيّد علي القزويني.

13 - فهرست مشاهير علماء زنجان، للشيخ موسى الزنجاني.

14 - سياحت شرق، لآقا نجفى قوچاني.

15 - أعيان الشيعة، للسيّد محسن الأمين.

16 - مستدركات أعيان الشيعة، للسيّد حسن الأمين.

17 - مينودر يا باب الجنّة، لمحمّد علي گلريز.

18 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة، للعلاّمة الطهراني.

19 - التعليقة على معالم الاصول، للسيّد علي القزويني.

20 - ينابيع الأحكام في معرفة الحلال و الحرام، للسيّد علي القزويني.

21 - مكارم الآثار، لميرزا محمّد علي معلّم حبيب آبادي.

ص: 19

ص: 20

كتاب الطهارة قسم المياه

اشارة

ص: 21

بِسْمِ اللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

و بعد، فهذه أوراق سوّدتها روما لشكره على إفاضة الإنعام، و سمّيتها ب «ينابيع الأحكام في معرفة الحلال من الحرام»، و أسأله أن يتّخذها من فضله ذخيرة لي في يوم القيام.

ينبوع [في أقسام الماء]

الماء ينقسم عندهم إلى مطلق و مضاف، ثمّ المطلق إلى جار و غيره، ثمّ غير الجاري إلى غيث و غيره، ثمّ غير الغيث إلى بئر و غيرها، ثمّ غير البئر إلى كثير و غيره، ثمّ غير الكثير إلى سؤر و غيره.

و ظاهر أنّ غير السؤر إنّما يلحقه البحث هنا باعتبار حكمه الوضعي المعبّر عنه بالطهارة و النجاسة، و إن كان المقصود بالأصالة من ذلك البحث التوصّل إلى الأحكام التكليفيّة المترتبة عليهما - حسبما قرّر في محلّه - بخلاف السؤر الّذي يبحث فيه هنا عن حكم تكليفي، من كراهة شربه أو مطلق استعماله و عدمها، و إن كان قد يلحقه البحث عن حكمه الوضعي أيضا استطرادا، كما في سؤر الكافر و أخويه.

و في دخول المضاف في تقسيمات الأصحاب، أو ما عنون به باب الطهارة إن لم يكن هناك تقسيم صريحا وجهان: من أنّ اللفظ لا يتناول بظاهره إلاّ المطلق، فيكون

ص: 22

البحث عن غيره واردا من باب الاستطراد لعدم كونه فردا منه، و من أنّ المضاف يلحقه أحكام مقصودة أصالة كغيره من الأقسام فيبعد كون البحث عنه استطرادا، و لازمه كونه داخلا في المقسم، أو ما عنون به الباب، و إن توقّفت صحّته على نحو تجوّز في الإطلاق بإرادة عموم المجاز.

و لكنّ الّذي يساعد عليه الإنصاف: أنّ هذا المقام ممّا يختلف فيه الحال باختلاف مشارب الأعلام، فمن تعرّض منهم لذكره صريحا في أصل التقسيم أو العنوان كما في نافع المحقّق(1)، فلا محيص من الحكم عليه بالتجوّز و اعتبار عموم المجاز، و من أعرض منهم عن ذلك كما في شرائعه(2)، فليس الحكم عليه بارتكاب التجوّز ممّا ينبغي.

و ما قرّرناه من الاستبعاد في منع الاستطراد لا يصلح بمجرّده قرينة على العدول عن الأصل و الظاهر، خصوصا مع ملاحظة أنّ الاستطراد ليس بعادم النظير، بل واقع في كافّة المسائل و الأبواب.

ص: 23


1- المختصر النافع 2 حيث قال: «الركن الأوّل في المياه، و النظر في المطلق و المضاف و الأسآر».
2- شرائع الإسلام 18:1 قال فيه: «الأوّل في المياه و فيه أطراف...».

ينبوع [تعريف الماء المطلق]

كون الماء من أظهر المفاهيم تناولا و أشيعها عند العرف تداولا ممّا يغنينا عن التعرّض لشرحه، بإيراد ما يتعلّق به من الضوابط المعمولة في تشخيص الموضوعات، لغويّة أم عرفيّة.

نعم، هو باعتبار وصف كونه مطلقا في مقابلة المضاف عبارة - على ما في كلام غير واحد من الأصحاب - عن كلّ ما يستحقّ إطلاق اسم الماء عليه من غير إضافة، على معنى كونه بحيث لو أطلق عليه الاسم بلا قيد و لا إضافة كان ذلك الإطلاق باعتبار استناده إلى الوضع اللغوي أو العرفي في محلّه، الّذي يكشف عنه عدم اشتماله على الغرابة في لحاظ الاستعمال، و لا صحّة سلب الاسم عنه في نظر العرف، و إن فرض وقوعه في بعض الأحيان مقرونا بالقيد و الإضافة، فخرج عنه ماء الورد و العنب و اللحم و نظراؤه، كما دخل فيه ماء البحر و الكوز و الملح و أشباهه.

و وضوح كون ذلك التفسير من مقولة التعريف اللفظي - المقصود منه تفسير اللفظ لخفاء مسمّاه بأظهر ما يرادفه ممّا علم فيه بذلك المسمّى، كالأسد بالقياس إلى الليث مثلا، و على قياسه ما عليه طريقة نقلة متون اللغة في ذكر معاني الألفاظ - ممّا يدفع حزازة اشتماله على لفظة «الكلّ» جنسا؛ نظرا إلى أنّ الماهيّة لمكان البينونة بينها و بين الأفراد لا تعرّف بما لا يدلّ إلاّ على الأفراد، و على لفظة «الماء» فصلا بملاحظة أدائه إلى الدور، المستحيل معه حصول المعرفة، فإنّ كلّ ذلك إنّما يمنع عنه في التعاريف الحقيقيّة المعبّر عنها بالحدود و الرسوم، التفاتا إلى أنّ المقصود فيها الكشف عن الماهيّة و التوصّل من معلوم تصوّري تفصيلا إلى مجهوله، و هو ممّا لا يتأتّى بما يباين الماهيّة

ص: 24

و لا بإعادة المعرّف.

و بعبارة اخرى: التعريف اللفظي إنّما يقصد به بيان ما يطلق عليه اللفظ في اصطلاح التخاطب و لو كان مجهولا باعتبار الماهيّة، و هو ممّا يتأتّى بكلّ ما يوجبه، بخلاف الحدّ و الرسم المقصود بهما بيان أصل الماهيّة و تمييزها عمّا عداها من الماهيّات المردّد فيها، فلا يتأتّى بما يدلّ على الأفراد، و لا بلفظ المعرّف أو مرادفه، و إنّما اقتصروا في المقام على مجرّد التعريف اللفظي بينها، على أنّ الفقيه لا يتعلّق غرضه في التعاريف إلاّ بتحصيل ما هو من موضوع بحثه؛ لضابطة أنّ الأحكام تدور مدار الموضوعات [العرفيّة و ذلك يحصل](1) بالتعريف اللفظي أيضا؛ لكون موضوعات الأحكام منوطة بصدق الاسم عرفا أو لغة، و لذا تراهم يقتصرون في تحصيل الموضوعات اللغويّة على مجرّد ما ذكره أئمّة اللغة، فالماء الّذي علّق عليه من الأحكام الشرعيّة - تكليفيّة و وضعيّة - ما لا يعدّ و لا يحصى ما يطلق عليه الاسم على جهة الاستحقاق، و يصدق عليه اللفظ عرفا على وجه يأبى عن سلبه.

فما علم فيه بذلك فلا إشكال في إجراء الأحكام عليه، كما أنّ ما علم فيه بخلاف ذلك فلا إشكال في عدم إجراء الأحكام عليه، بل في إجراء أحكام المضاف عليه.

و أمّا ما اشتبه حاله فيرجع فيه إلى الاصول، مثل أنّه لو كان ذلك الاشتباه عن حالة سابقة معلومة من الإطلاق و الإضافة، يلحق المشكوك فيه بأحد الأوّلين استصحابا لما كان عليه سابقا، من غير فرق بين ما لو كان الشكّ ناشيا عن زوال وصف، أو حدوثه مشابها بما هو من أوصاف الطرف المقابل، أو مشكوكا حاله.

و لو لم يكن عن حالة سابقة، فبالنسبة إلى انفعال نفسه بمجرّد الملاقاة أو تطهّره باتّصال الكرّ أو الجاري ما دام الوصف باقيا يحكم بالعدم، مع تأمّل في الأوّل يأتي وجهه في مباحث المضاف، كما أنّه بالنسبة إلى رفعه الحدث أو الخبث عن غيره يحكم بالعدم؛ للأصل في كلّ منهما، مضافا إلى أنّ الشرط في مشروط بالماء و لو من جهة نذر معلّق عليه ممّا لا يحرز بالشكّ، فسبيله من هذه الجهة سبيل المضاف، و إن لم يكن منه بحسب الواقع.

ص: 25


1- محي ما بين المعقوفتين من نسخة الأصل و لذا أثبتناه في المتن لاستقامة العبارة.

نعم، عند الشكّ في إباحة استعماله في غير مشروط بالماء من شرب و نحوه، كما لو دار بين الماء و المضافات النجسة كالخمر و نحوها، كان سبيله سبيل الماء، و إن لم يكن ماء في الواقع، من غير فرق في كلّ ذلك بين ما لو كانت الشبهة مصداقيّة، أو ناشئة عن الشكّ في الاندراج.

و الفرق بينهما مع اشتراكهما في الشكّ في الصدق، أنّ الشبهة في الثاني تنشأ عن الجهل بتفصيل المسمّى، و في الأوّل تنشأ عن أمر خارج وجودي أو عدمي غير مناف للعلم بالمسمّى تفصيلا.

و إن شئت فقل: إنّ الشكّ في الأوّل نظير الشكّ في الصغرى بعد إحراز الكبرى، و في الثاني نظير الشكّ في الكبرى بعد إحراز الصغرى، و المراد بالكبرى المشكوك فيها ما كان محموله شيئا معلوم الوصف مشكوكا في كونه ماء، كالمياه الكبريتيّة و النفطيّة، و بالصغرى المشكوك فيها ما كان محموله شيئا مشتملا على وصف وجودي أو عدمي شبيه بوصف المضاف، مع العلم بكونه ماء على فرض عدم الوصف، كمائع فيه رائحة الجلاّب، مشكوك في كونه جلاّبا في الواقع أو ماء قد اكتسب الرائحة بالمجاورة و نحوها، أو مائع ليس فيه رائحة الجلاّب، مشكوك في كونه ماء أو جلاّبا زال رائحته لعارض.

و محصّله: أنّ الشكّ في الصورتين هنا راجع إلى كون الوصف الموجود من الوجودي أو العدمي أصليّا، ليكون المائع جلاّبا في الصورة الاولى و ماء في الصورة الثانية، أو عرضيّا ليكون ماء في الصورة الاولى و جلاّبا في الصورة الثانية.

ص: 26

ينبوع [طهارة الماء المطلق في نفسه و مطهريته لغيره]

الماء بعنوانه الكلّي المتحقّق في ضمن جميع الأقسام المتقدّمة حتّى ما كان منه مذابا من الثلج أو البرد أو كان ماء بحر، ما دام باقيا على خلقته الأصليّة - بعدم مصادفة ما يوجب فيه سلب الإطلاق، أو التنجّس و الانفعال - طاهر في نفسه مطهّر لغيره من حدث - و هو الحالة المانعة من الصلاة المتوقّف رفعها على النيّة، أو ما كان منشأ لتلك الحالة من الأسباب الآتي تفاصيلها، فيراد برفعها رفع الأثر المتعقّب لها المعبّر عنه بالحالة المذكورة - و خبث - و هو نفس النجاسة الّتي تفارق عن الحدث بما ذكر فيه من القيد الأخير - خلافا في ماء البحر لسعيد بن المسيّب(1) المانع من الوضوء به مع وجود الماء، و عبد اللّه بن عمر القائل: «بأنّ التيمّم أحبّ إليّ منه» على ما حكي عنهما(2)؛ فإنّ خلافهما - مع إمكان تأويله إلى ما لا ينافي ما ادّعيناه من الكلّية، بإرجاعه إلى شبهة في الموضوع، حصلت لهما على حدّ ما فرضناه في مشكوك الحال المردّد بين كونه مطلقا أو مضافا - و إن كانت شبهة في مقابلة البديهة - مضافا إلى عدم كون المحكيّ عن الثاني صريحا في المخالفة، لجواز ابتناء كلامه على الاحتياط الغير اللازم، كما هو ظاهر التعبير ب «أحبّ»، و إن كان ذلك الاحتياط في غير محلّه - محجوج عليه بما ستسمعه

ص: 27


1- المجموع 91:1 - سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب المحزومي القرشي أبو محمّد. أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، سمع من عمر و عثمان و زيد بن ثابت و عائشة و أبي هريرة و سعد بن أبي وقّاص، و اختلف في سنة وفاته، فقيل: سنة 94 و قيل: سنة 89 و قيل: سنة 105 ه - [تذكرة الحفّاظ 54:1 - شذرات الذهب 102:1 - وفيات الأعيان 117:2].
2- البحر الرائق: 66:1، حكى عنهما الشيخ الطوسي في الخلاف 51:1 المسألة 2.

من الأدلّة القاطعة، مضافا إلى قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حينما سئل عن الوضوء بماء البحر: «هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته»(1).

و الدليل على الكلّية المدّعاة واضح، بعد ملاحظة الإجماع الضروري من العلماء كافّة، و نقله على حدّ الاستفاضة المدّعى كونها قريبة من التواتر الّذي منه ما عن المعتبر(2) و المنتهى(3) و شرح الدروس للمحقّق الخوانساري(4)، و نقل كونه من ضروريّات الدين عن المفاتيح(5)، و لعلّه كذلك، بل ممّا لا يمكن الاسترابة فيه، و الأخبار المتواترة معنا بل البالغة فوق التواتر بألف مرّة الواردة في تطهير النجاسات و تعليم الطهارات، الآمرة بها و بتفاصيلها المتكفّلة لبيان أجزائها و شروطها و موانعها و سائر ما اعتبر فيها.

و قد شاع عندهم الاستدلال من الكتاب العزيز بقوله عزّ من قائل: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (6) و قوله الآخر: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (7) و لا كلام لأحد في دلالة الأوّل على المطهّريّة مطابقة و الطهارة التزاما عرفيّا بل عقليّا؛ لا لأنّ فاقد الشيء لا يعقل معطيا له، فإنّ حكم التطهير مبنيّ على التسبيب الشرعي [و لا يحكم العقل](8) بامتناع أن يجعل الشارع شيئا غير طاهر سببا لتطهير الغير، كما في الأرض الّتي تطهّر باطن النعل على القول بعدم اشتراط الطهارة فيها، و مثله ثلاثة أحجار الاستنجاء إن لم نقل باشتراط الطهارة فيها تعبّدا، بل لأنّ الماء إذا كان نجسا فيسري نجاسته إلى المحلّ فلا يزيد فيه إلاّ نجاسة في نجاسة، و معه لا يمكن التطهّر.

نعم، ربّما نوقش فيه بل و في الثاني أوّلا: بمنع العموم في لفظة «الماء»؛ لكونها نكرة في الإثبات.

و ثانيا: بعدم تناوله لمياه الأرض، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى.

ص: 28


1- الوسائل 366:6، ب 22 من أبواب أحكام الملابس ح 11.
2- المعتبر: 8 حيث قال - بعد نقل قول ابن المسيّب و عمر - «لنا: الإجماع، فإنّ خلاف المذكورين منقرض».
3- منتهى المطلب 1:4.
4- مشارق الشموس: 184 قال: «ثمّ كونه طاهرا مطهّرا من الحدث و الخبث مطلقا... ممّا وقع عليه إجماع المسلمين».
5- مفاتيح الشرائع 81:1.
6- الأنفال: 11.
7- الفرقان: 48.
8- محي ما بين المعقوفين من نسخة الأصل و لذا أضفناه في المتن لاستقامة العبارة.

و يمكن المناقشة أيضا بعدم تناوله رفع الحدث؛ لأنّ كونه تطهيرا إنّما ثبت بالشرع، و اللفظ الوارد في الخطاب إنّما يحمل على ما يتداوله العرف و يساعد عليه اللغة.

و لكن دفعها بناء على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه و في لفظ «الطهارة» أيضا هيّن، و على القول بعدم ثبوتها فيه بالخصوص - كما هو الأرجح - بأن نقول: حمل اللفظ على المعنى العرفي اللغوي هنا لا يقدح في دخول رفع الحدث في مفهوم التطهير؛ فإنّ النظافة في مفهوم «الطهارة» لغة و عرفا في نظر العرف شيء و عند الشارع شيء آخر، و لعلّ بينهما عموما من وجه، فيكون الاختلاف بينهما اختلافا في المصداق دون المسمّى، نظير ما لو اختلف زيد و عمرو - بعد اتّفاقهما على أنّ لفظة «زيد» موضوعة لابن عمرو - في أنّ ابن عمرو هذا الرجل أو ذاك الرجل، فإذا حملنا التطهير الوارد في الآية على التنظيف بالمعنى الشامل لرفع الحدث و الخبث معا، لم يكن منافيا لحمله على معناه العرفي اللغوي جدّا.

و اجيب عن الاوليين: بأنّ ورود المطلق مورد الامتنان و إظهار الإنعام و الإحسان ممّا يفيد العموم، فيمنع عن كون لفظة «الماء» حينئذ نكرة، بل هو اسم جنس منوّن، على حدّ ما في قول القائل: «في الدار رجل لا امرأة»، و معه كان الحكم معلّقا على الماهيّة الجنسيّة، فيسري إلى الأفراد قاطبة.

و أنّ مياه الأرض كلّها من السماء، كما نطق به قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنّٰا عَلىٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ (1)، و قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَسَلَكَهُ يَنٰابِيعَ فِي اَلْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهُ (1)، و قوله تعالى:

هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرٰابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ - إلى قوله - يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ (2).

وجه الاستدلال بالآية الاولى: أنّها تقضي بذلك صدرا و ذيلا.

أمّا الأوّل: فلكونه في معرض الامتنان، فلو لا جميع مياه الأرض من السماء لما تأتي ذلك الغرض؛ لإمكان التعيّش من الماء بما هو من أصل الأرض.

و أمّا الثاني: فلظهور قوله: وَ إِنّٰا عَلىٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ (4) في إرادة التهديد على كفران النعمة، و العدول عن الطاعة إلى المعصية، فلو لا إذهابه بماء السماء موجبا لخلوّ

ص: 29


1- الزمر: 21.
2- النحل: 10-11.

الأرض عن الماء لما تأتي ذلك الغرض، هذا مضافا إلى ما عن القمّي أنّه روى في تفسيره عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: «هي الأنهار و العيون و الآبار»(1).

و بالثانية و الثالثة: أنّهما واردان أيضا في معرض الامتنان، فلو لا جميع ما في الأرض من الينابيع و ما يحصل به الشراب و الشجر و الزرع و النبات منزلا من السماء من أصله - و إن كان نابعا فعلا من الأرض - لما أعطى اللّه سبحانه بكلامه الغرض حقّه، بل كان الامتنان في غير محلّه، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

و ربّما يتأمّل في دلالة الآيتين، أو هما مع ما تقدّم من الرواية في تفسير الآية الاولى، كما أشار إليه في الرياض(2)، آمرا به بعد ما أوردهما عقيب الرواية المذكورة.

و لعلّ وجهه قصور الجميع عن إفادة تمام المطلب؛ فإنّ أعظم مياه الأرض إنّما هو ماء البحر، و لا دلالة في شيء من ذلك على كونه من السماء.

و يمكن دفعه: بأنّه إنّما يتّجه لو لم يكن ماء البحر نابعا من الأرض، و إلاّ فيرجع إلى عنوان «العيون» الوارد في الرواية و الآية الاولى من الأخيرتين - و لو من جهة أصله - و لعلّه الظاهر، أو بأنّ ماء البحر على ما يشاهد بالحسّ ما يجتمع فيه من الأنهار العظيمة المخرجة إليه عن العيون و الأمطار و الثلوج، فلا يكون خارجا عنها، أو بأنّ المطلب يتمّ بملاحظة عموم الامتنان أيضا، إذ لو كان ماء البحر من نفس الأرض لما احتاج العباد إلى مياه السماء، فيكون الامتنان واردا في غير محلّه. فتأمّل(3).

نعم، هاهنا مناقشة اخرى واردة على الثاني خاصّة، و هي: أنّ لفظة «طهور» لا تقضي إلاّ بوصف الطهارة، و العمدة في المقام إنّما هو إثبات المطهّريّة، و أصل هذه المناقشة عن أبي حنيفة(4)، فإنّه منع عن دلالة الآية على كون الماء مطهّرا، و مستنده إمّا

ص: 30


1- تفسير القمّي: 91:2.
2- رياض المسائل 131:1.
3- وجه التأمّل: عدم تمكّن جميع من في الأرض عن ماء البحر، بل هو كذلك بالنسبة إلى أكثرهم، لوقوعهم في البلاد النائية عن البحر، فيتمّ الامتنان بالنسبة إليهم، و إن لم يتمّ بالنسبة إلى المتمكّنين منهم. و يمكن دفعه: بعدم تماميّته بالنسبة إليهم، لعدم كون ماء البحر - لمكان كونه مالحا بل مرّا - ممّا ينتفع به في الشرب و الطعام، فتأمّل أيضا جيّدا (منه).
4- المجموع 84:1؛ أحكام القرآن - للقرطبي - 39:13.

ما حكاه في الرياض(1) و الحدائق(2) من عدم جواز كون «طهور» على بابه من المبالغة في أمثاله؛ لأنّ المبالغة في «فعول» إنّما هي بزيادة المعنى المصدري و شدّته فيه، ك «أكول» و «ضروب»، و كون الماء مطهّرا لغيره أمر خارج عن الطهارة - الّتي هي المعنى المصدري - فكيف يراد منه، بل هو حينئذ بمعنى الطاهر.

أو ما قرّره الشيخ في التهذيب من: «أنّه كيف يكون الطهور هو المطهّر، و اسم الفاعل منه غير متعدّ، و كلّ فعول ورد في كلام العرب متعدّيا لم يكن متعدّيا إلاّ و فاعله متعدّ، فإذا كان فاعله غير متعدّ ينبغي أن يحكم بأنّ فعوله غير متعدّ أيضا، أ لا ترى أنّ قولهم: «ضروب» إنّما كان متعدّيا لأنّ الضارب منه متعدّ، و إذا كان اسم الطاهر غير متعدّ يجب أن يكون الطهور أيضا غير متعدّ»(3).

و لا يذهب عليك: أنّ هذا لا يرجع إلى الوجه الأوّل، لأنّ مبناه على منع دعوى المبالغة في تلك اللفظة بخصوصها رأسا، بتوهّم أنّها مبنى الاستدلال على كون الماء مطهّرا، و محصّله يرجع إلى أنّ المبالغة إنّما هي للدلالة على الزيادة في أصل المعنى المصدري، و هذه الزيادة في خصوص تلك اللفظة إمّا أن تعتبر بالقياس إلى معنى الطهارة، أو بالقياس إلى معنى التطهير، و لا سبيل إلى شيء منهما.

و أمّا الأوّل: فلأنّ الطهارة في الماء لا تكون إلاّ على نمط واحد، فلا تقبل الزيادة و التكرار.

و أمّا الثاني: فلخروج معنى التطهير عمّا هو معنى مصدري لطهور، فلا يعقل منه الدلالة على المبالغة بالقياس إليه، بخلاف الوجه الثاني الّذي مرجعه إلى منع كون المبالغة في تلك اللفظة بالقياس إلى المعنى المتعدّي، و هو كما ترى لا ينافي كونها للمبالغة بالقياس إلى المعنى اللازم.

و ملخّصه: أنّ المبالغة بالقياس إلى ما عدا المعنى اللازم مبنيّة على كون «طهور» متعدّيا و هو باطل؛ لمكان التلازم فيما بين الفاعل و الفعول لغة في وصفي التعدية و اللزوم، و «الطهور» إذا كان فاعله و هو «الطاهر» لازما - كما هو المسلّم المتّفق عليه - فكيف يمكن التفكيك بينهما بجعل «فعوله» متعدّيا، و هو كما ترى ممّا لا تعرّض فيه

ص: 31


1- رياض المسائل 131:1.
2- الحدائق الناضرة 176:1.
3- التهذيب 214:1.

لمنع المبالغة بالقياس إلى المعنى اللازم.

فما ذكره الشيخ في دفع هذا الوجه من: أنّه لا خلاف بين أهل النحو أنّ اسم «فعول» موضوع للمبالغة و تكرّر الصفة، أ لا ترى أنّهم يقولون: «فلان ضارب»، ثمّ يقولون: «ضروب» إذا تكرّر منه ذلك و كثر، و إذا كان كون الماء طاهرا ليس ممّا يتكرّر و يتزايد، فينبغي أن يعتبر في إطلاق «الطهور» عليه غير ذلك، و ليس بعد ذلك إلاّ أنّه مطهّر، و لو حملناه على ما حملنا عليه لفظة الفاعل لم تكن فيه زيادة فائدة(1)، ليس ممّا يتوجّه إليه بل هو بظاهره أجنبيّ منه.

نعم، يتوجّه إلى الوجه الأوّل الّذي سمعته عن الرياض(2) و الحدائق(3)، و كلام الشيخ رحمه اللّه خلو عن الإشارة إليه.

نعم، إنّما يتوجّه إليه ما قرّره من العلاوة بقوله: «إنّ ما قاله السائل: إنّ كلّ اسم للفاعل إذا لم يكن متعدّيا فالفعول منه غير متعدّ فغلط أيضا، لأنّا وجدنا كثيرا ما يعتبرون في أسماء المبالغة التعدية، و إن كان اسم الفاعل منه غير متعدّ، أ لا ترى إلى قول الشاعر:

حتّى شآها كليل موهنا عمل *** باتت طرابا و بات الليل لم ينم(3)

فعدّى «كليل» إلى «موهنا» لما كان موضوعا للمبالغة، و إن كان اسم الفاعل منه غير متعدّ»(4) انتهى.

ثمّ، إنّ بعد الغضّ عمّا ذكرناه، فالّذي يقتضيه التدبّر و يساعد عليه النظر، ورود كلّ من الوجهين على خلاف التحقيق؛ لا لما قرّره في المدارك(5) - كما عن صاحب المعالم(6) أيضا - في دفع الوجه الأوّل، من أنّ ذلك إثبات للّغة بالاستدلال، و ترجيح لها بالعقل، فإنّ ذلك أيضا وارد في غير محلّه؛ لما تنبّه عليه في الحدائق(8)، و أشار إليه

ص: 32


1- التهذيب 214:1-215.
2- رياض المسائل 131:1. (3 و 8) الحدائق الناضرة 176:1.
3- البيت لساعدة بن جؤيّة كما في خزانة الأدب 155:8.
4- التهذيب 215:1.
5- مدارك الأحكام 27:1 حيث قال - بعد أن أورد كلام الشيخ المتقدّم -: «لتوجّه المنع إلى ذلك، و عدم ثبوت الوضع بالاستدلال كما لا يخفى».
6- حكى عنه في الحدائق الناضرة 176:1 - فقه المعالم 123:1.

في الرياض(1) أيضا، بل لابتنائهما على المغالطة و الاشتباه من جهات اخر.

أمّا الأوّل منهما: فلعدم كون الخصم بصدد إنكار ورود صيغة «فعول» لغة للمبالغة، حتّى يدفع كلامه بما ذكر من قضيّة عدم الخلاف بين أهل النحو في وضع «الفعول» لغة للمبالغة و تكرّر الصفة، بل غرضه إنكار كون «طهور» بالخصوص مندرجا في «الفعول» بهذا المعنى، فحينئذ يتّجه أن يقال: كما أنّه لا خلاف بين أهل النحو في وضع «فعول» للمبالغة و تكرّر الصفة، فكذلك لا خلاف بينهم في وضعه لمجرّد الوصف قائما مقام الفاعل فيما كان من فعل يفعل بضمّ العين، على قياس ما هو الحال في الصفات المشبّهة، فأيّ شيء يستدعي لحوق «طهور» بالأوّل دون الثاني؟ بل قضيّة ما أشرنا إليه من الضابط كونه من الفعول بمعنى الفاعل، لا ممّا هو مبالغة في الفاعل.

و مع الغضّ عن ذلك، فالعدول عن جعله للمبالغة في المعنى اللازم إلى جعله لها في المعنى المتعدّي ممّا لا داعي إليه، بعد ملاحظة أنّ «الطهارة» باعتبار معناها اللغوي - و هو النظافة و النزاهة - ممّا يقبل الزيادة و الشدّة و الضعف، كما يشير إليه ما عن الزمخشري من «أنّ الطهور: البليغ في الطهارة»(2)، و تنبّه عليه صاحب المدارك أيضا فأشار إليه في دفع ما حكاه عن الشيخ من الوجه الأوّل، و قال: «و ابتنائه على ثبوت الحقيقة الشرعيّة للمطهّر على وجه يتناول الأمرين، فهو أولى ممّا ذكره الشيخ في التهذيب» - إلى قوله -: «لتوجّه المنع إلى ذلك، و عدم ثبوت الوضع بالاستدلال»(3).

فإنّ قوله: «لتوجّه المنع إلى ذلك»، مراد منه المنع عن عدم صلاحيّة «طهور» بغير المعنى المتعدّي للتكرّر و التزايد.

و وجهه: أنّ النظافة في الماء باعتبار الصفاء و الكدورة، أو خلوصه عن الأوساخ و الأقذار و عدمه، أو عن الأرياح المنتنة و الألوان المكرهة و عدمه لها مراتب، لأنّ كلاّ من ذلك قد يضعف و قد يتضاعف، و قد يقلّ و قد يتكثّر على وجه ينشأ منه صحّة إطلاق «فعول» للمبالغة في ذلك عرفا كما نشاهده بطريق الحسّ و العيان، و بذلك ينقدح أيضا

ص: 33


1- رياض المسائل 24:1.
2- الكشّاف 284:3 ذيل الآية 48 من سورة الفرقان.
3- مدارك الأحكام 27:1.

فساد الأوّل [الّذي](1) تقدّم تقريره.

نعم، الطهارة بالمعنى الشرعي غير صالحة لهما، لعدم كونها متصوّرة إلاّ على نمط واحد، و كأنّ مبنى كلام الخصم على توهّم إرادته، و هو كما ترى ممّا لا ضرورة في المقام دعت إلى اعتباره، إلاّ على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ «الطهارة»، أو ثبوت القرينة على اعتباره مجازا على التقدير الآخر، و كلاهما ممنوعان.

و مع الغضّ عن ذلك أيضا فاعتبار المبالغة بالنسبة إلى المعنى اللغوي ممّا لا يكاد يعقل بعد فرض كون «طهور» أو «فعول» من المشتقّات، لمكان كونه مخالفا للقياس و قانون الاشتقاق، فإنّ المشتقّ في تعديته و لزومه تابع لمأخذ اشتقاقه، و المفروض أنّه لازم، و إلاّ كانت التعدية سارية في جميع التصاريف، و هو باطل و مخالف لضرورة العرف و اللغة.

و دعوى أنّ كون الماء طاهرا ممّا لا يتكرّر و لا يتزايد، فينبغي أن يعتبر المبالغة في كونه مطهّرا.

يدفعها: أنّ هذا الاعتبار لا بدّ و أن يثبت من الواضع، و هو ليس بثابت إن لم نقل بثبوت خلافه، بملاحظة كون الوضع في المشتقّات نوعيّا - على ما قرّر في محلّه - فإنّ خصوص لفظ «طهور» ليس ممّا وضعه واضع اللغة، حتّى يقال: بأنّه إذا وضعه للمبالغة بدليل مثبت له فلا محالة اعتبر المبالغة في كون الماء.

مطهّرا لعدم صلاحية ما عداه للتكرار و الزيادة، بل الّذي تصدّى لوضعه الواضع إنّما هو صيغة «فعول» مجرّدة عن خصوصيّات الموادّ الّتي منها مادّة «طهر»، و هذه الصيغة إنّما تعتبر مفيدة لما وضعت له من المبالغة في كلّ مادّة تكون صالحة للزيادة و التكرار، و قد فرضتم خلافه في مادّة «طهر»، و معه لا محيص عن اعتبار كون «طهور» من الفعول الموضوع للمعنى الوصفي، المعبّر به عن الفاعل - حسبما أشرنا إليه - على حدّ ما يقال في أفعل التفضيل: من أنّه يصاغ عن مادّة قابلة للتفاضل، و أمّا ما ليس كذلك فالأفعل بالقياس إليه وصفي كما في أعمى و نحوه.

و ما ذكرناه من أنّ الواضع لم يتصدّ لوضع «طهور» بخصوصه للمبالغة، لا ينافي ما

ص: 34


1- أثبتناه لاستقامة العبارة.

يأتي في كلام كثير من أهل اللغة من تفسير «الطهور» بالطاهر المطهّر، أو المطهّر فقط؛ لعدم ابتناء كلامهم على دعوى كونه من جهة المبالغة، كيف و لا إشارة في كلام [واحد منهم بذلك](1) و إن سبق إلى بعض الأوهام كما ستعرفه، بل أقصى ما يقضي به نصّهم إنّما هو كون ذلك من مقتضى الوضع الشخصي الثابت له بإزاء المطهّر، و لعلّه وضع عرفيّ محدث وارد على الوضع اللغوي النوعي، بل الالتزام به في تصحيح كلامهم ممّا لا محيص عنه عند التحقيق، كما ستعرفه.

و من جميع ما قرّرناه ينقدح حينئذ فساد الوجه الثاني الّذي ذكره الشيخ، فإنّ ما ذكره مخالف لقانون الاشتقاق، المقتضي لسراية مأخذ الاشتقاق في المشتقّ، المقتضية لكون المشتقّ تابعا لمأخذ اشتقاقه، حتّى في التعدية و اللزوم، و لزوم الفاعل دليل محكم و شاهد عدل على لزوم المأخذ، و هو ملازم للزوم المشتقّ الآخر و هو «فعول»، و إلاّ حصل التخلّف، و هو كما ترى غير معقول.

و أمّا ما استشهد به من كثرة اعتبار التعدية في أسماء المبالغة و إن فرض الفاعل لازما، فليس ممّا يشهد له بكون «طهور» أيضا من هذا الباب، إن أراد به اعتبارها مطلقا و لو على سبيل التجوّز؛ ضرورة أنّ ثبوت التجوّز في موضع لقرينة دلّت عليه لا يقضي بثبوته في سائر المواضع، و لا سيّما في الموضوعات النوعيّة الّتي أشخاصها ألفاظ مستقلّة في حدّ أنفسها تباين بعضها بعضا، فلا ينبغي مقايسة بعضها على بعض في وصفي الحقيقة و المجاز.

و إن أراد به اعتبارها على سبيل الحقيقة، فهو يخالف قانون الاشتقاق، مضافا إلى ما ثبت في المشتقّات من الوضع النوعي، هذا مع ما في الاستشهاد بقول الشاعر من الغفلة عن حقيقة الحال.

أمّا أوّلا: فلتوجّه المنع إلى كون «كليل» في الشعر المذكور متعدّيا، عاملا على المفعوليّة في «الموهن»، الّذي هو عبارة عن ساعات الليل، أو نحو من نصفه، أو ما بعده بساعة، و إن توهّمه سيبويه - على ما حكاه عنه الشارح الرضي(2) - فيما ادّعاه من أنّ:

ص: 35


1- أثبتناه لاستقامة العبارة.
2- شرح الكافية: 202:2.

فاعلا إذا حوّل إلى «فعيل» أو «فعل» عمل، متمسّكا بذلك الشعر، بل «الموهن» - على ما يساعد عليه الذوق، و نصّ عليه غير سيبويه - نصب على الظرفيّة متعلّق ب «شآها» بمعنى ساقها، أو سبقها راجعا ضميره إلى «للاتن» و هي حمير الوحش، و على فرض كونه معمولا ل «كليل» فهو نصب على الظرفيّة أيضا، و هو على التقديرين لازم مراد منه العجز و التعب، اللذين اعتبرا وصفين للبرق الّذي هو السائق.

غاية الأمر، استلزام ذلك مجازا في الإسناد، من باب الإسناد إلى السبب؛ نظرا إلى أنّهما في الحقيقة وصفان للاتن، و إنّما أسندا إلى «البرق» الّذي اريد من الكليل - لكونه سببا لهما فيها، نظير إطلاق «القاتل» على سبب القتل، و هذا كما ترى باب وسيع العرض يجري في فنون كثيرة، و لا سيّما المقام الّذي لا بدّ فيه من اعتباره بملاحظة الفقرات الاخر الواردة فيه من باب المجاز في الإسناد، الّتي منها: إسناد السوق إلى «البرق» الّذي لا يلائم إلاّ كونه من باب التسبيب؛ لعدم كون السوق بالقياس إليه من الأفعال المباشريّة، ضرورة ابتناء المباشرة على الشعور و الإرادة، و ظاهر أنّ «البرق» ليس من ذوات الشعور و الإرادة.

و منها: إسناد البيتوتة إلى الليل، فإنّها في الحقيقة وصف «للاتن» و الليل ظرف له، فإسنادها إليه من باب الإسناد إلى الظرف.

و منها: إسناد عدم النوم إليه، بناء على كون قوله: «لم ينم» عطفا على قوله: «بات» بإسقاط العاطف للضرورة، و التقريب ما تقدّم.

هذا مضافا إلى أنّه لو لا إطلاق «الكليل» هنا من باب المجاز في الإسناد - حسبما قرّرناه - لزم على تقدير كونه متعدّيا مجازان:

أحدهما: ما يلزم منه فيه باعتبار المادّة، من حيث إنّه بالوضع الأصلي اللغوي من الموادّ اللازمة.

و ثانيهما: ما يلزم منه في تعديته إلى «الموهن»، فإنّ الإعياء بمعنى الإعجاز و الإتعاب ممّا يقع في الحقيقة على «الاتن»، و «الموهن» ظرف لهما، فيكون الإسناد إليه من باب قولهم: «أتعبت يومك، و ساهرت ليلتك»، و لا ريب أنّ المجاز الواحد أولى من مجازين.

و أمّا ثانيا: فلأنّ «الكليل» إذا كان متعدّيا فهو مبالغة في الفاعل بمعنى الفعل، و قضيّة

ص: 36

ذلك اعتبار التعدية في كلّ من «الفاعل» و «الفعيل»، و هو - مع أنّه خلاف ما استشهد له - ممّا لا يجري في «الطهور» إذا فرض كونه مبالغة في الطاهر، إذ لم يقل أحد بكون «طاهر» بمعنى المطهّر حتّى في موضع الاستدلال.

و أمّا ثالثا: فلأنّ غاية ما هنالك، ثبوت استعمال على الوجه المذكور، و لعلّه في هذا الموضع وارد على سبيل المجاز، محافظة على القاعدة النحويّة من «أنّ المفعول به لا يعمل فيه إلاّ المتعدّي» و لا يلزم من ذلك اعتبار التجوّز في كلّ «فعول» ورد مجرّدا عن القرينة، و نعم ما قال الشارح الرضي - [في نفي](1) كون «الكليل» متعدّيا من المكلّ من -: «أنّه لا استدلال بالمحتمل و لا سيّما إذا كان بعيدا»(2).

و بالجملة: هذه الكلمات ممّا لا ينبغي التفوّه بها في منع الدليل المحكم المطابق للعرف و اللّغة، و القواعد المحكمة المتّفق عليها.

نعم، لو كان منع كلام الخصم و هدم استدلاله ممّا لا بدّ منه، فليقل: بمنع ابتناء الدلالة على كون الماء مطهّرا على كون «طهور» في الآية مرادا منه المبالغة، و سند هذا المنع وجوه جمعناها عن كلام الأصحاب، و إن كان بعضها واضح الضعف:

منها: ما حكاه صاحب المصباح المنير، في عبارة محكيّة عنه عن بعض العلماء، أنّه قال: «و يفهم من قوله: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (3) أنّه طاهر في نفسه مطهّر لغيره، لأنّ قوله: «ماء» يفهم منه أنّه طاهر، لأنّه ذكره في معرض الامتنان، و لا يكون ذلك إلاّ بما ينتفع به، فيكون ظاهرا في نفسه، و قوله: «طهورا» يفهم منه صفة زائدة على الطهارة، و هي الطهوريّة»(4).

و قد يقال: بأنّ «الطهور» لو لم يرد منه المطهّريّة، بعد ما كانت الطهارة مفهومة من الماء بملاحظة الامتنان، كان ذكره عبثا تعالى اللّه عن ذلك.

و فيه: أنّ الامتنان و إن كان يقتضي كون الماء ممّا ينتفع به، إلاّ أنّ جهة الانتفاع به لا تنحصر فيما يقتضي الطهارة الشرعيّة، بالمعنى المقابل للنجاسة، بل له جهات اخر كثيرة

ص: 37


1- أثبتناه لاستقامة العبارة.
2- شرح الكافية 202:2.
3- الفرقان: 48.
4- المصباح المنير؛ مادّة «طهر»: 379.

غير متوقّفة على الطهارة بهذا المعنى، كسقي الدوابّ و البساتين و المزارع و الأشجار و اتّخاذ الطين للأبنية و المساكن، و لو سلّم فذكر الوصف بعده لا يقتضي كونه لصفة زائدة، غاية الأمر كونه - على تقدير إرادة الصفة المفهومة أوّلا - للتوضيح، و هو ليس ممّا يمنع عنه في الكلام، و إن كان الأصل الناشئ عن الغلبة يقتضي خلافه، و هذا الأصل كما ترى ممّا لا ينبغي إجراؤه في المقام، بعد ملاحظة دوران الأمر فيه بين الأخذ به أو الأخذ بأصالة الحقيقة بالنسبة إلى مادّة «طهور»، فإنّ العدول عن الحقيقة يستدعي قرينة معتبرة، و الأصل المذكور غير صالح لها.

هذا إذا كان انفهام المطهّريّة مبنيّا على التجوّز، و إلاّ - فمع أنّه في حيّز المنع - فأصالة الحقيقة كافية في إفادة الحكم المذكور عمّا ذكر من الوجه الاعتباري.

و أمّا ما عرفته من الزيادة، ففيه: أنّه كلام فاسد قد هدمنا بنيانه في مباحث المفاهيم من فنّ الاصول(1)، فلا يعبأ به، و العجب عن شيخنا في الجواهر(2) أنّه استوجه هذا الوجه.

و منها: ما حكاه أو احتمله في المدارك، من أنّ «الطهور» في العربيّة على وجهين:

صفة، كقولك: «ماء طهور» أي طاهر، و اسم غير صفة، و معناه: ما يتطهّر به، كالوضوء و الوقود بفتح الواو فيهما لما يتوضّأ به و يوقد به، و إرادة المعنى الثاني هناك أولى، لأنّ الآية مسوقة في معرض الإنعام، فحمل الوصف فيها على الفرد الأكمل أولى و أنسب(3).

و فيه: - مع رجوعه إلى إثبات الحكم الشرعي بالاستحسان و مجرّد الاعتبار العقليّين، لحصول المقصود من الامتنان بمجرّد الطهارة المقتضي للحمل على المعنى الوصفي - أنّ الحمل على المعنى الاسمي لا يستقيم إلاّ مع ارتكاب ضرب من التجوّز، كما تنبّه عليه غير واحد من الأصحاب، و هو تجريد اللفظ عمّا يدلّ على الذات المأخوذة في مفهومه، إذ لولاه لما صحّ الوصف به، و هذا التجوّز كما ترى ممّا لا شاهد له في الكلام،

ص: 38


1- تعليقة على معالم الاصول الرابع: الجزء الرابع - في المفاهيم - (سيصدر قريبا إن شاء اللّه ص: 65 من المخطوط) حيث قال في ذيل قول المصنّف: - «بأنّه لو ثبت الحكم مع انتفاء الصفة لعرى تعليقه عليها عن الفائدة الخ» -: «و اجيب عنه: بأنّ العبث إنّما يثبت إذا لم يوجد للوصف فائدة أخرى، و الفوائد كثيرة غير منحصرة في الاحتراز الخ».
2- جواهر الكلام: 175:1.
3- مدارك الأحكام: 27:1.

و ما ذكر من الأولويّة الاعتباريّة بمجرّده لا يصلح لذلك بعد قيام احتمال معنى غير موجب له، و مرجعه إلى أنّ الاحتمال و لو ساعد عليه الاعتبار لا يعارض أصالة الحقيقة.

و أمّا عدم جواز الوصف على المعنى الاسمي بدون التجرّد، فقد يعلّل: بكونه من جهة جمود اللفظ بهذا المعنى، و هو أيضا ليس بسديد؛ فإنّ أسماء الآلة يعدّ عندهم كأسماء المكان و الزمان من المشتقّات الاسميّة، فكيف يلائمه الحكم على «الطهور» بالجمود.

فالأولى إرجاع ذلك إلى قاعدة التوقيف، نظرا إلى أنّ الأوضاع مجازيّة أو حقيقيّة، شخصيّة أو نوعيّة، إفراديّة أو تركيبيّة، لا تتلقّى إلاّ من الواضع، و من الأوضاع النوعيّة التركيبيّة توصيف شيء بشيء في الكلام، و هذا ممّا لم يثبت في خصوص أسماء الآلة، كما أنّه لم يثبت في أسماء الزمان و المكان، و الّذي يفصح عنه إنّما هو الاستهجان العرفي فيما لو أخذ شيء من هذه وصفا بلا ارتكاب تجريد كما لا يخفى.

ثمّ العجب عن شيخ الحدائق(1) و سيّد الرياض(2) أنّهما تعرّضا لذكر احتمال إرادة المعنى المذكور، و ظاهرهما الارتضاء به، بل ظاهر الثاني الاعتماد عليه، مع أنّه تنبّه على ابتناء ذلك على التأويل المذكور.

و منها: ما يظهر عن المدارك(3) من ابتناء ذلك على ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ «طهور» للمطهّر - كما أشرنا إليه آنفا - و ظاهره أنّه لا خصوصيّة للفظ «طهور» في تلك الدعوى، بل الحقيقة الشرعيّة لو كانت ثابتة فيه فإنّما هو لثبوتها في مبدأ اشتقاقه و هو الطهارة، كما أشار إليه قبل ذلك عند شرح «الطهارة» لغة و شرعا، فقال - بعد ذكر معناها اللغوي -: «و قد استعملها الشارع في معنى آخر مناسب للمعنى اللغوي، مناسبة السبب للمسبّب، و صار حقيقة عند الفقهاء، و لا يبعد كونه كذلك عند الشارع أيضا على تفصيل ذكرناه في محلّه»(4).

و هذه الدعوى في خصوص تلك اللفظة - بناء على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة -

ص: 39


1- الحدائق الناضرة 174:1.
2- رياض المسائل 131:1 حيث قال - بعد احتمال إرادة المعنى الاسمي، أي ما يتطهّر به، في معنى الطهور -: «و إن احتيج في وصفه به حينئذ إلى نوع تأويل». (3 و 4) مدارك الأحكام، 27:1 و 6.

و إن كانت خلافيّة، و لكنّها في غاية الإشكال، و إن قلنا بها في غيرها؛ لعدم جريان الضابط - الّذي قرّرناه في محلّه(1) - لإثبات الحقيقة الشرعيّة نوعا في خصوص هذه اللفظة؛ إذ لم يثبت من الشارع الاستعمال في معنى مغاير للمعنى اللغوي و لو مجازا، بل لو استعمله في المعنى اللغوي لم يكن منافيا للمعنى الشرعي، بل غاية ما حصل من الاختلاف بينهما هو الاختلاف في مصاديق هذا المعنى؛ فإنّ «النظافة» عند أهل اللغة تصدق على شيء، و عند الشارع على شيء آخر مغاير له كشف عنه الأدلّة الخارجيّة، و لا ريب أنّ الاختلاف في المصداق لا يوجب الاختلاف في أصل المسمّى - كما أشرنا إليه سابقا - فحينئذ لو وجدنا «الطهارة» مستعملة في كلام الشارع حملناها على «النظافة»، ثمّ نراجع الأدلّة الشرعيّة في استعلام ما يصدق عليه «النظافة» عند الشارع، كما أنّه لو وجدنا «المطهّر» مستعملا في كلام الشارع حملناه على المنظّف، فنراجع الأدلّة الشرعيّة لمعرفة ما يصدق عليه «التنظيف» في نظر الشارع، و معه لا داعي إلى التزام النقل الشرعي، كما هو لازم القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة، مع كونه في حدّ ذاته مخالفا للأصل.

نعم، يمكن دعوى الحقيقة الشرعيّة في خصوص «طهور» بإزاء المطهّر، لا لأجل ضابطنا المقرّر في محلّه، بل بملاحظة كثرة ما استعمله الشارع في هذا المعنى، كما يكشف عنه روايات كثيرة.

منها: قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا»(2).

و منها: «أيّما رجل من أمّتي أراد الصلاة فلم يجد ماء و وجد الأرض، لقد جعلت له مسجدا و طهورا»(3).

و منها: قوله - و قد سئل عن الوضوء بماء البحر -: «هو الطهور ماؤه»(4).

و منها: ما عن الصادق عليه السّلام «كان بنوا إسرائيل إذا أصابتهم قطرة من بول، قرضوا لحومهم بالمقاريض، و قد وسّع اللّه عليكم بما بين السماء و الأرض، و جعل لكم الماء

ص: 40


1- تعليقة على معالم الاصول 262:2.
2- الخصال: الباب الأربعة 15/201، سنن أبي داود 71/19:1.
3- الوسائل 2/970:2 و 4، 969 ب 7 من أبواب التيمّم ح 2، 4، الفقيه 724/240:1.
4- الوسائل 102:1، ب 2 من أبواب الماء المطلق ح 4.

طهورا، فانظروا كيف تكونون»(1).

و منها: ما عن أمير المؤمنين، إذ قال - لابن الحنفيّة -: «يا محمّد ايتني بإناء من ماء أتوضّأ للصلاة، فأتاه محمّد بالماء، فأكفاه بيده اليسرى على يده اليمنى، ثمّ قال: بسم اللّه و الحمد للّه الّذي جعل الماء طهورا و لم يجعله نجسا»(2).

و منها: قوله تعالى: وَ سَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ شَرٰاباً طَهُوراً (3) بناء على ما قيل: من أنّ المراد به المطهّر، مستندا إلى ما نقل: أنّ الرجل من أهل الجنّة تقسّم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا، فيأكل ما شاء، ثمّ يسقى شرابا طهورا، فيطهّر باطنه، و يصير ما أكله رشحا يخرج من جلده أطيب ريحا من المسك(4).

و يشكل ذلك أيضا: بأنّ مجرّد كثرة الاستعمال في معنى مغاير للمعنى الأصلي لا تكشف عن النقل و حدوث الوضع ما لم تبلغ الاستعمالات في الكثرة حدّا يستغني معها عن مراعاة القرينة، فكيف بها إذا وجدت مع القرينة كما في المقام، لاقتران اللفظ في جميع الروايات المذكورة بالقرينة، كما لا يخفى على المتدرّب، و لا سيّما مع ملاحظة تحقّق تلك الكثرة في الطرف المقابل أيضا، كما يظهر للمتتبّع.

فالحقّ أنّ إثبات الوضع الشرعي المخالف للأصل بمجرّد الاستعمالات المذكورة ممّا لا سبيل إليه.

نعم، يمكن أن يستكشف ببعض تلك الاستعمالات عن إرادة هذا المعنى من اللفظ الوارد في الآية، بأن يجعل ذلك قرينة كاشفة عن المراد كما في الروايتين الأخيرتين؛ فإنّ قول الصادق عليه السّلام: «و قد وسّع اللّه عليكم بما بين السماء و الأرض، و جعل الماء طهورا،» إظهار للشكر و قبول للامتنان الّذي أخذه اللّه تعالى على العباد بقوله: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (5)، أو حثّ و تحريص على قبوله و إظهار الشكر على تلك النعمة

ص: 41


1- الفقيه: 10:1 ح 13 - التهذيب 1064/356:1 - الوسائل 100:1، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 4 و فيها: «وسّع اللّه عليكم بأوسع ما».
2- الوسائل 401:1 ب 16 من أبواب الوضوء ح 1 - التهذيب 153/53:1.
3- الإنسان: 21.
4- نقله في مجمع البيان 623:10 ذيل الآية 21 من سورة الإنسان.
5- الفرقان: 48.

العظمى، و مثله قول الأمير: «الحمد للّه الّذي جعل الماء طهورا، و لم يجعله نجسا»(1)؛ فإنّه أيضا يرشد إلى أنّه خروج عن عهدة ما اقتضاه الامتنان الوارد في الآية، فتأمّل جيّدا.

و منها: ما اعتمد عليه غير واحد من أصحابنا المتأخّرين، من نقل أئمّة اللغة و تفسيرهم للطهور بالطاهر المطهّر، أو المطهّر وحده، كما عن الفاضل الفيّومي في كتاب المصباح المنير، أنّه قال: «و طهور قيل: مبالغة و أنّه بمعنى طاهر، و الأكثر أنّه لوصف زائد، قال ابن فارس: قال ثعلب: و الطهور هو الطاهر في نفسه المطهّر لغيره، و قال الأزهري أيضا: الطهور في اللغة هو الطاهر المطهّر، و فعول في كلام العرب لمعان، منها فعول لما يفعل به، مثل الطهور لما يتطهّر به، و الوضوء لما يتوضّأ به، و الفطور لما يفطر عليه، و الغسول لما يغتسل به، أو يغسل به الشيء، و قوله عليه السّلام: «هو الطهور ماؤه»، أي هو الطاهر المطهّر قاله ابن الأثير، قال: و ما لم يكن مطهّرا فليس بطهور، قال الزمخشري:

«الطهور: البليغ في الطهارة»(2)، قال بعض العلماء: و يفهم من قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً ، أنّه طاهر في نفسه مطهّر لغيره، لأنّ قوله: «ماء»، يفهم منه أنّه طاهر، لأنّه ذكره في معرض الامتنان على العباد، و لا يكون ذلك إلاّ فيما ينتفع به، فيكون طاهرا في نفسه، و قوله: «طهورا»، يفهم منه صفة زائدة على الطهارة و هي الطهوريّة.

و إنكار أبي حنيفة استعمال «الطهور» بمعنى الطاهر المطهّر غيره، و أنّه لمعنى الطاهر فقط، و أنّ المبالغة في «فعول» إنّما هي بزيادة المعنى المصدري كالأكول لكثير الأكل لا يلتفت إليه، بعد مجيء النصّ من أكثر أهل اللغة، و الاحتجاج بقوله: «ريقهنّ طهور» مردود، بعدم اطّراده، و أنّه في البيت للمبالغة في الوصف، أو واقع موقع «طاهر» لإقامة الوزن، لأنّ كلّ طاهر(3) طهور و لا عكس، و لو كان «طهور» بمعنى «طاهر» مطلقا، لقيل:

ثوب طهور، و خشب طهور، و نحو ذلك و هو ممتنع» انتهى عبارة المصباح المنير(4).

ص: 42


1- الوسائل 401:1، ب 16 من أبواب الوضوء، ح 1 - التهذيب 153/53:1.
2- الكشّاف 3؛ 284 ذيل الآية 48 من سورة الفرقان.
3- كذا وجدناه في المجمع، و الظاهر أنّ فرض النسبة كما ذكر تحريف من قلم الناسخ، و إلاّ فالاعتبار مع الشرط المذكور فيما بعد تقضيان انعكاس النسبة، كما لا يخفى على المتدبّر، (منه).
4- المصباح المنير؛ مادة «طهر»: 379.

و عن القاموس: «الطهور» المصدر و اسم ما يتطهّر به، و الطاهر المطهّر»(1)، و عن الترمذي و هو من أئمّة اللغة، أنّه قال: «الطهور بالفتح من الأسماء المتعدّية و هو المطهّر غيره»(2)، و في الحدائق - عن بعض مشايخه -: «أنّ الشافعيّة نقلت ذلك عن أهل اللغة(2)، و عنه أيضا: «أنّه نقله عن الترمذي، و عن المعتبر أنّه نقله عن بعض أهل اللغة»(3).

و عن المصابيح - للسيّد مهدي - «أنّ المشهور بين المفسّرين و الفقهاء و أئمّة اللغة أنّه بمعنى المطهّر أو الطاهر المطهّر»(4).

قال الشيخ في التهذيب: «وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (6)، فأطلق على ما وقع اسم «الماء» عليه بأنّه «الطهور»، و «الطهور» هو المطهّر في لغة العرب، فيجب أن يعتبر كلّما يقع عليه اسم «الماء» بأنّه طاهر مطهّر إلاّ ما قام الدليل على تغيّر حكمه، و ليس لأحد أن يقول: إنّ «الطهور» لا يفيد في لغة العرب كونه مطهّرا، لأنّ هذا خلاف على أهل اللغة، لأنّهم لا يفرّقون بين قول القائل: هذا ماء طهور، و هذا ماء مطهّر إلى آخر ما حكينا عنه آنفا»(5).

و لا يذهب عليك أنّ غرض الشيخ من أهل اللغة هنا ليس همّ النقلة للمتون، الذين عرفت ذكر جملتهم، ليكون مقصوده فيما ادّعاه الاستناد إلى قولهم، بل مراده به أهل لسان العرب، بدليل قوله: «لأنّهم لا يفرّقون بين قول القائل: هذا ماء طهور، و هذا ماء مطهّر» فإنّ ظاهره عدم الفرق بين اللفظين بحسب الاستعمال العرفي، و انفهام العرف عند الإطلاق، لأنّه إنّما يعلم بالاستعمال دون النصّ اللغوي كما لا يخفى، فيكون قوله المذكور كقول غيره نصّا في أمر لغوي، فيكون بنفسه مثبتا للّغة معتبرا في حقّ غيره.

و لا ينافيه ما تقدّم عنه في دفع كلام من أنكر ورود «طهور» لهذا المعنى، استنادا إلى ما سبق ذكره من إناطة كونه لهذا المعنى بعلّة فاسدة و هو كونه من مقتضى الوضع المبالغي في «فعول»، لعدم استناده في أصل الدعوى إلى هذه العلّة، كما فهمه صاحب

ص: 43


1- القاموس المحيط؛ مادّة «طهر» 79:2. (2 و 6) الفرقان: 48.
2- الحدائق الناضرة 177:1.
3- الحدائق الناضرة 177:1، المعتبر: 7.
4- مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة - (مخطوط)، الورقة: 9، نقله عنه في جواهر الكلام أيضا 64:1.
5- التهذيب 214:1.

المدارك(1) و المعالم(2)، و أوردا عليه: بكونه إثباتا للّغة بالاستدلال، بل مستنده في ذلك - كما فهمه صاحب الحدائق(3) و غيره - إنّما هو العرف، و طريقة أهل اللسان الّذين عبّر عنهم بأهل اللغة، و إنّما ذكر ذلك حكمة لكونه لهذا المعنى و علّة له بعد الوقوع، هدما لإنكار من أنكره، غاية الأمر خطؤه في فهم ما ذكره من الحكمة، و لا ريب أنّ خطأه في ذلك لا يقضي بخطئه في فهم أصل المعنى عن العرف، و نحن نأخذ بفهمه هذا و نطرح فهمه الآخر لعلمنا بفساده.

و إلى ذلك ينظر ما ذكره ثاني الشهيدين في الروضة - عند شرح التعريف الّذي ذكره الشهيد الأوّل للطهارة شرعا، و هو: «استعمال طهور مشروط بالنيّة» - فقال: «و الطهور مبالغة في الطاهر، و المراد منه هنا الطاهر في نفسه المطهّر لغيره، جعل بحسب الاستعمال متعدّيا، و إن كان بحسب الوضع اللغوي لازما كالأكول»(4)، فإنّ مراده بالاستعمال إنّما هو الاستعمال العرفي، فيكون كلامه في موضع دعوى تحقّق النقل في تلك اللفظة عرفا عن المعنى اللازم اللغوي المبالغي إلى المعنى المتعدّي، فهو أيضا نصّ في اللغة، حكمه حكم نصّ من تقدّم من أئمّة اللغة.

و يوافقه في تلك الدعوى ما عن المعتبر(5) و كنز العرفان(6) من أنّ كلام أبي حنيفة موافق لمقتضى القياس غير موافق لمقتضى الاستعمال، فإنّ ظاهر هما إرادة الاستعمال الحقيقي، لأنّ الاستعمال المجازي في هذا المعنى ليس ممّا ينكره أحد، حتّى أبي حنيفة الّذي ظاهر كلامه فيما أنكره إنّما هو الجري على مقتضى الأصل، كما هو مناط حمل اللفظ المجرّد عن القرينة، و لا ريب أنّ الاستعمال الحقيقي الّذي ادّعياه لا يكون إلاّ من جهة النقل العرفي، لاعترافهما بكون القياس اللغوي على خلافه، فهو منهما أيضا بمنزلة النصّ اللغوي، فيكون مسموعا.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ كلام هذين - ككلام ثاني الشهيدين - في دعوى النقل لا يخالف كلام من تقدّم من أئمّة اللغة، فإنّ كلامهم و إن كان خاليا عن تلك الدعوى،

ص: 44


1- مدارك الأحكام 27:1.
2- حكى عنه في الحدائق الناضرة 176:1.
3- الحدائق الناضرة 176:1.
4- الروضة البهيّة 246:1.
5- المعتبر: 7.
6- كنز العرفان 38:1 ذيل الآية 50 من سورة الفرقان.

غير أنّه لا محيص من تنزيله إليها، أو دعوى ابتنائه على تحقّق النقل؛ لعدم انطباق المعنى المذكور على ما هو مقتضى القياس اللغوي في «فعول» بحسب ما ثبت فيه من الوضع النوعي بإزاء المعنى المبالغي، أو المعنى الوصفي المعبّر عنه بلفظ «فاعل»، و الوجه ما تقدّم، فلا بدّ و أن يستند هذا المعنى بوضع آخر لاحق بالوضع الأوّل النوعي، متعلّق بلفظ «طهور»(1) بالخصوص، و لا نعني من النقل إلاّ هذا.

و يؤيّده أيضا: أنّ ما يذكره أهل اللغة ليس ممّا يتلقّونه عن الواضع الأوّل، بل إنّما يأخذونه عن عرف أهل زمانهم، بملاحظة الاستعمالات الدائرة فيما بينهم، و مراجعة الأمارات الكاشفة عن أوضاعهم، فيكون ذلك الّذي ذكروه للفظ «طهور» معنى عرفيّا مستفادا عن أهل اللسان، لا معنى أصليّا مستفادا عن واضع أصل اللغة، و لا ينافيه ما في تعبيرات بعضهم - فيما تقدّم - بقولهم: «في اللغة»، لأنّ اللغة لها إطلاقات و هي في كلامهم عبارة عن عرف أهل اللسان، أو الألفاظ المتداولة فيما بينهم المستعملة في محاوراتهم، و النسبة بينها بهذا المعنى و بينها بمعنى عرف الواضع، أو الألفاظ الموضوعة الّتي وصل وضعها منه عموم من وجه، كما يظهر بأدنى تأمّل.

لا يقال: حمل كلامهم على هذا المعنى، و التزام ابتنائه على تحقّق النقل، ينفيه الأصل، و قضيّة ذلك كون «طهور» بهذا المعنى و اصلا عن الواضع، و معه لا معنى لدعوى النقل في تلك اللفظة.

لأنّ التزام النقل بملاحظة ما ذكرناه ممّا لا محيص عنه، و إن قلنا بأنّ المتصدّي لوضعها بإزاء هذا المعنى هو الواضع؛ لأنّ المفروض لحوق هذا الوضع بالوضع الأوّلي المتعلّق بالفعول نوعا، فيكون اللفظ مخرجة عن مقتضى الوضع الأوّلي النوعي إلى المقتضى الوضع الثانوي، من غير فرق بين كونه صادرا عن الواضع أو أهل العرف على

ص: 45


1- لا يذهب عليك أنّ هذا النقل إنّما تحقّق في تلك اللفظة من جهات ثلاث. أحدها: في مدلولها المادّي، لصيرورته متعدّيا. و ثانيها: في مدلولها الهيئي بالنظر إلى المعنى الوصفي أو المبالغى، و ثالثها: في مدلولها الهيئي أيضا بالنسبة إلى ما أخذ فيه من النسبة؛ لأنّ نسبة التطهير إنّما هي للمكلّف فاعتبرت هنا بالنقل للماء الّذي هو آلة بين المكلّف و التطهير، فتأمّل، (منه).

سبيل التعيين أو التعيّن، و إن كان أصالة التأخّر تقتضي كونه عن غير الواضع، فالأصل المشار إليه ليس في محلّه، فبما قرّرناه نجمع بين القياس اللغوي الجاري في تلك اللفظة، و نصّ أئمّة اللغة الوارد على خلافه.

و بذلك يضعّف ما عن الزمخشري في الكشّاف من أنّه قال: «طهورا أي بليغا في طهارته، و عن أحمد بن يحيى هو ما كان طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره، فإن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة، كان سديدا، و يعضده قوله: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (1)، و إلاّ فليس «فعول» من التفعيل في شيء»(2)، و ما عن صاحب المغرب من قوله: «و ما حكي عن ثعلب أنّ «الطهور» ما كان طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره»(3) إن كان مراده بيان النهاية في الطهارة فصواب حسن، و إلاّ فليس فعول من التفعيل في شيء، و قياس هذا على ما هو مشتقّ من الأفعال المتعدّية ك «منوع» و «قطوع» ليس بسديد.

و ما عن الطراز: «أنّ فعولا ليس من التفعيل في شيء، و قياسه على ما هو مشتقّ عن الأفعال المتعدّية كمنوع و قطوع غير سديد»(4)، إلاّ أن يكون المراد بذلك بيان كونه بليغا في الطهارة فهو حسن صواب، إذا كانت الطهارة بنفسها غير قابلة للزيادة، لترجع الزيادة إلى انضمام التطهير، لا أنّ اللازم قد جاء متعدّيا.

و وجه الضعف - فيما ذكره هؤلاء -: منع انحصار طريق الجمع بين القياس و ما ذكروه في معنى «الطهور» - من المعنى المتعدّي - في كون ذلك لبيان البلاغة في الطهارة، و منع ابتنائه على القياس على ما اشتقّ عن الأفعال المتعدّية أيضا، بل هاهنا شقّ آخر و هو الابتناء على ما ذكرناه من الوضع الثانوي، فإنّه هو الّذي لا محيص عن التزامه دون غيره من الاحتمالات السخيفة الغير المستقيمة.

كما يضعّف أيضا ما قيل: من أنّ من ذكر أنّه يراد بالطهور المطهّر، أخذه من «الطهور» بمعنى ما يتطهّر به، لا أنّ المراد بالطهور المطهّر وضعا، إذ لا ريب في استفادة المطهّريّة منه على تقدير كونه اسما للآلة.

ص: 46


1- الأنفال: 11.
2- الكشّاف 276:3 ذيل الآية 48 من سورة الفرقان.
3- المغرب؛ مادّة «طهر» 209:2.
4- نقله عنه في مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 9.

و وجه الضعف: أنّه ينافي كلماتهم المؤدّاة بطريق الحمل، الظاهر في كون ذلك من مقتضى الوضع كما قرّر في محلّه، كيف و هو ينافي تصريح كلام جملة منهم حيث ذكر «الطهور» بمعنى ما يتطهّر به مقابلا له بمعنى الطاهر المطهّر، كما عرفته عن القاموس(1)و عن الأزهري حيث قال: «الطهور في اللغة هو الطاهر المطهّر، و فعول في كلام العرب لمعان منها فعول لما يفعل به الخ»(2) فتأمّل.

و العجب عن شيخنا في الجواهر في تقويته هذا الكلام، بقوله: «و كيف كان فلا يخلو القول بإنكار كون «الطهور» بمعنى المطهّر وضعا من قوّة، نعم هو يستفاد من كونه اسما لما يتطهّر به»(3).

نعم، ربّما يشكل تتميم الاستدلال بحمل الآية على هذا المعنى، من جهة كون المقام بالنظر إلى ما قرّرناه من مسألة تعارض العرف و اللغة كما لا يخفى، و لا يضرّه احتمال كون الوضع الطاري أيضا من واضع اللغة، بعد ملاحظة أصالة التأخّر.

لا يقال: الحمل على المعنى اللغوي - و هو ما يتطهّر به - لا ينافي الحمل على المعنى العرفي؛ لكونهما متلازمين، فلا تعارض بينهما في الحقيقة.

لأنّ المعنى اللغوي غير منحصر في ذلك، بعد ملاحظة المعنى المبالغي و المعنى الوصفي، فلا يتعيّن الحمل على ما لا ينافي المعنى العرفي على تقدير عدم الحمل عليه، فما ذكرناه من الإشكال في محلّه، إلاّ أن يستفاد عن أهل اللغة أنّهم إنّما ذكروا هذا المعنى باعتقاد ثبوته عن قديم الأيّام، و أقلّه ثبوته في زمن الشارع، و ليس ببعيد لو ادّعينا ذلك.

ثمّ هذا المعنى على تقدير ثبوته هل المطهّر أو الطاهر المطهّر؟ و هذا و إن لم يتعلّق به فائدة، لرجوع كلّ إلى الآخر، غير أنّ الظاهر كونه موضع خلاف، و أقلّه اختلاف كلمات أهل اللغة في ذلك، كما يظهر بالمراجعة إلى ما تقدّم، و لكن لا يبعد ترجيح الثاني بملاحظة الغلبة في المنقولات العرفيّة، فإنّ النقل على الأوّل من باب النقل عن اللازم إلى الملزوم، و على الثاني من باب النقل عن العامّ إلى الخاصّ، نظرا إلى أنّ

ص: 47


1- القاموس المحيط؛ مادّة «طهر» 79:2.
2- تهذيب اللغة 172:6.
3- جواهر الكلام 182:1.

«الطهور» بمعنى «طاهر» قد يكون مطهّرا و قد يكون غير مطهّر، فيكون الطاهر المطهّر فردا من الطاهر المطلق، فتأمّل.

و منها: ما اعتمد عليه في الرياض بعد الاعتماد على نصوص أهل اللغة، فتمسّك في إثبات كون «طهور» لهذا المعنى ببعض الأخبار، قائلا: «و إنكار وروده في كلام أهل اللغة بهذا المعنى - كما وقع لجماعة من متأخّري الأصحاب - لا وجه له، بعد ملاحظة ما ذكرنا، و خصوص صحيحة داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم - إلى قوله - و جعل لكم الماء طهورا»، الحديث(1)، مضافا إلى قولهم عليهم السّلام - في تعليل الأمر بالتيمّم -: جعل اللّه التراب طهورا، كما جعل الماء طهورا»(2)-(3).

و لا يخفى ضعفه، فإنّ ورود لفظ في خطاب الشرع لا يصلح دليلا على المطلب المتعلّق باللغة، كيف و أنّ قضيّة عدم دلالة الاستعمال على الحقيقة عندهم واضحة، و لا سيّما في المتعدّد المعنى، بل فيما ثبت له معنى حقيقي على التعيين و شكّ في غيره، و إن أراد به الكشف عن المراد في الآية، فهو - مع أنّه لا يظهر عن سياق العبارة - ممنوع أيضا، لأنّ مجرّد استعمال لفظ في معنى لقرينة بل و كثرته أيضا لا يصلح قرينة على كونه مستعملا في هذا المعنى عند فقد القرينة، إلاّ أن يرجع إلى ما استظهرناه و قرّرناه سابقا، فإنّه ليس بذلك البعيد، كما يشهد به الذوق السليم.

و منها: ما أفاده خالي العلاّمة دام ظلّه(4)، بعد ما اعتمد على النصّ اللغوي، من أنّه يظهر أيضا كون «الطهور» في الآية بمعنى الطاهر المطهّر من تتبّع أغلب موارد استعمال هذا اللفظ في الكتاب و السنّة، فإنّ المراد منه في أغلب ما تكلّم الشارع به إنّما هو

ص: 48


1- الفقيه 13/9:1، التهذيب 1064/356:1، الوسائل 4/133:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق.
2- الوسائل 358:3 ب 23 من أبواب التيمّم ح 1، الفقيه 223/60:1.
3- رياض المسائل 123:1.
4- و هو العلاّمة الفقيه السيّد رضي الدين القزويني، قال العلاّمة الطهراني في ترجمته: «... و هو خال السيّد علي القزويني، صاحب حاشية القوانين... أنّ اسم والد المترجم له السيّد علي أكبر و أنّه كان ابن عمّ السيّد إبراهيم بن محمّد باقر الموسوي صاحب (الضوابط)...» (الكرام البررة 576:2) هذا و لكنّا لم نعثر على ما نقل عنه المصنّف رحمه اللّه.

الطاهر المطهّر، و إن كان مع قرينة تدلّ عليه، فيظنّ باعتبار تلك الغلبة أنّ المراد منه في الآية أيضا هو هذا المعنى، و إن كان بلا قرينة، ثمّ عقّبه بقوله: «فتأمّل».

و يشكل ذلك أيضا - بعد تسليم أصل الغلبة -: بأنّ المدار في الخروج عن الظواهر عند العرف إنّما هو على القرائن المعتبرة لديهم، و لم يظهر منهم أنّ مجرّد غلبة استعمال لفظ في معنى مع القرينة قرينة على إرادة هذا المعنى في موضع التجرّد عن القرينة، بل الظاهر خلافه كما هو المصرّح به في كلام أهل الاصول، فإنّ ظاهر اللفظ هو الحجّة المحكّمة نوعا ما لم يقم ظنّ معتبر بخلافه، و الظنّ الحاصل عن الغلبة المذكورة - على فرض تسليمه - ليس من الظنون المعتبرة، كيف و أنّ مجرّد الغلبة المتحقّقة في الكتاب و السنّة غير كافية في إفادة الظنّ، بل العبرة فيه بالغلبة المتحقّقة في قاطبة الاستعمالات الصادرة من الشارع في كافّة محاوراته، لا في خصوص الكتاب و السنّة، و أيّ طريق إلى إحراز تلك الغلبة.

ثمّ لو سلّمنا ثبوت هذه الغلبة، فإن أفادت الظنّ بحيث أوجب إجمال اللفظ في نظر العرف و سقوطه عن الظهور - كما في المجاز المشهور على فرض تحقّقه - فهو لا يوجب إلاّ التوقّف، و إلاّ فلا يترتّب عليه أثر أصلا في العدول عن الظاهر، و لا سقوطه عن الظهور، و على التقديرين لا وجه للعدول إلى خلاف الظاهر و حمل اللفظ عليه، كما هو المطلوب و لعلّ قوله مدّ ظلّه: «فتأمّل» يشير إلى بعض ما ذكر.

و منها: ما احتمله شيخنا في الجواهر(1)، من القول بأنّه يراد المطهّريّة من «الطهور» و لو مجازا، بقرينة قوله تعالى: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (2)، و هو كما ترى أضعف الوجوه، فإنّ الكلام المنفصل عن اللفظ لا يعدّ عندهم صارفة عن الظاهر، إلاّ إذا كان بظاهره معارضا لظاهر ذلك اللفظ، و أيّ منافاة بين الآيتين إذا اريد بإحداهما إفادة حكم الطهارة المحضة، و بالاخرى حكم المطهّريّة.

فالّذي يترجّح في النظر القاصر - بملاحظة جميع ما قرّرناه من النقوض و الإبرامات - أنّ إثبات مطهّريّة الماء بآية «الطهور» ممّا لا سبيل إليه، إلاّ على ما قرّرناه

ص: 49


1- جواهر الكلام 178:1.
2- تهذيب اللغة 172:6.

من جعل الخبرين المتقدّمين قرينة كاشفة، بتقريب ما ذكر - إن تمّ - و أمّا ما عداه من الامور المذكورة فليس شيء منها صالحا له.

نعم نصّ أهل اللغة في نفسه دليل محكم، غير أنّ حاله في خصوص المقام كما عرفت، إلاّ على ما أشرنا إليه أيضا من استظهار كونهم فيما نصّوا به معتقدين بثبوته عن قديم الأيّام.

و قد شاع الاستدلال على أصل المطلب بعد الفراغ عن الاستدلال بالكتاب الاستدلال بجملة من الأخبار، فعلى كون الماء طاهرا، بما رواه المشايخ الثلاث بأسانيدهم عن الصادق عليه السّلام قال: «الماء كلّه طاهر ما لم تعلم أنّه قذر»(1)، و على كونه مطهّرا، بما تقدّم من رواية داود بن فرقد عن الصادق عليه السّلام قال: «كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة من بول» إلى آخر ما تقدّم ذكره(2)، و هذا كما ترى في محلّه.

و ربّما يكثر الاستدلال بما في الكافي عن السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الماء يطهّر و لا يطهّر»(3).

و قد يعلّل الفقرة الثانية: بأنّه إنّما لا يطهّر لأنّه إن غلب على النجاسة حتّى استهلكت فيه طهّرها و لم ينجّس حتّى يحتاج إلى التطهير، و إن غلبت عليه النجاسة حتّى استهلك فيها صار في حكم تلك النجاسة، و لم يقبل التطهير إلاّ بالاستهلاك في الماء الطاهر، و حينئذ لم يبق منه شيء، كذا عن الوافي(4).

و فيه: ما فيه كما يظهر بأدنى تأمّل.

و أورد عليه: بأنّ قليل الماء إذا تنجّس كان تطهيره بالكثير من الجاري و الراكد، فلم يصدق أنّه لا يطهّر.

فدفع: بأنّ المراد يطهّر غيره و لا يطهّره غيره.

و قد يوجّه أيضا: بأنّه يطهّر كلّ شيء حتّى نفسه، و لا يطهّر من شيء إلاّ من نفسه، فيعلّل: بأنّ التعميم في الأوّل أولى، ثمّ يقال: و قد يخطر بالبال أنّه يمكن أن يستدلّ بهذا

ص: 50


1- الوسائل 134:1، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 621/216:1 - الكافي 3/1:3.
2- الفقيه: 10:1، ح 13، التهذيب 1064/356:1، الوسائل 100:1، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 4.
3- الوسائل 135:1-134، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 7، 6، الكافي 1/1:3 - التهذيب 1: 618/215 - المحاسن: 4/570.
4- الوافي 18:6.

الخبر على عدم نجاسة البئر بالملاقاة، لأنّه لو نجس لكان طهره بالنزح، و القول بأنّ الطهر بالماء النابع بعد النزح بعيد كما لا يخفى.

و فيه: أيضا ما لا يخفى.

و قد أورد على التوجيه المذكور أيضا: بأنّه على إطلاقه غير مستقيم، لانتقاضه بالبئر، فإنّ تطهيرها بالنزح، و الماء النجس يطهّر باستحالته ملحا، و الماء القليل إذا كان نجسا و تمّم كرّا بمضاف لم يسلبه الإطلاق، فإنّه في جميع هذه الصور قد طهّر الماء غيره.

و اجيب عن الأوّل: تارة: بأنّا لا نسلّم أنّ مطهّر البئر حقيقة هو النزح، بل هو في الحقيقة الماء النابع منها شيئا فشيئا، بعد إخراج الماء المنزوح.

أقول: الّذي يختلج بالبال أنّه لا حاجة في دفع ما ذكر من الإشكال إلى هذا التكلّف، بل يسهل دفعه بأن يقال: إنّ إسناد التطهير إلى الماء عند التحقيق مجاز، لأنّه فعل يباشره المكلّف، و الماء آلة شرعيّة، فحاصل معناه الحقيقي الّذي يباشره المكلّف و يخاطب به استعمال الماء على الكيفيّة المقرّرة في الشريعة، و لا ريب أنّ استعمال الماء أعمّ من صبّه على النهج المعهود الّذي يسمّى بالغسل، أو تقليله الّذي يعبّر عنه بالنزح، فيصدق عليه أنّه تطهير، و من هنا يمكن توجيه الرواية بقراءة الاولى مشدّدا بصيغة المجهول، و الثانية كذلك بصيغة المعلوم - على عكس ما فهمه الجماعة - و يكون المعنى: أنّ الماء يقع عليه التطهير، و لا يصدر عنه التطهير، لأنّ التطهير فعل يصدر من المكلّف بواسطته، لا أنّه يصدر منه.

و اخرى: بمنع نجاسة البئر بالملاقاة حينئذ، فأصل الاعتراض ساقط، كذا حقّقه في الحدائق(1).

و عن الثاني: بأنّ الماء قد عدم بالكلّيّة، فلم يبق هناك ماء مطهّر بغيره، و مثله أيضا الماء النجس إذا شربه حيوان مأكول اللحم و استحال بولا، فإنّه يخرج عن الحقيقة الاولى إلى حقيقة اخرى.

و عن الثالث: بأنّه - بعد تسليم ذلك - لا يسمّى في العرف تطهيرا لاضمحلال

ص: 51


1- الحدائق الناضرة 178:1.

النجس حينئذ، فيصدق حينئذ أنّ الماء لا يطهّر.

و هذا أيضا ضعيف لأنّ المراد بالاضمحلال إن كان الانعدام الصرف أو استهلاك الماء في جنب المضاف - فمع أنّه ينافي الحسّ، و يمتنع الانعدام الصرف - أنّه خلاف ما فرضه المورد؛ لأنّه قيّد مورد النقض بماء لم يكن المضاف المتمّم له كرّا موجبا لسلب الإطلاق عنه، و معه لا معنى لفرض الانعدام أو الاستهلاك، لصيرورة الجميع حينئذ مضافا صرفا، و إن كان المراد ما عدا ذلك فهو - مع وجوده - إمّا طاهر في ضمن الجميع أو غير طاهر، و الأوّل محقّق للاعتراض، و الثاني خلاف فرض المعترض من كون التتميم بالمضاف مطهّرا.

و قد يناقش في أصل التمسّك بالرواية من حيث إنّها بنفسها معارضة لنفسها، لمنافاة صدرها لذيلها، بملاحظة العموم المستفاد من حذف المتعلّق فيها، فمفادها صدرا و ذيلا: «أنّ الماء يطهّر كلّ شيء حتّى نفسه، و لا يطهّر بشيء حتّى بنفسه»، و هما عمومان من وجه تعارضا، فلا بدّ من التصرّف في أحدهما، بأن يقال: الماء يطهّر كلّ شيء إلاّ نفسه، أو أنّه لا يطهّر بشيء إلاّ بنفسه، و لا ريب أنّ ارتكاب التخصيص في أحد العامّين ليس بأولى من ارتكابه في الآخر، فيصير سبيل الرواية سبيل ما يطرؤه الإجمال، و معه يسقط بها الاستدلال.

و فيه: - بعد تسليم أنّ حذف المتعلّق ممّا يفيد العموم - أنّه إنّما يفيده في موضع يليق به و ليس المقام منه، فإنّ الرواية بقرينة ما فيها من الجمع بين السلب و الإيجاب واردة مورد الإهمال، و مراد منها أداء المطلب على طريق الإجمال، فقرينة المقام قائمة بعدم اعتبار العموم في كلّ من الجانبين، و شاهدة باعتبار جزئيّة فيها إمّا في الإيجاب أو في السلب، فلا تعارض فيها بين صدرها و ذيلها، حيث لا ظهور لها بالنسبة إلى أحد العمومين.

غاية الأمر أنّ ما اعتبر فيه الجزئيّة غير متعيّن، و هو غير قادح فيما هو الغرض الأصلي هنا من الاستدلال بها، و هو إثبات مطهّريّة الماء في الجملة، لكن بالنسبة إلى ما يقبل التطهير لا بالنسبة إلى أفراد الماء، حتّى ينافي ما تقدّم من عنوان المسألة، حيث اعتبرناه على طريق الإيجاب الكلّي بالنسبة إلى المياه؛ ضرورة أنّ هذا الغرض يتأتّى بكلّ من الاحتمالين إن أحرزنا العموم فيها بالنسبة إلى الماء، و لو بقي عندك مناقشة في

ص: 52

هذا العموم فهو كلام آخر لا مدخل له فيما ذكرته من المناقشة المقتضية لرميها بالإجمال المسقط للاستدلال.

فالحقّ أن يقال: إنّ الرواية بملاحظة ورودها مورد الإهمال، بإرادة المهملة في إحدى قضيّتيها الّتي هي في قوّة الجزئيّة محتملة لوجوه كثيرة، تبلغ إلى ستّة عشر وجها، حاصلة بملاحظة الأربع الجارية في الصدر، من جهة احتمالي التخفيف و التشديد، في احتمالي المعلوم و المجهول في نفس تلك الأربع الجارية في الذيل.

و لا ريب أنّ كلاّ من تلك الوجوه - مع ملاحظة ما ذكرناه من قرينة المقام - ممّا يصحّ إرادته من دون أن ينشأ منه محذور، غاية ما في الباب أنّها في بعض تلك الوجوه تصير من أدلّة مطهّريّة الماء، و في بعضها الآخر تصير من أدلّة طهارته أو قبوله الطهارة بعد ما تنجّس، و المفروض كون كلّ من الحكمين مطلوبا في المسألة، فعلى أيّهما دلّت كانت دالّة على ما هو المقصود، و إن كانت دلالتها على الحكم الأوّل - على تقدير الحمل على الوجوه المناسبة له - دلالة على تمام المقصود، و لو من جهة اعتبارها تارة من حيث المطابقة، و اخرى من حيث الالتزام، و عليك باستخراج تلك الوجوه مفصّلة، و استفادة المعنى عن كلّ وجه على حسب ما يقتضيه القواعد العرفيّة في مثل هذه الهيئة التركيبيّة.

و إن شئت نشير إلى بعض تلك القواعد، لتكون بمراعاتها على بصيرة و تدبّر، فلو قيل لأحد: «احبّ مجيئك إيّاي، و لا احبّ مجيئك إيّاي»، فإنّما يقال به و بنظائره عرفا في كلّ موضع يكون موضوع القضيّة ذا حيثيّتين، تعلّق به الإيجاب بالنظر إلى إحداهما و السلب بالنظر إلى الاخرى، على نحو يكون مفاد المثال المذكور فرضا: «أنّي احبّ مجيئك لأنّي مشتاق إلى لقائك، أو لأن أتبرّك بحضورك»، و نحو ذلك ممّا يمكن فرضه، «و لا احبّ مجيئك لأنّه تعب عليك، أو مانعك عمّا هو أهمّ لك» و نحو ذلك، و على هذا القياس باعتبارات شتّى ما لو قيل: «زيد يأكل و لا يأكل»، «يشتغل و لا يشتغل»، «يعطي و لا يعطي»، و ما أشبه ذلك إلى ما لا يعدّ و لا يحصى، كما يظهر لمن تأمّل في العرفيّات.

فحينئذ لو حملنا الصدر و الذيل في الرواية على كونهما معلومين مشدّدين كان الحكمان المختلفان من جهة اختلاف الحيثيّة في أصل الموضوع، و ذلك الاختلاف إمّا باعتبار اختلاف مواضع التطهير، فإنّ منها ما يقبله و منها ما لا يقبله، أو من جهة اختلاف

ص: 53

كيفيّات التطهير، فإنّ كلّ كيفيّة قرّرها الشارع تطهّر، و كلّ كيفيّة يخالفها لا تطهّر، أو باعتبار اختلاف الخصوصيّات العارضة للماء من الخارج، كالإباحة و الغصبيّة بالقياس إلى رفع الحدث، فإنّ المباح يرفعه و المغصوب لا يرفعه، و هكذا إلى آخر ما فرض، هذا على احتمال التشديد فيهما و مثله تجري على احتمال التخفيف فيهما.

فحينئذ إمّا أن يرجع الطهر و عدمه إلى نفس الماء فلا حذف معه، أو إلى شيء آخر بواسطته فيلزمه الحذف، و يكون المعنى: «الماء يطهّر به الشيء و لا يطهّر به الشيء»، فعلى الاحتمالين يجري فيهما من القاعدة نظير ما فرضناه فلاحظ، و افرض ما شئت هذا على قراءة المعلومين، و كذلك على قراءة المجهولين مع التشديد أو التخفيف، و أمّا على الاختلاف في المعلوميّة و المجهوليّة فمفاد القضيّة عرفا نظير ما تقدّم الإشارة إليه عنهم في دفع الإيراد الأوّل على الرواية.

هذا مضافا إلى ما أشرنا إليه سابقا، بناء على هذا الاحتمال من كون ذلك لبيان اختلاف النسبة في الحقيقيّة و المجازيّة، و لكنّه مبنيّ على فرض الأوّل مجهولا و الثاني معلوما كما عرفت، فإنّ النسبة في الأوّل حقيقيّة و في الثاني مجازيّة واردة من باب الإسناد إلى السبب بتقريب ما تقدّم، مع ما يحتمل في عكس هذا الفرض من كون القضيّة في الثاني من باب السالبة المنتفية الموضوع، مرادا بها بيان طهارة الماء بحسب الخلقة الأصليّة، فليس ينجّس حتّى يطهّر أو يحتاج(1).

و بالجملة: فلا إشكال في مفاد الرواية من حيث اشتمالها على النفي و الإثبات الواردين على موضوع واحد، فلا وجه لرميها بالإجمال من هذه الجهة، كما لا وجه للحكم عليها بالمطروحيّة كما في رياض السيّد(2).

و أمّا الإشكال من جهة اخرى، كقصورها عن إفادة العموم في أفراد الماء - على فرض توجّهه - فهو شيء آخر غير ما ذكروه.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما عرفت من الأدلّة على مطهّريّة الماء حتّى - آية الطهور إن تمّت دلالتها - فإنّما تنهض دليلا على نفس المطهّريّة و لو في جميع أفراد الماء، و أمّا

ص: 54


1- كذا في الأصل.
2- رياض المسائل 133:1.

موضع التطهير و ما يرتفع به من النجاسة و كيفيّته و شروطه و آدابه فتبقى مستفادة من الخارج؛ لكون تلك الأدلّة ساكتة عن التعرّض لها نفيا و إثباتا، و ورودها مورد حكم آخر، فلو شكّ حينئذ في شيء أنّه هل يقبل التطهير بالماء كالأدهان المتنجّسة؟ أو في نجاسة أنّها هل ترتفع بالماء وحده كولوغ الكلب؟ أو في تطهير نجاسة أنّه هل يعتبر فيه التعدّد كالبول؟ أو يعتبر فيه النيّة أو إباحة الماء أو المباشرة؟ كغسل الثوب للصلاة، فلا يمكن التمسّك لاستعلامه بالآية و لا غيرها عموما و لا إطلاقا، إذ لم يؤخذ شيء ممّا ذكر عنوانا فيها، فلا يعقل معه بالنسبة إليه حينئذ عموم أو إطلاق، و إنّما الّذي عنون في صريح تلك الأدلّة هو حكم المطهّريّة القائمة بالماء، و العموم بالقياس إليه ثابت، فحينئذ لو شكّ في فرد من أفراده بعد إحراز الفرديّة و صدق الاسم عليه أنّه هل يصلح لكونه مطهّرا و رافعا للخبث أو الحدث - كالماء المستعمل في رفع الحدث من وضوء أو غسل، أو في رفع الخبث كما في الاستنجاء على القول بعدم انفعاله، كما هو المجمع عليه بشروطه الآتية - يحكم بصلوحه له، استنادا إلى عموم الآية أو إطلاقها أو غيرها من الأدلّة المتقدّمة بلا إشكال فيه و لا شبهة تعتريه.

فتقرّر عندنا بما أثبتناه من الحكمين قاعدتان كلّيّتان يجدي الرجوع إليهما في مواضع الشك و الشبهة، إحداهما: طهارة الماء بجميع أفراده عدا ما خرج منها بالدليل، و اخراهما: مطهّريّته كذلك إلاّ ما أخرجه الدليل، فليكن ذلك على ذكر منك ليجديك في كلّ موضع وجدتنا نتمسّك بالأصل على الطهارة أو المطهّريّة في شيء، فإنّ مرادنا به إنّما هو إحدى القاعدتين.

***

ص: 55

ينبوع [في التغير]

اشارة

ما عرفت من الحكمين الكلّيّين إنّما يلحقان الماء ما دام باقيا على خلقته الأصليّة و صفاته الأوّليّة كما تقدّم الإشارة إليه، و السرّ في هذا القيد أنّه قد يطرؤه بعنوانه الكلّي على النهج المتقدّم من غير استثناء شيء ما يقابل الحكمين لعارض التغيّر من جهة النجاسة، فيحكم بنجاسته حينئذ و عدم صلوحه للمطهّريّة إلى أن يثبت لها مزيل شرعي، و كان ذلك أصل ثانوي ورد على الأصل الأوّلي الدائر بين الحكمين، و لا تعارض بينهما لورود كلّ موضوعا غير موضوع الآخر كما عرفت، و فائدتهما أنّه لو شكّ في نجاسة فرد من المتغيّر يلحق بالثاني لانتفاء موضوع الأوّل، كما أنّه لو شكّ في فرديّة شيء للمتغيّر يلحق بالأوّل لعدم كون موضوع الثاني محرزا، و كيف كان فتحقيق القول في هذا العنوان يستدعي رسم مطالب:

المطلب الأوّل: إذا تغيّر الماء مطلقا بسبب النجاسة في أحد أوصافه الثلاثة، أعني اللون و الطعم و الرائحة،

فقال الأصحاب - قولا واحدا في الجملة -: بأنّه ينجّس، و عليه نقل الإجماعات فوق حدّ الكثرة، و في الدلائل(1): «كونها فوق حدّ الاستفاضة»، و في الجواهر(2): «أنّها كادت تكون متواترة»، و في الحدائق(3): «نفي الخلاف و الإشكال عنه»، و في [حاشية الإرشاد(4)]: «لا خلاف فيه»، و في الرياض(5): «بالإجماع

ص: 56


1- لم نعثر عليه.
2- جواهر الكلام 190:1.
3- الحدائق الناضرة 178:1.
4- و في المصدر [حد]. و المظنون أنّ المراد منه حاشية الارشاد كما أثبتناه في المتن، و لكنّا.
5- رياض المسائل 133:1.

و النصوص المستفيضة العاميّة و الخاصّيّة»، و في المنتهى(1): «أنّه قول كلّ من يحفظ عنه العلم»، و عن المعتبر(2): «أنّه مذهب أهل العلم كافّة»، و عن السيّد في الناصريّات(3):

«إجماع الشيعة عليه»، و في [حاشية الإرشاد]: «الأخبار في الأخيرين متواترة و في الأوّل مستفيضة»، و ممّا يؤيّد الإجماع أنّ المسألة غير معنونة في مختلف العلاّمة مع أنّه موضوع لذكر خلافيّات الشيعة.

و بالجملة: لا يعرف فيه خلاف لا من العامّة و لا من الخاصّة، عدا ما يظهر من سيّد المدارك من التشكيك في الأوّل في مسألة عدم انفعال البئر بالملاقاة، محتجّا عليه بما يأتي من قول الرضا عليه السّلام: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه»(4)، فقال - في جملة أجوبته عن الاعتراض على الحجّة المذكورة بأنّ الحصر المستفاد منه متروك الظاهر، للقطع بنجاسة الماء مطلقا بتغيّر لونه -: «و ثانيا: بأنّا لم نقف في روايات الأصحاب على ما يدلّ على نجاسة الماء بتغيّر لونه، و إنّما الموجود فيها نجاسته بتغيّر ريحه أو طعمه كما في صحيحتي أبي خالد القمّاط(5)، و حريز بن عبد اللّه عن الصادق عليه السّلام(6)، و ما تضمّن ذلك عامّي مرسل، فإن لم يثبت ما ذكرناه من الملازمة أو الأولويّة أمكن المناقشة في هذا الحكم»(7).

و قوله: «ما تضمّن ذلك عاميّ مرسل» يشير به إلى ما يأتي من النبوي المرسل - المدّعى انجباره بالعمل -: «خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(8)، و مراده بالملازمة و الأولويّة ما أشار إليهما أوّلا: - في جملة الأجوبة عن الاعتراض المذكور -: «من أنّ تغيّر اللون مقتض لتغيّر الطعم، و مع ثبوت الملازمة ينتفي المحذور، أو يقال: إنّه إذا ثبت نجاسة الماء بتغيّر طعمه أو ريحه وجب القطع

ص: 57


1- منتهى المطلب 20:1.
2- المعتبر: 8.
3- المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 135:1).
4- التهذيب 676/234:1، الاستبصار 87/33:1، الوسائل 127:1، باب 14 من أبواب الماء المطلق ح 7.
5- التهذيب 112/40:1، الاستبصار 10/9:1، الوسائل 103:1 ب... من أبواب الماء المطلق/ 4.
6- الكافي 4/3:3، التهذيب 625/216:1، الاستبصار 19/12:1، الوسائل 102:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1.
7- مدارك الأحكام 57:1.
8- عوالي اللآلي 6/9:3.

بنجاسته بتغيّر لونه لأنّه أظهر في الانفعال»(1).

و تبعه بعده في تلك المقالة شيخنا البهائي في كلام محكيّ عنه في حبل المتين، فقال: «و ما تضمّنه الحديث الثاني و الثالث - يعني بهما الصحيحتين اللتين أشار إليهما السيّد من نجاسة الماء بتغيّر ريحه أو طعمه بالنجاسة - ممّا لا خلاف فيه، و يدور على ألسنة الأصحاب أنّ تغيّر لونه أيضا كذلك؛ و لم أظفر به في أخبارنا صريحا، و ما ينقل من قوله صلّى اللّه عليه و آله: «خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(2)، فخبر عامّي مرسل».

ثمّ قال: «و لو قيل إنّ تغيّر اللون بذي طعم أو ريح لا ينفكّ عن التغيّر بأحدهما لم يكن بعيدا، بل ربّما يدّعى أنّ انفعال الماء بلون النجاسة متأخّر في المرتبة عن انفعاله بريحها أو طعمها فاستغنى بذكرهما عن ذكره»(3).

و تبعهما في ذلك كلّه المحقّق الخوانساري في شرح الدروس، حيث قال: «و اعلم أنّ الروايات المتقدّمة خالية عن التعرّض للّون، سوى رواية العلاء بن الفضيل(4)، فإنّها بمفهومها تدلّ على نجاسته بتغيّر اللون، لكنّها ضعيفة بمحمّد بن سنان، و نقلوا رواية عن الجمهور أيضا متضمّنة لذكر اللون و لا يصلح أيضا للتعويل، و ذكر بعضهم أنّ تغيّر الريح و الطعم أسرع من تغيّر اللون، إذ لا ينفكّ تغيّر اللون عن تغيّرهما، فلا ثمرة في التعرّض له و وجهه غير ظاهر، و قد يستنبط اعتبار اللون من قوله عليه السّلام - في صحيحة حريز المتقدّمة -: «فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم»(5)، و فيه: أيضا إشكال، و قد يتمسّك فيه بما قاله ابن أبي عقيل: أنّه قد تواتر عن الصادق و عن آبائه عليهم السّلام: أنّ الماء طاهر لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(6)، و الظاهر أنّ انضمام هذه الامور بعضها مع بعض مع اعتضادها بالإجماع يكفي في الحكم» الخ(7).

ص: 58


1- المدارك 57:1.
2- عوالي اللآلي 6/9:3.
3- الحبل المتين: 106.
4- الوسائل 139:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق/ 7 - التهذيب 1311/415:1 - الاستبصار 53/22:1.
5- الكافي 4/3:3 - التهذيب 625/216:1 - الاستبصار 19/12:1 - الوسائل 102:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1.
6- نقله عنه في مختلف الشيعة 177:1.
7- مشارق الشموس: 203.

و محصّل ما أفاده رحمه اللّه أنّه وافق السيّد و الشيخ في القدح في سند النبويّة المرسلة، فأشار إليه بقوله: «و نقلوا رواية عن الجمهور أيضا متضمّنة لذكر اللون و لا يصلح أيضا للتعويل»، و خالفهما في استظهار الحكم ممّا ذكره أخيرا، و حذا حذوه صاحب الحدائق و إن خالفه في الاستناد للحكم إلى جملة من أخبار أصحابنا، فإنّه بعد ما نقل كلام السيّد المتقدّم في القدح على سند الرواية المتقدّمة، قال: «و الحقّ أنّه كذلك، فإنّا لم نقف عليه في شيء من كتب أخبارنا بعد الفحص التامّ، و بذلك صرّح أيضا جمع ممّن تقدّمنا»(1).

و بالجملة: فهؤلاء الأجلاّء متّفقون على القدح في الرواية المذكورة و إن اختلفوا في المذهب، فالأخيران وافقا المعظم في أصل الحكم، غير أنّ الأوّل منهما قال به على سبيل الظنّ، و الثاني على سبيل الجزم كما لا يخفى على من لاحظ عبارته في الحدائق، و أمّا الأوّلان فظاهر هما إنكار أصل الحكم.

و يمكن أن يقال: بأنّ السيّد لا يظهر منه المخالفة بناء على ما ادّعاه من الأولويّة، و إن كان ما قرّره من الملازمة يدعوه إلى المخالفة، و كيف كان فقد تقرّر بجميع ما ذكر أنّ هاهنا كلامين:

أحدهما: دعوى الملازمة بين تغيّر اللون و غيره، و بعدها دعوى الأولويّة اللتين عرفتهما من السيّد، و وافقه شيخنا البهائي على الاولى، و إليهما ينظر ما في الحدائق من قوله: «و لعلّ السرّ في اشتمال أكثر الأخبار على التغيّر الطعمي أو الريحي دون اللوني أنّ تغيّر الطعم و الريح أسرع من تغيّر اللون، إذ لا ينفكّ تغيّر اللون من تغيّرهما، و لا ثمرة في التعرّض له حينئذ»(2).

و ثانيهما: الطعن على سند النبوي المشار إليه، و ينبغي النظر في صحّة هذين الكلامين و سقمهما.

أمّا الملازمة: فغاية ما يمكن أن يقال في تقريرها - على وجه يكون عذرا لخلوّ الأخبار أو أكثرها عن التعرّض لذكر تغيّر اللون -: أنّ تغيّر اللون بالقياس إلى أخويه بمنزلة الخاصّ في مقابلة العامّ، فبينه و بينهما عموم و خصوص مطلق و لكن من حيث

ص: 59


1- الحدائق الناضرة 180:1.
2- الحدائق الناضرة 181:1.

المورد لا المفهوم؛ فإنّ تغيّر اللون حيثما وجد فقد وجد معه تغيّر الطعم و الرائحة أيضا، فهو لا ينفكّ عنهما بخلافهما لانفكاكهما عنه، فلهما فردان، أحدهما: ما اقترن منهما مع تغيّر اللون، و ثانيهما: ما انفكّ منهما عن تغيّر اللون.

فإذا اريد بهما في الأخبار ما يعمّ القسمين كان تغيّر اللون ممّا استغنى عن ذكره، كما أنّ ذكر العامّ ممّا يستغني به عن ذكر الخاصّ لتناوله الخاصّ و غيره.

و فيه أوّلا: أنّه ينافي فتاوي الأصحاب الظاهرة بل الصريحة في استقلال كلّ من الثلاثة في السببيّة لتنجّس الماء.

و توضيح ذلك: أنّ تغيّر الطعم و الريح إذا صادفهما تغيّر اللون أيضا فإمّا أن يستند السببيّة إلى المجموع على نحو الشركة، أو إلى تغيّر الطعم و الريح فقط و كان تغيّر اللون كالحجر في جنب الإنسان، أو إلى تغيّر اللون وحده و كان تغيّر الطعم و الريح كما ذكر، و لا سبيل إلى شيء منها.

أمّا الأوّل: فلمنافاته أوّلا: صريح فتاوي الأصحاب في الدلالة على كون كلّ سببا مستقلاّ.

و ثانيا: لما يراه مدّعي الملازمة من كون تغيّر الطعم و الريح مستقلّين في السببيّة، و لذا يقول بجواز انفكاكهما عن تغيّر اللون.

و أمّا الثاني: فلمنافاته صريح الفتاوي.

و أمّا الثالث: فلمنافاته صريح الفتاوي، و ما يراه مدّعي الملازمة.

و ثانيا: منع كون النسبة بينه و بينهما كما ذكر، بل الّذي يقتضيه التدبّر: أنّ بين كلّ مع الآخر عموم من وجه، فإنّ النجاسات مختلفة في الاشتمال على الأوصاف الثلاثة وحدانيّا و ثنائيّا و ثلاثيّا، و الصور المتصوّرة سبع، فإنّ منها ما هو ذو اللون فقط، و منها ما هو ذو الطعم فقط، و منها ما هو ذو الرائحة فقط، و منها ما هو ذو اللون و الطعم دون الرائحة، و منها ما هو ذو اللون و الرائحة دون الطعم، و منها ما هو ذو الطعم و الرائحة دون اللون، و منها ما هو ذو اللون و الطعم و الرائحة، فكلّ يفترق عن صاحبه، و أكثر تلك الصفات تتلاحق البول باختلاف أحواله على ما هو المشاهد، و أظهر أفراد افتراق ذي

ص: 60

اللون عن ذي الطعم و الرائحة إنّما هو في الدم، إذ ليس فيه طعم و رائحة فاحشين على وجه يستدعي استناد التغيّر إليهما، بل الغالب فيه التغيّر اللوني.

فحينئذ إمّا أن يقال: بأنّه كالمتغيّر في سائر الصفات غير الثلاثة من الحرارة و البرودة و نحوهما فلا حكم له في إيراث النجاسة، أو أنّ الشارع قد أهمل فيه حيث لم يتعرّض لذكره فيما بين أقسام ما يوجب نجاسة الماء من التغيّر، و لا يصغى إلى شيء من ذلك، مع منافاته لدعوى الملازمة.

و أمّا ما قرّره السيّد من الأولويّة فهو أهون من الملازمة المدّعاة، إمّا لمنع أصل الأولويّة، أو لمنع اعتبارها لكونها ظنّيّة، و ذلك لأنّه لو أراد بكون تغيّر اللون أظهر في الانفعال كونه أظهر في نظر الحسّ.

ففيه: أنّ الانفعال ممّا لا يدرك بالحسّ، إلاّ أن يراد به الانفعال الوصفي، فيدفعه: أنّه ليس بأظهر من انفعال الرائحة بل الطعم أيضا، و لو أراد به كونه أظهر في نظر العقل، فمع أنّه ممنوع لا عبرة به، لعدم جزم العقل به فيكون ظنّيّا، و هو لا يوجب إلاّ أولويّة ظنّيّة و هو كما ترى، و لو أراد به كونه كذلك في نظر الشرع فهو أوضح فسادا، بملاحظة أنّ الشرع ليس فيه ما يقضي بذلك أصلا.

و أمّا الطعن في النبوي فقد اجيب عنه: بأنّ غير الصحيح قد تبلغ بالجبر مرتبة الصحيح، و قد يقرّر ذلك: بانجباره بالإجماع و الشهرة و الإجماعات المحكيّة، و أنت إذا تأمّلت في عباراتهم لوجدتها مملوّة من الإشارة إلى ذلك.

و يشكل ذلك كلّه: بأنّ الشبهة إذا كانت في السند فالإجماع و الشهرة لا يجديان في جبران ضعفه إلاّ في موضع الاستناد، على معنى كون ما شكّ في سنده مستندا للمجمعين أو المعظم، فإنّ استنادهم إليه يكشف عن سلامة سنده في الواقع، و لو بأن يبلغهم من الخارج ما أفادهم الوثوق به، و لم يظهر منهم ما يقضي بذلك، بل نرى كلام كثير منهم خاليا عن ذكر هذا الحديث و الاستناد إليه.

نعم غاية ما يترتّب على هذه الامور أنّها تكشف عن صدق المضمون و مطابقته للواقع، و هو كما ترى ليس من تصحيح السند في شيء، و لا رفع الشبهة المذكورة.

ص: 61

نعم يمكن رفعها بطريق آخر، و هو التشبّث في خصوصه بما ادّعي من التواتر أو الاستفاضة و لو في غير جهة إسناده إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، أو الاتّفاق على روايته، فعن ابن أبي عقيل - في جملة احتجاجاته على عدم انفعال الماء الراكد بملاقاة النجاسة -: «أنّه قد تواتر عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام: أنّ الماء طاهر لا ينجّسه إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته»(1).

و عن السرائر: «و من قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله المتّفق على روايته أنّه: «قال خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(2)، و عن ابن فهد: «روي متواترا عنهم أنّهم قالوا: «الماء طهور لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(3)و عن الوافي: «و ما استفاض روايته عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(4)، و عن الشيخ: أنّه رواه أيضا(5)،

و في المنتهى(6) روى الجمهور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(7)، و عن الذخيرة: «أنّه ما عمل الامّة بمدلوله و قبلوه»(8).

و لا ريب أنّ نقل التواتر إذا بلغ حدّ التواتر كنفس التواتر، فيفيد العلم بصدور هذا اللفظ عن المعصوم عليه السّلام.

و مع الغضّ عن ذلك فأقلّ مراتبه الظنّ بالصدور، و الظاهر أنّه كاف في أسانيد الأخبار على ما قرّر في محلّه، كيف و هو لا يقصر عن رواية عدلين أو عدل واحد إذا كان عن ناقل واحد فضلا عن ناقلين متعدّدين، حيث إنّ كلاّ منهما يخبر عن علم، غايته أنّه في ناقل التواتر علم مع الواسطة.

ثمّ مع التنزّل عن ذلك أيضا نقول: بأنّ ثبوت المطلب غير منوط بثبوت اعتبار سند هذا الحديث، إن كان العذر في عدم المصير إليه عدم ورود خبر في أخبار أصحابنا، لتظافر الروايات عن أئمّتنا في خصوص التغيّر اللوني، فإنّها كثيرة جدّا إن لم نقل بتواترها.

ص: 62


1- نقله عنه في مختلف الشيعة 177:1.
2- السرائر 64:1.
3- المهذّب البارع 79:1.
4- الوافي 18:4.
5- الخلاف 173:1 المسألة 126.
6- منتهى المطلب: 21:1.
7- سنن البيهقي 259:1، سنن الدارقطني 28:1، كنز العمّال 26652/396:9.
8- ذخيرة المعاد: 116.

منها: ما عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام «في الماء الجاري يمرّ بالجيف و العذرة و الدم يتوضّأ منه و يشرب، و ليس ينجّسه شيء ما لم يتغيّر أوصافه، طعمه و لونه و ريحه»(1).

و منها: ما عن الكتاب المذكور(2) أيضا عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إذا مرّ الجنب في الماء و فيه الجيفة أو الميتة، فإن كان قد تغيّر لذلك طعمه أو ريحه أو لونه فلا يشرب منه و لا يتوضّأ و لا يتطهّر»، رواه شيخنا في الجواهر مرسلا(3).

و منها: ما عن الفقه الرضوي: «كلّ غدير فيه من الماء أكثر من كرّ لا ينجّسه ما يقع فيه من النجاسات، إلاّ أن يكون فيه الجيف فتغيّر لونه و طعمه و رائحته، فإن غيّرته لم تشرب منه و لم تتطهّر»(4).

و منها: ما في مختلف العلاّمة في جملة احتجاجات ابن أبي عقيل على عدم انفعال الماء بالملاقاة، رواه مرسلا قال: «و سئل الصادق عليه السّلام عن القربة و الجرّة(5) من الماء سقط فيهما فأرة أو جرذ أو غير ذلك فيموتون فيها، فقال: «إذا غلب رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه، و إن لم يغلب عليه فاشرب منه و توضّأ و اطرح الميتة إذا أخرجتها رطبة»(6) و في نسخة اخرى طريّة.

و منها: ما في الوسائل في الصحيح - على الصحيح - عن الثقة الجليل محمّد ابن الحسن الصفّار في كتاب بصائر الدرجات، عن محمّد بن إسماعيل - يعني البرمكي - عن عليّ بن الحكم عن شهاب بن عبد ربّه قال: أتيت أبا عبد اللّه عليه السّلام أسأله فابتدأني، «فقال: إن شئت اسأل يا شهاب و إن شئت أخبرناك بما جئت له، قلت: أخبرني، قال:

جئت تسألني عن الغدير تكون في جانبه الجيفة أتوضّأ منه أو لا؟ قال: «نعم»، قال:

توضّأ من الجانب الآخر، إلاّ أن يغلب الماء الريح فينتن، و جئت تسأل عن الماء الراكد، فإن لم تكن فيه تغيّر و ريح غالبة قلت: فما التغيّر؟ قال: الصفرة، فتوضّأ منه(7)، و كلّما

ص: 63


1- دعائم الإسلام 111:1.
2- المصدر السابق: و فيه «و لا يتطهّر منه».
3- جواهر الكلام: 192:1.
4- فقه الرضا عليه السّلام: ص 91، ب 5؛ مستدرك الوسائل: 189:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 7.
5- الجرّة: هو الإناء المعروف من الفخّار. نهاية ابن الأثير 260:1.
6- مختلف الشيعة 178:1.
7- هذا على ما في نسخة اخرى غير منسوبة إلى الوسائل، و أمّا ما نقلنا عنه من الوسائل فهو خال -

غلب كثرة الماء فهو طاهر»(1).

و منها: ما في زيادات التهذيب عن العلاء بن فضيل قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحياض يبال فيها، «قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(2).

و منها: ما في نوادر الكافي في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السّلام قال: سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه، هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال: «إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئا بيّنا فلا تتوضّأ منه»(3) بناء على أنّ المراد باستبانة الدم في الماء استبانة أثره، و لا يكون إلاّ باللون فتأمّل.

و الظاهر أنّه ممّا لا مدخل له في المقام بعد ملاحظة أنّ السؤال وقع عن كون إصابة الدم الإناء صالحا للحكم بتنجّس الماء و عدمه، فأجابه الإمام عليه السّلام بأنّ المعيار في ذلك تبيّن الدم في الإناء، أي الماء الّذي فيه، بمعنى العلم بوقوعه فيه و مجرّد العلم بإصابته الإناء غير كاف لكونه أعمّ، فلعلّه لم يتعدّ عن خارج الإناء إلى داخله، و الّذي يرشد إليه وقوع السؤال بعد ذلك عن صورة العلم بوقوع الدم في الإناء، فقال: «و سألته عن رجل رعف و هو يتوضّأ، فقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا»(4)، و من هنا ضعف ما فهمه الشيخ عن تلك الرواية من عدم انفعال القليل بما لا يدركه الطرف من الدم.

و أمّا ما عدا ذلك فالكلّ صريح في الدلالة على المطلب، و ما فيها من التكاثر و التظافر إن لم يفد العلم بالصدق فلا أقلّ من إفادته الوثوق، مضافا إلى أنّ فيها ما هو صحيح - على الصحيح - كما أشرنا إليه، و منه رواية علاء بن الفضيل(5) و رميها بالضعف - كما صنعه المحقّق الخوانساري(6) على ما عرفت سابقا - من جهة اشتمال سندها

ص: 64


1- الوسائل 161:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 11 - مع اختلاف يسير - بصائر الدرجات: 13/258.
2- التهذيب 30/415:1.
3- الكافي 16/74:3 - التهذيب 1299/412:1 - الاستبصار 57/23:1 الوسائل 150:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 1.
4- الوسائل 139:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 1311/415:1 - الاستبصار 53/22:1.
5- الكافي 16/74:3 - التهذيب 1299/412:1 - الاستبصار 57/23:1 الوسائل 150:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 1.
6- مشارق الشموس: 203.

على محمّد بن سنان ممّا لا وجه له؛ فإنّ هذا الرجل و إن كان ممّن ضعّفه النجاشي(1)و الفضل بن شاذان(2) و غيره(3)، غير أنّ الّذي يظهر بملاحظة القرائن الخارجيّة المقرّرة في محالّها وثاقته، و كونه من الأجلاّء الفضلاء، هذا مع ما يأتي من روايات اخر مطلقة تشمل بإطلاقها تغيّر اللون أيضا.

ثمّ إنّ بملاحظة أكثر ما ذكر يعرف الحكم في تغيّر الطعم و الرائحة أيضا، مضافا إلى روايات اخر كثيرة واردة في المقام.

منها: ما في التهذيب و الاستبصار من الصحيح عن أبي خالد القمّاط، أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: في الماء يمرّ به الرجل و هو نقيع و فيه الميتة و الجيفة - و في بعض النسخ الميتة الجيفة - فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إن كان الماء قد تغيّر ريحه و طعمه فلا تشرب و لا تتوضّأ، و إن لم يتغيّر ريحه و طعمه فاشرب و توضّأ [منه](4)»، و في بعض نسخ التهذيب: «ريحه أو طعمه»(5).

و منها: ما فيهما أيضا من الصحيح عن حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب، فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم فلا توضّأ منه و لا تشرب»(6)، و رواه في الكافي أيضا مرسلا عن حمّاد عمّن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام(7).

ص: 65


1- رجال النجاشي: 328 قال فيه: «... و هو رجل ضعيف جدّا لا يعوّل عليه و لا يلتفت إلى ما تفرّد به...».
2- حكى عنه النجاشي في رجاله، حيث قال: «قال: أبو الحسن عليّ بن محمّد بن قتيبة النيشابوري قال: قال أبو محمّد الفضل بن شاذان: لا احلّ لكم أن ترووا أحاديث محمّد بن سنان... [رجال النجاشي: 328].
3- قال العلاّمة في الخلاصة: «و قد اختلف علماؤنا في شأنه، فالشيخ المفيد رحمه اللّه قال: إنّه ثقة و أمّا الشيخ الطوسي رحمه اللّه فإنّه ضعّفه و كذا قال النجاشي، و ابن الغضائري و قال: إنّه ضعيف غال لا يلتفت إليه، و روى الكشّي فيه قدحا عظيما، و أثنى عليه أيضا، و الوجه عندي التوقّف فيما يرويه... [خلاصة الأقوال: 394].
4- أثبتناه من المصدر.
5- الوسائل 139:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 112/40:1 - الاستبصار 10/9:1.
6- التهذيب 625/216:1 - الاستبصار 19/12:1 - الوسائل 137:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1 - و فيه «إذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم».
7- الكافي 3/4:3.

و الظاهر أنّ مراده بمن أخبره هو حريز بن عبد اللّه بقرينة ما سبق، فإنّه هو الّذي روى عنه حمّاد بن عيسى على ما ذكر في الرجال(1)، فيكون الرواية على طريق الكليني الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم، لأنّه يروي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه و محمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن حمّاد عمّن أخبره، و لو أخذنا من هذا السند بمحمّد بن إسماعيل كان صحيحا جدّا، لو صحّ ما ذكرنا من أنّ هذا الإرسال بمنزلة الإسناد. فتأمّل.

و منها: ما فيهما أيضا من الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، قال: كتبت إلى رجل أسئلة أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السّلام أتوضّأ؟ فقال: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فينزح منه حتّى يذهب الريح و يطيب الطعم، لأنّ له مادّة»(2).

و منها: ما في الكافي من الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم عن زرارة، قال: «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شيء، تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ، إلاّ أن يجيء له ريح يغلب على ريح الماء»(3)، و الظاهر أنّ المرويّ عنه هو أبو جعفر عليه السّلام لوقوع هذا الحديث في ذيل حديث رواه الشيخ في الاستبصار بطريق ضعيف بعليّ بن حديد، و قد رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت له راوية من ماء سقطت فأرة، - إلى أن قال -: و قال أبو جعفر: «إذا كان الماء أكثر إلخ»(4).

و أقوى ما يشهد بذلك أنّ هذا الحديث ما رواه في الكتاب المذكور بعينه عن الكليني مسندا إلى أبي جعفر عليه السّلام، و كان ما عندنا من النسخة فيه غلط من قلم الناسخ.

و منها: ما في الكافي في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا جالس عن غدير أتوه و فيه جيفة؟ فقال: «إذا كان الماء قاهرا و لم يوجد

ص: 66


1- رجال النجاشي: 144 - حيث قال - في ترجمة حريز بن عبد اللّه: «له كتاب الصلاة كبير و آخر ألطف منه و له كتاب نوادر روى عنه حمّاد بن عيسى» الخ - جامع الرواة 182:1.
2- التهذيب 676/234:1 - وسائل الشيعة 172:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 7.
3- الوسائل 139:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1298/412:1 - الاستبصار 7/7:1.
4- نفس المصدر.

فيه الريح فتوضّأ»(1).

و منها: ما في الاستبصار من الصحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سمعته يقول: «لا تغسل الثوب و لا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلاّ أن أنتن، فإن انتن غسل الثوب و أعاد الصلاة و نزحت البئر»(2).

و منها: ما في التهذيب من الصحيح أو الحسن بالحسين بن الحسن بن أبان عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يمرّ بالماء و فيه دابّة ميتة قد أنتنت؟ قال: «إن كان النتن الغالب على الماء فلا يتوضّأ و لا يشرب»(3).

و منها: ما في الاستبصار في القويّ أو الصحيح بياسين بن ضرير عن حريز بن عبد اللّه عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدوابّ؟ فقال: «إن تغيّر فلا تتوضّأ منه، و إن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه، و كذلك الدم إذا سال في الماء و أشباهه»(4)، و من قوله: «و كذلك الدم» يمكن استفادة حكم اللون أيضا كما لا يخفى.

و منها: ما في الكافي في الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر [به]»(5)، و مثله ما في التهذيب(6).

و منها: ما في الاستبصار في الحسن عن محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه السّلام في البئر يكون بينها و بين الكنيف خمسة و أقلّ و أكثر يتوضّأ منها؟ قال: «ليس يكره من قرب و لا بعد يتوضّأ منها و يغتسل ما لم يتغيّر [الماء](7)» و(8).

ص: 67


1- الكافي 4/4:3 - الوسائل 141:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 11.
2- التهذيب 670/232:1 - الاستبصار 80/30:1 - الوسائل 173:1، ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 10 - و فيه: «... إلاّ أن ينتن».
3- التهذيب 624/216:1 - الاستبصار 18/12:1 - الوسائل 139:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 6.
4- التهذيب 626/217:1 - الاستبصار 20/12:1 - الوسائل 139:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 3.
5- الكافي 4/4:3 - الوسائل 141:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 11.
6- الكافي 2/5:3 - التهذيب 1287/409:1 - الوسائل 170:1، ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 1.
7- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
8- التهذيب 1294/411:1 - الاستبصار 129/46:1 - الوسائل 200:1، ب 24 من أبواب الماء المطلق ح 7.

و منها: ما في مختلف العلاّمة مرسلا في جملة احتجاجات ابن أبي عقيل أيضا،

سئل عن الماء النقيع و الغدير و أشباههما فيه الجيف و القذر و ولوغ الكلب، و يشرب منه الدوابّ و تبول فيه أ يتوضّأ منه؟ فقال لسائله: «إن كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضّأ منه، و إن كان الماء غالبا على النجاسة فتوضّأ منه، و اغتسل»(1).

و يتّضح طريق الاستدلال بالأخبار المذكورة بعد حمل مطلقاتها على مقيّداتها، و حمل ما ذكر فيه من الأوصاف واحدا أو اثنين على إرادة المثال، أو على أنّه الوصف الغالب ممّا يحصل فيه التغيّر فلا تنافي بينها أصلا، فالمسألة بحمد اللّه سبحانه في غاية الوضوح.

نعم، يبقى في المقام أمران ينبغي التنبيه عليهما:

أحدهما: ما أشار إليه المحقّق الخوانساري - في شرح الدروس - من: «أنّه يشكل أن يستنبط من تلك الروايات أنّ تغيّر الطعم وحده موجب للنجاسة؛ لأنّ في بعض نسخ التهذيب في صحيحة أبي خالد المتقدّمة «قد تغيّر ريحه أو طعمه،» و في النسخة المعتمدة «و طعمه» و يؤيّدها آخر الحديث، و التعويل أيضا على الإجماع»(2)، و هو كما ترى أضعف شيء يذكر في المقام.

أمّا أوّلا: فلعدم انحصار روايات الباب في الصحيحة المذكورة، لما عرفت من أنّ فيها ما اشتمل على كلمة «أو» بلا اختلاف في النسخ.

و أمّا ثانيا: فلأنّ «الواو» كثيرا ما ترد مورد «أو» فلتحمل عليها كي يرتفع الإشكال.

فإن قيل: العكس أيضا ممكن.

لقلنا: بأنّ العكس يأباه اختلاف الروايات في التضمّن على الصفات المذكورة وحدانيّة و ثنائيّة و ثلاثيّة، فإنّ كثيرا منها ما تضمّن واحدا منها، و كلّ ذلك شاهد عدل بأنّ كلاّ من الصفات مستقلّ بانفراده في السببيّة، فيكون ذلك قرينة على ما ذكرناه من التجوّز دون العكس.

و ثانيهما: أنّه قد يوجد في الروايات ما يعارض روايات الباب في الدلالة على كون التغيّر بالنجاسة مقتضيا لنجاسة الماء، كما في الكافي مرسلا عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام

ص: 68


1- مختلف الشيعة 177:1.
2- مشارق الشموس: 203.

قال: قلت: يسيل عليّ من ماء المطر الّذي فيه التغيّر و أرى فيه آثار القذر فتقطر القطرات عليّ، و ينتضح عليّ منه، و البيت يتوضّأ على سطحه، فكيف على ثيابنا؟ قال:

«ما به(1) بأس، لا تغسله، كلّ شيء يراه ماء المطر فقد طهر»(2).

و هو أيضا كما ترى كلام ظاهريّ، فإنّ هذه الرواية - مع أنّها مرسلة غير صالحة للمعارضة للروايات الكثيرة القريبة من التواتر، بل المتواترة في الحقيقة، الّتي منها ما هو الصحيح و منها ما هو في حكمه من حيث الاعتبار - غير دالّة على ما ينافي مفاد روايات الباب، بل هي عند التحقيق واردة لإعطاء قاعدة كلّيّة مجمع عليها، مدلول عليها بالأخبار الكثيرة الّتي منها: ما استفاض عنهم عليهم السّلام «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(3)، و محصّل مفاد الرواية - على ما يرشد إليه سياق السؤال -: أنّ السائل لمّا وجد التغيّر في الماء المفروض و مع ذلك وجد فيه القذر أيضا، و لكن لم يتبيّن عنده أنّ هذا التغيّر مستند إلى القذر المفروض، فسأل الإمام عليه السّلام استعلاما، لأنّ وجود القذر مع الماء المتغيّر هل يصلح أمارة على استناد التغيّر إليه أو لا؟ فأجابه الإمام عليه السّلام بما يرجع إلى منع صلوحه لذلك، فنهاه عن غسل الثياب تنبيها على أنّ مدار النجاسة في الشريعة على العلم، و أنت غير عالم بالاستناد فغير عالم بالنجاسة، و قوله عليه السّلام: «كلّ شيء يراه المطر فقد طهر» جواب عن سؤال آخر تعرّض له السائل بقوله: «و البيت يتوضّأ على سطحه»، و غرضه بذلك - و اللّه أعلم - أنّ النجاسة الّتي تتحقّق مع التوضّي على سطح البيت فيه هل تؤثّر في نجاسة ثيابنا بالقطرات الواقعة منه عليها بواسطة ماء المطر؟ فأجاب عنه الإمام عليه السّلام بالعدم تعليلا بما أفاده.

المطلب الثاني: في نبذة من الفروع المتعلّقة بالباب

اشارة

و هي امور:

أحدها: كلّ واحد من الصفات الثلاث القائمة بالنجاسة قد يكون في اقتضاء تغيّر صفة الماء علّة تامّة، و قد يكون جزء للعلّة

ص: 69


1- في المصدر [ما بذا].
2- الكافي 3/13:3 - الوسائل 146:1، ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 5.
3- الوسائل 133:1، ب 1 من أبواب الماء المطلق، ح 2 - الفقيه 1/6:1.

صفة الماء علّة تامّة، و قد يكون جزء للعلّة، بحيث لو لا انضمام مغيّر خارجي إليه من عمل شمس أو حرارة هواء أو تصرّف غيرها ممّا يتكوّن في الماء من الديدان و نحوها لا يكون صالحا للتأثير، بل يكون التأثير قائما بالمجموع منها على الشركة من دون كفاية كلّ بانفراده في التأثير، ففي كونه كافيا في توجّه الحكم بنجاسة الماء مطلقا، أو عدمه كذلك، أو إناطة الأمر بما يساعد عليه نظر العرف في صدق عنوان «التغيير» على وجه يسند إلى النجاسة(1) أو وصفها و عدمه وجوه.

من أنّ الحكم المخرج في الشرع على خلاف الأصل يجب فيه الاقتصار على القدر المتيقّن.

و من أنّ إسناد التغيير إلى النجاسة أو وصفها الوارد في روايات الباب ليس على حقيقته، بل هو وارد من باب التسبيب، و ظاهر أنّ هذا الإسناد كما أنّه يصدق عرفا فيما لو اعتبر إلى السبب التامّ كذلك يصدق فيما لو اعتبر إلى جزء السبب كما يفصح عنه قولهم:

«أنبت الربيع البقل»، المتّفق على كونه من باب المجاز في الإسناد بالقياس إلى السبب، و الربيع ليس إلاّ أحد أجزاء العلّة، فيكون ما ورد في الروايات شاملا لما يتحقّق مع النجاسة في صورة ما لو كانت سببا تامّا، و ما يتحقّق معها في صورة ما لو كانت جزء للسبب.

و من أنّ اللفظ الوارد في خطاب الشرع ينزّل على ما يساعد عليه العرف، فإن صحّ عرفا في صورة جزئيّة النجاسة القول بأنّ هذا ما غيّرته النجاسة يتبعه الحكم بالنجاسة و إلاّ فلا.

و لكنّ الإنصاف أن يقال: إنّ الحكم في وجوده و عدمه يتبع العنوان الوارد في الأخبار، المعلّق عليه ذلك الحكم، و أنت بملاحظة الأخبار المتقدّمة تعرف أنّ ما أخذ فيها عنوانا لذلك الحكم شيئان، هما عند التحقيق متلازمان وجودا و عدما.

أحدهما: غلبة وصف النجاسة على وصف الماء، من ريح أو لون أو طعم.

و ثانيهما: تغيير النجاسة أو وصفها المذكور لوصف الماء.

ص: 70


1- بأن يقال عرفا أنّ الماء قد غيّرته النجاسة، و لو مع العلم بكونها جزءا للعلّة، و أنّ لها في إيراث التغيّر في الماء شريكا. (منه).

و لا ريب أنّ العنوان الأوّل غير متحقّق مع الفرض، لوضوح عدم غلبة لوصف النجاسة في فرض الجزئيّة على وصف الماء، و أمّا ثاني العنوانين فهو و إن كان في نظر العقل ممّا لا مانع من إجرائه في مفروض الكلام غير أنّ العرف يأبى عنه؛ ضرورة أنّ التغيير الوارد في الأخبار بأيّ صيغة كانت لو عرضناه على العرف كان ظاهرا في تمام السببيّة، بحيث لا يكاد الذهن ينصرف إلى صورة الجزئيّة، و لو كان ذلك باعتبار تركيب الكلام المتضمّن لهذا اللفظ، فلاحظ و تأمّل كي يتّضح لك حقيقة الحال.

و قضيّة ذلك اختصاص الحكم بالنجاسة بما لو كان النجاسة أو وصفها علّة تامّة لتغيّر وصف الماء، فيلحق المفروض بالأصل الأوّلي المقتضي للطهارة، مضافا إلى اصول اخر جارية في المقام هذا، و لكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه خصوصا في مشروط بالمائيّة.

و ثانيها: إذا تغيّر الماء بالنجاسة لا عن وصف النجاسة - على معنى تغيّره في وصف مغاير لوصف النجاسة جنسا أو نوعا،

كتغيّر لونه بذي الطعم أو الرائحة، أو طعمه بذي اللون أو الرائحة، أو رائحته بذي الطعم أو اللون - فهل يقتضي ذلك نجاسة الماء كما يقتضيها لو حصل في الوصف الموافق أو لا؟

و الأوّل أولى، عملا بإطلاق الإجماعات و فتاوي الأصحاب، و إطلاق جملة كثيرة من روايات الباب، و خصوص المرسلة الواردة في مختلف العلاّمة المتضمّنة لقوله عليه السّلام:

«إذا غلب رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه»(1)، و صحيحة هشام بن عبد ربّه المشتملة على قوله: «فما التغيّر؟ قال: الصفرة»(2)، نظرا إلى أنّ ظاهر السياق بقرينة ما سبق كون السؤال عن الجيفة الّتي تكون وصفها الغالب هو الريح.

مضافا إلى أنّ المعلوم من طريقة الشارع كون مناط الحكم هو التغيّر المستند إلى النجاسة بأيّ نحو اتّفق، و لا ينافي شيئا من ذلك ما في رواية العلاء بن الفضيل من قوله:

«لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(3)؛ لعدم ابتناء روايات الباب على الضبط

ص: 71


1- مختلف الشيعة 178:1 و فيه: «اذا غلبت رائحته» الخ.
2- الوسائل 161:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 11 - بصائر الدرجات: 13/258.
3- الوسائل 139:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 1311/415:1 - الاستبصار 53/22:1.

و الحصر، كما يفصح عنه اختلافها زيادة و نقيصة في الاشتمال على الأوصاف الثلاثة.

فما عن المعتبر من قوله: «و كلّه ينجّس باستيلاء النجاسة عليه، و نريد باستيلاء النجاسة غلبة ريحها على ريح الماء و طعمها على طعمه و لونها على لونه»(1)، ليس بسديد إن أراد به الاشتراط.

و العجب عن شيخنا في الجواهر(2) أنّه - بعد ما ذكر الاحتمالين في مفروض المسألة - قوّى الاحتمال الثاني استنادا إلى استصحاب الطهارة، مع الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن، فإنّه كما ترى اجتهاد في مقابلة النصّ، و اتّكال بالأصل في موضع الدليل.

فعلى ما قوّيناه لو وقع في الماء نجاسات متعدّدة مختلفة اللون فحصل له من جهتها لون آخر غير موافق للون شيء منها كان نجسا، و لا يقدح فيه مخالفة لونه لألوانها بحسب النوع.

بل و بما عرفت من التحقيق تعرف أنّه لو وقع فيه نجاسة لا وصف لها من حيث الجهات الثلاث المعهودة، فامتزجت معه و أورثت فيه بمقتضى اختلاط مزاجيهما تغيّرا في إحدى من جهاته الثلاث كان نجسا، بل قضيّة بعض ما سبق - مضافا إلى أنّ مورد أكثر روايات الباب إنّما هو الميتة أو الجيفة - عدم الفرق بين ما لو كان الوصف الغالب من النجاسة على وصف الماء من لوازم طبعها و مقتضيات ماهيّتها كحمرة الدم و نحوها، أو من الطوارئ اللاحقة بها بعد انقضاء مدّة مثلا، كنتن الجيفة الّتي أصلها الميتة، و هي ما لم ينقض عنها زمان اقتضى فيها الفساد ممّا ليس لها وصف مغيّر.

و ثالثها: لو وقع في الماء ما يغيّره و كان مردّدا بين الطاهر و النجس لا يخرج الماء عن طهارته الأصليّة،

للأصل السليم عن المعارض، مع استصحاب الطهارة، كما أنّه كذلك لو ظنّ بكونه نجسا، ما لم يقم على اعتبار هذا الظنّ دليل بالخصوص، و لو وقع فيه من النجس ما يصلح للتغيير فاستعقب تغيّرا في الماء مع عدم العلم باستناده إليه كان باقيا على طهارته، كما أنّه لو وقع فيه ما شكّ في كونه صالحا للتغيير فتعقّبه التغيّر مع

ص: 72


1- المعتبر: 8.
2- جواهر الكلام 194:1.

احتمال استناده إلى غيره كان طاهرا.

و كذلك لو وقع فيه طاهر و نجس و تعقّبهما التغيّر مع الشكّ في استناده إلى الطاهر أو النجس، نعم لو علم باستناده إلى أحدهما معيّنا يلحقه حكمه من طهارة أو نجاسة، و أمّا لو علم باستناده إليهما معا على نحو الشركة فهو من جزئيّات الفرع الأوّل و قد تبيّن حاله.

و لو تغيّر بعض الزائد على الكرّ فإن كان الباقي كرّا اختصّ النجاسة بالمتغيّر، بخلاف ما لو كان الباقي دون الكرّ فإنّه ينجّس الجميع، أمّا البعض المتغيّر فللتغيّر، و أمّا الباقي فبالملاقاة، و أمّا لو شكّ في كرّيّة الباقي كان محكوما عليه بالطهارة للأصل و الاستصحاب.

و أمّا ما يسند إلى بعض الشافعيّة(1) - من القول بنجاسة الجميع و إن كثر و تباعدت أقطاره، لأنّ المتغيّر نجس فينجّس ما يلاقيه ثمّ ينجّس ملاقي ملاقيه و هكذا - فضعيف جدّا؛ لأنّ ملاقي النجس إذا كان كثيرا لا ينجّس بالملاقاة إجماعا كما يأتي تحقيقه.

و لو تغيّر الماء بالنجاسة في غير الصفات الثلاثة، من الحرارة و البرودة أو الخفّة و الغلظة أو الصفاء و الكدورة أو التأثير و الخاصّيّة لم ينجّس قولا واحدا فتوى و عملا؛ لاختصاص أدلّة التنجيس بغير تلك الصفات من الصفات الثلاثة، و لا ينافيه ما فيها من المطلقات بعد إعمال قاعدة حمل المطلق على المقيّد، الّذي هو عبارة عن الحصر المستفاد من ملاحظة مجموع الروايات، حيث لم يقع فيها إشارة إلى اعتبار التغيّر فيما عدا الأوصاف الثلاث بالخصوص.

و لو تغيّر بالمجاورة و مرور رائحة النجاسة القريبة منه إليه من دون ملاقاتها له لم ينجّس أيضا، و في الحدائق قولا واحدا(2)؛ لأنّ الرائحة ليست بنجاسة فلا تؤثّر تنجيسا، و هو كما ترى في غاية الجودة، و إن كان لا يخلو عن ضرب من القصور في التأدية.

فتوضيحه: أنّ الحكم في أكثر روايات الباب معلّق على أعيان النجاسات من الدم و البول و الجيفة على فرض وقوعها في الماء و كونها بأعيانها فيه، و لا ريب أنّ اللون في مفروض المسألة ليس بعين نجسة، كما أنّ العين فيها ليست بواقعة في الماء، و معه

ص: 73


1- المغني لابن قدامة 29:1.
2- الحدائق الناضرة 187:1.

لا داعي إلى الحكم بالنجاسة في تلك الصورة.

نعم، في جملة من الروايات ما يوهم في ابتداء النظر عدم الفرق بين ما لو كان التغيّر عن عين النجاسة أو عن مجاورتها و مرور رائحتها، كالنبوي المتقدّم(1)، و الأولى من روايتي دعائم الإسلام(2)، و رواية الشهاب(3) بما في ذيلها، و رواية حريز(4)، و روايتي محمّد بن إسماعيل(5) الواردتين في البئر، و لكن ليس شيء منها بشيء.

أمّا النبوي فللقدح في سنده أوّلا، و دلالته ثانيا.

أمّا الأوّل: فلما عرفت من كونه عامّيّا مرسلا و إن ادّعي كونه متواترا، و لا جابر له في خصوص المقام لما عرفت من ذهاب الأصحاب إلى خلاف ما اقتضاه إطلاقه أو عمومه، بل و لو فرضنا سنده صحيحا لسقط عن الاعتبار في خصوص هذا الحكم، بملاحظة إعراض الأصحاب عنه من هذه الجهة و عدم الاعتناء به.

و أمّا الثاني: فلمنع عموم أو إطلاق في الرواية بحيث يشمل المبحوث عنه أيضا؛ فإنّ «شيئا» في قوله: «لا ينجّسه شيء،» لا يراد منه ما يصدق عليه الشيء في الخارج كائنا ما كان، و إن كان عامّا من جهة وقوعه في سياق النفي، بل يراد به بملاحظة تركيب الكلام و تضمّنه للفظ «ينجّسه» جميع الأفراد ممّا كان من سنخ المتنجّس، كما أنّه لو قال لأحد: «ما أكلت اليوم شيئا»، لا يتناول ذلك العامّ ما ليس من أفراد المأكول أصلا، بل هو عامّ في خصوص أفراد المأكول، فيكون حاصل تقدير الرواية: أنّه لا ينجّسه شيء من المنجّسات، فيكون قوله: «إلاّ ما غيّر لونه» الخ استثناء عن الشيء بهذا المعنى، و حاصله: إلاّ متنجّس غيّر لونه الخ.

و لا ريب أنّه بهذا المعنى لا يتناول نظائر المقام و لو فرضناه عامّا، بناء على القول بكون الموصولات من العمومات؛ إذ العامّ إنّما يشمل أفراده بعد الفراغ عن إحراز فرديّتها له، و كون مرور الرائحة إلى الماء من النجاسة و تغيّره بالمجاورة منجّسا له ممّا

ص: 74


1- عوالي اللآلي 6/9:1.
2- دعائم الإسلام 111:1.
3- الوسائل 161:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 11.
4- . التهذيب 625/216:1 - الاستبصار 19/12:1 - الوسائل 137:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1.
5- التهذيب 676/234:1 - الوسائل 1:172، ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 7.

لم يكن محرزا؛ لعدم قيام دليل من الشرع على أنّه أيضا يوجب نجاسة الماء فيكون مشكوكا في فرديّته، و معه لا يعقل العموم بالقياس إليه.

و أمّا رواية دعائم الإسلام فللقدح فيها أيضا سندا و دلالة.

أمّا الأوّل: فقد اتّضح، و أمّا الثاني: فلانصراف قوله: «و ليس ينجّسه شيء ما لم يتغيّر أوصافه» إلى الامور المذكورة أوّلا من الجيف و العذرة و الدم، فيكون التغيّر ظاهرا فيما يستند إليها، و هو ظاهر فيما يستند إلى أعيانها.

و دعوى: أنّ المورد لا يصلح مخصّصا للوارد.

يدفعها: أنّ الحمل المذكور ليس من باب التخصيص بل هو عند التحقيق أخذ بما هو من مقتضى التخصّص.

و بيان ذلك: أنّ لفظ «شيء» حيثما طرأه العموم المصطلح ليس على حدّ غيره من ألفاظ العموم الّتي لمدلولها أفراد مضبوطة معيّنة لا يتجاوزها الألفاظ إلاّ بالتخصيص، بل هو في إفادته العموم و كمّيّة ما يعمّه يتبع المقام، و يأخذ من الأفراد ما يناسبه و يساعد عليه سياق الكلام، فقوله: «ليس ينجّسه شيء» إنّما ينصرف عرفا إلى ما سبقه من النجاسات المذكورة، فيكون عامّا في أفرادها لا مطلقا.

و أمّا الثالث: فلظهور أنّ المراد بالماء الراكد بقرينة ما سبق الماء الراكد الّذي فيه الجيفة.

لا يقال: لو صحّ ذلك لكان إضمار السؤال عن أحدهما مغنيا عنه في الآخر لكون كلّ من الغدير و الراكد من واد واحد.

لأنّا نقول: إنّهما موضوعان متغايران و إن كان الثاني أعمّ من الأوّل، فإنّ الغدير هو الماء الّذي تغادره السيول أي تخلّفه، و الراكد هو الماء الساكن الغير الجاري، فلعلّ السائل قد أضمر السؤال عن كليهما لتوهّمه الفرق بينهما في الحكم باعتبار خصوصيّة من الخصوصيّات، لعلمه بأنّ مبنى الشرع على الجمع بين المختلفات و التفريق بين المتّفقات.

و أمّا الرابع: فلأنّ المتبادر من قوله: «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة» ما اعتبر غلبة وصفه على الجيفة الواقعة فيه الملاصقة له، لا مطلقا.

و أمّا الخامس: فلأنّ المراد ب «الإفساد» الوارد في الروايتين إنّما هو الإفساد الشرعي المانع عن استعمال الماء في مشروط بالطهارة و هو التنجيس، فيرجع مفاده إلى ما قرّرناه في

ص: 75

النبوي، فلا يتناول عمومه للمجاورة و نحوها لمكان الشكّ في كونها من المنجّسات.

و لو تغيّر الماء في أحد أوصافه الثلاثة المعروفة بالمتنجّس دون عين النجس - كالدبس النجس و ما شابهه - ففي قبوله النجاسة به و عدمه وجهان، بل قولان على ما قيل، فالمعظم إلى الثاني، و عن كشف اللثام: «أنّه ظاهر الأكثر»(1)، و في الرياض: «أنّه الأشهر»(2)، و عن شرح المفاتيح: «أنّه مذهب جميع من عدا الشيخ»(3)، و عن ظاهر الشيخ في المبسوط(4) الأوّل، فلا فرق في نجاسة الماء بالتغيّر عنده بين ما لو كان التغيّر بعين النجس أو بالمتنجّس، و ربّما يعزى إلى ظاهر السيّد في الجمل(5) أيضا بل عن المصابيح(6) أنّه استظهره من المعتبر(7) و التحرير(8)، و قد يستظهر الموافقة من السرائر(9)كما في الجواهر(10)، بل في مناهل السيّد(11): «أنّه قد يستظهر من الكتب الّتي أطلقت التنجّس بالتغيّر مصرّحة بأنّه لا ينجّس الجاري إلاّ أن يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه، كالمقنعة(12)، و جمل العلم(13)، و الجمل و العقود(14)، و الغنية(15)، و التبصرة(16)، و الدروس(17)، و البيان(18)، و الجعفريّة(19)، و مجمع الفائدة(20).

و قد يدّعى استفادته أيضا من الكتب الّتي صرّحت بأنّه لا ينجّس إلاّ باستيلاء النجاسة على أحد أوصافه، كالوسيلة(21)، و المراسم(22)، و النافع(23)، و الشرائع(24)،

ص: 76


1- كشف اللثام 256:1.
2- رياض المسائل 134:1.
3- مصابيح الظّلام - كتاب الطهارة - (مخلوط) الورقة: 517.
4- المبسوط 5:1.
5- الجمل و العلم (رسائل الشريف المرتضى 22:3).
6- مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة - (المخطوط) الورقة: 11.
7- المعتبر: 8.
8- تحرير الأحكام: 5:1.
9- السرائر 62:1.
10- جواهر الكلام 204:1.
11- المناهل -: كتاب الطهارة (مخطوط) - ص: 87.
12- المقنعة 64:1.
13- الجمل و العلم (رسائل الشريف المرتضى 22:3).
14- الجمل و العقود (في ضمن الرسائل العشر: 169).
15- غنية النزوع (سلسلة الينابيع الفقهيّة 379:2).
16- تبصرة المتعلّمين 23:1.
17- الدروس الشرعيّة 119:1.
18- البيان: 98.
19- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 83:1).
20- مجمع الفائدة و البرهان 250:1.
21- الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة 414:2).
22- المراسم العلويّة: 37.
23- المختصر النافع: 141.
24- شرائع الإسلام: 7:1.

و حاشيته(1)، و من الكتب الّتي صرّحت بأنّه لا ينجّس إلاّ بتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة كالنهاية(2) و الإرشاد(3) و القواعد(4) و السرائر(5) و نهاية الإحكام(6) و الجامع(7)و اللمعة(8) و الروضة(9)، لأنّ النجاسة يعمّ المتنجّس في كلمات الأصحاب.

و أنت خبير: بأنّ كلّ هذه الاستظهارات وارد على خلاف التحقيق، فإنّ لفظ «النجاسة» أو «النجس» ليس ممّا ورد في أخبار الباب، و لا أنّه اخذ بهذا العنوان الكلّي عنوانا في أدلّة المسألة، بل هو مفهوم كلّي انتزعه الفقهاء عن الموارد الخاصّة الواردة في الروايات و الأعيان المخصوصة من النجاسات المعلّق عليها الحكم في أخبار الباب، كالبول و الدم و الميتة و الجيفة، بعد إسقاط الخصوصيّة و إلغاء الفارق بينها و بين سائر أنواع النجاسات، و لا ريب أنّ ما ينتزع عن شيء لا يراد منه عند الإطلاق إلاّ ما ينطبق على المنتزع عنه، و ليس المتنجّس من جملته؛ ضرورة عدم وروده في الروايات بهذا اللفظ، و لا أنّ فيها إشارة إليه، و لا أنّ شيئا من مصاديقه مذكور في أسئلتها و لا أجوبتها، حتّى يقال: بأنّ ما ذكر من المفهوم الكلّي منتزع عمّا يعمّه و الموارد الخاصّة من أعيان النجاسة، و معه كيف يجترئ على الفقهاء باستظهار كون مرادهم من النجاسة في عناوينهم المطلقة ما يعمّ الأمرين.

كيف و لو كانت قضيّة الاستظهار صادقة على النهج المذكور لزم كون القول بنجاسة الماء إذا تغيّر بالمتنجّس مذهبا للمشهور، و هو كما ترى ينافي خلوّ كلامهم كافّة عن التصريح بذكره عنوانا و مثالا، و كأنّ الحال في استظهار هذا القول أيضا من الشيخ و السيّد من هذا القبيل، بل هو كذلك عند التحقيق؛ لقصور العبارة الّتي استظهر منها هذا القول عن إفادته و الدلالة على اختياره، و هي - على ما حكي عنه - قوله: «و لا طريق إلى تطهير المضاف إلاّ بأن يختلط بما زاد على الكرّ من المياه الطاهرة المطلقة، ثمّ ينظر فيه فإن سلبه إطلاق اسم الماء و غيّر أحد أوصافه، إمّا لونه أو طعمه أو رائحته فلا يجوز

ص: 77


1- حاشية شرائع الإسلام - للمحقّق الكركي - (مخطوط) الورقة: 3.
2- النهاية: 3.
3- إرشاد الأذهان 235:1.
4- قواعد الاحكام 182:1.
5- السرائر 62:1.
6- نهاية الأحكام 228:1.
7- الجامع للشرائع: 20.
8- اللمعة الدمشقيّة: 251:1.
9- الروضة البهيّة 251:1.

استعماله بحال، و إن لم يتغيّر أوصافه و لا سلبه إطلاق اسم الماء جاز استعماله في جميع ما يجوز استعمال المياه المطلقة»(1).

فإنّ مفاد هذه العبارة - كما ترى - أنّه صرّح فيما يحكم عليه بعدم جواز الاستعمال باعتبار اجتماع الأمرين من سلب إطلاق الاسم و التغيّر، و فيما يحكم عليه بجواز الاستعمال باعتبار انتفاء الأمرين معا، فيبقى ما انتفى عنه أحد الأمرين واسطة بين القسمين، و هو كما يمكن لحوقه بالقسم الأوّل فكذلك يمكن لحوقه بالقسم الثاني فيكون أعمّ، و من البيّن أنّ العامّ لا يصلح دليلا على الخاصّ.

بل لنا أن نقول: بإمكان كون ما انتفى عنه التغيّر دون عدم سلب إطلاق الاسم ملحقا بالقسم الأوّل في الجملة؛ لأنّه مضاف حينئذ و هو ممّا لا يجوز استعماله في مشروط بالمائيّة، و ما انتفى عنه سلب الإطلاق دون التغيّر ملحقا بالقسم الثاني.

هذا مع أنّ الظاهر كون عطف «التغيّر» على سلب إطلاق الاسم عطفا تفسيريّا مرادا به بيان ما يحقّق سلب الإطلاق و يتحقّق معه عدم صدق الاسم، بناء على كون المراد بتغيّر الماء حينئذ اكتسابه شيئا من أوصاف المضاف طعما أو لونا أو رائحة، لا اكتسابه شيئا من صفات النجاسة الواقعة كما هو الظاهر الّذي يساعد عليه الاعتبار، و لا ينافيه الحكم عليه حينئذ بعدم جواز الاستعمال بحال، لأنّه إذا اكتسب شيئا من أوصاف المضاف انقلب مضافا فيلحقه النجاسة، لأنّ المضاف كائنا ما كان ينفعل بملاقاة النجاسة و المتنجّس معا إجماعا، كانفعال الماء القليل الملاقي بهما، فحينئذ يكون عبارته أجنبيّة عمّا فهموه بالمرّة، و لا يعقل معه الاستظهار المذكور.

فالإنصاف: أنّه لم يظهر من أصحابنا من كان قائلا بنجاسة الماء المتغيّر بالمتنجّس صراحة و لا ظهورا، و من هنا يمكن استظهار الإجماع على عدم النجاسة، كيف و أنّه مقتضى الأصل و الاستصحاب كما استند إليه المعظم، و لم يوجد في روايات الباب ما ينافيهما صريحا و لا ظهورا و لا إشعارا.

نعم، الروايات المطلقة في الحكم بالنجاسة لمجرّد التغيّر - الّتي منها النبوي(2) -

ص: 78


1- المبسوط 5:1.
2- دعائم الإسلام 111:1.

ربّما توهم ذلك، و لكنّه يندفع بملاحظة مجموع روايات الباب من مطلقاتها و مقيّداتها؛ فإنّ الّذي يظهر منها - و اللّه أعلم - أنّ هذه المطلقات ليست بإطلاقها كما توهّم، بل هي منزّلة على المقيّدات و ناظرة إليها و منطبقة عليها حرفا بحرف و قذّا بقذّ، و كأنّ الوجه في ورودها مطلقة تبيّن الأمر للمشافهين بها من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة عليهم السّلام باعتبار الخارج من قرينة حال أو مقال.

و لو سلّم عدم ظهور ذلك، فلا أقلّ من صيرورة الإطلاق الّذي فيها بملاحظة ما ذكرناه - مضافا إلى مصير المعظم إن لم نقل مصير الكلّ إلى خلافه - موهونا ساقطا عن درجة الاعتبار و الحجّيّة، و معه يبقى الأصلان المذكوران سليمين عن المعارض.

فتحقيق المقام - على ما يقتضيه القواعد المقرّرة و الاصول المسلّمة - أن يقال: إنّ الوصف الحاصل في الماء عند دخول المتنجّس فيه، إمّا أن يعلم كونه من أوصاف نفس المتنجّس كحلاوة الدبس، و رائحة ماء الورد، و حمرة ماء البقّم(1) مثلا، أو يعلم كونه من أوصاف النجاسة الّتي مع ذلك المتنجّس كحمرة الدم إذا كان المتنجّس متنجّسا من جهته، أو يعلم كونه من وصفيهما معا على معنى استناد تغيّره إليهما على جهة الشركة، أو لا يعلم شيء من ذلك.

أمّا الأوّل: فالمتّجه فيه عدم النجاسة لعين ما مرّ.

و أمّا الثاني: فالمتّجه فيه النجاسة لصدق كونه متغيّرا بعين النجاسة فيشمله الأدلّة.

و أمّا الثالث(2): فهو من جزئيّات الفرع الأوّل الّذي تقدّم الكلام فيه.

و أمّا الرابع: فهو كالأوّل، لسلامة الأصلين بالنسبة إليه عن المعارض.

و هذا التفصيل يظهر عن غير واحد من متأخّري أصحابنا، منهم ثاني الشهيدين في الروضة، كما أشار إليه بقوله: «فإنّه لا ينجّس بذلك كما لو تغيّر طعمه بالدبس [المتنجّس](3) من غير أن تؤثّر نجاسته فيه»(4)، و إن كان إطلاق القيد يشمل في كلامه ما

ص: 79


1- البقّم: بتشديد القاف، صبغ معروف، قيل عربيّ، و قيل معرّب قال الشاعر: كمرجل الصبّاغ جاش بقّمه (المصباح المنير؛ مادة «البقّم»: 58).
2- و في الأصل و «أمّا الثاني»، و من المقطوع كونه سهوا من قلمه الشريف، و لذا صحّحناه بما في المتن.
3- و في الأصل: «النجس».
4- الروضة البهيّة 251:1.

لو كان تأثير النجاسة فيه على سبيل الجزئيّة، فإنّ قضيّة ذلك توجّه الحكم فيه بالنجاسة أيضا و إن كان ذلك خلاف التحقيق كما عرفت سابقا.

و ممّن صرّح بهذا التفصيل في الجملة السيّد الطباطبائي في مصابيحه - على ما حكي - قائلا: «بأنّه لا يتوهّم من إطلاق الأصحاب بعدم نجاسة الماء بتغيّره بالمتنجّس، أنّه لا ينجّس بتغيّره بالنجاسة بواسطة المتنجّس أيضا، بناء على أنّ التغيّر بالواسطة تغيّر بالمتنجّس أيضا لا بالنجاسة، و من ثمّ ترى الأصحاب مثّلوا له بالدبس المتنجّس و نحوه ممّا يوجب التغيّر بصفته الأصليّة دون العارضة بواسطة النجاسة إلخ»(1)، و ظاهر هذه العبارة بل صريحها أنّ هذا التفصيل مذهب للأصحاب أيضا.

المطلب الثالث: التغيّر قد يكون حسّيّا و قد يكون تقديريّا،

اشارة

و المراد بالأوّل ما من شأنه أن يكون مدركا بإحدى الحواسّ الظاهرة من البصر و الذوق و الشمّ، و بالثاني ما لا يكون كذلك من جهة كون النجاسة الواقعة في الماء مسلوب الصفات الأصليّة موافقة له في صفاته بالعارض، و لكن كانت في المقدار بحيث لو كانت على صفاتها الأصليّة المخالفة لصفات الماء كانت موجبة لتغيّره غالبة صفاتها على صفاته، فهل المعتبر في التغيّر الموجب لتنجّس الماء أن يكون حسّيّا، فلا يكفي فيه مجرّد التقدير ما لم يكن التغيّر ممّا يدركه الحسّ، أو لا؟ بل هو موجب للتنجّس و لو تقديريّا، بحيث لو لم يكن محسوسا يجب تقدير الأوصاف في النجاسة، فلو كانت ممّا يتغيّر بها الماء على تقدير وجودها نجس الماء و إلاّ فلا.

اختلف فيه الأصحاب على قولين:

أوّلهما: ما عليه الأكثر كما في الرياض(2)، و هو قول أكثر الأصحاب كما عن الذخيرة(3)، و هو المشهور كما في الحدائق(4)، و هو لظاهر المعظم و ثاني الشهيدين

ص: 80


1- مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 12.
2- رياض المسائل 13:1.
3- ذخيرة المعاد: 116.
4- الحدائق الناضرة 181:1.

و جماعة من المتأخّرين كما عن المصابيح(1)، و هو ظاهر المذهب كما عن الذكرى(2)و الروض(3)، و هو صريح أكثر من تأخّر عن العلاّمة(4) و ظاهر من تقدّمه(5)، لتعبيرهم بالتغيّر الظاهر في الحسّي كما في الجواهر(6).

و ثانيهما: ما صرّح به العلاّمة في القواعد(7)، و عنه أيضا في نهاية الإحكام(8)، و المختلف(9)، و عن ابنه فخر الإسلام في الإيضاح(10)، و المحقّق الثاني في جامع المقاصد(11)، و عن المصابيح(12): أنّه حكاه عن ابن فهد في موجزه(13)، و في المناهل(14):

«و قيل: نفى عنه البعد في حبل المتين»(15).

حجّة الأوّلين: الأصل و العمومات و دلالة النصوص و الفتاوي على دوران الحكم بالتنجّس مدار التغيير بالأوصاف الثلاثة، الّذي هو حقيقة في الحسّي خاصّة.

أمّا أوّلا: فلأنّه المتبادر منه عند الإطلاق.

و أمّا ثانيا: فلصحّة السلب عن التقديري.

و أمّا ثالثا: فلتصريح جامع المقاصد(16) و الروض(17) بأنّ التغيّر حقيقة في الحسّي، و هو لا يقصر عن إخبار أهل اللغة بوضع اللفظ بل هو أولى بالقبول، و أنّ اعتبار التقدير في مسلوب الصفة يقتضي اعتباره في فاقدها و في الواجد الضعيف منها، و الإجماع قائم على عدمه كما عن المصابيح(18).

ص: 81


1- مصابيح الأحكام: - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 11.
2- ذكرى الشيعة 76:1.
3- روض الجنان: 134.
4- كالسيّد في مدارك الاحكام 29:1 - و السبزواري في ذخيرة المعاد: 176.
5- كالمفيد في المقنعة: 64 - و الشيخ في المبسوط 5:1 - و ابن إدريس في السرائر 60:1 و أبي الصلاح في الكافي في الفقه: 130.
6- جواهر الكلام 195:1.
7- قواعد الاحكام: 183:1.
8- نهاية الإحكام 227:1.
9- مختلف الشيعة 177:1.
10- إيضاح الفوائد 16:1.
11- جامع المقاصد 114:1.
12- مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: ص 11.
13- الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة 411:26).
14- المناهل: كتاب الطهارة - ص 91 (مخطوط).
15- الحبل المتين: 106.
16- جامع المقاصد 114:1.
17- روض الجنان: 134.
18- مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: ص 11.
و للآخرين أيضا وجوه:

منها: ما عن الإيضاح من أنّ هذا القول أحوط فيجب المصير إليه(1).

و فيه أوّلا: أنّ الاحتياط لا يجدي نفعا في إثبات ما هو الغرض الأصلي في المسألة من معرفة حكم اللّه الواقعي.

و ثانيا: منع وجوب الاحتياط، لسلامة الاصول و عمومات الطهارة عن المعارض؛ إذ المفروض أنّ أدلّة التنجّس بالتغيّر لا تشمل هذا الفرد، كما يظهر الاعتراف به من أصحاب هذا القول، فلذا لا يتمسّكون له إلاّ بوجوه لا ترجع إلى دلالة تلك الأدلّة، فلا معارض لعمومات الطهارة، و المفروض أنّه لا إجمال فيها فيندرج فيها المقام، و يبقى الاصول مؤيّدة لها.

نعم، إنّما يتّجه الاحتياط وجوبا لو كانت النجاسة الواقعة في الماء باعتبار الكثرة بحيث أوجبت الشكّ في استهلاك الماء أو خروجه عن الإطلاق، من جهة أنّ ذلك شكّ في الاندراج في عمومات الطهارة، غير أنّ صور المسألة لا تنحصر في ذلك، و من هنا قد يجاب عنه بمنع كونه أحوط في جميع الفروض بل هو كذلك غالبا، و أنت خبير بأنّ دعوى الغلبة أيضا ليست في محلّها.

و منها: ما عن العلاّمة: «بأنّ التغيّر الّذي هو مناط النجاسة دائر مع الأوصاف، فإذا فقدت وجب تقديرها»(2).

و فيه: تسليم المقدّمة الاولى و منع الثانية، لكونها إعادة للمدّعى فلا تصلح دليلا.

و قد يوجّه: بأنّ غرضه دعوى استناد النجاسة إلى عين النجاسة و ذاتها، فإنّها المؤثّرة في تنجّس العين دون الوصف، فلهذا لا يحكم به في صورة تغيّر الأوصاف بالمجاورة، فالأوصاف الثابتة في النجاسة ممّا لا مدخل لها في التأثير، غير أنّ الشارع تعالى أناط الحكم بتغيّر الوصف من جهة أنّه كاشف وجودا و عدما عن تحقّق المؤثّر الواقعي، فإذا علم عند فقد الوصف بتحقّق المقدار الّذي يكفي في حصول الأثر على تقدير وجود الوصف كما هو قضيّة القول بالتقدير علم بتحقّق المؤثّر التامّ، و معه لا مناص من الحكم

ص: 82


1- إيضاح الفوائد 16:1.
2- حكى عنه في ذخيرة المعاد: 116.

بحصول الأثر استحالة تخلّف الأثر عن مؤثّره التامّ، و لا يقدح فيه فقدان الوصف حينئذ لأنّ فائدة اعتباره ليست إلاّ الكشف عن الواقع و قد حصل بدونه من جهة التقدير.

و فيه: منع عدم دخول تغيّر الوصف في المؤثّر، بل ظاهر الأدلّة إن لم نقل صريحها كون التغيّر مؤثّرا في الحكم داخلا في موضوعه، و معه لا يعقل التفكيك بينه و بين الحكم، سلّمنا عدم ظهور ذلك و لكن ظهور خلافه من الأدلّة في حيّز المنع، و معه يبقى المقام مشكوكا في اندراجه تحت تلك الأدلّة، فيبقى أدلّة الطهارة سليمة عمّا يزاحمها.

و منها: ما عن فخر المحقّقين في الإيضاح، من «أنّ وجه اختيار المصنّف صيرورة الماء مقهورا؛ لأنّه كلّما لم يصر مقهورا بالنجاسة لم يتغيّر بها على تقدير المخالفة، و ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا: كلّما تغيّر على تقدير المخالفة كان مقهورا، و لا يلزم من عدم أمارة الشيء عدمه»(1).

و فيه أوّلا: كذب الأصل المستلزم لكذب العكس - للضابطة المقرّرة في محلّه المعتبرة في قاعدة عكس النقيض - إن اريد بمقهوريّة الماء مقهوريّته بحسب الذات، بكون النجاسة الواقعة فيه أكثر منه بحسب الكمّيّة و المقدار، لضرورة قضاء الوجدان المطابق للحسّ و العيان بأنّ النجاسة كثيرا ما تكون بحسب المقدار أقلّ من الماء بمراتب شتّى فتغيّره لو وقعت فيه، و يكفيك في ذلك ملاحظة الدم و الجيفة فإنّ صاعا من الأوّل يغيّر صياعا من الماء، و لا سيّما عند اشتداد لونه و بلوغه في الشداد حدّ السواد، و أنّ دجاجة من الثاني إذا أنتنت تغيّر أكرارا من الماء فضلا عن كرّ واحد أو أقلّ، و عن جيفة الشاة أو ما هو أكبر منها في الجثّة، و لا ندري من أنّ دعوى هذه الكلّيّة القاطعة للضرورة من أيّ شيء نشأت لمثل هذا الفاضل المشتهر بالمحقّق، نعم لو اريد بالمقهوريّة ما هو بحسب الكيف أعني الوصف فكلّيّة الشرطيّة مسلّمة، و لكنّ الشرط كذب و إلاّ كان خارجا عن الفرض فلا نتيجة.

و ثانيا: أنّ المقهوريّة إن اريد بها ما يتحقّق معها الاستهلاك فلا كلام لأحد في التنجّس هنا، بل هو في الحقيقة خارج عن مفروض المسألة، و إن اريد بها ما دون ذلك

ص: 83


1- إيضاح الفوائد 16:1.

على وجه يكون الإطلاق معه باقيا، فكونها مع فقد الوصف ملزومة للتنجّس على ما هو النتيجة المقصودة أوّل الكلام، إلاّ إذا ثبت أنّها هو السبب التامّ، و تغيّر الوصف حيثما يوجد إنّما اعتبر كاشفا و الكاشف قد يقوم مقامه غيره، و هو في حيّز المنع كيف و لم يثبت إلاّ خلافه كما تقدّم الإشارة إليه، و نفصّله أيضا بعد ذلك.

و قد يجاب عنه - أيضا - على هذا التقدير: بأنّ المدار لو كان على الغلبة و المقهوريّة فكيف يصحّ تعليق الحكم على التغيّر الّذي هو وصف مفارق لها، و جعلها دائرة مداره، و أيضا ينبغي القول حينئذ بما إذا كشف عن الغلبة غير التغيّر من الكثرة و نحوها، و أيضا لو كان المدار عليها لوجب القول بالتقدير في فاقد الصفات، و في الواجد الضعيف، و قد نقل الإجماع على خلافه، و بعض هذه الوجوه غير خال عن المكابرة.

و منها: ما عن المحقّق الثاني في شرح القواعد من «أنّه يمكن الاحتجاج بأنّ المضاف المسلوب الأوصاف لو وقع في الماء وجب اعتباره إمّا بقلّة الأجزاء أو كثرتها، أو تقديره مخالفا في الأوصاف على اختلاف القولين، و إذا وجب الاعتبار في الجملة للمضاف فللنجاسة أولى، و لأنّ عدم وجوب التقدير يفضي إلى جواز الاستعمال و إن زادت النجاسة على الماء أضعافا و هو كالمعلوم البطلان، فوجب تقدير الأوصاف لأنّها مناط التنجّس و عدمه»(1).

و فيه: بعد تسليم الحكم في المقيس عليه منع الأولويّة في المقيس، لوضوح الفرق بينهما بأنّ الحكم هنا معلّق على أمر واقعي يستلزم المحسوسيّة، فإذا انتفت المحسوسيّة كشف عن انتفاء ذلك الأمر الواقعي المعلّق عليه الحكم، لوضوح استلزام انتفاء اللازم انتفاء الملزوم فينتفي معه الحكم، و ثمّة معلّق على أمر واقعي لا يستلزم المحسوسيّة، فإذا لم يكن مدركا بالحسّ لفقده أوصافه احتمل كونه متحقّقا في الواقع لاحتمال استهلاك الماء به، و احتمل عدم تحقّقه لاحتمال استهلاكه بالماء، فوجب تقدير أوصافه استعلاما لحقيقة الحال.

و أيضا المقصود بالتقدير هنا إحراز ما هو من مقولة المانع و هو التنجّس، بعد الفراغ عن إحراز المقتضي و هو صدق «المائيّة» و بقاء الإطلاق، و ثمّة إحراز المقتضي باستعلام بقاء «المائيّة» و صدق الاسم، و لا ريب أنّ المقتضي ممّا لا يحرز إلاّ بطريق

ص: 84


1- جامع المقاصد 114:1.

رافع للشكّ، فلذا لا يمكن إحرازه بالأصل إلاّ في بعض الفروض النادرة، فلا بدّ من اعتبار التقدير استكشافا عن وجود المقتضي و بقائه أو ارتفاعه ليتوصّل به إلى ترتيب الأحكام المعلّقة عليه وجودا و عدما، و هو لا يقضي بوجوب التقدير فيما لو شكّ في وجود المانع و تحقّقه مع الجزم ببقاء المقتضي؛ لأنّ المانع ممّا ينفي احتماله بالأصل فيترتّب على المقتضي الموجود أحكامه المعلّقة عليه.

و أمّا ما ذكره في العلاوة، فإن أراد به صورة الاستهلاك و عدم بقاء الإطلاق فهو ممّا لا يقول فيه أحد بجواز الاستعمال في مشروط بالمائيّة و لا في مشروط بالطهارة، و إن أراد به غير تلك الصورة حتّى لا يكون زيادة النجاسة على الماء أضعافا منافية لبقاء «المائيّة» و صدق الاسم عليه عرفا، فدعوى العلم بالبطلان فيه غير واضح الوجه؛ لعدم كونه ممّا يساعد عليه العقل و الشرع و إلاّ ارتفع الإشكال، بل لا نرى ذلك إلاّ استبعادا صرفا هو ممّا لا يصلح للتعويل عليه في استعلام أحكام الشرع، سيّما بعد ملاحظة قيام الدلالة الشرعيّة على الجواز، من أصل و عموم و إطلاق دليل كما سبق الكلام فيه.

و منها: ما احتجّ به في الحدائق من أنّه «يمكن أن يقال: إنّ التغيّر حقيقة في النفس الأمري لا فيما كان محسوسا ظاهرا، فقد يمنع عن ظهوره مانع، كما اعترفوا به فيما سيأتي ممّا إذا خالفت النجاسة الجاري في الأوصاف لكن منع من ظهورها مانع، فإنّهم هناك قالوا بوجوب التقدير استنادا إلى أنّ التغيّر حصل واقعا و إن منع من ظهوره مانع، و المناط التغيّر في الواقع لا الحسّي، و الفرق بين الموضعين لا يخلو عن خفاء.

و يؤيّد ذلك أنّ الشارع إنّما أناط النجاسة بالتغيّر في هذه الأوصاف لدلالته على غلبة النجاسة و كثرتها واقعا، و إلاّ فالتغيّر لها من حيث هو لا مدخل له في التنجّس، فالتنجيس حقيقة هو غلبة النجاسة و زيادتها، و إن كان مظهره التغيّر المذكور، و حينئذ فلو كانت هذه النجاسة المسلوبة الأوصاف بلغت في الكثرة إلى حدّ يقطع بتغيّر الماء بها لو كانت ذات أوصاف، فقد حصل موجب التنجّس حقيقة الّذي هو غلبة النجاسة و زيادتها على الماء»(1).

ص: 85


1- الحدائق الناضرة 181:1.

و فيه: أنّ الأمر الواقعي النفس الأمري قد يستلزم المحسوسيّة لزوما مساويا، خصوصا التغيّر الّذي هو عبارة عن انتقال الشيء عن حالة إلى اخرى، فإذا انتفت المحسوسيّة كشف عن انتفاء ما هو ملزوم لها، فالتغيّر حينئذ معدوم صرف لا أنّه موجود و قد منع عن ظهوره مانع، فقوله: «فقد يمنع عن ظهوره مانع»، ليس بالقياس إلى مفروض المسألة في محلّه جدّا، كما أنّ قوله: «كما اعترفوا به فيما سيأتي ممّا إذا خالفت النجاسة الجاري في الأوصاف لكن منع من ظهورها مانع» ليس في محلّه إن أراد به مقايسة المقام عليه، كيف و أنّ أصل الحكم في المقيس عليه غير مسلّم إلاّ في بعض الفروض النادرة الّتي هي في الحقيقة خارجة عن محلّ البحث - كما سيأتي الكلام فيه مفصّلا - و على فرض تسليم ذلك فالفرق بين المقامين واضح كما بين السماء و الأرض، فإنّ عدم الظهور لوجود مانع غير عدم الظهور لفقد المقتضي؛ إذ الأوّل ربّما لا يكون منافيا لوجود أصل الموجود بحسب الواقع بخلاف الثاني لاستناد عدم الظهور فيه إلى عدم الوجود، فالسالبة فيه إنّما هي بانتفاء الموضوع و في الأوّل بمنع المانع الخارجي مع تحقّق الموضوع، فبطل بذلك قوله: «و المناط التغيّر في الواقع لا الحسّي و الفرق بين الموضعين لا يخلو عن خفاء».

و أمّا ما ذكره في نتيجة الوجه الثاني بقوله: «فالمنجّس حقيقة هو غلبة النجاسة و زيادتها إلخ».

ففيه: أنّا لا ندري أنّ هذا المناط من أيّ شيء حصل له و لمن تقدّمه، فهل هو بما أثبته الإجماع أو أعطاه النصّ أو أنّه استفيد بالاستنباط؟ و ظنّي أنّه و هم نشأ عن ورود التعبير في بعض روايات الباب بلفظ «الغلبة» مطلقة أو مضافة إلى عين النجاسة دون وصفها، كما في رواية شهاب المتضمّنة لقوله: «و كلّما غلب كثرة الماء فهو طاهر»(1)، و رواية أبي بصير المشتملة على قوله: «و إن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه»(2)، و الرواية المرسلة المشتملة على قوله: «إن كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا توضّأ

ص: 86


1- الوسائل 161:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 11 - بصائر الدرجات 13/258.
2- الوسائل 138:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 3 - الكافي 6/4:3.

منه، و إن كان الماء غالبا على النجاسة فتوضّأ منه، و اغتسل»(1).

و أنت خبير بأنّ التعويل على مجرّد ذلك ليس على ما ينبغي، مع إمكان حمله على غلبة الوصف على حدّ حذف المضاف، بقرينة سائر الروايات المصرّحة باعتبار الغلبة أو التغيّر في الوصف، كما في رواية الفقه الرضوي: «إلاّ أن يكون فيه الجيف فتغيّر لونه و طعمه و رائحته»(2)، و مرسلة مختلف العلاّمة: «إذا غلب رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه»(3)، و صدر رواية الشهاب: «إلاّ أن يغلب الماء الريح فينتن»(4)، و رواية العلاء بن الفضيل: «لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(5)، و هكذا إلى آخر الروايات المتقدّمة مع أنّ الاعتماد عليه كما ترى طرح لتلك النصوص أو الظواهر الكثيرة.

فإن قلت: إنّما يلزم ذلك لو كانت الروايات المذكورة منافية له و ليس كذلك، بعد ملاحظة كون اعتبار الأوصاف فيها واردا من باب الكاشفيّة دون المدخليّة.

قلنا: إنّما ينافي ذلك الجمل الشرطيّة الواردة فيها الظاهرة في العلّيّة و ارتباط الجزاء بالشرط ربطا مسبّبيّا بسببه التامّ كما قرّر في محلّه، و قضيّة ما ذكر حمل هذه على إرادة مجرّد الملازمة، كالّتي بين المتلازمين المتساويين أو المختلفين في العموم و الخصوص و هو كما ترى ممّا لا وجه له و لا داعي إليه أصلا، مع ما ذكرنا من احتمال اعتبار الإضمار فيما ذكر، و لا ينبغي لأحد أن يعارض ذلك باحتمال التجوّز في القضايا المذكورة.

أمّا أوّلا: فلأنّها أظهر في إفادة السببيّة بمراتب شتّى من ظهور ما ذكر في عدم الإضمار.

و أمّا ثانيا: فلصيرورة هذا الظاهر موهونا بقلّته في الغاية، و إعراض الأكثر الأشهر عنه فلا يعبأ به جدّا، و لا أنّه صالح للمعارضة، مع أنّ ظاهر سياق مجموع الروايات

ص: 87


1- نقله في مختلف الشيعة 177:1.
2- فقه الرضا: 91 ب 5 - مستدرك الوسائل 189:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 7.
3- مختلف الشيعة 178:1.
4- الوسائل 161:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 11 - بصائر الدرجات 13/258.
5- الوسائل 139:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 1311/415:1 - الاستبصار 53/22:1.

بملاحظة العرف يقضي بعدم اعتبار هذا الظاهر و اعتبار ما يقضي بسببيّة الأوصاف و إناطة الحكم بها من غير دخل فيه للغلبة أو الكثرة في الماء أو النجاسة، مضافا إلى ما قيل: «إنّ اعتبار هذه الصفات لو كان لكشفها عن الغلبة» - كما ادّعاه المستدلّ - لزم اعتبار غيرها من الصفات أيضا، لأنّها في الكشف عن الغلبة مثلها، فعلم أنّ المدار على خصوصيّة الصفات المعتبرة فيثبت الحكم بثبوتها.

تنبيه:

قال في المدارك - بعد ما وافقنا في المسألة السابقة -: «لو خالفت النجاسة الجاري في الصفات لكن منع من ظهورها مانع، كما لو وقع في الماء المتغيّر بطاهر أحمر دم مثلا فينبغي القطع بنجاسته لتحقّق التغيّر حقيقة، غاية الأمر أنّه مستور عن الحسّ، ثمّ قال: و قد نبّه على ذلك الشهيد رحمه اللّه في البيان. انتهى»(1).

و محكيّ عبارة البيان أنّه قال: «إنّ الماء إذا كان مشتملا على ما يمنع من ظهور التغيّر فحينئذ يكفي التقدير، لأنّ التغيّر هنا تحقيقي، غاية الأمر أنّه مستور عن الحسّ»(2).

و حكى نحوه عن المعالم(3)، و جامع المقاصد(4)، و عن المصابيح(5) أيضا، سيّما فيما لو كانتا الصفة الثابتة في الماء أصليّة، كما في المياه الزاجيّة و الكبريتيّة مدّعيا فيها القطع بالتنجّس، و في الحدائق: «أنّه ما قطع به متأخّر و الأصحاب من غير خلاف معروف في الباب»(6).

و يظهر من إطلاق ثاني الشهيدين في الحكم بعدم اعتبار التقدير خلاف ذلك حيث قال: «و المعتبر من التغيّر الحسّي لا التقديري»(7)، بل هو خيرة الرياض(8) حيث صرّح بعدم الفرق في عدم اعتبار التقدير بين حصول المانع ظهور التغيّر و عدمه، كما إذا توافق الماء و النجاسة في الصفات و عليه كافّة من عاصرناهم، و عن المحقّق الخوانساري(9)

ص: 88


1- مدارك الأحكام 30:1.
2- البيان: 98.
3- فقه المعالم: 47:1، حكاه عنه في جواهر الكلام 197:1.
4- جامع المقاصد 114:1.
5- مصابيح الأحكام في الفقه - كتاب الطهارة - ص 11 (مخطوط) - حكاه عنه في جواهر الكلام 197:1.
6- الحدائق الناضرة 184:1.
7- مسالك الافهام 14:1.
8- رياض المسائل 13:1.
9- مشارق الشموس: 203.

الفرق في صورة مانعيّة صفات الماء عن ظهور التغيّر بين كونها أصليّة كالمياه الزاجيّة و الكبريتيّة و بين كونها عارضيّة كالمصبوغ بطاهر، فيعتبر التقدير في الثاني دون الأوّل، فانقدح بذلك أنّ المسألة ذات أقوال ثلاث.

و تحقيق المقام: أنّ الماء إذا وافق النجاسة في الأوصاف لخلقة أو لعارض، فإمّا أن يكونا متساويين فيها بحسب المرتبة - على معنى كونهما باعتبار الوصف في درجة واحدة بأن لا يزيد الوصف في أحدهما عليه في الآخر - أو لا، و عليه فإمّا أن يكون وصف النجاسة أشدّ و أعظم من وصف الماء أو بالعكس، و الّذي يساعد عليه النظر أنّ شيئا من هذه الصور ممّا لا ينبغي الخلاف في حكمها من حيث الطهارة و النجاسة، نظرا إلى أنّ المتّجه في الاولى و الثالثة الحكم بالطهارة و في الثانية الحكم بالنجاسة.

أمّا في الصورة الاولى: فلأنّ التغيّر بحكم الحسّ و الوجدان ممّا لا يتأتّى فيما بين شيئين على نحو يكون أحدهما مغيّرا و الآخر متغيّرا إلاّ إذا كانا قابلين للفعل و الانفعال - أي التأثير و التأثّر - و لا يعقل ذلك إلاّ إذا كان لأحدهما مزيّة كاملة على صاحبه، على معنى اشتماله في حدّ ذاته أو لعارض على ما لا يشتمل عليه صاحبه ليكون من جهته صالحا للفعل و التأثير فيه، و معطيا إيّاه شيئا ممّا اشتمل عليه؛ ضرورة أنّ فاقد الشيء لا يعقل معطيا لذلك الشيء.

و إذا فرضنا الماء و النجس متساويين في مرتبة الوصف غير متفاوتين في الزيادة و النقيصة باعتبار ذلك الوصف فدخل أحدهما في الآخر و اختلط معه، فكيف يعقل التأثير و التأثّر فيما بينهما و تغيّر أحدهما عن صاحبه، مع أنّه لو صحّ ذلك فإمّا أن يكون من أحد الجانبين خاصّة أو من كليهما - بأن يكون كلّ مؤثّرا في الآخر و متأثّرا - و لا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل: فلأنّ ذلك التأثير إمّا أن يكون بإحداث زيادة في وصفه و إيراث شدّة له، أو بإيجاد ضعف و خفّة في وصفه، و الأوّل محال بالنظر إلى ما أشرنا إليه من أنّ الفاقد لا يصلح معطيا، كما أنّ الثاني ممّا لا يعقل إلاّ في المتخالفين من جهة الوصف كالأسود و الأبيض مثلا، فيؤثّر الأسود مثلا في الأبيض فيضعف به بياض الأبيض و المقام ليس منه، مع أنّ فرض التأثير من أحدهما دون الآخر مع فرض تساويهما من جميع الجهات

ص: 89

تجويز للترجّح بغير مرجّح، نظرا إلى أنّه لو صحّ الواحد المعيّن لذلك فصاحبه أيضا صالح له، مع أنّ ذلك ممّا يدفع ضرورة الحسّ و الوجدان و يقطع بديهة ما يشاهد بالعيان.

و إن شئت: فاستوضح ذلك بملاحظة اللبنين المتمازجين و مراعاة الأحمرين المتخالطين، فهل تجد لنفسك طريقا إلى دعوى تحقّق للفعل و الانفعال فيما بينهما أو أنّهما باقيين بعد الاختلاط و الامتزاج على ما كانا عليه قبلهما من البياض و الحمرة من دون طروّ شدّة في بياض أحدهما أو حمرته، و لا تطرّق خفّة إليهما في الآخر، غاية الأمر أنّهما لشدّة الامتزاج في أحدهما صارا كالمتّصل الواحد، على نحو كان كلّ جزء من كلّ باقيا على وصفه الأوّلي القائم به قبل الامتزاج.

و أمّا الثاني: فلأنّ تأثير كلّ في الآخر فرع لقابليّة المحلّ للتأثّر و هو باطل، لتشاغل كلّ قبل انعقاد جهة التأثير بما لو كان الآخر مؤثّرا فيه لكان هو أثره، مع أنّ حقيقة التأثير هنا ترجع إلى اكتساب الوصف بالمجاورة، و لا اكتساب إلاّ في موضع الحاجة و لا حاجة إلاّ للفاقد، مع أنّ تأثير كلّ في الآخر إمّا أن يكون بزيادة على ما فيه من الوصف أو بنقيصة عمّا كان فيه و لا سبيل إليهما.

أمّا الأوّل: فلأنّ تلك الزيادة إمّا أن تأتي من الخارج و المفروض خلافه، أو من قبل نفس المؤثّر و المفروض أنّه فاقد لها.

و أمّا الثاني: فلأنّ النقص في الوصف ممّا لا يتأتّى إلاّ باستيلاء الوصف المخالف، و لا مخالفة بينهما في الوصف على ما هو المفروض.

و بالجملة: حصول التغيّر في الصورة المفروضة بحسب الواقع على نحو يكون مستورا عن الحسّ ممّا لا يمكن تعقّله.

و أمّا في الصورة الثانية: فلأنّ قضيّة أشدّيّة وصف النجس بالقياس إلى وصف الماء أن يتأثّر به الماء لا محالة بحدوث زيادة ما في وصفه، إذ المفروض كون النجس بحسب المقدار بحيث لو لا المانع عن ظهور أثره لأثّر و ظهر الأثر، و لا ريب أنّ الزيادة لا مانع من حصولها لقابليّة المحلّ مع وجود المقتضي فوجب حصولها و هي مع ذلك محسوسة، و إن تعذّر امتيازها عن المزيد عليه، و لعلّ كلام أهل القول بالتنجّس ناظر إلى تلك الصورة، و إن كان ممّا لا يساعد عليه إطلاقهم، و لا يلائمه التصريح بأنّ التغيّر و إن

ص: 90

كان تحقيقيّا غير أنّه مستور عن الحسّ، فإنّ قضيّة الفرض كونه محسوسا أيضا، نعم إنّما يخفى على نظر الحسّ امتياز ما حصل عمّا كان، إلاّ أن يحمل كلامهم في دعوى المستوريّة على إرادة هذا المعنى، فلو تمّ هذا كلّه خرج أصل النزاع لفظيّا، إذ لا نظنّ أنّ القائلين بعدم التنجّس ينكرونه في تلك الصورة أيضا، و كأنّهم إنّما ينكرونه في الصورة المتقدّمة و إن كان لا يساعد عليه إطلاقهم أيضا، لكن لنا في أصل الحكم هنا بالنجاسة تأمّلا يأتي الإشارة إليه و إلى وجهه في ذيل المسألة.

و أمّا في الصورة الثالثة: فلأنّ قضيّة الفرض أن يؤثّر الماء في تطهير النجس، لأنّ التغيّر إنّما يحدث فيه بطروّ الزيادة في وصفه لا في الماء.

و بالجملة: نحن لا نعقل في تلك الصورة تغيّرا، بل الّذي نعقله أنّه ضعف بذلك من الماء تغيّره السابق، لا أنّه زيد على تغيّره السابق تغيّرا آخر، إلاّ أن يكتفى به في الحكم بالتنجّس، بدعوى: أنّ ما حصل من الضعف في وصف الماء نحو من التغيّر فيشمله إطلاق الأدلّة و عمومها، و هو كما ترى خروج عن السداد، و عدول عن قانون الاجتهاد، لكون الأدلّة ظاهرة كالنصّ في اعتبار الأمر الوجودي في عنوان «التغيّر» الّذي انيط به الحكم، كما هو معلوم للناظر المنصف، من غير إشارة فيها إلى اعتبار الأمر العدمي أيضا، كيف و أنّ زوال التغيّر في إيجابه التنجّس يعدّ من شرائط التطهير و مقدّماته فيكون لضعفه أيضا مدخليّة في ذلك، و معه كيف يعقل موجبا للتنجّس في موضع قيام الطهارة فليتدبّر.

فنتيجة الكلام أنّ تقدير التغيّر ممّا لا حكم له في الشريعة في شيء من صور المسألة، سواء كان في موضع موافقة النجس للماء في الصفات، أو في موضع موافقة الماء للنجس - بالأصل أو بالعارض - في صفات النجس، ما لم يحدث بسبب التداخل و الامتزاج زيادة في تغيّره السابق على ورود النجس عليه أو وروده على النجس، و معه يخرج الفرض عن قاعدة التقدير حسبما قرّروها.

و أمّا ما عرفته عن المشارق(1) من الفرق في صورة موافقة الماء للنجس في الصفات بين ما لو كانت الصفات أصليّة و ما لو كانت عارضيّة فلا نعقل وجهه، إلاّ أن

ص: 91


1- مشارق الشموس: 203.

يقال: بابتنائه على توهّم كون المقتضي لتنجّس الماء إنّما هو قابليّة النجاسة للتأثير فيه من حيث تغيير صفاته لا فعليّة التأثير خاصّة، و القابليّة إنّما تحصل لها في ماء يكون صفاته الأصليّة مخالفة لصفاتها، حتّى توجب تغيّرها و انقلابها إلى صفاتها، و قد حصلت هذه في فرض كون صفاته عارضيّة.

و محصّله يرجع إلى أنّ مخالفة الصفات الأصليّة للماء لصفات النجاسة شرط مقوّم للمؤثّر، مأخوذ في ماهيّته من حيث المؤثّرية، و الموافقة مانع عن التأثير فعلا لا أنّ عدمها مأخوذ في قوام المؤثّر، فمن هنا ينشأ الفرق بين الصورتين من حيث إنّ المفقود في إحداهما إنّما هو نفس المؤثّر و في الاخرى تأثيره الفعلي، و فقدان الأوّل ملزوم لفقد المقتضي للتنجّس و هو قابليّة التأثير؛ ضرورة أنّ ما لا يكون مؤثّرا تامّا لا يكون قابلا للتأثير، بخلاف فقدان الثاني فإنّه لا ينافي تحقّق القابليّة، و المفروض أنّها المقتضية للتنجّس دون ما زاد عليها.

و فيه: أنّ هذا المعنى إن اريد استفادته عن أخبار الباب أو كلام الأصحاب فلا شاهد عليه، و إلاّ فلا تعويل عليه.

و أمّا حجّة هذا القول - فعلى ما حكي - وجوه:

أحدها: أنّ التأثير المقدّر على النهج المذكور لا يكون إلاّ مع أثر للنجاسة صالح للتغيير لو فرض، و هذا الأثر ممّا يجب إزالته في تطهير الماء لو فرض تغيّره حسّا بنجاسة اخرى - كما يشهد به أخبار البئر - فهو مؤثّر للتنجيس أيضا.

و فيه: ما لا يخفى من التفكيك بين مقدّمتي الدليل و عدم ارتباط إحداهما بالاخرى، و مع ذلك نقول: إنّ الّذي يجب إزالته في تطهير الماء على فرض تغيّره حسّا بنجاسة اخرى إنّما هو أثر النجاسة الفعلي الحاصل في الماء، المعبّر عنه بالتغيّر، فذلك يكشف عن أنّ المؤثّر في تنجيسه أيضا أثرها الفعلي الحاصل فيه حسّا، دون ما هو صالح للحصول و لم يحصل فعلا، و إلاّ لفاتت الملازمة بين ما يجب إزالته و ما هو المؤثّر في التنجيس، و معه لا نتيجة للقياس، و كون تقدير التأثير عند القائلين بالتقدير دائرا مدار أثر النجاسة صالح للتغيير لو فرض لا يقضي بكون المؤثّر في التنجيس هو الأثر الصالح للتغيير، إلاّ إذا ثبت اعتبار التقدير في الشريعة كيف و لم يثبت، هذا مع ما يظهر

ص: 92

من الأدلّة أنّ المؤثّر في التنجيس إنّما هو حصول الأثر فعلا لا كونه صالحا للحصول.

و مع الغضّ عن جميع ذلك، فقد يتوجّه المنع إلى الفرق بين ما لو كان المانع عن حصول الأثر فعلا هو الصفات الأصليّة للماء أو الصفات العارضيّة، فإنّ الصفات الأصليّة إنّما هي أصليّة من جهة أنّها ليست من طواري الشخص، و إلاّ فهي بالنظر إلى الماهيّة النوعيّة عارضيّة أيضا، فوجب اعتبار التقدير بالإضافة إليها أيضا و الفارق لا يصلح للفرق.

و ثانيها: أنّه لو زالت الصفة أوّلا بالنجاسة ثمّ ورد عليه الطاهر المغيّر لو لا سبق النجاسة فلا إشكال في النجاسة فكذلك العكس، لأنّا نعلم أنّ زوالها بالطاهر أوّلا لا يوجب قوّة للماء، لو لم يوجب ضعفا.

و فيه: أنّا لا ندري أنّ ذلك - مع أنّه قياس - بأيّ جامع يتمّ و بأيّ طريق يستقيم، و هو مع ذلك يقتضي ما يضادّ المطلوب، إذ كما أنّ ورود الطاهر عليه في المقيس عليه الّذي من شأنه التغيير لو لا سبق النجاسة لا يؤثّر في زوال النجاسة الحاصلة بزوال الصفة الأصليّة بالنجاسة، فكذلك يجب أن لا يكون ورود النجاسة الّتي من شأنها التغيير لو لا سبق طاهر عليها مؤثّرا في زوال الطهارة الأصليّة الثابتة للماء، بل هو أولى بعدم التأثير؛ لوضوح الفرق بين ما كان أصليّا و ما كان عارضيّا.

و دعوى العلم بأنّ زوال الصفة بالطاهر أوّلا لا يوجب قوّة للماء مسلّمة، و لكنّه يوجب قيام ما يزاحم النجاسة الواردة في اقتضائها التنجّس من جهة إناطة تأثيرها فيه بإيراث وصفها في الماء، فبذلك يظهر الفرق بين المقيس و المقيس عليه، فإنّ النجاسة في الثاني صادفت محلاّ فارغا عمّا يزاحمها في التأثير، و ورود الطاهر عقيبها ليس ممّا يترتّب عليه أثر بعد ما أثّرت النجاسة أثرها، بخلاف الأوّل فإنّها إنّما صادفت محلاّ مشغولا بما يزاحمها في إيراث ما عليه مدار تأثيرها في التنجّس حسبما اقتضته الدلالة الشرعيّة.

و ثالثها: أنّه لو القي في الماء طاهر و نجس بحيث استند تغيّره إليهما معا، و كان النجس بنفسه صالحا للتغيير فهذا الماء نجس قطعا، و لا وجه لذلك إلاّ وقوع ما هو صالح لتغييره.

و فيه أوّلا: بطلان دعوى القطع بالنجاسة في الصورة المفروضة، و منع تأثير النجاسة في التنجّس ما لم تكن علّة تامّة للتغيّر كما سبق وجهه في الفرع الأوّل. و ثانيا:

ص: 93

منع كون الموجب للنجاسة في الصورة المفروضة مجرّد وقوع ما يصلح للتغيير، بل هو مع التأثير فيه في الجملة و لو بعنوان الجزئيّة، و لا ريب أنّ هذا المعنى ليس بموجود في مفروض المسألة و إلاّ ارتفع النزاع بالمرّة.

و رابعها: أنّه لو فرض وقوع نجاسة مغيّرة إلى صفة، ثمّ وقوع نجاسة مغيّرة عنها إلى اخرى فالماء نجس يقينا، و لا وجه لمنع كون التغيّر الثاني غير مندرج في التغيّر المعتبر الواجب إزالته في التطهير، و المفروض أنّ النجاسة الثانية لم تغيّر صفة الماء المذكور في النصّ و الفتوى، و لذا لا يكفي إعادة الصفة لو فرض إمكانها، فتعيّن اعتبار الصفة الذاتيّة للماء و تقدير وقوع النجاسة حال وجودها إن وردت حال زوالها، و جعل توارد المغيّر بمنزلة توارد الناقض، فإذا توارد طاهر و نجس أثّر النجس أثره و هو المطلوب.

و فيه: ما لا يخفى من الخلط بين المسألتين، و اشتباه موضوع إحداهما بموضوع الاخرى، فإنّ وجوب التطهير حكم آخر غير ما نحن بصدده، و موضوعه إنّما هو وجود أثر النجاسة في الماء من غير فرق بين كونه هو الرافع لصفة الماء أو رافعا الرافع صفته، و لا بين كونه هو الموجب لتنجّس الماء أو أنّ الموجب غيره، و هو وارد عليه على سبيل التعاقب مصادف محلاّ غير قابل للتنجّس ثانيا - بناء على أنّ النجس لا ينجّس ثانيا - فلا يلزم من كون إزالة الصفة الثانية معتبرة في التطهير كونها هي المغيّرة لصفة الماء، و لا كونها هي المقتضية لتنجّسه، بل اعتبار إزالتها إنّما هو من جهة أنّ عدمها مأخوذ في التطهير، و وجودها مانع عن حصول أثره و هو الطهارة.

و إن شئت: فلاحظ نظائر الفرض، فإنّها كثيرة جدّا.

منها: ما لو أحدث المتطهّر و نقض طهارته بحدث كالبول مثلا، ثمّ صيّر نفسه سكران بشرب الخمر و نحوه، فإنّه حينئذ لو أخذ بالوضوء و هو سكران لا ينفعه ذلك و لو كرّره بألف مرّة، بل يعتبر في حصول الطهارة حينئذ زوال حالة السكر عنه جزما، و ليس ذلك إلاّ من جهة أنّ وجود السكر كما أنّه رافع للطهارة فيما لو لم يسبقه رافع آخر، فكذلك مانع عن حصولها.

و الوجه في ذلك: أنّ ما اعتبر كونه ناقضا للطهارة الحدثيّة بل الخبثيّة أيضا ليس إلاّ من جهة أنّه في حدّ ذاته معاند لها.

ص: 94

و من البيّن أنّ المعاند للشيء كما أنّه يعانده في بقائه فيكون رافعا له، فكذلك يعانده في حدوثه فيكون دافعا، فنواقض الوضوء بأجمعها قد يلحقها وصف الرفع و قد يلحقها وصف الدفع، و كذلك الأسباب الموجبة لتنجّس الماء و غيره من الأشياء الطاهرة، فإنّها قد تكون رافعة للطهارة و قد تكون دافعة عنها، و ليس ذلك إلاّ من جهة ما فيها من منافاتها الطهارة بقاء و حدوثا.

و قضيّة ذلك كون زوال صفة النجاسة عن الماء شرطا في تطهيره، سواء كانت نجاسته مستندة إلى تلك الصفة الموجودة أو إلى غيرها ممّا هي واردة عليه قائمة مقامه على وجه البدليّة، و لا يتولّد من تلك ما ينافي مدّعانا من أنّ المعتبر في تنجيس الماء إنّما هو وجود أثر النجاسة فيه فعلا، و لا يكفي فيه قابليّة الوجود، كما لا يلزم منه كون كلّ أثر موجود فعلا لا بدّ و أن يكون موجبا للتنجّس.

و بالجملة: ما فرضه رحمه اللّه تعالى في إثبات مطلوبه لا ربط له بالمقام أصلا، و لا أنّه معارض لمفروض المسألة، و لا مقابل له و لا شبيه به.

نعم، له مناسبة ما فيما لو قلنا بعدم التنجّس إذا وقع في الماء طاهر مغيّر له إلى صفة، ثمّ وقع نجس مغيّر له عن تلك الصفة إلى صفة اخرى و هو كما ترى ممّا لا نقول فيه بعدم التنجّس، و لا أنّه قال به أحد ممّن يحفظ عنه العلم، لتحقّق ما هو مناط التنجّس فيه، و هو حصول أثر النجاسة في الماء فعلا و تغيّره به من صفة إلى اخرى، إذ لم يعتبر في التغيّر الموجب لتنجّس الماء كونه حاصلا في صفاته الأصليّة، بل يكفي فيه لو كان حاصلا في الصفات العارضيّة أيضا، غير أنّ ذلك ممّا لا مدخل له في محلّ البحث أصلا، بل و لو قلنا فيه بعدم التنجّس لما كان فيه بعد إذا ساعدنا عليه القواعد، كأن يقال:

بأنّ الصفة المضافة إلى الماء الّتي تغيّرها النجاسة في تعليق الحكم بالتنجّس عليه ظاهرة في الصفة الأصليّة، كما يعترف به المستدلّ بعد ذلك في ثامن أدلّته فلا يشملها أدلّة الباب، و غايته الشكّ في الشمول فيرجع معه إلى الاصول المقتضية للطهارة و عدم النجاسة.

و خامسها: أنّه لو تغيّر الماء بطاهر أحمر، ثمّ بالدم ثمّ صفا الماء عن حمرة الطاهر فظهر لون الدم، فإنّ الماء نجس قطعا، و لا وجه له إلاّ ما قلنا، لعدم بقاء عين النجاسة حين ظهور صفتها، و عدم تجدّد تأثيرها في الماء، فيلزم الحكم بتنجيسها من حين وقوعها.

ص: 95

و فيه: منع اعتبار قيام الأثر المؤثّر في التنجّس في تأثيره بعين النجاسة حين التأثير، بل المعتبر حصوله فعلا مع استناده إلى عين النجاسة الواقعة في الماء، سواء بقيت معه حين تأثيره في التنجّس أم زالت.

و إن شئت فقل: إنّ ما يستفاد من أدلّة الباب هو أنّ المؤثّر في نجاسة الماء ليس هو عين النجاسة و لو عارية عن أثرها، و لا أثرها كيفما اتّفق حتّى بالمجاورة، بل هو العين بشرط كونها مستتبعة لأثرها في الماء حسّا، أو هو الأثر بشرط استناده إلى وقوع العين فيه، و أمّا اشتراط بقائها حين تأثير ذلك الأثر أثره فلم يقم عليه من الشرع دلالة، فينفي احتماله بإطلاق الأدلّة المعطية إيّاه كونه مؤثّرا.

و سادسها: أنّه لو القي في الماء طاهر أحمر حتّى استعدّ لأن يحمرّ بقليل من الدم، فالقي فيه فتغيّر، فلا سبيل إلى الحكم بنجاسته كما هو ظاهر، فعلم أنّ الملحوظ في نظر الشارع حال الماء قبل حدوث الطواري، فلا عبرة بتغيّره بإعداد الطوارئ و لا بعدمه لمنعها.

و فيه: أنّ هذا الفرض داخل في جزئيّات ما فرضناه في الفرع الأوّل، لأنّ مرجعه إلى فرض كون الحمرة الناشئة من الدم جزء لعلّة التنجّس، غايته أنّه هنا جزء أخير منها، و قد تبيّن حكمه من حيث عدم إيجابه الحكم بنجاسة الماء معه، و لكنّه لا يكشف عمّا ذكر في متن الدليل، بل غايته الكشف عن كون العبرة في الموجب لتنجّس الماء في نظر الشارع بما لو كانت النجاسة علّة تامّة للتغيّر، و لا يكفي فيه كونه جزءا للعلّة، و لا يلزم من ذلك أن لا يكون في نظره عبرة بعدم الطواري، نظرا إلى أنّه لولاه كانت الطواري مانعة عن تأثّر الماء و انفعاله.

و سابعها: أنّه كما استفيد من مجموع أخبار الباب اعتبار الصفات الثلاث، كذلك المحصّل منها بعد الجمع بينها أنّ المعتبر في طهارة الماء غلبته على النجاسة و قهره لصفاتها، بحيث لا يوجد شيء منها في الماء على وجه يصلح لتغييره أصلا.

و فيه: أوّلا منع استفادة هذا المعنى من الأخبار، بل الّذي يستفاد منها بعد الجمع و إعمال القواعد - كما تقدّم - هو كون العبرة في التنجيس بغلبة صفة النجاسة على صفة الماء إذا كانت من الثلاث المذكورة.

و ثانيا: منع الملازمة بين المغيّر للماء أو ما هو صالح للتغيير و بين كونه غالبا على

ص: 96

الماء إن اريد به الغلبة بحسب الكمّ و المقدار.

نعم، إن اريد به الغلبة بحسب الكيف فاستفادة اعتبارها من الأخبار مسلّمة، و لكنّه ينافي ظاهر الدليل و ما هو غرض المستدلّ، لرجوعه إلى مختارنا من كون العبرة في التنجيس بوجود الصفة فعلا؛ إذ لا معنى للغلبة بدونه و شأنيّة الغلبة ليست من الغلبة في شيء، فإنّ أحكام الشرع واردة على الموضوعات المحقّقة، و لا ريب أنّ فرض التحقّق لا يحقّق الموضوع، و لا يجدي نفعا في ترتّب الحكم عليه ما لم يتحقّق هو بنفسه في الخارج، فتدبّر حتّى لا يختلط عليك الأمر فيما ذكرنا و ما هو المقرّر في محلّه من تعلّق أحكام الشرع بالطبائع من حيث هي دون أفرادها الموجودة في الخارج، إذ لا منافاة بين الكلامين كما يظهر بالتأمّل.

و توضيحه: أنّ حكم السببيّة للتنجيس إنّما تعلّق بماهيّة الغلبة و مفهومها مع قطع النظر عن أفرادها الخارجيّة، و هي ظاهرة في الفعليّة دون ما يعمّها و الشأنيّة، فأفرادها الموجودة في الخارج الّتي يترتّب عليها النجاسة فعلا، إنّما هي الصفات الحاصلة من النجاسة في الماء فعلا، و لا يندرج فيها ما هو صالح للحصول و لم يحصل بعد، ففرض الحصول في حقّه لا يصلح محقّقا للحصول، حتّى يندرج المفروض في أفراد ما هو موضوع الحكم.

و ثامنها: أنّه كما لا يعتبر في النجاسة إلاّ صفاتها الأصليّة المستندة إليها لا صفاتها العارضيّة المستندة إلى غيرها و إن كانت هي الموجودة بالفعل، فلا تكون معتبرة في صفات الماء أيضا، لدلالة الإضافة على اعتبار الحيثيّة في الموضعين.

و فيه: أنّ مفاد هذا الدليل شيء لا يرتبط بالمبحوث عنه أصلا، فإنّ أقصى ما يدلّ عليه أنّ النجاسة لو غيّرت من الماء صفاته العارضيّة المستندة إلى الخارج لا تكون مؤثّرة في انفعاله، لدلالة إضافة الصفة - المعتبر تغيّرها - إلى الماء على الصفة الأصليّة، كما أنّ الظاهر من الصفة المضافة إلى النجاسة - المعتبر كونها مغيّرة - الصفة الأصليّة، فلو استند التغيير إلى صفتها العارضيّة كما لو القي شيء من الزعفران في البول الصافي، فالقي البول في الماء فأثّر فيه بإيراثه الصفرة فيه لا يكون موجبا للانفعال، و كلّ من ذلك كما ترى مطلب آخر خارج عن المسألة، و قد تعرّضنا لبعضه سابقا، و لعلّنا نتعرّض له و لغيره تفصيلا فيما بعد ذلك عن قريب إن شاء اللّه، فبناء المسألة على اعتبار الصفات الأصليّة و استظهار

ص: 97

ذلك عن أخبار الباب لا يجدي نفعا في مطلوبه، بعد ملاحظة ما استظهرناه منها من كون العبرة في حكم نجاسة الماء بتأثّره فعلا عن النجاسة المفقود في موضع البحث.

و لنختم المقام بإيراد فروع:
الأوّل: بناء على وجوب التقدير، إن علم في الوصف المسلوب عن النجاسة بحالته الخاصّة الّتي سلب على تلك الحالة من الأشدّيّة و الأضعفيّة و ما يتوسّط بينهما

تعيّن تقديره على تلك الحالة، فيرتّب عليه الحكم كائنا ما كان، و إلاّ ففي وجوب اعتبار الأشدّ رعاية لجانب الاحتياط أو الأوسط أخذا بالغالب، أو الأضعف ترجيحا لجانب الأصل المقتضي للطهارة وجوه:

أوّلها: ما نسب إلى ظاهر العلاّمة و الشهيد في نهاية الإحكام(1) و الذكرى(2).

و ثانيها: ما استظهره في الحدائق(3) و جامع المقاصد(4) على ما في عبارة محكيّة عنه، و حكي عن بعض المتأخّرين أيضا.

و ثالثها: ما حكي(5) احتماله عن بعض متأخّري المتأخّرين، و يظهر الفائدة في قلّة ما يقدّر له الوصف من النجاسة و كثرته.

و لا يبعد ترجيح الأخير عملا بالاصول - اجتهاديّة و فقاهيّة - السليمة عمّا يصلح للمعارضة، نظرا إلى أنّ الاحتياط ليس في محلّه، و أنّ الغلبة لا عبرة بها هنا لكونها ظنّا في الموضوع الصرف.

الثاني: عن المحقّق الثاني: «و هل يعتبر أوصاف الماء وسطا؟

نظرا إلى شدّة اختلافها كالعذوبة و الملوحة، و الرقّة و الغلظة، و الصفاء و الكدورة فيه احتمال و لا يبعد اعتبارها؛ لأنّ له أثرا بيّنا في قبول التغيّر و عدمه»(6).

و عن المعالم - أنّه بعد ما نقل ما ذكره المحقّق المذكور - احتماله «حيث لا يكون

ص: 98


1- نهاية الإحكام 229:1 حيث قال: «و يعتبر ما هو الأحوط الخ» حكاه أيضا عنه في الحدائق الناضرة 158:1.
2- ذكرى الشيعة 76:1.
3- الحدائق الناضرة 185:1.
4- جامع المقاصد 115:1.
5- حكاه في الحدائق الناضرة 185:1.
6- جامع المقاصد 115:1.

الماء على الوصف القويّ، إذ لا معنى لتقديره حينئذ بما دونه»(1)، و عن بعضهم(2) أنّه استشكله بما إذا لم يكن خارجا عن أوصافه الأصليّة، و استظهر في الجواهر من الباقين عدمه، و اختاره قائلا: «و هو أولى سيّما إذا كان الماء على صفة معلومة، إذ لا معنى لفرض عدمها لعدم المانع في اختلاف المياه في الانفعال و إن كانت فردا نادرا».

ثمّ قال: «و لعلّه من ذلك ينقدح الفرق في الماء الموافق للنجاسة في الصفة بين الصفة الأصليّة و العارضيّة، فيقدّر في الثانية دون الاولى. فتأمّل»(3).

الثالث: على المختار من عدم اعتبار التقدير إن بلغ النجاسة حدّا استهلك معه الماء

فلا إشكال في النجاسة، و إن لم يستهلك فإن لم يسلبه معه إطلاق الاسم فلا إشكال في الطهارة للأصل و الاستصحاب، و إن سلبه معه الإطلاق و لم يدخل تحت الاسم فعدم كونه مطهّرا ممّا لا إشكال فيه؛ لانتفاء المائيّة حينئذ، و في كونه طاهرا وجه رجّحه في الرياض(4) استنادا إلى الأصل السالم عن المعارض، لتعارض الاستصحابين من الجانبين، و كأنّ مراده بالأصل أصالة الإباحة المقتضية لجواز الاستعمال فيما لا يجوز فيه استعمال النجس من أكل أو شرب أو نحوه، و بالاستصحابين استصحاب طهارة الماء و استصحاب نجاسة الخليط، و قد يقرّر الأصل بأصالة الطهارة و الاستصحابين بأصالة عدم ذهاب الإطلاق مع أصالة عدم ذهاب اسم الخليط، فإنّ كلاّ من الذهابين أمر حادث، و الأصل يقتضي تأخّر كلّ منهما عن الآخر، فيبقى أصل الطهارة سليما، إلاّ إذا كان المغيّر للماء من الأجسام الّتي علم بقاؤها بعد زوال الإطلاقيّة، فإنّ المتّجه حينئذ الحكم بالنجاسة.

الرابع: هل المعتبر في صفات الماء الّتي يغيّرها النجاسة الصفات الأصليّة؟

فلو غيّرت ما كان وصفا عارضا له حتّى عاد إلى وصفه الأصلي أو وصف ثالث لم ينجّس؟ أو لا عبرة بأصليّة الصفات فينجّس الماء بالتغيّر مطلقا؟ احتمالان: أقواهما الأوّل؛ لظهور الإضافة الواردة في الأخبار في الاختصاص، بل ظهور ألفاظ الصفات الواردة

ص: 99


1- فقه المعالم 148:1.
2- حكاه في الحدائق الناضرة 185:1.
3- جواهر الكلام 202:1.
4- رياض المسائل 13:1.

فيها في الصفات الأصليّة، فإنّ الحكم معلّق على لون الماء و طعمه و رائحته، و لا شيء من الصفات العارضيّة بلون الماء و لا طعمه و لا رائحته، فلا يشمله إطلاق الأدلّة و لا عمومها، و أقلّه الشكّ في الشمول فيرجع إلى الاصول، ففي مقام التطهير يحكم بعدم المطهّريّة لاستصحاب الحالة السابقة من حدث أو خبث، و في مقام الاستعمال في مشروط بالطهارة يحكم بها استصحابا لها، و الأقوى عدم الفرق فيه بين الحكم بكونه مطهّرا أو طاهرا، للأصل المستفاد من العمومات حسبما تقدّم، فإنّ كلاّ من الأمرين يدوران على المائيّة و النجاسة إن كانت مانعة، و حيث لم تكن يرتّب عليه أحكام الماء مطلقة، لصدق الاسم و عدم قيام المانع.

الخامس: بما قرّرناه من الفرع يعلم الحال فيما لو لم يكن النجاسة باقية على وصفها الأصلي،

و كان التغيير القائم بها مستندا إلى وصفها العارضي، كما لو القي فيها و هو بول صافي شيء من الزعفران، فإذا القيت في الماء أورثت فيه لون الزعفران أو رائحته و هي باقية على اسم البول، فقضيّة الأصل المذكور بقاؤه على كونه طاهرا و مطهّرا، مع اعتضاده في الأوّل باستصحاب الحالة السابقة.

السادس: إذ قد عرفت أنّ المعتبر في تنجيس الماء تغيّر وصفه المستند إلى وصف النجاسة الواقعة لا مطلقا،

ففي كون المعتبر في تأثير وصف النجاسة فيه وجود العين و بقاؤها حين تأثير الوصف و عدمه وجهان؛ لعدم ثبوت اشتراط وجود العين حين تأثير الوصف بدلالة الشرع عليه، فالأصل يقتضي عدم الشرطيّة؛ و لأنّ احتمال الاشتراط محقّق لموضوع أصل الطهارة، و موجب للشكّ في اندراج المقام في أدلّة الباب و لازمه الرجوع إلى الاصول، نظرا إلى أنّه لم يعلم من تلك الأدلّة إطلاق بحيث أوجب شمولها المقام و هذا أقرب، و اللّه العالم.

السابع: إذا كانت النجاسة في صورة موافقة الماء لها في الصفات أشدّ وصفا من الماء،

بحيث لو القيت فيه لأوجبت زيادة في وصفه الأوّلي العارضي، ففي كون ذلك من التغيّر المقتضي لنجاسة الماء و عدمه وجهان، منشؤهما الشكّ في أنّ حدوث الزيادة في الوصف العارضي للماء هل هو تغيّر له في وصفه الأصلي حتّى يندرج في أدلّة المسألة، أو تغيّر في وصفه العارضي حتّى يخرج عن تلك الأدلّة بضابطة ما قدّمنا ذكره.

ص: 100

الثامن: لو تغيّر الماء في أحد أوصافه بطاهر لم يخرج عن حكمه الأصلي

من الطهارة و المطهّريّة ما دام باقيا على إطلاق اسم المائيّة، دون ما إذا خرج عن الإطلاق، فإنّه حينئذ و إن كان طاهرا ما لم يصبه ما أوجب تنجّسه، إلاّ أنّه خرج عن حكم المطهّريّة، و كلّ ذلك في مرتبة الوضوح بحيث لا يحتاج إلى الاحتجاج، و عن المحقّق في المعتبر تصريح بما ذكرناه في قوله - المحكيّ -: «لو مازج المطلق طاهر فغيّر أحد أوصافه لم يخرج بالتغيير عن التطهير ما لم يسلبه إطلاق اسم الماء، سواء كان ممّا لا ينفكّ عنه الماء كالتراب و الطحلب و الكبريت و ورق الشجر، أو ممّا ينفكّ كالدقيق و السويق، أو من المائعات كاللبن و ماء الورد و الأدهان كالبرز و الزيت، أو ممّا يجاوره و لا يشيع فيه كالعود و المسك؛ لأنّ جواز التطهير منوط بالمائيّة و هي موجودة فيه؛ و لأنّ أسقية الصحابة الأدم و هي لا تنفكّ عن الدباغ المغيّر للماء غالبا و لم يمنع منها؛ و لأنّ الماء لرطوبته و لطافته ينفعل بالكيفيّات الملائمة، فلو خرج بتغيّر أحد الأوصاف عن التطهير لعسرت الطهارة؛ و لأنّه لا يكاد ينفكّ عن التكيّف برائحة الإناء»(1)، و يقرب من ذلك ما ذكره غير واحد من الأصحاب، منهم الشهيد في الذكرى(2).

و على قياس ما ذكرناه ما لو تغيّر الماء من قبل نفسه لطول مدّة مكثه فإنّه إن بقي على إطلاق اسمه عليه كان طاهرا مطهّرا، و إلاّ خرج عن المطهّريّة، و عن المعتبر(3) أيضا التصريح به، مع تصريحه بكراهة استعماله إن وجد غيره، مستندا في ذلك إلى رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الماء الآجن يتوضّأ منه، إلاّ أن تجد [ماء] غيره»(4)؛ و لأنّه يستخبث طبعا فكان اجتنابه أنسب بحال المتطهّر، و في منتهى العلاّمة(5) ما يقرب من ذلك فتوى و حجّة، إلاّ أنّه أضاف إلى الرواية المذكورة ما رواه الجمهور «أنّه عليه السّلام توضّأ من بئر بضاعة و كان ماؤها نقاعة الحنّاء»(6).

ص: 101


1- المعتبر: 8.
2- ذكرى الشيعة 75:1.
3- المعتبر: 8.
4- الوسائل 138:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 2 - الكافي 6/4:3 - التهذيب 1286/408:1.
5- منتهى المطلب 23:1.
6- المغني لابن قدّامة 42:1 - سنن النسائي 174:1.

ينبوع [في نوع الماء بما هو هو من دون نظر إلى أقسامه الخاصّة المندرجة تحته]

اشارة

ما عرفت من البحث في العنوانين المتقدّمين بحث يلحق نوع الماء بما هو هو من دون نظر إلى أقسامه الخاصّة المندرجة تحته، فأحدهما: ما لحقه باعتبار خلقته الأصليّة من حيث إنّ خلقته هل هي على وصف الطهارة أو لا؟.

و ثانيهما: ما لحقه باعتبار الطوارئ اللاحقة به من حيث قبوله من جهتها النجاسة و عدمه، و قد عرفت ما هو التحقيق في كلا المقامين.

ثمّ، إنّ هاهنا عناوين اخر مخصوصا كلّ واحد منها بقسم خاصّ من أقسامه المتقدّم إليها الإشارة في الجملة، و من جملة تلك العناوين ما هو مخصوص بالكثير الراكد في مقابلة القليل، و البحث في هذا العنوان يلحقه من جهات:

الجهة الاولى: [في تقدير الكثير]

اختلف العلماء من الخاصّة و العامّة في تقدير الكثير الّذي لا يقبل الانفعال بمجرّد ملاقاة النجاسة، ففي منتهى العلاّمة(1) عن الشافعي و أحمد أنّهما ذهبا إلى تقديره بالقلّتين(2)، احتجاجا بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا»(3).

و عن أبي حنيفة(4): «إن كان الماء يصل بعضه إلى بعض نجس بحصول النجاسة فيه و إلاّ فلا، و اختلف أصحابه في تفسير هذا الكلام، فعن أبي يوسف و الطحاوي تفسيره بحركة أحد الجانبين عند حركة الآخر و عدمها(5)، فالموضع الّذي لم يبلغ التحرّك إليه لا ينجّس.

ص: 102


1- منتهى المطلب 33:1.
2- أحكام القرآن - للجصّاص - 341:3، المغني لابن قدّامة 52:1، بداية المجتهد 24:1، التفسير الكبير 94:24، مغني المحتاج 21:1، تفسير القرطبي 42:13، سنن الترمذي 98:1-99.
3- سنن الترمذي 67/97:1 - سنن النسائي 175:1 - سنن الدارقطني 7/16:1.
4- بداية المجتهد 13:1، سبل السلام 20:1.
5- تفسير القرطبي 42:13.

و عن بعضهم(1) تفسيره: بأنّ ما كان كلّ من طوله و عرضه عشرة أذرع في عمق بئر لا ينجّس، فإن كان أقلّ نجس بالملاقاة للنجاسة، و إن بلغ ألف قلّة.

و عن المتأخّرين من أصحابه(2) القول بأنّ الاعتبار بحصول النجاسة علما أو ظنّا، و الحركة اعتبرت للظنّ، فإن غلب ظنّ الخلاف حكم بالطهارة.

و عن الشيخين(3) من أصحابنا و السيّد المرتضى(4) و أتباعهم الذهاب إلى التقدير بالكرّ، و عزاه إلى الحسن بن صالح بن حيّ عن محكي الطحاوي(5) و(6)، و لعلّه لا خلاف في ذلك بين أصحابنا، فهو الحقّ لوضوح فساد غيره ممّا ذكر، مضافا إلى قيام أدلّة محكمة من الأخبار و غيرها على تقديره بالكرّ.

و من جملة ذلك ما احتجّ به العلاّمة في المنتهى قائلا: «لنا: ما رواه الجمهور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(7)، و في رواية «لم يحمل خبثا»(8)و من طريق الخاصّة ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(9)، و لأنّ الأصل الطهارة خرج ما دون الكرّ

ص: 103


1- شرح فتح القدير 71:1، 70 - بدائع الصنائع 71:1، 73 - عمدة القاري 159:3، المبسوط للسرخي 71:1، سبل السلام 17:1.
2- أحكام القرآن - للجصّاص - 340:3، التفسير الكبير 94:24.
3- المفيد في المقنعة: 8 و الطوسي في المبسوط 6:1.
4- الجمل و العلم (رسائل الشريف المرتضى 22:1) - الانتصار: 8.
5- هو: أبو جعفر أحمد بن محمّد بن سلامة الأزديّ الحجريّ المصريّ الطحاويّ، شيخ الحنفيّة، روى عن هارون بن سعيد الأيلي و عبد الغني بن رفاعة و طائفة من أصحاب ابن عينية، و روى عنه أحمد بن القاسم الخشّاب و الطبراني، له تصانيف كثيرة، ولد سنة 237 ه و مات سنة 321 ه تذكرة الحفّاظ 808:3؛ - شذرات الذهب 288:2 -؛ وفيات الأعيان 71:1.
6- لم نعثر على حكاية الطحاوي فيما بأيدينا من المصادر، و نقل السيد المرتضى في الانتصار: 8 هذا القول من الكتاب الطحاوي الموسوم ب «اختلاف الفقهاء».
7- الفائق 258:3، غريب الحديث - للهروي - 338:1.
8- سنن الترمذي 97:1 ح 67 - سنن النسائي 46:1، سنن أبي داود 17:1 ح 63 - سنن البيهقي 261:1 - مسند أحمد 12:2 - سنن الدارقطني 14:1-15 ح 2-3.
9- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2 - رواه في التهذيب 109/40:1 بسند آخر - الاستبصار 2/6:1.

بما نذكره فيبقى الباقي على الأصل، إلى أن يظهر مناف»(1) انتهى.

و إن كان هذا الوجه الأخير لا يخلو عن مناقشة من جهة أنّه بانفراده لا يصلح دليلا على أنّ الكثير الّذي لا ينفعل بالملاقاة هو الكرّ، إلاّ بضميمة الأخبار الفارقة بين الكرّ و ما دونه، و معه يرجع الحجّة إلى الوجه السابق، فلا يكون دليلا على حدّة كما لا يخفى.

نعم، لو كان ما دلّ الأخبار على انفعاله بها مبيّنا، و قدرا معيّنا بنفس تلك الأخبار فشكّ في حكم ما زاد عليه اتّجه الرجوع إلى الأصل، و لكنّ المقام ليس منه، لأنّ تعيين ما علم بانفعاله منوط بتعيين ما لا ينفعل، و لا يتأتّى ذلك إلاّ بالأخبار الفارقة، و كيف كان فتحديد الكثير بما ذكر قد ورد - مضافا إلى ما تقدّم - في أخبار كثيرة قريبة من حدّ التواتر.

منها: ما رواه الشيخ في التهذيب في باب آداب الأحداث، و في الاستبصار في باب القدر الّذي لا ينجّسه شيء، في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّه سئل عن الماء تبول فيه الدوابّ، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل منه الجنب؟ قال عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء».(2)

و منها: نظيره في الكافي في باب الماء الّذي لا ينجّسه شيء، عن محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الماء الّذي تبول فيه الدوابّ»(3) الخ.

و منها: ما رواه الشيخ في التهذيب في زيادات باب المياه، في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه، قال: قلت له: الغدير ماء مجتمع تبول فيه الدوابّ و تلغ فيه الكلاب و يغتسل فيه الجنب، قال عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء و الكرّ ستّمائة رطل»(4).

و منها: ما رواه في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا كان الماء في الركي كرّا لم ينجّسه شيء، قلت: و كم الكرّ؟ قال: ثلاثة أشبار و نصف عمقها في ثلاث أشبار و نصف عرضها»(5).

ص: 104


1- منتهى المطلب 34:1.
2- - الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 107/39:1 و 651/226 الاستبصار 1/6:1 و 45/20.
3- الكافي 2/2:1.
4- الوسائل 159:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 1308/414:1 - الاستبصار 17/11:1.
5- الوسائل 160:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 8 - الكافي 4/2:3.

و هذه الرواية و إن كانت ضعيفة بالحسن بن صالح الثوري إلاّ أنّها في حكم الصحيح بوجود ابن محبوب في سندها، الّذي هو من أصحاب الإجماع، ولي فيها بعد تأمّل يأتي وجهه في مسألة تحديد الكرّ.

و منها: ما رواه الشيخ في التهذيب في باب زيادات المياه، في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباهها تطأ العذرة، ثمّ تدخل في الماء يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا إلاّ أن يكون الماء كثيرا قدر كرّ من ماء»(1).

و منها: ما رواه في التهذيب أيضا في باب آداب الأحداث، في الصحيح عن إسماعيل بن جابر، قال: سألت أبا عبد اللّه عن الماء الّذي لا ينجّسه شيء؟ قال: «كرّ»(2).

و بالجملة: هذا الحكم بملاحظة تظافر الروايات الصحيحة عليه مع انضمام عمل الأصحاب عليها من قطعيّات الفقه الّتي لا يمكن الاسترابة فيها، نعم ربّما يوجد في أخبارنا ما يقضي منها بما يخالف ذلك ظاهرا، مثل ما في التهذيب في زيادات باب المياه، في المرسل عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا كان الماء قدر قلّتين لم ينجّسه شيء، و القلّتان جرتان»(3)، و ما رواه في الكافي - في الصحيح - عن زرارة قال: «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شيء الخ»(4).

و لكن الأمر في ذلك هيّن بعد ملاحظة سقوط هذا النوع من الأخبار عن درجة الاعتبار، من جهة كونها معرضا عنها الأصحاب كلمة واحدة، مع ملاحظة ظهور احتمال خروجها مخرج التقيّة كما هو واضح في خبر القلّتين، لموافقته مذهب الشافعي(5) و أحمد(6) من العامّة كما عرفت، مضافا إلى إمكان تطرّق التأويل إليها بحمل القلّتين أو الراوية أو غيرهما على ما يسع مقدار الكرّ كما صنعه الشيخ في التهذيب (7)

ص: 105


1- الوسائل 159:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 1326/419:1 - مسائل عليّ بن جعفر: 403/193.
2- الوسائل 159:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 115/41:1.
3- الوسائل 166:1، ب 11 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1309/415:1 الاستبصار 6/7:1.
4- الوسائل 140:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 9 - الكافي 3/2:3 - التهذيب 117/42:1 - الاستبصار 4/6:1.
5- تقدّم في الصفحة 92 الهامش رقم 2.
6- تقدّم في الصفحة 92 الهامش رقم 2.
7- التهذيب 415:1 ذيل الحديث 1309.

و تصدّى لبيان تفصيله صاحب الحدائق(1)، فمن أراده فعليه بمراجعة كلامه.

و كيف كان: فحكم المسألة واضح بحمد اللّه سبحانه، و لا يقتضي لأجل ذلك زيادة كلام في تحقيقه.

الجهة الثانية: [عدم انفعال الكر بملاقاة النجس]

لا فرق فيما تقدّم من حكم عدم انفعال الكرّ بملاقاة النجاسة بين شيء من أفراده حتّى ما في الحياض و الأواني كما عليه المعظم، و ادّعى عليه الشهرة على حدّ الاستفاضة، بل الإجماع في بعض العبائر، بناء على شذوذ المخالف و انقطاع خلافه، حيث لم ينسب الخلاف إلاّ إلى المفيد(2) و السلاّر(3) لمصيرهما إلى الانفعال في الحياض و الأواني و إن كان كرّا.

لنا: عموم ما تقدّم من أخبار الكرّ المعتضد بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع، و الأصل المتقدّم تحقيقه، مع عموم الروايات المتقدّمة، القاضية بحصر الانفعال في التغيّر، الصادق عليها قضيّة قولهم: «خرج ما خرج و بقى الباقي»، الّذي منه الكرّ بجميع أفراده.

مضافا إلى خصوص ما في التهذيب و الاستبصار و الكافي عن صفوان الجمّال قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحياض الّتي ما بين مكّة إلى المدينة تردها السباع، و تلغ فيها الكلاب، و تشرب منها الحمير، و يغتسل منها الجنب، أ يتوضّأ منها؟ فقال عليه السّلام «و كم قدر الماء؟ قلت: إلى نصف الساق و إلى الركبة، فقال عليه السّلام: توضّأ منه»(4).

و ما تقدّم من رواية العلاء بن الفضيل، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحياض يبال فيها؟ قال: «لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(5).

و ما في التهذيب و الفقيه عن إسماعيل بن مسلم عن جعفر عن أبيه عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أتى الماء فأتاه أهل الماء فقالوا: يا رسول اللّه إنّ حياضنا هذه تردها السباع و الكلاب و البهائم، قال صلّى اللّه عليه و آله: «لها ما أخذت بأفواهها و لكم سائر ذلك»(6).

ص: 106


1- الحدائق الناضرة 250:1.
2- المقنعة: 64.
3- المراسم العلويّة: 36.
4- الوسائل 162:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 12 - التهذيب 1317/417:1 - الاستبصار 54/22:1 - الكافي 7/4:3.
5- الوسائل 139:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 1311/415:1، الاستبصار 7/7:1.
6- الوسائل 161:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 10 - التهذيب 1307/414:1 الفقيه 10/8:1.

و ما عن التهذيب عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «و لا يشرب من سؤر الكلب إلاّ أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه»(1).

و ليس للمخالف إلاّ ما حكي عنه من عموم النهي عن استعمال ماء الأواني مع ملاقاته الكرّ، و كأنّ مراده به ما توهّمه عن روايات كثيرة:

منها: ما في الكافي عن شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها - «أنّه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شيء»(2).

و منها: ما في التهذيب في الموثّق عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس، إن لم يكن أصاب يده شيء من المنيّ»(3).

و منها: ما في التهذيب أيضا في الموثّق عن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الدّن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه الخلّ أو [ماء](4) كامخ أو زيتون؟ قال: «إذا غسل فلا بأس»، و عن الإبريق يكون فيه خمر أ يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال:

«إذا غسل فلا بأس»(5).

و منها: ما عن قرب الإسناد و الوسائل عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام قال:

سألته عن الشرب في الإناء يشرب منه الخمر قدحان عيدان أو باطية، قال عليه السّلام: «إذا غسله لا بأس»(6).

و منها: ما في التهذيب عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، قال: سألت أبا الحسن عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة، قال: «يكفئ الإناء»(7).

و منها: ما في الكافي في الموثّق بسماعة بن مهران عن أبي بصير عنهم عليهم السّلام قال:

«إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس، إلاّ أن يكون أصابها قذر بول أو

ص: 107


1- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 3 - التهذيب 650/226:1.
2- الوسائل 152:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 3 - الكافي 3/11:3.
3- الوسائل 153:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 9 - التهذيب 99/37:1.
4- هكذا في المصدر.
5- التهذيب 830/283:1 - الوسائل 494:3، ب 51 من أبواب النجاسات ح 1 - الكافي 1/427:6.
6- الوسائل 369:25، ب 30 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 5 - قرب الإسناد: 116 - مسائل عليّ بن جعفر: 212/154.
7- التهذيب 44/39:1.

جنابة، فإن أدخلت يدك في الإناء و فيها شيء من ذلك فأهرق ذلك الماء»(1). و منها: ما في التهذيب و الاستبصار في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال: «اغسل الإناء» الخ(2).

و منها: ما في التهذيب في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: سألته عن خنزير يشرب من إناء كيف يصنع به، قال: «يغسل سبع مرّات»(3).

و منها: ما في الكافي في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السّلام قال:

سألته عن رجل رعف و هو يتوضّأ فقطر قطرة في إنائه هل يصلح للوضوء منه؟ قال: «لا»(4).

و منها: ما في التهذيب و الاستبصار عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو، و ليس يقدر على ماء غيره؟ قال عليه السّلام: «يهريقهما و يتيمّم إن شاء»(5).

و منها: ما في التهذيب عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل قال: سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو، و ليس يقدر على ماء غيره؟ قال عليه السّلام: «يهريقهما جميعا و يتيمّم»(6).

و منها: ما في التهذيب عن حريز عمّن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا ولغ الكلب في الماء أو شرب منه اهريق الماء و غسل الإناء ثلاث مرّات، مرّة بالتراب و مرّتين بالماء، ثمّ يجفّف»(7).

و منها: ما عن قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال:

ص: 108


1- الوسائل 152:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 4 - الكافي 1/11:3.
2- الوسائل 226:1، ب 1 من أبواب الأسآر ح 3 - التهذيب 644/225:1 الاستبصار 39/18:1.
3- الوسائل 226:1، ب 1 من أبواب الأسآر ح 2 - التهذيب 759/261:1.
4- الوسائل 150:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 1 - الكافي 16/74:3 مسائل عليّ بن جعفر. 64/119 - التهذيب 1299/412:1.
5- الوسائل 151:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 2 - الكافي 6/10:3 - التهذيب 713/249:1.
6- الوسائل 155:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 14 - التهذيب 712/248:1 و في 1281/407:1 أورده بسند آخر.
7- التهذيب 645/225:1 و فيه: «عن حريز عمّن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «إذا ولغ الكلب في الإناء فصبّه».

سألته عن حبّ ماء وقع فيه أوقية بول، هل يصلح شربه أو الوضوء؟ قال عليه السّلام: «لا يصلح»(1).

و الجواب أوّلا: بأنّه أخصّ من المدّعى لعدم شمول النهي المستفاد من الروايات ماء الحياض.

و ثانيا: بكونه منزّلا على ما دون الكرّ بملاحظة الغلبة، فإنّ الغالب في الإناء أنّها لا تسع الكرّ.

و ثالثا: بأنّه لا يصلح للمعارضة لعموم ما دلّ على عدم انفعال الكرّ بالملاقاة، و إن كان النسبة بينهما عموم من وجه، لاعتضاد ذلك بعمل المعظم و إعراضهم عن الطرف المقابل، سلّمنا و لكن أقلّه أنّه لا رجحان للطرف المقابل أيضا، فيؤول الأمر إلى تساقط العامّين بالنسبة إلى مورد الاجتماع فيرجع في حكمه إلى الاصول، لبقائها سليمة عن المعارض.

لا يقال: لا عموم في أخبار الكرّ بحيث يشمل الأواني؛ لأنّ الغالب فيها عدم اتّساعها الكرّ، فإنّ ذلك معارض بالمثل كما أشرنا إليه في ثاني الأجوبة.

ثمّ اعلم: أنّه ربّما ينزّل كلام المفيد و السلاّر على ما يوافق المذهب المشهور، فيستظهر بذلك الإجماع على عدم الفرق حسبما ادّعيناه، كما في المدارك(2)و الرياض(3) و المناهل(4) و غيره، و أوّل من فتح هذا الباب العلاّمة في المنتهى، فقال:

«و الحقّ أنّ مرادهما بالكثرة هنا الكثرة العرفيّة بالنسبة إلى الأواني و الحياض الّتي تسقى منها الدوابّ، و هي غالبا تقصر عن الكرّ»(5).

ثمّ تبعه بعده صاحب المدارك(6) و سلك هذا المسلك بعدهما صاحب الرياض(7) و ولده الشريف في المناهل(8)، و كتابه الآخر(9) الحاضر عندنا الآن، و نسبه في الرياض(10) إلى الشيخ الّذي هو تلميذ المفيد، و حكاه صاحب الحدائق عن بعض مشايخه المحقّقين من متأخّري المتأخّرين فاستبعده قائلا: «بأنّه لا يخفى بعد ما استظهره قدّس سرّه كما يظهر

ص: 109


1- الوسائل 156:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 16 - مسائل عليّ بن جعفر 420/197.
2- مدارك الأحكام 52:1.
3- رياض المسائل 136:1.
4- المناهل الورقة: 106 - كتاب الطهارة - (مخطوط).
5- منتهى المطلب 53:1.
6- مدارك الأحكام 52:1.
7- رياض المسائل 136:1.
8- المناهل: 106.
9- لم نعثر عليه.
10- رياض المسائل 136:1.

ذلك لمن لاحظ عبارة المقنعة، سيّما و قد قرن الحياض و الأواني في تلك العبارة بالبئر، مع أنّ مذهبه فيها النجاسة و إن بلغت كرّا»(1).

و الحقّ كما فهمه رحمه اللّه، ضرورة عدم كون الاستظهار المذكور في محلّه، لكونه ممّا يأبى عنه العبارة المحكيّة عن المقنعة، الظاهرة كالصريح بل الصريحة فيما أسند إليه من المخالفة.

فإن شئت لاحظ قوله: «و إذا وقع في الماء الراكد شيء من النجاسات و كان كرّا و قدره ألف و مائتا رطل بالبغدادي، و ما زاد على ذلك لم ينجّس إلاّ أن يتغيّر به، كما ذكرنا في المياه الجارية، هذا إذا كان الماء في غدير أو قليب، فأمّا إذا كان في بئر أو حوض أو إناء فإنّه يفسد بسائر ما يموت فيه من ذوات الأنفس السائلة، و بجميع ما يلاقيه من النجاسات، و لا يجوز التطهّر به حتّى يطهّر، و إن كان الماء في الغدران و القلبان دون ألف رطل و مائتي رطل جرى مجرى مياه الآبار و الحياض الّتي يفسدها ما وقع فيها من النجاسات، و لم يجز الطهارة به»(2) انتهى.

و الدليل على كون ذلك صريحا أو ظاهرا في غير ما فهمه الجماعة امور:

منها: ما نبّه عليه صاحب الحدائق كما عرفت.

و منها: ما استدركه بقوله: «هذا إذا كان الماء في غدير أو قليب، فأمّا إذا كان في بئر أو حوض أو إناء إلخ»، فإنّه استدراك عمّا فرضه أوّلا من موضوع المسألة و هو الكرّ، و خصّه بما كان في غدير أو قليب نظرا إلى أنّ الماء في قوله: «هذا إذا كان الماء» بقرينة سبق الفرض في خصوص الكرّ أراد به ذلك المفروض، و إلاّ لكانت الإشارة و دعوى الاختصاص كذبا، فيكون الضمير في قوله: «فأمّا إذا كان في بئر إلخ» عائدا إلى ذلك الّذي اريد منه الكرّ، و إلاّ لما حصلت المطابقة بين الضمير و المرجع إلاّ بتأويله إلى نوع من الاستخدام، و هو كما ترى.

و منها: قوله: «و إن كان الماء في الغدران و القلبان دون ألف رطل و مائتي رطل» فإنّه عطف على قوله: «و إذا وقع في الماء الراكد» باعتبار ما اخذ فيه من قيد الكرّيّة، فلو لا الحكم في المعطوف عليه مخصوصا بالغدران و القلبان و لم يكن الكرّ من الحياض

ص: 110


1- الحدائق الناضرة 226:1.
2- المقنعة: 64.

و الأواني خارجا عن موضوع هذا الحكم لما كان لإفراد الغدران و القلبان في المعطوف بالذكر وجه، بل لم يكن للتنبيه على حكم البئر و الحوض و الإناء قبل ذلك وجه لو كان مراده بها ما دون الكرّ خاصّة، بل كان اللازم أن يسقط ما ذكره أوّلا، ثمّ عمّم الحكم في المعطوف على وجه يشمل الحوض و الإناء و البئر أيضا.

و منها: قوله: «جرى مجرى مياه الآبار و الحياض» فإنّ هذا التنظير لا يكون مستحسنا إلاّ إذا غاير الفرع الأصل ذاتا، و لا ريب أنّ مجرّد كون الماء في الغدير و القليب مع كونه في البئر و الحوض مع فرض كونهما معا ما دون الكرّ لا يستدعي تلك المغايرة لكون الجميع حينئذ من واد واحد، فلا وجه لتنظير بعضه على بعض، فلا بدّ من أن يعتبر المغايرة بينهما بكون المراد من الأصل خصوص الكرّ أو ما يعمّه و ما دونه و من الفرع ما دونه خاصّة، كما هو صريح الفرض بالنسبة إليه، و لا ينافي شيئا من ذلك الوصف بالموصول في قوله: «و الحياض الّتي يفسدها ما وقع فيها» بعد ملاحظة إمكان كونه وصفا توضيحيّا، كما هو ظاهر المقام بملاحظة سياق الكلام.

و مثله في الصراحة أو الظهور ما حكي عن مراسم السلاّر من قوله: «و لا ينجّس الغدران إذا بلغت الكرّ، و ما لا يزول الحكم بنجاسته فهو ما في الأواني و الحياض، فإنّه يجب إهراقه و إن كثر»(1) انتهى.

فإنّ التعبير ب «ما لا يزول الحكم بنجاسته فهو إلخ»، تصريح بأنّ هذا الحكم من لوازم الماهيّة بالنسبة إلى ما في الأواني و الحياض الّتي لا تنفكّ عنها أبدا، و قضيّة ذلك تعدّي الحكم إلى ما يبلغ منه حدّ الكرّ أيضا، كما أوضحه بقوله: «و إن كثر».

و دعوى: أنّ الكثرة هنا مراد بها العرفيّة الصادقة على ما دون الكرّ أيضا.

يدفعها: ظهور السياق أوّلا، و كون إفراد ما في الأواني و الحياض بالذكر لغوا ثانيا، لجريان الحكم المذكور في كلّ ما يكون دون الكرّ جزما.

و ربّما يظهر من عبارة الشيخ في النهاية موافقته لهما في الأواني خاصّة، و هي على ما في محكيّ الحدائق(2) قوله: «و الماء الراكد على ثلاثة أقسام، مياه الغدران و القلبان

ص: 111


1- المراسم العلويّة: 36.
2- الحدائق الناضرة 227:1.

و المصانع(1) و مياه الأواني المحصورة و مياه الآبار، فأمّا مياه الغدران و القلبان فإن كان مقدارها مقدار الكرّ فإنّه لا ينجّسها شيء، إلاّ ما غيّر لونها أو طعمها أو ريحها، و إن كان مقدارها أقلّ من الكرّ فإنّه لا ينجّسها كلّ ما وقع فيها من النجاسة، و أمّا مياه الأواني المحصورة فإن وقع فيها شيء من النجاسات أفسدها، و لم يجز استعمالها». انتهى ملخّصا(2).

وجه الدلالة في ذلك: أنّه فصّل في الحكم بالنجاسة و عدمها بالنسبة إلى الغدران و القلبان بين ما كان منها قدر الكرّ و ما دونه، و تنحّى عن هذا المسلك في خصوص الأواني فأطلق فيها الحكم بالنجاسة، و قضيّة ما عنه - من أنّ طريقته في النهاية أنّه لا يذكر فيها إلاّ متون الروايات من غير تفاوت، أو مع تفاوت يسير لا يخلّ بالمعنى - كون هذه الجملة مضمون الرواية و إن كانت مرسلة.

و لكن يضعّفه: ما سبق في منع الاحتجاج بما تقدّم من الروايات في تفصيل بيان حجّة المفيد و السلاّر، مع إمكان أن يقال: إنّ مراده بالأواني خصوص ما لا يسع الكرّ. كما يفصح عنه الوصف، نظرا إلى أنّ الحصر ممّا لا معنى له ظاهرا إلاّ الضيق - كما هو أحد معانيه المذكورة في كلام أهل اللغة - فيراد بالأواني المحصورة الأواني الضيّقة. فليتدبّر.

الجهة الثالثة: [في اشتراط القلة للانفعال]

إذ قد عرفت أنّ فائدة ما أسّسناه في أوّل عناوين الكتاب من الأصل العامّ المستنبط عن عمومات طهارة الماء و طهوريّته، تظهر فيما لو شكّ فيهما من جهة الطواري بعد إحراز الإطلاق و صدق الاسم بالتفصيل الّذي تقدّم بيانه، فهل يجوز إجراء هذا الأصل في مشكوك الكرّيّة و عدمها من جهة الشكّ في المصداق، كما لو وجد الماء في غدير ابتداء و كان مردّدا بين الكرّ و ما دونه، أو في اندراج المشكوك فيه تحت موضوع الكرّ باعتبار الشبهة في شرطيّة شيء له، أو للحكم المعلّق عليه، كالوحدة و الاجتماع و تساوي السطوح و نحوه ممّا اختلف في اعتباره في الكرّ موضوعا أو حكما - على ما ستعرف تفصيله - أو لا؟ وجهان:

أوّلهما: ما يظهر عن الرياض حيث قال - في الكتاب مستدلا على ما اختاره في

ص: 112


1- الصنع بالكسر الموضع الّذي يتّخذ الماء و الجمع أصناع، و يقال له مصنع و مصانع، و المصنع ما يضع مجمع الماء كالبركة و نحوها، و الجمع مصانع، كذا في المجمع (منه).
2- النهاية: 3-4.

المسألة الآتية من كفاية الاتصال مطلقا في عدم انفعال الكثير بالملاقاة، و عدم اشتراطه بتساوي السطوح مطلقا -: «بأنّ ذلك إمّا بناء على اتّحاد الماءين عرفا و إن تغايرا محلاّ فيشمله عموم ما دلّ على عدم انفعال الكرّ، أو بناء على عدم العموم فيما دلّ على انفعال القليل، نظرا إلى اختصاص أكثره بصور مخصوصة ليس المقام منها، و ظهور بعض ما لم يكن كذلك في المجتمع و عدم ظهور غيره في غيره بحيث يشمل المفروض، فيسلم حينئذ الأصل و العمومات المقتضية للطهارة بحالها»(1).

و ذكر نظير ذلك عقيب ما ذكر عند دفع استدلال من ذهب في عدم انفعال الكرّ إلى اشتراط المساواة»(2).

ثمّ وافقه على ذلك جماعة ممّن عاصرناهم و غيرهم و منهم شيخنا في الجواهر، فقال: «متى شكّ في شمول إطلاقات الكرّ لفرد من الأفراد و شكّ في شمول القليل فلم يعلم دخوله في أيّ القاعدتين، فالظاهر أنّ الأصل يقضي بالطهارة و عدم تنجّسه بالملاقاة، نعم لا يرفع الخبث به بأن يوضع المتنجّس فيه كما يوضع في الجاري و الكثير، و إن كان لا يحكم عليه بالنجاسة بمثل ذلك بل يحكم عليه بالطهارة، فيؤخذ منه ماء و يرفع به الخبث على نحو ما يرفع بالقليل، و لا مانع من رفع الحدث به لكونه ماء طاهرا، و كلّما كان كذلك يجري عليه الحكم، و كان السبب في ذلك أنّ احتمال الكرّيّة فيه كافية في حفظ طهارته و عدم نجاسته بملاقاة النجاسة»(3).

و ثانيهما: ما صار إليه شيخنا الآخر في شرحه للشرائع، قائلا - بعد ما أفاد طريق المسألة حسبما نشير إليه إجمالا -: «بأنّه لا بدّ من الرجوع إلى أصالة الانفعال عند الشك في الكرّيّة، سواء شكّ في مصداق الكرّ أو مفهومه، كما إذا اختلف في مقدار الكرّ أو في اعتبار اجتماعه أو استواء سطوح أجزائه و لم يكن هناك إطلاق في لفظ الكرّ «نحوه ليرجع إليه»(4).

ثمّ عزاه بعد كلام طويل في إثبات تلك المقالة إلى جماعة من أصحابنا، حيث قال:

ص: 113


1- رياض المسائل 137:1.
2- رياض المسائل 137:1.
3- جواهر الكلام 319:1.
4- و هو الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سرّه في كتاب الطهارة: 160:1.

«و لأجل بعض ما ذكرنا أفتى جماعة كالفاضلين(1) و الشهيد(2) بنجاسة الماء المشكوك في كرّيّته، نظرا إلى أصالة عدم الكرّيّة الحاكمة على استصحاب طهارة الماء»(3) الخ.

و ممّن يظهر منه الموافقة له في تلك المقالة صاحب الحدائق(4) حيث إنّه بعد ما بنى في المسألة الآتية على التوقّف، حكم في حكم موضوع المسألة بالاحتياط المقتضي للتحرّز عن مثل هذا الماء، بل هو صريح جماعة آخرين منهم صاحب المعالم(5) و غيره.

و تحقيق المقام: مبنيّ على النظر في أنّ مفاد الأخبار الفارقة بين الكرّ و ما دونه بانفعال الثاني دون الأوّل، هل هو مانعيّة الكثرة الكرّيّة عن الانفعال أو شرطيّة القلّة للانفعال؟ فعلى الأوّل يترتّب الحكم في موضع الشكّ بالانفعال، لضابطتهم المقرّرة من أنّ المانع المشكوك في وجوده محكوم عليه بالعدم، فيتفرّع عليه خلاف مقتضاه من عدم الانفعال، و على الثاني يترتّب الحكم في موضع الشكّ بعدم الانفعال، لمكان أنّ الشرط المشكوك في تحقّقه يحكم عليه بالعدم، فيتفرّع عليه الحكم بخلاف المشروط به.

أو على النظر في أنّ مفاد الأدلّة المخرجة للقليل عن العمومات القاضية بالطهارة و عدم الانفعال بشيء هل هو شرطيّة الكرّيّة لعدم الانفعال؟ حتّى يكون المجموع من المخصّص و المخصّص نظير ما لو قيل: «أكرم العلماء إن كانوا عدولا»، أو شرطيّة القلّة للانفعال حتّى يكون المجموع من المخصّص و المخصّص نظير ما لو قيل: «أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم»، حيث إنّ الفسق في ذلك شرط لعدم وجوب الإكرام.

و الّذي يساعد عليه النظر، و يقتضيه أدلّة الباب عموما و خصوصا، أنّ الحقّ ما فهم الأوّلون خلافا للآخرين، و أنّ أصل الطهارة ممّا لا مجال إلى رفع اليد عنه ما دام محكّما - كما سبق - و جاريا كما في المقام، و الوجه في ذلك أنّ الظاهر المنساق من العمومات المحقّقة لذلك الأصل كون الطهارة و عدم قبول الانفعال إنّما هو من مقتضى الطبيعة المائيّة بحسب خلقتها الأصليّة كما يفصح عنه التعبير بالخلق في قوله صلّى اللّه عليه و آله: «خلق اللّه الماء

ص: 114


1- و هما العلاّمة في منتهى المطلب 54:1 و المحقّق في المعتبر: 11.
2- ذكرى الشيعة 81:1.
3- و هو الشيخ مرتضى الأنصاري قدّس سرّه في كتاب الطهارة: 162:1.
4- الحدائق الناضرة 234:1.
5- فقه المعالم 135:1.

طهورا لا ينجّسه شيء، إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(1)، و بالإنزال في قوله تعالى:

وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (2) ، فيكون الماهيّة بما هي هي مقتضية للطهارة، و ظاهر أنّ المقتضي ما دام لم يصادف ما يزاحمه من الموانع أو الروافع كان على اقتضائه، و التغيير مع ملاقاة النجاسة حيثما وجدا رافعان لذلك المقتضي، و حاجبان عن الاقتضاء، غاية الأمر أنّ الأوّل معتبر لا بشرط شيء من الكرّيّة و لا عدمها، و الثاني معتبر بشرط القلّة.

و ممّا يدلّ على رافعيّة التغيّر قوله صلّى اللّه عليه و آله: «خلق اللّه الماء طهورا(3) الخ»، و كما أنّ مفاد التخصيص هنا بحكم ظاهر العرف كون التغيّر رافعا، فكذلك مفاد أدلّة انفعال القليل من المفاهيم و المناطيق الواردة في مواضع خاصّة أيضا كون الملاقاة دافعة للطهارة بشرط القلّة، غاية الأمر أنّ التخصيص في الأوّل قد حصل بمخصّص متّصل و في الثاني بمخصّص منفصل، فيكون مفاد العمومات مع هذين المخصّصين - بعد الجمع بينهما -: كلّ ماء طاهر لا ينجّسه شيء و لا يرفع طهارته إلاّ تغيّره بالنجاسة مطلقا، أو ملاقاته لها بشرط القلّة.

و إنّما فصّل بينهما باعتبار الأوّل مطلقا و الثاني مشروطا، لأنّ التغيّر يكشف عن تضاعف النجاسة و استيلائها على الماء بحسب المعنى، فيضعف المقتضي و يخرج عن اقتضائه، لعدم كون الطبيعة المائيّة علّة تامّة للطهارة حتّى لا يجامعها رافع، و قضيّة ذلك عدم الفرق فيه بين الكثرة و القلّة، بخلاف مجرّد الملاقاة فإنّه في التأثير لا يبلغ مرتبة التغيّر فلا يضعف به المقتضي إلاّ مع انتفاء الكثرة، و لا أنّه يخرج عن فعليّة الاقتضاء إلاّ مع القلّة.

و أصرح من ذلك في الدلالة على المختار ما رواه المحمّدون الثلاث بطرق متكثّرة من قولهم عليهم السّلام: «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(4)، فإنّ تعليق الحكم بالطهارة في كلّ ماء على غاية العلم بالقذارة صريح في أنّ ما لم يعلم بقذارته كائنا ما كان محكوم عليه بالطهارة، فلو كان الانفعال هو الأصل في موضع الشكّ لما كان لذلك وجه، بل كان

ص: 115


1- السرائر 64:1 - الوسائل 135:1، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 9.
2- الفرقان: 48.
3- الوسائل 135:1، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 9.
4- الوسائل 134:1، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 621/216:1 - الكافي 3/1:3.

يجب أن يعلّق الحكم بالقذارة على غاية العلم بالطهارة، و يقال: الماء كلّه قذر حتّى يعلم أنّه طاهر، كما هو مفاد القول بأنّ الكرّيّة مانعة عن الانفعال و أنّ القلّة ليست شرطا في الانفعال، و أنّ المشكوك فيه المردّد بين الكرّيّة و القلّة يلحق بقاعدة الانفعال لا أصالة الطهارة و هو كما ترى، و قضيّة كلّ ذلك كون التغيّر و الملاقاة رافعين للطهارة المعلومة بالشرع مع اشتراط الثاني في رافعيّته بالقلّة.

و الاحتجاج على أنّ الكرّيّة في موضوع المسألة مانعة عن الانفعال، بأنّ المستفاد من الصحيح المشهور «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1) أنّ الكرّيّة علّة لعدم التنجيس، و لا نعني بالمانع إلاّ ما يلزم من وجوده العدم.

يدفعه: منع ذلك؛ بأنّ ذلك كما أنّه محتمل لأن يكون من جهة أنّ الكرّيّة مانعة عن الانفعال، فكذلك محتمل لأن يكون الكرّ ملزوما لانتفاء شرط الانفعال، فالكرّ لا ينفعل إمّا لأنّه علّة لعدم الانفعال، أو لأنّه ملزوم لانتفاء شرط الانفعال، فكيف يستفاد منه العلّيّة على التعيين؟

فإن قلت: قد تقرّر في الاصول أنّ الجملة الشرطيّة ظاهرة في سببيّة المقدّم للتالي، فلا يمكن رفع اليد عن هذا الظهور بلا صارف.

قلت: قد علمنا بملاحظة أدلّة التغيّر أنّ الكرّيّة ليست بعلّة تامّة بل هي جزء للعلّة، و هي مركّبة عنها و عن عدم التغيّر، فكما أنّ استعمال أداة التعليق - الظاهرة في العلّيّة - في مجرّد التلازم بين المقدّم و انتفاء شرط نقيض التالي مجاز و إخراج لها عن الظهور، فكذلك استعمالها في شرطيّة المقدّم للتالي و كونه جزءا للعلّة أيضا مجاز و عدول عن الظاهر، فيبقى قوله صلّى اللّه عليه و آله: «خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(2) الظاهر في كون القلّة شرطا للانفعال - كما يعترف به المدّعي لكون الكرّيّة مانعة عن الانفعال - مرجّحا للمجاز الأوّل، إن لم نقل بأنّه في نفسه أرجح، نظرا إلى أنّ التلازم أقرب إلى العلّيّة و أشبه بها من حيث اقتضائه اللزوم في الوجود و العدم معا من

ص: 116


1- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 109/40:1 - الاستبصار 2/6:1.
2- الوسائل 135:1، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 9.

الشرطيّة الّتي لا يقتضي اللزوم إلاّ في جانب العدم.

و دعوى: أنّ نفس قوله: «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء»(1) دالّ على عدم شرطيّة القلّة، من جهة أنّه يقضي بأنّ الخارج عن عمومات الطهارة إنّما هو القلّة، و هي أمر عدمي لا يصلح لأن يكون شرطا، فإذا انتفى احتمال كونها شرطا تعيّن كون الكرّيّة مانعة.

يدفعها: منع عدم كون الأمر العدمي صالحا للشرطيّة، كما يشهد به قولهم: «بأنّ عدم المانع شرط»، كيف و أنّ ثبوت كون الامور العدميّة معتبرة بعنوان الشرطيّة في الشريعة في الكثرة ما لا يكاد ينكر، أ لا ترى أنّهم يقولون - عند تعداد شرائط النيّة المعتبرة في العبادة -: أنّ استمرار النيّة شرط فيها، و يفسّرونه بعدم قصد المنافي و عدم التردّد في أثناء العمل، و القول بأنّ الأمر العدمي لا يصلح للتأثير في الوجود مخصوص بما كان عدميّا صرفا غير متشبّث بالوجود، و القلّة ليست منه لأنّها عبارة عن عدم الكثرة فيما من شأنه الكثرة، فيكون متشبّثا بالوجود لاقترانه بشأنيّة الوجود، مع أنّ الشروط الشرعيّة كثيرا ما تكون من باب المعرّفات دون المؤثّرات، فلعلّ المقام منها.

و بالجملة: رفع اليد عن ظهور مثل «خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء الخ»(2)«و الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر»(3) و ما أشبه ذلك المقتضي لكون الماء بما هو هو مأخوذا عنوانا لحكم الطهارة، و أنّ ما خالفه من أفراده في ذلك الحكم فإنّما هو مخرج عنه بالتخصيص، و من المقرّر أنّ كلّ ما يشكّ في خروجه له بالتخصيص مع إحراز دخوله في أصل العنوان - كما هو مفروض الكلام - يحكم عليه بعدم الخروج لأصالة عدم التخصيص.

فما يقال: من أنّ تلك العمومات ليست من قبيل ما كان عنوان العامّ مقتضيا للحكم و عنوان المخصّص مانعا، فليس بسديد جدّا.

و لا ينافيه «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» إذا كان المراد منه بيان أقلّ مراتب ما هو ملزوم لانتفاء عنوان المخصّص، فاعتبار الكرّ ليس من باب أنّه بالخصوص عنوان ينشأ منه الحكم، بحيث لو شكّ فيه في موضع كان ذلك شكّا في

ص: 117


1- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2.
2- الوسائل 135:1 و 134، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 9 و 5.
3- الوسائل 135:1 و 134، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 9 و 5.

المقتضي، مانعا عن الأخذ بالمقتضي، بل المقتضي في الحقيقة هو عنوان المائيّة، فيوجد المقتضي حيثما وجد و ينتفي حيثما انتفى، و الكرّيّة إنّما اعتبرت ميزانا لمعرفة أنّ الكرّ هو أقلّ مراتب ما يسلم من هذا العنوان العامّ عمّا يزاحمه في فعليّة الاقتضاء.

و لو سلّم فمقتضى الجمع بين منطوق هذه الرواية و مفهومها تنوّع هذا العنوان إلى نوعين و انكشاف عدم كونه بما هو هو عنوانا في الشريعة، بل العنوان الّذي يدور عليه الحكم إنّما هو النوعان المذكوران، أحدهما: ما هو موضوع المنطوق و هو الماء البالغ حدّ الكرّ، و ثانيهما: ما هو موضوع المفهوم و هو الماء الغير البالغ هذا الحدّ. و قضيّة ذلك:

كون المشكوك في كرّيّته كائنا ما كان مجملا مصداقيّا مردّدا بين كونه من أفراد هذا النوع، أو ذاك النوع و معه فكما لا يمكن إلحاقه بالنوع الأوّل فكذا لا يمكن إلحاقه بالنوع الثاني.

و قضيّة ذلك لزوم الرجوع إلى الاصول العمليّة من احتياط كما صار إليه صاحب الحدائق - فيما عرفت(1) - بناء على مذهبه فيما لا نصّ فيه من كون المرجع فيه هو الاحتياط، أو استصحاب للطهارة السابقة و نحوها، لا الحكم عليه مطلقا بالانفعال إلاّ فيما لو كان مسبوقا بالقلّة و شكّ في بلوغه حدّ الكرّ، فإنّ اللازم حينئذ أن يترتّب عليه أحكام ما دون الكرّ، عملا بالأصل الموضوعي الوارد على الأصل الحكمي كما قرّر في محلّه.

و أنت خبير بأنّ موضوع المسألة لا ينحصر أفراده في مثل ذلك بل هو في الحقيقة خارج عن هذا الموضوع؛ إذ لا أظنّ أحدا يقول في مثله بالطهارة عملا بالأصل المستفاد من العمومات، و لا يكون ذلك من باب تخصيص العامّ بالأصل العملي حتّى يقال: بمنع ذلك عندهم، بل المخصّص له في الحقيقة إنّما هو أدلّة انفعال القليل، و العمل بالأصل المذكور تعميم في موضوع تلك الأدلّة بدعوى: أنّ القليل المحكوم عليه بالانفعال أعمّ من أن يكون كذلك بحسب الواقع أو بحسب الشرع، عملا بعموم أدلّة الاستصحاب القاضية بأنّه ممّا جعله الشارع طريقا للمكلّف إلى إحراز الواقع من موضوع أو حكم، و أقامه مقام العلم بالواقع الحاكمة على سائر الأدلّة المقتضية لاعتبار الواقع بطريق علمي، فليتدبّر.

ص: 118


1- الحدائق الناضرة 234:1.

فبجميع ما قرّرناه ينقدح أنّ ما تقدّم عن الفاضلين(1) و الشهيد(2) من إفتائهما بنجاسة الماء المشكوك في كرّيّته عملا بأصالة عدم الكرّيّة على إطلاقه ليس على ما ينبغي؛ إذ لا معنى لأصالة عدم الكرّيّة فيما لم يكن مسبوق بالقلّة، بل أصالة الطهارة الأصليّة في مثله هو الأصل المعوّل عليه، السالم عن المعارض.

فبالجملة: أصل الطهارة سواء أردنا منه الأصل الاجتهادي المستفاد من عمومات الطهارة، أو الأصل العملي المعبّر عنه بالاستصحاب، ممّا لا يمكن الإغماض عنه في مواضع الشبهة و الدوران و انسداد الطرق العلميّة، لإجمال في المصداق، أو الصدق، أو المفهوم بالنظر إلى عنوان الكرّيّة و ما يقابله.

الجهة الرابعة: [هل يعتبر فيه مساواة سطوحه أو يكفي مجرّد اتّصال بعضه بعضا و لو مع الاختلاف في سطوحه؟]

اشارة

بعد ما عرفت أنّ مقدار الكرّ من الماء من حكمه أن لا ينفعل بمجرّد الملاقاة، فهل يعتبر فيه مساواة سطوحه أو يكفي مجرّد اتّصال بعضه بعضا و لو مع الاختلاف في سطوحه؟ و على الثاني فهل يعتبر في كفاية الاتّصال أن لا يكون الاختلاف المفروض معه فاحشا بيّنا بحيث يخفى على الحسّ أو يصعب عليه إدراكه، أو أنّ الاختلاف غير مضرّ و لو فاحشا بيّنا للحسّ؟

و على الثاني فهل يعتبر فيه أن يكون بطريق الانحدار كما لو كان الماء في أرض منحدرة، أو لا يضرّ الاختلاف و لو كان على طريق التسنيم، كما لو سال الماء إلى الأرض في ميزاب و نحوه من الأراضي المرتفعة الّتي يجري منها الماء إلى ما تحتها بطريق التسنيم كالجبل و ما أشبهه؟ و على التقادير فهل معنى كفاية مجرّد الاتّصال و عدم مضرّيّة الاختلاف كون كلّ من الأعلى و الأسفل متقوّما بالآخر فلا ينفعل شيء منهما إذا لاقته النجاسة، أو كون الأسفل متقوّما بالأعلى دون العكس، فينفعل الأعلى بالملاقاة إن كان أقلّ من الكرّ دون العكس؟ وجوه:

قد وقع الخلاف بينهم في كثير منها، و لكن ينبغي النظر في معرفة تفصيل أقوالهم و تشخيص موضع الخلاف عن موضع الوفاق في عبائرهم حسبما وقفنا عليه نقلا و تحصيلا، و لكنّ الّذي يظهر بالتتبّع - و صرّح به غير واحد - أنّ المسألة لم تكن معنونة في كلام قدماء

ص: 119


1- و هما: العلاّمة في منتهى المطلب 54:1 و المحقّق في المعتبر: 11.
2- ذكرى الشيعة 81:1.

أصحابنا، و إنّما حدث تدوينها و لو بنحو الإشارة من المتأخّرين عن زمن العلاّمة رحمه اللّه إلى هذه الأزمنة، كما أنّه يظهر أيضا عدم الفرق عند المتأخّرين - بناء على عدم اعتبار المساواة - بين اختلاف الانحدار و التسنيم، بل عدم الفرق بين ما لو كان الاختلاف فاحشا و غيره.

نعم، حصل الاختلاف بينهم في مقامين،
اشارة

أحدهما: أصل اشتراط المساواة و عدمه، و ثانيهما: الفرق - بناء على عدم الاشتراط - بين الأعلى و الأسفل في تقوّم كلّ بالآخر و عدمه.

أمّا المقام الأوّل: [أصل اشتراط المساواة و عدمه]
اشارة

فمحصّل خلافهم فيه يرجع إلى أقوال ثلاث:

أحدها: القول بعدم الاشتراط،

و قد صرّح به الشهيد الثاني في كلام محكيّ له عن الروض، قائلا: «و تحرير المقام أنّ النصوص الدالّة على اعتبار الكثرة مثل قوله عليه السّلام: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1) و كلام أكثر الأصحاب ليس فيه تقييد الكرّ المجتمع بكون سطوحه مستوية، بل هو أعمّ منه و من المختلف كيف اتّفق»، ثمّ قال: - بعد كلام مطويّ له - «و الّذي يظهر لي في المسألة و دلّ عليه إطلاق النصّ، أنّ الماء متى كان قدر كرّ متّصلا ثمّ عرضت له النجاسة لم تؤثّر فيه إلاّ مع التغيّر، سواء كان متساوي السطوح أو مختلفها»(2) الخ.

و تبعه في ذلك سبطه السيّد في المدارك، قائلا - بعد ما أسند إلى اطلاق كلامي المحقّق و العلاّمة في المعتبر(3) و المنتهى(4) أنّه يقتضي عدم الفرق بين مساواة السطوح و اختلافها، فيكون كلّ من الأعلى و الأسفل متقويا بالآخر -: «بأنّه ينبغي القطع بذلك إذا كان جريان الماء في أرض منحدرة، لاندراجه تحت عموم قوله عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(5) فإنّه شامل لتساوي السطوح و مختلفها، و إنّما يحصل التردّد فيما إذا كان الأعلى متسنّما على الأسفل بميزاب و نحوه، لعدم صدق الوحدة عرفا و لا يبعد التقوّي في ذلك أيضا كما اختاره جدّي قدّس سرّه في فوائد القواعد عملا بالعموم»(6) انتهى.

فظهر منه أنّه جزم بالحكم في الشقّ الأوّل و رجّحه في الثاني بعد ما صار متردّدا،

ص: 120


1- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2.
2- روض الجنان: 135، 136.
3- المعتبر: 11.
4- منتهى المطلب 53:1.
5- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2.
6- مدارك الأحكام 43:1.

و وافقهما على ذلك في الرياض(1)، و حكي ذلك أيضا عن الأردبيلي في مجمع الفائدة(2)، و المحقّق الخراساني في الذخيرة(3)، و البهبهاني في حاشية المدارك(4)، و شرح المفاتيح(5)، و يستفاد التصريح به من المحقّق الخوانساري في تضاعيف كلامه في شرح الدروس(6)، و نسبه في المدارك(7) إلى إطلاق ما صرّح به المحقّق و العلاّمة في المعتبر(8) و المنتهى(9) من «أنّ الغدير إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد، فلو وقع في أحدهما لم ينجّس و إن نقص عن الكرّ إذا بلغ المجموع منهما و من الساقية كرّا»، و حكاه عنهما أيضا في شرح الدروس بعد ما قال - في أوّل عنوان المسألة -:

«فالظاهر من كلام الأصحاب الاحتمال الثاني، يعني عدم اعتبار المساواة، بل في بعض كلماتهم التصريح به»، ثمّ قال: «و لم نقف على نصّ ظاهر من كلام الأصحاب في خلافه إلاّ ظاهر كلام بعض المتأخّرين»(10).

و ثانيها: القول باعتبار المساواة في الكرّ،

و خروجه عن الكثرة بالاختلاف خصوصا إذا كان الاختلاف بالتسنيم و نحوه، و قضيّة ذلك عدم تقوّم شيء من الأعلى و الأسفل في صورة الاختلاف بالآخر، فينجّس كلّ منهما بوقوع النجاسة و لم نقف على من صرّح به إلاّ صاحب المعالم - في كلام محكيّ (11) له - قائلا: «بأنّ الأخبار المتضمّنة لحكم الكرّ - أشبارا و كمّيّة - اعتبار الاجتماع في الماء، و صدق الوحدة و الكثرة عليه، و في تحقّق

ص: 121


1- رياض المسائل 136:1.
2- مجمع الفائدة و البرهان 264:1 حيث قال: «ثمّ اعلم: أنّ الّذي يظهر، عدم اشراط تساوي السطح في الكرّ»... الخ.
3- ذخيرة المعاد: 118.
4- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 89:1.
5- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 513 حيث قال - في بحث ماء الحمّام -: «كان الاستثناء من جهته. عدم اعتبار تساوي السطوح كما هو الغالب في ماء الحمّام، و الحقّ أنّ ماء غير الحمّام أيضا كذلك».
6- مشارق الشموس: 202 حيث قال: «فقد تلخّص بما ذكرنا أنّ الظاهر عدم اشتراط مساواة السطح في الكرّ مطلقا...».
7- مدارك الأحكام 44:1.
8- المعتبر: 11.
9- منتهى المطلب 53:1.
10- مشارق الشموس: 200.
11- حكى عنه في الحدائق الناضرة 231:1.

ذلك مع عدم المساواة في كثير من الصور نظر، و التمسّك في عدم اعتبارها بعموم ما دلّ على عدم انفعال مقدار الكرّ بملاقاة النجاسة مدخول، لأنّه من باب المفرد المحلّى باللام و قد بيّن في المباحث الاصوليّة أنّ عمومه ليس من حيث كونه موضوعا لذلك على حدّ صيغ العموم، و إنّما هو باعتبار منافاة عدم إرادته الحكمة، فيصان كلام الحكيم عنه.

و ظاهر أنّ منافاة الحكمة حيث ينتفي احتمال العهد، و لا ريب أنّ تقدّم السؤال عن بعض أنواع الماهيّة عهد ظاهر، و هو في محلّ النزاع واقع؛ إذ النصّ متضمّن للسؤال عن الماء المجتمع و حينئذ لا يبقى لإثبات الشمول لغير المعهود وجه»(1).

و قد يستظهر ذلك من كلام العلاّمة - كما أشار إليه في شرح الدروس - و يقال: «إنّ كلام العلاّمة في بحث الحمّام حيث اعتبر كرّيّة المادّة مطلقا ممّا يشعر به؛ لأنّه لو لم يعتبر مساواة السطح لم يلزم كرّيّة المادّة وحدها، بل إنّما يلزم أن يكون المجموع من المادّة و الحوض الصغير و الساقية بينهما كرّا.

لا يقال: ما ذكرتم أعمّ من المدّعى؛ لأنّ اعتبار الكرّيّة مطلقا في المادّة يدلّ على أنّ عند المساواة أيضا يلزم كرّيّة المادّة، فعلم أنّ الوجه غير ما ذكر.

لأنّا نقول: إطلاق الحكم إنّما هو بناء على الغالب؛ إذ الغالب أنّ مادّة الحمّام أعلى، و يؤيّده أنّه إنّما يمثّل في العلوّ بماء الحمّام كما فعله المصنّف في الذكرى(2)» انتهى.

و اجيب عنه: بأنّ اعتبار ذلك في مادّة الحمّام على فرض تسليمه لعلّه لخصوصيّة فيه لا تتعدّاه إلى غيره ممّا هو من محلّ البحث، فلا وجه لجعل ذلك من العلاّمة قرينة على أنّه قائل به مطلقا، و أجاب عنه في شرح الدروس(3) بوجوه:

الأوّل: ما يرجع محصّله إلى منع كون اعتبار الكرّيّة في مادّة الحمّام لأجل حفظ الحوض الصغير عن الانفعال بملاقاة النجاسة، بل إنّما هو لأجل تطهيره بعد ما طرأه الانفعال، نظرا إلى أنّ ماء الحمّام حكمه حكم الجاري في تطهير القليل المنفعل و لا يكون ذلك إلاّ إذا كان المادّة وحدها كرّا، إذ ما دون الكرّ لا يصلح لأن يطهّر الماء.

الثاني: ما يرجع ملخّصه إلى أنّ ذلك لعلّه لمراعاة ما هو الغالب في الحمّام من أنّ

ص: 122


1- فقه المعالم 140:1-141.
2- ذكرى الشيعة 85:1.
3- مشارق الشموس: 200.

الماء يؤخذ فيه كثيرا من الحوض الصغير، فلو اكتفى بكرّيّة المجموع ممّا فيه و في المادّة و الساقية لطرأه القلّة بواسطة الأخذ منه فينفعل إذا لاقاه النجاسة، فلا بدّ فيه من عاصم يحفظه عن طروّ القلّة عليه صونا له عن الانفعال، و لا يكون ذلك إلاّ مع اعتبار الكرّيّة في المادّة، فاعتبارها حينئذ ليس لأجل اعتبار مساواة السطح في الكرّ كما هو محلّ النزاع، بل لأجل أنّه مانع عن زوال الكرّيّة المعتبرة في المجموع.

الثالث: ما يرجع مفاده إلى أنّ ذلك لعلّه من جهة أنّ العلاّمة قائل بمانعيّة الاختلاف على نحو التسنيم، نظرا إلى أنّ الغالب في الحمّامات انحدار مائها بالميزاب و نحوه، لا من جهة أنّه مانع عن الاختلاف مطلقا و كلامنا فيه لا في الأوّل الخ(1).

و هذه الأجوبة في حدّ نفسها و إن كانت جيّدة، حاسمة لدعوى مصير العلاّمة إلى تلك المقالة لمجرّد ما اعتبره في المادّة من الكرّيّة، غير أنّها في مقابلة ما تقدّم من العبارة واردة في غير محلّها، من حيث إنّ هذا الرجل ليس جازما في إسناد تلك المقالة إلى العلاّمة، و لا أنّه مدّع لدلالة كلام العلاّمة على ذلك دلالة معتبرة في نظائره، بل غاية ما ادّعاه الإشعار و هو دون الدلالة، و كأنّه أعرض عن دعوى الدلالة بملاحظة قيام ما ذكر من الاحتمالات، فارتفع النزاع عن البين جدّا.

و ثالثها: ما أبرزه في الحدائق من التوقّف و العجز عن ترجيح أحد القولين الأوّلين،

قائلا: «بأنّ الحكم في المسألة لا يخلو عن إشكال، ينشأ من أنّ المستفاد من أخبار الكرّ تقارب أجزاء الماء بعضها من بعض، كقوله عليه السّلام - في صحيحة إسماعيل بن جابر حين سأله عن الماء الّذي لا ينجّسه شيء - فقال: ذراعان عمقه في ذراع و شبر سعته»(2)، و نحوها من الأخبار الدالّة على التقدير بالمساحة، و صحيحة صفوان المتضمّنة للسؤال عن الحياض الّتي بين مكّة و المدينة، حيث سئل عليه السّلام و كم قدر الماء؟ قال: قلت إلى نصف الساق و إلى الركبة و أقلّ، قال: «توضّأ»(3) - إلى قوله - بعد ما ذكر جملة من المؤيّدات،

ص: 123


1- مشارق الشموس: 200.
2- الوسائل 164:1، ب 10 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 14/41:1.
3- الوسائل 162:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 12 - التهذيب 1317/417:1.

و تكلّم مع أهل القول بعدم اعتبار المساواة بالمناقشة في أدلّتهم من العمومات و الأصل و الاستصحاب -: «و ينشأ من إطلاق الأخبار بأنّ بلوغ الماء كرّا عاصم له عن الانفعال بالملاقاة، و الأخبار الدالّة على التحديد بالمساحة و إن أ فهمت بحسب الظاهر اعتبار الاجتماع فيه، إلاّ أنّه إن أخذ الاجتماع فيها على الهيئة الّتي دلّت عليه فلا قائل به إجماعا و إن أخذ الاجتماع الّذي هو عبارة عن تساوي السطوح فلا دلالة لها عليه صريحا» - إلى أن قال -:

«فمجال التوقّف في الحكم المذكور لما ذكرناه بيّن الظهور و الاحتياط لا يخفى»(1).

و أمّا المقام الثاني: [في تقوي الأعلى بالأسفل و بالعكس]
اشارة

فمحصّل خلافهم فيه يرجع إلى قولين:

أحدهما: ما عليه الأكثر من أنّه لا يتفاوت الحال في عدم قدح الاختلاف في تقوّي بعض الماء ببعض بين الأعلى و الأسفل،

و هو المستفاد من الجماعة المتقدّمة صراحة و ظهورا.

و ثانيهما: ما هو صريح جامع المقاصد في شرح القواعد،

حيث - إنّه بعد ما نقل عبارة المتن من أنّه لو اتّصل الواقف القليل بالجاري لم ينجّس بالملاقاة - قال: «يشترط في هذا الحكم علوّ الجاري، أو مساواة السطوح، أو فوران الجاري من تحت القليل إذا كان الجاري أسفل، لانتفاء تقوّيه بدون ذلك»(2).

و ربّما يعزى ذلك إلى صريح العلاّمة في التذكرة(3)، و الشهيد في الدروس(4)، و الذكرى(5)، و البيان(6)، و قد يتوهّم لأجل ذلك التدافع بين كلامي العلاّمة بل الشهيد أيضا، حيث إنّهما يصرّحان في موضع بالحكم من دون تقييد بما يقضي بعدم تقوّي الأعلى بالأسفل، ثمّ يصرّحان عقيب ذلك بقليل بما يخالف ذلك، و أنت إذا تأمّلت في أكثر عبائرهم لوجدتها غير مخالفة لما عليه الأكثر لا صراحة و لا ظهورا و إن أوهمت ذلك في بادي النظر، و إن شئت صدق هذه المقالة فلاحظ ما ذكره الشهيد في الدروس بقوله:

«و لو كان الجاري لا عن مادّة و لاقته النجاسة لم ينجّس ما فوقها مطلقا، و لا ما تحتها إن كان جميعه كرّا فصاعدا إلاّ مع التغيّر»(7)، فأطلق الحكم بعدم نجاسة ما تحت موضع الملاقاة إذا بلغ المجموع كرّا من غير اشتراط استواء السطح.

ص: 124


1- الحدائق الناضرة 233:1.
2- جامع المقاصد 115:1.
3- تذكرة الفقهاء 23:1.
4- الدروس الشرعيّة 119:1.
5- ذكرى الشيعة 85:1.
6- البيان: 99.
7- الدروس الشرعيّة 119:1.

ثمّ قال - بعد ذلك بقليل -: «و لو اتّصل الواقف بالجاري اتّحدا مع مساواة سطحهما، أو كون الجاري أعلى لا العكس، و يكفي في العلوّ فوران الجاري من تحت الواقف»(1).

فاعتبر في صدق الاتّحاد مساواة السطحين أو علوّ الكثير، و ممّن صرّح بتناقض هذين الكلامين المحقّق الخوانساري(2) عند شرح الكلام الأوّل، و عن صاحب الذخيرة(3)أنّه جعلهما من باب الاضطراب في الفتوى الّذي نسبه إلى جماعة من متأخّري الأصحاب.

و أنت إذا تأمّلت لوجدت أنّ ذلك ليس على ما ينبغي، لما أفاده خالنا العلاّمة دام ظلّه(4) من إمكان حمل مسألة اتّصاف الواقف بالجاري و الحكم باتّحادها مع مساواة السطح أو علوّ الجاري دون العكس، على كون الواقف المتّصل بالجاري بمنزلة الجاري في جميع أحكامه الّتي منها تطهير ما ينفعل من الماء عند تحقّق أحد الشرطين المذكورين، لا في عدم الانفعال بالملاقاة خاصّة كما هو موضع البحث في مسألة الكرّ، بخلاف ما لم يتحقّق فيه الشرط، فيمكن أن يقول فيه حينئذ بعدم الانفعال بالملاقاة، بناء على أنّ الأعلى يتقوّم بالأسفل كما أنّ الأسفل يتقوّم به، و إن لا يقول به فليست العبارة بصريحة في التناقض و لا ظاهرة فيه.

و كيف كان: فاعترض صاحب المدارك عليهم - في القول بعدم تقوّي الأعلى بالأسفل -: «بأنّه يلزمهم أن ينجّس كلّ ما كان تحت النجاسة من الماء المنحدر إذا لم يكن فوقه كرّا، و إن كان نهرا عظيما و هو معلوم البطلان»(5).

و عن صاحب المعالم(6) دفع ذلك بإمكان التزام عدم انفعال ما بعد عن موضع الملاقاة بمجرّدها لعدم الدليل عليه؛ إذ الأدلّة على انفعال ما نقص عن الكرّ بالملاقاة مختصّة بالمجتمع و المتقارب، و ليس مجرّد الاتّصال بالنجس موجبا للانفعال في نظر الشارع و إلاّ لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل لصدق الاتّصال، و هو منفيّ قطعا، و إذا لم يكن الانفعال بمجرّده موجبا لسريان الانفعال، فلا بدّ في الحكم بنجاسة البعيد من دليل.

نعم، جريان الماء النجس يقتضي نجاسة ما يصل إليه، فإذا استوعب الأجزاء

ص: 125


1- الدروس الشرعيّة 119:1.
2- مشارق الشموس: 201.
3- ذخيرة المعاد: 118.
4- و هو المحقّق السيّد رضيّ الدين القزويني، (الكرام البررة 576:2) و لكنّا لم نعثر على ما نقل عنه المصنّف قدّس سرّه.
5- مدارك الأحكام 45:1.
6- مدارك الأحكام 45:1.

المنحدرة نجّسها و إن كثرت و لا بعد في ذلك، فإنّها لعدم استواء سطحها بمنزلة المنفصل، فكما أنّه ينجّس بملاقاة النجاسة له - و إن قلّت و كان مجموعه في غاية الكثرة - فكذا هذه.

و أورد عليه المحقّق الخوانساري: «بأنّه بعد تسليم انفعال ما نقص عن الكرّ بالملاقاة مع الاجتماع و التقارب، لا شكّ أنّه يلزم نجاسة جميع ماء النهر المذكور؛ لأنّ النجاسة ملاقية لبعضه، و ذلك البعض ملاق للبعض الآخر القريب منه، و هكذا فينجّس الجميع، إذ الظاهر أنّ القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة لا يفرّقون بين النجاسة و المتنجّس، و ما ذكره من أنّ مجرّد الاتّصال بالنجس لو كان موجبا للانفعال في نظر الشارع لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل.

ففيه: أنّه مخصّص عن العموم بالإجماع، فإلحاق ما عداه به ممّا لا دليل عليه قياس لا نقول به، على أنّ الفارق أيضا موجود كما ذكره بعض من عدم تعقّل سريان النجاسة إلى الأعلى»(1).

ثمّ إنّ المحقّق الشيخ عليّ احتجّ على ما صار إليه: «بأنّ الأسفل و الأعلى لو اتّحدا في الحكم، للزم تنجّس كلّ أعلى متّصل بأسفل مع القلّة و هو معلوم البطلان، و حيث لم يتنجّس بنجاسته لم يطهّر بطهره»(2) انتهى.

و مراده بالأسفل في قوله: «كلّ أعلى متّصل بأسفل» ما كان من الأسفل متنجّسا، و إلاّ لا يعقل تنجّس الأعلى به و هو طاهر، و بالقلّة في قوله: «مع القلّة» المجموع.

و أجاب عنه في المدارك: بأنّ الحكم بعدم نجاسة الأعلى بوقوع النجاسة فيه مع بلوغ المجموع منه و من الأسفل الكرّ إنّما كان لاندراجه تحت عموم الخبر، و ليس في هذا ما يستلزم نجاسة الأعلى بنجاسة الأسفل بوجه، مع أنّ الإجماع منعقد على أنّ النجاسة لا تسري إلى الأعلى مطلقا(3).

و قد يقرّر: بأنّ القول بتقوّي الأعلى بالأسفل، إمّا لكونهما ماء واحدا مندرجا تحت

ص: 126


1- مشارق الشموس: 201.
2- حكاه عنه في مشارق الشموس: 201 - و أيضا عنه في مدارك الأحكام 45:1.
3- مدارك الأحكام 45:1.

عموم «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه»(1) أو لعدم دليل على تنجّسه بناء على عدم عموم في أدلّة انفعال القليل كما ذكرنا، فإن كان الأوّل فإنّما يلزم ما ذكره لو ثبت أنّ كلّ ماء واحد قليل ينجّس جميعا بنجاسة بعض منه و إن كان أسفل من بعض آخر، و لم يثبت لما عرفت من عدم دليل عامّ على انفعال القليل، و على تقدير وجوده نقول: إنّه مخصّص بغير صورة النزاع، للإجماع على عدم سراية النجاسة عن الأسفل إلى الأعلى، و ذلك الإجماع لا يستلزم خروج الأسفل و الأعلى عن الوحدة كما لا يخفى، و قس عليه الحال في نجاسة أسفل الكثير بالتغيّر و عدم نجاسة ما فوقه، و إن كان الثاني فالأمر أظهر.

فقد انقدح لك بجميع ما فصّلناه في تحرير النزاع و محلّه، من تكلّف ذكر العبارات و تعرّض نقل النقوض و الإبرامات، امور:

الأوّل: اتّفاقهم على اعتبار الاتّصال فيما بين أجزاء الماء لو كانت متفرّقة، فلو انفصل بعضها عن بعض من دون توسّط ما يوجب بينها الوصل - و لو بنحو الساقية أو الثقبة - لم يكن من محلّ النزاع في شيء، و لا أنّ المجموع من الكرّ المحكوم عليه بعدم الانفعال بالملاقاة.

و الثاني: كون العمدة فيما هو مناط موضع البحث صدق الوحدة عند اختلاف السطوح و عدمه.

و الثالث: قضيّة ما تقدّم عن صاحب المعالم كون الاجتماع فيما بين أجزاء الكرّ ممّا له مدخليّة في الحكم، فلا يكون مجرّد تساوي السطوح عنده مع فرض عدم الاجتماع - كما لو تواصلت المياه المتفرّقة في نظر الحسّ بعضها مع بعض المستوية السطوح - كافيا في انعقاد موضوع الحكم.

و الرابع: عدم كون الخلاف عن نصوص واردة في المسألة بخصوصها، بل مبناه على الاستظهارات الناشئة عن أخبار الكرّ، فكلّ يستظهر مطلبه عنها بملاحظة شيء من الجهات الموجودة فيها و لو في نظر الوهم، و بذلك يعلم أنّ الأمر في تحقيق المسألة هيّن، لوضوح طريقه و اتّضاح مدركه، فلا بدّ من النظر في مساق الأخبار المذكورة و مفادها حسبما

ص: 127


1- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2.

يساعد عليه العرف و فهم أهل اللسان، و يوافقه القواعد المحكمة المقرّرة في مظانّها.

فنقول: يمكن الاستدلال لمشترطي المساواة بصحيحة محمّد بن مسلم - المتقدّمة - المتضمّنة لقول السائل: «قلت له: الغدير ماء مجتمع إلخ»(1) القاضية باعتبار الاجتماع، الّذي هو أخصّ من مساواة السطح.

و رواية الكافي المتضمّنة لقوله عليه السّلام «إذا كان الماء في الركيّ»(2) نظرا إلى أنّ الركيّة - و هي البئر - ممّا لا يعقل فيه الاختلاف.

و صحيحة صفوان المشتملة على السؤال عن حياض ما بين مكّة و المدينة(3)و صحيحة إسماعيل بن جابر(4) و غيرها ممّا يتضمّن تحديد الكرّ بالمساحة على وجه لا يعقل معه عدم الاجتماع و يبعد عدم المساواة، فلو لا هذه الامور معتبرة في نظر الشارع لما وردت الروايات على هذا النمط.

و أنت خبير بأنّه ليس شيء من ذلك بشيء، بل كلّ من ذا أوهن من بيت العنكبوت، على وجه لا يمكن التعويل عليها في إثبات مثل هذا الحكم، المخرج على خلاف الأصل من جهات شتّى:

أمّا الأوّل من الوجوه فيدفعه: أنّ من المقرّر في المباحث الاصوليّة أنّ خصوصيّة المورد و السؤال لا تصلح مخصّصة للوارد و الجواب، بل العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المحلّ، و كما أنّ أفراد الغدير بالسؤال عنه لا يقتضي باختصاص الحكم به و لا ينافي شموله غيره كائنا ما كان - كما هو المجمع عليه هنا و يعترف به الخصم جدّا - فكذلك خصوصيّة الوصف الوارد معه في السؤال أيضا لا يقتضي بذلك، كيف و أنّ الفرع لا يزيد على الأصل.

و إلحاقه بقاعدة مفهوم الوصف - لو قيل به - مدفوع بمنع حجّيّة ذلك المفهوم إلاّ في مواضع ليس المقام منها - كما قرّر في محلّه - و منع اعتباره هنا على فرض الحجّيّة، من

ص: 128


1- الوسائل 159:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 1308/414:1 - الاستبصار 17/11:1.
2- الوسائل 160:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 8 - الكافي 4/2:3.
3- الوسائل 162:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 12 - التهذيب 1317/417:1.
4- الوسائل 164:1، ب 10 من أبواب الماء المطلق 14 - التهذيب 14/41:1.

حيث عدم وروده إلاّ في كلام السائل، و العبرة إنّما هو بما ورد في كلام المسئول و هو خال عن القيد، و لا يلزم من عدم إرادته في الجواب خروجه عن المطابقة للسؤال، لعدم انكشاف كون وروده في السؤال على وجه له مدخليّة في غرض السائل، لقوّة احتمال - بل ظهور - كونه حكاية للواقعة حسبما وقعت في الخارج، من دون التفات إلى مدخليّة الخصوصيّة و عدمها، كما هو واقع و شائع في جميع العرفيّات و كافّة الأجوبة و السؤالات.

و أمّا الثاني: فقد تبيّن حاله بما ذكرنا، فإنّ خصوصيّة أصل الركيّة ممّا لا مدخليّة له في الحكم فضلا عن الوصف الموجود فيها في نظر الوهم، هذا مع توجّه المنع إلى ظهورها في الاجتماع أو المساواة، لوضوح أنّ المذكور في الخطاب إنّما هو الركيّ، و هو جمع «الركيّة» على ما عن الصحاح(1) و «الركيّة» هي البئر على ما في المجمع(2)فيكون إطلاق الرواية قاضيا بأنّه لو كان المجموع من مياه آبار متعدّدة كرّا - كما قد يتّفق ذلك - كان كافيا في حكم عدم الانفعال فيفوت به اعتبار الاجتماع.

بل لك أن تقول: بمنع ظهوره في المساواة الّتي لا تتحقّق في مفروض المسألة غالبا إلاّ بعدم الجريان، و قد يتّفق كثيرا جريان المجتمع من مياه الآبار عن تحت الأرض كما في القنوات، و لا ريب أنّ الإطلاق يشمله فترتّب عليه الحكم.

و أمّا الثالث: فالكلام فيه أيضا نظير ما عرفت، فإنّه سؤال عن محلّ الابتلاء، أو عمّا عساه يبتلى به، من دون نظر إلى الخصوصيّات القائمة به، فلا يوجب شيء منها و هنا في عموم الجواب الوارد عليه الماهيّة المطلقة الّتي حيثما وجدت أوجبت جريان الحكم المعلّق عليها.

و أمّا الرابع: فلأنّ المتبادر في نظائره بيان ضابط كلّي يرجع إليه في مواضع الشبهة، و هو بلوغ الماء المشكوك في حاله بعد الجمع بحسب المساحة هذا المقدار، من دون مدخل لخصوصيّة الوضع و الشكل في الحكم، كيف و لو صحّ المدخليّة لوجب الاقتصار على ما يخرج معه الحساب صحيحا مستقيما في جميع الأبعاد الثلاث على حسبما هو صريح التحديد، من دون حاجة إلى الكسر و إضافة ما خرج في بعضها عن حدّه

ص: 129


1- الصحاح؛ مادّة «ركا» 2361:6.
2- مجمع البحرين؛ مادّة «ركا» 194:1.

المضروب إلى ما نقص منها عن هذا الحدّ، فيلزم أن لا يكون بما عدا المربّع من الأشكال المختلفة من المثلّثات و الدوائر و المستطيلات و الهلاليّات و نحوها عبرة في ترتيب أحكام الكرّ، و هو في غاية البعد، بل يشبه بكونه خلاف الإجماع بل خلاف الضرورة، مع أنّ الاختلاف على وجه الانحدار الّذي يتحقّق مع جريان اليسير - خصوصا إذا لم يكن فاحشا - لا ينافي شيئا من تلك التحديدات.

سلّمنا و لكن جميع ما ذكر في تلك الوجوه يعارضه ظاهر روايات اخر واردة في هذا الباب، كرواية محمّد بن مسلم المتضمّنة للسؤال عن الماء الّذي تبول فيه الدوابّ (1)، و صحيحة عليّ بن جعفر المشتملة على السؤال عن الدجاجة و الحمامة و أشباهها تطأ العذرة ثمّ تدخل الماء(2)، و صحيحة إسماعيل بن جابر المتضمّنة للسؤال عن الماء الّذي لا ينجّسه شيء(3)، فإنّ السؤال في كلّ ذلك ورد على وجه عامّ و طابقه الجواب، مع اقترانه بترك الاستفصال من دون إشعار فيهما بشيء من الأحوال و الخصوصيّات، فلو لا الحكم عامّا لجميع الصور لكان ترك التنبيه على ما له مدخليّة - لو كان في مقام التعليم و البيان - منافيا للحكمة، و هو كما ترى.

فلو سلّم عدم كون هذه بنفسها أظهر من الطرف المقابل كان غايته التساقط، فتبقى الأخبار المطلقة الغير المسبوقة بالأسئلة كالنبويّ المتقدّم(4)، و صحيحة معاوية بن عمّار(5)المشتملين ابتداء على قولهم عليهم السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» سليمة عن المعارض.

و ينبغي التعرّض لوجه دلالة هذه على المطلوب ليتّضح المقام كمال الوضوح. فنقول:

شبهة الخصم إمّا أن تنشأ عن توهّم قصور لفظة «الماء» عن الدلالة على ما يعمّ نظائر المقام، أو تنشأ عن توهّم ذلك في لفظة «الكرّ»، أو عن توهّم ذلك في الهيئة التركيبيّة

ص: 130


1- الوسائل 159:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 1308/414:1.
2- الوسائل 159:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 1326/419:1 - مسائل عليّ بن جعفر: 403/193.
3- الوسائل 164:1، ب 10 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 14/41:1.
4- الفائق 164:1؛ غريب الحديث - للهروي - 338:1.
5- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 109/40:1 بسند آخر.

الكلاميّة المشتملة عليهما و على ما يسند إليهما من الفعلين، و لا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل: فلأنّ «الماء» من أسماء الأجناس الواقعة على القليل و الكثير، المشتركة فيها بين الأكثر و الأقلّ، و الكلّ و الأبعاض، كالتمر و الحنطة و نحوها ممّا يختلف أفرادها و تتمايز بالقلّة و الكثرة، فالكرّ من الماء ماء، و صاع منه - بل مدّ و غرفة منه على فرض الانفصال - ماء، و لو وزّع أرطالا مثلا و جعل كلّ رطل في مكان، فإن لم يوصل بين كلّ و صاحبه بساقية كان كلّ واحد ماء و المجموع مياه، و إلاّ كان المجموع ماء، و لو صبّ الماء من آنية على رأس منارة حتّى يصل منتهاه إلى وجه الأرض كان المجموع ممّا فيهما و ما في أثناء النزول ماء ما دام الاتّصال باقيا، بخلاف ما لو انقطع الاتّصال فكان ما في الآنية ماء، و ما في المنارة آخر، و ما على وجه الأرض ثالثا.

و قضيّة ذلك: سراية الحكم لو علّق على الطبيعة من حيث هي إلى جميع تلك المصاديق من غير أن يخرج شيء منها.

و توهّم: كون ما فرض في مسألة المنارة من نادر تلك المصاديق، و الإطلاق إنّما ينصرف إلى شائعها - كما هو مقرّر في المسائل الاصوليّة - يدفعه: منع الاعتبار بندرة الوجود، و غيرها غير موجود.

و أمّا الثاني: فلأنّ «الكرّ» من الألفاظ الموضوعة لمقدار معيّن، و لو بحسب الشرع أو على سبيل المجاز، فلا يقع على الأبعاض كالمنّ و نحوه، بل يقع على المجموع من حيث هو، فلهيئته الاجتماعيّة دخل في الصدق، نعم يكفي في الصدق عليها اتّصال ما بينها إذا كانت متفرّقة في محالّ متعدّدة، فالمقدار الوارد في الروايات كرّ بأيّ شكل فرض، حتّى ما يفرض منه في المنارة على الوجه المتقدّم، فيكون مفاد الروايات بعد الجمع بين مدلوله و مدلول الماء نظير ما لو قيل: ما يقع عليه اسم الماء فهو ممّا لا ينجّسه النجاسة بمجرّد وقوعها فيه إذا كان ممّا يقع عليه اسم الكرّ. و لا ريب أنّ ذلك معنى عامّ لا يشذّ منه شيء من أفراد الماء، و لا شيء من مصاديق الكرّ، و معه كيف يناقش في دلالة ذلك على عموم الحكم، و لم يسبقه ما يصلح قرينة على العهد الصارف للعامّ إلى الخصوص، و من أين يجيء اعتبار الاجتماع أو مساواة السطوح أو نحو ذلك،

ص: 131

فهل لك أن تقول: بأنّ ما عرى عنهما ليس بماء، أو أنّه ليس من الكرّ حتّى لا يكون مشمولا للدليل، أو تقول: بأنّ ذلك شرط خارج عنهما بكليهما معتبر معهما في الحكم على حدّ سائر الشروط الواردة في الشريعة، و لم يقم عليه من الشارع دلالة و لا إشارة مع كون الحكم ممّا يعمّ به البلوى، بل هو أعمّ ابتلاء من سائر الشرعيّات.

و توهّم: عدم انصراف الهيئة التركيبيّة إلى نظائر المقام، مع عدم اقترانها بما يوجب ذلك، و ظهور سياقها في ورودها لإعطاء قاعدة كلّيّة مندرجة في قولهم عليهم السّلام: «علينا أن نلقي إليكم الاصول و عليكم أن تفرّعوا»(1) الّتي لا تصلح لذلك إلاّ على تقدير كون موضوعها مأخوذا على وجه عامّ معبّر عنه بالماهيّة لا بشرط شيء، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه.

و كلّ ذلك ممّا يرفع الحاجة إلى التشبّث بالاعتبارات أو الاستبعادات المخرجة في المقام لتأييد هذا المذهب - الّتي قد عرفت بعضها - كما أنّه ممّا يحسم مادّة الاستبعادات و الاعتبارات الاخر المخرجة لتأييد خلاف المذهب بالكلّيّة، كما أنّه ممّا لا يفترق فيه الحال بين أنواع الاختلاف، و لا بين أوضاع الماء من علوّ أو دنوّ أو غيرهما، فإنّ قضيّة العموم تقوّم كلّ بعض من أبعاض الكرّ بالآخر كيفما اتّفق.

و القول: بأنّ الأسفل و الأعلى لو اتّحدا في الحكم للزم تنجيس كلّ أعلى طاهر متّصل بأسفل متنجّس مع فرض قلّة المجموع و هو باطل، فحيث إنّه لا ينجّس بنجاسته فلا يطهّر بطهارته، كما عرفته من المحقّق الكركي(2).

يدفعه: منع الملازمة، بعد ملاحظة قيام الدلالة على المقدّم دون التالي، بل قيامها على خلافه كما عرفته من الإجماع، مع أنّا لا نقول: بأنّ العالي يطهّر بطهر السافل، إذ ليس بحثنا في مسألة التطهير، بل نقول: إنّه لا ينفعل من جهة وجوده كما في صورة العكس، و عدم كونهما متّحدين في سائر الأحكام لا يقضي بكونهما كذلك في مسألة التقوّم و الاعتصام، لوضوح بطلان دعوى الملازمة، كيف و لو لا ذلك اتّجه قبول الانفعال و هو لكونه حكما مخالفا للأصل بل الاصول لا بدّ له من دلالة، و أنّى لهم الدلالة عليه، مع

ص: 132


1- الوسائل 61:27، ب 6 من أبواب صفات القاضي ح 51.
2- تقدم في الصفحة: 124.

الجزم بعدم اندراجه في أدلّة انفعال القليل كما اعترفوا به.

و بالجملة: لا إشكال في حكم المسألة أصلا في شيء من صورها، نعم لو شئت الأخذ بالاحتياط في بعضها فلا بأس به خروجا عن شبهة الخلاف، لأنّه حسن على كلّ حال.

و يقوي رجحان الاحتياط فيما لو بلغ الاختلاف حدّا يضعف به صدق الوحدة، لضعف الاتّصال برقّة الساقية أو دقّة الثقبة كرأس الإبرة و نحوه، إلاّ أنّه لا يبلغ مرتبة الوجوب لعدم صلوحه معارضا للأصل الأصيل الّذي تقدّم الكلام في تحقيقه، نعم، يتعيّن الانفعال لو بلغ ضعف الاتّصال حدّا لا يقال معه ماء، بل يقال ماءان.

و لنختم المقام بإيراد فروع:
الأوّل: إذا وقعت في الكرّ نجاسة مائعة غير مغيّرة

جاز استعمال جميعه كما صرّح به العلاّمة في المنتهى(1)؛ لأنّه من آثار الكرّيّة و لوازمها؛ و لأنّه لو منع عن استعماله فإمّا في الجميع أو في البعض، و الأوّل خلاف الإجماع، و الثاني ترجيح بلا مرجّح.

و قد يعزى إلى بعض الشافعيّة(2) المنع عن ذلك في المقدار من الماء الّذي لا ينفعل بالنجاسة.

و أمّا لو وقعت فيه نجاسة متميّزة فجاز استعمال الماء المجاور لها و لا يجب التباعد، وفاقا للعلاّمة في الكتاب(3)، لأنّه منوط بالمائيّة و الطهارة و هما حاصلان في الفرض.

الثاني: لا فرق في عدم انفعال الكثير بالملاقاة الغير المغيّرة بين أنواع النجاسة،

لعموم «لا ينجّسه شيء»(4) خلافا لأحمد(5) في قوله بالانفعال بوقوع بول الآدميّين و عذرتهم الرطبة، استنادا إلى قوله عليه السّلام: «لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم الّذي لا تجري ثمّ يغتسل منه»(6) و هو يتناول القليل و الكثير.

ص: 133


1- منتهى المطلب 41:1.
2- المهذّب للشيرازي 7:1؛ المجموع 139:1؛ فتح العزيز بهامش المجموع 214:1.
3- منتهى المطلب 41:1.
4- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2.
5- المغني لابن قدامة 66:1؛ إرشاد الساري 304:1، الإنصاف 59:1.
6- صحيح البخاري 69:1، صحيح مسلم 235:1 ح 282، سنن أبي داود 18:1 ح 69 سنن الترمذي 100:1. ح 68، سنن النسائي 125:1، سنن الدارمي 186:1 مسند أحمد 346:2، نيل الأوطار 39:1.

و جوابه: أنّه محمول على القلّة جمعا بين الأدلّة أو النهي ليس هنا للتحريم، و على فرضه فلا ملازمة بينه و بين النجاسة إلاّ بضميمة الإجماع و هو هنا على خلافه.

و الزم أيضا: بأنّه لا يقول به في بول الكلب، فلأن لا يقول به في بول الآدميّين طريق الأولويّة؛ لأنّ نجاسة بول الكلب أزيد من نجاسته.

الثالث: لو اغترف من كرّ فيه نجاسة غير متميّزة

كان المجموع من المأخوذ و الباقي و آلة الاغتراف طاهرا، و لو كانت النجاسة متميّزة فإن لم يخرج الباقي عن الكرّيّة كان الجميع أيضا طاهرا، و إلاّ كان المأخوذ مع باطن الآنية طاهرين، و الباقي مع ظاهر الآنية الملاصق للماء حين خروجها عنه نجسين.

هذا على تقدير دخول الآنية بأجمعها في الماء على وجه لم يخرج ما فيها و ما في خارجها عن الاتّصال، و إلاّ نجس الجميع، لخروج الماء بدخول جزء أوّل منه في الإناء عن الكرّيّة فينجّس بتخلّل الفصل بينه و بين ما فيها، و لو دخلت النجاسة في الآنية في هذا الفرض فإن كان دخولها بأوّل جزء من الماء كان ما في الآنية مع باطنها نجسين و الباقي مع ظاهرها طاهرين، و إن كان دخولها أخيرا كان الجميع نجسا إن اتّفق سلب الاتّصال فيما بين ما دخل فيها و ما خرج عنها؛ لأنّ الخارج بانقطاعه عن الداخل في أوّل المرتبة قد صار نجسا، لخروجه عن الكرّيّة ثمّ دخل منه ثانيا فيها جزء آخر و هو نجس، و إلاّ اختصّ النجاسة بما فيها مع باطنها، و أمّا الباقي مع ظاهرها فهما باقيان على الطهارة.

الرابع: لو دخل الكلب أو أحد أخويه في الكرّ،

فهو طاهر ما دام الكلب داخلا فيه، إن لم يتلف منه شيئا بشرب و نحوه، و إذا خرج عنه انقلب حكمه إلى النجاسة من جهة الملاقاة مع القلّة، كما أنّه كذلك على تقدير الإتلاف و لو مع الدخول.

الخامس: عن العلاّمة في المنتهى: «أنّه لو جمد الكثير ثمّ أصابته نجاسة بعد الجمود،

فالأقرب عدم تنجّسه بها ما لم تغيّرها، محتجّا بأنّ الجمود لم يخرجه عن حقيقته بل هو مؤكّد لثبوتها، فإنّ الآثار الصادرة عن الحقيقة كلّما قويت كانت أوكد في ثبوتها، و البرودة من معلولات طبيعة الماء و هي تقضي الجمود، و إذا لم يكن ذلك مخرجا له عن الحقيقة كان داخلا في عموم قوله عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه

ص: 134

شيء»(1)-(2) و هو كما ترى من أوهن الأشياء كما تنبّه عليه صاحب الحدائق(3)، لعدم ابتناء أحكام الشرع على أمثال هذه الدقائق، بل العبرة فيها بما يساعد عليه العرف أو اللغة، و لا ريب أنّ عروض الجمود للماء يخرجه عن صدق اسم المائيّة، و يسلب عنه الإطلاق فلا يتناوله الحكم المعلّق عليه حينئذ.

نعم لو قيل بهذا الكلام في مثل الدهن و الدبس و نحوهما ممّا لا يخرج بالجمود عن الصدق كان متّجها، فيترتّب عليه بعد الجمود الأحكام الثابتة له قبل الجمود، غير أنّ المقام ليس منه جزما، فكان الأقوى بل المتعيّن تنجّس موضع الملاقاة في الجامد، كما عليه الشهيد في الدروس(4)، و المحقّق الخوانساري في شرحه(5)، و اختاره في الحدائق(6)، و عزى استظهاره إلى بعض المحقّقين، و عليه طهره كطهر سائر الجوامد، فيحصل تارة بإلقاء العين مع ما يكتنفها إن كانت ذات عين، و اخرى باتّصاله بالجاري أو الكثير، أو وقوع المطر عليه مع زوال العين في الجميع، و ثالثة بصبّ الماء القليل عليه على حدّ ما يتطهّر به سائر الجوامد.

السادس: الماء إذا كان كرّا و تغيّر بعضه فالجميع نجس إن كانت سطوحه مستوية،

و إلاّ اختصّت النجاسة بالأسفل إن لم يكن موضع التغيّر هو الأعلى، لإجماعهم على عدم السراية إليه، و إن كان زائدا على الكرّ فتغيّر بعضه فإمّا أن يكون الباقي مقدار الكرّ أو أزيد منه أو أنقص، و على التقادير فإمّا أن يستوعب النجاسة عمود الماء - و هو خطّ ما بين حاشيته عرضا و طولا - أو لا، و على التقادير فإمّا أن يكون سطوحه مستوية أو مختلفة.

و محصّل أحكام تلك الصور: أنّ الجميع في صورة النقصان مع استواء السطوح نجس، و مع اختلافها كانت النجاسة مختصّة بالأسفل، من غير فرق فيهما بين استيعاب العمود و عدمه، كما أنّ الجميع في غير صورة عدم النقصان مع عدم استيعاب العمود طاهر، من غير فرق بين استواء السطوح و عدمه، و أمّا مع الاستيعاب فإن كانت الكرّيّة قائمة بمجموع الطرفين كان الجميع مع الاستواء و الأسفل خاصّة مع الاختلاف نجسا،

ص: 135


1- الوسائل 158:1، ب 9 أبواب الماء المطلق ح 2.
2- منتهى المطلب 172:1 نقلا بالمعنى.
3- الحدائق الناضرة 249:1.
4- الدروس الشرعيّة 118:1.
5- مشارق الشموس: 204.
6- الحدائق الناضرة 248:1.

و إن كانت قائمة بأحدهما اختصّت الطهارة به مع الاستواء، و أمّا مع الاختلاف فإن كانت الكرّيّة في الطرف الأسفل كان الجميع طاهرا، أمّا هو فبالكرّيّة و أمّا الأعلى فبعدم السراية، و إن كانت في الطرف الأعلى فهو الطاهر بجهتين دون الأسفل.

السابع: عن العلاّمة أنّه حكم في القواعد بالنجاسة في الماء الّذي يشكّ في كرّيّته إذا وجد فيها نجاسة،

السابع: عن العلاّمة أنّه حكم في القواعد(1) بالنجاسة في الماء الّذي يشكّ في كرّيّته إذا وجد فيها نجاسة،

و عن جامع المقاصد(2) أنّه علّله: «بأنّ المقتضي للتنجيس موجود و المانع مشكوك فيه فينفى بالأصل»، و كأنّه مبنيّ على توهّم كون الكرّيّة مانعة عن الانفعال كما سبق إلى بعض الأوهام، و قد تقدّم منّا ما يهدم بنيان هذا البيان، فالأقرب في الصورة المفروضة الحكم بالطهارة عملا بالاصول المحكمة، و مثله الكلام فيما لو وجد نجاسة في الكرّ و شكّ في وقوعها عليه قبل بلوغ الكرّيّة أو بعد بلوغها.

الثامن: عن المحقّق في المعتبر: «أنّه لو تطهّر من ماء ثمّ علم فيه نجاسة و شكّ هل كانت قبل الوضوء أو بعده فالأصل الصحّة،

و لو علم أنّها قبله و لم يعلم هل كان كرّا أو أقلّ أعاد لأنّ الأصل القلّة»(3).

و هو على إطلاقه غير وجيه، إذ كثيرا ما لا يكون الماء مسبوقا بالقلّة، و معه لا معارض لأصل الطهارة حسبما اقتضته العمومات. فالمتّجه حينئذ صحّة الوضوء و عدم لزوم إعادته، فإنّها و إن كانت معلّقة على طهارة الماء، غير أنّ الطهارة منوطة بعدم العلم بالقذارة و المفروض منه، و إنّما لا نقول به في صورة جريان أصالة القلّة، لإمكان القول بأنّها علم شرعي بالقذارة و هو قائم مقام العلم، فيدخل المفروض في غاية قوله عليه السّلام:

«كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(4).

الجهة الخامسة: في تحديد الكرّ الّذي لا ينجّس بالملاقاة،

اشارة

فاعلم: أنّ للأصحاب في تحديد الكرّ طريقين:

الطريق الأوّل: تحديده باعتبار الوزن،

فهو بهذا الاعتبار ألف و مائتا رطل، كما عن الأصحاب قديما و حديثا، و عليه نقل الإجماعات على حدّ الاستفاضة، كما عن صريح الناصريّات(5)،

ص: 136


1- قواعد الاحكام 183:1.
2- جامع المقاصد 119:1.
3- المعتبر: 12.
4- الوسائل 134:1، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5 - و فيه: «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر».
5- الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة) 135:1.

و الغنية(1)، و مجمع الفائدة(2)، و ظاهر الانتصار(3)، و المعتبر(4)، و نهج الحقّ (5)، و عن الصدوق في محكي [شرح] المفاتيح: «أنّه من دين الإماميّة»(6)، و في الحدائق: «أنّه لا خلاف فيه»(7)، و في الجواهر: «إجماعا منقولا بل محصّلا»(8).

و الأصل في ذلك مرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«الكرّ من الماء الّذي لا ينجّسه شيء الف و مائتا رطل»، الواردة في التهذيب في باب آداب الأحداث(9)، و الاستبصار في باب كمّيّة الكرّ(10)، و في الكافي في باب الماء الّذي لا ينجّسه شيء(11).

و لا يقدح ما فيها من الإرسال، أمّا أوّلا: فلاتّفاقهم على أنّ مراسيل ابن أبي عمير في حكم مسانيده، لأنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة.

و أمّا ثانيا: فلانجباره في خصوص المقام بعمل الأصحاب و قبولهم إيّاها.

و لا يعارضها ما في الصحيح - الوارد في التهذيب(12) و الاستبصار(13) في زيادات باب المياه - عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه قال: قلت له الغدير ماء مجتمع تبول فيه الدوابّ و تلغ فيه الكلاب و يغتسل فيه الجنب، قال: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء، و الكرّ ستّمائة رطل».

و لا المرفوعة - الواردة في التهذيب في باب الأحداث (14)- عن عبد اللّه بن مغيرة رفعه إلى أبي عبد اللّه: «إنّ الكرّ ستّمائة رطل».

ص: 137


1- غنية النزوع: (سلسلة الينابيع الفقهيّة) 379:2.
2- مجمع الفائدة و البرهان 259:1.
3- الانتصار: 8.
4- المعتبر: 10.
5- نهج الحقّ و كشف الصدق: 417.
6- حكى في مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) عن الصدوق في أماليه، الورقة: 519.
7- الحدائق الناضرة 254:1.
8- جواهر الكلام 339:1.
9- الوسائل 167:1، ب 11 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 113/41:1 - الاستبصار 15/10:1.
10- الوسائل 167:1، ب 11 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 113/41:1 - الاستبصار 15/10:1.
11- الكافي 63:3، الاّ أنّه أسقط قوله: «الّذي لا ينجّسه شيء».
12- نقل ذيله في الوسائل 168:1، ب 11 من أبواب الماء المطلق ح 3 - و صدره في ب 9 من هذه الأبواب ح 5 - التهذيب 1308/414:1 - الاستبصار 17/11:1.
13- نقل ذيله في الوسائل 168:1، ب 11 من أبواب الماء المطلق ح 3 - و صدره في ب 9 من هذه الأبواب ح 5 - التهذيب 1308/414:1 - الاستبصار 17/11:1.
14- الوسائل 168:1، ب 11 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 119/43:1 - الاستبصار 16/11:1.

و لا ما في التهذيب(1) و الاستبصار(2) و الكافي(3) الموصوف بالحسن عن زرارة قال: «إذا كان الماء أكثر من رواية لم ينجّسه شيء تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ فيه، إلاّ أن يجيء له ريح يغلب على ريح الماء».

و لا ما في الكتب المذكورة الموصوف بالحسن عن عبد اللّه بن مغيرة عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الكرّ من الماء نحو حبّي هذا، و أشار إلى حبّ من تلك الحباب الّتي تكون بالمدينة»(4).

و لا ما في التهذيب(5) و الاستبصار(6) في زيادات باب المياه، عن عبد اللّه بن مغيرة عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا كان الماء قدر قلّتين لم ينجّسه شيء، و القلّتان جرّتان»، و رواه في الفقيه أيضا مرسلا(7).

أمّا الأوّلان: فلأنّهما إمّا محمولان على الرطل المكّي الّذي هو ضعف الرطل العراقي بقرينة ما سيجيء، أو ساقطان عن درجة الحجّيّة لمصير الأصحاب إلى خلافهما.

و أمّا الأواخر: فلإمكان حمل الجميع على ما يسع الكرّ إذ لا بعد فيه كما قيل، مضافا إلى ما في الأخيرة من قوّة احتمال ورودها مورد التقيّة كما تقدّم إليه الإشارة، مع ما في الجميع بعد الإغماض عمّا ذكر من الموهونيّة المسقطة عن الحجّيّة بمصير الأصحاب إلى المخالفة، فهذا المقدار من المسألة بحمد اللّه و المنّة له ممّا لا إشكال فيه، و لا شبهة تعتريه.

و إنّما الإشكال في تعيين المراد بالرطل الوارد في الرواية المذكورة، فإنّ للأصحاب فيه خلافا، منشؤه أنّ «الرطل» ممّا يقال بالاشتراك على ثلاث مقادير مخصوصة، أحدها: بالعراقي، و ثانيها: بالمدني، و ثالثها: بالمكّي، و الأوّل من الثاني ثلثاه، و من الثالث نصفه، كما أنّ الثاني منه ثلاثة أرباعه.

فالأوّل على ما فسّره به المشهور مائة و ثلاثون درهما، فيكون الثاني مائة و خمسة

ص: 138


1- الوسائل 139:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1298/412:1 - الاستبصار 7/7:1 - الكافي 3/2:3.
2- الوسائل 139:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1298/412:1 - الاستبصار 7/7:1 - الكافي 3/2:3.
3- الوسائل 139:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1298/412:1 - الاستبصار 7/7:1 - الكافي 3/2:3.
4- الوسائل 166:1، ب 10 من أبواب الماء المطلق ح 7 - الكافي 8/3:3 - الاستبصار 5/7:1 - التهذيب 118/42:1.
5- الوسائل 166:1، ب 10 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1309/415:1 الاستبصار 6/7:1 - الفقيه 3/6:1.
6- الوسائل 166:1، ب 10 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1309/415:1 الاستبصار 6/7:1 - الفقيه 3/6:1.
7- الفقيه 6:1 - التهذيب 440:1.

و تسعين درهما، و الثالث مائتين و ستّين درهما، و إنّما قيّدناه بالمشهور احترازا عمّا عن العلاّمة من تفسيره في نصاب الغلاّت من التحرير(1) و المنتهى(2): «بأنّه مائة و ثمانية و عشرون درهما و أربعة أسباع درهم»، فينقص من الأوّل بواحد و ثلاثة أسباع واحد و في كلام غير واحد أنّه سهو و غفلة.

و ممّا يفصح عن ذلك و يشهد بصدق مقالة المشهور، ما في مكاتبة الهمداني(3) عن أبي الحسن عليه السّلام: «إنّ الصاع ستّة أرطال بالمدني و تسعة أرطال بالعراقي، و وزنه ألف و مائة و سبعون وزنة»(4)؛ فإنّ هذا التقدير يقتضي كون كلّ رطل من العراقي مائة و ثلاثين وزنة، مضافا إلى اقتضائه كون العراقي ثلثين من المدني؛ إذ لو لا الرطل العراقي ناقصا من المدني بثلثه لما كان عدد أرطال الصاع بالعراقي زائدا على عدد أرطاله بالمدني بثلثه، فيحصل الموازنة في أرطال الصاع بالعراقي بين نقصان المادّة و زيادة الهيئة، فيرجع التقدير إلى أرطاله بالمدني، كما أنّه لو حصلت الموازنة في أرطاله بالمدني بين نقصان الهيئة و زيادة المادّة رجع المقدّر إلى أرطاله بالعراقي فليتدبّر.

و كيف كان: فخلافهم المذكور واقع فيما بين العراقي و المدني دون المكّي الّذي قيل فيه بعدم ذهاب أحد إليه، و لهم في ذلك الخلاف قولان:

أحدهما: ما نسب إلى المشهور من حمله على العراقي، و في المختلف(5): قال به الشيخ المفيد(6) و أبو جعفر رحمهما اللّه(7)، و هو اختيار ابن البرّاج(7) و ابن حمزة(8) و ابن إدريس(9).

و في شرح الدروس(10): «عليه الشيخ في النهاية(11) و المبسوط(13)، و هذا يقتضي

ص: 139


1- التحرير - زكاة الغلاّت (الطبعة الحجريّة): 62.
2- منتهى المطلب 497:1.
3- الوسائل 340:9، ب 7 من أبواب زكاة الفطرة ح 1 - التهذيب 243/83:4 الكافي 9/172:4 - الاستبصار 163/49:2.
4- و قضيّة التحديد الوارد في الرواية أن يكون كلّ رطل مائة و ثلاثين وزنة (منه) - و فسّرت الوزنة في كلام بعض الأصحاب بالدرهم (منه).
5- مختلف الشيعة 184:1.
6- المقنعة: 64. (7 و 13) المبسوط 6:1.
7- المهذّب البارع 21:1.
8- الوسيلة: 73.
9- السرائر 60:1.
10- مشارق الشموس: 196.
11- النهاية: 3.

كونه على طبق الرواية و إن كانت مرسلة لانجبارها بالعمل».

و في المناهل(1): «ذهب إليه الحلّي في السرائر(2) و الفاضلان في المعتبر(3)و الشرائع(4) و القواعد(5) و الإرشاد(6) و المختلف(7)، و المحقّق الثاني في جامع المقاصد(8)و الجعفريّة(9)، و المقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة(10)، و صاحب المدارك(11)و الذخيرة»(12).

و ربّما يعزى إلى محكيّ كشف الرموز(13) أنّ الشيخ ادّعى عليه الإجماع.

و ثانيهما: ما عن المرتضى و الصدوق في الناصريّات(14) و الانتصار(15) و المصباح(16)و الفقيه(17) من حمله على المدني، و في المختلف(18): و أطلق ابن الجنيد(19) و سلاّر»(20).

و في المناهل(21): و ربّما يظهر من الغنية(22) و الذكرى(23) التوقّف.

احتجّ الأوّلون بوجوه:

الأوّل: ما قرّره العلاّمة في المختلف(24): من أنّ الأصل طهارة الماء، خرج ما نقص عن الأرطال العراقيّة بالإجماع فيبقى الزائد على الأصل، و ليس في النصّ ما ينافيه فيجب العمل عليه عملا بالأصل السالم عن المعارض.

و هذا الأصل لا يخلو عن إجمال لاحتماله الأصل الاجتهادي المستفاد من عمومات

ص: 140


1- المناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 106.
2- السرائر 60:1.
3- المعتبر: 10.
4- شرائع الإسلام 13:1.
5- قواعد الأحكام 183:1.
6- إرشاد الأذهان 236:1.
7- مختلف الشيعة 184:1.
8- جامع المقاصد 116:1.
9- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 83:1).
10- مجمع الفائدة و البرهان 259:1.
11- مدارك الأحكام 48:1.
12- ذخيرة المعاد: 122.
13- كشف الرموز 48:1.
14- الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 135:1).
15- الانتصار (سلسلة الينابيع الفقهيّة 105:1).
16- نقله عنه في المعتبر: 10.
17- الفقيه 6:1 ذيل الحديث 2.
18- مختلف الشيعة 185:1.
19- نقله عنه في المختلف 185:1.
20- المراسم العلويّة: 36.
21- المناهل - كتاب الطهارة (مخطوط) - الورقة: 106.
22- الغنية (سلسلة الينابيع الفقهيّة 379:2).
23- ذكرى الشيعة 81:1.
24- مختلف الشيعة 185:1.

الأدلّة القائمة بطهارة الماء إلاّ ما علم منه بخروجه كما تقدّم، و القاعدة العامّة المقتضية لكون كلّ شيء مخلوقا لأجل الانتفاع، و استصحاب الطهارة، و أصالة البراءة عن الاجتناب عمّا يشكّ في نجاسته بالملاقاة ممّا يزيد على الرطل العراقي، و إنّما ذكرنا ذلك لورود الاحتجاج في كلامهم بكلّ من هذه الوجوه المذكورة على الاستقلال كما تعرفه.

الثاني: ما حكاه في المناهل(1): من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(2) فإنّه يدلّ على عدم انفعال الماء بالملاقاة مطلقا و لو كان دون العراقي، لكنّه خرج عن هذا العموم بالدليل، و لا دليل على خروج العراقي، فالأصل بقاؤه على العموم.

الثالث: ما حكاه في الكتاب(3) أيضا من أنّ قوله عليه السّلام: «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(4)، يدلّ على أنّ اللازم الحكم بطهارة الماء في مقام الشكّ في طهارته و نجاسته، و محلّ البحث منه.

الرابع: ما حكاه في شرح الدروس(5) و أنّ الأصل طهارة الماء، لأنّه خلق للانتفاع و الانتفاع بالنجس لا يصحّ.

الخامس: ما حكاه في المناهل(6) أيضا من أنّ حدّ العراقي قبل ملاقاته النجس كان طاهرا و مطهّرا، فالأصل بقاؤهما حتّى يثبت المزيل لهما، و لم يثبت بالنسبة إليه.

و السادس: ما تمسّك به في المدارك(7) و حكاه في الحدائق(8) من أنّ الأقلّ متيقّن و الزائد مشكوك فيه فيجب نفيه بالأصل، يعني أصل البراءة كما صرّح به عند التعرّض لدفعه، كما سيأتي الإشارة إليه.

و السابع: ما حكاه في المناهل(9) أيضا من أنّ قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً (10) إلخ،

ص: 141


1- المناهل - كتاب الطهارة (مخطوط) - الورقة: 106.
2- سنن البيهقي 259:1 - سنن الدارقطني 28:1، كنز العمّال 396:9 ح 26652، مجمع الزوائد 214:1 باختلاف يسير، نيل الأوطار 35:1.
3- المناهل - كتاب الطهارة (مخطوط) - الورقة: 110.
4- الوسائل 133:1، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 2 - الفقيه 1/6:1.
5- مشارق الشموس: 196.
6- المناهل - كتاب الطهارة (مخطوط) - الورقة: 110.
7- مدارك الأحكام 48:1.
8- الحدائق الناضرة 254:1.
9- المناهل - كتاب الطهارة (مخطوط) - الورقة: 110.
10- النساء: 43.

يدلّ بمفهومه على أنّه إذا وجد الماء لم يجب التيمّم فيجب الطهارة المائيّة، و هو عامّ يشمل المفروض، و خروج ما دون العراقي من العموم لا يمنع من التمسّك به بالنسبة إليه.

و الثامن: ما حكاه فيه أيضا(1) - و اعتمد عليه غير واحد، منهم شيخنا في الجواهر(2)- من شيوع إطلاق الرطل في كلامهم عليهم السّلام و إرادة العراقي منه عند الإطلاق، كما يشير إليه خبر الكلبي النسّابة(3) أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن النبيذ؟ فقال: «حلال، فقال: إنّا نبذه فنطرح فيه العكر، و ما سوى ذلك، شه شه، تلك الحمرة المنتنة، قلت: جعلت فداك فأيّ نبيذ تعني؟ فقال إنّ أهل المدينة شكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تغيّر الماء و فساد طبائعهم فأمرهم أن ينبذوا، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له، فيعمد إلى كفّ من تمر فيقذف في الشنّ (4)، فمنه شربه و منه طهره.

فقلت: و كم كان عدد التمر الّذي في الكفّ؟ فقال: ما حمل الكفّ، قلت: واحدة أو اثنتين؟ فقال ربّما كانت واحدة و ربّما كانت اثنتين، فقلت: و كم كان يسع الشنّ ماء؟ فقال: ما بين الأربعين إلى الثمانين، إلى ما فوق ذلك فقلت: بأيّ الأرطال؟ فقال: أرطال مكيال العراق»(5).

فإنّه عليه السّلام أطلق و أراد به العراقي قبل أن يسأله السائل، و لو لم يسأله لأعتمد على ذلك الإطلاق.

و التاسع: ما اعتمد عليه في المدارك(6)، من أنّ ذلك هو المناسب لرواية الأشبار الثلاثة، و قرّره في المختلف - معتمدا عليه -: «بأنّ الأرطال العراقيّة تناسب رواية

ص: 142


1- المناهل - كتاب الطهارة (مخطوط) - الورقة: 110.
2- جواهر الكلام 341:1.
3- الكلبي النسّابة: مشترك بين هشام بن محمّد بن السائب بن بشر بن زيد... بن كلب بن مرّة الناسب، العالم بالأيّام، المشهور بالفضل و العلم، و كان يختصّ بمذهبنا و كان أبو عبد اللّه عليه السّلام يقرّبه، المتوفّى سنة (206 ه) و قيل: سنة (204 ه)، و بين أبيه محمّد بن السائب الّذي عدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السّلام، المتوفّى سنة (146 ه) و الغالب التعبير عن هشام بابن الكلبي و أيضا المناسب لترك لفظة «الابن» أن يكون الراوي هو الأب دون الابن. و اللّه العالم. رجال النجاشي: 434 - تاريخ بغداد 46:14 - رجال الطوسي: 136، 289.
4- الشّنّ: القربة الخلق. الصحاح: مادّة «شنن».
5- الوسائل 203:1، ب 2 من أبواب الماء المضاف ح 2 - الكافي 6/283:1 - التهذيب 629/220:1 - الاستبصار 29/16:1.
6- مدارك الأحكام 48:1.

الأشبار بخلاف المدنيّة فإنّها تفضل عليها، و من المستبعد تحديد مقدار الشيء الواحد بأمرين متفاوتين»(1).

و العاشر: ما تمسّك به في المدارك أيضا و اعتمد عليه في المختلف، فقال الأوّل: «و لما في ذلك من الجمع بين هذه الرواية و بين صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: و الكرّ ستّمائة رطل(2) بحملها على أرطال مكّة، إذ لا يجوز حملها على غيرها من الأرطال العراقيّة أو المدنيّة؛ لأنّ ذلك لم يعتبره أحد من الأصحاب كما ذكره الشيخ في التهذيب(3)»(4).

و في المختلف: «قال الشيخ(5) و هذا يرجح اعتبار العراقيّة و وجهه أن يكون المراد به رطل مكّة لأنّه رطلان، و لا يمتنع أن يكونوا عليهم السّلام أفتوا السائل عن عادة بلده؛ لأنّه لا يجوز أن يكون المراد به رطل أهل العراق، و لا أرطال أهل المدينة؛ لأنّ ذلك لم يعتبره أحد من أصحابنا فهو متروك بالإجماع»(6) انتهى.

و ممّا يقرّب مقالة الشيخ إلى الواقع شهادة حال الراوي، فإنّ محمّد بن مسلم على ما في نقد الرجال(7) عن رجال الشيخ طائفي، فكونه من أهل الطائف الّذي هو من أتباع مكّة ممّا يقرب كون الإمام عليه السّلام قد تكلّم باصطلاحه، لما عرفت من امتناع حمله على اصطلاح آخر.

الحادي عشر: ما في المناهل: «من أنّ الظاهر أنّ الراوي لابن أبي عمير تحديد الكرّ بألف و مائتا رطل عراقي، لأنّ الظاهر أنّه من مشايخه، و هم من أهل العراق فيجب أن يكون الرطل فيما رواه العراقي، لأنّ الحكيم لا يخاطب إلاّ بما هو المصطلح عليه عند المخاطب»(8).

قال شيخنا في الجواهر - مستدلاّ على ما اختاره من مذهب المشهور -: «لكون المرسل ابن أبي عمير و مشايخه من أهل العراق، مع قوله فيها: «عن بعض أصحابنا»

ص: 143


1- مختلف الشيعة 185:1.
2- الوسائل 168:1، ب 12 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 119/43:1 - الاستبصار 16/11:1.
3- التهذيب 43:1 في ذيل الحديث 119.
4- مدارك الأحكام 48:1.
5- الاستبصار 11:1 في ذيل الحديث 6.
6- مختلف الشيعة 185:1.
7- نقد الرجال 323:4.
8- المناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 107.

و ظاهر الإضافة كونه من أهل العراق، و عرف السائل في الكلام مع الحكيم العالم بعرف المخاطب مقدّم على عرف المتكلّم و البلد، على أنّه لم يعرف كونه عليه السّلام قال ذلك و هو في المدينة، قيل و لذلك اعتبر العراقي في الصاع» - إلى أن قال -: «و ربّما يؤيّده ما قيل إنّ الكرّ في الأصل كان مكيال أهل العراق، و أنّهم قدّروا بالكرّ من جهة أنّ مخاطبهم كان من أهل العراق»(1) انتهى.

و قيل أيضا(2) - في جواب الاحتجاج الحاملين على المدني، بأنّه عليه السّلام كان من اهل المدينة فالظاهر أنّه عليه السّلام أجاب بما هو المعهود عنده -: «بأنّ المهمّ في نظر الحكيم هو رعاية ما يفهمه السائل، و ذلك إنّما يحصل بمخاطبته بما يعهده من اصطلاحه، و لم يعلم أنّ السائل كان مدنيّا، و غالب الرواة عنه عليه السّلام كانوا من أهل العراق، فلعلّ السائل كان منهم حملا على الغالب».

قال في الحدائق - عقيب هذا الكلام -: قلت: «و يؤيّد بأنّ المرسل و هو ابن أبي عمير كان عراقيّا»(3) و عن الآخرين الاحتجاج أوّلا بالإجماع، حكاه في المناهل(4)عن السيّد في الناصريّات، قائلا: «و أمّا الكلام في تصحيح ما ذكرناه من الكرّ و تعيينه بالأرطال فالحجّة في صحّته إجماع الإماميّة و إجماعنا حجّة»(5).

و فيه: ما لا يخفى بعد ملاحظة أنّ القول بما صار إليه منحصر فيه و في الصدوق.

و ثانيا: أنّ الصادق عليه السّلام كان مدنيّا فيجب حمل كلامه على المصطلح عليه بين أهل المدينة، لأنّ كلّ قوم يحاورون بما هو المصطلح عليه بينهم، و ثالثا: الاحتياط.

و أنت إذا تأمّلت في المسألة علمت بما في أكثر أدلّة الأوّلين مع بعض أدلّة الآخرين، فإنّها ليست إلاّ اجتهادات وردت على خلاف التحقيق و استنباطات خرجت غير مطابقة لمقصود المقام، فإنّ الشبهة لفظيّة و الغرض المهمّ تحصيل ما يوجب الخروج عن تلك الشبهة، و يجدينا في رفع إجمال الاشتراك بالكشف عن حقيقة المراد من اللفظ، و أيّ ربط في عمومات الطهارة و المطهّريّة و خلقة الماء لجهة الانتفاع، و الاصول

ص: 144


1- جواهر الكلام 341:1.
2- نقله في الحدائق الناضرة 258:1.
3- الحدائق الناضرة 258:1.
4- المناهل - كتاب الطهارة (مخطوط) - الورقة: 107.
5- الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 136:1).

العمليّة من الاحتياط و الاستصحاب و البراءة بذلك.

فإنّ أقصى ما يفيده العمومات أنّ عند عدم العلم بالنجاسة يجب البناء على الطهارة، و هو غير العلم أو الظنّ بأنّ المراد بالرطل الوارد في الرواية العراقي، الملازم لطهارة ما زاد عليه، كيف و من المقرّر في محلّه أنّ إجمال المخصّص و لو في الجملة يسري إلى العامّ، فيصير مجملا في القدر الّذي كان المخصّص مجملا بالنسبة إليه، و لا ريب أنّ ما دلّ على انفعال ما دون الكرّ مع ما دلّ على عدم انفعال الكرّ مجمل في القدر الّذي اريد من الكرّ و هو يقضي يكون ما دلّ على طهارة الماء بعمومه مجملا في هذا القدر، و معه كيف يمكن أخذه بيانا رافعا للإجمال عن الأوّل، كما أنّ أقصى ما يفيده الاصول التوصّل بها إلى ما هو حكم ظاهري مجعول للمكلّف طريقا إلى عمله في مقام الجهل و الشبهة، و كيف يلائم ذلك للحكم الواقعي الّذي لا ينعقد إلاّ مع تبيّن ما هو حقيقة المراد من الخطاب.

و بالجملة: الاصول في جميع مواردها ممّا لا يجدي نفعا في إحراز الواقع و هذا هو المقصود بالبحث، إلاّ أن يقال: بأنّ هذه الوجوه إنّما خرجت مستندة بعد الفراغ عن رمي الخطاب بالإجمال و اليأس عمّا يوجب فيه البيان، طلبا لطريق العمل و الحكم الظاهري المعمول به عند الجهل.

فيرد عليه أوّلا: أنّه لا وجه حينئذ للتمسّك بعمومات الطهارة أصلا كما عرفت و ثانيا: أنّه لا وجه لذكر تلك الوجوه في عنوان قولهم: «هل المراد بالرطل العراقي أو المدني»؟

فتحقيق المقام: أنّ الأقوى و إن كان ما صار إليه الأوّلون، غير أنّ دليله الّذي يمكن التعويل عليه و أخذه حجّة فيما بين الربّ و العبد منحصر في عاشر الوجوه المتقدّمة، فإنّ حمل «الرطل» الوارد في الرواية المتضمّنة لتحديد الكرّ بألف و مائتا رطل على العراقي من مقتضى الجمع بين تلك الرواية و الرواية المتضمّنة لتحديده بستّمائة رطل، و إنّما يتأتّى ذلك الجمع بعد ملاحظة الإجماع على أنّ الكرّ لا ينقص عن الأرطال العراقيّة، و امتناع الكذب على الأئمّة عليهم السّلام، و وجوب العمل على أدلّة الحجيّة، و أصالة عدم التقيّة، و أصالة عدم المعارضة فيما بين الأدلّة، و أصالة عدم الإجمال و الشبهة، و قاعدة أولويّة الجمع مهما أمكن و نحو ذلك.

ص: 145

و لا ريب أنّ قضيّة الجمع بين هذه الاصول و القواعد أن يحمل رواية ستّمائة على ما يوازي نصفه تمام رواية الألف و المائتين، و لا يعقل ذلك إلاّ إذا حملت الاولى على المكّي و الثانية على العراقي؛ إذ على هذا التقدير يكون الستّة مائة من الأرطال موازية للألف و المائتين منها، و لا بعد في هذا الجمع بل ممّا لا بدّ منه، إخراجا لخطاب الحكيم عن الإجمال، فيكون كلّ من الروايتين بيانا بالقياس إلى الاخرى، و إن كانت كلّ واحدة مع قطع النظر عن صاحبها مجملة، و ليس ذلك من الجمع الّذي يطالب فيه بدليل دعي إليه، معتبر في نظر العرف؛ إذ لا يوجب خروجا عن ظاهر و لا طرحا لدليل في الحقيقة؛ لعدم ظهور في الروايتين بدونه في شيء، و إنّما يطرؤهما الظهور بعد اعتبار الجمع، فهو ممّا يعطيهما الظهور لا أنّه يوجب فيهما طرح الظهور، و لا امتناع في مجملين إذا اجتمعا و لوحظا معا كان كلّ منهما بيانا للآخر، بمعنى: أنّ بيان كلّ منهما يحصل بملاحظتهما معا.

ثمّ يبقى جملة من الوجوه المتقدّمة مؤيّدة لهذا الجمع، شاهدة به - لو تمّت - مع عدم الحاجة إليها، فاتّضح بذلك حكم المسألة بحمد اللّه وليّ النعمة.

و لأصحابنا الأعلام رضوان اللّه عليهم نقوض و إبرامات في تصحيح أدلّة الطرفين و إفسادها، مذكورة في مظانّها و من يطلبها فليراجعها، و لا فائدة مهمّة تدعونا - بعد وضوح المسألة - إلى تحمّل نقلها و جرحها و تعديلها، فهي بالإعراض عنها هنا أحرى و أجدر.

و لكن يبقى في المقام فائدة ينبغي الإشارة إليها لعموم النفع بها، و هي بيان ما يبلغ إليه الكرّ بالأرطال العراقيّة من المنّان، و غيرها من الأوزان المتعارفة الآن في كثير من البلدان على حسب ما يقتضيه قواعد الحساب و غيرها.

فنقول: إذ قد عرفت سابقا أنّ «الرطل» مائة و ثلاثون درهما فاعلم: أنّ «الدرهم» يطلق فيما يقابل المثقال الّذي منه ما كان شرعيّا و منه ما كان صيرفيّا، و الأوّل من الثاني ثلاثة أرباعه، كما أنّ الثاني من الأوّل مثله و ثلثه، فالدرهم من المثقال الشرعي نصف مثقال و خمسة، كما أنّ المثقال الشرعي منه درهم و ثلاثة أسباعه، و الدرهم من المثقال الصيرفي نصفه و ربع عشره.

و إن شئت السهولة في معرفة هذه النسب، فافرض العشرين مثقالا صيرفيّا، و خمسة عشر مثقالا شرعيّا، و العشرة و النصف درهما، فاعلم: أنّ كلّ عشرة دراهم على

ص: 146

هذا الحساب سبعة مثاقيل بالشرعي، و خمسة مثاقيل و ربع مثقال بالصيرفي، و كلّ مائة درهم سبعون مثقالا بالشرعي، و اثنان و خمسون مثقالا و نصف مثقال بالصيرفي، و كلّ ألف درهم سبعمائة مثقال بالشرعي و ستّمائة مثقال و عشرون مثقالا بالصيرفي، فالرطل على هذا الحساب إذا انحلّ إلى المثاقيل الشرعيّة كان واحدا و تسعين مثقالا شرعيّا، و إذا انحلّ إلى المثاقيل الصيرفيّة كان ثمانية و ستّين مثقالا و ربع مثقال.

و الكرّ حينئذ إذا انحلّ إلى المثاقيل الشرعيّة كان مائة ألف و تسعة آلاف و مائتين مثقالا، و إذا انحلّ إلى المثاقيل الصيرفيّة كان واحدا و ثمانين ألف مثقال و ستّمائة مثقال، ثمّ «الصاع» بقرينة ما تقدّم في المكاتبة تسعة أرطال بالعراقي، فكلّ صاع ثمانمائة مثقال و تسعة عشر مثقالا بالشرعي، و ستّمائة مثقال و أربعة عشر مثقالا و ربع مثقال بالصيرفي، و ذلك يعادل المنّ التبريزي المعهود في بلاد العجم الموصوف ب «هشت عبّاسى» إلاّ خمسة و عشرين و ثلاثة أرباع مثقال بالصيرفي، لأنّ «المنّ» عبارة عن ستّمائة و أربعين مثقالا بالصيرفي، و قيل: الصاع العراقي حقّتان بالعطّاري، فالحقّتان حينئذ ستّمائة و أربعة عشر مثقالا و ربع مثقال بالصيرفي، فالكرّ حينئذ بعيار الصاع مائة و ثلاثة و ثلاثون صاعا و ثلث صاع، و بعيار المنّ مائة و ثمانية و عشرون منّا إلاّ عشرين مثقالا بالصيرفي، و طريق العمل في استخراج ذلك أنّ تقسّم مثاقيل الكرّ المتقدّمة على مثاقيل المنّ المذكورة فالخارج من القسمة هو المطلوب، و هو يوازي العدد المذكور.

الطريق الثاني: تحديده باعتبار المساحة،
و اضطربت كلمة الأصحاب فيه اضطرابا شديدا، حتّى حدث فيهم أقوال مختلفة.
أحدها: ما كان كلّ من طوله و عرضه و عمقه ثلاثة أشبار و نصف شبر،

بالغا تكسيره اثنين و أربعين شبرا و سبعة أثمان شبر، و هو عن الحلّي في السرائر(1)، و ابن زهرة في الغنية(2)، و الفاضلين في الشرائع(3) و القواعد(4) و الإرشاد(5)، و عن محكيّ الأمالي(6) و الهداية(7)

ص: 147


1- السرائر 60:1.
2- غنية النزوع (سلسلة الينابيع الفقهيّة 379:1).
3- شرائع الإسلام 13:1.
4- قواعد الأحكام 183:1.
5- إرشاد الأذهان 236:1.
6- أمالي الصدوق - المجلس 93 - ص: 514.
7- الهداية: 68.

للصدوق، و النهاية(1) و المبسوط(2)، و الوسيلة(3)، و التحرير(4) و التذكرة(5) و المنتهى(6)و نهاية الإحكام(7)، و في اللمعة(8) و محكيّ البيان(9) و الذكرى(10) و الدروس(11)، و التنقيح(12) و جامع المقاصد(13) و المعالم(14) و البداية.

و في محكيّ التنقيح(15) و المهذّب(16) نسبته إلى المرتضى.

و في المنتهى(17) و الروضة(18) و المدارك(19) و الحدائق(20) و الرياض(21) و غيرها - كما عن التذكرة(22) و الذكرى(23) و الدروس(24) و جامع المقاصد(25) و مجمع الفائدة(26)و الذخيرة(27) و المهذّب البارع(28) و المشارق(29) و حبل المتين(30) و المعتصم(31)و البحار(32) - دعوى الشهرة عليه.

و في شرح الدروس(33) نسبته إلى الأكثر.

و عن محكيّ الخلاف(34) نسبته إلى جميع القمّيّين و أصحاب الحديث.

و عن الغنية(35) دعوى الإجماع عليه، حتّى أنّ شيخنا في الجواهر(36) أخذه مستندا لنفسه مضافا إلى ما يأتي، كما استند إليه في المناهل، قائلا فيه: «بأنّ الإجماع المنقول حجّة ما لم يثبت المانع منه، و مجرّد استفادة الشهرة على خلافه من بعض

ص: 148


1- النهاية: 3.
2- المبسوط 6:1.
3- الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة 414:1).
4- تحرير الأحكام (حجريّة) - كتاب الطهارة -: 4.
5- تذكرة الفقهاء 19:1.
6- منتهى المطلب 40:1.
7- نهاية الإحكام 232:1.
8- اللمعة الدمشقيّة 255:1.
9- البيان: 98.
10- ذكرى الشيعة 80:1.
11- الدروس الشرعيّة 118:1.
12- التنقيح الرائع 42:1.
13- جامع المقاصد 116:1.
14- فقه المعالم 32:1.
15- التنقيح الرائع 41:1.
16- لم نجده في المهذّب البارع.
17- منتهى المطلب 39:1.
18- الروضة البهيّة 34:1.
19- مدارك الأحكام 49:1.
20- الحدائق الناضرة 261:1.
21- رياض المسائل 147:1.
22- تذكرة الفقهاء 19:1.
23- ذكرى الشيعة 80:1.
24- الدروس الشرعيّة 118:1.
25- جامع المقاصد 116:1.
26- مجمع الفائدة و البرهان 261:1.
27- ذخيرة المعاد: 122.
28- المهذّب البارع 80:1.
29- مشارق الشموس: 197.
30- الحبل المتين: 107.
31- المعتصم: لم نعثر عليه.
32- بحار الأنوار 77:19.
33- مشارق الشموس: 197.
34- الخلاف 190:1 المسألة 147.
35- غنية النزوع: 46.
36- جواهر الكلام 347:1.

الأصحاب لا يصلح له، خصوصا إذا قطعت أكثر الأصحاب بأنّ الشهرة موافقة له.

و يؤيّده مضافا إلى الشهرة مصير من لا يعتمد في الشرعيّات إلاّ على اليقين إليه»(1)، و إنّما ذكر ذلك في دفع ما أورد على الإجماع المنقول بوهنه بمصير الأكثر، كما يستفاد من كلام بعض الأصحاب إلى خلافه، و بهما يدفع بمثل ما ذكره ما عن المعتبر(2) - في المناقشة في الإجماع المذكور -: «من أنّه لا [تصفح](3) إلى من يدّعي الإجماع هنا» فإنّه يدّعي الإجماع في محلّ الخلاف، فيقال: وجود الخلاف لا ينافي تحقّق الإجماع، لأنّ حجّيّته من باب الكشف عن قول الحجّة و ذلك ممكن مع الخلاف، فلو ادّعاه مدّع و كان ثقة وجب قبوله، و لا يخفى ما في هذه الكلمات، و تفصيله موكول إلى محلّه.

و ثانيها: [من أنّه ما كان ثلاثة أشبار طولا في عرض في عمق]

ما حكاه في المختلف(4) عن الصدوق و جماعة القمّيّين، و مال هو(5) إليه حيث جعله أقوى، من أنّه ما كان ثلاثة أشبار طولا في عرض في عمق فخالفوا الأوّلين بإسقاط النصف عمّا حدّوه به، و عليه يكون مبلغ تكسيره سبعة و عشرين شبرا، و يظهر من ثاني الشهيدين(6) الميل إليه، و نسبه في المناهل(7) و غيره إلى المقدّس الأردبيلي(8)و المحقّق في المعتبر(9)، و عن المجلسيّين في الحديقة(10) و البحار(11)، و عن شيخنا البهائي و استاد الكلّ في حبل المتين(12) و المشارق(13)، و عن الشيخ عليّ في بعض حواشيه(14).

و ثالثها: ما نسبه في المختلف إلى ابن الجنيد من أنّ حدّه قلّتان،

و ثالثها: ما نسبه في المختلف(15) إلى ابن الجنيد من أنّ حدّه قلّتان،

و مبلغه وزنا ألف و مائتا رطل، و تكسيره بالذرع نحو مائة شبر، ثمّ قال: و هو قول غريب، لأنّ اعتبار الأرطال يقارب قول القمّيّين، فيكون مجموع أشباره تكسيرا في قولهم: سبعة و عشرين شبرا.

ص: 149


1- المناهل - كتاب الطهارة (مخطوط) - الورقة: 113.
2- المعتبر: 10.
3- و في المصدر: «و لا تصغ».
4- مختلف الشيعة 183:1.
5- قال في مختلف الشيعة - بعد تزييف أدلّة المشهور -: «و الأقوى قول ابن بابويه» 183:1.
6- الروضة البهيّة 34:1.
7- المناهل - كتاب الطهارة (مخطوط) - الورقة: 109.
8- مجمع الفائدة و البرهان 259:1.
9- المعتبر: 10.
10- حديقة المتّقين - للتقي المجلسي (ره) - لم نعثر عليها.
11- بحار الأنوار 77:19.
12- الحبل المتين: 108 حيث قال: «و القول به غير بعيد».
13- مشارق الشموس: 197.
14- حكى عنه البهائي قدّس سرّه في الحبل المتين عن حواشيه على المختلف. [الحبل المتين: 108].
15- مختلف الشيعة 183:1.
و رابعها: ما نسبه فيه إلى القطب الدين الراوندي من كون الكرّ عشرة أشبار و نصفا طولا و عرضا و عمقا،

و رابعها: ما نسبه فيه(1) إلى القطب الدين الراوندي(2) من كون الكرّ عشرة أشبار و نصفا طولا و عرضا و عمقا،

و الظاهر أنّه لا مخالفة بينه و بين الأكثر في المستند، فإنّ كلاّ يستند إلى ما يقضي من الروايات، باعتبار كون كلّ من الأبعاد الثلاثة ثلاثة أشبار و نصف، إلاّ أنّ الخلاف في أنّ الأكثر يعتبرون تكسير هذه المقادير بطريق الضرب فيكون مبلغه اثنان و أربعون شبرا و سبعة أثمان شبر، و هو يعتبره بطريق الجمع فيكون مبلغه عشرة أشبار و نصفا، فعلى هذا لا مخالفة بينه و بينهم في المعنى فتأمّل.

و خامسها: ما يظهر عن المدارك من أنّه ما بلغ ذراعين في عمقه، و ذراعا و شبرا سعته،

حيث قال: «و أوضح ما وقفت عليه في هذه المسألة من الأخبار سندا و متنا ما رواه الشيخ - في الصحيح - عن إسماعيل بن جابر، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الماء الّذي لا ينجّسه شيء، قال: «ذراعان عمقه في ذراع و شبر سعته»(3)، إذ معنى اعتبار الذراع و الشبر في السعة اعتبارهما في كلّ من البعدين، و يظهر من المصنّف رحمه اللّه في المعتبر(4) الميل إلى العمل بهذه الرواية و هو متّجه»(5).

ثمّ إنّ هاهنا أقوالا اخر شاذّة متروكة:

منها: ما هو منقول عن الشلمغاني(6) من أنّه ما لا يتحرّك جنباه بطرح حجر في وسطه.

و منها: ما عن ابن طاوس(7) من الأخذ بكلّ ما روي.

و منها: [التوقّف، و هو المحكيّ] عن ظاهر [المهذّب](8) و شرح ابن مفلح الصيمري (9)[و الذخيرة(10)](11).

و المعروف من مستند القول الأوّل نقلا و تحصيلا ما رواه الكليني عن محمّد ابن يحيى عن أحمد بن محمّد عن عثمان بن عيسى عن ابن مسكان عن أبي بصير قال:

ص: 150


1- مختلف الشيعة 184:1.
2- حكى عنه في مختلف الشيعة 184:1.
3- الوسائل 164:1، ب 10 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 114/41:1.
4- المعتبر: 10.
5- مدارك الأحكام 51:1.
6- حكاه عنهما في ذكرى الشيعة 81:1.
7- حكاه عنهما في ذكرى الشيعة 81:1.
8- المهذّب 21:1.
9- كشف الالتباس 41:1.
10- ذخيرة المعاد: 123.
11- أخذنا ما بين المعقوفات من المناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 112، و أضفناه إلى المتن لاستقامة العبارة و زيادة الفائدة، و المظنون قويّا أنّ المصنّف رحمه اللّه نقله منه. و اللّه العالم.

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الكرّ من الماء كم يكون قدره؟ قال: إذا كان الماء ثلاثة أشبار و نصف في مثله، ثلاثة أشبار و نصف في عمقه في الأرض، فذلك الكرّ من الماء»(1)، هكذا وجدناه في النسخة المصحّحة من الكافي مع أكثر كتب أصحابنا الفقهاء، و لكن في المختلف(2) و المدارك(3) مكان «نصف» «نصفا» بالنصب، و لعلّ المعنى يتفاوت بذلك في الجملة كما ستعرف.

و قد يحكى(4) عن أبي بصير رواية اخرى مصرّحة بذكر الأبعاد الثلاثة مرويّة في المهذّب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا كان الماء ثلاثة أشبار و نصفا في طوله و مثله ثلاثة أشبار و نصفا في عرضه و مثله ثلاثة أشبار و نصفا في عمقه في الأرض، فذلك الكرّ من الماء»(5).

و قد يستدلّ على هذا المذهب أيضا بما في الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا كان الماء في الركيّ كرّا لم ينجّسه شيء، قلت: و كم الكرّ؟ قال: ثلاثة أشبار و نصف عمقها في ثلاثة أشبار و نصف عرضها»(6)، و نحوه ما في التهذيب(7) و الاستبصار(8) إلاّ في أنّه أضاف في الثاني إلى البعدين البعد الآخر، فقال - بعد قول الراوي: «و كم الكرّ؟ - قال:

ثلاثة أشبار و نصف طولها، في ثلاث أشبار و نصف عمقها، في ثلاثة أشبار و نصف عرضها».

و قد يقال: بأنّ الظاهر أنّه سهو من الشيخ أو من الناسخين و قال الشيخ - في توجيه هذا الخبر، من حيث منافاته لما صار إليه من عدم قبول البئر للانفعال مطلقا ما لم يتغيّر

ص: 151


1- الوسائل 166:1، ب 10 من أبواب الماء المطلق ح 6 - التهذيب 116/42:1 - الكافي 5/3:3 - الاستبصار 14/10:1.
2- مختلف الشيعة 183:1.
3- مدارك الأحكام 49:1، و في المدارك الّذي يحضرنا (من منشورات مؤسسة آل البيت لإحياء التراث) ثبت «نصف» بدل: «نصفا».
4- و الحاكي هو السيّد المجاهد في المناهل: 109.
5- لم نجدها في المهذّب البارع و كذا في مهذّب ابن البرّاج، نعم قال فيه: «الكرّ هو ما كان مقدار ألف رطل و مائتي رطل بالعراقي، أو ثلاثة أشبار و نصف طولا في ذلك عرضا في مثل ذلك عمقا (المهذّب 21:1) و أمّا احتمال تصحيف «التهذيب» «بالمهذّب» و إن كان غير بعيد في نفسه، إلاّ أنّه لم يوجد في التهذيب أيضا.
6- الوسائل 160:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1282/408:1 الكافي 4/2:3 - الاستبصار 88/33:1.
7- الوسائل 160:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1282/408:1 الكافي 4/2:3 - الاستبصار 88/33:1.
8- الوسائل 160:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1282/408:1 الكافي 4/2:3 - الاستبصار 88/33:1.

أحد أوصافه الثلاث -: «بأنّه يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون المراد بالركي المصنع الّذي لا يكون له مادّة بالنبع دون الآبار الّتي لها مادّة، فإنّ ذلك هو الّذي يراعى فيه الاعتبار بالكرّ على ما بيّناه.

و الثاني: أن يكون ذلك ورد مورد التقيّة؛ لأنّ من الفقهاء من سوّى بين الآبار و الغدران في قلّتها و كثرتها، فيجوز أن يكون الخبر ورد موافقا لهم، و الّذي يبيّن ذلك أنّ الحسن بن صالح راوي هذا الحديث زيدي بتري متروك الحديث فيما يختصّ به(1) انتهى».

و في الوجه الأخير ما لا يخفى من البعد الواضح، إذ لو صحّ حكاية التقيّة لوجب التقدير بالقلّتين و نحوهما ممّا صار إليه العامّة في تقدير الكثير، دون الكرّ الّذي يختصّ التقدير به بالخاصّة خلافا للعامّة، و على أيّ حال كان فاعترض على الرواية الاولى بالطعن في سندها و دلالتها معا.

أمّا الأوّل: فالّذي أكثر في ذلك الطعن صاحب المدارك في قوله: «و هي ضعيفة السند بأحمد بن محمّد بن يحيى فإنّه مجهول، و عثمان بن عيسى فإنّه واقفي، و أبي بصير و هو مشترك بين الثقة و الضعيف، ثمّ قال: و قد اعترف بذلك المصنّف رحمه اللّه في المعتبر، فقال: و عثمان بن عيسى واقفي فروايته ساقطة»(2). انتهى.

و ذكر العلاّمة أيضا في المختلف(3) بمثل ما عرفت عن المعتبر.

و أمّا الثاني: فلأنّها خالية عن تحديد العمق، فلا يوافق مذهبهم في اعتبار كلّ من الأبعاد الثلاث على النهج المتقدّم.

و اجيب عن الأوّل تارة: بانجبار ضعفها بالشهرة و الإجماع المنقول، و ممّن أشار إلى ذلك في الجملة العلاّمة في المنتهى، فقال: «هذه الرواية عمل عليها أكثر الأصحاب، إلاّ أنّ في طريقها عثمان بن عيسى و هو واقفي، لكنّ الشهرة يعضدها»(4). و اخرى: بأنّ الموجود في الكافي إنّما هو أحمد بن محمّد، و الظاهر أنّه ابن عيسى، خصوصا مع رواية محمّد بن يحيى العطّار عنه، و روايته عن عثمان بن عيسى.

نعم نقل عن التهذيب(5) أنّه أثبت «يحيى»، و الظاهر أنّه من الناسخ أو أنّه تصحيف

ص: 152


1- الاستبصار 33:1 ذيل الحديث 9.
2- مدارك الأحكام 49:1.
3- مختلف الشيعة 184:1.
4- منتهى المطلب 39:1.
5- التهذيب 116/42:1.

«عيسى»، و يؤيّده أنّ العلاّمة(1) و غيره لم يطعنوا في الرواية إلاّ بعثمان بن عيسى، و بعضهم بأبي بصير.

و أمّا عثمان بن عيسى فعن الشيخ في العدّة(2) أنّه نقل الإجماع على العمل بروايته، و عن الكشّي(3): «ذكر بعضهم أنّه ممّن أجمعت الصحابة على تصحيح ما يصحّ عنه»، و أيضا نقل أنّه تاب و رجع من الوقف، على أنّ الظاهر أنّه ثقة مع وقفه فيكون الخبر موثّقا، و هو حجّة كما تبيّن في الاصول.

و أمّا أبو بصير فالظاهر أنّه ليث المرادي بقرينة رواية ابن مسكان عنه، فإنّ الظاهر أنّ المراد منه عبد اللّه و هو يروي عن ليث، مضافا إلى أنّ عبد اللّه من أصحاب الإجماع فلا يلتفت إلى ما بعده - على وجه - بعد تنقيح حال عثمان، و لعلّه لمعلوميّة حال أبي بصير عند العلاّمة لم يطعن في سند الرواية في المنتهى(4) إلاّ بعثمان بن عيسى، على أنّه ذكر الاستاذ الأكبر في حاشيته على المدارك(5) أنّ أبا بصير مشترك بين ثلاثة كلّهم ثقات، و على كلّ حال فلا ينبغي الطعن في سند الرواية.

أقول: ينبغي القطع بأنّ أحمد بن محمّد ليس إلاّ ابن عيسى، أبو جعفر شيخ القمّيّين و وجههم و فقيههم.

أمّا أوّلا: فلما ذكر في ترجمته - كما عن المشتركات(6) - من أنّه يروي عنه جماعة منهم محمّد بن يحيى العطّار.

و أمّا ثانيا: فلما عرفت من كونه شيخ القمّيّين، فينبغي أن يكون محمّد بن يحيى راويا عنه لأنّه قمّي أيضا.

و أمّا ثالثا: فلأنّ أحمد بن محمّد الّذي يروي عنه محمّد بن يحيى يذكره الكليني في السند مطلقا تارة و هو الأكثر، و مقيّدا بابن عيسى اخرى، فليحمل المطلق على المقيّد.

و أمّا رابعا: فلأنّ المطلق ينصرف إلى فرده الشائع، و لا ريب أنّ ابن عيسى أشيع و أشهر من ابن يحيى.

ص: 153


1- مختلف الشيعة 184:1.
2- عدّة الأصول 381:1.
3- اختيار معرفة الرجال: 556.
4- منتهى المطلب 39:1.
5- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 96:1.
6- هداية المحدّثين: 175.

و أمّا خامسا: فلأنّ محمّد بن يحيى يكثر الرواية عن أحمد بن محمّد غاية الإكثار، كما يظهر بالتتبّع، و من البعيد في الغاية أن يكون الّذي يروي عنه مجهولا غير مذكور في الرجال، كيف و لم يوجد ممّن ذكر فيه بعنوان «أحمد بن محمّد بن يحيى» إلاّ رجلان يروي عنهما التلعكبري، أحدهما: أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي، و ثانيهما: أحمد بن محمّد بن يحيى الفارسي المكنّى بأبي عليّ، و من الممتنع أن يكون محمّد بن يحيى راويا عنهما.

أمّا الأوّل: فلأنّه ابنه، و أمّا الثاني: فلأنّه من أهل طبقة الأوّل، كما يشهد به رواية التلعكبري عنهما، فيكون متأخّرا عن الراوي.

هذا مع ما عن التعليقة(1) من احتمال اتّحاده مع الأوّل بملاحظة رواية التلعكبري عنه مع ملاحظة الطبقة و الكنية، و إن كان ذلك بعيدا في الغاية، لما قيل(2) في ترجمة الأوّل من أنّ التلعكبري سمع منه سنة ستّ و خمسين و ثلاثمائة، و له منه إجازة، و في ترجمة الثاني من أنّه سمع منه سنة ثمان و عشرين و ثلاثمائة و خرج إلى قزوين و ليس له منه إجازة، و من هنا ينبغي الجزم بابتناء ما في تهذيب الشيخ من التقييد بابن يحيى من الغلطيّة أو التصحيف.

و ممّا يرشد أيضا إلى صدق مقالتنا ما عن التعليقة(3) في ترجمة عثمان بن عيسى من إكثار الأجلاّء الثقات الرواية عنه، و عدّ منهم أحمد بن محمّد بن عيسى، و نحوه ما عن مشتركات(4).

و أمّا عثمان بن عيسى فبعض ما تقدّم فيه من الامور الرافعة للقدح من جهته محلّ تأمّل عندنا، فإنّ الظاهر أنّ دعوى الإجماع عن الشيخ في العدّة(5) على العمل برواياته سهو، إذ لم ينقل عن الشيخ إلاّ قوله: «إنّ الأصحاب يعملون بأخباره»، و هو كما ترى لا يدلّ على ما ذكر - كما قرّر في محلّه، نعم فيه نحو إشعار ربّما يمكن تأييد الأمارة الدالّة على الوثاقة به، أو أخذ المجموع منه و من نظائره المذكورة في المقام أمارة عليها،

ص: 154


1- تعليقة الوحيد البهبهاني: 48 - منتهى المقال 350:1.
2- منتهى المقال 350:1.
3- تعليقة الوحيد البهبهاني: 218 - منتهى المقال 300:4 و 301.
4- هداية المحدّثين: 111.
5- عدّة الاصول 381:1.

و نحوه الكلام في دعوى رجوعه عن الوقف، إذ لم يوجد نقل ذلك في كلام أئمّة الرجال إلاّ ما في العبارة المحكيّة عن التعليقة(1) من إشارة إجماليّة إلى كونه اثنى عشريّا، و لو صحّ ذلك لقضى بإنكار أصل الوقف لإبقائه عليه، و لو سلّم فلا يجدينا نفعا في تصحيح الرواية المبحوث عنها هنا إلاّ بعد ثبوت أنّه قد رواها حال استقامته و أيّ طريق إلى ذلك.

نعم، يمكن استفادة وثاقته - مع كونه واقفيّا - ممّا ذكر فيه(2) من كونه واحد الوكلاء المستبدّين بمال موسى بن جعفر عليه السّلام، فإنّه يقضي بكونه من الامناء و العدول عند الإمام عليه السّلام لعدم صلاحية غيرهم لمرتبة الوكالة.

و لكن يوهنه: أنّ غاية ما يسلّم من ذلك كونه كذلك في زمن حياة الإمام و أمّا بعده فلا؛ لأنّ عروض الوقف له حينئذ ممّا يرفع العدالة بالمعنى الّذي اعتمد عليها الإمام، فلم يعلم منه أنّه قد روى الرواية حال تلك العدالة موجودة أو بعد زوالها، إلاّ أن يقال: بأنّ زوال العدالة بهذا المعنى لا ينافي وجودها بالمعنى المعتبر في مذهبه، غاية الأمر كون الرواية من جهته موثّقة و لا ضير فيه بعد قيام الدلالة على الحجّيّة.

و ممّا يرشد إلى هذا المعنى ما تقدّم الإشارة إليه عن محكيّ التعليقة(3) من إكثار الأجلاّء الثقات الرواية عنه، و يقوّي ذلك بملاحظة ما في محكيّ التعليقة أيضا من: «أنّا لم نقف على أحد من فقهائنا السابقين تأمّل في روايته في موضع من المواضع، و يؤيّده كونه كثير الرواية و سديدها و مقبولها و أنّ أهل الرجال ربّما ينقلون عنه و يعتدّون بقوله»(4) الخ.

و ربّما يمكن المناقشة في السند من جهة ابن مسكان لاشتراكه بين أربعة، ليسوا ثقات بأجمعهم إلاّ اثنان منهم عبد اللّه بن مسكان و عمران بن مسكان، و أمّا الآخران و هما محمّد بن مسكان و حسين بن مسكان فقد صرّح فيهما بالجهالة.

و لكن يدفعه: ما قيل من أنّ الغالب في ابن مسكان «عبد اللّه» فلا يحمل على غيره مع احتماله إلاّ بقرينة صالحة.

و أمّا أبو بصير فهو على ما في نقد الرجال(5) كنية لأربعة، يحيى بن القاسم و ليث بن

ص: 155


1- تعليقة الوحيد البهبهاني: 218 - منتهى المقال 300:4 و 301.
2- رجال النجاشي: 817/300 - رجال الطوسي: 355.
3- تعليقة الوحيد البهبهاني: 218 - منتهى المقال 300:4.
4- تعليقة الوحيد البهبهاني: 218 - منتهى المقال 300:4.
5- نقد الرجال 125:5.

البختري و عبد اللّه بن محمّد الأسدي و يوسف بن الحرث، إلاّ أنّ الإطلاق ينصرف إلى أحد الأوّلين لكونه فيهما أشهر، فلا يقدح ما في الأخير من التصريح بالضعف، و لا ما في سابقه من أنّه لم يذكر بمدح و لا قدح، و رواية ابن مسكان عنه ممّا يعيّن كونه الليث، لأنّه من يروي عنه جماعة منهم ابن مسكان فيكون ثقة جليلا، فلا يقدح اختلاف كلماتهم في يحيى بن القاسم، فيما بين ما يقضي بكونه الثقة، و ما يقضي بكونه غيره ممّن يرمى تارة بالوقف، و اخرى بفساد المذهب، و ثالثة بغيره من صفات الذمّ، فالسند حينئذ لا بأس به إن شاء اللّه.

و الجواب عن الثاني: أعني المناقشة في دلالة الرواية بمنع خلوّها عن تحديد العمق، بناء على ما في الكافي و الوسائل كما في كلام أكثر الأصحاب المتصدّين لذكر تلك الرواية في كتبهم الفقهيّة من ورد «النصف» مرفوعا، عطفا على محلّ «ثلاثة» على أنّه خبر ك «لكان» و الظرف نعت أو حال له كما هو الأصحّ، بل الرواية حينئذ متكفّلة لتحديد كلّ واحد من الأبعاد الثلاث، أمّا تحديد واحد من العرض أو العمق(1) فلصريح قوله عليه السّلام:

«إذا كان الماء ثلاثة أشبار و نصف»(2) و أمّا تحديد البعد الآخر منهما فلكونه مرادا من لفظة «مثله»، ضرورة أنّ المماثلة بينه و بين الثلاثة و النصف ممّا لا يصدق إلاّ على تقدير المساواة في ذلك المقدار، و لا ينافيها الظرفيّة ضرورة أنّ البعدين ممّا يصدق على كلّ واحد منهما إذا تساويا أنّه كائن في مثله، أو حاصل فيه لانتشار كلّ في الآخر و لزومه له.

و أمّا تحديد العمق، فلقوله: «ثلاثة أشبار و نصف في عمقه» أي حاصلا و كائنا فيه، على أن يكون عطفا على ما ذكر أوّلا، على حدّ الخبر بعد الخبر بإسقاط العاطف، كما في «هذا حلو حامض» و إنّما عبّر هاهنا بالعمق دون المثل إذ لم يبق - بعد ما اعتبر المماثلة بين البعدين الأوّلين، و عبّر عنها بالمثل - في مقابل البعد الآخر شيء آخر ليعتبر المماثلة بينهما أيضا و يعبّر عنها بالمثل.

و إنّما عطف فيما بين الخبرين بإسقاط العاطف لكونهما من جهة التداخل و انتشار كلّ في الآخر بمنزلة خبر واحد كما في المثال، و لا يصغى حينئذ إلى احتمال كون هذا المذكور بدلا عن المثل، و ليس في الكلام ما يساعد عليه - و البدليّة بنفسها على خلاف الأصل

ص: 156


1- كذا في الأصل.
2- التهذيب 55/42:1.

لأولويّة الإفادة و ظهور خلافها - حتّى يكون ذلك منشأ للشبهة، و توهّم عدم تماميّة الدلالة.

نعم إنّما يقوّي هذا الاحتمال بناء على كون «النصف» في الفقرة الاولى منصوبا عطفا على لفظ «ثلاثة» كما في التهذيب و الاستبصار و كلام بعض الأصحاب كالمدارك و مختلف العلاّمة، نظرا إلى أنّ التفكيك بينه و بين ما ذكر في الفقرة الثانية بإيراده غير منصوب ربّما يدخل في الوهم كونه مجرورا عطفا على ثلاثة، و لا يكونان كذلك إلاّ إذا اعتبر كونهما تابعين لمثله المجرور على سبيل البدليّة، و حينئذ يتوجّه الإشكال من حيث قصور الرواية على هذا التوجيه عن إفادة تحديد العمق.

و فيه: مع - أنّ تقدير الجرّ ليس بلازم حينئذ، بل يجوز الرفع فيهما عطفين على الفقرة الاولى، على طريقة العطف على المحلّ ليكونا خبرين أيضا، على حدّ الخبر بعد الخبر بإسقاط العاطف - أنّ الظاهر كون ما في التهذيب و الاستبصار و غيرهما مبنيّا على سهو الناسخ أو تصرّف الشيخ و غيره، بجعل اللفظ المذكور منصوبا بتوهّم أنّ ما في الكافي وارد على خلاف القانون النحوي، نظرا إلى أنّ الشيخ إنّما أخذ الرواية فيهما عن الكافي بقرينة طريقه المشتمل على الكليني، و أمّا غيره كالعلاّمة و صاحب المدارك فقد أخذها منه بعد تطرّق التغيير المذكور، أو من الكافي فتصرّفا فيها مثل ما تصرّف فيها الشيخ، و إلاّ فأصل الرواية في الكافي قد وردت على ما حكيناه عنه، بشهادة ورود ما في كلام أكثر الأصحاب موافقا له مع تصريحاتهم بأخذ الرواية عنه، مضافا إلى ما في الوسائل المرويّ عن الكافي أيضا بقرينة الطريق المذكور فيه محمّد بن يعقوب عن محمّد بن يحيى إلى آخر السند المتقدّم.

و بجميع ما ذكرناه في توجيه الاستدلال تبيّن لك امور:

منها: عدم الحاجة إلى أن يجاب عن الإشكال(1) «بأنّ هذه الأخبار كلّها مشتركة في عدم عدّ الأبعاد الثلاثة بأجمعها، و لم نجد رادّا لها من هذه الجهة، بل ظاهر الأصحاب قديما و حديثا الاتّفاق على قبولها، و تقدير البعد الثالث فيها لدلالة سوق الكلام عليه، و كأنّ ذلك كان شائعا كثيرا في استعمالاتهم و جاريا دائما في محاوراتهم»(2) إلخ.

ص: 157


1- كلام صاحب الحدائق (منه).
2- الحدائق الناضرة 263:1.

و منها: اندفاع ما قيل(1) على الرواية - قبالا لما تقدّم في تقرير الاعتراض - من أنّ القول بعدم تحديد العمق في الخبر لا وجه له، بل لو كان عدم تحديد فإنّما هو في العرض.

بيانه: أنّ قوله: «ثلاثة أشبار و نصف» الّذي بدل من مثله إذا كان حال العرض فيكون في عمقه كلاما منقطعا منها، فتأمّل، إلاّ أن يكون المراد في عمقه كذلك، و حينئذ يظهر تحديد العمق أيضا، فيكون التحديد للعرض دون العمق ممّا لا وجه له، بل الظاهر أنّ ثلاثة أشبار و نصف بدل من مثله، و في عمقه حال من مثله أو بدله أو نعت لهما، و حينئذ يكون العمق محدّدا و العرض مسكوتا عنه.

و منها: اندفاع ما اعترض أيضا(2) على دلالة الرواية بأنّه يجوز أن يكون المراد من ثلاثة أشبار الأوّل تحديد قطر الماء الّذي هو عبارة عن مجموع الطول و العرض، و الثاني تحديد عمقه، و حينئذ لم يكن اكتفاء في الكلام، و لم يتمّ استدلالهم بهذا الخبر على مطلوبهم، إذ لم يبلغ تكسير هذا القدر إلى ما اعتبروه.

و منها: اندفاع ما عن المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك(3) من أنّ في دلالتها على المشهور نظرا من حيث عدم اشتمالها على الأبعاد الثلاثة، و ليس هو من قبيل قولهم: «ثلاثة في ثلاثة» لشيوع هذا الإطلاق و إرادة الضرب في الأبعاد الثلاثة، لوجود الفارق و هو عدم ذكر شيء من الأبعاد بالخصوص في المثال بخلاف الرواية حيث صرّح فيها ببعد العمق، فيكون البعد الآخر هو القطر و يكون ظاهرا في الدوري، و يؤيّده أنّ الكرّ مكيال العراق و المعهود منه الدوري، و كذا رواية ابن صالح الثوري(4) الواردة في الركي؛ إذ لا قائل بتفاوت الكرّيّة، فيكون الحاصل منهما كون الكرّ ثلاثة و ثلاثين شبرا و نصفا و ثمنا و نصف ثمن، و لا قائل به بخصوصه.

و منها: عدم الافتقار إلى الاستدلال بالرواية المشار إليها حتّى يحتاج في تتميم دلالتها على المطلوب إلى تكلّف أن يقال: إنّ المراد بالعرض السعة فيشمل الطول أيضا.

أو يقال: إنّ العرف شاهد في مثل هذا المقام أنّ الطول أيضا كذلك، للاكتفاء في

ص: 158


1- نقله المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس 197:1.
2- نقله المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس 197:1.
3- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 96:1.
4- الوسائل 160:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 8 - الكافي 4/2:3 - التهذيب 1282/408:1.

المحاورات كثيرا في أمثال هذه المواضع بذكر البعض و إرادة الجميع.

أو يقال: إنّ تحديد العرض بهذا الحدّ مستلزم لكون الطول أيضا كذلك إذ لو كان أقلّ منه لما كان طولا، و لو لزم زيادته على هذا الحدّ لكان الظاهر أن يشعر به، مع أنّ الزيادة عليه منتف البتّة لأنّ خلاف ابن الجنيد و الشلمغاني لا عبرة به.

أو يعترض عليه: بأنّه يمكن أن يكون المراد بالعرض القطر، بقرينة كون السؤال عن البئر و البئر مستديرة، حتّى يحتاج في التفصّي عنه إلى أن يقال: بأنّ ذلك مبنيّ على ما لا يعرفه إلاّ الخواصّ من علماء الهيئة، من ضرب نصف القطر و هو واحد و ثلاثة أرباع في نصف الدائرة و هو خمسة و ربع، لأنّ القطر ثلث الدائرة فيكون مجموع الدائرة عشرة و نصف؛ إذ المفروض أنّ القطر ثلاثة و نصف فيبلغ المرتفع حينئذ إلى ثلاثة و ثلاثين شبرا و نصفا و ثمنا و نصف ثمن تقريبا لا تحقيقا على ما توهّم، و ليس كذلك بل التحقيق بلوغه اثنين و ثلاثين و ثمنا و ربع ثمن، و لا ريب أنّ تنزيل الرواية على مثل ذلك ممّا يتّجه للأفهام المستقيمة، و كيف يخاطب بذلك الحكيم من هو معلوم له أنّه عن هذه المطالب بمعزل.

أو يعترض عليها بمثل ما تقدّم عن الشيخ(1)، فيحتاج في دفعه إلى ما ذكره الشيخ من حملها على التقيّة أو على المصنع الّذي ليس له مادّة(2).

نعم، لا بدّ في دفع معارضة ذلك لما تقدّم من دليل المطلوب من الالتزام فيها بالتأويل بمثل بعض ما ذكر، أو الحكم عليها بالاطراح لمخالفتها الإجماع و عدم مصير أحد من الأصحاب إلى موجبها، بناء على انقطاع بعض ما تقدّم من الأقوال الشاذّة، مع عدم انطباق شيء منها عليه كما لا يخفى.

فنتيجة الكلام من البداية إلى هذا الختام: أنّ المنصور المقطوع به هو القول المشهور بدلالة ما تقدّم من الرواية، و أنّ القدح فيها سندا أو دلالة ليس على ما ينبغي، بدلالة ما قدّمناه في دفع المناقشة.

نعم، يبقى الكلام المتمّم لهذا المرام في دفع معارضة أدلّة الأقوال الاخر لتلك الرواية، فإنّ حجّة الصدوق و غيره من موافقيه من القمّيّين و غيرهم الرواية الواردة في الكافي و التهذيب و الاستبصار، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الماء الّذي لا ينجّسه

ص: 159


1- تقدّم في الصفحة: 152.
2- تقدّم في الصفحة: 152.

شيء؟ قال: «كرّ»، قلت: و ما الكرّ؟ قال: «ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار»(1) مع اختلاف في أسانيدها حيث إنّ الشيخ رواها أوّلا في التهذيب(2) عن شيخه المفيد رحمه اللّه عن أحمد بن محمّد عن أبيه عن سعد بن عبد اللّه عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن خالد عن محمّد بن سنان عن إسماعيل بن جابر، ثمّ رواها عقيب ذلك بقليل(3) بطريق آخر فيه عبد اللّه بن سنان بدل محمّد بن سنان، و مثله ما في الاستبصار(4)، و قيل إنّ الأوّل صواب، و في الكافي(5) رواها بطريق آخر موصوف بالصحّة، فيه البرقي عن ابن سنان من غير تعيين.

ثمّ إنّ ما ذكروه في تلك الرواية أيضا من المناقشة فيها سندا - باعتبار ما في الطرق المذكورة من الاضطراب و الاختلاف في بعض رجاله حسبما عرفت - و دلالة باعتبار عدم اشتمالها على تحديد جميع الأبعاد، و من النقوض و الإبرامات في دفع المناقشة المذكورة ممّا لا يخفى على المتتبّع و الناظر في كتب الأصحاب و لا يهمّنا التعرّض لإيراد جميع ما ذكروه في هذا الباب، بعد البناء على عدم الاستناد إلى تلك الرواية، بل المهمّ التعرّض لنفي صلوحها للمعارضة للرواية المتقدّمة الّتي أخذناها حجّة على المذهب المشهور الّذي صرنا إليه، إذ بدونه لا يتمّ الاحتجاج و لا ينقطع العذر.

فنقول: إنّ توهّم المعارضة فيما بين الروايتين إمّا أن يكون بين منطوقيهما، بدعوى:

أنّ الرواية بمنطوقها يدلّ على انحصار الكرّيّة في ثلاثة أشبار و نصف، و الثانية تدلّ بمنطوقها على انحصارها في ثلاثة أشبار، فيرجع المعارضة إلى المعارضة فيما بين الزائد و الناقص.

أو يكون بين مفهوم كلّ و منطوق الاخرى، بدعوى: أنّ الاولى تدلّ بمفهومها على نفي الكرّيّة عن أقلّ من ثلاثة أشبار و نصف كائنا ما كان، و الثانية تدلّ بمفهومها على نفيها عمّا عدا ثلاثة أشبار كائنا ما كان، و لا سبيل إلى شيء منهما، بل الرواية الاولى سليمة عن المعارض على كلّ تقدير، أو أنّ الرجحان في جانبها على فرض تسليم المعارضة.

أمّا على التقدير الأوّل فأوّلا: لأنّ الثانية يحتمل فيها ممّا يوجب الوهن في دلالتها ما لا يحتمل في الاولى، من قوّة احتمال سقوط لفظة «النصف» فيها عن متن الحديث بخلاف الاولى، إذ ليس فيها إلاّ احتمال زيادة تلك اللفظة و هو إمّا مقطوع بعدمه، أو أنّه

ص: 160


1- الوسائل 159:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 7.
2- التهذيب 101/37:1.
3- التهذيب 115/41:1.
4- الاستبصار 10:1.
5- الكافي 7/3:3.

في غاية الضعف، فتندرج في عموم قوله عليه السّلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»(1) و عموم التعليل في رواية عمر بن حنظلة الواردة في علاج المتعارضين بقوله: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(2) بناء على أنّ الريب المنفيّ هنا هو الريب الإضافي، و أنّ العبرة في باب التراجيح إنّما هو بمطلق الوثوق و الاطمئنان، كما هو المحقّق المقرّر في محلّه.

و ثانيا: لأنّ الاولى أظهر في إفادة الحصر - من حيث ورود الخطاب فيها بصورة الجملة الشرطيّة الظاهرة في السببيّة المنحصرة أو مطلق التلازم وجودا و عدما - من الثانية من حيث ورود الخطاب فيها بصورة القضيّة الحمليّة، الّتي يكون الأصل في حملها حمل المتعارفي الغير المفيد للحصر، إلاّ أن يقال: بأنّ ورودها مورد التحديد و البيان شاهد حال بإرادة الحصر أيضا، إذ لولاه لما حصل الغرض فيكون الحمل فيها من باب المواطاة، أو يقال: بكفاية الحمل المتعارفي أيضا في ثبوت المطلوب، نظرا إلى أنّ النزاع في أنّ ثلاثة أشبار هل هو ممّا يصدق عليه عنوان الكرّيّة أو لا، و قضيّة الحمل المفروض هو الصدق، و هو المطلوب.

و ثالثا: لأنّ مرجع ما فرض من التعارض إلى تعارض المطلق و المقيّد في موضع العلم بوحدة الحكم، فتندرجان في قاعدتهم المقرّرة المحكّمة من حمل المطلق على المقيّد، و قضيّة ذلك تعيّن العمل بالرواية الاولى.

و رابعا: لأنّ الثانية تتوهّن بمصير الأكثر بل المعظم إلى خلافها فتقوّى به الاولى و تضعّف الثانية، فيسقط عن رتبة الحجّيّة أو المعارضة.

و أمّا على التقدير الثاني فأوّلا: لأنّ الرواية الاولى إنّما تدلّ على المطلب من جهة مفهوم الشرط، بخلاف الثانية إذ ليس فيها إلاّ تعليق الحكم بالعدد، و من المقرّر في محلّه أنّ مفهوم الشرط حجّة دون مفهوم العدد، فلا مفهوم للثانية ليكون معارضا لمنطوق الاولى.

و ثانيا: لأنّ مفهوم الشرط أقوى من مفهوم العدد - لو قلنا به مطلقا أو في خصوص المقام - بملاحظة قرينة المقام من ورود الخطاب مقام التحديد و البيان، فيجب تقديمه.

ص: 161


1- الوسائل 167:27، ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 43 - تفسير جوامع الجامع: 5 - بحار الأنوار 259:2.
2- الوسائل 106:27، ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1 - الكافي 10/54:1.

و ثالثا: بمنع إرادة المفهوم من الثانية هنا لو قلنا بالمفهوم مطلقا و سلّمنا تساويه مع مفهوم الاولى، أو لا بدّ من حمل مفهومها على نفي الكرّيّة عن الأقلّ من ثلاثة أشبار صونا لها عن مخالفة الإجماع؛ ضرورة أنّ ما زاد على ذلك كرّ مع زيادة فكيف يعقل نفي الكرّيّة عنه، و معه ارتفع المعارضة بينهما كما لا يخفى.

إلاّ أن يقال بأنّ: المنفيّ في الثانية بالنسبة إلى جانب الزيادة إنّما هو الكرّ بشرط لا، لا مطلق الكرّ، و لا ريب أنّه يصدق على ثلاثة أشبار و نصف على تقدير تحقّق الكرّيّة بأقلّ منه: أنّه ليس من الكرّ بشرط لا، أي الكرّ بشرط عدم الزيادة.

و فيه: مع أنّه لا ينافي مفاد منطوق الاولى كما لا يخفى، أنّ الالتزام بذلك التقييد مع عدم إشعار في الرواية به ليس بأولى من التزام عدم اعتبار المفهوم هنا بالمرّة، أو تخصيصه بجانب القلّة مع صلاحيّة منطوق الاولى مع انضمام الإجماع المشار إليه قرينة على هذا التصرّف في الثانية.

و رابعا: لأنّ مفهوم الاولى ممّا يعضده الشهرة و مصير المعظم إلى خلاف مفهوم الثانية.

ثمّ، إنّه ربّما يحتجّ على قول القمّيّين بالأصل، و بالاحتياط، و بمقاربته للأرطال و لأكثر من راوية و الحبّ و القلّتين، المذكورات في الروايات المتقدّمة.

و لا يخفى ما في جميع ذلك من الخروج عن السداد، و الاعتماد في استنباط الحكم الشرعي على ما لا ينبغي عليه الاعتماد، فإنّ الأصل و الاحتياط - مع أنّهما معارضان بمثليهما، ضرورة أنّ الأصل بقاء الحدث و الخبث فيما لو اريد التطهير بما دون ثلاثة أشبار و نصف الملاقي للنجاسة، و أنّ الاحتياط و استصحاب الاشتغال بمشروط بالمائيّة يقتضيان عدم الاكتفاء بذلك المفروض - يندفعان بعدم صلوحهما لإحراز الحكم الواقعي و لا الحكم الظاهري بعد قيام الدليل الاجتهادي السليم عن المعارض على خلافهما كما عرفت، و كما أنّهما لا يصلحان معارضين لدليل اجتهادي فكذلك لا يصلحان معاضدين له لو وافقهما.

فلو اريد بهما تأييد ما تقدّم من الرواية المقامة حجّة على هذا القول، يدفعه: توجّه المنع إلى صلوح الأصل العملي معاضدا للدليل الاجتهادي كما قرّر في محلّه.

و محصّل بيانه على وجه الإجمال: أنّه كما يعتبر في المتعارضين تواردهما على

ص: 162

موضوع واحد، فلأجل ذلك لا يقع المعارضة بين الأصل و الدليل لتعدّد موضوعيهما، فكذلك يعتبر في المتعاضدين كونهما واردين على موضوع واحد، و لا ريب أنّ موضوع الأصل يغاير موضوع الدليل فكيف يعقل معه كونه معاضدا له.

و بالجملة: فالدليل الاجتهادي الموافق للأصل إن صلح مخرجا للمورد عن موضوع الأصل فلا يشمله حكم الأصل حتّى يكون معاضدا لذلك الدليل، و إلاّ فالحكم منحصر في حكم الأصل فلا شيء معه حينئذ يكون معتضدا به، هذا كلّه إذا اريد بالأصل ما يرجع إلى استصحاب الطهارة، و أمّا لو اريد به قاعدة الطهارة المستفادة عن عمومات الأدلّة فهو و إن كان أصلا اجتهاديّا غير أنّ حكمه حكم الأصل العملي من حيث كونه دليلا تعليقيّا، فيكون اعتباره منوطا بموضع عدم قيام الدلالة على الخلاف، و المقام ليس منه لما عرفت من قيام الدلالة الشرعيّة السليمة عمّا يعارضها.

و أمّا البواقي فهي على فرض تسليم موجبها و ما ادّعي فيها مقرّبات لا تجدي بنفسها نفعا في إثبات المطلب، و لا تقوية للدليل الموافق بعد رجحان الدليل المخالف عليه لذاته، أو بعد عدم معارضة بينهما في الحقيقة، بناء على كثير من الوجوه المتقدّمة في تقديم دليلنا على المطلب، الّذي مرجعه في الحقيقة إلى الجمع بينهما.

مضافا إلى عدم منافاة المذكورات للمذهب المشهور، بناء على ما قيل من إمكان اختلافها في الصغر و الكبر على وجه يكون بعض أفرادها موافقا لذلك المذهب، و بعضها الآخر موافقا لمذهب القمّيّين، و الثالث مخالفا لهما معا.

و من هنا يعلم أنّ هذه الروايات موهونة بمنافاتها حكمة الشارع، فإنّها لاختلاف أفرادها غاية الاختلاف ليس بجائز في حكمة الحكيم أن يجعلها مناطا لما يقصد بجعله إعطاء ضابط كلّي لا ينبغي في مثله الاختلاف و عدم الانضباط، و معه كيف تصلح لإثبات المطلب أو تأييد ما خرج عن كونه دليلا.

مضافا إلى ما في بعضها من قوّة احتمال الخروج مخرج التقيّة، مع كون ظواهر جميعها معرضا عنها الأصحاب، مع توجّه المنع إلى دعوى كون التحديد بالأرطال وزنا مقاربا للتحديد بثلاثة أشبار، بل إنّما هو يقرب بناء على ما قيل - و سيأتي بيانه - ممّا رجّحه صاحب المدارك استنادا إلى صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدّم بيانها، الآتي

ص: 163

بعض الكلام فيها و عليها.

و أمّا سائر الأقوال فقد عرفت أنّ منها: قول ابن الجنيد و لم نقف له على مستند، كما اعترف به غير واحد من فحول أصحابنا، مع ما فيه من شذوذه و مخالفته الشهرة العظيمة القريبة من الإجماع بل الإجماع في الحقيقة، حيث لا موافق له منهم مع ما قيل فيه من أنّه ما أبعد بين ما ذهب إليه باعتبار المساحة و ما ذهب إليه في الوزن من اعتبار بلوغه القلّتين مع كون مبلغ تكسيره ألفا و مائتي رطل، و قد تقدّم عن العلاّمة في المختلف(1) ما يقرب من هذا الكلام على هذا القول، و بالجملة فهو ممّا ينبغي الجزم بسقوطه، و عدم كونه ممّا يعبأ به.

و منها: قول الراوندي و لم نقف له أيضا على مستند، نعم في جواهر شيخنا: «أنّ مستنده دليل المشهور من رواية أبي بصير و نحوها، إلاّ أنّه فهم منها أنّ «في» ليست للظرفيّة بل بمعنى «مع» فتبلغ عشرة و نصفا»(2) و هو كما ترى، فإن أراد ببلوغه إليه بلوغه بطريقة الضرب فإنّما يبلغ اثنى عشر و ربعا، و إن أراد به بلوغه بطريقة الجمع فإنّما يبلغ سبعة، و على التقديرين لا ينطبق المذكور على هذا القول، بل الوجه في هذا القول ما أشرنا إليه سابقا - على الظاهر - من ابتناء كلامه على أنّه فهم ممّا حدّ الكرّ بثلاثة أشبار و نصف في كلّ من أبعاده الثلاث من الأخبار أو فتاوى الأخيار إرادة اعتبار الجمع فيما بين بعض هذه الحدود مع بعض آخر، خلافا للمشهور في فهم إرادة ضرب بعض في بعض، و مثل هذا الاشتباه يتّفق كثيرا للإنسان، كما رأيناه و سمعناه عن بعض أهل عصرنا من تلامذتنا المتردّدين إلينا، حيث إنّه فهم عمّا حدّده المشهور طريق الجمع، على وجه سبقت إليه من أجل ذلك شبهة أتعبتنا رفعها.

و ممّا ينبّه على صدق ما فهمناه ظاهر سياق كلام العلاّمة في المختلف حيث قال - بعد الفراغ عن ذكر احتجاجات القولين الأوّلين في المسألة -: «تنبيه: الظاهر أنّ الأشبار يراد ضرب الحساب فيها، فيكون حدّ الكرّ تكسيرا اثنين و أربعين شبرا و سبعة أثمان شبر، و قال القطب ليس المراد ذلك بل يكون الكرّ عشرة أشبار و نصفا طولا و عرضا و عمقا»(3) انتهى.

و بالجملة: فالّذي يظهر - و اللّه أعلم - أنّ هذا اشتباه في فهم المراد بالتحديد بثلاثة

ص: 164


1- مختلف الشيعة 183:1.
2- جواهر الكلام 357:1.
3- مختلف الشيعة 184:1.

أشبار و نصف طولا، في ثلاثة أشبار و نصف عرضا، في ثلاثة أشبار و نصف عمقا، فزعمه أنّه لبيان ما يعتبر تكسيره بطريق الجمع، فلذا عبّر عمّا يحصل بالتكسير بعشرة أشبار و نصف.

فهل هو حينئذ يخالف المشهور في المقدار الواقعي بالكلّيّة أو يوافقه بالكلّيّة أو يخالفه في بعض الفروض و يوافقه في البعض الآخر؟ وجوه، من أنّ المراد به بلوغ المجموع من الأعداد المذكورة ذهنا و خارجا هذا المبلغ، على معنى كون ذلك مبلغا لنفس المعدود الموجود في متن الخارج، فيراد بالعشرة و النصف المبلغ من الماء الموجود في الخارج الّذي لو قسّم على كلّ واحد من الأبعاد على نحو السويّة لأخذ منه كلّ واحد ثلاثة و نصفا.

أو أنّ المراد به ما لو فرض كون كلّ من هذه المقادير الثلاث مفصولا عن الآخر في نظر الحسّ لكان المجموع منها عشرة و نصفا، كما أنّه لو اعتبرنا الجمع بين ثلاثة أعداد متفاصلة في الخارج مقدار كلّ ثلاثة و نصف كان الحاصل عشرة و نصفا حتّى يكون ذلك مبلغا حقيقيّا للأعداد على فرض انفصال كلّ عن الآخر دون المعدود الّذي هو الماء.

أو أنّ المراد به بلوغ هذه المقادير حال اتّصالها و تداخل بعضها في البعض المبلغ المذكور، و إن لزم التكرار في جملة من الفروض و دخول طائفة منها في الحساب مرّات عديدة من جهة ما فيها من التداخل و الاتّصال، كما في الحدّ المشترك بين كلّ بعدين بداية و نهاية، فإنّه لو جمع حينئذ أحدهما مع الآخر لدخل ذلك الحدّ المشترك في الحساب مرّتين كما لا يخفى.

فعلى الأوّل: يكون هذا المذهب مخالفا للمشهور كلّيّا، و من فروض مقدّره حينئذ ما لو كان طول الماء عشرة أشبار و نصفا، و كلّ من عرضه و عمقه شبرا واحدا.

و منها: ما لو كان طوله خمسة أشبار و ربعا، و كلّ من عرضه و عمقه شبرين(1).

و منها: ما لو كان طوله واحدا و عشرين شبرا، و كلّ من عرضه و عمقه نصف شبر.

و منها: ما لو كان عرضه شبرين و نصفا و ثمن شبر، و كلّ من طوله و عمقه أربعة أشبار.

و منها: ما لو كان كلّ من طوله و عرضه أربعة أشبار، و عمقه شبرين و نصفا و ثمن شبر.

و منها: ما لو كان طوله تسعة أشبار، و عرضه شبرا، و عمقه نصف شبر.

ص: 165


1- و لا يخفى عدم بلوغ هذه الصورة حدّ الكرّ حتّى على مذهب الراوندي قدّس سرّه، و اللّه العالم.

و منها: ما لو كان الطول ثمانية أشبار، و العرض شبرا و نصفه، و العمق شبرا و هكذا إلى آخر ما يمكن فرضه، و لا يذهب عليك أنّ اختلاف هذه الفروض ليس اختلافا في مقدار الماء، بل هو اختلاف يحصل في أوضاعه و أشكاله على حسبما يفرض.

و على الثاني: يكون موافقا له كلّيّا فلا اختلاف بينهما حينئذ في المعنى، بل هو اختلاف في اللفظ و الاعتبار.

و على الثالث: قد يوافقه و قد يخالفه، و قد يقرب منه و قد يبعد منه، و من هنا قد يقال: إنّه قد يكون كالمشهور كما إذا كان كلّ من أبعاده الثلاثة ثلاثة و نصفا، و قد يقرب منه كما لو فرض طوله ثلاثة أشبار و عرضه ثلاثة و عمقه أربعة و نصفا، فإنّ مساحته حينئذ أربعون شبرا و نصف، و قد يبعد منه جدّا كما لو فرض طوله ستّة و عرضه أربعة و عمقه نصف شبر، فإنّ مساحته اثنا عشر شبرا، و أبعد منه ما لو فرض طوله تسعة أشبار و عرضه شبرا واحدا و عمقه نصف شبر، فعلى كلامه يكون مثل ذلك كرّا و إن كان تبلغ مساحته على تقدير الضرب أربعة أشبار و نصف.

و بجميع ما ذكر ينقدح أنّه لم يتبيّن مخالفته للمشهور، فإن رجع دعواه إلى ما يوافقه كلّيّا كما يرشد إليه أنّهم لم يذكروه مخالفا للمعظم، و إنّما ذكره في المختلف(1) و غيره في فروع التحديد بثلاثة أشبار و نصف و أنّ المعظم يعتبرون في الأبعاد الضرب و هو لا يعتبره، لا أنّه يعتبر عدمه و إلاّ فيردّه ظاهر الأخبار و صريح فتاوي الأخيار من اعتبار الضرب في تقدير الكرّ، مضافا إلى أنّه لو بنى على ما فهمه لكان منافيا لحكمة الحكيم، من حيث إنّه أناط الكرّيّة العاصمة للماء عن الانفعال بما يختلف أفراده اختلافا شديدا، و ما لا يستقرّ على شيء و لا ينضبط في حدّ، فيكون التحديد الّذي تعرّض له الشارع و احتاج إليه المحتاجون من المكلّفين و السائلون عن الأئمة المعصومين عليهم السّلام بمنزلة عدمه و هو كما ترى نقض للغرض و تعمية للمكلّف، و إرشاد له إلى ما يعسر معرفته على التعيين، بل ما يتعذّر تعيينه على وجه يرتفع به الحاجة.

و منها: ما عرفت عن صاحب المدارك(2) مع مستنده، و هو صحيحة إسماعيل ابن جابر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الماء الّذي لا ينجّسه شيء؟ قال: «ذراعان عمقه في

ص: 166


1- مختلف الشيعة 184:1.
2- مدارك الأحكام 51:1.

ذراع و شبر سعته»(1).

و قد يقال: إنّ تكسيره يبلغ إلى ستّة و ثلاثين شبرا، لأنّ المراد بالذراع القدمان - كما يظهر من أخبار المواقيت(2) - و القدم شبر، و قد صرّح هو بأنّ المراد بالسعة كلّ من جهتي الطول و العرض، فيكون كلّ منهما ذراعا و شبرا فيضرب الثلاثة في مثله يبلغ المرتفع تسعة، ثمّ يضرب في أربعة فيبلغ المقدار المذكور، و الخطب في ذلك بعد خروجه على خلاف الشهرة - لو خالف المشهور - هيّن، لأنّه يتوهّن بذلك، و إن كان صحيحا بل في أعلى مرتبة الصحّة، و العجب عنه كيف استوجه العمل به، و المشهور منه استشكاله في العمل بالصحيح إذا خالف عمل الأصحاب، مع أنّه قابل للتأويل و إرجاعه إلى ما لا يخالف المشهور إلاّ يسيرا، قال في المنتهى: «و تأوّلها الشيخ على احتمال بلوغ الأرطال، و هو حسن لأنّه لم يعتبر أحد من أصحابنا هذا المقدار»(3).

و عن الفاضل الأسترآبادي - محمّد أمين - في تعليقاته على شرح المدارك: «قد اعتبرنا الكرّ وزنا و مساحة في المدينة المنوّرة فوجدنا رواية ألف و مائتا رطل مع الحمل على العراقي قريبة غاية القرب من هذه الصحيحة»(4).

نعم في الحدائق: «و الظاهر أنّ اعتباره بناء على ما ذكره يرجع إلى سبع و عشرين شبرا»(5) و قضيّة ذلك انطباق الصحيحة على ما تقدّم من رواية استند إليها القمّيّون، و هو كما ترى استظهار في غير محلّه، و كأنّه و هم نشأ عمّا سبق الإشارة إليه في تحديد الكرّ وزنا من احتجاج بعضهم على حمل «الرطل» ثمّة على العراقي بأنّه المناسب لرواية ثلاثة أشبار الصحيحة.

و أنت خبير: بأنّ ذلك توهّم فاسد، بل هذه الرواية إمّا توافق مذهب المشهور أو تخالفه و مذهب القمّيّين معا، كما أشار إليه المحقّق الخوانساري بقوله: «الذراع إن كان شبرين كما في بعض الأفراد فحينئذ لا ينطبق على شيء منهما، بل هو أمر متوسّط

ص: 167


1- الوسائل 164:1، ب 10 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 114/41:1.
2- الوسائل 150:4، ب 8 من أبواب المواقيت ح 34 - الكافي 7/277:3.
3- منتهى المطلب 38:1.
4- حكى عنه في الحدائق الناضرة 276:1.
5- الحدائق الناضرة 276:1.

بينهما إذ تكسيره يبلغ ستّة و ثلاثين، و إن كان أزيد منهما كما في البعض الآخر فيمكن أن ينطبق على المذهب المشهور، و إن لم ينطبق فيقاربه جدّا، و على أيّ حال يكون أقرب إلى المشهور منه إلى القول الثاني»(1) انتهى.

و ممّا يؤيّد كونه مخالفا للقولين أنّ صاحب المدارك(2) اعتمد عليه مع عدم اختياره بشيء منهما، و لو صحّ ما توهّم فيدفعها ما دفعها حسبما تقدّم بيانه.

و منها: ما عرفت عن الشلمغاني(3)، و مستنده على ما ذكره بعضهم الرضوى، «و كلّ غدير فيه الماء أكثر من كرّ لا ينجّسه ما يقع فيه من النجاسات، و العلامة في ذلك أن يؤخذ الحجر فيرمى به في وسط الماء، فإن بلغت أمواجه من الحجر جنبي الغدير فهو دون الكرّ، و إن لم يبلغ فهو كرّ لا ينجّسه شيء»(4)، و هو كما ترى أضعف الأقوال و مستنده أضعف الأدلّة، و يكفي في ذلك موافقته لمذهب أبي حنيفة على ما تقدّم بيانه في صدر باب الكثير، فيقوى فيه احتمال وروده مورد التقيّة بعد سلامة السند عن المناقشة، و مع الغضّ عن ذلك فإعراض الأصحاب عن العمل به ممّا يسقطه عن درجة الاعتبار.

و منها: ما عرفت عن ابن طاوس(5) من العمل بكلّ ما روى، و مستنده على ما قيل اختلاف روايات الباب، و قيل: بأنّ مرجعه إلى العمل بقول القمّيّين وجوبا مع استحباب الزائد الّذي عليه المشهور، و كأنّه - لو صحّ - مبنيّ على مصيره في مسألة التخيير بين الأقلّ و الأكثر إلى وجوب الأقلّ و استحباب الأكثر، كما هو أحد الأقوال في المسألة.

و ربّما يظهر من صاحب المدارك الميل إليه، كما نبّه عليه عند حكاية هذا القول بقوله: «و كأنّه يحمل الزائد على الندب و هو في غاية القوّة لكن بعد صحّة المستند»(6).

و فيه: مع أنّ الحقّ في مسألة التخيير بين الأقلّ و الأكثر وجوب الزائد و الناقص معا، أنّ التخيير إن اريد به ما يكون في المكلّف به نظير ما هو الحال في خصال الكفّارة فهو فرع الدلالة، لأنّه خلاف الأصل - على ما قرّر في محلّه - و هي منتفية على الفرض، و إن اريد به ما يكون في الإسناد على قياس ما هو الحال في الأدلّة المتعارضة فهو فرع

ص: 168


1- مشارق الشموس: 199.
2- مدارك الأحكام 51:1.
3- تقدّم في الصفحة 150 التعليقة 6 و 7.
4- فقه الرضا: 91.
5- تقدّم في الصفحة 150 التعليقة 6 و 7.
6- مدارك الأحكام 52:1.

التكافؤ و فقد المرجّح و عدم إمكان العمل، و قد عرفت في تتميم دليل المشهور المنع عن جميع ذلك، فإنّ أقلّ المراتب في ذلك قيام المرجّح من جهات شتّى من الداخليّة و الخارجيّة و هو كاف في علاج التعارض.

نعم، ينبغي أن يعلم أنّ هذا المذهب من المعظم مع مصيرهم في تحديد الكرّ إلى ما تقدّم، إنّما يستقيم إذا لم يحصل بين الحدّين تفاوت بحسب المقدار و لو يسيرا، و إلاّ - كما هو توهّمه غير واحد، حتّى أنّ منهم من يدّعي في ذلك دوام كون الوزن أقلّ، كبعض مشايخنا(1) في شرح الشرائع - أشكل الأمر إشكالا لا يندفع إلاّ بتكلّف إناطة ذلك باختلاف المياه وزنا في الثقل و الخفّة، كما ارتكبه بعضهم.

ثمّ إنّ تحديد الكرّ بكلّ من الجهتين مبنيّ على التحقيق، و لا يكفي فيه التقريب كما قرّر في الاصول، و نصّ عليه هنا غير واحد من الفحول، و ليس الحال فيه بل في جميع التحديدات الشرعيّة - كما في الموازين و غيرها - من المقادير الّتي يتسامح فيها عرفا، فلو نقص الماء عن أحد الحدّين و لو بيسير من مثقال بل أقلّ و جزء من شبر ينفعل بالملاقاة، و لا يلحقه أحكام الكرّ جزما.

ثمّ إنّ المعتبر في الأشبار إنّما هو شبر مستوى الخلقة، فلا اعتداد بشبر من قصر شبره عن الحدّ المذكور لصغر يده، و لا بشبر من زاد شبره على ذلك الحدّ لكبر يده أو طول أصابعه، و كلّ ذلك قضيّة لانصراف المطلق في نظر العرف و العادة، و لأنّه لو لا ذلك خرج الحدّ الشرعي عن الانضباط، و أفضى إلى الهرج و المرج لغاية وضوح الاختلاف، و قد نصّ على ما ذكرناه أيضا غير واحد من الفحول، و حكي التصريح به عن السرائر(2)و المنتهى(3) و القواعد(4) و التحرير(5) و جامع المقاصد(6) و الذكرى(7) و المسالك(8)، بل عن الذكرى(9) أنّه عزاه إلى الأكثر، و إلاّ فالعلم عند اللّه الأكبر.

***

ص: 169


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري قدّس سرّه - 191:1.
2- السرائر 61:1.
3- منتهى المطلب 40:1.
4- قواعد الأحكام 184:1.
5- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 4.
6- جامع المقاصد 118:1.
7- ذكرى الشيعة 80:1.
8- مسالك الافهام 14:1.
9- ذكرى الشيعة 80:1.

ينبوع [في انفعال القليل و عدمه]

اشارة

الماء إذا كان دون الكرّ فله أنواع، كالراكد و الجاري و المطر و الحمّام و البئر و ستسمع البحث عن جميع هذه الأنواع، و لنقدّم البحث عن الأوّل لكونه ممّا يعلم به ما لا يعلم بتقديم البواقي كما لا يخفى، فالكلام فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل:

في انفعال القليل من الراكد بملاقاة النجاسة في الجملة، و المعروف من مذهب الأصحاب - المدّعى عليه إجماع الفرقة تارة و مقيّدا باستثناء من يأتي من أصحابنا اخرى - أنّه ينفعل بمجرّد الملاقاة تغيّر أو لم يتغيّر، خلافا للعماني - ابن أبي عقيل الحسن من قدماء أصحابنا(1) - لمصيره فيه إلى عدم الانفعال إلاّ في صورة التغيّر كالكرّ، ثمّ وافقه على ذلك المحدّث الكاشاني(2) و غيره من جماعة من المتأخّرين على ما حكي عنهم، و عن العامّة في منتهى العلاّمة(3) اختلافهم في ذلك، فعن أبي حنيفة(4) و سعيد بن جبير(5)

ص: 170


1- نقله عنه في مختلف الشيعة 176:1 - الحسن بن عليّ بن أبي عقيل: أبو محمّد العماني الحذّاء، فقيه متكلّم، ثقة، و عرّفه الشيخ بالحسن بن عيسى، يكنّى أبا علي، وجه من وجوه أصحابنا، و هو أوّل من هذّب الفقه و استعمل النظر و فتق البحث عن الاصول و الفروع في ابتداء الغيبة الكبرى، و له مؤلّفات منها: كتاب المتمسّك بحبل آل الرسول - الفهرست للطوسي: 54، رجال النجاشي: 48، خلاصة الأقوال: 40، تنقيح المقال 291:1.
2- مفاتيح الشرائع 81:1.
3- منتهى المطلب 44:1.
4- المبسوط للسرخسي 70:1، بدائع الصنائع 71:1، شرح فتح القدير 68:1، نيل الأوطار 36:1.
5- سعيد بن جبير الوالبي: أبو محمّد مولى بني والبة، تابعيّ كوفيّ، نزيل مكّة. الفقيه المحدّث، روى عن ابن عبّاس و عديّ بن حاتم، و روى عنه جعفر بن أبي المغيرة و الأعمش و عطاء بن السائب و غيره، و عدّه الشيخ من أصحاب الإمام عليّ بن الحسين، و كان يسمّى جهبذة العلماء، قتله الحجّاج بعد محاورة طويلة معه. رجال الطوسي: 90 - خلاصة الأقوال: 79، تذكرة الحفّاظ 76:1.

و ابن عمر(1) و مجاهد(2).

و إسحاق(3) و أبو عبيدة(4) اختيارهم القول الأوّل، خلافا لحذيفة(5) و أبي هريرة(6) و ابن عبّاس(7)

ص: 171


1- عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب بن نقيل القرشي العدويّ، أبو عبد الرحمن، روى عن النبيّ و أبيه و أبي بكر و أبي ذر و معاذ و غيرهم، و روى عنه عبد الرحمن بن عوف و سعيد بن المسيّب و عون بن عبد اللّه، ولد سنة ثلاث من المبعث، و مات سنه 74 ه. الإصابة 347:2 - تذكرة الحفّاظ 37:1، شذرات الذهب 81:1.
2- مجاهد بن جبر المكيّ: أبو الحجّاج المخزوني مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، سمع سعدا و عائشة و أبا هريرة و أمّ هاني و عبد اللّه بن عمرو و ابن عبّاس و لزمه مدّة، و قرأ عليه القرآن، روى عنه قتادة و الحكم بن عتيبة و عمرو بن دينار و منصور و الأعمش و غيرهم، مات سنة 103 ه. شذرات الذهب 125:1؛ تذكرة الحفاظ 92:1.
3- أبو يعقوب إسحاق بن ابراهيم بن مخلّد الحنظلي التميمي المروزي، نزيل نيشابور و عالمها، يعرف ب (ابن راهويه) سمع من ابن المبارك و فضيل بن عياض، و أخذ عنه أحمد بن حنبل و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و أبو العبّاس بن السّراج ولد سنة 166 ه و قيل: 161 ه مات سنة 238 ه. تذكرة الحفّاظ 35:2 - الفهرست لابن النديم: 321، شذرات الذهب 89:2.
4- القاسم بن سلاّم - بتشديد اللام - أبو عبيد البغداديّ اللغوي الفقيه ولي القضاء بمدينة طرسوس، سمع شريكا و ابن المبارك و حدّث عنه الدارمي و أبو بكر بن أبي الدنيا و ابن أبي اسامة، أخذ عن الاصمعي و الكسائي و الفرّاء و غيرهم - مات سنة 224 ه. بغية الوعاة: 376، تذكرة الحفّاظ 417:2، شذرات الذهب 55:2.
5- حذيفة بن حسل، و يقال حسيل اليمان بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة بن الحارث، يكنّى أبا عبد اللّه العبسي، شهد حذيفة و أخوه صفوان أحدا و كان من كبار الصحابة، معروف فيهم بصاحب سرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تمييز المنافقين، روى عن النبيّ، و روى عنه ابنه أبو عبيدة و عمر بن الخطّاب و قيس بن أبي حازم، و أبو وائل و زيد بن وهب و غيرهم، مات بالمدائن سنة 36 ه. الإصابة 317:1، الاستيعاب بهامش الاصابة 377:1 اسد الغابة 39:1، شذرات الذهب 44:1.
6- أبو هريرة الدوسي، و دوس هو: ابن عدنان بن عبد اللّه بن زهران بن كعب بن الحارث، اختلفوا في اسمه و اسم أبيه اختلافا كثيرا لا يحاط به و لا يضبط في الجاهليّة و الإسلام، و قيل: اسمه عبد شمس في الجاهليّة، صحب النبيّ و روى عنه الإصابة 202:4 - الاستيعاب بهامش الإصابة 202:4 - تذكرة الحفّاظ 32:1.
7- عبد اللّه بن عبّاس بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عليّ عليه السّلام -

و سعيد بن المسيّب(1) و الحسن البصري(2) و عكرمة(3) و عطا(4) و طاوس(5) و جابر بن زيد(6)

ص: 172


1- سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم القرشي المدني: أبو محمّد، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، سمع من عمر و عثمان و زيد بن ثابت و عائشة و أبي هريرة و سعد بن أبي وقّاص، و اختلف في سنة وفاته، فقيل: 94 و قيل: 89 و قيل: 91 و قيل 105 ه. تذكرة الحفّاظ 54:1، شذرات الذهب 102:1، وفيات الأعيان 117:2.
2- الحسن بن أبي الحسن يسار: أبو سعيد البصريّ مولى زيد بن ثابت الأنصاري، و أمّه خيرة مولاة أمّ سلمة، حدّث عن عثمان و عمران بن حصين و المغيرة بن شعبة و ابن عبّاس، مات سنة 110 ه. تذكرة الحفّاظ 72:1، شذرات الذهب 136:1، سير أعلام النبلاء 563:4، ميزان الاعتدال 527:1.
3- أبو عبد اللّه: عكرمة بن عبد اللّه مولى عبد اللّه بن عبّاس، أصله من البربر، روى عن مولاه و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و أبي سعيد و أبي هريرة و عائشة، و استبعد الذهبي روايته عن عليّ عليه السّلام، و كان ينتقل من بلد إلى بلد، مات سنة 107 ه. تذكرة الحفّاظ 95:1، شذرات الذهب 130:1، وفيات الأعيان 427:2.
4- عطاء بن أبي رباح: أبو محمّد بن أسلم القرشي، مفتي أهل مكّة و محدّثهم، روى عن عائشة و أبي هريرة و جابر بن عبد اللّه و ابن عبّاس و أبي سعيد و طائفة، و روى عنه أيّوب و عمرو بن دينار و ابن جريح و أبو إسحاق و الأوزاعيّ و أبو حنيفة و خلق كثير، مات سنة 114 ه، و قيل: 115 ه. تذكرة الحفّاظ 98:1، شذرات الذهب 147:1، وفيات الأعيان 423:2، ميزان الاعتدال 70:3.
5- طاوس بن كيسان اليماني الجنديّ الخولانيّ: أبو عبد الرحمن من أبناء الفرس، روى عن ابن عبّاس و زيد بن أرقم، و زيد بن ثابت، و روى عنه ابنه عبد اللّه و الزهري و إبراهيم بن ميسرة و حنظلة بن أبي سفيان و كان شيخ أهل اليمن و كان كثير الحج مات بمكّة قبل يوم التروية سنة 104 ه. تذكرة الحفّاظ 90:1، شذرات الذهب 133:1.
6- جابر بن زيد الأزدي البصري: أبو الشعثاء صاحب ابن عبّاس و روى عنه، روى عنه قتادة و أيّوب و عمرو بن دينار و كان من فقهاء البصرة، مات سنة 93 ه، و قيل: 130 ه. تذكرة الحفّاظ 72:1 - شذرات الذهب 101:1.

و ابن أبي ليلى(1) و مالك(2) و الأوزاعي(3) و الثوري(4) و ابن المنذر(5) فإنّ المرويّ عنهم المصير إلى القول الثاني و للشافعي(6) قولان و عن أحمد(7) روايتان.

و لا يذهب عليك أنّ الأصل في المسألة اجتهادا و فقاهة من وجوه شتّى كاستصحاب الطهار و أصلي البراءة و الإباحة عن وجوب الاجتناب و استعمال هذا الماء مطلقا في جانب القول الثاني فلذا قد يؤخذ حجّة لأصحابه، و ليس في جانب القول الأوّل أصل يوافقه.

نعم قد سبق إلى بعض الأوهام الضعيفة جريان أصل الشغل و استصحابه في مشروط المائيّة في جانبه، و لكن يدفعه: أنّ الضابط الكلّي في باب الاصول أنّها تجري حيث لم يكن أصل موضوعي في أحد طرفي الشكّ و استصحاب الطهارة أصل موضوعي لا يجري معه الأصلان المشار إليهما، و السرّ في ذلك أنّه حيثما يجري علم

ص: 173


1- محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري: أبو عبد الرحمن، مفتي الكوفة و قاضيها، حدّث عن الشعبي و عطاء و الحكم بن عيينة و نافع و طائفة، و حدّث عنه شعبة و سفيان بن سعيد الثوري و وكيع و أبو نعيم، مات سنة 148 ه - تذكرة الحفّاظ 171:1 - شذرات الذهب 224:1 - ميزان الاعتدال 613:3 - وفيات الأعيان 309:2.
2- مالك: أبو عبد اللّه مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الحميري الأصبحي المدني، إمام المذهب المالكي، حدّث عن نافع و المقبري و الزهري و غيرهم، ولد سنة 93 ه، و مات سنة 197. شذرات الذهب 292:1 - تذكرة الحفّاظ 207:1.
3- أبو عمر الرحمن بن عمر بن محمّد الدمشقي الأوزاعي الفقيه، حدّث عن عطاء بن أبي رباح و القاسم بن مخيمرة و ربيعة بن يزيد و شدّاد بن أبي عمّار و الزهري و قتادة و يحيى بن أبي كثير، و حدّث عنه شعبة و ابن المبارك و الوليد بن مسلم، ولد ببعلبك و نشأ بالبقاع ثمّ نزل بيروت فمات فيها سنة 157. تذكرة الحفّاظ 310:2.
4- أبو عبد اللّه سفيان بن مسروق الثوري الفقيه الكوفي، حدّث عن أبيه و زبيد بن الحارث و حبيب بن أبي ثابت و زياد بن علاقة و محارب بن دثار و يحيى القطّان و ابن وهب و وكيع و قبيصة و جمع كثير، مات بالبصرة بعد أن كان مختفيا من المهدي سنة 161 ه. تذكرة الحفّاظ 203:1، شذرات الذهب 250:1، الفهرست لابن النديم: 315.
5- إبراهيم بن المنذر بن عبد اللّه الحزامي الأسدي: أبو إسحاق المدنيّ محدّث المدينة، روى عن مالك و سفيان بن عينية و الوليد بن مسلم و ابن وهب و أبي ضمرة، و روى عنه البخاري و ابن ماجة و محمّد بن إبراهيم البوشنجي و خلق كثير، مات سنة 236 ه، و هو غير أبي بكر محمّد بن إبراهيم بن المنذر من فقهاء الشافعية. تذكرة الحفّاظ 470:1 - شذرات الذهب 86:2، ميزان الاعتدال 67:1.
6- المغني لابن قدامة 53:1.
7- المغني لابن قدامة 53:1.

شرعي يحرز به الواقع تعبّدا من الشارع يرتفع معه الشكّ في البراءة ارتفاعا شرعيّا.

و من هنا ينقدح أنّه لو قرّر هنا في بعض الفروض النادرة أصل آخر مخالف لكلا القولين كقاعدة الشغل الجارية عندنا عند الشكّ في المكلّف به و دوران الأمر بين المتباينين، فيما لو فرض انحصار الماء في القليل الملاقي للنجاسة عند الاشتغال بمشروط بالطهارة المردّدة في الفرض بين المائيّة و الترابيّة المقتضية للجمع بينهما لم يكن في محلّه، لارتفاع ذلك الشكّ و التردّد بواسطة الأصل الموضوعي المذكور، و بالجملة: لو كان في المسألة أصل فهو مختصّ بالقول الثاني.

و تظهر فائدته في أمرين أحدهما: أنّ المطالب بالدليل في المسألة أصحاب القول الأوّل، لمصيرهم إلى مخالفة الأصل دون أهل القول الثاني، فلو وجدتهم حينئذ مستندين إلى دليل آخر فهو تفضّل منهم.

و ثانيهما: كونه المرجع جدّا عند فقدان الدليل، أو وجوده مجملا أو معارضا بمثله، المساوي له من جميع الجهات، الموجب للعجز عن الترجيح.

و أمّا ما يتراءى عن بعض العبائر من ظهور فائدته في مقام الترجيح، لأنّه يوجب اعتضاد الدليل المقتضي لما يوافقه و تأيّده به، فهو كلام ظاهري منشؤه عدم التأمّل في مفاد الأصل، و موضوعه المغاير لموضوع الدليل، و الغفلة عمّا قدّمنا الإشارة إليه من أنّ المعاضد كالمعارض يشترط فيه وحدة الموضوع فيما بينه و بين ما يتعاضد به، و هي ممّا يمتنع فيما بين الاصول العمليّة و الأدلّة الاجتهاديّة، و قضيّة ذلك امتناع كلّ من التعاضد و التعارض، كما أنّ الأخير ممّا يعلمه كلّ أحد، فهو مع الأوّل من واد واحد لا يعقل الفرق بينهما أصلا.

و بجميع ما قرّرناه يتبيّن: أنّ العمدة في المقام الواجب مراعاته إنّما هو النظر في أدلّة القول الأوّل، فإن تمّت دلالة و سندا و سلامة عن المعارض المساوي أو بالأصول المعتبرة.

فنقول: إنّ العمدة في أدلّة الباب إنّما هو الأخبار المرويّة عن أئمّتنا الأطهار الأطياب سلام اللّه عليهم أجمعين، و أمّا نقل الإجماعات و إن ادّعى استفاضتها و اعتمد عليها غير واحد من الأصحاب، و لكنّ التعويل عليها عند التحقيق لا يخلو عن إشكال، كما أنّ الاحتجاج بالضرورة الّذي يوجد في بعض العبارات غير خال عن الإشكال.

ص: 174

أمّا الأوّل: فلأنّ هذا الإجماع لو فرضناه محقّقا لا يفيدنا في خصوص المقام شيئا فضلا عن كونه منقولا، لعلمنا بأنّه ليس إلاّ عن الأخبار الواردة في المقام الّتي صارت من مزالّ بعض الأقدام، فلا بدّ من النظر في تلك الأخبار و كيفيّة دلالتها و صحّة أسانيدها، و خلوّها عن معارض أقوى، استعلاما لصدق المجمع عليه، لعدم ثبوت حجّيّة أصل النقل من حيث هو تعبّدا، و لا حجّيّة أصل الاتّفاق كذلك، و إنّما يصير حجّة لو كشف عن الواقع كشفا علميّا، أو عن وجود دليل غير علمي للمجمعين، بحيث لو عثرنا به و وجدنا لعملنا به و لم نبعّده، و هذا ليس منه للعلم التفصيلي بالمستند الّذي لم يتحقّق عندنا حاله بعد، نعم لا مضايقة في أخذها مؤيّدة لتلك الأخبار في مقام ترجيحها على معارضاتها إذا حصل الوثوق بالمنقول، لكشفه حينئذ عمّا يستقيم به الدلالة لو فرض فيها قصور، و يتقوّم به السند لو كان معه ضعف، أو حزازة اخرى ممّا يوجب الوهن في أسانيد الأخبار.

و أمّا الثاني: فللقطع بأنّ انفعال ماء القليل بملاقاة النجاسة ليس حاله كحال سائر الضروريّات كوجوب الصلاة على وجه يعرفه كلّ أحد حتّى الرساتيق و البدويّين من الأمّة أو الشيعة، كيف و لم يعهد عن أحد من هؤلاء أنّهم يتحرّزون عن ماء قريب من الكرّ بمجرّد ما لاقاه قطرة بول أو و لغة كلب أو نحوه، بل نرى عملهم على خلافه كما لا يخفى على البصير.

غاية ما في الباب أن تقول: إنّه ينشأ عن قلّة المبالاة و المسامحة في الدين، غير أنّه احتمال أو مع الرجحان، و لا ريب أنّه لا يجامع الضرورة لمجامعته احتمال كون منشئه الجهل و عدم الاطّلاع بأصل الحكم، و إن اريد بالضرورة ما هي بين الخواصّ و أهالي المعرفة بالمسائل و الأحكام فمنعها أوضح، كما يرشد إليه استنادهم عند السؤال عن وجه المسألة إلى فتوى المجتهد، و من خواصّ الضرورة كون الحكم معلوما لكلّ أحد بعلم ضروري لا يستند إلى قول المفتي كما لا يخفى، بل إحالة الوجه إلى الفتوى ممّا يكشف بنفسه عن عدم العلم الضروري كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هاهنا وجهين آخرين استند إليهما العلاّمة، مضافا إلى روايات المسألة أحدهما: ما ذكره في المنتهى: «من أنّ النجاسة امتزجت بالماء و شاعت أجزاؤها في

ص: 175

أجزائه، و يجب الاحتراز عن أجزاء النجاسة، و قد تعذّر إلاّ بالاحتراز عن الماء المختلط أجزاؤه بأجزائها»(1)، و هو كما ترى من أوهن ما لا ينبغي الاستناد إليه في أمثال المقام؛ فإنّه - مع أنّ فيه نوع مصادرة لتوجّه المنع عن وجوب الاحتراز عن أجزاء النجاسة بعد شيوعها في الماء، بل هو أوّل المسألة - منقوض بالكرّ و ما فوقه إذا شاعت فيه أجزاء النجاسة، و لا سيّما إذا فرضنا القليل أقلّ منه بيسير كالمثقال بل المثاقيل، إذ لو لا الحكم على فرض ثبوته تعبديّا صرفا فأيّ عاقل يدرك الفرق بين ألف و مائتي رطل و ما نقص عنه بمثقال بل مدّ بل رطل و نحو ذلك، حتّى يدّعي في الثاني وجوب الاحتراز عن مجموع هذا الماء مقدّمة للاحتراز عن أجزاء النجاسة الشائعة فيه دون الأوّل، هذا كلّه مع ما فيه من عدم جريانه في جميع صور المسألة حتّى ما لا يكون للنجاسة جزء كعضو الكافر أو أخويه، أو شيء من أجزائها الساقطة من عظم و نحوه.

و ثانيهما: ما قرّره في المختلف: من «أنّ القليل مظنّة الانفعال غالبا، فربّما غيّرت النجاسة أحد أوصافه و لا يظهر للحسّ، فوجب اجتنابه»(2).

و فيه: مع أنّه مبنيّ على اعتبار التغيّر التقديري و قد تقدّم المنع عنه، و على وجوب الاحتياط في مواضع الشبهة سيّما إذا قابله أصل موضوعي اجتهادا و فقاهة حينما عرفت أنّه منقوض أوّلا بالفرض المتقدّم، و ثانيا بعدم جريانه في النجاسات الغير المغيّرة لذواتها أو لقلّة و نحوها، و لو قيل بأنّ ذلك تعبّد من الشارع فسقط اعتبار هذا الوجه و يطالب القائل بدليل ذلك، فلا بدّ له من التشبّث بالأدلّة السمعيّة، و قضيّة ذلك انحصار المستند حقيقة في الأخبار فلا بدّ من النظر فيها.

[البحث في أنواع الروايات التي ترد في انفعال القليل]

اشارة

فنقول: إنّها حسبما احتجّ به أهل هذا القول كثيرة جدّا، و منقول فيها البلوغ حدّ التواتر معنى، بل ربّما يدّعى بلوغها نحو مائتين رواية أو أزيد، غير أنّ جملة منها صحاح، و اخرى موثّقات، و ثالثة حسان، و رابعة ضعاف منجبرة بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع، مع نقله المدّعى فيه الاستفاضة.

ثمّ إنّ جملة منها ما هو صريح أو ظاهر كالصريح في المطلوب، و اخرى ما هو ظاهر فيه منطوقا، و ثالثة ما هو ظاهر فيه مفهوما، و نحن نراعي في ذكرها هذه الأنواع الثلاث،

ص: 176


1- منتهى المطلب 48:1.
2- مختلف الشيعة 177:1.

فنذكرها بالترتيب المذكور غير مراع فيه مراتب الصحّة و غيرها من الأنواع الأربع الأوّلة.

فأمّا النوع الأوّل: [ما هو صريح أو ظاهر كالصريح في المطلوب]

فروايات، منها: ما في التهذيب و الاستبصار - الموصوف بالصحّة في كلام جماعة - عن الفضل أبي العبّاس قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن فضل الهرّة و الشاة و البقرة و الإبل و الحمار و الخيل و البغال و الوحش و السباع، فلم أترك شيئا إلاّ سألته عنه، فقال: «لا بأس به»، حتّى انتهيت إلى الكلب، فقال: «رجس نجس لا تتوضّأ بفضله، و اصبب ذلك الماء، و اغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء»(1).

و منها: ما فيهما أيضا عن معاوية بن شريح، قال: سأل عذافر أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن سؤر السنّور و الشاة و البقرة و البعير و الحمار و الفرس و البغال و السباع يشرب أو يتوضّأ منه؟ فقال: «نعم اشرب منه و توضّأ»، قال: قلت له الكلب؟ قال: «لا»، قلت أ ليس هو بسبع؟ قال: «لا و اللّه إنّه نجس، لا و اللّه إنّه نجس»(2) و فيهما(3) أيضا مثله بطريق آخر إلى معاوية بن ميسرة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و في الرجال(4) اتّحاده مع معاوية بن شريح.

و منها: ما عن التهذيب في كتاب الأطعمة و الأشربة عن أبي بصير، قال: «دخلت أم معبد العبديّة على أبي عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده، قالت: جعلت فداك أنّه يعتريني قراقر في بطني، إلى أن قالت: و قد وصف لي أطبّاء العراق النبيذ بالسويق و قد وقفت و عرفت كراهتك له فأحببت أن أسألك عن ذلك، فقال: و ما يمنعك عن شربه؟ قالت: و قد قلّدتك ديني فألقى اللّه حين ألقاه فاخبره أنّ جعفر بن محمّد أمرني و نهاني، فقال: «يا أبا محمّد أ لا تسمع إلى هذه المرأة و هذه المسائل، لا و اللّه لا آذن لك في قطرة فلا تذوقي منه قطرة، إلى أن قال: ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما يبلّ منه الميل ينجّس حبّا من ماء يقولها ثلاثا»(5).

ص: 177


1- الوسائل 226:1، ب 1 - من أبواب الأسآر ح 4 و 6 - التهذيب 646/225:1 و 647 - الاستبصار 40/19:1 و 41.
2- الوسائل 226:1، ب 1 - من أبواب الأسآر ح 4 و 6 - التهذيب 646/225:1 و 647 - الاستبصار 40/19:1 و 41.
3- التهذيب 648/225:1.
4- و في منتهى المقال: «معاوية بن شريح: له كتاب... - إلى أن قال -: و الظاهر أنّه ابن ميسرة بن شريح، و في التعليقة: هذا هو الظاهر كما يظهر من الأخبار، و قال الصدوق عند ذكر طرقه: و ما كان فيه عن معاوية بن شريح فقد رويته... إلى أن قال: معاوية بن ميسرة بن شريح هذا و صرّح مولانا عناية اللّه باتّحاده مع ابن ميسرة، و هو الظاهر». منتهى المقال 280:1 - مجمع الرجال 99:6 - تعليقة الوحيد البهبهاني: 336 - الفقيه - المشيخة 16/4.
5- نقل ذيله في الوسائل 470:3، ب 38 من أبواب النجاسات ح 6 - الكافي 1/413:6.

وجه الاستدلال بالخبر الأخير واضح لا حاجة معه إلى البيان، و أمّا الأوّلان فلأنّهما يقضيان بالصراحة أنّ السبعيّة ليست عنوانا يقتضي المنع عن الماء، بل المقتضي له إنّما هو النجاسة الّتي يمتاز بها الكلب عن غيره من سائر الأنواع المذكورة في الخبرين، و لا ريب أنّ تعليق الحكم بالنجاسة ليس إلاّ من جهة أنّها تؤثّر في النجاسة، ثمّ إنّ الحكم على الكلب بكونه رجسا نجسا وارد مورد التعليل و إن كان مقدّما في الخبر الأوّل على ما علّل به كما يشهد به التأمّل الصادق، فيعمّ سائر النجاسات و معه يتعدّى إليها الحكم، فيندفع به جملة من الاعتراضات الآتية، نعم هنا بعض آخر من الاعتراضات يعلم اندفاعه بما يأتي إن شاء اللّه.

و أمّا النوع الثاني [ما هو ظاهر فيه منطوقا]
اشارة

فروايات كثيرة منها: ما في زيادات التهذيب في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباهها تطأ العذرة، ثمّ تدخل في الماء يتوضّأ منه للصلاة؟ قال عليه السّلام: لا، إلاّ أن يكون الماء كثيرا قدر كرّ»(1).

و منها: ما فيه في باب آداب الأحداث في الصحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة قال عليه السّلام:

«يكفئ الماء»(2).

و منها: ما في الكافي في الموثّق بسماعة بن مهران في باب «الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها» عن أبي بصير عنهم عليهم السّلام قال: «إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس، إلاّ أن يكون أصابها قذر بول، أو جنابة، فإن أدخلت يدك في الإناء و فيها شيء من ذلك فأهرق ذلك الماء»(3).

و منها: ما في باب آداب الأحداث من التهذيب في القويّ عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الجنب يحمل الركوة أو التور فيدخل إصبعه فيه؟ قال عليه السّلام: إذا كانت يده قذرة فأهرقه و إن كان لم يصبها قذر فيغتسل منه هذا ممّا قال اللّه تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (4).

ص: 178


1- الوسائل 155:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 13 - التهذيب 1326/419:1.
2- الوسائل 153:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 105/39:1 و فيه: «الإناء» بدل «الماء».
3- الوسائل 152:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 4، الكافي 1/11:3.
4- الوسائل 154:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 11 - التهذيب 103/308:1 - رواه -

و منها: ما في باب الماء إذا ولغ فيه الكلب من التهذيب و الاستبصار في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن الكلب يشرب من الإناء قال:

«اغسل الإناء» الحديث(1).

و منها: ما في باب تطهير الثياب من التهذيب في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: سألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال:

«يغسل سبع مرّات»(2).

و لا يذهب عليك أنّ في هذا الخبر دلالة على المطلب زيادة على ما في سوابقه، من حيث ظهوره في كون أصل التنجّس مفروغا عنه معتقدا للسائل، و إنّما وقع السؤال عن كيفيّة تطهير الإناء، فقرّره الإمام عليه السّلام على ما اعتقده و بيّن له الكيفيّة، و المفروض أنّ السائل هو عليّ بن جعفر، و هو من أهل الوثاقة و الفضل و الفقاهة، كما يشهد بها تكثيره في الرواية عن أخيه، و من البعيد المقطوع ببطلانه أن يعتقد بما لم يكن أخذه من أخيه، أو ثبت له من ضرورة أو غيرها من الطرق العلميّة المتحقّقة له في عصره.

و منها: ما في نوادر كتاب الطهارة من الكافي - في الصحيح - عن عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السّلام قال: و سألته عن رجل رعف و هو يتوضّأ، فقطر قطرة في إنائه، هل يصلح الوضوء منه؟ قال: «لا»(3).

و منها: ما في باب المياه من التهذيب - في الصحيح - عن عليّ بن جعفر عليه السّلام إنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السّلام عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمّام؟ قال عليه السّلام:

«إذا علم أنّه نصراني اغتسل بغير ماء الحمّام، إلاّ أن يغتسل وحده على الحوض، فيغتسل ثمّ يغتسل» الحديث(4).

و منها: ما في باب آداب الأحداث من التهذيب - في الموثّق - عن سماعة بن مهران، قال: سألته عن رجل يمسّ الطست أو الركوة، ثمّ يدخل يده في الإناء قبل أن

ص: 179


1- الوسائل 225:1، ب 1 من أبواب الأسآر ح 3 - التهذيب 644/225:1.
2- الوسائل 225:1، ب 1 من أبواب الأسآر ح 2 - التهذيب 760/261:1.
3- الوسائل 150:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 1 - مسائل عليّ بن جعفر 64/119.
4- الوسائل 421:3، ب 14 من أبواب النجاسات 9 - التهذيب 940/223:1.

يفرغ على كفّيه؟ قال عليه السّلام: «يهريق من الماء ثلاث حفنات، فإن لم يفعل فلا بأس، و إن كانت أصابته جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به إن لم يكن أصاب يده شيء من المنيّ، و إن كان أصاب يده فأدخل يده في الماء قبل أن يفرغ على كفّيه فليهرق الماء كلّه»(1).

و منها: ما في بابي المياه و تطهير المياه من التهذيب، و باب القليل يحصل فيه النجاسة، و عن الكليني أيضا في الكافي - في الموثّق - عن سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر، لا يدري أيّهما هو؟ و ليس يقدر على ماء غيره؟ قال: «يهريقهما و يتيمّم إن شاء اللّه»(2).

و منها: ما في بابي تطهير المياه و أحكام التيمّم، من الزيادات من التهذيب - في الموثّق - عن عمّار الساباطي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل، قال: سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر، لا يدري أيّهما هو؟ و ليس يقدر على ماء غيره، قال عليه السّلام: «يهريقهما جميعا و يتيمّم»(3).

و في هذين الخبرين مضافا إلى موافقتهما للأخبار الاخر في جهة الدلالة، دلالة اخرى تستفاد من ملاحظة سياق السؤال، بتقريب ما بيّنّاه في خبر عليّ بن جعفر المتقدّم، كما يشهد به التأمّل، بل فيهما دلالة من جهة ثالثة و هو أمره عليه السّلام بالتيمّم، و ظاهر أن ليس ذلك إلاّ من جهة نجاسة الماء بوقوع القذر فيه، ثمّ اشتباه الطاهر بالنجس من باب الشبهة المحصورة الّتي يجب الاجتناب عنها، كيف و لو لا ذلك لمّا سوّغ العدول من المائيّة إلى التيمّم، لمكان كونه طهارة اضطراريّة، و احتمال كون ذلك لأجل التغيّر - كما جنح إليه بعض المتأخّرين - لا ينشأ منه أثر بعد مراعاة قاعدة ترك الاستفصال، فتأمّل.

و منها: ما في الكافي في باب السؤر - في الموثّق - عن عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عمّا يشرب منه الحمامة؟ قال: «كلّما أكل لحمه فتوضّأ من سؤره و اشرب، و عن ماء شرب منه باز أو صقر، أو عقاب؟ فقال: كلّ شيء من الطير

ص: 180


1- الوسائل 154:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 10 - التهذيب 102/38:1.
2- الوسائل 151:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 713/249:1 الكافي 3: 6/10 - التهذيب 662/229:1.
3- الوسائل 155:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 14 - التهذيب 712/248:1 و في 1: 1218/407 بسند آخر.

يتوضّأ ممّا يشرب منه، إلاّ أن ترى في منقاره دما، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضّأ منه و لا تشرب»(1).

و منها: ما في آخر باب تطهير الثياب من التهذيب - في الموثّق - عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن الكوز أو الإناء يكون قذرا فيه كيف يغسل؟ - إلى أن قال -: و عن ماء شربت منه الدجاجة؟ قال: «إن كان في منقارها قذر لم تتوضّأ منه و لم تشرب، و إن لم تعلم أنّ في منقارها قذرا توضّأ و اشرب، و قال: كلّما يؤكل لحمه فليتوضّأ منه و ليشربه، [و سأل] عن ماء يشرب منه صقر أو باز أو عقاب؟ قال: كلّ شيء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه: إلاّ أن ترى في منقاره دما فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضّأ منه، و لا تشرب» الحديث(2).

و منها: ما في أواخر زيادات باب المياه من التهذيب، و سأل عمّار بن موسى الساباطي أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يجد في إنائه فأرة و قد توضّأ من ذلك الإناء مرارا و غسل منه ثيابه و اغتسل منه، و قد كانت الفأرة منسلخة، فقال: «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه، ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه، و يغسل كلّما أصابه ذلك الماء، و يعيد الوضوء و الصلاة، و إن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك و فعله فلا يمسّ من الماء شيئا، و ليس عليه شيء، لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه، ثمّ قال: لعلّه أن يكون إنّما سقطت فيه تلك الساعة الّتي رآها»(3).

و منها: ما في الباب المذكور من التهذيب - في الموثّق - عن سعيد الأعرج قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجرّة تسع مائة رطل من ماء، يقع فيها أوقية من دم أشرب منه و أتوضّأ؟ قال عليه السّلام: «لا»(4).

و منها: ما في باب مياه التهذيب - في الموثّق - عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ليس بأس بفضل السنّور أن تتوضّأ منه و يشرب، و لا يشرب سؤر الكلب إلاّ أن

ص: 181


1- الوسائل 230:1، ب 4 من أبواب الأسآر ح 2 - التهذيب 660/228:1 - الكافي 5/9:3 - الاستبصار 64/25:1.
2- الوسائل 231:1 ب 5 من أبواب الأسآر ح 4-3 - التهذيب 832/284:1.
3- التهذيب 41/418:1.
4- الوسائل 153:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1320/418:1.

يكون حوضا كبيرا يستقي منه»(1).

و منها: ما عن علل الصدوق - في الموثّق - عن عبد اللّه بن يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - في حديث - قال: «و إيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام، و فيها يجتمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت و هو شرّهم، فإنّ اللّه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب، و أنّ الناصب لنا أهل البيت أنجس منه»(2).

و منها: ما في باب دخول الحمام من زيادات التهذيب، عن حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: سألته أو سأله غيري عن الحمّام؟ قال: «ادخله بمئزر، و غضّ بصرك، و لا تغتسل من البئر الّتي يجتمع فيها ماء الحمّام، فإنّه يسيل فيها ماء يغتسل به الجنب، و ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرّهم»(3).

و في دلالة هذا الخبر شيء لا يخفى على المتأمّل.

و منها: ما في باب المياه من التهذيب عن حريز عمّن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إذا ولغ الكلب في الإناء فصبّه»(4).

و منها: المحكيّ عن فقه الرضا قال عليه السّلام: «إذا ولغ كلب في الماء أو شرب منه اهريق الماء و غسل الإناء ثلاث مرّات مرّة بالتراب و مرّتين بالماء ثمّ يجفّف»(5).

و منها: المحكيّ عن كتاب الأطعمة و الأشربة من التهذيب عن عمر بن حنظلة، قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء حتّى يذهب عاديته و يذهب سكره؟ فقال عليه السّلام: «لا و اللّه، و لا قطرة قطرت في حبّ إلاّ اهريق ذلك الحبّ»(6).

و منها: ما عن الحميري في قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن حبّ ماء وقع فيه أوقية بول، هل يصلح شربه أو الوضوء؟ قال عليه السّلام: «لا يصلح»(7).

ص: 182


1- الوسائل 226:1، ب 1 من أبواب الأسآر ح 7 - التهذيب 650/226:1.
2- الوسائل 220:1، ب 11 من أبواب الماء المضاف ح 5 - علل الشرائع 292:1.
3- التهذيب 1143/373:1.
4- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر ح 5 - التهذيب 645/225:1.
5- فقه الرضا عليه السّلام: 93 - الفقيه 10/8:1.
6- الوسائل 341:25 ب 18 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 1 - التهذيب 485/112:9.
7- الوسائل 156:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 16 - مسائل عليّ بن جعفر 420/197.

و منها: ما في باب النزح من التهذيب، عن عليّ بن حديد عن بعض أصحابنا، قال: كنت مع أبي عبد اللّه في طريق مكّة فصرنا إلى بئر فاستقى غلام أبي عبد اللّه عليه السّلام دلوا فخرج فيه فأرتان، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «أرقه: فاستقى آخر فخرج فيه فأرة، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

أرقه، فاستقى الثالث فلم يخرج فيه شيء، فقال: صبّه في الإناء، فصبّه في الإناء»(1).

و منها: ما في باب المياه من التهذيب، عن سعيد الأعرج قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن سؤر اليهودي و النصراني؟ فقال: «لا»(2).

و منها: ما في الحدائق عن الشهيد في الذكرى، و عن غيره في غيره، عن العيص بن القاسم قال: سألته عن رجل أصابته قطرة عن طست فيه وضوء؟ قال: «إن كان من بول أو قذر فليغسل ما أصابه»(3).

و منها: ما في المناهل(4) عن الصدوق مرسلا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا وقع وزغ في إناء فأهرق ذلك الماء، و إذا وقع فيه كلب أو شرب منه أهرق الماء و اغسل الإناء مرّات»(5).

و منها: ما في الصحيح - في زيادات باب المياه من التهذيب - عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه - قال: و ما أحسبه إلاّ حفص بن البختري - قال: قيل لأبي عبد اللّه عليه السّلام العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: «يباع ممّن يستحلّ أكل الميتة»(6).

و في رواية اخرى صحيحة في الباب المذكور من الكتاب «أنّه يدفن و لا يباع»(7).

هذا آخر ما وجدناه من مناطيق روايات المسألة

و قد عرفت أنّها بحسب المتن على قسمين:
اشارة

منها: ما هو مشتمل على نفي صلاحية ما لاقاه النجاسة من الماء للتوضّي

ص: 183


1- الوسائل 174:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 14 - التهذيب 693/239 الاستبصار 112/40:1.
2- الوسائل 229:1 ب 3 من أبواب الأسآر ح 1 - الكافي 5/11:3 - التهذيب 638/223:1 - الاستبصار 36/18:1.
3- الوسائل 215:1، ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 14 - ذكرى الشيعة 84:1، الحدائق الناضرة 286:1.
4- المناهل - كتاب الطهارة - الورقة: 113 (المخطوط).
5- الفقيه 10/8:1.
6- الوسائل 242:1 و 243 ب 11 من أبواب الأسآر ح 1 و 2 - التهذيب 1305/414:1 و 1306 - الاستبصار 76/29:1 و 77.
7- الوسائل 242:1 و 243 ب 11 من أبواب الأسآر ح 1 و 2 - التهذيب 1305/414:1 و 1306 - الاستبصار 76/29:1 و 77.

و الاغتسال به.

و منها: ما هو مشتمل على النهي عن التوضّي و الاغتسال، و عن الشرب أيضا و الأمر بالإراقة، و هو الغالب جدّا.

و أمّا وجه الاستدلال بالقسم الأوّل [أي ما هو مشتمل على نفي صلاحية ما لاقاه النجاسة من الماء للتوضّي و الاغتسال به.]

فواضح، من جهة أنّ نفي الصلاحية للتوضّي عن الماء الملاقي للنجاسة لا يعقل له وجه، إلاّ بأن يقال: إنّ الملاقاة قد أوجبت فيه زوال وصف وجودي عليه مدار الصلاحية في نظر الشارع و ليس ذلك إلاّ الطهارة، و لا ريب أنّ زوالها ملزوم للنجاسة و هو المطلوب.

و لك أن تقول: إنّها أوجبت في الماء حدوث وصف وجودي عليه مدار عدم الصلاحية شرعا، و لا يكون ذلك إلاّ النجاسة.

و احتمال أنّ الوصف الزائل لعلّه وصف الإطلاق، كاحتمال أنّ الوصف الحادث لعلّه التغيّر.

يدفعه: القطع بأنّ القطرة من الدم الواقعة في الإناء، و الأوقية من البول الواقعة في الحبّ لا يوجبان شيئا من ذلك، أمّا الأوّل: فواضح، و أمّا الثاني: فلأنّ الأوقيّة - بضمّ الأوّل و سكون الثاني و تشديد الياء المثنّاة - إمّا عبارة عن أربعين درهما - على ما حكي عن الجوهري(1) - و هو يعادل واحدا و عشرين مثقالا صيرفيّا، أو عمّا اصطلح عليه الأطبّاء و هو وزن عشرة مثاقيل و خمسة أسباع درهم، - على ما في محكيّ المغرب(2) - و أيّا ما كان فهو لا يعادل عشرا من أعشار الحبّ، كما لا يخفى، و معه كيف يعقل كونه سالبا للإطلاق أو موجبا للتغيير، ثمّ إنّه لو سلّم أنّهما في بعض الفروض، يوجبان أحد الأمرين، فلا يقدح في تماميّة الاستدلال بعد ملاحظة ما في الجواب من ترك الاستفصال المفيد للعموم في المقال.

و أمّا وجه الاستدلال بالقسم الثاني: [ما هو مشتمل على النهي عن التوضّي و الاغتسال، و عن الشرب أيضا و الأمر بالإراقة]

فلمّا تقرّر في الاصول من أنّ الأوامر و النواهي المتعلّقة بالعبادات و المعاملات بقرينة المقام الّتي يكشف عنها العرف و بناء العقلاء - نظير القرينة في الأمر الوارد عقيب الحظر - ليست على حقائقها، بل هي إرشاديّة محضة، معرّاة عن الطلب الحقيقي، واردة لبيان الواقع، و إرشاد المكلّف إلى ما يصلحه و تمييزه له عمّا يفسده، فيراد بالنواهي إحراز المانعيّة مثلا، كما يراد بالأوامر إحراز

ص: 184


1- الصحاح، مادّة «وقى» 2527:6.
2- المغرب؛ مادّة «وقى»: 492.

الشرطيّة أو الجزئيّة أو نحوهما، و لا يعقل في المقام مانع يكشف عنه النواهي إلاّ النجاسة، و هذا بالنسبة إلى النواهي عن التوضّي و الاغتسال واضح و أمّا بالنسبة إلى النواهي عن الشرب فكذلك، حملا على النظائر بقرينة وحدة السياق، و كذلك الحال في الأمر بغسل الإناء فيما شرب منه الكلب، و الأمر بالإراقة و نحوها.

مضافا إلى ما فيه من احتمال كونه واردا من باب الكناية، مرادا به في الحقيقة النهي عن التوضّي، أو الاغتسال أو مطلق الاستعمال نهيا اريد منه الإرشاد حسبما بيّنّاه، بل هذا المعنى ممّا لا اختصاص له بالمقام بل يجري في جميع أبواب الطهارات و النجاسات و التنجّسات، بل و أنت إذا لاحظت الأخبار الواردة في إثبات حكم النجاسة لأنواع النجاسات و إثبات حكم المتنجّس لما يلاقيه النجاسة غير الماء من البدن و الثياب و الأواني و غيرها، لما وجدتها دالّة على ذلك إلاّ بواسطة ما فيها من الأوامر و النواهي، بل قلّما يتّفق فيها ما يدلّ على الحكمين بلفظي «النجاسة» و «التنجّس»، كما لا يخفى على المتتبّع.

و إن شئت لاحظ الأخبار الواردة في نجاسة البول و نحوه، فترى أنّه ليس فيها إلاّ الأمر بالغسل عنه مرّتين، أو الأمر بصبّ الماء عليه مرّتين، و ليس ذلك إلاّ من جهة وروده مورد الإرشاد إلى النجاسة، و التنبيه عليها مجرّدا عن الطلب الحقيقي، كيف و لو فرضناه مع الطلب كان غيريّا و هو أيضا مجاز في قول، أو تقييد في أشهر الأقوال، و ما ذكرناه أيضا مجاز، غير أنّه في خصوص المقام أرجح من غيره بحكم العرف و التبادر و نحوه.

بل لنا: أن نثبت الدلالة من غير ابتناء لها على ما ذكرناه من القاعدة في الأوامر و النواهي المتعلّقة بالعبادات أو المعاملات، بأن نقول: إنّه قد استقرّ بناء العرف في الطهارات و النجاسات على تعريف الطهارة بالأمر بالاستعمال أو الشرب أو نحو ذلك، و تعريف النجاسة بالنهي عن الاستعمال، أو الشرب، أو الأمر بالإراقة، أو الصبّ أو إبقائه على حاله، أ لا ترى أنّه لو كان هنا ماء معلوم عندك كونه نجسا فأراد أن يأخذه من لا يعلمه على هذا الوصف للشرب أو سائر الاستعمالات، فأنت تعرّف له النجاسة المعلومة عندك بقولك: «دعه، أو صبّه أو لا تشربه» أو نحو ذلك، و هو أيضا لا يفهم من ذلك إلاّ النجاسة، و لا ريب أنّ ما ورد في الأخبار أيضا منزّل و منطبق على هذا المعنى العرفي و إن كان مجازيّا، فإنّ الحمل على المجاز بعد ظهور القرينة العرفيّة و وضوحها

ص: 185

ممّا لا ضير فيه، بل كان واجبا جدّا.

و لا ندري أنّ من ينكر دلالة أوامر المقام و نواهيه على النجاسة، أو يأخذ فيها بالتأويل - حسبما يأتي إليه الإشارة - كيف يصنع في إثبات نجاسة أنواع النجاسات، و بتنجّس ما يلاقيها من الثياب و غيرها، فإن عمّم في إنكاره بحيث يشمل المقامين فقد سدّ على نفسه باب إثبات الحكمين، و إن خصّه بالمقام كان مكابرة محضة، حيث إنّه فرّق بين أمرين لا فرق بينهما في نظر العرف و الشرع أصلا و رأسا.

و لو قيل: بأنّ الفارق هو الإجماع، يرد عليه: أنّ مثله موجود في المقام - على ما حكاه جماعة - بناء على أنّ مخالفة العماني لمعلوميّة نسبه غير قادحة، من غير فرق فيه بين طريقة قدماء أصحابنا أو متأخّريهم.

و بالجملة: إنكار ما ذكرناه من الدلالة خارج عن قانون الفقاهة، و فهم الأحكام الشرعيّة من الأدلّة اللفظيّة بطريق الاستنباط كما لا يخفى.

و ما يتوهّم من أنّه لو صحّت الدلالة المدّعاة لكانت شاملة للكرّ و ما زاد عليه، مع أنّكم لا تقولون بها فيه جزما.

ممّا يدفعه أوّلا: المنع عن العموم المذكور، كيف و أنّ غالب روايات الباب واردة في الأواني المتّخذة للشرب و التوضّي و الاغتسال، و لا ريب أنّ مجرى العادات في أمثال هذه الأواني ما لا يسع كرّا و لا نصفه و لا ربعه و لا ثمنه و لا عشره.

و ثانيا: المنع عن عموم الحكم بعد ما فرضنا المورد بنفسه عامّا، إذ كلّ مطلق قابل للتقييد، و لا ريب أنّ الأخبار الفارقة بين الكرّ و غيره مقيّدات، فتحمل مطلقات المقام على تلك المقيّدات.

و احتمال ابتناء أخبار الباب على صورة التغيّر - كما سبق إلى بعض الأوهام - مندفع.

أوّلا: بمنع جريان أصل الاحتمال، للقطع بعدم كون النجاسات الواردة في أسئلة الروايات موجبة للتغيّر عادة كقذارة اليد، و لا سيّما إذا كانت من منيّ، و الدجاجة الواطئة للعذرة - و أشباهها - الداخلة في الماء، و الدم الّذي يكون في منقار الطيور و ما أشبه ذلك، و كذلك أوقية دم واقعة في جرّة تسع مائة رطل من ماء، و إن كان لاحتمال التغيّر بالقياس إليه نوع قوّة خصوصا في بعض أفراد الدم، كما لا يخفى.

ص: 186

و ثانيا: بأنّ احتمال التغيّر غير اختصاص الروايات به، و القادح في الاستدلال هو الثاني و القائم في محلّ المقال هو الأوّل، و أقصى ما يترتّب عليه بعد التسليم بملاحظة قاعدة ترك الاستفصال إنّما هو ثبوت عموم في موضوع الحكم، و هو غير مناف للمقصود بعد اندراج محلّ البحث في هذا العامّ جزما، مع عدم مخرج له قطعا.

و ممّا يرد على الأخذ بهذا الاحتمال - بل على القول بخلاف ما هو ظاهر الأخبار، مضافا إلى ما ذكر - أنّه يوجب إبطال التحديد الوارد في الأخبار الكثيرة المجمع على العمل به، و طرح تلك الأخبار مع كثرتها و هو كما ترى.

أمّا بيان الملازمة: فلأنّ هذا التحديد لا بدّ له من فائدة تكون فارقة بين الكرّ و ما دونه، و هذه الفائدة إمّا عبارة عن النجاسة بالتغيّر و عدمها فالكرّ لا ينجّس به بخلاف ما دونه، أو عن الانفعال بمجرّد الملاقاة و عدمه.

و الأوّل: باطل بالإجماع و غيره ممّا تقدّم في محلّه من الدلالة على أنّ التغيّر ممّا يوجب نجاسة الماء و لو كرّا أو أكرارا.

و الثاني: ممّا أبطله أهل هذا القول فلا يبقى إلاّ أنّ هذا التحديد قد ورد لغوا، لا يعقل له فائدة اخرى سوى ما ذكرناه.

و ممّا يدخل في عداد مناطيق أخبار الباب: ما رواه في باب آداب الأحداث من التهذيب - في الصحيح - عن إسماعيل بن جابر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الماء الّذي لا ينجّسه شيء؟ قال: «ذراعان عمقه في ذراع و شبر سعته»(1).

و ما رواه فيه في الباب المذكور - في الصحيح - عن إسماعيل بن جابر قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الماء الّذي لا ينجّسه شيء؟ قال: «كرّ»، الحديث(2).

و ما رواه في زيادات التهذيب، و باب القليل الّذي يحصل فيه النجاسة من الاستبصار - في الصحيح - و في الكافي أيضا في الباب المذكور، بطريق فيه سهل بن زياد عن صفوان الجمّال قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحياض الّتي ما بين مكّة إلى المدينة تردها السباع، و تلغ فيها الكلاب، و تشرب منها الحمير، و يغتسل منها الجنب، أ يتوضّأ منها؟ فقال عليه السّلام: و كم قدر الماء؟ قلت: إلى نصف الساق و إلى الركبة، فقال عليه السّلام:

ص: 187


1- الوسائل 165:1 ب 10 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 4 - التهذيب 114/41:1 و 115.
2- الوسائل 165:1 ب 10 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 4 - التهذيب 114/41:1 و 115.

«توضّأ منه»(1).

وجه الدلالة في الأوّلين: أنّ السؤال الوارد فيهما يدلّ على أنّ السائل كان معتقدا بأنّ الماء منه ما لا ينجّسه شيء، و منه ما ينجّسه شيء، و مشتبها في تشخيص الموضوع و تمييز الأوّل عن الثاني، و إنّما سأل الإمام عمّا يرفع ذلك الاشتباه فقرّره الإمام عليه السلام على الاعتقاد المذكور و أجاب له بما رفع الاشتباه فلو لا الحكم كما اعتقده السائل لما كان لتقرير الإمام عليه السّلام و لا جوابه بما ذكر وجه، بل كان عليه الجواب بما يردعه عن هذا الاعتقاد كما لا يخفى.

و في الأخير: أنّ الإمام عليه السّلام قد استفصل عن مقدار الماء الّذي في الحياض، فلو لم يكن فرق بين قليل الماء و كثيرة في الحكم لما كان لذلك الاستفصال وجه، بل كان لغوا، و كان عليه الأمر بالتوضّي مطلقا تنبيها للسائل على أنّ الماء بإطلاقه لا ينجّس بما ذكر من النجاسات.

و احتمال كون نظره عليه السّلام في ذلك الاستفصال إلى تشخيص ما يتحقّق معه التغيّر الموجب للنجاسة عمّا عداه.

يدفعه: أنّ السؤال الوارد في ذلك يأبى عن ذلك؛ إذ لم يذكر فيه من النجاسات ما يوجب التغيّر بل لم يذكر فيه نجاسة إلاّ ولوغ الكلب، و هو كما ترى ليس ممّا يوجب التغيّر جدّا، و معه كيف يمكن تنزيل الاستفصال المذكور إلى مراعاة صورة التغيّر.

و يمكن تقرير الاستدلال بالخبرين الأوّلين من وجه آخر، و هو: أنّ مقتضى الجمع بين ما ذكر في السؤال و جواب الإمام المطابق له، أن يقال: إنّ مفاد الرواية أنّ الماء الّذي لا ينجّسه شيء بعنوانه الكلّي ما كان كرّا، أو ما كان عمقه ذراعين وسعته ذراعا و شبرا، فينعكس هذه الكلّيّة بطريقة عكس النقيض إلى أنّ ما ليس بكرّ و ما لا يكون عمقه ذراعين وسعته ذراعا و شبرا لا يكون بما لا ينجّسه شيء، و لمّا كان النفي في النفي ممّا يفيد الإثبات فكان مفاد العكس إثبات النجاسة لما كان فاقدا للوصفين معا و هو المطلوب، غير أنّ الدلالة فيهما على هذا التقرير تكون من باب المفهوم، فيدخلان في عداد أخبار النوع الثالث، و لا ضير فيه بعد وضوح المطلب.

ص: 188


1- الوسائل 162:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 12 - التهذيب 1317/417:1 - الاستبصار 54/22:1 - الكافي 7/4:3.
[أما النوع الثالث ما هو ظاهر فيه مفهوما]
اشارة

و أمّا أخبار هذا النوع فكثيرة أيضا.

منها: صحيحة محمّد بن مسلم - الواردة في باب آداب الأحداث من التهذيب، و باب مقدار الماء الّذي لا ينجّسه شيء من الاستبصار - عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّه سئل عن الماء تبول فيه الدوابّ و تلغ فيه الكلاب و يغتسل منه الجنب؟ قال عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1).

و مثله الصحيح في الكافي - في باب الماء الّذي لا ينجّسه شيء - عن محمّد بن مسلم، إلاّ أنّه قال فيه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الماء الّذي تبول فيه الدوابّ» إلى آخر المتن المذكور(2).

و منها: صحيحة معاوية بن عمّار - الواردة في الكتب الثلاثة في الأبواب المذكورة - قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(3).

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - الواردة في باب المياه من زيادات التهذيب - قال: قلت له الغدير ماء مجتمع تبول فيه الدوابّ، و تلغ فيه الكلاب و يغتسل فيه الجنب؟ قال عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء، و الكرّ ستّمائة رطل»(4).

و منها: الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب المذكور - في الباب المتقدّم من الكافي - عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا كان الماء في الركيّ كرّا لم ينجّسه شيء، قلت: و كم الكرّ؟ قال: ثلاثة أشبار و نصف عمقها في ثلاثة أشبار و نصف عرضها»(5).

و منها: الصحيحة المذكورة في باب المياه من زيادات التهذيب عن عليّ بن جعفر عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع أ يغتسل منه لجنابته، أو يتوضّأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره؟ و الماء لا يبلغ صاعا

ص: 189


1- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 107/39:1 - الاستبصار: 1/6:1 و 45/20.
2- الكافي 2/2:3.
3- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 109/40:1 - الكافي 6:1 الاستبصار 2/6:1.
4- أورد ذيله في الوسائل 168:1، ب 11 من أبواب الماء المطلق ح 3 - التهذيب 1308/414:1.
5- الوسائل 160:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 8 - الكافي 4/2:3.

للجنابة، و لا مدّا للوضوء، و هو متفرّق فكيف يصنع و هو يتخوّف أن يكون السباع قد شربت منه؟ فقال عليه السّلام: «إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفّا من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه، و كفّا أمامه، و كفّا عن يمينه، و كفّا عن شماله،» الحديث(1).

و منها: موثّقة شهاب بن عبد ربّه - الواردة في الكافي في باب الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها - عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها؟ قال: «إنّه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شيء»(2).

و منها: الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم - الوارد في حكم الجنابة من التهذيب - عن زرارة قال: قلت له كيف يغتسل الجنب؟ فقال: «إن لم يكن أصاب كفّه منيّ غمسها في الماء ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه، ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكفّ، ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين، و على منكبه الأيسر مرّتين، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه»(3).

و هذا الخبر باعتبار سنده لا يخلو عن شيء لما فيه من الإضمار، و إن قيل فيه بأنّ الظاهر أنّ المضمر أحد الصادقين [عليهما السّلام].

و منها: موثّقة سماعة - المذكورة في باب آداب الأحداث من التهذيب - عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا أصابت الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس، إن لم يكن أصاب يده شيء من المنيّ»(4).

و منها: موثّقة عمّار - الواردة في باب تطهير الثياب من التهذيب - عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الدنّ يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه الخلّ أو كامخ أو زيتون؟ قال: «إذا غسل فلا بأس و عن الإبريق يكون فيه خمر أ يصلح أن يكون فيه ماء قال إذا غسل فلا بأس»(5).

و منها: المحكي عن كتاب الوسائل، و كتاب قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام قال: سألته عن الشرب في الإناء يشرب منه الخمر قدحان عيدان أو

ص: 190


1- التهذيب 1115/376:1 مع اختلاف يسير.
2- الوسائل 152:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 3 - الكافي 3/11:3.
3- الوسائل 229:2 ب 26 من أبواب الجنابة ح 2 - التهذيب 368/133:1.
4- الوسائل 153:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 9 - التهذيب 99/37:1.
5- الوسائل 494:3 ب 51 من أبواب النجاسات ح 1 - التهذيب 830/283:1.

باطية؟ قال عليه السّلام: «إذا غسله فلا بأس»(1).

و منها: المحكيّ عن مصابيح السيّد عن محمّد بن الحسن الصفّار في كتاب بصائر الدرجات - في الصحيح - عن شهاب بن عبد ربّه قال: أتيت أبا عبد اللّه عليه السّلام أسأله فابتدأني، فقال: «إن شئت أخبرتك بما جئت له، قلت: أخبرني جعلت فداك، قال عليه السّلام:

جئت تسأل عن الجنب يغرف الماء من الحبّ بالكوز، فيصيب يده الماء، قال: قلت نعم، قال عليه السّلام: ليس به بأس، قال: و إن شئت سل و إن شئت أخبرتك، قلت: أخبرني قال عليه السّلام:

جئت تسأل عن الجنب يسهو فيغمز يده في الماء قبل أن يغسلها؟ قال: قلت و ذلك جعلت فداك، قال عليه السّلام: إذا لم يكن أصاب يده شيء فلا بأس»(2).

و منها: رواية عليّ بن يقطين - المذكورة في باب المياه من التهذيب - عن أبي الحسن عليه السّلام في الرجل يتوضّأ بفضل الحائض؟ قال: «إذا كانت مأمونة فلا بأس»(3).

و منها: ما في الباب المذكور من الكتاب عن عيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن سؤر الحائض؟ قال: «توضّأ منه، و توضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة»(4).

وجه الدلالة في هذا النوع من الأخبار:

أنّ الحكم الوارد فيها أعني عدم التنجيس كما في الأربعة الأوّلية، و تجويز الأخذ من الماء كما في الخامسة، و تجويز غمس اليد في الماء كما في السادسة، و تجويز الوضوء من سؤر الجنب كما في الثاني عشر، و نفي البأس كما في البواقي معلّق على وصف الكرّيّة في الأوّل، و وصف النظافة في الثاني، و عدم إصابة المنيّ الكفّ أو اليد و الغسل و المأمونيّة، و من المقرّر في محلّه أنّه في الجمل الشرطيّة يفيد انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف المعلّق عليه على ما هو مفاد حجّيّة مفهوم الشرط، و هو في الأربعة الأول عين المطلوب، و في البواقي كاشف عنه، فإنّ نفي الجواز كإثبات البأس ممّا لا معنى له إلاّ لكونه لأجل مانع، و لا يعقل ما يصلح المنع إلاّ النجاسة، أو أنّه المتبادر عرفا في نظائر المقام كما تقدّم الإشارة إليه.

فروايات هذا النوع كلّها متّفقة في وجه الدلالة، لكونها في الجميع من باب مفهوم

ص: 191


1- الوسائل 369:25، ب 30 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 5 - قرب الإسناد: 116 - مسائل عليّ بن جعفر: 212/154.
2- الوسائل 226:2 ب 45 من أبواب الجنابة ح 2 باختلاف يسير - بصائر الدرجات: 258.
3- التهذيب 632/221:1، و 633.
4- التهذيب 632/221:1، و 633.

الشرط، و إن حصلت المفارقة بينها في كمّيّة المدلول، حيث إنّ الأربع الاول تفيد المطلب بتمامه، و عمومه بالقياس إلى الماء و النجاسة معا - بناء على ما ستعرف تحقيقه - بخلاف البواقي فإنّها لا تفيده إلاّ في موارد خاصّة ورد ذكرها في أسئلة تلك الأخبار، فإنّ الحكم المستفاد منها لا يتعدّى تلك الموارد إلاّ مع ضميمة خارجيّة كالإجماع المركّب و عدم القول بالفصل، إذ ليس فيها ما يفيد العموم وضعا أو عرفا بالقياس إلى الماء و لا إلى النجاسة، فبمجرّد تلك الأخبار لا يمكن القول بأنّ كلّ ماء في كلّ حال ينجّس بملاقاة كلّ نجس كما لا يخفى.

هذا كلّه على حسبما استفدناه من كلام القوم في تقرير وجه الدلالة، غير أنّ لنا مناقشة على ما ذكروه في خصوص الأربعة الأول، لعدم انطباق الدلالة القائمة بها على قاعدة حجّيّة مفهوم الشرط، لأنّ معنى الحجّيّة على القول بها - كما هو المحقّق عندنا أيضا - كون مفاد القضيّة بملاحظة أداة الشرط السببيّة التامّة القائمة بالمقدّم بالقياس إلى التالي، الّتي تفسّر بكون الشيء بحيث يلزم من وجوده الوجود و من عدمه العدم، و قد قطعنا بملاحظة الخارج أنّ الكرّيّة بنفسها ليست سببا تامّا لعدم التنجّس، و إنّما هو جزء للسبب، لأنّ السبب التامّ هو المجموع منها و من عدم التغيّر.

هذا بناء على الإغماض عمّا يساعد عليه النظر، و إلاّ فلنا أن نمنع دعوى كون هذا المجموع أيضا سببا، لأنّ المعهود في السبب كونه مؤثّرا فيما هو مسبّب منه، و نحن نقطع بأنّه لا تأثير لشيء من الكرّيّة و عدم التغيّر في طهارة الماء، بل الطهارة حيثما تكون قائمة من مقتضيات نفس الطبيعة المائيّة و لوازمها كنجاسة الكلب و نحوها، كما نطق به قوله عزّ من قائل: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (1)، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء، إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(2).

فإنّ قضيّة ذلك كون النجاسة بالنسبة إلى الماء من الطوارئ الّتي لا يلحقه إلاّ بعد ارتفاع ما هو من مقتضياته و أوصافه المستندة إلى طبيعته، و لا ريب أنّ الوصف الأصلي للشيء لا يعقل ارتفاعه عن ذلك الشيء إذا كان بنفسه مقتضيا له، حتّى يطرأ محلّه وصف وجودي

ص: 192


1- الفرقان: 48.
2- سنن البيهقي 259:1 - سنن الدارقطني 28:1، كنز العمّال 396:9 ح 26652.

آخر إلاّ من جهة قيام رافع لولاه لما كان مرتفعا، و ممّا جعله الشارع رافعا لطهارة الماء أو كشف عن رافعيّته إنّما هو التغيّر بالنجاسة، فإذا فرض كون وجوده رافعا لها فكيف يعقل كون عدمه مؤثّرا في وجودها و محدثا لها و لو بعنوان الجزئيّة، و إلاّ لزم ارتفاع النقيضين أو ضدّين لا ثالث لهما، إذ المفروض كون كلّ من الطهارة و النجاسة مستندة إلى أمر خارج عن ذات الماء، فالذات بما هي هي معرّاة عن كلا الوصفين، و إن لم يمكن فرض خلوّها عن أحدهما باعتبار الزمان، حيث إنّها لا تخلو عن أحد وصفي التغيّر و عدمه، إلاّ أنّه كما لا يمكن ارتفاع النقيضين أو الضدّين عن الشيء باعتبار الزمان - أي في زمان من الأزمنة - فكذلك لا يمكن ارتفاعهما عنه باعتبار الذات - بمعنى خلوّها بما هي هي عنهما معا - و لذلك جعل وصف الماء باعتبار ذاته و خلقته الطهارة، كما يرشد إليه أيضا تعليق عدم الطهارة على العلم بالقذارة، المستفاد من قولهم عليهم السّلام: «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(1) فلو لم يكن وصفه الأصلي هو الطهارة و لا أنّ عدمها من جهة طروّ ما يرفعها، لوجب تعليق عدم قذارته على العلم بالطهارة كما لا يخفى.

فإذا ثبت أنّ طهارة الماء من مقتضيات ذاته، و أنّه لا يحكم عليها بالعدم إلاّ من جهة طروّ ما يوجب ارتفاعها، و أنّ عدم التغيّر ليس بمؤثّر فيها، بل هو حيثما وجد معها يكون من باب المقارنات الاتّفاقيّة، و أنّ التغيّر هو الّذي يؤثّر في عدمها و يوجب ارتفاعها، علم أنّ ملاقاة النجاسة في الماء القليل أيضا من مقولة الروافع، و لكن بهذا الشرط - أي شرط القلّة - فالعلّة في ارتفاع الطهارة الّتي هي من مقتضيات ذات الماء حينئذ مركّبة عن وصفي القلّة و الملاقاة، فإذا كان وجود هذين الوصفين مؤثّرا في ارتفاع الطهارة فلا يعقل كون عدمها مؤثّرا في وجود الطهارة لعين ما تقدّم.

و قضيّة ذلك أن لا يكون وصف الكرّيّة كوصف عدم التغيّر مؤثّرا في الطهارة، بل هو كأخيه حيثما وجد مع الطهارة كان من المقارنات الاتّفاقيّة، و إنّما اعتبره الشارع مناطا للحكم لا من جهة أنّه مؤثّر - و لو بعنوان الشرطيّة - بل من جهة أنّه ميزان كلّي هو ملزوم لانتفاء ما هو مؤثّر في ارتفاع الطهارة، و شرط لطروّ النجاسة و هو القلّة، و إلاّ فالمقتضي للطهارة كما عرفت هو نفس الذات لا بشرط هذا الوصف، كيف و لو كان له

ص: 193


1- الوسائل 134:1، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5.

مدخل في اقتضاء الطهارة و لو بعنوان الشرطيّة لزم انتفاء الطهارة في الماء القليل الغير الملاقي للنجاسة أيضا، ضرورة أنّ المشروط عدم عند عدم شرطه، و هو بديهي البطلان، و هذا أيضا من أقوى الشواهد على أنّ طهارة الماء مستندة إلى ذاته من غير مدخل للكرّيّة فيها، و إلاّ لزم تخلّف الشرط عن المشروط و هو محال.

و قضيّة كلّ ما ذكر عدم إمكان تتميم الاستدلال على المطلب بقاعدة حجّيّة مفهوم الشرط، بل لا بدّ و أن يقال - في تقريب الاستدلال -: بأنّ مقتضى ظاهر الجملة الشرطيّة و إن كان سببيّة المقدّم للتالي، و لكن الصارف في خصوص المقام صرفنا عن هذا الظاهر و منعنا عن الحكم على الكرّيّة بالسببيّة التامّة، فإمّا أن يحكم عليها حينئذ بالشرطيّة - بالمعنى المصطلح عليه عند الاصولي - فيكون مفاد القضيّة العلقة الشرطيّة على حدّ ما هو في قولك: «إن قبضت في المجلس صحّ الصرف»، أو يحكم بكونها ملزومة للطهارة من جهة أنّها ملزومة لانتفاء ما هو شرط للنجاسة، فيكون مفاد القضيّة مطلق الملازمة، معرّاة عن التأثير و العلقة السببيّة و الشرطيّة فيما بين المقدّم و التالي، على حدّ ما في قولك: «إن كنت محدثا فصلاتك ليست بصحيحة».

و كلّ من هذين المعنيين و إن كان معنى مجازيّا للقضيّة - حسبما تقرّر في الاصول - إلاّ أنّ المتعيّن منهما بعنوان القطع و اليقين هو المعنى الثاني، بقرينة ما قرّرناه من عدم إمكان فرض الكرّيّة شرطا، و معه يثبت المفهوم و هو الانتفاء مع الانتفاء، و إن لم يكن من باب مفهوم الشرط في الاصطلاح، و هو كاف في تماميّة الاستدلال و ثبوت المطلب جدّا.

ثمّ إنّه أورد على روايات الباب بوجوه:

منها: ما يرد على ما اشتمل منها على الأمر بالغسل أو الصبّ أو الإراقة و النهي عن الشرب أو التوضّي أو الاغتسال، من أنّ الاستدلال بأمثال ذلك إنّما تصحّ إذا كان الأمر و النهي حقيقة في الوجوب و التحريم و هو في حيّز المنع، و لو سلّم فيشكل التعلّق بهما في الحمل على الوجوب و التحريم، لشيوع استعمالهما في كلام الأئمّة في الندب و الكراهة، بحيث صارا من المجازات الراجحة المساوي احتمالها في اللفظ لاحتمال الحقيقة، كما صرّح به صاحب المعالم(1) و تبعه غيره.

ص: 194


1- معالم الاصول: 48.

و منها: ما يرد على ما علّق فيه الحكم على نظافة اليد من باب مفهوم الشرط، من أنّ طهارة اليد إنّما جعلت شرطا لوجوب الاستعمال، لمكان الأمر الّذي هو حقيقة في الوجوب، و اللازم منه انتفاء الوجوب بانتفائه لا انتفاء الجواز.

و منها: ما يريد على ما اشتمل من الروايات على نفي البأس معلّقا على ما ذكر فيها من الشروط، من أنّ نفي البأس نفي للحرمة و الكراهة معا، فثبوته يقتضي ثبوت أحدهما فلا يتعيّن ثبوت الحرمة، إذ العامّ لا يدلّ على الخاصّ.

و منها: ما يرد على ما يكون دلالته من باب المفهوم، من منع حجّيّة المفهوم.

و منها: ما يرد على ما اشتمل منها على لفظة «النجاسة»، من منع كونها في عرفهم بالمعنى المصطلح عليه الآن، لجواز كونها بمعنى الاستقذار و الاستكراه، و حينئذ لا تثبت نجاسة القليل بالمعنى المصطلح الّذي هو المتنازع فيه، بل إنّما ثبت استقذارها، و غاية ما يلزم كراهة استعماله بعد ملاقاة النجاسة و لا نزاع فيه، سلّمنا كونها في عرفهم لهذا المعنى غير أنّها يعارضها عمومات دالّة على عدم نجاسة الماء ما لم يتغيّر - كما سيأتي في حجّة القول بعدم التنجيس - و لا نسلّم أنّ تخصيص العمومات بها أولى من حملها على المجاز، بل الرجحان مع الثاني بملاحظة الأصل و الاستصحاب و العمومات المتقدّمة الدالّة على طهارة الماء ما لم يعلم أنّه قذر.

و منها: ما ورد على ما اشتمل منها على عبارة «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» من حيث إنّ مفهومه «إذا لم يكن الماء قدر كرّ ينجّسه شيء»، و هو لا يدلّ على الكليّة المدّعاة من انفعال كلّ ماء بكلّ نجاسة، نظرا إلى أنّ «شيئا» في قضيّة المفهوم نكرة في سياق الإثبات، فلا يفيد العموم.

و الجواب عن الأوّل، أوّلا: بأنّ المحقّق في محلّه المدلول عليه بالقاطع كون الأمر حقيقة في الوجوب و النهي حقيقة في التحريم، و تفصيل ذلك في محلّه.

و ثانيا: بأنّ المطلب غير مبتن ثبوته على كون المراد بهما الوجوب و التحريم، لما عرفت من قيام القرينة العرفيّة على إرادة الإرشاد، و هو و إن كان معنى مجازيّا، غير أنّ المصير إليه واجب مع القرينة، فلا يضرّ فيه عدم كونهما حقيقة في الوجوب و التحريم، و لا كونهما من المجازات الراجحة في الندب و الكراهة، لو سلّمنا أصل هذه الدعوى

ص: 195

و أغمضنا عمّا أوردناه في دفعها و إبطالها في محلّه.

و بالجملة: فكلّ من هاتين المناقشتين ممّا لا وقع له في خصوص المقام، بعد ملاحظة ما قرّرناه في توجيه الاستدلال.

و عن الثاني: بمنع كون المعلّق على وصف الطهارة وجوب الاستعمال - بناء على ما قرّرناه من عدم كون أمثال هذه الأوامر مرادا منها الوجوب - بل المراد منها الإرشاد إلى الطهارة و تعريفها، و إن كان المستعمل فيه هو تجويز الاستعمال، فيكون المعلّق على الوصف المذكور هو الأمر بهذا المعنى، و اللازم من ذلك انتفاء الجواز عند انتفائه، و يكون ذلك إرشاد إلى النجاسة بالملاقاة و تعريفها و هو المطلوب.

و عن الثالث: بمنع إطلاق القول بكون نفي البأس مرادا منه نفي الحرمة و الكراهة، بل يختلف مفاده في استعمالات الشارع بحسب اختلاف الموارد حسبما يشهد به الانسباق العرفي المقرون بقرينة المقام، فيراد به في موضع توهّم الحرمة نفي الحرمة، و في موضع توهّم الكراهة نفي الكراهة، و في موضع توهّم فساد المعاملة نفي جهة الفساد، و في موضع توهّم بطلان العبادة نفي الجهة المقتضية له، و في موضع توهّم النجاسة نفي النجاسة، و إنّما يعلم ذلك الاختلاف بملاحظة الأسئلة الواردة في الروايات، فإنّ كلّ سؤال يرد في موضع توهّم شيء ممّا ذكر و يرد الجواب على طبقه، فيراد من نفي البأس حينئذ نفي ما توهّمه السائل ليكون الجواب مطابقا للسؤال، و لا ريب أنّ الظاهر من الأسئلة الواردة في باب المياه كونها في موضع توهّم النجاسة، فيكون نفي البأس الوارد في أجوبتها مرادا به نفي النجاسة، و قضيّة ذلك كون المراد بالبأس في جانب المفهوم إثبات النجاسة و هو المطلوب.

و عن الرابع: بالمنع عن دعوى عدم حجّيّة المفهوم، بل المحقّق الثابت في محلّه هو الحجّيّة، غير أنّه قد عرفت في المقام عدم إمكان المصير إلى المعنى الحقيقي لقيام صارف عنه، و لكنّه لا يقدح في نهوض الدلالة من جهة اخرى على المطلوب و إن كانت مجازيّة، و هي مع قيام القرينة القاضية بالتعيين ممّا يجب المصير إليها، و قد تبيّن القرينة الّتي مفادها مطابق لمفاد المعنى الحقيقي بالقياس إلى أصل المطلب.

و عن الخامس: فعن وجهه الأوّل: بمنع ابتناء ثبوت المطلب على ثبوت الحقيقة

ص: 196

الشرعيّة في تلك اللفظة، بل نقول: بأنّ لفظ «النجاسة» كلفظ «الطهارة» باق على معناه الأصلي اللغوي و هو القذارة قبالا للنظافة، غير أنّ المعلوم من طريقة الشارع أنّ مصداق النجاسة بهذا المعنى في نظر الشارع غير ما هو مصداقها في نظر العرف، فإنّهم يروه صفة ظاهريّة يعرض الماء و غيره من الألوان المكروهة و الأرياح المنتنة و الطعوم المستقبحة، و الشارع يراه صفة معنويّة تعرض الماء و غيره و توجب المنع عن الاستعمال، فإذا علمنا من طريقة الشارع، اعتبار هذا المعنى في مصداق النجاسة في سائر الموارد يجب علينا اعتباره في كلّ موضع لم يقم قرينة على خلافه و المقام منه.

هذا مضافا إلى أنّ احتمال الاستقذار و الاستكراه العرفيّين ليس ممّا ينبغي تنزيل كلام الشارع إليه، من حيث إنّ بيان أمثال ذلك ليس من وظيفته، بل اللائق بشأنه و بمنصب الإمامة إنّما هو بيان النجاسة بالمعنى الشرعي.

و دعوى: كون بيان غيره لأجل التنبيه على كراهة الاستعمال، يدفعها: منع الكراهة بمجرّد ملاقاة النجاسة من دون انفعال، لعدم قيام الدلالة عليه شرعا، و مجرّد الاحتمال غير كاف في نهوضها، و لا يعارض الدلالة المعتبرة القائمة بإرادة المعنى الشرعي.

و عن وجهه الثاني: بمنع المعارضة أوّلا، و منع كون الرجحان في جانب المعارض ثانيا، بل الرجحان في جانب روايات الباب لقوّة دلالتها في أنفسها لما فيها من الصراحة و الظهور منطوقا و مفهوما، و اعتضادها بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع، و لا مرجّح في جانب المعارض، لكون الأصل و الاستصحاب غير صالحين للترجيح، كما ذكرناه مرارا و لا منافاة لعموم ما دلّ على طهارة الماء حتّى يعلم أنّه قذر، لدخول المقام في غاية هذا العامّ، بناء على أنّ العلم المأخوذ فيه غاية أعمّ من الشرعي، و الأخبار المقامة على النجاسة علم شرعي.

فيبقى إعراض الأصحاب عن العمل بالأخبار المعارضة مع كثرتها على ما توهّمه الذاهب إليها موهنا فيها، كاشفا عن قصور فيها سندا أو دلالة أو هما معا، و تمام الكلام في منع نهوضها دليلا على عدم الانفعال، يأتي عند ذكر الاحتجاج بها.

و عن السادس: بمنع كون قضيّة المفهوم كما ذكر، بل هو قضيّة معقولة لو عبّر عنها باللفظ لعبّر بقولنا: «إذا لم يكن الماء قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء من النجاسات» و تحقيق

ص: 197

القول فيه مع الدليل عليه في الاصول، و مجمل ذلك: أنّ مفهوم المخالفة كائنا ما كان يعتبر بينه و بين منطوقه الوحدة و المطابقة من جميع الجهات الّتي منها الكمّ، إلاّ جهتي الإيجاب و السلب و موضوعيهما، و كما أنّ في منطوق قوله عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1) عموما من جهات أربع:

الأوّل: في الماء، و الثاني: في الشيء، و هذان عمومان أفراديّان، و المعنى: كلّ فرد من أفراد الماء، و كلّ فرد من أفراد الشيء المنجّس، و الثالث: في قدر الكرّ، و الرابع: في لم ينجّسه، و هذان عمومان أحواليّان، فالأوّل منهما في كيفيّات مقادير الكرّ و محالّ وقوعه و أنحاء شكله، و الثاني في كيفيّات الملاقاة من التساوي و الاختلاف، تسنّما أو انحدارا، و ورود النجاسة على الماء أو ورود الماء على النجاسة، و أمثال ذلك، ممّا يستفاد من النسبة، فكذلك يجب أن يعتبر هذا العموم في جانب المفهوم أيضا من جميع الجهات المذكورة، و لا ينافي العموم من الجهة الأخيرة في المفهوم كون عموم الشيء في جانب المنطوق وضعيّا، لكونه نكرة في سياق النفي، و الوضع منتف عنه في جانب المفهوم، لأنّ انتفاء الوضع لا يوجب انتفاء ما يقوم مقامه، كما في المجازات و غيرها، و قد قامت القرينة العرفيّة بل العقليّة القطعيّة على اعتبار العموم في جانب المفهوم أيضا، غايته أنّه عموم معنويّ حيث لا معبّر له في الكلام، و لعلّه صار منشأ لمزالّ بعض الأقدام، و كأنّه غفلة عن قضيّة السببيّة، أو الملازمة المطلقة الّتي يستحيل معها تحقّق المسبّب بدون السبب، أو اللازم بدون الملزوم، و إلاّ لما كان السبب سببا و لا الملزوم ملزوما و قد فرضنا خلاف ذلك.

و من أجل ما ذكر نحكم على من أنكر العموم في مفهوم يكون منطوقه عامّا - و لو من جهة الإطلاق و السكوت عن التقييد في معرض البيان - بأنّ مآله إلى إنكار أصل الحجّيّة، مع أنّه يعدّ نفسه من أهل القول بها، و لا يخفى ما في هاتين الدعويين من التهافت الواضح، و هذا ليس بعادم النظير، بعد ما كان مبناه على الغفلة عن حقيقة الحال، و اللّه العالم في جميع الأحوال.

و بقي الكلام في حجّة القول بعدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة

[استدلال العلامة في عدم الانفعال بالرواية التي وردت عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام «أنّ الماء طاهر لا ينجّسه إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته»]،
اشارة

و قد احتجّ العلاّمة

ص: 198


1- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1.

له في المختلف، بل حكى عن ابن أبي عقيل الاحتجاج بأنّه: «قد تواتر عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام «أنّ الماء طاهر لا ينجّسه إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته»، و لأنّه سئل عليه السّلام عن الماء النقيع و الغدير و أشباههما، فيه الجيف و القذر، و ولوغ الكلاب و يشرب منه الدوابّ و تبول فيه أ يتوضّأ منه؟ فقال: لسائله: «إن كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضّأ منه، و إن كان الماء غالبا على النجاسة فتوضّأ منه و اغتسل»(1).

و روي عنه عليه السّلام في طريق مكّة أنّ بعض مواليه استقى له من بئر دلوا من ماء فخرج فيه فأرتان، فقال: «أرقه»، فاستقى آخر فخرج فيه فأرة فقال: «أرقه ثمّ استقى دلوا آخر فلم يخرج فيه شيء فقال له: صبّه في الإناء فتوضّأ و اغتسل منه و شرب»(2).

و سئل الباقر عليه السّلام عن القربة، و الجرّة من الماء سقط فيهما فأرة أو جرذ أو غيره فيموتون فيها، فقال عليه السّلام: «إذا غلب رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه، و إن لم يغلب عليه فاشرب منه و توضّأ و اطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة»(3).

و ذكر بعض علماء الشيعة: أنّه كان بالمدينة رجل يدخل إلى أبي جعفر محمّد ابن عليّ عليهما السّلام، و كان في طريقه ماء فيه العذرة و الجيفة و كان يأمر الغلام يحمل كوزا من ماء يغسل رجليه إذا خاضه فأبصرني يوما أبو جعفر عليه السّلام فقال: «إنّ هذا لا يصيب شيئا إلاّ طهّره فلا تعد منه غسلا»(4).

و هذه الأحاديث عامّة في القليل و الكثير، و الأخبار الدالّة على الكثير مقيّدة، و لا يجوز أن يكونا في وقت واحد للتنافي بينهما، بل أحدهما سابق، فالمتأخّر يكون ناسخا و المتأخّر هنا مجهول، فلا يجوز العمل بأحد الخبرين دون الآخر، و يبقى التعويل على الكتاب الدالّ على طهارة الماء مطلقا، و أيضا ليس القول بنجاسة الماء الطاهر بمخالطته للنجاسة بأولى من القول بطهارة النجس لملاقاته الماء الطاهر، مع أنّ اللّه تعالى جعل الماء مزيلا للنجاسة»(5).

ص: 199


1- التهذيب 40:1 و 41 ح 111 و 112 نقلا بالمعنى.
2- التهذيب 239:1-240 ح 24 مع اختلاف يسير.
3- الوسائل 139:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 8 نقلا بالمعنى.
4- راجع المختلف 178:1.
5- مختلف الشيعة 177:1.
و الجواب عن ذلك: بمنع الصغرى و الكبرى معا.

أمّا الأوّل: فلأنّ التنافي الّذي بينهما على تقدير كونهما في وقت واحد، إن اريد به ما يكون كذلك في الظاهر و الواقع فالملازمة ممنوعة؛ ضرورة: أنّ العامّ إنّما يقتضي العموم معلّقا على عدم ورود ما يكشف عن عدم اعتبار المتكلّم لعمومه و هو الخاصّ، و معه لا اقتضاء فيه للعموم واقعا، فلا تنافي بينه و بين الخاصّ المخالف له واقعا، كما يشهد به العرف و الاعتبار من غير فرق في ذلك بين ورودهما في وقت واحد أو في وقتين مع تأخّر الخاصّ أو تقدّمه - كما قرّر في محلّه - بل الواجب في الجميع حمل العامّ على الخاصّ، و جعل الخاصّ بيانا له و قرينة كاشفة عمّا أراده المتكلّم منه.

و إن اريد به ما يكون كذلك في الظاهر فقط فهو غير قادح في الحمل بل شرطه المحقّق له، و لا يقتضي العدول منه إلى النسخ ليعتبر فيه العلم بالتاريخ و تأخّر الناسخ عن المنسوخ، كيف و لو صلح ذلك مانعا لجرى في احتمال النسخ أيضا، و لكن بالنسبة إلى الأزمان من حيث إنّ الناسخ في الحقيقة بيان لانتهاء الحكم، و قد اقتضى دليل الأصل بظاهر إطلاقه أو عمومه دوامه و استمراره، كما هو من شرائط النسخ المقرّرة في محلّه.

و أمّا الثاني: فلأنّ النسخ بعد انقطاع الوحي ممّا لا معنى له، و مع الغضّ عن ذلك فانقطاع اليد عن التعويل على أحد الخبرين - لعدم إمكان معرفة الناسخ من المنسوخ - موجب لانقطاع اليد عن عموم الكتاب أيضا، بناء على ما عليه بعض المحقّقين من جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، فإذا احتمل عمومات الأخبار لكونها منسوخة بمقيّد أخبار الكرّ كان ذلك الاحتمال قائما في الكتاب الدالّ على طهارة الماء مطلقا، بل لا يعقل فيه البقاء على العموم مع كون ذلك الحكم في الواقع منسوخا، و قضيّة ذلك عدم جواز التعويل على الكتاب أيضا، بل قضيّة إناطة التوقّف بالنسبة إلى النوعين من الأخبار بالجهل بالمتأخّر أن لا يتوقّف في منسوخيّة الكتاب؛ لتأخّر الخبر المقيّد عنه لا محالة، و معه يتعيّن عمومات الأخبار؛ لكونها منسوخة حذرا عن تعدّد النسخ كما لا يخفى، و قضيّة ذلك تعيّن العمل على المقيّد و هو المطلوب.

و أمّا ما ذكره في العلاوة، ففيه: أنّ المصير إلى نجاسة الماء الطاهر بمخالطته للنجاسة ليس لمجرّد التشهّي و هوى النفس، ليتوجّه إليه منع كونه أولى من المصير إلى طهارة

ص: 200

النجس لملاقاة الماء الطاهر، بل هو من جهة دلالة الشرع عليه بأنحائها المختلفة من الصراحة و الظهور، منطوقا و مفهوما و سياقا و نحو ذلك، و عليه يكون ذلك هو الباعث على الأولويّة، و ليس مثله موجودا في جانب العكس؛ لاعتراف الخصم بأنّ كلّ ما فيه من الأخبار لا يكون إلاّ عمومات أو مطلقات، و لا ريب أنّ الاولى قابلة للتخصيص و الثانية للتقييد.

و أمّا ما في العلاوة الاخرى: من أنّ اللّه تعالى جعل الماء مزيلا للنجاسة، إن اريد به ما هو الحال في غسل الثياب و غيرها من المتنجّسات القابلة للتطهير، ففيه: أنّه حكم خاصّ تعبّدي أثبته الدليل في مورده الخاصّ به فلا يقاس عليه غيره، ما لم يكن هناك مناط معلوم أو أولويّة قطعيّة أو عرفيّة، و إن اريد به ما يكون كذلك مطلقا حتّى بالقياس إلى المتنازع فيه فهو أوّل المسألة كما لا يخفى، فيكون التعويل عليه مصادرة بيّنة.

[قول المحدث الكاشاني و رده]
و عن المحدّث الكاشاني الذاهب إلى عدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة الاحتجاج بوجوه:
أوّلها: ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الماء يطهّر و لا يطهّر»

أوّلها: ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الماء يطهّر و لا يطهّر»(1).

حيث قال - في الوافي في شرح الحديث -: «إنّما لا يطهّر لأنّه إن غلب على النجاسة حتّى استهلكت فيه طهّرها و لم ينجّس حتّى يحتاج إلى التطهير، و إن غلبت عليه النجاسة حتّى استهلك فيها صار في حكم تلك النجاسة و لم يقبل التطهير إلاّ بالاستهلاك في الماء الطاهر، و حينئذ لم يبق منه شيء»(2) انتهى.

و محصّل الاحتجاج: أنّ النفي في السالبة إنّما هو من جهة انتفاء الموضوع، و ذلك من جهة أنّ الماء إمّا يستهلك فلا ماء، أو يوجب الاستهلاك فلا ينجّس، فليس له حالة يكون فيها باقيا على صدق اسم المائيّة عليه و هو نجس، حتّى يحتاج إلى تطهير يصدق عليه أنّه تطهير للماء، و هذا المعنى ممّا يستفاد من النفي فيكون دليلا على أنّ الماء بما هو ماء لا ينجّس.

و فيه: مع تطرّق القدح في السند كما لا يخفى، منع دلالته على ما ذكر، كيف و أنّه

ص: 201


1- الوسائل 135:1-134 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 7-6 - الكافي 1/1:3 - التهذيب 618/215:1 - المحاسن: 4/57.
2- الوافي 18:6.

يفضي إلى إنكار تنجّسه بالتغيّر أيضا، و دعوى: أنّ التغيّر ممّا لا يتأتّى إلاّ باستهلاك الماء في النجاسة، يدفعها: البداهة القاضية بأنّ الاستهلاك موضوع آخر مغاير لموضوع التغيّر، فهو حال التغيّر ماء و نجس فيحتاج إلى التطهير، فحمل الرواية على المعنى المذكور إخراج لها إلى الكذب، مع أنّه قد سبق منّا(1) في معنى الرواية محامل كثيرة ظاهرة لا معنى معها لتكلّف الحمل على المعنى المذكور، و لو سلّم عدم ظهورها فلا يسلّم ظهور هذا المعنى أيضا، و معه يكون الرواية سبيلها سبيل المجملات فيخرج به عن عداد ما يعتبر في الاستدلالات.

و ثانيها: أنّه لو كان معيار نجاسة الماء و طهارته نقصانه عن الكرّ و بلوغه إليه، لما جاز إزالة الخبث بالقليل منه بوجه من الوجوه مع أنّه جائز بالاتّفاق؛

و ذلك لأنّ كلّ جزء من أجزاء الماء الوارد على المحلّ النجس إذا لاقاه كان متنجّسا بالملاقاة، خارجا عن الطهوريّة في أوّل آنات اللقاء، و ما لم يلاقه لم يعقل أن يكون مطهّرا، و الفرق بين وروده على النجاسة و ورودها عليه - مع أنّه مخالف للنصوص - لا يجدي؛ إذ الكلام في ذلك الجزء الملاقي و لزوم تنجّسه، و القدر المستعلي لكونه دون مبلغ الكرّ لا يقوى على أن يعصمه بالاتّصال عن الانفعال، فلو كانت الملاقاة مناط التنجيس لزم تنجّس القدر الملاقي لا محالة فلا يحصل التطهير.

و أمّا ما تكلّفه بعضهم من ارتكاب القول بالانفعال هناك من بعد الانفصال عن محلّ النجاسة فمن أبعد التكلّفات، و من ذا الّذي يرتضي القول بنجاسة الملاقي للنجاسة بعد مفارقته عنها و طهارته - بل طهوريّته - حال ملاقاته لها برطوبة.

و فيه: أنّ الأحكام التعبّديّة الثابتة في الشريعة من جهة الضرورة لا تدفع بالاستبعادات العقليّة، و لا تقابل بالاستغرابات الذوقيّة خصوصا مع ما اشتهر فيما بينهم من أنّ مبنى شرعنا على الجمع بين المختلفات و التفريق بين المتّفقات، مع إمكان أن يقال: بمنع كون استناد الطهارة إلى نفس الماء و أنّه علّة تامّة له، بل التطهّر حقيقة يحصل بإخراج أجزاء النجاسة عن المحلّ أو إخراج أثرها عنه، و لا يتأتّى ذلك إلاّ بواسطة الماء؛ حيث إنّه إذا صبّ على المحلّ ما يحيط منه عليه و يستولي على أجزاء النجاسة

ص: 202


1- تقدّم في الصفحة 50.

الواصلة إليه أوجب إخراجه عنه بالعصر، و ما في معناه فيما لا يقبل العصر، خروج أجزاء النجاسة عنه فيطهّر، و لا ينافيه الحكم عليه بكونه مطهّرا، لأنّه هو الموجب لتحقّق ما هو مناط التطهير في الحقيقة.

و ممّا يؤيّد ذلك اعتبار العصر و نحوه في الغسل، و أنّه لو كان المحلّ ممّا يمكن فيه عزل أجزاء النجاسة عنه بغير توسّط ماء كان طاهرا، كما لو كان عينا جامدة و النجاسة عينيّة يمكن إلقاؤها مع ما يكتنفها من المحلّ.

هذا مع ما اجيب عنه بالنقض بأحجار الاستنجاء، فإنّ الأصحاب اوجبوا فيها الطهارة و حكموا بأنّ النجس منها لا يطهّر، مع أنّها تنجّس حال الاستعمال بمجرّد الملاقاة، و لم يقل أحد بكون نجاسة هذه مانعة عن حصول طهارة المحلّ بها، و نحوه الكلام في مسألة تطهير الأرض.

و ثالثها: أنّ اشتراط الكرّ مثار الوسواس، و لأجله شقّ الأمر على الناس،

يعرفه من يجرّبه و يتأمّله، و ممّا لا شكّ فيه أنّ ذلك لو كان شرطا لكان أولى المواضع بتعذّر الطهارة مكّة و المدينة المشرّفتين؛ إذ لا يكثر فيها المياه الجارية و لا الراكد الكثير، و من أوّل عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى آخر عصر الصحابة لم ينقل واقعة في الطهارات، و لا سؤال عن كيفيّة حفظ المياه عن النجاسات، و كانت أواني مياههم تتعاطاها الصبيان و الإماء الّذين لا يتحرّزون من النجاسات، بل الكفّار كما هو معلوم لمن تتبّع.

و فيه: أنّ هذا ممّا لا يفهم معناه، فإن اريد به أنّ إناطة حفظ الماء عن الانفعال بالكرّيّة ممّا يوجب الأمرين لما يكثر في المياه من الشكّ في الكرّيّة، ففيه: مع أنّه منقوض بكافّة الموازين الشرعيّة الّتي انيط بها الأحكام الكلّيّة، كإناطة حلّية اللحوم و حرمتها بالتذكية و العدم، و إناطة حلّ الأموال و حرمتها بالملكيّة و العدم، و إناطة الملكيّة بأسبابها المعهودة إلى غير ذلك ممّا لا يحصى عددا، أنّ هذا الشكّ و ما يترتّب عليه من الأمرين بعد تسليم الملازمة يرتفع بملاحظة الضوابط الكلّيّة، و القواعد المقرّرة في الشريعة مرجعا للمكلّف في مظانّ الشكّ و الشبهة من الاصول العمليّة و الاجتهاديّة، فإنّ هذا الشكّ غير خال عن كونه ابتدائيّا أو مسبوقا بمعلوميّة الكرّيّة أو معلوميّة القلّة، و لا إشكال في شيء من الصور.

أمّا الاولى: فلتعيّن الرجوع حينئذ إلى الأصل العامّ المستفاد عن عمومات الطهارة،

ص: 203

و خصوص الخبر المستفيض «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(1) كما أسّسناه و شيّدناه، و بالغنا في إحكامه بتتميم الاحتجاج عليه، و على الأخيرتين: يرجع إلى الاستصحاب الجاري فيهما، هذا كلّه لو اريد بالوسواس ما يحصل للمعتدلين من المكلّفين، و أمّا غيرهم فوسواسهم إنّما ينشأ من قبل الشيطان فلا يكون منشأ للأثر.

و إن اريد به أنّ من الأناسي طوائف لا يتمكّنون عن الكرّيّة، و لا ما هو بمنزلتها لعدم وجود المياه الجارية و لا الراكدة الكثيرة عندهم، فيشقّ عليهم الأمر في حفظ المياه القليلة عن الانفعال، و معه يشكل و يعسر عليهم الأمر في سائر معايشهم.

ففيه: بعد تسليم مثل هذا الفرض، إنّا لا نعقل إشكالا و لا عسرا في حفظ المياه حينئذ عن الانفعال، كما أنّهم يحفظون المآكل و الملابس و غيرها عنه، و معه لا مجال للوسواس أصلا، سيّما بعد ملاحظة ما أوسع اللّه عليهم من إناطة النجاسة بالعلم بها و اكتفائه في طهارة كلّ شيء بمجرّد عدم العلم بالقذارة، مع أنّ لزوم محذور في بعض الفروض النادرة لا يقضي بنقض القاعدة الكلّيّة، المنوطة بمصالح عامّة ملحوظة فيها حال الغالب أو الأغلب، و إلاّ فكم من هذا القبيل، فيلزم حينئذ هدم جميع القواعد و الضوابط الشرعيّة، مع أنّ ذلك لو صلح نقضا لكان وروده على المستدلّ أوضح، و قضى بعدم اعتبار الكرّيّة بالكلّيّة، و ستعرف عنه فيما يأتي من تأويله لأخبار الكرّ أنّه يعتبرها ميزانا لمعرفة التغيّر و عدمه بالنجاسة المعتادة حيثما لم يكن ظاهرا عند الحسّ.

و أنت خبير: بأنّ ذلك أكثر إثارة للوسواس، و أشدّ مدخليّة في صعوبة الأمر على الناس، لكثرة ما يتّفق لهم من الشكّ في التغيّر عند عدم ظهوره للحسّ، فيكون نتيجة كلامه إنكارا لما ثبت بضرورة من المذهب - بل الدين - نظرا إلى أنّ اعتبار الكثرة في الماء في الجملة ممّا اتّفق عليه الفريقان، غاية الأمر وقوع الخلاف بينهما في تقدير تلك الكثرة، حيث إنّ الأصحاب رضوان اللّه عليهم قدّروها بالكرّيّة أخذا برواياتهم المستفيضة، و غيرهم يقدّرونها بطرق اخر ممّا تقدّم إليها الإشارة.

و أمّا ما ذكره في تأييد هذا الكلام: «من أنّه لم ينقل من أوّل عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى آخر الصحابة واقعة في الطهارات، و لا سؤال عن كيفيّة حفظ المياه من النجاسات»، فهو

ص: 204


1- الوسائل 134:1، ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 216:1-621.

من أعجب ما يذكر في هذا المقام، كيف و كم من هذا القبيل فيما بين الأحكام الثابتة في الشريعة، و لا سيّما ما اختصّ منها بالفرقة المحقّة، و أيّ ملازمة بين ثبوت حكم كلّي ثمّة و نقل واقعة أو وقائع في مراعاة ذلك الحكم إلينا، فإنّ أمثال هذه الوقائع كثيرا ما لا تنقل اقتناعا ببداهة الحكم فيها، كما أنّها قد لا تنقل لمعاندة المعاندين و مكايدة أعداء الدين، الّذين كان هممهم مصروفة في إخفاء الشريعة المطهّرة، و هدم أساس القوانين النبويّة، كما هو معلوم من طريقتهم في مواضع متكثّرة، مع أنّ العبرة بنقل أصل الحكم بعنوانه الكلّي، و قد نقل بلسان أئمّتنا سلام اللّه عليهم الّذي هو لسان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مع أنّ كلّ واقعة لو فرض نقلها لتطرّق إليها التأويل، كما تطرّق إلى نقل أصل الحكم المتحقّق بما تقدّم من وجوه البيان.

و رابعها: أنّ ما يدلّ على المشهور إنّما يدلّ بالمفهوم، و المفهوم لا يعارض المنطوق و لا الظاهر النصّ،

مع أنّ أقصى ما يدلّ عليه هذا المفهوم و تنجّس ما دون الكرّ بملاقاة شيء ما، لا كلّ نجاسة فيحمل على المستولية جمعا، فيكون المراد ما لم يستول عليه شيء، أي لم يظهر فيه النجاسة، فيكون تحديدا للقدر الّذي لا يتغيّر بها في الأغلب، ثمّ عنه: «أنّه حمل الأخبار المتضمّنة للنهي عن الشرب و الوضوء ممّا لاقته النجاسة على التنزّه و الاستحباب».

[رد المصنف على المحدث الكاشاني]

و لا يخفى ما في كلّ هذه الكلمات، فإنّ دلالة المفهوم من الدلالات المعتبرة في العرف و الشرع، و المناقشة فيها بأنّ أقصاها اقتضاء التنجّس بشيء ما لا كلّ شيء، قد عرفت ما فيها سابقا ممّا بيّنّا إجمالا، و دعوى: أنّ المفهوم لا يعارض المنطوق واضحة الفساد، بعد ملاحظة أنّ المفهوم كثيرا ما يعارض المنطوق و يقدّم عليه، و لا سيّما المقام الّذي وقع فيه التعارض بين ظاهر العامّ و الجملة الشرطيّة، و من المقرّر في محلّه أنّ الجملة الشرطيّة أظهر في اعتبار المفهوم من العامّ في إرادة العموم، فيخصّص به العامّ جدّا.

هذا على فرض تسليم ما ادّعى دلالته على عدم الانفعال عموما، و إلاّ فيتّجه المناقشة في أصل الدلالة بالنسبة إلى أكثرها، أو كونها على جهة العموم، فلا منطوق لأكثر تلك الأخبار بحيث يكون منافيا لمفهوم أخبار الانفعال، مع توجّه المنع إلى دعوى انحصار تلك الأخبار في كون دلالتها مفهوميّة؛ لما عرفت من أنّ أكثرها يدلّ

ص: 205

على الانفعال منطوقا بعنوان الصراحة أو الظهور، و العذر في توجيه ما اشتمل منها على الأوامر أو النواهي بحملهما على التنزّه و الاستحباب قد عرفت ما فيه، من أنّهما محمولان من جهة قرينة المقام على معنى آخر غير الوجوب و التحريم و الاستحباب و الكراهة و هو الإرشاد، و معه يثبت المطلب.

هذا مع ما في دعوى كون أخبار المقابل دالّة على عدم الانفعال من باب المنطوق على الإطلاق من المنع الواضح، لما سيتّضح من أنّ جملة من ذلك إنّما يدلّ على الحكم مفهوما، و قضيّة ذلك - مضافا إلى ما سبق - مقابلة مناطيق تلك الأخبار لمناطيق أخبار الانفعال و مقابلة مفاهيمها لمفاهيمها، و لا ريب أنّ أخبار الانفعال في مناطيقها و مفاهيمها معا مقدّمة سندا و متنا على ما يقابلها منطوقا و مفهوما.

أمّا تقدّمها سندا: فبحكم أنّ الموهون منها بالضعف و الإرسال يتقوّى بالعمل، فضلا عمّا هو المعتبر منها بالصحّة و الموثّقيّة و الحسن، كما أنّ المعتبر من الطرف المقابل يتوهّن بالإعراض، و يسقط به عن درجة الاعتبار، فكيف بما هو غير معتبر منه في حدّ ذاته.

و أمّا تقدّمها متنا: فبحكم المرجّحات الداخليّة من جهة الدلالة و غيرها، و الخارجيّة باعتبار المضمون و جهة الصدور، و توضيح ذلك يحتاج إلى ذكر تلك الأخبار مفصّلة و التكلّم عليها دلالة و غيرها، فنقول: إنّها تشتمل على طوائف:

الطائفة الاولى: ما يدلّ بمنطوقه على المطلب في الماء و النجاسة بعنوانهما الكلّي كالنبويّ المتقدّم، المدّعى تواتره «خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء، إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(1) و الخبر المستفيض المرويّ في الكتب الأربعة بطرق متعدّدة «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر»(2) و صحيحة محمّد بن حمران و جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - الواردة في باب التيمّم من زيادات التهذيب - أنّهما سألاه عن إمام قوم أصابته في سفر جنابة و ليس معه من الماء ما يكفيه في الغسل أ يتوضّأ و يصلّي بهم؟ قال: «لا و لكن يتيمّم و يصلّي، فإنّ اللّه تعالى جعل التراب طهورا، كما جعل الماء

ص: 206


1- عوالي اللآلي 9:3 ح 6.
2- الوسائل 134:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5 - الكافي 3/1:3 التهذيب 621/216:1.

طهورا»(1) و صحيحة داود بن فرقد - في باب استنجاء زيادات التهذيب - المرويّة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة من البول - إلى قوله عليه السّلام -:

و جعل لكم الماء طهورا إلخ»(2).

و الجواب عن هذه الجملة تارة على الجملة، و اخرى على التفصيل.

أمّا الأوّل: فأيّ عاقل يرضى بالعمل على تلك الأخبار الّتي هي أعمّ عمومات ما ورد في الماء، و رفع اليد عن أوّل أنواع ما تقدّم من أخبار الانفعال الّذي تضمّن نصوصا صريحة لا سبيل إلى إبداء احتمال الخلاف فيها، و إن اختصّ بموارد خاصّة من النجاسات كالكلب و النبيذ، و هل هذا إلاّ الخروج عن جادّة الإنصاف، و التشبّث بذريعة الاعتساف، بل هو في الحقيقة يرجع إلى التعمّد على مخالفة الحجّة، على ما هو دأب أهل الخلاف الملتزمين بإبداء القول على خلاف قول الحجّة.

و أمّا الثاني: فلمنع دلالة أخبار هذه الجملة على خلاف ما يقتضيه أخبار الانفعال، أمّا في الخبرين الأخيرين فلوضوح كون الإطلاق فيهما مسوقا لبيان حكم آخر و هو قيام وصف المطهّريّة بالماء بحسب خلقته الأصليّة، و أمّا عدم قبوله الانفعال لعارض فلا تعرّض فيهما لبيانه أصلا، و لذا نقول: إنّه لا تنافي بينهما و بين أخبار التغيّر الموجب للانفعال، نعم لو ثبت أنّهما يدلاّن على أنّ الطبيعة المائيّة علّة تامّة للمطهّريّة اتّجه القول بالدلالة على الحكم المذكور، و لكنّه يدفعه: منع الدلالة أوّلا، بل غاية ما فيه الدلالة على أنّها مقتضية لها فلا ينافيه مجامعة المانع الرافع لما هو مقتضاها، و كونها منقوضة ثانيا بالتغيّر الموجب لزوال الوصف عنه المانع عن حصوله ما دام باقيا، فلو سلّمنا فيها الدلالة ظاهرا فكشف عن خلافها القاطع المثبت للتغيّر عنوانا مقتضيا للتنجّس المنافي للوصف المذكور.

و أمّا في الثاني: فلعدم تعرّض فيه أيضا لبيان حكم الانفعال و عدمه.

و توضيح ذلك: أنّ الطهارة في قوله: «كلّ ماء طاهر» إن اريد بها الحكم الواقعي الإلهي المجعول لطبيعة الماء، أو الثابت فيه بحسب الواقع فهو لا يغيّا بالعلم بالقذارة؛ لأنّها من الأحكام الّتي لا يدخل فيها العلم و الجهل، بل هي ثابتة لموضوعها في نفس

ص: 207


1- التهذيب 1264/404:1.
2- التهذيب 1064/356:1.

الأمر سواء علم بها أو بخلافها المكلّف أو لم يعلم بهما، فتعليق خلافها على العلم بالقذارة قرينة واضحة على عدم إرادة هذا المعنى جزما، و لو اريد بها إعطاء حكم ظاهري فمن شأنه التعليق على العلم بالخلاف، و هو الظاهر من الخبر فحينئذ يخرج عن إفادة عدم الانفعال رأسا، لكونه في صدد بيان حكم لصورة الاشتباه، و إفادة أنّ النجاسة إنّما يحكم بها مع العلم بها خاصّة، فيكون جاريا مجرى أدلّة البراءة المعلّقة على العلم بالتكليف، و هو ممّا لا دخل فيه لعدم الانفعال بالعارض بحسب الواقع أصلا.

فإن قلت: قضيّة ذلك دخول القليل الملاقي للنجاسة في موضوع هذا الحكم و هو الاشتباه، و معه يحكم عليه بالطهارة و هو المطلوب.

قلت: مع أنّه لا يلائم أصل المسألة المفروضة لمعرفة الحكم الواقعي، يدفعه: أنّه إنّما يتّجه مع عدم قيام ما يرفع الاشتباه في خصوص المورد، و الأخبار المقامة على الانفعال من النصوص و الظواهر رافعة له، و واردة على هذا الخبر باقتضائها الخروج عن الموضوع، فلا معارضة بينه و بينها على ما هو الحال في سائر الأدلّة المعلّقة على الجهل و الاشتباه في مقابلة الاجتهاديّات الواردة عليها.

مع أنّه لو سلّمنا أنّ الخبر ورد في مقام إعطاء الحكم الواقعي، فمفاده لا يزيد على كون الطبيعة المائيّة ملزومة للطهارة من باب المقتضي، و هو لا ينافي مصادفة ما يوجب ارتفاعها كما يرشد إليه تعليق القذارة على العلم بها، و لو لا الماء بطبعه قابلا لعروض النجاسة لعرى ذلك عن الفائدة بالمرّة، و بطل به قاعدة التغيّر القائمة على حكم النجاسة.

فنقول حينئذ: إنّ القذارة المستندة إلى العلم بها لا بدّ لها من مورد و القليل الملاقي للنجاسة منه بحكم الأخبار الواردة فيه، كما أنّ منه المتغيّر بالنجاسة، و لا ينافيه كونها في الخبر معلّقة على العلم، لأنّ الأخبار المذكورة علم شرعي.

لا يقال: إنّ العلم حقيقة في الواقعي، فلا يشمل ما ذكر لكونه معنى مجازيّا للعلم.

لأنّ ذلك إنّما في موضع عدم نهوض ما يصرفه عن ظاهره من القرائن، و لا ريب أنّ أدلّة حجّيّة أخبار الآحاد صارفة له عن ذلك، و حاكمة على هذا الخبر بكشفها عن كون المراد بالعلم ما يعمّ الشرعي، و إلاّ أشكل الحال بالقياس إلى التغيّر، حيث إنّ أدلّته ليست إلاّ الأخبار، و دعوى: أنّ أخبار التغيّر مفيدة للعلم الواقعي لكثرتها و الإجماع على

ص: 208

العمل بها، يعارضها: أنّ أخبار القليل الملاقي أيضا كذلك لكثرتها، و صراحة دلالة جملة منها، و قيام العمل بها مع شذوذ المخالف و ضعف المعارض.

و أمّا في الأوّل: فلأنّ النظر في الاستدلال إن كان إلى إطلاق الماء فهو قابل للتقييد فيقيّد بما دون القليل جمعا، و إن كان إلى عموم النكرة المنفيّة فهي قابلة للتخصيص بمتّصل و منفصل، و كما أنّها مخصّصة بما معها من المتّصل - وفاقا من الخصم - فكذلك تخصّص بالمنفصل جمعا بضرورة من العرف و اللغة، و معه لا يبقى فيه دلالة أصلا.

الطائفة الثانية: روايات وردت في موارد خاصّة من الماء أو النجس أو هما معا تدلّ بمنطوقها أو مفهومها على المطلب عموما، كحسنة محمّد بن ميسّر - المرويّة في الكافي و التهذيب - قال: سألت أبا عبد اللّه عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، و يريد أن يغتسل منه، و ليس معه إناء يغترف به، و يداه قذرتان؟ قال: «يضع يده و يتوضّأ و يغتسل، هذا ممّا قال اللّه عزّ و جلّ: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1)-(2).

و صحيحة أبي خالد القمّاط، أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول، في الماء يمرّ به الرجل و هو نقيع فيه الميتة الجيفة، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب و لا تتوضّأ منه، و إن لم يتغيّر ريحه و طعمه فاشرب و توضّأ»(3).

و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، إنّه سئل عن الماء النقيح تبول فيه الدوابّ؟ فقال: «إن تغيّر الماء فلا تتوضّأ منه، و إن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه، و كذلك الدم إذا سال في الماء و أشباهه»(4).

و صحيحة حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب، فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم فلا توضّأ و لا تشرب»(5).

و موثّقة سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يمرّ بالماء

ص: 209


1- الوسائل 152:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5 - الكافي 2/4:3 التهذيب 425/149:1.
2- الحج: 78.
3- الوسائل 138:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 112/40:1.
4- الوسائل 138:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 3 - التهذيب 111/40:1 - الاستبصار 9/9:1.
5- الوسائل 139:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 6 - التهذيب 625/216:1 و 624.

و فيه دابّة ميتة قد أنتنت؟ قال: «إن كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضّأ و لا تشرب»(1).

و صحيحة شهاب بن عبد ربّه، قال: أتيت أبا عبد اللّه عليه السّلام أسأله فابتدأني فقال: «إن شئت يا شهاب فسل، و إن شئت أخبرتك، قال: قلت أخبرني، قال: جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضّأ أو لا؟ قلت: نعم، قال: فتوضّأ من الجانب الآخر إلاّ أن يغلب الماء الريح فينتن، و جئت لتسأل عن الماء الراكد من البئر، قال: فما لم يكن فيه تغيّر أو ريح، قلت: فما التغيّر؟ قال عليه السّلام: الصفرة، فتوضّأ منه و كلّما غلب كثرة الماء فهو طاهر»(2).

و صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام - و أنا جالس - عن غدير أتوه و فيه جيفة؟ فقال عليه السّلام: «إذا كان الماء قاهرا و لا يوجد فيه الريح فتوضّأ»(3).

و صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير، يستقى به الماء من البئر، أ يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال: «لا بأس»(4).

و صحيحة هشام بن سالم إنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السطح يبال عليه: فيكفّ فيصيب الثوب؟ فقال: «لا بأس به، ما أصابه من الماء أكثر منه»(5)، بناء على حجّيّة العلّة المنصوصة المقتضية لاطّراد الحكم في جميع موارد جريانها، و اعتبار الأكثريّة في موضع النصّ بالعلّيّة.

و موثّقة سماعة قال: سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء؟ قال: «يتوضّأ من الناحية الّتي ليس فيها الميتة»(6).

و موثّقة أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام إنّا نسافر فربّما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية، فيكون فيه العذرة، و يبول فيه الصبيّ، و تبول فيه الدابّة و تروث؟ فقال: «إن عرض في قلبك شيء فقل هكذا - يعني افرج الماء بيدك - ثمّ توضّأ، فإنّ الدين ليس بمضيّق، و إنّ اللّه تعالى يقول: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ

ص: 210


1- الوسائل 139:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 6 - التهذيب 625/216:1 و 624.
2- الوسائل 161:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 11 - بصائر الدرجات 13/258.
3- الوسائل 141:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 11 - الكافي 4/4:3.
4- الوسائل 170:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 1289/409:1.
5- الوسائل 144:1 ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 1 - الفقيه 4/7:1.
6- الوسائل 144:1 ب 5 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 1285/408:1.

حَرَجٍ »(1)-(2).

و رواية العلاء بن الفضيل قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحياض يبال فيها؟ قال:

«لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(3).

و رواية عليّ بن حمزة قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الماء الساكن و الاستنجاء منه؟ قال: «توضّأ من الجانب الأخر، و لا توضّأ من جانب الجيفة»(4).

و رواية عثمان بن زياد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أكون في السفر فآتي الماء النقيع و يدي قذرة فأغمسها في الماء؟ قال: «لا بأس»(5).

و رواية إسماعيل بن مسلم عن جعفر عن أبيه أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتى الماء فأتاه أهل الماء، فقالوا: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ حياضنا هذه تردها السباع و الكلاب و البهائم، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«لها ما أخذت بأفواهها، و لكم سائر ذلك»(6).

و ما رواه الصدوق مرسلا عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن غدير فيه جيفة؟ فقال عليه السّلام:

«إن كان الماء قاهرا لها لا يوجد الريح منه فتوضّأ منه و اغتسل»(7).

و رواية محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لو أنّ ميزابين سالا ميزاب ببول و ميزاب بماء، فاختلطا ثمّ أصابك ما كان به بأس»(8).

و رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت رواية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة: قال: «إذا تفسّخت فيها فلا تشرب من مائها و لا تتوضّأ و صبّها، و إن كان غير متفسّخ فاشرب منه و توضّأ و اطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة، و كذلك الجرّة، و حبّ الماء، و القربة، و أشباه ذلك من أوعية الماء».

ص: 211


1- الوسائل 163:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 14 - التهذيب 1316/417:1.
2- الحج: 78.
3- الوسائل 139:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 1311/415:1.
4- الوسائل 162:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 13 - التهذيب 1284/408:1.
5- الوسائل 163:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 16 - التهذيب 104/39:1 و 1314/416.
6- الوسائل 161:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 10 - التهذيب 1307/414:1.
7- الوسائل 141:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 13 - الفقيه 22/12:1.
8- الوسائل 144:1 ب 5 من أبواب الماء المطلق ح 6 - التهذيب 1296/411:1.

قال: و قال أبو جعفر عليه السّلام: «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شيء تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ إلاّ أن يجيء له ريح يغلب على ريح الماء»(1).

و رواية الأحول - المحكيّة عن الصدوق في العلل - قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: سل عمّا شئت فارتجّت عليّ المسائل فقال لي: «سل عمّا بدا لك، فقلت: جعلت فداك الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الّذي استنجى به؟ فقال: لا بأس، فسكت فقال:

أو تدري و لم صار لا بأس به؟ فقلت: لا و اللّه جعلت فداك، فقال: إنّ الماء أكثر من القذر»(2).

بناء على ما تقدّم إليه الإشارة من حجّيّة العلّة المنصوصة المقتضية للعموم.

و الرواية المحكيّة عن كتاب دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام إنّه قال: «إذا مرّ الجنب في الماء و فيه الجيفة أو الميتة، فإن كان قد تغيّر لذلك طعمه أو ريحه أو لونه فلا يشرب منه، و لا يتوضّأ و لا يتطهّر منه»(3).

و لا يخفى أنّ دفع هذه الأخبار هيّن بعد المراجعة إلى أخبار الانفعال، لكونها عمومات قابلة للتخصيص أو غيره من أنواع التأويل، فلو قابلناها بالنوع الأوّل من أخبار الانفعال فلا ينبغي التأمّل في تعيّن تخصيصها بها، لدلالتها الصريحة على الانفعال فيما دون الكرّ بالخصوص، حيث تضمّنت فضل الكلب كما في خبر الفضل بن أبي العبّاس، أو سؤره كما في خبر معاوية بن شريح، الظاهرين بل الصريحين فيما دون الكرّ، أو حبّ من الماء كما في خبر أبي بصير، نظرا إلى أنّ الحبّ لا يكون إلاّ أنّه يسع ما دون الكرّ أو الغالب فيه هو ذلك، و نظيره الكلام فيما لو قابلناها من أخبار النوع الثالث بما تضمّن قوله «إذا كان الماء قدر كرّ ينجّسه شيء» كما في أربعة أو خمسة من أخبار هذا النوع.

و دعوى: أنّ ذلك مفهوم و هو لا يصلح معارضا للمنطوق، قد عرفت ما فيه من صلوحه لذلك، و تقدّمه فيما بين الظواهر على ظاهر العامّ أو المطلق حيثما وردا في كلامين منفصلين، مع اعتضاد المفهوم هنا بوجوه من الخارج كالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع، و نقل الإجماعات في حدّ الاستفاضة، الّتي منها: ما في محكيّ الفاضل

ص: 212


1- الوسائل 139:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1298/412:1.
2- علل الشرائع 287:1.
3- دعائم الإسلام 112:1.

الهندي في شرح القواعد(1) عن الناصريّات(2) و الانتصار(3) و الغنية(4) و الخلاف(5)، و قوّة احتمال التقيّة فيما يقابله من المناطيق لموافقته مذهب أكثر العامّة كما عرفت في صدر المسألة، مع ما عرفت من أنّ جملة من الأخبار المقابلة إنّما تدلّ على مطلب الخصم مفهوما، كما في موثّقة سماعة و رواية دعائم الإسلام، فالمعارضة حينئذ و إن كانت بين المفهومين إلاّ أنّ الأوّل يقدّم لكونه خاصّا فيخصّص به الثاني لكونه عامّا كما لا يخفى.

و أمّا لو قابلناها بالنوع الأوّل و البواقي من مفاهيم النوع الثالث، فطريق العلاج من وجوه:

أحدها: أن يقال: إنّ أكثر أخبار هذين النوعين بين صريحة و ظاهرة فيما دون الكرّ، فيخصّص بها ما يعمّه و الكرّ أيضا، و لا يتطرّق إليها المناقشة المذكورة و أمّا المناقشة في دلالة الأوامر و النواهي الواردة فيها قد عرفت ما فيها، مع ما عرفت في طيّ الاستدلال بها من قيام الدلالة بها من غير هذه الجهة، مضافا إلى ما عرفت في جملة منها من الأمر بالتيمّم الّذي لا يصحّ بإجماع الفرقة إلاّ مع تعذّر المائيّة عقلا أو شرعا، مع أنّ الأمر بناء على ابتناء تماميّة الدلالة على كونهما مرادا بهما الوجوب و التحريم - كما هو المشهور في وجه الاستدلال، و اعترف به الخصم أيضا - دائر بين المجاز و التخصيص، أو التقييد، و من المقرّر في محلّه أولويّة الأخيرين.

و ثانيها: أن يقال: إنّ النسبة بين الطرفين من الأخبار هو التباين، بناء على الإغماض عمّا قرّرناه في الوجه السابق، فيرجّح أخبار الانفعال، إمّا لأنّها أظهر دلالة - كما يساعد عليه الإنصاف - أو اعتضادها من المرجّحات الخارجيّة بما يكشف عن اعتبار دلالتها من الشهرة و نقل الإجماع و عدم تطرّق احتمال التقيّة أو ضعفه فيها، أو لأنّها لمّا دلّت بعمومها على انفعال الكرّ أيضا بمجرّد الملاقاة فتخصّص بما دونه بالإجماع، و منطوق «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» الوارد في المستفيض من الأخبار، فيرجع التعارض إلى تعارض العامّ و الخاصّ المطلقين، و قضيّة ذلك نهوض تلك الأخبار مخصّصة لأخبار الطرف المقابل، فيحمل الحكم الوارد فيها على الكرّ و يخرج عنها ما دونه.

ص: 213


1- كشف اللثام 269:1.
2- الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 134:1).
3- الانتصار: 84.
4- غنية النزوع: (سلسلة الينابيع الفقهيّة 379:2).
5- الخلاف 192:1 ذيل المسألة 147.

و ثالثها: أنّه بعد فرض فقد المرجّح و العجز عن الجمع يصير المسألة من باب التعادل، و أقلّ مراتبه البناء على التساقط، أو التوقّف و الرجوع إلى الخارج من أصل و نحوه، و لا ريب أنّ المرجع حينئذ النوع الأوّل من أخبار الانفعال، و القسم الأوّل من مفاهيم أخبار النوع الثالث، لبقائها سليمة عن المعارض.

و ليس لأحد أن يقول: باختصاص بعض الأخبار الدالّة على عدم الانفعال بالقليل، كحسنة محمّد بن ميسّر المشتملة على الماء القليل، لمنع كونه مرادا به ما هو موضوع المسألة، إذ لم يثبت فيه للشارع و لا للأئمّة عليهم السّلام و لا أهل زمانهم اصطلاح بالقياس إليه في المعنى المعهود عند الفقهاء، فيحمل على ما يساعده عليه العرف فيعمّ الكرّ و ما زاد عليه، و على فرض تسليمه أمكن دعوى ظهوره في الجاري، كما يومئ إليه تمسّكهم في بحث الجاري بتلك الرواية على عدم انفعال القليل منه بالملاقاة، فلو سلّم عدم الظهور فأقلّ المراتب كونه أعمّ من الجاري و الراكد، قابلا للتخصيص بالجاري، فينتهض الأخبار المقامة على الانفعال مخصّصة لها، لظهور أكثرها في قليل الراكد، مع توجّه المنع إلى أصل الدلالة في جملة منها و إمكان القدح فيها، كما في صحيحة زرارة الواردة في الحبل من شعر الخنزير، و صحيحة هشام الواردة في إصابة الثوب ممّا يكفّ عن السطح الّذي يبال عليه، و روايتي العلاء بن الفضيل و إسماعيل بن مسلم الواردتين في الحياض.

أمّا الاولى: فلمنع دلالتها على أنّ الماء الّذي يتوضّأ هو الّذي يستقى بالحبل المفروض، فتكون الرواية من أدلّة عدم انفعال البئر بالملاقاة، و على فرضه فيتّجه المنع إلى كون الماء المستقى ممّا لاقاه ذلك الحبل، أو تقاطر منه فيه شيء، و لعلّ السؤال ورد لاحتمال ذلك فأجاب المعصوم عليه السّلام بما دلّه على أنّ الاحتمال ممّا لا يوجب المنع، و على فرضه فورودها مورد التقيّة احتمال ظاهر.

و أمّا الأخيرتان فلظهورهما في الكرّيّة، لأنّ الغالب في الحياض الّتي يتّخذها الناس كونها ممّا يسع الكرّ و ما زاد، سيّما في البلاد الّتي ليس عند أهلها مياه جارية و لا غيرها، فإنّ ديدنهم في مثل ذلك اتّخاذ الحياض لحفظ الكرّ، الّذي يرجع إليه في تطهير النجاسات و نحوه.

و أمّا صحيحة هشام فأصل الحكم الوارد فيها ممّا لا إشكال فيه، بل هو في مورد

ص: 214

هو خارج عن المتنازع، لظهور السياق و كيفيّة السؤال في نزول المطهر و هو مطهّر غير منفعل و لو قليلا، و أمّا التعليل الّذي هو محلّ الاستدلال فالإنصاف إنّا لا نفهم معناه، و نظيره الكلام في رواية الأحوال الواردة في الاستنجاء، فإنّ أصل الحكم فيها ممّا لا إشكال فيه، لكون ماء الاستنجاء من مستثنيات القاعدة، و تعليله بأكثريّة الماء من القذر غير مفهوم المعنى، و لعلّ المراد بها فيهما الأكثريّة المعنويّة أي الزيادة في القوّة العاصمة، أو أنّها حكم مخصوص بالمورد كما قيل به في المطر، و سيلحقك زيادة بيان و توضيح لذلك في بحث الغسالة، عند دفع الاحتجاج بتلك الرواية على طهارة الغسالة، و كيف كان فلو استفدنا منه شيئا ظاهرا فنحن نقول به حيث عاضده العمل، و إلاّ لا ينفكّ عن الوهن المانع عن العمل.

الطائفة الثانية: روايات وردت في موارد خاصّة بين ظاهرة في المطلب خصوصا، و غير دالّة عليه نفيا و إثباتا، و ظاهرة في خلافه عند التحقيق في ثالثة.

منها: صحيحة ابن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الوضوء ممّا ولغ الكلب فيه و السنّور أو شرب منه جمل أو دابّة أو غير ذلك، أ يتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال عليه السّلام:

«نعم إلاّ أن تجد غيره فتنزّه عنه»(1).

و فيه: أنّ التفصيل في التنزّه و عدمه بين وجدان الغير و عدمه، و إن كان لا يلائم الانفعال، و يقتضي كون الأمر بالتنزّه استحبابيّا مقتضيا لكراهة التوضّي و لكنّه لا يلائم تشريك الجمل و الدابّة مطلقا بل السنّور في التنزّه أيضا، و لو فرضناه مستحبّا ملازما لكراهة خلافه فالرواية بعضها يعارض بعضا، فيضطرب معه الدلالة و اعتبارها، فتسقط عن صلاحية المعارضة لنصوص الانفعال و ظواهره.

و بالجملة: فلو أخذنا منها بحكم الجواز المعلّق على عدم وجدان المقتضي للطهارة، كانت معارضة بموثّقة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال فيها: «و لا يشرب سؤر الكلب إلاّ أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه»(2).

و من هنا حملها الشيخ في التهذيب(3) على ما بلغ الكرّ جمعا، و لو أخذنا منها

ص: 215


1- الوسائل 228:1 ب 2 من أبواب الأسآر ح 6 - التهذيب 649/226:1.
2- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر ح 7 - التهذيب 650/226:1.
3- التهذيب 649/226:1 حيث قال في ذيل الخبر: «فليس في هذا الخبر رخصة فيما ولغ -

بالأمر بالتنزّه المعلّق بوجدان الغير سواء كان إيجابيّا أو ندبيّا، كانت معارضة بما ورد من الروايات في فضل السنّور و سؤر الدوابّ و الغنم دالاّ على عدم المنع بل المرجوحيّة أيضا(1)، مع ما فيها من عدم صلوحها لمعارضة ما سبق من الصحاح، و غيرها المعتضدة بالعمل و غيره، مع ما قيل فيها - كما عن المصابيح(2) - من المناقشة في سندها من حيث اشتماله على محمّد بن سنان الّذي ضعّفه الأكثر، مع تصريح علماء الرجال بأنّ عبد اللّه بن مسكان لم يرو عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إلاّ حديث «من أدرك المشعر فقد أدرك الحجّ»(3)فتكون الرواية مرسلة، و لا جابر لها في إرسالها، فيكون عدم صلوحها للمعارضة أوضح.

و منها: صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال: كتبت إلى من يسأله عن الغدير تجتمع فيه ماء السماء، و يستقى فيه من بئر، فيستنجي فيه الإنسان من بول، أو يغتسل فيه الجنب، ما حدّه الّذي لا يجوز؟ قال: «فكتب: لا تتوضّأ من مثل هذا إلاّ من ضرورة إليه»(4).

و فيه: مع ما فيها من الإضمار الموجب لإجمال الضمير، لتردّده بين كونه للمسئول أو المكتوب إليه السائل، مع تردّد المسئول بين الحجّة و غيره، أنّه استدلال بما هو خارج عن المتنازع، لما يأتي من استثناء ماء الاستنجاء من قاعدة الانفعال، فالسؤال إنّما وقع عن جواز التطهير بمثله، و بما يغتسل فيه الجنب و الجواب مطابق له، و لا منافاة في المنع عن التطهير بما لا يكون نجسا تعبّدا من الشارع، مع إمكان حمل الضرورة على التقيّة، و احتماله احتمالا غير خفيّ فلا ينافي التفصيل بينها و بين غيرها للانفعال لو قلنا به في ماء الاستنجاء.

و منها: صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: و سأله عن اليهودي و النصراني يدخل يده في الماء أ يتوضّأ منه للصلاة؟ قال عليه السّلام: «لا، إلاّ أن يضطرّ إليه»(5).

و فيه: أنّه على القول بنجاسة أهل الكتاب كان حملها على التقيّة احتمالا ظاهرا،

ص: 216


1- راجع الوسائل 227:1 أحاديث ب 2 من أبواب الأسآر ح و أيضا أحاديث ب 5 من تلك الأبواب.
2- مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة 33.
3- الوسائل 41:14 ب 23 من أبواب الوقوف بالمشعر ح 13-14.
4- الوسائل 163:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 15 - التهذيب 427/150:1.
5- الوسائل 421:3 ب 14 من أبواب النجاسات ح 9 - التهذيب 640/223:1.

كما يرشد إليه التفصيل بين الاضطرار و غيره، بناء على إرادة التقيّة منه بقرينة أنّه لولاه مع فرض عدم الانفعال لما كان لمنعه عن التوضّي في صورة عدم الاضطرار وجه، سواء كان تحريميّا أو تنزيهيّا كما لا يخفى.

و على القول بطهارتهم كانت الرواية من أدلّته فكانت خارجة عن المتنازع.

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الثوب يصيبه البول؟ قال عليه السّلام: «اغسله في المركن مرّتين، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة»(1)، و «المركن» على ما عن الجوهري الإجانة الّتي تغسل فيها الثياب.

و فيه أوّلا: منع تعرّض الرواية لبيان حكم الماء من حيث إنّه ينفعل أو لا ينفعل، و إنّما هي مسوقة لبيان حكم البول من حيث الاكتفاء بغسل الثوب عنه مرّة واحدة إذا غسل في الجاري و لزوم التعدّد إذا غسل في غيره، و ذكر «المركن» إنّما هو من باب المثال فتكون حينئذ من أدلّة القول بعدم اشتراط ورود الماء في إزالة النجاسة كما عن جماعة، و لا ينافيه دلالتها التزاما - من باب الإشارة - على عدم الانفعال، لجواز كونه حكما خاصّا بالمورد أثبته الشارع تعبّدا، فتكون من أدلّة القول بعدم نجاسة الغسالة كما عليه غير واحد.

مع اتّجاه المنع إلى الدلالة على ذلك رأسا، لجواز انفعاله و طهر المغسول بالانفصال على ما وجّهناه سابقا، مع ورود النقض بذلك في كافّة أنواع إزالة الخبث إذا كانت بالقليل، فلو لا الحكم تعبّديّا - على القول بانفعال القليل بالملاقاة - لشقّ الأمر على العباد في تطهير المتنجّسات، مع إمكان القول بأنّ أقصاها الدلالة على أنّ ملاقاة المتنجّس لا توجب الانفعال، و لعلّ القائل بانفعاله بالنجاسة لا يقول به في المتنجّس، و على فرضه يكون الدليل أخصّ من المدّعى.

و ثانيا: أنّها لا تقاوم ما قدّمناه من النصوص و الظواهر المعتبرة المعتضدة بأنواع المرجّحات.

و منها: الرواية المرويّة عن الفقيه عن الصادق عليه السّلام عن جلود الميتة، يجعل فيها اللبن و الماء و السمن ما ترى فيه؟ فقال: «لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو

ص: 217


1- الوسائل 397:3 ب 2 من أبواب النجاسات ح 1 - التهذيب 717/250:1.

سمن، و توضّأ منه و تشرب، و لكن لا تشرب فيها»(1).

و فيه: - بعد عدم مقاومتها لما تقدّم - ما لا يخفى من أمارات الكذب و التقيّة، فإنّها مبنيّة على ما صارت إليه العامّة من طهر جلود الميتة بالدباغ، فتكون خارجة مخرج التقيّة، كما يشهد به السياق الجامع للماء و اللبن و السمن، مع أنّه لا خلاف في انفعال غير الماء بالنجاسة.

و منها: رواية عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السّلام قال: سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا، فأصاب إناءه هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال عليه السّلام: «إن لم يكن شيء يستبين فلا بأس، و إن كان شيئا بيّنا فلا يتوضّأ منه»(2).

و فيه: مع أنّ النهي في الشقّ الثاني ممّا يكشف عن الانفعال فتكون من أدلّة القول به في الجملة، منع الدلالة على المطلب لما قدّمناه في بحث التغيّر من أنّ أقصى ما فيه الدلالة على إصابة الدم الإناء و هو غير إصابته الماء، و لعلّ السؤال وارد لاستعلام أنّ ذلك هل يصلح أمارة على إصابته الماء فيترتّب عليها الحكم عليه بالانفعال المانع عن الوضوء؟ فخرج الجواب مخرج التفصيل الموافق لمفاد قولهم: «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(3)، فالاستبانة و عدمها كنايتان عن العلم بالإصابة و عدمه، و يعطيان إناطة الحكم بالنجاسة بالعلم دون غيره.

و ممّا يفصح عن ذلك ورود السؤال بعد ذلك عن صورة العلم بالإصابة بقوله:

و سألته عن رجل رعف و هو يتوضّأ، فقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال:

«لا»، و على فرض تسليم الدلالة ينهض دليلا على ما فصّله الشيخ لا على عدم الانفعال مطلقا، و مع الغضّ عن جميع ذلك فعدم مقاومته لما تقدّم كما سبق.

و منها: مرسلة ابن أبي عمير عمّن رواه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في عجين عجن و خبز، ثمّ علم أنّ الماء كانت فيه ميتة؟ قال: «لا بأس، أكلت النار ما فيه»(4)؛ فإنّ السؤال بإطلاقه يتناول القليل الراكد أيضا، و إطلاق نفي البأس يدلّ على عدم انفعاله، و لا ينافيه

ص: 218


1- الوسائل 463:3 ب 35 من أبواب النجاسات ح 5 - الفقيه 15/9:1 و فيه: «و لكن لا تصلّي فيها».
2- الوسائل 150:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 1 - الكافي 16/74:3 - التهذيب 1299/412:1.
3- الوسائل 134:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5.
4- الوسائل 175:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 18 - التهذيب 1304/414:1.

التعليل بقوله: «أكلت النار ما فيه» لعدم تحقّق الاستحالة، و قد قام الإجماع على أنّ النار(1) إنّما تطهّر ما أحالته دون غيره، فكان ذلك دفعا للاستخباث و الاستقذار.

و فيه أوّلا: احتمال ابتناء الجواب على إبداء احتمال كون وقوع الميتة في الماء الّذي أخذ منه للعجين مسبوقا بالأخذ، و ثانيا: صلوح إطلاقه للتقييد، و ثالثا: وروده في مقام ضرب من التقيّة، و رابعا: عدم صلوحه لمعارضة ما تقدّم.

و منها: رواية عليّ بن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الماء الساكن و الاستنجاء منه؟ فقال عليه السّلام: «توضّأ من الجانب الآخر، و لا توضّأ من جانب الجيفة»(2)، و رواها الصدوق أيضا مرسلة(3).

و فيه: أنّ طريق الجواب يقضي بكون الماء المسئول عنه بمحضر من الإمام و مرئى منه، حيث إنّه تعرّض لذكر الجيفة و فصّل بين جانبي الماء و هي غير مذكورة في السؤال، و قضيّة ذلك أن لا يكون للماء المسئول عنه إطلاق يصلح للاستناد إليه؛ لقوّة احتمال كونه كرّا و ما زاد، و قد علم به الإمام بالمشاهدة.

و مع الغضّ عن هذا الاحتمال فليست الرواية إلاّ من باب حكايات الأحوال، فترمى بالإجمال و يخرج عن صلاحية الاستدلال، و يجري هذا المجرى في جميع ما ذكرناه موثّقة سماعة قال: سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء؟ قال: «يتوضّأ من الناحية الّتي ليس فيها الميتة»(4)، و على الإطلاق فيهما فهو قابل للتقييد بما تقدّم.

و منها: رواية محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لو أنّ ميزابين سالا، ميزاب ببول و ميزاب بماء، فاختلطا، ثمّ أصابك ما كان به بأس»(5).

و فيه: أنّ ظاهر الرواية ورودها في ماء المطر و هو خارج عن المتنازع، و لو كان فيها إطلاق بالقياس إلى حال التقاطر و عدمها فليحمل عليها جمعا، مع ما فيها من قصور السند و عدم صلاحية المعارضة لما سبق.

ص: 219


1- و في الأصل: «الماء» و الصواب ما أثبتناه في المتن.
2- الوسائل 162:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 13 - التهذيب 1284/408:1.
3- الفقيه 21/12:1.
4- الوسائل 144:1 ب 5 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 1258/4:1.
5- الوسائل 144:1 ب 5 من أبواب الماء المطلق ح 6 - الكافي 2/12:3 - التهذيب 1296/411:1.

و منها: رواية زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء؟ قال: «لا بأس»(1).

و فيه: مع احتمال ورودها تقيّة احتمالا ظاهرا، إمكان حملها على ما ليس من الاستعمالات [المشروطة] بالطهارة كسقي الدوابّ و البساتين و المزارع، أو ورودها استعلاما لحكم البئر فتكون من أدلّة عدم انفعالها، و هي موضوع آخر خارج عن المتنازع، و مع الغضّ عن جميع ذلك فغير صالحة للمعارضة.

و منها: رواية أبي مريم الأنصاري، قال: «كنت مع أبي عبد اللّه عليه السّلام في حائط فحضرت الصلاة فنزح دلوا للوضوء من ركيّ له، فخرج عليه قطعة عذرة يابسة فأكفأ(2)رأسه و توضّأ بالباقي»(3).

و اجيب عنها أوّلا: بقصور السند، لجهالة «عبد الرحمن»، و اشتراك «بشير» بين مجاهيل، و ثانيا: بقصورها دلالة لعدم ظهورها في وصول العذرة إلى الماء، لعود الضمير إلى الدلو، و لا يمتنع استقرار العذرة عليه من دون أن تصل إلى الماء، فأكفأ رأسه لسقوط العذرة و غسل محلّها، كما يشعر به الحكم عليها باليبوسة، إذ لو كانت في الماء لما بقيت يابسة، مع احتمال كون المراد بالعذرة السرقين كما حكي احتماله عن المصابيح قائلا: «بأنّ ما ادّعاه بعض الفضلاء من اختصاصها لغة و عرفا بفضلة الإنسان استنادا إلى ما يظهر من كلام الهروي، حيث قال: إنّ العذرة في أصل اللغة فناء الدار، و سمّيت عذرة الإنسان بهذه لأنّها كانت تلقى في الأفنية فكنّي عنها باسم الفناء، فيتوجّه عليه: أنّ المفهوم من الصحاح و القاموس أنّها أعمّ منها، حيث فسّر الخرء فيهما بالعذرة، و لا ريب أنّه أعمّ»(4).

و يرشد إليه صحيحة ابن بزيع قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن عليه السّلام عن البئر يسقط فيها شيء من العذرة كالبعرة و نحوها»، الحديث(5)، و صحيحة عبد الرحمن ابن أبي عبد اللّه قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصلّي و في ثوبه عذرة من إنسان،

ص: 220


1- الوسائل 175:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 16 - الفقيه 14/9:1 التهذيب 1301/413:1.
2- أكفأ الشيء: أماله (لسان العرب 141:1).
3- الوسائل 154:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 12 - التهذيب 1313/416:1.
4- مصابيح الأحكام - كتاب طهارة - (مخطوط) الورقة: 35، 36.
5- الوسائل 176:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 21 - الكافي 1/5:3 - التهذيب 705/244:1.

أو سنّور أو كلب، الحديث(1).

و قيل: بإمكان حملها على اشتباه الراوي، لجواز عدم كون ما رآه عذرة، و قد توهّم كونه عذرة هذا، مع ما فيها من عدم صلوحها للمعارضة للأخبار المتواترة المانعة عن الوضوء بمثل ذلك.

و منها: رواية عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أغتسل في مغتسل يبال فيه، و يغتسل من الجنابة، فيقع في الإناء ماء ينزو من الأرض؟ فقال: «لا بأس به»(2).

و فيه: منع كون ما وقع في الإناء مرتفعا عن محلّ البول، إذ الرواية تضمّنت كونه ينزو من الأرض و هي أعمّ، فيكون السؤال واردا لاستعلام حال الاشتباه، فأجاب له الإمام عليه السّلام بما وافق أصل الطهارة الجاري في المياه المشتبهة و كون الأرض من الشبهة المحصورة لا يوجب تنجّس ملاقيها كما هو مقرّر في محلّه، هذا مع عدم صلوحها للمعارضة مع ضعفها ب «المعلّى» سندا.

و منها: رواية الأحول قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أخرج من الخلاء فأستنجي بالماء، فيقع ثوبي في ذلك الماء الّذي استنجيت به؟ قال: «لا بأس به»(3).

و فيه: ما تقدّم من خروج ماء الاستنجاء عن موضوع المسألة.

و منها: مرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام قال: سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال: «لا بأس»(4).

و فيه: منع واضح، لعدم تعرّض الرواية لذكر ملاقاة النجاسة، و الغسالة أعمّ منها فلا يبقى إلاّ الاحتمال و هو المنشأ للسؤال و مثله من مجرى الأصل و الجواب مطابق له جدّا.

و منها: رواية أبي بكّار بن أبي بكر، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يضع الكوز الّذي يغرف به من الحبّ في مكان قذر، ثمّ يدخل الحبّ قال: «يصبّ من الماء ثلاثة أكف، ثمّ يدلك الكوز»(5).

ص: 221


1- الوسائل 475:3 ب 40 من أبواب النجاسات ح 5.
2- الوسائل 213:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 7.
3- الوسائل 221:1 ب 13 من أبواب الماء المضاف ح 1 - الكافي 5/13:3 التهذيب 223/85:1.
4- التهذيب 1176/379:1.
5- الوسائل 164:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 17 - الكافي 6/12:3.

و فيه: أنّها أظهر في الدلالة على خلاف المطلب، نظرا إلى أنّ قوله عليه السّلام: «يصبّ من الماء ثلاثة أكفّ، ثمّ يدلك الكوز» تعليم لكيفيّة تطهير الكوز، فيريد به صبّ ثلاثة أكفّ على الكوز لغسله، و الّذي أمر به عبارة عن غسله، و المراد بقول السائل: «ثمّ يدخل الكوز» إرادة الإدخال لا تحقّقه، و القرينة عليه أنّه لو كان فرض السؤال فيما بعد الإدخال لما كان للدّلك الّذي أمر به فائدة أصلا، و شأن الحكيم أرفع من أن يأمر بما لا فائدة فيه أصلا، و ظنّي أنّ هذا المعنى الّذي استظهرناه واضح لا سترة عليه، و قضيّة ذلك قلب الاستدلال بالرواية، بأنّه لو لا الكوز المفروض موجبا لانفعال ماء الحبّ لما أمر بغسله قبل الإدخال فيه.

و منها: رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى، قال: و سألته عن جنب أصابت يده من جنابته، فمسحه بخرقة أدخل يده في غسله قبل أن يغسلها هل يجزيه أن يغتسل من ذلك الماء؟ قال: «إن وجد ماء غيره فلا يجزيه أن يغتسل به، و إن لم يجد غيره أجزأه»(1).

و فيه: أنّها لا تلائم القول بالانفعال في شقّها الثاني، فكذلك لا تلائم القول بالعدم، لأنّ لازمه جواز الاغتسال بالماء المفروض و كونه مجزيا عن الفرض، غايته أنّهم يقولون بكراهة استعماله، كما عليه مبنى حملهم النواهي الواردة في المقام عن الاستعمال على الكراهة، و لا ريب أنّ الكراهة لا تؤثّر في عدم الإجزاء، و قد حكم به الإمام عليه السّلام فالاستدلال بها ساقط من الطرفين.

إلاّ أن يرجع إلى ابتنائها على قاعدة اصوليّة - قرّرناها في محلّها - من امتناع اجتماع الكراهة مع الوجوب و الندب، فكان المنع عن الاغتسال بالماء المفروض - على تقدير وجدان ماء غيره - استنادا إلى أنّ الاغتسال به ممّا لا أمر به لمكان الكراهة المانعة عنه، بخلاف التقدير الآخر المحكوم عليه بالإجزاء، من حيث إنّ عدم وجدان ماء آخر يوجب الاضطرار إلى الماء المفروض و هو يوجب ارتفاع الكراهة فيحصل الأمر، اعتبارا لوجود المقتضي و فقد المانع، و عليه يمنع كون ما أصاب اليد من الجنابة عبارة عن المنيّ، لجواز كونه شيئا مشتبها به و بطاهر، أو كون الماء المفروض قليلا لجواز كونه عند السائل مردّدا بين الكثير و القليل، و لا ريب أنّ كلاّ من ذلك ممّا يقتضي الاحتياط و يوجب كراهة الاستعمال من حيث كون الماء محتملا للنجاسة، فأعطى له

ص: 222


1- قرب الإسناد: 180 - مسائل عليّ بن جعفر: 209 ح 452.

الإمام عليه السّلام قاعدة كلّيّة متضمّنة للتفصيل المذكور، المبتني على الكراهة و زوالها، و مع ذلك كلّه فالرواية غير صالحة للمعارضة جزما.

و منها: رواية دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن الغدير، تبول فيه و تروث، و يغتسل فيه الجنب؟ فقال: «لا بأس، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نزل بأصحابه في سفر لهم على غدير، و كانت دوابّهم تبول فيه و تروث، فيغتسلون فيه و يتوضّئون و يشربون»(1).

و فيه: ما لا يخفى من عدم إشعارها بملاقاة النجاسة، لعدم التعيّن في مرجع ضمير تبول و نحوه، بل الظاهر كونه مرادا به «الدوابّ»، كما يرشد إليه تأنيث الضمير و ذكر «الدوابّ» في كلام الإمام عليه السّلام عند حكايته الواقعة المفروضة، و لا ريب أنّ الدوابّ لا تتناول مثل الإنسان و نحوه ممّا ليس بطاهر البول.

و منها: صحيحة شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: - في الجنب يغتسل فيقطر الماء عن جسده في الإناء، و ينضح الماء من الأرض فيصير في الإناء - «أنّه لا بأس بهذا كلّه»(2).

و فيه: ما لا يخفى أيضا من عدم إشعاره بنجاسة الأرض و لا الجسد، و لا ينبغي التمسّك بالإطلاق لوروده مقام إفادة حكم آخر، و هو عدم مانعيّة ما تقاطر في الإناء من قطرات غسالة الاغتسال عن صحّة الغسل.

و نظيره الكلام في صحيحة فضيل بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: في الرجل الجنب يغتسل فينضح من الماء في الإناء؟ فقال: «لا بأس مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »(3).

و منها: رواية الوشّاء عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه كره سؤر ولد الزناء، و سؤر اليهودي و النصراني و المشرك، و كلّما خالف الإسلام، و كان أشدّ عنده سؤر الناصب»(4).

و فيه: أنّ الكراهة في أخبار الأئمّة - سلام اللّه عليهم - شائع استعمالها في التحريم، فلا ينبغي حملها على المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء، غير أنّه ينبغي حملها على ما يعمّ المعنيين بقرينة السياق الجامع بين ولد الزناء و غيره من الطوائف المذكورة، مضافا

ص: 223


1- دعائم الإسلام 112:1.
2- الوسائل 212:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 6 و 5 - الكافي 6/13:3 و 7.
3- الوسائل 212:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 6 و 5 - الكافي 6/13:3 و 7.
4- الوسائل 229:1 ب 3 من أبواب الأسآر ح 2 - التهذيب 639/223:1.

إلى أنّه طريق جمع بينها و بين الأخبار الدالّة على الانفعال صراحة و ظهورا.

فهذه هي الأخبار الّتي عثرنا عليها للقول بعدم الانفعال، و لا ريب أنّ الاستناد إليها لهذا الحكم خروج عن قانون الفقاهة، بعد وجود أخبار اخر متواترة دالّة على الانفعال، فإنّ ذلك لا ينشأ إلاّ عن قصور البال.

ثمّ عن الكاشاني كلمات اخر في تشييد مذهبه المخالف للنصوص المتواترة، و هي لغاية سخافتها و إن كانت ممّا لا ينبغي الالتفات إليها، و تضييع الوقت بالتعرّض لنقلها و تزييفها، غير أنّ مزيد انكشاف شناعة ما صار إليه و ما اعتمد عليه يدعونا إلى التعرّض لذلك.

فنقول: إنّ من جملة ما حكي عنه: أنّه أيّد ما صار إليه من عدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة، بورود الأخبار المصرّحة بطهارة ماء الاستنجاء.

و فيه: أنّ حكم الانفعال إنّما ثبت من باب القاعدة، و لا شيء منها إلاّ و هي قابلة للتخصيص، و ما ذكر مخصّص لها، كما ثبت نظيره في المطر بالإجماع و نحوه، و البئر و الجاري على القول بعدم انفعال القليل فيهما، فلو صلح ما ذكر مؤيّدا لمذهبه الفاسد لكان هذه منه، فلا وجه للاقتصار عليه.

مع ما قيل عليه: من أنّ تخصيص الحكم بماء الاستنجاء في الروايات يشعر بالمغايرة لغيره من المياه الملاقية للنجاسات، فلأن يكون ذلك من مؤيّدات القول بالانفعال طريق الأولويّة دون العكس.

و من جملة ما حكي عنه: أنّه جمع بين الروايات الّتي تمسّك بها لمصيره إلى عدم الانفعال، و الأخبار المصرّحة باشتراط الكرّيّة، بحملها على أنّها مناط و معيار للقدر الّذي لا يتغيّر من الماء بما يعتاد وروده من النجاسات.

قائلا في الوافي: «و على هذا فنسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء، كنسبة مقدار أقلّ من تلك النجاسة إلى مقدار أقلّ من ذلك الماء، و مقدار أكثر منها إلى مقدار أكثر منه، فكلّما غلب الماء على النجاسة فهو مطهّر لها بالاستحالة، و كلّما غلب النجاسة عليه بغلبة أحد أوصافها فهو منفعل منها خارج عن الطهوريّة بها»(1).

و عنه أيضا أنّه بعد ما أورد صحيحة صفوان، المتضمّنة للسؤال عن الحياض الّتي

ص: 224


1- الوافي 19:6.

بين مكّة و المدينة، قال: «و لمّا كانت الحياض بين الحرمين الشريفين معهودة معروفة في ذلك الزمان، اقتصر عليه السّلام على السؤال عن مقدار الماء في عمقها، و لم يسأل عن الطول و العرض، و إنّما سأل عن ذلك ليعلم نسبة الماء إلى تلك النجاسات المذكورة، حتّى يتبيّن انفعاله منها و عدمه، فإنّ نسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء في التأثير و التغيير كنسبة ضعفه إلى ضعفه مثلا و على هذا القياس»(1).

و عنه أيضا: أنّه أيّد هذا المعنى الّذي أوّل الأخبار إليه باختلاف تلك الأخبار، قائلا: «بأنّه يؤيّد ما قلناه - من أنّه تخمين و مقايسة بين قدري الماء و النجاسة - أنّه لو كان أمرا مضبوطا و حدّا محدودا لم يقع الاختلاف الشديد في تقديره لا مساحة و لا وزنا، و قد وقع الاختلاف فيهما معا، و الوجوب لا يقبل الدرجات بخلاف الاستحباب، و قد اعترف جماعة منهم بمثل ذلك في ماء البئر»(2) انتهى.

و فيه: إن أراد بما أفاده من الحمل دعوى الملازمة بين الكرّيّة و عدم قبول التغيير فهو ممّا يشهد بكذبه الضرورة و العيان، فكم من كرّ بل كرور يقبل التغيّر، فلذا ترى كلماتهم مشحونة في بحث التغيّر بالتصريح بعدم الفرق فيه بين الكرّ و غيره، و إن أراد به دعوى الملازمة بينها و بين مقدار معيّن من النجاسة الواقعة في الماء، ككون وقوعها فيه ممّا جرت العادة عليه.

ففيه: مع أنّه ممّا لم يستقرّ له عادة، بل لم يحصل له حدّ عادي، أنّه يوجب أوّلا ارتكاب التجوّز في لفظ «ينجّسه» الوارد في تلك الأخبار بحمله على «يغيّره»، و التقييد ثانيا بحمل «شيء» على ما يعتاد وقوعه من النجاسات، مع لزوم تقييد آخر بحمله على ما كان صالحا للتغيير ليخرج عنه مباشرة الكافر و الكلب و نحوهما ممّا لا يوجب تغيّر أصلا، و أيّ دليل على هذه كلّها.

و لو سلّم أنّ الداعي إلى ذلك إرادة الجمع بينها و بين ما دلّ بإطلاقه على عدم الانفعال، فتطرّق التأويل إليها ليس بأولى من تطرّقه إلى تلك المطلقات بحملها في اقتضاء عدم الانفعال على الكرّ، مع أنّه لو اعتبر المفهوم مع هذا التأويل كان مفاده أنّ ما دون الكرّ يلازم التغيير و هو خلاف الحسّ، و إلاّ لزم خلاف أصل آخر و هو إلغاء المفهوم.

ص: 225


1- الوافي 31:6 و 36.
2- الوافي 31:6 و 36.

و أمّا ما استنبطه من النسبة فالظاهر أنّ معناها: أنّ ما يعتاد وروده على الماء من النجاسة إذا لم يكن مغيّرا للكرّ، فبعض منه بنسبة مخصوصة إذا وقع في بعض من الكرّ بتلك النسبة لم يكن مغيّرا له أيضا، لوضوح اتّحاد البعض للكلّ في الحكم، فحينئذ لو أنّ ثلثا من الكرّ - مثلا - إذا وقع فيه بعض من النجاسة المعتاد وقوعها في الماء، فلا بدّ من استعلام الحال بأخذ النسبة بين ذلك البعض و كلّه، فإن بلغ ثلثه لم يكن مغيّرا لما هو واقع فيه، كما أنّه لو قصر عنه لم يكن مغيّرا له، و إن تجاوز الثلث كان مغيّرا له، و لو أنّ ربعا ممّا يعتاد وقوعه وقع على بعض من الكرّ يجب مراعاة النسبة بينهما، فإن بلغ ربعه أيضا لم يكن الواقع فيه مغيّرا له، كما أنّه كذلك لو قصر عنه، و أمّا لو زاد عليه كان مغيّرا له، و هكذا إلى آخر الفروض.

و أنت خبير: بوضوح فساد ذلك، و عدم كونه ممّا ينساق عن تلك الأخبار، فإنّ هذا ممّا لا ينضبط أبدا، و مراعاة تلك النسبة ممّا لا يبلغ إليه فهم كافّة المكلّفين عدا الأوحدي من الخواصّ، و مع ذلك فالغالب وقوعه من النجاسات على المياه ما يقع بغتة بلا معلوميّة مقداره، مع تعذّر استعلامه بعد ذلك أيضا - كما لو كان من المائعات - فكيف يسوغ على الشارع الحكيم أن ينوط حكمه الّذي يعمّ به البلوى في قاطبة الأعصار و كافّة الأمصار على قاعدة لا يدركها إلاّ الأوحدي من البعض، مع تعذّر إعمالها في غالب موارد موضوعها، مع أنّه لا يدري أنّ اعتبار هذه النسبة و الإرشاد إلى هذا التخمين و المقايسة لأيّ فائدة هو؟ بعد ما كان أصل التغيّر أمرا حسّيّا غير محتاج إلى الكاشف.

و من هنا يتوجّه إشكال آخر، من جهة لزومه حمل كلام الشارع على ما ليس بيانه من شأنه، و هو إعطاء الضابط و الميزان لما هو من مقولة الحسّيّات، و ما اعتذر له المحدّث - في جملة من كلامه - «بأنّه ربّما يشتبه التغيّر مع أنّ الماء قد تغيّر أوصافه الثلاثة بغير النجاسة فيحصل الاشتباه»(1).

ففيه: مع قضائه بحمل الكلام على موارده النادرة، أنّ الاشتباه يرتفع بأصل الطهارة الّذي قرّره الشارع، مضافا إلى خصوص قوله: «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(2)الّذي عرفت اختصاصه بمواضع الاشتباه.

ص: 226


1- الوافي 32:6.
2- الوسائل 134:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5.

و أمّا ما ساق إليه التأويل المذكور، بل استشهد به لمختاره من صحيحة صفوان بن [مهران] الجمّال(1)، ففيه: أنّ سياق السؤال الوارد فيها يأبى عن ذلك، حيث لم يذكر فيه من النجاسات ما يوجب تغيّر الماء عادة، كما لا يخفى على المتأمّل فيه.

و أمّا ما أيّد به مختاره من اختلاف الأخبار المقدّرة للكرّ وزنا و مساحة.

ففيه: أوّلا: عدم قيام ما يقضي بكون الاختلاف من جانب الشارع، فلعلّه اختلاف نشأ من الرواة أو الجاعلين للأخبار الكاذبة، و التأييد إنّما يحصل على التقدير الأوّل دون الأخيرين.

و ثانيا: أنّه كم من هذا القبيل في أخبار أئمّتنا المعصومين، الواردة في جميع أبواب الفقه، فلو كان ذلك منشأ للأثر و موجبا لتطرّق التأويل إلى الأخبار الظاهرة و النصوص المحكمة، لم ينضبط قاعدة من قواعد الفقه.

و ثالثا: أنّ ذلك لو صلح إشكالا لكان مشترك الورود، فيتوجّه إلى ما صار إليه بل بطريق أولى؛ لأنّ مرجع كلامنا إلى أنّ أخبار الكرّ واردة لإحراز موضوع لحكم شرعي معلّق عليه و هو الكرّيّة الّتي ينوط بها عدم الانفعال بشيء، و مرجع كلامه إلى أنّها إنّما وردت لإعطاء ضابط كلّي و ميزان مطّرد لمعرفة موضوع حكم و هو التغيّر المورّث للانفعال، فإذا كان الأوّل مقتضيا لكون مفادها أمرا مضبوطا و حدّا محدودا، فكان الثاني أولى بالاقتضاء كما لا يخفى.

ثمّ إنّه بقى الكلام في مقامين، ينبغي سوق عنان النظر إليهما.

اشارة

أحدهما: النظر في معمّمات المسألة.

و ثانيهما: في مستثنياتها من محلّ وفاق أو خلاف، فاستمع لما يتلى عليك.

أمّا الكلام في المقام الأوّل [في معممات المسألة]،
اشارة

فمن جهات:

الجهة الاولى: يظهر من صاحب المدارك بعد ما صار إلى انفعال القليل بالملاقاة، التشكيك في انفعاله بكلّ نجس

قائلا فيه: «لكن لا يخفى أنّه ليس في شيء من تلك الروايات دلالة على انفعال القليل بوروده على النجاسة، بل و لا على انفعاله بكلّ ما يرد عليه من النجاسات»(2) الخ.

ص: 227


1- الوسائل 162:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 12.
2- مدارك الأحكام 40:1.

و العجب منه أنّه ذكر ذلك مع تمسّكه على ما صار إليه بصحيحتي محمّد بن مسلم(1)، و معاوية بن عمّار «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(2) و كأنّه مبنيّ على منع العموم في المفهوم، كما صار إليه جماعة منهم الكاشاني فيما تقدّم عنه من جملة اعتراضاته على الأخبار الواردة بهذا المضمون، و قد أشرنا إجمالا إلى ما يدفعه.

و نقول هنا أيضا: أنّ المفهوم على ما يساعد عليه العرف و طريقة أهل اللسان، يتبع المنطوق في عمومه و خصوصه، و ما توهّم: من منع العموم في المفهوم مع كون المنطوق مشتملا على النكرة في سياق النفي، إنّما يتّجه لو فسّر مفاد منطوق قوله: «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» بأنّه لا ينجّس بجميع أفراد النجس، ليكون محصّله السلب الجزئيّ المستلزم لكون المفهوم إيجابا جزئيّا، و هو كما ترى بعيد عن هذه العبارة غاية البعد، بل لا يكاد ينساق منها عرفا، بل معناه: أنّه لا ينجّس بشيء من أفراد النجس، فيكون مفهومه: أنّه ينجّس بكلّ فرد منه، و مع الغضّ عن ذلك يكفينا في إثبات العموم عموم التعليل في قوله: «رجس نجس» الوارد في الكلب(3) حسبما قرّرناه.

مضافا إلى إطلاق «القذر» الوارد في كثير من أخبار الباب، مع كفاية ملاحظة مجموع الروايات المتضمّن كلّ واحد منها لنوع أو نوعين أو أنواع من النجاسات، حتّى أنّه لا يشذّ منها شيء ظاهرا، مع الإجماع المركّب أيضا، كما في كلام غير واحد من الفحول.

مع أنّ المسائل الفرعيّة الّتي كلّها ضوابط كلّيّة و قواعد مطّردة يقتبس أغلبها - من الطهارات إلى الديات - من موارد جزئيّة من جزئيّات موضوعاتها، من غير أن يرد فيها لفظ عامّ شامل لجميع الجزئيّات، و عليه طريقة الفقهاء قديما و حديثا، و لذلك تراهم لا يزالون يستدلّون على الأحكام الكلّيّة بما ورد من الأخبار في بعض الجزئيّات، و كأنّ ذلك من جهة أنّه علموا من طريقة الشارع أنّه يعطي الضوابط الكلّيّة بخطابات جزئيّة و بيانات شخصيّة.

مع إمكان دعوى تنقيح المناط في خصوص المقام - لو سلّم عدم ورود جميع أنواع النجاسات في الأخبار الواردة فيه - بتقريب: أنّ القطع يحصل بأنّ الانفعال بالنسبة إلى الموارد الخاصّة الواردة في تلك الأخبار، ليس مستند إلاّ إلى ما في تلك الموارد من

ص: 228


1- الوسائل 158:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 2 - التهذيب 107/39:1 و 109.
2- الوسائل 158:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 2 - التهذيب 107/39:1 و 109.
3- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر ح 4 - التهذيب 646/225:1.

الوصف العنواني الّذي يعبّر عنه ب «النجاسة»، من غير مدخليّة في ذلك لما فيها من الخصوصيّة الراجعة إلى ذاتيّاتها أو عرضيّاتها من غير جهة هذا الوصف، هذا.

الجهة الثانية: ربّما يحكى في المسألة عدم تنجيس المتنجّس، الّذي لازمه أن لا ينفعل القليل به،

و يظهر من المحقّق الخوانساري الميل إليه(1)، و إن كان جعل الانفعال أولى بعد ما نسبه إلى ظاهر كلام الأصحاب، و يظهر من شيخنا في الجواهر(2) الفرق بين متنجّس لا يفيد الماء طهره فالانفعال، و متنجّس يفيد الماء طهره فعدم الانفعال، و يظهر ذلك أيضا من محكيّ المصابيح(3) فيما لو ورد عليه الماء مفيدا طهره، و منشؤه على ما صرّح به في الجواهر(4) طهارة الغسالة - على ما صار إليه - جمعا بين القاعدتين: انفعال القليل بالملاقاة، و طهارة الغسالة.

و صحّة هذا التفصيل - على أحد الوجهين - و سقمه مبنيّتان على النظر في حكم الغسالة، و الكلام مع المدّعين لطهارتها و ستعرفه في محلّه، و أمّا منع الانفعال بالمتنجّس مطلقا فلم نقف له على وجه، و لعلّه غفلة عن التدبّر في روايات الباب، أو مبنيّ على توهّم انحصار أدلّة الانفعال في مفهوم قوله: «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» (5)مع منع العموم فيه بحيث يشمل المتنجّس أيضا، و كيف كان فهو في غاية الضعف.

أمّا أوّلا: فللمفهوم المشار إليه، فإنّه عامّ بالقياس إلى جميع مصاديق «شيء» و منها المتنجّس، غاية الأمر خروج ما كان منها طاهرا بالتخصيص أو التخصّص، بدعوى:

عدم صلاحيّة الطاهر مشمولا للمنطوق، نظرا إلى كون بيان الحكم بالنسبة إليه من باب توضيح الواضحات و هو سفه، فليس من شأن الحكيم بل و يقبح ذلك عليه، و قضيّة ذلك خروجه عن المفهوم من أوّل الأمر من دون حاجة له إلى المخرج.

و لكن فيه: أنّ المراد بالخروج في مواضع التخصيص ليس هو الخروج الحقيقي لاستحالة البداء من الحكيم العالم، بل المراد به انكشاف خروجه بملاحظة الخارج الّذي يعبّر عنه بالمخصّص، و لا ريب أنّ ذلك الخارج الّذي يوجب الانكشاف كما أنّه

ص: 229


1- مشارق الشموس: 190.
2- جواهر الكلام 238:1.
3- مصابيح الأحكام - الطهارة - (مخطوط) الورقة: 47.
4- جواهر الكلام 238:1.
5- الوسائل 158:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 109/40:1.

قد يكون لفظا فكذلك قد يكون عقلا قاطعا، و ما قرّرناه في وجه استحالة شمول المنطوق للطاهر ليس إلاّ عقلا قاطعا قام في المقام و كشف عن حقيقة المراد، و إلاّ فاللفظ بما هو هو - أي مع قطع النظر عن ذلك - صالح للشمول جزما، فيكون خروجه المذكور عن المنطوق من باب التخصيص، و يتبعه في ذلك المفهوم و يكون مخصّصا بخروج ما ذكر، و يبقى الباقي و منه المتنجّس؛ إذ لا استحالة في كونه مرادا في المنطوق فيكون كذلك في المفهوم؛ إذ لا مخرج له من عقل و لا نقل.

لا يقال: إنّ العامّ بالقياس إليه مجمل إذ لا ريب - على ما اعترفت به - في ورود تخصيص عليه، و القدر المتيقّن ممّا يشمله المخصّص إنّما هو الطاهر، كما أنّ القدر المتيقّن ممّا يشمله العامّ إنّما هو نفس النجاسة، و أمّا المتنجّس فيبقى متردّدا بين كونه مشمولا للعامّ أو المخصّص، و معه لا معنى للتمسّك بالعموم بالنسبة إليه.

لأنّا نقول: بمنع كون هذا النوع من التردّد موجبا لإجمال العامّ، و إنّما هو في الشبهة المصداقيّة أو المفهوميّة بالقياس إلى مسمّى موضوع المخصّص، و المقام ليس بشيء منهما، بل التردّد المذكور فيه ابتدائي ينشأ من احتمال زيادة التخصيص، فيرتفع بملاحظة ظهور اللفظ نوعا، و أصالة عدم الزيادة في التخصيص.

و لو سلّم عدم ارتفاعه فليس بقادح في جواز التمسّك بالعامّ، لكون اعتبار ظواهر الألفاظ ثابتا بالنوع، و كون قلّة التخصيص أولى من كثرته - حيثما دار الأمر بينهما - باب معروف متسالم عليه عندهم، فلا وجه للمناقشة في العموم.

و أمّا ثانيا: فلأنّ قذارة اليد الواردة في أكثر روايات الباب الموجبة للانفعال تشمل ما لو كانت متنجّسة، و حملها على ما لو كانت العين باقية فيها بعيد عن الانفعال(1)و ينفيه ترك الاستفصال.

و دعوى: ظهور «القذر» في العين، يدفعها: ما في صحيحة البزنطي «عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة»(2) و ما في قويّة أبي بصير «إذا كانت يده قذرة فأهرقه»(3).

ص: 230


1- كذا في الأصل.
2- الوسائل 159:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 1326/419:1.
3- الوسائل 154:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 11 - التهذيب 103/308:1.

و أمّا ثالثا: فلخصوص صحيحة عليّ بن جعفر المشتملة في ذيلها على قوله عليه السّلام:

«إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفّا من الماء»(1) إلخ و موثّقة عمّار المتضمّنة لقوله: و عن الإبريق يكون فيه خمر، أ يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: «إذا غسل فلا بأس»(2)، و رواية عليّ بن جعفر المتضمّنة لقوله عن الشرب في الإناء يشرب منه الخمر قدحان عيدان أو باطية؟ قال عليه السّلام: «إذا غسله فلا بأس»(3)، و روايتي عليّ بن يقطين(4)، و عيص بن القاسم(5)الواردتين في سؤر الحائض و فضلها الحاكمتين بأنّه إذا كانت مأمونة فلا بأس، أو توضّأ منه إذا كانت مأمونة.

الجهة الثالثة: عزي إلى المشهور عدم الفرق في النجاسة الموجبة للانفعال بين كثيرها و قليلها

حتّى ما لو كان منها ممّا لا يدركه الطرف مثل رءوس الإبر الّتي لا تحسّ و لا تدرك و لو كان دما، و عن الحلّي(6) دعوى الإجماع عليه، و عليه الشيخ على ما حكي عنه في سائر كتبه سوى المبسوط و الاستبصار، و أمّا فيهما فخالف المشهور و ذهب إلى الفرق بين الكثير و القليل الّذي لا يدركه الطرف فخصّ الحكم بالأوّل دون الثاني، قائلا في المبسوط - على ما حكي -: «و حدّ القليل ما نقص عن الكرّ، و ذلك ينجّس بكلّ نجاسة تحصل فيه، قليلة كانت النجاسة أو كثيرة، تغيّرت أوصافه أو لم يتغيّر، إلاّ ما لا يمكن التحرّز منه مثل رءوس الإبر من الدم و غيره، فإنّه معفوّ عنه لأنّه لا يمكن التحرّز منه»(7).

و عنه أنّه خصّ ذلك في الاستبصار بالدم(8)، كما أنّ العلاّمة حكاه عنه في المختلف(9) مخصوصا به من غير تعرّض لتعيين كتابه، و لعلّه أيضا وهم نشأ عن كلامه في الاستبصار، و لأجل ذلك توهّم جماعة على - ما حكي - كون أقواله ثلاثة و الإنصاف يقتضي خلافه، إذ لا إشعار في كلامه في الاستبصار باختصاص الحكم

ص: 231


1- التهذيب 1115/367:1.
2- الوسائل 494:3 ب 51 من أبواب النجاسات ح 1 - التهذيب 830/283:1.
3- الوسائل 369:25 ب 30 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 5 - قرب الإسناد: 116 - مسائل عليّ ابن جعفر: 212/514.
4- الوسائل 237:1 ب 8 من أبواب الأسآر ح 5.
5- الوسائل 234:1 ب 7 من أبواب الأسآر ح 1.
6- السرائر 180:1.
7- المبسوط 7:1.
8- الاستبصار 23:1.
9- مختلف الشيعة 182:1.

بالدم، كما لا يخفى على من يراجعه في ذيل باب القليل الّذي تحصل فيه النجاسة(1).

و كيف كان ففي المختلف(2) احتجّ الشيخ رحمه اللّه بوجهين:

الأوّل: رواية عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السّلام قال: سألته عن رجل امتخط فصار الدم قطعا فأصاب إناءه، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال: «إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئا بيّنا فلا تتوضّأ منه»(3).

الثاني: أنّ وجوب التحرّز عن ذلك مشقّة عظيمة و ضرر كثير فيسقط، لقوله تعالى:

مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (4) .

و قد يقال: إنّ دلالة الرواية مبنيّة على إرادة السائل إصابة الماء من الإناء تسمية باسم المحلّ، لأنّ إرادة خصوص الظرف لا يناسب السؤال.

و لا يخفى بعده لكونه مجازا بلا قرينة واضحة، و لا يلائمه قوله عليه السّلام: «في الماء» لكونه على التوجيه المذكور في موضع الإضمار، مع توجّه المنع إلى ابتناء دلالتها على ذلك، لجواز تقريرها بأنّ السؤال و إن كان لا قضاء له بإصابة الدم للماء غير أنّ الجواب يشمل بعمومه ما هو المقصود بالاستدلال في وجه، أو هو مختصّ بالمقصود في آخر.

أمّا على ما في بعض النسخ من نصب «شيء»، فلعود الضمير في الفعل الناقص إلى «الدم» بنفسه، أو بوصف كونه مصيبا للإناء، و كون الجملة المتعقّبة له صفة للشيء و الظرف متعلّقا بها، فيكون المعنى: إن لم يكن الدم أو ما أصاب الإناء شيئا يستبين في الماء فلا بأس، و هذا كما ترى يعمّ ما لو لم يكن فيه شيء أصلا، أو كان و لم يكن مستبينا فيه، بناء على رجوع النفي إلى كلّ من الوصف و الموصوف، فثبت به المطلوب أيضا.

و لكنّ الحمل عليه لعلّه ليس على ما ينبغي؛ لعدم كون إفادة الحكم لصورة انتفاء الدم بالمرّة من شأن السائل و لا المسئول، مضافا إلى أنّ النفي و الإثبات يرجعان في الكلام إلى القيد، و كما أنّ الإثبات في الفقرة الثانية من الرواية يدور على القيد فكذلك

ص: 232


1- الاستبصار 23:1.
2- مختلف الشيعة 182:1.
3- الوسائل 150:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 1299/412:1.
4- الحجّ: 78.

في النفي، فيكون حاصل معنى الفقرة الاولى: إن كان ما أصاب الإناء شيئا غير مستبين في الماء فلا بأس، و هذا عين المطلوب.

و أمّا على ما في أكثر النسخ - على ما وجدناه في الكافي و التهذيب و الاستبصار - من رفع «شيء» فيكون «شيء» اسما للفعل الناقص، و خبره الجملة المستعقبة للظرف الّذي هو متعلّق بها، أو الظرف و الجملة صفة للشيء، فيكون المعنى - بناء على رجوع النفي إلى الخبر أو إلى الصفة -: إن كان شيء غير مستبين في الماء فلا بأس، أو إن كان شيء غير مستبين حاصلا في الماء، أي إن حصل في الماء شيء غير مستبين فلا بأس، و هذا أيضا عين المطلوب.

و بما قرّرناه يندفع ما أورد عليه غير واحد بأنّه لا يدلّ على إصابة الدم للماء الّتي هي محلّ الكلام، قال العلاّمة في المختلف: «و الجواب أنّه غير دالّ على محلّ النزاع، لأنّه ليس في الرواية دلالة على أنّ الدم أصاب الماء، و لا يلزم من إصابته الإناء إصابته للماء، و إن كان يفهم منه ذلك لكن دلالة المفهوم ضعيفة»(1).

و قد يجاب عنه - كما في المختلف أيضا -: بأنّه معارض برواية عليّ بن جعفر - في الصحيح - عن أخيه موسى عليه السّلام قال: سألته عن رجل رعف و هو يتوضّأ، فيقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: «لا».(2)

و هو كما ترى بمكان من الوهن، فإنّ الفرق بين القطرة و ما لا يدركه الطرف المفسّر في كلام الشيخ برءوس الإبر كما بين السماء و الأرض، فهي معارضة بما ليس من محلّ النزاع في شيء.

و دون هذا الجواب ما قيل أيضا: من أنّ عدم استبانة الدم في الماء لا يقضي بلوغ قطع الدم في الصغر إلى حدّ رءوس الإبر، فإنّه قد لا يستبين في الماء و هو أعظم ممّا ذكر، و وجهه: أنّ ذلك مذكور في كلام الشيخ من باب المثال لا من باب الانحصار، و إلاّ فمناط كلامه إنّما هو عدم الاستبانة كائنا ما كان.

ص: 233


1- مختلف الشيعة 182:1.
2- الوسائل 150:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 1299/412:1.

و أدون من الجميع ما عن الذخيرة من: «أنّ مورد الرواية دم الأنف، فالتعميم لا يخلو عن إشكال، و أشكل منه إلحاقه في المبسوط كلّ ما لا يستبين»(1)، و وجهه: أنّ المناط عند القائلين بانفعال القليل بالملاقاة واحد، و هو مباشرة وصف النجاسة الّتي هي حاصلة في الجميع، و لذا يدّعي إجماعهم المركّب على التعميم في أصل المسألة.

و الأولى في هدم الاستدلال بالرواية منع دلالة ما فيها من الجواب المفصّل بين الاستبانة و عدمها، بل هي عند التحقيق تقضي بما ذهب إليه المشهور من إطلاق القول بالانفعال، فإنّ «الاستبانة» لغة و عرفا ضدّ الخفاء، يقال: «استبان الأمر»، أي اتّضح و تبيّن و انكشف أي زال خفاؤه، و كما أنّ الشيء قد يخفى على الحسّ فلا يرى أو لا يسمع، فكذلك يخفى على الذهن فلا يدرك، يقال: «خفي الحقّ عليّ»، كما يقال: «خفي الهلال على بصري».

و قضيّة ذلك أن يكون التبيّن - على معنى زوال الخفاء - مقولا بالاشتراك على التبيّن في الحسّ و التبيّن في الذهن معا، و لذا لو حصل لك العلم بفسق أحد تقول: «قد خفي عليّ فسقه فتبيّن لي أنّه فاسق»، و لا يصحّ أن تقول: «ما تبيّن لي فسقه»، كما أنّه إذا رأيت الهلال تقول: «قد خفي على بصري الهلال فتبيّن»، و لا يصحّ أن تقول: «لم يتبيّن».

و قضيّة ذلك أن يكون الحكم المعلّق على الاستبانة بهذا المعنى، معلّقا عليها بالمعنى الأعمّ الّذي هو القدر المشترك بين النوعين، فيكون مفاد الرواية حينئذ إناطة حكم النجاسة المانعة عن الوضوء بزوال خفاء مباشرة الدم للماء، الّذي يتحقّق تارة عند البصر كما لو رأيناه فيه بعينه، و اخرى عند الذهن كما لو علمنا بوقوعه فيه و إن خفي على أبصارنا بعد الوقوع، فيكون المعنى - على نسخة النصب -: إن كان الّذي أصاب الإناء شيئا يخفى عليك كونه في الماء فلا بأس، و إن كان شيئا لا يخفى عليك كونه في الماء فلا يتوضّأ منه، و لا ريب أنّه إذا علمنا بوقوع قليل من الدم أو غيره و لو صغيرا بقدر رءوس الإبر في الماء، لصدق في حقّنا قضيّة القول بعدم خفاء كونه في الماء، و لم يصدق لو قلنا: أنّه شيء خفي علينا كونه في الماء.

ص: 234


1- ذخيرة المعاد: 125.

و على نسخة الرفع: إن كان شيء من الدم أو غيره خفي كونه في الماء فلا بأس به، و إن كان شيئا لا يخفى كونه في الماء فلا يتوضّأ منه، و لا ريب أنّ الرواية بكلّ من التقديرين واضحة الدلالة على أنّ إدراك مباشرة النجاسة بالحسّ أو الذهن موجب لترتّب النجاسة و أحكامها، و هو عين ما صار إليه المشهور، و لا شهادة لها بما صار إليه الشيخ، و محصّل مفادها - على ما أشرنا إليه غير مرّة - إفادة النجاسة و أحكامها منوطة بالعلم بالمباشرة و لو بتوسّط الحسّ، و يكون موردها كما يرشد إليه السؤال المصرّح بإصابة الدم للإناء صورة الاشتباه و الاحتمال ظنّا أو وهما أو شكّا، لصدق الخفاء المعلّق عليه عدم المنع على الجميع عرفا، و لا ريب أنّها ممّا يحسن معها السؤال، بل السؤال عن مثلها ممّا ينبعث عن التقوى و كمال الاعتناء بآثار الشرع و أحكامه، كما هو من دأب المحتاطين و ديدن المتّقين، لا سيّما الّذين لهم حظّ من العلم و الفقاهة في مسائل الدين.

فما أورد على القول بمنع دلالة الرواية إلاّ على إصابة الإناء، من أنّ ذلك غير لائق بعلوّ شأن السائل و هو عليّ بن جعفر؛ لكونه فقيها جليل القدر عظيم الشأن من أهل العلم و المعرفة، فكيف يسأل عن حكم إصابة النجاسة للإناء دون الماء، مع وضوحه و بداهة أنّ إصابة الإناء ممّا لا يعقل لها تأثير في المنع، ليس على ما ينبغي.

لا يقال: السؤال إنّما ينبعث عن الجهل، و من البعيد أن لا يكون عليّ بن جعفر عالما بحكم صورة الاشتباه، و ما قرّر لها من الأصل الّذي يرجع إليه معها، لأنّه لا يناسب ما فيه من الفقاهة و جلالة الشأن و علوّ المرتبة، لمنع اقتضاء كلّ ذلك ما ذكر من الاستبعاد، فإنّ البحر قد يشذّ منه القطرة، مع أنّ الفقاهة إنّما تحصل تدرّجا فلم لا يجوز كون الرواية صادرة في أوّل الأمر، أو أنّه علم الأصل بالاجتهاد و مع ذلك راعى السؤال أخذا بالأوثق، أو أنّ السؤال إنّما ورد تنبيها للغير على حكم المسألة ممّن خفي عليه الأمر.

و بما قرّرناه في دفع دلالة الرواية على ما صار إليه الشيخ، وقعنا في فراغ عن القدح في سندها، و الحكم عليه بالضعف من جهة الجهالة، فإنّ في طريقها محمّد ابن أحمد العلوي و هو مجهول حاله، غير منصوص في كلام علماء الرجال بمدح و لا قدح، حتّى يعارض بكون توثيقه مستفادا من تصحيح العلاّمة رواياته في المختلف و المنتهى،

ص: 235

سيّما هذه الرواية الّتي صحّحها العلاّمة في المختلف(1) بخصوصها.

و أمّا الوجه الثاني: ممّا احتجّ به الشيخ فمنعه واضح غاية الوضوح، و تفصيل القول عليه منع الصغرى أوّلا: - سواء أراد بالمشقّة العظيمة العسر و الحرج المنفيّين في الشريعة، أو ما فوق ذلك - و منع الكبرى ثانيا: فإنّ أقصى ما يترتّب على المشقّة ارتفاع الحكم التكليفي كما هو نتيجة الدليل المصرّح بها في متن الاستدلال المعبّر عنها بالعفو، و لا يلزم منه عدم انعقاد الحكم الوضعي و هو النجاسة و تحقّق الانفعال، كما أنّه ممّا لا يلزم منه ارتفاع الحكم الوضعي، كما ثبت نظيره في غير موضع من الشرعيّات كقليل الدم في لباس المصلّي أو بدنه، و مثله دم القروح و الجروح فيهما و نحو ذلك، و لا ريب أنّ المتنازع فيه هو الثاني دون الأوّل كما لا يخفى، فثبت إذن أنّ الأقوى ما صار إليه المشهور عملا بعموم الأخبار منطوقا و مفهوما، سيّما عموم التعليل الوارد في الكلب.

و منع ذلك - كما عن جماعة و يظهر من المحقّق السبزواري(2) أيضا - ليس بوجيه، فإنّ المستفاد من ملاحظة مجموع الروايات - خصوصا ما ورد من التعليل بالنجاسة - كون الحكم منوطا بنفس الوصف مع قطع النظر عن خصوصيّة موصوفه، و لا ريب أنّه يتحقّق مع الكثير و مع القليل أيضا في أيّ مرتبة من مراتبه، و التشكيك في مثل ذلك خروج عن جادّة الاستقامة و اجتهاد في مقابلة النصّ، و تبقى الرواية المتقدّمة بالمعنى الّذي فسّرناها به دليلا آخرا و مؤيّدة للدليل، فاحفظ هذا و اغتنم.

الجهة الرابعة: قد استفاض نقل الشهرة في عدم الفرق في انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة بين ورودها عليه، أو وروده عليها، أو تواردهما،
اشارة

كما لو سالا عن ميزابين و نحوهما فاختلطا، كما أنّه اشتهر المخالفة في ذلك عن السيّد المرتضى في الناصريّات لذهابه إلى الفرق بتخصيصه الانفعال بالماء الّذي يرد عليه النجاسة دون العكس، و هو محكيّ عن الشافعي من العامّة، و لكن العبارة المحكيّة عن السيّد غير دالّة على استقرار هذه المخالفة منه، لأنّه عند حكاية القول بعدم الفرق بين الورودين عن جدّه الناصر، قال في الناصريّات:

«قال الناصر: و لا فرق بين ورود الماء على النجاسة و ورود النجاسة على الماء.

ص: 236


1- مختلف الشيعة 182:1.
2- ذخيرة المعاد: 125.

قال السيّد: و هذه المسألة لا أعرف لها نصّا لأصحابنا و لا قولا صريحا، و الشافعي يفرّق بين ورود الماء عليها، و ورودها عليه فيعتبر القلّتين في ورود النجاسة على الماء، و لا يعتبر في ورود الماء على النجاسة، و خالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة، و الّذي يقوى في نفسي عاجلا إلى أن يقع التأمّل لذلك. صحّة ما ذهب إليه الشافعي؛ و الوجه فيه: إنّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة لأدّى ذلك إلى أنّ الثوب لا يطهّر من النجاسة إلاّ بإيراد كرّ من الماء عليه و ذلك يشقّ، فدلّ على أنّ الماء الوارد على النجاسة، لا يعتبر فيه القلّة و الكثرة كما يعتبر فيما يرد عليه النجاسة»(1).

و هذا كما ترى ممّا لا يقضي بأنّه أخذ ذلك مذهبا لنفسه على سبيل الإذعان، و لا على استقراره عليه لو فرض إذعانه به حين إنشاء تلك العبارة، و على أيّ حال فلم نقف من أصحابنا على من وافقه على ذلك عدا صاحب المدارك من المتأخّرين، في قوله - بعد ما رجّح في مسألة الانفعال خلاف مذهب العمّاني -: «لكن لا يخفى أنّه ليس في شيء من تلك الروايات دلالة على انفعال القليل بوروده على النجاسة، و لا على انفعاله بكلّ ما يرد عليه من النجاسات، و من ثمّ ذهب المرتضى رحمه اللّه في جواب المسائل الناصريّة إلى عدم نجاسة القليل بوروده على النجاسة و هو متّجه»(2) انتهى.

نعم، عن الحلّي في السرائر أنّه قال - بعد ما نقل العبارة المتقدّمة عن السيّد - قال:

«محمّد بن إدريس و ما قوي في نفس السيّد هو الصحيح، المستمرّ على أصل المذهب و فتاوي الأصحاب»(3) انتهى.

و ما أبعد بين كلامه رحمه اللّه و عبارة السيّد المتقدّمة حيث إنّ ظاهره الإجماع على الفرق المذكور، و من البعيد أن يكون مسألة إجماعيّة و لم يعرف السيّد فيها نصّا و لا قولا صريحا لأصحابنا، و هو أقدم منه و أعرف بفتاوي من سلف منهم و اصول مذهبهم، و لعلّه أراد بما نقله ما تحقّق متأخّرا عن عصر السيّد، أو ما تحقّق بين أهل عصره بالخصوص، و هو أيضا بمكان من المنع، حيث لم يوافقه أحد على ذلك النقل، و ربّما يمكن القول بأنّه وهم نشأ عن ملاحظة ما استقرّ عليه المذهب و اجتمعت عليه فتاوي الأصحاب، من أنّ الماء القليل الوارد

ص: 237


1- الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 136:1-137).
2- مدارك الأحكام 40:1.
3- السرائر 181:1.

على المتنجّس يفيد طهارة المحلّ بزعم أنّه ممّا لا يتأتّى إلاّ على فرض طهارة الماء.

و ربّما يحمل كلام السيّد فيما تقدّم على أن يكون مراده بعدم نجاسة الوارد عدم نجاسة العالي بالسافل، حتّى يكون لما ذكره ابن إدريس من أنّ فتاوي الأصحاب به وجه صحّة فيرتفع الخلاف في البين، و هو كما ترى في وضوح من البعد، و عن ظاهر الشهيد في الذكرى(1) أنّ كلامهما في الغسالة خاصّة، فلا مخالفة لهما في مسألة الورودين، و يقوى ذلك بملاحظة جملة من العبارات المحكيّة عنهما الظاهرة في موافقة المشهور.

فعن السيّد - في مسألة التطهير بالمستعمل في رفع الحدث -: «أنّه يجوز أن يجمع الإنسان وضوءه عن الحدث أو غسله من الجنابة في إناء نظيف و يتوضّأ به، و يغتسل به مرّة اخرى، بعد أن لا يكون في بدنه شيء من النجاسة، بناء على أنّ اعتبار نظافة الإناء و خلوّ البدن عن النجاسة إنّما هو لحفظ الماء الوارد عليهما عن الانفعال كما هو الظاهر، لا لأنّ غسالة النجس لا تصلح مطهّرة، و إن كانت طاهرة»(2).

و عن ابن إدريس في مواضع:

منها: ما حكي عن أوّل السرائر، من قوله: «و الماء المستعمل في تطهير الأعضاء و البدن الّذي لا نجاسة عليه إذا جمع في إناء نظيف كان طاهرا مطهّرا، سواء كان مستعملا في الطهارة الكبرى أو الصغرى على الصحيح من المذهب»(3) و التقريب فيه أيضا نظير ما تقدّم.

و منها: ما حكي أيضا في مسألة ماء الاستنجاء و ماء الاغتسال من الجنابة، من قوله: «متى انفصل و وقع على نجاسة ثمّ رجع إليه وجب إزالته»(4)، و هذا كما ترى كالصريح في موافقة المشهور في غير الغسالة.

و منها: ما حكي أيضا من أنّه ادّعى الإجماع و الأخبار على نجاسة غسالة الحمّام، بناء على أنّها في الغالب من المياه الواردة على النجاسة(5).

و قد يستظهر القول المبحوث عنه من الشيخين في المقنعة و المبسوط؛ لأنّ الأوّل - بعد ما حكم بطهارة ما يرجع من ماء الوضوء إلى بدن المتوضّي أو ثيابه - قال:

ص: 238


1- ذكرى الشيعة 84:1.
2- المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 138:1، المسألة السادسة).
3- السرائر 61:1 و 184 و 90.
4- السرائر 61:1 و 184 و 90.
5- السرائر 61:1 و 184 و 90.

«و كذلك ما يقع على الأرض الطاهرة من الماء الّذي يستنجى به ثمّ يرجع عليه لا يضرّه و لا ينجّس شيئا من ثيابه و بدنه، إلاّ أن يقع على نجاسة ظاهرة فيحملها في رجوعه، فيجب غسل ما أصابه منه»(1).

و الثاني قال: «لو كان على جسد المغتسل نجاسة أزالها ثمّ اغتسل، فإن خالف و اغتسل أوّلا ارتفع حدث الجنابة، و عليه أن يزيل النجاسة إن كانت لم تزل بالاغتسال»(2)، فإنّ حكمه بارتفاع حدث الجنابة مبنيّ على عدم انفعال الماء الوارد على النجاسة الّتي تكون في الجسد، و إلاّ لم يكن لما ذكره وجه، بناء على اشتراط الطهارة في ماء الغسل.

و اجيب عن الأوّل: باحتمال أن يكون مراد المفيد من حمل الماء النجاسة تنجّسه بها، كما في قوله عليه السّلام: «لم يحمل خبثا»(3)، لا حمله جزءا منها حتّى يكون إيجاب الغسل من جهة هذا الجزء لإصابته الثياب أو البدن، فلا ظهور لما ذكره في ما توهّم منه.

و عن الثاني: بحمل كلامه على الاغتسال فيما لا ينفعل من الماء لا مطلقا.

و كيف كان فلم نقف من أصحابنا على مصرّح بالقول المذكور على نحو يشمل محلّ النزاع، نعم عبارة المدارك - فيما تقدّم(4) - ظاهرة في الميل إليه، و دونها في الظهور كلام الحلّي المتقدّم(5)، و أمّا السيّد فقد عرفت أنّ كلامه غير ظاهر في اختياره مذهبا على جهة الاستقرار،

و على أيّ حال فالحقّ هو المشهور المنصور لوجوه.
الأوّل: ظاهر الخبر المستفيض «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» فإنّه بعموم مفهومه التابع لعموم منطوقه يشمل المقام و غيره،

الأوّل: ظاهر الخبر المستفيض «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(6) فإنّه بعموم مفهومه التابع لعموم منطوقه يشمل المقام و غيره،

من ورود النجاسة على الماء أو تواردهما معا، و الوجه في ذلك ما سبق الإشارة إليه من أنّ له عموما من جهات أربع: باعتبار لفظي «الماء» و «الشيء» فيشملان كلّ ماء و كلّ نجس، و باعتبار لفظ «الكرّ» بالنظر إلى الأحوال الطارئة له من الاجتماع و التفرقة، مع الاتّصال أو تساوي السطوح. و اختلافهما، تسنّما أو انحدارا، و باعتبار نسبة التنجيس إلى الشيء المنفيّ في المنطوق المثبت في

ص: 239


1- المقنعة: 47.
2- المبسوط 29:1.
3- مستدرك الوسائل 198:1، ب 9 من أحكام المياه ح 6 - عوالي اللآلي 76:1-6:2.
4- مدارك الأحكام 40:1.
5- السرائر 181:1.
6- الوسائل 158:1، ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1.

المفهوم، بالنظر إلى الأحوال اللاحقة بالمباشرة الّتي تستفاد من تلك النسبة من كونها حاصلة بورود الشيء على الماء، أو بورود الماء على الشيء، أو بورود كلّ على الآخر دفعة.

و لا ريب أنّ إطلاق تلك النسبة يشمل جميع تلك الأحوال فيتبعه الحكم منطوقا و مفهوما، لئلاّ يلزم الخطاب بما له ظاهر و إرادة خلافه، و ما ادّعي من القول المذكور لا يصار إليه إلاّ مع دليل دافع لذلك الإطلاق و ليس ثابتا لما ستعرف من ضعف المستند.

و ممّا قرّرناه تبيّن اندفاع ما اعترض عليه من منع شموله لمحلّ البحث، تعليلا بأنّ الدلالة تنشأ عن عموم «الشيء» المأخوذ في المفهوم، و هو بمكان من المنع لكونه نكرة في سياق الإثبات فلا يعمّ، كما تبيّن بطلان ما قيل في دفعه - بعد تسليم المنع المذكور - من أنّ الدلالة تنشأ من لفظ «الماء» و هو عامّ.

و الوجه فيهما: أنّ العامّ إنّما يشمل من الأفراد لما هو من سنخه بحسب المفهوم العرفي أو اللغوي، و لو من جهة الإطلاق المقابل للتقييد، و لا ريب أنّ كون كلّ فرد من أفراد النجاسة ممّا يوجب انفعال القليل لا يستلزم كونه كذلك في جميع الأحوال اللاحقة بالمباشرة؛ إذ ليست الأحوال من سنخ أفراد النجاسة، كما أنّ كون كلّ فرد من أفراد القليل ممّا ينفعل بالملاقاة لا يستلزم كونه كذلك بالقياس إلى جميع أحوال المباشرة، فلا بدّ من إحراز العموم من جهة اخرى ممّا يرجع إلى المباشرة، نظرا إلى أنّها الّتي تختلف بالأنواع المختلفة المعبّر عنها بالورودين و التوارد.

الثاني: إطلاق جملة من الروايات المتقدّمة

كرواية أبي بصير الواردة في النبيذ المتضمّنة لقوله عليه السّلام: «ما يبلّ منه الميل ينجّس حبّا من ماء»(1)، فإنّ ذكر «الحبّ» وارد من باب المثال، للقطع بعدم مدخليّة الخصوصيّة في الحكم، فهو في الحقيقة كناية عن الكثير الّذي يباشره النبيذ كائنا ما كان، و تحديده بما يبلّ منه الميل مبالغة في قوّة ما فيه من التأثير، حتّى أنّ أقلّ قليل منه ينجّس من الماء ما كان أكثر منه بمراتب، و لا ريب أنّ ذلك بإطلاقه يتناول محلّ البحث أيضا.

و رواية عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: عن الرجل يجد في إنائه فأرة، و قد توضّأ من ذلك الإناء مرارا، و غسل منه ثيابه و اغتسل منه، و قد كانت الفأرة

ص: 240


1- الوسائل 470:3 ب 38 من أبواب النجاسات ح 6 - الكافي 1/413:6.

منسلخة؟ فقال: «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه، ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء، فعليه أن يغسل ثيابه، و يغسل كلّما أصابه ذلك الماء، و يعيد الوضوء و الصلاة الحديث»(1) فإنّ ترك الاستفصال في موضع الاحتمال يفيد العموم في المقال، و لو لا عدم الفرق بين الورودين لكان اللازم تفصيلا آخر في اولى شقي التفصيل المذكور في الرواية، كما لا يخفى.

و رواية عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء حتّى يذهب عاديته، و يذهب سكره؟، فقال عليه السّلام: «لا و اللّه، و لا قطرة قطرت في حبّ إلاّ اهريق ذلك الحبّ»(2) فإنّ السؤال ظاهر بل صريح في ورود الماء و الجواب صريح في عكسه، فلو لا المراد إعطاء الحكم على الوجه الأعمّ لفاتت المطابقة بينهما، بل لك أن تقول: لا حاجة إلى توسيط ذلك، بناء على أنّ النفي المستفاد من قوله عليه السّلام: «لا»، راجع إلى فرض السؤال و يبقى ما بعده مخصوصا بصورة العكس، تعميما للحكم بالقياس إلى الصورتين معا و هو المطلوب.

و الثالث: جملة من الروايات أيضا صريحة أو ظاهرة كالصريحة في خصوص المسألة المبحوث عنها،

كموثّقة عبد اللّه بن يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «و إيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام، و فيها يجتمع غسالة اليهودي، و النصراني، و المجوسيّ، و الناصب لنا أهل البيت و هو شرّهم»(3)، فإنّ غسالة الحمّام تحصل غالبا بصبّ الماء على البدن لغسل أو تنظيف أو غير ذلك كما لا يخفى.

و منه رواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل المتضمّنة لقوله عليه السّلام: «لا تغتسل من البئر الّتي تجتمع فيها ماء الحمّام، فإنّه يسيل فيها ماء يغتسل به الجنب، و ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت»، الحديث(4)، و لكنّها إنّما تنطبق عليها لو قلنا بظهورها في الانفعال، و إلاّ فأقصاها الدلالة على أنّ الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر لا يرفع

ص: 241


1- التهذيب 41/418:1.
2- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر ح 5 - التهذيب 645/225:1.
3- الوسائل 220:1 ب 11 من أبواب الماء المضاف ح 5 - علل الشرائع: 292.
4- الوسائل 218:1 ب 11 من أبواب الماء المضاف ح 1 - التهذيب 1142/373:1.

الحدث، و لا يستعمل ثانيا في التطهير عن الحدث، كما يرشد إليه الجمع بين الناصب و الجنب و ولد الزناء مع عدم كونهما نجسين، و كون الجنب ممّن عليه نجاسة خارجيّة مجرّد احتمال لا ينبغي تنزيل الرواية عليه.

و موثّقة عمّار المتضمّنة لقوله: و عن الإبريق يكون فيه خمرا يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: «إذا غسل فلا بأس»(1)، و هي صريحة في ورود الماء دالّة بمفهومها على الانفعال في المتنازع نفسه.

و في معناها رواية الوسائل و قرب الإسناد، المتضمّنة للسؤال عن الشرب في الإناء يشرب منه الخمر قدحان عيدان أو باطية، المستعقب لقول الإمام عليه السّلام: «إذا غسل فلا بأس»(2).

و الرابع: إطلاق الإجماعات المحكيّة في المسألة على حدّ الاستفاضة.

منها: ما عن أمالي الصدوق: «من أنّه من دين الإماميّة الإقرار بأنّ الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر، و لا يفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة»(3)، لا يقال: إنّه لا يشمل جميع أنواع النجاسة؛ لأنّه غير قادح فيما نحن بصدده، مع إمكان إرجاعه إلى أكثر الأنواع نظرا إلى أنّ الغالب منها ما يرجع إلى ذي النفس كما لا يخفى على المتأمّل.

و منها: ما عن الغنية(4) من أنّه إن كان الماء الراكد قليلا، و مياه الآبار قليلا كان أو كثيرا تغيّر بالنجاسة أو لم يتغيّر فهو نجس بدليل إجماع الطائفة.

و منها: ما في المختلف(5) من أنّه اتّفق علماؤنا إلاّ ابن أبي عقيل على أنّ الماء القليل - و هو ما نقص عن الكرّ - ينجّس بملاقاة النجاسة له تغيّر بها أو لم يتغيّر.

و منها: ما عن السيوري(6) من أنّ تنجّس القليل من الراكد مذهب كافّة العلماء، إلاّ ابن أبي عقيل منّا و مالكا من الجمهور.

و منها: ما عن شرح المفاتيح للمحقّق البهبهاني: «أجمع علماؤنا على انفعال القليل

ص: 242


1- الوسائل 494:3 ب 51 من أبواب النجاسات ح 1 - التهذيب 830/283:1.
2- الوسائل 369:25 ب 30 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 5.
3- أمالي الصدوق - المجلس 73 - ص: 744.
4- الغنية: 46.
5- مختلف الشيعة 176:1.
6- التنقيح الرائع 39:1.

بالملاقاة سوى ابن أبي عقيل، و لعلّه خارج غير مضرّ لكونه معلوم النسب إلخ»(1).

و أمّا ما تقدّم في عبارة السيّد من الاحتجاج، فجوابه - بعد قصوره عن إفادة تمام المدّعى كما أشار إليه في المصابيح - على ما حكي - قائلا: «بأنّ غاية ما هناك قضاء الضرورة بطهارة الوارد على المحلّ المتنجّس إذا استعقب طهر المحلّ، فأمّا طهارة الوارد مطلقا و لو على النجس أو المتنجّس فيما عدا الغسلة المطهّرة فلا»(2) - منع الملازمة، لما سبق الإشارة إلى تحقيقه من أنّه لا مانع عن إفادة هذا الماء و لو مع الانفصال طهارة المحلّ بعد الانفصال.

فإن قلت: الفاقد للشيء لا يصلح لكونه معطيا له.

قلت: أوّلا أنّه منقوض بأحجار الاستنجاء، و ثانيا: منع كون الماء بنفسه علّة مستقلّة للطهارة، بل العلّة هو المجموع من وروده طاهرا على المحلّ مع انفصاله عنه بالعصر و نحوه، فالمطهّر حقيقة ورود الطاهر مع انفصاله، و لا يقدح فيه انفعاله بنفسه فيما بين الجزءين إذا دلّ عليه الشرع، فالالتزام به عند التحقيق إنّما هو من جهة الجمع بين القاعدتين: قاعدة انفعال القليل بالملاقاة، و قاعدة طهر المتنجّس بالقليل الوارد عليه، فإنّ كلاّ من القاعدتين ممّا قام به الدليل، و المفروض أنّ الأسباب الشرعيّة ليست كالعلل العقليّة حتّى تقاس بالعقول، بل هي امور تعبّديّة تتبع دليل التعبّد بها، فإذا قام الدليل عليه يجب الأخذ بها و إعمالها في موارد ذلك التعبّد.

و عن بعض المتأخّرين أنّه بعد ما وافق السيّد في المذهب المذكور احتجّ بأنّ أقصى ما دلّت عليه الأدلّة الدالّة على انفعال القليل هو انفعال ما وردت عليه النجاسة، فيتمسّك فيما عدا ذلك بمقتضى الأصل، و العمومات السالمة على المعارض.

و أنت بعد ما أحطت خبرا بما قرّرناه في دليل المختار تعرف ضعف ذلك، و أضعف منه ما عرفت عن الحلّي(3) من دعوى استمرار الفرق بين الورودين على فتاوي الأصحاب و اصول المذهب، فإنّه كما ترى ينافي إطلاق الإجماعات المتقدّمة، و كيف ذلك مع ما

ص: 243


1- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 81.
2- مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 48.
3- السرائر 181:1؛ تقدّم في الصفحة 248.

عرفت عن السيّد(1) من إنكاره وجود نصّ من الأصحاب و لا قول صريح لهم في ذلك.

المقام الثاني: في مستثنيات قاعدة الانفعال ممّا هو محلّ وفاق و ما هو محلّ خلاف،
و قبل الخوض فيها ينبغي الإشارة إلى دقيقة ينكشف بها بعض الفوائد و الغفلات،

و هي أنّك قد عرفت ممّا سبق - من أوّل المسألة إلى مقامنا هذا - أنّ قاعدة انفعال القليل بالملاقاة مطلقا، يقابلها أقوال حدثت فيما بين العلماء.

أحدها: قول العمّاني بعدم انفعاله مطلقا.

و ثانيها: قول السيّد بعدم انفعاله إذا كان واردا على النجاسة.

و ثالثها: عدم نجاسة الغسالة الحاصلة من النجس.

و رابعها: عدم سراية النجاسة من أسفل الماء إلى أعلاه و لو قليلا، و هذا قول إجماعي في الجملة على ما حكي، و لا ريب أنّ كلاّ من هذه الأقوال ناظر إلى جهة تطرأ القليل من غير الجهة الطارئة له بالنظر إلى قول آخر، فالقليل ممّا يطرؤه جهات متكثّرة نشأت من كلّ جهة قول، غير أنّ هذه الجهات قد تجامعه في بعض فروضه، و قد تفارق بعضها بعضا في البعض الآخر من الفروض،

[الأول القليل الوارد على النجاسة]
اشارة

و توضيح ذلك: أنّ القليل الوارد على النجاسة عاليا كان أو غير عال له صور.

منها: ما لو ورد على النجاسة و استعقب طهر المحلّ و انفصل عنه بعد وروده، فذلك الماء المنفصل حينئذ ممّا يلحقه حكم الطهارة قبالا للحكم عليه بالنجاسة من جهات، بحسب الأقوال الناشئة عن تلك الجهات، للزومه أن يقول بطهارته العماني لما يراه من عدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة في جميع أحواله، و أصحاب القول بطهارة الغسالة لكونه من أفرادها، و السيّد لكونه من أفراد الماء الوارد على النجاسة.

و منها: ما لو ورد على النجاسة من غير أن يستعقب طهارة المحلّ، انفصل عنه أو لم ينفصل مستعليا كان أو غيره، و هذا ممّا يتمشّى فيه قولا العماني و السيّد، فما سبق إلى بعض الأوهام من أنّ القول بالفرق بين الورودين مبنيّ على القول بطهارة الغسالة،

ص: 244


1- الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 136:1-137).

ليس على ما ينبغي.

و منها: ما لو ورد عليها مستعليا، و هذا ممّا يجري فيه قول العماني و قول السيّد و القول بعدم سراية النجاسة من الأسفل، فما سبق إلى بعض الأوهام من أنّ طهارة المستعلي مبنيّة على الفرق بين الورودين غفلة، مبناها عدم مراعاة حيثيّات المسألة فإنّها ممّا تختلف باختلافها العنوانات، و اجتماع حيثيّة مع حيثيّة اخرى في موضوع واحد لا يوجب وحدة المسألة بعد ما تعدّد الموضوع بتعدّدهما، و لذا ترى أنّ إحدى الحيثيّتين تفارق الحيثيّة الاخرى، فينعقد بها مسألة لا يدخل فيها مسألة اخرى، و يمتاز الحيثيّة الاخرى بانعقاد الإجماع على الحكم معها، مع الخلاف فيه بالقياس إلى الحيثيّة الاولى.

فكون الماء المفروض من حيث إنّه مستعل غير منفعل بما ورد عليه من النجاسة، ممّا لا مدخليّة فيه، لكونه غير منفعل من حيث إنّه وارد عليها، غاية الأمر كونهما متصادقين في مورد واحد، و هو ليس من اتّحاد المسألتين في شيء، و لذا ترى أنّه من حيث الورود قد يطرؤه أحوال يجري على الجميع الحكم بعدم الانفعال عند أهل القول بالفرق بين الورودين، و هي حالة اللقاء - أي حدوثه - و حالة بقائه متّصلا بها إلى مدّة، و حالة انفصاله المستتبع لزوال وصف العلوّ عنه، فإنّ قضيّة إطلاق القول بعدم انفعال الوارد و دليله أيضا لو تمّ تشمل جميع تلك الأحوال، بخلاف القول بعدم نجاسة العالي، فإنّ ظاهره كونه كذلك ما دام وصف العلوّ باقيا، و أمّا إذا زال عنه الوصف - سواء بقي على كونه ملاقيا لها أو انفصل عنها جزء فجزء - فيندرج في عنوان الغير المستعلي الملاقي للنجاسة، و هو كما ترى خروج عن الموضوع، و معه لا يعقل لحوق الحكم به لكون القضيّة بالقياس إلى الوصف الزائل من باب المشروطة.

فمسألة عدم انفعال المستعلي مفروضة في العالي بوصف كونه عاليا، و أظهر أفراده ما لو جعل الماء في انبوبة متّصل رأسها بنجاسة بحيث أوجب اتّصالها بها اتّصال الماء من الجانب التحتاني بها، و هذا مع نظائره ممّا يندرج تحت مفهوم المستعلي ممّا يعدّ من مستثنيات قاعدة الانفعال، و يستفاد من غير واحد ثبوت هذا الاستثناء، بل ظاهرهم فيما وجدناه من كلماتهم في الفروع الّتي منها ما سبق الإشارة إليه في فروع الكرّ الاتّفاق

ص: 245

عليه، و في كلام غير واحد منهم صاحب الحدائق(1) في فروع الكرّ التعليل له بعدم تعقّل سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى، و حكى ذلك عن الشهيد في الروض(2).

و لا يخفى ما فيه، فإنّ الأحكام الشرعيّة التعبّديّة - و لا سيّما أحكام الطهارة و النجاسة - لا تقاس بالعقول، فقصور العقل عن إدراك السراية من الأسفل لا يوجب الحكم عليها بالعدم، بعد ما كان مقتضى الأدلّة النقليّة من العمومات و الإطلاقات هو السراية؛ ضرورة جريان قاعدة الانفعال في المفروض أيضا، مع أنّ السراية الّتي لا تعقل هنا إن اريد بها سراية عين النجاسة الحاصلة بتفرّق أجزائها في أجزاء الماء و امتزاجها معها.

ففيه: أنّه منقوض بالمتساوي السطوح من القليل الّذي يقع فيه من النجاسات ما لا تتفرّق أجزاؤه مطلقا أو في الجملة، فقضيّة ما ذكر من الاستحالة أن لا يحكم فيه بالانفعال، لأنّ مبناها على عدم سراية العين و هو حاصل في الفرض، فينبغي من أجل ذلك أن يفصّل في مسألة انفعال القليل بملاقاة النجاسة بين ما كان النجاسة الواقعة فيه ممّا له أجزاء قابلة للتفرّق و السراية فيحكم بالانفعال، و بين غيره و هو كما ترى.

و إن اريد بها سراية أثر النجاسة، فأيّ استحالة في سراية الأثر من الأسفل إلى الأعلى، و أيّ شيء قضى لكم بها في غير مختلف السطوح، و النجاسة لا تباشره إلاّ في جزء منه و هو لا يقضي بها هنا و لا يجري في المقام، و هل هو إلاّ تعبّد من الشارع، أو لأنّ الأثر يسري من جزء إلى جزء آخر بواسطة ما بينهما من الاتّصال، و أنّ الجزء الملاقي لعين النجاسة ينفعل بها و يوجب انفعال ما اتّصل به من الجزء الغير الملاقي لها و هكذا أتى آخر الأجزاء، بناء على أنّ انفعال القليل لا يفرّق فيه بين استناده إلى ملاقاة النجس و ملاقاة المتنجّس، بمعنى أنّ ملاقاة المتنجّس أيضا توجب انفعال الملاقي له كملاقاة النجس، و أيّ عقل ينكر إمكان جريان الأوّل في مفروض المسألة، كما أنّه أيّ عقل يقضي باستحالة جريان الثاني فيه، مع أنّ الواسطة في الانفعال و هو مجرّد الاتّصال متحقّقة معه جزما.

فالحقّ أنّ الحكم تعبّدي و مستنده الإجماع لمن حصّل له ذلك، أو منقوله لمن يراه حجّة، و قد استفاض من علمائنا الأعلام نقله، و منهم ثاني الشهيدين في روضه(3)- على

ص: 246


1- الحدائق الناضرة 242:1.
2- روض الجنان: 136.
3- روض الجنان: 136.

ما حكي - و تصدّى لنقله صاحب الحدائق(1) أيضا في غير موضع يظهر للمتتبّع، و السيّد صاحب المصابيح(2) في عبارة محكيّة منه، و صرّح به صاحب المدارك(3) في مسألة عدم اشتراط تساوي السطوح في عدم انفعال الكرّ، ردّا على المحقّق الثاني في احتجاجه بما تقدّم في بحث الكرّ على عدم تقوّي الأعلى بالأسفل، و قد حكي(4) ذلك عن صاحب المقابس(5) من تلامذة السيّد المتقدّم ذكره، و له في مصابيحه عبارة عثرنا على حكايته و لا بأس بأن نذكرها لتضمّنها تحقيقا و بسطا.

فإنّه قال: «لا ينجّس المستعلي من السائل عن نبع و غيره، و المراد به ما فوق الملاقي للنجاسة أو المتنجّس بغير هذه الملاقاة، لما تقدّم من عدم الفرق في الملاقي بين الوارد و المورود عليه كما هو المشهور، و الحكم بطهارة المستعلي بهذا المعنى مجمع عليه، و قد حكى جماعة من الأصحاب، منهم الشهيد في الروض(6)، و سبطه في المدارك(7) الإجماع على عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى، و المراد نفي السراية في السائل خاصّة، فلو استقرّ نجس الأعلى إلاّ على القول بالفرق بين الورودين، فالمستعلي على هذا القول طاهر مطلقا، سواء في ذلك الملاقي للنجاسة و غيره، و لا فرق في طهارة المستعلي من السائل بين النابع و غيره، و إن كان الحكم في الأوّل أظهر لثبوت العصمة فيه باعتبار الجريان و الاستعلاء معا، بخلاف الثاني فإنّ المانع من انفعاله هو الثاني خاصّة، و على قول العلاّمة باشتراط الكرّيّة في الجاري فالمانع عن الانفعال هو الاستعلاء مطلقا، و قد صرّح غير واحد من الأصحاب في مسألة تغيّر الجاري و الكثير باختصاص المتغيّر بالتنجيس إذا اختلف سطوح الماء و كان المتغيّر هو الأسفل، و هذا يقتضي طهارة المستعلي عن نبع و غيره.

ص: 247


1- الحدائق الناضرة 243:1 حيث قال: «لأنّ الأعلى لا تسري إليه النجاسة إجماعا» و أيضا 242:1 حيث قال: «و أمّا الأعلى فظاهر كلامهم، الاتّفاق على عدم نجاسته؛ لعدم تعقّل سريان النجاسة إلى الأعلى».
2- مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 54.
3- مدارك الأحكام 45:1 حيث قال: «مع أنّ الإجماع منعقد على أنّ النجاسة لا تسري إلى الأعلى مطلقا».
4- و الحاكي هو الشيخ الأنصاري قدّس سرّه في كتاب الطهارة 116:1.
5- مقابس الأنوار: 79.
6- روض الجنان: 136.
7- مدارك الأحكام 45:1.

و قال العلاّمة رحمه اللّه في المنتهى: «لا فرق بين الأنهار الكبار و الصغار، نعم الأقرب اشتراط الكرّيّة لانفعال الناقص عنها مطلقا، و لو كان القليل يجري على أرض منحدرة كان ما فوق النجاسة طاهرا»(1)، و قال في التذكرة: «لو كان الجاري أقلّ من الكرّ نجس بالملاقاة الملاقي و ما تحته»(2)، و قال الشهيد في الدروس: «و لو كان الجاري لا عن مادّة و لاقته النجاسة لم ينجّس ما فوقها مطلقا»(3)، و قال في البيان: «و لو كان الجاري بلا مادّة نجس بالملاقاة إذا نقص عن الكرّ، و لا ينجّس به ما فوق النجاسة»(4).

و قال ابن فهد في الموجز: «و لو كان لا عن مادّة كثيرا لم ينجّس بالملاقاة مطلقا، و قليلا ينفعل السافل خاصّة»(5)، و قال المحقّق الكركي في حواشي الإرشاد: «أنّ الجاري هو النابع من الأرض دون ما جرى فإنّه واقف، و إن لم ينجّس العالي منه بنجاسة السافل إذا اختلف السطوح»(6)، و هذه العبارات صريحة في طهارة المستعلي من السائل من حيث هو كذلك، جاريا كان أو راكدا، سواء قلنا بنجاسة الماء الوارد على النجاسة أو لم نقل»(7) انتهى.

أقول: ما استظهره رحمه اللّه من عموم الحكم بالقياس إلى السائل عن مادّة و السائل لا عن مادّة في محلّه، بل و إطلاق بعض هذه العبارات بل و صريح بعضها يقضي بعدم الفرق في ذلك بين ما لو كان العالي بنفسه كرّا أو عاليا في كرّ أو في قليل.

و يبقى الكلام مع السيّد المتقدّم رحمه اللّه في شيء، حيث إنّه خصّ الحكم بما إذا كان العالي سائلا، فإنّه غير معلوم الوجه، و لعلّه اقتصار على القدر المتيقّن من معقد الإجماع المخرج عن القاعدة، أو مستفاد من كون المسألة في فتاوي الأصحاب مفروضة في خصوص الجاري بالمعنى الأعمّ من النابع و السائل لا عن نبع كما يرشد إليه الكلمات السابقة، أو من أنّ إجماعات المسألة قد نقلت في الجاري بالمعنى الأخصّ، أو في مسألة اختلاف سطوح الكثير الّذي لا يتأتّى فرضه إلاّ مع السيلان، و على كلّ تقدير فهو

ص: 248


1- المنتهى 28:1.
2- تذكرة الفقهاء 17:1.
3- الدروس الشرعيّة 911:1.
4- البيان: 98.
5- الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة 411:26).
6- حاشية الإرشاد - للمحقّق الكركي - (مخطوط) الورقة: 15.
7- مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 54.

إغماض عن إطلاق العبارة في منقول الإجماع المتضمّنة لقولهم: «النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى»، و لا ريب أنّها تشمل الغير السائل أيضا، بل أظهر أفراده ما تقدّم الإشارة إليه من مسألة الانبوبة، و من المصرّح به في كلام غير واحد من الأساطين أنّ منقول الإجماع عند العاملين به تعبّدا باعتبار العبارة الحاكية له من جملة الأدلّة اللفظيّة، و لذا يسمّونه بالسنّة الإجماليّة، فيجري عليه جميع أحكام اللفظ من إطلاق و تقييد، و عموم و خصوص، و إجمال و بيان، فإذا كان عبارة قولهم: «النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى إجماعا»، أو أنّهم أجمعوا على عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى مطلقة شاملة لعال غير سائل، فأيّ شيء يقضي بخروج ذلك عن الحكم المثبت بذلك و هو يوجب تقييد تلك العبارة، و لا يصار إليه إلاّ بدليل.

و قاعدة الاقتصار على مورد اليقين لا مجال إليها في الظواهر، لأنّ الظاهر حيثما ثبت حجّيّة سنده قائم مقام اليقين و معه لا معنى للاقتصار، و خصوصيّة المثال في فتاوي الأصحاب لا تقضي باختصاص إجماعهم المنقول بعبارة مطلقة ظاهرة في العموم، كما أنّ خصوص المورد و السبب لا يوجب تخصيصا في العامّ و لا تقييدا في المطلق، و اعتبار كون كلّ ذلك قرينة كاشفة عن حقيقة مراد الناقلين للإجماع من تلك العبارة، أو مراد المفتين في المسألة بتلك العبارة ليس على ما ينبغي، لتوجّه المنع الواضح إلى صلوح ذلك للقرينيّة، و إلاّ لكان ينبغي أن يقال بمثله في غير محلّ المقال كعمومات اخر واردة في موارد خاصّة، و مجرّد الاحتمال لا يعارض الظهور، و يقوى هذا الإشكال لو كان مستند الحكم أو مستند الإجماع ما سبق الإشارة إلى ضعفه من عدم معقوليّة سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى، كما لا يخفى.

نعم، يمكن الاعتذار له قدّس سرّه بأنّ مستنده في حكم المسألة إجماع حصّله بنفسه، كما صرّح به في صدر العبارة المتقدّمة، و كان معقد ذلك الإجماع مجملا في نظره بالقياس إلى بعض الأفراد، فاضطرّ إلى الاقتصار على مورد اليقين، حيث إنّ الإجماع المحصّل ليس من مقولة الألفاظ ليعتبر فيه إطلاق أو عموم أو نحو ذلك، و لكنّه بعيد عن المتتبّع الناقد، و لعلّه عثر من الخارج على ما دلّه على ما ادّعاه فهو أبصر بحقيقة الحال، و لكن مجرّد ذلك لا يوجب لغيره الغير العاثر على ما عثر عليه رفع اليد عن ظهور منقول

ص: 249

الإجماع إن قال بالتعبّد به،

ثمّ إنّ هاهنا فروعا ينبغي الإشارة إليها.
أحدها: هل الحكم يثبت للعالي بجميع أجزائه حتّى الجزء الملاصق للنجس أو المتنجّس، أو يختصّ بما عدا ذلك الجزء؟

وجهان: من أنّ العالي يشمل بإطلاقه جميع الأجزاء حتّى الجزء الملاصق، و من أنّ الأسفل في مقابلة الأعلى المأخوذ في عبارة الإجماع ظاهر في الماء و هو محكوم عليه بالنجاسة - كما يفصح عنه التعبير بأنّ النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى - و هو الأظهر، كما تنبّه عليه السيّد المتقدّم في قوله المتقدّم، و المراد به ما فوق الملاقي للنجاسة أو المتنجّس بغير هذه الملاقاة، بناء على أنّ مراده بالملاقي للنجاسة أو المتنجّس هو الجزء الملاصق لهما من الأعلى، فإنّ المحكوم عليه بالطهارة هو ما فوق ذلك الجزء.

و أمّا هو فمحكوم عليه بالنجاسة مستدلاّ عليه بقوله: «لما تقدّم من عدم الفرق في الملاقي بين الوارد و المورود عليه» و لا يخفى ما في هذا التعليل من الوهن الواضح، فإنّ مستند انفعال ذلك الجزء لو كان هو قضيّة عدم الفرق بين الورودين لقضى بانفعال ما فوقه أيضا، لأنّ ما لا يفرّق فيه بين الورودين أعمّ من أن يكون واردا على النجس أو المتنجّس، بناء على عدم الفرق في انفعال القليل بين ملاقاة النجس أو المتنجّس كما سبق تحقيقه - و عليه السيّد كما يستفاد من قوله: «أو المتنجّس بغير هذه الملاقاة»، و إلاّ لم يكن فائدة في ذكره - فإذا فرض أنّ الوارد على المتنجّس ينجّس بملاقاته يلزم نجاسة ما فوق الجزء الملاقي أيضا، لوروده على المتنجّس، و لا فرق في الملاقاة بين الورودين، فلزم أنّ الحكم بالفرق بين الجزء الملاصق و ما فوقه تعبّدي أثبته الإجماع، و على هذا فالمفروض من مستثنيات قاعدة انفعال القليل بالمتنجّس خاصّة.

ثمّ يبقى الإشكال في تحديد ذلك الجزء استعلاما للطاهر عن المتنجّس، و لو قيل بأنّه أقلّ ما يصدق عليه الماء الملاصق للنجس أو المتنجّس لم يكن بعيدا، جمعا بين الوجهين المتقدّمين، فلا يكفي مجرّد النداوة و الرطوبة الظاهرة لو أمكن إدراكها منفصلة عمّا فوقها.

و ثانيها: ظاهر عباراتهم فتوى و نقلا للإجماع أن يكون المراد بالعلوّ و الاستعلاء الارتفاع بحسب المكان،

لا مجرّد الفوقيّة بأن يكون الماء واردا على النجس أو المتنجّس من مكان مرتفع موجب لارتفاع الماء المحكوم عليه بالطهارة على الجزء

ص: 250

الملاصق لهما في نظر الحسّ، و إلاّ لزمهم الحكم بالطهارة في غالب أفراد القليل و معظم أحواله، إذ الغالب من الملاقي و لو كان ساكنا و تساوى سطوحه اختصاص الملاقاة بما تحته إذا كان هو الوارد على النجس، فيكون سائر الأجزاء المتواصلة واقعة في طرف الفوق، فلو أنّ مجرّد هذه الفوقيّة توجب العصمة لقضى بما ذكرناه، و هو باطل جزما.

و ثالثها: قد عرفت في بحث الكرّ أنّ العلوّ قد يكون على جهة التسنيم و قد يكون على جهة الانحدار،

و تحتهما أفراد مختلفة في الظهور و الخفاء، و أخفى أفراد العالي ما لو كان من المنحدر ما توقّف سيلان الماء على الأرض على ارتفاع خفيّ لها بحيث يدقّ إدراكه على الحسّ، و عبارات الأصحاب و إن كانت مطلقة في الحكم على الأعلى بعدم انفعاله بالأسفل، غير أنّ انصراف ذلك الإطلاق إلى المفروض من المنحدر و ما يشبهه محلّ إشكال، كما أنّ المتيقّن من مورد الإجماع و صريح فتاوي الأصحاب ما لو كان عاليا على جهة التسنيم، و دونه على وجه يعدّ من مصاديق الظاهر صورة الانحدار الّذي يكون ظاهرا في الأنظار، و ما عداهما ممّا فرض سابقا يبقى مشكوكا في حاله من حيث خروجه عن عموم قاعدة الانفعال و عدمه، و لمّا كان دليل تلك القاعدة في عمومه ظاهر التناول لجميع أفراد المسألة الّتي منها المشكوك فيه فليحكم عليه بعدم الخروج عنها، عملا بالظاهر السليم عمّا يصلح للمعارضة، لعدم تبيّن التخصيص بالقياس إليه، غايته بقاء الاحتمال فيرتفع بالأصل، و ممّن تنبّه على ما قرّرناه شيخنا الاستاد مدّ ظلّه في شرحه على الشرائع بقوله: «و المتيقّن من الإجماع صورة التسنيم و ما يشبهه من التصريح، و للتأمّل في غير ذلك مجال، و التمسّك بالعموم أوضح، وفاقا لظاهر كشف الغطاء(1) لصدق وحدة الماء، فيدخل في عموم «ينجّسه»، و لذا لو كان الماء على هذه الهيئة كرّا لم ينفعل شيء منه بالملاقاة»(2) انتهى.

و ممّن صرّح بذلك أيضا الفاضل الكاظميني في شرحه للدروس - في عبارة محكيّة منه - حيث إنّه عند شرح قول المصنّف: «و لو كان الجاري لا عن مادّة» الخ، قال: «بقى شيء، و هو أنّ إطلاق عدم النجاسة فيما فوقها غير جيّد، إذ على تقدير تساوي السطوح و خصوصا مع كون حركة الماء ضعيفة ينجّس ما فوق النجاسة إذا

ص: 251


1- كشف الغطاء: 187.
2- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري قدّس سرّه - 116:1.

نقص المجموع عن الكرّ»(1) انتهى.

و أمّا ما قيل - في دفع ذلك -: من أنّ إطلاقات الأصحاب و إطلاق الإجماعات المنقولة شاملة لمحلّ الفرض، و هي و إن كانت معارضة لاطلاقاتهم في الانفعال القليل، و إطلاق ادّعاء بعضهم عدم الفرق بين أفراد القليل في حكم الانفعال بالملاقاة، إلاّ أنّ الترجيح معها لتأييدها بالاصول و العمومات، و لكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

و أنت بالتأمّل فيما قرّرناه تقدر على دفعه، مع ما في إبداء المعارضة بين إطلاقات مسألتنا هذه و إطلاقات مسألة الانفعال ما لا يخفى من خروجه عن السداد، فإنّ هذه الإطلاقات لو صحّت و تمّت دلالتها بحيث تشمل مفروض المسألة كانت بأنفسها قاطعة لاطلاقات الانفعال، لرجوع النسبة فيما بينهما إلى العموم و الخصوص المطلقتين كما لا يخفى، و معه لا يكون الحاجة ماسّة إلى التشبّث بالمرجّح الخارجي، مع ما في الترجيح بما ذكر ممّا لا يخفى، كما أشرنا إليه مرارا.

و لو سبق إلى الوهم شبهة أنّ النسبة بينهما عموم من وجه، بتقريب: أنّ هذه الإطلاقات تشمل المستعلي من المضاف، فتفترق من جهته، و إطلاقات انفعال القليل تشمل غير المستعلي من الماء فتفترق به، و تجتمعان في المستعلي من قليل الماء، لدفعها: ما سنبيّنه في الفرع الآتي.

فإن قلت: هذا لا يجدي نفعا في المقام لبقاء تلك النسبة من جهة اخرى، فإنّ اطلاقات المستعلي تشمل ما لو كان المستعلي من الماء كرّا و إطلاقات القليل تشمل غير المستعلي منه، فيتعارضان في المستعلي من الماء إذا كان قليلا.

قلت: يندفع ذلك بملاحظة أنّ أكثر إطلاقات الانفعال بملاقاة النجاسة تشمل الكرّ و ما دونه، فتكون إطلاقات المستعلي أخصّ منها مطلقا.

و رابعها: في إلحاق المضاف بالماء في عدم نجاسة أعلاه بأسفله قولان،

أحدهما: ما اختاره أو مال إليه بعض أفاضل السادة في مناهله(2) من عدم لحوقه به، ناسبا له إلى بعض فضلاء معاصريه، قائلا في عبارة محكيّة له: «فإذن احتمال سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى في المضاف في غاية القوّة، كما ذهب إليه بعض فضلاء

ص: 252


1- لم نعثر عليه.
2- مناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 218.

المعاصرين»، و مستنده على ما في شرح الشرائع للأستاد(1) دعوى شمول إطلاق فتاويهم و معاقد إجماعاتهم على انفعال المضاف بالملاقاة لما إذا كان المضاف عاليا.

و أورد عليه الاستاذ: «بأنّ ظاهرهم تنجّس المضاف مطلقا على نحو تنجّس المطلق القليل، بل الملاقاة في كلامهم غير معلوم الشمول لهذا الفرد، خصوصا عند من لا يرى اتّحاد العالي مع السافل»(2).

و ثانيهما: ما رجّحه الشيخ الاستاذ في شرحه(3)، وفاقا لصريح السيّدين في المدارك، و المصابيح، و الرسالة المنظومة(4)، قال في المدارك - في مسألة أنّ المضاف متى لاقته نجاسة نجس، قليله و كثيره -: «و لا تسري النجاسة مع اختلاف السطوح إلى الأعلى قطعا، تمسّكا بمقتضى الأصل السالم عن المعارض»(5).

و كان مراده قدّس سرّه بالأصل القاعدة المجمع عليها من عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى، خصوصا إذا استند لها إلى عدم المعقوليّة كما عرفته عن ثاني الشهيدين في الروض(6)، و إلاّ أشكل الحال في الجمع بين دعوى القطع و التمسّك بالأصل الّذي لا مجال له إلى إيراث القطع، و عن المصابيح أنّه قال: «و كما أنّ المستعلي من الماء لا ينجّس بملاقاة النجاسة لما تحته فكذا غيره من المائعات، و قولهم: «النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى» يتناول الماء و غيره، فلو صبّ من قارورة ماء الورد مثلا على يد الكافر اختصّ ما في يده بالتنجّس، و كان ما في الإناء و الخارج الغير الملاقي طاهرا إجماعا»(7).

و عنه أيضا - في مسألة نفي الفرق بين الورودين: - «اعلم أنّ محلّ البحث هو القدر المتّصل بالنجاسة دون ما فوقه، فإنّه طاهر إجماعا، لأنّ النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى قطعا، سواء في ذلك الماء و غيره»(8).

و في إطلاق هذا الكلام شيء يظهر وجهه بالتأمّل فيما قرّرناه سابقا، من مفارقة

ص: 253


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري قدّس سرّه - 301:1.
2- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري قدّس سرّه - 301:1.
3- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري قدّس سرّه - 301:1.
4- الدرّة النجفيّة: 6 حيث قال:. و ينجس القليل و الكثير منه و لا يشترط التغيير إن نجسا لاقى عدا ما قد علا على الملاقي باتّفاق من خلا
5- مدارك الأحكام 114:1.
6- روض الجنان: 136، تقدّم في الصفحة 257.
7- مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة 54 و 49.
8- مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة 54 و 49.

مسألة الورودين كثيرا عن مسألة العالي و السافل، و كلامه يقتضي المصادقة الدائمة و إلاّ لم يكن [وجه](1) لتخصيص محلّ البحث من مسألة الورودين بما يبدأ فيه الفرق بين القدر المتّصل بالنجاسة و ما فوقه، إلاّ أن يكون مراده بالفوقيّة ما يتحقّق مع تساوي السطوح أيضا، و قد عرفت القول فيه.

و كيف كان فالوجه في المسألة هو هذا، خلافا لما عرفت عن المناهل، عملا بإطلاق الإجماعات المنقولة، على أنّ النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى، فإنّه يشمل المقام و سائر المائعات ممّا لا يندرج تحت المطلق و لا المضاف الّذي يطلق عليه الماء مجازا جزما، بحيث يكون الاسترابة فيه دفعا للضرورة، فعلى ثبوت العمل به تمّ الدليل و استقرّت الحجّة، و ليس للمخالف على ما عرفت إلاّ إطلاقات الفتاوي، و الإجماعات المنعقدة على انفعال المضاف مطلقا، و دفعه بعد ملاحظة أنّ إطلاقاتهم فتوى و دعوى للإجماع في الفرق بين العالي و غيره أخصّ مطلقا من تلك الإطلاقات هيّن.

لا يقال: النسبة بينهما ترجع إلى عموم من وجه، لافتراق الاولى في الماء المستعلي، و افتراق الثانية في المضاف الغير المستعلي، فيجتمعان في المضاف المستعلي، و يلزمه الترجيح بالخارج.

لأنّا نقول: مع إمكان ترجيح الاولى بموافقتها الأصل، فيه منع واضح فإنّ ذلك إنّما يتّجه إذا لوحظت الثانية منفردة عن إطلاقات انفعال الماء القليل، و أمّا إذا لوحظتا معا و هما متوافقان في الحكم كان إطلاقات المستعلي أخصّ منهما مطلقا فتخصّصهما معا، أ لا ترى أنّه لو قال: «أكرم الرجال»، ثمّ قال: «أكرم النسوان»، ثمّ قال ثالثا: «لا تكرم الفسّاق»، كان ذلك الأخير مخصّصا للأوّلين معا إذا لوحظا منضمّين، و إن كان بينه و بين كلّ واحد منهما إذا لوحظ منفردا عموما من وجه كما لا يخفى.

و يستفاد من الشيخ الاستاذ في الشرح المشار إليه(2): دعوى الضرورة و السيرة فيه و في الماء، و كون مسألة عدم السراية مركوزة في أذهان المتشرّعة، و هو في الجملة ليس ببعيد خصوصا في الماء، ثمّ إنّه دام ظلّه خصّ الحكم فيه و في المطلق بما إذا كان العالي سائلا، و أمّا مع وقوف العالي على السافل من دون سيلان كما لو أدخل إبرة

ص: 254


1- أضفناها لاستقامة العبارة.
2- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري قدّس سرّه - 304:1.

نجسة في قارورة من ماء الورد فنفي الإشكال فيه عن انفعال جميعه، نافيا للخلاف عنه، و هو أيضا ليس ببعيد بالنظر إلى ما قرّرناه في الفرع الثاني، و إن كنّا رجّحنا خلافه في أصل المسألة ردّا على السيّد المتقدّم قدّس سرّه، فإنّ الظاهر أنّ ما ذكرناه ثمّة من الفرض داخل في عنوان متساوي السطوح من الوارد على النجاسة، فتأمّل.

و لكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه على كلّ حال، كما أنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي ترك مراعاته فيما لا يكون الاختلاف بين الأعلى و الأسفل على جهة التسنيم، و لا سيّما ما كان من السافل له حركة ضعيفة كما في بعض صور الانحدار، و اللّه العالم، هذا تمام الكلام في أوّل ما استثني من قاعدة انفعال القليل بالملاقاة.

و الثاني: ممّا استثنى منها وفاقا في الجملة ماء الاستنجاء،
اشارة

و المراد به ماء يغسل به موضع النجو، يقال: استنجيت، أي غسلت موضع النجو، و منه الاستنجاء أعني إزالة ما يخرج من النجو، كذا في المجمع(1)، و النجو - على ما فيه أيضا - الغائط، و منه الحديث لم ير للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله نجو(2) أي غائط، و ما بمعنى الحدث و منه أنجى أي أحدث، و لعلّه بهذا المعنى مخصوص بالغائط و البول أو يشملهما أيضا، و مع الغضّ عنه فظاهر التفسير الأوّل اختصاصه بالغائط، و عليه لا يتناول الاستنجاء إزالة البول و غسل موضعه، و لكن الّذي يظهر من الأخبار كونه للأعمّ، كما يشهد به صحيحة أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أبول، و أتوضّأ، و أنسى استنجائي، ثمّ أذكر بعد ما صلّيت قال: «اغسل ذكرك، و أعد صلاتك، و لا تعد وضوءك»(3).

و لا يبعد دعوى ثبوت الحقيقة الشرعيّة له في المعنى الأعمّ، كما يفصح عنه صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا صلاة إلاّ بطهور، و يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أمّا البول فإنّه لا بدّ من غسله»(4)، فإنّه لو لا للأعمّ لما حاجة إلى قوله عليه السّلام: «و أمّا البول الخ»، إذ احتمال التجوّز ممّا لا يعتنى به

ص: 255


1- مجمع البحرين؛ مادّة «نجو».
2- مجمع البحرين؛ مادّة «نجو».
3- الوسائل 294:1 ب 18 من أبواب نواقض الوضوء ح 3 - التهذيب 133/46:1، و فيهما: بإسناد الشيخ عن محمّد بن الحسن الصفار، عن أيّوب بن نوح عن صفوان بن يحيى قال: حدّثني عمرو بن أبي نصر إلخ.
4- التهذيب 144/49:1.

عند أهل اللسان، فإنّما أتى به عليه السّلام على عدم إرادة الأعمّ صونا له عن الوقوع في مخالفة الواقع لأجل فهمه الأعمّ كما هو دأب الحكيم فتأمّل.

و على فرض عدمه فهو في الأخبار حيثما تجرّد عن قرينة مخصوصة محمول على الأعمّ بقرينة فهم الأصحاب، كما في أخبار الباب على ما ستعرفه من أنّهم في ذهابهم إلى طهارة الاستنجاء، أو ثبوت العفو عنه يستندون إلى هذه الأخبار، مع تصريحهم في عناوين المسألة بالتعميم بالنسبة إلى الحدثين، و نقلوا إجماعاتهم على هذا المذكور صريحا في معاقدها كما سيأتي بيانها، بل ظاهر تعليلاتهم فيما يأتي من مسألة التعميم بالنسبة إلى المخرجين يقتضي كونه للأعمّ باعتبار الوضع، و لعلّه وضع شرعي كما أشرنا إليه،

و كيف كان فالبحث في ماء الاستنجاء مفروض عندهم في مسألتين:

المسألة الاولى: في أصل جواز مباشرته، و عدم وجوب غسل الثوب و البدن عنه من جهة الصلاة و غيرها.

و المسألة الثانية: في أنّ هذا الجواز هل هو من جهة العفو، حتّى لا ينافي نجاسته على قياس ما هو الحال في بعض أفراد الدم و غيره، أو من جهة الطهارة و عدم انفعاله بمباشرة النجاسة، و يظهر الفائدة في جواز استعماله في الشرب و نحوه، و اختصاص الجواز بحالة الصلاة لزوال مانعيّتها بدليل العفو، كما في قليل الدم، فتأمّل.

و لكن لمّا كان طريق الاستدلال على الحكمين واحدا على القول بعدم النجاسة، فنحن نورد البحث عنهما في سياق واحد حذرا عن الإطالة بلا طائلة.

و نقول: الحقّ خروج ماء الاستنجاء عن قاعدة انفعال القليل إذا جامع الشروط الآتية، سواء كان عن غائط أو بول، و الأصل في ذلك الروايات المستفيضة المعتضدة بالمستفيضة من الإجماعات، مع الشهرة العظيمة.

منها: صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يقع ثوبه على الماء الّذي استنجى به، أ ينجّس ذلك ثوبه؟ فقال: «لا»(1).

و منها: الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم المرويّ في التهذيب و الكافي عن محمّد بن النعمان الأحوال قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أخرج من الخلاء، فأستنجي

ص: 256


1- الوسائل 223:1 ب 13 من أبواب الماء المضاف ح 5 - التهذيب 228/86:1.

بالماء، فيقع ثوبي في ذلك الماء الّذي استنجيت به؟ فقال: «لا بأس به»(1) و عن الصدوق رواه باسناده عن محمّد بن نعمان و زاد في آخره «ليس عليك شيء»(2).

و منها: ما في الوسائل عن الصدوق في العلل، من مرسلة يونس بن عبد الرحمن عن رجل عن العيزار عن الأحول أنّه قال لأبي عبد اللّه عليه السّلام - في حديث - الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الّذي استنجى به؟ فقال: «لا بأس» فسكت، فقال: أو تدري و لم صار لا بأس به؟ فقلت: لا و اللّه جعلت فداك، فقال: «إنّ الماء أكثر من القذر»(3)، و تمام الحديث قد سبق في جملة الأخبار المتمسّك بها على عدم انفعال القليل، و ضعفه بالإرسال و جهالة العيزار ينجبر بموافقة الشهرة.

و منها: صحيحة محمّد بن النعمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت أستنجي، ثمّ يقع ثوبي فيه، و أنا جنب؟ فقال: «لا بأس به»(4) و كما يمكن أن يكون اعتبار الجنابة كناية عن وجود المني مع الحدث في المخرج، فكان الاستنجاء غسالة عنهما معا، فكذا يمكن كونه لتوهّم تأثير القذارة المعنويّة الحاصلة بالجنابة في نجاسة الماء المستنجى به، و ليس الأوّل أظهر من الثاني، لعدم الملازمة عقلا و لا عادة بين الجنابة و تنجّس موضع الاستنجاء بالمني، فيكون ذلك مجملا فلا يرد أنّه كما يدلّ على طهارة ماء الاستنجاء فكذلك يدلّ على طهارة الغسالة من المنيّ، فينبغي القول بهما معا لا بأحدهما فقط، فتأمّل.

و كيف كان فلا حاجة في تتميم الاستدلال إلى انضمام هذه الرواية، لما في سوابقها من الكفاية، و لا ريب أنّها على ما ادّعيناه واضحة الدلالة، و لا يقدح فيها كون السؤال مخصوصا بالثوب، لأنّ المنساق عرفا من أمثال هذه الأسئلة كون الجواب واردا عليها على وجه عامّ يشمل الثوب و غيره، على معنى ورود الحكم فيه بعنوان كلّي، و إن كان السبب الباعث على السؤال خاصّا، أو لأنّ الفرق بين وقوع الثوب و غيره ممّا لا يعقل إلاّ على فرض كون المراد الدلالة على العفو عن هذا النحو من المتنجّس، كما في بعض

ص: 257


1- الوسائل 221:1 ب 13 من أبواب الماء المضاف ح 1 - الكافي 5/13:3 - التهذيب 223/85:1.
2- الفقيه 162/41:1.
3- الوسائل 222:1 ب 13 من أبواب الماء المضاف ح 2 - علل الشرائع: 287/1.
4- الوسائل 222:1 ب 13 من أبواب الماء المضاف ح 4 - التهذيب 227/86:1.

أنواع الدم لا على عدم النجاسة؛ إذ لولاه كان الفرق بين المقامين في التنجّس بذلك المتنجّس و عدمه غير معقول، كما لا يخفى على المتأمّل، أو لأنّ التعميم إنّما يثبت بالإجماع على عدم الفرق كما نقله غير واحد.

نعم، ربّما يورد عليها بمعارضة رواية العيص بن القاسم، قال: سألته عن رجل أصابه قطرة من طشت فيه وضوء، فقال: «إن كان من بول أو قذر فليغسل ما أصابه»(1).

فاجيب عنها: بأنّها عامّة و روايات الباب خاصّة فيجب حملها عليها، مضافا إلى ما في سندها من الكلام القادح حيث إنّها لم توجد في الكتب الأربعة، و لم يظهر حال سندها فلعلّها لا تكون معوّلا عليها، كذا ذكره المحقّق الخوانساري في شرح الدروس(2).

أقول: ينبغي أن نشرح المقام ليتّضح به وجه المعارضة، و انطباق الجواب عليها و عدمه، و العمدة في ذلك بيان معنى «الوضوء» الوارد في السؤال، قال في المجمع:

«الوضوء بالفتح اسم الماء الّذي يتوضّأ به» - إلى أن قال -: «و قد يطلق الوضوء على الاستنجاء و غسل اليد و هو شائع فيهما، و من الأوّل حديث اليهودي و النصراني حيث قال فيه: و أنت تعلم أنّه يبول و لا يتوضّأ، أي لا يستنجي، و من الثاني حديثهما في المؤاكلة حيث قال: إذا أكل من طعامك و توضّأ فلا بأس، و المراد به غسل اليد الخ»(3).

و ظاهره أنّ هذين الأخيرين تفسير للوضوء بالضمّ و هو مصدر، و لا يبعد أن يقال:

إنّ الآلة من هذين المعنيين أيضا هو الوضوء بالفتح، بل لا محيص من حمله في الرواية عليه، بناء على الحمل عليهما إذ المعنى المصدري لا يلائمه السؤال كما لا يخفى.

فانقدح بجميع ما ذكر أنّه عبارة إمّا عن الماء الّذي يتوضّأ به، أو الماء الّذي يستنجى به، أو الماء الّذي يغسل به اليد، و يمكن إرادة مطلق الغسالة منه، و مقتضى عبارة المجمع - بناء على ما قرّر في محلّه - كونه حقيقة في الأوّل و مجازا في الأخيرين المصدّر بيانهما بلفظة «قد»، و لا ينبغي أن يكون مبنى المعارضة على المعنى الأوّل، لبعده عن السؤال و منافاته للجواب المفصّل بين البول و القذر و غيرهما منطوقا و مفهوما، فلا بدّ أن يكون مبناها على المعنى الثاني و هو إرادة الاستنجاء، و أمّا الجواب

ص: 258


1- الوسائل 215:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 14 - ذكرى الشيعة 84:1.
2- مشارق الشموس: 255.
3- مجمع البحرين؛ مادّة «نجو».

عنها فمبناها على المعنى الثالث، أو المعنى الأخير الّذي احتملناه، و عليه كيف ينطبق الجواب على السؤال، و كيف يقال: بأنّ الرواية عامّة و رواياتنا خاصّة، خصوصا إذا حمل «القذر» على إرادة الغائط منه دون مطلق النجاسة كما هو الظاهر.

فالتحقيق في الجواب أن يقال: إنّ لفظة «الوضوء» في متن الواقع إمّا حقيقة في جميع المعاني الأربعة، أو حقيقة في الأوّلين و مجاز في الأخيرين، أو حقيقة في الأوّل و الأخيرين أو أحدهما و مجاز في الثاني، أو حقيقة في الأوّل خاصّة و مجاز في البواقي، و لا يتمّ الاستدلال بشيء من الاحتمالات، لأنّ الحمل على المعنى الأوّل ممّا لا مجال إليه بقرينة ما قرّرناه، فهو متعذّر على جميع التقادير، بل قد عرفت أنّ مبناه على المعنى الثاني، و عليه يكون الدلالة على صحّة المعارضة متوقّفة على ارتكاب أمرين كلاهما على خلاف الأصل.

أحدهما: حمل الشرطيّة في الجواب على ما لا مفهوم لها، بأن يكون المراد بالشرطيّة بيان تحقّق الموضوع - دون التعليق على الشرط القاضي بانتفاء الحكم في جانب المفهوم لانتفاء شرطه - حيث لا موضوع له في جانب المفهوم كما لا يخفى، فيكون قوله عليه السّلام: «إن كان من بول أو قذر فليغسل ما أصابه» على حدّ قولك: «إن رزقت ولدا فاختنه، و إن رزقت مالا فاحمد اللّه، و إن قدم زيد من السفر فاستقبله»، و هو كما ترى مجاز لا يصار إليه إلاّ مع القرينة المعيّنة.

و ثانيهما: اعتبار التقييد في لفظة «قذر» بحملها على خصوص الغائط، و هو أيضا خلاف الظاهر لظهورها في مطلق النجاسة، ثمّ إنّه لو قلنا بكون لفظة «وضوء» حقيقة خاصّة في المعنى الأوّل لزم مجاز آخر فيه بحمله على المعنى الثاني، فيلزم من بناء الاستدلال عليه ارتكاب تقييد و مجازين، بخلاف ما لو حمل «الوضوء» على أحد الأخيرين فإنّه يستلزم مجازا واحدا، و لا ريب أنّه أولى و متعيّن، و لو قلنا بكونه حقيقة فيهما أيضا أو في أحدهما قوى وجه ضعف الحمل المذكور.

نعم على الحمل عليهما يلزم تخصيص بإخراج ماء الاستنجاء عنه كما هو مبنيّ عليه الجواب، و لكن لا يوجب ذلك قدحا في الحمل عليهما لكونه خلاف أصل واحد إن قلنا بالحقيقة فيهما أيضا، أو خلاف أصلين إن قلنا بالمجازيّة فيهما، و هو على كلّ تقدير يترجّح على حمله على المعنى الثاني، بل التخصيص إنّما يلزم لو حملناه على الثاني من الأخيرين خاصّة كما لا يخفى، فلم لا يحمل على الأوّل منهما ليكون خارجا

ص: 259

عن المسألة بالمرّة.

و يؤيّده الحكم على الوضوء بكونه في الطشت الّذي هو إناء معروف، فإنّ الغالب بين الناس إنّما هو غسل اليد في الطشت من البول و غيره من قذر و غيره، و أمّا الاستنجاء عليه ففي غاية الندرة.

و إن قلنا بكون الوضوء حقيقة في الاستنجاء أيضا و مجازا في الأخيرين كانت المسألة من دوران الأمر بين تقييد و مجاز، و تخصيص و مجاز، فإن لم نقل بترجيح الثاني لكون التخصيص بنفسه أرجح فلا أقلّ من عدم ترجيح الأوّل، و لازمه خروج الرواية مجملة لتكافؤ الاحتمالين، و معه لا استدلال.

و إن قلنا بكونه حقيقة في الجميع يكون المسألة من باب تعارض مجاز و تقييد معا في مقابلة التخصيص، و لا ريب أنّ الثاني متعيّن، ترجيحا لما هو راجح بنفسه و تقليلا لمخالفة الأصل، و لو حملناه على الأوّل من الأخيرين خاصّة لم يلزم مخالفة أصل أصلا كما لا يخفى، فلا سبيل إلى الحمل على المعنى الّذي عليه مبنى الاستدلال، و معه يبطل أصل الاستدلال.

هذا مع ما عرفت في الرواية من القدح في سندها، مضافا إلى أنّها لو تمّت دلالتها و استقام سندها لم تكن صالحة لمعارضة ما سبق من روايات المسألة، لكثرتها و صحّة أسانيد أكثرها، و اعتضادها بالعمل و الشهرة العظيمة، و الإجماعات المنقولة.

نعم، يبقى الكلام في شيئين:

أحدهما: تعميم الدليل بحيث يشمل استنجاء البول أيضا، و الأمر في ذلك هيّن بعد وضوح المدرك؛ لشمول الأخبار كلا المقامين، إمّا بأنفسها بناء على ما قرّرناه سابقا في شرح «الاستنجاء» ممّا يقتضي كون هذا اللفظ عامّا، كما يستفاد من جماعة من أساطين الأصحاب كما تعرفه بملاحظة عباراتهم الآتية بعضها، أو من جهة الخارج حيث لم نقف على مشكّك في ذلك، مع استنادهم في الحكم إلى الأخبار المتقدّمة، بل عباراتهم فيما نعلم مصرّحة بالتعميم، و ظاهرهم الاتّفاق على ذلك كما يشعر به عبارة المدارك: «استثنى الأصحاب من غسالة النجاسة ماء الاستنجاء من الحدثين»(1)، و نسب

ص: 260


1- مدارك الأحكام 123:1.

إلى كثير من الأصحاب التصريح بالعموم و هو كذلك.

ففي المنتهى: «الماء الّذي يغسل به الدبر و القبل يدخل تحت هذا الحكم، لعموم اسم الاستنجاء لهما»(1).

و عن المعتبر: «و يستوي ما يغسل به القبل و الدبر، لأنّه يطلق على كلّ واحد منهما لفظ الاستنجاء»(2).

و عن الذكرى: «و لا فرق بين المخرجين للشمول»(3)، و عن الدروس(4)، و جامع المقاصد(5): «و لا فرق بين المخرجين»، و عن مجمع الفائدة: «و الظاهر عدم الفرق بين المخرجين؛ لعموم الأدلّة من الإجماع و الأخبار»(6)، و عن المشارق: «و لا فرق بين المخرجين لإطلاق اللفظ»(7)، و عن الذخيرة: «و مقتضى النصّ و كلام الأصحاب عدم الفرق بين المخرجين»(8)، و في الحدائق: «و إطلاق هذه الأخبار يقتضي عدم الفرق بين المخرجين، لصدق الاستنجاء بالنسبة إلى كلّ منهما، و بذلك صرّح الأصحاب رضي اللّه عنهم أيضا»(9)، فإذن لا إشكال فيه.

و ثانيهما: أنّ خروج ماء الاستنجاء عن القاعدة هل هو لأجل كونه طاهرا، أو لثبوت العفو عنه؟ و هذه المسألة و إن فرضت في كلام جماعة من الأساطين كالمحقّق الخوانساري(10)، و صاحب الحدائق(11)، و صاحب المناهل(12) خلافيّة ذات قولين، أحدهما: القول بالطهارة حكاه صاحب المناهل في كتاب آخر منسوب إليه(13) عن الجعفريّة(14)، و جامع المقاصد(15)، و الروض(16)، و مجمع الفائدة(17)، و الذخيرة(18)،

ص: 261


1- منتهى المطلب 144:1.
2- المعتبر (الطبعة الحجريّة): 22.
3- ذكرى الشيعة 82:1.
4- الدروس الشرعيّة 122:1.
5- جامع المقاصد 129:1.
6- مجمع الفائدة و البرهان 289:1.
7- مشارق الشموس: 254.
8- ذخيرة المعاد: 143.
9- الحدائق الناضرة 469:1.
10- مشارق الشموس: 252.
11- الحدائق الناضرة 469:1.
12- المناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 140.
13- لم نعثر عليه.
14- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 86:1).
15- جامع المقاصد 129:1.
16- روض الجنان: 160.
17- مجمع الفائدة و البرهان 289:1.
18- ذخيرة المعاد: 144.

و المشارق و الرياض(1)، قائلا: و «حكي عن الخلاف(2)، و المبسوط(3)، و المقنعة(4)، و الجامع(5)، و السرائر(6) و الشرائع(7)، و المنتهى»(8).

ثمّ قال: «و بالجملة الظاهر مصير الأكثر إليه» انتهى.

و عليه المحقّق في الشرائع(9)، و المحقّق الخوانساري(10)، و صاحب المدارك(11)، و صاحب الحدائق(12).

و ثانيهما: القول بكونه معفوّا عنه حكاه في المناهل(13) و كتابه الآخر(14)، و لكنّا لم نقف على قول صريح به عدا ما يظهر من الشهيد في محكيّ الذكرى من الميل إليه حيث قال: «و في المعتبر ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة إنّما هو بالعفو، و يظهر الفائدة في استعماله و لعلّه أقرب لتيقن البراءة بغيره»(15).

و قضيّة هذه العبارة كون العفو قولا للمحقّق في المعتبر أيضا، و تبعه على نقل هذه العبارة المحقّق الشيخ عليّ في شرح القواعد - على ما حكي - قائلا فيه: «و اعلم أنّ قول المصنّف: «بأنّه طاهر» مقتضاه أنّه كغيره من المياه الطاهرة في ثبوت الطهارة، و نقل في المنتهى(16) على ذلك الإجماع، و قال في المعتبر(17): ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة و إنّما هو بالعفو، و يظهر الفائدة في استعماله [ثانيا]، قال في الذكرى: و لعلّه أقرب، لتيقّن البراءة بغيره»(18) انتهى.

و أصرح منهما في نسبة هذا القول إلى المعتبر كلام محكيّ عن ثاني الشهيدين في الروض قائلا: «و في المعتبر هو عفو، و قرّبه في الذكرى»(19) انتهى.

و أنكر عليهم هذه النسبة إلى المعتبر في المدارك قائلا: «بأنّه لم أقف على ما نقلوه في الكتاب المذكور، بل كلامه فيه كالصريح في الطهارة، فإنّه قال: و أمّا طهارة ماء

ص: 262


1- رياض المسائل 182:1.
2- الخلاف 179:1 المسألة 35.
3- المبسوط 16:1.
4- المقنعة: 47.
5- الجامع للشرائع: 26.
6- السرائر 184:1.
7- شرائع الإسلام 16:1.
8- منتهى المطلب 128:1.
9- شرائع الإسلام 16:1.
10- مشارق الشموس: 253.
11- مدارك الأحكام 124:1.
12- الحدائق الناضرة 469:1.
13- المناهل: 140.
14- لم نعثر عليه.
15- ذكرى الشيعة 83:1.
16- منتهى المطلب 128:1.
17- المعتبر: 22.
18- جامع المقاصد 129:1.
19- روض الجنان: 160.

الاستنجاء فهو مذهب الشيخين، و قال علم الهدى في المصباح: لا بأس بما ينتضح من ماء الاستنجاء على الثوب و البدن، و كلامه صريح في العفو و ليس بصريح في الطهارة، و يدلّ على الطهارة ما رواه الأحول، و نقل الروايتين المتقدّمين»(1)، يعني صحيحتي محمّد بن النعمان.

و تبعه في ذلك الإنكار و نقل العبارة المذكورة صاحب الحدائق أيضا، قال في الحدائق: «فنسبة القول بالطهارة إلى المعتبر - كما فهمه في المدارك، و جمع ممّن تأخّر عنه - كما ترى. و أعجب من ذلك نقل الشهيد في الذكرى - كما تقدّم في عبارته المنقولة - القول بالعفو عن المعتبر بتلك العبارة، و تبعه على ذلك الشيخ عليّ في شرح القواعد، و شيخنا الشهيد الثاني في الروض» - إلى أن قال -: «و الظاهر أنّ أصل السهو من شيخنا الشهيد في الذكرى، و تبعه من تبعه من غير ملاحظة لكتاب المعتبر، و عبارة المعتبر - كما مرّت بك - خالية عمّا ذكروه»(2).

و مراده بالعبارة المشار إليها ما تقدّم حكايته عن المدارك.

و قال صاحب المعالم: «و أجمل المحقّق كلامه في ذلك فهو محتمل للقولين، و ربّما كان احتمال القول بالطهارة فيه أظهر، و قد كثر في كلام المتأخّرين نسبة القول بالعفو إليه و لا وجه له، و العجب أنّ الشهيد في الذكرى حكى عنه أنّه قال: ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة و إنّما هو بالعفو، ثمّ قال الشهيد: و لعلّه أقرب لتيقّن البراءة بغيره(3)، و هذه الحكاية وهم ظاهر، فإنّ المحقّق حكى عن الشيخين صريحا القول بالطهارة، و إنّما ذكر هذا الكلام عند نقله عبارة علم الهدى»(4) انتهى.

و من الأصحاب - كالمحقّق الخوانساري في شرح الدروس - من صحّح هذه النسبة إلى المعتبر، و عقّبه بتوجيه العبارة المنقولة عن المعتبر في الذكرى و صحّحها على ما وجّهه، قائلا: «و إذ قد تقرّر هذا، ظهر أنّ ما نسبه المصنّف في الذكرى إلى المعتبر - كما ذكرنا -، و تبعه المحقّق الشيخ عليّ ره في شرح القواعد، و الشهيد الثاني في شرح الإرشاد صحيح، و مراد الذكرى من أنّ في المعتبر ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة،

ص: 263


1- مدارك الأحكام 125:1.
2- الحدائق الناضرة 472:1-473.
3- ذكرى الشيعة 83:1.
4- فقه المعالم 326:1.

أنّه ليس في الروايات لا في كلام الأصحاب، و هو كذلك كما قرّرناه»(1) انتهى.

و فيه ما فيه من ابتنائه إلى وهم فاسد سبق إليه، و إلجائه إلى تصديق الجماعة فيما نسبوه إلى المعتبر و سنزيّفه إن شاء اللّه.

فالإنصاف: أنّه لم يتحقّق عندنا ما شهد بصحّة هذه النسبة، و لم يثبت أنّ العفو ما يقول به في المعتبر، و العبارة المتكفّلة لبيان هذه النسبة قد عرفت أنّها غير ثابتة عن المعتبر، و هذا الكتاب و إن لم يحضرنا الآن لننظر في صحّة ما نسبوه و سقمه على ما ذكروه الجماعة المتقدّمة، لكنّ المظنون أنّ ما نقله الشهيد في الذكرى تقطيع عن العبارة الّتي سمعت نقلها عن صاحب المدارك، مبنيّ على الاشتباه و الإغماض عن دقّة النظر، و إلاّ فهذه العبارة لا توافق شيئا من هذه النسبة، و إن كانت هي أيضا ممّا اختلفت الأنظار في فهمها، و أنّها هل تدلّ على أنّ مذهب المحقّق هو الطهارة - كما صرّح به في المدارك(2)، و جعله أظهر الاحتمالين في المعالم(3) - أو على أنّ مذهبه العفو كما استظهره المحقّق الخوانساري في شرح الدروس(4).

و لأجله صدّق الشهيد و من تبعه فيما نسبوه إلى المعتبر حيث قال: «ثمّ كلامه هل هو صريح في الطهارة أم العفو؟» فالّذي يتراءى ظاهرا من قوله: «و يدلّ على الطهارة الخ» الأوّل، و لكن التأمّل يشهد بالثاني فيكون مراده بالطهارة العفو.

بيانه: أنّه أورد في الاستدلال رواية الأحول(5)، و ظاهر أنّه لا تفاوت بينها و بين عبارة المرتضى في المعنى، فحيث صرّح بأنّه ليس في عبارته تصريح بالطهارة فكيف يجوز أن يجعل الرواية دليلا عليها، و أمّا دليله الآخر من رواية عبد الكريم(6) فهو أيضا ليس تصريح في الطهارة، لأنّ عدم تنجيسه الثوب لا يستلزم طهارته، - إلى أن قال -:

و إذ قد تقرّر هذا، ظهر أنّ ما نسبه المصنّف في الذكرى إلى آخر ما نقلناه عنه سابقا»(7).

و قوله: «و أمّا دليله الآخر من رواية عبد الكريم» الخ إنّما ذكر ذلك لأنّه حينما نقل

ص: 264


1- مشارق الشموس: 253.
2- مدارك الأحكام 125:1.
3- فقه المعالم 326:1.
4- مشارق الشموس: 253.
5- الوسائل 222:1 ب 13 من أبواب الماء المضاف ح 2 - علل الشرائع 287:1.
6- الوسائل 223:1 ب 13 من أبواب الماء المضاف ح 5 - التهذيب 228/86:1.
7- مشارق الشموس: 253.

عن المعتبر ما نقله صاحب المدارك من العبارة المتقدّمة نسب إلى المحقّق في تلك العبارة أنّه في الاستدلال على الطهارة جمع بين رواية الأحول و رواية عبد الكريم، و أنت خبير بفساد ما فهمه مع تعليله، إذ لا تنافي بين ما نسبه إلى علم الهدى و جعله الرواية دليلا على الطهارة، و إن كانت العبارة الصادرة منه موافقة لعبارة الرواية، فإنّه لمّا كان بصدد ضبط ما ذهب إليه أصحابنا، و قالوا به صراحة أو ظهورا، فنسب إلى الشيخين الذهاب إلى الطهارة، و مقتضى التعبير بقوله: «فهو مذهب الشيخين» وقوع التصريح منهما بذلك، و كونه معلوما له من صريح كلامهما، بخلاف كلام علم الهدى المتضمّن لنفي البأس، فإنّه ليس بصريح في الطهارة لاحتمال أن يريد به نفي البأس عن المباشرة الغير المنافي للنجاسة، فيحكم على كلامه بأنّه ليس بصريح في الطهارة، بمعنى أنّه لا يدلّ على دعوى الطهارة دلالة صريحة، و معنى كونه صريحا في العفو أنّ القدر المتيقّن من مذهبه على وجه يصحّ إسناده إليه المعلوم من هذا الكلام كونه قائلا بالعفو لا محاله، لأنّه لا ينفكّ عن القول بالطهارة، فهو سواء كان قائلا بالطهارة أو لا قائل بالعفو على وجه ينبغي معه الجزم به.

و لا ريب أنّ عدم دلالة هذه العبارة في كلام السيّد على أنّ مذهبه المحقّق هو الطهارة على وجه الصراحة، لا ينافي دلالته عليها على وجه الظهور، فلا ينافي كونها في الرواية دليلا لنا على الطهارة، نظرا إلى أنّ مبنى دليليّة الأدلّة اللفظيّة على الصراحة تارة و الظهور اخرى، فإذا ثبت أنّها في الرواية تدلّ على الطهارة على وجه الظهور - كما هو الحقّ على ما سنبيّنه - انتهضت الرواية دليلا عليها، و صحّ إطلاق الدليل عليها من جهته في الاصطلاح، فهو مستظهر من رواية الأحوال الدلالة على الطهارة بتقريب ما سنقرّره ثمّ يقوى هذا الظهور بملاحظة رواية عبد الكريم، فلذا جمع بينهما في الاستدلال.

و ممّا يؤيّد هذا المعنى تعرّضه لحكم ماء الاستنجاء في الشرائع و النافع مصرّحا بالطهارة في الأوّل(1)، و ظاهرا فيه كلامه في الثاني(2)، حيث استثناه عمّا يزال به الخبث الّذي رجّح فيه القول بالتنجيس الّذي جعله أشهر القولين، نظرا إلى أنّ الاستثناء عن

ص: 265


1- شرائع الإسلام 16:1.
2- المختصر النافع: 44 حيث قال: «و في ما يزال به الخبث إذا لم تغيّره النجاسة قولان، أشبههما: التنجّس عدا ماء الاستنجاء».

الإثبات نفي، و نفي التنجيس في معنى إثبات الطهارة، و من هنا تبيّن إصابة صاحب المدارك فيما فهمه عن تلك العبارة، من أنّه قائل بالطهارة قولا ظاهرا كالصريح، و بطلان ما ذكره المحقّق الخوانساري و غيره من أنّه قائل بالعفو، كبطلان قوله: «و بهذا ظهر اندفاع ما أورده صاحب المدارك على المصنّف و تابعيه من أنّ هذه النسبة إلى المعتبر غلط، بل كلامه فيه كالصريح في الطهارة»(1).

و بطلان ما أورده صاحب الحدائق على صاحب المدارك بقوله: «و حينئذ فنسبة القول بالطهارة إلى المعتبر كما فهمه في المدارك و جمع ممّن تأخّر عنه كما ترى»(2).

و العجب عنه في الحدائق حيث إنّه اختلّ ذهنه في إدراك حقيقة المراد من عبارة المعتبر فرماها بالإجمال و حكم عليها بالاضطراب قائلا: «و أمّا كلام المعتبر في هذا الباب لا يخلو من إجمال بل اضطراب، و لهذا اختلفت في نقل مذهبه كلمة من تأخّر عنه من الأصحاب».

ثمّ أخذ بنقل عين العبارة فعقّبها بقوله: «و أنت خبير بأنّ مقتضى قوله: «و يدلّ على الطهارة الخ» بعد نقله القولين أوّلا هو اعتبار الطهارة الّتي هي أحد ذينك القولين و قوله في الدليل الثاني: «و لأنّ في التفصّي عنه عسرا فيسوغ(3) العفو للعسر» ظاهر في اختيار العفو الّذي هو القول الآخر أيضا، و أيضا ففي حكمه على كلام المرتضى رضى اللّه عنه بالصراحة في القول بالعفو - مع حكمه على رواية الأحول بالدلالة على الطهارة - نوع تدافع، فإنّ العبارة فيهما واحدة، إذ نفي البأس إن كان صريحا في العفو ففي الموضعين، و إن كان في الطهارة فكذلك، و حينئذ فنسبة القول بالطهارة إلى المعتبر»(4)، إلى آخر ما نقلناه.

و أنت خبير بما في هذه الكلمات السخيفة و الاستخراجات الواهية، إذ قد عرفت أنّه لا اضطراب في عبارة المعتبر، و لا إجمال أصلا، بل هي صريحة الدلالة في اختيار الطهارة، و لا تدافع بين الحكم على الرواية بالدلالة على الطهارة و على كلام السيّد بالصراحة في العفو، بعد ملاحظة ما قرّرناه من المعنى الواضح.

و لا ينافي قوله بالطهارة استنادا إلى الرواية استدلاله ثانيا بلزوم العسر المسوّغ عدمه العفو، إمّا لأنّ مراده بالعفو الطهارة توسّعا، كما استدلّ عليها به جماعة منهم ثاني

ص: 266


1- مشارق الشموس: 253.
2- الحدائق الناضرة 472:1.
3- و في الحدائق الموجود عندنا: «فشرّع العفو للعسر»
4- الحدائق الناضرة 471:1.

الشهيدين فيما يأتي بيانه، أو لأنّ ذلك تأييد الأوّل من حيث موافقته له في لازم مفاده و هو العفو الّذي لا ينفكّ عن الطهارة ظاهرا، أو أنّ الغرض بالتمسّك به إثبات بعض المطلب و إن كان من جهة الملزوم لا إثبات تمامه، أو إثبات ما هو مفاده ليصار إليه لو خرج الوجه الأوّل مردودا أو غير واضح الدلالة على الطهارة، حيث إنّ المصير إليه بعد قصور دليل الطهارة عن الدلالة ممّا لا محيص عنه.

و بالجملة: فنسبة القول بالعفو إلى المعتبر مستفادا من عبارته المتقدّمة ليس على ما ينبغي، و إن تصدّى لها جماعة من الأساطين، إذ الصارم قد ينبو و الجواد قد يكبو، بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو القول بصراحة المعتبر في اختيار الطهارة، فليس من أصحابنا من صرّح بالعفو، و صار إليه على سبيل الجزم و الإذعان، و لا الاطمئنان.

نعم، للعلاّمة في المنتهى كلام ربّما يدخل في الوهم مصيره إلى العفو دون الطهارة، و من هنا يظهر عن المحقّق الخوانساري في شرح الدروس نسبته إليه في الكتاب المذكور بنقل عبارته، فإنّه قال فيه: «عفي عن ماء الاستنجاء إذا سقط منه شيء على ثوبه أو بدنه، سواء رجع على الأرض الطاهرة أو لا، و صرّح الشيخان بطهارته»(1)و مراده بقوله: «سواء رجع على الأرض الطاهرة أو لا» بقرينة ما نذكره بعد ذلك أنّه سواء سقط على الأرض الطاهرة فرجع منها إلى الثوب أو البدن، أو سقط عليهما ابتداء.

و أنت خبير بأنّ ذلك أيضا وهم صرف منشؤه عدم المراجعة إلى فقرات كلامه المتأخّرة عن تلك العبارة، بل الّذي يقتضيه التدبّر و صحيح النظر أنّه أيضا قائل فيه بالطهارة، و أنّ تعبيره بالعفو مسامحة أو كناية عنها، و أنّ مراده بما نسبه إلى الشيخين الإتيان بموافق له في تلك المقالة، لا إبداء المخالفة بينه و بينهما، و الّذي يفصح عن ذلك امور عديدة، كلّ واحد منها قرينة واضحة على ما ادّعيناه، و شاهد على بما نسبناه إليه، و جعلنا العفو المصرّح به في كلامه عبارة عن الطهارة.

فمن جملة هذه الامور، قوله - بعد العبارة المذكورة بلا فاصلة -: «أمّا لو سقط و على الأرض نجاسة ثمّ رجع على الثوب أو البدن فهو نجس، سواء تغيّر أو لا»(2) فإنّ ذلك مع ضميمة ما سبق تفصيل لحكم ماء الاستنجاء بين ما لو رجع على الثوب و البدن بعد

ص: 267


1- مشارق الشموس: 252.
2- منتهى المطلب 143:1.

سقوطه على الأرض النجسة و بين ما لم يكن كذلك، و لمّا كان الأوّل محكوما عليه بالنجاسة، فلا بدّ و أن يكون الثاني - بقرينة المقابلة - محكوما عليه بالطهارة ليختلف القسمان المتقابلان في الحكم، و إنّما حكم بالنجاسة في الأوّل أخذا بالقدر المتيقّن ممّا خرج بالدليل عن قاعدة انفعال القليل الملاقي للنجاسة، أو لأنّ الظاهر من ماء الاستنجاء المحكوم عليه بالطهارة في الروايات ما لم يباشر نجاسة اخرى غير نجاسة الحدثين و المفروض ليس منه، و لذا جعلوا عدم ملاقاته نجاسة اخرى خارجة عن حقيقة الحدث المستنجى منه - كالدم مثلا - من جملة الشروط على ما سيأتي بيانه.

و منها: قوله - عقيب ما ذكر ثانيا -: «و كذا لو تغيّر أحد أوصافه من الاستنجاء»(1)فإنّه تشبيه للمتغيّر من ماء الاستنجاء بالاستنجاء بالقسم المحكوم عليه بالنجاسة، فيكون هو أيضا محكوما عليه بها، و هو ممّا حكم عليه بالعفو بمنزلة الاستثناء، فيكون المراد بالعفو المحكوم به هنا الطهارة، ليتغاير المستثنى مع المستثنى منه في الحكم.

و منها: قوله - بعد ما فرغ من الاستدلال على العفو، الّذي حكم به في الاستنجاء بروايتي الأحول و رواية عبد الكريم: - «و هكذا حكم الماء الّذي يتوضّأ به أو يغتسل به من الجنابة، أمّا عندنا فظاهر و أمّا عند الشيخ فلما رواه الشيخ في الصحيح عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل الجنب يغتسل، فينتضح من الأرض في إنائه؟ فقال:

«لا بأس مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2) و في الصحيح عن الفضيل أيضا»(3) الخ.

فإنّه تشبيه للماء المستعمل في الوضوء و الغسل بماء الاستنجاء، و من المعلوم لزوم مشاركة المشبّه للمشبّه به في الحكم، و لو لا المراد بالعفو المحكوم به على ماء الاستنجاء الطهارة خرج هذا التشبيه باطلا، لأنّ مذهبه في المستعمل في دفع الحدثين الأصغر و الأكبر إنّما هو كونه طاهرا و مطهّرا - كما حقّقه سابقا - خلافا للشيخ الّذي يراه طاهرا فقط، كما أشار إليه بقوله: «أمّا عندنا فظاهر» فإنّ ذلك إحالة لوجه المسألة إلى ما حقّقه سابقا في مسألتي الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر و المستعمل في رفع الحدث الأكبر، فإنّه حكم في الاولى بأنّه طاهر مطهّر إجماعا(4)، ثمّ ساق الكلام إلى نقل مذاهب العامّة في ذلك، و في الثانية - بعد ما أسند إلى الشيخين و ابن بابويه في

ص: 268


1- المنتهى 143:1 و 144 و 128.
2- الحجّ: 13.
3- المنتهى 143:1 و 144 و 128.
4- المنتهى 143:1 و 144 و 128.

قولهم: «بأنّه طاهر غير مطهّر»، و إلى العامّة مذاهبهم في الأوّل - قال: «و الّذي أذهب إليه أنّه طاهر مطهّر»(1)، ثمّ أخذ بتفصيل المسألة و الاستدلال عليها بالنسبة إلى الحكمين.

و منها: ما ذكره بعد الفراغ عن المسألة في مسألة الآنية من قوله: «الماء الّذي تغسل به الآنية لا يلحقه هذا الحكم» ثمّ أسند إلى الشيخ في الخلاف خلاف ذلك، ثمّ أخذ بالاستدلال على ما صار إليه بقوله:

«لنا: أنّه ماء قليل لاقى نجاسة فينفعل بها، و لا يتعدّى إليه الرخصة الّتي في الاستنجاء، لأنّه استعمال الماء الّذي قام المانع على المنع منه، مع عدم قيام الموجب»(2) إلخ.

فإنّ الحكم عليه بالنجاسة، بعد الحكم عليه بعدم لحوق حكم ماء الاستنجاء، ظاهر في أنّ الحكم الّذي نفى لحوقه بماء الغسالة عبارة عن عدم الانفعال، بدليل أنّه بعد ما نفى ذلك الحكم عنه استدلّ عليه بما يقتضي ثبوت نقيضه، فلا بدّ و أن يكون الحكم المنفيّ هنا الثابت لماء الاستنجاء هو عدم الانفعال، لأنّ نقيضه الثابت هنا هو الانفعال فتأمّل.

فالإنصاف: أنّه لم يوجد بين أصحابنا قول محقّق بالعفو قبالا للطهارة، سوى ما عرفت عن الشهيد في الذكرى من احتمال الأقربيّة، فكان الحكم بالطهارة على الإطلاق من إجماعيّات الأصحاب، و لا ينافيه الحكم عليه بعدم المطهّريّة عن الحدث مطلقا، المدّعى عليه الإجماع في المعتبر(3) و المنتهى (4)- على ما حكي عنهما فيما يأتي - لأنّ ذلك حكم خاصّ ثبت له بالخارج، كثبوته في أشياء اخر.

و من هنا ترى أنّه قد استفاضت الإجماعات المنقولة على الطهارة الّتي تصدّى بنقلها صاحب المناهل في الكتاب الآخر(5) المنسوب إليه، حيث إنّه عند ذكر الأدلّة على الطهارة قال: الثاني: دعوى جماعة الإجماع على الطهارة.

قال في الروض: «و اعلم أنّ المستعمل في إزالة الخبث نجس، إلاّ ماء الاستنجاء من الحدثين فإنّه طاهر إجماعا، كما نقله المصنّف في المنتهى»(6).

و قال في الجعفريّة: «ماء الاستنجاء من الحدثين طاهر إجماعا»(7).

ص: 269


1- منتهى المطلب 133:1 و 145.
2- منتهى المطلب 133:1 و 145.
3- المعتبر: 22.
4- منتهى المطلب 142:1.
5- لم نعثر عليه.
6- روض الجنان: 160.
7- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 86:1).

و قال في جامع المقاصد: «استثنى الأصحاب من غسالة النجاسة ماء الاستنجاء من الحدثين، فاتّفقوا على عدم تنجّسه، و حكم الصادق عليه السّلام - بعدم نجاسة الثوب الملاقي له - يدلّ على ذلك».

ثمّ قال: «و اعلم أنّ قول المصنّف: «فإنّه طاهر» مقتضاه أنّه كغيره من المياه الطاهرة في ثبوت الطهارة له، و نقل في المنتهى(1) على ذلك الإجماع»(2).

و قيل: إنّ ماء الاستنجاء طاهر إجماعا، حكاه ابن إدريس(3) في باب تطهير الثياب»(4).

انتهى و احتمال كون الطهارة في عبارة هؤلاء الأساطين مرادا بها معنى العفو كما ترى.

و على أيّ حال كان فنحن نفرض المسألة خلافيّة، و نتكلّم فيها دفعا لمقالة من لو توهّم أنّ الحكم الثابت هنا إنّما هو العفو دون الطهارة، و ينبغي قبل الخوض في الاحتجاج أن نشير إلى مقدّمة يتّضح بها معنى العنوان، و يتحرّر ما هو محلّ النزاع.

و هي: أنّ المراد بطهارة ماء الاستنجاء - عند أهل القول بها - ما يقابل النجاسة، الّتي هي عبارة عن الحالة المانعة عن المباشرة، و الباعثة على وجوب الغسل، و عدم جواز الاستعمال في التطهير عن الحدث و الخبث، و في شربه و تناوله، و لازمه أن يحكم عليه بجميع الآثار الشرعيّة المترتّبة على خلاف النجاسة، من الامور المذكورة و غيرها عدا ما خرج منها بالدليل، كاستعماله في إزالة الحدث المدّعى على عدم جوازه الإجماع فيما يأتي بيانه.

و أمّا العفو المقابل لها، فقرينة المقابلة تقتضي كون المراد به ما يلازم النجاسة مع سلب بعض أحكامها، أعني الحكم بنجاسته مع الرخصة في مباشرته.

و لكنّ الظاهر من الشهيد في عبارته المتقدّمة من الذكرى كون المراد به سلب الطهوريّة و إن كان أكثر الأدلّة المقامة على القول بالطهارة - لاقتضائها الطهارة بالمعنى المقابل للمعنى الأوّل من العفو - يأبى عن ذلك، حيث قال: «و تظهر الفائدة في استعماله، و لعلّه الأقرب، لتيقّن البراءة بغيره»(5).

ص: 270


1- منتهى 128:1.
2- جامع المقاصد 129:1.
3- السرائر 184:1.
4- انتهت عبارة صاحب المناهل في كتابه الآخر الّذي لم نعثر عليه.
5- ذكرى الشيعة 84:1.

و وجه الظهور: أنّ قوله: «لتيقّن البراءة بغيره» دليل استدلّ به على ما احتمل كونه أقرب و هو العفو، و لمّا كان الدليل لا بدّ من انطباقه على المدّعى، فذلك يكشف عن أنّ المشكوك فيه - الّذي يبحث عنه - إنّما هو كون ماء الاستنجاء طهورا - أي رافعا للحدث - و عدمه، فحكم عليه بالعدم لأنّ اليقين بالبراءة لا يحصل باستعماله بل يحصل باستعمال غيره، و إلاّ فلو كان المبحوث عنه هو العفو - بمعنى النجاسة مع الرخصة في المباشرة - لم يلزم من تيقّن البراءة بغيره كونه في الواقع نجسا مع الرخصة في مباشرته.

و لا يمكن أن يقرّر هذا الدليل بالقياس إلى الصلاة بثوب باشره هذا الماء، لأنّه لو تمّ لقضى بالنجاسة المطلقة، الملزومة لعدم الرخصة في مباشرته، و هو خلاف المدّعى.

و من هنا ترى أنّ غير واحد من أصحابنا استظهر منه ذلك، كصاحب المدارك و تبعه صاحب الحدائق، فقال في الأوّل: «اعلم أنّ إطلاق العفو عن ماء الاستنجاء يقتضي جواز مباشرته مطلقا، و عدم وجوب إزالته عن الثوب و البدن للصلاة و غيرها، و هذا معنى الطاهر، فلا يستقيم ما نقله المحقّق الشيخ عليّ في حواشي الكتاب عن المعتبر أنّه اختار كونه نجسا معفوّا عنه، بل و لا جعل القول بالعفو عنه مقابلا للقول بطهارته.

و الظاهر أنّ مرادهم بالعفو هنا عدم الطهوريّة كما يفهم من كلام شيخنا الشهيد رحمه اللّه في الذكرى، حيث قال - بعد نقل القول بالطهارة و العفو -: «و تظهر الفائدة في استعماله، و قد نقل المصنّف في المعتبر، و العلاّمة في المنتهى الإجماع على عدم جواز رفع الحدث بما تزال به النجاسة مطلقا، فتنحصر فائدة الخلاف في جواز إزالة النجاسة به ثانيا و الأصحّ الجواز تمسّكا بالعموم، و صدق الامتثال باستعماله»(1).

و قال في الثاني - بعد نقله القولين -: «و ربّما أشعر ذلك بكون العفو عبارة عن الحكم بنجاسته مع الرخصة في مباشرته، و الّذي يظهر من كلام الذكرى - و تبعه عليه جماعة ممّن تأخّر عنه - كون العفو هنا إنّما هو بمعنى سلب الطهوريّة، حيث قال - بعد نقل القولين -: «و تظهر الفائدة في استعماله» و حينئذ فيصير محطّ الخلاف في جواز رفع الحدث أو الخبث به و عدمه، و كذا تناوله و عدمه، إلاّ أنّهم نقلوا الإجماع أيضا على عدم جواز الرفع بما تزال به النجاسة مطلقا، كما سيأتي في تالي هذه المسألة، و حينئذ

ص: 271


1- مدارك الأحكام 125:1.

فينحصر الخلاف في الأخيرين، و الظاهر - كما هو المشهور - الجواز تمسّكا بأصالة الطهارة عموما و خصوصا، و صدق الماء المطلق عليه، فيجوز شربه و إزالة الخبث به»(1) انتهى.

و ملخّص الفرق بين المعنيين للعفو: أنّ هناك مطلبين لا بدّ و أن يكون أحدهما مرادا للقائل بالطهارة.

أحدهما: الحكم بطهارته و استثنائه من عموم انفعال القليل بالملاقاة.

و ثانيهما: أنّه ما يثبت له أحكام الطهارة بأسرها، فإن كان مدّعى القائل بالطهارة هو المعنى الأوّل، فيقابله العفو بمعنى أنّه نجس و مرخّص في مباشرته، و إن كان مدّعاه المعنى الثاني فيقابله العفو بمعنى أنّه طاهر يخصّ حكمه بما دون التناول و رفع الحدث و الخبث.

و لا ريب أنّ المتبادر من لفظ «العفو»، الشائع جريانه في لسان القوم هو المعنى الأوّل، فأمّا بالمعنى الثاني فغير معهود في كلامهم، فلا ينبغي صرف إطلاقه في كلام من لم يعلم مذهبه إلى إرادة هذا المعنى، و ثبوت كون مراد الشهيد منه هذا المعنى - لقضاء دليله به - لا يقضي بكونه في كلام من عداه مرادا به هذا المعنى، كيف و أنّ أكثر الأدلّة المقامة على القول بالطهارة - على ما ستعرفها - إنّما تقضي بما يقابل المعنى الأوّل من العفو، فعرف منه أنّه هو المتنازع فيه.

و العجب عن صاحب المدارك كيف غفل عن ذلك في قوله: «و الظاهر أنّ مرادهم بالعفو هنا عدم الطهوريّة» مع فساد منشأ هذا الاستظهار، و هو الّذي ذكره أوّلا في الاعتراض على المحقّق الشيخ عليّ، و على من يجعل العفو مقابلا للقول بالطهارة، لوضوح وهن كلّ منهما، فإنّ الطاهر لا ينحصر أحكامه فيما ذكره، بل له أحكام اخر من جواز تناوله، و عدم انفعال ما يلاقيه برطوبة، و جواز غسل ما يباشره من الثوب و البدن بقصد التطهير الشرعي - على معنى إباحته شرعا بعدم دخوله في البدعة المحرّمة، نظرا إلى أنّه لو كان [نجسا](2) لكان غسله بعد العنوان بدعة و تشريعا - إلى غير ذلك من الأحكام.

فثبوت بعض أحكام الطاهر لهذا الماء - الّذي يلتزم به القائل بالعفو - لا يستلزم كونه طاهرا في مقابلة النجس، لجواز كونه نجسا قد رفع عنه بعض أحكام النجاسة فلا منافاة، و بهذا الاعتبار يصحّ مقابلة القول بالعفو - بالمعنى الملازم للنجاسة - للقول بالطهارة.

ص: 272


1- الحدائق الناضرة 469:1.
2- زيادة يقتضيها السياق.

و لا يسلّم أنّ العفو في كلام كلّ قائل به وارد على إطلاقه، و مراد به رفع جميع أحكام النجاسة لئلاّ يصحّ المقابلة، و يوجب ذلك العدول عن المعنى الظاهر المعهود إلى معنى آخر غير معهود، كيف و أنّ عباراتهم تنادي بأعلى صوتها أنّ القول بالعفو يلزمه عدم تجويز الاستعمال من تناول و نحوه، و هو كما ترى من لوازم النجاسة و أحكامها، إذ لا يعقل في المقام باعث عليه و لا داع إليه سوى قيام هذا الوصف به، بل ظاهرهم الإجماع على أنّه لا مانع سواه فتأمّل.

و على أيّ حال فالحاسم لمادّة هذا الإشكال، الّذي ربّما يحصل في تشخيص محلّ المقال، أن يجعل البحث بالنسبة إلى مسألة العفو هنا من جهتين: باعتبار ما عرفت له من المعنيين، ثمّ ينظر في كلّ جهة إلى مقتضى ما هو الموجود من دليلها. فتحقيق الكلام في تحرير عنوان المسألتين: أنّ مرجع البحث في الطهارة و العفو بالمعنى الأوّل إلى أنّ مفاد الدليل الوارد في ماء الاستنجاء، هل هو سلب جميع أحكام النجاسة عن هذا الماء أو سلب بعضها مع إبقاء البعض الآخر؟ كما أنّ مرجعه على العفو بالمعنى الثاني إلى أنّ مفاد الدليل الوارد فيه هل إثبات جميع أحكام الطهارة لهذا الماء أو إثبات بعضها مع إلغاء البعض الآخر.

و لا ريب أنّ النزاع على الوجه الأوّل يرجع إلى أصل الاستثناء عن عموم دليل انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة، فالقائل بالطهارة لا بدّ و أن يدّعي وقوع هذا الاستثناء، و القائل بالعفو لا بدّ و أن ينكر ذلك، بدعوى: أنّ مفاد الدليل الوارد فيه كائنا ما كان إنّما هو سلب بعض أحكام النجاسة عن هذا الماء لا إخراجه عن حكم النجاسة بالمرّة، كما أنّه على الوجه الثاني يرجع إلى تحقيق معنى الطهارة الثابتة هنا بالدليل الوارد، بعد الاتّفاق على وقوع أصل الاستثناء، و خروج هذا الفرد من القليل عن عموم الانفعال.

فالكلام في باب الاستنجاء بالنسبة إلى كلّ من الوجهين وقع في مقامين أحدهما وفاقي، و الآخر خلافي.

أمّا الأوّل على الوجه الأوّل فهو أنّه قد ثبت لماء الاستنجاء عمّا بين مشاركاته حكم يمتاز به عمّا عداه من المياه القليلة الملاقية للنجاسة جزما.

و أمّا الثاني على هذا الوجه: فهو أنّ هذا الحكم الثابت فيه هل هو خروجه عن

ص: 273

حكم الانفعال بالمرّة و كونه محكوما عليه بالطهارة أو هو زوال بعض أحكام النجاسة مع بقاء أصل الوصف الملازم لبقاء البعض الآخر من أحكامها.

و أمّا الأوّل على الوجه الثاني: فهو أنّه قد خرج ذلك عن حكم الانفعال بالمرّة، و حكم عليه خاصّة بالطهارة في الشريعة.

و أمّا الثاني على هذا الوجه: فهو أنّه هل يثبت له جميع أحكام الطهارة أو يثبت بعضها و ينتفي البعض الآخر، و من البيّن أنّ الخلاف إن كان في الجهة الاولى صحّ لمدّعي الطهارة أن يتمسّك بما تقدّم من الأخبار الواردة في الاستنجاء، و لمدّع العفو حينئذ أن يناقش في دلالة تلك الأخبار، و لا يسوغ للأوّل الرجوع إلى القواعد الخارجة المقتضية للطهارة من الأصل و الاستصحاب و العمومات كما لا يخفى، و إن كان في الجهة الثانية فلا معنى في دعوى الطهارة للرجوع إلى تلك الأخبار، لأنّها إنّما قضت بخروج الموضوع عن حكم الانفعال، و لا تعرّض فيها أصلا لبيان أنّ هذا الموضوع المحكوم عليه بكونه طاهرا يثبت له جميع أحكام الطهارة أو بعضها، بل لا بدّ له من الرجوع إلى الخارج، و لأجل اختلاط هاتين الجهتين اختلط الأمر كثيرا ما على بعض الفحول، فيتمسّك تارة بما يناسب الجهة الاولى، و اخرى بما يناسب الجهة الثانية فلاحظ و تأمّل،

و إذا تقرّر هذا كلّه فلا مناص من إيراد الكلام في الجهتين معا.
أمّا الجهة الاولى: فالحقّ فيها أنّ ماء الاستنجاء و إن كان من أفراد القليل الملاقي للنجاسة، و لكنّه لا ينجّس بتلك الملاقاة،
اشارة

فهو طاهر لا أنّه نجس معفوّ عنه، خلافا لمن يتوهّمه كذلك إن كان؛ إذ ليس له مستند فيما نعلم سوى ما حكي من العمومات الدالّة على أنّ الماء القليل ينجّس بملاقاة النجاسة، و هذا إنّما يتّجه لو لا الدليل الوارد الموجب للتخصيص في تلك العمومات.

و احتجّ موافقونا في الاختيار بوجوه:
منها: ما عن الذخيرة و المشارق و مجمع الفائدة من أصالة الطهارة، و استصحابها،

منها: ما عن الذخيرة(1) و المشارق(2) و مجمع الفائدة(3) من أصالة الطهارة، و استصحابها،

و قد يضاف إليهما العمومات القاضية بأنّ الأصل في الماء الطهارة.

ص: 274


1- ذخيرة المعاد: 144.
2- مشارق الشموس: 253.
3- مجمع الفائدة و البرهان 289:1.

و فيه: ما لا يخفى من أنّ الأصل و الاستصحاب ممّا لا مدخل لهما في تعريف الحكم الواقعي، و مع ذلك فقد انقطعا بعموم قاعدة انفعال القليل، و معه لا معنى للاستناد إليهما، و لعلّه مبنيّ على القول بمنع العموم في تلك القاعدة، و قد ظهر لك ضعفه في محلّه، و أمّا العمومات فالأمر فيها أوهن، لأنّ الاستناد إليها إنّما يصحّ لو كان الغرض معرفة حكم ذلك بنوعه و خلقته الأصليّة و لا كلام لنا فيه، بل الغرض الأصلي هنا معرفة حكمه من حيث قبوله الانفعال و عدمه بالعارض، و لا تعرّض في تلك العمومات لذلك نفيا و لا إثباتا، و على فرض تعرّضها للنفي فهي منقطعة بما يحكم عليها من الدليل الشرعي، إذ المفروض أنّ العارض و هو ملاقاة النجاسة متحقّق، و عموم الدليل على كون هذا النحو من العارض ممّا يوجب الانفعال قائم، فلا محيص من تخصيصها بذلك، و المناقشة في عموم ذلك الدليل قد تبيّن دفعها. و بجميع ما ذكر يتبيّن ضعف ما في شرح الدروس للخوانساري(1) من الاحتجاج بما يقرب ممّا تقدّم من أنّ الأصل في الأشياء الطهارة و الإباحة، و قد عرفت أنّ أدلّة نجاسة القليل لا عموم لها بحيث يشمل ما نحن فيه، و إنّما كان التعدّي عن الموارد المخصوصة الّتي وردت فيها الروايات إلى بعض الصور لأجل الشهرة و عدم القول بالفصل و كلاهما مفقودان فيما نحن فيه فيبنى على الأصل فيثبت جواز الطهارة و التناول.

و منها: ما احتجّ به جماعة من لزوم العسر و المشقّة لو لا البناء على الطهارة.

و فيه أوّلا: منع الصغرى، حيث لا نجد عسرا في التحرّز عن هذا الماء أصلا، خصوصا إذا كان الاستنجاء من البول، إذ لو اريد به ما يلزم حالة الاستنجاء من حيث إنّها معرض للرشاش، فلدفعه طرق واضحة لا تكاد تخفى على أحد، و لو اريد به ما يلزم من جهة غلبة الابتلاء بماء الاستنجاء بالمباشرة و نحوها فمنعه أوضح، إذ لا نعقل ابتلاء به يكون غالبيّا أو كثيرا إلاّ حالة التشاغل بأصل الاستنجاء، و هو كما ترى لا يقتضي عسرا في التحرّز عنه إذا تحقّق معه الغسل على النهج المقرّر في الشرع، المستتبع لطهارة المحلّ و اليد المباشرة له و زوال الغسالة على النحو المتعارف.

و ثانيا: منع الكبرى، إذ لو اريد بالعسر ما ينشأ من الوسواس فلا عبرة به في الشريعة لفساد مبناه، و لو اريد به ما ينشأ من الاحتياط - الّذي هو حسن على كلّ حال

ص: 275


1- مشارق الشموس: 253.

- فهو غير معلوم الشمول للأدلّة النافية له فهو غير منفيّ حينئذ، و لو اريد به ما ينشأ من التكليف الإلزامي الالهي فيرتفع بالعفو عنه و الرخصة في مباشرته، و هو ممّا لا ينكره الخصم، و المفروض عدم حصول البلوى باستعماله في التطهير ليلزم العسر، بل العذر على تقدير نجاسته لتوقّف التطهير على الطهارة، و مجرّد المباشرة بالثوب و البدن لا يقتضي أزيد من العفو و الرخصة، و إلى ذلك أشار المحقّق الخوانساري في دفع الاحتجاج، قائلا: «بأنّ الحرج على تقدير تسليمه يرتفع بالعفو، و لا يتوقّف على طهارته، إذ لا حرج في عدم جواز استعماله في رفع الخبث و التناول»(1) و تبعه على ذلك غير واحد من الأصحاب.

و منها: ما تكرّر الاحتجاج به في كلام الأصحاب من الأخبار المتقدّم بيانها،

و هي الحجّة الّتي لا محيص عنها في المسألة، لوضوح دلالتها و لا سيّما الأوّل منها، و هو خبر عبد الكريم على الطهارة.

و المناقشة في ذلك بما يظهر من شرح الدروس: «بأنّ نفي البأس الوارد في أكثر تلك الأخبار أعمّ من الطهارة و العفو، فلا قضاء له بالطهارة»(2) - و تبعه في تلك الدعوى صاحب الحدائق(3) - و كذا الحال في رواية عبد الكريم، فإنّ عدم تنجيسه الثوب لا يستلزم طهارته، إذ كونه معفوّا عنه مطلقا أيضا يستلزم ذلك.

و الجواب: أمّا عن المناقشة في خبر عبد الكريم، فبأنّ الاستلزام إن اريد به العقلي فانتفاؤه مسلّم، و لكن اعتباره في الشرعيّات بل و دلالة الألفاظ ليس بلازم، و إن اريد به غيره شرعيّا أو عرفيّا فهو موجود بكلا قسميه.

أمّا الأوّل: فلأنّ المعلوم من طريقة الشارع المركوز في أذهان المتشرّعة أنّ ملاقاة النجس إذا قارنت شرائط التأثير توجب النجاسة في الملاقي أيضا، إلاّ في مواضع مخصوصة خرجت بالدليل، و إنكاره مكابرة لا يلتفت إليها.

و أمّا الثاني: فلأنّ المنساق من قوله: «لا ينجّس» جوابا لمن قال: «هل ينجّس ذلك بذلك الشيء» في العرف و العادة إنّما هو انتفاء النجاسة من الشيء الثاني، و إن كان

ص: 276


1- مشارق الشموس: 253.
2- مشارق الشموس: 253.
3- الحدائق الناضرة 474:1 حيث قال: «و نفى البأس و إن كان أعمّ من الطهارة إلاّ...» الخ.

المصرّح بنفيه في عبارة الجواب إنّما هو نجاسة الشيء الأوّل، نظرا إلى أنّ نفي اللازم يقضي بنفي الملزوم، بناء على أنّ الملازمة بينهما عند تحقّق اللقاء مع اجتماع شرائط التأثير مركوزة في أذهان المتشرّعة فعدم تنجيسه الثوب إنّما هو لعدم كونه بنفسه نجسا.

فإن قلت: قضيّة ذلك حمل السلب في قضيّة الجواب على كونه باعتبار انتفاء الموضوع، و هو خلاف الأصل.

قلت: إنّما يلزم ذلك لو فرض كون النجاسة مأخوذة في موضوع قضيّة السؤال و ليس كذلك، بل الموضوع هو ذات ماء الاستنجاء معرّاة عن وصف النجاسة، و هذا الموضوع باق في قضيّة الجواب، و ليس السلب الوارد فيه من جهة انتفائه، بل من جهة انتفاء أمر خارج عنه غير لازم له.

فإن قلت: لو لا وصف النجاسة مأخوذا في قضيّة السؤال فلأيّ فائدة وقع السؤال؟ فإنّ كلّ عاقل يعلم بأنّ الشيء لا ينجّس بواسطة ملاقاة الطاهر.

قلت: فائدة السؤال استعلام ما احتمله السائل من قيام وصف النجاسة بماء الاستنجاء، كغيره من المياه القليلة الملاقية للنجاسة الموجب لسرايته إلى ما يلاقيه، فأورد السؤال عن اللازم انتقالا إلى ما هو مرامه من الملزوم.

مع أنّه لو لا دلالته على عدم النجاسة لما كان دالاّ على العفو أيضا، بالمعنى المعروف الّذي فرضنا البحث من جهته، لأنّ القائلين به معترفون بأنّه نجس، و يوجب النجاسة في مباشره و لكنّهم يدّعون العفو عنه، على معنى أنّ هذه النجاسة الحاصلة في الثوب أو البدن من جهة أنّها حاصلة عن ماء الاستنجاء لا تقدح في صحّة الصلاة أو الطواف أو غير ذلك من مشروط بطهارة الثوب و البدن، بل هي من جهة ما فيها من الخصوصيّة ملغاة في نظر الشارع تسهيلا للأمر على المكلّف، و صونا له عن الوقوع في العسر و المشقّة، و قد دلّت الرواية على انتفاء النجاسة من الثوب رأسا، لا أنّها موجودة و لكنّها معفوّ عنها، و بذلك بطل ما ذكره في التعليل من قوله: «إذ كونه معفوّا عنه مطلقا أيضا يستلزم ذلك» إن أراد بقوله: «يستلزم ذلك» استلزامه عدم تنجّس الثوب، فإنّه مخالف لما عليه أهل القول بالعفو، فلا يمكن حمله على إرادة العفو، و معه يتعيّن حمله على إرادة الطهارة؛ للإجماع على انتفاء الواسطة، كما لا يخفى على الفطن العارف.

ص: 277

و أمّا عن المناقشة في الروايات المشتملة على نفي البأس، فلأنّ الظاهر من سياق السؤال و ملاحظة الأسئلة الواردة في نظائر المقام، كون السؤال ناشئا عن الجهل بحكم هذا الماء، و واردا في موضع توهّم نجاسته، و إن كان المذكور في متن السؤال وقوع الثوب فيه، فلو كان المراد بنفي البأس نفيه عن مباشرته - على نحو يكون مفاده العفو - لم يطابق الجواب للسؤال، و لم يوجب رفع الجهالة عن السائل فيما جهل به.

مع أنّ كلمة «لا» نافية للجنس، و البأس ظاهر في الماهيّة الصادقة على جميع ما يصدق عليه في العرف أنّه بأس، و العفو بالمعنى المبحوث عنه مراد به انتفاء البأس عن مجرّد مباشرته حال الصلاة و نحوها، فلو حمل النفي في الرواية على إرادة هذا المعنى فقط كان منافيا لإطلاقه المفيد للعموم؛ لكونه تقييدا بلا دليل، خصوصا إذا ضمّ إليه قوله عليه السّلام: «و لا شيء عليك» كما في رواية الصدوق.

و بالجملة: إمّا أن يقال: «بأنّ هذا الماء طاهر» أو يقال: «بأنّه نجس و ينجّس ما يلاقيه، و لكن عفى عن مباشرته»، أو يقال: «بأنّه نجس و لا ينجّس ما يلاقيه»، أو يقال:

«بأنّه نجس و ينجّس ما يلاقيه، و لا يجوز مباشرته في حال»، و الأخيران منفيّان بالإجماع، مضافا إلى كون الأخير منهما منفيّا بنصّ الرواية، فتعيّن الأوّل؛ لكون الثاني تخصيصا في العامّ أو تقييدا في المطلق، و لا يصار إليهما إلاّ بدليل و لا دليل.

فإنّ قضيّة الحمل المذكور أن لا يجوز تناول المعتصر من هذا الماء الّذي باشر الثوب لو فرض عصره على نحو يحصل منه ما يمكن تناوله، و أن لا يجوز استعماله في إزالة الخبث لو اعتصر منه ما يكفي في الإزالة، و أن ينجّس ما يلاقيه في الثوب الملاقي له، و أن ينفعل القليل الّذي يقع فيه ما لاقاه من الثوب - بناء على ما سبق تحقيقه من عدم الفرق في انفعال القليل بالملاقاة بين النجس و المتنجّس - و لا ريب أنّ كلّ ذلك بأس يبقى خارجا عن النفي، و هو مناف لإطلاق النفي أو عمومه، و لو حمل النفي على نفي جميع ذلك رجع مفاده إلى إثبات الطهارة، إذ لا يعني بالطهارة إلاّ ما انتفى معه جميع آثار النجاسة و أحكامها و هو المطلوب.

و إلى هذا أشار المحقّق الشيخ عليّ - في كلام محكيّ له - فقال: «قلت: اللازم أحد الأمرين: إمّا عدم إطلاق العفو عنه، أو القول بطهارته؛ لأنّه إن جاز مباشرته من كلّ

ص: 278

الوجوه لزم الثاني؛ لأنّه إذا باشره بيده ثمّ باشر به ماء قليلا - و لم يمنع من الوضوء به - كان طاهرا لا محالة، و إلاّ وجب المنع من مباشرة نحو ماء الوضوء به إذا كان قليلا، فلا يكون العفو مطلقا، و هو خلاف ما ظهر من الخبر و كلام الأصحاب»(1).

كما أنّه إلى ذلك - مضافا إلى ما قرّرناه في وجه الاستدلال بخبر عبد الكريم - ينظر ما قيل من أنّ كونه معفوّا عنه مطلقا مع نجاسته يستلزم نجاسة ما يلاقيه، غايته أنّه يكون أيضا معفوّا عنه، فحيث حكم بعدم تنجيسه الثوب ظهر أنّه ليس بنجس.

و كذا الكلام في رواية الأحول، بأن يقال: نجاسة الماء تستلزم وجوب إزالته عن الثوب و البدن، و وجود البأس فيه، فحيث نفي البأس عنه يثبت طهارته، فإنّ الظاهر أنّ إفراد استلزام نجاسته نجاسة ما يلاقيه و وجوب إزالته عن الثوب و البدن بالذكر إنّما هو من باب المثال، إذ كلّ أحد ممّن له أدنى معرفة بتفاصيل الشرع يعلم أنّ النجاسة كما يقتضي الامور المذكورة، فكذا تقتضي امورا اخر ممّا أشرنا إليها سابقا و ممّا لم نشر، كاقتضائها المنع عن رفع الحدث و إزالة الخبث بذلك الماء، خصوصا إذا اعتبرناه معتصرا عن الثوب الملاقي له، فحيث نفي نجاسة الثوب به و نفي البأس عنه على الإطلاق يدلّ على طهارته، لأنّ نفي اللوازم يستدعي نفي الملزوم.

فما ذكره الخوانساري في شرحه للدروس في دفع ما قيل - من «أنّ الاستلزام ممنوع، و غاية ما يتمسّك به في اقتضاء النجاسة هذه الامور الإجماع، و هو فيما نحن فيه مفقود»(2) - ليس على ما ينبغي، فإنّ غاية ما فقد فيه الإجماع من اللوازم إنّما هو وجوب إزالة هذا الماء عن الثوب و البدن، كما هو مفاد القول بالعفو، و أمّا سائر اللوازم فلا خلاف عندهم في وجودها على تقدير ثبوت العفو، و المفروض أنّ الروايتين دلّتا بعمومهما على انتفاء اللوازم بأسرها، و معه لا مناص عن القول بالطهارة، فالكلام المذكور عن المحقّق من الامور العجيبة.

و أعجب منه ما ذكره عقيب الكلام المذكور، من: «أنّه و لو فرض تحقّق عمومات دالّة على ذلك، نقول: الروايات في بحث القليل تدلّ على نجاسة هذا الماء أيضا عند من يقول بعمومها كالمحقّق و أضرابه، و النجاسة كما تقتضي الأشياء الّتي ذكرتم، كذلك

ص: 279


1- جامع المقاصد 130:1.
2- مشارق الشموس: 253.

تقتضي أشياء اخر من عدم جواز رفع الحدث و رفع الخبث و التناول؛ للاتّفاق على عدم الفرق بين هذه الامور و بين تلك، و هذان الخبران إنّما دلّا على ارتفاع بعض أحكامها ممّا ذكر، و أمّا البعض الآخر من عدم جواز استعماله في رفع الحدث و الخبث و تناوله، فينبغي أن يكون على حاله حتّى يثبت ارتفاعه بدليل آخر، و نفي البأس غير ظاهر في الجميع، بل ظاهره عدم النجاسة أو العفو»(1).

فإنّ قوله: «لا بأس» إذا كانت نكرة منفيّة و كانت النكرة المنفيّة مفيدة للعموم خصوصا مع ملاحظة حذف المتعلّق المفيد للعموم أيضا، و إذا كان نفي نجاسة الثوب مستلزما لنفي جميع لوازم النجاسة عن الماء الّذي هو في الثوب، فأيّ شيء يدعو إلى دعوى أنّ هذان الخبران إنّما دلّا على ارتفاع بعض أحكامها، و بأيّ قاعدة يقال: إنّ نفي البأس ظاهر في عدم النجاسة أو العفو، مع أنّ العامّ لا يردّد بين العموم و الخصوص إلاّ على بعض المذاهب الفاسدة في صيغ العموم - المذكورة في فنّ الاصول - و كيف يعقل إبداء المعارضة بين عمومات القليل المقتضية لانفعاله بالملاقاة و بين هذين الخبرين، و هما خاصّان و كلّ خاصّ مقدّم على العامّ و حاكم عليه، و هل الكلام المذكور التزام بالتخصيص في المخصّص أيضا بعد التزامه في المخصّص بلا دليل يقضي بذلك.

نعم، غاية ما يلتزم به من التخصيص في المخصّص - بالكسر - إنّما هو بالنسبة إلى رفع الحدث، لنقل الإجماع على عدم جوازه بذلك الماء مع إمكان المناقشة فيه، و أمّا سائر أحكام الطهارة فباقية تحت عموم نفي البأس و غيره.

لا يقال: التزام ما ذكر من التخصيص يكفي الخصم في إثبات النجاسة مع العفو؛ لأنّ النجاسة هي الباعثة على ذلك الحكم الثابت بالإجماع، لمنع انحصار الباعث على هذا الحكم في النجاسة، أ لا يرى أنّ المضاف أيضا ممّا لا يرفع به الحدث، و كذا الماء المغصوب، و الماء المستتبع استعماله في ذلك للضرر على النفس المحترمة و نحوها، و لعلّ الباعث على ذلك في ماء الاستنجاء زوال وصف ينوط به قوّته الرافعة غير الطهارة، أو حدوث وصف يمنع عن تأثيره في الرفع غير النجاسة، و قد علم به الشارع الحكيم و نبّه عليه، و ممّا يفصح عن ذلك استناد المفتين بذلك في الكتب الفقهيّة إلى

ص: 280


1- مشارق الشموس: 253.

الإجماع - أو نقله - لا إلى النجاسة.

و أعجب من الجميع ما ذكره في دفع ما أورده على نفسه - عقيب الكلام المتقدّم - بقوله: «فإن قلت: لو لم يرتفع هذه الأحكام أيضا يلزم التخصيص».

فقال: «قلت: هذا معارض بلزوم التخصيص في عمومات القليل، و الترجيح لها كما لا يخفى»(1)، فإنّ الخاصّ في مقابلة العامّ بمنزلة النصّ - و إن كان بنفسه من جملة الظواهر - فيقدّم عليه.

و محصّله يرجع إلى أنّه أظهر و الأظهر يقدّم على الظاهر، مع أنّ التخصيص الّذي يحترز عنه في عمومات القليل إن اريد به أصل التخصيص فهو وفاقي الحصول بيننا و بينه، فكيف يعقل نفيه بترجيح تخصيص الخبرين عليه، و إن اريد به كثرة التخصيص فالمقام ليس منها، لأنّ المخرج عن تلك العمومات ليس إلاّ فرد واحد و هو ماء الاستنجاء و ليس في مقابله شيء يكون الأمر فيما بينه و بينه دائرا بين الأقلّ و الأكثر حتّى يرجّح إخراج الأقلّ على إخراج الأكثر، و ما يرى من القلّة و الكثرة اللتين يدور الأمر بينهما فهو مفروض بالنسبة إلى لوازم النجاسة الّتي كانت تثبت في ذلك الماء لو لا المخرج له عن عمومات النجاسة، فلا يعقل في مثل ذلك أن يقال: إنّه قد ورد على تلك العمومات تخصيص و لكنّه مردّد بين كونه في الأقلّ أو الأكثر، و الأصل عدم الزيادة في التخصيص فيرجّح تخصيص الأقلّ.

و إن شئت توضيح ذلك فقس المقام على ما لو ورد خطاب عامّ بوجوب كلّ صلاة، ثمّ قام خطاب آخر خاصّ بعدم وجوب صلاة الوتيرة مثلا، و المفروض أنّ المنفيّ هنا شيء مركّب مفهومه بين الاستدعاء و المنع، و قضيّة نفيه انتفاء كلّ من جزأيه، فلا يمكن أن يقال: حينئذ بمنع ذلك لاستلزامه تخصيص الأكثر و المتيقّن ممّا خرج عن العامّ إنّما هو أحد جزئي وجوب هذا الفرد، و هو المنع عن الترك مثلا، فيحكم بأنّه الخارج تقليلا للتخصيص و ذلك واضح.

و احتجّ في المناهل(2) - مضافا إلى النصوص و غيرها - بالإجماعات المنقولة المتقدّم إليها الإشارة.

ص: 281


1- مشارق الشموس: 253.
2- المناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 139.

ثمّ إنّ قضيّة إطلاق نصوص الباب و فتاوي الأصحاب عدم الفرق بين المتعدّي و غيره، ما لم يتفاحش على وجه لا يصدق معه على إزالته اسم الاستنجاء عرفا، كما صرّح به غير واحد من الأصحاب.

قال الشيخ عليّ في حواشي الشرائع: «و لا فرق بين نجاسة المخرجين، و لا بين المتعدّي و غيره»(1).

و في الدروس: «و لا فرق بين المخرجين، و لا بين المتعدّي و غيره»(2).

قال الخوانساري في شرحه: «و قد قيل: إلاّ أن يتفاحش بحيث يخرج به عن مسمّى الاستنجاء، و لا بأس به»(3).

و عن الذكرى: «و لا فرق بين المتعدّي و غيره للعموم»(4).

و عن جامع المقاصد: «لا فرق بين المتعدّي و غيره، إلاّ أن يتفاحش»(5).

و عن الروض: «لا فرق بين المتعدّي و غيره، إلاّ أن يتفاحش على وجه لا يصدق على إزالته اسم الاستنجاء»(6).

و عن الذخيرة: «و مقتضى النصّ و كلام الأصحاب عدم الفرق بين المتعدّي و غيره، إلاّ أن يتفاحش على وجه لا يصدق على إزالته اسم الاستنجاء به»(7).

و وجه التقييد بعدم التفاحش: أنّ الأحكام تدور مع عناوينها وجودا و عدما، و قضيّة ذلك انقلابها بانقلاب العناوين، و الظاهر أنّ تعدّي الحدث من المخرج إلى أن يتفاحش على الوجه المذكور ممّا يوجب انقلاب العنوان، فإنّ حكم الطهارة قد علّق في النصّ على عنوان الاستنجاء، و إزالة المتعدّي على الوجه المذكور ليست من هذا العنوان في شيء، و لكنّه مبنيّ على كون الاستنجاء عبارة عن إزالة الحدث المعهود عن المخرج خاصّة و ما يلحق به من الحواشي القريبة منه، و لعلّه كذلك بل هو الظاهر من نصّ اللغوي و كلام الأصحاب، و لذا تراهم لا يسمّون إزالة الحدثين عن الثوب أو موضع آخر من البدن استنجاء، و لا يلحقه حكم ماء الاستنجاء، فللخصوصيّة مدخليّة في صدق

ص: 282


1- حاشية الشرائع - للمحقّق الكركي - (مخطوط) الورقة: 7.
2- الدروس الشرعيّة 122:1.
3- مشارق الشموس: 254.
4- ذكرى الشيعة 83:1.
5- جامع المقاصد 129:1.
6- روض الجنان: 160.
7- ذخيرة المعاد: 143.

الاسم، و مع انتفائها ينتفي الصدق فينقلب العنوان.

و في كلام غير واحد أيضا التصريح بعدم الفرق بين الطبيعي و غيره، كما عن الذخيرة(1)، و في كلام المحقّق الشيخ عليّ (2) تقييده بالاعتياد تمسّكا بالإطلاق، و عن بعضهم المناقشة في ذلك بمنع انصراف إطلاق عبائر الأصحاب و نصوص الباب إلى غسالة غير الطبيعي - و إن صار معتادا - لندرته، و إفادة ترك الاستفصال في الأخبار العموم بحيث يشمل ذلك محلّ تأمّل، اللّهمّ إلاّ أن يمنع من الدليل على نجاسته، و الأحوط الاجتناب عنه.

و التحقيق أن يقال: إنّ قضيّة عدم الانصراف إلى غير الطبيعي لندرته و إن كانت كما ادّعيت، و التمسّك بالإطلاق و إن كان ليس في محلّه، و ترك الاستفصال في مثله لا يفيد العموم، غير أنّه يمكن القول بأنّ الحكم - على ما يستفاد من طريقة الشارع و بناء الأصحاب في نظائر المقام - طهارة و نجاسة تابع للعنوان، و الخصوصيّات بأسرها ملغاة في نظر الشارع، فيوجد الحكم حيثما وجد العنوان و ينتفي بانتفائه، كما يفصح عن ذلك بناؤهم في انفعال القليل على عموم الحكم لمجرّد روايات خاصّة، مع ما فيها من الخصوصيّات و الإضافات ما لا تحصى عددا، فقصور لفظ الرواية عن شموله لبعض الأفراد غير قادح، فلذا نقول بعدم الفرق في طهارة ماء الاستنجاء بين كون الحدث المستنجى منه من المكلّف نفسه أو من غيره، فلو سقط من استنجاء غيره شيء على ثوبه أو بدنه لم يكن به بأس، مع أنّ النصّ غير ظاهر التناول جزما، فيجري الحكم في الماء الّذي يطهّر به مخرج المريض أو الطفل أو المجنون أو نحو ذلك.

نعم، لا يلحق به غسل مخرج غير هؤلاء من سائر أنواع الحيوان، لعدم تحقّق العنوان بالنسبة إليه، فالعمدة في المقام إحراز أنّ المفروض ممّا يصدق عليه العنوان و إن كان ممّا ندر وقوعه، بناء على أنّ الاستنجاء بحسب المفهوم ليس إلاّ إزالة الحدثين عن المخرج كائنا ما كان، و أمّا خصوص كون المخرج هو الموضع المعهود الّذي جرى عليه الطبيعة الانسانيّة فممّا لا مدخل له في ذلك لغة و لا عرفا، أو أنّ عنوان الحكم على ما

ص: 283


1- ذخيرة المعاد: 143.
2- جامع المقاصد 129:1 حيث قال: «و لا فرق بين الطبيعي و غيره إذا صار معتادا لإطلاق الحكم».

يستفاد عن طريقة الشارع هو الإزالة عن المخرج كائنا ما كان، و إن لم يندرج تحت مفهوم الاستنجاء، و اختصاصه بالذكر في النصوص من جهة أنّه محلّ ابتلاء السائل دون غيره، و على أيّ حال فالمسألة غير خالية عن الإشكال، و للاحتياط فيها مجال.

نعم، لا ينبغي التأمّل في إطلاق النصوص و كلام الأصحاب القاضي بعدم الفرق في الطهارة بين الغسلة الاولى و الثانية فيما يعتبر فيه التعدّد، كما نصّ عليه السيّد في المناهل(1) و غيره، و هو المحكيّ عن الكشف(2) أيضا، ناسبا له إلى نصّ السرائر(3)، فما عن الشيخ في الخلاف(4) من تخصّصه بالغسلة الثانية ليس على ما ينبغي، و الاعتذار له: «بأنّه لعلّه لبعد الطهارة و العفو مع اختلاطه، أو للجمع بين هذه النصوص و مضمرة العيص»(5) غير مسموع.

ثمّ إنّهم رضوان اللّه عليهم ذكروا لما صاروا إليه من طهارة ماء الاستنجاء أو العفو عنه شروطا، بعضها محلّ وفاق عندهم و البعض الآخر محلّ خلاف.
أوّلها: عدم تغيّره بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة،

نصّ عليه في الشرائع(6)، و الرياض(7) أيضا غير أنّه عبّر عنه بعدم العلم بتغيّره، و ربّما يحمل عليه كلام الأصحاب في هذا الشرط و غيره من الشروط الآتية، فيعتبر العلم في جميع ذلك كما صرّح به المحقّق البهبهاني في حواشيه على المدارك، حيث إنّه عند شرح قول المصنّف: «و شرط المصنّف و غيره الخ»، قال: «و ليس المراد بالشرطيّة معناها المعروف، لأنّ الشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط، فيلزم ندرة تحقّق الغسالة الطاهرة، بل المراد أنّه إن علم التغيير أو غيره ممّا ذكر ينجّس، و لا يجوز حمل الأخبار و كلام الأخيار على الفروض النادرة، سيّما فيما نحن فيه». انتهى(8).

و كيف كان فاعتبار هذا الشرط وفاقي عندهم ظاهرا، حيث لم نقف فيه على مخالف، بل ربّما يتمسّك على اعتباره بالإجماع كما في المناهل(9)، نعم يظهر من

ص: 284


1- المناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 142.
2- كشف اللثام 301:1.
3- السرائر 180:1.
4- الخلاف 179:1 المسألة 135.
5- و المعتذر هو الفاضل الهندي (ره) في كشف اللثام 301:1.
6- شرائع الإسلام 16:1.
7- رياض المسائل 182:1.
8- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 190:1.
9- المناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 142.

الخوانساري في شرح الدروس(1) التشكيك في ذلك لو لا مستنده الإجماع، حيث إنّه بعد ما ذكر الشرط المذكور قال: «و الظاهر أنّه إجماعي و إلاّ لأمكن المناقشة، إذ الروايات الدالّة على نجاسة المتغيّر عامّة و هذه الروايات خاصّة».

و اعترض عليه في المناهل: «بمنع ذلك بل بينهما عموم من وجه، فإنّ أخبار ماء الاستنجاء من حيث موردها خاصّة، و من حيث شمولها لحالتي التغيّر و عدمه عامّة، و ما دلّ من الأخبار على نجاسة الماء بالتغيّر بالنجاسة من حيث اختصاص مورده بالتغيّر خاصّ، و من حيث شمولها لماء الاستنجاء و غيره عامّ، فإذن ينبغي الرجوع إلى وجوه الترجيح، و من الظاهر أنّها مع الأخبار الدالّة على نجاسة الماء بالتغيّر بالنجاسة، فلا يجوز العدول عنها»(2) الخ.

و لعلّ نظره في دعوى كون الترجيح مع تلك الأخبار، إلى العمل و الفتوى و نقل الإجماع و غيره من المرجّحات الخارجة، و إلاّ فمع الغضّ عن ذلك فالمرجّح الداخلي من حيث الدلالة في جانب أخبار المقام، لكونها أقلّ أفرادا من الأخبار الدالّة على نجاسة المتغيّر، فتكون أظهر منها دلالة فيكون حكمها حكم الخاصّ، و لعلّه الّذي أراده الخوانساري من حكمه على تلك الأخبار بكونها خاصّة.

فالتحقيق: في إثبات هذا الشرط - على نحو ينطبق على القواعد، و لا يبتني على ثبوت الإجماع عليه، بحيث لو لا ثبوته كان الحكم بالاشتراط في موضع التأمّل أن يقال: بمنع الإطلاق في روايات المقام بحيث يشمل صورة التغيّر و إن فرضناها خاصّة بالقياس إلى أخبار التغيّر، لا لما ذكره في المناهل من ندرة التغيّر في ماء الاستنجاء، بل لأنّ التغيّر حيثيّة اخرى مبيّن حكمها في الخارج، و الملحوظ في المقام إنّما هو حيثيّة الاستنجاء من حيث هو مع قطع النظر عن الحيثيّات الاخر، و من البيّن اختلاف العنوانات باختلاف الحيثيّات.

و ما توهّم من الإطلاق و إن كان إطلاقا في الأحوال غير أنّه إنّما يجدي في تعميم الحكم بالقياس إلى ما شمله من الأحوال، إذا لم يكن الحالة حيثيّة ممتازة عن غيرها بحكم مبيّن لها في الخارج؛ ضرورة أنّ عدم اعتبار الإطلاق معه لا يكون منافيا

ص: 285


1- مشارق الشموس: 253.
2- المناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 143.

للحكمة و لا موجبا لمحذور، و لذا تراهم في مثل قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (1) لا يجوّزون أكل موضع عضّ الكلب و لو مع عدم التطهير، مع أنّ الاطلاق الأحوالي قائم فيه جزما.

فإذا كانت الحيثيّة المذكورة خارجة عن مفاد الأخبار، و كانت هي بنفسها مقتضية للمنع لم يتعدّ إليها حكم الطهارة، لا لأنّه تقييد في ماء الاستنجاء، أو تخصيص في الأخبار الواردة فيه حتّى يطالب بدليله، أو يرجع التعارض فيما بينها و بين أخبار التغيّر إلى تعارض الخاصّ مع العامّ، أو تعارض العامّين من وجه، بل لأنّه أخذ بالمنع الثابت لحيثيّة التغيّر، و هو عنوان آخر لا مدخل له لعنوان الاستنجاء، مجامع له من باب المقارنات، فعند التحقيق لا معارضة بينهما لاختلاف موضوعيهما، و العمل في الحقيقة بالدليلين معا، لا أنّه أخذ بأحدهما و طرح للآخر؛ لعدم تنافيهما، فنحكم بكلّ من الحيثين المجامعتين بحكمها الخاصّ له.

و نقول: إنّ حيثيّة «الاستنجاء» مقتضية للطهارة، و حيثيّة «التغيّر» مقتضية للنجاسة، غير أنّ هاتين الحيثيّتين لاجتماعهما في مورد واحد شخصي ممّا لا يمكن ترتيب الآثار على حكمهما معا في مقام العمل، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ترتيبا للآثار على الآخر، لإمكانه حينئذ على قياس ما هو الحال في الواجبين المتزاحمين، حيث يرفع اليد عن أحدهما لعدم إمكان امتثالهما معا، من دون أن يقضي بتخصيص دليله كما قرّر في محلّه، غاية الفرق بينهما أنّ البناء فيهما على التخيير لإمكان الامتثال كذلك، و لئلاّ يلزم الترجيح بلا مرجّح، بخلاف المقام حيث إنّ المتعيّن فيه إنّما هو العمل على حيثيّة «التغيّر» لتقدّم الجهة المانعة في جميع الموارد على جهة الإذن، على ما قرّرناه في محلّه.

و لك أن تسلك هنا مسلكا آخر، بأن تقول: إنّ الأخبار الواردة عن أهل العصمة فيما يرتبط بالمقام أو ما هو من أفراده، الحاكمة بعضها بالطهارة و بعضها بالنجاسة، الّتي يلاحظ النسبة بينها و بين أخبار المقام، على ثلاثة أصناف:

أحدها: ما هو معنون بعنوان التغيّر.

و ثانيها: ما هو معنون بعنوان الكرّيّة.

ص: 286


1- المائدة: 4.

و ثالثها: ما هو معنون بعنوان الملاقاة للنجاسة.

و مفاد كلّ واحد منها بعد الجمع بين مناطيقها و مفاهيمها ينحلّ إلى قضيّتين: موجبة و سالبة.

فمن الأوّل: الماء المتغيّر بالنجاسة نجس، و الماء الغير المتغيّر بالنجاسة ليس بنجس.

و من الثاني: الكرّ من الماء لا ينجّس بملاقاة النجاسة، و ما دون الكرّ منه ينجّس بملاقاة النجاسة.

و من الثالث: الماء الملاقي للنجاسة ينجّس بالملاقاة، و الغير الملاقي لها لا ينجّس.

و إذا أردنا ملاحظة النسبة بين كلّ واحد من تلك القضايا الستّة مع الاخرى يرتقي صور المسألة إلى خمسة عشر، كما يظهر بأدنى تأمّل. إلاّ أنّه لا يتحقّق معارضة في البين إلاّ في أربع منها:

أحدها: قولنا: الماء المتغيّر بالنجاسة ينجّس بالتغيّر، و الكرّ من الماء لا ينجّس بالملاقاة.

و ثانيها: الماء الغير المتغيّر بالنجاسة لا ينجّس بالملاقاة، و ما دون الكرّ من الماء ينجّس بالملاقاة.

و ثالثها: الماء الغير المتغيّر بالنجاسة لا ينجّس بالملاقاة، و الماء الملاقي للنجاسة ينجّس بالملاقاة.

و رابعها: الكرّ من الماء لا ينجّس بملاقاة النجاسة، و الماء الملاقي للنجاسة ينجّس بالملاقاة.

و النسبة في الصورتين الاوليين عموم من وجه، و في الأخيرتين عموم و خصوص مطلق، كما لا يخفى على المتأمّل.

و قاعدتهم في تعارض العامّين من وجه، و في تعارض الخاصّ و العامّ و إن كانت تقتضي الرجوع إلى وجوه الترجيح في الاوليين، و تقديم الخاصّ على العامّ في الأخيرتين، إلاّ إنّا نراهم أنّهم في الاولى من الاوليين يحكّمون عموم التغيّر على عموم الكرّ من غير تأمّل و لا خلاف، و في الثانية منهما يحكّمون عموم ما دون الكرّ على عموم عدم التغيّر، و في الاولى من الأخيرتين يقدّمون العامّ على الخاصّ، فلا يفرّقون في نجاسة ما دون الكرّ بين صورتي التغيّر و عدمها، و ليس ذلك إلاّ من جهة أنّهم عثروا

ص: 287

من الأدلّة الشرعيّة و القرائن المعتبرة ما دعاهم إلى ذلك، و إلاّ فلا ريب أنّ تقديم العامّ على الخاصّ - كما يصنعونه في الصورة الثالثة - على خلاف القاعدة.

نعم مشوا على طبق القاعدة في الصورة الرابعة، حيث قدّموا خصوص الكرّ على عموم الملاقاة، فمن بنائهم في هذا المقام يظهر الإجماع على تحكيم أدلّة التغيّر على أدلّة سائر العنوانات، و لو فرضت في بعضها جهة خصوصيّة بالقياس إلى عنوان التغيّر، و إجماعهم ذلك يكشف جزما عن وجود دليل محكم و قرينة معتبرة، و إن لم نعلم بهما عينا، و قضيّة ذلك خروج صورة التغيّر عن أدلّة ماء الاستنجاء، كما هي خارجة عن أدلّة الكرّ.

و لك أن تقول: إنّ النسبة بين أدلّة الاستنجاء و أدلّة التغيّر و إن كانت في ابتداء النظر عموم من وجه - كما فهمه صاحب المناهل - غير أنّها منقلبة إلى ما لا معارضة معه، بعد تحكّم أدلّة التغيّر على أدلّة الكرّ، ثمّ تحكيم أدلّة الكرّ على أدلّة الماء الملاقي للنجاسة، ثمّ تحكيم أدلّة الاستنجاء على أدلّة القليل الملاقي للنجاسة، فإنّ صورة التغيّر حينئذ خارجة عن عنوان الكرّ، فهو في قوله: «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء»(1)مقيّد بعدم التغيّر، فيكون مفهومه أيضا مقيّدا به، إذ المفهوم تابع للمنطوق في جميع ما اعتبر فيه، فالحكم بعدم انفعال القليل إنّما ورد عليه و هو مقيّد بعدم التغيّر، و المفروض أنّ ماء الاستنجاء مخرج منه، فيكون مشاركا له في قيده، لوجوب دخول المستثنى في الاستثناء المتّصل في جملة أفراد المستثنى منه، و معه أيضا لا يتناول حكم الطهارة في الاستثناء لصورة التغيّر، فيبقى تلك الصورة - إذا تحقّقت في ضمنه - في الحكم عليها بالنجاسة سليمة عن المعارض، فتأمّل جيّدا(2).

و بالجملة: اعتبار عدم التغيّر في طهارة ماء الاستنجاء - كما صنعه الجماعة، و أطبقوا عليه، و ادّعى عليه الإجماع - في محلّه.

ص: 288


1- الوسائل 158:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1.
2- وجهه: أنّ جهة المعارضة بين الكرّ الغير المتغيّر و بين الملاقي للنجاسة إنّما هي ذات الكرّ دون قيده، فلا داعي إلى حمل الملاقي على عدم التغيّر، بل غايته أنّه يحمل على ما عدا الكرّ، و كذلك جهة العارضة بين ما دون الكرّ الغير المتغيّر و بين الملاقي إنّما هو عموم الملاقي للكرّ، فيحمل على ما دون الكرّ نفسه دونه مع وصفه، و معه لا داعي إلى أخذ عدم التغيّر في موضوع حكم الانفعال ليكون ماء الاستنجاء مخرجا عنه مقيّدا بهذا الوصف كما لا يخفى (منه عفي عنه).
و ثانيها: أن لا يقع ماء الاستنجاء على نجاسة خارجة عن حقيقة الحدث المستنجى منه

كالدم المستصحب له، أو عن محلّه و إن لم يخرج عن الحقيقة كالحدث الملقى على الأرض، من غائط أو بول أو غيرهما من النجاسات، فلو سقط ماء الاستنجاء و على الأرض نجاسة ثمّ رجع إلى الثوب أو البدن فهو نجس، سواء تغيّر به أو لا، و سواء كانت النجاسة هو البول أو الغائط المستنجى منهما أو غيرهما.

و قد أشار إلى ذلك في الشرائع(1)، و قد تقدّم التصريح به - في الجملة - عن المنتهى(2) و حكي ذلك عن القواعد(3)، و الدروس(4)، و جامع المقاصد(5)، و الجعفريّة(6)، و المقاصد العليّة(7)، و الروضة(8)، و الروض(9)، و مجمع الفائدة(10)، و الكشف(11)، و صرّح به في الرياض(12) أيضا، و نفى عنه الخلاف.

و الوجه في ذلك يظهر بالتأمّل فيما تقدّم، فإنّ وقوعه على ما فرض من النجاسة ممّا يوجب انقلاب العنوان، و يتبعه انقلاب الحكم أيضا، و إلى ذلك أشار في مجمع الفائدة - على ما حكي - بقوله: «نعم اشتراط عدم وقوعه على نجاسة خارجة غير بعيد، لأنّ الظاهر من الدليل هو الطهارة من حيث النجاسة الّتي في المحلّ ما دام كذلك»(13).

و ثالثها: ما اعتبره جماعة من أن لا يخالط الحدثان لنجاسة اخرى كالدم و المنيّ،

عزى إلى جامع المقاصد(14)، و محكيّ الذخيرة(15) عن جماعة، و استشكل فيه صاحب المدارك قائلا: «بأنّ اشتراطه أحوط، و إن كان للتوقّف فيه مجال لإطلاق النصّ»(16)، و وافقه على ذلك الخوانساري في شرح الدروس قائلا: «بأنّ اشتراطه محلّ كلام لإطلاق اللفظ، مع أنّ الغالب عدم انفكاك الغائط عن شيء آخر من الدم، أو الأجزاء

ص: 289


1- شرائع الإسلام 16:1.
2- منتهى المطلب 143:1.
3- قواعد الأحكام 186:1.
4- الدروس الشرعيّة 122:1 حيث قال: «و المستعمل في الاستنجاء طاهر ما لم يتغيّر أو تلاقه نجاسة اخرى».
5- جامع المقاصد 129:1.
6- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 186:1.
7- المقاصد العليّة: 150 المسألة 28.
8- الروضة البهيّة 311:1.
9- روض الجنان: 160.
10- مجمع الفائدة و البرهان 289:1.
11- كشف اللثام 301:1.
12- رياض المسائل 128:1.
13- مجمع الفائدة و البرهان 289:1.
14- جامع المقاصد 129:1.
15- ذخيرة المعاد: 143.
16- مدارك الأحكام 124:1.

الغير المنهضمة من الغذاء، أو الدود، على أنّ في صحيحة محمّد بن النعمان - المنقولة أيضا - إشعارا بالعفو عنه، و إن كان على الذكر منيّ، كما لا يخفى» انتهى(1).

و أنت خبير بما فيه من الخلط و الاشتباه، و الحقّ التفصيل في ذلك، فإن كانت النجاسة المخالطة بنفسها عنوانا مستقلا في النجاسة، ثابتا حكمها من الخارج كالدم و المنيّ إذا خرجا مخلوطين مع الحدث المستنجى منه، فلا مناص فيه من المنع و الحكم بالنجاسة، لمكان تداخل العنوانين و اجتماع الحيثين، فيقدّم جهة المنع على جهة الإذن لما تقدّم الإشارة إليه، و لا ينبغي التمسّك بالإطلاق حينئذ لعين ما مرّ، و دعوى وقوع الإشعار بخلافه في الصحيحة المذكورة غير مسموعة، بملاحظة ما تقدّم في صدر المسألة.

و إن لم تكن كذلك، بل كانت نجاسته مكتسبة عن الحدث المستنجى منه، فالأقرب فيه ما صار إليه الجماعة من الحكم بالطهارة، لمكان الإطلاق السليم عن المعارض، و إن كان أحواليّا.

و رابعها: ما حكى اشتراطه عن جامع المقاصد ، و الروض ، من عدم انفصال أجزاء من النجاسة متميّزة مع الماء،

و رابعها: ما حكى اشتراطه عن جامع المقاصد(2)، و الروض(3)، من عدم انفصال أجزاء من النجاسة متميّزة مع الماء،

محتجّين عليه: بأنّ أجزاء النجاسة - كالنجاسة الخارجة - تنجّس الماء بعد مفارقة المحلّ، و لا يخفى ما فيه من المصادرة.

و استشكل فيه في المدارك(4) أيضا قائلا بما سبق.

و لو استدلّ على القول الأوّل بما سبق عن مجمع الفائدة(5) من أنّ الظاهر من الدليل هو الطهارة من حيث النجاسة الّتي في المحلّ ما دام كذلك لكان أسدّ، و محصّله: انقلاب العنوان معه، فإنّ المفروض بعد مفارقة المحلّ داخل في عنوان القليل الملاقي للنجاسة في غير محلّ الاستنجاء، فيلحقه حكمه، و يقوي ذلك لو بقي على هذه الحالة بعد الانفصال مدّة ثمّ باشره الثوب أو البدن، فاتّضح أنّ الاشتراط المذكور في محلّه.

و خامسها: ما عزى إلى الكشف و محكيّ بعض، من اشتراط عدم سبق اليد على الماء في ملاقاة المحلّ،

و خامسها: ما عزى إلى الكشف(6) و محكيّ بعض، من اشتراط عدم سبق اليد على الماء في ملاقاة المحلّ،

فلو سبقته ينجّس، و لو سبقها أو كانا متقارنين كان طاهرا أو معفوّا عنه، و يظهر من شرح(7) الدروس الاحتجاج عليه: «بأنّ نجاسة اليد إنّما تكون

ص: 290


1- مشارق الشموس: 245.
2- جامع المقاصد 129:1.
3- روض الجنان: 160.
4- مدارك الأحكام 124:1.
5- مجمع الفائدة و البرهان 289:1.
6- كشف اللثام 301:1.
7- مشارق الشموس: 245.

مستثناة بسبب جعلها آلة للغسل، فلو اتّفقت لغرض آخر كانت في معنى النجاسة الخارجيّة»، و فيه: مصادرة أو خروج عن الفرض كما لا يخفى.

و عن صريح جامع المقاصد(1)، و الرياض(2) و الذخيرة(3)، و المشارق(4)، و ظاهر الشرائع(5)، و المنتهى(6)، و الدروس(7)، و الجعفريّة(8)، و المقاصد العليّة(9)، و الروضة(10)، و الروض، أنّ ذلك ليس بشرط، و حكى الاحتجاج عليه: «بأنّ التنجّس على كلّ حال؛ إذ لا أثر للتقدّم و التأخّر في ذلك»(11)، و إطلاق هذا الكلام ليس على ما ينبغي، كما أنّ إطلاق القول الأوّل كذلك.

بل الّذي يقتضيه التدبّر، التفصيل بين ما لو كان سبق اليد منبعثا عن العزم على الغسل و قارنه الفعل فلا يكون قادحا، و بين ما لو لم تكن لأجل هذا الغرض، فاتّفق حدوث العزم على الغسل بعد ما تنجّست، فيكون نجاستها موجبة لنجاسة الماء.

أمّا الأوّل: بملاحظة ما سبق، و أمّا الثاني: فلأنّ أعمال اليد من لوازم الاستنجاء و مقدّماته، فالحكم عليه بالطهارة يقضي بعدم قادحيّة النجاسة الحاصلة فيها بمباشرة النجاسة الحدثيّة إن لم نقل بقضائه بعدم قبولها النجاسة في هذه الحالة، فهذا المعنى ممّا يستفاد من النصّ بالدلالة الالتزاميّة.

ثمّ إذا لوحظ ما فيه من الإطلاق السليم عن المعارض بالنسبة إليه يتمّ المطلوب، من عدم الفرق بين السبق و المسبوقيّة و المقارنة.

و سادسها: ما عن الشهيد في الذكرى ، من اشتراطه عدم زيادة وزن الماء على ما قبل الاستنجاء،

و سادسها: ما عن الشهيد في الذكرى(12)، من اشتراطه عدم زيادة وزن الماء على ما قبل الاستنجاء، فلو زاد وزنه بعد الاستنجاء كان نجسا، و لو لم يزد كان طاهرا، و في شرح الدروس: «أنّه ممّا اعتبره العلاّمة في النهاية(13) في مطلق الغسالة»(14)، و عن

ص: 291


1- جامع المقاصد 129:1.
2- رياض المسائل 183:1.
3- ذخيرة المعاد: 143.
4- مشارق الشموس: 254.
5- شرائع الإسلام 16:1 «لمكان عدم ذكره هذا الشرط في عداد شرائط طهارة ماء الاستنجاء».
6- منتهى المطلب 143:1.
7- الدروس الشرعيّة 122:1.
8- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 86:1).
9- المقاصد العليّة: 145.
10- الروضة البهيّة 11:1.
11- روض الجنان: 161.
12- ذكرى الشيعة 83:1.
13- نهاية الإحكام 244:1.
14- مشارق الشموس: 254.

الآخرين عدم اشتراطه صريحا أو ظهورا، و هو صريح المدارك(1)، و شرح الدروس(2)، و غيرهما و هو الأقرب، لإطلاق النصّ و الفتوى، مضافا إلى أنّه لو استفيد ذلك من نصوص الباب فواضح المنع جدّا، و لو استفيد من أخبار التغيّر بدعوى: دخول المفروض في عنوان «التغيّر» الموجب للنجاسة.

ففيه: مع أنّ الشرط الأوّل يغني عن إفراده بالذكر، ما تقدّم تحقيقه في بحث «التغيّر» من أنّه إذا حصل في غير الأوصاف الثلاث المعهودة لم يوجب نجاسته للنصوص و إجماع الأصحاب، و لو اريد استفادته من خبر العلل(3) المذيّل بقوله: «إنّ الماء أكثر من القذر» كما احتمله بعضهم، مستندا له من حيث إنّه يعطي أنّ نفي البأس عنه إنّما هو لأكثريّة الماء و اضمحلال النجاسة فيه، و حينئذ فلو زاد لدلّ على وجود شيء من النجاسة فيه و عدم اضمحلالها.

ففيه أوّلا: أنّ مستند الاشتراط إن كان ذلك فقد علم اعتباره في الشرط الرابع؛ ضرورة أنّ المفروض - لو سلّم الملازمة بين زيادة الوزن و زيادة شيء من أجزاء النجاسة غير مضمحلّ فيه - من أفراده فلا يكون شرطا آخر يدلّ عليه.

و ثانيا: أنّ ذلك أدلّ على خلاف مدّعاهم؛ لقضائه بأنّ الماء فيه شيء من القذر و لكنّه أكثر منه، و لا ريب أنّ ذلك يقضي بزيادة وزنه لا محالة على ما كان عليه قبل الاستنجاء؛ ضرورة إنّه كان قبله ماء خالصا خاليا عن القذر الّذي فيه بعده، و اضمحلاله فيه لا يوجب عدم زيادته؛ لأنّه ليس عبارة عن الانعدام الصرف، بل هو عبارة عن انتشار أجزائه فيه بحيث لا يدركه الحسّ، على نحو كان المجموع في نظر الحسّ ماء، فهو سواء اضمحلّ أو لم يضمحلّ موجود فيه جزما، و هو لا ينفكّ عن زيادة الوزن به جزما.

تنبيه:

المعتبر في الشرائط المذكورة عدم العلم بوجود نقيضها، كما سبق عن المحقّق البهبهاني(4) التنبيه على ذلك، فلو شكّ أو ظنّ بوجود شيء من نقيض تلك

ص: 292


1- مدارك الأحكام 124:1.
2- مشارق الشموس: 254 حيث قال: «... و لا وزن له في نظر الاعتبار كما لا يخفى».
3- الوسائل 222:1 ب 13 من أبواب الماء المضاف ح 2 - علل الشرائع 287:1.
4- حاشية البهبهانى على المدارك 190:1 - تقدّم في الصفحة 303.

الشرائط لم يخرجه عن حكم الطهارة، و الأصل في ذلك الخبر المستفيض «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر»(1) بناء على ما قررناه من أنّه وارد لبيان الحكم لصورة الاشتباه، مضافا إلى الأصل المتقدّم تأسيسه في غير موضع، غير أنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه، و ممّن صرّح بما ذكرناه السيّد في المناهل قائلا: «بأنّه إذا شكّ في تحقّق الشرط فالأصل طهارة الماء مطلقا، و إن حصل الظنّ بفقده، و لكن مراعاة الاحتياط أولى»(2).

و امّا الجهة الثانية: ففيها مسائل ثلاث.
الاولى و الثانية: في أنّ ماء الاستنجاء بعد ما ثبت كونه طاهرا و جامع الشرائط المتقدّمة، فهل يكون طهورا

- بالمعنى الأعمّ من إزالة الخبث به، و لو استنجاء آخر، و رفع الحدث به صغيرا كان أو كبيرا، - كما كان كذلك قبل الاستنجاء أو لا؟ فيه خلاف على أقوال:

أحدها: أنّه ليس بطهور مطلقا، و هو لظاهر الشرائع(3)، و الدروس(4)، و المنتهى(5)، و صريح الذكرى(6)، حيث إنّ الأوّل فرّق بين ماء الاستنجاء و المستعمل في الوضوء و المستعمل في الحدث الأكبر، فحكم على الأوّل بكونه طاهرا فقط من غير تعرّض لطهوريّته، و على الثاني بكونه طاهرا مطهّرا، و على الثالث بكونه طاهرا و تردّد في طهوريّته.

و صنع نظيره الثاني، غير أنّه قدّم المستعمل في الوضوء فحكم بكونه طهورا، ثمّ أورد المستعمل في الحدث الأكبر فحكم بطهارته، ناقلا في طهوريّته قولين مع جعله الكراهية أقربهما، ثمّ تعرّض لذكر الاستنجاء فحكم عليه بالطهارة فقط.

و الثالث حكم على ماء الاستنجاء بكونه معفوّا عنه بمعنى الطهارة - على ما استظهرناه سابقا - من غير تعرّض لحكم طهوريّته، مع أنّه في المستعمل في رفع الحدث الأصغر حكم عليه قبل ذلك بكونه طاهرا مطهّرا مدّعيا عليه الإجماع، و في رفع الحدث الأكبر نقل الخلاف في طهوريّته، و اختار هو كونه طاهرا مطهّرا. و أنّ الرابع قال - حسبما تقدّم -: «و في المعتبر: ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة إنّما هو

ص: 293


1- الوسائل 134:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5.
2- المناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 145.
3- شرائع الإسلام 16:1.
4- منتهى المطلب 143:1.
5- الدروس الشرعيّة 121:1.
6- ذكرى الشيعة 82:1.

بالعفو، و تظهر الفائدة في استعماله و لعلّه أقرب لتيقّن الطهارة بغيره»(1)، فإنّ تعليله عامّ يجري في كلّ من النوعين.

و ثانيهما: أنّه طهور مطلقا، و هو الّذي اختاره في المناهل(2)، ناسبا في مسألة رفع الحدث الجواز إلى صريح الكشف(3)، و ظاهر مجمع الفائدة(4)، و هذا يقتضي أنّهما يقولان بالجواز في مسألة الخبث أيضا بل بطريق أولى كما لا يخفى.

و ثالثهما: الفرق بين المسألتين، فالجواز في إزالة الخبث و عدمه في رفع الحدث، و يستفاد ذلك من المدارك(5) و الحدائق(6) - فيما تقدّم عنهما من عبارتهما - و يستفاد أيضا من الرياض(7) و شرح الدروس(8).

و العجب عن السيّد في المناهل(9) حيث جعل المسألة ذات قولين، مدّعيا للاتّفاق على الجواز في إزالة الخبث، حاكيا للخلاف على قولين في رفع الحدث، و لم نقف للأوّلين على مستند سوى ما أشار إليه الشهيد في الذكرى(10) من تيقّن الطهارة بغيره.

و حكى عن الآخرين الاستدلال بالأصل و العمومات و الاستصحاب، فإنّ الأصل بقاء الطهوريّة خرج عنه ما خرج و بقي الباقي.

و عن الباقين الاستدلال على الجواز في رفع الخبث بما تقدّم من الأصل و العمومات و استصحاب الطهوريّة، مضافا إلى ما في شرح الدروس(11) من التمسّك «بأنّ الأوامر إنّما وردت بالغسل بالماء، و هذا يصدق عليه الماء فيحصل الامتثال» و إلى ما في المدارك(12) و الحدائق (13)«من صدق الامتثال باستعماله»، و مثله ما عن

ص: 294


1- ذكرى الشيعة 83:1 - أقول: ما في المعتبر: 22 ليس بصريح في ذلك، راجع الحدائق الناضرة 471:1 - جواهر الكلام 640:1 - مفتاح الكرامة 94:1.
2- المناهل: 145.
3- كشف اللثام: 300:1 - حكى عنه في المناهل: 145.
4- مجمع الفائدة و البرهان: 289:1.
5- مدارك الأحكام 127:1.
6- الحدائق الناضرة 469:1.
7- رياض المسائل 182:1.
8- مشارق الشموس: 253.
9- المناهل: كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 145.
10- ذكرى الشيعة 83:1.
11- مشارق الشموس: 253.
12- مدارك الأحكام 127:1.
13- الحدائق الناضرة 469:1 حيث قال: «و الظاهر - كما هو المشهور - الجواز تمسّكا بأصالة الطهارة عموما و خصوصا و صدق الماء المطلق عليه، فيجوز شربه و إزالة الخبث به».

الذخيرة(1) من قوله: «و لحصول الامتثال في رفع النجاسات به».

و على عدمه بما عزى(2) إلى المعتبر(3) و المنتهى(4) من دعوى الإجماع على عدم جواز رفع الحدث بما تزال به النجاسة مطلقا.

فقد تبيّن بجميع ما ذكر: أنّ القول بالمنع مطلقا أو في الجملة، لا حجّة عليه سوى قاعدة الشغل، و الاطلاق و الإجماع المنقول في المنتهى و المعتبر، و أنت إذا تأمّلت علمت أنّ شيئا منهما ليس بشيء.

أمّا الأوّل: فلأنّ التمسّك بتلك القاعدة مع وجود ما يرفع موضوعها - على ما ستعرف - ممّا لا معنى له.

و أمّا الثاني: فلتوجّه المنع إلى شمول هذا الإجماع لمثل المقام، بل التحقيق: أنّه لا مجال إلى دعوى الاطلاق في إجماع المنتهى، فإنّه في كلام العلاّمة معلّل بما لا يجري في المقام أصلا، فإنّه بعد ما أورد الكلام في الماء المنفصل عن غسالة النجاسة بجميع صوره، حتّى ما لو انفصل غير متغيّر من الغسلة الّتي طهّرت المحلّ حاكما في الجميع بالنجاسة، - مع نقله في الأخير اختلاف القولين عن الشيخ في المبسوط(5)، فقال:

بنجاسته مطلقا، و الخلاف(6)، فقال: بنجاسة الغسلة الاولى و طهارة الغسلة الثانية، - قال:

«رفع الحدث بمثل هذا الماء أو بغيره ممّا يزيل النجاسة لا يجوز إجماعا، أمّا على قولنا فظاهر، و أمّا على قول الشيخ فلما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الماء الّذي يغسل به الثوب، أو يغتسل به من الجنابة لا يتوضّأ منه(7)».(8)

فقوله: «أمّا عندنا فظاهر» إشارة إلى ما اختاره فيما تقدّم من نجاسة ما ينفصل من غسالة النجاسة، تمسّكا بأنّه ماء قليل لاقى نجاسة، فينجّس.

ص: 295


1- ذخيرة المعاد: 144.
2- الناسب: هو صاحب المعالم في فقه المعالم 323:1.
3- المعتبر: 22، حيث قال: «و أمّا رفع الحدث به أو لغيره ممّا يزال النجاسة فلا، إجماعا».
4- منتهى المطلب 142:1 حيث قال: «رفع الحدث بمثل هذا الماء أو بغيره ممّا يزيل النجاسة لا يجوز إجماعا».
5- المبسوط 92:1.
6- الخلاف 179:1 - المسألة 135.
7- الوسائل 215:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 13 - التهذيب 630/221:1.
8- منتهى المطلب 142:1.

فظهر أنّ مستند الإجماع أحد الأمرين: من النجاسة و الرواية، و المقام ليس مندرجا في شيء منهما كما لا يخفى.

و أمّا إجماع المعتبر فلعلّه أيضا من هذا القبيل، و لم يحضرنا الكتاب حتّى نلاحظ في مفاد كلامه و سياقه، ثمّ لو سلّم الإطلاق في هذين الإجماعين أو في أحدهما فهو قابل للتقييد، فإنّه باعتبار العبارة الناقلة عامّ، و بعض ما ستعرف من أدلّة القول بالطهوريّة في ماء الاستنجاء خاصّ فيخصّص به العامّ، فالقول بسلب الطهوريّة على إطلاقه ضعيف جدّا، إذا كان مستنده ما ذكر و نظراءه، و أمّا القول بالطهوريّة مطلقا فالظاهر أنّ التمسّك عليه بالأصل و العمومات متّجه، إذا اريد بالأصل القاعدة الشرعيّة المستفادة من أدلّة طهوريّة الماء كتابا و سنّة.

لا يقال: إنّه مع العمومات قد انقطعا بأدلّة انفعال القليل بالملاقاة، إن اريد بالعمومات قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (1) و ما أشبه ذلك كتابا و سنّة لتوجّه المنع إلى دعوى الانقطاع، فإنّ المفروض خروج ماء الاستنجاء عن تحت القليل الّذي ينفعل بملاقاة النجاسة، و معنى خروجه عنه انكشاف كونه مرادا من العمومات الأوّلية، أو انكشاف عدم تعرّض أدلّة الانفعال لإخراجه عنها، و هذا القدر كاف في صحّة التمسّك بها؛ لأنّ مبناها على الظهور النوعي و هو حاصل هنا.

نعم، إنّما يتّجه هذه المناقشة بالقياس إلى تمسّكهم بالأصل، بمعنى استصحاب الطهوريّة الثابتة لهذا الماء قبل الاستنجاء، لارتفاع موضوعه بورود أدلّة الانفعال الشاملة له، و معه لا يعقل الاستصحاب، كيف و لو صحّ التمسّك به لإثبات الطهوريّة له مع ورود تلك الأدلّة المقتضية لخلافها لصحّ التمسّك به لإثبات الطهارة له أيضا؛ لكونها كالطهوريّة ثابتة له قبل الاستنجاء، و معه يرتفع الحاجة إلى التمسّك بالأخبار الواردة فيه، و اللازم باطل بالضرورة، و إبداء الفرق بين الحكمين بدعوى: صحّة ذلك في أحدهما دون الآخر، تحكّم صرف.

فإن قلت: التمسّك به لإثبات الطهوريّة لهذا الماء إنّما هو بعد ملاحظة الأخبار الواردة المخرجة له عن تحت أدلّة الانفعال، و لا ضير فيه لكشف تلك الأخبار عن عدم

ص: 296


1- الفرقان: 51.

تعرّض الأدلّة المذكورة لرفع موضوع الأصل بالنسبة إليه، على قياس ما ذكرته في صحّة التمسّك بالعمومات الأوّلية.

قلت: هذه الأخبار لو صلحت عندهم كاشفة عن هذا المعنى، لكانت بأنفسها رافعة لموضوع الأصل أيضا؛ إذ لا فرق في ارتفاع موضوع الأصل بين ورود الدليل على خلافه و وروده على طبقه؛ لأنّه كائنا ما كان في مقابلة الأصل علم، و من البيّن عدم اجتماع العلم مع الشكّ في قضيّة شخصيّة.

و من هنا فالتمسّك به ممّا لا وجه له على كلّ حال، إن كان المراد جعله دليلا للحكم على الإطلاق كما هو ظاهر الجماعة.

و ممّا ذكرنا يتّجه أن يقال: بصحّة التمسّك بأخبار الاستنجاء لإثبات حكم الطهوريّة أيضا، كما أشار إلى التمسّك بها في المناهل(1)، و قد تقدّم منّا الإشارة إلى وجهه عند التمسّك بها على إثبات حكم الطهارة له في الجهة الاولى.

و توضيح ذلك: أنّ إثبات هذا الحكم لماء الاستنجاء بالأخبار الواردة فيه ليس من جهة وروده فيها بلفظ «الطهارة» على نحو الصراحة، بل من جهة ما تضمّنته من نفي البأس، بتقريب: أنّ النكرة المنفيّة لكونها مفيدة للعموم، فنفي البأس عن هذا الماء في موضع توهّم النجاسة ظاهر في نفي جميع لوازم النجاسة الّتي منها المنع عن استعماله في مقام إزالة الخبث، أو في مقام رفع الحدث، أو في مقام الشرب و نحوه من سائر أنحاء الانتفاعات.

ضرورة أنّه كما أنّ المنع عن مباشرته حال الصلاة و غيرها بأس، فكذلك المنع عن شربه و التطهير به بأس، و كما أنّ النفي يتوجّه إلى الأوّل فكذلك يتوجّه إلى الباقي؛ لكون أفراد العامّ متساوية الأقدام بالنسبة إليه، و دعوى: عدم كون ما ذكر من أفراد البأس و مصاديقه، تحكّم فلا تسمع، كما أنّ منع العموم في النفي الوارد على النكرة مطلقا، أو في خصوص المقام غير مسموعة، و من هنا يتّضح الحكم في المسألة الثالثة أيضا.

نعم، يشكل الحال بالقياس إلى مسألة التطهير من جهة اخرى، و هي أنّ أقصى ما يستفاد من نفي البأس بالقياس إليه إنّما هو نفي الحكم التكليفي، و هو المنع عن

ص: 297


1- المناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 141.

استعمال هذا الماء في مقام التطهير و تحريمه، لأنّه بأس على المكلّف و شدّة في حقّه و موجب لتوجّه العذاب إليه، و هو ليس من مسألة أصل التطهير الّذي هو المبحوث عنه؛ إذ ليس المراد به مجرّد استعمال الماء معنونا بهذا العنوان ليكون نفي تحريمه مجديا في حال المكلّف، بل المراد به استعمال بهذا العنوان مستتبع لترتّب الأثر عليه، من زوال الخبث و ارتفاع الحدث، و هو ليس بلازم من نفي التحريم؛ لأنّه حكم وضعي لا ملازمة بينه هنا و بين نفي التحريم، و من هنا نبّهناك سابقا على أنّ أهل القول بالطهارة - قبالا للقول بالعفو - إن كان كلامهم في الجهة الثانية الّتي فرضناها للعفو بالمعنى الثاني المتقدّم، ليس لهم التمسّك في إثبات الطهارة المقابلة للعفو بهذا المعنى بالأخبار الواردة في ماء الاستنجاء؛ إذ لا تعرّض فيها لبيان أنّ الثابت لهذا الماء هل هو جميع أحكام الطهارة و لوازمها أو بعضها؟ على أنّ مرادنا بتلك الأحكام ما يعمّ الوضعيّة و التكليفيّة.

و يمكن دفعه: بأنّه لو لا كفاية هذا الماء في إفادة التطهير الشرعي، لكان على المكلّف تحمّل الكلفة في تحصيل ماء آخر مكانه لترتّب هذه الفائدة، و لو فرضناه متيسّرا مثله بل حاضرا في المجلس؛ ضرورة اقتضاء التعيين من الكلفة و الضيق المعنوي ما لا يقتضيه التخيير، و هو أيضا نحو من البأس، و المفروض أنّه منفيّ بجميع أنحائه.

نعم، ربّما يخدش في ذلك ما تقدّم في روايات القول بعدم انفعال القليل من رواية محمّد بن اسماعيل بن بزيع، قال: كتبت إلى من يسأله عن الغدير، تجتمع فيه ماء السماء، و يستقي فيه من بئر، فيستنجي فيه الإنسان من بول، أو يغتسل فيه الجنب، ما حدّه الّذي لا يجوز؟ قال: «فكتب لا تتوضّأ من مثل هذا إلاّ من ضرورة إليه»(1)، فإنّ التوضّؤ إمّا أن يكون مرادا به معناه الظاهر أو الاستنجاء، نظرا إلى إطلاقه في الأخبار على هذا المعنى، فعلى الأوّل تدلّ الرواية على عدم جواز رفع الحدث بماء الاستنجاء، و على الثاني تدلّ على عدم جواز إزالة الخبث به.

و لكنّ الأمر في دفعه هيّن من حيث إنّها - مع كونها مضمرة، قادحة في السند من وجهين، كما تقدّم إليهما الإشارة - ممّا لم يظهر من الأصحاب عامل بها، مستند إليها في المقام بالخصوص و لا سيّما مع ما تقتضيه من التفصيل في المنع بين الضرورة و عدمها،

ص: 298


1- الوسائل 163:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 15 - التهذيب 427/150:1.

فإنّه ممّا لم يقل به أحد ظاهرا، إلاّ أن يحمل النهي الوارد فيها على التنزيه الّذي مفاده الكراهة الّتي ترتفع في موضع الضرورة، فحينئذ تخرج عن معارضة ما ذكرناه بالمرّة؛ إذ الظاهر أنّ القائلين بجواز التطهير بماء الاستنجاء يعترفون بالكراهيّة، و لا يبعد القول بها حينئذ عملا بتلك الرواية من باب المسامحة في أدلّة السنن.

و من هنا اتّجه أن يقال: بجواز التطهير بماء الاستنجاء خبثا و حدثا على كراهيّة - بالمعنى المقرّر في الاصول بالقياس إلى الكراهة المضافة إلى العبادات - و دليله الأخبار المتقدّمة.

مضافا إلى الأصل، و العمومات، و القاعدة المستفادة من الأدلّة، و الأخبار الجزئيّة الواردة في أبواب الطهارات القاضية بأنّ الماء المطلق الطاهر ممّا يجوز التطهير به مطلقا ما لم ينهض مانع شرعي عنه، و المقام منه؛ إذ لم يثبت من الشرع كون الحيثيّة الاستنجائيّة من موجبات المنع عن ذلك.

و إلى القاعدة المقرّرة في الاصول من كون الأمر مقتضيا للإجزاء، فإنّ المأمور به ليس إلاّ استعمال الماء الظاهر في الإطلاق، الخالي عن النجاسة من جهة الدليل الخارج، و هذا منه، فقد اوتي بالمأمور به على وجهه؛ إذ لم يثبت كون الخلوّ عن حيثيّة الاستنجاء وجها من وجوهه، فيجب الإجزاء.

المسألة الثالثة: لا إشكال بملاحظة ما ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة في جواز شرب ماء الاستنجاء و مطلق استعماله،

كاستعمال سائر المياه الطاهرة، ما لم يصادفه عنوان آخر مقتضي للمنع كالخباثة و نحوها، و معه يدخل في عموم تحريم «الخبائث» و كونه دائم المطابقة لهذا العنوان المقتضي لدوام المنع عنه، لو سلّمناه لا ينافي جواز استعماله من الحيثيّة المبحوث عنها، و إن لم يتحقّق للجواز بهذه الحيثيّة مصداق.

و الثالث ممّا ادّعي استثناؤه عن قاعدة انفعال القليل: ماء الغسالة.

و المراد به هنا الماء المستعمل في إزالة الأخباث غير الاستنجاء، و لا إشكال بل لا خلاف في انفعاله مع التغيّر بما استعمل في إزالته من النجاسة، و استفاض نقل الإجماع عليه و نفي الخلاف عنه في كلامهم، و مع الغضّ عن ذلك فوجه المسألة واضح بملاحظة ما تقدّم في شرائط ماء الاستنجاء، و أمّا مع عدم التغيّر به فاختلف فيه

ص: 299

الأصحاب على أقوال(1).

أحدها: القول بأنّه نجس مطلقا، من غير فرق فيه بين كونه منفصلا عن الغسلة الّتي تستتبع طهر المحلّ، أو كونه منفصلا عمّا لا يستتبعه، و لا بين الثياب و الأواني، و لا بين كون نجاسة الآنية حاصلة من ولوغ الكلب و غيره، ذهب إليه العلاّمة في المنتهى(2)مصرّحا بالجهة الاولى من عدم الفروق، أمّا الجهات الاخر فتستفاد من إطلاق قوله بالنجاسة، و عزى إليه ذلك في القواعد(3) و التحرير(4) و المختلف(5) و التذكرة(6) و قد استفاض من حكاية هذا القول أيضا عن المحقّق في المعتبر(7)، و صرّح به في الشرائع(8)، و النافع(9)، جاعلا له في الثاني أشهر القولين و أظهرهما،

و في شرح الشرائع(10) للأستاذ نسبته إلى أكثر من تأخّر عن الفاضلين، بعد ما نسبه إليهما يعني العلاّمة و المحقّق.

و في الحدائق: «الظاهر أنّه المشهور بين المتأخّرين»(11)، و في حاشية الشرائع للشيخ علي: «هذا هو المشهور بين أصحابنا»(12).

قال الاستاذ في الشرح: «و حكي عن [المصباح](13) و ظاهر المقنع(14)، و في الذكرى(15) عن ابن بابويه، و كثير من الأصحاب عدم جواز استعمال الغسالة، و ظاهر إطلاقه النجاسة»(16) انتهى.

و قال ابن بابويه في الفقيه: «فأمّا الماء الّذي يغسل به الثوب، أو يغتسل به من الجنابة، أو تزال به النجاسة، فلا تتوضّأ به»(17)، و يمكن استفادة هذا القول من عبارته

ص: 300


1- و لعلّها تبلغ بملاحظة كلماتنا الآتية إلى ستّة بل سبعة، إن عدّ التوقّف الّذي صار إليه صاحب الحدائق قولا (منه).
2- منتهى المطلب 141:1.
3- قواعد الأحكام 186:1.
4- تحرير الأحكام: 5.
5- مختلف الشيعة 237:1.
6- تذكرة الفقهاء 36:1.
7- المعتبر: 22.
8- شرائع الإسلام 16:1.
9- المختصر النافع: 44.
10- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 316:1.
11- الحدائق الناضرة 477:1.
12- حاشية الشرائع - للمحقّق الكركي - (مخطوط) الورقة: 7.
13- و الصواب: إصباح الشيعة (سلسلة الينابيع الفقهيّة 4:2).
14- المقنع: 46.
15- ذكرى الشيعة 85:1.
16- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 316:1.
17- الفقيه 10:1.

هذه أيضا، لكن في المدارك: «و التسوية بينه و بين رافع الأكبر تشعر بطهارته»(1).

و فيه: ما لا يخفى، فإنّ الجمع بين شيئين في الفتوى لا يقتضي إلاّ اشتراكهما في الحكم، و أقصى ما يقتضيه التسوية المذكورة إنّما هو ذلك، دون الجهة الّتي ينشأ منها الحكم؛ لجواز اختلافها، فلعلّها في المزيل للنجاسة وجود المانع - و هو النجاسة - و في رافع الحدث الأكبر فقد المقتضي و ارتفاعه بالاستعمال المفروض - هو الطهوريّة -، كما هو المصرّح به في كلام جملة منهم على ما سيأتي في محلّه، و معه فأيّ إشعار فيها بالطهارة.

و في شرح الاستاذ أيضا: «عن التحرير و المعتبر في باب غسل المسّ الإجماع على نجاسة المستعمل في الغسل، إذا كان على البدن نجاسة»(2). و هو ظاهر الشيخ في المبسوط قائلا - فيما حكي عنه -: «و الماء الّذي يزال به النجاسة نجس؛ لأنّه ماء قليل خالط نجاسة، و من الناس من قال: ليس بنجس إذا لم يغلب على أحد أوصافه، بدلالة أنّ ما يبقى في الثوب جزء منه و هو طاهر بالإجماع، فما انفصل عنه فهو مثله، و هذا أقوى و الأوّل أحوط»(3)، فإنّ حكمه عليه أوّلا بالنجاسة يدلّ على أنّه اختياره، و لا ينافيه جعله القول الآخر أقوى، و لا جعله القول الأوّل أحوط، إذ ليس مراده بالأحوطيّة الاحتياط الاستحبابي، و لا بالأقوائيّة القوّة بالنظر إلى الواقع، بل مراده بالأوّل الأحوطيّة بالنظر إلى الواقع المقتضية لوجوب المصير إليه، و بالثاني الأقوائيّة من حيث الاعتبار فإنّ الوجه الّذي تمسّك به القائل بالطهارة ممّا يساعد عليه الاعتبار الّذي لا ينبغي التعويل عليه في الامور التعبّديّة، و ستعرف عن بعضهم الاعتراف بنظيره فيما يأتي من دليل القول بالتفصيل بين الغسلتين.

و في نسبته القول المذكور إلى بعض الناس إشعار بأنّه ليس مختاره، بل ربّما يشعر بأنّه قول لا قائل به من الاماميّة، كما تنبّه عليه غير واحد.

و ممّا يفصح عن اختياره القول بالنجاسة مطلقا، كلامه الآخر المنقول عنه في المبسوط، حيث إنّه في الماء المستعمل - بعد ما حكم عليه بأنّه طاهر مطهّر من الخبث لا من الحدث - قال: «هذا إذا كان أبدانها خالية عن نجاسة، فإن كان عليها شيء من

ص: 301


1- مدارك الأحكام 120:1.
2- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري قدّس سرّه - 316:1.
3- المبسوط 92:1.

نجاسة فإنّه ينجّس الماء و لا يجوز استعماله بحال»(1).

و كلامه الآخر أيضا في مسألة تطهير الثياب قائلا: «و إذا ترك تحت الثوب النجس إجانة، و صبّ عليه الماء و جرى الماء في الإجانة، لا يجوز استعماله لأنّه نجس»(2).

فما في الحدائق(3) - تبعا لشرح الدروس(4) - من أنّه في الظاهر قوّى القول بالطهارة مطلقا، ليس على ما ينبغي.

نعم، عنه في الخلاف(5)، و أوّل المبسوط(6)، أنّه جزم بطهارة ماء الغسلتين من الولوغ، و لكن الأمر فيه سهل لجواز رجوعه عنه إلى ما ذكر كما جزم به الاستاذ في الشرح(7) المشار إليه.

ثمّ إنّ الغسالة في كلام هؤلاء القائلين بالنجاسة محتملة لكون حكمها حكم المحلّ قبل الغسل، فيعتبر فيها العدد فيما يجب فيه التعدّد، و لكون حكمها حكم المحلّ بعد الغسلة، فيجب الغسل عنها في الغسلة الغير المستتبعة للطهر دون الغسلة المستتبعة له، و لكون حكمها حكم المحلّ قبل الغسلة المستتبعة للطهر مطلقا، فيجب الغسل عنها مرّة واحدة و لو من الغسلة الاولى، و لم يظهر من كلامهم ما يقضي بإرادة المعنى الأوّل دون أحد الأخيرين، فما في الحدائق(8) من تفسيره القول بالنجاسة مطلقا بأنّ حكمها حكم المحلّ قبل الغسل، لعلّه ليس في محلّه. كما أنّه كذلك ما حكاه في شرح الدروس (9)عن بعض الأصحاب من حصره القول المذكور في الاحتمال الثاني، و قد أصاب هو في جعله إيّاه محتملا للوجوه الثلاثة، و أمّا تحقيق الكلام في ذلك فسنورده إن شاء اللّه.

و هذا القول هو الراجح في النظر، و أقوى بالنظر إلى الواقع و أقرب إلى جادّة الاستنباط.

لنا عليه: وجود المقتضي و فقد المانع، و كلّما كان كذلك يجب المصير إليه، أمّا الكبرى: فواضحة، و أمّا الصغرى: فلعموم الأدلّة الواردة في انفعال القليل، مع ما ورد عليها ممّا خصّصها، الدالّة على أنّ ملاقاة النجاسة بشرط القلّة سبب للانفعال ما لم يصادفها مانع عن التأثير، من علوّ أو استعمال في الاستنجاء، أو جريان عن النبع - بناء

ص: 302


1- المبسوط 11:1.
2- المبسوط 37:1.
3- الحدائق الناضرة 482:1.
4- مشارق الشموس: 254.
5- الخلاف 181:1 المسألة 137.
6- المبسوط 15:1.
7- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 324:1.
8- الحدائق الناضرة 477:1.
9- مشارق الشموس: 254.

على عدم انفعال القليل من الجاري - و المفروض تحقّق السبب بهذا المعنى في محلّ البحث و عدم مصادفة مانع له، و ما احتمل كونه مانعا من حيثيّة كونه مستعملا في إزالة الخبث لم ينهض على مانعيّته من الشرع شيء، كما نهض على مانعيّة العلوّ و غيره ممّا ذكر، فمن يدّعي الطهارة لا بدّ له من إقامة ما يحرز به المانعيّة و أنّى له بذلك، و ستعرف ضعف ما احتجّ به على ذلك.

و إلى ما قرّرناه ينظر ما احتجّ به العلاّمة في المنتهى، فعلى نجاسة ما انفصل قبل طهر المحلّ: «بأنّه ماء يسير لاقى نجاسة لم يطهّرها، فكان نجسا كالمتغيّر، و كما لو وردت النجاسة عليه، و كالباقي في المحلّ فإنّه نجس، و هو جزء من الماء الّذي غسلت به النجاسة، و لأنّه قد كان نجسا في المحلّ، فلا يخرجه العصر إلى التطهير، لعدم صلاحيّته له»(1). و على نجاسة ما انفصل في الغسلة المطهّرة للمحلّ: «بأنّه ماء قليل لاقى نجاسة فينجّس بها، كما لو وردت عليه»(2)، و إن كان في أكثر تنظيراته للشقّ الأوّل نظر واضح.

و اعترض عليه في المدارك (3)- و تبعه في شرح الدروس (4)- بمنع كلّيّة كبراه - كما بيّنّاه سابقا - و هذا إشارة إلى ما سبق منه في ذيل مسألة انفعال القليل من قوله: «و اعلم أنّه ليس في شيء من تلك الروايات دلالة على انفعال القليل بوروده على النجاسة، بل و لا على انفعاله بكلّما يرد عليه من النجاسات»(5) الخ.

و الجواب عن الأوّل: ما أسلفناه في دفع القول بالفرق بين الورودين، و عن الثاني:

بما أسلفناه أيضا في إثبات العموم بالقياس إلى كافّة النجاسات، مضافا إلى عدم ابتناء المطلب على ثبوت العموم بالقياس إلى أنواع النجاسة، و لا العموم بالقياس إلى أفراد الماء، بل يثبت ذلك في النوع الّذي يقول المعترض بكونه سببا للانفعال؛ لابتنائه على إحراز العموم بالنسبة إلى كيفيّات الملاقاة المستفادة سببا للتنجيس من الأخبار الواردة في المسألة، و هو محرز جزما بملاحظة ما في أكثر تلك الأخبار من الإطلاق الشامل لكون الملاقاة منبعثة عن إرادة التطهير حاصلة في الغسلة الاولى أو الثانية أو غيرها ممّا ثبت وجوبه شرعا أو لم تكن منبعثة عنه، استتبعت طهارة المحلّ أو لا، و يكفيك شاهدا

ص: 303


1- المنتهى 141:1، 142.
2- المنتهى 141:1، 142.
3- مدارك الأحكام 120:1.
4- مشارق الشموس: 255.
5- مدارك الأحكام 40:1.

بذلك مفهوم قولهم: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1).

و المناقشة فيه أوّلا: بمنع العموم في المفهوم لمكان صيرورة «الشيء» نكرة في سياق الإثبات، و ثانيا: بأنّ ارتفاع السلب الكلّي في المنطوق أعمّ من الإيجاب الكلّي في المفهوم، كما في قولك: «إذا خفت من اللّه فلا تخف من أحد»، و «إن جاءك زيد فلا تكرمه».

يدفعها: - مع ما فيها ممّا ذكرناه مرارا - كفاية ما في الملاقاة المستفادة من الرواية منطوقا و مفهوما من الإطلاق الشامل لمحلّ البحث؛ لعدم ورود ما ينافيه بالقياس إليه، و إنّما ورد عليها ما أخرجها عن هذا الإطلاق بالقياس إلى مواضع ليس المقام منها، فلا مجال إلى رفع اليد عنه بالنسبة إليه لمجرّد الاحتمال؛ إذ الاحتمال لا يعارض الحجّة، و الظاهر الناشئ من الإطلاق هو الحجّة.

و توضيح ذلك: إنّا لا ندّعي كون ملاقاة النجاسة علّة تامّة للانفعال؛ كيف و هو منتقض بالكرّ، و القليل من الجاري، و العالي من الراكد، و المستعمل في الاستنجاء، و غيره ممّا يعدّ من مستثنيات قاعدة انفعال القليل، بل غرضنا أنّ المستفاد من أدلّة انفعال القليل بالملاقاة - مع ملاحظة أدلّة الكرّ، و الأدلّة الواردة في الجاري و المستعلي، و المستعمل في الاستنجاء - كون ملاقاة النجاسة سببا للانفعال، بالمعنى المصطلح عليه عند الاصولي الّذي يجامع فقد الشرط - إذا كان من شروط التأثير لا انعقاد الماهيّة - و وجود المانع - إذا كان راجعا إلى التأثير أيضا دون أصل الماهيّة - و له في تأثيره شرط أثبته الأدلّة و هو القلّة، بناء على ما مرّ تحقيقه في أوائل الكتاب من أنّ الكرّيّة إنّما اعتبرت لكونها ملزومة لانتفاء شرط الانفعال كاشفة عنه، لا لكونها سببا لعدم الانفعال؛ كيف و أنّ المسبّب لا يتخلّف عن سببه، و قد ترى تخلّفه في الماء المتغيّر بالنجاسة و إن كان كرّا.

و لا يرد مثله علينا في دعوى الملازمة؛ لأنّ الانفعال له عندنا علّتان: إحداهما:

بسيطة و هو التغيّر، بناء على ما قرّرناه لك عند الجمع بين أدلّة التغيّر، و الأدلّة المخرجة لماء الاستنجاء، و أخراهما: مركّبة و هي الملاقاة مع القلّة و غيرها ممّا اعتبر عدمه من الموانع، فالكرّيّة إذا اجتمعت مع عدم التغيّر فقد جامعت فقد ما هو شرط للانفعال، و إذا اجتمعت مع التغيّر فقد صادفت ما هو علّة تامّة للانفعال، و لا حكم لها حينئذ، و معه

ص: 304


1- الوسائل 158:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1.

لا يمكن حمل التعليق على إفادة السببيّة التامّة، - على ما هو مناط القول بحجّيّة مفهوم الشرط عند أهل التحقيق - فإمّا أن يحمل بعد ذلك على إفادة العلقة الشرطيّة فيما بين المقدّم و التالي، فتكون أحد شروط عدم الانفعال، أو على إفادة مطلق الملازمة فيما بينهما من غير علقة سبب و لا شرط، فتكون ملزومة لانتفاء شرط الانفعال كاشفة عنه، و لا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّ ما يتوقّف عليه الشيء لا ينفكّ عنه ذلك الشيء، و إلاّ لم يكن شرطا، و قد رأينا انفكاكه في المستثنيات، إلاّ أن يقال: بأنّه شرط على سبيل البدليّة، و لكنّه خلاف ما يظهر من التعبير من الرواية، فلا بدّ من حمله على الثاني، فيكون القلّة على ذلك شرطا للانفعال، و لا ينافيه التخلّف في المستثنيات؛ لأنّ الشرط ما لا يلزم من وجوده الوجود لكثرة مقابلته لوجود موانع أو فقد شروط، و المفروض أنّ ما أثبته الأدلّة سببا للانفعال بشرط القلّة له موانع قد أثبتها الأدلّة المخصّصة لأدلّة الانفعال، كالجريان عن نبع، و علوّ الملاقي و نحوه ممّا سبق الإشارة إليه.

فإذا ثبت أنّ الملاقاة سبب و شرطها القلّة و له موانع، فهو متحقّق في المقام بهذا الشرط مع فقد الموانع المذكورة، فيجب تأثيرها؛ ضرورة أنّ الأثر لا يتخلّف عن مقتضيه الموجود المصادف لفقد الموانع، و لو كان ذلك بحسب ظاهر اللفظ عن إطلاق أو عموم، و دعوى: كون حيثيّة رفع الخبث، أو الاستعمال من جهته في غير جهة الاستنجاء من جملة الموانع تقتضي تقييد الملاقاة في حكم الشرع عليها بالسببيّة بلا دليل؛ إذ المفروض كون الأدلّة المقامة على تلك الدعوى على ما يأتي ذكرها مدخولة بأسرها.

و من المشايخ العظام(1) من أجاب عن المناقشة المذكورة بوجوه، ثالثها ما يرجع في حاصل المعنى إلى ما حقّقناه.

و أوّلها: ما يرجع محصّلة إلى ما هو التحقيق في دليل حجّيّة مفهوم الشرط، من إفادة التعليق على الشرط في متفاهم العرف كونه سببا تامّا للجزاء على جهة الانحصار، و معه لا يعقل إنكار العموم في مفهوم الرواية، إلاّ على القول بإنكار حجّيّة مفهوم الشرط.

و بيان ذلك: أنّ الشرط إذا فرضناه سببا تامّا للجزاء على جهة الانحصار، فمعناه: أنّ الجزاء لا بدّ من وجوده في جميع موارد وجود الشرط، و انتفائه في جميع موارد انتفائه،

ص: 305


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 318:1.

و إلاّ فلو لم يوجد في بعض موارد وجوده، أو لم ينتف في بعض موارد انتفائه لم يكن الشرط على الأوّل سببا، و لا على الثاني سببا منحصرا فيه، كما إليه يرجع كلام السيّد المرتضى المنكر لحجّيّة مفهوم الشرط، تعويلا على مجرّد احتمال تعدّد الأسباب، و كلاهما خلاف الفرض ممّا يظهر من قضيّة التعليق.

نعم، لا ضير في القول بوجود الجزاء مع انتفاء الشرط - في بعض الموارد - إذا علمنا بتعدّد أسبابه من الخارج، كما علمناه في المثالين المتقدّم إليهما الإشارة، حيث نعلم أنّ لعدم الخوف من آحاد الناس أسبابا كثيرة، منها: الخوف من اللّه، و لعدم إكرام كثير من آحاد الناس أسبابا كثيرة، منها: مجيء زيد، غير أنّه خارج عن القول بحجّيّة المفهوم، وارد على خلاف ما يظهر من اللفظ عرفا، من جهة القرينة الخارجة، و مع انتفائها فالمتّبع هو الظاهر.

و قضيّة ذلك كون المفهوم من السلب الكلّي الإيجاب الكلّي، و من الإيجاب الكلّي السلب الكلّي، و معه لا مجال إلى إنكار عموم المفهوم في قضيّة قوله عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1)، و كون مفهومه الإيجاب الكلّي القاضي بانفعال القليل بكلّ نجاسة»(2) انتهى محصّلا.

و لعلّه مدّ ظلّه إنّما أورد هذا الجواب في مقام الجدل، لما فيه من الكفاية في دفع كلام الخصم، لكونه دفعا لاعتراضه من الجهة الّتي سبقت إليه في توجيه هذا الاعتراض و ليس جوابا تحقيقيّا، و إلاّ فلا إشكال في أنّ إثبات العموم بالمعنى المذكور ممّا لا تحسم مادّة الإشكال بالقياس إلى ما هو من محلّ البحث؛ إذ بعد تسليم أنّ كلّ نجس ينجّس الماء القليل من غير استثناء شيء من أفراد النجس، و لا استثناء شيء من أفراد الماء، فالإشكال بالنسبة إلى أحوال الملاقاة على حاله، لجواز أن يقول أحد: بأنّه لم يظهر من هذه القضيّة الكلّيّة أنّ ملاقاة كلّ نجس سبب للانفعال في جميع أحوالها؛ إذ لا ملازمة بين العمومين، كما في قول القائل: «أحبّ كلّ عالم» حيث إنّه لا يدلّ على أنّه محبّه في جميع أحواله.

ص: 306


1- الوسائل 158:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1.
2- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 319:1.

و الحاسم لمادّة الإشكال إنّما هو العموم من الجهة المذكورة أيضا لا مجرّدة من جهة الأفراد و لا يلزم من كون الشرط علّة منحصرة للجزاء إلاّ ثبوت العموم من جهة الأفراد و يبقى إثبات العموم الآخر محتاجا إلى دليل آخر، و لذا تراه - مدّ ظلّه - عدل في ثالث الأجوبة عن ذلك إلى ما قرّرناه سابقا.

و ثاني ما أفاده مدّ ظلّه في الجواب، قوله: «لو سلّمنا عدم دلالة المفهوم بمقتضى نفس التركيب على العموم، لكن القرينة هنا عليه موجودة؛ لأنّ المراد «بالشيء» في المنطوق ليس كلّ شيء من أشياء العالم، بل المراد ما من شأنه تنجيس ملاقيه من النجاسات المقتضية للتنجيس فإذا فرض كلّ فرد منها مقتضيا للتنجيس، و كانت الكرّيّة مانعة، لزم عند انتفاء الكرّيّة المانعة ثبوت الحكم المنفيّ لكلّ فرد من «الشيء» باقتضائه السليم من منع المانع، و أوّل المثالين من هذا القبيل، فإنّ المنفيّ مع ثبوت الخوف من اللّه هو الخوف من كلّ من يوجد فيه مقتضى الخوف منه، فمع عدم الخوف من اللّه يثبت الخوف من كلّ واحد من هذه المخوفات باقتضاء نفسه، و من هذا القبيل قولك: «إذا توكّلت على اللّه فلا يضرّك ضارّ»(1) انتهى.

و ظنّي أنّ ذلك منه مدّ ظلّه وقع في غير محلّه، فإنّ قوله: «فإذا فرض كلّ فرد منها مقتضيا للتنجيس الخ» هذا هو محلّ الكلام؛ إذ الخصم لا يسلّم أنّ كلّ فرد من النجاسات مقتض لتنجيس الماء، فلا بدّ في تتميم الدليل من تحقيق هذا الفرض و إثبات عنوان الشأنيّة لكلّ نجس، فلو اريد إثباته بالخارج كان خروجا عن الاستدلال بالرواية كما لا يخفى، و لو اريد إثباته بنفس الرواية اتّجه إليه المنع المتقدّم في تقرير الاعتراض، و لو أرسل ذلك بعدم إقامة دليل على إثباته كان إبقاء لشبهة المعترض على حالها، من أنّ ما يثبت في جانب المفهوم ليس إلاّ قضيّة مهملة هي في قوّة الجزئيّة، و أنّ رفع السلب الكلّي أعمّ من الإيجاب الكلّي.

هذا مضافا إلى أنّ بناءه مدّ ظلّه في توجيه الرواية - على ما حقّقه في غير هذا الموضع - على كونها مسوقة لبيان مانعيّة الكرّ عن الانفعال، و عليه فرّع أصالة الانفعال الّتي بنى عليها الأمر في كلّ ماء مشكوك حاله من حيث الانفعال و عدمه، و قد مرّ منعه بغير مرّة.

ص: 307


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 319:1.

هذا مضافا إلى أنّه لو بنى في توجيه الرواية على كونها لبيان المانعيّة أشكل إثبات نجاسة ماء الغسالة، بل أشكل الاستدلال بها على انفعال القليل على الإطلاق؛ لأنّ أقصى ما يستفاد منها حينئذ أنّ الكرّيّة حيثما وجدت كانت مستلزمة لعدم الانفعال؛ لأنّ المانع ما يلزم من وجوده العدم، و أمّا أنّ عدمها يستلزم الانفعال فلا؛ إذ المانع ما لا يلزم من عدمه الوجود، فالجمع بين هذا التوجيه و الاستدلال بها في كلا المقامين عجيب.

و بما قرّرنا في توجيه الاستدلال، و ما أثبتناه من نجاسة ماء الغسالة، ظهر وجه المنع الوارد في رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الماء الّذي يغسل به الثوب، أو يغتسل به من الجنابة، لا يتوضّأ منه»(1) فإنّ هذا المنع الجامع للنوعين معا إمّا من جهة وجود المانع في كليهما و هو النجاسة، أو من جهة فقد المقتضي عن كليهما و هو انسلاخ الطهوريّة عنهما بالاستعمال، أو من جهة وجود المانع في الأوّل و فقد المقتضي في الثاني، أو بالعكس.

و الأوّل مع الأخير منفيّان كلّ بالإجماع على طهارة ما يستعمل في الغسل، و بقي المتوسّطان محتملين معا، غير أنّ الأوّل منهما أيضا منفيّ بما دلّ على نجاسة ماء الغسالة، فإنّه بمنزلة البيان لتلك الرواية فتعيّن ثانيهما.

و من هنا يعلم أنّه لا يمكن الاستدلال بتلك الرواية على النجاسة بجعلها دليلا مستقلاّ عليها، فالاستدلال بها - كما حكي(2) عن المعتبر(3)، و المنتهى(4)، ضعيف جدّا، و نظيره في الضعف ما قيل: من أنّها تشعر بطهارة ماء الغسالة، حيث جمع فيها بينه و بين المستعمل في الغسل الّذي هو طاهر إجماعا، فإنّ اتّحاد شيئين في الحكم لا يقضي باتّحاد الجهة و علّة ذلك الحكم، كما لا يخفى.

ثمّ يبقى في المقام شيء و هو أنّ في الشرح المشار إليه للأستاذ(5) نسبته الاستدلال بها إلى العلاّمة في المنتهى و لعلّه اشتباه؛ لأنّ العلاّمة في المنتهى لم يورد هذه الرواية في تلك المسألة، و لا أنّه تمسّك بها على مطلوبه، و إنّما أورده بعد الفراغ عن تلك المسألة

ص: 308


1- الوسائل 215:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 13 - التهذيب 630/221:1.
2- و الحاكي هو الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة 323:1.
3- المعتبر: 22.
4- منتهى المطلب 143:1.
5- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري قدّس سرّه - 323:1.

في مسألة عدم جواز استعمال ماء الغسالة في رفع الحدث، و أسند التمسّك بها إلى الشيخ فقال: «رفع الحدث بمثل هذا الماء أو بغيره ممّا يزيل النجاسة لا يجوز إجماعا، أمّا على قولنا فظاهر، و أمّا على قول الشيخ فلما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام الحديث»(1).

و بالجملة: فالاستدلال بتلك الرواية من أيّ أحد كان ليس في محلّه، و كان القدح فيها دلالة بعد القدح في سندها في محلّه جدّا.

نعم، يصحّ الاستدلال على هذا المطلب بما رواه عيص بن القاسم - و أورده الشيخ خاصّة في الخلاف(2)، و استند إليه العلاّمة من غير قدح فيها سندا و دلالة قال: سألته عن رجل أصابه قطرة من طشت فيه وضوء؟ فقال: «إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه»(3)، و دلالته على المطلب بملاحظة ما فيها من الإطلاق الشامل لما انفصل عن الغسلة مطلقا، بل ظهورها في هذا المعنى بناء على ما تقدّم منّا(4) في بحث الاستنجاء من توجيهها عند شرح لفظة «الوضوء» واضحة لا إشكال فيه، و ما عن الشهيد في الذكرى(5)من تكلّف حملها على صورة التغيّر ممّا لا يلتفت إليه، لكونه قطعا للظاهر بلا داع إليه.

و أضعف منه ما في شرح الدروس(6)، من منع دلالة الجملة الخبريّة على الوجوب، فإنّ المحقّق في محلّه الدلالة، مع عدم ابتناء ثبوت المطلب على ثبوت تلك الدلالة، بل يكفي فيه كونه إخبارا في مقام الإرشاد و بيان الواقع كما لا يخفى، و أضعف من الجميع ما عن الأمين الأسترآبادي(7) من حملها على كون الاستنجاء في الطشت إنّما وقع بعد التغوّط أو البول فيه، مدّعيا أنّ ذلك مقتضى العادة.

فإنّ الرواية ليست مسوقة لبيان حكم الاستنجاء جدّا - كما بيّنّاه آنفا - لعدم جريان العادة بالاستنجاء على الطشت و إن وقع نادرا لضرورة، و أمّا رفع الأخباث عليه و لا سيّما في الفروش و غيرها من الثياب الغير المنقولة كاللحاف و نحوه شائع معتاد جزما، و على فرض صحّة ما ذكر فالعادة المدّعاة ممنوعة، كما أشار إليه في الحدائق(8).

ص: 309


1- المنتهى 143:1.
2- الخلاف 179:1 المسألة 135.
3- الوسائل 215:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 14.
4- تقدّم في الصفحة 258.
5- ذكرى الشيعة 84:1.
6- مشارق الشموس: 256.
7- حكى عنه في الحدائق الناضرة 480:1.
8- الحدائق الناضرة 480:1.

نعم، ربّما يناقش في الرواية بما هو جيّد في ظاهر الحال، و هو القدح في سندها تارة: من جهة أنّها غير موجودة في كتب الأخبار الموجودة الآن، و اخرى: من جهة ما فيها من الإضمار.

و لكنّ الخطب في ذلك هيّن، لوضوح اندفاع الأوّل: بأنّ رواية الشيخ لها في خلافه لا تقصر عن روايته في تهذيبه و استبصاره، بل الأوّل أولى بالتعويل عليه في نظر الاعتبار، لأنّه إنّما ذكرها مستندا إليها في الفتوى بخلاف الثاني، لكثرة ما فيه من ذكره لمجرّد الضبط من دون استناده إليه.

و أمّا ما فيها من الإرسال لحذفه الوسائط فغير قادح أيضا، لظهور أنّه إنّما وجدها في كتاب العيص مع ملاحظة ما ذكره في الفهرست(1) من: «أنّ له كتابا»، و هو بنفسه على ما صرّح به النجاشي(2) و العلاّمة في الخلاصة(3): «ثقة عين يروي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و أبي الحسن»، و طريق الشيخ إليه على ما صرّح به غير واحد حسن و هو كذلك، لأنّه قال في الفهرست(4) على ما في منتهى المقال(5): «له كتاب، أخبرنا ابن أبي جيد، عن ابن الوليد، عن محمّد بن الحسن الصفّار و الحسن بن متّيل، عن إبراهيم بن هاشم، عن ابن أبي عمير و صفوان، عن العيص».

و ليس فيه إلاّ إبراهيم بن هاشم و ابن أبي جيد، و هو عليّ بن أحمد بن أبي جيد، و الأوّل حاله معلوم من حيث أنّ السند من جهته يعدّ عندهم حسنا، و ربّما يطلق عليه الحسن كالصحيح، و الثاني من ذكر الشيخ في ترجمته في الفهرست: «أنّه كان إماميّا مستقيم الطريقة، و صنّف كتبا كثيرة سديدة»(6).

و عن التعليقة: «قال المحقّق البحراني: إكثار الشيخ الرواية عنه في الرجال و كتابي

ص: 310


1- الفهرست للطوسي: 347.
2- رجال النجاشي: 824.
3- خلاصة الأقوال: 227.
4- الفهرست للطوسي: 347.
5- منتهى المقال 2259:5.
6- أقول: هذا سهو من قلمه الشريف، لأنّ ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في الفهرست انّما هو ترجمة لعليّ ابن أحمد بن أحمد الكوفي، المتوفّى سنة 352، و هو غير عليّ بن أحمد بن أبي جيد، الّذي لا يذكر في الفهرست و لا في رجال النجاشي، لعدم كونه من المؤلّفين. [فراجع الفهرست للطوسي: 211 رقم 455 - رجال النجاشي: 265 - معجم رجال الحديث 246:11].

الحديث يدلّ على ثقته و عدالته و فضله، كما ذكره بعض المعاصرين يعني خالي(1)و المحقّق الداماد»(2).

و بالجملة: فالرواية من هذه الجهة ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه، و كأنّ إسقاطه الوسائط مبنيّ على قاعدته المعروفة في كتابي الحديث، من أنّه إذا ترك بعض أسناد الحديث فإنّما يبدأ في أوّل السند باسم الرجل الّذي أخذ الحديث من كتابه، و أمّا ما فيه من الإضمار، فهو و إن اشتهر في الألسن كونه ممّا يوجب القدح في الحديث، غير أنّ التأمّل يقضي بخلافه، كما صرّح به جماعة منهم صاحب الحدائق قائلا: «بأنّ الإضمار في أخبارنا فقد حقّق غير واحد من أصحابنا رضي اللّه عنهم أنّه غير قادح في الاعتماد على الخبر، فإنّ الظاهر أنّ منشأ ذلك هو أنّ أصحاب الأصول لمّا كان من عادتهم أن يقول أحدهم - في أوّل الكلام -: «سألت فلانا» و يسمّي الإمام الّذي روى عنه، ثمّ يقول: «و سألته» أو نحو ذلك حتّى ينتهي الأخبار الّتي رواها، كما يشهد به ملاحظة بعض الاصول الموجودة الآن ككتاب عليّ بن [أبي فضّال](3)، و كتاب قرب الأسناد و غيرهما، و كان ما رواه عن ذلك الإمام أحكاما كثيرة مختلفة بعضها يتعلّق بالطهارة، و بعض بالصلاة، و بعض بالنكاح و هكذا، و المشايخ الثلاثة رضي اللّه عنهم لمّا بوّبوا الأخبار و رتّبوها اقتطعوا كلّ حكم من تلك الأحكام، و وضعوه في بابه بصورة ما هو مذكور في الأصل المنتزع منه، فوقع الاشتباه على الناظر بظنّ كون المسئول عنه غير الإمام، و جعل هذا من جملة ما يطعن به في الاعتماد على الخبر»(4) انتهى.

و هذا في غاية الجودة كما نشاهد في الناس، فإنّ العادة مستقرّة بأنّ من لو وقع بينه و بين غيره وقائع أو مسائل، فأراد حكاية تلك الوقائع أو المسائل لغيره فيصرّح باسم صاحبه أوّلا، ثمّ يحكي عنه كلّ مسألة مسألة مضمرا اسمه.

و إن شئت لاحظ المستفتي في حكاية فتاوي مجتهده الّتي سأله عنها في مجلس

ص: 311


1- التفسير إنّما هو من الوحيد البهبهاني صاحب التعليقة، و خاله الّذي من معاصري المحقّق البحراني المتوفّى سنة 1121 هو العلاّمة المجلسي المتوفّى 1110.
2- تعليقة الوحيد البهبهاني: 401 - انظر منتهى المقال 292:7 - الرواشح السماويّة: 105.
3- الحدائق الناضرة: 479:1، و في الحدائق الناضرة «عليّ بن جعفر» بدل «عليّ بن أبي فضّال».
4- الحدائق 479:1.

واحد، و هي مسائل متفرّقة كلّ بعض منها متعلّقة بباب، و العادة أيضا جارية بأنّ الناقلين لتلك الوقائع أو المسائل عمّن يروون عنه، إذا أرادوا نقل كلّ واقعة أو مسألة في بابها اللائق بها، فلا يزالون يرتكبون التقطيع بين تلك الوقائع أو المسائل المسموعتين، و ينقلون كلّ واقعة و مسألة في بابهما اللائق بهما بصورة ما كانت مسموعة لهم من التصريح بالاسم، أو إضماره أو نحو ذلك، هذا فإنّه تحقيق عامّ نفعه.

و ممّا استدلّ على المطلب الإجماع المنقول، اعتمد عليه شيخنا في الشرح المشار إليه(1).

و الّذي وصل إلينا منه ثلاث إجماعات، أحدها ما في المنتهى، قائلا: «متى كان على جسد الجنب أو المغتسل من حيض و شبهه نجاسة عينيّة، فالمستعمل إذا قلّ عن الكرّ نجس إجماعا، بل الحكم بالطهارة إنّما يكون مع الخلوّ عن النجاسة العينيّة»(2)، و ثانيها مع ثالثها - ما تقدّم الإشارة إليهما - عن التحرير(3) و المعتبر(4)، و عليهما اعتمد الاستاد(5)، حاكما عليهما بكونهما معتضدين بالشهرة المحقّقة.

و استدلّ أيضا: بإيجاب تعدّد الغسل و إهراق الغسلة الاولى بالكلّيّة من الظروف، و وجوب العصر فيما يجب فيه العصر، و عدم جواز تطهير ما لا يخرج عنه الماء بالماء القليل، بل بالماء الكثير.

و ضعف الكلّ واضح للمتأمّل، لجواز كون إيجاب التعدّد من جهة أنّ النجاسة لا تزول عن المحلّ بالمرّة إلاّ معه، و قد علم به الشارع الحكيم فأوجب التعدّد، و كون اعتبار الإهراق في الآنية و العصر في الثوب من جهة أنّ المطهّر حقيقة هو الصبّ مع الإهراق أو العصر، دون نفس الماء و إنّما هو شرط، و لا ينافيه إسناد المطهّرية إليه، لأنّه آلة فيتوسّع في الاستعمال، و لعلّه السرّ في اعتبار الكثرة فيما لا يخرج عنه الماء، فإنّ المطهّر لمّا كان مركّبا من الصبّ و العصر و هو غير ممكن في المفروض، فأقام الشارع مقامه الغسل بالكثير، لعلمه بأنّه أيضا نظير الأوّل في إفادة التطهير.

و من هنا يندفع ما نقض به الجواب عن اعتبار الإهراق في الأواني، بأنّ ذلك تعبّد من الشارع، أو أنّه من جهة توقّف تحقّق مفهوم «الغسل» على إخراج الغسالة، من أنّه

ص: 312


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 314:1.
2- منتهى المطلب 137:1.
3- تحرير الأحكام: 5.
4- المعتبر: 22.
5- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 314:1.

فلم لا يجب إذا فرضنا الغسلة بإجراء ماء معتصم عليه كالكثير و الجاري و المطر؟ فعلم أنّ الإهراق ليس إلاّ لنجاسة الغسالة، فإذا غسل بالمعتصم لم ينفعل بملاقاة المحلّ.

ثمّ بقى في المقام تفريعا على المختار أمران:

أحدهما: مقتضى القاعدة أن تكون البلّة الباقية على المحلّ بعد انفصال الغسالة عنه بالعصر أو الإفراغ نجسا، لأنّه جزء من النجس، بل قضيّة ذلك أن لا يطهّر المحلّ بالماء القليل أبدا، لكن ظاهر المنتهى(1)، و المحكي عن المعتبر(2)، المسند إلى ظاهر المشهور في الحدائق المدّعى فيه «أنّه قطع به جمع من الأصحاب»(3) كونها طاهرة مطلقا.

قال في المنتهى - بعد ما حكى عن الشافعي القائل بطهارة الغسالة، الاستدلال بأنّه جزء من المتّصل، و المتّصل طاهر، فكذا المنفصل -: «و الجواب عن الأوّل: الفرق، و هو لزوم المشقّة في تنجّس المتّصل دونه»(4) فإنّ الجواب بإبداء الفارق دون منع الحكم في المقيس عليه ينبئ عن اختياره الطهارة، كما يدلّ عليه أيضا التعبير بلفظة «التنجّس» في قوله: «لزوم المشقّة في تنجّس المتّصل دونه».

و أصرح منه كلام المعتبر - فإنّه بعد ما حكى عن الشيخ الاحتجاج على طهارة الغسالة في إناء الولوغ، بأنّه لو كان المنفصل نجسا لما طهّر الإناء، لأنّه كان يلزم نجاسة البلّة الباقية بعد المنفصل، ثمّ نجّس الماء الثاني بنجاسة البلّة، و كذا ما بعده - قال: «و الجواب أنّ ثبوت الطهارة بعد الثانية ثابت بالإجماع، فلا يقدح ما ذكره، و لأنّه معفوّ عنه رفعا للحرج»(5) و لا منافاة بين الحكم بالطهارة أوّلا، و الحكم بالعفو ثانيا - كما سبق إلى بعض الأوهام - لجواز كون العفو هنا مرادا به رفع النجاسة نفسها لا رفع حكمها فقط، و لو اريد به ذلك - كما هو المعهود من معنى هذه اللفظة - لما كان قادحا أيضا، لجواز ابتنائه على التنزّل و المماشاة، و كيف كان فالعفو بهذا المعنى أحد الوجوه المحتملة في المقام، و لم ينقل اختياره صريحا عن أحد من أصحابنا.

نعم عن الأردبيلي(6) ذكره احتمالا، و هو محتمل القول الّذي حكاه الشهيد في حاشية الألفيّة(7) عن بعض الأصحاب، أعني القول بنجاسة الغسالة مطلقا - و لو بعد

ص: 313


1- منتهى المطلب 142:1.
2- المعتبر: 22.
3- الحدائق 494:1.
4- منتهى المطلب 142:1.
5- المعتبر: 23.
6- مجمع الفائدة و البرهان 287:1.
7- المقاصد العليّة: 162.

طهارة المحلّ - على ما سنقرّر وجهه.

و الوجه الآخر من وجوه المقام النجاسة مطلقا، في مقابلة الطهارة مطلقا و العفو، و هذا ممّا لم يذهب إليه أحد.

نعم، هاهنا وجه رابع، و هو كونه طاهرا ما دام في المحلّ فإذا انفصل نجّس، و هو محكيّ في الحدائق و غيره عن صريح العلاّمة في القواعد، قال في الحدائق: «و الظاهر أنّه مبنيّ على ما اختاره من عدم نجاسة القليل الّذي تزال به النجاسة إلاّ بعد الانفصال عن المحلّ، قال في الكتاب المذكور: «و المتخلّف في الثوب بعد عصره طاهر، فإن انفصل فهو نجس»(1) انتهى.

فعنده أنّه إذا عصر الثوب من الغسل المعتبر في تطهيره حكم بطهارته قطعا، و المتخلّف عنه على حكم الطهارة، فلو بالغ أحد في عصره فانفصل منه شيء كان نجسا؛ لأنّ أثر ملاقاته للمحلّ النجس عنده إنّما يظهر بعد الانفصال».(2) انتهى.

و الّذي يترجّح في النظر القاصر، أنّها تتبع المحلّ فتكون طاهرة مطلقا، و ذلك لإجماع المسلمين المعلوم من عملهم في كافّة الأعصار و الأمصار، حيث إنّهم يغسلون أبدانهم و أثوابهم و أوانيهم، و يجرون عليها بعد ذلك و على ما فيها من البلل الباقية جميع أحكام الطهارة و لا يتأمّلون فيها، فيباشرون بها حال البلّة و حال عدمها في مآكلهم و مشاربهم و تطهيراتهم من الأخباث و الأحداث، فإذا غسلوا شيئا من الأبدان يدخلونه في المآكل و المشارب و مياه الوضوء و الغسل، أو شيئا من الثياب لا يتحرّزون عن ملاقاته لشيء من ذلك، أو شيئا من الأواني يجعلون عليه المأكل و المشرب و الوضوء و الغسول بلا تأمّل في شيء من ذلك، فلو لا المحلّ مع ما فيه من البلل طاهرين لما ساغ لهم شيء من ذلك، لإجماعهم الضروري على اشتراط الطهارة في جميع ما ذكر، و أخبارهم متواترة عليه معنى.

فنقول: بملاحظة ذلك مع ما ذكر من الإجماع الأوّل أنّ ما ليس بطاهر لا يجوز استعماله في المأكل و المشرب و الوضوء و الغسول، فينعكس ذلك بطريقة عكس النقيض إلى أنّ: كلّ ما جاز استعماله في الامور المذكورة فهو طاهر، و العفو المدّعى في

ص: 314


1- قواعد الأحكام 186:1.
2- الحدائق الناضرة 495:1.

هذا المقام إن اريد به سلب أحكام النجاسة في خصوص المباشرة حال الصلاة و نحوها، فكيف يجامعه المباشرة في الامور المذكورة، و لو اريد به سلب أحكام النجاسة مطلقة و لو في الموارد المذكورة فهو عين معنى الطهارة و معه ارتفع النزاع بالمرّة.

هذا مضافا إلى أنّ نجاسة البلّة الباقية في المحلّ عرضيّة، حاصلة عن نجاسة المحلّ، فإذا أفاد الغسل - الّذي هو عبارة عن مجموع الصبّ مع العصر أو الإفراغ - طهارة المحلّ و زوال النجاسة الأصليّة عنه، فلأن يكون مفيدا لطهارة البلّة الباقية فيه و زوال نجاستها العرضيّة الحاصلة من النجاسة الأصليّة طريق الأولويّة.

دعوى: أنّه يزيل النجاسة الأصليّة و لا يزيل النجاسة العرضيّة الحاصلة منها كما ترى، مع أنّه عند التحقيق ممّا لا يكاد يعقل، حيث إنّ العرضيّة معلولة من الأصليّة، و لا بقاء للمعلول بدون العلّة.

و احتمال كون الأصل علّة محدثة، فلا ضير في انعدامه، لجواز تخلّف العلّة المبقية عنه.

يدفعه: أنّ هذا الفرض إنّما يستقيم إذا كان علّة الحدوث عين النجاسة الموجودة في المحلّ، لا الأثر الحاصل منها فيه، فإذا فرض زوال العين عن المحلّ لا يلزم منه زوال المعلول، لجواز استناده في البقاء إلى الأثر الحاصل منها في المحلّ، فنحن نفرض في محلّ الكلام كون علّة الحدوث و هو الأثر الحاصل في المحلّ بعد زوال العين، فحينئذ إمّا أن يقال: بزوال هذه العلّة عن المحلّ بالغسل الشرعي، أو يقال: بعدم زوالها، و الثاني باطل بالضرورة من الشرع القائم على أنّ الغسل الشرعي يوجب طهارة المحلّ، و الأوّل مستتبع للمحذور، و لا يعقل مع زوال كلّ من العين و الأثر عن المحلّ علّة اخرى يستند إليها بقاء نجاسة البلّة.

و لو قيل: بأنّ العلّة المبقية هو كون ما بقى في المحلّ بلّة، فحينئذ نقول: إذا زالت البلّة بطروّ اليبوسة على المحلّ، إمّا أن يكون شيء من أثر تلك النجاسة باقيا في المحلّ أو لا؟ و لا سبيل إلى شيء منهما، أمّا الأوّل: فلاستلزامه المحذور، و أمّا الثاني: فلقضائه بكون اليبوسة في غير ما حصل من الشمس في مواضع مخصوصة - يأتي ذكرها في محلّها - من جملة المطهّرات، و هو ممّا لا أثر له في الشرع و لا دليل عليه أصلا، بل الأدلّة قائمة بخلافه، مع أنّ القول ببقاء النجاسة في البلّة ممّا يفضي إلى عدم قبول

ص: 315

المحلّ للطهارة أصلا؛ لأنّها ما دامت باقية لازمة للمحلّ و لا تنفكّ عنها، و هي على الفرض ملزومة للنجاسة، فكانت النجاسة لازمة للمحلّ، و هو كما ترى خلاف ما يظهر من الأدلّة، و القول بطهارة المحلّ مع نجاسة البلّة الباقية فيه كما ترى تناقض في المقالة، كما أنّ القول بعدم تأثّر المحلّ من تلك النجاسة مجازفة صرفة.

و من هنا يعلم أنّ الحكم بنجاسة البلّة ممّا يفضي إلى تجويز السفه على الشارع الحكيم في إيجابه الغسل و التطهير، إذ المفروض عدم انفكاك النجاسة العرضيّة عن المحلّ، فلأيّ فائدة أوجب على المكلّف تكلّف الغسل، و اعتبار العفو هنا مع أنّه ممّا لا محصّل له يشبه بكونه أكلا بالقفاء؛ لأنّ هذا العفو كما كان يمكن اعتباره بالنسبة إلى النجاسة العرضيّة، فكذلك كان يمكن بالنسبة إلى الأصل أيضا، فلم لم يعتبر فيه مع أنّه أسهل و أقرب إلى السمحة السهلة؟ مع أنّ القول بنجاسة البلّة مع العفو عنها ممّا يخالف مفاد الأدلّة من الأخبار المتواترة جدّا، الآمرة بالغسل في أنحاء النجاسات و تطهير أنواع المتنجّسات، و الواردة في تعليم كيفيّة ذلك و طريقه في المواضع الّتي يختلف باختلافها الكيفيّة؛ لأنّ مصبّ الجميع و المنساق منها عرفا و شرعا إنّما هو حصول الطهارة بذلك، و أنّ الغرض من اعتباره تحصيلها، و لا ريب أنّ الطهارة في المحلّ مع نجاسة البلّة الباقية فيه غير ممكنة.

و ممّا يدلّ على ذلك أيضا خصوص موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سئل عن الكوز أو الإناء يكون قذرا، كيف يغسل؟ و كم مرّة يغسل؟ قال: «ثلاث مرّات، يصبّ فيه ماء فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ ذلك الماء منه، ثمّ يصبّ ماء آخر فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ ذلك الماء منه، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه ثمّ يفرغ منه، و قد طهر»(1).

فإنّ نجاسة البلّة الباقية ينفيها قوله عليه السّلام: «و قد طهر»، لما عرفت من أنّ نجاسة البلّة تستلزم نجاسة المحلّ لا محالة، و احتمال كون المراد بالطهارة هنا العفو كما ترى.

ثمّ إذا فرضنا البلّة طاهرة ما دامت في المحلّ، فأيّ شيء يوجب انقلاب حكمها إلى النجاسة لو فرض انفصالها بالمبالغة في العصر؟ و أيّ دليل من الشرع يقضي بذلك؟ مع أنّ الطهارة هو الأصل في الأشياء و لا سيّما المياه - حسبما قرّرناه و أسّسناه سابقا -

ص: 316


1- الوسائل 496:3 ب 53 من أبواب النجاسات ح 1 - التهذيب 832/284:1.

و كون ذلك متفرّعا على القول بنجاسة ماء الغسالة بعد الانفصال خاصّة كما يأتي عن العلاّمة ممّا لا يصلح عذرا لفساد هذا القول من رأسه، كما يأتي بيانه.

و أمّا مقدار ما يبقى من البلّة في حكم الطهارة، فهو من فروع كيفيّة الغسل و يأتي التعرّض له في مباحث التطهير، إن شاء اللّه تعالى.

و ثانيهما: قد عرفت سابقا أنّ القول بنجاسة ماء الغسالة مطلقا في كلام أهل القول بها محتمل لأن يكون حكمه كالمحلّ قبل الغسل، و لأن يكون كالمحلّ قبل الغسلة المطهّرة كما صرّح به في شرح الدروس(1)، و الوجه في ذلك عدم تصريحهم باختيار شيء من ذلك، بل و لا إشعار في كلامهم باختيار أحد هذه الوجوه، لكون الحكم بالنجاسة واردا في كلامهم على الإطلاق كما صرّح به في الحدائق(2)، فما في هذا الكتاب عن جملة من المتأخّرين و متأخّريهم بالنسبة إلى هذا القول - أي القول بالنجاسة مطلقا - من أنّ حكم الغسالة كالمحلّ قبل الغسل(3) ليس على ما ينبغي، إن كان الغرض بيان كونه مذهب القائلين بهذا القول، و العجب عن صاحب هذا الكتاب أنّه حيثما عنون هذا القول عنونه بعبارة مصرّحة بكون حكمها كالمحلّ قبل الغسل، فيعتبر التعدّد فيما تلاقيه متى كان التعدّد معتبرا في المحلّ، ثمّ بالغ في إنكار هذا العنوان عند ذكر الفروع، قائلا - في دفع القول المشار إليه، المنقول عن جملة من المتأخّرين و متأخّريهم -: «بأنّي لم أجد له أثرا في كلام القائلين بهذا القول، كالمحقّق و العلاّمة، بل يحتمل أنّ مرادهم أنّها في حكم المحلّ قبل الغسلة، إذ غاية ما يدلّ عليه كلامهم هو النجاسة، و أمّا أنّه يجب فيما تلاقيه العدد المعتبر في المحلّ فلا» الخ(4).

ثمّ لا يخفى ما في اقتصاره على الاحتمال المذكور، إذ قد عرفت جريان احتمال ثالث في كلامهم.

و كيف كان: فتحقيق المسألة مبنيّ على النظر في أنّ الأصل في تطهير النجاسات هل هو التعدّد، أو الاكتفاء بالمرّة؟ و له محلّ آخر يأتي إن شاء اللّه، و لكن الّذي يقوى في نظري القاصر إلى أن يقع التأمّل التامّ فيه في محلّه الآتي، هو الاكتفاء بالمرّة، وفاقا

ص: 317


1- مشارق الشموس: 254.
2- الحدائق الناضرة 489:1.
3- الحدائق الناضرة 477:1.
4- الحدائق الناضرة 489:1.

للحدائق(1)، و محكيّ المعالم(2)، مع نقله فيه عن بعض مشايخه المعاصرين؛ لأنّ اعتبار التعدّد تكليف بأمر زائد، على ما ثبت من الشرع يقينا، و الأصل ينفيه، و لا يعارضه الاستصحاب و أصل الشغل هنا و إن كانا جاريين، لما قرّر في محلّه.

هذا حكم الغسالة بعد الانفصال و أمّا حكمها قبله فكذلك، فلو لاقاها شيء و هي في المحلّ - و حاصله ملاقاة المحلّ قبل إخراج الغسالة عنه - لم يجب غسله متعدّدا، كما لو لاقاها بعد مفارقة المحلّ، هذا تمام الكلام في أوّل الأقوال.

و أمّا ثانيها: فالقول بالنجاسة، لكن حكمه حكم المحلّ قبل الغسلة، فيجب غسل ما أصابه ماء الغسلة الاولى مرّتين، و الثانية مرّة فيما يجب فيه المرّتان و هكذا، ذهب إليه الشهيد في الدروس(3) - كما نقل عنه في الذكرى(4) - و عبارته في الدروس - على ما في محكيّ الخوانساري في شرحه(5) - هكذا: «و في إزالة النجاسة نجس في الاولى على قول، و مطلقا على قول، و كرافع الأكبر على قول، و طاهر إذا ورد على النجاسة على قول، و الأولى أنّ ماء الغسلة كمغسولها قبلها».

و عن الأردبيلي في شرح الإرشاد(6) الميل إليه، و اختلفت كلمتهم في اتّحاد هذا القول مع سابقه و مغايرته له، فعن الشهيد الثاني(7) و غيره التصريح بالمغايرة، و يستفاد من صاحب الحدائق اتّحادهما، حيث قال: «بل ظاهر الشهيد في الذكرى أنّ القول المنسوب إليه هو بعينه القول الأوّل، و أنّ القول بالنجاسة مطلقا عبارة عن كون حكم الغسالة حكم المحلّ قبل الغسلة الخ»(8).

و لكن العبارة المتقدّمة منه في الدروس تنادي بفهم المغايرة بين مذهبه و القول الأوّل، حيث جعل مختاره مقابلا للأقوال الاخر، الّتي منها القول بالنجاسة مطلقا، و لا ريب أنّه لا يعقل بينهما مغايرة مع اشتراكهما في أصل الحكم بالنجاسة، إلاّ أنّه فهم من الجماعة أنّهم يجعلون الغسالة كالمحلّ قبل الغسل، و إن كان فهمه بهذا المعنى موضع مناقشة قدّمناها، و كان مستند الشهيد الثاني في فهم المغايرة أيضا هو العبارة المذكورة، و استشهد

ص: 318


1- الحدائق الناضرة 490:1.
2- فقه المعالم 323:1.
3- الدروس الشرعيّة 122:1.
4- ذكرى الشيعة 85:1.
5- مشارق الشموس: 254.
6- مجمع الفائدة و البرهان 285:1.
7- روض الجنان: 159.
8- الحدائق 489:1.

في الحدائق على ما فهمه من الاتّحاد بقوله: «فإنّه - يعنى الشهيد في الذكرى - نقل أوّلا القول بالطهارة عن المبسوط، ثمّ نقل مذهب الشيخ في الخلاف، ثمّ نقل مذهب المحقّق و العلاّمة و هو القول بالنجاسة مطلقا، و نقل أدلّته و طعن فيها ثمّ قال: «و لم يبق سوى الاحتياط، و لا ريب فيها، فعلى هذا ماء الغسلة كمغسولها قبلها، و على الأوّل كمغسولها بعدها أو كمغسولها بعد الغسل»، و مثله كلام الشيخ علي في شرح القواعد(1) انتهى.

وجه الاستشهاد: ما أفاده بعد ذلك: «من أنّ التفريع في عبارة الذكرى إنّما جرى على مقتضى الأقوال المتقدّمة، فإنّ قوله: «فعلى هذا» أي فعلى القول بالنجاسة، و هو المنقول عن المحقّق و العلاّمة، و قوله: «و على الأوّل» إشارة إلى مذهبي المبسوط و الخلاف، و إن كان على سبيل اللفّ و النشر المشوّش، و على تقدير ما ذكر من المغايرة يلزم عدم التفريع على مذهب المحقّق و العلاّمة»(2) انتهى.

و الإنصاف: أنّ هذه العبارة ليست بصريحة و لا ظاهرة في كون ما اختاره عين ما اختاره المحقّق و العلاّمة.

نعم غاية ما فيها الدلالة على مشاركته في أصل القول بالنجاسة، و أمّا أنّه يوافقهما في حكم الغسالة من حيث ملاقيها فلا، و التفريع المذكور فيه لا يشعر بذلك، بل هو تفريع على أصل القول من حيث إنّه اختاره، و تحقيق للمسألة لنفسه لا عليه من حيث إنّه مختارهما، و لا ينافيه عدم التفريع عليه من هذه الحيثيّة، لجواز كون الحكم المذكور على مذهبهما مشتبها عنده، بمعنى أنّه لم يكن يدري أنّهما ما يقولان في أصل الغسالة و ملاقيها، بعد البناء فيها على النجاسة، فليتأمّل.

و كيف كان: فقد ذكر في هذا الكتاب في وجه الفرق بين الغسلتين باعتبار التعدّد في الاولى دون الثانية - فيما يجب غسله مرّتين مثلا -: «أنّ المحلّ المغسول تضعف نجاسته بعد كلّ غسلة و إن لم يطهر، و لهذا يكفيه من العدد بعدها ما لا يكفي قبلها، فيكون حكم ماء الغسلة كذلك، لأنّ نجاسته مسبّبة عنه فلا يزيد حكمه عليه، لأنّ الفرع لا يزيد عن الأصل».

ثمّ نقل عن والده أنّه قال - بعد ما نقل هذا الكلام -: «أقول: هذا التفصيل بالفرق

ص: 319


1- الحدائق 489:1.
2- الحدائق 489:1.

بين المنفصل من الغسلتين و إن كان لا يفهم من الأخبار، و لكنّه قريب من الاعتبار»، ثمّ قال:

«و هو كذلك، إلاّ أنّه بمجرّده لا يمكن الاعتماد عليه في تأسيس حكم شرعي»(1) انتهى.

أقول: لا يخفى عليك أنّه لا مخالفة بيننا و بين الشهيد في أصل المذهب، و ما صار إليه من الفرق بين الغسلتين كلام له راجع إلى ما يتفرّع على هذا القول، و وجهه ضعيف جدّا، و بعد الغضّ عنه فالمتّبع هو ما يقتضيه الأدلّة الشرعيّة، و حيث إنّ من الظاهر البديهي أنّ دليل الأصل في دلالته على اعتبار التعدّد في الغسل عنه كالبول مثلا لا يتناول ما ينفصل من الغسلة عنه؛ لعدم دخوله في مسمّى البول و لا الدم و لا غيرهما من النجاسات، ليس في البين مناط يكون منقّحا من نصّ الشارع، أو تنبيهه عليه بضرب من الدلالة المعتبرة، فلا جرم يكون اعتبار التعدّد بالنسبة إلى الغسلة الاولى قولا بلا دليل في ظاهر الحال، كما أنّ الاقتصار على المرّة في الغسلة الثانية استنادا إلى ما ذكر أخذ بموجب الاستحسان الصرف و ليس من مذهبنا، فلا يبقى ما يصلح لأن يكون مرجعا إلاّ الأصل المشار إليه، و قد عرفت أنّ مقتضاه الاكتفاء بالمرّة حتّى يثبت اعتبار الزائد بالدليل، فلا بدّ من اتّباع الأصل.

و أمّا ثالثها: فالقول بالنجاسة إن كان من الغسلة الاولى و الطهارة إن كان من الغسلة الثانية، و حاصله يرجع إلى أنّ الغسالة كالمحلّ بعد الغسلة، و لازمه التفصيل المذكور فيما يعتبر فيه الغسل مرّتين، و إطلاق هذا القول بالقياس إلى أنواع المحلّ المتنجّس من الثوب و البدن و الإناء و لو في ولوغ الكلب محكيّ - كما في الشرح المتقدّم للأستاد(2) - عن العلاّمة الطباطبائي، و كلّ من قال بأنّ الغسالة كالمحلّ بعدها، و نسب ذلك أيضا إلى الشيخ في الخلاف(3)، و لكن المنقول منه أنّه خصّصه بالمستعمل في تطهير الثوب، و أمّا المستعمل في الآنية فلا ينجّس عنده مطلقا، سواء كان من الاولى أو غيرها، فله تفصيل حينئذ أوّلا بين الثوب و الآنية، ثمّ في الثوب بين الغسلة الاولى و غيرها، بل ظاهر عبارته المنقولة عنه في الآنية يقتضي اختصاص ذلك بالولوغ، حيث إنّه في موضع من الخلاف قال: «إذا أصاب من الماء الّذي يغسل به الإناء من ولوغ الكلب ثوب الإنسان أو جسده

ص: 320


1- الحدائق الناضرة 481:1.
2- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 334:1.
3- الخلاف 179:1 المسألة 135.

لا يجب غسله، سواء كان من الدفعة الاولى أو الثانية أو الثالثة»(1)، و لعلّ عموم هذا الحكم في الآنية بالقياس إلى جميع النجاسات - كما اشتهر في الألسنة - مستفاد من دليله الآتي على هذا الحكم، فإنّه عامّ الجريان و إن كان مورده قاصرا عن إفادة العموم.

و كيف كان فعنه(2) الاحتجاج على نجاسة الغسلة الاولى في الثوب بأنّه: «ماء قليل معلوم حصول النجاسة فيه، فيجب أن يحكم بنجاسته، و بما تقدّم من رواية العيص»(3).

و أنت خبير بما فيه من التحكّم، فإنّ قاعدة انفعال القليل بملاقاة النجاسة إن كانت عامّة في نظره بحيث كانت متناولة لماء الغسالة، لكانت جارية في كلّ من الغسلتين؛ ضرورة: أنّ المحلّ بعد الغسلة الاولى لم يطهر بعد، فالماء المستعمل في الغسلة الثانية أيضا ممّا يصدق عليه أنّه ماء معلوم حصول النجاسة فيه، و إن لم تكن عامّة على نحو تشمل ماء الغسالة فلا وجه للقول بالنجاسة في الغسلة الاولى أيضا، بل لازمه القول بالطهارة في كلتا الغسلتين، عملا بالأصل السليم عن المعارض، و دعوى: شمولها للغسلة الاولى منه دون الثانية كما ترى.

إلاّ أن يقال: بخروج تلك الغسلة عن القاعدة بالدليل، فيدفعه: ما سيأتي في تزييف ذلك، إذ ليس ذلك إلاّ أصل الطهارة، و هو عامّ لا يعارض الخاصّ، أو أصل عملي لا يعارض الدليل، أو الأخبار المتقدّمة في الاستنجاء الحاكمة بطهارة الماء المستنجى به، فهي لعمومها الشامل للغسلتين معا تقضي بتخصيص القاعدة في الغسلة الاولى أيضا، فما وجه الفرق بينهما؟

مضافا إلى أنّها لا تشمل المقام بدلالة لفظيّة، لاختصاصها بماء الاستنجاء المخرج عن مطلق المستعمل في رفع الأخباث، و لا بدلالة شرعيّة؛ إذ ليس في المقام مناط منقّح، و كذا الكلام في احتجاجه بالرواية المشار إليها، فإنّها أيضا عامّة - فإن سلمت عنده سندا و دلالة - فهي مقتضية للنجاسة مطلقا، و إلاّ فلا وجه للاستناد إليها أصلا، إلاّ أن يدّعي التخصيص فيها أيضا، فيبقى الكلام معه في المخصّص، و ليس له ما يصلح لذلك، نعم يبقى فيها شيء ستسمعه مع دفعه.

ص: 321


1- الخلاف 181:1 المسألة 137.
2- الخلاف 179:1 المسألة 135.
3- الوسائل 215:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل ح 14 - نقله في الذكرى 84:1.

و قد يجاب عن دليله الأوّل - كما في شرح الدروس -: «بأنّ أدلّة نجاسة القليل لا عموم لها، و إنّما يكون مناط التعميم في بعض الصور بعدم القول بالفصل، و الشهرة بين الأصحاب و هما مفقودان فيما نحن فيه، و الأولى أن يقال: إنّ غاية ما يدلّ عليه أدلّة نجاسة القليل نجاسته بورود النجاسة عليه و أمّا العكس فلا، فحينئذ لو اشترطنا في التطهير الورود - كما هو رأي الشيخ - لا نسلّم جريان تلك الأدلّة في الغسالة، و هو ظاهر»(1) انتهى، و فيه: ما فيه.

و عنه(2) الاحتجاج على طهارة الغسلة الثانية: بما تقدّم من الأصل، و أخبار الاستنجاء، و بأنّ المحلّ بعدها طاهر مع بقاء مائها فيه، و الماء الواحد لا يختلف أجزاؤه في الطهارة و النجاسة.

و الجواب عن الأوّلين: قد ظهر بما مرّ، و عن الأخير، بأنّه إنّما يتّجه في الأجزاء ما دامت عنوان الجزئيّة باقية، و لا ريب أنّ الانفصال الّذي يتحقّق فيما بين المنفصل عن المحلّ و المتخلّف فيه رافع لهذا العنوان، و معه لا مانع في اختلافهما في الحكم، فحينئذ نقول: إنّ الماء المستعمل في الغسل نجس بجميع أجزائه ما دام في المحلّ، و إذا انفصل بقي المنفصل على نجاسته و طهر الباقي تبعا للمحلّ، بحكم أنّ الغسل الّذي جعله الشارع مطهّرا - و هو عبارة عن الصبّ و العصر - يوجب الطهر فيهما معا، و لا مانع منه إذا دلّ عليه الدليل، و لو سلّم عدم قيام الدلالة على ذلك فيكفينا الاحتمال في هدم ما ذكر من الاستدلال، لأنّه عقليّ فيبطل بمجرّد الاحتمال.

و قد يستدلّ على الطهارة في الغسلة الثانية المزيلة لنجاسة المحلّ، احتمالا عن قبل العلاّمة الطباطبائي كما في شرح المشار إليه للأستاد(3): «بأنّ ملاقاة الماء للمحلّ سبب في طهارته، و الظاهر من أدلّة انفعال القليل انفعاله بما يكون نجسا حين الملاقاة، لا ما يكون الملاقاة سببا لزوال نجاسته، لمكان أنّه لا يدخل في أذهان العرف صيرورة الماء الملاقي للمحلّ النجس بمنزلة نفس النجس مع طهارة المحلّ الملاقي له»(4).

ص: 322


1- مشارق الشموس: 255.
2- الخلاف 180:1 المسألة 135 - و لا يوجد فيه قوله رحمه اللّه: «و بأن المحلّ طاهر مع بقاء مائها فيه الخ».
3- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه 335:1.
4- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه 335:1.

و قياسه على إزالة الأوساخ الحسّيّة الّتي يكتسب فيها كلّ جزء من الماء جزءا من الوسخ بالحسّ، بدعوى: أنّ النجاسة تنتقل من المحلّ إلى الماء، كالقذارة الخارجيّة الّتي تستهلك في الماء و يتوزّع على أجزائه، قياس مع الفارق لأنّ ذلك ممّا يساعد عليه أذهان العرف في القذارة الخارجيّة دون النجاسة، لأنّهم بعد اطّلاعهم على أنّ كلّ جزء من الماء يكتسب قذارة كقذارة المحلّ بعينها، مع ملاحظة أنّ الماء يوجب زوال النجاسة عن المحلّ الملاقي له، يتحاشون عن انفعال الماء بذلك المحلّ.

و صيرورة كلّ قطرة منه كالرطوبة النجسة الّتي في المحلّ الحاصلة من البول أو الدم مثلا، مع كونها في موضع اريد إزالتها بذلك الماء و هو أيضا يفيد إزالتها؛ لأنّ ذلك لا يجامع طهارة المحلّ الّتي هي غير ممكن الاجتماع مع نجاسة الماء الّذي فيه، كما يفهم ذلك منهم لو قيل لهم: أنّ هذا الماء المنصبّ على المحلّ لإزالة ما به من رطوبة الوسخ الفلاني يصير كلّ جزء صغير منه متّصفا بوسخ تلك الرطوبة.

و الحاصل كيفيّة تنجيس الشيء أمر لم يدلّ عليه جامع شامل للمقام، و المستفاد من تتبّع المقامات الخاصّة لا يشمل الملاقاة المزيلة، و المفروض أنّه إذا عرض على العرف صيرورة كلّ جزء صغير من الماء بمنزلة عين الأثر الموجود في الثوب من الوسخ أنكروا طهارته به، و إذا عرض عليهم طهارته به أنكروا صيرورته كذلك، فإذا فرض قطعهم بالثاني لم يفهموا من أدلّة الانفعال شمولها لهذا النحو من الملاقاة المزيلة، فلم يبق إلاّ عموم معاقد الإجماعات في نجاسة الماء القليل الملاقي للنجس، أو مطلق الجسم الرطب الملاقي له لكن من المعلوم عدم إرادة القائلين بطهارة الغسالة هذا العموم من كلامهم في دعوى الإجماع.

و أمّا القائلون بنجاستها فلو جاز الاكتفاء بهم كفى قولهم بنجاسة الغسالة في دعوى الإجماع عليها.

و أمّا رواية العيص المتقدّمة فالاستدلال بها في المقام مبنيّ على كفاية الغسلة الواحدة - في مطلق القذارات، و إلاّ أمكن حمل الرواية على الغالب من اجتماع الغسالتين، بل يمكن حملها - بناء على الاكتفاء في التطهير بالغسلة الواحدة كالإجماعات على ما هو الغالب من اجتماع الأجزاء المنفصلة عن المحلّ قبل زوال

ص: 323

العين، فإنّ المنفصل عن المحلّ كذلك ليس منفصلا عن الغسلة المطهّرة، فحكمه كالمنفصل من الغسلة الاولى، بل هو أشدّ منه، بل لا ينبغي أن يكون محلاّ للنزاع، لأنّ النزاع في المنفصل عن الغسل المؤثّر في التطهير الشرعي الواجب كونه بالماء المطلق الطاهر، و المنفصل قبل زوال العين إنّما انفصل عن غسلة غير معتبرة في نظر الشارع؛ لعدم إفادتها إلاّ زوال العين الّذي يحصل بالماء المضاف و النجس و المسح بجسم طاهر أو نجس، و لذا احتاج الثوب بعده إلى غسلتين، لكن يكفي في الاولى منهما استمرار الصبّ عن الأوّل آنا ما بعد زوال العين»(1) الخ.

و حاصله يرجع إلى منع العموم في أدلّة انفعال القليل بملاقاة النجاسة بحيث تشمل ماء الغسالة، حتّى ما انفصل منه عن الغسلة المستتبعة لطهارة المحلّ، و سند هذا المنع إمّا دعوى قصور تلك الأدلّة عن إفادة حكم الانفعال لنظائر المقام بأنفسها، فلا عموم في مفهوم قوله: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(2) لا من جهة «الماء» بحيث يشمل كلّ ماء، و لا من جهة الشيء النجس بحيث يشمل كلّ نجاسة، و لا من جهة الملاقاة المستفادة من الرواية منطوقا و مفهوما، و لا في الأخبار الخاصّة الواردة في موارد جزئيّة بالنسبة إلى الماء و إلى النجس، إذ ليس المستعمل في إزالة النجاسة بشيء منها، و لا في الإجماعات المنقولة و لا الرواية الخاصّة المذكورة، أو دعوى: خروج محلّ البحث عن عموم تلك الأدلّة بملاحظة الخارج، و لو نحو قرينة حال أو مقام يلتفت إليها العرف و يلاحظها، مثل ما ثبت لهم بضرورة من شرعهم أنّ الماء القليل إذا استعمل في الثوب النجس و نحوه لإزالة ما فيه من النجاسة يوجب زوالها، و يصيّره طاهرا، و لا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل: فلأنّ مفاد القضيّة في جانب مفهوم الرواية يرجع إلى أن يقال: إنّ الماء المتّصف بالقلّة كائنا ما كان من حكمه أن ينفعل بأيّ نجس لاقاه كيفما اتّفق.

أمّا الأوّل: فلورود لفظة «الماء» فيها مطلقة فيكون الحكم المعلّق عليها معلّقا على الطبيعة السارية في جميع مصاديقها، الّتي منها ما يعدّ لإزالة الأخباث به، فمن يدّعي

ص: 324


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه 336:1.
2- الوسائل 158:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2.

الاختصاص بغير هذا الماء مطلقا أو في الجملة يطالب بدليل ذلك.

و أمّا الثاني: فبحكم السببيّة التامّة المستفادة من التعليق، المقتضية لوجود الجزاء في جميع موارد وجود الشرط، و انتفائه في كلّما انتفى فيه الشرط - على ما فهمه غير واحد - و أمّا على ما قرّرناه سابقا من عدم إمكان الحمل على كون الكرّيّة سببا تامّا فإمّا أن يكون حينئذ شرطا لعدم الانفعال، أو ملازما له بكونه ملزوما لما هو شرط له فكذلك أيضا، لأنّ المشروط يعدم عند عدم شرطه، كما أنّ اللازم يعدم مع انعدام ملزومه.

و لا ينافي احتمال الشرطيّة و لا احتمال الملازمة ثبوت المشروط أو ثبوت اللازم في بعض صور انتفاء الشرط أو انتفاء الملزوم، أو ثبوت نقيض اللازم في بعض صور وجود الملزوم، كما في المستعلي، و ماء الاستنجاء، و ماء الجاري في الأوّلين، و المتغيّر بالنجاسة في الأخير؛ لأنّ الشرطيّة و الملازمة ليستا بعقليّتين لئلاّ يمكن فيهما التقييد و لا التخصيص، بل هما شرعيّتان ثابتتان بالأدلّة اللفظيّة فتكونان قابلتين للتخصيص كدليلهما، فيقال على احتمال الشرطيّة أنّ الكرّيّة شرط لعدم الانفعال إلاّ في العالي و غيره ممّا ذكر، و على احتمال الملازمة وجودا و عدما أنّ الكرّيّة تلازم عدم الانفعال إلاّ في صورة التغيّر، و أنّ انتفاء الكرّيّة يلازم الانفعال إلاّ في صورة العلوّ و الاستنجاء و الجريان.

فأقصى ما ثبت بالدليل إنّما هو تقييد كلّ من الشرطيّة و الملازمة بالقياس إلى الموارد المذكورة، و أمّا أنّه لا ينفعل أيضا في صورة إزالة النجاسة مع القلّة مطلقا، أو في الغسلة المطهّرة خاصّة فهو تقييد آخر في مفاد الشرطيّة و في الملازمة الثانية، و يحتاج إلى الدليل فمن يدّعيه مطالب بالدليل.

و أمّا الثالث: فلأنّ الملاقاة المفهومة من الرواية منطوقا و مفهوما لها أحوال، منها كونها مستتبعة لزوال النجاسة عن المحلّ، و هي مطلقة بالنسبة إلى أحوالها، فدعوى:

أنّها لا تؤثّر في الانفعال حال استتباعها لطهارة المحلّ تقييد لها بما عدا تلك الحالة، فلا تسمع إلاّ بدليل.

و أمّا الثاني: فلأنّ أقصى ما يتصوّر كونه مخرجا لمحلّ البحث عن عموم الأدلّة، إنّما هو شبهة عدم إمكان كون المزيل للنجاسة متأثّرا بتلك النجاسة و إلاّ لا يزيلها بل يؤكّدها و لا يفيد المحلّ إلاّ تنجّسا، و هو خلاف ما قطع بالشرع من صلاحيّة الماء القليل

ص: 325

لإزالة النجاسة، فلا جرم يقال: إنّ ملاقاة النجاسة سبب للانفعال إلاّ فيما كان مزيلا للنجاسة عن محلّ، فإنّه لا ينفعل بتلك النجاسة.

و ظنّي أنّ هذه الشبهة إنّما تنشأ عن توهّم كون نفس الملاقاة في الغسلة المطهّرة سببا لزوال النجاسة عن المحلّ - كما تقدّم التصريح به في أوّل الاستدلال - فإذا فرض أنّها سبب لزوال النجاسة فكيف يمكن فرض كونها سببا لانفعال الملاقي، إلاّ على تجويز التناقض أو الجمع بين النقيضين، و لذا نسب إلى العرف: «أنّه إذا عرض عليهم صيرورة كلّ جزء صغير من الماء بمنزلة عين الأثر الموجود في الثوب من الوسخ أنكروا طهارته به، و إذا عرض عليهم طهارته به أنكروا صيرورته كذلك» الخ.

و أنت خبير بأنّه توهّم فاسد، فإنّ نفس الملاقاة لا تصلح سببا للتطهير و إلاّ لما اعتبر فيه العصر و لا الإفراغ، بل السبب حقيقة هو الغسل، و هو شيء لا يتأتّى إلاّ مع الملاقاة، لا أنّه نفس الملاقاة، فلم لا يجوز صيرورة الماء بملاقاته المحلّ النجس نجسا، ثمّ إذا تحقّق معه الغسل المعتبر في نظر الشارع باستكمال آدابه و شرائطه و أجزائه أفاد المحلّ الطهارة و زوال النجاسة، مع بقاء الماء المنفصل على ما كان عليه من النجاسة، فإنّ النجاسة فيه قد حصلت بالملاقاة، و طهارة المحلّ قد حصلت بالغسل المتقوّم بتلك الملاقاة، لا بنفس الملاقاة، و لا تنافي بينهما أصلا من جهة العقل، و أمّا من جهة الشرع فهو تابع لدليل الحكمين و المفروض قيامه على كليهما، أمّا الأوّل: فلعموم أدلّة انفعال القليل بملاقاة النجاسة، و أمّا الثاني: فلقضاء الشرع بأنّ الغسل بالماء القليل ممّا يوجب زوال النجاسة عن الثوب و غيره ممّا هو قابل له.

نعم بملاحظة هذا البيان يتّجه أن يقال - في توجيه التخصيص في أدلّة الانفعال -:

إنّ ما قام عليه الدليل إنّما هو كون الغسل بالماء القليل الطاهر سببا لزوال النجاسة عن المحلّ لا مطلقا، فحينئذ يحصل عندنا بملاحظة أدلّة انفعال القليل قضيّتان كلّيّتان:

أحدهما: أنّ الغسل بالماء القليل الطاهر سبب لزوال النجاسة.

و الاخرى: أنّ كلّ ماء قليل ينفعل بملاقاة النجاسة.

و لا يمكن العمل بالقضيّة الاولى مع إبقاء الثانية على عمومها، لأنّ مقتضى هذا العموم صيرورة الماء الملاقي لمحلّ النجس نجسا، و مقتضى صيرورته نجسا عدم تأثيره في

ص: 326

زوال النجاسة عن المحلّ، لاختصاص دليل كونه مؤثّرا في ذلك بصورة كونه طاهرا، فلا محالة إمّا أن يرفع اليد عن تلك القضيّة و يقال: إنّ الماء القليل ممّا لا يصلح كونه مؤثّرا في زوال النجاسة، أو عن عموم القضيّة الثانية بتخصيصها بما عدا هذا الماء، و لمّا كان القضيّة الاولى أخصّ منها في الثانية لاختصاصها بما يزيل النجاسة و شمول الثانية له و لغيره، فلا محيص من تخصيص الثانية بها؛ إذ لولاه لزم أن لا يكون لأدلّة هذه القضيّة مورد.

و لكن يدفعه: منع هذه الدعوى، بل بين القضيّتين عند التحقيق عموم و خصوص من وجه، فإنّ الاولى في اقتضاء الطهارة تشمل ما قبل الملاقاة و ما بعدها، و الثانية تشمل هذا الماء و غيره، فيتعارضان في هذا الماء بالقياس إلى حال الملاقاة؛ حيث إنّ الاولى تقتضي فيه الطهارة، و الثانية تقتضي نجاسته، فلا بدّ من الترجيح و مع فقد المرجّح يجب التوقّف و الرجوع إلى الاصول، فعلى فرض التوقّف و إن كان الأصل - حسبما قرّرناه سابقا - يقتضي الطهارة، غير أنّه لا داعي إلى التوقّف لوجود المرجّح في جانب القضيّة الاولى، فإنّ ما فيها من العموم عموم أحوالي و ما في الثانية عموم أفرادي، و من المعلوم بضرورة العرف و اللغة أنّ الدلالة على العموم في الأحوال أضعف منها على العموم في الأفراد، لاستناد الأوّل إلى أمر خارج من اللفظ بخلاف الثاني، و إن كان من جهة الإطلاق، فإذا أوجب رفع اليد عن أحدهما تعيّن الأوّل لضعفه، فيخصّص قولنا: «الماء القليل الطاهر سبب لزوال النجاسة» بما لم يكن نجسا بغير جهة نجاسة المحلّ، و بعبارة اخرى: بما كان طاهرا قبل ملاقاته المحلّ.

لا يقال: كون هذا التصرّف من باب التخصيص الراجح على تخصيص القضيّة الثانية ممنوع، بل هو عند التحقيق تجوّز في لفظة «الطاهر» المأخوذة في القضيّة، فإنّ المشتقّ حقيقة في حال التلبّس، و المراد بها - على ما قرّر في محلّه - اعتبار وجود المبدأ حين اعتبار المتكلّم للنسبة فيما بين المشتقّ و غيره من أطراف الكلام، فقولنا: «الغسل بالماء الطاهر سبب لزوال النجاسة» يقتضي اعتبار طهارة الماء حال الغسل لأنّه معناه الحقيقي، و حمله على إرادة الطهارة قبل الملاقاة يستدعي كونه مرادا منه الماضي، لعود حاصل معنى العبارة إلى أن يقال: الغسل بما كان من الماء القليل طاهرا سبب لزوال النجاسة، فعاد الأمر إلى تعارض المجاز و التخصيص، و من المقرّر في محلّه أولويّة

ص: 327

التخصيص، كما أنّ من المقرّر في محلّه أيضا مجازيّة المشتقّ في الماضي.

لأنّا نقول: هذه اللفظة ليست بواردة في الخطاب، و لا أنّ القضيّة المذكورة موجودة بتلك العبارة في كلام الشارع، و إنّما هي قاعدة تستفاد عن مجموع الروايات الواردة في الغسل عن النجاسات الآمرة به، مع ضميمة الإجماعات المتضمّنة لاشتراط ذلك بطهارة الماء و عدم حصوله بغير الطاهر، فإنّ الأخبار الآمرة بالغسل بالماء قد وردت مطلقة، إذ لا تصريح فيها باشتراط الطهارة، و لكنّ الإجماعات المنقولة قد أوجبت فيها التقييد، فحصل من ملاحظة المجموع القضيّة المقيّدة، و كذلك القضيّة الثانية أيضا مستفادة من الروايات الواردة في انفعال ماء القليل، فالمعارضة بينهما في الحقيقة حاصلة فيما بين أدلّة القيد المعتبر في القضيّة الاولى و أدلّة القضيّة الثانية، و النسبة بينهما كما ذكرنا، لعموم الأوّل في الأحوال و عموم الثاني في الأفراد، فيرجّح تخصيص الأوّل لما تقدّم، و قضيّة ذلك كون المشتقّ في القضيّة الاولى مرادا منه الماضي و لا ضير فيه أصلا.

هذا كلّه إذا أردنا استفادة الاشتراط بالطهارة من الإجماعات المنقولة الّتي هي نحو من الأدلّة اللفظيّة، و أمّا إذا أردنا استفادته من الإجماع المحصّل، أو من نفس الأخبار الواردة في الغسل بالماء، بدعوى: أنّها و إن وردت مطلقة بالقياس إلى الطهارة و النجاسة في الماء، غير أنّ المنساق منها بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة - نظرا إلى أنّ أذهان المتشرّعة لا تساعد على حصول الغسل بالماء النجس، و إنّما تساعد عليه بالماء الطاهر - اشتراطه بطهارة الماء، فلا حاجة إلى تكلّف الترجيح، بل و لا تتحقّق المعارضة في البين بالنسبة المذكورة، إذ أقصى ما يحصل عليه الإجماع بملاحظة اختلافهم في طهارة ماء الغسالة و نجاسته - إن كان قول محقّق بالطهارة فيما بينهم مطلقا أو في الغسلة المطهّرة - و غاية ما ينساق من الأخبار إنّما هو اعتبار أن لا يكون الماء المعدّ للغسل نجسا قبل الغسل و بغير نجاسة المحلّ، و أمّا اعتبار طهارته حين الغسل فلا.

و قضيّة ذلك تطرّق التصرّف إلى الأخبار الآمرة بالغسل بالماء من باب التقييد، من دون أن يتحقّق هنا معارض بالقياس إلى أدلّة انفعال القليل بالملاقاة في دلالتها على انفعال هذا الماء حين استعماله.

هذا كلّه في دفع المناقشة في أدلّة انفعال القليل إذا كان النظر فيها إلى الأخبار

ص: 328

الواردة فيه، و أمّا المناقشة فيها إذا كان النظر فيها إلى الإجماعات، فيدفعها: أنّها إنّما تتّجه لو اريد استفادة الحكم من الإجماع المحصّل الّذي يحصل من ملاحظة فتاوي الأصحاب، بعبارة «أنّ الماء القليل ينفعل بملاقاة النجاسة»، فإنّه مع ملاحظة اختلافهم في نجاسة ماء الغسالة و نجاسته ممّا لا يعقل حصوله على إطلاق هذا العنوان، حتّى بالنسبة إلى ما يستعمل في إزالة النجاسة، فحينئذ لو اريد الاستناد إلى معقد هذا الإجماع على إثبات نجاسة ماء الغسالة، لكان مرجعه إلى الاستناد إلى فتوى من يرى ماء الغسالة نجسا، و هو كما ترى ليس من الاستناد إلى الإجماع في شيء.

و أمّا لو اريد استفادته من الإجماعات المنقولة المتضمّنة للعبارة المذكورة فلا، فإنّ الحجّة حينئذ على القول بحجّيّة الإجماع المنقول - لكونه بمنزلة السنّة - إنّما هي تلك العبارة من حيث إنّها معقد للإجماع، لا من حيث إنّها صادرة من ناقل الإجماع، كما أنّ الاستناد إلى الخبر - لو فرض وروده هنا بتلك العبارة - إنّما هو استناد إلى العبارة من حيث إنّها كلام الحجّة الثابت بنقل الواحد، لا من حيث إنّها صادرة من الراوي، فإنّها من هذه الحيثيّة ليست إلاّ حكاية، و الحجّة ليست هي الحكاية بل المحكيّ بتلك الحكاية.

فالعبارة المذكورة من حيث إنّها صادرة من ناقل الإجماع عليها مثلها من حيث إنّها صادرة من راوي السنّة، فكما أنّ العبرة هنا بالمرويّ من حيث إنّه كلام الحجّة، فكذلك العبرة في نقل الإجماع بالمنقول من حيث معقد للإجماع، بل من حيث إنّه كلام الحجّة أيضا، و المفروض أنّه عبارة عامّة تشمل بعمومها لنفسها محلّ البحث أيضا.

و لا ينافيه كون الناقل بنقله لا يريد منه العموم نظرا إلى اعتقاده بطهارة ماء الغسالة، إذ لا عبرة بإرادة الناقل كما أنّ في الروايات لا عبرة بإرادة الراوي، بل العبرة بإرادة الحجّة، فيفرض العبارة المذكورة كالمسموعة بنفسها عن الحجّة، و لم يثبت أنّه أراد منها ما ينافي العموم، فيؤخذ بما هو مفاد أصل العبارة و يلغى ما عداه.

و لكن يشكل ذلك: بأنّ فهم الراوي في نقل الأخبار حيثما علم به متّبع، فلو أنّ هذه العبارة صدرت من الحجّة و فهم الراوي منها الخصوص كان متّبعا، كما أنّه كذلك لو علم أنّه فهم منها العموم، و كذلك ناقل الإجماع، فإنّ إرادته الخصوص إنّما هو من جهة فهمه إيّاه من العبارة المجمع عليها.

ص: 329

و يمكن الذبّ عنه: بأنّ لزوم اتّباع فهم الراوي إنّما هو فيما لم يعلم باستناد فهمه إلى مذهبه الحاصل له بالاجتهاد من جهة الخارج، بل فيما إذا كان فهمه ناشئا عن مقتضى متفاهم العرف الكاشف عن مراد المتكلّم، و أمّا إذا نشأ هذا الفهم عن مذهبه الغير الحاصل عن هذا الكلام فلا عبرة به، فإنّ المتّبع حقيقة هو مدلول الكلام بحسب ما اقتضاه التفاهم العرفي، الكاشف عمّا اعتبره المتكلّم في ضميره و ما ينشأ من مذهبه الحاصل من الاجتهاد ليس منه و لا أنّه كاشف عمّا اعتبره المتكلّم، لجواز خطئه في الاجتهاد، و استناده في الاجتهاد إلى ما لا اعتداد به من الأدلّة.

و من هنا يقال: إنّ مذهب الراوي لا يصلح مخصّصا للعامّ، و لا ريب أنّ فهم ناقل الإجماع و إرادته الخصوص من هذا الباب، فالمتّبع في مثل ذلك ما اقتضاه نفس العبارة المجمع عليها دون مذهب الناقل، على أنّ فهم ذلك للخصوص معارض بما فهم الناقل الآخر، فإنّ من الناقلين للإجماع من يقول بعموم العبارة، و يرى ماء الغسالة نجسا، و قضيّة ذلك إلغاء فهميهما و الأخذ بموجب نفس العبارة.

و أمّا المناقشة المذكورة بالنسبة إلى رواية العيص، فيدفعها: ما في الرواية من الجمع في الجواب بين البول و القذر، و إيجاب الغسل في كلّ منهما، إذ ليس كلّ قذر يعتبر فيه التعدّد، و لا أنّ البول فيه عين تحتاج إلى الزوال - سيّما بعد جفافه في المحلّ - فلا وقع لدعوى إمكان حملها على الغالب من اجتماع الغسالتين، و لا لدعوى حملها على ما هو الغالب - على تقدير الاكتفاء بالغسلة الواحدة - من اجتماع الأجزاء المنفصلة عن المحلّ قبل زوال العين.

مع إمكان أن يقال: باستفادة مناط عامّ من الرواية جار في جميع الغسلات الواردة على المحلّ قبل زوال النجاسة عنه، و هو أنّ إيجاب غسل ما أصابه الوضوء إنّما هو لمباشرته النجاسة، و يقوى ذلك الاحتمال على ما في نسخة تلك الرواية - المنقولة في شرح الدروس - من قوله عليه السّلام: «إن كان الوضوء من بول أو قذر فيغسل ما أصابه، و إن كان من وضوء الصلاة فلا يضرّه»(1) فإنّ التفصيل بين الوضوءين يشعر بأنّ مناط الفرق بينهما إنّما هو مباشرة النجاسة و عدم مباشرتها، هذا تمام الكلام في الاحتجاج عن الشيخ أو غيره ممّن

ص: 330


1- مشارق الشموس: 254.

يوافقه على طهارة الغسالة من الغسلة المطهّرة في الثوب خاصّة، أو مطلق المتنجّسات.

و عنه - الاحتجاج على الطهارة مطلقا في الآنية -: بأنّ الحكم بالنجاسة يحتاج إلى دليل و ليس في الشرع ما يدلّ عليه، و بأنّه لو حكم بالنجاسة لما طهّر الإناء أبدا، لأنّه كلّما غسل فما يبقى فيه من النداوة يكون نجسا، فإذا طرح فيه ماء آخر نجس أيضا، و ذلك يؤدّي إلى أن لا يطهر أبدا.

و لا يخفى ما في الأوّل من التدافع بينه و بين ما أقامه دليلا على نجاسة الغسلة الاولى في الثوب، و مع الغضّ عن ذلك فيردّه ما لم نقصر في تقريبه و تتميمه من الدليل المقتضي للنجاسة، و لا حاجة إلى الإعادة و التكرار، كما تبيّن اندفاع وجهه الثاني أيضا بما عرفته بما لا مزيد [عليه](1) من عدم المنافاة بين حصول الطهر المسبّب عن الغسل و انفعال الماء الّذي يستعمل في ذلك بسبب الملاقاة، فإذا دلّ الدليل عليهما معا يجب القول بهما كذلك إلى أن يقوم الدليل بخلافه، و سيلحقك زيادة توضيح في ذلك عند دفع حجج القول بالطهارة مطلقا، مضافا إلى ما مرّ.

و أمّا رابعها: فالقول بالطهارة مطلقا، و يلزمه أن يكون حكمها حكم المحلّ بعد الغسل، من غير فرق في ذلك بين الغسلة الاولى و الثانية، و لا بين الثوب و الآنية، و لا بين الورودين، بل مقتضى مقابلة هذا القول في كلام الشهيد في الدروس(2) حسبما تقدّم ذكره للقول بالفرق بين الورودين، أن لا يفرّق بين ورود الماء على المتنجّس و عكسه.

و من هنا يتّجه أن يقال: بعدم وجود قائل به فيما بين أصحابنا، و قد تقدّم في عبارة الشيخ في المبسوط(3) إشعار بذلك، فما في المدارك(4) من اختصاص القول بالطهارة بصورة ورود الماء ممّا لم يعرف وجهه، كما أنّ ما في الحدائق عن والده - في دفع ما ادّعاه في المدارك - من أنّه: «لا يخفى ما فيه، لأنّ من جملة القائلين بطهارة الغسالة من قال بعدم نجاسة القليل مطلقا بالملاقاة، و من المعلوم أنّه لا يظهر للشرط وجه»(5) ممّا لا وجه له، فإنّ القول في المسألة إنّما يؤخذ من المتنازعين فيها، و العماني مع من وافقه خارج عن أصل هذا النزاع، لابتنائه على القول بنجاسة القليل بالملاقاة و لو في الجملة.

ص: 331


1- زيادة يقتضيها السياق.
2- الدروس الشرعيّة 122:1.
3- المبسوط 92:1.
4- مدارك الأحكام 122:1.
5- الحدائق الناضرة 484:1.

و أضعف منه ما عن كشف الالتباس - عند نقل هذا القول - «من أنّ عليه فتوى شيوخ المذهب، كالسيّد و الشيخ و ابني إدريس و حمزة و أبي عقيل»(1).

فإنّ السيّد له قول آخر في مقابلة هذا القول، و الشيخ غير خبير بإطلاق هذا القول، و إن حكم عليه بالقوّة فيما سبق من عبارة المبسوط(2)، بناء على التوجيه المتقدّم في منع توهّم اختياره، و ابن إدريس له كلام محكيّ عن السرائر يأبى عن ذلك، حيث قال:

«و إن أصابه من الماء الّذي يغسل به الاناء، فإن كان من الغسلة الاولى يجب غسله، و إن كان من الغسلة الثانية أو الثالثة لا يجب غسله، و قال بعض أصحابنا: لا يجب غسله سواء كان من الغسلة الاولى و الثانية، و ما اخترناه هو المذهب الخ»(3). فإنّ هذا الكلام صريح في موافقته أهل القول بالفرق بين الغسلتين.

نعم، كلامه هذا مذيّل بما ينافي ظاهره اختياره هذا المذهب، فإنّه بعد ما ذكر هذا الكلام أخذ بنقل عبارة السيّد المتقدّمة في مسألة الفرق بين الورودين في انفعال القليل، ثمّ قال - بعد نقل هذه العبارة -: «قال محمّد بن إدريس: و ما قوّى في نفس السيّد صحيح، مستمرّ على أصل المذهب، و فتاوي الأصحاب به»(4) انتهى.

فإنّ ذلك يقضي باختياره القول الآتي في الفرق بين الورودين، في مسألة الغسالة الّذي جعله الشهيد و غيره قولا آخر مقابلا للأقوال الاخر.

و لكن يمكن دفع المنافاة بأنّه إنّما تصدّى بنقل عبارة السيّد في مسألة انفعال القليل تنبيها على موافقته للسيّد في تلك المسألة، ليكون نتيجته التنبيه على أنّه في مسألة الغسالة أيضا يعتبر - مع ما تقدّم - ورود الماء على المحلّ، فلازم الجمع بين صدر كلامه و ذيله أنّه يقول بنجاسة الغسالة في الغسلة الاولى، و طهارتها في الغسلة الثانية بشرط ورود الماء على المحلّ، و أمّا مع العكس فلازمه القول بالنجاسة مطلقا، و كيف كان فهو ليس قائلا في الغسالة بالطهارة مطلقا.

و أمّا ابن حمزة، فالمنقول عنه في الذكرى(5)، من أنّه و البصروي سويّا بينه و بين

ص: 332


1- كشف الالتباس 107:1 و حكى عنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة: 316:1.
2- المبسوط 92:1.
3- السرائر 180:1 و 181.
4- السرائر 180:1 و 181.
5- ذكرى الشيعة 84:1، الوسيلة (ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة 414:2).

رافع الأكبر، لا يساعد على أنّه اختار الطهارة، لما تقدّم الإشارة إليه من أنّ التسوية بينهما لا تقتضي إلاّ المشاركة في أصل الحكم دون جهته، فلعلّه في الأوّل من جهة وجود المانع و في الثاني من جهة فقد المقتضي، و نظير هذا التعبير شائع في كلام الفقهاء و أخبار الأئمّة - سلام اللّه عليهم - كما لا يخفى على المتتبّع.

و من هنا ظهر ضعف ما في الحدائق(1) من استظهار اختياره عن ابن بابويه في الفقيه، حيث ساوى بينه و بين رافع الحدث الأكبر، و هو طاهر إجماعا، كما سبق الإشارة إليه أيضا.

نعم، عن ابن حمزة كلام آخر ربّما يومئ إلى اختياره، فإنّه - على ما في المحكيّ عنه في الوسيلة - جعل الماء أوّلا عشرة أقسام، و عدّ منها المستعمل، و منها الماء النجس، ثمّ قال: «إنّ المستعمل ثلاثة أقسام: المستعمل في الوضوء، و المستعمل في غسل الجنابة و الحيض و نحوهما، و المستعمل في إزالة النجاسة، و قال: إنّ الأوّل يجوز استعماله ثانيا في رفع الحدث و إزالة الخبث، و الأخيران لا يجوز ذلك فيهما إلاّ أن يبلغا كرّا فصاعدا بالماء الطاهر»(2).

ثمّ ذكر في حكم الماء النجس: «أنّه لا يجوز استعماله بحال إلاّ حال الضرورة للشرب»(3) فإنّ قرينة المقابلة بين المستعمل و الماء النجس تقضي بأنّ المستعمل بأقسامه الثلاث ليس بنجس، و إلاّ لم يكن لذكره مع الماء النجس متقابلين وجه.

و لكن هذه الدلالة ربّما تتوهّن بما اعتبره في تجويز استعمال الأخيرين في رفع الحدث و إزالة الخبث من بلوغهما كرّا بالماء الطاهر، فإنّ ذلك يرجع إلى القول بطهارة القليل النجس بإتمامه كرّا - كما عليه جماعة - و قضيّة ذلك اختياره القول بالنجاسة، حتّى في المستعمل في رفع الحدث الأكبر، و إن ادّعى الإجماع على خلافه في كلام جماعة.

و ممّا يؤيّد أنّه يقول فيه أيضا بالنجاسة، ما نسب إليه من أنّه حكم في الماء القليل بنجاسته بارتماس الجنب فيه، بعد ما حكم بنجاسته بوقوع النجاسة فيه، و لا ينافيه دعوى الإجماع على خلافه، لأنّ ذلك ليس بعادم النظير في المسائل الفقهيّة.

ص: 333


1- الحدائق الناضرة 483:1.
2- الوسيلة: (سلسلة الينابيع الفقهية 414:2).
3- الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهية 416:2).

و من هذا القبيل أنّه قال بعدم جواز إزالة الخبث بذلك الماء، مع دعوى العلاّمة و ولده - على ما حكي عنهما - على الجواز.

فالحقّ: أنّ كلامه في تلك المسألة متشابه، و يناقض بعضه بعضا، فلا يظهر منه اختياره القول بالطهارة هنا، إن لم نقل بظهوره في اختيار النجاسة كما عرفت، و لا ينافيه ما ذكر من قرينة المقابلة، فلعلّ الداعي إلى جعلهما متقابلين كون النجاسة في الماء النجس جزءا للعنوان، إذ مع فرض ارتفاعها بعلاج كإتمامه كرّا مثلا يخرج عن كونه الماء النجس، بخلاف المستعمل في إزالة الخبث، فإنّ النجاسة فيه ليس جزءا للعنوان، فلذا فرض فيه ارتفاع الحكم المذكور من عدم جواز استعماله ثانيا ببلوغه كرّا.

و غرضه بذلك الفرض التنبيه على أنّ المانع عن الاستعمال فيه ليس هو حيثيّة كونه مستعملا في إزالة الخبث، و هو معنون في مقابلة الماء النجس من هذه الحيثيّة، بل المانع هو النجاسة، فإذا ارتفع بالعلاج جاز فيه الاستعمال مع بقائه على عنوان المقتضي لجعله مقابلا و عدّه قسما برأسه، بخلاف الماء النجس المقابل له، فإنّه إذا ارتفع عنه النجاسة بالعلاج خرج عن عنوانه بالمرّة، فإنّه بعد الطهارة لا يكون ماء نجسا.

و أمّا التشريك بينه و بين رافع الحدث الأكبر في المنع عن الاستعمال - بعد بنائه فيه أيضا على النجاسة - لا حكم له في اقتضاء اختياره الطهارة في رافع الخبث، و كذلك على فرض عدم بنائه فيه على النجاسة وفاقا للمعظم، لما سبق من أنّ التشريك في الحكم لا يقتضي التشريك في جهة الحكم.

و من جميع ما ذكر يظهر ضعف ما عن اللوامع(1) أيضا من نسبة القول بالطهارة مطلقا إلى المرتضى و جلّ الطبقة الاولى، كما يظهر عدم دلالة ما عن جامع المقاصد من:

«أنّ الأشهر بين المتقدّمين أنّه غير رافع كالمستعمل في الكبرى»(2) على دعواه الشهرة على الطهارة.

فنتيجة الكلام أنّه لم يثبت في أصحابنا قول صريح و لا ظاهر فيه.

نعم، ربّما يحكى عن الأمين الأسترآبادي كلام هو صريح في الميل إلى الطهارة

ص: 334


1- حكى عنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة: 326:1؛ لوامع الأحكام (مخطوط): 89.
2- جامع المقاصد 128:1.

مطلقا(1)، و حكي عن ظاهر الشهيد في الذكرى أيضا - كما في المدارك(2) - و اختاره بعض مشايخنا قدّس سرّه(3) مع اشتراطه ورود الماء، فهو في الحقيقة اختار القول الآتي في المسألة و هو خامس الأقوال.

و كيف كان فالقول الرابع هو القول بالطهارة مطلقا من غير فرق حتّى بين الورودين، و أمّا أدلّة هذا القول.

فمنها: ما أشار إليه في المدارك(4) من الأصل السالم عمّا يصلح للمعارضة، نظرا إلى أنّ الروايات المتضمّنة لنجاسة القليل بالملاقاة لا تتناول ذلك صريحا و لا ظاهرا، و تخرج الروايات الدالّة على طهارة ماء الاستنجاء شاهدا، و بملاحظة جميع ما مرّ يظهر ضعف ذلك بل كونه في غاية الضعف.

و منها: أنّه لو انفعل لم يطهّر المحلّ، و التالي باطل إجماعا فكذا المقدّم، و هذا الوجه و ان لم يصرّح بالاستدلال به في هذا المقام، و إنّما صرّح به في كلام السيّد في مسألة انفعال القليل بالقياس إلى الفرق بين الورودين، و لكن يمكن إجراؤه في المقام لعموم مفاده، بل جريانه ثمّة مبنيّ على نهوضه دليلا هنا، كما لا يخفى.

و لكن لقائل أن يقول: إنّه لو تمّ لم يكن قاضيا بالطهارة إلاّ في الغسلة الثانية المزيلة لنجاسة المحلّ، لمنع بطلان التالي إذا قرّر لإثبات الطهارة في الغسلة الاولى أيضا، فيكون أخصّ من المدّعى، و لذا عدل عنه الاستاذ مدّ ظلّه في شرح الشرائع(5)، فقرّره على وجه يعمّ الغسلتين، و هو أنّه لو كان نجسا لم يؤثّر في التطهير.

و الجواب: بمطالبة دليل الملازمة، و هو لا يخلو إمّا قاعدة «اشتراط طهارة الماء في إزالة النجاسة»، أو قاعدة «أنّ المتنجّس لا يطهّر» و هي أخصّ من الاولى، أو قاعدة «تنجّس ملاقي النجس»، و لا سبيل إلى شيء منها، سواء استند فيها إلى الإجماعات المنقولة، أو إلى الإجماع المحصّل، أو إلى تتبّع الأخبار الجزئيّة الواردة في الموارد الخاصّة من أبواب الطهارات.

ص: 335


1- حكاه عنه في الحدائق الناضرة 483:1.
2- مدارك الأحكام 122:1 - ذكرى الشيعة 85:1 حيث اعترف بأنّه لا دليل على النجاسة سوى الاحتياط.
3- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 338:1.
4- مدارك الأحكام 122:1.
5- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه 327:1.

و أمّا على الاوليين بجميع تقاديرهما الثلاث فلما مرّ فيهما من الكلام مستوفى في دفع حجج القول السابق بالفرق بين الغسلتين، فراجع.

و مرجعه إلى منع انعقاد هاتين القاعدتين على تقدير، و منع منافاتهما للانفعال على آخر، إذ لو اريد بالطهارة المشترطة طهارة الماء قبل ملاقاته للمحلّ و حين ملاقاته له، و بالتنجّس المانع عن التطهير تنجّس الماء أعمّ ممّا حصل من نجاسة المحلّ و ما حصل من غيرها سابقا أو لاحقا، فانعقاد أصل القاعدة ممنوع، و سند المنع ما تقدّم، فيبقى عموم قاعدة الانفعال سليما عن المعارض.

و إن عورض بمنع العموم في تلك القاعدة أيضا رجع البحث إلى الدليل السابق، و قد استوفينا فيه الكلام أيضا فيما سبق.

و لو اريد بهما الطهارة و التنجّس في الجملة، و لو بالنسبة إلى ما قبل الملاقاة، أو حينها إذا حصل التنجّس من نجاسة خارجة عن نجاسة المحلّ، فأصل القاعدة مسلّم و لا إشكال فيها أصلا، و لكنّها لا تنافي عموم قاعدة الانفعال، و لو قيل بمنع عموم تلك القاعدة أيضا ليلزم منه صحّة المراجعة إلى الأصل و الأخذ بموجبه عاد الكلام السابق.

و من هنا يتّضح أنّ ما في كلام بعض مشايخنا العظام قدّس سرّه - بعد ذكر القاعدتين و إبداء المعارضة بينهما، - من: «أنّ دعوى: أنّه لم يعلم كونها - يعني قاعدة أنّ المتنجّس لا يطهّر - شاملة لمثل المقام ليست بأولى من دعوى: أنّه لم يعلم شمول القاعدة الاولى - يعني قاعدة الانفعال - له»(1) ليس في محلّه.

و العجب أنّه أقعد القاعدة المذكورة رجما بالغيب، و أظهر من نفسه تسليم قاعدة الانفعال، لكن لا إذا استند فيها إلى عموم المفهوم لأنّه غير مسلّم في نظره، بل إذا استند فيها إلى ما قيل: من أنّ المتتبّع لكثير من الأخبار - مضافا إلى حكاية الإجماعات هناك على النجاسة - يستفيد قاعدة و هي: «أنّ الماء القليل ينفعل بالملاقاة»، فتوهّم المعارضة بينهما ثمّ تحرّى في تحصيل المرجّحات للقاعدة الاولى، فلم يأت إلاّ بامور واهية لا يكاد يخفى وهنها على الخبير المنصف، و سنشير إليها مع ما يوهنها.

و أمّا على الأخيرة: فلأنّها تعضدنا و لا تنافينا كما لا يخفى، و مع ذلك نقول ما المراد

ص: 336


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 328:1.

بتنجّس ملاقي النجس أو المتنجّس؟ فإن اريد أنّ الماء إذا فرض انفعاله بنجاسة المحلّ كان المحلّ ملاقيا للمتنجّس فيتنجّس به، لا أنّه يطهّر به.

ففيه: أنّه لا ينافي طهره بعد تحقّق ما هو سبب له شرعا، و هو الغسل الّذي لا يتأتّى إلاّ بإخراج ذلك الماء المتنجّس عنه بالعصر العرفي أو الإفراغ، على ما يستفاد من الأدلّة من أنّه هو المطهّر حقيقة، و الماء شرط مقوّم له، كما أنّ طهارته بالمعنى المتقدّم شرط له.

و إن اريد به أنّ طهره به إنّما يكون بما إذا تطهّر حال الملاقاة، فإذا فرض أنّ الماء يتنجّس به فلا يتأتّى فيه ذلك فلا يطهّر.

و فيه: أنّ اعتبار ذلك في التطهير ممّا لم يقل به أحد، و لا أنّه ممّا قام عليه دليل بل الدليل على خلافه، كيف و لو صحّ ذلك لقضى بعدم اعتبار التعدّد في التطهير عن بعض النجاسات، بل و بعدم اعتبار العصر في الثياب، و لا الإفراغ في الأواني، و كلّ ذا كما ترى، مع أنّ الفريقين من أهل القول بالطهارة و أصحاب القول بالنجاسة متسالمان على أنّه لا تطهّر ما لم يستكمل الغسل بآدابه و شرائطه.

و قد يعترض أيضا: بأنّ قاعدة نجاسة الملاقي للنجس ممّا لا ريب في شمولها لكلّ من الماء و المحلّ، إذ اللازم من نجاسة الماء بالمحلّ نجاسة المحلّ بالماء لحصول الملاقاة من الطرفين، فالتزام عدم نجاسة الماء - و إلاّ لنجس المحلّ و لم يطهّره - ليس بأولى من التزام عدم نجاسة المحلّ به، بل الأوّل أبعد، لأنّ ما تأثّر من الشيء لا يؤثّر فيه ذلك الأثر، نعم لا يبعد أن يؤثّر فيه خلافه بنقل ما فيه إلى نفسه.

و يمكن دفعه: بأنّ المتأثّر عن الشيء لا يمكن كونه علّة محدثة لذلك الأثر في ذلك الشيء، فلم لا يجوز أن يكون علّة مبقية لذلك الأثر فيه؟ إذ ليس معنى تأثّره عنه أنّه ينتقل إليه ذلك الأثر عنه بالمرّة، بل الّذي ينبغي أن يحمل عليه هذه القاعدة في تتميم الاستدلال إنّما هو إرادة البقاء على التنجّس السابق، على فرض تنجّس الماء به، فإنّ ملاقي المتنجّس إمّا أن يحدث فيه التنجّس من جهته إذا كانت الملاقاة مسبوقة بالطهارة، أو أن يستمرّ فيه التنجّس من جهته إذا كانت الملاقاة مسبوقة بالنجاسة، فإنّ أصحاب القول بطهارة الغسالة و كذلك أهل القول بنجاستها لا يدّعون أنّ المحلّ يطهر قبل انفصالها عنه، بل الظاهر أنّه خلاف الإجماع، بل يشبه بأن لا يكون متعقّلا على

ص: 337

القول بالنجاسة، بعد فرض استيلاء الماء المتنجّس عليه و نفوذه في جميع أجزائه و أعماقه، و دعوى: كون ذلك مركوزا في أذهان العرف حيث إنّه يفهمون من أدلّة غسل النجاسة بالماء انتقالها عن المحلّ إليه مع طهر المحلّ غير مسموعة، و على فرض صحّة هذه النسبة فلا عبرة بما عند العرف جزما إذا خالف حكم العقل.

نعم، يمكن القول بأنّ النجاسة حينئذ و إن كانت تنتسب إلى المحلّ أيضا و لكنّه بالواسطة، فإنّها قبل ملاقاة الماء للمحلّ كانت قائمة به منتسبة إليه أوّلا و بالذات، و إذا لاقاه الماء انتقلت النجاسة إليه و صارت قائمة به منتسبة إليه أوّلا و بالذات و إلى المحلّ ثانيا و بالعرض، بواسطة استيلاء ذلك الماء عليه و نفوذه في جميع أجزائه و أعماقه، فمعنى طهره قبل الانفصال أنّ النجاسة لا تنتسب إليه أصالة، لا أنّه طاهر مطلقا، و لكنّه مبنيّ على ثبوت أنّها تنتقل عنه إلى الماء الملاقي له بالمرّة، و هو في حيّز المنع، و لا يكفي فيه مجرّد الاحتمال، و مع قيام احتمال الخلاف كان عروض النجاسة للماء و الانتقال إليه مشكوكا فيه مع تيقّن ثبوته للمحلّ قبل الملاقاة، فيخرج الأصل الجاري من الجانبين - أعني أصالة بقاء النجاسة في المحلّ كما كانت و أصالة عدم عروضها للماء - مرجّحا لالتزام عدم نجاسة الماء، و إلاّ لنجّس المحلّ و لم يطهّره.

و لكن يرد عليه حينئذ: أنّ طهارة الماء حينئذ ليس من جهة أنّها لولاها لما طهر المحلّ، إذ لا منافاة بين نجاسته و طهارة الماء بتحقّق سببها الشرعي و هو الغسل، بل من جهة الأصل، و مع ذلك فيقع الكلام في صحّة الاستناد إلى هذا الأصل و جريانه، و لعلّه في محلّ المنع، إذ لا مجال له بعد تحكيم قاعدة: «أنّ الملاقي للنجس يتنجّس» المقتضية لتنجّس الماء.

فمن هنا تبيّن أنّ هذه القاعدة لنا لا علينا، فيبقى دعوى الملازمة في أصل الحجّة - على تقدير الاستناد فيها إلى تلك القاعدة - بلا دليل، لأنّا معاشر القول بنجاسة هذا الماء لا ندّعي أنّ المحلّ لا بدّ و أن يطهّر حين ملاقاة الماء، و أنّ طهره بعد الانفصال منوط بطهره حين الاتّصال، بل و لا يقول به أحد، بل ندّعي عدم المنافاة بين نجاسة الماء - بل و نجاسة المحلّ ما دام الماء متّصلا به - و صيرورته طاهر بعد الانفصال، لأنّ لكلّ سببا، و سبب تنجّس الماء المستلزم لتنجّس المحلّ باتّصاله به هو الملاقاة - بناء

ص: 338

على عموم قاعدة الانفعال - و سبب طهارة المحلّ بعد الانفصال هو تحقّق الغسل و استكماله بالانفصال، فيجب إعمال السببين لإمكانه و عدم مانع عنه.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ بعض مشايخنا العظام قدّس سرّه(1) بعد ما توهّم المعارضة بين قاعدة انفعال القليل و قاعدة أنّ المتنجّس لا يطهّر، بالغ في ترجيح تلك القاعدة على قاعدة الانفعال، و ذكر في ذلك امورا كثيرة، ليس شيء منها بشيء.

منها: ما أشار إليه(2) في صدر البحث، من أنّ الحكم بنجاسة الغسالة مطلقا فيه من العسر و الحرج ما لا يخفى.

و فيه: أنّ هذا كلام لا يساعدنا الوجدان على تعقّله، فإنّا نجد المتشرّعة متحرّزين في جميع الأعصار و الأمصار عن الغسالة بجميع لوازمها العادية من دون أثر للعسر و الحرج فيه، و مع ذلك فهذا العسر إن كان بالنسبة إلى البلّة الباقية في المحلّ فالتزام الحكم بطهارتها لئلاّ يلزم العسر و الحرج ليس بأبعد من التزام طهارة الغسالة رأسا لئلاّ يلزم العسر و الحرج، مع أنّ في الأوّل جمعا بين القاعدتين: قاعدة الانفعال و قاعدة طهارة المتنجّس بالغسل المستلزمة لطهارة البلّة الباقية، بخلاف الثاني لاستلزامه طرح القاعدة الاولى، و إن كان بالنسبة إلى اليد الغاسلة و غيرها من آلات الغسل فهي ممّا لا بدّ من تنجّسها على كلّ حال، لملاقاتها المتنجّس أو النجس برطوبة، و إلاّ لزم طرح قاعدة اخرى و هي: «أنّ ملاقي النجس أو المتنجّس برطوبة يتنجّس»، و مع ذلك أيّ عسر من جهته بعد جريان طريق التطهير و هو الغسل بالقياس إليها أيضا؟ مع قوّة احتمال جريان قاعدة التبعيّة هنا، بل يمكن عليه دعوى السيرة و عمل المتشرّعة.

و هنا احتمالات اخر لتقريب دعوى لزوم العسر و الحرج لا ينبغي الإطناب بذكرها، لخلوّه عن الجدوى، مع أنّ أقصى ما يترتّب على العسر و الحرج المنفيّين في الشريعة إنّما هو رفع التكليف، و هو وجوب التحرّز لا رفع النجاسة، فلا ملازمة أيضا.

و منها: عدم وجود أثر لها - أي لنجاسة الغسالة هنا - فيما وصل إلينا من الأخبار بالخصوص مع عموم البلوى و الابتلاء بها، و اشتمالها على كثير من فروعها الدقيقة مثل القطرات و يد المباشر و نحوهما، و لذلك قال في الذكرى: «و العجب خلوّ كلام أكثر

ص: 339


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 328:1 و 317.
2- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 328:1 و 317.

القدماء عن الغسالة مع عموم البلوى بها»(1).

و فيه: أنّ مطالبة الأثر في نجاسة الغسالة مع قيام قاعدة انفعال القليل كما ترى، فإنّها على الفرض قاعدة كلّيّة تكفي في معرفة جزئيّاتها ما لم تخرج عنها، و قد قرّرها الشارع و معها لا معنى لمطالبة الدليل في خصوص كلّ مورد من مواردها، و من هنا اتّجه عليه إيراد آخر بالقلب، فإنّه لو كانت الغسالة طاهرة مع اقتضاء قاعدة الانفعال نجاستها لوجب ورود نصّ فيها، كما ورد في طهارة الاستنجاء و نحوه، فخلوّ ما وصل إلينا من الأخبار عن مثل هذا النصّ دليل محكّم على العدم، مع المنع عن خلوّه عن أثر النجاسة، فإنّ رواية العيص(2) - المتقدّمة - كافية في ذلك، و المناقشة فيها سندا أو دلالة مندفعة بما مرّ، ثمّ تخرج رواية عبد اللّه بن سنان(3) - المتقدّمة - أيضا شاهدة.

و منها: تأيّد هذه القاعدة بأصل البراءة، و أصل الإباحة، و أصل الطهارة و استصحابها.

و فيه: أنّ قاعدة الانفعال أيضا متأيّدة بالإجماعات المنقولة - حسبما تقدّم إليها الإشارة - و الشهرة محقّقة و محكيّة، و عدم قائل بالطهارة صريحا من علمائنا السلف أو ندرة، و التأييد بهذه الامور لا يقصر عن التأييد بالاصول بل أولى، كما لا يخفى.

و منها: نسبة ابن إدريس ما قاله المرتضى - في كلامه المتقدّم - إلى الاستمرار على أصل المذهب، و فتاوي الأصحاب به.

و فيه: مع ما عرفت في بحث الورودين من المناقشة في تلك الدعوى - حيث لا موافق له فيها، بل التتبّع في كلمات الفقهاء و ملاحظة سيرة الناس يقضي ببطلانها - أنّها معارضة بدعوى الإجماعات المتقدّمة، و العجب أنّه يغمض عن هذه الإجماعات و يتشبّث بما فيه عندهم ألف كلام.

و منها: أنّ هذه لم يعثر على تخلّفها بالنسبة إلى المياه أبدا، بخلاف الاخرى فإنّها قد تخلّفت في بعض و هو محلّ وفاق، كالاستنجاء و ماء المطر و الجاري، و آخر محلّ خلاف كالحمّام و نحوه.

و فيه أوّلا: أنّه لو اكتفى في دعوى تخلّف قاعدة الانفعال بما هو محلّ خلاف فمثله

ص: 340


1- ذكرى الشيعة 84:1.
2- الوسائل 215:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل ح 14، الذكرى 84:1.
3- الوسائل 215:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل ح 13، التهذيب 630/221:1.

موجود في القاعدة الاخرى بالنسبة إلى المياه، كما في مسألة تتميم القليل النجس كرّا بنجس، على ما نسب إلى ظاهر جماعة يدّعون الطهارة، و استنادها إلى اجتماعهما.

و ثانيا: أنّ موضوع القضيّة في قاعدة: «أنّ المتنجّس لا يطهّر» إن اعتبر جنس المتنجّس من دون تقييده بالماء، فتخلّفها بالنسبة إلى حجر الاستنجاء الّذي هو محلّ وفاق، و إلى الأرض الّتي تطهر باطن القدم و غيره الّذي هو محلّ خلاف، يكفي في إبداء المعارضة.

و إن اعتبر مقيّدا بالماء، فمع أنّه لا داعي إليه - حيث لا قيد له في كلامهم فينبغي أن تلاحظ مطلقة - نحن نقول بموجب القاعدة إن اريد بالتنجّس ما يحصل من غير نجاسة المحلّ، و إلاّ فأصل القاعدة غير مسلّمة، مع أنّ التخلّف الخلافي لو صلح موهنا للقاعدة لكان محلّ البحث منه، على أنّه لا يسلّم وجود التخلّف الوفاقي في الطرف المقابل، لأنّه في كلّ من الموارد المذكورة موضع خلاف كما لا يخفى على المتأمّل.

و منها: أنّ قاعدة: «المتنجّس ينجّس» القاضية بتنجّس القليل به في المقام استنباطيّة، و لم يعلم شمولها لمثل [المقام](1) مع تخلّفها عندهم هنا، فإنّ الماء عندهم ينجّس و لا ينجّس الثوب مثلا به، فإن كان لم يعلم شمول قاعدة: «أنّ المتنجّس ينجّس» للمقام حتّى ينجّس الماء للثوب، فكذلك لم يعلم شمولها له حتّى ينجّس الثوب الماء.

و فيه: إنّا لا نقول بأنّ الماء بعد تنجّسه بالثوب ينجّس الثوب، و لا أنّ الثوب طاهر ما دام هو فيه، بل نقول: إنّه باق على تنجّسه حتّى يستكمل المطهّر و السبب الشرعي للتطهّر و هو الغسل، فإنّا نقول بموجب قاعدة: «أنّ المتنجّس ينجّس» فيما إذا كان الملاقي له قابلا للتنجّس و تجدّده بعدم قيام المانع عنه، و إنّما لا نقول في الثوب بتنجّسه بالماء المشمّس لأنّه باق بعد على نجاسته، فهو ليس قابلا للتنجّس حتّى نقول فيه بموجب القاعدة.

و منها: عسر التحرّز في كثير من المقامات بالنسبة إلى جريانها إلى غير محلّ النجاسة، و بالنسبة إلى مقدار التقاطر و مقدار التخلّف و نحو ذلك، و القول بأنّ المدار في ذلك على العرف، لا أثر له في الأدلّة الشرعيّة، و لو تأمّل الناظر في عمل القائلين بالنجاسة و كيفيّة عدم تحرّزهم عنها، لقطع بأنّ عملهم يخالف ما يفتون به» الخ(2).

ص: 341


1- زيادة يقتضيها السياق.
2- كتاب الطهارة - للشيخ الانصارى رحمه اللّه - 331:1.

و فيه: أنّ مبنى عمل القائلين بالنجاسة في الموارد المذكورة إنّما هو على المصاديق العرفيّة، و مع كونه ميزانا في المقام ارتفع الإشكال بحذافيره، و دعوى: أنّ اعتبار العرف ممّا لا أثر له، من أبعد الأشياء الّتي تذكر في المقام، كيف و أنّ مسمّيات الموضوعات ممّا لا يعرف إلاّ بمراجعة العرف، و نظيره في المسائل الفرعيّة فوق حدّ الإحصاء، أ لا ترى أنّه في مسألة الخليطين بالنسبة إلى غسل الميّت يقتصر فيهما على المسمّى العرفي، و في مسألة السجود على الأرض مثلا يعتبر ما يصدق عليه الاسم عرفا، و كذلك الكلام في الطهورين و غيرهما.

و بالجملة: المتتبّع في الشرعيّات يقطع بأنّ المناط في موضوعات الأحكام إذا كانت لغويّة إنّما هو الصدق العرفي، فكذا المقام و معه لا عسر و لا حرج، و على فرض تسليمهما بالقياس إلى بعض ما ذكر، فهما إنّما يسقطان التكليف دون الوضع، فلا يجب التحرّز لا أنّه لا نجاسة.

و منها: جملة من الروايات الجزئيّة الّتي أخذها بعضهم دليلا من جانب القائلين بالطهارة، و ستسمعها مع ما يدفعها.

و قد يجاب عن أصل الحجّة: بإبداء المعارضة بمثلها، فيقال: بأنّه لو كانت الغسالة طاهرة لجاز التطهّر بها من الحدث، لأنّ التفكيك بينهما يوجب التقييد في إطلاق ما دلّ على جواز رفع الحدث بالماء الطاهر، خرج ماء الاستنجاء عنه كما خرج أحجار الاستنجاء عن الحجّة المذكورة.

و حاصل المعارضة: أنّ هذا الماء قد جمع بين ما هو لازم للطهارة - إلاّ ما خرج - و هو تطهير، و ما هو للنجاسة - إلاّ ما خرج - و هو عدم جواز رفع الحدث به ثانيا، فأدلّة الملازمتين متعارضة، و أقصى ما يلزم من هذه المعارضة التوقّف، أو الحكم بالتساقط، فيبقى عمومات انفعال القليل سليمة عن المعارض.

إلاّ أن يقال - بعد تسليم عموم أدلّة الملازمة الاولى، أعني ما دلّ على الملازمة بين طهارة الماء و التطهير به -: كما أنّها معارضة بأدلّة الملازمة الثانية - أعني الإطلاقات المذكورة القاضية بالملازمة فيما بين عدم جواز رفع الحدث بالماء و نجاسته - كذلك معارضة بأدلّة انفعال القليل، و التعارض بين الكلّ إنّما هو بالعموم من وجه، فيجب

ص: 342

التوقّف و الرجوع إلى أصالة عدم الانفعال.

لكن يمكن الذبّ عنه: بأنّ ارتكاب التقييد في دليل واحد و هو دليل الملازمة الاولى - خصوصا مثل هذا الإطلاق الّذي لا نسلّمه إلاّ من باب التنزّل و المماشاة - أولى من ارتكابه في الأدلّة المتعدّدة، و هي أدلّة الملازمة الثانية مع أدلّة انفعال القليل، فلا داعي إلى التوقّف و الرجوع إلى الأصل، لأنّهما بعد العجز عن الترجيح على حسب مقتضى القواعد العرفيّة المعمولة في الأدلّة اللفظيّة، و لا عجز هنا.

و منها: طائفة من الأخبار الّتي أوردها شيخنا الاستاذ دام ظلّه(1) بزعم إمكان الاستدلال بها على الطهارة، بل أخذها بعض آخر من مشايخنا في الجواهر(2) مؤيّدة لما اعتمد عليه من قاعدة «أنّ المتنجّس لا يطهّر»، بل جعلها في الحدائق(3) دالّة على الطهارة، و لذا توقّف في المسألة بدعوى: معارضة تلك الأخبار لروايات اخر دالّة على النجاسة، و هي روايات:

منها: رواية الأحول المتقدّمة في بحث الاستنجاء النافية للبأس عنه، المعلّلة بأكثريّة الماء في مقابلة القذر، بقوله عليه السّلام: «أو تدري لم صار لا بأس به؟ قلت: لا و اللّه، قال: لأنّ الماء أكثر من القذر»(4) فإنّ العلّة بعمومها تشمل المقام.

و قد يقرّر: بأن ليس المراد بالأكثريّة مجرّد الكمّ، بل المراد استهلاك القذر في الماء الّذي يورده عليه، فدلّ على أنّ كلّ ماء ورد على قذر فاستهلكه بحيث لم يظهر فيه أوصافه كان طاهرا.

و أجاب عنه الاستاذ(5) بما يرجع محصّله: إلى أنّ تعرّض الإمام عليه السّلام بعد نفيه البأس عن الماء المفروض في السؤال للتعليل بالعلّة المذكورة، يدلّ على أنّ الحكم الوارد في الرواية إنّما ورد على خلاف القاعدة، لأنّه تعرّض لذلك بعد أن سكت، فكأنّه فهم من حال السائل في زمان سكوته أنّه استبعد ذلك الحكم، لما ركز في ذهنه من أنّ مقتضى

ص: 343


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 330:1.
2- جواهر الكلام 621:1.
3- الحدائق الناضرة 486:1.
4- الوسائل 222:1 ب 13 من أبواب الماء المضاف و المستعمل ح 2، علل الشرائع 287:1.
5- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 331:1.

القاعدة خلاف ذلك، فقال: «أ و تدري لم صار لا بأس به» دفعا للاستبعاد، مريدا به أنّ هذا الحكم ما جعل على خلاف القاعدة المركوزة في ذهنك، و الّذي يشعر بذلك أنّه عبّر عن جعل هذا الحكم بلفظ «صار» الّذي يدلّ على الانتقال، و معناه أنّ هذا الحكم خارج عن مقتضى [القاعدة]، و العلّة في خروجه أنّ الماء أكثر من القذر، و معه لا يمكن التمسّك بعموم تلك العلّة، لأنّ الحكم الخارج على خلاف القاعدة هنا طهارة ماء الاستنجاء، فحينئذ إمّا أن يريد الإمام عليه السّلام بقوله: «أو تدري لم صار لا بأس به» بيان أنّ طهارة ماء الاستنجاء من حيث كونه ماء قليلا ملاقيا للنجاسة خارجة عن مقتضى القاعدة، أو يريد به بيان أنّ طهارة ماء الاستنجاء من حيث كونه غسالة خارجة عن مقتضى القاعدة، أو يريد به بيان أنّ طهارة ماء الاستنجاء من حيث كونه ماء استنجاء خارجة عن القاعدة.

فان كان الأوّل: يدلّ على عدم انفعال القليل بالملاقاة، كما توهّم مستدلاّ بتلك الرواية.

و إن كان الثاني: يدلّ على طهارة الغسالة كائنة ما كانت.

و إن كان الثالث: يدلّ على طهارة ماء الاستنجاء خاصّة.

و لكن لا سبيل إلى الأوّل إذ لا قاعدة في مقابلة عدم انفعال القليل، ليكون ذلك على خلافها مخرجا عنها، بل هو على تقدير ثبوته حكم موافق للقاعدة، لأنّ القاعدة الأولويّة في الماء الطهارة بخلاف الأخيرين، إذ يمكن فرض قاعدة في مقابلتهما بكون الحكم فيهما مخالفا لها، إذ على أوّلها يكون الحكم المذكور مخالفا لقاعدة انفعال القليل بالملاقاة، و على ثانيهما يكون مخالفا لقاعدة نجاسة الغسالة، و الاستدلال بالرواية على طهارة مطلق الغسالة لا يتمّ إلاّ على تقدير تعيّن أوّل الاحتمالين في كونه مرادا، و لا معيّن له في الكلام.

و التشبّث بالعموم ممّا لا معنى له، لأنّه لو كان لقضى بعدم انفعال القليل مطلقا، و قد فرضنا عدم إمكان إرادته، و المفروض أنّ المستدلّ أيضا لا يقول به، بل هو ممّن يقول بالانفعال، فصارت العلّة الواردة في الرواية مجملة، و معه سقط بها الاستدلال جدّا.

أقول: إنّه مدّ ظلّه و إن أجاد فيما أفاد، و أتى في منع الدلالة بما لم يأته إلاّ ذو القوّة القدسيّة، و صاحب الملكة القويّة المستقيمة، إلاّ أنّ فيه بعد إشكالا لم يتعرّض هو لدفعه،

ص: 344

مع إمكان المناقشة فيه: بأنّ العلّة إذا كانت بنفسها عامّة، فغاية ما يلزم ممّا ذكر في نفي إرادة المعنى إنّما هو ورود تخصيص عليها، و من المقرّر أنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي بعد التخصيص، أي ظاهر في تمام الباقي لا أنّه مردّد بينه و بين البعض منه، فإنّه لو حملناها على إرادة المعنى الثاني لحملناها على تمام الباقي بعد التخصيص، و لو حملناها على إرادة المعنى الثالث لحملناها على البعض منه، و حيث إنّ البعض الآخر لا يعلم له مخرج فيجب الحمل على الجميع، و معه يتمّ الاستدلال فيها.

و أمّا الإشكال المشار إليه فهو أنّ اللازم من الحمل على أحد المعنيين الأخيرين دون الأوّل أن تكون الرواية فارقة بين أقسام القليل الملاقي للنجاسة، مفصّلة فيها بالحكم على البعض بالطهارة دون البعض الآخر، و العلّة المأخوذة لذلك الحكم هي أكثريّة الماء، و هذه العلّة كما أنّها تجري بالقياس إلى الاستنجاء، كذلك تجري بالقياس إلى مطلق الغسالة، و كما أنّها تجري في الغسالة كذلك تجري في مطلق القليل، و من القبيح عقلا المستقبح عرفا تعليل الفرق بين شيئين أو أشياء بعلّة مشتركة بين الجميع، فإنّ علّة الحكم المخصوص بشيء لا بدّ و أن يكون من خصائص ذلك الشيء و إلاّ لما اختصّ الحكم به، لئلاّ يلزم تخلّف المعلول عن العلّة.

فالأولى أن يقال في الجواب - بعد البناء على كون التعليل في معرض بيان كون الحكم المذكور على خلاف مقتضى القاعدة، حسبما ذكر -: إنّ المراد بأكثريّة الماء بالقياس إلى القذر ليس هو الأكثريّة الحسيّة، ليلزم أحد المحذورات ممّا ذكر في نفي احتمال المعنى الأوّل، و ما أشرنا إليه من الإشكال بالقياس إلى المعنى الأخيرين - و لو فسّرت بما يوجب الاستهلاك - بل المراد بها الأكثريّة المعنويّة، الّتي يرادفها القوّة العاصمة، فيكون معنى التعليل: أنّ هذا الماء فيه قوّة تعصمه عن الانفعال بذلك القذر، و ليس في القذر في مقابلته قوّة تزاحم ما في الماء و تترجّح عليه فتوجب انفعاله، و هذه القوّة ممّا لا يدري أنّها هل هي الحيثيّة الاستنجائيّة اللاحقة بالماء، أو الحيثيّة المطهّريّة عن الخبث العارضة له، أو مجرّد كونه ماء، فتكون العلّة مجملة و القدر المتيقّن منها الحيثيّة الاولى، لأنّها حاصلة على جميع التقادير في ماء الاستنجاء المسئول عنه، فلا يظهر من الرواية حكم الماء القليل مطلقا، و لا حكم مطلق الغسالة، فسقط الاستدلال

ص: 345

بها على عدم انفعال القليل بالملاقاة، و لا طهارة الغسالة على الإطلاق، و إلى هذا المعنى - من دعوى إجمال العلّة - أشرنا في بحث انفعال القليل.

و منها: ما ورد في بول الصبيّ من الروايات الآمرة بصبّ الماء عليه(1).

و أجاب عنه الاستاذ دام ظلّه: «بأنّها لا تدلّ على طهارة غسالته المنفصلة، و نحن لا نقول أيضا بنجاسة ما لا يلزم انفصاله عن المحلّ»(2) و هو أيضا في غاية الجودة كما لا يخفى.

و منها: ما ورد في غسالة الحمّام الّتي لا تنفكّ عادة عن الماء المستعمل في إزالة النجاسة، كمرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام قال:

«سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس تصيب الثوب؟ قال: لا بأس به»(3).

و فيه: أنّ غسالة الحمّام بنفسها عنوان آخر، و لهم فيه كلام آخر يأتي إيراده، و لعلّ البناء فيها على الطهارة، فلا مدخل لها في محلّ البحث، على أنّ الكلام في غسالة الحمّام - على ما يأتي بيانه - فيما لم يعلم بملاقاة النجاسة و لا بعدم ملاقاته.

و دعوى: أنّ الغالب فيها إزالة الخبث بها، فيحمل الرواية على الغالب.

يدفعها: المعارضة بأنّ الغالب فيها أيضا ملاقاة نجس العين من أصناف الكفّار، من المجوسي و النصراني و اليهودي، و غيرها من أنواع النجاسات كالبول و المنيّ، الحاصل ملاقاتهما من غير جهة الإزالة ليكون من محلّ البحث، فلو بنى على حملها على الغالب لكان ذلك من جملة المحمول عليه، و لازمه عدم انفعال القليل رأسا، و لا يقول به المستدلّ، و مع قيام الأدلّة على الانفعال فلا بدّ من حمل الرواية على ما لا ينافيها، و هو مورد النادر. و دعوى: أنّ النادر ما لم يلاق نجس العين ليست بأولى من دعوى: أنّ النادر ما لم يستعمل في إزالة الخبث، أو ما لم يلاق نجس العين و لم يستعمل في إزالة الخبث.

و منها: رواية الذّنوب(4) الواردة في أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتطهير المسجد من بول الأعرابي

ص: 346


1- انظر الوسائل 397:3 روايات ب 3 من أبواب النجاسات.
2- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 333:1.
3- الوسائل 213:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل ح 9 - الكافي 4/15:3.
4- و هي ما رواه أبو هريرة قال: دخل أعرابي المسجد فقال: اللّهم ارحمني و ارحم محمّدا و لا ترحم معنا أحدا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لقد تحجّرت واسعا» قال: فما لبث أن بال في ناحية المسجد، فكأنّهم عجلوا إليه، فنهاهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ أمر بذنوب من ماء فاهريق، ثمّ قال: -

بصبّ ذنوب من الماء عليه، و عن الخلاف في وجه الاستدلال: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا يأمر بطهارة المسجد بما يزيده تنجيسا»(1) فيلزم أن يكون الماء باقيا على طهارته.

و فيه: ما عن المعتبر عن الخلاف من أنّه بعد حكايتها قال: «إنّها عندنا ضعيفة الطريق، لأنّها رواية أبي هريرة، و منافية للأصول، لأنّا بيّنّا أنّ الماء المنفصل عن محلّ النجاسة نجس، تغيّر أم لم يتغيّر، لأنّه ماء قليل لاقى نجسا»(2).

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم(3) المرويّة في المركن، الآمرة بغسل الثوب فيه مرّتين، و في الماء الجاري مرّة واحدة، و قيل في وجه الدلالة: أنّ نجاسة الغسالة توجب نجاسة المركن فلا يطهّر الثوب بالغسلة الثانية، خصوصا مع عدم إحاطتها بجميع ما تنجّس منه بالأولى.

و فيه أوّلا: عدم دلالتها على ملاقاة الثوب للمركن بوروده على الماء الّذي هو في المركن، أو بورود الماء عليه و هو في المركن، لجواز أن يكون المراد غسله بالقليل الّذي يصبّ عليه من الآنية و نحوها، على وجه ينفصل منه الغسالة إلى المركن و تدخل فيه، و قضيّة ذلك طهارة الثوب بالغسلتين، مع سكوت الرواية عمّا في المركن من الغسالة.

و ثانيا: منع دلالتها على ملاقاة الثوب للمركن و هو باق على نجاسته الحاصلة بالغسلة الاولى، بجواز لزوم غسله بعد الاولى ثمّ إيقاع الغسلة الثانية فيه أيضا، و لا ينافيه عدم تعرّض الرواية لبيان ذلك، لجواز أنّ الراوي كان عالما به، و إنّما وردت الرواية لبيان حكم اعتبار التعدّد في الغسل عن البول إذا كان بالقليل.

ص: 347


1- الخلاف 495:1 المسألة 235.
2- المعتبر: 449:1.
3- و هي ما رواه في الوسائل و التهذيب - في الصحيح - عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الثوب يصيبه البول؟ قال: «اغسله في المركن مرّتين، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة». قال الجوهري في الصحاح: المركن: الإجانة الّتي تغسل فيها الثياب، الوسائل 397:3 ب 2 من أبواب النجاسات ح 1 - التهذيب 717/250:1.

و ثالثا: منع منافاة نجاسة المركن بالغسلة الاولى لطهر الثوب بالغسلة الثانية، إذا وقعت عليه مستكملة بإخراج الغسالة عنه بعد رفعه عن المركن، و النجاسة الحاصلة فيه بالغسلة الاولى لا تزيد على نجاسة البلّة الباقية في الثوب عن الاولى، و لا على نجاسة اليد المباشرة له في الغسل، و كما أنّهما لا تؤثّران في تنجّس الثوب ثانيا، و لا تنافيان طهره باستعمال الغسل الشرعي، فكذلك نجاسة المركن، لأنّ الجميع من واد واحد، و دعوى، كون ما فيه قادحا دون ما في البلّة و اليد تحكّم، و من هنا ترى أنّ العلاّمة(1)أفتى بموجب تلك الرواية، و حكم بأنّ الثوب يخرج طاهرا و المركن و ما فيه يكون نجسا، مع احتمال طهر المركن بالتبعيّة إذا أفرغ منه الغسالة كاليد المباشرة.

و منها: رواية إبراهيم بن عبد الحميد قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الثوب يصيبه البول فينفذ إلى الجانب الآخر، و عن الفرو و ما فيه من الحشو؟ قال: «اغسل ما أصاب منه، و مسّ الجانب الآخر، فإن أصبت شيئا منه فاغسله، و إلاّ فانضحه»(2). و تقريب الدلالة فيها - على ما أشار إليه في الحدائق: «أنّه لو تنجّس الماء الوارد بالملاقاة لكان النضح سببا لزيادة المحذور، فكيف يؤمر به»(3).

و فيه: مع أنّه لو تمّ لقضى بعدم انفعال الماء في صورة وروده على النجاسة، و إن لم يكن في مقام الغسل و الإزالة ليدخل في عنوان «الغسالة»، ضرورة، أنّ النضح ليس بغسل، و المستدلّ ممّن لا يقول به أنّه خارج عن المتنازع فيه، إذ النضح إنّما يكلّف به في موضع عدم إصابة شيء من البول، فلم يعلم ملاقاته للنجاسة، و عدم العلم بالملاقاة كاف في الحكم بعدم النجاسة، فالنضح حينئذ إمّا تعبّد صرف يكلّف به في موضع الاحتمال، أو أنّ الأمر به في الرواية مبالغة في الحكم بعدم النجاسة مع عدم العلم بها بعد التحرّي و الفحص.

و حاصله: إفادة أنّ احتمال النجاسة في عدم اقتضاء الغسل أو وجوب الاجتناب بحيث يجوز معه مباشرة المحلّ و ملاقاته بالرطوبة، و إن شئت فانضح موضع الاحتمال،

ص: 348


1- منتهى المطلب 146:1.
2- الوسائل 400:3 ب 5 من أبواب النجاسات ح 2 - و فيه «و إلاّ فانضحه بالماء» - الكافي 3/55:3 - النضح «الرشّ».
3- الحدائق الناضرة 486:1.

و على هذا المعنى يحمل صحيحة عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام قال: سألته عن الصلاة في البيع، و الكنائس، و بيوت المجوس، فقال: «رشّ و صلّ»(1) و التعبير عن نفي آثار معلومة عن شيء مفروض بنظائر هذه العبارة، كثير شائع في العرفيّات كما لا يخفى.

فما في الحدائق - الاستدلال بتلك الرواية أيضا بالتقريب المتقدّم - من: «أنّه لو تنجّس الماء الوارد بالملاقاة لكان الرشّ سببا لزيادة المحذور»(2) ممّا لا وجه له أصلا.

و العجب منه أنّه استند إلى تلك الروايات بزعم دلالتها على الطهارة فارقا بينها و بين الطهوريّة، فحكم بعدمها عملا بالأصل الّذي لا يخرج عنه هنا(3)، ثمّ توقّف في آخر كلامه، قائلا: «و بالجملة عندي محلّ توقّف و الاحتياط فيها لازم»(4) نظرا منه إلى جملة اخرى من الروايات الدالّة على النجاسة، كما تقدّم في مبحث نجاسة الماء القليل بالملاقاة من الأخبار الدالّة على إهراق ماء الركوة و التور و نحوهما، ممّا وضع فيها إصبع أو يد فيهما قذر، فإنّ إطلاق تلك الأخبار شامل لما لو كان بقصد الغسل أم لا، بل [و لو لم يكن بقصد الغسل، فإنّه يجب الحكم بالطهارة متى زالت العين و لم يتغيّر الماء] (2)بمجرّد ذلك الوضع، و نحوها في الدلالة ما ورد من إيجاب تعدّد الغسل فيما ورد فيه، و عدم تطهير ما لا يخرج عنه الماء إلاّ بالكثير، فإنّه لا وجه لهذه الأشياء على تقدير القول بطهارة الغسالة، و ما اجيب عن ذلك من كون ذلك تعبّدا بعيد جدّا»(3) انتهى.

و كلّ ذلك كما ترى خروج عن طريق الاجتهاد، و عدول عن جادّة الاستنباط.

ثمّ إنّه بعد ما استظهر من الأخبار المتقدّمة الدلالة على الطهارة، و ضمّ إليها الحكم بعدم الطهوريّة، أسند إلى الأمين الأسترآبادي الميل إلى هذا القول، ناقلا كلامه بأنّه - بعد الكلام في المسألة - قال: «ملاحظة الروايات الواردة في أبواب متفرّقة تفيد ظاهرا لطهارة غسالة الأخباث و سلب طهوريّتها بمعنى رفع الحدث، و لم أقف على دلالة سلب طهوريّتها بمعنى إزالة الخبث، و الأصل المستصحب بمعنى الحالة السابقة،

ص: 349


1- الوسائل 138:5 ب 13 من أبواب مكان المصلّي ح 2 - التهذيب 875/222:2. (2-4) الحدائق الناضرة 486:1 و 487 و 488.
2- سقط ما بين المعقوفين من قلمه الشريف في نسخة الأصل و لذا أدرجناه في المتن لاستقامة العبارة.
3- الحدائق الناضرة 488:1.

و أصالة الطهوريّة بمعنى القاعدة الكلّيّة، و البراءة الأصليّة بمعنى الحالة الراجحة، و العمومات تقتضي إجراء حكم الطهوريّة بهذا المعنى إلى ظهور مخرج، و اللّه أعلم»(1).

و أمّا خامسها: فالقول بالطهارة إذا ورد الماء على المحلّ، و لازمه النجاسة إذا انعكس الأمر، و أمّا أنّ المحلّ هل يطهّر حينئذ أو لا يطهّر؟ فمبنيّ على مسألة كيفيّة التطهير المفروضة في اشتراط ورود الماء على المحلّ المغسول و عدمه، و من هنا يظهر أنّ هذا القول ينحلّ إلى قولين، و كيف كان فهذا ممّا عدّه الشهيد في عبارته المتقدّمة من الدروس(2) قولا برأسه، مقابلا للأقوال الاخر في المسألة.

و لمناقش أن يناقش فيه بدعوى: أنّه ليس من أقوال تلك المسألة مقابلا للقول بالطهارة، بل هو جمع بين القول بالطهارة هنا و القول باشتراط الورود في المسألة المشار إليها.

و بيان ذلك: أنّ الفقهاء عندهم نزاعان، أحدهما: ما في مسألة الغسالة، من أنّها هل هي طاهرة أو لا؟ و الآخر: ما في مسألة الغسل عن الأخباث، من أنّه هل يشترط فيه ورود الماء على المغسول أو لا؟ فإذا اتّفق أحد قال بالطهارة في الاولى و اشتراط الورود في الثانية، كان قائلا بطهارة الغسالة إذا ورد الماء على المحلّ، و معه فلا ينبغي عدّ ذلك قولا برأسه مقابلا للقول بالطهارة هنا.

بل ربّما يمكن أن يقال: بأنّ هذا لا يدخل في أقوال تلك المسألة أصلا، بل هو جمع بين القول بعدم انفعال الماء القليل في صورة وروده على النجاسة مع القول باشتراط الورود في مسألة الغسل، و هذا هو الظاهر من كلام السيّد(3) فيما تقدّم، و قد عرفت آنفا موافقة الحلّي(4) له، و تبعهما صاحب المدارك(5)، و يستفاد اختياره من تضاعيف كلام بعض من عاصرناه من مشايخنا العظام(6).

و احتجّ في المدارك على الطهارة: «بالأصل السالم عمّا يصلح للمعارضة، فإنّ الروايات

ص: 350


1- الحدائق الناضرة 487:1.
2- الدروس الشرعيّة 122:1.
3- و هو السيد المرتضى قدّس سرّه في الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 136:1 - المسألة الثالثة).
4- السرائر 181:1.
5- مدارك الأحكام 121:1.
6- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 315:1.

المتضمّنة لنجاسة القليل بالملاقاة لا تتناول ذلك صريحا و لا ظاهرا، و تخرج الروايات الدالّة على طهارة ماء الاستنجاء شاهدا»(1) و على اعتبار الورود «بأنّ أقصى ما يستفاد من الروايات انفعال القليل بورود النجاسة عليه، فيكون غيره باقيا على حكم الأصل»(2).

و محصّل الوجهين يرجع إلى الاستدلال على النجاسة في صورة ورودها على الماء بروايات انفعال القليل بالملاقاة، و على الطهارة في صورة العكس، بالأصل بعد المنع عن تناول تلك الروايات لهذه الصورة، فالعمدة في ذلك الدليل حينئذ دعوى: عدم تناول أدلّة انفعال القليل لصورة ورود الماء، و قد بيّنّا بطلان تلك الدعوى بما لا مزيد و في غير موضع، فلا حاجة إلى إعادة الكلام.

و عن السيّد الاحتجاج: «بأنّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة، لأدّى ذلك إلى أنّ الثوب لا يطهّر من النجاسة إلاّ بإيراد كرّ من الماء عليه، و التالي باطل بالمشقّة المنتفية بالأصل فالمقدّم مثله، و بيان الشرطيّة: أنّ الملاقي للثوب ماء قليل فلو نجس حال الملاقاة لم يطهر الثوب، لأنّ النجس لا يطهّر غيره»(3).

و لا يخفى أنّ دعوى تلك الملازمة إنّما تستقيم إذا كان في مسألة تطهير الثوب قائلا باعتبار ورود الماء، و إلاّ لكان الدليل على فرض تماميّته قاضيا بعدم انفعال القليل مطلقا كما عليه العماني، و هو لا يقول به ظاهرا، و حيث إنّ هذه الملازمة مستندة إلى قاعدة أنّ النجس لا يطهّر، فمنعها عندنا سهل، بعد ما استوفينا الكلام في منع القاعدة المذكورة على إطلاقها، ففيما تقدّم مفصّلا كفاية - في الجواب عن هذا الدليل - عن إطالة الكلام هنا.

و أجاب عنه العلاّمة في المختلف بالمنع من الملازمة أيضا، قائلا: «بأنّا نحكم بتطهير الثوب و النجاسة في الماء بعد انفصاله عن المحلّ»(4) و الفرق بينه و بين مقالتنا أنّا نحكم بالنجاسة حال الاتّصال و بعد الانفصال معا و لا منافاة، و هو لا يحكم بالنجاسة إلاّ بعد الانفصال و زوال الملاقاة الّتي هي السبب في انفعاله.

ص: 351


1- مدارك الأحكام 122:1.
2- مدارك الأحكام 122:1.
3- راجع المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهية 136:1، المسألة الثالثة) نقلا بالمعنى.
4- مختلف الشيعة 239:1.

و من هنا اعترض عليه في المدارك: «بأنّ ضعفه ظاهر: لأنّ ذلك يقتضي انفكاك المعلول عن علّته التامّة، و وجوده بدونها، و هو معلوم البطلان»(1) فإنّه متّجه قطعا، و لا يمكن التفصّي عنه، و مراده بالعلّة هي الملاقاة حسبما اقتضته الأدلّة و كلام الأعلام، فما في حاشية هذا الكلام للمحقّق البهبهاني من: «أنّه لا يخفى أنّه لم يظهر أنّ العلّة ما هي؟ حتّى يعترض عليه بذلك»(2) ليس على ما ينبغي.

و أمّا الكلام في اعتبار الورود و عدمه، فهو ممّا لا يتعلّق بالمقام، و يأتي البحث عنه في محلّه.

و أمّا سادسها: فالقول بالنجاسة مطلقا و إن كان بعد طهارة المحلّ، بمعنى: أنّ الماء المنفصل عن كلّ غسلة نجس، و إن ترامت الغسلات إلى ما لا نهاية له، و عن الشهيد في حاشية الألفيّة: «أنّه حكاه عن بعض الأصحاب»(3).

و في الحدائق: «عن الشيخ المفلح الصيمري - في شرح كتاب موجز الشيخ ابن فهد - أنّه نقل عن مصنّفه أنّه نقل في كتاب المهذّب و المقتصر هذا القول عن المحقّق و العلاّمة، و ابنه فخر الدين، ثمّ نسبه في ذلك إلى الغلط الفاحش و السهو الواضح»(4) انتهى.

و لعلّه إلى ابن فهد يشير ما في المدارك - بعد نقله هذا القول -: «من أنّه ربّما نسب إلى المصنّف و العلاّمة» - ثمّ ردّه بقوله: «و هو خطأ، فإنّ المسألة في كلامهما مفروضة فيما يزال به النجاسة، و هو لا يصدق على الماء المنفصل بعد الحكم بالطهارة»(5).

و عن الروض - أنّه بعد ما نقل القول المذكور، نقل: «أنّه قائله» يعني ابن فهد(6).

و كيف كان: هذا القول - مع أنّه غريب مقطوع بفساده، لمخالفته الاصول المحكمة، و القواعد المتقنة و غيرها من الأدلّة الشرعيّة، فالمحكيّ من حجّته أيضا قاصر عن إفادته، و هو: أنّه ماء قليل لاقى نجاسة.

و بيانه: أنّ طهارة المحلّ بالقليل على خلاف الأصل - المقرّر من نجاسة القليل

ص: 352


1- مدارك الأحكام 121:1.
2- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 186:1.
3- المقاصد العليّة و حاشيتا الألفيّة: 162-475؛ أيضا حكاه عنه في روض الجنان: 159.
4- الحدائق الناضرة 485:1.
5- نسبه إليهما الشهيد في ذكرى الشيعة 84:1.
6- لم نجده في روض الجنان.

بالملاقاة - فيقتصر فيه على موضع الحاجة و هو المحلّ دون الماء، و لا خفاء ما فيه من الفساد، لو كان دليلا على النجاسة في جميع الغسلات حتّى بعد طهارة المحلّ، لوضوح امتناع صغراه بعد فرض الطهارة في المحلّ، فإنّ كبراه - على ما هو المصرّح به في العبارة - كلّيّة انفعال القليل بملاقاة النجاسة، و لا تتمّ هي دليلا إلاّ بعد انضمام الصغرى إليها، و هي: أنّ هذا الماء - أي المنفصل عن المحلّ - بعد طهره ملاق للنجس، و هو كما ترى بعد فرض الطهارة ممّا يبطله دليل الخلف.

نعم، يمكن بعيدا توجيهه: بكونه مبنيّا على نجاسة البلّة الباقية في المحلّ بعد طهارة المحلّ - على القول بنجاسة الغسالة - كما هو أحد الاحتمالات المتقدّمة فيه، فإنّها باقية على النجاسة و إن طهر المحلّ، فحينئذ فكلّما غسل هذا المحلّ كان الماء الملاقي له ملاقيا لتلك البلّة فيكون ملاقيا للنجس، و هو صغرى الدليل فيضمّ إليها الكبرى الكلّيّة و يحصل المطلوب، لكن فيه: ما عرفت آنفا من أنّ نجاسة البلّة الباقية بعد طهارة المحلّ ممّا لم يقل به أحد، و لا حكي القول به، و إنّما هو مجرّد احتمال يذكر في المقام، مع ما عرفت من فساده في نفسه، و عدم تعقّل مجامعة نجاستها لطهارة المحلّ، مضافا إلى الوجوه الاخر القاضية بطهارتها.

و بالجملة: فهذا القول بظاهره في غاية السخافة و نهاية الغرابة.

و من هنا قد يوجّه كلام هذا القائل - كما في شرح الشرائع للأستاذ مدّ ظلّه - بأنّه:

«إذا فرض تحقّق الغسلة المطهّرة، و لكن لم ينفصل الماء عن المحلّ، فالمحلّ طاهر و الماء الموجود فيه نجس، فإذا غسل مرّة اخرى لاقى ماؤه الماء الباقي من الغسل المطهّر - و المفروض أنّه نجس، و إن طهر المحلّ - فينفعل به الماء الثاني»(1)، إلى أن قال -: «و حينئذ فإذا فرض نجاسة غير المنفصل، فكلّما لاقاه الماء نجس به، و إن ترامى إلى غير النهاية»(2)، ثمّ قال: «و هذا قول حسن جدّا، بل هو الّذي ينبغي أن يقول به كلّ من يقول بنجاسة الغسالة، لأنّ النجاسة لا تختصّ بما بعد الانفصال، - كما يظهر من العلاّمة في المختلف (3)- حتّى يورد عليه - كما في الذكرى (4)- بلزوم تأخّر المعلول

ص: 353


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 338:1.
2- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 338:1.
3- مختلف الشيعة 239:1.
4- لم نعثر على هذا الإيراد في الذكرى. نعم هو موجود في روض الجنان: 159.

و هو النجاسة عن العلّة و هي الملاقاة»(1) انتهى.

و هذا توجيه وجيه، و إن كان خلاف ظاهر الحكاية بل صريحها، و ما ذكرناه أوجه، و إن كان فاسدا في نفسه.

ثمّ إنّ لنا في حكمه - مدّ ظلّه - بطهارة المحلّ مع نجاسة ما لم ينفصل عنه من الماء إشكالا، قد تقدّم بيانه.

فأوّلا: لأنّه كيف يعقل الطهارة فيه مع نجاسة ما نفذ في جميع أعماقه، إلاّ أن يراد بالطهارة زوال نجاسته الأصليّة، و هذا الموجود نجاسة في الماء عرضيّة، تنسب إلى المحلّ تبعا و عرضا.

و ثانيا: لأنّ المطهّر الشرعي - و هو الغسل - بعد لم يتحقّق قبل انفصال الماء المنصبّ عنه، فكيف يحكم عليه بالطهارة قبل الانفصال، إن اريد به ما قبل العصر و الإفراغ، إلاّ أن يبنى على القول بعدم دخولهما في مفهوم الغسل، و لا كونهما معتبرين معه بالدليل الخارج.

ثمّ بقى في المقام امور ينبغي التنبيه عليها:

الأوّل قال في المنتهى: «إذا غسل الثوب من البول في إجّانة، بأن يصبّ عليه الماء فسد الماء و خرج من الثانية طاهرا،

اتّحدت الآنية أو تعدّدت، و قال أبو يوسف: إذا غسل في ثلاث إجّانات خرج من الثالثة طاهرا، و ماء الإجّانة الرابعة فما فوقها طاهر»(2) الخ، ثمّ أخذ في الاحتجاج على طهارة الثوب قائلا: «و يدلّ عليه وجهان:

الأوّل: أنّه قد حصل الامتثال بغسله مرّتين، و إلاّ لم يدلّ الأمر على الإجزاء.

الثاني: ما رواه الشيخ(3) - في الصحيح - عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الثوب يصيبه البول؟ قال: اغسله في المركن مرّتين، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة»(4).

ص: 354


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 339:1.
2- منتهى المطلب 146:1.
3- الوسائل 397:3 ب 2 من أبواب النجاسات ح 1 - التهذيب 717/250:1.
4- منتهى المطلب 146:1.

أقول: غسل الثوب في الإجّانة له ثلاث صور:

إحداها: أن يؤخذ الثوب على اليد و الاجّانة تحتها، ليطرح فيها ما ينفصل عن الثوب من الغسالة و قطرات الماء الملاقي له حال الغسل، و هذا ممّا لا إشكال لأحد في أنّه يفيد الثوب طهارة، إذ لا فرق بينه و بين الغسل في غير الإجّانة، إلاّ أنّ المنفصل فيه يطرح في الإجّانة و في غيره في الأرض، و هو ممّا لا يعقل كونه فارقا بينهما في الحكم، بل هذه الصورة خارجة عن فرض المنتهى، كما لا يخفى على المتأمّل.

و ثانيتها: أن يصبّ الماء في الإجّانة، ثمّ وضع عليه الثوب ليغسل به فيها، و هو أيضا خارج عن فرض المنتهى، و يتبيّن حكمه.

و ثالثها: ما هو مفروض المنتهى من انعكاس الصورة الثانية، و حينئذ يشكل الحال في تنزيله الرواية عليها، مع أنّها بإطلاقها تشمل الصورتين معا، بل الصور الثلاث جميعا، و إن كان بعيدا بالقياس إلى الصورة الاولى، و كأنّه مبنيّ على الأخذ بالغالب. فتأمّل.

و عن الذخيرة: «أنّه قد يستشكل حكمه بطهارة الثوب مع نجاسة الماء المجتمع تحته في الإجّانة، سيّما على مذهبه المتقدّم من عدم نجاسة الغسالة إلاّ بعد الانفصال عن المحلّ المغسول، و من المعلوم أنّ الماء بعد انفصاله عن الثوب المغسول يلاقيه في الاناء، و اللازم ممّا ذكر تنجّسه به»(1).

و عنه (2)- كما في الحدائق -: «أنّه و قد يتكلّف في دفع الإيراد المذكور بأنّ المراد من الانفصال خروج الغسالة عن الثوب أو الإناء المغسول فيه، تنزيلا للاتّصال الحاصل باعتبار الإناء منزلة ما يكون في نفس المغسول، للحديث»(3).

ثمّ عنه الاعتراض عليه: «بأنّه لا يخفى بأنّ بناء هذا الخبر على طهارة الغسالة أولى من ارتكاب هذا التكلّف، فإنّ ذلك إنّما يصحّ إذا ثبت دليل واضح على نجاسة الغسالة، و قد عرفت انتفاؤه»(4) مع أنّ ظاهر الرواية يدلّ على الطهارة.

و استجوده شيخنا في الجواهر، قائلا: «بأنّه في غاية الجودة»(5) و دفعه في الحدائق «أوّلا: بأنّ هذا التكلّف إنّما ارتكب لدفع المنافاة بين كلامي العلاّمة رحمه اللّه من حكمه

ص: 355


1- ذخيرة المعاد: 143 مع تفاوت يسير في العبارة.
2- ذخيرة المعاد: 143 مع تفاوت يسير في العبارة.
3- الحدائق الناضرة 496:1.
4- ذخيرة المعاد: 143.
5- جواهر الكلام 638:1.

بنجاسة الغسالة بعد الانفصال، و حكمه بطهارة الثوب في الصورة المفروضة، فنزّل الإناء في الصورة المفروضة منزلة الثوب لتندفع المنافاة بين كلاميه، و أمّا الكلام في نجاسة الغسالة و طهارتها فهو كلام آخر.

و ثانيا: أنّ دعوى دلالة الرواية على طهارة الغسالة مع تضمّنها وجوب التعدّد في الغسل محلّ إشكال، إلاّ أن يدّعي حمل التعدّد على محض التعبّد»(1) الخ.

أقول: الإنصاف أنّ الرواية لا دلالة فيها على طهارة و لا على نجاسة، كما أنّ التعويل على الإشكال المتقدّم خلاف الإنصاف، فإنّ الرواية مع سكوتها عن حكم الغسالة طهارة و نجاسة قد تضمّنت طهارة الثوب بغسله على النحو المذكور، فلا بدّ من الالتزام بها لعدم معارض لها، مع ثبوت العمل بها في الجملة، و أمّا حكم الغسالة فلا بدّ فيه من مراجعة القاعدة، فمن انعقدت القاعدة عنده في الطهارة فيبنى عليها هنا أيضا، و من انعقدت عنده في النجاسة فيبنى عليها هنا أيضا.

و إذ قد عرفت أنّ المحقّق عندنا نجاسة الغسالة فنقول بها هنا أيضا، من غير أن ينشأ منه إشكال، و ما ذكر في تقرير الإشكال ليس إلاّ استبعادا محضا، و هو ممّا لا ينبغي التعويل عليه بعد ورود الشرع بخلافه.

مع أنّ المطهّر للثوب حقيقة بالماء، و هو إنّما يتحقّق بعد إخراج الماء المنصبّ عليه في الإجّانة - بعد رفعه عنها - باليد المعصر الّذي هو المخرج، و اتّصاله بما في الإجّانة قبل الرفع عنها ليس بأشدّ من اتّصاله بما فيه نفسه، و قد ثبت أنّه غير قادح و إن كان نجسا.

مع أنّ اتّصاله بالإجّانة مع ما فيه من الأجزاء المنفصلة عنه من الماء ليس إلاّ كاتّصاله باليد مع ما فيها من البلّة المتنجّسة، و قد تقرّر أنّ أمثال هذه الاتّصالات لا تقدح في طهارة الثوب بعروض المطهّر الشرعي له، من حيث إنّ ما معها من النجاسات لم تحصل من خارج، و القدر المحقّق من كونه قادحا إنّما هو ما لو حصل النجاسة فيه بالخارج.

و من هنا نقدر على أن نقول: إنّه لو القي الثوب من يد الغاسل في غير صورة غسله في الإجّانة على الأرض الّتي وقع عليها من قطراته المنفصلة قبل إخراج الغسالة لم يكن قادحا، بل برفعه عنها على هذه الحالة فيستكمل غسله بما بقي منه، لكن في هذا الفرع بعد شيء

ص: 356


1- الحدائق الناضرة 496:1.

في النفس، و طريق الاحتياط هنا ممّا لا ينبغي تركه، و هو إنّما يحصل باستكمال ما بقي من غسله عن أصل النجاسة، ثمّ غسله مرّة اخرى لما طرأه من ملاقاة ما لاقاه في وجه الأرض.

و يبقى الكلام مع العلاّمة فيما اعتبره في مفروض المسألة من صبّ الماء على الثوب في الإجّانة الّذي يرجع محصّله إلى اعتبار ورود الماء على المغسول، فإن كان النظر في ذلك إلى ما يقتضيه القاعدة الشرعيّة فهو موكول إلى محلّه، و إن كان النظر في استفادته من الرواية المذكورة فهو موضع إشكال، لمنافاته ما فيها من الإطلاق، و لو ادّعى فيها الانصراف العرفي فهو أشكل، لعدم قيام ما يقتضيه من غلبة إطلاق و نحوها، و مجرّد غلبة الوجود لا يوجبه على التحقيق، مع توجّه المنع إلى أصل الغلبة، أو كونها معتدّا بها.

و بالجملة: دعوى الانصراف ممّا لا يلتفت إليها، إلاّ على فرض كون لفظ «الغسل» مجازا فيما لو ورد المغسول على الماء، أو على فرض كون المنساق منه في نظر أهل المخاطبة بملاحظة غلبة إطلاق أو غلبة وجود - إن اعتبرناها - هو الماهيّة بوصف وجودها في ضمن ما لو ورد الماء على المغسول، أو على فرض قصور اللفظ عن إفادته الماهيّة المطلقة، باعتبار كونه في موضع لا يجري فيه مقدّمة: أنّه لولاها مرادة لزم الإغراء بالجهل، الّتي هي العمدة في إحراز الإطلاق في المطلقات.

و الفرق بينهما أنّ الأوّل يرجع إلى دعوى الظهور العرفي في صورة ورود الماء، و الثاني يرجع إلى دعوى عدم الظهور فيما يتناول صورة العكس، و منشأ الدعويين: هو الغلبة، و السرّ في الفرق بينهما اختلاف الغلبة في الشدّة و الضعف، و لا ريب أنّ الوجوه باطل جزما، و ثانيها في غاية الضعف، كما أنّ ثالثها في محلّ من البعد.

و من هنا يتبيّن صحّة الاستدلال بالوجه الأوّل - الّذي سمعته عن العلاّمة - من قاعدة الإجزاء، حتّى على عكس ما فرضه رحمه اللّه، فإنّ مبناها على إحراز المأمور به على وجهه و الإتيان به كذلك و قد حصل، إذ لا يفهم من قوله عليه السّلام: «اغسل ثوبك عن البول مرّتين» إلاّ إيجاد ماهيّة الغسل على ما هو المتعارف مرّتين، و احتمال مدخليّة ورود الماء أو كون الغسل في غير الإجّانة و غيرها من الإناء منفيّ بالإطلاق، نعم لو كان هناك دليل من الخارج أوجب خروج ذلك من الإطلاق فهو كلام آخر، و له مقام آخر، و لذا أوكلنا تحقيقه إلى محلّه و مقامه، فانتظر له.

ص: 357

الثاني حكم غسالة الحمّام،

فإنّها ممّا انفرد ذكره في كلام الأصحاب، و التعرّض له بالخصوص في هذا الباب، و المراد بها على ما يستفاد من كلماتهم بل هو صريح بعضهم - كالحدائق(1) - ما يجتمع في البئر من ماء الحمّام المستعمل في غسلات الناس و صبّاتهم، و يظهر ممّا حكي عن الأردبيلي(2) من استدلاله على الطهارة - بما يأتي ذكره من صحيحة محمّد بن مسلم، و موثّقة زرارة - كونها أعمّ منه و ممّا هو في سطوح الحمّام من المياه الّتي ينحدر منها إلى البئر، و ليس ببعيد، إذ ليس المجتمع في البئر إلاّ المياه المنحدرة إليها، من السطح الجارية إليها من خطوطه المتّخذة في السطح لأجل تلك الفائدة، و معه يبعد الفرق في الحكم بين المجتمع و ما هو في السطح و خطوطه، و يمكن القول: بأنّ المقصود بالعنوان هو الأوّل، و الثاني ملحق به في الحكم لاتّحادهما في المناط.

و على أيّ تقدير فلهم فيها عبارات مختلفة، بعضها مصرّحة بالطهارة، آخر بالنجاسة، و ثالث غير واضح المؤدّى من حيث الحكم بالطهارة أو النجاسة، و مع ذلك فلم يرد فيها بالمعنى الأوّل إلاّ عدّة روايات غير معتبرة الأسانيد متعارضة الدلالات، و الّتي وقفنا عليها أربع روايات، مضافا إلى ما سنذكرها من الروايات الاخر.

منها: المرسلة الواردة في الكافي عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام قال: سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال: «لا بأس»(3).

و منها: ما فيه أيضا من المرسلة بعض أصحابنا، عن ابن جمهور، عن محمّد بن القاسم، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تغتسل من البئر الّتي يجتمع فيها غسالة الحمّام، فإنّ فيها غسالة ولد الزنا، و لا يطهر إلى سبعة آباء، و فيها غسالة الناصب و هو شرّهما، أنّ اللّه لم يخلق خلقا شرّا من الكلب، و أنّ الناصب أهون على اللّه

ص: 358


1- الحدائق الناضرة 501:1.
2- حكى عنه في الحدائق الناضرة 501:1 - مجمع الفائدة و البرهان 290:1.
3- الوسائل 213:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 9 - الكافي 4/15:3.

من الكلب»(1).

و منها: المرسلة في التهذيب، محمّد بن علي بن محبوب، عن عدّة من أصحابنا، عن محمّد بن عبد الحميد، عن حمزة بن أحمد، عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: سألته - أو سأله غيري - عن الحمّام؟ قال: «ادخله بمئزر، و غضّ بصرك، و لا تغتسل من البئر الّتي تجتمع فيها ماء الحمّام، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب، و ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت و هو شرّهم»(2).

و منها: ما عن علل الصدوق - الموصوف في الحدائق(3) و غيره بالموثّقية - عن عبد اللّه بن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - في حديث - قال: «و إيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام، و فيها تجتمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي، و الناصب لنا أهل البيت و هو شرّهم»(4).

و لا يخفى أنّ المرسلة الاولى تعارض البواقي، غير أنّ العلاج سهل، من حيث إنّ ما عداها أخصّ منها مطلقا من وجهين، و هي أعمّ لهذين الوجهين:

أحدهما: تعرّض ما عداها لبيان ملاقاة النجاسة و هي غسالة الكافر، دونها.

و ثانيهما: اختصاص المنع فيما عداها بالأغسال، و شمول الرخصة المستفادة منها بملاحظة نفي البأس للاغتسال و غيره من أنواع الاستعمال، نظرا إلى أنّ نفي البأس عمّا أصاب الثوب يقضي بطهارته، و يستلزم عدم البأس باستعمال الماء الملاقي له - و هو في الثوب - بجميع أنواعه الّتي منها التطهّر به مطلقا، فطريق الجمع بينهما يتأتّى من وجهين:

الأوّل: التخصيص فيها بحملها على ما خلا عن النجاسة، و قضيّة ذلك نجاسة غسالة الحمّام مع اتّفاق ملاقاة النجاسة دون غيره، فيكون حكمها على قاعدة الغسالة المطلقة، حسبما تقدّم.

و الثاني: التخصيص فيها أيضا بحمل الرخصة فيها على ما عدا الاغتسال، من أنواع

ص: 359


1- الوسائل 219:1 ب 11 من أبواب الماء المضاف ح 4 - الكافي 1/14:3.
2- الوسائل 218:1 ب 11 من أبواب الماء المضاف ح 1 - التهذيب 1143/373:1.
3- الحدائق الناضرة 498:1.
4- الوسائل 220:1 ب 11 من أبواب الماء المضاف ح 5 - علل الشرائع: 292.

الاستعمال بل مطلق التطهير، بناء على ما أفتى به غير واحد من الأصحاب - كما ستعرف - و حينئذ يشكل الحال في دلالة الروايات على النجاسة، لأنّ ثبوت الرخصة فيما عدا الاغتسال أو مطلق التطهير ممّا لا يجامع النجاسة، نظرا إلى أنّها ممّا يقتضي المنع مطلقا، و قضيّة ذلك خروج حكم غسالة الحمّام على خلاف قاعدة مطلق الغسالة، كما أفتى به بعض الأصحاب على ما ستعرفه.

و لا ينافيه تعرّض ما عدا المرسلة الاولى لبيان ملاقاة النجاسة - نظرا إلى أنّ تعليل المنع بالوصف المناسب يقضي بأنّه علّة الحكم دون الذات، لأنّه لو كان ذات الغسالة كوصف ملاقاة النجاسة صالحة للتعليل بها، لما كان للعدول عنه إلى التعليل بالوصف العرضي وجه، ليقدّم الذاتي على العرضي في ذلك - كما قرّر في محلّه - و إلاّ كان سفها.

فإذا ثبت أنّ علّة المنع هي الملاقاة للنجاسة، تبيّن أنّه من جهة أنّها أثّرت في نجاسة أصل الغسالة؛ إذ لا ملازمة عقلا بين ملاقاة النجاسة و نجاسة الملاقي، بل الملازمة الثابتة بينهما بعد اللّتيّا و الّتي شرعيّة، و إجراؤها هنا استدلال بما هو خارج عن تلك الروايات.

مع أنّ مرجعه - عند التحقيق - إلى إجراء حكم العامّ في الخاصّ و هو كما ترى، و إلاّ فأصل الروايات لو خلّيت و طبعها لا قضاء فيها بالملازمة أصلا.

و ما ذكرناه في تقريب المنافاة - من اقتضاء التعليل بالوصف المناسب للحكم لذلك - ممنوع، لأنّ أقصى ما يسلّم من مناسبة الوصف كون الملاقاة للنجاسة مناسبة لأصل المنع، لا أنّها مناسبة لنجاسة الملاقي، و المنع مستند إليها لا إلى أصل الملاقاة، و إلاّ لقضت الروايات بأنّ علّة المنع هي النجاسة الحاصلة بالملاقاة لا نفس الملاقاة، و إنّما هي علّة للعلّة و هو كما ترى خلاف ما يظهر منها.

و لا مانع من أن يكون ذلك الماء النجس إذا دخل في نوع الغسالة الغير المتنجّسة و امتزج معها مقتضيا لهذا المنع في نظر الشارع، مع بقاء أصل الممتزج على أصل الطهارة، غاية الأمر أنّ طهارته توجب زوال النجاسة عمّا دخل فيه و امتزج معه بالاستهلاك أو مطلق الممازجة.

فعلّة المنع في الحقيقة اشتمال غسالة الحمّام على غسالة الكافر، من حيث إنّها غسالة الكافر، لا من حيث نجاستها ليستبعد بقاء المعلول مع زوال العلّة بالامتزاج، إذ

ص: 360

المفروض أنّه لا تصريح في الروايات بالنجاسة، و لا بأنّها هي المقتضية للمنع، لجواز أن يكون في غسالة الكافر باعتبار المعنى صفة اخرى غير النجاسة هي المقتضية لذلك المنع.

و ممّا يشعر بذلك ما في ذيل رواية ابن جمهور من «أنّ الناصب أهون على اللّه من الكلب» فإنّه يومئ إلى أنّ الحكمة الداعية إلى المنع المذكور إنّما هي الإهانة على الكافر لما فيه من خبث الباطن، و لا ينافي ذلك ما في تلك الرواية من الطعن على ولد الزنا من «أنّه لا يطهّر إلى سبعة آباء» لأنّ ذلك أيضا من جهة ما فيه من الخبث الباطني، لا أنّ الطهارة هنا مراد بها ما يقابل النجاسة بالمعنى الشرعي؛ فإنّ النجاسة بهذا المعنى ممّا لا سبيل إلى التزامه في ولد الزنا - كما تنبّه عليه بعض الأصحاب كصاحب الحدائق - قائلا: «بأنّه لم يقل بنجاسة ابن الزنا على هذا الوجه قائل من الأصحاب، و لا دليل عليه من سنّة أو كتاب»(1).

نعم في بعض نسخ تلك الرواية الواصلة إلينا - كما قدّمنا ذكرها في جملة أخبار انفعال القليل - مكان قوله عليه السّلام: «أنّ اللّه لم يخلق خلقا شرّا من الكلب الخ»، قوله: «أنّ اللّه لم يخلق خلقا أنجس من الكلب، و أنّ الناصب لنا أهل البيت أنجس منه» و مثله ما في ذيل رواية العلل على ما وجدناه في الوسائل، لكن بعد وقوع الاختلاف في النسخ لا يتعيّن علّيّة وصف النجاسة دون وصف آخر، و غرضنا منع الدلالة و يكفي فيه مجرّد إبداء الاحتمال، لابتناء الاستدلال على دعوى: الملازمة بين المنع و النجاسة، أو دعوى:

المنافاة بينه و بين زوال النجاسة، و الاحتمال يرفعهما.

إلاّ أن يقال: بأنّ الغرض دعوى الملازمة أو المنافاة العرفيّتين، و الاحتمال لا يقدح فيهما، لأنّ مبناهما حينئذ على الظهور العرفي و هو حاصل في المقام، لأنّ المنساق من الروايات عرفا كون العلّة الداعية إلى المنع هي النجاسة في غسالة الكافر، بل انفعال ما يمتزج هي معها من الغسالات الاخر بملاقاتها إيّاها.

و بعد كلّ هذه اللّتيّا و الّتي، فالإنصاف يقتضي عدم جواز الاستناد إلى تلك الروايات في هذا المقام لإثبات الحكم الشرعي، من طهارة أو نجاسة، لعدم سلامة أسانيد أكثرها من الضعف و الإرسال معا، أو أحدهما، فإنّ المرسلة الاولى مع ضعفها بالإرسال،

ص: 361


1- الحدائق الناضرة 502:1.

مقدوحة بما في أبي يحيى الواسطي من الاشتباه، لوقوعه - كما قيل - على إسماعيل بن زياد، و هو من أصحاب الكاظم عليه السّلام و لم نقف فيه على مدح و لا قدح، حيث لم نجده معنونا بخصوصه في كتب الرجال، و على زكريّا بن يحيى و هو من أصحاب الرضا عليه السّلام و حاله كالأوّل، نعم في الخلاصة: «زكريّا بن يحيى الواسطي ثقة روى عن أبي عبد اللّه»(1) و الظاهر اتّحادهما، و لكن قد يبعّده النسبة إلى الإمامين عليهما السّلام، إلاّ أن يقال:

بلقائه إيّاهما، إلاّ أنّ السند يأبى كونه هو لرواية «أحمد ابن محمّد»، فإنّه بدليل رواية محمّد بن يحيى الظاهر في العطّار - بدليل رواية الكليني عنه - هو ابن عيسى المعروف الثقة الجليل، و لم يعهد روايته عن زكريّا، لما قيل: من أنّه يروي عنه إبراهيم بن محمّد بن إسماعيل، نعم هو يروي عن سهل ابن زياد، و هو ثالث من يقع عليهم أبو يحيى الواسطي، و لكن السند يأبى أيضا عن كونه سهيلا، لما قيل: من أنّه من أصحاب العسكري عليه السّلام و المذكور في السند إنّما هو أبو الحسن الماضي عليه السّلام، و كونه ملاقيا له عليه السّلام أيضا يستلزم ملاقاته خمسة و هو بعيد في الغاية، مع أنّ سهل بن زياد - على فرض احتمال السند له ممّن لم يذكر بتوثيق.

نعم عن النجاشي: «أنّه شيخنا المتكلّم»(2) و لكنّه لا يدلّ على وثاقته، مع ما قيل فيه: «من أنّه لم يكن بكلّ الثبت»(3)، و ما عن ابن الغضائري: «من أنّ حديثه نعرفه تارة و ننكره اخرى و يجوز أن يخرج شاهدا»(4) إلاّ أن يقال: إنّ رواية أحمد عنه يعدّ عندهم من أمارات الوثاقة، و معه ليس علينا أن ننظر في أنّه أيّ رجل، و من أصحاب أيّ إمام، و كيف كان فالسند لا يخلو عن اضطراب صالح للقدح فيه.

و المرسلة الثانية مع ما فيها من الإرسال أيضا ضعيفة جدّا بابن جمهور، ضعّفه العلاّمة في المنتهى(5)، و المحقّق في المعتبر(6)، - على ما حكي عنه في الحدائق(7)، - و مثله الكلام في المرسلة الثالثة، فإنّها أيضا مضافا إلى الإرسال ضعيفة بجهالة حمزة بن أحمد، كما اعترف به العلاّمة في المنتهى(8)، و غيره في الرجال فلا يبقى في المقام إلاّ

ص: 362


1- خلاصة الأقوال: 152.
2- رجال النجاشي: 192.
3- رجال النجاشي: 192.
4- مجمع الرجال 180:1.
5- منتهى المطلب 147:1.
6- المعتبر: 23.
7- الحدائق الناضرة 499:1.
8- منتهى المطلب 147:1.

موثّقة العلل، و الكلام في صحّة الاستناد إليها و عدمها يتبيّن بعد تبيّن عبارات الأعلام، و تعيّن ما هو محلّ كلامهم في هذا المقام.

فنقول: قد اختلفت عباراتهم في ذلك، فالعلاّمة في المنتهى حكم بالطهارة، قائلا - بعد نقل الخلاف في المسألة -: «و الأقوى عندي أنّه على أصل الطهارة»(1) و إطلاق ذلك يقتضي عدم الفرق عنده بين صور العلم بملاقاة النجاسة، أو الشكّ فيها، أو العلم بعدمها.

و ممّا يرشد إليه أنّه تمسّك على ذلك بمرسلة أبي يحيى الواسطي المتقدّمة(2)- و هي عامّة - و بصحيحة حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب(3)»، و بما روي - في الحسن - عن الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «في الماء الآجن يتوضّأ منه إلاّ أن تجد غيره»(4)، و هما أيضا عامّان، و حينئذ فغسالة الحمّام عنده مخرجة عن قاعدة نجاسة الغسالة، بل قاعدة انفعال القليل بالملاقاة.

إلاّ أن يقال: بأنّ قوله بالنجاسة فيهما يقيّد كلامه هنا، فيخصّصه بصورة عدم العلم بملاقاة النجاسة، كما أنّ أدلّة القاعدتين تخصّص هذه الأخبار بالصورة المذكورة، و هو مشكل، لأنّ قوله بالنجاسة فيهما عامّ و كلامه هنا خاصّ، و كيف يقيّد الخاصّ بالعامّ، مع أنّ قاعدة الحمل ممّا لا يجري في فتاوي الفقهاء كما قرّر في محلّه، و النسبة بين أدلّة الانفعال و هذه الأخبار عموم من وجه، لاختصاص الاولى بصورة الملاقاة و عمومها بالقياس إلى غسالة الحمّام و غيرها، و اختصاص المرسلة من تلك الأخبار بغسالة الحمّام و عمومها بالقياس إلى صورة الملاقاة و غيرها، و كيف يخصّص أحد العامّين من وجه بالآخر بلا شاهد خارجي.

نعم، يجري هذا الكلام بالقياس إلى الحسنة في الآجن، من حيث إنّها أعمّ من الغسالة و صورة الملاقاة أيضا، و لكن دليله غير منحصر فيها، و بالجملة كلامه رحمه اللّه هنا غير

ص: 363


1- منتهى المطلب 147:1.
2- الوسائل 213:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل ح 9.
3- الوسائل 137:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1.
4- الوسائل 138:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 2 - الكافي 6/4:3.

خال عن الاضطراب، مع ما في استدلاله على ما اختاره بصحيحة حريز من الفساد الواضح، لأنّ هذه الرواية و إن كانت عامّة غير أنّها بملاحظة أدلّة انفعال القليل - الّتي يقول بموجبها - محمولة عنده على صورة الكرّ، و معه كيف يتمسّك بها هنا.

إلاّ أن يقال: بأنّ محلّ النزاع هنا أعمّ من القليل و الكثير، و ليس ببعيد.

و كيف كان: فالقول بالطهارة منسوب معه إلى جملة من المتأخّرين و متأخّريهم، و عدّ منهم الشيخ عليّ في جامع المقاصد(1)، غير أنّ صريح كلامه المنقول عنه - يقتضي اختصاصه بصورة الشكّ، لأنّه قال: «و الّذي يقتضيه النظر أنّه مع الشكّ في النجاسة تكون على حكمها الثابت لها قبل الاستعمال، و إن كان اجتنابها أحوط»(2)، و عن صاحب المعالم(3) و قبله والده في الروض(4) الميل إليه، و عن العلاّمة في الإرشاد(5) أنّه قال: بالنجاسة، و في الحدائق: «ربّما تبعه فيه بعض من تأخّر عنه»(6).

و عن الصدوق قال: «لا يجوز التطهير بغسالة الحمّام، لأنّه يجتمع فيه غسالة اليهودي و المجوسي [و النصراني] و المبغض لآل محمّد و هو شرّهم»(7)، و الظاهر أنّ ذلك فتوى بموجب موثّقة العلل، و عن أبيه قريب من هذا الكلام في رسالته إليه، و عن نهاية الشيخ: «غسالة الحمّام لا يجوز استعمالها على حال»(8) و عن ابن إدريس أنّه جرى عليه قائلا: «غسالة الحمّام لا يجوز استعمالها على حال و هذا إجماع، و قد وردت به عن الأئمة عليهم السّلام آثار معتمدة، قد اجتمع الأصحاب عليها، لا أجد من خالف فيها» (9)و عن المحقّق في المعتبر الاعتراض عليه قائلا - بعد نقل كلامه -: «و هو خلاف الرواية و خلاف ما ذكره ابن بابويه، و لم نقف على رواية بهذا الحكم سوى تلك الرواية و رواية مرسلة ذكرها الكليني قال: بعض أصحابنا عن ابن جمهور، و هذه مرسلة و ابن جمهور ضعيف جدّا، ذكر ذلك النجاشي في كتاب الرجال، فأين الإجماع و أين الأخبار المعتمدة؟ و نحن نطالبه بما ادّعاه، و أفرط في دعواه»(10) انتهى.

و الظاهر أنّ مراده بالرواية المشار إليها الّتي حكم على كلام ابن إدريس بكونه على

ص: 364


1- جامع المقاصد 123:1.
2- جامع المقاصد 123:1.
3- فقه المعالم 350:1.
4- روض الجنان: 161.
5- إرشاد الأذهان 238:1.
6- الحدائق الناضرة 500:1.
7- من لا يحضره الفقيه 10:1.
8- النهاية 203:1.
9- السرائر 90:1.
10- المعتبر: 23.

خلافها مرسلة أبي يحيى الواسطي، و كيف كان فعنه في المعتبر القول: «بأنّه لا يغتسل بغسالة الحمّام، إلاّ أن يعلم خلوّها من النجاسة»(1)، و به صرّح في النافع(2) بعين تلك العبارة و عن العلاّمة في القواعد(3) نحوه.

و قضيّة الاستثناء في كلاميهما أنّهما يقولان بالنجاسة في غير صورة العلم بالخلوّ عنها، حتّى مع الشكّ في الخلوّ و عدمه، كما أنّ مقتضى ما عرفت عن الشيخ و الحلّي أنّهما يقولان بالنجاسة مطلقا حتّى مع العلم بالخلوّ و لكن يبطله: أنّ الحكم بالنجاسة بلا علّة داعية إليه - و هي الملاقاة - ممّا لا يحوم حوله الجاهل، فضلا عن الفقيه الكامل، فلا بدّ من تنزيل إطلاق كلاميهما على غير صورة العلم بالخلوّ عن الملاقاة، فيرجع قولاهما إلى قولي المعتبر و القواعد.

و أمّا ما عرفت عن المحقّق فلا يخلو عن إجمال، من حيث إنّه خصّ المنع بالتطهير، فلو أنّ الجهة هي النجاسة لم يتفاوت الحال بينه و بين سائر أنواع الاستعمال، إلاّ أن يحمل على إرادة المثال لنكتة تأدية المطلب بلفظ الرواية تيمّنا.

نعم، يبقى الكلام في تعليله، فلو أراد بما ذكره القضيّة الدائمة، بدعوى: دوام اتّفاق اجتماع غسالة اليهوديّ و غيره في غسالة الحمّام، فهو ممّا يكذّبه الضرورة، و لو أراد به القضيّة الغالبة، بدعوى: غلبة ذلك فيها بحكم العادة، فهو أيضا بالنسبة إلى هذا الصنف غير مسلّم في غالب الحمّامات، و لا سيّما أعصارنا هذه، و بالنسبة إلى نوع النجاسة غير بعيد، غير أنّ الكلام حينئذ يبقى في مستند الحكم، و سيتّضح منع وجوده، كما يتّضح عدم دلالة رواية العلل عليه، و على أيّ تقدير فلو كان مراده القضيّة الاولى كان قوله مغايرا لقول الشيخ و الحلّي و المعتبر و القواعد، لاختصاصه بصورة العلم بالملاقاة، غاية الأمر يحصل بينه و بينهم خلاف في الصغرى، و لو كان مراده الثانية رجع قوله إلى قولهم.

فتلخّص من جميع ما ذكر: أنّ صورة العلم بالخلوّ عن ملاقاة النجاسة خارجة عن معقد هذه المسألة، و أمّا الصورتان الباقيتان فكون إحداهما و هي صورة العلم بملاقاة النجاسة من معقد هذه المسألة محلّ شبهة، حيث قد عرفت أنّه لا مصرّح بالنسبة إليها بالطهارة عدا ما كان يوهمه ظاهر عبارة العلاّمة في المنتهى، و قد عرفت ما فيه من

ص: 365


1- المعتبر: 23.
2- المختصر النافع: 44.
3- قواعد الأحكام 186:1.

الاضطراب و الاختلال و عدم استقامة دليله.

فبقيت صورة الشكّ، و فيها قولان: أحدهما: الطهارة و هو للعلاّمة و غيره ممّن عرفتهم، و يظهر من الأردبيلي(1) أيضا.

[و ثانيهما] النجاسة: و هو للصدوق و الشيخ و الحلّي و المحقّق و العلاّمة أيضا، و لا ريب أنّ القول بالنجاسة هنا مخالف لقاعدتهم المشهورة المتسالم عليها، من أنّ مدار الحكم بالنجاسة على العلم بتحقّق السبب، و لا يكفي فيه مجرّد الشكّ و الاحتمال بل الظنّ أيضا، فمرجعه إلى التعويل على الظنّ المستند إلى الغلبة و لو نوعا، كما أنّ مرجع القول بالطهارة إلى عدم العبرة بذلك الظنّ.

فالعمدة في المقام النظر في هذا المطلب، و ليس فيه من الأدلّة الخاصّة إلاّ ما عرفت من الروايات، مضافة إلى صحيحة محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الحمّام يغتسل فيه الجنب و غيره، أغتسل من مائه؟ قال: «نعم، لا بأس أن يغتسل منه الجنب، و لقد اغتسلت فيه، ثمّ جئت فغسلت رجلي، و ما غسلتهما إلاّ ممّا لزق بهما من التراب»(2).

و صحيحته الاخرى، قال: رأيت أبا جعفر عليه السّلام جائيا من الحمّام و بينه و بين داره قذر، فقال: «لو لا ما بيني و بين داري ما غسلت رجلي و لا تجنّبت ماء الحمّام»(3).

و رواية زرارة الموصوفة بالموثّقة، قال: «رأيت الباقر عليه السّلام يخرج من الحمّام فيمضي كما هو، لا يغسل رجليه حتّى يصلّي»(4).

حكى الاستدلال بها و بسابقتها عن الأردبيلي(5) و لا بأس به، بناء على ما أشرنا إليه آنفا من أنّ غسالة الحمّام ما يجتمع في البئر من سطوحه الجاري من خطوطها المياه إليها، و فعل المعصوم حجّة كقوله إذا كشف عن حكم بعينه، فلو لا سطح الحمّام مع ما فيه من المياه محكوما عليه بالطهارة - مع قيام الشكّ في نجاسته بحكم العادة - لما ترك المعصوم التجنّب عنه جزما، و لا ضير في تركه الاحتياط الراجح، لمكان كونه بذلك الفعل في مقام التعليم و الارشاد، و يخرج رواية أبي يحيى الواسطي شاهدة، لعدم

ص: 366


1- مجمع الفائدة و البرهان 290:1.
2- الوسائل 148:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 2 و 3 - التهذيب 378:1 و 1172/379 و 1173.
3- الوسائل 148:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 2 و 3 - التهذيب 378:1 و 1172/379 و 1173.
4- الوسائل 211:1 ب 9 من أبواب المضاف ح 2 - التهذيب 1174/379:1.
5- مجمع الفائدة و البرهان 290:1.

صلوحها دليلا مستقلاّ بالإرسال الّذي لا جابر له، و إن عمل بها العلاّمة في المنتهى(1).

و أمّا الروايات الباقية فليس فيها أيضا ما يصلح للاستناد إليه بحكم الضعف و الارسال إلاّ موثّقة العلل، و الظاهر أنّها مستند الصدوق(2) فيما عرفت عنه، و هي عند التحقيق لا تعارض ما ذكر أصلا، لعدم وضوح دلالتها على نجاسة و لا على طهارة، فإنّ قوله عليه السّلام: «و فيها يجتمع غسالة اليهودي و النصراني» إمّا أن يكون قيدا للموضوع، ليكون مفاد الرواية: المنع عن غسالة الحمّام حال كونها يجتمع فيها غسالة هؤلاء، الموجبة لتنجّسها، و حاصله اعتبار العلم بملاقاة النجاسة، فلا تتناول صورة الشكّ.

أو يكون علّة للحكم، فيكون المنع على الإطلاق لتلك العلّة الموجبة للنجاسة في مطلق الغسالة، مع تعيّن حمل القضيّة على الغلبة دون الدوام، صونا لها عن الكذب، فتكون شاملة لصورة الشكّ أيضا، غير أنّه لا يتعيّن الحمل على هذا المعنى بعد قيام احتمال آخر مساو له، مع إمكان دعوى الظهور فيه كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى قوّة احتمال كون المقصود على الاحتمال الثاني تعليل الحكم بما يكون من مقولة الحكمة - و هي علّة التشريع - دون العلّة الحقيقيّة، فيكون محصّل المعنى: أنّ غسالة الحمّام لكونها معرضا لأن يجتمع فيها غسالة هؤلاء و أهلا له، فمن حكمها أن لا يغتسل بها، و حينئذ كما ترى خرج عن الدلالة على النجاسة بالمرّة.

مضافا إلى احتمال النهي الوارد فيها لكونه تنزيهيّا احتمالا قويّا، بقرينة ما سنذكر من رواية عليّ بن جعفر، و إلى ما سبق آنفا من الكلام في دلالة هذه الرواية و نظائرها من جهات اخر.

فالإنصاف: أنّه لا دلالة ثابتة معتبرة على نجاسة غسالة الحمّام في غير صورة العلم بملاقاة النجاسة، مع عدم سبق الكرّيّة، فمقتضى الاصول - مضافة إلى الصحيحتين و غيرهما - الحكم عليها بالطهارة، و لو مع الظنّ بتحقّق السبب، ظنّا مستندا إلى العادة و الغلبة.

و أمّا صورة العلم بتحقّق السبب مع عدم سبق الكرّيّة، فعلى مقتضى القاعدة المتقدّمة في القليل الملاقي للنجس، كما أنّ صورة التغيّر بالنجاسة مع سبق الكرّيّة على قاعدة التغيّر الموجب للنجاسة، و لا مانع عن شيء من ذلك في المقام، إلاّ ما عساه يقال: من

ص: 367


1- منتهى المطلب 147:1.
2- الفقيه 10:1.

معارضة قاعدة الانفعال للصحيحتين المتقدّمتين و غيرهما، ممّا يقضي بإطلاقه على عدم النجاسة حتّى مع الملاقاة و القلّة، و النسبة بينهما عموم من وجه، غير أنّ الخطب فيه سهل، لوجود المرجّح في جانب القاعدة، مع عدم ظهور مخالف فيه ظاهرا كما عرفت.

هذا كلّه في حكمها بالقياس إلى الطهارة، و أمّا حكمها من حيث الطهوريّة فمحلّ إشكال، من حيث إنّ الموثّقة المذكورة تضمّنت المنع عن الاغتسال، و هو شامل لكلا تقديري الدلالة على الطهارة و عدمها.

و يدفعه: أيضا ابتناء ثبوت المنع عن الطهوريّة - كالطهارة - على جعل ما سبق علّة للحكم لا قيدا لموضوعه، و إلاّ خرج عن دلالته عليه في صورة الشكّ، لكن الأحوط الاجتناب عنه في مقام الطهوريّة، كما أنّ الأحوط الجمع بين استعماله في رفع الحدث و بين التيمّم مع الانحصار.

نعم، الظاهر أنّ كراهة التطهير بها في رفع الحدث مع الاختيار ممّا لا ينبغي إنكاره، لما في الوسائل عن الكافي، عن عليّ بن جعفر، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «من اغتسل من الماء الّذي قد اغتسل فيه، فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلاّ نفسه، فقلت - لأبي الحسن عليه السّلام -: أنّ أهل المدينة يقولون: إنّ فيه شفاء من العين، فقال: كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام، و الزاني، و الناصب الّذي هو شرّهما و كلّ من خلق اللّه، ثمّ يكون فيه شفاء من العين؟» الحديث.(1) فإنّها و إن كانت ظاهرة في غير محلّ البحث، غير أنّ الحكم يتعدّى إليه بالأولويّة، و لا يقدح ما في سندها من الضعف و الجهالة في صحّة الاستناد إليها هنا، تسامحا في أدلّة السنن، و هذه الرواية لو كانت جامعة لشرائط الحجّيّة من حيث السند، لكانت صالحة لصرف الروايات المتقدّمة المانعة عن الاغتسال بغسالة الحمّام عن ظواهرها، بحمل نواهيها على الكراهة و التنزيه، و لذا احتملناها سابقا فيها، و اللّه العالم بحقائق أحكامه.

الثالث في الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر،

و هذا أحد أقسام المستعمل، الّذي ينقسم عندهم إلى ما يكون مستعملا في إزالة حدث، أو خبث، أو مطلقا، و الأوّل إمّا في

ص: 368


1- الوسائل 219:1 ب 11 من أبواب الماء المضاف ح 2 - الكافي 38/503:6.

حدث أصغر أو أكبر، و الثاني إمّا في الاستنجاء أو غيره، و الثالث هو غسالة الحمّام.

فالمستعمل في الحدث الأصغر ما حكي فيه عن العامّة في منتهى العلاّمة(1)اختلافا عظيما و أقوالا متشتّتة، القول: بأنّه طاهر مطهّر - كما عليه أصحابنا - و هو لأكثرهم، و بأنّه: طاهر غير مطهّر، و هو لمحمّد بن [الحسين](2)، و حكي عن الشافعي في الجديد، و عن المالك أيضا، و غيره.

و بأنّه: نجس نجاسة مغلّظة، كالدم و البول و الخمر، حتّى إنّه إذا أصاب الثوب أكثر من درهم منع أداء الصلاة، و هو لأبي حنيفة، و بأنّه: نجس نجاسة ضعيفة، حتّى إنّه إذا أصاب الثوب أكثر من درهم لم يمنع الصلاة، و هي لأبي يوسف.

و بأنّه: إن كان المتوضّئ محدثا، فهو كما قال محمّد، و إن كان غير محدث فهو طاهر و طهور، و هو لزفر، و قيل: إنّه قول للشافعي، و عنه أيضا أنّه توقّف فيه.

و عن أبي حنيفة الاحتجاج على ما اختاره، و مثله أبو يوسف «بأنّ هذا الفعل يسمّى طهارة، و ذلك يستدعي نجاسة المحلّ، فشارك الّذي ازيلت به النجاسة»(3). و كأنّه اشتباه في القياس، و إلاّ فالحكم بالقياس إلى أنفسهم لعلّه في محلّه، فإنّ المستعمل في وضوئهم بملاحظة تلك النسبة لا يقصر بحسب الحقيقة عن المستعمل في إزالة البول، و هذا القياس هو اللائق بالمقام، لكمال المناسبة بين المقيس و المقيس عليه دون ما ذكر، لكمال وضوح الفرق بينهما على هذا البيان، إذ إطلاق الطهارة لا يقتضي مقابلة النجاسة على التعيين، بل مقابلة أحد الأمرين منها و من الحدث، و هما في الشريعة موضوعان متغايران لا يدخل أحدهما في مسمّى الآخر و لا في حكمه، و لذا لا يسمّى المحدث نجسا، و لا أنّ ملاقاة المحدث توجب نجاسة الملاقي، و التفكيك بين أنحاء الملاقاة غير معقول في النجاسات، فلو أنّ ملاقاة الماء له حال التوضّي تؤثّر نجاسة الماء فملاقاته له في سائر الأحوال أولى بذلك، و التسمية بالطهارة في الأوّل دون الثاني لا تصلح فارقة بينهما في الحكم بعد ما كان سبب الحكم هو الاستعمال و الملاقاة.

فالحقّ: أنّه طاهر في نفسه مطهّر عن الحدث و الخبث بلا خلاف يعرف بين أصحابنا، و عليه نقل الإجماعات في حدّ الاستفاضة، منها: ما في المنتهى(4)، و ما عن المعتبر(5).

ص: 369


1- منتهى المطلب 128:1.
2- كما في الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 138:1).
3- منتهى المطلب 132:1.
4- منتهى المطلب 128:1.
5- المعتبر: 21.

لنا: على الطهارة - مضافا إلى ما ذكر من القواعد - أنّ عروض النجاسة له - بعد قيام الدليل عموما و خصوصا على أنّ الماء من حكمه بحسب خلقته الأصليّة الطهارة، و على انحصار سبب عروض النجاسة في التغيّر مطلقا، و الملاقاة للنجاسة مع القلّة - ممّا لا يعقل بلا تحقّق سببه، و المفروض منه.

و على المطهّريّة من القواعد القاعدة المستفادة من الأدلّة الشرعيّة عموما و خصوصا، القاضية بأنّ ما جامع وصفي الإطلاق و الطهارة مطهّر عن الخبث و الحدث صغيرا و كبيرا ما لم يصادفه مانع كالمغصوبيّة و نحوها و هذا منه، لعدم قيام الدلالة الشرعيّة من كتاب و لا سنّة و لا غيرهما على مانعيّة عروض الاستعمال و رفع الحدث الأصغر له، من غير فرق في ذلك بين المستعمل في المرّة الاولى، و المستعمل في المرّة الثانية المستحبّة، أو في المضمضة، و الاستنشاق، أو التجديد، خلافا في الثاني و الثالث و الرابع للشافعيّة(1)، المنسوب إليهم أنّ لهم فيها وجهين:

أحدهما: ذلك لأنّه لم يؤدّه فرضا، و الثاني: المنع لأنّه مستعمل في الطهارة، فإنّ فساد المدرك يقضي بفساد المذهب، و تأديته فرضا أو ندبا ممّا لا حكم له في الشريعة، كما أنّ الماء لم يحدّد له في الشرع فعل فضلا عن انحصاره في فعلين.

فما عن الشافعيّة - أيضا - في إزالة الخبث بماء الوضوء من الوجهين، «أحدهما:

جواز ذلك، لأنّ للماء فعلين رفع الحدث و إزالة الخبث، فإذا رفع الحدث بقي تطهير الخبث.

و الثاني: المنع و هو المشهور عندهم، لأنّه مائع لا يزيل الحدث فلا يرفع الخبث كسائر المائعات، و ليس للماء فعلان بل فعل واحد، و هو رفع أحدهما، إمّا الحدث أو الخبث لا بعينه، فأيّهما حصل زالت طهوريّته»(2) متّضح البطلان لابتناء كلّ ذلك على قياس أو استحسان، و لا نقول بشيء منهما.

مضافا إلى أنّ القول بأنّ الماء له فعلان، إن اريد به المرّة فهو دعوى يبطلها ظواهر النصوص كتابا و سنّة، القاضية بأنّ له وصف الطهوريّة بحسب الماهيّة، فإنّ إطلاق قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (3) يقضي بأنّ الثابت له إنّما هو ماهيّة وصف الطهوريّة، و صرف ذلك إلى إثبات فرد من هذا الوصف له يحتاج إلى دلالة معتبرة من

ص: 370


1- منتهى المطلب 132:1.
2- منتهى المطلب 132:1.
3- الفرقان: 48.

الخارج ترفع هذا الإطلاق و ليست بموجودة، و إن اريد به الماهيّة بمعنى أنّه ما قام به هذا الوصف بحسب الماهيّة فهي لا ترتفع بالمرّة، لأنّ الثابت بالأدلّة حينئذ أنّ ماهيّة هذا الوصف في ثبوتها له تتبع الماهيّة المائيّة، و هي لا تزول بعروض الاستعمال جزما، فكذلك ما يتبعها لوجود المقتضي و فقد المانع.

هذا مضافا إلى أنّ الأوامر الواردة في دفع الحدث و إزالة الخبث لم ترد إلاّ مطلقة، و الأمر ممّا يفيد الإجزاء، فلو استعمل المستعمل ثانيا في رفع حدث أو إزالة خبث كان إتيانا بالمأمور به على وجهه فيجب إجزاؤه.

و في حكمه من حيث الطهارة و المطهّرية المستعمل في تعبّد غير حدثي و لا خبثي، كغسل اليد من نوم الليل أو للتغذّي متقدّما و متأخّرا، فإنّه أيضا طاهر و مطهّر للقاعدة الشرعيّة.

فما عن أحمد - من العامّة - في الحكم الثاني من الروايتين، أحدهما: المنع، «لأنّه مستعمل في طهارة تعبّد أشبه المستعمل في رفع الحدث» ليس بشيء، لبطلان الأصل عندنا - كما في المنتهى(1) - مع بطلان الصغرى أيضا، لعدم دخول المفروض في مسمّى الطهارة شرعا.

و قد شاع الاحتجاج على الحكمين معا، بما في التهذيب عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «قال: لا بأس أن يتوضّأ بالماء المستعمل، و قال: الماء الّذي يغسل به الثوب و يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضّأ به، و أشباهه، و أمّا الماء الّذي يتوضّأ به الرجل، فيغسل به يده و وجهه في شيء نظيف، فلا بأس أن يأخذه غيره، و يتوضّأ به»(2).

و ما فيه أيضا عن زرارة عن أحدهما عليهما السّلام قال: «كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا توضّأ اخذ ما يسقط من وضوئه، فيتوضّئون به»(3) و هو في محلّه لو لا قصور سندها بأحمد بن هلال العبرتائي، المحكوم عليه بالضعف تارة، و بالغلوّ اخرى، إلى غير ذلك ممّا قيل فيه و ورد في ذمّه، و يمكن التعويل على روايته الثانية لما عن الغضائري(4) من أنّه توقّف في

ص: 371


1- منتهى المطلب 133:1.
2- الوسائل 215:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل ح 13 - التهذيب 630/221:1.
3- الوسائل 209:1 ب 8 من أبواب الماء المضاف ح 1 - التهذيب 631/221:1.
4- راجع منتهى المقال 362:1.

حديثه، إلاّ فيما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتاب المشيخة، و محمّد بن أبي عمير من نوادره، و قيل: و قد سمع هذين الكتابين جلّ أصحاب الحديث، و اعتمدوه فيهما.

و قيل فيه: لعلّ قبول الغضائري و الجماعة لما يرويه من الكتابين لتواترهما عندهم و شهرتهما، و حينئذ فلا يضرّ ضعف الطريق إليهما، و يحتمل أن يكون قد صنّفهما في حال استقامته، و هذه الرواية قد رواها عن الحسن بن محبوب، و لو ثبت عمل الأصحاب كلاّ أو جلاّ بهما على نحو الاستناد ارتفع الإشكال.

و أضاف إليهما في المنتهى(1) صحيحة حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب»(2)، و ذكر أنّ الاستدلال بها من وجهين:

أحدهما: عموم جواز الاستعمال، سواء استعمل في الوضوء أم لا.

الثاني: أنّه إذا لاقى النجاسة العينيّة كان حكمه جواز الاستعمال ما دام وصف الماء باقيا، فالأولى إنّه إذا رفع به الحدث مع عدم ملاقاة النجاسة جاز استعماله، و ليس في محلّه لضعف ما ذكره من الوجهين.

أمّا الأوّل: فلمنع ما ادّعاه من العموم، إذ ليست الرواية إلاّ في معرض بيان أنّ غلبة الماء على ريح الجيفة توجب عصمته عن الانفعال بها، فجاز التوضّي به لأجل ذلك، فكانت ساكتة عن الجهات الاخر الّتي منها المبحوث عنه.

و لذا لا يقول أحد بجواز استعماله ثانيا بعد ما استعمل في إزالة الخبث، استنادا إلى تلك الرواية، مع جريان ما قرّره من العموم فيه أيضا.

و أمّا الثاني: فلمنع الأولويّة بعد البناء على حمل الرواية على الكرّ، دفعا للمنافاة بينها و بين روايات الانفعال بالملاقاة، فإنّ الكرّيّة إذا كانت عاصمة له عن ظهور أثر النجاسة فيه فالأولى كونها عاصمة له عن ظهور أثر الحدث فيه، و أمّا مع القلّة كما - هو محلّ البحث - فلا عاصم له عن الانفعال، و معه كيف يقاس عليه غيره في نقيض هذا الحكم و يدّعي عليه الأولويّة.

نعم، يمكن الاستناد إلى الأولويّة بالقياس إلى رافع الحدث الأكبر لو قيل فيه

ص: 372


1- منتهى المطلب 131:1.
2- الوسائل 137:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 1 - التهذيب 625/216:1.

بالطهارة - كما ادّعى عليه الإجماع - و المطهّريّة - كما عليه جماعة من فحول الأصحاب - فإذن يكون ذلك دليلا آخر مضافا إلى ما قرّرناه من القاعدة.

و عن المفيد في المقنعة(1) القول باستحباب التنزّه منه، بل عنه(2) ذلك أيضا في ماء الاغسال المستحبّة، بل الغسل المستحبّ كغسل اليد للأكل، و مستنده غير واضح.

نعم، ربّما يعزى إلى شيخنا البهائي في الحبل المتين الاستدلال بما في الكافي عن محمّد بن عليّ بن جعفر عن الرضا عليه السّلام قال: «من اغتسل فيه فأصابه الجذام، فلا يلومنّ إلاّ نفسه»(3) قائلا - بعد إيراد الخبر -: «و إطلاق الغسل في هذا يشمل الغسل الواجب و المندوب و في كلام المفيد في المقنعة تصريح بأفضليّة اجتناب الغسل و الوضوء بما استعمل في طهارة مندوبة، و لعلّ مستنده هذا الحديث، و أكثرهم لم يتنبّهوا له»(4) انتهى.

أقول: و كان ما نقله رحمه اللّه خبر آخر عثر عليه مخصوص بما استعمل في الوضوء، و إلاّ فلو كان إشارة إلى الخبر المتقدّم في ذيل مسألة غسالة الحمّام فالاستناد إليه في هذا المقام ليس من شأن العامي فضلا عنه و من هو دونه، لاختصاص هذا الخبر على ما هو صريح صدره و ذيله بالماء الّذي يغتسل فيه.

و من هنا أورد عليه في الحدائق: «بأنّ عجز الرواية المذكورة يدلّ على أنّ مورد الخبر المشار إليه إنّما هو ماء الحمّام»، إلى أن قال: «و هذا أحد العيوب المترتّبة على تقطيع الحديث، و فصل بعضها عن بعض، فإنّ بذلك ربّما تخفى القرائن المفيدة للحكم كما هنا»(5) انتهى، كما أنّه كذلك لو كان إشارة إلى ما عن الكافي، عن محمّد بن عليّ بن جعفر، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «من أخذ من الحمّام خرقة فحكّ بها جسده فأصابه البرص، فلا يلومنّ إلاّ نفسه، و من اغتسل من الماء الّذي قد اغتسل فيه، فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلاّ نفسه»(6) نعم لو قيل بجريان قاعدة التسامح و أدلّة السنن في مثل فتوى فقيه واحد كان استحباب الاجتناب متّجها من غير إشكال، كما لا يخفى.

ص: 373


1- المقنعة: 64.
2- المقنعة: 64.
3- الوسائل 219:1 ب 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل ح 2 - الكافي 38/503:6.
4- الحبل المتين: 116.
5- الحدائق الناضرة 437:1-438.
6- الوسائل 219:1 ب 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل ح 2 - الكافي 38/503:6.
و الرابع في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر،
اشارة

و قد اختلفت كلمة جماعة من المتأخّرين في تفسيره على ما هو محلّ نزاعهم الآتي، ففي المدارك: «و المراد بالمستعمل: الماء القليل المنفصل عن أعضاء الطهارة»(1) و إنّما عبّر بالطهارة ليشمل المستعمل في الوضوء أيضا، و اعتبار القلّة لأنّ الكثير إذا حصلت الطهارة به لا يدخل في مسمّى المستعمل عندهم، و ليس من محلّ كلامهم على ما يظهر من تتبّع تضاعيف عباراتهم، و اعتبار الانفصال يقضي بأنّه ما لم ينفصل عن العضو لا يسمّى مستعملا، و ستعرف أنّ ذلك ليس بمحلّ وفاق بينهم.

و عن العلاّمة في النهاية: «أنّه الّذي جمع من المتقاطر من الأعضاء»(2) و ذلك تقضي بأنّ النزاع فيما يحصل به الغسل الترتيبي دون الارتماسي، و ستعرف إن شاء اللّه أنّه غير مختصّ به.

و عن صاحب المعالم: «أنّه يفهم من كلامه أنّ النزاع في الماء المنفصل عن جميع البدن أو أكثره»(3).

و في شرح الدروس: «أنّه القدر المعتدّ به الّذي يكون زائدا على القطرة و الرشحة، إمّا بأن ينفصل مرّة عن البدن أو لا، بل اجتمع ممّا انفصل عنه مرارا»(4). و إنّما اعتبر القدر المعتدّ به ليعمّ ما ينفصل عن جميع البدن أو أكثره، أو ما دون الأكثر ممّا زاد على القطرة و الرشحة، و قد نبّه بذلك على أمرين:

أحدهما: خروج القطرة و نحوها عن موضع النزاع، كما صرّح به أيضا فيما تقدّم على تلك العبارة.

و ثانيهما: دفع كلام صاحب المعالم فيما عرفت منه، الظاهر في الاقتصار على القسمين الأوّلين، القاضي بخروج القسم الثالث عن النزاع.

و احتجّ على الأمر الأوّل بكلام الصدوق المشعر بذلك، فإنّه - مع منعه التطهير بغسالة الجنب - قال: «و إن اغتسل الجنب فنزا الماء من الأرض فوقع في الإناء، أو سال

ص: 374


1- مدارك الأحكام 127:1.
2- نهاية الإحكام 241:1.
3- حكى عنه في مشارق الشموس: 249.
4- مشارق الشموس: 249.

من بدنه في الماء، فلا بأس»(1) قائلا: «بأنّ هذا يشعر بما ذكرنا، و لا يخفى أنّه لو كان النزاع فيه - يعني في مثل القطرة أيضا - يكون الروايات المتقدّمة آنفا - يعني ما أقامه من الأخبار دليلا على طهارة هذا الماء، و سيأتي بيانها - من روايتي الفضل، و رواية شهاب، و رواية سماعة، و رواية عمر بن يزيد، دالّة على ما اخترناه من جواز رفع الحدث(2) الخ».

و أنت خبير بما فيه من اعتماده في تشخيص محلّ النزاع على مجرّد الإشعار، إن أراد به ما دون الدلالة المعتبرة، و إلاّ فأصل الإشعار ممنوع، إذ لا منافاة بين اعتقاد الصدوق بكون مثل القطرة من محلّ النزاع و بين ما ذكره في الفرع المتقدّم، لجواز ابتناء ذلك الفرع على حصول الاستهلاك، و خروج القطرة الواقعة في الإناء عن عنوان المستعمل بذلك الاستهلاك، مع كونها في حدّ ذاتها من محلّ النزاع.

و إنّما يظهر الفائدة فيما لو كانت القطرة ممتازة غير مستهلكة في شيء، فحينئذ لو أخذت من محلّها و جعلت جزءا من ماء الغسل، بأن يغسل بها جزء من أعضاء الطهارة، كان منع المانعين عن التطهير بغسالة الجنب مثلا شاملا له، على تقدير دخولها في محلّ النزاع.

و من هنا ينقدح ضعف ما ذكره بالنسبة إلى الروايات من دلالتها على مختاره، فإنّ الدلالة على جواز التطهير فرع المنافاة بين القول بعدم جوازه و مفاد تلك الروايات، و قد بيّنّا انتفاء المنافاة.

و بذلك أيضا يظهر وهن ما احتجّ به ثانيا - على ما زعمه من خروج مثل القطرة عن محلّ النزاع: «من أنّ الشيخ رحمه اللّه مع كونه من المانعين روى أكثر هذه الروايات في التهذيب، و لم يتعرّض لردّ أو تأويل و إيراد معارض، فهذا أيضا يشعر بعدم الخلاف فيه»(3) فإنّ تجشّم هذه الامور إنّما هو بعد المنافاة، و هذه الروايات قد وردت في مورد خرج عن مسمّى المستعمل بالاستهلاك، و إنّما يقول الشيخ بالمنع في المستعمل ما دام هذا الوصف لا مطلقا، فالموضوع متعدّد و معه لا يعقل التنافي ليوجب تجشّم أحد الامور المذكورة.

ثمّ، إنّه احتجّ على الأمر الثاني: «بأنّه لا دليل على ذلك، إذ عباراتهم مطلقة في

ص: 375


1- الفقيه 16:1.
2- مشارق الشموس: 249.
3- مشارق الشموس: 249.

المنع عن الماء الّذي اغتسل به، غايته أنّه يفهم من بعض كلماتهم - كما نقلنا - عدم المنع من القطرة و الرشحة، و هذا لا يستلزم كون النزاع فيما ذكره، بل الظاهر ما ذكرناه»(1).

و فيه: ما فيه ممّا مرّ، و من أنّه قائل لنفسه.

ثمّ إنّه بعد ما ذكر هذا الكلام، ذكر: «أنّ ما ذكره العلاّمة في النهاية من التفسير المتقدّم يؤيّده ما ذكرناه»(2) و هو أيضا كما ترى فإنّ كلام العلاّمة ظاهر في اعتبار أمرين، أحدهما: الانفصال عن جميع البدن، لمكان تعبيره بالأعضاء الظاهر في العموم، و ثانيهما: اعتبار الجمع بين ما انفصل عن كلّ واحد من الأعضاء، و بذلك يفارق ما عرفت عن المدارك عنه، فإنّه ظاهر في اعتبار القطرة أيضا، لأنّ كلّ واحد من القطرات المنفصلة عن الأعضاء ماء قليل منفصل عن عضو الطهارة.

فتلخّص بما ذكر: أنّ التفاسير الأربع المذكورة بينها شيء هو ما به اشتراكها، و شيء آخر هو ما به امتيازها.

أمّا الأوّل: فأمران، أحدهما: الدلالة على اعتبار الانفصال عن العضو، و ثانيهما:

الدلالة على خروج فضل الماء الّذي يتطهّر به عن المتنازع فيه، و هو كذلك و إن كان الأوّل منظورا فيه، لما أشرنا إليه و ستعرف تفصيله.

و أمّا الثاني: فلأنّ ما في المدارك ظاهر في كون القطرة بانفرادها أيضا من محلّ النزاع بخلاف الثلاث الباقية، غير أنّها أيضا تمتاز بأنّ ما في النهاية ظاهر في اعتبار الانفصال عن جميع البدن بخلاف الباقيين، فإنّ ما عن صاحب المعالم ظاهر في اعتبار أحد الأمرين من الانفصال عن جميع البدن و الانفصال من أكثره، و ما في شرح الدروس ظاهر بل صريح في اعتبار أحد الامور الثلاث من الانفصال عن جميع البدن أو أكثره أو ما دون الأكثر ممّا زاد على القطرة.

فما في المدارك أعمّ من الجميع لظهوره في اعتبار أحد الامور الأربع، الّتي منها القطرة المنفصلة، و هو الأظهر بملاحظة بعض أدلّة الطرفين، فإنّ المجوّزين للتطهير بذلك يستدلّون بأنّه ماء مطلق و لم يسلبه الاستعمال إطلاق الاسم، فيجب أن يكون مجزيا في التطهير المعلّق على الماء المطلق، و هو كما ترى متناول للقطرة أيضا، إذا

ص: 376


1- مشارق الشموس: 249.
2- مشارق الشموس: 249.

حصل بها غسل جزء من العضو، و المانعون يستدلّون بأنّ استعمال هذا الماء في التطهير ممّا لا يحصل معه تيقّن البراءة، فيجب أن لا يكون مجزيا، و هو أيضا شامل للقطرة الّتي يحصل بها غسل الجزء من العضو.

و كيف كان فالكلام في هذا الماء تارة في طهارته، و اخرى في طهوريّته.
أمّا الأوّل: [أي في طهارته]

فهو مفروغ عنه بين أصحابنا، إذ لا خلاف لأحد في الطهارة، و نقل عليه الإجماع في حدّ الاستفاضة، نعم أسند الاختلاف فيه إلى العامّة في المنتهى(1) على حذو اختلافهم في ماء الوضوء، و يكفينا في إثبات الطهارة - مضافا إلى ما أشرنا إليه - ما قدّمناه من القاعدة، فإنّ سبب الانفعال هو الملاقاة للنجاسة و هو غير متحقّق هنا، و كون مجرّد الاستعمال رافعا للطهارة الأصليّة ممّا لم يقم عليه دلالة معتبرة، و إلى ذلك أشار العلاّمة في المنتهى بقوله: «و لأنّ التنجيس حكم شرعي، فيتوقّف ثبوته على الشرع، و ليس في الشرع دلالة عليه»(2)، و أضاف إليه وجها آخر و هو: «أنّ القول بالتنجيس مع القول بطهارة المستعمل في الوضوء ممّا لا يجتمعان إجماعا، و الثاني ثابت إجماعا، فينتفي الأوّل، و إلاّ لزم خرق الإجماع»(3).

و يدلّ عليه أيضا روايات مستفيضة قريبة من التواتر، بل متواترة هي بين صحاح و موثّقات و غيرهما.

منها: ما في التهذيب - في صفة الوضوء - عن الفضيل قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب يغتسل فينتضح الماء من الأرض في الإناء؟ فقال: «لا بأس، هذا ممّا قال اللّه تعالى: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »(4)-(5).

و منها: ما في الكافي - في باب اختلاط ماء المطر بالبول - عن شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «في الجنب يغتسل فيقطر الماء عن جسده في الإناء، و ينتضح الماء من الأرض، فيصير في الإناء، أنّه لا بأس بهذا كلّه»(6).

و منها: ما في التهذيب - في الباب المذكور - عن عمّار بن موسى الساباطي، قال:

ص: 377


1- منتهى المطلب 133:1.
2- منتهى المطلب 133:1.
3- منتهى المطلب 134:1.
4- الحج: 78.
5- الوسائل 211:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 1 - التهذيب 225/86:1.
6- الوسائل 212:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 6 - الكافي 6/13:3.

سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يغتسل من الجنابة، و ثوبه قريب منه، فيصيب الثوب من الماء الّذي يغتسل منه؟ قال: «نعم، لا بأس به»(1).

و منها: ما فيه في الباب المذكور عن بريد بن معاوية، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

اغتسل من الجنابة، فيقع الماء على الصفاء، فينزو، فيقع على الثوب؟ فقال: «لا بأس به»(2).

و منها: ما تقدّم في غسالة الحمّام، من مرسلة أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال: «لا بأس»(3).

و منها: ما سبق ذكره في بحث القليل، في جملة الأخبار المستدلّ بها على عدم الانفعال، من رواية عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أغتسل في مغتسل يبال فيه، و يغتسل من الجنابة، فيقع في الإناء ماء ينزو من الأرض؟ فقال: «لا بأس به»(4).

و منها: ما في التهذيب في باب حكم الجنابة، عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

إذا أصاب الرجل جنابة، فأراد الغسل فليفرغ على كفّيه، فليغسلهما دون المرفق، ثمّ يدخل يده في إنائه، ثمّ يغسل فرجه، إلى أن قال -: «فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت فلا بأس»(5).

و هذه الأخبار هي الّتي توهّم منها المحقّق الخوانساري الدلالة على عدم المنع عن التطهير بماء الغسل، على فرض كون القطرة أيضا من محلّ النزاع، و قد عرفت منع هذه الدلالة، فإنّها غير دالّة على حكم التطهير إثباتا و نفيا كما لا يخفى.

و أمّا الثاني: [أي في طهوريته]
اشارة

ففيه خلاف بين أصحابنا على قولين، بل أقوال إن صحّ عدّ التوقّف قولا في المسألة.

أحدهما: جواز التطهير به و هو الأقوى،

وفاقا للمنتهى(6) و المختلف(7)، و الدروس(8)، و المدارك(9) و الحدائق(10)، و الرياض(11)، و المحكيّ عن

ص: 378


1- الوسائل 214:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 11 و 12 - التهذيب 86:1 و 226/87 و 229.
2- الوسائل 214:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 11 و 12 - التهذيب 86:1 و 226/87 و 229.
3- الوسائل 213:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 9 و 7 - الكافي 15:3 و 4/14 و 8.
4- الوسائل 213:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 9 و 7 - الكافي 15:3 و 4/14 و 8.
5- الوسائل 231:2 ب 26 من أبواب الجنابة ح 8 - التهذيب 364/132:1.
6- منتهى المطلب 133:1.
7- مختلف الشيعة 234:1.
8- الدروس الشرعيّة 122:1.
9- مدارك الأحكام 127:1.
10- الحدائق الناضرة 438:1.
11- رياض المسائل 177:1.

الغنية(1)، و القواعد(2)، و الإرشاد(3)، و الذكرى(4)، و التنقيح(5) و الروض(6)، و الجعفريّة(7)، و جامع المقاصد(8)، و مجمع الفائدة(9)، و نسب إلى محكيّ جمل العلم(10)، و الناصريّات(11)، و المراسم(12)، و السرائر(13)، و بعض مصنّفات المحقّق(14) و التذكرة(15)، و نهاية الإحكام(16)، و البيان(17) و شرح القواعد للسيّد عميد الدين(18) و المعالم(19)و الذخيرة(20)، و الحبل المتين(21)، و في الحدائق: «أنّه المشهور بين المتأخّرين»(22)، و في المدارك: «ذهب إليه المرتضى، و ابن إدريس و أكثر المتأخّرين»(23).

و ثانيهما: المنع عن التطهير به،

و هو المحكيّ عن الصدوقين(24)، و الشيخين(25)، و ابني حمزة(26) و البرّاج(27)، و عن الشيخ في الخلاف(28) نسبته إلى أكثر الأصحاب، و يظهر من المحقّق في كتبه الثلاث المعتبر(29) و الشرائع(30) و النافع(31) التوقّف، بل صرّح بالتردّد في الشرائع(32)، و إن جعل المنع أحوط.

و ربّما يستشمّ من الشيخ أنّه قائل بجواز الاستعمال في حال الضرورة، حيث إنّه

ص: 379


1- غنية النزوع: 49.
2- قواعد الأحكام 186:1.
3- إرشاد الأذهان 238:1.
4- ذكرى الشيعة 103:1.
5- التنقيح الرائع 58:1.
6- روض الجنان: 158.
7- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 86:1).
8- جامع المقاصد 127:1.
9- مجمع الفائدة و البرهان 284:1.
10- الجمل و العلم (رسائل الشريف المرتضى 22:3).
11- الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة، 138:1).
12- المراسم (سلسلة الينابيع الفقهيّة، 245:1).
13- السرائر 61:1.
14- لم نعثر عليه.
15- تذكرة الفقهاء 35:1.
16- نهاية الإحكام 241:1.
17- البيان: 102.
18- حكى عنه في المناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 146.
19- فقه المعالم 332:1.
20- ذخيرة المعاد: 142.
21- الحبل المتين: 116.
22- الحدائق الناضرة 438:1.
23- مدارك الأحكام 126:1.
24- حكى عنهما في مختلف الشيعة 233:1-10:1.
25- المفيد في المقنعة: 64 و الطوسي في المبسوط 11:1.
26- الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة، 414:1).
27- جواهر الفقه: 8 المسألة 4.
28- الخلاف 172:1 المسألة 126.
29- المعتبر: 21.
30- شرائع الإسلام 16:1.
31- المختصر النافع: 44.
32- شرائع الإسلام 16:1.

في كتابيه التهذيب(1) و الاستبصار(2) - بعد ما أورد فيهما الرواية الآتية عن عليّ بن جعفر المؤذنة بالجواز - أخذ بحملها على الضرورة المستفادة من سياقها أيضا - على ما قيل - و لكن كون ذلك مذهبا له محلّ إشكال، حيث إنّ التأويل لدفع التنافي لا يستلزم اختياره مذهبا - كما تنبّه عليه في الحدائق(3) - و نظيره كثير الوقوع في كلامه في الكتابين كما لا يخفى على المتتبّع.

و بالجملة: فحجّة القول الأوّل - من المحصّل، و المحكيّ، و المزيّف، و الصحيح - وجوه:
أوّلها: الإجماع المحكيّ عن الناصريّات ، المعتضدة بالشهرة المتأخّرة،

أوّلها: الإجماع المحكيّ عن الناصريّات(4)، المعتضدة بالشهرة المتأخّرة، المحكيّة في كلام جماعة، و هو لمن يراه حجّة بالخصوص في محلّه، إن لم يكن موهونا بمصير جماعة من أعاظم القدماء إلى خلافه.

و ثانيها: أصالة بقاء المطهّريّة الثابتة قبل الاستعمال،

و لا يعارضها أصالة بقاء الحدث الثاني على ما قرّر في محلّه، كما أنّه بالاستعمال لا يخرج عن موضوعه الأوّل، و هو أيضا في محلّه إن لم يكن في مقابله ما يرفع موضوعه.

و ثالثها: أصالة بقاء الأمر بالغسل الثابت قبل انحصار الماء في المفروض،

و هو فاسد لرجوعه بالقياس إلى إثبات المطهّريّة لهذا الماء إلى الأصل المثبت، ضرورة أنّ المطهّريّة له ليست من الأحكام الثابتة للمستصحب في الحالة السابقة حتّى يحكم ببقائها في الحالة اللاحقة، لكونها مشكوكا فيها في كلتا الحالتين كما لا يخفى، و بذلك يستغني عن تجشّم معارضة ذلك بأصالة بقاء الحدث.

و رابعها: إطلاق الأمر بالغسل،

لصدق امتثاله باستعمال الماء المفروض، و حاصله:

أنّ استعمال هذا الماء في رفع الحدث و نحوه غسل، و كلّ غسل موجب لامتثال الأمر به و مقتض للإجزاء، أمّا الصغرى: فواضحة، و أمّا الكبرى: فلإطلاق الأوامر الواردة بالغسل كتابا و سنّة، و المناقشة فيه: بخروج الماء المفروض بسبب الاستعمال عن كونه مطهّرا، مصادرة لا يعبأ بها.

ص: 380


1- التهذيب 417:1 ح 1318 - و اكتفى فيه بنقل الرواية فقط من دون حملها على الضرورة.
2- الاستبصار 28:1 ب 14 ذيل حديث 2.
3- الحدائق الناضرة 440:1.
4- الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 139:1).

نعم، قد يناقش بمنع اعتبار هذا الإطلاق، لانصرافه إلى الغالب، و هو الاغتسال بالماء الّذي لم يستعمل في الحدث الأكبر.

و يمكن دفعه: بأنّ الانصراف المدّعى إن اريد به ما هو بالقياس إلى لفظ «الماء» فهو في حيّز المنع، لأنّ الغلبة و الندرة إنّما تلاحظان فيما بين الأفراد الأوّلية للمطلق، الممتازة بعضها عن بعض بمشخّصاتها الّتي عليها مدار وجوداتها و بها ينوط فرديّتها له، و الماء المستعمل في الحدث الأكبر بوصف أنّه مستعمل فيه ليس منها، لعدم كون هذا الوصف من مشخّصاته بالمعنى المذكور، و إنّما هو من طوارئه العارضة له بعد وجوده و تشخّصه بمشخّصاته، فهو لا يدخل في عداد الأفراد الّتي يلاحظ بينها - لمجرّد الفرديّة - غلبة و ندرة، فيحمل المطلق على ما هو الغالب منها دون النادر، بل «الماء» ينبغي أن يلاحظ بالنسبة إليه مطلقا، لكونه مجامعا لكل واحد من أفراده الحقيقيّة، المتمايزة بحسب المشخّصات الخارجيّة.

و لو قيل: بأنّ قضيّة هذا البيان كون حيثيّة الاستعمال في الحدث الأكبر من الأحوال الطارئة للماء، فلا بدّ و أن يراد بالإطلاق المستدلّ به في الدليل المذكور ما يلاحظ بالقياس إلى الأحوال، حتّى يثبت جواز استعمال الماء حال كونه مستعملا في الحدث الأكبر أوّلا، أو أنّها من الصفات الطارئة له الزائدة على مشخّصاته، فلا بدّ من إحراز الإطلاق بالنسبة إلى الصفات ليندرج فيه محلّ البحث، فحينئذ يتوجّه دعوى الانصراف إلى غير تلك الحالة، أو غير هذه الصفة.

لدفعه: منع الانصراف الناشئ عن غلبة حصول غير تلك الحالة أو الصفة، إذ لا ندرة في عروض وصف الاستعمال في الحدث الأكبر للماء بحسب الخارج بالقياس إلى سائر الأحوال و الصفات العارضتين له، كما لا يخفى.

و من هنا يتّجه منع الانصراف و دعوى الغلبة لو قرّر الإطلاق بالقياس إلى الأفراد و جعل هذا الماء من جملتها، ضرورة أنّه لا ندرة في هذا الفرد أصلا في الوجود الخارجي بالنسبة إلى كثير من الأفراد الاخر كما لا يخفى، بل الظاهر أنّ من يدّعي الانصراف هنا لا يدّعيه من هذه الجهة.

و إن اريد به ما هو بالقياس إلى لفظي «الغسل» و «الاغتسال»، فيخدشه: منع

ص: 381

جريان قاعدة الانصراف في المشتقّات، لما قرّر فيها من كونها مأخوذة من المبادئ المجرّدة عن اللام و التنوين، الموضوعة للماهيّات لا بشرط شيء، فيجب أن تعتبر المشتقّات أيضا على هذا الوجه.

لكن يدفعه: أنّ كون اشتقاقها باعتبار الوضع اللغوي من هذا الباب لا ينافي طروّ الانصراف لها في لحاظ العرف و الإطلاق، لما طرأ أفراد مباديها من الاختلاف في الغلبة و الندرة.

فالإنصاف: أنّ الانصراف من الجهة المذكورة ممّا لا مجال إلى إنكاره، إذ المتبادر من قول القائل: «غسلت و اغتسلت، و اغتسل»، و نحوه إنّما هو ما يحصل بغير المستعمل في الحدث الأكبر، و هو الفرد الشائع المتعارف الغالب في الوجود.

فما قيل في دفع الانصراف - بهذا المعنى -: من أنّه في غاية الضعف لصدق «الماء» على المفروض من جهة عدم صحّة السلب، و صحّة التقسيم، و التقييد به و بغيره، و حسن الاستفهام، و صدق الامتثال بالإتيان به إذا أمر بالإتيان بالماء، و تبادر القدر المشترك بينه و بين غيره من إطلاق الماء، و أنّ المخرج عن الإطلاق لا يكون إلاّ وصف الاستعمال، و هو غير صالح له و إلاّ كان كلّ ماء مستعمل في طهارة من الحدث أو الخبث أو في غير طهارة ماء مضافا، و البديهة تشهد بخلافه - ليس في محلّه، لابتنائه أوّلا: على الغفلة عن فهم المقصود بالانصراف هنا، و ثانيا: على الاشتباه في فهم معنى مطلق الانصراف، فإنّه حيثما ادّعى ممّا لا ينبغي مقابلته بشيء من الوجوه المذكورة، كما لا يخفى و المفروض أنّه ثابت بالقياس إلى لفظي «الغسل» و «الاغتسال» و ما اشتقّ منهما.

فالأولى أن يجاب عنه: بأنّ التبادر العرفي عند الإطلاق و إن كان مسلّما، غير أنّ الّذي يظهر بملاحظة النظائر أنّ هذا التبادر نوعا ملغى في نظر الشارع، بمعنى أنّه لم يرتّب عليه حكما و لم يعتبره على وجه يكشف عن المراد، بل الّذي اعتبره في تعليق الأحكام على هذين اللفظين و ما يشتقّ منهما إنّما هو نفس الماهيّة الصادقة على الغالب و النادر، كما يفصح عنه الإجماع على جواز استعمال المستعمل في الوضوء في رفع الحدث ثانيا، و على جواز استعمال محلّ البحث في إزالة الخبث كما يأتي التنبيه عليه، و على جواز استعمال المياه الكبريتيّة و النفطيّة مطلقا و ما أشبه ذلك، مع أنّ الكلّ مشارك للمقام في الندرة و عدم الانصراف عند الإطلاق، و ستسمع نظير هذا التحقيق عن السيّد

ص: 382

المرتضى في بحث المضاف، و إن كان ذلك منه في غير محلّه.

و خامسها: عموم ما دلّ على أنّ الماء مطهّر،

كقوله تعالى: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (1) و نحوه، و الأولى أن يقال في تقريبه: بأنّ العمومات الواردة في طهوريّة الماء كتابا و سنّة، مضافة إلى الأدلّة الحاكمة عليها المخصّصة لها في موارد مخصوصة، قد قضت بأنّ الماهيّة المائيّة من حيث هي مقتضية للطهوريّة ما لم يصادفها ما يمنعها عن الاقتضاء، و يرفع الطهوريّة عنها من العوارض الخارجيّة، و كون عروض الاستعمال في الحدث الأكبر من جملة الروافع، ممّا لم يقم عليه من الشرع دلالة معتبرة، و ما اقيم فيه من الدلالة ليست بمعتبرة كما سنبيّنه، فالمقتضي للطهوريّة عند استعمال الماء المفروض موجود، و المانع مفقود، فيجب القول بها.

و ما عساه يناقش في ذلك: بأنّ أقصى ما يلزم من ذلك أنّ الماهيّة المائيّة متّصفة بالطهوريّة، و أمّا أنّها بمعنى رفع الحدث أو الخبث أو هما معا فلا، فتكون مجملة. سلّمنا أنّها بمعنى رفع الحدث أو مطلقا، و لكنّه أعمّ من دفعه مرّة أو مرارا، فلا دلالة فيها على الثاني.

يندفع: بأنّها من حيث هي من الجهة الاولى و إن كانت مجملة، غير أنّ الأدلّة الخارجيّة قد بيّنها و كشفت عن كونها بالمعنيين معا، فالماهيّة المائيّة بموجب تلك الأدلّة رافعة للحدث في موارده، و مزيلة للخبث في محالّه، و أمّا كون ذلك حاصلا منه مرارا - على ما هو من محلّ النزاع - فيثبت بمقتضى ما بيّنّاه من كون الوصفين تابعين لأصل الماهيّة مع فرض بقاء الماهيّة في مفروض المسألة، إذ الكلام فيما لو بقي الإطلاق، فإذا كانت الماهيّة باقية فهي بنفسها مقتضية للتكرار، و لا حاجة معه إلى دلالة اخرى.

و بذلك يستغني عمّا قيل في الذبّ عن نظير تلك المناقشة، من أنّ صيغة «فعول» للتكرار، فإذا قيل: «فلان ضروب»، كان معناه: أنّه يكثر منه الضرب، كما حكي الإشارة إليه أيضا عن الشهيدين في مقام الاحتجاج على الجواز، بتقريب: أنّ الطهور يتكرّر منه الطهارة، مع أنّه في أصله فاسد لابتنائه على كون طهور في الآية و غيرها للمبالغة.

و قد تقدّم في مفتتح الكتاب منعه كما أنّ بما بيّنّا من تقريب الاستدلال - مضافا إلى ما قرّرناه في دفع المناقشة المشار إليها - يندفع ما قيل في المناقشة في عموم الآية

ص: 383


1- الفرقان: 48.

و نظائرها، من أنّ أقصى ما يستفاد من ذلك كون «الماء» مطهّرا، و أمّا أنّه من الحدث أو الخبث فلا، لاشتراك الطهارة لفظا بين رفع الحدث و إزالة الخبث، كما صرّح به العلاّمة في المنتهى(1)، و لو سلّم الاشتراك المعنوي بينهما فهو لا يجدي نفعا في رفع الإشكال، لكون المشترك المعنوي إذا وقع خبرا أو ما هو بحكمه مجملا، كما في قولك: «زيد إنسان» فإنّ أقصى ما يدلّ عليه ذلك إنّما هو كون زيد فردا من الإنسان، و أمّا أنّه أسود أو أبيض أو أنّه عالم أو جاهل فلا دلالة له على شيء من ذلك، مع كون الإنسان مشتركا بين الكلّ معنى، و المقام أيضا من هذا الباب، فإنّ قوله: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (2) إنّما يدلّ على أنّ الماء من أفراد الطهور، و هو و إن كان مشتركا بين رفع الحدث و إزالة الخبث، معنى على الفرض، و لكن توصيف الماء به لا يدلّ على أنّه موصوف بأحدهما معيّنا أو بكليهما، فيكون مجملا، فإنّ «طهور» على ما سبق في أوائل الكتاب - إنّما هو بمعنى المطهّر المستلزم للطهارة، المأخوذ عنها بالمعنى اللغوي الّذي فصّله الشرع بالخلوص عن الحدث و الخبث، فالمطهّر على ما فصّله الشرع هو الرافع للحدث المزيل للخبث فلا اشتراك فيه لفظا كما لا إجمال على الاشتراك معنى.

و سادسها: ما قدّمنا الإشارة إليه في بحث ماء الوضوء، من القاعدة المستفادة عن مجموع الأدلّة الجزئيّة الواردة في أبواب الطهارات و تطهير النجاسات،

الحاكمة بأنّ الماء إذا جامع وصفي الإطلاق و الطهارة فهو مطهّر عن الحدث و مزيل للخبث و المفروض منه، فيجب كونه كذلك، و دعوى: أنّ الطهوريّة قد حصلت منه بالفرض فلا يصلح لها ثانيا، تقييد في موضوع القاعدة فلا يصار إليه إلاّ بدليل، و أيّ دليل عليه في المقام.

و سابعها: قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا الآية،

و سابعها: قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا (3) الآية، فإنّه يدلّ على المنع من التيمّم مع وجود الماء، فالماء المفروض مع وجوده يوجب أن لا يصدق هنا قضيّة عدم وجدان الماء فلم يجز التيمّم، و معه وجب استعماله للإجماع على عدم سقوط الطهارة حينئذ.

و الأولى أن يقرّر: بأنّ الآية بمفهومها دلّت على عدم وجوب التيمّم مع وجدان الماء، و إذا انضمّ إليه الإجماع المذكور مع الإجماع على أنّ التيمّم حيثما لم يجب لم يجز، ثبت وجوب استعمال الماء المفروض.

ص: 384


1- منتهى المطلب 132:1.
2- الفرقان: 48.
3- المائدة: 6.

و ما عساه يورد عليه: بأنّ أقصى ما دلّت عليه الآية إنّما هو جواز التيمّم مع عدم وجدان الماء، و عدم جوازه مع وجدانه، و أمّا أنّ هذا الماء أيّ ماء، و أيّ نوع منه فليست الآية بصدد تفصيله، على معنى أنّها ساكتة عن بيان الموضوع و تعيينه بالتعميم و التخصيص.

يدفعه: أنّ الإهمال ينافيه ما هو مفاد الشرطيّة من السببيّة الثانية، و مرجع الايراد إلى منع العموم في المفهوم، و قد سبق تفصيل إبطاله في غير موضع ممّا تعلّق بمفهوم قولهم عليهم السّلام «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه»(1) و قضيّة ذلك: كون وجدان الماء كائنا ما كان مانعا عن التيمّم، من غير فرق في ذلك بين حمل عدم الوجدان على معناه الظاهر المرادف لعدم التمكّن العقلي، أو ما يعمّه و عدم التمكّن الشرعي الغير المنافي للتمكّن العقلي، ليشمل صور وجود الماء المغصوب و نحوه.

فما يقال: من أنّ المراد بعدم وجدان الماء عدم التمكّن من استعماله لا فقده بالمرّة، و عدم التمكّن كما يكون لعدم القدرة الذاتيّة، كذا يكون لنهي الشارع عن استعماله لا فقده بالمرّة، فهذا الماء يحتمل أن يكون منهيّا عن استعماله شرعا فيكون غير متمكّن من استعماله، كما يحتمل أن يكون مرخّصا فيه فيكون متمكّنا عن استعماله، فلم يعلم بتعلّق حكم المنطوق به و لا المفهوم. ممّا لا وقع له، فإنّ مجرّد احتمال المنع الشرعي - مع كونه منفيّا بالأصل - لا يوجب رفع التمكّن شرعا، و معه فالماء المفروض مندرج في المفهوم جزما.

و القول باندراجه في المنطوق المعلّق على عدم التمكّن، لأنّ ما لم يقم من الشرع دليل على جواز استعماله في الطهارة فالأصل عدمه، فيكون الآية على هذا التقدير دليلا على المنع، واضح المنع، بأنّ جواز الاستعمال - بحكم مفهوم الآية المستند إلى انفهام السببيّة التامّة معلّق على القدرة الذاتيّة مع عدم منع الشارع عن الاستعمال و هما حاصلان في المقام، أمّا الأوّل: فواضح، و أمّا الثاني: فلعدم قيام المنع المنفيّ احتماله بالأصل.

نعم، ربّما يشكل ذلك بأنّ ذلك لا يقتضي إلاّ جواز استعماله حال الضرورة، و لعلّه ليس من محلّ النزاع بالنظر إلى ما يأتي ذكره، فلا يمكن تتميمه بعدم القول بالفصل بالنسبة إلى حالتي الاختيار و الضرورة، إلاّ أن يقال في تقريره: بأنّ كلّ ماء جاز استعماله في

ص: 385


1- الوسائل 158:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 2.

موضع مظنّة التيمّم، جاز استعماله في غير موضع مظنّته بالإجماع المركّب، و يبقى الكلام حينئذ في إثبات هذا الإجماع ليثبت به الملازمة المذكورة، و هو محلّ تأمّل.

و ثامنها: ما احتجّ به العلاّمة في المختلف: «من أنّه لو لم يجز إزالة الحدث به لم يجز إزالة النجاسة به، و الثاني باطل،

أمّا أوّلا: فلأنّ الخصم قد سلّم إزالة النجاسة به، و أمّا ثانيا: فلأنّه ماء طاهر، فجاز إزالة النجاسة به للأمر بالغسل على الإطلاق.

و أمّا بيان الشرطيّة: فلأنّ النجاسة العينيّة نجاسة حقيقيّة، و الحدث نجاسة حكميّة، و رافع أقوى النجاستين يجب أن يكون رافعا لأضعفهما»(1) و هو واضح الضعف، لوضوح منع الملازمة، ببطلان دعوى الأقوائيّة في النجاسة العينيّة و الأضعفيّة في خلافها، بل القضيّة عند التحقّق منعكسة، و لذا يغتفر الأوّل في الصلاة في كثير من صورها بخلاف الثاني، إذ لا يغتفر أصلا إلاّ إذا قارن ارتفاع التكليف عن الصلاة بالمرّة، و كذلك يتسامح في الأوّل بما لا يتسامح في الثاني، و لذا ترى أنّ زوال الأوّل يحصل بالماء المغصوب، و بمباشرة الغير، و بإجبار الغير عليه بخلاف الثاني، مع أنّ اختلاف حكميهما كمّا و كيفا من أقوى الشواهد بانتفاء الملازمة فيما بينهما شرعا.

و تاسعها: ما احتجّ به في المختلف أيضا، من «أنّ زوال الطهوريّة عن هذا الماء مع ثبوتها في المستعمل في الصغرى ممّا لا يجتمعان،

و الثاني ثابت بالإجماع فينتفي الأوّل، و الدليل على التنافي: أنّ رفع الحدث مع طهارة المحلّ إمّا أن يقتضي زوال الطهوريّة عن هذا الماء أو لا يقتضي، و أيّا ما كان يلزم عدم الاجتماع، أمّا على التقدير الأوّل: فلاقتضائه زوال الطهوريّة عن المستعمل في الصغرى، و أمّا على التقدير الثاني:

فلعدم صلاحية علّيّته لإزالة الطهوريّة عن محلّ النزاع، و لا مقتضي للإزالة سواه، فيكون الإزالة منتفية عملا بأصالة طهوريّة الماء، السالمة عن معارضة العلّيّة»(2) و هذا كما ترى أضعف من سابقه، فإنّ دعوى عدم اجتماع الحكمين مع تعدّد موضوعيهما كما ترى، إذ ملاحظة رفع الحدث بعنوان كلّي في بيان عدم الاجتماع ممّا لا معنى له، بعد ملاحظة أنّه في الصغرى موضوع، و في الكبرى موضوع آخر مغاير للأوّل، و إنّما يختلف الموضوعان باختلاف الإضافة المختلفة بحسب اختلاف المضاف إليه، فإنّ الحدث

ص: 386


1- مختلف الشيعة 235:1.
2- مختلف الشيعة 236:1.

الأصغر مع الحدث الأكبر أمران متغايران، دلّ على تغايرهما الشرع بما رتّب على كلّ أحكاما غير الأحكام المترتّبة على الآخر، كما يفصح عن ذلك حرمة دخول المسجدين، و اللبث في سائر المساجد، و قراءة سور العزائم، و كراهة الأكل و الشرب و النوم بلا وضوء و لا تيمّم مع الثاني، و انتفاء هذه الأحكام بأسرها مع الأوّل، و اعتبار الموالاة و الترتيب بين أجزاء العضو في الأوّل دون الثاني، و من البيّن: أنّ اختلاف اللوازم ممّا يكشف عن اختلاف الملزومات.

فحينئذ يتّجه أن يقال - في هدم الاستدلال - إنّ رفع الحدث في بيان ما ادّعي من عدم إمكان الاجتماع إن اريد به رفع الأصغر، فهو لا يقتضي زوال الطهوريّة عمّا استعمل فيه، و لا يدخل فيه رفع الأكبر لما بيّنّاه من المغايرة بينهما، و إن اريد به رفع الأكبر، فلو قيل فيه: بأنّه يقتضي زوال الطهوريّة، فهو ممّا لا رادع له إلاّ القياس الباطل، و تتميمه بأصالة عدم زوال الطهوريّة ممّا يرفع الحاجة إلى تحمّل المشقّة في نظم هذا الوجه العليل بطوله، و إن اريد به المعنى الأعمّ فمرجعه إلى الخلط بين المسألتين، فلا يصغى إليه جدّا.

و عاشرها: عدّة من الروايات

الّتي منها: ما في التهذيب - من الصحيح - عن عليّ بن جعفر، عن أبي الحسن الأوّل عن الرجل يصيب الماء في ساقية، أو مستنقع، أ يغتسل منه للجنابة، أو يتوضّأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره؟ و الماء لا يبلغ صاعا للجنابة، و لا مدّا للوضوء، و هو متفرّق فكيف يصنع؟ و هو يتخوّف أن تكون السباع قد شربت منه؟ فقال: «إن كانت يده نظيفة فليأخذ كفّا من الماء بيد واحدة، فلينضحه خلفه، و كفّا أمامه، و كفّا عن يمينه، و كفّا عن شماله، فإن خشي أن لا يكفيه، غسل رأسه ثلاث مرّات، ثمّ مسح جلده بيده، فإنّ ذلك يجزيه، و إن كان الوضوء غسل وجهه و مسح يده على ذراعيه و رأسه، و رجليه، و إن كان الماء متفرّقا فقدر أن يجمعه، و إلاّ اغتسل من هذا و هذا، و إن كان في مكان واحد، و هو قليل، لا يكفيه لغسله، فلا عليه أن يغتسل، و يرجع الماء فيه، فإنّ ذلك يجزيه»(1).

و اعلم أنّ صحّة الاستدلال بتلك الرواية و سقمه يستدعي معرفتهما النظر في فهم

ص: 387


1- الوسائل 216:1 ب 10 من أبواب الماء المضاف ح 1 - التهذيب 1315/416:1.

الفقرات الّتي تضمّنتها، فإنّها غير خالية عن وصمة الشبهة و الإجمال في بادي الرأي، و من جملة تلك الفقرات ما تضمّنته أوّلا من الأمر بنضح الجوانب الأربع بأربعة أكفّ من الماء، و به ورد روايات اخر مثل رواية ابن مسكان قال: حدّثني، صاحب لي ثقة، أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، فيريد أن يغتسل، و ليس معه إناء، و الماء في وهدة، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء، كيف يصنع؟ قال:

«ينضح بكفّ بين يديه، و كفّا من خلفه، و كفّا عن يمينه، و كفّا عن شماله، ثمّ يغتسل»(1).

و عن المحقّق أنّه رواه في المعتبر(2) نقلا من كتاب الجامع لأحمد بن محمّد بن أبي نصر [عن عبد الكريم]، عن محمّد بن ميسّر، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و عن ابن إدريس(3) أنّه نقله في آخر السرائر من كتاب نوادر البزنطي، عن عبد الكريم، عن محمّد بن ميسّر.

و في الكافي عن الكاهلي، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إذا أتيت ماء و فيه قلّة، فانضح عن يمينك و عن يسارك و بين يديك و توضّأ»(4).

و اختلفوا في محلّ النضح، و في الحكمة الداعية إليه، و في المسائل(5) عن المحقّق أنّه في المعتبر(6) حكى في تفسير نضح الأكفّ قولين:

أحدهما: أنّ المراد منه رشّ الأرض، ليجتمع أجزاؤها، فيمتنع سرعة انحدار ما ينفصل من بدنه إلى الماء.

و الثاني: أنّ المراد به بلّ جسده قبل الاغتسال، ليتعجّل قبل أن ينحدر ما ينفصل منه و يعود إلى الماء، و حكاهما العلاّمة أيضا في المنتهى(7)، و صاحب المدارك في حاشية الاستبصار(8) غير أنّه عدل عنهما باستظهار احتمال ثالث، قائلا: «و الّذي يظهر أنّ المراد به نضح الأرض، لكن لا لهذه الفائدة، بل لإلقاء الخبث المتوهّم الحاصل في وجه الماء، كما يدلّ عليه قوله عليه السّلام في رواية الكاهلي «إذ أتيت ماء و فيه قلّة فانضح عن

ص: 388


1- الوسائل 217:1 ب 10 من أبواب الماء المضاف ح 2 - التهذيب 1318/417:1 - الوهدة: أي مكان منخفض (منه) - الغسل بالكسر ما يغسل به من الماء (منه).
2- المعتبر: 22.
3- السرائر 555:3.
4- الوسائل 218:1 ب 10 من أبواب الماء المضاف ح 3 - الكافي 1/3:3.
5- كذا في الأصل.
6- المعتبر: 22.
7- منتهى المطلب 136:1.
8- حاشية الاستبصار؛ لم نعثر عليه.

يمينك، و عن يسارك، و بين يديك و توضّأ»(1)، و في رواية أبي بصير: «إن عرضك في قلبك شيء فافعل هكذا، يعني افرج الماء بيديك ثمّ توضّأ»(2) و تمام الحديث قد تقدّم في بحث انفعال القليل.

و عن بعضهم القول: بأنّ محلّ النضح هو الأرض، و الحكمة فيه عدم رجوع ماء الغسل، لكن لا من جهة كونه غسالة بل من جهة النجاسة الوهميّة الّتي في الأرض فالنضح إنّما هو لإزالة النجاسة الوهميّة منها.

و عن الآخر القول: بأنّ الحكمة إنّما هي رفع ما يستقذر منه الطبع من الكثافات، بأن يؤخذ من وجه الماء أربع أكفّ و ينضح على الأرض، نسبه في الحدائق(3) إلى صاحب المدارك في حاشية الاستبصار، و لكن عبارته المتقدّمة يأباه كما لا يخفى. و عن بعضهم أيضا أنّ المراد بمحلّ النضح البدن، لكن الحكمة فيه ترطيب البدن قبل الغسل لئلاّ ينفصل عنه ماء الغسل كثيرا، فلا يفي بغسله لقلّة الماء، و عن الآخر: أنّ المراد نضح البدن لحكمة إزالة توهّم ورود الغسالة، إمّا بحمل ما يرد على الماء على وروده ممّا نضح على البدن قبل الغسل الّذي ليس من الغسالة، و إمّا أنّه مع الاكتفاء بالمسح بعد النضح لا يرجع إلى الماء شيء.

و عن صاحب المنتقى: «أنّ عجز الخبر - يعني صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة - صريح في نفي البأس، فحكم النضح للاستحباب»(4)، و غرضه بذلك أنّ النضح سواء اريد به نضح الأرض أو البدن، ليس لحكمة ما قيل من عدم انحدار ما ينفصل من البدن إلى الماء، و هذا مبنيّ على توهّم دلالة الرواية على عدم المنع عن استعمال المستعمل، كما أنّ القول المنقولين في المعتبر و غيره مبنيّان على القول بالمنع.

أقول: أمّا القول بأنّ المراد نضح البدن بجميع محتملاته بالنسبة إلى الحكمة، فممّا ينبغي القطع ببطلانه، لدلالة صريح رواية الكاهلي، و ظاهر صحيحة عليّ بن جعفر بذلك.

أمّا الأوّل: فلمكان قوله عليه السّلام - بعد الأمر بالنضح -: «و توضّأ» ضرورة: أنّ الجوانب

ص: 389


1- الوسائل 218:1 ب 10 من أبواب الماء المضاف ح 3 - الكافي 1/3:3.
2- الوسائل 163:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق - ح 14 - التهذيب 1316/417:1.
3- الحدائق الناضرة 416:1.
4- منتقى الجمان 68:1.

الأربع حينئذ ممّا لا يتصوّر بالنسبة إلى الوضوء، و احتمال كون التوضّي مرادا به هنا الاغتسال، كما ترى ممّا لا يصغى إليه.

و أمّا الثاني: فلأنّ قوله عليه السّلام: «فإن خشي أن لا يكفيه» و إن كان بالقياس إلى ما قبله مجملا، من حيث احتمال كونه أمرا بالعدول عن نضح الأكفّ في موضع خشية عدم كفاية الباقي من الماء إلى الغسل و المسح اللذين أمر بهما، فيكون تنبيها على سقوط النضح حينئذ، و احتمال كونه أمرا بالكيفيّة المذكورة في موضوع الخشية بعد الفراغ عن نضح الأكفّ، و يكون حاصل المعنى: أنّه إذا صنع النضح كما فصّل فصادف خشية عدم كفاية الباقي فليفعل في طهارته هكذا.

و منشأ الاحتمالين أنّ الخشية إذا قسناه إلى نضح الأكفّ قبلا و بعدا لا بدّ له من متعلّق مقدّر، فإمّا أن يكون المعنى: إن خشي قبل أن ينضح أن لا يكفيه ليفعل هكذا، و إمّا أن يكون أنّه إن خشي بعد ما فرغ عن النضح أن لا يكفيه ليفعل هكذا، فعلى الأوّل يكون النضح المأمور به معلّقا، و على الثاني يكون مطلقا، و على التقديرين فهو بالقياس إلى ما بعده مفصّل، لتضمّنه تعليم كيفيّة الغسل و الوضوء في محلّ خشية عدم كفاية الباقي من النضح، مع حصول النضح أو عدم حصوله.

و أيّا ما كان فالوضوء بقرينة التفصيل اللاحق مندرج في الحكم السابق، سواء اعتبرناه معلّقا أو مطلقا، و قد عرفت أنّ نضح البدن في جهاته الأربع بالنسبة إلى الوضوء و مريد التوضّي، ممّا لا معنى له.

فالإنصاف: أنّ المراد بالنضح الوارد في الروايات إنّما هو نضح الأرض، بدلالة ما قرّرناه، لكن الكلام يبقى في الحكمة الباعثة عليه، و الّذي يترجّح في النظر القاصر أنّه لأجل إزالة أثر أقدام السباع الّتي منها الكلب و الخنزير، المتوهّم انطباعه على جوانب الساقية أو النقيع من الأرض، المحتمل بقاؤه بعد ذهابهنّ عن الماء، لئلاّ ينكشف فساد الماء بعد استعماله في الغسل أو الوضوء، لمكان كونه قليلا قابلا للانفعال بمباشرة نجس العين، فإنّ الإنسان ربّما يستعمل الماء فيهما، فيتبيّن له بعده من آثار أقدامهنّ في حوالي الماء و جوانبه الأربع ما تكون ملزوما للعلم العادي بمباشرتهنّ الماء، فيفسد عليه الطهارة، و يشقّ عليه الأمر في تطهير ثيابه و أعضاء طهارته مع قلّة الماء و إعوازه.

ص: 390

و ممّا يرشد إلى إرادة هذا المعنى قول السائل و هو يتخوّف أن تكون السباع قد شربت منه، فإنّ السؤال مفروض في موضع احتمال تردّد السباع المستلزم لمباشرة الماء الموجبة لانفعاله، و الجواب خارج على طبقه، و مراد به التنبيه على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال، و عدم وجوب مراعاة المباشرة المحتملة بالنظر في تحصيل الأمارات الدالّة عليها، الّتي منها آثار أقدامهنّ، و يبقى بعد ذلك احتمال ظهور الفساد بعد الاستعمال بتبيّن المباشرة بحكم العادة المستندة إلى تبيّن أثر الأقدام، فيتخلّص من ذلك بالنضح على الجوانب الأربع الموجب لزوال الأثر لو كان موجودا في الواقع.

و لا ينافي هذا المعنى ما في رواية ابن مسكان من قول السائل: «فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء» المتعقّب للجواب الآمر بالنضح على النهج المتقدّم، و إن أوهم في بادي الرأي كونه لحفظ الماء عن ورود الغسل عليه و رجوعه فيه، و منه نشأ توهّم الجماعة ظاهرا، لكون(1) المورد محتملا لتردّد السباع و إن لم يذكره السائل، و قد علم به الإمام عليه السّلام فأجاب بموجب ما اقتضاه هذا الاحتمال، لجواز اعتقاده بأنّ ما فرضه السائل غافلا عن هذا الاحتمال ممّا لا حكم له، و لا يترتّب عليه أثر، و لا ينشأ منه محذور بالقياس إلى عدم تعرّضه لبيان ما هو واقع الأمر فيما عرضه السائل على نحو الصراحة، لأنّ عدم التصريح ببيان حال ما لا حكم له شرعا ليس بمناف للحكمة، و إنّما المنافي لها عدم التعرّض لبيان حكم ما له حكم في الشرع، و المقام ليس منه، مع إفادته إرشاد السائل إلى خلوّ مورد السؤال عن جهة المنع بعد استعمال النضح، و إن لم تكن تلك الجهة المنبّه على ارتفاعها بذلك العمل ما توهّمه السائل، و القرينة على ذلك كلّه ما قرّرناه في توجيه صحيحة عليّ بن جعفر، فإنّ الظاهر أنّ هذه الروايات كلّها واردة في سياق واحد لحكمة واحدة، و قضيّة ذلك كلّه كون الأمر بالنضح الوارد إرشاديّا مرادفا للاستحباب، مرادا به إرشاد السائل إلى طريق الاحتياط، و الأخذ بالأوثق الّذي هو حسن في كلّ حال.

و أمّا الوجوه الاخر الّتي ذكروها في المقام فليس شيء منها بشيء.

أمّا الأوّل منها: فلعدم كون رشّ الأرض ملزوما عقليّا و لا عاديّا لإمساك الغسالة

ص: 391


1- هذا جواب لقوله: «لا ينافي هذا المعنى ما في رواية ابن مسكان الخ».

عن انحدارها و لا بطء انحدارها إلى الماء، بل له مزيد مدخل في استعداد الأرض، لإفادتها إيّاها سرعة الانحدار إليه، كما تنبّه عليه ابن إدريس(1) فيما حكي عنه.

و أمّا الثاني - الّذي أفاده صاحب المدارك(2) - فيأباه اعتبار كون النضح على الجهات الأربع، ضرورة أنّ ذلك حكمة تتأتّى بأيّ نحو اتّفق النضح، مع أنّ النجاسة المتوهّمة إن كان لها حقيقة فلا ترتفع بذلك بالضرورة، و إن لم يكن لها حقيقة أصلا - أي في شيء من الموادّ - فلا يترتّب عليه فائدة، و على التقديرين فلا مورد للاحتياط الّذي كان الأمر بالنضح إرشادا إليه، نظرا إلى الحكمة المذكورة، ضرورة أنّ طريق الاحتياط لا بدّ و أن يكون ملزوما للتحرّز عن المفسدة المحتملة، و لذا تراه موجبا لتيقّن البراءة في موارد جريانه.

و بهذا كلّه يتبيّن فساد الثالث - المحكيّ عن بعضهم - من أنّه لأجل النجاسة الوهميّة الّتي في الأرض، فإنّ هذا الوهم إن كان له حقيقة فالرشّ لا يجدي نفعا في زوال المقتضي، بل ربّما يوجب تضاعفه كما لا يخفى، و إلاّ كان لغوا.

و أمّا الرابع: فهو أوضح فسادا من الجميع، أمّا أوّلا: فلأنّ بيان طريق رفع هذا الاستقذار ليس من وظيفة الشارع لكونه من الامور البيّنة، و أمّا ثانيا: فلأنّه لا يقتضي اعتبار الكيفيّة المذكورة في الروايات، بل يتأتّى بالنضح كيفما اتّفق.

فإن قلت: ما ذكرته في إبطال الوجه الثاني و الثالث ممّا يرد على ما استظهرته من الحكمة، لأنّ احتمال مباشرة السباع للماء إن كان له واقع، فإزالة أثر أقدامهنّ برشّ الأرض، ممّا لا يجدي حينئذ في ارتفاع هذه الجهة الّتي هي المانعة عن الاستعمال.

قلت: النجاسة في تأثيرها في المنع معلّقة على العلم بها أو بتحقّق سببها، و رشّ الأرض لإزالة أثر أقدام السباع حيلة اعتبرها الشارع طريقا إلى عدم اتّفاق حصول العلم بتحقّق سبب النجاسة، إذ بدونه ربّما يحصل العلم به و لو بملاحظة العادة، و أمّا معه فينعدم ما هو طريق العلم، و بذلك أمكن أخذ تلك الروايات من أدلّة اعتبار العلم في النجاسات، بخلاف الوجهين المذكورين، فإنّ هذا الكلام ممّا لا يجري فيهما جزما، لاشتراك صورتي الرّش و عدمه في عدم العلم بالنجاسة كما لا يخفى، فمناط سقوط أحكام النجاسة حاصل على كلا التقديرين، فإمّا أن يقال حينئذ: بأنّ النضح معتبر بلا

ص: 392


1- السرائر 94:1.
2- المدارك: 1 ص 125.

فائدة، أو يقال: بأنّ العبرة في النجاسة بتحقّق أسبابها في متن الواقع لا العلم به، فالنضح معتبر لإزالة ذلك الأمر الواقعي لا لسدّ طريق العلم به، و أيّا ما كان فهو باطل جزما.

و من هنا ينقدح وجه آخر لإبطال هذين الوجهين، من حيث ابتنائهما على كون النجاسة من الموانع الواقعيّة دون العلميّة و هو فاسد بالأدلّة القطعيّة، و قد أشرنا إليه في غير موضع ممّا سبق، و لعلّنا نتعرّض لتفصيل تحقيقه في موضع يليق به.

و من جملة فقرات الصحيحة المتقدّمة، أنّها دلّت على اعتبار غسل الرأس و مسح الجلد في الغسل، و غسل الوجه مع مسح الذراعين في الوضوء، و قد استشكل في ذلك بعض أصحابنا كصاحب الحدائق قائلا: «بأنّ هذا الخبر قد اشتمل على جملة من الأحكام المخالفة لما عليه علمائنا الأعلام»(1) ثمّ ذكر من جملة ذلك الحكمين المذكورين.

و يمكن الذبّ عنه: بأنّ المسح هنا استعارة لأقلّ ما يقنع به من الماء و استعماله في صورة خشية عدم الكفاية، و بعبارة اخرى: المراد به هنا الاكتفاء بأقلّ ما يحصل به الواجب من أفراد الغسل، لا المسح الحقيقي المقابل للغسل، و القرينة عليه ما ادّعاه من عمل علمائنا الأعلام إن رجع إلى الإجماع، لأنّه يصلح قرينة على التجوّز، كما يصلح قرينة على التخصيص و غيره، بل و لو رجع إلى نقل الكاشف لكان كافيا في ذلك، لأنّ عملهم يكشف عن وقوفهم على دليل معتبر هو من تلك الرواية بمنزلة قرينة التجوّز، و مخالفة الإجماع أو عمل العلماء إنّما تصير موجبة لوهن الخبر إذا لم يتطرّق إليه التأويل بشيء من وجوهه، الّتي منها التجوّز.

و من جملة فقراتها ما هو محلّ الاستدلال بها على جواز استعمال غسالة الغسل في الطهارة، من قوله عليه السّلام: «و إن كان في مكان واحد و هو قليل، لا يكفيه لغسله، فلا عليه أن يغتسل، و يرجع الماء فيه، فإنّ ذلك يجزيه» فإنّه صريح في نفي البأس عمّا رجع ممّا انفصل عن البدن في الماء، فلو لا استعمال ذلك جاز في الطهارة لما كان لذلك وجه.

و اعترض عليه تارة: باختصاص دلالتها على الجواز في حال الضرورة و المدّعى أعمّ منها، و لا يمكن تتميمه بالإجماع المركّب، إذ لم يعلم اتّفاقهم على عدم الفصل، بل ربّما يمكن تنزيل إطلاق المانعين إلى ما عدا الضرورة، كما يومئ إليه كلام الشيخ في كتابي

ص: 393


1- الحدائق الناضرة 464:1.

الحديث، حيث يحمل الرواية على صورة الضرورة كما سبق الإشارة إليه، بل ليس ذلك لمجرّد التأويل رفعا للتنافي بين الروايات حتّى يقال: بأنّه لا يستلزم الاختيار، إنّما هو أخذ بما هو ظاهر الرواية و مفادها، فيكون اختيارا للمذهب، لا أنّه مجرّد وجه جمع ذكره في المقام، فلا إجماع على عدم الفرق، إن لم نقل بأنّ النزاع إنّما هو في غير حال الضرورة.

و القول بأنّ النهي المستفاد منها بالقياس إلى حالة الاختيار إنّما اعتبر هنا تنزيها، كما صرّح به العلاّمة في المختلف(1)، ممّا لا يلتفت إليه، بعد ظهور الرواية في المنع التحريمي، و من هنا أمكن جعلها من أدلّة القول بالمنع، عملا بمفهوم الشرط في قوله عليه السّلام: «فإن كان في مكان واحد و هو قليل لا يكفيه لغسله، فلا عليه أن يغتسل، و يرجع الماء فيه».

و اخرى: بأنّ نفي البأس في الصورة المفروضة لعلّه من جهة حصول الاستهلاك و صيرورة الماءين واحد، المستلزمة لعدم صدق عنوان التطهير بالمستعمل، فتكون الرواية دالّة على الجواز فيما هو خارج عن محلّ النزاع.

و في أوّل الاعتراضين: أنّه إن اريد به قصور الرواية عن الدلالة على الجواز بالنسبة إلى حال الاختيار، و لكن بملاحظة ما في كلام السائل من قوله: «إذا كان لا يجد غيره» لا بملاحظة ما في الجواب من فرض وحدة المكان و قلّة الماء معها و عدم كفايته لغسله، فله وجه، نظرا إلى أنّ الجواب ينصرف إلى مفروض السؤال، و ليس فيه لفظ عامّ و لا مطلق صالح لأنّ يتناول مورد السؤال و غيره، فهو بالنسبة إلى حالة الاختيار ساكت نفيا و إثباتا.

و إن اريد به الدلالة على المنع في حالة الاختيار أيضا، و لكن بملاحظة ما في الجواب من قوله: «و إن كان في مكان واحد و هو قليل، لا يكفيه» فهو في حيّز المنع، إذ لا مدرك لهذه الدلالة إلاّ قاعدة المفهوم، و هو إمّا يعتبر من الشرطيّة، أو من التقييد بوصف وحدة المكان، أو من التقييد بالقلّة مع عدم الكفاية، و لا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل: فلأنّ مثل هذا الشرط إنّما يعتبر لبيان موضوع الحكم، لا للتعليق المنحلّ إلى إفادة لزوم الوجود للوجود و الانتفاء للانتفاء، فلا مفهوم له، إذ لا معنى لقولنا: «إن لم يكن في مكان واحد و هو قليل لا يكفيه لغسله فعليه بأس أن يغتسل و يرجع الماء فيه»

ص: 394


1- مختلف الشيعة 235:1.

كما لا يخفى، بل لو كان هناك مفهوم فهو مفهوم موافقة، لمكان أولويّة عدم البأس مع الفرض المذكور، و على كلّ تقدير فلا يدخل فيه حالة الاختيار إلاّ إذا اعتبر المفهوم بالنسبة إلى القيود المذكورة أيضا، و هو كما ترى خروج عن الاستناد إلى مفهوم الشرط.

و أمّا الأخيران: فلما تقرّر عندنا من عدم حجّيّة مفهوم الوصف، و لا يلزم بذلك خروج القيود المذكورة لغوا لظهور كون النكتة في اعتبارها هنا سبق السؤال عمّا يستلزمها، كما لا يخفى على المتأمّل.

و في ثاني الاعتراضين: منع تحقّق الاستهلاك مع فرض القلّة، على نحو لا يكون كافيا في الغسل.

نعم، يتّجه أن يقال: إنّ الماءين بعد صيرورتهما واحدا لا يصدق عليه المستعمل و لا غير المستعمل، بل هو مركّب منهما، و المركّب خارج عن كلّ منهما فيكون خارجا عن المتنازع فيه من هذه الجهة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا: أنّ الرواية لا تعرّض فيها لحالة الاختيار، و أمّا في حالة الضرورة فتدلّ على الجواز في المركّب من المستعمل و غيره، و أمّا المستعمل الصرف فيبقى حكمه غير مستفاد من الرواية نفيا و إثباتا، و من هنا يعلم أنّ ما في كلام غير واحد كصاحب الحدائق(1)، و صاحب المناهل(2)، كالعلاّمة في المختلف(3)، و الشيخ في كتابي الحديث(4) -(5)، و غيرهما من التزام دلالتها على الجواز مطلقا في حالة الضرورة ليس في محلّه.

ثمّ إنّه لو سلّمنا دلالتها على المنع في حال الاختيار - كما توهّم - فلا يثبت مطلوب المانعين على الإطلاق، بل غايته الدلالة على المنع عن استعمال المستعمل في طهارة في نفس تلك الطهارة لا في طهارة اخرى، كما لو غسل عضو من أعضاء الوضوء أو الغسل بما انفصل عن العضو الآخر، و هذه المسألة غير مذكورة في كلامهم، و لا أنّ عناوين المسألة المبحوث عنها شاملة لها، لكونها بين صريحة و ظاهرة في إرادة

ص: 395


1- الحدائق الناضرة 440:1.
2- المناهل - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 149.
3- مختلف الشيعة 235:1.
4- التهذيب 1318/417:1 - و اكتفى فيه بنقل الرواية فقط من دون حملها على الضرورة.
5- الاستبصار 28:1 ب 14 ذيل حديث 2.

التعدّد، بأن تستعمل ما انفصل عن غسل في طهارة اخرى وضوءا و غسلا آخر.

فالحقّ: أنّ الرواية لو كانت متعرّضة لحالة الاختيار أيضا كانت وجها في التفصيل في استعمال المستعمل بين استعماله في الطهارة الّتي هو منفصل عنها و استعماله في طهارة اخرى، و إن لم نقف على قائل به من أصحابنا.

ثمّ خرجت الأخبار الآمرة بالتيمّم في جنب ليس عنده من الماء إلاّ ما يكفيه من الوضوء شاهدة به أو مؤيّدة له، و على أيّ تقدير فالاستدلال بتلك الرواية على الجواز مطلقا ليس على ما ينبغي.

و من الروايات المستدلّ بها على هذا المطلب، صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع، قال: كتبت إليه أسأله عن الغدير، يجتمع فيه ماء السماء، و يستقى فيه من بئر، و يستنجي فيه الإنسان من بول، و يغتسل فيه الجنب ما حدّه الّذي لا يجوز؟ فكتب: «لا توضّأ من مثل هذا إلاّ من ضرورة»(1).

و فيه: أنّ سياق الرواية حيث جمع فيه بين الاغتسال و الاستنجاء و الاستقاء من البئر و ماء السماء، و إن كان يقضي بالكراهة و الضرورة رافعة لها، غير أنّ الاستدلال بها على حكم محلّ البحث مشكل، لجواز كون الماء المسئول كرّا و ما زاد، إلاّ أن يقال:

بأنّ الجواب بملاحظة ترك الاستفصال يعمّ الكرّ و ما دونه، و لكن يشكل الحال أيضا بملاحظة ظهور السؤال في فرض الاجتماع بين الامور المذكورة فيه، فحينئذ يسقط الدلالة على الكراهة، ضرورة كون بعض هذه الامور مع دخوله في المجموع كافيا في توجّه المنع إذا لم يثبت فيه الرخصة من جهة الخارج كالاغتسال، و كون ما عدا ذلك موجبا للكراهة مثلا اذا انفرد لا ينافي كون ذلك موجبا للمنع إذا اجتمع مع موجب الكراهة.

و يمكن دفعه: بأنّ جعل الرواية شاملة لصورة الكرّ و ما زاد ممّا يرفع ظهور المنع، بل و احتماله بملاحظة الإجماع على أنّ الاغتسال في الكرّ لا يورث منع الاغتسال و لا مطلق الاستعمال ثانيا.

و منها: صحيحة صفوان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحياض الّتي بين مكّة إلى المدينة، تردها السباع و تلغ فيها الكلاب، و يشرب منها الخنزير، و يغتسل فيها الجنب

ص: 396


1- الوسائل 163:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 14 - التهذيب 1316/417:1.

و يتوضّأ منها؟ فقال: و كم قدر الماء؟ قلت إلى نصف الساق و إلى الركبة، فقال: «توضّأ منه»(1) و الاستدلال بها كما ترى في غاية الوهن، و إلاّ لدلّت على عدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة أيضا و هو كما ترى ممّا لا يرضى به المستدلّ لكونها محمولة عنده على بلوغ الكرّيّة و لذا تعدّ من أخبار الكرّ و تذكر ثمّة.

و منها: صحيحة الفضيل قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب يغتسل فينتضح الماء من الأرض في الإناء؟ فقال: لا بأس، و هذا ممّا قال اللّه تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2)-(3) و قد تبيّن آنفا ضعف الاستدلال بها، و أضعف منه الاستدلال بصحيحة محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الحمّام يغتسل فيه الجنب و غيره اغتسل من مائه قال «نعم: لا بأس أن يغتسل منه الجنب»(4).

حجّة المانعين وجوه:
الأوّل: أنّ السلف قد استمرّت عادتهم بعدم جمع الماء المفروض،

و ليس ذلك إلاّ لكونه غير رافع للحدث الأكبر، و هو كما ترى أوهن من بيوت العنكبوت، لما عن الذكرى من «أنّ السرّ في ذلك ندور الحاجة إليه»(5) مع أنّ عادتهم كما استمرّت بعدم جمعه لرفع الحدث الأكبر، فكذلك استمرّت بعدم جمعه لإزالة الخبث به و لاستعمال آخر، مع جواز كلّ ذلك عندكم.

و الثاني: ما عن الشيخ رحمه اللّه: من أنّ الإنسان مكلّف بالطهارة بالمتيقّن، طهارة المقطوع على استباحة الصلاة باستعماله،

و المستعمل في غسل الجنابة ليس كذلك، لأنّه مشكوك فيه فلا يخرج عن العمل باستعماله، و لا معنى لعدم الإجزاء إلاّ ذلك(6).

و أجاب عنه العلاّمة في المنتهى: «بأنّ الشكّ إمّا أن يقع في كونه طاهرا و هو باطل عند الشيخ، أو في كونه مطهّرا و هو أيضا باطل، فإنّه حكم تابع لطهارة الماء و إطلاقه و قد حصلا، فأيّ شكّ هاهنا»(7) و هو في غاية الجودة.

ص: 397


1- الوسائل 162:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 12 - التهذيب 1317/417:1.
2- الوسائل 211:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف المستعمل ح 1 - التهذيب 225/86:1.
3- الحجّ: 78.
4- الوسائل 148:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 1172/378:1.
5- ذكرى الشيعة 103:1.
6- التهذيب 221:1 نقلا بالمعنى.
7- منتهى المطلب 135:1.
و الثالث: عدّة أخبار:

منها: ما هو العمدة منها من رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل، و قال: الماء الّذي يغسل به الثوب، أو يغتسل به الرجل من الجنابة، لا يجوز أن يتوضّأ منه و أشباهه، و أمّا الّذي يتوضّأ به الرجل، فيغسل به وجهه، و يده، في شيء نظيف، فلا بأس أن يأخذ غيره و يتوضّأ به»(1) و هذه ممّا لا ينبغي القدح في دلالتها، نعم القدح في سندها - على ما في كلام أساطين علمائنا - كما سبق في بحث غسالة الوضوء، فإنّه ضعيف بأحمد بن هلال إلاّ في وجه غير ثابت الاعتبار عند كثير منهم، متقدّم عن الغضائري(2)، و على ثبوت اعتباره ليس ممّا يجدي نفعا في صحّة التعويل عليها، لكونها موهونة بمصير المعظم إلى خلافها.

و أمّا المناقشة في دلالتها تارة: بكونها محمولة على الغالب، و هو مصاحبة الجنب للنجاسة.

و اخرى: بأنّ لفظة «لا يجوز» ممّا لا يمكن حملها على الحرمة، لاستلزامه التخصيص في قوله: «بالماء المستعمل» و تخصيص آخر في قوله: «الماء الّذي يغسل به الثوب» فلا بدّ من حملها على الكراهة، ترجيحا للمجاز على تخصيصين، و رجحان التخصيص على المجاز إنّما يسلّم مع الاتّحاد لا غير، و أنت خبير بما في كلّ من الوجهين من الوهن.

أمّا الأوّل: فلأنّ غلبة مصاحبة النجاسة للجنب بما هو هو و إن كانت مسلّمة، غير أنّ اللفظ المفرد لا بدّ و أن يعتبر ظهوره في التركيب الكلامي، فإنّ الهيئة التركيبيّة الكلاميّة ربّما توجب انسلاخ ظهور المفردات، و قوله: «أو يغتسل به الرجل» ظاهر بملاحظة «باء» الاستعانة في الغسل الترتيبي، إذ لولاه لكان الأنسب التعبير بقوله، «يغتسل فيه الرجل» كما لا يخفى، و لا ريب أنّ الغالب في الاغتسال ترتيبا بل الدائم وقوعه إنّما هو خلوّ البدن عن النجاسة، و لو من جهة إزالتها قبل الغسل، فلا يبقى في لفظ «الرجل» باعتبار وصفه المقدّر ظهور فيما ذكر من مصاحبة النجاسة.

ص: 398


1- الوسائل 215:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 13 - التهذيب 630/221:1.
2- قال العلاّمة في خلاصة الأقوال: 320؛ «و توقّف ابن الغضائرى في حديثه إلاّ فيما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتاب المشيخة، و محمّد بن أبي عمير من نوادره الخ».

و أمّا الثاني: فلمنع التعارض بين الأمرين، فإنّ القرينة على تخصيص قوله: «بالماء المستعمل» موجودة في الكلام، و هي التفصيل الّذي ذكره بعد ذلك، فإنّه من الأوّل بمنزلة البيان، فيكشف عن عدم كونه في لحاظ المتكلّم على إطلاقه، أي يكشف عن كونه مقيّدا بما كان من الوضوء، و مثله يقال في التخصيص الثاني، فإنّ كلمة الاستعانة قرينة مرشدة - بالتقريب المتقدّم - إلى كون المراد من الماء الّذي يغسل به الثوب ما يرد على المحلّ، و لا يكون إلاّ قليلا، و معه يبقى ظهور نفي الجواز في المنع المتأكّد سليما عن المعارض.

و منها: رواية حمزة بن أحمد - المتقدّمة في بحث غسالة الحمّام - عن أبي الحسن الأوّل، المشتملة على قوله: «و لا تغتسل من البئر الّتي يجتمع منها ماء الحمّام، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب، و ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت و هو شرّهم»(1).

و القدح فيها سندا و دلالة قد مضى ثمّة.

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن ماء الحمّام؟ فقال: «ادخله بإزار، و لا تغتسل من ماء آخر، إلاّ أن يكون فيه جنب، أو يكثر أهله فلا يدري فيه جنب أم لا»(2).

و فيه: أنّ مبنى الاستدلال بذلك، إمّا على جعل النهي للتحريم كما هو ظاهر الصيغة المجرّدة.

ففيه أوّلا: أنّه متعذّر هنا، ضرورة أنّ الاغتسال بماء آخر مع وجود ماء الحمّام ليس بمحرّم في نفسه.

و ثانيا: أنّه غير مجد في ثبوت المنع عن الاغتسال في ماء الحمّام، لأنّ الاستثناء من التحريم لا يقتضي إلاّ نفي التحريم، و هو أعمّ من الوجوب.

أو(3) على جعله من باب النهي الواقع عقيب ظنّ الوجوب أو توهّمه، ليكون الاستثناء منه مفيدا للوجوب، لضابطة أنّ الاستثناء من النفي إثبات.

ص: 399


1- الوسائل 218:1 ب 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل ح 1 - التهذيب 1143/373:1.
2- الوسائل 149:1 ب 7 من أبواب الماء المضاف ح 5 - التهذيب 1175/379:1.
3- هذا عطف على قوله: «أنّ مبنى الاستدلال بذلك إمّا على جعل النهي على التحريم» الخ.

ففيه أوّلا: أنّه ممّا لا يلائمه قوله عليه السّلام: «أو يكثر أهله» الخ، ضرورة أنّ الشكّ في تحقّق جهة المنع، لا يوجب المنع بل و لا يقول به أهل القول بالمنع، و عليه دعوى الإجماع في كلام غير واحد، مضافا إلى ظهور ذلك في كون الماء كثيرا في حدّ الكرّ بل الأكرار، و لا يقول أحد بالمنع عن الاغتسال فيه، ليجب الاغتسال في غيره.

و ثانيا: أنّه معارض باحتمال كون النهي هنا لمجرّد الإرشاد و بيان الواقع، و التنبيه على عدم الداعي إلى الاغتسال بغير ماء الحمّام مع وجوده، فيكون تقدير قوله عليه السّلام:

«و لا تغتسل من ماء آخر» في حاصل المعنى: أنّه لا داعي إلى الاغتسال من ماء آخر، و مفاد الاستثناء منه يرجع إلى إثبات الداعي إليه، و هو أعمّ من إثبات المفسدة المقتضية لمنع الاغتسال بماء الحمّام، أو الجهة المقتضية لمرجوحيّته، و هذا كما ترى احتمال ظاهر، و المعنى المذكور معنى شائع في العرف، يجري في شيء له طريقان:

أحدهما: أكثر مئونة من الآخر، و أزيد مسافة أو مشقّة منه، مثلا فأنت إذا أردت إرشاده إلى اختيار غيره، و تنبيه على أنّه ممّا لا داعي إلى اختياره، قلت: «افعل كذا و كذا، و لا تسلك من الطريق الفلاني» أي لا داعي إلى سلوكه، و هو مع ظهوره في نفسه بعد تعذّر الحقيقة مؤيّد باستثناء صورة الشكّ أيضا، مع ظهورها في كثرة الماء كما عرفت، و لو سلّم عدم ظهوره فلا أقلّ من عدم ظهور خلافه، و على أيّ تقدير فلا دلالة للرواية على المنع أصلا.

و لنختم المقام بذكر امور:
أحدها: أنّ معقد البحث في هذه المسألة الماء الّذي استعمله المحدث خاليا بدنه عن نجاسة عينيّة أو أثرها،

فلو كان فيه شيء منهما كان الماء ملاقيا له، فخرج عن هذا العنوان و دخل في عنوان غسالة النجس، أو مطلق القليل الملاقي للنجاسة، و من حكمه أنّه نجس - على ما تقدّم - غير مطهّر أيضا.

و قد تنبّه عليه صاحب الحدائق(1) و نبّه عليه في المنتهى، قائلا: «متى كان على جسد المجنب أو المغتسل من حيض و شبهه نجاسة عينيّة، فالمستعمل إذا قلّ عن الكرّ نجس إجماعا، بل الحكم بالطهارة إنّما يكون مع الخلوّ من النجاسة العينيّة،(2)» انتهى.

ص: 400


1- الحدائق الناضرة 447:1.
2- منتهى المطلب 137:1.

و في تعرّض جماعة من الأصحاب لحمل الأخبار الّتي استند إليها المانعون عن التطهير بذلك الماء على صورة وجود النجاسة على الجسد إشارة إلى ذلك أيضا، إذ لولاه خارجا عن محلّ النزاع لما كان لذلك الحمل فائدة في منع الاستدلال بها، كما لا يخفى.

و ثانيها: إطلاق عناوينهم المعبّرة عن موضوع المسألة بالمستعمل في رفع الحدث الأكبر،

يقضي بأنّ النزاع فيما يعمّ الجنابة و الحيض و الاستحاضة و نحوها، بل هو صريح جملة عبائرهم، كما في المختلف قائلا: «الماء المستعمل في الطهارة الكبرى كغسل الجنابة، و الحيض، و الاستحاضة، و النفاس، مع خلوّ البدن من النجاسة طاهر إجماعا، و هل هو مطهّر أم لا؟ منع الشيخ، و المفيد، و ابنا بابويه عن ذلك، و قال السيّد المرتضى، و ابن إدريس أنّه مطهّر و هو الحقّ»(1).

و قريب منه ما عرفت في صدر الأمر الأوّل من عبارة المنتهى(2) و من هنا صحّ لصاحب المعالم - على ما حكي عنه - حمل عبارته الاخرى فيما بعد العبارة المشار إليها من قوله: «المستعمل في غسل الجنابة يجوز إزالة النجاسة به إجماعا منّا»(3). على إرادة التمثيل دون الحصر(4).

و لا ينافيه اختصاص الأخبار من الطرفين بالجنابة، لجواز كون العموم مستفادا لهم من جهة تنقيح مناط، أو إجماع مركّب أو نحو ذلك، و لذا ترى أنّ سائر أدلّة الفريقين قد وردت على جهة العموم، حتّى ما عرفت عن الشيخ من الوجه الثاني المتضمّن لقوله: «الإنسان مكلّف بالطهارة بالمتيقّن طهارة، المقطوع على استباحة الصلاة باستعماله، و المستعمل في غسل الجنابة ليس كذلك»(5) لأنّ استباحة الصلاة باستعمال الماء أعمّ من أن يكون استعمال الماء علّة تامّة لها كما في غسل الجنابة، أو جزء علّة كما في سائر الأغسال.

و لا ينافي ذلك إفراده الجنابة بالذكر بعد احتمال إرادة التمثيل احتمالا ظاهرا، كما لا ينافي كلّ ذلك عبارة الصدوق: «فإن اغتسل الرجل في وهدة و خشي أن يرجع ما ينصبّ عنه إلى الماء الّذي يغتسل منه، أخذ كفّا و صبّه أمامه، و كفّا عن يمينه، و كفّا عن يساره، و كفّا عن خلفه، و اغتسل منه»(6) و لا عبارة أبيه في رسالته إليه: «و إن اغتسلت

ص: 401


1- مختلف الشيعة 233:1.
2- منتهى المطلب 137:1 و 138.
3- منتهى المطلب 137:1 و 138.
4- فقه المعالم 335:1.
5- التهذيب 221:1.
6- الفقيه 15:1.

من ماء في وهدة و خشيت أن يرجع ما ينصبّ عنك إلى المكان الّذي تغتسل فيه، أخذت كفّا و صببته عن يمينك، و كفّا عن يسارك و كفّا خلفك و كفّا أمامك و اغتسلت»(1)و لا عبارة الشيخ في النهاية: «متى حصل الانسان عند غدير أو قليب و لم يكن معه ما يغترف به الماء للوضوء، فليدخل يده فيه، و يأخذ منه ما يحتاج إليه، و ليس عليه شيء، و إن أراد الغسل للجنابة و خاف أن نزل إليها فساد الماء، فليرشّ عن يمينه و يساره و أمامه و خلفه، ثمّ ليأخذ كفّا من الماء فليغتسل به»(2) فإنّ كلّ ذلك تأدية بما يوافق متون الروايات في الجملة لما فيه من الأغراض و الحكم.

فما في الحدائق: «من أنّ أمثال هذه الامور صريحة في التخصيص بالجنابة»(3)، ليس ممّا ينبغي الالتفات إليه، بل التعبير عن عنوان المسألة بما يرفع الحدث تصريح بخروج المستعمل في الأغسال المندوبة عن المتنازع فيه، و عن الشيخ في الخلاف:

«نفي الخلاف عنه»(4) و يظهر ذلك عن منتهى العلاّمة قائلا: «المستعمل في الأغسال المندوبة، أو في غسل الثوب، أو الآنية الطاهرين ليس بمستعمل، لأنّ الاستعمال لم يسلبه الاطلاق، فيجب بقاؤه على التطهير للآية(5).

و قالت الحنفيّة: كلّ مستعمل في غسل بني آدم على وجه القربة فهو مستعمل، و ما لا فلا، فلو غسل يده للطعام أو من الطعام صار مستعملا، بخلاف ما لو غسل لإزالة الوسخ و لإزالة العجين من يده»(6) الخ و بالجملة: تخصيص الخلاف إليهم يقضي بنفيه عمّا بين أصحابنا.

و ثالثها: قال العلاّمة في المنتهى: «المستعمل في غسل الجنابة يجوز إزالة النجاسة به إجماعا منّا، لإطلاقه،

و المنع من رفع الحدث به عند بعض الأصحاب لا يوجب المنع من إزالة النجاسة، لأنّهم إنّما قالوه ثمّ لعلّة لم توجد في إزالة الخبث، فإن صحّت تلك العلّة ظهر الفرق و بطل الإلحاق، و إلاّ حكموا بالتساوي في البابين كما قلناه»(7) انتهى.

و لعلّ نظره في العلّة الّتي لا توجد في إزالة الخبث إلى الأخبار المخصوصة في

ص: 402


1- فقه الرضا عليه السّلام: 4 - الفقيه 15:1 - المقنع: 14.
2- النهاية و نكتها 211:1.
3- الحدائق الناضرة 448:1.
4- الخلاف 172:1 المسألة 126.
5- الأنفال: 11.
6- منتهى المطلب 138:1.
7- منتهى المطلب 138:1.

المنع - على تقدير صحّتها سندا و دلالة - برفع الحدث، و إلاّ فبعض أدلّتهم يعمّ البابين كما لا يخفى على المتأمّل.

و كيف كان: فالخلاف في إزالة الخبث بذلك الماء غير متحقّق بين أصحابنا، و لا حكاه عنهم صريحا أحد منّا، نعم في عبارة الشهيد المحكيّة عن الذكرى ما يوهم ذلك، حيث قال: «جوّز الشيخ و المحقّق إزالة النجاسة به، لطهارته، و بقاء قوّة إزالته الخبث، و إن ذهب قوّة رفعه الحدث، و قيل: لا، لأنّ قوّته استوفيت فالتحق بالمضاف»(1) انتهى.

و ربّما يوجّه ذلك، - كما عن صاحب المعالم(2) - باحتمال أن يكون المنقول عنه بعض المخالفين، كما يشعر به التعليل الواهي، و كيف كان فما ادّعاه العلاّمة من الإجماع لا يخلو عن وصمة الشبهة، و إن كان يؤيّده ظهور العناوين، و لكن الحكم في حدّ ذاته كما ذكره، بلا إشكال فيه و لا شبهة تعتريه بالنظر إلى ما قدّمناه من الأدلّة، و لك أن تستند إلى الأولويّة بالقياس إلى رفع الحدث صغيرا و كبيرا كما لا يخفى.

و رابعها: الأقرب على المختار من طهوريّة المستعمل في رفع الحدث، كراهية استعماله في رفع الحدث ثانيا،

وفاقا للشهيد في الدروس(3)، و الخوانساري في شرحه(4)عملا بما تقدّم من رواية عبد اللّه بن سنان(5)، و إن ضعف سندها بناء على التسامح، و خصوص الرواية المرويّة عن الكافي(6)، الّتي قدّمنا ذكرها في ذيل غسالة الوضوء، و الظاهر أنّه لا يخالف فيه أحد.

و خامسها: يظهر من العلاّمة في المنتهى عدم اشتراط الانفصال عند المانعين من أصحابنا في صدق الاستعمال،

و لكن عبارته في هذا المقام غير خالية عن التهافت، فإنّه قال: «لو اغتسل من الجنابة، و بقيت في العضو لمعة لم يصبها الماء، فصرف البلل الّذي على العضو إلى تلك اللمعة جائز، أمّا على ما اخترناه نحن فظاهر، و أمّا على قول الحنفيّة فكذلك، لأنّه إنّما يكون مستعملا بانفصاله عن البدن، و في اشتراط استقراره في

ص: 403


1- ذكرى الشيعة 104:1.
2- فقه المعالم 336:1 حيث قال - بعد نقل عبارة الشهيد -: «و كلامه هذا ليس فيه تصريح بأنّ القائل من الأصحاب».
3- الدروس الشرعية 122:1.
4- مشارق الشموس: 248.
5- الوسائل 215:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف ح 13.
6- الوسائل 219:1 ب 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل ح 2 - الكافي 38/503:6.

المكان خلاف عندهم.

و أمّا في الوضوء، فقالوا: لا يجوز صرف البلل الّذي في اليمنى إلى اللمعة الّتي في اليسرى، لأنّ البدن في الجنابة كالعضو الواحد فافترقا، و ليس للشيخ فيه نصّ، و الّذي ينبغي أن يقال على مذهبه عدم الجواز في الجنابة، فإنّه لم يشترط في المستعمل الانفصال»(1) انتهى.

و كأنّه أخذ بإطلاق كلامه في المنع، كما نبّه عليه بقوله: «ليس له فيه نصّ» و إلاّ فقضيّة عدم النصّ جريان احتمال الأمرين معا في كلامه لا تعيّن أحدهما، غير أنّه لا يخفى ما فيه، مع ما ذكره من التعليل بناء على قول الحنفيّة من التهافت، فإنّه لو صلح علّة لاشتراط الانفصال على مذهب الحنفيّة لجرى على مذهب الشيخ أيضا، إذ ليس في كلام الشيخ إلاّ الاستعمال، و المفروض أنّه عنوان متوقّف صدقه بمقتضى تلك العلّة على الانفصال.

و كيف كان فعن جمع ممّن تأخّر إنكار النسبة المذكورة إلى الشيخ، لعدم تصريحه بها في كتبه المشهورة، مع استلزام ذلك عدم الاجتزاء بإجراء الماء في الغسل من محلّ إلى آخر بعد تحقّق مسمّاه، و هو بمحلّ من البعد بل البطلان، كما لا يخفى على من لاحظ الأخبار الواردة في كيفيّة الغسل من الجنابة، و قد يعلّل البطلان بلزوم تعذّر الغسل لو لا الاجتزاء، و هو في الجملة في محلّه كما ستعرفه.

و الأولى أن يقال - في تحرير المقام -: إنّ المستعمل في طهارة، قد يكون مستعملا في عضو من الطهارة، أو جزء من العضو فاريد استعماله في عضو آخر منها، أو جزء آخر من العضو، و قد يكون مستعملا فيه أو في طهارة كاملة، فاريد استعماله في طهارة اخرى، و هذا هو القدر المتيقّن من مراد المانع عن الاستعمال الثاني.

و أمّا الأوّل: فقد يكون منفصلا عن العضو أو الجزء المغسولين، بأن يؤخذ بعد انفصاله و يغسل العضو أو الجزء الآخر، و قد لا يكون منفصلا عنه، و على الثاني فقد يكون مستقرّا على العضو أو الجزء اللذين هو فيهما، فاريد إمراره فيهما إلى العضو أو الجزء الباقي، و قد لا يكون مستقرّا بل هو سائل، فاريد إمراره حال السيلان إلى ما لا يسيل عليه عادة، و هذا هو القدر الّذي يمكن دعوى القطع بخروجه عن المتنازع

ص: 404


1- منتهى المطلب 139:1.

بملاحظة سيرة المتشرّعة، مع تعسّر الغسل ترتيبا بل تعذّره، لو لا جوازه و الاجتزاء به، و أمّا الصورتان الباقيتان فكونهما من محلّ النزاع موضع شبهة، و الظاهر أنّ الأخيرة منهما مفروضة في مسألة اللمعة.

و على المختار فهل يجوز استعماله فيهما أو لا؟ و الظاهر أنّ الجواز في مسألة اللمعة ممّا لا إشكال فيه، و به روايات مخصوصة، تأتي في باب الغسل إن شاء اللّه، دالّة على جواز مسح اللمعة بالبلّة الباقية في الأعضاء، و ادّعى عليه ظهور الإجماع في شرح الدروس(1).

و إنّما الإشكال في الصورة الاخرى، و يظهر الفائدة بالنسبة إليها فيما لو قصر الماء المعدّ للغسل عن تمام الغسل، بأن لا يكون كافيا إلاّ عن غسل بعض الأعضاء، فهل يجوز الاكتفاء به في تمام الغسل، بأن يغسل به العضو المذكور و يؤخذ بعد انفصاله عنه في إناء، ثمّ يغسل به العضو الآخر إلى أن يستكمل الغسل به، أو لا؟

و الحقّ أنّ الجواز هنا مشكل، من أنّ بعض القواعد المتقدّمة في الاستدلال على الجواز في أصل المسألة - كقاعدة: إنّ الماهيّة المائيّة مقتضية للطهارة و الطهوريّة معا ما لم يزاحمها خارج - يقتضي الجواز، من حيث إنّ الماهيّة غير زالّة عن المفروض جدّا، و العارض ممّا لم يعلم كونه مزاحما رافعا لما اقتضته الماهيّة.

و من أنّه ممّا لا ذاهب إليه من الأصحاب، بل ظاهرهم في غير هذا الموضع عدم الاكتفاء به، حيث إنّه في مسألة ما لو وجد المحدث من الماء ما لا يكفيه لطهارته حكموا بوجوب التيمّم عليه، مصرّحين بعدم الفرق فيه بين الجنب و المحدث بالأصغر، و عزاه في المنتهى(2) إلى مذهب علمائنا، مؤذنا بالإجماع عليه، فلم يذكروا فيه إلاّ احتمال الوضوء مع التيمّم إذا كان جنبا، أو استعماله في بعض الأعضاء ثمّ التيمّم للباقي، ناسبين لهما إلى العامّة، و لهم في هذا المقام روايات مصرّحة بالتيمّم دون الوضوء في الجنب خاصّة، من غير تعرّض لبيان ما ذكرناه في مفروض المسألة، فلو أنّه أمر مقرّر في الشريعة ثابت من الشارع لما كان للعدول عن الأمر به إلى الأمر بالتيمّم في الأخبار وجه، كما لا يخفى.

ص: 405


1- مشارق الشموس: 178.
2- منتهى المطلب 18:3.

فتلخّص من ذلك أنّ الأقرب حينئذ هو عدم الاكتفاء بالماء المفروض في الصورة المفروضة، تحكيما لتلك الأخبار المؤيّدة بعمل الأخيار على القاعدة المشار إليها، و يؤيّده ما قرّرناه في ذيل الكلام على رواية عليّ بن جعفر، المتقدّمة في جملة الأخبار المستدلّ بها على طهوريّة المستعمل، و لكن على التقدير المتقدّم إليه الإشارة.

فصار محصّل مختارنا مع ضميمة ما قرّرناه الآن: أنّ المستعمل في الحدث الأكبر لا يزول عنه الطهوريّة، إلاّ ما لو استعمل في بعض أعضاء الطهارة فاريد استعماله في العضو الآخر من تلك الطهارة، فإنّه غير جائز لدليله الخاصّ الّذي لولاه لكان الجواز ظاهر الثبوت.

و سادسها: إذا اجتمعت المياه المستعملة حتّى بلغت كرّا و ما زاد، لم يزل المنع على القول به،

وفاقا لمحكيّ المعتبر(1)، و خلافا للمبسوط(2)، و المنتهى(3)، و عن الخلاف: أنّه تردّد فيه(4).

لنا: ما احتجّ به المعتبر: «بأنّ ثبوت المنع معلوم شرعا، فيتوقّف ارتفاعه على وجود الدلالة، و هي مفقودة»(5).

و احتجّ العلاّمة: «بأنّ بلوغ الكرّيّة موجب لعدم انفعال الماء عن الملاقي، و ما ذلك إلاّ لقوّته، فكيف يبقى انفعاله عن ارتفاع الحدث الّذي لو كان نجاسة لكانت تقديريّة»(6).

و فيه: أنّ بلوغ الكرّيّة إن اريد به سبق الكرّيّة على الملاقاة فالمقدّمة الاولى مسلّمة، و لكن المقام ليس منها، و إن اريد به لحوق الكرّيّة بها فالمقدّمة الاولى ممنوعة، فضلا عن المقدّمة الثانية.

و عن الشيخ في الخلاف(7) في منشأ التردّد: «أنّه ثبت فيه المنع قبل أن يبلغ كرّا، فيحتاج في جواز استعماله بعد البلوغ إلى دليل، و من دلالة الآيات و الأخبار على طهارة الماء، خرج عنه الناقص عن الكرّ بدليل، فيبقى ما عداه، و قولهم: «إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا»(8).

ص: 406


1- المعتبر: 22.
2- المبسوط 11:1.
3- منتهى المطلب 138:1.
4- الخلاف 173:1 المسألة - 127.
5- المعتبر: 22.
6- منتهى المطلب 138:1.
7- الخلاف 1173:1 - المسألة 127 - مع اختلاف يسير.
8- نسب الشيخ قدّس سرّه هذه الرواية إلى الأئمّة عليهم السّلام، و نقلها السيّد المرتضى قدّس سرّه في الانتصار: 6 -

و يرد على أوّل الوجهين: أنّ المجتمع هو الناقص الّذي بلغ كرّا بالاجتماع، فإذا سلّم خروجه عن الآيات و الأخبار حال النقصان، فأيّ دليل قضى بدخوله فيهما بعد الاجتماع؟ هذا مع ما فيه من التعبير بالطهارة الّتي ليست من المتنازع فيه، إلاّ أن يراد بها الطهوريّة.

و على ثاني الوجهين: القدح فيه سندا و دلالة، أمّا الأوّل: فلما صرّح به غير واحد من أنّه غير معلوم الإسناد، و أمّا الثاني: فلظهوره في أنّ بلوغ الكرّيّة مانع عن حدوث الخبثيّة فيه، أو ملزوم له، و هو ليس من كونه سببا أو ملزوما لزوالها عنه بعد الحدوث في شيء. و لقد أجاد صاحب المعالم - فيما حكى عنه - من قوله: «و العجب أنّ الشيخ رحمه اللّه احتجّ في الخلاف(1) على عدم زوال النجاسة في المجتمع من الطاهر و النجس؛ بأنّه: ماء محكوم بنجاسته، فمن ادّعى زوال حكم النجاسة عنه بالاجتماع فعليه الدليل، و ليس هناك دليل، فيبقى على الأصل، و لو صحّ الحديث الّذي جعله في موضع النزاع منشأ لاحتمال زوال المانع، لكان دليلا على زوال النجاسة هناك، و ليس بين الحكمين في الخلاف إلاّ أوراق يسيرة.»(2) انتهى.

و سابعها: قال في المنتهى: «لو اغتسل وجوبا من جنابة مشكوك فيها،

كالواجد في ثوبه المختصّ، أو المتيقّن لها و للغسل الشاكّ في السابق، أو من حيض مشكوك فيه كالناسية للوقت و العدد، هل يكون ماؤه مستعملا؟ فيه إشكال، فإنّ لقائل أن يقول: إنّه غير مستعمل، لأنّه ماء طاهر في الأصل لم يعلم إزالة الجنابة به، فلا يلحقه حكم المستعمل و يمكن أن يقال: إنّه مستعمل، لأنّه قد اغتسل به من الجنابة و إن لم تكن معلومة، إلاّ أنّ الاغتسال معلوم فيلحقه حكمه، و لأنّه ما أزال مانعا من الصلاة، فانتقل المنع إليه كالمتيقّن»(3).

أقول: و الأولى إناطة الأمر بأنّ الرافع للطهوريّة هل هو طروّ الاستعمال في الجنابة و لو شرعيّة، أو كونه رافعا للحدث الّذي هو أمر واقعي؟ فإن كان الأوّل فلا إشكال في

ص: 407


1- الخلاف 194:1 - المسألة 150.
2- فقه المعالم 344:1.
3- منتهى المطلب 140:1.

صيرورته مستعملا، و إن كان الثاني فلا إشكال في الحكم عليه بعدم صيرورته مستعملا، للأصل الّذي ينشأ عن الشكّ في وجود الرافع، و الّذي يظهر من الأخبار المقامة على المنع - على فرض تماميّة دلالتها - و كلام العلماء الأخيار هو الثاني، كما لا يخفى على المتأمّل.

و ثامنها: قد أشرنا سابقا إلى أنّ الحكم في كلام أهل القول بالمنع مختصّ بالقليل، لخروج الكثير عن المتنازع فيه،

و صرّح به غير واحد، نعم عن المفيد(1) القول بكراهة الارتماس في الماء الكثير الراكد، و وجّهه في شرح الدروس بقوله: «و الظاهر أنّ وجهه صيرورته مستعملا يكره الطهارة به»(2) و يظهر من الحدائق(3) احتمال كون الكراهة مرادا بها المنع، لأنّها في كلام المتقدّمين - كما هو في الأخبار - للأعمّ من المعنى المصطلح.

و عن شيخنا البهائي في حواشي الحبل المتين(4) ما يقضي بتوهّمه عموم النزاع، مستدلاّ بما في المختلف من الاستدلال على عدم المنع بصحيحة صفوان، الواردة في الحياض بين مكّة و المدينة، و صحيحة محمّد بن إسماعيل المتقدّمة في عداد أدلّة القول المختار، و هو كما ترى، فإنّ الاستدلال بالإطلاق في بعض الأفراد المتنازع في حكمه، لا يقضي بكون البعض الآخر من أفراده أيضا من المتنازع فيه.

و أمّا كراهة الاغتسال فلا يعرف له وجه، مع منافاتها مع احتمال المنع لسيرة المتشرّعة، و عمل الفرقة المحقّة.

و صحيحة محمّد بن إسماعيل(5) المفصّلة في الرخصة و بين الضرورة، و غيرها الّتي قدّمنا فيها احتمال كون النهي للكراهة، بل استظهرناه - لا تكفي في إثبات الكراهة، لعدم تبيّن كون هذه الكراهة هل هي من جهة الاغتسال، أو من جهة الاستنجاء، أو غير ذلك؟ و المفروض أنّ السؤال وقع عن هذه الأشياء مجتمعة لا منفردة، و من الظاهر كفاية كون بعض من هذه الأشياء مقتضيا للكراهة في الحكم بها مطلقا حال الاجتماع،

ص: 408


1- المقنعة: 54.
2- مشارق الشموس: 250.
3- الحدائق الناضرة 457:1.
4- الحبل المتين: 115 - حكى عنه في الحدائق الناضرة 475:1 - ما هذا لفظه: «استدلال العلاّمة في المختلف بالحديث السابع و الثامن، يعطي أنّ الخلاف ليس في الماء المنفصل عن أعضاء الغسل فقط، بل هو جار في الكرّ الّذي يغتسل فيه أيضا فتدبّر» انتهى.
5- الوسائل 163:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 14 - التهذيب 1316/417:1.

و العمدة في هذا السؤال بيان الحكم لا تعيين محلّه، لأنّ السؤال ورد عن المجتمع فخرج الجواب على طبقه، فإنّ قيام الجهة المانعة بالجزء كاف في المنع عن الكلّ.

فالإنصاف: أنّ الرواية بالقياس إلى مفردات المسئول عنه مجملة لا يصحّ الاستناد إليها في شيء منها بالخصوص. على إطلاقه و في جميع أحواله، فكراهة الاغتسال من الكرّ المغتسل فيه مشكل، مع أنّه لم يظهر به قول من أصحابنا، و ما عرفت عن المفيد غير ثابت، و حكمه بكراهة الارتماس في الكثير الراكد غير دالّ عليه، فإنّ الارتماس في الراكد أعمّ من الاغتسال، كما أنّ الراكد أخصّ من الكثير؛ و لعلّه لخصوصيّة لا مدخليّة فيها للاغتسال، ثمّ إنّ كون ذلك لأجل حفظ الماء عن كونه مستعملا يكره الطهارة به من أيّ جهة و الاستظهار المتقدّم عن شرح الدروس ممنوع، و لعلّ الاغتسال بنفسه مكروه في الراكد، و اللّه العالم بحقائق أحكامه.

***

ص: 409

ينبوع [في ماء الجاري]

اشارة

الماء الجاري ممّا أفرده الأصحاب بعنوان مستقلّ، لما في قليله عند أهل القول بانفعال القليل بالملاقاة، من الخلاف في انفعاله، و إلاّ فهو على القول المشهور من عدم انفعاله كان ينبغي أن يذكر في عداد المستثنيات عن قاعدة انفعال القليل، و نحن أيضا أفردناه بالعنوان، و لكن عقيب الفراغ عن المستثنيات اقتفاء لأثرهم، مع مراعاة المناسبة المذكورة على قدر الإمكان.

و كيف كان: فاختلفت كلمتهم في تفسير الجاري هنا؛

ففي المجمع - نقلا عن المصباح -: «الماء الجاري هو المتدافع في انحدار و استواء»(1) و في مفتاح المعاني - الّذي هو منتخب من الصحاح و القاموس و غيرهما - «جرى الماء سال»(2).

و عن بعض متأخّري المتأخّرين الاكتفاء بمطلق السيلان و لو لا عن مادّة، استنادا إلى صدق «الجاري» على المياه الجارية عن ذوبان الثلج، خصوصا إذا لم ينقطع في السنة.

و في حاشية الشرائع - للشيخ عليّ - و المراد بالجاري: «ما كان نابعا من الأرض»(3).

و عنه في حاشية الإرشاد و المراد به: «النابع من الأرض دون ما اجري»(4)، فإنّه واقف و إن لم يتنجّس العالي منه بنجاسة السافل إذا اختلف السطوح و عنه في جامع المقاصد المراد به: «النابع، لأنّ الجاري لا عن نبع من أقسام الراكد»(5).

و عن المسالك: «المراد بالجاري النابع غير البئر سواء جرى أم لا، و إطلاق الجريان

ص: 410


1- مجمع البحرين؛ مادّة «جري».
2- المصباح المنير: مادّة «جرى».
3- حاشية شرائع الإسلام - للمحقّق الكركي - (مخطوط) الورقة: 3.
4- حاشية إرشاد الأذهان - للمحقّق الكركي - (مخطوط) الورقة: 39.
5- جامع المقاصد 110:1.

عليه مطلقا تغليب أو حقيقة عرفيّة»(1).

و في الروضة: «و هو النابع من الأرض مطلقا غير البئر، على المشهور»(2).

و عن الذخيرة: «و المراد به النابع غير البئر، سواء جرى على وجه الأرض أو لا، و الجاري لا عن مادّة لا يسمّى جاريا عرفا»(3).

و في المدارك: «المراد بالجاري النابع، لأنّ الجاري لا عن مادّة من أقسام الراكد اتّفاقا»(4).

و في الحدائق: «المراد بالجاري هو النابع، و إن لم يتعدّ محلّه»(5).

و في الرياض: «و هو النابع عن عين بقوّة أو مطلقا و لو بالرشح، على إشكال في الأخير»(6).

و في الوسائل: «هو النابع غير البئر، بقوّة أو مطلقا و لو بالرشح، على إشكال في الأخير»(7).

و قيل: هو هنا السائل على الأرض بالنبع من تحتها، و إلاّ فهو الواقف، لأنّ الجاري لا عن نبع من أقسام الراكد اتّفاقا أو البئر.

و في شرح الاستاذ للشرائع: «و هو السائل عن مادّة لا النابع مطلقا، و لا السائل كذلك»(8).

أقول: و الّذي يظهر - و اللّه أعلم - أنّ لفظ «الجاري» في وصف الماء به، ليس حاله إلاّ كلفظ «المحقون» و «الواقف» و «الراكد» و «الكرّ» و «القليل»، فلا وضع فيه لغة و عرفا لما يقابل المحقون و ماء البئر و غيرهما من الأقسام المتداولة في لسان الفقهاء، الممتازة بعضها عن بعض بحسب الأحكام المثبتة من الأدلّة الشرعيّة، بل هو لغة و عرفا بالمعنى الأعمّ من المتشرّعة و غيرهم - وصف عامّ يلحق الماء باعتبار ما يعرضه من وصف السيلان، و لا ينافيه تبادر ما يقابل المحقون و غيره من الأقسام المشار إليها عند المتشرّعة بالخصوص، لأنّه تبادر إطلاقي ينشأ من انسهم بطريقة الفقهاء في إجراء الأحكام، و التفرقة بين ما ذكر من الأقسام، بناء على أنّ ما عرفت عن الفقهاء من التفاسير

ص: 411


1- مسالك الافهام 12:1.
2- الروضة البهيّة 252:1.
3- ذخيرة المعاد: 116.
4- مدارك الأحكام 28:1.
5- الحدائق الناضرة 171:1.
6- رياض المسائل 135:1.
7- لم نعثر عليه.
8- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 69:1.

المذكورة بيان لموضوع - حكم متّفق عليه أو مختلف فيه - استفادوه كلاّ أم جلاّ من الأدلّة الشرعيّة، لا أنّه تفسير لمفهوم اللفظ لغة و لا عرفا و لا شرعا حتّى يلزم منه ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه، و إلاّ فمفهوم قولنا: «ماء جار» لغة و عرفا ليس إلاّ الماء السائل، و وصف الجاري صفة تقييديّة يحترز بها عمّا ليس بسائل فعلا، لا أنّه صفة توضيحيّة.

نعم هو حيثما يؤخذ اللفظ المذكور موضوعا للحكم المشار إليه أو في المسألة المختلف فيها يكون صفة توضيحيّة، لكن من جهة الفرض و الاعتبار، لا من جهة دخولها مع الموصوف في مفهوم اللفظ لغة أو عرفا.

و بالجملة: مفهوم اللفظ لغة أو عرفا شيء، و موضوع الحكم الشرعي شيء آخر، غاية الأمر أنّهما قد يتطابقان و قد يتفارقان، و غرضهم من التفاسير المذكورة الإشارة إلى الثاني فقط، و الأوّل يفارقه في غير النابع، فإنّه إذا سال ماء جار لغة و عرفا و إن لم يكن من موضوع الحكم الشرعي أو المسألة المذكورين في شيء، و الّذي يشهد بما ذكرناه من تغاير الأمرين وجوه:

الأوّل: خلوّ كلام أئمّة اللغة - فيما نعلم - عن تفسيره بما هو موضوع للحكم الشرعي، و اشتمال جملة من كلامهم على تفسيره بما يعمّ هذا المعنى كما عرفت عن مفتاح المعاني، و لا ينافيه ما عرفته عن المصباح، لأنّ تفسيره بالمتدافع إمّا تفسير له بما يرادف السائل أو بما يلزمه، نظرا إلى أنّ السيلان يستلزم كون بعض الأجزاء دافعا للبعض الآخر، و موجبا لانتقاله عن مكان إلى آخر.

و الثاني: ما عرفت في التفاسير المذكورة من التعبير في أكثرها بقولهم: «و المراد بالجاري»، «أو المراد به هنا»، فإنّ ذلك كالتصريح بأنّ هذا التفسير بيان لما هو المراد من اللفظ في خصوص المقام، و يزيده بيانا ما في كلام بعضهم من إخراج الجاري لا عن نبع عمّا هو المراد هنا بطريق الاستدلال، و لا ينافيه ما في بعض تلك التفاسير من بيان المعنى بطريق الحمل دون التعبير بلفظة «المراد»، لأنّ ذلك أيضا بقرينة ما في أكثرها ينزّل إلى بيان المراد بالخصوص، لا بيان مفهوم اللفظ بما هو هو، كما يفصح عن ذلك ما عرفت عن ثاني الشهيدين في كتابيه المسالك(1) و الروضة(2)، حيث إنّه في

ص: 412


1- مسالك الافهام 12:1.
2- الروضة البهيّة 252:1.

الأوّل عبّر باللفظ المذكور، و في الثاني ذكر المعنى بطريق الحمل.

و أقوى ممّا ذكر ما في الدروس من قوله: «ثالثها: الجاري نابعا»(1) بعد ما جعل أقسام الماء باعتبار مخالطة النجس له أربعة، و في شرح العبارة المذكورة للمحقّق الخوانساري: «احترز به عمّا إذا كان جاريا من غير نبع، فإنّ حكمه حكم الواقف اتّفاقا نعم القليل منه إذا كان منحدرا لا ينجّس ما فوقه»(2)، انتهى فإنّ ظاهر هذه العبارات كلّها أنّ وقوع لفظ «الجاري» على الماء ليس بحسب الوضع اللغوي، و لا العرفي العامّ، و لا أنّه حصل فيه للفقهاء اصطلاح خاصّ، و إلاّ لم يكن لما فيها من التقييدات و التصريح بالاحترازات وجه.

و الثالث: ما عن المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة من قوله: «و أمّا حقيقة الجاري، فقيل: إنّه النابع غير البئر، فكأنّه اصطلاح، و يفهم ممّا نقل عن الدروس اشتراط دوام النبع، و كذا ابن فهد و ليس هنا حقيقة شرعيّة بل و لا عرفيّة، و معلوم عدم إرادة اللغويّة، و يمكن استخراج المعنى المتقدّم. أمّا غير البئر فلانفرادها بالأحكام، و أمّا النابع مطلقا فلعدم القوّة في غير النابع، و للإجماع أيضا على اعتبار الكرّيّة في غير النابع بين القائلين بالتنجيس، و لوجود معنى الجري في النابع»(3) انتهى. و حينئذ فما في عبارة المسالك من قوله - بعد تفسيره المتقدّم - «و إطلاق الجريان عليه مطلقا تغليب أو حقيقة عرفيّة»(4) لا بدّ و أن يحمل على إرادة التغليب في لسان الفقهاء، حيث يعتبرون المعنى المذكور موضوعا في المسألة المتنازع فيها، و إرادة الحقيقة العرفيّة الخاصّة كما فهمه الأردبيلي.

و عليه فما ربّما يورد عليه من مخالفة ذلك للعرف و اللغة، و الاستدلال في ردّه بأنّ الجاري، لا يصدق إلاّ مع تحقّق الجريان ليس على ما ينبغي، فإنّ اعتبار الجريان فعلا في صدق الجاري لغة أو عرفا لا ينافي عدم كونه معتبرا فيما هو موضوع في المسألة الفقهيّة، بعد تبيّن أنّ العبرة فيه بالنبع فقط دون الجريان فعلا، غاية الأمر كون وقوع اللفظ عليه مجازا من باب التغليب لتحقّق الجريان في أكثر أفراد هذا الموضوع، أو

ص: 413


1- الدروس الشرعيّة 119:1.
2- مشارق الشموس: 205.
3- مجمع الفائدة و البرهان 250:1.
4- مسالك الأفهام 12:1.

اصطلاحا خاصّا، و لا مشاحّة فيه.

و ربّما يقال: بأنّ قولهم - في تطهير الجاري -: أنّه يطهّر بكثرة الماء الجاري عليه متدافعا حتّى يزول التغيّر، و ما في بعض الأخبار عن الماء الجاري يمرّ بالجيف و العذرة و الدم أ يتوضّأ منه؟ يشير إلى كون الجاري ما تحقّق فيه الجريان.

و فيه: ما لا يخفى على المتأمّل.

نعم، من يدّعي كفاية النبع مطلقا في موضوع المسألة عند الفقهاء، و عدم اعتبار الجريان الفعلي فيه، ينبغي أن يطالب بدليل ذلك.

فإذا ثبت أنّ مرجع التفاسير المتقدّمة إلى تحقيق موضوع المسألة. فلا بدّ من النظر في تحقيقه في كلماتهم، و أدلّتهم المقامة على امتياز الجاري عن سائر الأقسام بحسب الحكم في الجملة.

فنقول: لا إشكال و لا خلاف ظاهرا في أنّ النابع السائل على وجه الأرض من موضوع المسألة، كما أنّه لا إشكال و لا خلاف في أنّ ما ليس بنابع و لا سائل ليس من موضوع المسألة في شيء، و إنّما الكلام في اعتبار هذين الوصفين معا في هذا الموضوع، على وجه لو لا أحدهما لم يكن المورد منه، و الظاهر أنّه لا إشكال و لا خلاف أيضا في اعتبار الوصف الأوّل - أعني النبع - المفسّر في كلام أهل اللغة بخروج الماء من العين، و لذا ترى تفاسيرهم المتقدّمة متوافقة على اعتباره، مع استتباع بعضها بدعوى الاتّفاق على دخول غير النابع في أقسام الراكد، و إن حصل له وصف الجريان.

و ممّا يرشد إلى ذلك أيضا فرضهم مسألة اختلاف السطوح بالتسنيم أو الانحدار - الّذي لا يتأتّى إلاّ مع الجريان - في الكرّ الّذي هو من الراكد.

نعم، العمدة في المقام اعتبار الوصف الثاني و هو الجريان.

و يظهر الفائدة في العيون الصغار الغير السائلة، الّتي ينبع منها الماء إلى مرتبة فيقف عليها حتّى يؤخذ منه شيء، فإذا أخذ ينبع ثانيا إلى أن يصل المرتبة أيضا و هكذا، و قد اختلفت كلمة المتأخّرين في ذلك ففي صريح المسالك(1) و الذخيرة(2) و الحدائق(3) - على ما تقدّم - عدم اعتباره، و صرّح به الخوانساري في شرح الدروس أيضا قائلا:

ص: 414


1- مسالك الأفهام 12:1.
2- ذخيرة المعاد: 116.
3- الحدائق الناضرة 171:1.

«و اعلم، أنّه لا يشترط فيه الجريان، بل يكفي مجرّد النبع»(1)، و يمكن استفادته أيضا عن جملة من التفاسير المتقدّم ذكرها لما فيها من إطلاق النبع، و عن ظاهر المحقّق اعتباره، حيث حكم بعدم تطهير القليل بالنبع من تحته، تعليلا: «بأنّ النابع ينجّس بالملاقاة»(2)، و عن كاشف اللثام - للفاضل الهندي - أنّه جعله أوضح الاحتمالين(3) و هو المحكيّ عن المقنعة(4)، و التهذيب(5)، حيث حكما بانفعال القليل من الغدير النابع و تطهيره بالنزح، و هو صريح بعض من قاربناه عصرا، قائلا، «بأنّه يلحق بالبئر العيون الصغار الغير السائلة، و غير الصادق عليها اسم البئر، وفاقا للمقنعة و التهذيب و الفاضل الهندي في شرح القواعد، لعدم صدق الجريان في مائها شرعا و لغة و عرفا، فلا يشمله عبارات الأصحاب و لا ما ورد من الأخبار»(6).

و عن المحقّق البهبهاني: «أنّ النابع الراكد عند الفقهاء في حكم البئر»(7).

و يستفاد عن المحقّق المذكور - في عبارة محكيّة عن شرحه للمفاتيح اعتباره في صدق الاسم دون الحكم، بمعنى دخول العيون المشار إليها في حكم الجاري.

و خروجها عنه اسما، حيث قال: «المعتبر في الجاري و البئر هو الصدق العرفي - أي العرف العامّ - فمجرّد الجريان اللغوي لا ينفع في الجاري، حتّى يكون الجريان عن مادّة سواء كانت نبعا أو نزأ حاصلين عن حفر الآبار و خرق أسافلها، و دخل الماء من بئر إلى بئر إلى أن جرى على الأرض و هذا هو المسمّى بالقناة، أو كان البئر واحدة و ثقب أسفلها حتّى يجري ماؤها على الأرض، أو امتلأت ماء إلى أن جرى على الأرض، ففي جميع هذه الصور يكون الماء جاريا، و إن أطلق عليه ماء البئر أيضا، إلاّ أنّه ليس إطلاقا حقيقيّا باصطلاح العرف العامّ، و من الجاري العيون الّتي يجري منها الماء، و أمّا الّتي لا يجري أصلا و إن كان عن مادّة نبعا أو نزأ فحكمها حكم الجاري في عدم الانفعال ما لم يتغيّر، للأصل، و العمومات، و قوله عليه السّلام في البئر: «لأنّ له مادّة» و غير ذلك»(8) انتهى.

ص: 415


1- مشارق الشموس: 205.
2- المعتبر: 11.
3- كشف اللثام 254:1.
4- المقنعة: 66.
5- التهذيب 234:1.
6- لم نعرف قائله.
7- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 104:1.
8- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 518.

و أنت بعد ما أحطت خبرا بما قرّرناه آنفا، من أنّ مبنى إطلاق الجاري على النابع السائل ليس على الوضع اللغوي جزما، و لا العرفي و الشرعي، حيث لا شاهد بهما أصلا، بل إنّما هو لأجل كونه أحد أفراد مفهومه اللغوي، تعرف أنّ بعض الكلمات المذكورة ليس في محلّه، فالاستناد في نفي دخول ما فرض من العيون في اسم الجاري إلى عدم صدق الجريان و نحوه عليها ليس ممّا ينبغي، و الاعتراف بكونها في حكمه ممّا يشهد بما تقدّم من أنّ غرضهم في المقام ضبط موضوع الحكم لا شرح مفهوم اللفظ، فلا بدّ و أن يكون الجاري مرادا به حينئذ معنى يشمل الغير السائل أيضا، و معه لا معنى لنفي دخوله في المسمّى هنا، استنادا إلى ما يرجع إلى إحراز المسمّى اللغوي أو العرفي.

و العمدة في معرفة دخوله في موضوع الحكم ملاحظة الأدلّة المقامة على ذلك الحكم، و لا يبعد أن يقال: بعموم أكثر الأدلّة المقامة على عدم انفعاله على فرض سلامتها دلالة، خصوصا ما يأتي من رواية البئر المعلّلة بوجود المادّة، على تقدير رجوع التعليل إلى حكم عدم الإفساد لا الطهر بالنزح كما هو الأظهر، فإنّها على هذا التقدير تفيد قاعدة عامّة جارية في كلّ ذي مادّة و المقام منه، نظرا إلى أنّ عدم السيلان على وجه الأرض ينشأ عن تحتيّة المادّة لا عن فقدها أو ضعفها كما قد يتوهّم، و لو فرض شكّ في شمول ذلك الحكم له بملاحظة ما تقدّم من الخلاف الواقع فيه، و لم يظهر من الأدلّة شيء، كان المتعيّن إدخاله في عمومات انفعال القليل، المفيدة قاعدة عامّة تجري في المقام جزما لو خلّي و طبعها حسبما تقدّم في محلّه.

و هذا ضابط كلّي في المسألة يجب الرجوع إليه في كلّ ما يشكّ دخوله في الجاري الّذي هو موضوع المسألة، لأجل خلاف، أو ضعف نبع، أو يشكّ في وجود النبع و نحوه حين الملاقاة.

و من جملة ذلك ما يتعدّى محلّه خارجا من الأرض بطريق الرشح، و هو العرق يقال: «رشح جبينه إذا عرق» و لعلّه إلى إخراج مثل ذلك ينظر ما اعتبره الشهيد في الدروس(1) من دوام النبع في الجاري، نظرا إلى أنّ الماء في صورة الرشح يخرج شيئا فشيئا، و المعتبر في عدم الانفعال اتّصال الملاقي للنجاسة بالمادّة حين تحقّق الملاقاة،

ص: 416


1- الدروس الشرعيّة 119:1.

و لا ريب أنّ الاتّصال ممّا لا يعلم به مع الخروج رشحا، و إنّما اعتبرنا العلم هنا مع أنّ الحكم بالطهارة يكفي فيه عدم العلم بتحقّق سبب النجاسة، و المقام منه، لأنّ المقتضي للنجاسة هنا موجود و هو عموم القاعدة، فلا بدّ في الخروج عنها من مخرج علميّ و لو شرعا.

لكن يرد على الشهيد في اعتباره الشرط المذكور - بناء على هذا التوجيه -: أنّ ذلك إنّما يستقيم لو كان الحكم بعدم انفعال الجاري معلّقا عند الأصحاب بوجود المادّة، و هو غير ظاهر من أكثرهم، بل أكثر أدلّتهم خلو عن اعتباره.

نعم لو استند في ذلك إلى الرواية المشار إليها، المعلّلة بوجود المادّة كان الاشتراط متّجها. لكن يشكل ذلك: بأنّ الاستناد إليها غير معلوم من جميعهم إلاّ أن يقال: بأنّها مستند الحكم عنده، فاعتبر الشرط المذكور جريا على مقتضى دليله، فلا إيراد عليه بعد تسليم هذا الدليل منه، و نقل اعتبار ذلك أيضا عن ابن فهد في موجزه(1) و عن التنقيح:

«أنّه استحسن ذلك الشرط»(2).

و ذكر في معناه وجوه:

منها: ما ذكرناه، و هو أظهرها، وفاقا للمحكيّ عن بعض محشّي الروضة، و المحقّق الثاني(3) و صاحب المعالم(4) حيث استحسنه.

و أمّا ما أورد عليه: بأنّه غير مفيد، إذ مجرّد عدم ظهور المادّة لا يكفي في الحكم بالانفعال، بل التحقيق في صورة الشكّ في وجود المادّة الحكم بعدم الانفعال للأصل، بل و كذلك مع ظنّ العدم للاستصحاب، و إن انحصر الدليل على عدم اشتراط الكرّيّة في الخبر المشار إليه، و هو كما ترى و كأنّه غفلة عمّا قرّرناه من وجود المقتضي للانفعال، لو لا الدليل المخرج.

و منها: ما عن روض الجنان(5) التصريح به من، أنّ المراد بدوام النبع عدم الانقطاع في أثناء الزمان، ككثير من المياه الّتي تخرج زمن الشتاء و تجفّ في الصيف.

ص: 417


1- الموجز الحاوى (سلسلة الينابيع الفقهيّة 411:26).
2- التنقيح الرائع 38:1.
3- حكى عنه في فقه المعالم عن بعض فوائده 302:1.
4- فقه المعالم 302:1.
5- روض الجنان: 135 - حكاه أيضا في مشارق الشموس عن بعضهم: 206 - و أيضا في فقه المعالم 301:1.

ففيه: ما لا يخفى، فإنّ الحكم إذا كان معلّقا بوصف النبع فهو ما لم يتحقّق الانقطاع موجود، فينبغي أن يتحقّق معه الحكم، و لا يعقل مدخليّة لانقطاعه في بعض الأزمنة في ذلك، و لذا يقال: بأنّ القول بالانفعال مع انتفاء الشرط بالمعنى المذكور يوجب تخصيص عموم الأدلّة بمجرّد التشهّي، و من هنا صحّ القول بأنّ ذلك ممّا لا ينبغي نسبته إلى مثل الشهيد، بل من هو دونه بمراتب.

و ربّما يورد عليه: بأنّ الدوام بالمعنى المذكور إن اريد به ما يعمّ الزمان كلّه، فلا ريب في بطلانه إذ لا سبيل إلى العلم به، و إن خصّ ببعضه فهو مجرّد تحكّم، و فيه نظر.

و منها: أن يكون المراد به ما يحترز به عن بعض العيون أو الآبار الّتي لها نبع و لا يجري ماؤها على الأرض، مع عدم دخولها في اسم البئر، و إنّما يعلم النبع بأخذ شيء من الماء، فإنّه حينئذ يأخذ بالنبع إلى أن يبلغ الحدّ الأوّل، و هذا أضعف من سابقه، فإنّ الحكم بعدم الانفعال إن كان مستفادا من الأصل أو الروايات غير رواية البئر المعلّلة بما سبق فلا ريب أنّهما ساكتان عن اعتبار أصل النبع فضلا عن دوامه، و إن كان مستفادا عن الرواية المشار إليها فأقصاها الدلالة على اعتبار وجود المادّة و الاتّصال بها، و عدم تعدّي الماء لا يقدح في شيء منهما، كما لا يخفى.

و في الحدائق عن بعض الفقهاء المحدّثين من متأخّري المتأخّرين: أنّ النابع على وجوه:

أحدها: أن ينبع الماء حتّى يبلغ حدّا معيّنا، ثمّ يقف و لا ينبع ثانيا إلاّ بعد إخراج بعض الماء.

و ثانيها: أن لا ينبع ثانيا إلاّ بعد حفر جديد، كما هو المشاهد في بعض الأراضي.

و ثالثها: أن ينبع الماء و لا يقف على حدّ كما في العيون الجارية، قال: «و شمول الأخبار المستفاد منها حكم الجاري للوجه الثاني غير واضح، فيبقى تحت ما يدلّ على اعتبار الكرّيّة، و كأنّ مراد شيخنا الشهيد رحمه اللّه ما ذكرناه»(1) انتهى.

و يرد عليه: أنّ وقوف نبعه ثانيا على حفر جديد لا يخرج النابع أوّلا عن كونه نابعا، و الحكم معلّق عليه، إلاّ أن يقال: إنّ النبع إنّما يناط به الحكم في موضع اتّصال

ص: 418


1- الحدائق الناضرة 196:1.

النابع بالمادّة لا مطلقا، و لا ريب أنّ افتقار النبع ثانيا إلى الحفر الجديد ممّا يكشف عن انقطاع ما نبع أوّلا عن المادّة.

و يبقى من المواضع المشكوك فيها «الثمد» بالفتح و السكون، بل هو ممّا لا ينبغي الشكّ في عدم اندراجه تحت الجاري اسما و حكما، سواء فسّرناه بما عن منقول الأساس - عن الأصمعي - من أنّه: «ماء المطر الّذي يبقى محقونا تحت الرمل، فإذا انكشف عنه الأرض»(1) و حاصله: ما يختفي تحت الرمل من ماء المطر، أو بما في مفتاح المعاني(2) و القاموس(3) و المجمع(4) من: «أنّه الماء القليل لا مادّة له» أو «ما يبقى في الأرض الجلد» و هي الأرض الصلبة المستوية المتن، نعم إن فسّرناه بما يظهر في الشتاء و يذهب في الصيف - كما هو أحد الثلاث المذكورة في الكتب المشار إليها - كان ممّا تقدّم بيان كونه مرادا للشهيد فيما اعتبره من الشرط المتقدّم، و قد ظهر بملاحظة ما ذكر أنّ القدر المتيقّن ممّا هو مراد المشهور إنّما هو السائل عن نبع، و هذا أو ما هو أعمّ منه هو الّذي اختلف الأصحاب في انفعال قليله،

و اشتراط الكرّيّة في عدم انفعاله و عدمه على قولين:

الأوّل: ما هو المشهور جدّا محقّقا و محكيّا من أنّه لا يشترط فيه الكرّيّة، فلا ينفعل قليله بالنجاسة إلاّ إذا تغيّر،

و عزى إلى صريح المبسوط(5)، و الغنية(6)، و شرح الجمل(7)، للقاضي، و الدروس(8)، و الذكرى(9)، و حاشية الشرائع(10)، و الإرشاد(11)، و الجعفريّة(12)، و الكفاية(13)، و المصابيح(14)، و ظاهر إطلاق المقنعة(15)،

ص: 419


1- أساس البلاغة؛ مادّة «ثمد»: 76.
2- مفتاح المعاني؛ مادّة «ثمد».
3- القاموس المحيط؛ مادة «ثمد» 280:1.
4- مجمع البحرين؛ مادّة «ثمد» 20:3.
5- المبسوط 5:1.
6- غنية النزوع: 46.
7- شرح الجمل و العلم - للقاضي ابن البرّاج -: 56.
8- الدروس 119:1.
9- ذكرى الشيعة 79:1.
10- حاشية الشرائع - للمحقّق الكركي - (مخطوط) الورقة: 3.
11- حاشية الإرشاد - للمحقّق الكركي - (محفوظ) الورقة: 3.
12- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 83:1).
13- كفاية الأحكام: 9.
14- المصابيح في الفقه - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 55.
15- المقنعة: 74.

و الخلاف(1)، و الجمل و العقود(2)، و النهاية(3)، و المراسم(4)، و الوسيلة(5) و السرائر(6)، و الإشارة(7)، و النافع(8)، و الشرائع(9)، و المعتبر(10)، و التبصرة(11)، و الإرشاد(12)، و الجامع(13)، و اللمعة(14)، و البيان(15)، و محكيّ أبي الصلاح(16)، و السيوري(17)، و ابن فهد(18)، و المحقّق الكركي(19)، و ولده(20)، و الشيخ البهائي(21)، و المجمع(20)، و المدارك(21)، و المعالم(22)، بل عن المعتبر، «و لا ينجّس الجاري بالملاقاة، و هو مذهب فقهائنا أجمع، إلى أن قال بعد ذلك:

«و لا الكثير الراكد»(23)، فعلم أنّه لا فرق بين قليل الجاري و كثيره، و عن شرح الجمل لابن البرّاج: نقل الإجماع على عدم نجاسة الجاري، مع التصريح فيه بعدم الفرق بين القليل و الكثير(24)، و نحوه عن الغنية(25)، و عن ظاهر الخلاف(26) نقله، و مثله عن حواشي التحرير(29) للمحقّق الثاني، و مثله عن مصابيح العلاّمة الطباطبائي(30)، و عن الذكرى: «إنّي لم أقف فيه على مخالف ممّن سلف»(27)، أي ممّن تقدّم على العلاّمة، و عن جامع المقاصد: أنّه نسب رأي العلاّمة إلى مخالفة مذهب الأصحاب(28).

و الثاني: ما عن العلاّمة في صريح نهاية الإحكام(29)، و ظاهر القواعد(30) من اشتراط الكرّيّة و انفعال قليله، و عن ثاني الشهيدين في المسالك(31) إنّه اختاره صريحا،

ص: 420


1- الخلاف 195:1 - المسألة 152.
2- الجمل و العقود: 54.
3- النهاية و نكتها 200:1.
4- المراسم العلويّة: 37.
5- الوسيلة: 67.
6- السرائر 62:1.
7- إشارة السبق: 81.
8- المختصر النافع: 41.
9- شرائع الإسلام 12:1.
10- المعتبر: 9.
11- تبصرة المتعلّمين: 23.
12- إرشاد الأذهان 235:1.
13- الجامع للشرائع: 20.
14- اللمعة الدمشقيّة 31:1.
15- البيان: 98.
16- الكافي في الفقه - لأبي الصلاح الحلبي - (سلسلة الينابيع الفقهيّة 182:1).
17- التنقيح الرائع 38:1.
18- الموجز الحاوي (لسلسلة الينابيع الفقهيّة 411:26).
19- جامع المقاصد 111:1. (20 و 21 و 29 و 30) حكى عنه السيد مهدي بحر العلوم في مصابيحه، راجع المصابيح في الفقه - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 55.
20- مجمع الفائدة و البرهان 252:1.
21- مدارك الأحكام 30:1.
22- فقه المعالم 298:1.
23- المعتبر: 9.
24- شرح الجمل و العلم: - للقاضي ابن برّاج - 56.
25- غنية النزوع: 46.
26- الخلاف 195:1 المسألة 152.
27- ذكرى الشيعة 79:1.
28- جامع المقاصد 111:1.
29- نهاية الإحكام 229:1.
30- قواعد الأحكام 182:1.
31- مسالك الافهام 12:1.

و يظهر منه الميل إليه في الروضة(1)؛ قيل: و كذلك أيضا في روض الجنان(2)، و عن ولده صاحب المعالم: «أنّه ذهب إليه في جملة من كتبه، إلاّ أنّ الّذي استقرّ عليه رأيه بعد ذلك هو المذهب المشهور»(3) و عنه في الروض(4) عن جماعة من المتأخّرين.

احتجّ الأوّلون بوجوه: [أي لا يشترط فيه الكرية فلا ينفعل قليله بالنجاسة إلا إذا تغير]
أحدها: الأصل،

تمسّك به غير واحد من الأساطين.

و يرد عليه: أنّه إن اريد به القاعدة الكلّيّة المستفادة عن عمومات الأدلّة كتابا و سنّة، فهي و إن كانت مسلّمة، غير أنّها لا ربط لها بالمقام، لأنّ الكلام في قبول الجاري للانفعال بالعارض و عدمه، و القاعدة إنّما تقتضي طهارته في أصله و خلقته الأصليّة، فهي في الحقيقة ساكتة عمّا نحن بصدده نفيا و إثباتا.

و منه يعلم ضعف ما في كلام جملة منهم من الاحتجاج بالعمومات، و أضعف منه ما في كلام بعضهم من الاحتجاج بالخبر المستفيض «كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر»(5)فإنّه على ما قرّرناه سابقا عامّ في مورده و هو الشبهة في الموضوع، و المقام ليس منه، على أنّ العلم بالقذارة أعمّ من الشرعي، و هو قائم في المقام، بناء على عموم قاعدة انفعال القليل كما هو التحقيق؛ فلا بدّ في الخروج عنه من مخصّص و العامّ لا يصلح له، بل هو ممّا ينبغي تخصيصه بالقاعدة، و من هنا ظهر جواب آخر عن العمومات و الأصل بالمعنى المفروض، لو قلنا فيهما بالدلالة على عدم قبول الانفعال بالعارض عموما.

و إن اريد به قاعدة الطهارة أيضا و لكن بالمعنى الّذي قرّره صاحب المدارك.(6) من أنّ الأشياء كلّها على الطهارة إلاّ ما نصّ الشارع على نجاسته لأنّها مخلوقة لمنافع العباد، و لا يتمّ النفع إلاّ بطهارتها. ففيه:

أوّلا: منع منافاته أيضا لما نحن بصدده، إذ غاية ما فيه كون خلقة الأشياء على الطهارة، و هو لا ينافي عروض النجاسة من جهة الطوارئ.

ص: 421


1- الروضة البهيّة 252:1.
2- روض الجنان: 134.
3- فقه المعالم 298:1 نقلا بالمعنى.
4- روض الجنان: 135.
5- الوسائل 134:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5 - و فيه: «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر».
6- مدارك الأحكام 30:1.

و ثانيا: منع بقائه على عمومه، بعد ملاحظة خصوص ما ورد في قليل الماء المتناول للجاري أيضا.

و ثالثا: منع ذلك الأصل رأسا، بمنع الملازمة و منع بطلان اللازم أمّا الأوّل: فلأنّ منافع العباد ملحوظة في الخلقة من باب الحكمة، فلا يجب فيها الاطّراد. و أمّا الثاني:

فلعدم انحصار جهة الانتفاع في مشروط بالطهارة، كما هو الحال في خلقة الأعيان النجسة.

و إن اريد به استصحاب الحالة السابقة، فهو إنّما يستقيم لو لا القاطع و الرافع لموضوعه، و في دليل الخصم - على ما سيجيء من عموم قاعدة الانفعال و لو استندت إلى المفهوم - كفاية في ذلك؛ فلا بدّ في دفعه من قاطع آخر حاكم عليه، و الأصل لا يصلح له، و بذلك يظهر عدم صحّة الاستناد إليه لو اريد به أصالة البراءة، كما اعتمد عليها المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك، تعليلا: «بأنّ النجاسة تكليف بالتجنّب»(1).

و ثانيها: ما حكى الاحتجاج به عن المحقّق ، و العلاّمة ، من أنّ النجاسة لا تستقرّ مع الجريان.

و ثانيها: ما حكى الاحتجاج به عن المحقّق(2)، و العلاّمة(3)، من أنّ النجاسة لا تستقرّ مع الجريان. و فيه أوّلا: منقوض بالجاري لا عن نبع.

و ثانيا: أنّ عدم استقرار النجاسة إن اريد به عدم استقرار عينها، فاعتبار استقرارها مع إمكان استقرار أثرها في الأجزاء المتواصلة من جهة السراية من جزء إلى جزء - و لو لاحقا - ممنوع، ما لم يدخل الأجزاء اللاحقة في عنوان المستعلي، و إن اريد به عدم استقرار أثرها فهو أوّل الدعوى.

و ثالثها: عدّة روايات عامّة

منها: النبوي - المتكرّر ذكره سابقا -: «خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء، إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(4).

و منها: صحيحة حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب، فإن تغيّر الماء و تغيّر الطعم، فلا تتوضّأ و لا تشرب»(5).

ص: 422


1- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 46:1.
2- المعتبر: 9.
3- منتهى المطلب 28:1.
4- سنن البيهقي 259:1، سنن الدارقطني 28:1 - و رواها أيضا في المعتبر: 8.
5- التهذيب 216:1 ح 625 - الاستبصار 12:1 ح 19.

و منها: حسنة محمّد بن ميسّر قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، و يريد أن يغتسل منه، و ليس معه إناء يغترف به، و يداه قذرتان؟ قال: يضع يده و يتوضّأ، و يغتسل، هذا ممّا قال اللّه عزّ و جلّ: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1)-(2). وجه الاستدلال بها: أنّ الأوّلين يدلاّن بظاهرهما على انحصار سبب عروض النجاسة في التغيّر، كما أنّ الأخير يدلّ بإطلاقه على عدم انفعال الماء القليل بقذارة اليد، سواء حملنا القلّة على المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء، أو على ما يعمّ الكثير المصطلح، غاية الأمر أنّه خرج منها القليل الراكد بالدليل و بقي الباقي، و منه محلّ البحث.

و فيه: أنّ الدليل الّذي أوجب خروج الراكد توجب خروج الجاري، و دعوى:

الاختصاص، لا وجه لها بعد ملاحظة عموم المفهوم في روايات انفعال القليل.

و رابعها: خصوص صحيحة إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه السّلام «قال: ماء البئر واسع لا يفسده شيء، إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه،

فينزح حتّى يذهب الريح و يطيب طعمه، لأنّ له مادّة»(3)، بتقريب: أنّه جعل العلّة في عدم فساده بدون التغيّر و طهارته بزواله وجود المادّة، و العلّة المنصوصة حجّة.

و اعترض عليه تارة: بما عن المحقّق الخراساني(4)، - و تبعه على ذلك صاحب الحدائق - من أنّ التحقيق في العلّة المنصوصة، أنّ الحكم يتعدّى إلى كلّ موضع يوجد فيه العلّة، إذا شهدت الحال و القرائن على أنّ خصوص متعلّقها الأوّل لا مدخل له في الحكم لا مطلقا، و إثبات الشهادة المذكورة هاهنا لا يخلو عن إشكال.

و اخرى: بمنع وجود المادّة في الجاري مطلقا، إذ المادّة كما هو الظاهر لا بدّ أن يكون كرّا مجتمعا، و وجود مثلها في كلّ جار غير معلوم، إذ يجوز أن يكون نبعه بطريق الرشح من عروق الأرض، سلّمنا عدم اعتبار الاجتماع، لكن وجود الكرّ أيضا متّصلا غير معلوم، لجواز أن يحصل في بعض العيون الماء بقدر ما يخرج تدريجا في الأرض، إمّا بانقلاب الهواء كما هو رأي الحكماء، أو بإيجاد اللّه تعالى إيّاه من غير مادّة، أو بذوبان

ص: 423


1- الحجّ: 13.
2- الوسائل 152:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5 - الكافي 2/4:3.
3- الوسائل 127:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 672/234:1.
4- ذخيرة المعاد: 117.

الثلج و نفوذه شيئا فشيئا، و البعض الّذي يبعد فيه هذه الاحتمالات لا ينفكّ عن الكثرة.

و الأوّل: واضح الدفع بعد ملاحظة بناء العرف، فإنّ الأصل العرفي في التعليلات الواردة في الكلام عدم مدخليّة الخصوصيّة في انعقاد الحكم، نظرا إلى ظهور كلمة «أنّ» و ما يؤدّي مؤدّاها في نظائر المقام في كون ما بعدها ممّا اعتبره المتكلّم وسطا لما أفاده من الحكم، فيكون في قوّة كبرى كلّيّة، فلا يضرّ فيها حينئذ خصوصيّة المتعلّق الأوّل، لرجوعه موضوعا في صغرى القياس، و الصغرى لا بدّ فيها من خصوصيّة موضوعها، فالمراد بشهادة الحال المعتبرة في المقام إن كان هذا المعنى فهي قائمة في المقام جدّا، و إن كان ما زاد عليه فغير معتبرة جزما.

و أمّا الثاني فيدفعه: أنّ كلام القوم و محطّ الاستدلال بالرواية مفروضان فيما علم بوجود المادّة فعلا، و إطلاق ورودها في كلام الإمام عليه السّلام يأبى عن اعتبار الكرّيّة و الاجتماع معها، و دعوى الظهور في ذلك ممّا لا شاهد عليه، و القضيّة إنّما اعتبرت فرضيّة، فعدم انفكاك الكرّيّة عمّا علم فيه بوجود المادّة - مع بطلان دعواه في نفسه - غير قادح في انعقاد الحكم الّذي يرد على المفهوم دون المصداق، ففرض الترشّح أو انقلاب الماء من الهواء، و كون حصوله من إيجاد اللّه سبحانه، غير قادح فيما هو من موضوع الحكم، لكون كلّ ذلك من الصور المشكوكة الّتي يرجع فيها إلى الأصل الأوّلي - كما عليه غير واحد هنا - أو قاعدة انفعال القليل، كما هو من مقتضى التحقيق و النظير في خصوص المقام أيضا - بناء على ما تقدّم الإشارة إليه - فدفع الاستدلال بالرواية بأمثال هذه الامور، ليس على ما ينبغي.

نعم، إن كان و لا بدّ من ذلك فليعترض عليه: بمنع رجوع التعليل إلى الحكم الأوّل، و هو عدم فساد ماء البئر بشيء، و دعوى: ظهوره في ذلك ممنوعة جدّا، و إن كان المقصود أصالة من الحديث بيان سعة ماء البئر و عدم فساده بغير التغيّر، بل ظاهره كونه راجعا إلى الحكم بزوال التغيّر بالنزح، و قد تنبّه عليه احتمالا شيخنا البهائي رحمه اللّه - فيما حكي عنه - قائلا في الحبل المتين - عند بيان الاستدلال -: «و فيه نظر، لاحتمال أن يكون قوله عليه السّلام: «لأنّ له مادّة» تعليلا لترتّب ذهاب الريح و طيب الطعم على النزح، كما يقال: لازم غريمك حتّى يعطيك حقّك، لأنّه يكره ملازمتك»(1).

ص: 424


1- الحبل المتين: 389.

و المناقشة فيه: بأنّ تعليل زوال التغيّر بوجود المادّة مع خفائه و انتفاء الحاجة إليه - لكون التغيّر من الامور المحسوسة الظاهرة - ليس من الوظائف الشرعيّة المطلوب بيانها من كلام الأئمّة، فلا يحمل الحديث عليه - كما عن السيّد الطباطبائي في مصابيحه(1) - و قريب منه ما في الحدائق(2) و غيره.

يدفعها: أنّ ذلك ممّا لا غرابة فيه، بل هو بنفسه احتمال ظاهر لا خفاء فيه، بعد ملاحظة أنّ الإمام عليه السّلام حين ما ادّعى الملازمة بين النزح و زوال التغيّر استفاد من الراوي استبعادا في تلك الملازمة، فأتى بالعلّة المذكورة رفعا لذلك و تحقيقا لتلك الملازمة، أو دفعا لما عساه يتأمّل بعد ذلك فيها، و لا ريب أنّ ذلك ممّا لا ينافي وظيفة الإمامة بعد ما حصل له المقتضي، و إنّما لا يحمل كلام الأئمّة على نظائر هذه الامور إذا لم يقم عليه مقتض، كما أنّ المقام كان من مظانّ الاستبعاد و التأمّل المذكورين، بملاحظة طروّ عدم الالتفات إلى تجدّد الماء من المادّة عقيب نزح المتغيّر منه شيئا فشيئا، فينشأ منه مقايسة ذلك على ماء الحوض أو البئر الغير النابع، أو الغدير أو غيره المتغيّر بالنجاسة أو غيرها، حيث إنّه لا يخرج عن كونه متغيّرا بالنزح بالضرورة و العيان، بل هو كلّما نزح كان الباقي منه على تغيّره إلى أن لا يبقى منه شيء، كما لا يخفى، و التعليل ورد لبيان أنّ ماء البئر ليس من هذا الباب، بل النزح فيه يوجب زوال التغيّر من جهة وجود المادّة، الموجبة لتجدّد جزء من الماء الغير المتغيّر مكان ما نزح من المتغيّر، و هكذا إلى ما لا يبقى معه من المتغيّر شيء، أو يستهلك في جنب المتجدّد إن بقي منه شيء، فالمراد بذهاب الريح و طيب الطعم حقيقة إنّما هو فراغ البئر عن المتغيّر لا زوال مجرّد الوصف مع بقاء العين، فإنّه غير معقول مع تحقّق النزح.

و قد يوجّه الاستدلال على نحو يستلزم المطلوب، فيقال: إنّ قوله: «لأنّ له مادّة» علّة لأصل الحكم، و هو عدم فساد الماء بدون التغيّر، أو له و لطهره بزواله المفهوم من قوله: «فينزح حتّى يذهب الريح»، أو للأخير خاصّة على بعد، و على التقادير فالحكم المعلّل بالمادّة يطّرد بوجودها في غير مورد التعليل، لأنّ العلّة المنصوصة حجّة كما

ص: 425


1- المصابيح في الفقه - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 56.
2- الحدائق الناضرة 189:1.

تقرّر في محلّه - فيجري في الجاري لوجودها فيه، و مقتضى التعليل على الأوّلين نفس المدّعى، و هو عدم انفعال الجاري بدون التغيّر، و على الثالث ما يستلزمه، لأنّ زوال النجاسة بواسطة المادّة يستلزم العصمة عن الانفعال بها، لكون الدفع أهون من الرفع، و هذا محكيّ عن مصابيح السيّد الطباطبائي(1)، و في كلام جماعة ما يقرب من ذلك.

و الجواب عنه: منع اقتضاء مجرّد زوال التغيّر بالنزح - المعلّل بوجود المادّة - حصول الطهر، لجواز كون المطهّر هو مع شيء آخر من إلقاء كرّ و نحوه، و قد علم به الراوي من الخارج فلم يبيّنه الإمام عليه السّلام، و إنّما بيّن له طريق إزالة التغيّر، فتأمّل. مع إمكان أن يقال: بورود التعليل مورد الغالب في الآبار من بلوغ مائها كرّا بل كرورا، كما يومئ إليه قوله عليه السّلام:

«ماء البئر واسع» بناء على أنّه كناية عن كثرة الماء، أو مراد به اتّساعه بحسب المقدار، و الطهر المستفاد منها لعلّه من جهة أنّ الكرّ يطهّر بمجرّد زوال تغيّره كما هو أحد القولين في المسألة، فحينئذ لو استلزم ذلك عصمته عن الانفعال بها من غير تغيّر فإنّما يستلزمه لكونه كرّا لا لكونه ذا مادّة، و المادّة إنّما اعتبرت على الاحتمال الأخير معدّة لزوال التغيّر الّذي هو المطهّر، أو سببا لتحقّق نزح المتغيّر مع اشتمال المحلّ على الماء بعد تفريغ المتغيّر عنه، مع إمكان أن يكون وجود المادّة إنّما اعتبر جزءا لسبب التطهير، المركّب منه و من النزح المزيل للتغيّر، أو المجموع منه و من زوال التغيّر، و لا يلزم منه كونه علّة تامّة للعصمة عن الانفعال كما لا يخفى، فدعوى: كون الدفع أهون من الرفع - مع كونها رأسا محلّ تأمّل - ممّا لا يجدي نفعا هنا، لكون الرافع شيئا لا يوجد في صورة الدفع.

نعم، لو وجّه الاستدلال بما قد يقال أيضا: من أنّ التعليل إن رجع إلى الحكم الأوّل فيدلّ على عدم انفعال كلّ ذي مادّة بما عدا التغيّر، و إن رجع إلى الحكم الثاني فيدلّ على أنّ كلّ ذي مادّة متغيّرة يرتفع نجاسته بزوال تغيّره بتجدّد الماء عليه من المادّة بل مطلق الزوال، و هذا ممّا لا يجتمع مع انفعال قليله بالملاقاة، كان أوجه ممّا ذكر.

و لكن يدفعه أيضا: منع المنافاة بين الحكمين، بجواز قبول قليله الانفعال و كون ما ذكر طريقا إلى تطهيره، كما عليه مبنى القول بانفعال ماء البئر، غاية الأمر أنّ النزح على تقدير عدم التغيّر لا يعلّق بزوال التغيّر، بل له حينئذ حدّ مقرّر في الشريعة، و المفروض أنّ

ص: 426


1- المصابيح في الفقه - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 56.

أحكام الشرع لا تقاس بالعقول القاصرة، و إلاّ كان اللازم عدم طهر المتنجّس بالغسل بناء على نجاسة الغسالة كما هو التحقيق، إلاّ أن يقال: إنّ طهر المتغيّر بمجرّد زوال التغيّر، أو به مع ضميمة النزح، أو بهما مع ضميمة وجود المادّة، لا يجتمع مع قبول الغير المتغيّر منه المتجدّد من المادّة للانفعال بمجرّد الملاقاة، بعد ملاحظة أنّ الملاقاة الموجبة للانفعال أعمّ من ملاقاة النجاسة و ملاقاة المتنجّس، فإنّ المتجدّد من المادّة حين زوال التغيّر ملاق للماء و هو متنجّس، و المفروض أنّه ليس له قوّة عاصمة عن الانفعال، فإمّا أن يقال: بطهر الجميع بالزوال، أو يقال: بعدم طهر شيء منها، أو يقال: بطهر المتغيّر دون غيره، و الثاني بموجب الرواية، و كذلك الثالث لاستحالة اختلاف الماء الواحد في سطح واحد في وصفي الطهارة و النجاسة، فتعيّن الأوّل. فإذا كان المتجدّد عن المادّة محلاّ لحدوث الطهر فيه بزوال تغيّر غيره، فلأن يكون محلاّ لبقاء طهره عند انتفاء التغيّر رأسا، و قضيّة ذلك: عدم انفعاله رأسا حتّى بملاقاته المتغيّر، و ليس ذلك إلاّ من جهة أنّ له قوّة عاصمة و ليست إلاّ المادّة، و لا يخفى أنّ الاستدلال بهذا الوجه تمام لو لا رجوعه إلى استنباط العلّة، فليتأمّل.

و خامسها: الروايات النافية للبأس عن البول في الماء الجاري،

كرواية سماعة قال:

«سألته عن الماء الجاري يبال فيه؟ قال: لا بأس به»(1)، و رواية ابن بكير عن أبي عبد اللّه قال: «لا بأس بالبول في الماء الجاري»(2) و رواية الفضيل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري، و كره أن يبول في الماء الراكد»(3)و رواية عنبسة بن مصعب، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يبول في الماء الجاري؟ قال: لا بأس به إذا كان الماء جاريا»(4).

و ردّ الاستدلال بها: بأنّها واردة في حكم البول في الماء، لا في حكم الماء بعد البول، فلا يستفاد منها إلاّ حكم تكليفي و هو جواز البول في الجاري، و هو ليس ممّا نحن فيه و لا مستلزما له، حيث لا منافاة بين إباحة ذلك الفعل و انفعال الماء به.

و قد يفصّل فيها بجعل الرواية الاولى من أدلّة المقام، لظهورها في السؤال عن الماء

ص: 427


1- الوسائل 143:1 ب 5 أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 89/34:1.
2- الوسائل 143:1 ب 5 من أبواب الماء المطلق ح 3 و 2 - التهذيب 122/43:1 و 120.
3- الوسائل 143:1 ب 5 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 81/31:1-121/43.
4- الوسائل 143:1 ب 5 من أبواب الماء المطلق ح 3 و 2 - التهذيب 122/43:1 و 120.

لا البول، دون الباقية لظهورها في السؤال عن البول في الماء دون الماء نفسه.

أقول: الإنصاف ورود هذه الروايات في سياق واحد، و إن قدّم في بعضها البول و في البعض الآخر الماء، و الّذي يظهر - و اللّه أعلم - أنّ الغرض بالسؤال فيها استعلام الحكم التكليفي حتّى فيما قدّم فيه ذكر الماء، و لو سلّم عدم الظهور فيها بالخصوص، فلا نسلّم ظهورها في خلاف ما ذكر، لأنّ ظهور البواقي فيما ذكر يوجب فيها عدم ظهور في خلافه، كما أنّ تقديم ذكر الماء فيها يوجب عدم ظهورها فيما ذكر، فهو في الحقيقة مجمل من جهة العارض.

و ربّما يحكي الاستدلال فيما هو من قبيل هذه الروايات بصحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة في بحث الغسالة - الواردة في الثوب الّذي يصيبه البول، المشتملة على قوله عليه السّلام:

«و إن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة»(1) و هو أضعف من سابقه، لابتنائه على عدم نجاسة الغسالة، أو المنافاة بين طهر المحلّ و نجاسة ما يغسل به.

و سادسها: ما ورد في الروايات من تشبيه ماء الحمّام بالجاري،

كصحيحة داود بن سرحان «قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ما تقول في ماء الحمّام؟ قال: هو بمنزلة ماء الجاري»(2) و مرسلة الكافي عن ابن جمهور، عن محمّد بن القاسم، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: أخبرني عن ماء الحمّام، يغتسل منه الجنب، و الصبي و اليهودي و النصراني، و المجوسي؟ فقال: إنّ ماء الحمّام كماء النهر، يطهّر بعضه بعضا»(3)بتقريب: أنّه لو كان الجاري يشترط فيه الكرّيّة لم يكن للتشبيه به وجه من جهة الطهارة.

و الأولى أن يقال - في تقريب الاستدلال -: إنّ التشبيه و ما هو بمنزلته ممّا يقتضي في نظر العرف و العادة - بل العقل - أيضا أمرين:

أحدهما: امتياز المشبّه به - الّذي هو الجاري هنا - عمّا عداه في وصف أو حكم ملحوظ للمتكلّم منبعث منه التشبيه.

و ثانيهما: مشاركة المشبّه - الّذي هو هنا ماء الحمّام - له في ذلك الوصف أو الحكم المقصود إفادتها من التشبيه، و امتياز الجاري عمّا عداه من المياه إمّا في طهارته

ص: 428


1- الوسائل 397:3 ب 2 من أبواب النجاسات ح 1 - التهذيب 717/250:1.
2- الوسائل 148:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 1170/378:1.
3- الوسائل 150:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 7 - الكافي 1/14:3.

الأصليّة، و هو باطل لعدم اختصاص ذلك به، أو في اشتراطه بالكرّيّة في عدم انفعاله و هو أيضا باطل للعلّة المذكورة، أو في قبوله الانفعال بالتغيّر و هو أيضا باطل لعين ما ذكر، أو في طهر متغيّرة بمجرّد زوال تغيّره، أو في عدم قبول قليله الانفعال، و الأوّل خلاف ما يظهر من السياق جدّا، فتعيّن الأخير و هو المطلوب.

و أمّا ما يقال في دفعها: من أنّها بناء على اشتراط بلوغ المادّة المعتبرة في ماء الحمّام، - و لو بضميمتها في الحياض - كرّا أدلّ على خلاف المطلب، لقضاء التنزيل بتساوي الأمرين في الحكم، ففيه: أنّ ذلك إنّما يتّجه على تقدير استفادة الاشتراط المذكور من تلك الرواية، و هو مبنيّ على تنزيل التنزيل الوارد فيها إلى الثاني من الاحتمالات المذكورة و قد عرفت بطلانه.

و أمّا إذا ثبت الاشتراط من جهة الخارج فتشبيهه بالجاري لا يقتضي تعدّي ذلك الحكم منه إليه، لأنّ التشبيه إنّما يقتضي تعدّي الحكم من المشبّه به إلى المشبّه لا العكس، فلا بدّ من كونه مسوقا لبيان مشاركته للجاري في حكم آخر، و لعلّه تقوّي ما في حياضه بما اعتبر معه من المادّة كتقوّي الجاري بما له من المادّة، ثمّ بملاحظة إطلاق اللفظ في المشبّه به يلزم المطلوب أيضا.

و قد يتكلّف - بناء على اعتبار الكرّيّة في ماء الحمّام - بحمله على تنزيله منزلة الجاري في تجدّد الماء النظيف منه تدريجا، فيرتفع به القذارة المتوهّمة من ملاقاة بعضه للنجاسة، نظرا إلى أنّ الماء الراكد و لو كان كرّا مورد لتوهّم استقرار القذارة المتوهّمة من الملاقاة فيه، فهذا التنزيل لدفع ما في النفس من الاستقذار الناشئ من ملاقاة النجاسات، فليس الكلام مسوقا لبيان حكم الجاري من حيث اعتبار الكثرة فيه و عدمه، و هو كما ترى خروج عن ظاهر السياق سؤالا و جوابا، و تكلّف يلتزم به بلا داع إليه، و ما ذكرناه أوجه، بل هو الظاهر بناء على قضيّة الاشتراط، و مع الغضّ عنه فالرواية ظاهرة في بيان عدم اعتبار الكرّيّة في ماء الحمّام، و قضيّة ذلك كون الجاري أيضا من حكمه عدم اعتبار الكرّيّة.

و يمكن تقرير الاستدلال بها على المطلب بوجه آخر أمتن ممّا ذكرناه، و هو: أنّ السؤال و إن لم يصرّح فيه بالحكم المسئول عنه المطلوب استعلامه، غير أنّ أخذ ماء الحمّام عنوانا في السؤال دليل على أنّ مقصود السائل استعلام حكمه من حيث الطهارة

ص: 429

و الطهوريّة، لاستقرار العادة في الأسئلة حيثما ذكر فيها العناوين مطلقة من غير تصريح بالحكم المسئول عنه معها، بكون المقصود استعلام أحكامها الظاهرة الّتي أخذت هي في أصل الشرع عناوين لها بالأصالة، و من المعلوم أنّ الحكم الّذي يؤخذ «الماء» عنوانا له بالأصالة بحسب الشرع إنّما هو الطهوريّة بالمعنى الشامل للطهارة و المطهّريّة، فمقصود السائل في تلك الرواية استعلام حكم ماء الحمّام من حيث الطهارة أو المطهّريّة، لكن لا بالنظر إلى خلقته الأصليّة، لأنّ ماء الحمّام بحسب الخلقة ليس حاله إلاّ كحال سائر المياه، و قد ثبت طهوريّتها كتابا و سنّة على الإطلاق، فالغرض حينئذ استعلام بقاء طهوريّته و العدم من جهة الطوارئ، فتنزيله في الجواب منزلة الجاري كناية عن بقائه على وصف الطهوريّة طهارة أو مطهّريّة و عدم ارتفاعها بسبب الطوارئ، و لا يستقيم ذلك إلاّ أن يكون الجاري أيضا حكمه كذلك كما لا يخفى.

و هذا مع ملاحظة الإطلاق الشامل للكريّة و ما دونها عين المطلوب، سواء كان الغرض استعلام طهارته أو مطهّريّته.

فإن قلت: لو كان الغرض استعلام مطهّريّته لا يستلزم المطلوب، لجواز كون شبهة السائل زوال الطهوريّة عن الماء المستعمل في رفع الأحداث، و مع قيام هذا الاحتمال يسقط بها الاستدلال، لاستلزامه فيها الإجمال.

قلت: سياق السؤال في كونه سؤالا عن الطوارئ السالبة للطهارة أظهر منه في كونه سؤالا عن الطوارئ السالبة للطهوريّة لا من جهة الطهارة، مع أنّ الجواب لو دلّ على بقاء الطهوريّة - مع أنّ ماء الحمّام محلّ لورود النجاسات عليه غالبا - لاستلزام بقاء الطهارة، و لا يقدح فيه عدم التعرّض لحكم الطهارة أصلا و بالذات، بعد الجزم بثبوت الملازمة الشرعيّة بين الطهارة و الطهوريّة كما لا يخفى.

غاية الأمر كون هذه الاستفادة من باب الدلالة بالإشارة و لا بأس به بعد ملاحظة أنّها أيضا من الدلالات المعتبرة.

و أمّا المرسلة: فلو لا الضعف في سندها بالإرسال و ابن جمهور، أمكن الاستناد إليها بحمل «يطهّر بعضه بعضا» على إرادة أنّه يعصم بعضه الغير الملاقي للنجاسة البعض الآخر الملاقي لها كما هو الظاهر، بقرينة أنّ تطهير البعض للبعض بالمعنى الحقيقي - بناء على عدم الانفعال

ص: 430

بمجرّد الملاقاة - لا يتأتّى فرضه إلاّ في صورة التغيّر الّذي يزول بتجدّد الماء عليه من المادّة، و ليس في النجاسات الواردة في سؤال الرواية ما يوجب التغيّر عادة كما لا يخفى، و بناء على الانفعال بمجرّد الملاقاة لا يمكن التطهير بلا مطهّر خارجي، من إلقاء كرّ و نحوه.

و أمّا ما قيل - في توجيه الاستدلال -: من أنّ المراد به الرفع قضيّة للمعنى الحقيقي، و يعلم منه الدفع و هو الحكم المطلوب من السؤال بالفحوى، ففيه: ما لا يخفى من البعد و الغرابة.

و ربّما يعترض عليها: بأنّها على خلاف المطلب أدلّ، حيث إنّ ظاهرها اعتصام ماء النهر بعضه ببعض لا بالمادّة، فتدلّ على اعتبار كثرته في اعتصامه، و هو أيضا كما ترى، فإنّ الأبعاض المتواصلة الّتي يعتصم كلّ بعض منها بآخر منتهية إلى المادّة، و قضيّة ذلك كون الاعتصام الّذي يتحقّق فيما بينها مستندا بالآخرة إلى المادّة.

و أضعف منه الاعتراض أيضا: بأنّ المماثلة ممّا يقتضي المساواة من الطرفين، و من المعلوم أنّ رفع النجاسة المتحقّقة في ماء الحمّام لا يكون إلاّ بالمادّة البالغة كرّا، فمقتضى المماثلة اعتبار ذلك في الجاري إذا تنجّس بعضه، و هذا عين مذهب العلاّمة(1) في الجاري، فإنّ (2) المماثلة إنّما تقتضي المساواة في الحكم المسوق لبيانه الكلام لا في موضوعه، و المادّة البالغة كرّا - بناء على تسليم اعتبار الكرّيّة فيها في الصورة المفروضة - مأخوذة و ملحوظة موضوعا لحكم الرفع، المنساق لبيانه الرواية، هذا مضافا إلى ما عرفت من ورود الرواية لبيان حكم الدفع لا الرفع الذي يوجب توهّم الاعتراض المذكور.

و أضعف من الجميع المناقشة في اختصاص لفظ «النهر» بالنابع، ثمّ في شموله لما دون الكرّ، فإنّ لفظ «النهر» و إن لم يختصّ بالنابع، إلاّ أنّ الظاهر المتبادر منه و من لفظ «الجاري» الوارد في الروايات المتقدّمة و الآتية إنّما هو النابع و إن كان إطلاقيّا، و هو شيء يجده الذوق بملاحظة المقام.

نعم، يمكن الاعتراض عليها: بأنّ الدلالة المذكورة إنّما تثبت على جهة العموم بالقياس إلى الكرّ و ما دونه، و مفهوم قوله عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»

ص: 431


1- منتهى المطلب 28:1 حيث قال: «لا فرق بين الأنهار الكبار و الصغار، نعم، الأقرب اشتراط الكرّيّة، لانفعال الناقص عنها مطلقا» الخ.
2- هذا جواب لقوله: «و أضعف منه الاعتراض عليه الخ».

عامّ بالقياس إلى الجاري و الحمّام و غيرهما، فيتعارضان في قليل الجاري و الحمّام، و الجمع و إن كان يحصل بتخصيص كلّ منهما، غير أنّ تخصيص الرواية بصورة الكرّيّة أولى من تخصيص المفهوم بغير الجاري، لكون المخرج بالأوّل أقلّ منه بالثاني بمراتب شتّى.

و فيه أيضا: أنّ المخرج عن كلّ من العامّين - بناء على ارتكاب التخصيص في أحدهما - إنّما هو ما دون الكرّ من الجاري، و هو شيء واحد لا يطرأه وصفا القلّة و الكثرة بالاعتبارين، بل لنا أن نقول: بأولويّة تخصيص المفهوم، لكون عمومات الجاري من جهة أنّها أقلّ أفرادا من المفهوم أظهر في العموم من المفهوم، كما لا يخفى.

و سابعها: عموم روايات وردت في خصوص الجاري، نافية لتنجيسه بشيء ما عدا التغيّر،

كالمرسل المرويّ عن نوادر الراوندي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الماء الجاري لا ينجّسه شيء»(1) و حديث دعائم الإسلام: «في الماء الجاري يمرّ بالجيف و العذرة و الدم يتوضّأ منه و يشرب، و ليس ينجّسه شيء ما لم يتغيّر أوصافه، طعمه و لونه و ريحه»(2)و المحكيّ عن الفقه الرضوي: «و اعلموا رحمكم اللّه: أنّ كلّ ماء جار لا ينجّسه شيء»(3).

و اعترض عليها: بكونها معارضة بإطلاقات أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة، و التقييد في إطلاقات الجاري إخراج للفرد النادر، لأنّ ما لا يبلغ مع ما في المادّة - بل بنفسه - كرّا قليل، بخلاف تقييد الماء بغير الجاري في أدلّة إناطة الاعتصام، فإنّه إخراج للفرد المتعارف، و بالتأمّل فيما ذكرناه تقدر على دفع ذلك، نظرا إلى أنّ المخرج ليس إلاّ قليل الجاري، سواء اعتبر إخراجه عن إطلاقات الجاري أو إطلاقات الاعتصام.

و أمّا ما يقال في دفعه: من أنّ الخارج من أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة في مثل قوله عليه السّلام:

بعد السؤال عن الماء الّذي لا ينجّسه شيء: «أنّه الكرّ من الماء» و قوله: «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» و نحو ذلك، هو مطلق الجاري، فيكون المقسم في هذه الأدلّة هو الماء الراكد، و هذا أبعد من تقييد الجاري بما يبلغ كرّا فضعفه أوضح من أن يوضح، ضرورة: أنّ التنافي لا يتأتّى إلاّ بعد اختلاف الدليلين في مفاديهما، و من البيّن أنّه لا تنافي بين منطوق

ص: 432


1- نوادر الراوندي: 39، مستدرك الوسائل 191:1، ب 5 من أبواب الماء المطلق ح 4.
2- دعائم الإسلام 111:1 - مستدرك الوسائل 188:1، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1.
3- فقه الرضا عليه السّلام: 91 - مستدرك الوسائل 192:1، ب 5 من أبواب الماء المطلق ح 6.

الخبرين، و إنّما التنافي بين مفهوم الثاني - بل الأوّل إن كان له مفهوم - و لا ريب أنّ المفهوم مخصوص بالقليل، و أمّا المنطوق الشامل للجاري و الراكد و غيرهما فهو موافق لاطلاقات الجاري في الدلالة على عدم الانفعال كما هو واضح و بالجملة: الاولى من التخصيصين إنّما هو تخصيص المفهوم، تقديما للأظهر على الظاهر من جهتين، كما لا يخفى على المتأمّل.

نعم، إنّما يخدش في تلك الروايات عدم ثبوت اعتبار أسانيدها، و الشهرة و إن كانت محقّقة لا تصلح جابرة، لعدم وضوح كونها مستندة إليها، على معنى كون مستند المشهور في ذهابهم إلى عدم اشتراط الكرّيّة في الجاري هو تلك الروايات و هو غير واضح، فالقدح في السند لا رافع له، و مجرّد موافقة المضمون لها لا يوجب الوثوق بصدقه ما لم تكن الشهرة موجبة للوثوق بمفادها، و بالجملة: لو لا هذه المناقشة في السند كان في تلك الروايات كفاية في إثبات الحكم المبحوث عنه.

و ثامنها: الإجماعات المنقولة - المتقدّم إليها الإشارة - المعتضدة بالشهرة العظيمة،

محقّقة و محكيّة، و يشكل التعويل عليها في المقام على جهة الاستقلال، لعدم ثبوت حجّيّة منقول الإجماع عندنا بالخصوص، و كونه حجّة من باب الكشف عن وجود دليل معتبر ليس المقام من موارده، إذ المراد بالكشف حصول الاطمئنان و سكون النفس و خروجها عن التزلزل، و هي قاصرة عن الكشف بهذا المعنى، لما نرى في كلام كثير من المتأخّرين - كما عرفت - من التعويل على ما ليس بصالح له من الوجوه المتقدّمة، و التعويل عليها و إن لم يعلم من المجمعين أو كثير من الناقلين للإجماع غير أنّ تعويل المتأخّرين عليها مانع عن حصول الوثوق بما ذكر، و إن وجد في كلام بعضهم التعويل على ما له دلالة على المطلب، سليمة عمّا يصلح للمعارضة، كصحيحة داود بن سرحان(1) و رواية ابن أبي يعفور (2)- على فرض انجبار سندها - و الروايات الاخر المتقدّمة على فرض اعتبار أسانيدها أو انجبارها.

و تاسعها: ما اعتمد عليه المحقّق البهبهاني - مضافا إلى أصالة البراءة المتقدّم ذكرها

و قوله: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر»(3) - «من طريقة المسلمين في عملهم في الأعصار و الأمصار و اتّفاق فتاوي فقهائهم»(4).

ص: 433


1- تقدّما في الصفحة 428.
2- تقدّما في الصفحة 428.
3- الوسائل 467:3 ب 37 من أبواب النجاسات ح 4 - التهذيب 832/284:1.
4- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 46:1.

و الأصل و الرواية قد عرفت ما فيهما، و طريقة المسلمين و إن كانت جارية في الجملة، غير أنّه غير واضح الوجه، لقوّة احتمال استنادها إلى فتاوي فقهائهم فقد تبيّن من البداية إلى تلك النهاية: أنّ المعتمد من الأدلّة المذكورة صحيحة داود بن سرحان، و دونها - بعد سلامة السند - رواية ابن أبي يعفور، المعتضدة بالشهرة العظيمة و الإجماعات المنقولة، و ما ذكر من طريقة المتشرّعة، فإنّ كلّ ذا ممّا لا ضير في أخذها مؤيّدة، فصار المحصّل: أنّ المختار ما ذهب إليه المشهور - المنصور - بشرط أن يكون سائلا على وجه الأرض عن نبع، اقتصارا على القدر المتيقّن من معقد الإجماعات و عمل المسلمين، المتبادر من الصحيحة و لو بحسب الغلبة و القرائن الخارجة، المعلومة بالتتبّع و نحوها.

و أمّا غيره من السائل لا عن نبع، أو السائل عن رشح، أو النابع أو الراشح بلا سيلان، فيبقى على حكم القاعدة.

و عن العلاّمة الاحتجاج على ما صار إليه - من اشتراط الكرّيّة في الجاري - بعموم الأدلّة الدالّة على اعتبار الكرّيّة، كقوله عليه السّلام في صحيحتي معاوية بن عمّار، و محمّد بن مسلم: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1).

أقول: هذا حقّ لا إشكال فيه و لا شبهة تعتريه، لو لا حكومة ما تقدّم على الأدلّة المذكورة، لو اريد بها مفهوم الروايتين مع الروايات الاخر الواردة بهذا المضمون، و إلاّ فإطلاق دعوى العموم في محلّ منع، لكون ما عدا تلك الروايات المشار إليها بين ظاهرة و صريحة في الراكد، كما لا يخفى على الناظر الناقد.

و أجاب عنه في المدارك - و وافقه عليه غيره كما عن مصابيح العلاّمة الطباطبائي(2) -:

«بمنع العموم، لفقد اللفظ الدالّ عليه، سلّمنا العموم لكن نقول: عمومان تعارضا من وجه، فيجب الجمع بينهما بتقييد أحدهما بالآخر، و الترجيح في جانب الطهارة بالأصل، و الإجماع، و قوّة دلالة المنطوق على المفهوم»(3).

و فيه: ما لا يخفى من التعسّف، فإنّ المفهوم - إذا كان الاستدلال به - تابع للمنطوق، فلفظة «الماء» في المنطوق شاملة للجاري جزما، لبطلان خلافه بالضرورة، و لعدم ما

ص: 434


1- الوسائل 117:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 108/40:1، 109.
2- المصابيح في الفقه - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 57.
3- مدارك الأحكام 32:1.

يوجبه من ندرة و نحوها، ضرورة عدم ندرة الكرّ من الجاري، بل هو عند التحقيق أغلب و أكثر يحسب الأفراد من الراكد كما لا يخفى، فمع فرض شمول المنطوق لكثير الجاري فلا بدّ و أن يشمل المفهوم لقليله أيضا و إن فرضناه نادرا بالقياس إلى قليل الراكد، و إلاّ لزم كون القضيّة في جانب المنطوق مستعملة في معنيين:

أحدهما: التعليق على ما يوجب انتفاؤه الانتفاء بالقياس إلى الراكد.

و الآخر: بيان تحقّق موضوع الحكم و هو الكرّيّة بالقياس إلى الجاري كما في قولك:

«إن رزقت ولدا فاختنه» و هو كما ترى، و مجرّد ندرة القليل من الجاري لا يوجب عدم دخوله في موضوع المفهوم، بعد ملاحظة اقتضاء موضوع المنطوق مقابلا في جانب المفهوم، و أمّا ما ذكره من المرجّحات فكلّها منظور فيه عدا الأخير منها، و نضيف إليه ما قدّمنا الإشارة إليه من كون تخصيص عمومات الجاري لقلّة أفرادها تخصيص في الأظهر، فيرجّح عليه تخصيص المفهوم لكونه تخصيص الظاهر، تقديما للأظهر عليه.

ثمّ الظاهر أنّ مراده رحمه اللّه بأحد العامّين اللذين فرض النسبة بينهما عموما من وجه، صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع(1)، الدالّة على عدم فساد كلّ ذي مادّة بمادّته و منه الجاري، الّذي يدخل قليله في عموم المفهوم، و إلاّ فلا تعارض لو اعتبر ذلك العامّ الخبر المستفيض «كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر»(2) فضلا عن كونه من باب العموم من وجه، لدخول القليل حينئذ فيما أخذ غاية في ذلك الخبر، إن قلنا بتناوله لمشتبه الحكم، كما أنّ المفهوم أخصّ لو فرض الطرف المقابل صحيحة حريز(3)، و صحيحة أبي خالد القمّاط(4)، و حسنة محمّد بن ميسّر(5)، لعموم تلك الروايات القليل و الكثير، فتخصّص بالمفهوم، و لم يقع الاستدلال منه رحمه اللّه إلاّ بها و بصحيحة محمّد بن إسماعيل.(6)

***

ص: 435


1- الوسائل 141:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 12.
2- الوسائل 134:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 619/215:1، و فيه: «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر».
3- الوسائل 137:1 و 138، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 4.
4- الوسائل 137:1 و 138، ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 4.
5- الوسائل 152:1، ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5.
6- الوسائل 134:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5.

«ينبوع» [في ماء الحمام]

اشارة

اتّفقت كلمتهم على إلحاق ماء الحمّام بالجاري، بقولهم: «يلحق به» و ما يؤدّي مؤدّاه، و كأنّه جرى على مقتضى ما ورد في النصوص من تنزيله منزلة الجاري أو تشبيهه به، و قضيّة ذلك كونه فرعا له في كلّ ما يلحق به من الأحكام، أو أنّ في خصوص ما عقدوا له الباب المتقدّم من عدم اشتراط الكرّيّة فيه، فحينئذ يشكل الحال بالنظر إلى خلافهم الآتي - في الفرع - من اشتراط كرّيّة المادّة كما عليه المشهور، أو كرّيّة المجموع منها و ممّا في الحياض مطلقا، أو مع تساوي سطحهما أو انحدار المادّة، و ليس شيء من ذلك مذكورا في الأصل و لا في النصوص القاضية بالفرعيّة، و استفادته من الخارج يوجب إلحاقه بالراكد البالغ مجموعه كرّا، أو المتّصل بما يبلغ كرّا لا بالجاري، بل يوجب ذلك كونه في الحقيقة من أفراد الراكد الّذي يعتبر في عدم انفعاله الكرّيّة، و إن اختلفت سطوحه كما عليه الأكثر، و معه لا معنى لإفراده بالذكر فضلا عن إلحاقه بالجاري.

ثمّ إنّه أيّ فرق بين المقام مع فرض الاتّصال بالمادّة المأخوذ في موضوع الحكم و بين الغديرين الموصل بينهما بساقية، المعدود في كلام جمع من المتأخّرين من أقسام الراكد، المكتفى فيه عندهم بكرّيّة مجموع ما فيهما و في الساقية، و أيّ شيء أوجب إفراد المقام عن المفروض، و دعا فيه إلى اعتبار الكرّيّة في المادّة، و نفي كفاية بلوغ المجموع كرّا خصوصا إذا كان مستند اعتبار الكرّيّة في المادّة أو في المجموع أدلّة انفعال القليل و اشتراط الكرّيّة في عدم الانفعال، فإنّ اتّحاد طريق المسألتين يقضي بكونهما من واد واحد، فكيف يفرّق بينهما بجعل إحداهما فرعا لباب، و إفراد الاخرى بباب على حدّة.

ص: 436

و يمكن الذبّ عنه: بأنّ الاعتبار و قانون التأدية و الإيجاز و إن كان يقتضي ذلك، و لكن ماء الحمّام لمّا اخذ عنوانا في طائفة من الأخبار فذلك دعاهم إلى إفراده بعنوان خاصّ مع مراعاة إعمال القواعد فيه، بزعم جريانها من غير معارضة لها في تلك الأخبار، فاعتبروا فيه كرّيّة المادّة أو المجموع كلّ بحسب ما اقتضاه نظره و اجتهاده في إجراء القواعد، جمعا بينها و بين ما اقتضته الأخبار المشار إليها من تخصيصه بالعنوان.

و على أيّ حال كان فينبغي أوّلا سوق عنان القلم إلى بيان المراد من ماء الحمّام المبحوث عنه هنا،

و قد أطبق كلمتهم - فيما نعلم - على تفسيره: بما في الحياض الصغار الّتي لا تبلغ الكرّ، ثمّ صريح غير واحد مع ظاهر آخرين يقضي باختصاص البحث عنه بصورة اتّصاله بالمادّة، و المراد بها - على ما في كلام بعضهم - الحوض الكبير الّذي يجري منه الماء إلى الحياض الصغار، كما أنّ المراد بالحياض الصغار - على ما يستفاد من تتبّع كلماتهم - الحياض المتّخذة في جنب الحوض الكبير ليرد عليها الواردون لأخذ الماء و الغسل، بل الاغتسال أيضا على ما هو المعهود من طريقة أهل السنّة، حيث لا يغتسلون في الحوض الكبير المسمّى بالخزانة، و كأنّ دليلهم على هذه التقييدات كلّها كونه المنساق من جملة من الروايات الواردة في ماء الحمّام، كرواية بكر بن حبيب: «ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة»(1) و المحكيّ عن الفقه الرضوي: «ماء الحمّام سبيله سبيل الجاري إذا كانت له مادّة»(2) فإنّ كلمة الاختصاص في الظرف تقضي بأنّ المراد به ما يكون للمادّة جهة اختصاص به، بحيث لا يوجد ذلك الاختصاص في غيره ممّا هو في الحمّام، و لا يكون ذلك إلاّ الحياض الموصوفة بما ذكر الّتي تستمدّ الماء من المادّة.

و اعتبار كونها لا تسع الكرّ، أمّا أوّلا: فلأنّ الغرض من الشرطيّة إفادة ما يعتصم به الماء المذكور، و الكرّ بنفسه معتصم، فيعود اعتبار وجود المادّة لغوا.

و أمّا ثانيا: فلأنّ روايات ماء الحمّام مسوقة لبيان أنّه أخفّ حكما من سائر المياه كما لا يخفى على المتأمّل، و التسوية فيه بين كثيره و قليله توجب كون الحكم فيه

ص: 437


1- الوسائل 149:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 1168/378:1.
2- فقه الرضا عليه السّلام: 86.

أغلظ، و هو كما ترى.

و اشتراط اتّصاله بها، فلأنّه المتبادر عرفا من عبارة قوله عليه السّلام: «إذا كانت له مادّة»، و لأنّه لو لا اتّصالها به كان وجودها بمنزلة عدمها، فإنّها إنّما اعتبرت عاصمة، و لا يعقل العصمة لها إلاّ مع الاتّصال.

فما يقال: من أنّ ذكر الحياض الصغار في تفسير ماء الحمّام لعلّه مبنيّ على المثال، أو لأنّه محلّ الثمرة غالبا، و إلاّ فلو كان في الحوض الكثير ما ينقص عن الكرّ لحقه الحكم، ليس على ما ينبغي إن اريد به الحوض الكبير المعدّ مادّة.

و منه يظهر ضعف ما قيل من إمكان أن يقال: إنّ الماء المنبسط في أرض الحمّام المتّصل بالحوض الصغير أو الكبير المتّصلين بالمادّة حكمه حكم ما في الحياض، إن اريد به إدراج ذلك في الروايتين، و إن اريد استفادة حكمه من باب تنقيح المناط فلا بأس به.

و أضعف منه - الّذي ينبغي القطع بفساده - ما قيل: من قوّة احتمال تمشّي الحكم إلى حياض المسلخ، بل الماء الّذي في البئر إذا اتّصل الماء النازل من المادّة بالحوض، و اتّصل ماء الحوض بالماء المنبسط على أرض الحمّام، و اتّصل ذلك بماء البئر، إلاّ أن يكون ذلك من باب تنقيح المناط أيضا لا من جهة شمول النصوص، و تفسير المادّة بالحوض الكبير لأجل أنّ ماء الحمّام لا مادّة له سواه.

ثمّ من الواضح أنّ المراد بالحمّام و حياضه في الأخبار و كلام العلماء الأخيار ما يقع عليه الاسم عرفا، و لو كان في الآن الحاضر على الهيئة المغايرة للهيئة الموجودة في الآن السابق، كما هو الأصل المتّفق عليه في جميع موضوعات الأحكام الثابتة عن الزمن القديم.

فما في الحدائق من الاستشكال في تماميّة الاستدلال بالأخبار: «بأنّ ذلك إنّما يتمّ بعد معرفة الحيضان الّتي كانت في زمانهم على أيّ كيفيّة كانت؟ إذ الظاهر أنّ الأسئلة كانت عن ماء الحمّام المعهود عندهم، سيّما أنّ أصل الإضافة للعهد»(1) ممّا لا يلتفت إليه، لمنع كون المعهوديّة عندهم مخصّصة لعموم الجواب بعد فرض تحقّق التسمية مطلقا، و الاختلاف في الكيفيّة لا يوجب الاختلاف في التسمية، فلا يوجب الاختلاف في الحكم، و إلاّ لتغيّرت أكثر الأحكام الثابتة ثمّة.

ص: 438


1- الحدائق الناضرة 203:1.

فالقول: بأنّ الهيئة المركّبة إذا انتفى شيء منها لا تجري عليها الأحكام، لانتفاء المركّب بانتفاء أحد أجزائه، و لأنّ أحكام الحمّام مخالفة للأصل، فيقتصر فيها على المتيقّن، بل لو شكّ في كون الموجود الآن كالسابق أو لا؟ لم تجر عليه الأحكام أيضا و إن أطلق عليه الاسم الآن، مع عدم جريان أصالة عدم التغيّر هنا، إذ هي إنّما تجري حيث يكون المعنى قديما و رأينا اللفظ الأوّل مستعملا فيه الآن، و شككنا فيه بالنسبة إلى الزمن السابق فنحكم بذلك لأصالة عدم التغيّر، لا فيما إذا شككنا في كون هذا المعنى موجودا سابقا أو لا؟ و فرق واضح بين المقامين.

و أصالة عدم الاشتراك لا يثبت بها وجود المعنى، إذ غاية ما يمكن إثباته بها نفي الاشتراك بعد فرض وجود المعنى، أمّا أنّها تثبت أنّ هذا الموضوع موجود في السابق فلا، متّضح الفساد(1) ضرورة أنّ اختلاف الهيئة لا يوجب عدم جريان الأحكام ما لم يكن موجبا لاختلاف الماهيّة و انتفاء الماهيّة الاولى، و نحن نقطع ببقاء الماهيّة الاولى في الحمّامات المستحدثة، و إن حصل فيها الاختلاف كثيرا، و الأحكام الثابتة ثمّة تجري عليها مع القطع بالتغيّر فكيف مع الشكّ فيه، و معه لم يكن الحاجة ماسّة إلى التشبّث بالأصل حتّى ينظر في جريانه و عدمه.

و وقوع اللفظ عليها مع اختلافها في الهيئات من باب وقوع المشترك المعنوي على أفراده المختلفة، فلا حاجة إلى أصالة عدم الاشتراك، و ليس للحمّام حكم مغاير للقواعد حتّى يقتصر فيه على المتيقّن، لكون عدم الانفعال مستند إلى الاتّصال بالمادّة البالغة بنفسها أو مع ما في الحياض و الساقية كرّا، و هو من مقتضي القواعد المقرّرة.

نعم، على القول بعدم اشتراط الكرّيّة رأسا - كما هو أضعف الأقوال - ربّما يتّجه ذلك، غير أنّه يندفع بملاحظة ما قرّرناه، نظرا إلى ورود النصّ الخاصّ مع عدم داع إلى الاختصاص، فلا ضير معه في الخروج عن الأصل، بل هو واجب حينئذ كما مرّ في مستثنيات قاعدة الانفعال، هذا إذا اريد بالأصل ما يقتضيه تلك القاعدة، و أمّا إذا اريد به ما يقتضيه الأصل الأوّلي في المياه من الطهارة، ليكون ذلك دفعا لمقالة مشترطي الكرّيّة بأحد المعنيين، فيكفي في الخروج عنه عموم تلك القاعدة و على أيّ حال كان فما في الحياض الصغار

ص: 439


1- هذا جواب لقوله: «فالقول بأنّ الهيئة المركّبة...» الخ.

إذا لاقته النجاسة حال اتّصاله بالمادّة لا ينفعل به ما لم يتغيّر أحد أوصافه، و الأصل فيه بعد الإجماع - محصّلا في الجملة و منقولا - صحيحة داود بن سرحان المرويّة في التهذيب، قال: قلت لأبي عبد اللّه ما تقول في ماء الحمّام؟ قال: «هو بمنزلة الجاري»(1).

و ما نقل عن قرب الأسناد عن إسماعيل بن جابر، عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال:

ابتدأني فقال: «ماء الحمّام لا ينجّسه شيء»(2) و خبر أبي الحسن الهاشمي - المرويّ في التهذيب - قال: سئل عن الرجال يقومون على الحوض في الحمّام، لا أعرف اليهودي من النصراني، و لا الجنب من غير الجنب؟ قال: «يغتسل منه، و لا يغتسل من ماء آخر فإنّه طهور»، و عن الرجل يدخل الحمّام و هو جنب فيمسّ الماء بيديه من غير أن يغسلهما؟ قال: «لا بأس»، و قال: أدخل الحمّام فأغتسل، فيصيب جسدي بعد الغسل جنبا، أو غير جنب؟ فقال: «لا بأس»(3).

و خبر حنّان - الوارد في الكافي - قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد اللّه عليه السّلام إنّي أدخل الحمّام في السحر، و فيه الجنب و غير ذلك، فأقوم، فأغتسل فينتضح عليّ بعد ما أفرغ من مائهم؟ قال: أ ليس هو جار؟ قلت: بلى، قال: «لا بأس»(4)، و الاستدلال به مبنيّ على كون الجاري في قضيّة الاستفهام استعارة، مرادا به كونه بمنزلة الجاري، و التشبيه به على حدّ ما هو في «الطواف بالبيت صلاة» كما هو الظاهر، بملاحظة أنّ المعهود في ماء الحمّام كونه حارّا فلا يكون جاريا بالمعنى المعهود.

و خبر بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة»(5)، و خبر ابن أبي يعفور المتقدّم المتضمّن لقوله عليه السّلام: «ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا»(6)، بناء على أنّ المراد بالتطهير العصمة كما تقدّم، بعد فرض انجبار السند بالعمل.

ص: 440


1- الوسائل 148:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 1170/378:1.
2- الوسائل 150:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 8 - قرب الأسناد: 128.
3- الوسائل 149:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 6 - و أورد قطعة منه في الحديث 5 من ب 7 من أبواب الأسآر - التهذيب 1171/378:1.
4- الوسائل 213:1 ب 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل ح 8 - الكافي 3/14:3.
5- الوسائل 149:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 1168/378:1.
6- الوسائل 150:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 7 - الكافي 1/14:3.

و المحكيّ عن فقه الرضا قال عليه السّلام: «و ماء الحمّام سبيله الماء الجاري إذا كانت له مادّة»(1).

وجه الاستدلال بها واضح بعد حمل مطلقها على مقيّدها، و قضيّة ذلك عدم انفعال ماء الحمّام - أي ما في حياضه الصغار الغير البالغ كرّا - بمجرّد الملاقاة عند اتّصاله بالمادّة.

و ربّما يقال: بأنّ في تنزيله منزلة الجاري في خبر ابن سرحان، و تشبيهه بماء النهر في خبر ابن أبي يعفور، إشعارا باعتبار المادّة، لأنّ لكلّ من الجاري و النهر مادّة فلا حاجة فيهما إلى إعمال قاعدة الحمل.

و فيه: أنّ التشبيه لا يقتضي المشاركة في مناط الحكم، بل غايته المشاركة في أصل الحكم و إن تغاير في المشبّه و المشبّه به، أ لا ترى أنّه لو قيل: «زيد كالأسد» لا يقتضي إلاّ المشاركة في الشجاعة، نعم يمكن الاستناد في اعتبار ذلك في المطلقات إلى الغلبة كما توهّم، إذ الغالب في الحمّامات وجود المادّة و أمّا ضعف أسانيد جملة منها فمجبور بالعمل في الجملة، فلا يعبأ بما في المدارك(2) من القدح في سند رواية بكر بن حبيب لجهالة بكر.

مضافا إلى أنّ من رجال السند صفوان بن يحيى، فلا ضير في ضعف من قبله، و قد يوصف السند بالحسن، و لعلّ وجهه ما استظهره بعض مشايخنا(3) من احتمال كون بكر بن حبيب هنا هو بكر بن محمّد بن حبيب، و قد ذكر في ترجمته ما تدلّ على حسنه، و ربّما نقل(4) عن الكشّي توثيقه و إن أنكره بعضهم، و لكن الاستظهار غير واضح الوجه، و قد يؤيّد السند - مضافا إلى ما ذكرنا في صفوان - بما عن الشيخ في العدّة من أنّه قال في حقّه: «أنّه لا يروي إلاّ عن ثقة»(5).

و فيه: أنّ صفوان يرويه هنا عن ابن حبيب بواسطة منصور بن حازم، فأقصى ما يقتضيه ما ذكر هنا وثاقة الواسطة - مع عدم الحاجة في ثبوت وثاقته إلى ذلك لكونه بنفسه ثقة جليلا - لا وثاقة ابن حبيب، إلاّ أن يقال بذلك فيه أيضا من جهة رواية منصور عنه، نظرا إلى ما قيل فيه: «من أنّه ثقة عين صدوق، من أجلّة أصحابنا

ص: 441


1- فقه الرضا عليه السّلام: 86.
2- مدارك الأحكام 34:1.
3- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 100:1.
4- و في منتهى المقال عن تعليقات الشهيد الثاني على الخلاصة: «قال ابن داود نقلا عن الكشّي: إنّه إمامي ثقة انتهى. و لم أجده في الكشّي» - منتهى المقال 172:1 - رجال ابن داود: 58 الرقم 264 - تعليقات الشهيد على خلاصة الأقوال: 16.
5- عدّة الاصول 154:1.

و فقهائهم، له كتب منها: اصول الشرائع»(1)، فجلالة شأنه و فضله و علوّ رتبته يأبى عن روايته عمّن لا يوثق به، أو روايته ما لا ينبغي الوثوق عليه، فأقلّه كون الرواية ممّا يوثق به و يعتمد عليه و إن لم يكن الراوي بنفسه على تلك المثابة، لجواز احتفاف الرواية بقرينة الخارج، و بالجملة: فأصل الحكم في الجملة ممّا لا إشكال فيه و لا كلام، فلا ينبغي إطالة الكلام في إقعاده و تتميم الدليل عليه،

بل اللائق بالبحث جهات اخر متعلّقة بموضوع المسألة،

اشارة

و قد تكلّم فيها الأصحاب و اختلفت أقوالهم فيها.

الجهة الاولى: أنّهم اختلفوا في اشتراط الكرّيّة في المادّة على قولين:
أحدهما: كونها شرطا

و عزّاه غير واحد إلى الأكثر، و ربّما يعزى إلى العلاّمة في التحرير(2) اعتبار زيادة المادّة على الكرّيّة، و لكنّه غير واضح الوجه، فلذا حمله ثاني الشهيدين(3) و المحقّق الثاني(4) - على ما حكي عنهما - على اعتبار ذلك في تطهير الحوض الصغير على فرض تنجّسه.

و ربّما يتأمّل في نسبته اعتبار الكرّيّة أيضا إلى الأكثر، بل عن كشف اللثام(5) أنّه نقل عن الجامع(6) - وحده - موافقة العلاّمة على الاشتراط، حاملا لتلك النسبة على كون المراد من الأكثر أكثر من تأخّر عن المحقّق، المصرّح بعدم الاشتراط لإطلاق النصوص و الفتاوى، قائلا: «بأنّ ظاهره أنّ الفتاوي مطلقة».

و ثانيهما: عدم كونها شرطا

صرّح به المحقّق في محكيّ المعتبر قائلا: «و لا اعتبار بكثرة المادّة و قلّتها، لكن لو تحقّقت نجاستها لم تطهر بالجريان»(7) و هو ظاهر إطلاق كلامه في كتابيه الشرائع(8) و النافع(9)، و عزى إلى جملة ممّن تأخّر عنه، بل عن الشيخ جعفر في - محكيّ بعض تلامذته - دعوى الإجماع عليه من القائلين باشتراط الكرّيّة،

ص: 442


1- رجال النجاشي: 413.
2- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 4.
3- روض الجنان: 137.
4- جامع المقاصد 113:1 حيث قال: «و ينبغى التنبيه بشيء و هو أنّ المادّة لا بدّ أن تكون أزيد من الكرّ، إذ لو كانت كرّا فقط لكان ورود شيء منها على ماء الحمّام موجبا لخروجها عن الكرّيّة فيقبل الانفعال حينئذ».
5- كشف اللثام 120:1.
6- الجامع للشرائع: 20 مع اختلاف في العبارة.
7- المعتبر: 9.
8- شرائع الإسلام 12:1.
9- المختصر النافع: 41.

حاملا لإطلاق كلامهم في اشتراط الكرّيّة في المادّة على التطهير بعد تنجّس ما في الحياض، و لإطلاق كلامهم أيضا في كفاية مجموع ما في المادّة و الحوض و المجرى على عدم قبول النجاسة بالملاقاة، فالفريقان اتّفقا على لزوم كرّيّة المادّة للتطهير، و الاكتفاء بكرّيّة المجموع لدفع الانفعال مع اختياره إيّاه.

و للشيخ عليّ في حاشية الشرائع تفصيل في المسألة، حيث قال: «و ينبغي تنقيح المبحث بأنّ المادّة إمّا أن يكون سطوحها مساويا لسطوح الحوض، أو أعلى، أو أخفض، فإن كان مساويا و هما معا طاهران كفى لدفع النجاسة و عدم الانفعال عنها بالملاقاة كون الماءين معا كرّا، و إن كان سطوح الماء أعلى اعتبر في زمان اتّصال مائها بماء الحوض و تسلّطه عليه بلوغها الكرّيّة، و هذا إنّما يكون إذا كانت في الأصل أزيد من كرّ، و إن كانت سطوحها أخفض اعتبر مع هذا فوران المادّة من تحت الحوض بقوّة و دفع، بحيث تظهر عامليّتها فيه، فلو كان اتّصالها به إنّما هو اتّصال مماسّة أو يجري إليه ترشّحا لم يعتدّ بها»(1).

حجّة القول الأوّل:

أنّه عند عدم بلوغ المادّة كرّا يصدق عليه أنّه ماء قليل لاقى نجاسة، فيشمله ما دلّ على انفعال القليل.

و قد يؤيّد ذلك أو يستدلّ عليه بانصراف نصوص الحمّام إلى ما هو الغالب فيه من كون مائها كرّا بل أزيد، مع أنّ في رواية ابن أبي يعفور «ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا»(2) إشارة بل دلالة على أنّ العاصم له هي الكثرة لا مجرّد المادّة.

و اجيب عن الأوّل: بمنع ما ادّعي من الصدق مع بلوغ المجموع كرّا.

و يشكل ذلك: بأنّه لا يجدي نفعا في عدم الانفعال إلاّ مع صدق الوحدة على المجموع، و المراد به صدق قضيّة قولنا: «هذا الماء كرّ» ليشمله منطوق قوله عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء»(3) و هو في حيّز المنع جدّا، ضرورة عدم وقوع اسم الإشارة بصيغة المفرد على ما في الحوض مع ما في المادّة و لو حال اتّصالها به،

ص: 443


1- حاشية الشرائع - للمحقّق الكركي - (مخطوط) الورقة: 4.
2- الوسائل 150:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 7.
3- الوسائل 158:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2-1.

فلا يقال عليهما عرفا: «إنّ هذا ماء» بل لو قيل ذلك مع انكشاف المراد كان مستهجنا، بخلاف ما لو قيل: «هذان أو هذا و هذا». و لا ريب أنّ كلاّ منهما دليل التعدّد، و معه لا يندرج المجموع في منطوق «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء». إلاّ أن يقال: بأنّ العبرة في المقام صدق عنوان المائيّة على المجموع مع وقوع اسم الكرّ على ما صدق عليه ذلك العنوان، لا بوقوع اسم الإشارة عليه بصيغة المفرد، و عدم وقوع لفظة «هذا» على المجموع من جهة أنّها بحسب الوضع أو الاستعمال مخصوص بما هو ملزوم للوحدة و الفرديّة، و هو الجزئي الخارجي من المشار إليه، بخلاف لفظة «الماء» لكونها بحسب الوضع للجنس المعرّى عن وصفي الوحدة و الكثرة، فتصدق اللفظ من جهته على الواحد و الاثنين و ما زاد، فيتبعه لفظ «الكرّ» في صدقه على ما صدق هو عليه.

و لكنّ الإنصاف: أنّ الحكم إنّما يتبع الظهور و الصدق إذا كان الظهور من مقتضى الهيئة التركيبيّة المأخوذة في الخطاب، و لا ريب أنّها قد تكون ظاهرة في خلاف ما اقتضته مفرداتها باعتبار أوضاعها الأفراديّة فلفظ «الماء» و إن فرضناه صادقا بنفسه على ما عدا الواحد أيضا، لكنّ الهيئة التركيبيّة في قوله «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» تنصرف عرفا إلى صورة الاتّحاد.

فالأولى أن يقال في الجواب: إنّ قولكم: يصدق عليه أنّه «ماء قليل لاقى نجاسة» إمّا أن يراد منه صدقه على المجموع، أو على المادّة وحدها، أو على ما في الحوض وحده، و لا سبيل إلى الأوّل، لأنّ مبنى صدق كونه ماء قليلا على عدم اعتبار الوحدة في صدق قضيّة المفهوم من الرواية، و إذا جاز ذلك هنا جاز في المنطوق أيضا على تقدير بلوغ المجموع كرّا، فلا ملازمة بين قصور المادّة عن الكرّ و صدق القليل الملاقي للنجاسة على المجموع على التقدير المذكور.

و لا إلى الثاني، لمنع صدق الملاقاة للنجاسة على المادّة و لو بالمعنى الأعمّ المتنجّس، ضرورة كونها حال الاتّصال ملاقية لما في الحوض، و هو إن لم يكن طاهرا بملاحظة النصّ الغير الفارق بين كرّيّة المادّة و عدمها، فلا أقلّ من كونه مشكوك الحال بملاحظة الشكّ في اعتبار كرّيّة المادّة و عدمها، و معه لا يحكم عليه بالنجاسة جزما، فكيف يقال: بأنّ المادّة حينئذ ملاقية للنجاسة أو المتنجّس، و إنّما هي ملاقية لما يحكم

ص: 444

عليه في ظاهر الشرع بالطهارة.

و لا إلى الثالث، لأنّ اعتبار الكرّيّة فيها إمّا مع البناء على صدق الوحدة على المجموع منها و ممّا في الحوض، أو مع البناء على عدمه.

فعلى الأوّل: يرجع قضيّة الاشتراط إلى اعتبار الزيادة على الكرّ لدفع الانفعال في الماء الواحد، و هو ممّا لا قائل به، و لم ينهض عليه دليل، و لا اقتضاء أدلّة الكرّ أيضا، نعم ربّما يحكى في الأخبار ما يوهمه كما في الرضوي - المحكيّ - «و كلّ غدير فيه من الماء أكثر من كرّ لم ينجّسه شيء»(1) و لكنّه ليس بظاهره اتّفاقا على تقدير ثبوت العمل به، بل محمول على إرادة معنى «كرّ فما زاد» أو «كرّ فصاعدا» كما في كثير من العبارات، و يراد به إناطة العاصميّة بالكرّيّة زاد عليها أو لا.

و على الثاني: يرجع الكلام إلى إناطة اعتصام الماء القليل عن الانفعال باتّصاله بالكرّ و إن لم يكن جزءا منه، كاعتصامه باتّصاله بالجاري، و هو و إن لم يكن منافيا للتشبيه و التنزيل الواردين في جملة من الأخبار المتقدّمة، و لا ظهور تلك الأخبار في امتياز ماء الحمّام عن سائر المياه، و اشتماله على مزيّة لا توجد فيها، حيث إنّ اعتصامه عن الانفعال يحصل بمجرّد الاتّصال و إن لم يكن بنفسه كرّا و لا جزء من الكرّ، بخلاف غيره، فإنّ المعتبر في اعتصامه بلوغه كرّا، و لا يكفي فيه مجرّد الاتّصال إلاّ مع صدق قضيّة الاتّحاد.

و لكن الاستناد في استفادة ذلك الحكم إلى قاعدة انفعال القليل أو قاعدة اعتبار الكرّيّة باطل جدّا، لأنّ هاتين القاعدتين لا تقضيان إلاّ الاعتصام في نفس الكرّ لا فيما يتّصل به و هو ليس منه، كما أنّه لو اريد استفادته عن أخبار الباب كان أوضح فسادا من الأوّل، لأنّ هذه الأخبار إن لم تكن نافية لاعتبار الكرّيّة بالمرّة - كما سبق إلى بعض الأوهام، نظرا إلى إطلاقها - فلا أقلّ من عدم كونها مثبتة لاعتبارها.

و بالجملة: هذا القول ممّا لم يعرف له مستند صحيح، و ما جعل مستندا له فاسد الوضع في كلّ محتملاته.

و أمّا دعوى: الانصراف إلى الغالب، فقد يجاب عنها: «بمنع حصول الغلبة إلى حدّ بحيث يكون الأقلّ من كرّ - و لو قليلا - من الأفراد النادرة بحيث لا يشمله اللفظ، و لو

ص: 445


1- فقه الرضا عليه السّلام: 91.

سلّم الندرة فهي ندرة وجود لا ندرة إطلاق، و لذلك ترى صدق ماء الحمّام على مثله من غير استنكار كما هو ظاهر»(1).

و لا يخفى ما في الأوّل من كونه مكابرة، و دفعا للضرورة، و ما في الثاني من عدم منافاة الصدق في لحاظ العقل عدم شمول الإطلاق له في لحاظ المحاورة المبتنية على اعتبار الظواهر و الأخذ بها.

و الأولى في الجواب أن يقال: إنّ الانصراف الناشئ من الغلبة و إن كان يؤخذ به لدخوله في عداد الظواهر النوعيّة، غير أنّ الظواهر - أوّلية أو ثانويّة - إنّما يعوّل عليها ما لم يصادفها ما يوهنها، بكشفه عن عدم اعتماد المتكلّم في إفادة مطلبه عليها، و قد قام في تلك الأخبار ما يوجب ذلك، لما في جملة منها من التصريح باعتبار وجود المادّة، فإنّ الغلبة موجودة بالنسبة إليها أيضا، بل لم يعهد حمّام لم يكن له مادّة، بخلاف كرّيّة تلك المادّة فإنّها قد يتخلّفها، فكانت غلبة المادّة أولى بالاعتماد عليها في إفادة المطلب، فالتصريح باعتبارها ممّا يقضي بعدم اعتناء المعصوم عليه السّلام في خصوص المورد بالغلبة، و عدم اتّكاله إليها في الإفادة، و بذلك يضعف تأثير الغلبة المدّعاة في الكشف عن حقيقة المراد.

و قد يجاب عن أصل الحجّة - بعد تسليم نهوضها دليلا على اعتبار الكرّيّة في المادّة:

«بأنّ بين ما دلّ على انفعال القليل و بين ما نحن فيه تعارض العموم من وجه، و الترجيح مع أخبار الحمّام لكثرتها، و تعاضدها، و عدم وجود المعارض فيها، و كونها منطوقة و تلك أكثرها مفاهيم، و بعضها قضايا في موارد خاصّة مع معارضتها بكثير من الأخبار.

مضافا إلى أنّ أخبار الحمّام معتضدة بأصالة البراءة، لأنّ النجاسة تكليف بالاجتناب، و باستصحاب الطهارة، و بأصل الطهارة المستفادة من العمومات على وجه، و ما دلّ على عدم انفعال الماء إلاّ بما تغيّر ريحه أو طعمه أو لونه»(2). و لا يخفى ما في هذا الترجيح و ما ذكر من المرجّحات، لعدم كون شيء منها بشيء عند أهل الدقّة و النظر. و قد يعارض: «بأنّ التقييد في أخبار الحمّام أقوى، لكون الإطلاق فيها أضعف»(3) و لعلّه من جهة ملاحظة الانصراف بالغلبة المدّعاة سابقا.

ص: 446


1- جواهر الكلام 227:1.
2- جواهر الكلام 226:1.
3- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 101:1.

و فيه: أنّ الغلبة إن كانت ممّا يعتدّ بها هنا فلا كرامة لفرض التعارض حينئذ ليوجب مراجعة الترجيح، فإنّه فرع الدلالة و هي نافية لها، و إلاّ فلا وجه لدعوى ضعف الإطلاق، مع أنّه يعارضه كون التقييد المذكور تقييدا فيما هو أقلّ أفرادا من أخبار الانفعال فيكون تقييدا في الأظهر، و لا ريب أنّ تقييد الظاهر أولى، فإنّ الإنصاف أنّ أخبار الحمّام أظهر في الشمول لصورتي الكرّيّة و عدمها من أخبار الانفعال في الدلالة على عموم الحكم للحمّام أيضا، بل هو فيما بين أفراد الماء القليل من نادر الأفراد، و من هنا اتّجه المعارضة من جهة اخرى بالنظر إلى دعوى الندرة في خلاف الكرّيّة في ماء الحمّام الموجبة لضعف الإطلاق فيها.

و قد يمنع التعارض أيضا، بناء على اختصاص أدلّة الانفعال بصورة ورود النجاسة على الماء، فلا يشمل مثل المقام.

و اجيب: بأنّ الكلام في انفعال الماء الموجود في الحوض الصغير بورود النجاسة عليه، لا فيما يرد عليه.

أقول: و كأنّ المنع مبنيّ على توهّم كون الكرّيّة إنّما تعتبر في المادّة لتطهير ماء الحوض عند تنجّسه، فاعتبرت الكرّيّة فيها - على القول به - صونا لها عن الانفعال بملاقاة المتنجّس، فجوابه حينئذ ما تحقّق في محلّه من عدم الفرق في الانفعال بين الورودين.

و قد يعترض على القول باشتراط الكرّيّة في المادّة: «بأنّه ينافي ما هو كالصريح من الأخبار من أنّ ماء الحمّام له خصوصيّة على غيره من المياه، إذ على تقدير الاشتراط يكون حاله كغيره من المياه، كما اعترف به الشهيد في الذكرى»(1)-(2).

و يدفعه: ما أشرنا إليه آنفا، من أنّ الخصوصيّة لعلّها اعتصامه بما هو ليس جزء منه، و حاصله عدم اعتبار الكرّيّة فيه لمجرّد اتّصاله بما ليس منه.

و الأولى في دفع القول: منع شمول دليله المدّعى - حسبما قرّرناه - و هو ممّا لا إشكال فيه، ضرورة أنّه بمجرّد اتّصاله بالمادّة لا يصدق عليه: أنّه ماء و هو بقدر الكرّ فلا ينجّسه شيء فلا يتناوله منطوق قولهم عليهم السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»

ص: 447


1- ذكرى الشيعة 80:1.
2- المعترض هو صاحب الجواهر رحمه اللّه، راجع جواهر الكلام 228:1.

فلا بدّ في إخراجه عن المفهوم من وسط، و لا يصلح له إلاّ ما دلّ على أنّ كون الماء متّصلا بالكرّ ككونه بنفسه كرّا في مرحلة الاعتصام عن الانفعال بالملاقاة.

و لا ريب أنّ أخبار الكرّ بأجمعها قاصرة عن إفادة ذلك، كما أنّ أخبار انفعال القليل لا تقضي بشيء من ذلك كما لا يخفى على المنصف، فلا محيص في إنهاض هذا الوسط من مراجعة أخبار الحمّام، و قد عرفت أنّها خالية عن الدلالة على اعتبار الكرّيّة في المادّة، إذ قد تبيّن أنّ غلبة الكرّيّة و ندرة خلافها لا عبرة بهما هنا، مع أنّ الغلبة لو صلحت منشأ للأثر هنا لقضت باعتبار الزيادة على الكرّ بل اعتبار الكرور، لما هو الغالب في مواد الحمّامات من وجود كرور من الماء فيها كما لا يخفى على المتأمّل و هو كما ترى، فإذا بنى على كون تلك الغلبة ملغاة في نظر الإمام عليه السّلام، فلم لا يبنى على كون غلبة الكرّيّة أيضا ملغاة في نظره، مع ما فيه من استبعاد واضح لو قيل بالفرق بين ما لو بقيت المادّة بقدر الكرّ و ما لو نقصت مثقالا أو عشرة مثاقيل أو عشرين مثقالا، بدعوى: كون الأوّل من الغالب فيعتصم به ما في الحوض، و الثاني من النادر فلا يصلح للعاصميّة كما هو لازم القول بالاشتراط، بل هو شيء يعدّ من المضحكات.

فالإنصاف: أنّ اشتراط الكرّيّة في المادّة ممّا لا دليل عليه من العقل و النقل، فالقول به خال عن الوجه جدّا.

و أمّا القول بعدم اشتراطها

فمستنده - على ما عرفت عن المحقّق سابقا - إطلاق نصوص الباب و فتاوي الأصحاب، و لا يخدشه إلاّ ما ذكره صاحب المدارك: «من عدم صلوحها لمعارضة ما دلّ على انفعال القليل بالملاقاة، إذ الغالب في مادّة الحمّام بلوغ الكرّيّة فينزّل عليه الإطلاق، و المعتمد اعتبار الكرّيّة لما سيجيء من الأدلّة الدالّة على انفعال القليل بالملاقاة، و لأنّ المادّة الناقصة عن الكرّ كالعدم»(1) و أنت بملاحظة ما قرّرناه بما لا مزيد عليه تقدر على دفع ما ادّعاه من تنزيل الإطلاق، و نهوض أدلّة انفعال القليل على الاشتراط، و من العجب أنّه ينادي بأعلى صوته في مواضع عديدة - ممّا سبق و لحق - بنفي العموم عن تلك الأدلّة و يتمسّك بها هنا، و هو لا يتمّ إلاّ مع إحراز العموم.

و أمّا ما ذكره من الوجه الأخير من كون المادّة الناقصة عن الكرّ كالعدم، فهو

ص: 448


1- مدارك الأحكام 34:1.

مصادرة واضحة لا يعبأ بها.

الجهة الثانية: عن ثاني الشهيدين في المدارك و غيره أنّه اكتفى بكون المجموع من المادّة و ما في الحوض كرّا مع تواصلهما مطلقا،

الجهة الثانية: عن ثاني الشهيدين في المدارك(1) و غيره أنّه اكتفى بكون المجموع من المادّة و ما في الحوض كرّا مع تواصلهما مطلقا، لعموم قوله عليه السّلام «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(2) و وافقه على ذلك جمع كثير ممّن تأخّر عنه ممّن عاصرناهم و غيرهم، و حكي عن شرح المفاتيح(3) اختياره، و عن الذخيرة(4) عن بعض المتأخّرين: «أنّه ذكر أنّ بلوغ المجموع قدر الكرّ كاف مطلقا إجماعا» و أنّ إطلاق الأصحاب اشتراط كرّيّة المادّة مبنيّ على الغالب من كثرة أخذ الماء من الحوض، و كأنّ المراد به أنّ الكرّيّة إنّما اعتبرت في المادّة لئلاّ يخرج المجموع عن الكرّيّة بكثرة أخذ الماء من الحوض.

و عن الأردبيلي في المجمع: «أنّه مع اختلاف السطوح لا يكفي بلوغ المجموع كرّا، و أمّا مع استواء السطوح فيكتفى به»(5) و عن جامع المقاصد اختياره أيضا مع نوع اختلاف قائلا: «و اشتراط الكرّيّة في المادّة إنّما هو مع عدم استواء السطوح، بأن تكون المادّة أعلى أو أسفل، لكن مع اشتراط القاهريّة بفوران و نحوه في هذا القسم، أمّا مع استواء السطوح فيكفي بلوغ المجموع كرّا، كالغديرين إذا وصل بينهما بساقية، بل أولى لعموم البلوى هنا»(6) و قد سبق هذا التفصيل عن حاشية الشرائع أيضا في الجهة الاولى.

و في الرياض و غيره عن بعض المتأخّرين الاكتفاء بكرّيّة المجموع مع التساوي، أو الانحدار مع الاختلاف و إلاّ فيشترط الكرّيّة في المادّة، قائلا: «و ربّما نسب إلى العلاّمة جمعا بين كلماته في كتبه»(7)، و يظهر هذا الجمع أيضا عن صاحب المدارك، فإنّه بعد ما حكى عن أكثر المتأخّرين(8) اشتراط الكرّيّة في المادّة، و عن المحقّق في المعتبر(9)و غيره(10) في مسألة الغديرين إذا أوصل بينهما بساقية، أنّهما كانا كالماء الواحد مع بلوغ

ص: 449


1- مدارك الأحكام 35:1.
2- الوسائل 158:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 2-1.
3- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 513.
4- ذخيرة المعاد: 120.
5- مجمع الفائدة و البرهان 264:1 نقلا بالمعنى.
6- جامع المقاصد 112:1.
7- رياض المسائل 138:1.
8- منهم العلاّمة في تبصرة المتعلّمين: 3؛ و الشهيد في البيان: 44؛ و الشهيد الثاني في روض الجنان: 137.
9- المعتبر 50:1.
10- كما في منتهى المطلب 9:1؛ و تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 4.

المجموع منهما و من الساقية كرّا، قائلا: «و هو بإطلاقه يقتضي عدم الفرق بين ما سطوحه مستوية أو مختلفة» ثمّ حكى عن العلاّمة «أنّه صرّح في التذكرة(1) بالاكتفاء ببلوغ المجموع الكرّ مع عدم تساوي السطوح بالنسبة إلى السافل، قال معترضا: فيكون حكم الحمّام أغلظ من غيره، و الحال يقتضي العكس، كما صرّحوا به، و الجمع بين الكلامين و إن كان ممكنا بحمل مسألة الغديرين على استواء السطوح، أو كون الساقية في أرض منحدرة، لا نازلة من ميزاب و نحوه، إلاّ أنّ فيه تقييدا للنصّ و كلام الأصحاب من غير دليل»(2).

و بما بيّنّاه سابقا - مضافا إلى ما سيأتي - تعرف أنّه لا تنافي بين الكلامين في المسألتين ليحتاج إلى الحمل و الجمع، بل أمكن أن يكون العلاّمة قائلا باشتراط الكرّيّة في مادّة الحمّام مع اكتفائه بكرّيّة المجموع في مسألة الغديرين، أو بشرط عدم الاختلاف بطريق النزول و التسنيم.

و ربّما يحكى في المسألة قول بعدم اعتبار الكرّيّة أصلا لا في المادّة و لا في المجموع مطلقا و لو مع الاختلاف بالتسنيم، صار إليه بعض مشايخنا في جواهره(3)، و قد يحكى عن صريح المحقّق في المعتبر(4)، و ظاهره في الشرائع(5)، و النافع(6)، و هو اشتباه صرف، فإنّه على ما تقدّم في الجهة الاولى من عبارته مصرّح بنفي اعتبارها عن المادّة، و أمّا اعتبارها بالنسبة إلى المجموع فكلامه محتمل، لإطلاقه.

فهذه أقوال أربع، مبنى الأوّل منها كما عرفت على إعمال أدلّة انفعال القليل بالملاقاة، لزعم أنّه لا تنافي بينها و بين أدلّة ماء الحمّام، إمّا لكونها ساكتة عن اعتبار الكرّيّة و عدمها، أو لانصرافها إلى ما هو الغالب فيه من بلوغ المجموع كرّا، أو لأنّ الترجيح على تقدير التنافي في جانب أدلّة الانفعال لضعف الإطلاق في جانب أدلّة الحمّام، كما أنّ مبنى القول الأخير على إعمال أدلّة ماء الحمّام، إمّا لعدم تناول أدلّة الانفعال له، أو لكون الترجيح في جانب أدلّة الحمّام لكونها أظهر من جهة قلّة أفرادها، أو لظهورها في أنّ ماء الحمّام له مزيّة يمتاز بها عمّا عداه من أفراد الماء القليل.

ص: 450


1- تذكرة الفقهاء 23:1.
2- مدارك الأحكام 35:1.
3- جواهر الكلام 225:1.
4- المعتبر: 9.
5- شرائع الإسلام 12:1.
6- المختصر النافع: 41، حيث قال: «و حكم ماء الحمّام حكمه - أي الجاري - إذا كان له مادّة».

و أمّا القولان المتوسّطان فمبناهما على مراعاة صدق الوحدة و عدمه، بزعم أنّها لا تصدق إلاّ مع تساوي السطوح، أو معه و مع انحدار المادّة فيكتفي بكرّيّة المجموع، و في غيرهما لا بدّ من كرّيّة المادّة، و يشكل التعلّق له بالأدلّة الفارقة بين الكثير و القليل لعدم اقتضائها توقّف الاعتصام عن الانفعال على الاتّصال بالكرّ، إذ غايتها الدلالة على اعتصام نفس الكرّ لا ما يتّصل به و هو ليس منه، كما يشكل التعلّق له بأدلّة الحمّام، إذ مبنى الاستدلال بها إن كان على إطلاقها فهي تقتضي نفي اعتبار الكرّيّة رأسا فضلا عن اعتبارها في المادّة، و إن كان على ما توهّم من انصرافها إلى كرّيّة المادّة بملاحظة الغلبة، فهي تقتضي حينئذ - على فرض صحّته - اعتبارها مع تساوي السطوح و اختلافها مطلقا، لا في خصوص اختلافها مطلقا، أو في صورة التسنيم خاصّة، فكيف يخصّص ذلك بصورة الاختلاف مطلقا، أو مع التسنيم خاصّة و المفروض أنّه على هذا التقدير لا تنافي بينها في صورة التساوي و بين أدلّة إناطة الاعتصام بالكرّ حتّى يقال: إنّه نشأ من ترجيح تلك الأدلّة عليها، بل الّذي يقتضيه أدلّة الكرّ من كرّيّة المجموع ما يقتضيه أدلّة الباب أيضا بناء على قاعدتهم المذكورة، إذ كما أنّ الغالب في الحمّام بلوغ المادّة كرّا فكذلك الغالب فيه بلوغ المجموع كرّا، بل الغلبة في ذلك أقوى و أظهر كما لا يخفى.

و بالجملة: هذان القولان ممّا لا نعرف له وجها يعتمد عليه، فهما بالإعراض عنهما أولى و أجدر، بل اللائق بالبحث إنّما هو القول الأوّل و الأخير، و قد عرفت أنّ مبنى الأوّل على تحكيم أدلّة انفعال القليل على أدلّة الحمّام.

و يرد عليه: أنّ هذا لا يجدي في حصول مطلوبهم إلاّ إذا اندرج المقام على تقدير كرّيّة المجموع في منطوق «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» و هو في غاية الإشكال، بل في حيّز المنع، لا لأنّ الكرّ يشترط في عدم انفعاله تساوي السطوح، بل لعدم جريان ما ذكرناه من الضابط في معنى تلك القضيّة في مباحث الكرّ، من كون مفاد أدلّته أنّ كلّ ماء يقع عليه اسم الكرّ عرفا فهو ممّا لا ينجّسه شيء، و لا ريب أنّ ماء الحوض الصغير في الحمّام لا يقع عليه اسم الكرّ - و لو حال اتّصاله بالمادّة - مع كون المجموع كرّا، بل مع كون المادّة وحدها كرّا، و وقوعه على المجموع مبنيّ على الاعتبار، لا أنّه له في الواقع و نفس الأمر.

ص: 451

و توضيح ذلك: أنّ موضوعات الأحكام - الّتي منها الكرّ - امور واقعيّة لا ينفع فيها مجرّد الاعتبار، فموضوع الحكم بعدم الانفعال لا بدّ و أن يكون متّصفا بالكرّيّة في متن الواقع لا في نظر الاعتبار فقط، و إنّما يتأتّى ذلك إذا كان للماء هيئة توجب كون كلّ من أطرافه جزءا ممّا حصل منها، و هذا المعنى غير حاصل في المقام بحسب الواقع، و صحّة وقوع الاسم على المجموع اعتبار صرف متضمّن لاشتراط حصول تلك الهيئة بحسب الواقع، و كأنّ غفلة من اكتفى بكرّيّة المجموع نشأت عن الغفلة عن كون ذلك اعتبار صرفا، أو متضمّنا للتعليق على ما لا تحقّق له في الواقع، و لا ريب أنّ مجرّد الاعتبار لا يصيّر الشيء واقعا.

و من هنا اتّضح عدم المنافاة بين ما قرّرناه هنا و ما اخترناه في بحث الكرّ من عدم اشتراط تساوي السطوح، لتحقّق المعنى المذكور ثمّة في جميع صور المسألة و الفارق هو العرف، كما اتّضح سرّ ما عرفت عن العلاّمة من فرقه بين الغديرين و ما نحن فيه، فإذا فرض عدم اندراج المقام على تقدير كرّيّة المجموع في المنطوق فلا بدّ و أن يندرج في المفهوم، و قضيّة ذلك عدم الفرق في انفعال ماء الحمّام - و هو ما في الحوض الصغير - بين بلوغ المجموع كرّا و عدمه، و هو مع أنّه خلاف المطلوب ترك للعمل على أخبار الحمّام بالمرّة، و هو كما ترى.

فإن قلت: العمل بها يحصل في صورة كرّيّة المجموع.

قلت: معنى حصول العمل بها حينئذ كونها مخرجة له عن المفهوم المقتضي للانفعال، و اعتبار كونها مخرجة إمّا مع تسليم كونها مطلقة، أو مع كونها منصرفة إلى الغالب، و لا ينطبق شيء منهما على مقصودكم، أمّا الأوّل: فلأنّ الإطلاق على فرض تسليمه يقتضي إلغاء الكرّيّة رأسا، و أمّا الثاني: فمع ما فيه من منع اعتبار الغلبة هنا كما سبق مشروحا أنّ التعويل عليه في اعتبار الكرّيّة خروج عن الاستدلال بأخبار انفعال ما دون الكرّ، مضافا إلى أنّه لو صحّ لقضى باعتبار الكرّيّة في المادّة أيضا لا في المجموع فقط.

فالحقّ أنّ العمل في المقام إنّما هو بأخبار الحمّام لا غير، و أنّ مقتضى ما فيها من الإطلاق إلغاء الكرّيّة بالمرّة عن المادّة و عن المجموع معا، و المراد بالإطلاق ما في غير الخبرين المتضمّنين لتنزيل ماء الحمّام منزلة الجاري و تشبيهه بماء النهر، إذ لا إطلاق فيهما لكونهما واردين لمجرّد بيان حكم الاعتصام و عدم الانفعال كالجاري و ماء

ص: 452

النهر، من غير تعرّض فيهما للتشبيه في عدم اعتبار الكرّيّة كما في المشبّه به، فلا يستفاد منهما إلاّ قضيّة مهملة بخلاف ما عداهما، فإنّ الإطلاق فيه ممّا لا إشكال فيه خصوصا في خبر قرب الأسناد «ماء الحمّام لا ينجّسه شيء»(1) و خبر بكر بن حبيب: «ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة».(2)

و دعوى: كون الإطلاق منزّلا على الغالب قد عرفت ما فيها بما لا مزيد عليه، فماء الحمّام حينئذ مخرج عن قاعدة انفعال القليل بالدليل، فثبت أنّ الأقوى في النظر القاصر هو القول الأخير الّذي صار إليه بعض مشايخنا، قائلا - بعد ما أطنب الكلام في تقريب هذا القول -: «فصار حاصل البحث أنّ ما في الحياض حاله كحال الماء الخارج من عين الجاري، و الحوض الكبير الّذي يأتي منه الماء بمنزلة العين الّتي ينبع منها الماء القليل، فلا يقبل ما في الحياض النجاسة سواء كان ما في الحوض الكبير كرّا أو لا، و سواء كان المجموع مقدار كرّ أو لا، لكن بشرط اتّصالها بالمادّة و تجدّد الخروج منها»(3)انتهى. و لكن الاحتياط في كرّيّة المجموع، و أحوط منه اعتبار كرّيّة المادّة أيضا.

الجهة الثالثة: لهم خلاف آخر في تطهير ماء الحمّام، بعد تنجّسه بسبب الانقطاع عن المادّة حين ملاقاة النجاسة،
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الاولى: في اشتراط كرّيّة المادّة في رفع النجاسة عن ماء الحوض الصغير و عدمه،
اشارة

و الّذي صرّح به غير واحد هو الاشتراط نافين عنه الاشكال، بل نقل عليه الإجماعات، الّتي منها ما ستعرف عن الفاضل الهندي(4)، و في الرياض(5) نفي الخلاف عنه، و إن كان بضابطته المعروفة عنه عبارة عن عدم عثوره على الخلاف حيثما يعبّر به، لا أنّه عثر على الإجماع، و لعلّه من جهة تردّده في مذهب المحقّق، حيث إنّه قد ينسب إليه المصير إلى عدم اعتبار الكرّيّة في الدفع و الرفع معا، لإطلاق قوله - فيما تقدّم عن المعتبر -: «و لا اعتبار بكثرة المادّة و قلّتها»(6) و قد يعزى إليه اختيار الاعتبار في الرفع خاصّة، لمكان

ص: 453


1- الوسائل 150:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 8 - قرب الأسناد: 128.
2- الوسائل 149:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 1168/378:1.
3- جواهر الكلام 232:1.
4- كشف اللثام 260:1.
5- رياض المسائل 139:1.
6- المعتبر: 9.

قوله - في ذيل العبارة المذكورة -: «لكن لو تحقّقت نجاستها لم تطهر بالجريان».

و في دلالة ذلك على ما ذكر نظر واضح، كما تنبّه عليه غير واحد من الأجلّة، لجواز كونه مرادا به عدم كفاية مجرّد اتّصال المادّة في التطهير و اشتراط الامتزاج فيه، كما هو أحد القولين في المسألة الآتية، بل لا يبعد أن يقال: بكونه المنساق من نظائر تلك العبارة كما لا يخفى.

فالإنصاف: أنّ كلام المحقّق بالنسبة إلى مسألة التطهير متشابه، فلا يعلم مذهبه في تلك المسألة بنفس تلك العبارة، فإن علم من الخارج شيء يقضي باختياره الكرّيّة يعلم له الموافقة و إلاّ فلا، و قد يستفاد اختياره إيّاها بما يرجع في الحقيقة إلى استبعاد صرف، كما عن الفاضل الهندي حيث قال: «بأنّ المحقّق إنّما يسوّي بين الكرّ و الأقلّ من الباقي منها إلاّ ما جرى في الحوض، و لا يقول بأنّ الباقي إذا نقص عن الكرّ فانقطع الجريان ثمّ تنجّس ما في الحوض يطهّر بالإجراء ثانيا، للاتّفاق على أنّه لا يطهّر الماء النجس إلاّ الكرّ أو الماء الجاري»(1) انتهى.

و بالجملة: لم يعهد من الأصحاب هنا مخالف في اعتبار الكرّيّة، عدا ما يوهمه إطلاق عبارات المحقّق في المعتبر(2) و الشرائع(3) و النافع(4).

نعم في الحدائق(5) عن بعض الأخباريّين(6) المفصّل في مسألة انفعال القليل بين الورودين الميل إلى عدم اعتبار الكرّيّة في الرفع، اكتفاء بجريان الماء الطاهر عليه بقوّة بحيث يستهلك الماء فيه، استنادا إلى ظواهر جملة من الأخبار، و لكنّ المسألة لو كانت إجماعيّة فهذا الخلاف غير قادح فيه جزما، حتّى مع صحّة مستنده فكيف به مع فساد المستند كما سيتبيّن، و على أيّ حال كان

فحجّة القول باعتبار الكرّيّة وجوه:
أحدها: ظهور الإجماع.
و ثانيها: الإجماعات المحكيّة

الّتي منها ما تقدّم، و منها ما عن الخوانساري(7) من

ص: 454


1- كشف اللثام 262:1.
2- المعتبر: 9.
3- شرائع الإسلام 12:1.
4- المختصر النافع: 41.
5- الحدائق الناضرة 213:1.
6- و هو المحدّث الأسترآبادي رحمه اللّه.
7- مشارق الشموس: 208 قوله: «و الدليل على الأمر الثاني: مضافا إلى الإجماع أيضا على تقدير كون المادّة كرّا» الخ.

الإجماع ظاهرا على أنّ المادّة البالغة كرّا لها قابليّة لتطهير ما في الحوض بمجرّد جريانه إليه من دون القاء كرّ عليه دفعة، و لكن في نهوض ذلك على اشتراط الكرّيّة نظر واضح، لا يخفى وجهه على المتأمّل.

و ثالثها: استصحاب النجاسة إلى أن يتحقّق رافع يقيني،

و ليس إلاّ كرّيّة المادّة.

و رابعها: ما عن جامع المقاصد: «و اعلم أنّ اشتراط الكرّيّة في المادّة هو أصحّ القولين للأصحاب،

لانفعال ما دون الكرّ بالملاقاة، فلا يرفع النجاسة عن غيره»(1).

و هذان أيضا كما ترى لا ينهضان دليلا على الاشتراط، بل غاية ما فيهما الدلالة على أنّ ما دون الكرّ لا يصلح مطهّرا، و أمّا أنّ المطهّر هو الكرّ أو أنّ الكرّ صالح له فلا بدّ في إثبات ذلك من إنهاض دليل آخر، فالحقّ أنّ ماء الحمّام لم يثبت له من حيث الرفع و التطهير خصوصيّة، لعدم تعرّض في الأخبار الواردة فيه لبيان هذا الحكم فضلا عن كيفيّته كما ستعرف، فلا بدّ في استعلام حكم المسألة من المراجعة إلى ما يطهّر به الماء القليل، و النظر في دليل اعتبار كونه كرّا و غيره من الإجماع و غيره، و لتحقيق ذلك موضع آخر يأتي في أبواب كيفيّة تطهير المياه.

و أمّا القول بعدم الكرّيّة

إن كان ثابتا في المسألة، و كان قائله ممّن يعتنى به - فلا مستند له إلاّ إطلاق أخبار الباب المتقدّمة، و هو ظاهر الفساد لكون تلك الأخبار بين صريحة و ظاهرة سياقا و متنا في التعرّض لبيان حكم الدفع من غير تعرّض لبيان حكم الرفع، نعم في ثلاث روايات منها ما ربّما يوهم ذلك كقوله عليه السّلام: «ماء الحمّام بمنزلة الماء الجاري»(2)و قوله عليه السّلام: «ماء الحمّام كماء النهر، يطهّر بعضه بعضا»(3) و قوله عليه السّلام: «ماء الحمّام سبيله سبيل الماء الجاري إذا كانت له مادّة»(4) بناء على أنّ المنزلة و التشبيه يفيدان العموم.

و فيه: مع أنّ في عموم المنزلة و التشبيه كلاما، و القول بانصرافهما إلى الخواصّ الظاهرة لا يخلو عن قوّة، و الظاهر من خواصّ المشبّه به إنّما هو الدفع، أنّ هذه الامور إنّما تفيد الظهور في العموم إذا لم يقم في الكلام المشتمل عليها ما يصرفها عن ظهورها و المقام ليس منه.

ص: 455


1- جامع المقاصد 112:1.
2- الوسائل 148:1 ب 7 من أبواب الماء مطلق ح 1 - مع تغيير يسير.
3- الوسائل 150:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 7.
4- فقه الرضا عليه السّلام: 86.

أمّا في الخبر الأوّل: فلأنّ سياق السؤال الوارد فيه بقوله: «ما تقول في ماء الحمّام؟» ظاهر في السؤال عن حكم الدفع و قبوله الانفعال و عدمه، كما لا يخفى على المنصف، فيصرف إليه الجواب.

و أمّا في الخبر الثاني: فلما قرّرناه في توجيهه في بحث الجاري من أنّ المراد بقوله:

«يطهّر بعضه بعضا» يعصم بعضه بعضا عن الانفعال و يوجب اعتصامه، بقرينة ما تقدّم من عدم كون شيء ممّا ذكر في سؤاله من النجاسات ما يوجب تغيّر الماء عادة، فلاحظ و تأمّل.

و أمّا في الخبر الثالث: فلأنّ قوله عليه السّلام: «إذا كانت له مادّة» قيد احترازي أتى به المعصوم لدفع ما لعلّه يتوهّمه المخاطب من عدم الاحتياج إلى المادّة في الحكم الّذي أعطاه عليه السّلام، و الّذي هو محلّ لأن يطرأه هذا التوهّم إنّما هو مقام الدفع دون مقام الرفع، لأنّ كلّ عاقل متشرّع يعلم أنّ النجاسة بعد ما طرأت الماء لا ترتفع من قبل نفسها، بل تحتاج إلى رافع شرعي و مطهّر خارجي، و محصّله يرجع إلى دوران الشرط بين كونه قيدا احترازيّا أو توضيحيّا، و من المقرّر أنّ الأصل - بمعنى الظاهر - هو الأوّل، و قضيّة ذلك كون الخبر واردا لبيان الدفع دون الرفع.

المسألة الثانية: في تطهير ماء الحمّام بمجرّد اتّصاله بالمادّة أو اشتراطه بالامتزاج و غلبة المادّة عليه،

قولان من الاقتصار فيما خالف الأصل - و هو استصحاب النجاسة أو أصالة عدم الطهارة - على المتّفق عليه، و أنّ الصادق عليه السّلام حكم بأنّه بمنزلة الجاري، و لو تنجّس الجاري لم يطهّر إلاّ باستيلاء الماء عليه، بحيث يزيل انفعاله، و من امتياز الطاهر من النجس مع عدم الامتزاج، و ذلك يقتضي اختصاص كلّ بحكمه.

و من أنّ اتّصال القليل بالكثير قبل النجاسة كاف في دفع النجاسة و إن لم يمتزج به فكذا بعدها، لأنّ عدم قبول النجاسة في الأوّل إنّما هو بصيرورة الماءين ماء واحدا بالاتّصال.

و أنّ الامتزاج إن اريد به امتزاج كلّ جزء من الماء النجس بجزء من الطاهر لم يمكن الحكم بالطهارة أصلا، لعدم العلم بذلك، و إن اكتفى بامتزاج البعض لم يكن المطهّر للبعض الآخر هو الامتزاج بل مجرّد الاتّصال، فيلزم إمّا القول بعدم الطهارة أصلا، أو القول بالاكتفاء بمجرّد الاتّصال.

و أنّه عن المنتهى: «أنّ الاتّفاق واقع على أنّ تطهير ما نقص عن الكرّ بإلقاء كرّ عليه،

ص: 456

و لا شكّ أنّ المداخلة ممتنعة، فالمعتبر إذن الاتّصال الموجود هنا»(1)، و أنّ الأجزاء الملاقية للطاهر يجب الحكم بطهارتها عملا بعموم ما دلّ على طهوريّة الماء، فتطهّر الأجزاء الّتي يليها لذلك، و كذا الكلام في بقيّة الأجزاء، كما حكاه في المدارك عن المحقّق و الشهيد الثانيين، قائلا: «بأنّ هذا اعتبار حسن نبّه عليه المحقّق الشيخ عليّ في بعض فوائده، و جدّي في روض الجنان»(2)، و في أكثر ما ذكر عن الطرفين نظر، و إذ قد عرفت أنّ الحمّام لم يثبت له خصوصيّة بالنسبة إلى مقام الرفع، لكون الأخبار الواردة فيه ساكتة عن ذلك المقام، فكيفيّة تطهير هذا الماء كتطهير سائر المياه القليلة، فتحقيق حاله بالقياس إلى اشتراط الامتزاج و عدمه، موكول إلى محلّه، و سيلحقك البحث عن ذلك إن شاء اللّه.

المسألة الثالثة: بناء على القول باشتراط الامتزاج و اشتراط كرّيّة المادّة في التطهير، فهل يكتفى بكون المادّة مقدار الكرّ من غير زيادة عليه،

أو يشترط زيادتها بمقدار ما يحصل به الممازجة و الغلبة؟ و كذا بناء على القول بكفاية الاتّصال يجري الكلام في اشتراط الزيادة بمقدار ما ينحدر من الماء عن المادّة المتّصلة بالحوض، قولان، اختار أوّلهما في المدارك(3)، و عن العلاّمة في المنتهى(4)، التصريح في مسألة الغديرين.

و حكى ثانيهما عن ثاني الشهيدين تعليلا: «بأنّه لو كانت كرّا فقط لكان ورود شيء منها على الحياض موجبا لخروجها عن الكرّيّة، إذ المعتبر كرّيّة المادّة بعد الملاقاة فتقبل الانفعال حينئذ»(5) و عن صريح التحرير(6) أيضا اختياره، كما عن جامع المقاصد(7) اختياره أيضا استنادا بما ذكر عن الشهيد، و لا يخفى ما فيه من الاعتبار الصرف، و الحكم تابع للإجماع، فإن ثبت إجماع فكيف و لم يثبت، و إلاّ كان كسائر المياه القليلة الّتي تطهر بالكرّ.

و استدلّ على القول الأوّل بقوله عليه السّلام: «ماء الحمّام كماء النهر، يطهّر بعضه بعضا»(8)

ص: 457


1- منتهى المطلب 54:1.
2- مدارك الأحكام 36:1 - روض الجنان: 138.
3- مدارك الأحكام 36:1.
4- منتهى المطلب 53:1.
5- روض الجنان: 137 نقلا بالمعنى.
6- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 4.
7- جامع المقاصد 113:1.
8- الوسائل 148:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 1 مع تغيير يسير.

و يؤيّده «هو بمنزلة الجاري»(1) و «ماء الحمّام سبيله سبيل الجاري»(2).

و فيه: ضعف واضح تقدّم وجهه.

و قد يقال: بابتناء القولين على قولهم في اعتبار الدفعة في إلقاء الكرّ و عدمه، فالأوّل مبنيّ على الثاني، كما أنّ الثاني مبنيّ على الأوّل، و هو أيضا مشكل.

ثمّ إنّ جماعة من الأصحاب تنبّهوا على فروع في المقام، لا بأس بإيرادها.

أحدها: أنّه هل يشترط في مادّة الحمّام العلم بعدم نجاستها أو يكفي عدم العلم بالنجاسة؟

احتمالان صرّح بثانيهما العلاّمة في المنتهى(3)، و تبعه غير واحد، و أمّا الأوّل فلم نقف على قائل به، كما أنّ احتمال كفاية المادّة مطلقة و لو مع العلم بالنجاسة ممّا لا قائل به، بل ظاهرهم الاتّفاق على بطلانه، بل المستفاد من أخبار الباب بحكم الالتزام العرفي إنّما هو طهارة المادّة، كما أنّ المستفاد من الأخبار الآمرة بالغسل عن النجاسات إنّما هو اشتراط طهارة الماء الّذي يغسل به، كما هو مجمع عليه عندهم أيضا - على ما سبق بيانه في بحث الغسالة - و مع هذا فالفرع المذكور مفروض لاستعلام أنّ الطهارة المعتبرة في المادّة هل هي عبارة عن الطهارة العلميّة أو الشرعيّة الّتي تتأتّى مع عدم العلم بالنجاسة في الجملة، كما سيتبيّن عقيب ذلك. و احتجّ العلاّمة (4)- على ما صرّح به - بالعموم، و التعذّر، و الحرج، و استجوده المحقّق الخوانساري في شرح الدروس.(5)

و قد يفصّل: فيحكم بكفاية عدم العلم بالنجاسة إذا لم تكن المادّة مسبوقة بالعلم بها، و إلاّ فلا إشكال في عدم الكفاية في صورة تطهير ما في الحوض بها، لاستصحابي النجاستين في المادّة و في الحوض، و كذلك في مقام الدفع لمكان النجاسة المستصحبة فلا تفيد تقوّيا بالقياس إلى غيرها، و قضيّة ذلك انفعال ذلك الغير بالملاقاة، بل بمجرّد اتّصاله بها على إشكال فيه، ينشأ عن ملاحظة استصحاب الطهارة فيه.

و ثانيها: بناء على اعتبار كرّيّة المادّة أو المجموع، لو شكّ في الكرّيّة

فعزى الخوانساري إلى ظاهر كلامهم أنّه يبني على الأصل. و هو عدم بلوغ الكرّيّة، فضعّفه قائلا: «و الظاهر البناء على طهارتها، و عدم الحكم بنجاستها بملاقاة النجاسة، للروايات

ص: 458


1- الوسائل 150:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 7.
2- فقه الرضا عليه السّلام: 86.
3- منتهى المطلب 31:1.
4- منتهى المطلب 31:1.
5- مشارق الشموس: 210.

الدالّة على «أنّ كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر» و لاستصحاب الطهارة» - إلى أن قال: - «و كذا طهارة الحوض الصغير، نعم، إذا تغيّر الحوض الصغير فلا يمكن الحكم بتطهيره بإجراء تلك المادّة إليه، و كذا لا يمكن تطهير شيء نجس لا فيها و لا في الحوض الصغير، و كذا الحال في جميع المياه المشكوك الكرّيّة».(1)

و وافقه على هذا التفصيل صاحب الرياض قائلا: «و ينبغي القطع بالطهارة لو طرأ الشكّ بعد تيقّن الكرّيّة فيها، لاستصحابي بقاء الطهارة و المادّة على الكرّيّة، و عمومي الأصلين البراءة، و «كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر»(2).

و لو طرأ الشكّ بعد تيقّن نقصها من الكرّ بكثرة مجيء الماء إليها فلا يبعد ذلك، لتعارضهما من الجانبين فيبقى الأصلان سالمين عن المعارض.

و منه يظهر الحكم فيما لو طرأ مع فقد اليقين، و أمّا لو انفعل ما في الحوض ثمّ اتّصل بالمادّة المزبورة المشكوك كرّيّتها فالأقرب البقاء على النجاسة، لاستصحابها السليم عن المعارض، و إن احتمل الطهارة أيضا في الجملة، بمعنى عدم تنجيسه ما يلاقيه بإمكان وجود المعارض، من جانب الملاقي الطاهر لمثله، إلاّ أنّ الظاهر كون الاستصحاب الأوّل مجمعا عليه.»(3) انتهى، و استجوده بعض تلامذته(4) أيضا.

و ثالثها: قال المحقّق الخوانساري: و «اعلم أنّهم اكتفوا في الكرّيّة بشهادة العدلين بها و اختلف في الواحد،

فقد قطع المحقّق الشيخ عليّ بالاكتفاء به، بناء على أنّه إخبار لا شهادة، و استقرب لو كان له يد على الحمّام كالمالك و المستأجر و الوكيل، و نقل عن فخر المحقّقين قبول قول ذي اليد على الحمّام مطلقا، سواء كان عدلا أو لا و في غير شهادة العدلين إشكال قويّ لعدم نصّ عليه و فيها أيضا بعض الإشكال».(5)

و رابعها: قد عرفت في ذيل كلام السيّد في الرياض الحكم بنجاسة ما يلاقي ماء الحوض النجس المتّصل بالمادّة المشكوكة في كرّيّتها،

مع احتماله طهارة الملاقي خاصّة لإمكان معارضة استصحاب الطهارة فيه لاستصحاب النجاسة في الماء، مع دعواه على العمل باستصحاب النجاسة المقتضية لنجاسة الملاقي، و قد يجعل الاحتمالان المذكوران

ص: 459


1- مشارق الشموس 210-211.
2- الوسائل 133:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 2.
3- رياض المسائل 139:1.
4- لم نعرفه.
5- مشارق الشموس: 211.

قولين في ذلك الفرع، و لكن يرجّح احتمال النجاسة تعليلا بكون استصحاب نجاسة الماء من استصحاب طهارة الملاقي مزيلا له فيقدّم عليه على ما هو مقرّر في محلّه، و يجعل السرّ في الإجماع المدّعى على العمل باستصحاب النجاسة هو ذلك، هذا.

و تحقيق الكلام: في جميع الفروع المذكورة مبنيّ على النظر في تأسيس أصل كلّي يجري في غالب أبواب الطهارات و غيرها، و هو أنّ الطهارة في الماء حيثما علّق عليها الأحكام، هل العبرة فيها بالعلم بها أو لا؟ و على الثاني فهل يعتبر فيها أمارة من الأمارات الشرعيّة التعبّديّة أو لا؟ ثمّ النجاسة على فرض عدم اعتبار علم و لا أمارة في نقيضها يلزمها أن يعتبر فيها العلم أو الأمارة؟ فهل يتعيّن فيها العلم خاصّة، و لا يحكم بها بدونه و لو مع قيام الأمارة عليها؟ أو يكفي في ثبوتها الأمارة أيضا، و أنّها تقوم مقام العلم؟ و عليه فهل يتعيّن في ذلك أمارة دون اخرى؟ أو يجري فيها عامّة الأمارات الجارية في غير المقام، ثمّ إذا كفت الأمارة في ثبوت نجاسة شيء فهل تفيد تلك النجاسة تنجيسا لملاقيه أو لا؟

غير أنّه ينبغي أن يعلم أنّ هذا البحث إنّما يثمر و يجري في معرفة حكم الجزئيّات، المعلوم حكم كلّيّاتها بأصل الشرع من طهارة أو نجاسة، الصالحة لاندراجها تحت كلّ من الكلّيّين المعلوم حكمهما الكلّي الإلهي، الّتي قد يعبّر عنها بالموضوعات الصرفة، و إلاّ فكلّ من الطهارة و النجاسة من حيث إنّه حكم كلّي إلهي يتبع في ثبوته لموضوعاته الكلّيّة - الّتي قد يعبّر عنها بالموضوعات المستنبطة - لدليله، من حيث إنّه توقيفي فلا بدّ فيه من دليل علمي أو ظنّي حيث يعتبر.

فالكلام في اعتبار العلم فيه من هذه الجهة، أو كفاية مطلق الظنّ، أو اعتبار الأمارة مطلقة، أو غيرها، هو الكلام في حجّيّة الظنّ و دليليّة الطرق المعهودة،

اشارة

و هذا كما ترى شيء لا يتعلّق به غرض الفقيه أصلا و إنّما هو بحث له محلّ آخر، بل الّذي يتعلّق به الغرض هنا إنّما هو استعلام كون الطهارة و النجاسة المعلومتين للموضوعات المستنبطة منوطتين في موضوعاتها الخارجيّة بالعلم خاصّة، أو تكفي فيهما الظنّ مطلقا، أو أنّ الطهارة منوطة بعدم العلم بالنجاسة بخلاف النجاسة، فإنّها منوطة بالعلم بها، على معنى العلم بتحقّق سببها الموجب لها، أو ما هو قائم مقامه على فرض ثبوته، ثمّ إنّه لا فرق في هذا البحث بين المياه و غيرها ممّا اعتبر فيها الطهارة، من المآكل و المشارب و الثياب

ص: 460

و الأواني و نحوها، و كيف كان فينبغي في المقام الكلام في مطالب:

المطلب الأوّل: لا إشكال كما لا خلاف في أنّ الطهارة المعتبرة في الماء بل كلّ مشروط بالطهارة غير منوطة بالعلم به،
اشارة

بل الّذي ينوط به في ترتيب الأحكام الشرعيّة إنّما هو النجاسة، قال الشيخ في لباس المصلّي من زيادات التهذيب - عقيب رواية عبد اللّه بن سنان الآتية، الآمرة بغسل الثوب للصلاة الّذي اعير لمن يعلم أنّه يأكل الجري و يشرب الخمر -: «هذا الخبر محمول على الاستحباب، لأنّ الأصل في الأشياء كلّها الطهارة، و لا يجب غسل شيء من الثياب إلاّ بعد العلم بأنّ فيها نجاسة، و قد روى هذا الراوي بعينه خلاف هذا الخبر»(1) يعني به روايته الاخرى الآتية المصرّحة في الثوب الّذي اعير للذمّي بعدم وجوب غسله.

و قال صاحب المدارك: «إنّ ما عدا نجس العين يجب الحكم بطهارته، تمسّكا بمقتضى الأصل و العمومات إلى أن يحصل اليقين بملاقاته لشيء من الأعيان النجسة بإحدى الطرق المفيدة له، و لا عبرة بالظنّ ما لم يستند إلى حجّة شرعيّة، لانتفاء الدليل على اعتباره، و عموم النهي عن اتّباعه»، إلى آخر كلامه قدّس سرّه(2).

و الأصل فيما ذكرناه من الحكمين بعد الإجماع القولي المقطوع به من تتبّع كلمات الأصحاب [الأخبار المعتبرة]،

و العملي المعلوم من طريقة الفقهاء و سيرة كافّة المتشرّعة في عامّة الأعصار و قاطبة الأمصار، الأخبار المعتبرة الّتي فيها الصحاح و غيرها المستفيضة القريبة من التواتر، بل المتواترة باعتبار المعنى جدّا بل البالغة فوق التواتر.

منها: الخبر المستفيض المرويّ في كتب المشايخ الثلاث بطرق متكرّرة، المتّفق على العمل به، المتلقّى بالقبول لدى الكلّ: «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(3).

و منها: موثّقة عمّار المرويّة في التهذيب و الوسائل عنه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث، قال: «كلّ شيء نظيف حتّى يعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، و ما لم تعلم فليس عليك شيء»(4) و قد مرّ في مباحث الماء القليل الكلام في تطبيق الاولى على

ص: 461


1- التهذيب 361:2 ذيل ح 1494.
2- مدارك الأحكام 384:2.
3- الوسائل 134:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 621/216:1 - الكافي 3/1:3.
4- الوسائل 467:3 ب 37 من أبواب النجاسات ح 4 التهذيب 832/284:1.

الموضوعات الخارجيّة و على قياسها الثانية.

و منها: خبر غياث عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليهم السّلام قال: «ما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم»(1) تمسّك به في المدارك(2) على ما تقدّم عنه من دعوى الأصل الكلّي.

و منها: خبر عمّار بن موسى الساباطي، أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يجد في إنائه فأرة، و قد توضّأ من ذلك الإناء مرارا، أو غسل منه ثيابه أو اغتسل منه، و قد كانت الفأرة متسلّخة؟ فقال: «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل، أو يتوضّأ، أو يغسل ثيابه، ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه، و يغسل كلّما أصابه ذلك الماء، و يعيد الوضوء و الصلاة، و إن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك و فعله فلا يمسّ من الماء شيئا، و ليس عليه شيء، لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه، ثمّ قال: لعلّه أن تكون سقطت فيه تلك الساعة الّتي رآها،»(3) و هذا كما ترى يقضي بعدم اعتبار الظنّ بالنجاسة بجميع مراتبه، حتّى ما يكون منه قويّا متآخما بالعلم، ضرورة أنّ انفساخ الفأرة كما هو مفروض السؤال ممّا يحصل معه ظنّ قويّ قريب من العلم بسقوطها في الإناء قبل جميع تلك الاستعمالات، إن لم نقل بإيراثه العلم بذلك، و احتمال كونها ساقطة في الساعة الّذي أبدأه الإمام عليه السّلام في غاية البعد و الغرابة.

و منها: صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة في مباحث الماء القليل، بالتوجيه المتقدّم ثمّة، القائلة في دم الرعاف بأنّه: «إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئا بيّنا فلا تتوضّأ منه»(4).

و منها: مرسلة محمّد بن إسماعيل المرويّة في الكافي عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن عليه السّلام «في طين المطر، أنّه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيّام، إلاّ أن تعلم أنّه قد نجّسه شيء بعد المطر، فإن أصابه بعد ثلاثة أيّام فاغسله، فإن كان الطريق نظيفا لم تغسله»(5).

ص: 462


1- الوسائل 467:3 الباب 37 من أبواب النجاسات ح 5 - التهذيب 735/253:1 - الفقيه 166/42:1.
2- مدارك الأحكام 384:2.
3- الوسائل 142:1 ب 4 من أبواب الماء المطلق ح 1 - الفقيه 26/14:1 - التهذيب 1322/418:1، في الفقيه و التهذيب «منسلخة».
4- الوسائل 150:1 ب 4 من أبواب الماء المطلق ح 1 - الكافي 16/74:3 - التهذيب 1299/412:1.
5- الوسائل 147:1 ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 6 - الكافي 4/13:3.

و منها: الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم، المرويّ في الكافي عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه شيء فليغسل الّذي أصابه، فإن ظنّ أنّه أصابه شيء و لم يستيقن و لم ير مكانه، فلينضحه بالماء، و إن استيقن أنّه قد أصابه شيء و لم ير مكانه فليغسل ثوبه كلّه، فإنّه أحسن»(1) بناء على أنّ النضح المعلّق على ظنّ الإصابة و عدم تيقّنها هو الرشّ، فلا يكون مجزيا عن الغسل لو كان الظنّ كافيا في تنجّس المحلّ، و هو محمول عندهم بالاستحباب، و أمكن كونه تعبّدا على حدّ سائر التعبّديّات الّتي منها غسل موضع النجاسة.

و منها: خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون له الثوب قد أصابه الجنابة فلم يغسله، هل يصلح النوم فيه؟ قال: «يكره»(2)، و سألته عن الرجل يعرق في الثوب، يعلم أنّ فيه جنابة، كيف يصنع؟ هل يصلح له أن يصلّي قبل أن يغسل؟ قال: «إذا علم أنّه إذا عرق أصاب جسده من ذلك الجنابة الّتي في الثوب، فليغسل ما أصاب جسده من ذلك، و إن علم أنّه قد أصاب جسده و لم يعرف مكانه، فليغسل جسده كلّه،»(3) فإنّه بمفهومه دالّ على عدم وجوب غسل الجسد مع عدم العلم بإصابة الجسد، كما أنّه بمنطوقه دالّ على وجوبه مع العلم بالإصابة تفصيلا أو إجمالا.

منها: خبر موسى بن القاسم عن عليّ بن محمّد عليهما السّلام قال: سألته عن الفأرة و الدجاجة و الحمامة و أشباهها، تطأ العذرة، ثمّ تطأ الثوب أ يغسل؟ قال: «إن كان استبان من أثره شيء فاغسله، و إلاّ فلا بأس»(4) و مثله مرويّ (5) عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام، و دلالتهما واضحة بعد ملاحظة ما أشرنا إليه في رواية دم الرعاف المتقدّمة.

منها: خبر عبد اللّه بن الحجّاج، قال: سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن رجل يبول بالليل، فيحسب أنّ البول أصابه فلا يستيقن، فهل يجزيه أن يصبّ على ذكره إذا بال، و لا يتنشّف؟ قال: «يغسل ما استبان أنّه قد أصابه، و ينضح ما يشكّ فيه من جسده و ثيابه،

ص: 463


1- الوسائل 424:3 ب 16 من أبواب النجاسات ح 4 - الكافي 729/252:1.
2- الوسائل 404:3 ب 7 من أبواب النجاسات ح 9 و 10 - مسائل عليّ بن جعفر 237/159 و 238.
3- الوسائل 404:3 ب 7 من أبواب النجاسات ح 9 و 10 - مسائل عليّ بن جعفر 237/159 و 238.
4- الوسائل 467:3 ب 37 من أبواب النجاسات ح 3 - التهذيب 1347/424:1.
5- قرب الأسناد: 89.

و يتنشّف قبل أن يتوضّأ»(1) قال في الوسائل: «المراد بالتنشّف الاستبراء، و بالوضوء الاستنجاء»، وجه الاستدلال ما تقدّم في حسنة الحلبي.

و منها: صحيحة زرارة قال: «قلت: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شيء من المنيّ إلى أن قال: فإن ظننت أنّه أصابه و لم أتيقّن ذلك فنظرت، فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال: تغسله و لا تعيد الصلاة، قلت: لم ذلك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت، و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا، قلت: فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، و لكنّك تريد أن تذهب الشكّ الّذي وقع في نفسك»(2).

و منها: الحسن بإبراهيم بن هاشم أيضا، عن عبد اللّه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال: «إن كان علم إنّه أصاب ثوبه جنابة قبل أن يصلّي، ثمّ صلّى فيه و لم يغسله، فعليه أن يعيد ما صلّى، و إن كان لم يعلم فليس عليه إعادة، و إن كان يرى أنّه أصابه شيء فينظر فلم ير شيئا، أجزأه أن ينضحه بالماء»(3).

و منها: صحيحة عبد اللّه بن سنان، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر، أنّي اعير الذمّي ثوبي، و أنا أعلم أنّه يشرب الخمر، و يأكل الخنزير، فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «صلّ فيه و لا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إيّاه و هو طاهر، و لم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه»(4).

و منها: رواية السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام سئل عن سفرة وجدت في طريق مطروحة، كثير لحمها و خبزها و جبنها و بيضها و فيها سكّين، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «يقوّم ما فيها، ثمّ يؤكل، لأنّه يفسد و ليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن»، قيل: يا أمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم هي أم مجوس؟ فقال: «هم في سعة حتّى تعلموا»(5).

ص: 464


1- الوسائل 466:3 ب 37 من أبواب النجاسات ح 2 و 1 - التهذيب 1335/421:1.
2- الوسائل 466:3 ب 37 من أبواب النجاسات ح 2 و 1 - التهذيب 1335/421:1.
3- الوسائل 475:3 ب 40 من أبواب النجاسات ح 3 - الكافي 9/406:3.
4- الوسائل 521:3 ب 74 من أبواب النجاسات ح 1 - و فيه بدل «سئل ابو عبد اللّه ع» «سأل أبي أبا عبد اللّه ع» - التهذيب 1495/361:2.
5- الوسائل 493:3 ب 50 من أبواب النجاسات ح 11 - الكافي 7/398:3.

و منها: رواية سماعة بن مهران، أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تقليد السيف في الصلاة، و فيه الغرى(1) و الكيمخت؟ فقال: «لا، ما لم تعلم أنّه ميتة»(2).

و منها: رواية عليّ بن أبي حمزة، إنّ رجلا سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام - و أنا عنده - عن الرجل يتقلّد السيف و يصلّي فيه؟ قال: «نعم»، فقال الرجل: إنّ فيه الكيمخت؟ قال: «و ما الكيمخت»؟ قال: جلود دوابّ، منه ما يكون ذكيّا و منه ما يكون ميتة، فقال: «ما علمت أنّه ميّت فلا تصلّ فيه»(3).

و منها: خبر ابن مسكان عن الحلبي، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخفاف الّتي تباع في السوق؟ فقال: «اشتر و صلّ فيها حتّى تعلم أنّه ميّت بعينه»(4).

و منها: صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فرّا، لا يدري أ ذكيّة هي أم غير ذكيّة، أ يصلّي فيها؟ قال: «نعم، ليس عليكم المسألة، أنّ أبا جعفر عليه السّلام كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، أنّ الدين أوسع من ذلك»(5).

و منها: صحيحته الاخرى عن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخفّ، لا يدري أ ذكيّ هو أم لا؟ ما تقول في الصلاة فيه، و هو لا يدري أ يصلّي فيه؟ قال: «نعم، أنا أشتري الخفّ من السوق، و يصنع لي و اصلّي، و ليس عليكم المسألة»(6).

و منها: ما في التهذيب عن إسماعيل بن عيسى، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل من أسواق الجبل، أ يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال: «عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، و إذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه»(7).

ص: 465


1- هكذا وجدناه في الوسائل، و لكن في المجمع: و في الحديث ذكر الغراء و الكيمخت، و الغراء ككتاب شيء يتّخذ من أطراف الجلود ملصق به، و ربّما من السمك و الغراء كعصا لغة. انتهى و من القاموس: الغراء ما طلى به أو لصق به، أو شيء يستخرج من السمك. (منه).
2- الوسائل 493:3 ب 50 من أبواب النجاسات ح 12 - الفقيه 811/172:1.
3- الوسائل 491:3 ب 50 من أبواب النجاسات ح 4 - التهذيب 1530/368:2.
4- الوسائل 490:3 ب 50 من أبواب النجاسات ح 3 - التهذيب 234:2 و 920/368 و 1529.
5- الوسائل 490:3 ب 50 من أبواب النجاسات ح 3 - التهذيب 234:2 و 920/368 و 1529.
6- الوسائل 492:3 ب 50 من أبواب النجاسات ح 6 و 7 - التهذيب 1545/371:2.
7- الوسائل 492:3 ب 50 من أبواب النجاسات ح 6 و 7 - التهذيب 1545/371:2.

و منها: ما عن قرب الأسناد - لعبد اللّه بن جعفر - عن حمّاد بن عيسى، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «كان أبي عليه السّلام يبعث بالدراهم إلى السوق، فيشتري بها جبنا، فيسمّي و يأكل و لا يسأل عنه»(1).

و منها: ما في الكافي - في الصحيح - عن الحلبي، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

الخفاف عندنا في السوق نشتريها، فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال: «صلّ فيها حتّى يقال لك أنّها ميتة بعينه»(2).

و منها: ما فيه أيضا عن الحسن بن الجهم، قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أعترض السوق فأشتري خفّا، لا أدري أ ذكيّ هو أم لا؟ قال: «صلّ فيه»، قلت: فالنعل، قال:

«مثل ذلك» قلت: إنّي أضيق من هذا، قال «أ ترغب عمّا كان أبو الحسن عليه السّلام يفعله»(3).

و منها: ما - في الصحيح - في التهذيب عن معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الثياب السابريّة يعملها المجوس، و هم أخباث و هم يشربون الخمر، و نساؤهم على تلك الحال، ألبسها و لا أغسلها و اصلّي فيها؟ قال: «نعم» قال معاوية:

فقطعت له قميصا و خطته و فتلت له إزارا و رداء من السابري، ثمّ بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار، فكأنّه عرف ما اريد فخرج بها إلى الجمعة(4).

و منها: ما في التهذيب من خبر المعلّى بن خنيس، قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

«لا بأس بالصلاة في الثياب الّتي تعملها المجوس و النصارى و اليهود»(5) بناء على أنّ المراد نفي البأس عن الصلاة فيها بلا غسل، و إلاّ فلم يكن أحد يشكّ في عدم البأس مع الغسل.

و منها: ما في التهذيب - في الصحيح - عن الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ فقال: «يرشّ بالماء»(6) بناء على ما تقدّم من أنّ الرشّ ليس غسلا ليتبع النجاسة الثابتة.

و منها: رواية أبي عليّ البزّاز عن أبيه، قال: سألت جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن الثوب

ص: 466


1- الوسائل 492:3 ب 50 من أبواب النجاسات ح 8 - قرب الأسناد: 11.
2- الكافي 28/403:3.
3- الوسائل 493:3 ب 50 من أبواب النجاسات ح 9 - الكافي 31/404:3. (4-6) الوسائل 518:3-520 ب 73 من أبواب النجاسات ح 1 و 3 - التهذيب 1497/362:2 و 1496 و 1498.

يعمله أهل الكتاب، اصلّي فيه قبل أن يغسل؟ قال: «لا بأس، و أن يغسل أحبّ إليّ»(1).

و منها: خبر أبي جميلة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن ثوب المجوسي، ألبسه و اصلّي فيه؟ قال: «نعم»، قال: قلت: يشربون الخمر؟ قال: «نعم نحن نشتري الثياب السابريّة فنلبسها و لا نغسلها»(2).

و منها: ما في الوسائل عن أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي في الاحتجاج، عن محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري، أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليه السّلام عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة، و لا يغتسلون من الجنابة، و ينسجون لنا ثيابنا، فهل يجوز الصلاة فيها من قبل أن تغتسل؟ فكتب إليه في الجواب: «لا بأس بالصلاة فيها»(3).

و منها: ما في الاستبصار عن سماعة، قال: سألته عن أكل الجبن، و تقليد السيف و فيه الكيمخت و الفراء؟ فقال: «لا بأس به ما لم يعلم أنّه ميتة»(4) إلى غير ذلك من الروايات الجزئيّة الّتي يطّلع عليها المتتبّع في أبواب متفرّقة.

و لا ريب أنّ المستفاد من مجموع تلك الأخبار الدالّة بعضها عموما و البعض الآخر خصوصا امور:
أحدها: أنّ ثبوت الطهارة في مواردها و ترتّب أحكامها على تلك الموارد لا يتوقّف على العلم بها.
و ثانيها: أنّها كما لا تتوقّف على العلم، فكذلك لا تتوقّف على قيام أمارة تعبّديّة بها،

من استصحاب، أو بيّنة، أو إخبار عدل، أو ذي يد و نحوها، فإنّ ذلك يستفاد عن إطلاق الخبر الأوّل و الثاني و جملة كثيرة من البواقي، و أقوى ما يدلّ على ذلك الخبر الثالث عن أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله عليه السّلام: «ما أبالي أبول أصابني أو ماء»، ضرورة أنّ ما يتردّد بين الماء و البول لا يعلم له بالخصوص حالة سابقة، ليكون الحكم بالطهارة مستندا إليها استصحابا لها، و طهارة المحلّ و إن كانت بعد إصابة ذلك إيّاه قابلة للاستصحاب، غير أنّ

ص: 467


1- الوسائل 518:3 ب 73 من أبواب النجاسات ح 5 - التهذيب 862/219:2.
2- الوسائل 520:3 ب 73 من أبواب النجاسات ح 7 - الفقيه 794/168:1.
3- الوسائل 520:3 ب 73 من أبواب النجاسات ح 9 - الاحتجاج: 484.
4- الوسائل 90:24 ب 38 من أبواب الذبائح ح 1 - الاستبصار 342/90:4.

المنساق من الرواية كون الحكم بالطهارة لاحقا هنا بالمائع المتردّد بين الأمرين لا بالمحلّ، و إن استلزم طهارة الأوّل طهارة المحلّ أيضا.

و لا ينافيه ما في صحيحة زرارة(1) من استناد الإمام عليه السّلام إلى الاستصحاب، و لا ما يظهر من صحيحة عبد اللّه بن سنان(2) من كون الاستناد إلى الحالة السابقة، فلا داعي إلى حمل المطلقات على هذا المقيّد، لما قرّر في محلّه من أنّ العامّ و الخاصّ لا يحمل أحدهما على الآخر، فلا يقال: إنّ المراد ب «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» أو «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» ما علم له حالة سابقة تصلح للاستناد إليها، مع أنّ قاعدة حمل المطلق على المقيّد فيما بين المثبتين - للتنافي - لا تجري إلاّ في موضع التكليف الإلزامي و المقام ليس منه، مع أنّ أصل الحمل لا يمكن بالنسبة إلى الخبر الثالث كما عرفت.

و ثالثها: عدم وجوب الفحص و النظر تحصيلا للعلم بالنجاسة، أو إحراز لأمارة قامت بها على فرض كونها معتبرة في ثبوتها،

و الّذي يدلّ عليه صراحة من الأخبار صحيحة زرارة المتضمّنة لقوله عليه السّلام: «لا»، عقيب قول السائل، «فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟»(3).

نعم، قوله عليه السّلام: «و لكنّك تريد أن تذهب الشكّ الّذي وقع في نفسك» يدلّ على استحبابه، و هو ممّا لا إشكال فيه لاستقلال العقل بحسن الاحتياط، و نحو الصحيحة المذكورة في الصراحة على عدم وجوب الفحص الأخبار الاخر النافية للمسألة، و قد يدّعي الإجماع على عدم وجوبه في العمل بالأصل في الموضوعات الخارجيّة، كما سمعناه عن بعض مشايخنا العظام (4)- شكر اللّه مساعيهم - مشافهة عند قراءتنا عليه، و الظاهر أنّه في محلّه في الجملة، و إن اقتضى بعض القواعد وجوبه على ما قرّرناه في بعض تحقيقاتنا الاصوليّة(5)، لكن النصوص في خصوص المقام كما عرفت حاكمة عليها.

ص: 468


1- تقدّم في الصفحة 464 الرقم 2 و 4.
2- تقدّم في الصفحة 464 الرقم 2 و 4.
3- تقدّم في الصفحة 464 الرقم 2.
4- و المراد منه - حيثما أطلق - هو الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه اللّه.
5- و من مؤلّفاته رحمه اللّه في الاصول حاشيته المعروفة على القوانين (المطبوعة سنة 1299 ه) و كذا التعليقة على معالم الأصول في سبعة مجلّدات كبار من أوّل مباحث الألفاظ إلى آخر التعادل -
و رابعها: أنّ النجاسة لا تثبت إلاّ بالعلم، و أنّ الظنّ لا يكفي فيها،

و لا ريب أنّ لفظي «العلم» و «الظنّ» الواردين فيها ظاهران في المتعارف من معنييهما، فمن يكتفي فيها بالظنّ أو الأمارة الشرعيّة - عامّة أو خاصّة - يطالب بدليل ذلك، ليكون حاكما على روايات الباب، بكشفه عن كون الحصر المستفاد منها إضافيّا، أو أنّ العلم و اليقين المعلّق عليهما حكم النجاسة اريد منهما ما يعمّ الظنّ و غيرها من الأمارات، و أنّى له بإثبات ذلك.

نعم، يمكن استفادة كفاية إخبار ذي اليد و اعتباره فيها من الأخبار المشتملة على السؤال عن وجوب المسألة و السؤال، فإنّ هذه الأسئلة قاضية بأنّ كون قول ذي اليد مجديا في ثبوت النجاسة كان مفروغا عنه فيما بينهم، و إنّما الشبهة كانت في وجوب تحصيله، و جواب المسئول بنفي وجوب المسألة أيضا ربّما يكون تقريرا لهم على معتقدهم.

إلاّ أن يقال: بأنّ نفي المسألة بنفسه ردع لهم، لجواز ابتنائه على كون المراد بيان أنّ ما يترتّب على المسألة من الإخبار بالمسئول عنه لا يجدي نفعا في ثبوت النجاسة حتّى يكون المسألة واجبة، و لكنّه خلاف ما يظهر من سياق الروايات، و من سياق أصل القضيّة، مع أنّ في بعضها ما يكون ظاهرا بنفسه في لزوم القبول على تقدير تحقّقه، كما في خبر إسماعيل بن عيسى المتضمّن لقوله عليه السّلام: «عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك»(1) الخ إذ أقلّ مراتب معنى «عليكم» الرجحان المطلق، و إلاّ فهو ظاهر في الإيجاب، فلو لا الإخبار بالمسئول عنه مجديا في لزوم القبول لما كان لرجحان السؤال عنه وجه، فضلا عن وجوبه.

و قد يقرّر - كما في شرح الدروس -: «بأنّ ظاهره أنّ قول المشركين يقبل في أموالهم أنّها ذكيّة و إلاّ فلا فائدة للسؤال عنهم، فإذا قبل قول المشركين فقبول قول المسلمين بطريق أولى،»(2) و لا يخفى ضعفه - كما تنبّه عليه في الحدائق - إذ ليس المراد بالسؤال المأمور به بقرينة السؤال هو السؤال عن المشرك، بل المراد به السؤال من

ص: 469


1- تقدّم في الصفحة 465 الرقم 2.
2- مشارق الشموس: 258.

المسلم البائع الغير العارف الّذي فرضه السائل، و لا ينافيه التفصيل كما ذكره في الكتاب المشار إليه قائلا: «بأنّ الأظهر في معنى الخبر أنّه لمّا سأل السائل عن حكم الاشتراء من السوق المذكورة إذا كان البائع مسلما، و أنّه هل سأل عن ذكاته أم لا؟ أجاب عليه السّلام بالتفصيل بأنّه إن كان في تلك السوق من يبيع من المشركين فعليكم السؤال من ذلك المسلم، إذ لعلّه أخذه من المشركين، و إذا رأيتم المسلم يصلّي فيه فلا تسألوا، لأنّ صلاته فيه دليل على طهارته عنده، و يفهم من الخبر بمفهوم الشرط أنّه مع عدم من يبيع من المشركين فليس عليكم السؤال»(1) انتهى.

و لكن يبقى الإشكال في هذا الخبر بالنسبة إلى دلالته على وجوب السؤال على فرض بيع المشركين في تلك السوق، و هو ينافي إطلاق سائر الأخبار المشار إليها النافية لوجوب الفحص و السؤال، و لعلّه لضعف سنده - كما أشار إليه المحقّق الخوانساري - لا يصلح تقييدا لتلك الأخبار لما فيها من الصحاح، و بذلك يضعف التمسّك به على أصل المطلب و هو لزوم قبول قول ذي اليد.

نعم، يمكن التمسّك عليه - مضافا إلى ما مرّ - بصحيحة الحلبي المتقدّمة المشتملة على قوله عليه السّلام: «صلّ فيها حتّى يقال لك أنّها ميتة بعينه»(2) فإنّها بمفهومها يدلّ على عدم جواز الصلاة بعد تحقّق القول المذكور، و لا نعني من لزوم القبول إلاّ هذا، و لكنّها بإطلاقها تدلّ على لزوم القبول مع هذا القول سواء كان القائل مالكا أو غيره، عادلا أو غيره، واحدا أو متعدّدا، فيشمل البيّنة و أخبار العادل بل الفاسق أيضا و لكن الظاهر أنّه لا قائل بهذا الإطلاق.

مضافا إلى أنّه ينافي ظواهر الأخبار الاخر المشار إليها، لظهورها في مسألة المالك فيقيّد بها هذا الإطلاق و بالجملة: فالظاهر أنّ المسألة ممّا لا إشكال فيه، و لم يظهر من الأصحاب مخالف فيها، و ربّما يستظهر الاتّفاق عليه كما أشار إليه صاحب الحدائق قائلا: «و ظاهر كلام الأصحاب - قدّس اللّه أرواحهم - الاتّفاق على قبول قول

ص: 470


1- الحدائق الناضرة 253:5.
2- الوسائل 490:3 ب 50 من أبواب النجاسات ح 2 - التهذيب 920/234:2 - و فيه: «صلّ فيه حتّى تعلم أنّه ميّتة بعينه» تقدم في الصفحة 517 الرقم 4.

المالك في طهارة ثوبه و إنائه و نجاستهما»(1).

و قال العلاّمة رحمه اللّه في موضع من المنتهى: «لو أخبر العدل بنجاسة إنائه فالوجه القبول، و لو أخبر الفاسق بنجاسة إنائه فالأقرب القبول أيضا»(2) فما في كلام المحقّق الخوانساري في شرح الدروس من المناقشة في ذلك بأنّ: «قبول قول المالك عدلا كان أو فاسقا فلم أظفر له على حجّة»(3) ممّا يقضي بالعجب، و مع ذلك ليس ممّا يلتفت إليه.

و عن جماعة(4) أنّهم قيّدوا قبول قول إخبار الواحد بنجاسة إنائه بما إذا وقع الإخبار قبل الاستعمال، فلو كان الإخبار بعده لم يقبل بالنظر إلى نجاسة المستعمل له، فإنّ ذلك في الحقيقة إخبار بنجاسة العين فلا يكفي فيه الواحد و إن كان عدلا، و لأنّ الماء يخرج بالاستعمال عن ملكه إذ هو في معنى الإتلاف أو نفسه. و هذا بمكان من القوّة و إن كان ما ذكر في التعليل عليلا، و الوجه في ذلك أنّ هذا الإخبار لا يفيد علما، و لا يستفاد من الروايات المشار إليها أزيد من قبول إخبار ذي اليد، لو تحقّق حال وجود المورد و بقائه في يده، فيبقى الأصل الكلّي المستفاد عن الروايات سليما عن المعارض، فصار نتيجة الكلام: أنّ النجاسة تثبت بالعلم أو بإخبار ذي اليد بها، فثبوت الطهارة بهما - مع أنّه لا حاجة له إلى شيء منهما - بطريق أولى.

و خامسها: إنّ الظنّ بالنجاسة لا عبرة به و لو كان قويّا،

و أنّه لا فرق فيه بين ما لو استند إلى العادة و الغلبة و غيرها، و هذا يستفاد عن إطلاق جملة كثيرة من الروايات، مضافا إلى ظهور جملة اخرى فيه بالخصوص، كما يشهد به التأمّل في صحيحة عبد اللّه بن سنان(5) الواردة في إعارة الثوب للذمّي، فإنّ مباشرة الذمّي له ممّا يوجب بحسب العادة الظنّ الغالب بالملاقاة المنجّسة، و على قياسها الأخبار الاخر الواردة في ثياب المجوس و نحوها، لكن في رواية طين المطر ما ربّما يوهم اعتبار الظنّ الحاصل من الغلبة حيث يقول عليه السّلام: «فإن أصابه بعد ثلاثة أيّام فاغسله»(6)، فإنّ الغالب عند مضيّ هذا المقدار من الزمان تحقّق سبب النجاسة.

ص: 471


1- الحدائق الناضرة 252:5.
2- منتهى المطلب 56:1.
3- مشارق الشموس: 285.
4- حكى عنهم في فقه المعالم 383:1.
5- تقدّم في الصفحة 464 الرقم 4.
6- كما تقدّم في الصفحة 462 الرقم 3.

غير أنّه يمكن دفعه بظهور كون ذلك تقدير الماء يوجب العلم بتحقّق السبب، بقرينة قوله عليه السّلام - عقيب تلك -: «فإن كان الطريق نظيفا لم تغسله» فإنّ ذلك يوجب تقييد الحدّ المذكور بعدم نظافة الطريق، أي عدم خلوّه عن النجاسة العينيّة، و لا ريب أنّ مضيّ هذا المقدار من الزمان مع عدم نظافة الطريق ممّا يورث العلم العادي بتحقّق السبب، سيّما إذا كثر فيه المستطرقون.

نعم، هنا روايات اخر تعارض بظاهرها - بل صراحة بعضها - الروايات المتقدّمة في مفادها.

منها: خبر عبد اللّه بن الحجّاج، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام إنّي أدخل سوق المسلمين - أعني هذا الخلق الذين يدّعون الإسلام - فاشتري منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها: أ ليس هي ذكيّة؟ فيقول: بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكيّة؟ فقال:

لا، و لكن لا بأس أن تبيعها و تقول: قد شرط لي الّذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة، قلت: و ما أفسد ذلك، قال: «استحلال أهل العراق الميتة، و أنّ دباغ الجلد الميتة ذكاته، ثمّ لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلاّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله»(1) وجه الدلالة: أنّه عليه السّلام علّل في المنع المذكور بقضيّة استحلال أهل العراق الميتة، و هي كما ترى قضيّة غالبيّة، فلو لا الغلبة معتبرة في نظر الشارع لما صلحت جهة للمنع.

و منها: رواية أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة في الفراء؟ فقال:

كان علي بن الحسين صلوات اللّه عليهما رجلا صردا(2) لا تدفئه فراء الحجاز، لأنّ دباغها بالقرظ(3)، و كان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلهم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه، و ألقى القميص الّذي يليه، فكان يسأل عن ذلك؟ فيقول: إنّ أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة و يزعمون أنّ دباغه ذكاته»(4).

و منها: حسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يكره الصلاة في الفراء إلاّ ما صنع

ص: 472


1- الوسائل 503:3 ب 61 من أبواب النجاسات ح 4 - الكافي 5/398:3.
2- الصّرد بفتح الصاد و كسر الراء المهملة من يجد البرد سريعا، و منه رجل مصراد لمن يشتدّ عليه البرد (مجمع البحرين).
3- القرظ بالتحريك ورق السّلم يدبّغ به الأديم (مجمع البحرين).
4- الوسائل 462:4 ب 61 من أبواب لباس المصلّي ح 2 و 1 - الكافي 2/379:3.

في أرض الحجاز أو ما علمت منه ذكاة»(1).

و منها: صحيحة عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السّلام - في حديث - قال: سألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق للبس، و لا يدري لمن كان هل يصلح الصلاة فيه؟ قال:

«إن كان اشتراه من مسلم فليصلّ فيه، و إن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتّى يغسله»(2)و عن الحميري أنّه رواه أيضا في قرب الإسناد(3) عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه، عن عليّ بن جعفر.

و حكى عن ابن إدريس أنّه رواه في آخر السرائر نقلا من كتاب الجامع لأحمد بن محمّد ابن أبي نصر، قال: سألته و ذكر مثله، إلاّ أنّه قال في آخره: «فلا يلبسه و لا يصلّي فيه»(4).

و منها: رواية عبد اللّه بن سنان قال: سئل أبي عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يعير ثوبه لمن يعلم أنّه يأكل الجريّ و يشرب الخمر، فيردّه أ يصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال: لا يصلّي فيه حتّى يغسله»(5).

و منها: صحيحة إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه السّلام أنّه قال: «لا بأس بالصلاة في فرو اليماني، و فيما صنع في أرض الإسلام، قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليهما المسلمين فلا بأس»(6).

و الجواب: أمّا عن أوّل الأخبار: بمنع المعارضة، لما تقدّم، إذ اعتبار الغلبة هنا ليس من جهة أنّ النجاسة تثبت بها في ظاهر الشرع، بل لمراعاة ما يرجع إلى البيع صونا له عن الغرر، أو احتياطا عن إيقاع البيع في غير محلّه، نظرا إلى أنّه لا يصحّ في الأعيان النجسة الّتي منها الميتة و أجزائها، كيف و لو لا ذلك - بناء على ثبوت النجاسة بالغلبة - كان الواجب المنع عن البيع رأسا، بل و إفساد اشتراء السائل أيضا كما لا يخفى، فهذه الرواية عند التحقيق توافق روايات الباب، و فيها دلالة أيضا على اعتبار قول المالك.

و كذا الجواب عن الخبر الثاني: فإنّ فعل المعصوم و إن كان حجّة، إلاّ أنّه هنا مجمل،

ص: 473


1- الوسائل 462:4 ب 61 من أبواب لباس المصلّي ح 2 و 1 - الكافي 4/379:3.
2- الوسائل 490:3 ب 50 من أبواب النجاسات ح 2 - التهذيب 766/263:1.
3- قرب الأسناد: 96.
4- السرائر 53:3.
5- الوسائل 468:3 ب 38 من أبواب النجاسات ح 1 - الكافي 5/405:3.
6- الوسائل 456:4 ب 55 من أبواب لباس المصلّي ح 2 - التهذيب 1532/368:2.

إذ جهة إلقائه عليه السّلام الفرو عند حضور الصلاة ملتبسة، حيث لم يظهر كونه لأجل النجاسة الّتي لا يستند ثبوتها هنا إلاّ إلى الغلبة، لجواز كونه احتياطا منه فإنّه حسن خصوصا في حقّهم عليهم السّلام، بل هذا هو المتعيّن بملاحظة أنّه لو كان عنده عليه السّلام ممّا ثبت فيه النجاسة و الميتة لم يكن يباشره أصلا و لا يلبسه رأسا، إمّا لأنّ الميتة ممّا لا ينتفع بها أصلا، أو أنّ شأنه عليه السّلام يأبى عن مباشرة النجاسات عن علم و عمد على فرض إباحة الانتفاع بالميتة.

و كذا عن الخبر الثالث: لقوّة احتمال كون المراد بالكراهة معناها المصطلح عليها لا الحرمة، و إن قيل بشيوع استعمال الكراهة في الروايات في الحرمة و كراهة الصلاة فيما ظنّ بنجاسته و استحباب التجنّب عنه ممّا لا إشكال فيه، كما يومئ إليه أيضا استثناء ما صنع في أرض الحجاز، فإنّه ما لا يظنّ معه بالنجاسة و الميتة، و حاصله يرجع إلى أنّ اعتبار الظنّ الحاصل بالغلبة أو غيرها لإحراز موضوع الكراهة لا الحرمة.

و على هذا القياس يجاب عن البواقي. فالنهي و الأمر الواردين فيها يحملان على الكراهة و الاستحباب، كما أنّ الغلبة الّتي اعتبرها الإمام في الأخير منها يحمل على كونه من جهة إحراز ما يرتفع معه الكراهة، و مع الغضّ عن جميع ذلك فهذه الأخبار غير صالحة لمعارضة ما سبق لقلّتها، و عدم عامل بها ظاهرا، أو شذوذ العامل على فرض ثبوته، مع ما عرفت من كون ما سبق بالغ حدّ التواتر بل متجاوز عنه، فلا يلتفت إلى غيره، أو يلزم التأويل فيه تقديما للسند على الدلالة كما قرّر في محلّه، و هو الطريقة المستمرة بين الأعلام.

المطلب الثاني: قد عرفت أنّ مفاد الأخبار المذكورة اعتبار العلم في النجاسة و عدم كفاية الظنّ فيها و أنّه لا يقوم مقام العلم،

و هو المحكيّ عن ابن البرّاج(1) من قدماء أصحابنا، بل لم نعثر في ذلك على نقل مخالفة عدا ما عن الحلبي(2) من أنّ الظنّ بها مطلقا يقوم مقام العلم، و قد يسند إلى العلاّمة في التذكرة(3) التفصيل بين ما كان عن سبب كإخبار العدل فهو كاليقين و ما لم يكن كذلك فلا يكتفى به، و قد يقال: إنّه في جملة من كتبه يكتفي به إذا كان من شهادة العدلين دون غيره و الأولى إيراد كلمات العلاّمة رحمه اللّه في المطلب الآتي إذ لا مخالفة له في هذا المقام، حيث إنّه لا يكتفى بمطلق الظنّ.

ص: 474


1- جواهر الفقه: 9.
2- حكى عنه في فقه المعالم 381:1.
3- تذكرة الفقهاء 90:1.

و عن الحلبي الاحتجاج على ما صار إليه بأنّ: «الشرعيّات كلّها ظنّية، و أنّ العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل»(1)، و قد يحتجّ له أيضا: «بأنّ الاشتغال بالطهارة بالماء الطاهر و الصلاة بالثوب الطاهر ثابت يقينا، و هو ممّا يقتضي اليقين بالبراءة جزما، و لا يحصل اليقين إلاّ بالطاهر الواقعي لمكان وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة، و قضيّة ذلك تعيّن الاجتناب عمّا ظنّ بنجاسته، لأنّ مقدّمة الواجب المطلق ممّا لا بدّ منها».(2)

و الجواب عن الأوّل: بمنع ابتناء الشرعيّات مطلقة على الظنّ، لو اريد بها ما يعمّ الموضوعات الخارجيّة كما هو المتنازع فيه و بدونه لا يجدي، و لو سلّم فهو لم يثبت إلاّ من باب القاعدة القابلة للتخصيص، و الروايات المتقدّمة تنهض مخصّصة لها، هذا مضافا إلى ما في حسنة الحلبي المتقدّمة(3) من الظنّ المأمور معه بالنضح الّذي لا يكفي في رفع النجاسة، و مثله ما في رواية زرارة المنهيّ معه عن إعادة الصلاة، فإنّ «الظنّ» إن لم يكن ظاهرا في معناه المعهود فلا أقلّ من كونه شاملا له، و مثله الشكّ الوارد في رواية ابن الحجّاج(4) بقرينة تقدّم الحسبان في كلام السائل، مع شيوع إطلاق هذا اللفظ في الروايات على مطلق الاحتمال، و على هذا القياس لفظ «الرأي» الوارد في رواية عبد اللّه بن سنان(5) المحكوم معه بالنضح، مضافا إلى سائر الروايات الشاملة بإطلاقها لصورة الظنّ أو الظاهرة فيها، و لا ريب أنّ ما ذكر في الاحتجاج لا يصلح معارضا لشيء من ذلك.

و عن الثاني: بأنّ العقل ممّا لا مدخل له في التعبّديّات، و العبرة في الراجحيّة و المرجوحيّة بالقياس إليها إنّما هو بما اعتبره الشارع، و لا اعتداد فيها بالترجيح العقلي، فحيث إنّ الشارع حكم بالطهارة، ما لم يحصل العلم بنقيضها كشف عن كون الراجح في نظره مع عدم العلم هو الطهارة، فنحن أنّما نأخذ بها لا بعنوان أنّه مرجوح في نظر العقل لئلاّ يكون جائزا، بل بعنوان أنّه راجح في نظر الشارع، بل المتّجه حينئذ المنع عن قضاء العقل بالمرجوحيّة بعد ما لاحظ ترجيح الشارع للطهارة.

و بالجملة: المرجوحيّة لو اريد بها ما هو بحسب اعتقاد المكلّف فنمنع حكم العقل

ص: 475


1- حكى عنه في المعالم 381:1.
2- مشارق الشموس: 283.
3- تقدّمت في الصفحة 463 الرقم 1.
4- تقدّمت في الصفحة 464 الرقم 1.
5- تقدّمت في الصفحة 464 الرقم 3.

بعدم جواز الأخذ به، و لو اريد ما هو بحسب الشرع فنمنع أصل المرجوحيّة بعد نهوض الأدلّة القطعيّة برجحانه.

و عن الثالث: بمنع عدم تيقّن الامتثال بالطهارة المفروضة بعد تنصيص الشارع بالاجتزاء به، و لا ينافيه كون الألفاظ للمعاني الواقعيّة، فإنّ الواقع قد يحرز بما نصّ الشارع بكونه محرزا له، و الأخبار المذكورة مع الإجماعات المقطوعة كافية في ذلك، غاية الأمر نهوض تلك الأدلّة حاكمة على الأدلّة المثبتة لاشتراط الطهارة في امتثال التكاليف إلى الواقع، بكشفها عن كون الطهارة المأخوذة شرطا عبارة عمّا لم يعلم معه بالنجاسة، و الحاصل: التشبّث بأمثال هذه الامور اجتهاد في مقابله النصّ، و هل هو من باب الردّ على قول السيّد لو قال لعبده: «ائت بالشيء الفلاني فإنّي أجتزي به».؟

و من المحقّقين من أجاب عنه - كالخوانساري -: «بأنّا لم نجد في الآيات و لا في الروايات - على ما يحضرنا الآن - ما يكون قائلا بأن تطهّروا بالماء الطاهر، و صلّوا في الثوب الطاهر مثلا، بالمعنى المراد في الاحتجاج، و قوله تعالى: وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ (1)فظاهره مخصوص بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و إثبات عمومه مشكل، مع إمكان المناقشة في ظهور كون الطهارة بالمعنى المراد بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة، بل الأوامر فيها إنّما هو بالطهارة بالماء مطلقا، و كذا الأوامر بالصلاة أيضا مطلقة من دون تخصيص بالثياب الطاهرة، و غاية ما يدلّ فيها على التقييد هو مثل ما وقع أنّ الماء إذا تغيّر مثلا فلا تتوضّأ منه، أو أنّه إذا وقع قذر في الماء فلا تتوضّأ أو أنّه إذا وصل الثوب البول مثلا أو خصوص شيء آخر من النجاسات إلى الثوب أو البدن فاغسله، أو اغسل البول مثلا عن الثوب أو البدن، أو مثل أنّ الشيء الفلاني إذا كان طاهرا فلا بأس بالصلاة فيه، الدالّ بمفهومه على أنّه إذا لم يكن طاهرا فيتحقّق البأس فيه و هكذا»(2) انتهى.

فهذا كما ترى بمكان من الضعف لا يكاد يخفى على ذي بصيرة، بل هو في الحقيقة أوضح ضعفا من أصل الاحتجاج، فالتفوّه به لا يليق بالمحقّقين.

المطلب الثالث: اختلفوا في قيام الأخبار بالنجاسة مقام العلم بها إذا كان المخبر عدلا و عدمه على أقوال،

فعن العلامة في التذكرة(3) إن استند الظنّ إلى سبب شرعي

ص: 476


1- المدّثر: 4.
2- مشارق الشموس: 283.
3- تذكرة الفقهاء 90:1.

كقول العدل فهو كالمتيقّن و إلاّ فلا، و قال في المنتهى: «لو أخبر عدل بنجاسة الإناء لم يجب القبول أمّا لو شهد عدلان فالأولى القبول»(1) و صرّح في المختلف(2) بذلك مع شهادة الشاهدين، و نسب اختياره إلى ابن إدريس(3) أيضا، و عن المحقّق في المعتبر(4)أنّه جزم بعدم القبول في العدل الواحد و جعل القبول في العدلين أظهر، و عن المعالم:

«أنّ ما فصّله في المنتهى هو المشهور بين المتأخّرين»(5)، و عنه أيضا أنّه نقل عن بعضهم أنّه قيّد القبول في خبر العدلين بذكر السبب، قائلا: «لاختلاف العلماء في المقتضي للتنجيس»(6)و في المختلف عن ابن البرّاج: «عدم وجوب القبول و الحكم بالطهارة استنادا إلى أنّ الطهارة معلومة بالأصل، و شهادة الشاهدين تثمر الظنّ، فلا يترك لأجله المعلوم»(7).

و أجاب عنه في المختلف: «بأنّ الحكم بشهادة الشاهدين معلوم، و لهذا لو كان الماء مبيعا لردّه المشتري، و إنّما يحصل ذلك بعد الحكم بالشهادة»(8) و احتجّ هو على ما اختاره من قبول شهادة الشاهدين: «بأنّ الحكم بشهادتهما معلوم في الشرع فيجب العمل بها هنا»(9) و لا يخفى ما فيه، إذ لو أراد بما ذكره من معلوميّة الحكم بشهادة الشاهدين ما هو كذلك على الإطلاق حتّى في خصوص المقام، فهو في حيّز المنع، لعدم قيام ما يقضي من الشرع بذلك عموما، و ما ورد هو فيه من الموارد لا يتناول المقام جزما، و لو أراد بكونه كذلك في الجملة فهو غير مجد.

و أمّا الاستشهاد: بأنّ المشتري إذا ادّعى عيب النجاسة في المبيع و شهد عدلان به لوجب القبول.

ففيه أوّلا: أنّ القبول في مقام الحكم للحاكم غير القبول على الإطلاق، و محلّ البحث من الثاني.

و ثانيا: أنّ الفسخ و إن كان يتوقّف على ثبوت العيب، و هو يستند إلى القضاء بموجب الشهادة، لكن عنوان العيب لا ينحصر في النجاسة و تحقّقها، بل الاتّهام بالنجاسة و كون الشيء معرضا للاحتياط الراجح الّذي لا يكاد يتركه المتّقون ممّا

ص: 477


1- منتهى المطلب 56:1.
2- مختلف الشيعة 250:1.
3- السرائر 86:1.
4- المعتبر: 12.
5- فقه المعالم 382:1.
6- فقه المعالم 383:1 نقلا بالمعنى. (7-9) مختلف الشيعة 250:1 و 251 و 250.
7- مختلف الشيعة 250:1.

يصلح كونه عيبا في نظر العرف.

و الإنصاف: أنّ مجرّد هذه الاستظهارات لا يصلح حاكما على الأخبار المتقدّمة الدالّة على إناطة النجاسة بالعلم بها، بل لا بدّ في ذلك من وجود نصّ معتبر صريح الدلالة، و لم نقف إلى الآن بعد ما تتبّعنا بقدر الوسع على ما يقضي بذلك من الأدلّة الشرعيّة، و إن قال السيّد في مناهله: «و سمعت من الوالد دام ظلّه العالي وجود رواية دالّة على حجّيّة شهادة العدلين مطلقا»(1).

نعم يمكن الاستناد في ذلك إلى ما في الاستبصار عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن بعض رجاله، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن البيّنة إذا اقيمت على الحقّ، أ يحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال: فقال: «خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا بها بظاهر الحال، الولايات، و المناكح و المواريث، و الذبائح، و الشهادات، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه».(2)

و يمكن أن يكون المراد من الرواية الّتي حكى وجودها السيّد عن أبيه قدّس سرّهما هو هذه الرواية، و فيه: أنّها لو خلّي و طبعها و إن كانت عامّة، غير أنّ سياقها سؤالا و جوابا يقضي بعدم كون المعصوم عليه السّلام بصدد بيان هذا الحكم العامّ، و إنّما هو في مقام إعطاء حكم آخر، و هو أنّ الشهادات الّتي يجب الأخذ بها في مواردها إنّما يؤخذ بها بلا تفتيش عن البواطن، كما تنبّه عليه الشيخ في الاستبصار قائلا - في تفسيرها: «أنّه لا يجب على الحاكم التفتيش عن بواطن الناس، و إنّما يجوز له أن يقبل شهادتهم إذا كانوا على ظاهر الإسلام و الأمانة، و أنّ لا يعرفهم بما يقدح فيهم و يوجب تفتيشهم»(3)، انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه.

فقضيّة كونها ممّا يجب قبولها بظاهر الحال بالنسبة إلى جميع المقامات، أو بالنسبة إلى موارد مخصوصة غير متّضحة الدلالة، فالتشبّث بمثل ذلك في إخراج الأخبار الكثيرة

ص: 478


1- المناهل: 162.
2- الوسائل 392:27 ب 41 من أبواب الشهادات ح 3 - الفقيه 29/9:3.
3- الاستبصار 13:3 ذيل ح 3.

المتواترة عن ظواهرها في غاية الإشكال، و أشكل منه مخالفة من تقدّم من الأساطين، بل الشهرة على فرض تحقّقها كما حكيت، فالاحتياط في مثله ممّا لا ينبغي تركه جدّا.

نعم وجوب قبول قول المالك في نجاسة إنائه، أو كلّ ما يتعلّق به، ممّا لا ينبغي التأمّل فيه كما عرفت، آخذا بموجب جملة من الروايات المتقدّمة، مضافة إلى ما حكاه في الحدائق(1) عن الحميري في قرب الأسناد عن عبد اللّه بن بكير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه و هو لا يصلّي فيه قال: «لا يعلمه» قلت: فإن أعلمه، قال: «يعيد»(2) و في معناه أخبار اخر.

المطلب الرابع: لا أعرف خلافا في قيام الاستصحاب بالقياس إلى النجاسة مقام العلم بها، فتحرز به النجاسة حيثما كان جاريا،

كما تحرز بالعلم و بغيره ممّا يقوم مقامه، بل هو المعلوم ضرورة من سيرة العلماء، و يدلّ عليه عموم الأخبار المستفيضة الواردة في باب الاستصحاب المشتملة على أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ، بناء على أنّ المراد بعدم نقض اليقين عدم نقض المتيقّن، أي رفع اليد عمّا كان متيقّنا إلى أن يحصل اليقين بارتفاعه، و هذه الأخبار و إن كان أعمّ من أخبار الباب المتقدّمة موردا و مفهوما، بل أعمّ من جميع الأدلّة، غير أنّها كأدلّة العسر و الحرج في مواردها واردة بحكم فهم العرف على سائر الأدلّة، و حاكمة عليها في اقتضاء كون الواقع ممّا يحرز بالعلم، أو أنّ العلم داخل في موضوع الحكم، فتكون مفادها أنّ الاستصحاب حيثما يكون جاريا يقوم مقام العلم في كلّ ما هو شأنه، فإن كان العلم في موارد اعتباره معتبرا من باب الطريقيّة إلى الواقع فيقوم مقامه الاستصحاب، و مرجعه بعد الجمع بين مفادي الأدلّة الحاكمة و المحكوم عليها إلى أنّ الواقع ما يحرز بأحد الأمرين: من العلم، أو الحالة المتعقّبة له ممّا لم يبلغ رتبة العلم بالخلاف.

و إن كان العلم في موارد اعتباره معتبرا من باب الموضوعيّة - على معنى كون العلم داخلا في موضوع الحكم جزءا منه - فيقوم مقامه الاستصحاب، و مرجعه - بعد الجمع - إلى أنّ موضوع الحكم أحد الأمرين: من العلم، أو الحالة المتعقّبة له الغير البالغة حدّ

ص: 479


1- الحدائق الناضرة 137:1.
2- الوسائل 488:3 ب 49 من أبواب النجاسات ح 3 - قرب الأسناد: 79.

العلم بخلاف المعلوم الأوّل، و إنّما يستفاد هذا التعميم من إطلاق قوله عليه السّلام: «لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ»(1) بناء على ما تقدّم من أنّ المراد منع رفع اليد عمّا كان متيقّنا، و هو كما ترى يشمل ما لو كان اليقين المعتبر معه لمجرّد الطريقيّة، أو من جهة الموضوعيّة.

و من جملة ما اعتبر فيه العلم و اليقين شرعا من باب الموضوعيّة إنّما هو النجاسة المنوطة بالعلم بتحقّق سببها، على حسب ما هو موجب الأخبار المتقدّمة، فإنّ المتأمّل فيها و في مفادها يعرف أنّ الشارع جعل العلم بالنسبة إلى حكم النجاسة جزءا للموضوع، على معنى أنّ النجاسة و أحكامها لا تثبت إلاّ فيما علم بتحقّق سبب النجاسة فيه.

و ممّا يستفاد منه ذلك صراحة صحيحة زرارة(2) المتقدّمة المشتملة بقوله عليه السّلام:

«تغسله و لا تعيد الصلاة» بعد قول السائل: «فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيته فيه» فإنّ موضوع النجاسة لو كان هو الواقع من غير مدخليّة للعلم فيه إلاّ من باب الطريقيّة، كان اللازم إبطال الصلاة و الحكم بإعادتها، ضرورة وقوعها في مفروض السؤال مع النجاسة الواقعيّة، و من أحكام النجاسة بطلان الصلاة الواقعة معها و في معناها الأخبار المستفيضة، بل المتواترة الواردة في اشتمال المصلّي على النجاسة، المفصّلة بين سبق العلم بها على الصلاة و عدمه، فموضوع النجاسة ما علم فيه بتحقّق السبب، أو ما قارنه الحالة المتعقّبة للعلم بتحقّقه إلى أن تصل حدّ العلم بالخلاف.

و من هنا يعرف أنّ العلم بعد ما كان داخلا في موضوع النجاسة لا يمكن دخوله في موضوع الطهارة، و إلاّ لزم ارتفاع النقيضين، أو ضدّين لا ثالث لهما في صورة عدم العلم بشيء منهما كما لا يخفى، و لذا وردت الأخبار المتواترة حسبما عرفت بين صريحة و ظاهرة في الحكم بالطهارة ما لم يعلم النجاسة، فموضوع الطهارة حينئذ ما لم يعلم فيه بتحقّق سبب النجاسة.

و لا ريب أنّ هذا الموضوع ممّا لا يجتمع في الوجود الخارجي مع ما هو موضوع النجاسة، و هو ما علم فيه بتحقّق سبب النجاسة، لاشتمال كلّ على قيد معاند لما قيّد به الآخر، فحيثما انتفى العلم و ما يقوم مقامه حصل موضوع الطهارة، و حيثما حصل العلم أو ما يقوم مقامه انتفى موضوع الطهارة و وجد موضوع النجاسة.

ص: 480


1- تقدّم في الصفحة 464 الرقم 2.
2- تقدّم في الصفحة 464 الرقم 2.

و قضيّة ذلك أن لا يعارض العلم و لا ما يقوم مقامه في اقتضاء النجاسة شيء من الأمارات، حتّى الاستصحاب في مقابلة استصحاب النجاسة، و اليد في مقابلة البيّنة القائمة بها - إن قلنا بالبيّنة فيها - و بالعكس، فإنّ استصحاب الطهارة في موارده قائم مقام العلم بها، و العلم بالقياس إلى الطهارة لا يعتبر إلاّ طريقا إليها، و كما أنّ ثبوت أصل الحكم تابع لبقاء موضوعه، و لا يعقل له البقاء مع ارتفاع الموضوع، فكذلك الّذي يكون طريقا إليه فإنّه يصلح طريقا إليه ما دام موضوعه باقيا، و حيث بنينا على أنّ موضوع الطهارة [هو](1) ما لم يعلم فيه بتحقّق سبب النجاسة، و أنّ العلم المأخوذ في ذلك أعمّ من العلم الحقيقي و ما يقوم مقامه، و أنّ ممّا يقوم مقامه إنّما هو الحالة المتعقّبة له إلى أن يبلغ حدّ العلم بخلاف المعلوم السابق، يتبيّن أنّ استصحاب الطهارة في موضع جريان استصحاب النجاسة سواء كانا في محلّ واحد أو في محلّين ممّا لا معنى له أصلا، ضرورة أنّ استصحاب النجاسة لقيامه مقام العلم رافع لموضوع الطهارة - و هو ما لم يعلم فيه بتحقّق سبب النجاسة - و معه لا يعقل كون استصحاب الطهارة طريقا إليها، ضرورة أنّه مع فرض استصحاب النجاسة، يصدق على المورد أنّه ما علم فيه بتحقّق سبب النجاسة، و لا يصدق معه ما هو موضوع الطهارة، لما عرفت من المنافاة بينهما و عدم إمكان اجتماعهما في محلّ واحد.

فما يوجد في كلام العلماء الأعلام في مواضع استصحاب النجاسة من معارضته باستصحاب الطهارة في غاية الضعف، و إنّما المعارضة بين الاستصحابين أو مطلق الأمارتين يتأتّى فيما لم يكن شيء من المتعارضين داخلا في موضوع الحكم، على معنى كونهما في غير موضع التعارض من مواردهما معتبرين لمجرّد الطريقيّة.

فتحصّل من ذلك أصل كلّي و هو: أنّ الامارات القائمة بالنجاسة لا يعارضها الأمارات القائمة بالطهارة ما لم يكن دليل اعتبارها حاكما على دليل اعتبار أمارة النجاسة، كما في قول ذي اليد و البيّنة - إن قلنا بها - الواردين على استصحاب النجاسة، فحينئذ لو قام البيّنة على نجاسة شيء فلا يعارضها إخبار ذي اليد بالطهارة لانتفاء موضوعه، كما أنّه لو أخبر ذو اليد بنجاسة شيء لا يعارضه البيّنة لو قامت بالطهارة لعين ما ذكر.

ص: 481


1- زيادة يقتضيها السياق.

و لو أنّ شريكين في إناء أخبر أحدهما بنجاسته و الآخر بطهارته، قبل الأوّل لاستلزامه انتفاء موضوع الطهارة، فيكون الثاني قد صادف غير موضوع الطهارة، فلا محلّ لقبوله.

و من هنا يعلم حقيقة الحال فيما لو تعارضت البيّنتان في إناء واحد، فشهدت إحداهما بعروض النجاسة له في وقت معيّن، و شهدت الاخرى بعدم عروضها له في ذلك الوقت، فإنّ للأصحاب في ذلك على ما ضبطه بعضهم(1) أقوال أربع:

أحدها: ما عن العلاّمة في التذكرة(2) و القواعد(3) من إلحاقه حينئذ بالمشتبه بالنجس الّذي يجب الاجتناب عنه كالإناءين المشتبهين، و عن فخر المحقّقين في شرح القواعد(4) أنّه جعله أولى، و عن ثاني الشهيدين(4) في بعض فوائده أنّه قوّاه.

و ثانيها: ترجيح بيّنه الطهارة لاعتضادها بالأصل، حكاه فخر المحقّقين(6) على ما نقل عنه عن بعض الأصحاب.

و ثالثها: الحكم بتساقط البيّنتين و الرجوع إلى الأصل، و عن الشهيد أنّه ذكره في البيان(5) و قوّاه، و عن فخر المحقّقين(8) أنّه نسبه مع الّذي قبله إلى الشيخ.

و رابعها: العمل ببيّنة النجاسة لأنّها ناقلة عن حكم الأصل، و بيّنة الطهارة مقرّرة، و الناقل أولى من المقرّر، و لموافقتها الاحتياط، و لأنّها في معنى الإثبات و الطهارة في معنى النفي، و هو منسوب إلى ابن إدريس(6) و عن صاحب المعالم(7) أنّه مال إليه بعض المتأخّرين، و لا ريب أنّ هذا القول هو المتعيّن لا للوجوه المذكورة، بل لما قرّرناه من الضابطة، و لا يلزم منه تكذيب بيّنة الطهارة و لا طرحها، لورودها في غير موضوع الطهارة فلا محلّ لها حتّى يعمل بها، بعد ملاحظة دخول المفروض في عنوان ما علم فيه النجاسة علما شرعيّا.

كما يعلم من هنا أيضا حكم ما لو تعارضا(8) البيّنتان في إناءين، بأن يشهد إحداهما بأنّ النجس هو هذا بعينه، و الاخرى بأنّه الآخر بعينه، فإنّه على القاعدة

ص: 482


1- راجع فقه المعالم 384:1.
2- تذكرة الفقهاء 24:1.
3- قواعد الأحكام 189:1-190. (4 و 6 و 8) إيضاح الفوائد 24:1.
4- القواعد للشهيد الثاني، مطبوع مع الذكرى: 39.
5- البيان: 103.
6- السرائر 88:1.
7- فقه المعالم 385:1.
8- كذا في الأصل.

المتقدّمة يدخل في عنوان المشتبه، كما عن المحقّق و العلاّمة في المعتبر(1) و التحرير(2)و الشهيد في الذكرى(3) و الشيخ عليّ و ثاني الشهيدين في شرح القواعد(4) و بعض فوائده(5) فإنّ البيّنتين متّفقتان في نجاسة القدر المشترك المردّد، فيكون كالمعلوم بالإجمال الّذي يوجب التحرّز عن الجميع من باب المقدّمة.

فلا وجه لما يسند إلى الشيخ في الخلاف(6) من سقوط الشهادتين و بقاء الماء على أصل الطهارة، و لا لما اختاره العلاّمة في المختلف(7) من التفصيل بين ما أمكن العمل بشهادتهما معا فيجب، و ما لو تنافيا فيطرح الجميع و يحكم بأصل الطهارة.

و يظهر ذلك عن محكيّ الشيخ في المبسوط قائلا: «لو قلنا: إن أمكن الجمع بينهما قبلتا و نجسا، كان قويّا»(8) قال العلاّمة في المنتهى - بعد ما نقل العبارة المذكورة عن المبسوط و لم يتعرّض لما لا يمكن فيه الجمع -: «و الوجه فيه وجوب الاحتراز عنهما و الحكم بنجاسة أحدهما لا بعينه، و القول بسقوط شهادتهما فيما يتعذّر الجمع فيه لا يخلو من قوّة و هو قول الحنابلة»(9) انتهى.

ثمّ نحن لا نعقل هذا التفصيل في الصورة المفروضة، و لعلّه مفروض فيما لو قامت الشهادتان في الإنائين مع تعرّض كلّ لنفي ما أثبته الاخرى، أو سكوتها عن النفي و الاقتصار على مجرّد الإثبات، فيكون مرادهم ممّا لا يمكن الجمع بينهما هو الفرض الأوّل، حيث إنّ الأخذ بكلّ من الشهادتين في عقدها الإيجابي يوجب طرح الاخرى في العقد السلبي، و الوجه عندنا وجوب الاجتناب عن كلّ من الإنائين في كلّ من الفرضين، أمّا الأوّل: فلما عرفت من دخوله في عنوان المشتبه، نظرا إلى اتّفاقهما في أنّ هنا نجسا و اختلافهما في التعيين، فيصدقان بالقياس إلى نجاسة القدر المشترك المردّد من دون أن يلزم منه طرح إحداهما في الشهادة بالطهارة، لأنّ العمل بموجب النجاسة في كليهما

ص: 483


1- المعتبر: 26.
2- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 6.
3- ذكرى الشيعة 105:1.
4- جامع المقاصد 155:1.
5- القواعد - الشهيد الثاني - مطبوع مع الذكرى: 39.
6- الخلاف 201:1 المسألة 162.
7- مختلف الشيعة 251:1-252.
8- المبسوط 8:1 مع اختلاف يسير في العبارة.
9- منتهى المطلب 55:1.

ينشأ عن لزوم إدراك ما يحكم عليه بالنجاسة شرعا، المتوقّف على التحرّز عن الجميع.

و أمّا الثاني: فلكون كلّ أمارة على نجاسة محلّها بلا معارض فيجب الأخذ بهما معا.

و عن ابن إدريس - في المختلف -: «أنّه فصّل بين ما أمكن الجمع بينهما و غيره، فحكم بنجاسة الإنائين في الأوّل و اضطراب في الثاني، فأدخله تارة تحت عموم وجوب القرعة لكلّ أمر مشكل، و أخرجه اخرى عنه مستبعدا لاستعمال القرعة في الأواني و الثياب، و لا أولويّة للعمل بإحدى الشهادتين دون الاخرى، فيطرح الجميع لأنّه ماء طاهر في الأصل فحصل الشكّ في النجاسة فيبني على اليقين؛ ثمّ أفتى بعد ذلك كلّه بنجاسة الإنائين معا، و قبول الشهود الأربع لأنّ ظاهر الشرع يقتضي صحّة شهادتهم، لأنّ كلّ شاهدين قد شهدا بإثبات ما نفاه الآخر»(1) و لا يخفى ما في أكثر هذه الكلمات من الاضطراب، و عدم موافقة قانون الاجتهاد، و الأقرب ما ذكرناه بما وجّهناه.

المطلب الخامس: معنى قيام الأمارة كائنة ما كانت مقام العلم كونها كالعلم بها في ترتّب جميع أحكام النجاسة، الّتي منها تنجّس الملاقي و وجوب تطهيره،

و لا يفترق الحال في ذلك بين استصحاب و غيره، و لا معنى لاستصحاب طهارة الملاقي حينئذ، لما عرفت من أنّ ترتّب الحكم على الأمارة فرع على بقاء موضوعها، و ورودها محلاّ فارغا عن أمارة رافعة لموضوعها.

و بجميع ما تقرّر في ضمن المطالب المذكورة يعرف أحكام الفروع المتقدّم إليها الإشارة، فإنّ مادّة الحمّام لا يشترط فيها العلم بعدم النجاسة، بل يكفي في ترتّب أحكام الحمّام عليها عدم العلم بتحقّق سبب النجاسة فيها ما لم تكن مسبوقة بالعلم بها، و إلاّ فالاستصحاب يقوم مقام العلم بها فيترتّب عليه أحكام النجاسة أيضا بأجمعها، فلا تفيد حينئذ تطهيرا لماء الحوض الصغير، و لا تعصمه أيضا عن الانفعال بالغير، بل ربّما توجب بمجرّد اتّصالها به تنجّسه شرعا و لو لم يصادفه ملاقاة الغير.

و المادّة أو المجموع منها و ممّا في الحوض المشكوك في كرّيّتهما يبقى على الطهارة، فلا يلحقه النجاسة ما لم يعلم بنقصه عن الكرّ - على القول باشتراط الكرّيّة - من

ص: 484


1- مختلف الشيعة 252:1 - السرائر 87:1.

غير فرق بين سبق العلم بالكرّيّة و لا سبقه بعدمها، و لا انتفاء العلم رأسا، لدخول كلّ في موضوع الطهارة، و هو الّذي لا يعلم فيه بتحقّق سبب النجاسة.

و استصحاب عدم الكرّيّة في بعض تلك الصور لا يجدي نفعا في تحقّق موضوع النجاسة، لأنّ عدم الكرّيّة ليس سببا للنجاسة، و إنّما هو شرط لها، و إحراز الشرط بالاستصحاب حال فرض تحقّق الملاقاة لا يقتضي بإحراز المشروط إلاّ من باب الاصول المثبتة، لعدم كون هذه النجاسة على فرض طريانها من الأحكام الثابتة للمستصحب في حال اليقين.

إلاّ أن يقال: بأن لا عبرة بفعليّة طروّ هذه النجاسة في الزمن السابق، و لا ريب أنّه ثمّة كان صالحا لأنّ يطرأه النجاسة و هو من أحكامه السابقة، فيستصحب تلك الصلاحية، على معنى كما أنّه كان قابلا للانفعال في الزمن السابق فيكون كذلك الآن للاستصحاب، لكن صلاحية قبول الانفعال غير قبوله فعلا، و المطلوب إثبات الثاني، و لعلّ إثبات الأوّل غير كاف فيه، فتأمّل و تحصّن بالاحتياط جدّا.

و الكلام في قبول شهادة العدلين بالكرّيّة في الحمّام كما مضى من عدم خلوّه عن الإشكال، مع موافقته للاحتياط الّذي هو حسن على كلّ حال، و أمّا قبول قول ذي اليد في إخباره بها مالكا أو وكيلا أو مستأجرا فليس بمحلّ للإشكال.

فلو اتّصل ماء الحوض بعد تنجّسه بالمادّة المشكوك في كرّيّتها - بناء على اعتبار الكرّيّة فيها - كان استصحاب النجاسة خاليا عن الإشكال أيضا، و لا يعارضه استصحاب الكرّيّة في بعض الصور المتقدّمة، لما مرّ من كونه استصحابا في موضع انتفاء موضوع الطهارة، و من هنا يعلم حكم الملاقي لذلك الماء المستصحب نجاسته، فإنّه أيضا ينجّس بحكم الشرع، و لا حكم لاستصحاب طهارته بعد ما أحطت خبرا بما قرّرناه.

***

ص: 485

ينبوع [في ماء الغيث]

اشارة

و ممّا يلحق عندهم بالجاري - بعد إلحاق ماء الحمّام به - ماء المطر حال تقاطره من السماء، فلا ينفعل قليله بملاقاة النجاسة ما لم يتغيّر أحد أوصافه الثلاثة، و الظاهر أنّه في الجملة ممّا لا خلاف فيه، حتّى ممّن اشترط الكرّيّة في الجاري كالعلاّمة كما هو المصرّح به في كلام جماعة، و إن شئت لاحظ عبارة المنتهى قائلا: «ماء الغيث حال نزوله يلحق بالجاري»(1) مذيّلا له في آخر المسألة بقوله: «أمّا إذا استقرّ على الأرض و انقطع التقاطر، ثمّ لاقته نجاسة اعتبر فيه ما يعتبر في الواقف، لانتفاء العلّة الّتي هي الجريان»(2) و مراده بالجريان الّذي أخذه علّة نزوله من السماء، كما يأتي منه التصريح به في دفع احتجاج الشيخ على ما صار إليه من اشتراط الجريان من الميزاب.

و قريب من هذه العبارة ما عنه في نهاية الإحكام: «و لا يشترط فيه الجريان من الميزاب، بل التقاطر من السماء كاف، و لو انقطع التقاطر فلاقته النجاسة كان كالواقف» (3)و عنه في التذكرة التصريح بعدم اشتراط الكرّيّة مع التقاطر، و اشتراطها مع انقطاعه قائلا:

«لو انقطع تقاطر المطر و فيه نجاسة عينيّة اعتبرت الكرّيّة، و لا تعتبر حال التقاطر، و لو استحالت عينها قبل انقطاعه ثمّ انقطع كان طاهرا، و إن قصر عن الكرّ»(4).

و أنت خبير بأنّ ما عرفت منه من التشبيه مع انضمام هذا التصريح إليه، لا ينافي ما يراه في الجاري من اشتراط الكرّيّة، لما ذكرناه مرارا في المباحث السابقة من أنّ التشبيه لا يقتضي إلاّ المشاركة في الحكم دون علّته، و الّذي يعتبره في الجاري من

ص: 486


1- منتهى المطلب 29:1 و 30.
2- منتهى المطلب 29:1 و 30.
3- نهاية الإحكام 229:1 - مع اختلاف يسير.
4- تذكرة الفقهاء 18:1.

الكرّيّة علّة للحكم اللاحق به، و لا يعتبر في العلّة التعدية إلى المشبّه بعد ما قلنا بتعدّي أصل الحكم، لجواز اختلافه مع المشبّه به في العلّة.

فما عن الكركي في جامع المقاصد بعد نقل كلام العلاّمة في القواعد - أعني قوله: « و ماء المطر حال تقاطره كالجاري» إلى آخره - من الاعتراض عليه بقوله: «و على ما اختاره المصنّف من اشتراط الكرّيّة في الجاري يلزمه اشتراطها هاهنا.

و قوله: «كالجاري» مع قوله: «فإن لاقته نجاسة بعد انقطاع تقاطره، فكالواقف» إنّما يظهر - لاختلاف التشبيه - فيه معنى على مقالة الأصحاب، أمّا على مقالته فالكلّ سواء»(1).

فلعلّه غفلة عن ملاحظة ما عرفت عنه من التصريح، مع ما قرّرناه في توجيه التشبيه.

و كأنّه إلى هذا التوجيه ينظر ما عن الفاضل الجواد في شرحه للدروس من قوله:

«و اعلم أنّ تشبيه ماء المطر بالنابع على مذهب المصنّف جيّد، إذ لا يشترط في النابع الكرّيّة لعدم الانفعال، فيتمّ تشبيه ماء المطر به، و أمّا من اشترطها في النابع فلا معنى لتشبيهه، إلاّ أن يراد أنّه كالجاري حال كرّيّته»(2) انتهى.

و بذلك يظهر أنّه لا حاجة في الجمع بين كلمات العلاّمة إلى تكلّف توجيهات اخر، كما ارتكبه بعضهم بعد الإيراد عليه بنحو ما عرفت عن جامع المقاصد على ما حكاه الخوانساري في شرحه للدروس قائلا - بعد ما نقل عبارة العلاّمة -: «و أورد عليه أنّ الفرق بين الجاري و الواقف إنّما يظهر عند عدم اشتراط الكرّيّة في الجاري كما هو رأي غيره، و أمّا على رأيه فلا فرق، إلاّ أن يفرّق بينهما باعتبار أنّه لا يعتبر في الكرّ من الجاري مساواة السطوح، و أيضا يقول فيه بتقوّي الأعلى بالأسفل، و كذا يحكم في حال النجاسة بطهره بالتدافع و التكاثر و إن لم يكن الماء الطاهر الدافع قدر كرّ، كما مرّ سابقا من احتمال أن يكون مختاره رحمه اللّه هذه الامور في الجاري بخلاف الواقف، و لا يذهب عليك أنّ الظاهر من كلامه رحمه اللّه اشتراط الكرّيّة في ماء المطر»(3) انتهى.

و لا يخفى ما في الجزء الآخر من الغفلة عمّا عرفت عنه من التصريح بعدم اشتراط الكرّيّة فيه، إلاّ أن يكون كلامه في الفرق مأخوذا من كتاب لم يذكر فيه ذلك التصريح.

و كيف كان فأصحابنا بعد اتّفاقهم ظاهرا على عدم اشتراط الكرّيّة في ماء المطر

ص: 487


1- جامع المقاصد 112:1.
2- لم نعثر عليه.
3- مشارق الشموس: 214.

بالقياس إلى مقام الدفع، اختلفوا في اشتراط بعض من الامور الاخر و عدمه، فالمشهور بينهم اشتراط التقاطر من السماء فقط، من غير اشتراط الكثرة و لا الجريان من ميزاب أو غيره، و عليه دعوى الشهرة في كلام غير واحد، و في بعض العبارات(1): «عليه الفاضلان و الشهيدان و المحقّقان و غيرهم من الأساطين»، و قد عرفت التصريح به عن العلاّمة في جملة من كتبه(2) و عن الشهيد في الدروس(3)، و عن مجمع الفوائد(4) أنّه صرّح بعدم اشتراط الكثرة و الجريان، و عزى إلى ظاهر المعتبر(5)، و شرح الموجز(6)، و صريح شرح المفاتيح(7)، و جامع المقاصد(8)، و اختاره في الرياض(9)، و غيره ممّن تأخّر عنه.

لكن ظاهر هؤلاء كما هو صريح بعضهم اعتبار الصدق العرفي مع التقاطر، لا كفاية مسمّى المطر مطلقا و لو بقطرة و نحوها، نعم ربّما يحكى عن بعض المتأخّرين القول بطهارة الماء النازل من السماء مطلقا و لو كان قطرة واحدة، و هو في غاية البعد عن الأدلّة، خلافا للشيخ في التهذيب(10)، و محكيّ المبسوط(11) - كما في المنتهى(12) - بل الاستبصار(13) - كما في المدارك - لمصيره إلى اشتراط الجريان من الميزاب، قائلا: «أنّ ماء المطر إذا جرى من الميزاب فحكمه حكم الماء الجاري، لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(14) لكن قضيّة احتجاجه على ذلك بصحيحة عليّ بن جعفر الآتية اكتفاؤه بمطلق الجريان و لو عن غير ميزاب، لذكر الجريان فيها مطلقا، فيكون الميزاب واردا في كلامه من باب المثال.

و ربّما يحكى ذلك عن ابن فهد في الموجز و عن صاحب الجامع(15) أيضا، و لكن

ص: 488


1- لم نعرف قائله.
2- تذكرة الفقهاء 18:1 - منتهى المطلب 29:1.
3- الدروس الشرعيّة 119:1.
4- مجمع الفائدة و البرهان 259:1.
5- المعتبر: 9.
6- كشف الالتباس 45:1.
7- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط).
8- جامع المقاصد 112:1.
9- رياض المسائل 140:1.
10- التهذيب 411:1 ذيل ح/ 1296.
11- المبسوط 6:1 حيث قال: «و مياه الموازيب الجارية من المطر حكمها حكم الماء الجاري سواء».
12- منتهى المطلب 29:1.
13- لم نجده في الاستبصار و لكن وجدناه في المبسوط 6:1.
14- مدارك الأحكام 376:3.
15- الجامع للشرائع: 20 حيث قال: «و المياه الجارية من الميازيب من المطر كالمياه الجارية».

العبارة المنقولة عن الموجز قاصرة عن تأديته، و لعلّها ظاهرة في موافقة المشهور، حيث قال: «و كذا ماء الغيث نازلا و لو من ميزاب»(1) فإنّ اعتبار النزول هو القول المشهور بعينه، و لا ينافيه تعميمه بالقياس إلى الميزاب، لأنّ تحقّق النزول بالقياس إلى ما لا يصيبه السماء قد يكون بالميزاب الحاجز بينه و بين السماء، أو أنّ النزول المعتبر في حفظ الماء عن الانفعال أعمّ من كونه من السماء بلا واسطة أو منها بواسطة الميزاب، أو أنّ حالة النزول من السماء مقتضية لاعتصام الماء عن قبول الانفعال و لو بالقياس إلى ما ينزل منه من الميزاب، و حاصله عدم اختصاص الحكم مع هذه الحالة بما له مبدأ النزول عنها فعلا، بل يتعدّى إلى ما انقضى عنه ذلك المبدأ لكن ما دامت الحالة باقية.

و يمكن إجراء ما يقرب من هذا التوجيه في كلام الشيخ أيضا و إن كان خلاف الظاهر، و لعلّه لذا عبّر العلاّمة في المنتهى عند حكاية مذهبه بقوله: «و يلوح من كلام الشيخ في التهذيب(2) و المبسوط(3) اشتراط الجريان من الميزاب»(4) و على هذا فلم يتحقّق منه المخالفة و إن اشتهر في الألسنة، و عن الفاضل الجواد(5) أنّه اعتبر أن يكون لماء المطر قوّة بحيث يصلح للجريان، و إن لم يكن جاريا بالفعل، و عزى إلى جملة ممّن تأخّر عنه الميل إليه. فأقوال المسألة - بضميمة ما عرفته عن الروض -(6) أربع،

و قد يحكى عن العلاّمة الطباطبائي في المصابيح تسديس الأقوال.

أحدها: كفاية النزول من السماء مطلقا،

و قد يحكى عن العلاّمة الطباطبائي في المصابيح(7) تسديس الأقوال.

أحدها: كفاية النزول من السماء مطلقا، و لو بنحو قطرة واحدة، و هو المحكيّ عن الروض(8).

و ثانيها: اشتراط قوّة يصحّ معها إطلاق اسم الغيث و المطر عرفا،

و إن قلّ أو لم يجر و هو المشهور.

ثالثها: اعتبار الكثرة و الجريان و لو قوّة،

و هو اختيار الفاضل الأردبيلي(9).

ص: 489


1- الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة 411:26).
2- التهذيب 411:1 ذيل الحديث/ 1296.
3- المبسوط 16:1.
4- منتهى المطلب 29:1.
5- في شرح الدروس الشرعيّة - للفاضل الجواد - لم نعثر عليه.
6- روض الجنان: 139.
7- مصابيح الأحكام - كتاب الطهارة -: (مخطوط) الورقة: 52.
8- روض الجنان: 139.
9- مجمع الفائدة و البرهان 256:1.
و رابعها: اعتبار مسمّى الجريان فعلا و إن لم يكن من ميزاب و نحوه،

و هو خيرة كشف اللثام(1)، و نفي عنه البعد في المدارك(2).

و خامسها: اشتراط الجريان فعلا من الميزاب خاصّة

و هو لظاهر الشيخ(3).

و سادسها: و أحقّ الأقوال ظاهرا هو المذهب المشهور،

و لم نقف على ذكر مستند إلاّ له و لمختار الشيخ و لمشترطي الكثرة.

و ينبغي أوّلا استقصاء جميع ما ورد في الباب من الأخبار المرويّة في كتب الأصحاب، ثمّ النظر في دلالتها، و استعلام ما يتحصّل من مجموعها،

و هي من الصحاح و غيرها عدّة روايات.

منها: ما في التهذيب - في الصحيح - عن عليّ بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليهما السّلام عن الرجل يمرّ في ماء المطر، و قد صبّ فيه خمر، فأصاب ثوبه، هل يصلّي فيه قبل أن يغسله؟ فقال: «لا يغسل ثوبه و لا رجله و يصلّي فيه، فلا بأس»(4).

و منها: ما في الوسائل عن التهذيب عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الكنيف يكون خارجا، فتمطر السماء فتقطر عليّ القطرة؟ قال: «ليس به بأس»(5).

و منها: ما فيه عن الكافي عن الكاهلي، عن رجل، عن أبي عبد اللّه قال: قلت: أمرّ في الطريق فيسيل عليّ الميزاب في أوقات أعلم أنّ الناس يتوضّئون؟ قال: «ليس به بأس لا يسأل عنه»، قلت: و يسيل عليّ من ماء المطر أرى فيه التغيّر، و أرى فيه آثار القذر، فيقطر القطرات عليّ و ينتضح عليّ منه، و البيت يتوضأ على سطحه، فيكفّ (6)على ثيابنا؟ قال: «لا بذا بأس، كلّ شيء رآه ماء المطر فقد طهر»(7).

و منها: ما فيه عن الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم، عن ابن أبي

ص: 490


1- كشف اللثام 259:1.
2- مدارك الأحكام 367:2.
3- التهذيب 411:1 - المبسوط 6:1.
4- الوسائل 145:1 ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 1297/411:1 - و 1321/418.
5- الوسائل 147:1 ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 1348/426:1.
6- كفّ يكفّ و كفاء و كيفا، التقاطر من سقف البيت، كذا استحصلناه من المجمع (منه).
7- الوسائل 146:1 ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 5 - أورد صدره في الحديث 3 الباب 13 من أبواب الماء المضاف الكافي 3/13:3.

عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في ميزابين سالا، أحدهما بول و الآخر ماء المطر، فاختلطا، فأصاب ثوب رجل، لم يضرّه ذلك»(1).

و منها: ما في الفقيه بإسناده الصحيح عن هشام بن سالم، أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السطح يبال عليه، فيصيبه السماء، فيكفّ فيصيب الثوب؟ فقال: «لا بأس به، ما أصابه من الماء أكثر منه»(2).

و منها: الصحيح الوارد في الفقيه بإسناده عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السّلام قال: «سألته عن البيت يبال على ظهره، و يغتسل من الجنابة، ثمّ يصيبه المطر، أ يؤخذ من مائه فيتوضّأ به للصلاة؟ فقال: إذا جرى فلا بأس [به].

قال: و سألته عن الرجل يمرّ في ماء المطر و قد صبّ فيه خمر، فأصاب ثوبه، هل يصلّي فيه قبل أن يغسله؟ فقال: «لا يغسل ثوبه و لا رجله، و يصلّي فيه و لا بأس [به]»(3).

لا يخفى أنّ هذا الجزء هو الّذي حكيناه أوّلا عن التهذيب أيضا، و في الوسائل رواه الحميري في قرب الأسناد عن عبد اللّه الحسن، عن جدّه عليّ بن جعفر مثله، و زاد و سألته عن الكنيف فوق البيت، فيصيبه المطر، فيكفّ فيصيب الثياب، أ يصلّي فيها قبل أن تغسل؟ قال: «إذا جرى من ماء المطر فلا بأس»(4).

و منها: ما نقله في الحدائق عن عليّ بن جعفر، قال: و روى في كتاب المسائل أيضا عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن المطر يجري في المكان فيه العذرة، فيصيب الثوب، أ يصلّي فيه قبل أن يغسل؟ قال: «إذا جرى به المطر فلا بأس»(5).

و منها: ما في الكافي عن محمّد بن إسماعيل، عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن عليه السّلام:

ص: 491


1- الوسائل 145:1 ب من أبواب الماء المطلق ح 4 - الكافي 1/12:3.
2- الوسائل 146:1 ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 1 - الفقيه 4/7:1.
3- الوسائل 145:1 ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 2 - الفقيه 6/7:1 و 7 - و مسائل عليّ بن جعفر 433/204؛ و ما بين المعقوفين غير موجود في المخطوط و إنّما اضفناه من المصدر.
4- الوسائل 145:1 ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 2 - قرب الأسناد: 83-89 - مسائل عليّ بن جعفر 368/192.
5- الحدائق الناضرة 217:1 - الوسائل 148:1 ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 9 - مسائل عليّ بن جعفر 115/130.

«في طين المطر أنّه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيّام، إلاّ أن يعلم أنّه قد نجسه شيء بعد المطر، فإن أصابه بعد ثلاثة أيّام فاغسله، و إن كان الطريق نظيفا لم تغسله»(1).

و لا يذهب عليك أنّ عموم قاعدة انفعال القليل بملاقاة النجاسة - حسبما قرّرناه في المباحث السابقة - يقتضي عدم الفرق في الانفعال بين ماء المطر و غيره، خلافا لبعض من ذهب إلى عدم انفعال ماء المطر استنادا إلى عدم العموم في تلك القاعدة كالمحقّق الخوانساري(2)، فالقول بعدم الانفعال هنا حال التقاطر مطلقا - كما عليه المشهور - أو بشرط الجريان مطلقا، أو مقيّدا بالميزاب، أو الكثرة الصالحة لأن ينشأ منها الجريان لا يصار إليه إلاّ بدليل.

فعلى المشهور لا بدّ من دليلين أحدهما ما يقضي بأصل الحكم الصالح مخصّصا للقاعدة.

و الآخر ما يقضي بصحّة اشتراط التقاطر و على المذهبين الآخرين يزيد عليهما لزوم دليل ثالث يدلّ على اعتبار الجريان أو الكثرة، لا بمعنى لزوم إقامة أدلّة منفصلة على هذه المطالب، بل بمعنى لزوم إقامة ما يحتويها جميعا، اتّحد أو تعدّد، و حينئذ فلو استدلّ المشهور على ما صاروا إليه بالصحيحة الاولى المشتملة على قول السائل: «عن الرجل يمرّ في ماء المطر، و قد صبّ فيه خمر» كان كافيا لهم في ثبوت مطلوبهم بكلا جزأيه، أمّا الجزء الأوّل:

فواضح، و أمّا الجزء الثاني: فلعدم تناول الصحيحة في الإخراج عن القاعدة إلاّ حال التقاطر، فيجب عدم التعدّي إلى غيرها، اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد الدليل، و إنّما يتّضح هذا البيان بالقياس إلى صغرى القياس على تقدير كون الإضافة في قوله: «في ماء المطر» بيانيّة إذ المرور في المطر ظاهر - كالصريح - فيه حال النزول و التقاطر، و المفروض عدم اشتمال الجواب على عامّ أو مطلق ليتّجه القول بعدم صلاحية المورد لتخصيصه.

و أمّا على احتمال كونها لاميّة، فربّما يدخل في الوهم شمول الجواب بملاحظة ترك الاستفصال حال التقاطر و غيرها، إلاّ أنّه لا يجدي نفعا في استفادة التعميم من الرواية

ص: 492


1- الوسائل 147:1 ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 6 و اورد تمامه في الحديث 1 من ب 75 من أبواب النجاسات - الكافي 4/13:3.
2- مشارق الشموس: 211 حيث قال - في الاستدلال على عدم انفعال ماء المطر بملاقاة النجاسة -: «لما مرّ مرارا أنّ عموم انفعال القليل لا دليل عليه سوى عدم القول بالفصل في بعض الموارد و القول بالفصل هاهنا موجود، فالظاهر البناء على أصالة الطهارة...».

بمجرّدها بعد قيام احتمال كون الإضافة بيانيّة، فإنّه لقوّته لو لم يكافئ الاحتمال الآخر حتّى يكون الإضافة لتردّدها بين المعنيين مجملة، فلا أقلّ من كونه مزاحما لدلالة الرواية على العموم المبني على الاحتمال الآخر، و موجبا لضعف تلك الدلالة، و معه لا محيص من الأخذ بالقدر المتيقّن من مدلولها، المشترك بين الاحتمالين، كما أنّه كذلك على تقدير إجمال الإضافة، نعم ترك الاستفصال بالقياس إلى اعتبار الجريان أو الكثرة و عدمه في محلّه.

فالمناقشة فيها تارة: بأنّ فيها إشعارا بحصول الجريان، فلا دلالة فيها على تمام المدّعى.

و اخرى: بأنّ دلالتها موقوفة على نجاسة الخمر، و هي ممنوعة.

يدفعها: منع الإشعار لو اريد به الظهور، بل و منعه أيضا مطلقا، و لو سلّم فاعتباره ممنوع و أنّ المحقّق نجاسة الخمر كما يأتي في محلّه، و لو سلّم فالرواية بنفسها تنهض دليلا عليها، كما تنبّه عليه في مجمع الفائدة(1) - على ما حكي عنه - فإنّ سياق السؤال ممّا يشهد بتعرّض السؤال عن نجاسة الماء، و هو فرع على اعتقاد السائل بنجاسة الخمر، و احتمال كونه في صدد السؤال عن نجاسة الخمر ممّا يبعّده سياق السؤال، و لا يلائمه جلالة شأن السائل، كما أنّ احتمال كون شبهته في نجاسة الماء ناشئة عن الشبهة في نجاسة الخمر ممّا لا يلائمه جلالة شأنه، و علوّ رتبته في الفقه و المعرفة.

لكن يبقى الكلام في صحّة الاستناد إلى مثل هذا الاعتقاد، لجواز كونه مستحصلا له بطريق الاجتهاد، و لو عوّل على التقرير المتوهّم في المقام لم يكن في محلّه، لعدم احتواء المقام جميع مقدّماته لجواز الاكتفاء في الردع بما ذكره عليه السّلام في الجواب، إلاّ أن يدّعى قيام الظهور العرفي - بملاحظة السياق - في كون نجاسة الخمر مفروغا عنها فيما بين السائل و المسئول.

و ممّا يوافق الصحيحة المذكورة في الدلالة على ما يوافق المذهب المشهور، و السكوت عن اعتبار الجريان و الكثرة الرواية الثانية، غير أنّه يشكل الحال في التمسّك بها وحدها، لما في سندها من القصور بجهالة عمرو بن الوليد، أو عمر بن الوليد على اختلاف النسخ، لعدم كونه مذكورا في الرجال فيما نعلم بشيء من العنوانين.

ص: 493


1- مجمع الفائدة و البرهان 256:1.

نعم، يصحّ الاستناد عليه أيضا بالرواية الرابعة كما استند إليها في المنتهى(1)، سواء اعتبرناها صحيحة كما في الكتاب أو حسنة، و لا يقدح فيه اختصاص المورد بصورة الجريان بعد ملاحظة ما تقدّم في الصحيحة الاولى من العموم في تلك الجهة، نظرا إلى أنّ المورد بمجرّده لا ينهض دليلا على اختصاص الحكم، و لا أنّه صالح لتقييد الصحيحة، لعدم المنافاة بينهما في المقام و نظائره، و هي أيضا في عدم تناولها لغير حالة النزول كالصحيحة المذكورة، لمكان انصراف سيلان ماء المطر من الميزاب إليه في حال النزول، كما لا يخفى.

و يمكن لهم الاستناد بالرواية الثالثة لو لا قصورها بالإرسال، و ربّما يدّعى انجبارها بالشهرة و ليس بثابت، إذ العبرة في الانجبار بالشهرة بكونها استناديّة ليوجب الوثوق بصدور الرواية، و غاية ما هنالك انكشاف صدق مضمونها، و هو ليس من انكشاف صدق نفسها في شيء، و على هذا القياس الحال في الثامنة الواردة في طين المطر، بل هي ممّا لو حصل له جابر تدلّ على أحكام كثيرة.

منها: كون ماء المطر مطهّرا للأرض، نظرا إلى إطلاق قوله عليه السّلام: «طين المطر لا بأس به» الشامل لما كان نجسا قبل المطر و غيره.

و منها: كونه عاصما لغيره عن الانفعال، لمكان قوله عليه السّلام: «إلاّ أن يعلم أنّه قد نجّسه شيء بعد المطر» فإنّ التقييد ببعديّة المطر يقضي بأنّه لا ينجّسه شيء حال المطر، و على فرض تنجيسه فيقضي بالمطهّريّة أيضا، بل يقضي بها لو نجّسه قبل المطر أيضا.

و منها: عدم انفعاله بنفسه لو ورد عليه و هو نجس، ضرورة أنّ الطين ما يحصل بامتزاج الماء في الأجزاء الترابيّة، فلو فرض كون تلك الأجزاء نجسة قبل ورود الماء عليها مع كونه قابلا للانفعال بملاقاته إيّاها، فهو بعد امتزاجه باق على وصف النجاسة، و معه كيف يصحّ نفي البأس عن الممتزج فيه بإطلاقه، بل كونه مطهّرا له على بعض الفروض يستلزم طهارته، و لا يستقيم ذلك إلاّ على تقدير عدم قبوله الانفعال، إذ الضرورة قاضية بأنّ الامتزاج لا يفيده طهارة، و دعوى: أنّ المطهّريّة لا يستلزم الطهارة، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه.

نعم، لو استند على المشهور بالصحيحة الخامسة كان بلا إشكال أيضا، لسلامتها عمّا يقدح فيها سندا و دلالة، لكن يبقى الكلام في معنى «الأكثريّة» الّتي علّل بها الحكم،

ص: 494


1- منتهى المطلب 29:1.

فإنّه ربّما يوهم اعتبار الكثرة بالمعنى المتقدّم سابقا، و لذا حكي الاحتجاج بتلك الرواية عن أهل القول بذلك.

و لكن يدفعه: منع نهوض ذلك دليلا على هذا الحكم، لجواز كون المراد «بالأكثريّة» الأكثريّة الإضافيّة بالقياس إلى البول، مرادا بها بيان أنّه لا داعي إلى ثبوت البأس في هذا الماء الّذي أصاب الثوب إلاّ كونه مستهلكا في جنب البول، و هو مفروض الانتفاء بقرينة كون الماء أكثر من البول بحسب المقدار، و كلّما كان كذلك فهو موجب لاستهلاك البول، و الأكثريّة بهذا المعنى كما ترى أعمّ من الكثرة النفسيّة حسبما اعتبره القائل، و العامّ لا يدلّ على الخاصّ، و كيف كان فهذه الرواية لا تصلح مستندة لهذا القول، بل دلالتها على المذهب المشهور أنسب و أوضح.

و من هنا اتّضح ضعف هذا القول، و عدم جواز المصير إليه، حيث أنّه ممّا لا مستند له.

نعم، المعضل دفع القول باشتراط الجريان فعلا لقوّة دليله ظاهرا، فإنّ الشيخ في زيادات باب المياه من التهذيب(1) احتجّ عليه بالصحيحة السادسة، المشتملة على قوله عليه السّلام: «إذا جرى فلا بأس».

و يمكن دفعه: بأنّه يستقيم على تقدير عود الضمير في الشرط إلى «مائه» المذكور في كلام السائل، نظرا إلى ظهور الجريان المسند إلى الماء في سيلانه على الأرض و نحوها، كظهور الماء مضافا إلى المطر فيه بعد النزول من السماء كما هو واضح، و لعلّه موضع منع لقوّة احتمال عوده إلى المطر المذكور في كلام السائل أيضا سابقا على مائه.

و لا ريب أنّ المطر ظاهر في ماء السماء حال نزوله خاصّة، كما أنّ الجريان المسند إليه ظاهر في وروده على الأرض، فيكون الشرطيّة مرادا بها نفي البأس عن ظهر البيت المتنجّس بالبول الّذي ورد عليه المطر، كما أنّه لا ريب أنّ إطلاق نفي البأس عن المحلّ النجس بورود المطر عليه يستلزم طهره و بقاء الماء الّذي فيه على طهارته الأصليّة، و هو المطلوب من عدم قبول ماء المطر للانفعال، و لا يلزم على هذا التقدير عدم مطابقة الجواب للسؤال، حيث إنّ الغرض الأصلي من السؤال استعلام حال التوضّي بالماء المفروض، بملاحظة أنّ شبهة السائل في جواز التوضّي - على ما يرشد إليه ابتداء

ص: 495


1- التهذيب 411:1 ذيل الحديث 1296.

السؤال - إنّما نشأت عن شبهة طهر المحلّ الّذي ورد عليه المطر بعد المطر و طهارة الماء الملاقي له، و قد علم بذلك الإمام عليه السّلام فأجابه بما يرفع شبهته الّتي هي المنشأ، و لعلّ هذا المعنى هو الظاهر المنساق من الرواية بملاحظة ما ذكر، و كأنّه إليه يرجع ما في منتهى العلاّمة(1) و تبعه الجماعة في دفع احتجاج الشيخ بالرواية من حمل الجريان الوارد فيها على النزول من السماء، و يوافقها على هذا المعنى الرواية السابعة المتضمّنة لقوله عليه السّلام: «إذا جرى به المطر فلا بأس» لوضوح عود الضمير المجرور إلى المكان المذكور في السؤال، الّذي يجري فيه المطر، مع ملاحظة ما أشرنا إليه من ظهور الجريان حيثما يسند إلى «المطر» دون «ماء المطر» في النزول و الورود، و لا ضير في موافقة الشرط المأخوذ في الشرطيّة الواردة في الجواب لما هو مفروض في السؤال.

و لا يكون نظائره أجنبيّة عن تأدية العبارة، لأنّ تعليق نفي البأس عليه إعطاء للحكم في موضوعه الّذي فرضه السائل، و هذا نظير ما لو قيل للطبيب مثلا: «أكلت اليوم الهندباء»، فيقول: «إذا أكلت الهندباء أو إن أكلت الهندباء فنعم ما فعلت».

غاية ما في الباب لزوم عدم اعتبار المفهوم في مثله، و لا ضير في ذلك بعد قيام القرينة عليه، لما قرّر في محلّه من أنّ التعليق بالشرط إذا ورد لبيان موضوع الحكم - كما في قولك: «إن أصبت ماء فاشربه» - فلا مفهوم له، أو أنّ المفهوم إنّما يعتبر في الشرطيّة إذا لم يكن المسكوت عنه معلوما حكمه قبل الخطاب، و الظاهر أنّ مورد الرواية أقرب إلى هذه القاعدة، ضرورة أنّ ثبوت البأس في المكان المفروض في السؤال بلا جريان المطر به - على معنى وروده عليه - ممّا كان معلوما للسائل، و إنّما تعرّض للسؤال استعلاما لارتفاع ذلك البأس بالمطر و عدمه.

و لا يخفى أنّ هذه الرواية أقوى دلالة على المعنى المذكور من الصحيحة، غير أنّها غير صالحة إلاّ لتأييد هذا المعنى في الصحيحة، لمكان ما فيها من الإرسال بعدم معلوميّة سندها، و الغرض من التأييد بتلك الرواية استظهار كون إطلاق الجريان على نزول المطر من السماء صحيحا في عرفهم، و إن كان مطلقه ينصرف إلى السيلان من الأرض، ففرق بين الجريان المطلق و مطلق الجريان، و على قياس هذا المعنى ما في العلاوة الّتي عرفتها عن الوسائل عن

ص: 496


1- منتهى المطلب 29:1.

الحميري في قرب الأسناد من قوله عليه السّلام: «إذا جرى من ماء المطر فلا بأس» فإنّه أيضا تعليق على شرط مذكور في السؤال، غير أنّه يقضي بكون كلمة «من» زائدة كما لا يخفى.

و يمكن إضمار فاعل قوله عليه السّلام: «جرى» مع عوده إلى ما يكفّ بعد إصابة المطر للكنيف فيصيب الثياب، مرادا به اعتبار كون الّذي يكفّ في موضوع حكم نفي البأس شيئا من ماء المطر لا ممّا هو في الكنيف، أو اعتبار كون الوكف الّذي لا بأس به لا بدّ و أن ينشأ من المطر، لا من قبل الكنيف نفسه، و لا من قبل أمر خارج عنه غير المطر، بناء على أنّ كلمة «من» نشويّة.

و اجيب عن احتجاج الشيخ بالصحيحة المتقدّمة بوجوه اخر:

منها: ما عن المعتبر(1) من أنّه لا يدلّ على الاشتراط، لأنّه لو لم يكن طاهرا لما طهّر بالجريان، و لا يخفى ضعفه.

و منها: ما في شرح الدروس للخوانساري(2) من أنّ دلالة المفهوم إنّما تعتبر فيما لا فائدة فيه سوى الاشتراط، و ليس الأمر هاهنا كذلك، لجواز أن يقال: إنّ السؤال لمّا كان متضمّنا للجريان، فأجاب على وفقه تحقيقا و تثبيتا لنفي البأس في هذه الحالة، و هو أيضا ضعيف لفساد مدركه.

و منها: ما أشار إليه في الكتاب(3) أيضا و تبعه قوم، من أنّ البأس أعمّ من الحرمة و الكراهة، فيجوز أن يكون التوضّي به قبل الجريان مكروها، و هو لا يستلزم النجاسة.

و هو أضعف من سابقيه.

و منها: ما في الكتاب المذكور: «من أنّه لا يدلّ على نجاسة ماء المطر بالملاقاة إذا لم يكن جاريا، لجواز أن يكون البأس حين عدم الجريان، بناء على عدم تطهيره للأرض بدون الجريان، و لمّا لم يطهّر الأرض و الغالب اختلاط أجزائها بماء المطر فلذلك يتحقّق البأس، فلم تظهر دلالته على الانفعال بالملاقاة»(4) و لعلّه بعيد من حيث استلزامه عدم مطابقة الجواب للسؤال، لظهور السياق في أنّ الغرض الأصلي معرفة حكم الماء و الثوب، و إن خصّت الصلاة بعنوان الاستفهام، و النكتة في ذلك أنّ أثر نجاسة الماء

ص: 497


1- المعتبر: 9. (2-4) مشارق الشموس: 212.

و الثوب و طهارتهما إنّما يظهر في الصلاة و غيرها ممّا هو مشروط بالطهارة، فأجود الأجوبة ما نقلناه عن منتهى العلاّمة رحمه اللّه(1) بناء على التوجيه الّذي قرّرناه.

ثمّ لو أغمضنا و قلنا بظهور الجريان مطلقا فيما فهمه الشيخ، يتوهّن هذا الظهور بملاحظة مخالفته للشهرة القريبة من الإجماع، فإنّ الشهرة بمجرّدها و إن لم تصلح قرينة على صرف الظاهر عن الظهور، غير أنّها ربّما تكون موهنة له، فيشكل معه الأخذ به، فيبقى الروايات الاخر في المقام بالقياس إلى قضائها بعدم اشتراط الجريان سليمة عمّا يصلح لمعارضتها، و يؤيّدها أصالة عدم الاشتراط، فظهر بجميع ما تقرّر أنّ الأقوى هو القول المشهور.

و ربّما يستدل عليه - مضافا إلى ما مرّ - بالأصل، و القاعدة، و عموم ما دلّ على طهارة الماء ما لم يتغيّر، و ضعفه بعد ملاحظة عموم قاعدة الانفعال ظاهر، و ربّما يستدلّ أيضا كما في المنتهى(2) بأنّه يشقّ الاحتراز عن ماء الغيث، فلو لا التخفيف بعدم انفعاله مطلقا لزم العسر و الحرج، و صغرى ذلك الدليل و إن كانت مسلّمة في الجملة و لكن كبراه لا يخلو عن مناقشة تظهر بأدنى تأمّل،

و لنختم المقام بذكر امور مهمّة.

أوّلها: معنى اعتصام ماء المطر عن الانفعال حال التقاطر عدم قبول ما حصل في الأرض منه للانفعال بتقاطر ما بقي منه عليه،

و إلاّ فالمتقاطر حال تقاطره ممّا لا يعقل فيه ملاقاة النجاسة عادة حتّى يلحقه حكم الاعتصام و عدمه، و ملخّص المعنى المذكور: أنّ ماء المطر المنقضي عنه مبدأ التقاطر لا ينفعل بورود ما تلبّس بذلك المبدأ عليه.

و هل يلحق به غيره من المياه القليلة المتوقّف عدم قبولها الانفعال على وجود عاصم، من مياه الحياض و الغدران و القلّتان و الأواني و نحوها، على معنى اعتصامها بالمتقاطر من ماء المطر أوّلا؟ و المسألة موضع توقّف لخلوّ نصوص الباب عن التعرّض لهذا المطلب، فانحصر طريقه في الإجماع فإن أمكن تحصيله فهو، و إلاّ فلا مجال إلى رفع اليد عن قاعدة الانفعال، خلافا للخوانساري في شرح الدروس، قائلا: «بأنّ الظاهر التقوّي، لعدم عموم انفعال القليل، مع أنّ الظاهر أنّه المشهور بين الأصحاب، و لو كان جاريا إليه من ميزاب و نحوه. فالتقوّي ظاهر»(3) انتهى.

لكن في الحدائق: «لا ريب في ذلك على المشهور من جعل ماء المطر كالجاري

ص: 498


1- تقدّم في الصفحة 496.
2- منتهى المطلب 30:1.
3- مشارق الشموس: 214.

مطلقا، و أمّا على اعتبار الجريان أو الكثرة فيناط بحصول أحدهما»(1) انتهى.

و عن الذخيرة بناء المسألة على الوفاق، و الخلاف في المسألة السابقة، حيث قال:

«فإن كان بطريق الجريان، فلا ريب في أنّه يفيده تقوّيا فيصير كالجاري، و إلاّ فيبنى على الخلاف في اشتراط الجريان و عدمه»(2).

و قد يستدلّ على التقوّي مطلقا باستصحاب الطهارة، بناء على أنّه لا دليل يوجب رفع اليد عنه، و اتّضح ضعفه.

و بالأولويّة، بتقريب: أنّ ماء المطر مطهّر للماء النجس و رافع عنه النجاسة، فكونه عاصما له عن قبول النجاسة، - لمكان كون الدفع أهون من الرفع [طريق الأولويّة](3)، و هو أوهن من بيت العنكبوت لعدم صلاحية الاعتبارات العقليّة وسطا للأحكام التعبّديّة، أ لا ترى أنّ الماء القليل يفيد تطهير النجس و لا يفيد تقوّيا أصلا.

نعم، لو بنى على أنّ ماء المطر ممّا يطهّر غيره من المياه النجسة، أمكن المصير إلى طهارة القليل الملاقي للنجاسة لا لأنّه يفيد تقوّيا، بل لأنّ هذا الماء ينفعل بالملاقاة آنا ما و لو حال التقاطر ثمّ يزول انفعاله بلحوق تقاطر آخر، أخذا بموجب أنّه يطهّر غيره، إذ لا يفترق الحال في ذلك بين طروّ النجاسة للغير حال التقاطر أو قبله، و لكن ثبوت الطهارة له بتلك القاعدة لا يجدي نفعا في طهارة ما لو فرض تحقّق ملاقاة النجاسة له في آخر أزمنة التقاطر، على معنى انقطاع التقاطر في ثاني زمان الملاقاة كما لا يخفى.

نعم، على ثبوت قاعدة التقوّي يحكم عليه بالطهارة جزما، و أمّا لو تحقّقت الملاقاة حال الانقطاع - على معنى عروضها مقارنة له - فلا يحكم عليه بالطهارة على القاعدتين معا.

و ثانيها: لا إشكال في كون ماء المطر حال التقاطر مطهّرا للأرض الّتي أصابها نجاسة قبل نزولها بل حال النزول أيضا،

على تقدير تحقّق الاستيعاب لموضع النجاسة، و زوال عينها لو كانت عينيّة، بل لو قلنا بالعمل بمرسلة الكاهلي المتقدّمة كان مطهّرا عن كلّ متنجّس حتّى الأواني و الثياب، لعموم قوله عليه السّلام: «كلّ شيء يراه المطر فقد طهر» و قد يعزى ذلك إلى المشهور، بل قضيّة الشرطيّة المقتضية للسببيّة التامّة حصول الطهر بمجرّد الإصابة من دون اعتبار ما يعتبر في غسل الأواني و الثياب إذا حصل بغير المطر من عصر و إزالة غسالة،

ص: 499


1- الحدائق الناضرة 224:1.
2- ذخيرة المعاد: 121.
3- أضفناها لاستقامة العبارة.

لكن لمّا لم يثبت عندنا جابر لإرسال تلك الرواية كان الواجب علينا الآن الاقتصار على مورد الدليل، و ليس إلاّ الأرض، و الّذي يدلّ عليه جملة من الأخبار المتقدّمة.

منها: الصحيحة الاولى الواردة في المرور في ماء مطر، صبّ فيه خمر فأصاب الثوب، المحكوم على الصلاة فيه قبل الغسل بعدم البأس، مع التصريح بعدم وجوب غسل الثوب و الرجل.

بتقريب: أنّ الخمر ما دامت عينها باقية في الأرض توجب نجاستها جزما، و إن لم تتميّز أجزاؤها عن الماء في نظر الحسّ، فلو لا طهرها بسبب المطر لم يكن للحكم بعدم البأس و عدم وجوب الغسل معنى، ضرورة العلم العادي بأنّ ما أصاب الثوب من الماء كان مستصحبا للأجزاء الأرضيّة لا محالة، و هي باقية على ما كانت عليها من النجاسة، فتكون كافية في المنع عن الصلاة و وجوب غسل الثوب بل الرجل أيضا، ضرورة اشتمالها بواسطة الماء على الأجزاء الأرضيّة لا محالة، و المناقشة فيها بابتناء المطلب على نجاسة الخمر و هي ممنوعة، قد عرفت دفعها.

و منها: الصحيحة الخامسة الواردة في السطح يبال عليه فيصيبه السماء، فيكفّ فيصيب الثوب، الحاكمة بعدم البأس، بتقريب ما مرّ.

و منها: الصحيحة السادسة بهذا التقريب، و الكلام في قضيّة اشتراط الجريان فيها كما مرّ، و يدلّ عليه أيضا إطلاق المرسلة الثامنة، النافية للبأس عن طين المطر، غير أنّك قد عرفت الإشكال في جواز الاستناد إليها، لما فيها من الإرسال الّذي لا نعلم بجابر له.

و ثالثها: ماء المطر كما أنّه مطهّر للأرض كذلك يطهّر الماء المتنجّس،

و قد يدّعى الإجماع عليه إذا كان واردا عليه بطريق الجريان من الميزاب، و الشهرة إذا كان بطريق الجريان مطلقا أو الكثرة.

و عن الذخيرة(1) نفي الريب في تطهيره بمطلق الجريان و هذا الحكم على تقدير صحّة الاستناد إلى مرسلة الكاهلي واضح و عمومها يقتضي عدم اعتبار الجريان من الميزاب و غيره، و لا الكثرة و لا الامتزاج و لا استيعاب المطر لسطح الماء، لا بمعنى كفاية ورود قطرة واحدة عليه - كما حكي القول به عن بعض الفضلاء(2) - و لو كان الماء

ص: 500


1- ذخيرة المعاد: 121.
2- روض الجنان: 139.

حوضا كبيرا، فإنّ ذلك غير معلوم الاندراج تحت المرسلة، بل بمعنى كفاية ما يسمّى في العرف و العادة مطرا، بأن يقع عليه المطر على النحو المتعارف، و إن فرض بقاء بعض من سطحه بحيث لم يقع عليه مطر.

لا يقال: المقتضي لطهارة الماء بمجرّد الاتّصال - على القول به - هو كون الماء مطهّرا للجزء الّذي يليه، و بعد الحكم بطهارته يتّصل بالجزء الثاني و هو متقوّ بالكرّ الّذي منه طهره فيطهّر الجزء الثاني و هكذا، و هذا ممّا لا يتمّ في مفروض المقام بعد عدم تحقّق ملاقاة المطر لبعض سطوح الماء، لعدم تحقّق اتّصال المطهّر بالقياس إلى هذا الجزء، لأنّ الاجتهاد في مقابلة النصّ ممّا لا معنى له.

و مناط الطهارة في مدلول النصّ إنّما هو رؤية المطر، و هذه قضيّة تصدق مع ورود ما يصدق عليه اسم المطر عرفا على الماء، و إن بقي من أجزاء السطح ما لم يتحقّق فيه ملاقاة المطر، فإنّه حينئذ غير قادح في صدق رؤية المطر لهذا الماء، لكن الإشكال في صحّة الاستناد إلى المرسلة كما عرفت.

فالأولى حينئذ الاستناد إلى الصحيحة الرابعة، الواردة في ميزابين سالا أحدهما بول و الآخر ماء المطر فاختلطا فأصاب ثوب رجل لم يضرّه ذلك، فإنّها منصرفة إلى حال التقاطر، لأنّه الغالب في سيلان ماء المطر من الميزاب، دالّة على كون المطر مطهّر للخمر(1) و لو بعد الاستهلاك، نظرا إلى أنّه ليس عبارة عن الانعدام بالمرّة، فأجزاؤها المنتشرة موجودة مع الماء، و إصابته تستلزم إصابة شيء من تلك الأجزاء و هي من الأعيان النجسة، فلو لا طهرها بالماء لم يكن لقوله عليه السّلام: «لم يضرّه ذلك» وجه، فإذا كان ماء المطر مطهّرا عن النجاسة الذاتيّة فكونه مطهّرا عن النجاسة العرضيّة بطريق أولى أولويّة قطعيّة.

نعم، ينبغي الاقتصار في ذلك على صورة الامتزاج جمودا بما هو مفروض في مورد الرواية من الاختلاط، و يمكن استفادة تطهير الماء بطريق الأولويّة عن الصحيحة الاولى و غيرها من المعتبرة المتقدّمة بالتقريب المتقدّم.

ص: 501


1- كذا في الأصل، و الصواب: «للبول».

ينبوع [في ماء البئر]

اشارة

و من الموضوعات المخصوصة بالعنوان في كتب الأصحاب البئر، لاختصاصها بمزيد الأبحاث، و امتيازها بأحكام مختلفة ناشئة عن اختلاف مواردها و الأسباب المقتضية لها، و ينبغي قبل الخوض في البحث عن تلك الأحكام صرف النظر في معرفة البئر موضوعا، و هي كما ترى من المفاهيم العرفيّة الّتي لا يكاد يخفى أمرها على المتأمّل، و يقطع بعدم تغيّر العرف فيها، و اتّحاده فيها مع اللغة أو العرف القديم المتناول لعرف نفس الشارع، و لذلك أنّ القاموس(1) و المجمع(2) جعلاها معروفة، فكلّ ما يسمّى في العرف بئرا - تسمية حقيقيّة - فقد لحقه أحكام البئر، و إن شكّ في التسمية لشبهة في المصداق أو الصدق فإن دخل في مسمّى الجاري لحقه حكمه، و إلاّ فيعتبر في انفعاله و عدم انفعاله ما هو معتبر في الواقف من الكرّيّة و عدمها.

و ربّما يعرّف البئر كما عن الشهيد في شرح الإرشاد: «بأنّها مجمع ماء نابع من الأرض لا يتعدّاها غالبا، و لا يخرج عن مسمّاها عرفا،»(3) و عن الأردبيلي: «أنّه مجمع ماء تحت الأرض، ذي نبع بحيث يصعب الوصول إليه غالبا عرفا، و على حسب العادة»(4).

و عن المحقّق الشيخ علي الاعتراض عليه: «بأنّ القيد الأخير موجب لإجمال التعريف، لأنّ العرف الواقع لا يظهر أيّ عرف هو؟ أعرف زمانه صلّى اللّه عليه و آله أم عرف غيره؟ و على الثاني، فيراد العرف العامّ، أو الأعمّ منه و من الخاصّ؟

مع أنّه يشكل إرادة عرف غيره صلّى اللّه عليه و آله و إلاّ لزم تغيّر الحكم بتغيير التسمية فيثبت في العين حكم البئر لو سمّيت باسمه، و بطلانه ظاهر.

ص: 502


1- القاموس المحيط: مادّة «البئر».
2- مجمع البحرين: مادة «بئر».
3- روض الجنان: 143.
4- مجمع الفائدة و البرهان 265:1.

و الّذي يقتضيه النظر: أنّ ما ثبت إطلاق البئر عليه في زمنه صلّى اللّه عليه و آله أو زمن أحد الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، كالّتي في العراق و الحجاز، فثبوت الأحكام له واضح، و ما وقع فيه الشكّ فالأصل عدم تعلّق أحكام البئر به، و إن كان العمل بالاحتياط أولى»(1).

و فيه: أنّ موضوعات الأحكام بحكم الاشتراك في التكاليف لا بدّ و أن تكون مشترك الثبوت فيما بين زماننا و ما بعده و قبله، و زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة عليهم السّلام، فما ثبت اختصاصه بأهل أحد الزمانين لم يعقل ثبوت حكمه لأهل الزمان الآخر، إن ثبت له حكم خاصّ أو عامّ.

و قد يحصل الاشتباه في مسمّى اللفظ الوارد في الخطاب بالقياس إلى زمانه صلّى اللّه عليه و آله أو زمان أحد الأئمّة عليهم السّلام، فلا بدّ في الوصول إليه من وسط و ليس ذلك الوسط عندهم إلاّ العرف، المردّد بين كونه عرف المتشرّعة، أو عرف أهل اللغة، أو العرف الحاضر المعبّر عنه بالعرف العامّ، كلّ في مورده.

و معلوم أنّ البئر ليست من الموضوعات المحدثة الّتي لم تكن ثابتة في زمانه صلّى اللّه عليه و آله و لا من الموضوعات المنقطعة عن زمان غيره، بل هي ثابتة في جميع الأزمنة، فإذا طرأ اشتباه في مسمّاها الّذي أخذه الشارع موضوعا في خطابه لا بدّ في استعلامه من مراجعة العرف بأحد من الأقسام المذكورة، لعدم إمكان الوصول إلى عرف زمانه بدون ذلك، و المفروض أنّها ليست ممّا ثبت فيه تصرّف من الشارع ليرجع فيه إلى عرف المتشرّعة، و لا أنّها ممّا ثبت فيها من أهل اللغة نصّ خاصّ ليرجع إلى عرفهم، فيعيّن الرجوع فيها إلى العرف الحاضر، لا بوصف أنّه عرف غير زمانه صلّى اللّه عليه و آله، بل بعنوان أنّه مرآت و طريق إلى عرف زمانه صلّى اللّه عليه و آله.

فليس المراد بالعرف المأخوذ في الحدّ عرف زمانه بالخصوص، ليرد عليه: أنّه الوصول إليه غير ممكن فيكون التعريف به تعريفا بالمجهول.

و لا أنّ المراد به غير عرف زمانه بوصف أنّه كذلك، ليرد عليه: أنّ العبرة في موضوعات الأحكام بما ثبت في عرفه صلّى اللّه عليه و آله دون غيره.

بل المراد به العرف العامّ لا بشيء من القيدين، نظرا إلى أنّ القيود المأخوذة في

ص: 503


1- جامع المقاصد 120:1.

الحدود إنّما تؤخذ باعتبار مفاهيمها لا باعتبار مصاديقها، حيث إنّها ترد للماهيّات بالماهيّات، فالترديد فيه بين أنّ المراد به عرف زمانه صلّى اللّه عليه و آله، أو عرف غيره في غاية السخافة، لكون مرجعه إلى اعتبار هذا القيد في الحدّ باعتبار المصداق.

غاية الأمر، أنّ العرف العامّ باعتبار مفهومه الكلّي المتحقّق تارة في ضمن عرف زمانه، و اخرى في ضمن عرف زمان أئمّة اللغة، و ثالثة في ضمن عرف زماننا، إن ثبت في الخارج تحقّقه في ضمن عرف زمانه صلّى اللّه عليه و آله كان موضوعا للحكم بالاستقلال، فيتعدّى الحكم إلى الأزمنة المتأخّرة إلى زماننا هذا على تقدير ثبوت المسمّى، و إن تغيّر العرف و انقلبت التسمية.

و إن ثبت تحقّقه في ضمن عرف أهل اللغة، كان مرآتا لموضوع الحكم الثابت في زمانه صلّى اللّه عليه و آله، و موضوعا له بالاستقلال في زمان أهل اللغة، و موجبا لتعدّيه إلى زماننا على تقدير بقاء المسمّى و تغيّر العرف و التسمية.

و إن ثبت تحقّقه في ضمن العرف الحاضر كان مرآتا لموضوع الحكم الثابت في الأزمنة المتقدّمة إلى زمانه صلّى اللّه عليه و آله، و موضوعا له بالاستقلال في هذا الزمان، فلا يلزم في شيء من الصور إشكال، و لا تغيّر الحكم بتغيّر التسمية و لا ثبوت حكم البئر للعين لو سمّيت باسمه، لأنّ هذه التسمية - على فرض تحقّقها - إن فرض كونها على وجه المجاز فعدم ثبوت حكم البئر لمسمّاها واضح، و كذلك لو فرض كونها على وجه الحقيقة و لكن بالوضع الجديد، و أمّا لو فرض كونها على وجه الحقيقة مع العلم بثبوتها في زمانه صلّى اللّه عليه و آله، أو مع احتمال ثبوتها أيضا، فأيّ إشكال في ثبوت أحكام البئر للمسمّى بها بعد تسليم كون العرف الحاضر مرآتا إلى عرف زمانه صلّى اللّه عليه و آله.

و منع تلك المتقدّمة لعلّه سدّ لباب الاستنباط، و خرق للإجماع، و هدم لبناء العرف في حكمهم بتشابه الأزمان في التسمية ما لم يثبت لهم خلافه.

فدعوى: أنّ ما ثبت إطلاق «البئر» عليه في زمنه صلّى اللّه عليه و آله أو زمن أحد الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، - كالّتي في العراق و الحجاز - فثبوت الأحكام له واضح، و ما وقع فيه الشكّ فالأصل عدم تعلّق أحكام البئر به، ممّا لا وجه له أصلا.

نعم، لو علم بعدم الإطلاق في العرف الحاضر، أو شكّ في الإطلاق و العدم، أو علم بالإطلاق و شكّ في وصفه، أو علم بالوصف و أنّه على وجه المجاز أو على وجه

ص: 504

الحقيقة بوضع متأخّر مع عدم تبيّن حال زمانه صلّى اللّه عليه و آله، فلا تعلّق لأحكام البئر حينئذ، و لعلّه من أحد هذه الأقسام الآبار الغير النابعة، كما في بلاد الشام - على ما حكي - و الجارية تحت الأرض كما في المشهد الغرويّ على ساكنه السلام، و لذا صرّح صاحب المدارك(1) فيهما بعدم تعلّق أحكام البئر.

و من هذا الباب بعض العيون النابعة الّتي يخرج منها الماء إلى حدّ معيّن لا يتعدّاه إلى وجه الأرض على وجه يجري فيها، و بعض الآبار الّتي يكثر ماؤها حتّى يجري على وجه الأرض، فإنّها و إن سمّيت «بئرا» غير أنّه لا يجري عليها أحكام البئر، كما هو المصرّح به في كلام بعضهم.

و كان قيد «النبع» في الحدّ لإخراج الآبار الغير النابعة، و قيد «عدم التعدّي» - أي عدم بروزه على وجه الأرض - لإخراج العيون الجارية، و قيد «الغالب» لإدخال ما ذكرناه من بعض الآبار، إن كان النظر في اعتبار الغلبة و الندرة إلى الأفراد، و إن كان النظر فيهما إلى الأزمان و الأحيان فلا بدّ من فرض الكلام في بئر يتعدّى ماؤها إلى وجه الأرض في بعض الفصول، فإنّها من أفراد الماهيّة و إن لم يجر عليها أحكام البئر حال جريانها، و قيد «عدم الخروج عن المسمّى عرفا» لإخراج بعض العيون حسبما فرضناه.

و ممّا ربّما يشكّ في حكمه، الآبار المتثاقبة الّتي تدخل الماء من بعضها إلى بعض بثقبات تحتها، من دون أن يجري على وجه الأرض، بل يدخل في صورة الشكّ بئر يكون ماؤها متّصلا بالكرّ أو الجاري، لكن هذا الشكّ ليس من جهة الشكّ في التسمية، بل من جهة الشكّ في شمول الأدلّة لمثل هذا الفرد، كما أنّ عدم جريان أحكام البئر لما تعدّى ماؤها إلى وجه الأرض من جهة الشكّ في شمول الأدلّة.

و لا يجدي في إثبات الشمول التعليل الوارد في رواية ابن بزيع «بأنّ له مادّة»(2)، إمّا لظهور كونه لبيان الملازمة بين النزح و زوال التغيّر - حسبما قرّرناه في بحث الجاري - أو لكونه مجملا بتردّده بين كونه لبيان تلك الملازمة أو الملازمة بين ماء البئر و عدم إفساد شيء إيّاه، مع أنّه لو قلنا بنجاسة ماء البئر بالملاقاة لا يجدينا هذا التعليل رأسا، و إن قلنا برجوعه إلى الملازمة الثانية، لكون أصل الرواية متروكة الظاهر عند أهل القول بالنجاسة.

ص: 505


1- مدارك الأحكام 53:1.
2- الوسائل 172:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 6.

و على أيّ حال كان فماء البئر - بالمعنى الّذي يكشف عنه العرف - إن تغيّر أحد أوصافه بالنجاسة الواقعة فيها نجس قولا واحدا نصّا و فتوى،

و عليه الإجماعات المنقولة مستفيضة، و مع ذا كلّه فهو من مقتضى كون التغيّر علّة تامّة للنجاسة - حسبما قرّرناه في المباحث السابقة -

و أمّا مع عدم تغيّر أحد أوصافه بالنجاسة الواقعة فيها ففي تنجّسه و العدم خلاف على أقوال:

أحدها: ما حكي عليه الشهرة بين قدماء أصحابنا من أنّه ينجّس بمجرّد ملاقاة النجاسة و لو كان كثيرا،

كما عن الصدوقين(1)، و الشيخين(2)، بل المشايخ الثلاث و أتباعهم، و الحلّي(3)، و ابن سعيد(4)، و المحقّق في المصريّات(5) و الشهيدين(6) أيضا، و عن الأمالي: «أنّه من دين الإماميّة»(7)، و عن الانتصار(8) و الغنية(9) و السرائر (10)و مصريّات(11) المحقّق نفي الخلاف عنه، و ربّما نسب ذلك إلى الشيخ في التهذيبين غير أنّا لم نقف من كلامه فيهما على ما يدلّ على ذلك صراحة و ظهورا.

و عن كاشف الرموز: «أنّ عليه فتوى الفقهاء من زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى يومنا هذا» (12)و عن غاية المراد: «أنّ عليه عمل الإماميّة في سائر الأعصار و الأمصار»(13) و عن الروضة: «كاد يكون إجماعا»(14) و في المنتهى: «و ذهب الجمهور إلى التنجيس

ص: 506


1- الفقيه 13:1 - المقنع: 10-9-1.
2- و هما المفيد في المقنعة: 64 و الشيخ الطوسي قدّس سرّه في النهاية 207:1.
3- السرائر 69:1.
4- الجامع للشرائع: 19.
5- المسائل المصريّة (الرسائل التسع - للمحقّق الحلّي -: 221).
6- و هما الشهيد الأوّل في الدروس الشرعيّة 119:1؛ و ذكرى الشيعة 87:1؛ و الشهيد الثاني في الروضة البهيّة 35:1؛ و روض الجنان: 145؛ و غاية المراد 66:1.
7- أمالي الصدوق: 514.
8- الانتصار: 89.
9- غنية النزوع: 46.
10- السرائر 69:1.
11- لم نجد فيه دعوى عدم الخلاف في المسألة، قال فيه ص 221: «لأصحابنا في هذه قولان : أحدهما: النجاسة و وجوب النزح للتطهير: و هو اختيار المفيد قدّس سرّه و الشيخ أبي جعفر الطوسي في النهاية و علم الهدى من تابعهم و الثاني: أنّها لا تنجّس إلاّ بالتغيّر و لا يجب النزح إلاّ معه، و هو اختيار قوم من القدماء... و المختار هو الأوّل».
12- كشف الرموز 49:1-48.
13- غاية المراد 66:1 (من منشورات مكتبة الإعلام الإسلامى بقمّ المشرّفة).
14- الروضة البهيّة 35:1.

أيضا»(1)، يعني بهم العامّة.

و ثانيها: ما يظهر عن الشيخ أيضا، و لكن في التهذيبين من أنّه لا ينجّس ما لم يتغيّر،

و ثانيها: ما يظهر عن الشيخ أيضا، و لكن في التهذيبين(2) من أنّه لا ينجّس ما لم يتغيّر،

و إن أوجب فيه النزح المقدّر حسبما يأتي بيانه، و هو محكيّ عن جماعة من الأصحاب أيضا كالحسن بن أبي عقيل(3)، و الشيخ، و شيخه الحسين بن عبد اللّه الغضائري، و العلاّمة(4)، و شيخه مفيد الدين بن جهم(5)، و ولده فخر المحقّقين(6) على ما في المدارك(7)، بل فيه: «إليه ذهب عامّة المتأخّرين»(8)، و عزى إلى صاحب التنقيح(9)، و الموجز(10)، و جامع المقاصد(11) و المحقّق الميسي(12)، و ثاني الشهيدين في رسالة منفردة(13) له في تلك المسألة و جمهور المتأخّرين.

و ثالثها: الفرق بين قليله فينجّس و كثيره فلا ينجّس،

و في المدارك(14) ذهب إليه الشيخ أبو الحسن محمّد بن محمّد البصروي من المتقدّمين، و عن المنتقى: «أنّه حكاه عن جماعة»(15) و في المدارك(16) أيضا: «و هو لازم للعلاّمة لأنّه يعتبر الكرّيّة في مطلق الجاري، و البئر من أنواعه، و تنظّر فيما ادّعاه من الملازمة جماعة، و هو في محلّه لتوجّه المنع إلى كون البئر من أنواع الجاري»(17).

و عن الذكرى عن الجعفي: «أنّه يعتبر فيه ذراعين في الأبعاد الثلاثة حتّى لا ينجّس»(18).

ص: 507


1- منتهى المطلب 56:1.
2- التهذيب 232:1 - الاستبصار 32:1.
3- نقله عنه في مختلف الشيعة 187:1.
4- التحرير - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 4 - نهاية الإحكام 235:1.
5- نقله عنه في روض الجنان: 144.
6- إيضاح الفوائد 17:1.
7- مدارك الأحكام 54:1.
8- مدارك الأحكام 54:1.
9- التنقيح الرائع 44:1.
10- الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة 412:26).
11- جامع المقاصد 120:1.
12- حكاه عنه في مفتاح الكرامة 79:1.
13- رسائل الشهيد الثاني: 2-5.
14- مدارك الأحكام 55:1.
15- منتقى الجمان 58:1 و ما حكاه فيه عن جماعة هو قوله: «و صار جماعة من الأصحاب إلى إيجاب النزح مع القول بعدم الانفعال تمسّكا بظاهر الأوامر»
16- مدارك الأحكام 55:1.
17- و هذا كما ترى لا يرتبط بهذا القول، بل هو قول آخر من أقوال المسألة كما ذكره في مفتاح الكرامة 79:1 فراجع.
18- ذكرى الشيعة 88:1.
و أوسط الأقوال أوسطها و احتجّ أهل القول به بوجوه، بين صحيحة و سقيمة.
أوّلها: الاستصحاب،

أشار إليه العلاّمة في المختلف قائلا: «و لأنّه ماء محكوم بطهارته قبل ورود النجاسة عليه، فيتمّ بعده عملا بالاستصحاب السالم عن معارضة الانفعال بالتغيّر»(1) و هو ممّا لا يعقل له وجه، إذ لو اريد به أخذه دليلا إقناعيّا فهو بالقياس إلى الكثير من ماء البئر ممّا لا حاجة إلى أخذه وسطا، بل لا معنى له لكفاية الأصل الاجتهادي و عمومات الكرّ في ذلك، بل لا موضوع له مع وجودهما، و بالقياس إلى ما دون الكرّ منه ممّا لا ينفع في مقابلة عموم انفعال القليل، بل لا يعقل معه أيضا، و منع العموم في كلا المقامين فيه ما لا يخفى، بل هو ممّا لا يرضى به المستدلّ كما يظهر بالتتبّع في كلماته.

و إن اريد أخذه دليلا إلزاميّا فهو لا يجدي نفعا في إلزام الخصم ما دام باقيا على مستنده و لا حاجة إليه بعد إلزامه بمنع مستنده، و إنهاضه طريقا إلى حكم المسألة بعد البناء على تساقط مستنده بمعارضة مستند أهل القول بالطهارة، يدفعه: ما ذكرناه أوّلا.

و ثانيها: العمومات الدالّة على أنّ مطلق الماء طهور،

و تخصيصها بالماء القليل حال ملاقاة النجاسة لا يخرجه عن كونها حجّة، تمسّك به العلاّمة في المنتهى(2)، و كأنّ المراد به إثبات المطلب في الجملة و لو في ضمن الكرّ، قبالا للإيجاب الكلّي الّذي يدّعيه الخصم، و إلاّ فالعمومات لا تنهض دليلا على عموم المطلب بعد خروج الماء القليل عنها، لأنّ المقام منه إذا كان قليلا.

و ثالثها: ما تمسّك به في المنتهى أيضا من أنّها: «لو نجست لما طهرت، و التالي باطل اتّفاقا،

و لأنّه حرج فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية: أنّه لا طريق إليه إلاّ النزح، و إلاّ لزم إحداث الثالث، و ليس بصالح لذلك.

أمّا أوّلا: فلأنّه لم يعهد في الشرع تطهير شيء بإعدام بعضه.

و أمّا ثانيا: فلأنّه غالبا يسقط من الدلو الأخير إلى البئر، فيلزم تنجيسها، و لا ينفكّ المكلّف من النزح و ذلك ضرر عظيم.

ص: 508


1- مختلف الشيعة 188:1.
2- منتهى المطلب 61:1.

و أمّا ثالثا: فلأنّ الأخبار اضطربت في تقدير النزح، فتارة دلّت على التنصيص في التقديرات المختلفة، و تارة دلّت على الإطلاق، و ذلك ممّا لا يمكن أن يجعله الشارع طريقا إلى التطهير»(1).

و فيه: ما لا يخفى من منع الملازمة، و ضعف الوجوه المقامة عليها.

أمّا الأوّل: فلمنع كون المطهّر هو الإعدام، بل المطهّر في الحقيقة هو الماء المتجدّد من المادّة، و النزح اعتبر طريقا إلى تجدّده، و لو سلّم فأيّ مانع عن كون إعدام البعض مطهّرا إذا دلّ عليه الشرع، فإنّ الأحكام و لا سيّما أحكام البئر كلّها تعبّديّة متلقّاة من الشارع، فلا ينبغي قياسها بالعقول القاصرة.

و أمّا الثاني: فلمنع كون سقوط القطرة من الدلو إلى البئر قادحا في طهرها بالنزح المقدّر له شرعا، لجواز كون تلك القطر مسلوب الأثر في نظر الشارع، صونا للمكلّف عن الحرج.

و منه ينقدح ضعف ما قد يقرّر هذا الدليل بأنّها لو نجست لما طهرت، للزوم تنجّسها بعود الدلو و الرشا إليها، و الساقط من الدلو خصوصا الأخير، و اللازم باطل و ليس القول بالطهارة بعد النزح بأولى عن القول بعدم النجاسة بالملاقاة.

و فيه: أيضا ضعف واضح فإنّ الأولويّة بعد ما قضى الشرع بهما ممّا لا يمكن رفع اليد عنها.

و أمّا الثالث: فلأنّ اختلاف الأخبار بالإطلاق و التقييد، أو الإجمال و البيان ممّا لا يعدّ من الاضطراب المخلّ، و إلاّ فكم من هذا القبيل، و ظاهر أنّ كيفيّات الخطاب تختلف بحسب اختلاف المقامات و أحوال المخاطبين، و مقتضيات الإطلاق و التقييد، أو الإجمال و البيان، فإنّ الخطاب ربّما يرد مطلقا و يحال تقييده إلى المقيّدات الخارجيّة، و قد يرد مجملا إذا لم يكن في موضع الحاجة فيؤخّر بيانه إلى وقتها، و قد يرد مقيّدا أو مبيّنا حيث كان وقت الحاجة حاضرا.

و رابعها: أنّها لو نجست لزم الحرج الشديد،

خصوصا في البلاد الّتي ينحصر ماؤهم

ص: 509


1- منتهى المطلب 62:1-61.

في البئر، و عن كاشف الغطاء ما يرجع محصّله: إلى «أنّ من لاحظ ذلك لم يحتج إلى النظر في الأخبار، عامّها و خاصّها»(1) و لعلّ المقصود بيان لزوم هذا المحذور على تقدير النجاسة، مع سائر لوازمها الّتي منها وجوب النزح بأعدادها المقدّرة، و على هذا فالإلزام عليه في محلّه، و المحذور وارد، و إلاّ فإن كان المراد بيان لزومه لمجرّد النجاسة الداعية إلى التجنّب، فلزومه بعد جعل النزح طريقا إلى تطهيره في محلّ المنع، كما لا يخفى.

و خامسها: ما اعتمد عليه بعضهم من أنّه يلزم على التنجيس الحكم بنجاسة الكرّ المصاحب للنجاسة إذا القي في البئر مع نجاسة البئر،

و الأدلّة تبطله، و الحكم بنجاسة البئر دون الكرّ مع فرض عدم تميّز أحدهما عن الآخر، غير معقول.

و فيه: ما لا يخفى من توجّه المنع إلى بطلان التالي، فإنّ الأدلّة المبطلة له إن اريد بها الأدلّة القاضية بكون الكرّيّة عاصمة عن الانفعال، فجريانها في الفرض المذكور ليس بأقوى من جريانها في الكرّ بل الكرور الّتي هي في نفس البئر، على أنّ بناء القول بالنجاسة على تخصيص تلك الأدلّة، فلا يفترق الحال في ذلك بين كون الكرّ الحاصل فيه أصليّا أو عارضيّا بوقوعه عليها من الخارج، و ظهور الإضافة في «ماء البئر» في الماء النابع فيها لا يقدح في ذلك، بعد البناء على كون دليله عامّا، كما يرشد إلى الاعتراف به دعوى الملازمة.

و إن اريد بها ما عدا تلك الأدلّة فنطالبه ببيانه حتّى ننظر في حاله، كيف و لا دليل هنا سوى الاستبعاد الغير الصالح للتعويل عليه في استنباط الحكم الشرعي.

و بذلك يظهر ضعف ما استدلّ به أيضا: من أنّه يبعد كثيرا الحكم بنجاستها مع نبعها و اتّصالها بالمياه الكثيرة، بل بالبحر لو فرض، مع اشتمال الخارج على الكرور أيضا، و لو اخرج من مائها خارجها مقدار الكرّ لم ينجّس بالملاقاة، فإنّ الحكم عند القائل به من لوازم الخصوصيّة البئريّة، و لا يقدح فيها النبع و الاتّصال بالكثير، و يمكن منع الملازمة في تلك الصورة بالقياس إلى مسألة الاتصال بالكثير، لجواز كونه قائلا بالتقوّي في تلك الصورة، لكنّه يطالب بدليل التقوّي، فإنّه لا بدّ و أن يكون عامّا بحيث يشمل المفروض.

ص: 510


1- كشف الغطاء: 192.
و سادسها: ما أشار إليه في المنتهى من: «أنّه بجريانه من منابعه أشبه الماء الجاري، فيتساويان حكما»

و سادسها: ما أشار إليه في المنتهى من: «أنّه بجريانه من منابعه أشبه الماء الجاري، فيتساويان حكما»(1)

و هو أوضح فسادا من جميع ما مرّ، مع أنّ قضيّة ذلك مع ملاحظة قوله باشتراط الكرّيّة في الجاري كونه قائلا هنا بالفرق، و لعلّه من هنا قد يستظهر منه في الكتاب المشار إليها المصير إلى هذا القول، و كيف كان فالملازمة ممنوعة، إذ لا مستند لها سوى القياس و هو ليس من مذهبه.

و سابعها: الأخبار الخاصّة و هي العمدة في المقام.

منها: الصحيح المرويّ في الكافي، و التهذيب، و الاستبصار، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه السّلام قال: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء، إلاّ أن يتغيّر ريحه، أو طعمه، فينزح حتّى يذهب الريح، و يطيب طعمه، لأنّ له مادّة»(2) قال الشيخ في التهذيبين: «المعنى في هذا الخبر أنّه لا يفسده شيء إفسادا لا يجوز الانتفاع بشيء منه إلاّ بعد نزح جميعه، إلاّ ما غيّره، فأمّا ما لم يتغيّر فإنّه ينزح منه مقدار و ينتفع بالباقي»(3)و غرضه بهذا الكلام جعل الرواية بحيث لم تكن منافية لوجوب النزح بدون التغيّر الّذي يقول به تعبّدا، و إن كان لا يقول بنجاسة الماء.

و يرد عليه: منع كون الإفساد مع التغيّر إفسادا لا يجوز معه الانتفاع بشيء منه إلاّ بعد نزح جميعه.

أمّا أوّلا: فلأنّ المنع عن الانتفاع مع التغيّر يدور مع التغيّر وجودا و عدما، و إعدام التغيّر لا يستدعي نزح الجميع.

و أمّا ثانيا: فلمنع انحصار الانتفاع في مشروط بالطهارة، لحصوله بسقي الدوابّ و البساتين و نحوها، و مع ذلك فالمنع المتوقّف رفعه على زوال التغيّر المتوقّف على النزح - على تقدير التغيّر - ثابت مع عدم التغيّر أيضا، على ما يراه من وجوب النزح الّذي لا يتحقّق في كثير من صوره إلاّ في ضمن نزح الجميع، فما معنى الاستثناء الوارد في الرواية؟ و التأويل المذكور بعد الجمع بينه و بين قضيّة وجوب النزح موجب لاتّحاد

ص: 511


1- منتهى المطلب 62:1.
2- الوسائل 172:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 6 - الاستبصار 87/33:1 - التهذيب 1: 1287/409 - الكافي 1:3.
3- التهذيب 409:1 ذيل الحديث 1287.

المستثنى مع المستثنى منه في الحكم فلغى الاستثناء، و هو كما ترى.

فالإنصاف: أنّها كما تدلّ على عدم النجاسة مع عدم التغيّر دلالة واضحة، فكذلك تدلّ على عدم وجوب النزح أيضا، حيث أنّه خصّه بصورة التغيّر، كما تنبّه عليه صاحب المدارك في حاشية الاستبصار عند اعتراضه على الشيخ في التأويل المذكور حيث قال: «و ما ذكره الشيخ من معنى الخبر بعيد جدّا، و مع ذلك فيتوجّه عليه: أنّ عدم جواز الانتفاع بشيء من ماء البئر يتحقّق مع التغيّر في كثير من النجاسات عند القائلين بالتنجيس، كما أنّه قد يجوز الانتفاع بالباقي إذا زال التغيّر بنزح البعض، فإطلاق القول بعدم جواز الانتفاع بشيء منه مع التغيّر و جوازه مطلقا بدونه غير مستقيم، و هذه الرواية كما تدلّ على عدم انفعال البئر بالملاقاة كذا تدلّ على عدم وجوب النزح بدون التغيّر، لأنّه عليه السّلام اكتفى في تطهيره مع التغيّر بنزح ما يذهب الريح و يطيب الطعم، و لو وجب نزح المقادير المعيّنة لم يكن ذلك كافيا، إذ لا يحصل به استيفاء المقدّر، و يشهد لذلك الاختلاف الكثير الواقع في قدر النزح كما ستطلع عليه، فإنّه قرينة الاستحباب»(1) انتهى.

و الوجه في دلالة الخبر على عدم الانفعال مع عدم التغيّر، أنّ المراد بالإفساد الّذي حصره عليه السّلام في صورة التغيّر إنّما هو التنجيس، بقرينة الوصف بالسعة و استثناء صورة التغيّر، فإنّه موجب للتنجيس فيكون المنتفي عن المستثنى منه مع عدم التغيّر هو التنجيس أيضا، كما ذكره في أوّل الحاشية المذكورة.

و أمّا «السعة» فيمكن أن يراد بها السعة الحسّية، و هي الّتي تفرض بحسب المساحة طولا و عرضا و عمقا، فيكون في الخبر حينئذ إشعار باعتبار الكرّيّة - كما هو أحد أقوال المسألة - كما يمكن أن يراد بها السعة المعنويّة، و هي القوّة العاصمة له عن الانفعال بدون التغيّر - أي القوّة الغير القابلة للانفعال بدونه - و هو الأظهر بقرينة وصفها بعدم الإفساد، فإنّ هذا الوصف إمّا تفسير للسعة فلا يصلح إلاّ إذا اريد بها السعة المعنويّة، لأنّه وصف معنوي و من الواجب اتّحاد المفسّر و المفسّر، أو تقييد لها فلا يصلح وصفا للكرّيّة، لأنّ الكرّ مع عدم التغيّر لا ينقسم إلى ما يقبل منه الفساد و ما لا يقبله، بل الّذي ينقسم إليها الماء لا بشرط الكرّيّة و لا بشرط عدمها، فلا بدّ و أن يعتبر

ص: 512


1- لم نعثر عليه.

الموصوف أمرا معنويّا و الوصف تفسيريّا و لا محذور، فتمّت بذلك دلالة الخبر على تمام مدّعى القائلين بعدم الانفعال.

و أمّا الاعتراض عليه تارة: بما عن المعتبر(1) من أنّه مكاتبة يضعف دلالته، و من أنّ الفساد يحمل على فساد يوجب التعطيل، و من أنّه معارض برواية محمّد بن إسماعيل الآتية.

و اخرى: بأنّ دلالته بالعموم، و يخرج عنه بالأدلّة الخاصّة كما يخرج عن العمومات و عن الأصل بها، و بأنّه متروك الظاهر لثبوت التنجيس باللون أيضا.

فيدفعه: منع كون هذا الخبر مكاتبة، بل المكاتبة هو الخبر الآتي الّذي تمسّك به أهل القول بالنجاسة، و لذا قال في هذا الخبر: «قال» من دون إشعار فيه بالكتابة سؤالا و جوابا، نعم المكاتبة بهذا المضمون رواها في التهذيب بطريق آخر عن المفيد، عن ابن قولويه، عن أبيه، عن سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السّلام فقال: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء» الحديث(2). و أنّ التقييد بما ذكر تأويل لا يصار إليه بلا ضرورة دعت إليه.

و المعارضة تندفع بما يأتي من الوجوه الدافعة لاحتجاج القول بالنجاسة.

و منع قيام أدلّة خاصّة تصلح رافعة للدلالة العامّة إن اريد بها العموم بالقياس إلى ملاقاة نجس لا يغيّره و ملاقاة غير النجس، مع منع العموم من تلك الجهة لظهور «شيء» بقرينة استثناء صورة التغيّر فيما يكون نجسا.

و إن اريد بها العموم بالقياس إلى الكرّيّة و عدمها، فيدفعه: أنّ الأدلّة الخاصّة إن اريد بها الأخبار الواردة في البئر الدالّة على التنجيس، ففيه: بعد تسليم دلالتها عليه، منع كونها أخصّ من هذا الخبر، بل النسبة بينها و بينه هو التباين، و معه يجب الرجوع إلى المرجّحات، و الترجيح في جانبه كما يأتي بيانه.

و إن اريد بها أدلّة انفعال القليل، ليكون مفاد الاعتراض لزوم اعتبار الكرّيّة في البئر أيضا.

ففيه: أنّ أدلّة الانفعال منها ما لا يتناول البئر، لاختصاصها بموارد مخصوصة ليس البئر منها، و منها ما يتناول بعمومه البئر كمفهوم «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء»

ص: 513


1- المعتبر: 13.
2- التهذيب 234/676:1.

ففيه: منع أخصّيّة المفهوم، بل النسبة بينه و بين الخبر عموم من وجه، لأنّ الخبر أعمّ من الكرّ و عدمه، و المفهوم أعمّ من ماء البئر و غيره، فيجب التخصيص في أحدهما، و هو في المفهوم أولى منه في الخبر، لكون دلالته منطوقيّة و المنطوق أقوى من المفهوم، و لا سيّما المنطوق المؤدّى بعبارة الحصر الّذي هو من أظهر الظواهر، و لا ريب أنّ الأظهر لا يترك بالظاهر.

و أنّ (1) ترك ظهور الكلام في بعض فقراته كالمستثنى مثلا لدليل لا يقضي بضعف ظهوره بالقياس إلى الفقرة الاخرى و هي المستثنى منه هنا.

و حاصله: أنّ التقييد في المستثنى بزيادة شيء عليه لا يقضي بتقييد المستثنى منه لغير جهة تلك الزيادة، و لا رفع اليد عن ظهوره بغير جهة التقييد كما لا يخفى.

و منها: الصحيح المرويّ في التهذيب عن عليّ بن جعفر عن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: سألته عن بئر ماء وقع فيها زنبيل(2) من عذرة رطبة، أو يابسة، أو زنبيل من سرقين، أ يصلح الوضوء منها؟ قال: «لا بأس»(3).

و عن الشهيد في غاية المراد: «أنّ المراد من العذرة و السرقين النجس، لأنّ الفقيه لا يسأل عن ملاقاة الطاهر»(4).

و قريب منه ما في المدارك قائلا - في دفع الاعتراض على الخبر بأنّ العذرة و السرقين أعمّ من النجس فلا يدلّ عليه، لعدم دلالة العامّ على الخاصّ -: «بأنّ العذرة لغة و عرفا فضلة الإنسان، و السرقين و إن كان أعمّ منه إلاّ أنّ المراد منه هنا النجس، لأنّ الفقيه لا يسأل عن الطاهر»(5) أقول: هذا الكلام بالقياس إلى السرقين لعلّه غير وجيه، لظهور «السرقين» عرفا و لغة في روث الدوابّ، و لا جهة فيه للعموم، و لا ينافي السؤال عنه لفقاهة السائل لجواز ابتنائه على توهّم النجاسة في روث الدوابّ.

و لقد أجاد المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك قائلا بما يرجع محصّله إلى دعوى: «كون المتعارف في السرقين مثل الحمار و البغل و الخيل و الأنعام، و سيجيء في

ص: 514


1- هذا جواب عن الاعتراض على الرواية بقوله: و «بأنّه متروك الظاهر» الخ.
2- الزبيل و الزنبيل: جراب، و قيل: وعاء يحمل فيه. لسان العرب 300:11.
3- الوسائل 172:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 8 التهذيب 246:1 قطعة من الحديث 709.
4- غاية المراد 69:1.
5- مدارك الأحكام 58:1.

بحث النجاسات ما يدفع هذا الاستبعاد، حيث قال: جمع بنجاسة بول الدوابّ و احتمل السائل نجاسة سرقينهم أيضا، فسأل عن صلاحية الوضوء، و كونه فقيها بحيث لم يكن له إشكال أصلا في صلاحية الوضوء غير ثابت، مع أنّه إنّما حصل لهم و لنا الفقه من سؤالهم عن المعصوم عليه السّلام.

فالأولى أن يقال: إنّ الدلالة من جهة العذرة و هي كافية، أو يقال: ترك الاستفصال يفيد العموم، لكن هذا فرع عدم كونه أظهر في «ما ذكر»(1) انتهى.

و بالجملة: الاستدلال بالخبر غير مبنيّ على ثبوت نجاسة السرقين عندنا، لما في نجاسة العذرة كفاية في ذلك، و بذلك يندفع الاعتراض المشار إليه.

و ربّما اعترض عليه: بأنّ وصول الزنبيل إلى الماء - كما هو المذكور في السؤال - لا يستلزم وصول العذرة و السرقين إليه.

و يدفعه: أنّ الاستلزام يثبت بحكم العادة، كما صرّح به جماعة.

و اعترض عليه أيضا: بإمكان أن يراد نفي البأس بعد نزح المقدّر، و حكي ذلك عن الشيخ أيضا قائلا: «بأنّ المراد لا بأس بعد نزح ثلاثين دلوا»(2) و عنه(3) احتمال آخر و هو: أن يراد بالبئر المصنع دون المعيّن، لأنّ هنا رواية اخرى «إذا كان فيها كثرة» و الكثرة قرينة المصنع.

و أنت خبير بأنّ كلّ ذلك بعيد عن الصواب، و خروج عن قانون الاجتهاد، حيث لا داعي إلى ارتكاب هذه الامور، و ظهر أنّ هذا الخبر أيضا تامّ الدلالة على تمام المطلب.

و منها: صحيحة معاوية بن عمّار المرويّة في التهذيبين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سمعته يقول: «لا يغسل الثوب، و لا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلاّ أن ينتن، فإن أنتن غسل الثوب، و أعاد الصلاة، و نزحت البئر»(4) و عن المحقّق في المعتبر المناقشة في سند هذا الخبر: «بأنّ حمّادا في طريقه مشترك بين الثقة و الضعيف»، و في دلالته:

«بأنّ لفظ «البئر» يقع على النابعة و الغدير، فيجوز أن يكون السؤال عن بئر ماؤها

ص: 515


1- حاشية مدارك الأحكام للمحقّق البهبهانى 111:1.
2- الاستبصار 42:1 ذيل الحديث 118؛ و فيه: «خمسين دلوا» بدل «ثلاثين دلوا».
3- نفس المصدر.
4- الوسائل 173:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 10 - التهذيب 670/232:1 الاستبصار 80/30:1.

محقون»(1) و دفعهما في المدارك: «بالقطع بأنّ حمّادا هذا هو ابن عيسى الثقة الصدوق، لرواية الحسين بن سعيد عنه، و روايته عن ابن عمّار و هذا السند متكرّر في كتب الأحاديث مع التصريح بأنّه ابن عيسى على وجه لا يحصل شكّ في أنّه المراد من الإطلاق كما يظهر للمتتبّع، و أنّ البئر حقيقة في النابعة، و لهذا حملت الأحكام كلّها عليها و اللفظ إنّما يحمل على حقيقته لا على مجازه»(2) أقول: و لقد أجاد رحمه اللّه تعالى فيما أفاد.

و منها: الصحيحة الاخرى عن معاوية بن عمّار المرويّة في التهذيبين في طريق فيه سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمّد عن أبي طالب عبد اللّه بن الصلت عن عبد اللّه بن المغيرة عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الفأرة تقع في البئر فيتوضّأ الرجل منها و يصلّي، و هو لا يعلم أ يعيد الصلاة و يغسل ثوبه؟ فقال: لا يعيد الصلاة و لا يغسل ثوبه»(3) و عن المحقّق الشيخ محمّد في شرح الاستبصار القدح في سند الرواية قائلا:

«و في الفهرست الراوي عن ابن الصلت هو أحمد بن أبي عبد اللّه لا ابن عيسى، و في أحمد ابن أبي عبد اللّه نوع كلام»(4) و مراده بأحمد ابن أبي عبد اللّه، أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، و وجه الكلام فيه ما قيل في طعنه من أنّه أكثر الرواية عن الضعفاء و اعتمد المراسيل، و لأجل ذا كان أحمد بن محمّد ابن عيسى أبعده عن قم، ثمّ أعاده إليها و اعتذر إليه.

لكن فيما نقله عن الفهرست نظر، لأنّ أحمد بن محمّد بن عيسى أيضا يروي عن ابن الصلت كما نقل عن كتاب المشتركات(5) فهما معا يرويان عن ابن الصلت، كما أنّ سعد بن عبد اللّه يروي عنهما معا، غير أنّ ذلك لا يجدي في تعيين كون أحمد هنا هو ابن عيسى، لما عرفت من اشتراكهما في الوصف، و لعلّه غير قادح في صحّة الرواية و إن لم يتعيّن هذا الراوي، لأنّهما معا ثقتان، و لذا قيل في ترجمة ابن أبي عبد اللّه: «أنّه كان ثقة في نفسه»(6) و عن ابن الغضائري: «طعن عليه القمّيون و ليس الطعن فيه إنّما الطعن فيمن يروي عنه، فإنّه كان لا يبالي عمّن أخذ على طريقة أهل الأخبار»(7) و حينئذ فهذا السند صحيح جدّا، لكون ابن الصلت الّذي يروي عنه في هذا السند من الثقات، فلا

ص: 516


1- المعتبر: 13.
2- مدارك الأحكام 59:1-58.
3- الوسائل 173:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 9 - التهذيب 671/233:1 - الاستبصار 37:1.
4- استقصاء الاعتبار 244:1.
5- هداية المحدّثين: 103.
6- رجال النجاشي: 76.
7- حكى عنه في منتهى المقال 320:1.

وجه للقدح في الرواية من حيث السند كما لا وجه للقدح فيها من حيث الدلالة، باحتمال وقوع الفأرة بعد الوضوء مع أنّه لا دلالة فيها على موتها فيها، فإنّ الاحتمال المذكور يأباه لفظة «الفاء» في قوله: «فيتوضّأ الرجل منها» عقيب قوله: «في الفأرة تقع في البئر» و بذلك يندفع احتمال عدم موتها فيها، فإنّ مقتضى ظهور ترتيب «الفاء» تبيّن وقوعها قبل الوضوء و الصلاة، و لا ريب أنّ العادة تأبى عن بقائها حيّة في الماء في هذا المقدار من الزمان.

و في معنى هذا الخبر موثّقة أبان بن عثمان(1)، و رواية(2) جعفر بن بشير عن أبي عيينة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - ففي الاولى - قال: سئل عن الفأرة تقع في البئر، لا يعلم بها إلاّ بعد ما يتوضّأ منها، أ يعاد الصلاة؟ فقال: «لا»(3).

و في الثانية قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في البئر، فلا يعلم بها أحد إلاّ بعد ما يتوضّأ منها، أ يعيد وضوءه و صلاته، و يغسل ما أصابه؟ فقال: «لا»(4).

و منها: موثّقة زيد بن محمّد بن يونس أبي اسامة الشحّام، لأبان بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا وقع في البئر الطير و الدجاجة و الفأرة فانزح منها سبع دلاء»، قلنا:

فما تقول: في صلاتنا: و وضوئنا: و ما أصاب ثيابنا؟ فقال: «لا بأس به»(5)، و المناقشة فيها باحتمال عدم تحقّق الموت ليست على ما ينبغي، لكونها دفعا للظاهر.

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم المرويّة في التهذيب عن أحدهما عليهما السّلام في البئر يقع فيها الميتة، قال: «إذا كان له ريح نزح منها عشرون دلوا»، و قال: «إذا دخل الجنب البئر نزح منها سبع دلاء»(6)، و دلالتها بالمفهوم بناء على ما قيل من أنّ النزح لزوال الريح غالبا بالعشرين، فيدلّ على نفي النزح على تقدير عدم الريح، و لكنّه إنّما يستقيم على تقدير تذكير الضمير لعوده إلى «الماء» حينئذ - كما في النسخة الحاضرة عندنا - و أمّا

ص: 517


1- فإنّه من الناووسيّة و باقي السند صحاح (منه).
2- و انّما عبّرنا عنها بالرواية لجهالة ابن عيينة، و إن ذكر فيه شيء ربّما يمكن التعويل عليه (منه).
3- الوسائل 172:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 11 - التهذيب 672/233:1 - الاستبصار 82/31:1.
4- الوسائل 174:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 13 - التهذيب 673/233:1 - الاستبصار 83/31:1.
5- الوسائل 173:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 12 - التهذيب 674/233:1 - الاستبصار 84/31:1.
6- الوسائل 195:1 ب 22 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 703/244:1.

على تقدير تأنيث الضمير - كما في نسخ اخرى نقلها غير واحد من أصحابنا - فيحتمل عوده إلى البئر، أو إلى الميتة، فلا دلالة فيها إذن على أنّ النزح إنّما هو لأجل التغيّر الّذي يزول غالبا بالعشرين.

و لكنّه لا يقدح في دلالته على أنّه ليس لأجل النجاسة، بقرينة اعتبار نزح سبع دلاء لدخول الجنب، لأنّ الجنب بوصف دخوله في البئر لا يستلزم بدنه مباشرة النجاسة و الاشتمال عليها كما لا يخفى، فالرواية بعمومها الشامل لصورة عدم اشتماله عليها تدلّ على النزح، و هو لا يجامع نجاسة الماء.

و بذلك يتوهّن ما أورد عليها: من أنّها لا تدلّ على أنّه إذا لم يكن لها ريح لم ينزح شيء، فإنّ دلالتها على النزح - على تسليم وجوبه - أعمّ من النجاسة فضلا عن توجّه المنع إلى وجوبه.

و منها: موثّقة يعقوب بن عثيم بأبان بن عثمان، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام سام أبرص وجدناه قد تفسّخ في البئر؟ قال: إنّما عليك أن تنزح منها سبع أدل(1)، قلت:

فثيابنا الّتي قد صلّينا فيها نغسلها و نعيد الصلاة؟ قال: «لا»(2).

و روي في التهذيب عقيب ذلك مرسلا عن جابر بن يزيد الجعفي، أنّه سأل أبا جعفر عليه السّلام عن السام أبرص في البئر(3) فقال: «ليس بشيء حرّك الماء بالدلو»(4).

و لو قيل: بمنع نهوض ذلك دليلا على عدم النجاسة، لتوجّه المنع إلى كون «سام أبرص»(5) من ذوات الأنفس، لعارضناه: - بعد التسليم - بمنع نهوض النزح الوارد في الأخبار دليلا على النجاسة لوروده بعينه في «سام أبرص» كما في الموثّقة.

و منها: موثّقة عبد الكريم بن عمرو الواقفي الثقة، عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام بئر يستقى منها، و توضّؤ به، و غسل منه الثياب، و عجن به، ثمّ علم أنّه كان

ص: 518


1- كذا في الأصل.
2- الوسائل 176:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 19 - التهذيب 707/245:1 - الاستبصار 114/41:1.
3- كذا في الأصل، و في التهذيب الموجود عندنا «الماء» بدل «البئر».
4- التهذيب 708/245:1.
5- و في هامش الأصل: «سام أبرص»: من كبار الوزغ، و هو معرفة إلاّ أنّه تعريف جنس، و هما اسمان جعلا واحدا.

فيها ميّت؟ قال: «لا بأس، و لا يغسل الثوب، و لا تعاد منه الصلاة»(1) و منها: صحيحة زرارة الواردة في زيادات التهذيب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير، يستقى به الماء من البئر، أ يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال: «لا بأس»(2).

و لكن دلالته على المطلب مبنيّة على كون المراد «بالماء» المسئول عن التوضّي به هو ما في البئر، بناء على أنّه لا ينفكّ عن ملاقاته الحبل عادة، و لا عن ملاقاة ما في الدلو له ثمّ سقوط القطرات منه إليها، و لعلّه الأظهر.

و هاهنا روايات اخر ضعيفة الأسانيد بإرسال و نحوه دالّة على المطلب، كرواية زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء؟ قال: «لا بأس»(3)-(4). و ظاهر السياق و إن كان يقتضي كونه واردا لبيان حكم أصل الاستعمال تكليفا، لكونه استعمالا لنجس العين و انتفاعا به، إلاّ أنّ قضيّة منصب الإمامة و رجحان الدعاء إلى الخير أو وجوبه، أن تنبّه عليه السّلام على الانفعال لو كان ملاقاة النجاسة موجبة لانفعاله، لئلاّ يستعمل من مائه بلا تطهير.

و مرسلة عليّ بن حديد، عن بعض أصحابنا، قال: «كنت مع أبي عبد اللّه عليه السّلام في طريق مكّة فصرنا إلى بئر، فاستقى غلام أبي عبد اللّه عليه السّلام دلوا فخرج فيه فأرتان، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أرقه، فاستقى آخر، فخرج فيه فأرة، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أرقه، قال فاستقى الثالث فلم يخرج فيه شيء، فقال: صبّه في الإناء، فصبّه في الإناء»(5).

و أورد عليه الشيخ في التهذيب: بأنّ عليّ بن حديد رواه عن بعض أصحابنا و لم يسنده، و هذا ممّا يضعف الحديث، و يحتمل مع تسليمه أن يكون أراد بالبئر المصنع الّذي فيه من الماء ما يزيد مقداره على الكرّ، فلا يجب نزح شيء منه، ثمّ لم يقل أنّه توضّأ منه بل قال: «صبّه في الإناء» و ليس في قوله: «صبّه في الإناء» دلالة على جواز استعماله في الوضوء، و يجوز أن يكون إنّما أمره بالصبّ في الإناء للشرب، و هذا يجوز

ص: 519


1- الوسائل 171:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 677/234:1.
2- التهذيب 1289/409:1 - الوسائل 170:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 2.
3- الوسائل 175:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 16 - التهذيب 1301/413:1.
4- وجه الضعف في ذلك اشتمال السند على أبي زياد النهدي، و هو مجهول (منه).
5- الوسائل 174:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 14 - التهذيب 693/239:1.

عندنا عند الضرورة»(1).

و لا يخفى ما في الوجهين الأخيرين من التكلّف، و إنّما دعاه إليه مصيره إلى وجوب النزح، مع ما في وجهه الأخيرين من إمكان المنع، لما عن المحقّق في المعتبر من أنّه ذكره و زاده في آخره: «فصبّه فتوضّأ منه، و شرب»(2).

و ما أرسله الصدوق: «أنّه كان في المدينة بئر وسط مزبلة، و كانت الريح تهبّ و تلقي فيها العذرة، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يتوضّأ منها»(3).

و رواية محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه السّلام: في البئر يكون بينها و بين الكنيف خمس أذرع، أو أقلّ، أو أكثر، يتوضّأ منها؟ قال: «ليس يكره من قرب و لا بعد، يتوضّأ منها و يغتسل ما لم يتغيّر الماء»(4).

و من الروايات المعتبرة في هذا الباب موثّقة عمّار، قال سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن البئر تقع فيها زنبيل عذرة يابسة أو رطبة، قال: «لا بأس، إذا كان فيها ماء كثير»(5).

قيل في وجه دلالتها: أنّ الكثرة العرفيّة غير معتبرة في الماء إجماعا إلاّ للتحفّظ عن التغيّر، و لم يثبت الحقيقة الشرعيّة في لفظ «كثير» ليكون الرواية دليلا على اعتبار الكرّيّة في البئر.

و بالجملة: هذه جملة روايات أكثرها معتبرة الأسانيد، واضحة الدلالات، عثرنا عليها في الباب تدلّ بإطلاقها على عدم انفعال ماء البئر بمجرّد الملاقاة، كرّا كان أو دونه، فهي بالقياس إلى الكرّ على طبق الأصل الثابت فيه، و بالقياس إلى ما دونه تنهض حاكمة على أدلّة انفعال القليل، إمّا لأنّه لا تعارض بينهما لعدم تناول أكثر تلك الأدلّة لماء البئر، أو لكون التأويل فيها أولى، إن كان النظر فيها إلى ما يعارض بعمومه أخبار الباب معارضة العامّين من وجه.

فظهر إذن أنّ الأقوى في المسألة ما صار إليه معظم المتأخّرين، من عدم الانفعال مطلقا.

و ممّا يمكن أن يؤخذ دليلا على هذا المطلب - مضافا إلى ما سيأتي الإشارة إليه -

ص: 520


1- التهذيب 240:1 ذيل الحديث 693.
2- المعتبر: 11.
3- الوسائل 174:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 20 - الفقيه 33/15:1.
4- الوسائل 171:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 4 - الكافي 4/8:3.
5- الوسائل 174:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 15 - التهذيب 1312/416:1.

أنّ النوع الواحد من النجاسة لا يعقل أن يختلف أفراده في اقتضاء بعضها من المطهّر ما يزيد على ما اقتضاه الآخر بمراتب شتّى، و لو فرضناها متساوية في الوصف و المقدار، و لازم قولهم بالانفعال هو الاختلاف، نظرا إلى ما سيأتي في ذيل مسائل النزح من أنّ «الدلو» الوارد في الروايات محمولة عندهم على ما جرت العادة باستعماله في شخص البئر، و لا ريب أنّه يختلف في الصغر و الكبر، و قد اعتبر في النزح عن بول الرجل مثلا أربعون دلوا بما هو متعارف على البئر الّتي وقع فيها البول، و المطهّر إمّا الماء المتجدّد، أو نفس النزح، و على التقديرين يلزم الاختلاف لو فرضنا آبارا متعدّدة وقع في كلّ منها من أفراد بول الرجل ما هو بوصف واحد، و مقدار واحد.

أمّا على الأوّل: فلأنّه قد يبلغ مجموع أربعين دلوا إلى الكرّ و ما فوقه، و قد يبلغ إلى نصف الكرّ، و قد يبلغ إلى ثلثه، و قد يبلغ إلى ربعه و هكذا، و منشأ ذلك الاختلاف إنّما هو اختلاف دلاء هذه الآبار في الكبر و الصغر، فرجع حكم النزح حينئذ إلى أن يقول الشارع: ماء هذه البئر لا يطهّر إلاّ بكرّ من الماء، و ماء هذه الاخرى يطهّر بنصف الكرّ، و لا يطهّر بما دونه، و ماء هذه الثالثة يطهّر ثلثه و لا يطهّر بما دونه مع أنّ النجاسة الواقعة في الكلّ هو البول على مقدار واحد في وصف واحد، و مثل هذا الحكم حزازة لا ينبغي نسبتها إلى جاهل، فضلا عن الحكيم العادل.

و أمّا على الثاني: فواضح، أو يتّضح بملاحظة ما ذكرناه على الأوّل.

و أمّا القول بالانفعال مطلقا:
اشارة

فليس عليه إلاّ وجوه واضحة الدفع، غير واضحة الدلالة في أكثرها.

منها: أنّه يقبل النجاسة بالانفعال فيقبلها بالملاقاة،

حكاه العلاّمة في المختلف(1)فأجاب عنه أوّلا: «بأنّه قياس لا نقول به، و ثانيا: بإبداء الفارق بين حالتي الانفعال و عدمه، فإنّ الماء حالة الانفعال مقهور بالنجاسة، فيبقى الحكم و هو الامتناع من استعماله ثابتا و في حالة عدم الانفعال كان الماء قاهرا فيبقى حكم الماء و هو استعماله ثابتا، و مع قيام الفرق بطل القياس، و ثالثا: أنّ المشترك غير صالح للعلّية، لوجوده في

ص: 521


1- مختلف الشيعة: 188-189.

الواقف الكثير، مع تخلّف الحكم عنه»(1).

و منها: ما حكاه في المختلف أيضا من: أنّ التيمّم سائغ عند الملاقاة للنجاسة و ليس بسائغ عند وجود الماء الطاهر،

و منها: ما حكاه في المختلف(2) أيضا من: أنّ التيمّم سائغ عند الملاقاة للنجاسة و ليس بسائغ عند وجود الماء الطاهر،

فالملاقاة للنجاسة توجب التنجيس، أمّا الأوّل:

فلما رواه عبد اللّه بن أبي يعفور - في الصحيح - عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا أتيت البئر و أنت جنب، فلم تجد دلوا و لا شيئا تغرف به فتيمّم بالصعيد الطيّب، فإنّ ربّ الماء ربّ الصعيد و لا تقع في البئر، و لا تفسد على القوم ماءهم»(3).

و أمّا الثاني: فللإجماع و لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا (4).

و قد يقرّر الاستدلال من الصحيحة المذكورة: بالأمر بالتيمّم، المتوقّف على تنجيس البئر بالاغتسال فيها، و بالنهي عن الوقوع و الإفساد المترتّب عليه، الّذي يراد به النجاسة، كما سبق بيانه في صحيحة محمّد بن بزيع في جملة أدلّة القول بالطهارة.

و الأولى أن يقال في تقريره: أنّ الملاقاة للنجاسة لو لم تكن سببا لنجاسة البئر لما ساغ التيمّم عند انحصار سبب الاغتسال فيها، و التالي باطل للصحيحة المذكورة و المقدّم مثله.

و الجواب: منع انحصار سبب الاغتسال في مورد الرواية في ملاقاة النجاسة للبئر، كيف و هو موقوف على فرض اشتمال بدن الجنب المفروض فيها على النجاسة، و هو ليس بلازم عقلي و لا غالبي له، فإطلاق النهي عن الوقوع في البئر يشمل صورتي الاشتمال و عدمه، فيكون أعمّ، و العامّ لا يدلّ على الخاصّ، و هو التنجيس.

و لو سلّم أنّ الاشتمال عليها كان متحقّقا في خصوص المورد و قد علم به الإمام عليه السّلام، فنمنع الملازمة بينه و بين تنجيس البئر، كيف و هو مبنيّ على كون الإفساد المنهيّ عنه مرادا به التنجيس، و هو في حيّز المنع.

أمّا أوّلا: فلأنّ الإفساد أعمّ من التنجيس، و العامّ لا يدلّ على الخاصّ، فلعلّ المراد به هنا كون الاغتسال في البئر مستتبعا للاستقذار و تنفّر الطباع عن مائها بعده، أو لإثارة الوحل و انكداره باستلزامه لامتزاج الأجزاء الوحليّة به، أو لصيرورته مستعملا في الحدث الأكبر، و هو ممّا يراه القوم رافعا لطهوريّته.

فلا يقاس ذلك على الإفساد الوارد في صحيحة ابن بزيع المحمول على التنجيس،

ص: 522


1- مختلف الشيعة: 188-189.
2- مختلف الشيعة: 188-189.
3- الوسائل 344:3 ب 4 من أبواب التيمّم ح 2 - التهذيب 535/185:1.
4- النساء: 43.

لأنّ ذلك الحمل ثمّة إنّما هو بقرينة ما تقدّم من وصف الواسعيّة، و استثناء التغيّر الموجب للتنجيس لا محالة، المقتضي لكون الحكم المنفيّ في المستثنى منه هو التنجيس أو ما يعمّه، لئلاّ يلزم عدم ارتباط الاستثناء بسابقه، للزومه كون المنفيّ في المستثنى منه شيئا و المثبت في المستثنى شيئا آخر.

و أمّا ثانيا: فلأنّه لو كان علّة المنع التنجيس، لكان التعليل باللغويّة و زيادة محذور النجاسة في البدن، و عدم تأتّي الغرض - و هو زوال الحدث - أولى من التعليل بفساد الماء على القوم، الّذي علاجه سهل لزواله بالنزح المتعدّد، إذ المفروض أنّ الماء ينجّس بمجرّد الملاقاة فلا يفيد رفعا للحدث، و مع ذلك يفيد نجاسة البدن كلّه لملاقاته الماء النجس، و احتمال طهره بالانفصال عن الماء و بقاء الماء نجسا مبنيّ على عدم اشتراط ورود الماء على المحلّ النجس في تطهيره مطلقا، حتّى في البدن إذا غسل فيما ينفعل، و لعلّه ممنوع كما يأتي في محلّه.

و أمّا ثالثا: فعلى تسليم كون المراد به التنجيس، فكونه هو التنجيس الواقعي الّذي يراه الشارع تنجيسا في حيّز المنع، لجواز كون المراد به ما هو التنجيس بحسب اعتقاد القوم و مذهبهم الفاسد، نظرا إلى أنّ المراد بهم الفرقة الغير المحقّة القائلين بالتنجيس، حيث قد عرفت كونه مذهبا للجمهور - على ما حكاه العلاّمة(1) و وافقه آخرون - فلعلّ الراوي كان محشورا معهم، و كانت البئر متعلّقة بهم، و هم يزعمون الملاقاة للنجاسة سببا للتنجيس.

و ممّا يومئ إلى إرادة هذا المعنى تعبيره عليه السلام بعدم افساده على القوم مائهم، فلو كان ذلك سببا للتنجيس في متن الواقع لكان الأولى التعبير بما يخصّ الراوي، أو بما يعمّه أيضا، بأن يقول: «لا تفسد الماء على نفسك»، أو «لا تفسده مطلقا»، أو مع «قيد على أنفسكم» و ما يؤدّي مؤدّاه، فتأمّل.

و منها: جملة من الأخبار

كصحيحة محمّد بن إسماعيل المرويّة في التهذيبين، و الكافي، قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن البئر يكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شيء من عذرة كالبعرة و نحوها، ما الّذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه السّلام في كتابي بخطّه:

ص: 523


1- منتهى المطلب 56:1.

«ينزح منها دلاء»(1) و لو كانت طاهرة لما حسن تقريره على السؤال.

و صحيحة عليّ بن يقطين المرويّة في التهذيبين، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن البئر يقع فيها الحمامة، و الدجاجة، و الفأرة، أو الكلب أو الهرّة، فقال: «يجزيك أن تنزح منها دلاء، فإنّ ذلك يطهّرها إن شاء اللّه»(2)، و لو كانت طاهرة لكان تعليل التطهير بالنزح تعليلا لحكم سابق بعلّة لاحقة، و هو محال.

و موثّقة عمّار - الواردة في التهذيب - عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في - حديث طويل - قال:

و سئل عن بئر يقع فيها كلب، أو فأرة، أو خنزير؟ قال: «ينزف كلّها، فإن غلب عليه الماء فلينزف يوما إلى الليل، ثمّ يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين، فينزفون يوما إلى الليل و قد طهرت»(3).

و حسنة زرارة، و محمّد بن مسلم، و أبي بصير بإبراهيم بن هاشم - الموجودة في التهذيبين، و في الكافي اختلاف يسير في بعض ألفاظها - قالوا: قلنا له: بئر نتوضّأ منها يجري البول قريبا منها، أ ينجّسها؟ قالوا: فقال: «إن كانت البئر في أعلى الوادي»(4)و الوادي يجري فيه البول من تحتها، فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع، أو أربعة أذرع لم ينجّس ذلك شيء، و إن كانت البئر في أسفل الوادي و يمرّ الماء عليها، و كان بين البئر و بينه سبعة أذرع لم ينجّسها، و ما كان أقلّ من ذلك لم يتوضّأ منه».

قال زرارة: فقلت له: فإن كان مجرى بلزقها(5) و كان لا يلبث(6) على الأرض فقال:

«ما لم يكن له قرار فليس به بأس، و إن استقرّ منه قليل فإنّه لا يثقب الأرض و لا قعر له حتّى يبلغ إليه، و ليس على البئر منه بأس، فتوضّأ منه، إنّما ذلك إذا استنقع كلّه»(7).

ص: 524


1- الوسائل 176:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 19 - مع اختلاف يسير - الكافي 1/5:3 - التهذيب 705/244:1 - الاستبصار 124/44:1.
2- الوسائل 182:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 686/237:1 - الاستبصار 101/37:1.
3- الوسائل 184:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 699/242:1 - و 832/284:1 - الاستبصار 104/38:1.
4- الوادي: المكان الّذي يجري فيه الماء (منه).
5- لزق به لزوقا، و التزق به، أى لصق به، و ألزقه به غيره، يقال: فلان لزقي و بلزقي، أي بجنبي (الصحاح 1549:4).
6- في هامش الأصل: و في رواية الكافي: «لا يثبت».
7- الوسائل 197:1 ب 24 من أبواب الماء المطلق ح 1 - الكافي 2/7:3 - التهذيب 1293/410:1 - الاستبصار 128/46.

و في نسخة اخرى محكيّة عقيب قوله عليه السّلام: «أو أربعة أذرع» قوله: «لم ينجّس شيء من ذلك، و إن كان أقلّ من ذلك نجّسها، قال: و إن كانت البئر في أسفل الوادي، و يمرّ الماء عليها، و كان بينه و بين البئر تسعة أذرع لم ينجّس، و ما كان أقلّ من ذلك فلا تتوضّأ منه، فقلت له: فإن كان مجرى البول يلصقها...» الحديث(1).

و الجواب عن الأوّل: منع كون السائل معتقدا بالنجاسة حتّى يلاحظ فيه التقرير و عدمه، و إن عبّر في سؤاله بلفظ «التطهير» الموهم لذلك، لجواز كون عدم النجاسة معهودا فيما بينه و بين المسئول، معلوما له منه عليه السّلام، و أنّ النزح إنّما يجب تعبّدا، أو أنّه مستحبّ مع جهله بوظيفة الواجب التعبّدي، أو الاستحباب في مفروض السؤال، فسأل عنه بعبارة: «ما الّذي يطهّرها؟» تورية و تحفّظا عن عثور المخالف على ما هو عليه من المذهب، فأجابه الإمام عليه السّلام على وفق غرضه من السؤال، لعلمه عليه السّلام به بما أفاده التخيير في مراتب الجمع المناسب للاستحباب.

و يقوى هذا الاحتمال بملاحظة أنّ السائل كان يعدّ من وزراء الخليفة، فدواعي التقيّة بالنسبة إليه كانت متحقّقة من جهات عديدة، مع ملاحظة أنّ المسألة فيما بينه و بين المسئول حصلت بطريق المكاتبة، و من الواضح أنّ المراسلة و إن ارسلت في خفية ممّا يظفر عليه الأعداء المستور عنهم كثيرا، خصوصا في حقّ من يكثر عنده تردّد المخالفين، و هو يعاشرهم ليلا و نهارا، و لا معنى لأصالة عدم التقيّة مع قيام هذه الدواعي و قوّة احتماله.

و لو سلّم أنّه كان معتقدا بالنجاسة، و لم يكن في سؤاله مظهرا للتقيّة مريدا به التورية، و لكن الجواب الصادر عن الإمام عليه السّلام إمّا ردع له عمّا اعتقده، أو إمساك عن الردع صريحا مع التنبيه على خطئه في اعتقاده و مخالفته للواقع، و ذلك لأنّ صيغة الجمع في قوله عليه السّلام: «ينزح دلاء» إمّا يراد بها الماهيّة المطلقة الّتي مفادها التخيير بين مصاديقها المترتّبة الّتي منها أقلّ مراتب الجمع، أو مراد بها الإهمال الغير الملحوظ معه شيء من الإطلاق و التقييد، أو مراد بها المرتبة المعيّنة من مراتب الجمع مع عدم إفادته التعيين للسائل أصلا، أو تأخير بيانه إلى زمان آخر، أو إحالته في معرفة التعيين

ص: 525


1- الوسائل 197:1 ب 24 من أبواب الماء المطلق ح 1 - الكافي 2/7:3 - التهذيب 1293/410:1 - الاستبصار 128/46.

إلى ما تقرّر منه في الخارج.

و لا سبيل إلى الأخير بشيء من محتملاته، إذ مبنى الفرض على أنّ السائل بعد اعتقاده بأصل النجاسة، و أنّ زواله يفتقر إلى مطهّر لا محالة، تصدّى للسؤال عن تعيين المطهّر، كما هو ظاهر قوله: «ما الّذي يطهّرها»؟ فهو على تقدير إصابة اعتقاده للواقع كان في مقام الحاجة إلى البيان، و لو كانت حاجته مجرّد العلم بحكم المسألة فلا يناسبه الإجمال، و لا تأخير البيان إلى غير زمن السؤال، و لا إحالته إلى ما هو مقرّر في الخارج، لأنّ ذلك يوجب خروج السؤال منه لغوا، حيث أنّه قبل السؤال كان عالما - على فرض علمه بالنجاسة بحسب الواقع - بأنّ هناك مطهّرا معيّنا في الواقع مقرّرا في الخارج، و لو كان مجرّد ذلك كافيا له في استحصال التعيين لما تعرّض للسؤال.

و احتمال اقتران الجواب بالبيان أيضا، أو بما يرشده إلى البيان الثابت في الخارج و قد اختفى ذلك علينا، يدفعه: الأصل، فتعيّن حينئذ أحد الوجهين الأوّلين.

و لا ريب أنّ الجواب على أوّلهما يفيد ردعا للسائل عن اعتقاده، لأنّ التخيير المطلق لا يلائم العدد المعيّن الّذي يعتبره أهل القول بالنجاسة، فيرجع مفاده إلى أنّ مورد السؤال لم يقرّر له في الشريعة مطهّر معيّن، لا لأنّه يحتاج إلى مطهّر معيّن و لم يبيّن مطهّره، فإنّ ذلك محال على الإمام عليه السّلام لكونه من أنحاء الجهل بالحكم الشرعي، بل لأنّه لا يفتقر إلى مطهّر فكيف يستحصل تعيينه.

غاية الأمر أنّ هناك نزحا ثابتا بعنوان الوجوب، أو الاستحباب، و أنت مخيّر فيه بين الزائد و الناقص، و لا يعقل التخيير بينهما بالقياس إلى المطهّر الّذي هو من قبيل الوضعيّات - لو سلّمنا إمكانه في التكليفيّات - لأنّ الوضعيّات - الّتي تكون من مقولة المقام - أسباب واقعيّة لا تتغيّر باعتبار العلم و الجهل، و القصد و الإرادة، فلا يطرأها الاختلاف بالوجوه و الاعتبارات، فالناقص إن كان صالحا للتطهير فبمجرّد حصوله يترتّب عليه الأثر، و يبقى اعتبار الزيادة في الفرد الزائد لغوا، و قصد اختيار الزائد لا يعطيها التأثير و المدخليّة في الأثر.

بخلاف التكليفيّات فإنّها لقبولها التغيّر و الاختلاف بالوجوه و الاعتبارات، الّتي منها قصد المكلّف و نيّته، و منها اشتمال الناقص بوصف أنّه ناقص على مصلحة مشتركة بينه

ص: 526

و بين الزائد بوصف أنّه زائد، أمكن اعتبار التخيير فيها بينهما بدعوى: كون مناط الفرديّة في كلّ منهما هو القصد و النيّة - كما عليه بعضهم - أو وصفي الزيادة و النقصان من حيث إنّهما متقابلان تقابل الملكة و العدم، و قد لاحظهما الشارع و وجدهما مشتملتين معا على خصوصيّة معتبرة في أفراد المخيّر فيه المتشاركتين في المصلحة الداعية إلى إيجاب التخيير، كما فصّلناه في تحقيقاتنا الاصوليّة.

هذا شيء يتكلّف على تقدير وجوب النزح، و إلاّ فعلى تقدير استحبابه - كما هو الأظهر - فلا حاجة إلى شيء من التكلّف، لأنّ مراتب الاستحباب ممّا يقبل الاختلاف في زيادة الرجحان و نقصانه إلى أن يبلغ مرتبة رجحان الوجوب، و مع بلوغه له يسقط حكم التخيير فيما بين المراتب الباقية المندرجة تحت الرجحان الملزم، و إن أمكن اختلافها في القوّة و الضعف لو فرضنا المزيّة في ذي المزيّة بنفسها كافية في الإيجاب و الإلزام، فإنّ ذلك ممّا يقضي بإيجاب التعيين، و لا يقبل التخيير بينه و بين الفاقد لتلك المزيّة و تمام الكلام في محلّه.

كما أنّه على ثانيهما(1) إمساك عن بيان الواقع مع التنبيه الإجمالي على أنّ السؤال الكاشف عن الاعتقاد ليس على ما ينبغي، و هو كما ترى ممّا لا يستقيم إلاّ إذا لم يكن المقام مقتضيا لبيان الواقع، فلو لا السؤال على خلاف الواقع لم يعقل مانع عن بيان تفصيله، لموافقته ما عليه العامّة الّذين يكون التقيّة في مواردها من جهتهم، و أصالة عدم الخوف و التقيّة - على فرض جريانها في المقام، مع ملاحظة ما ذكر سابقا من وجود دواعيها - يعارضها أصالة عدم اقتران الخطاب بما يفيد بيان التعيين، لأنّ ذلك لا يجدي نفعا إلاّ على تقدير فرض السائل سائلا عن تعيين المطهّر، و كون الجواب متضمّنا لما يحصل به الغرض.

فالأولى حمل الجواب على هذا الوجه الثاني، بدعوى: أنّ الإمام عليه السّلام أهمل في جوابه - لداعي الخوف - عن الردع القائم في خصوص مورد هذا السؤال، مؤخّرا له إلى مقام يقتضيه بتجرّده عن دواعي الخوف، فردعه بما صحّ عنه من الرواية المتقدّمة الّتي هي أوّل روايات الطهارة في وقت آخر، إذ المفروض أنّ هذه الرواية مع ما استدلّ بها

ص: 527


1- أى على ثاني الوجهين الأوّلين الّذي أشار إليهما بقوله: «فتعيّن حينئذ أحد الوجهين الأوّلين» الخ.

على النجاسة صحّتا معا عن ابن بزيع، فليحمل كلام الإمام عليه السّلام في إحداهما على الإهمال الناشئ عن الخوف لوجود دواعيه حين صدوره، و في اخراهما على بيان الواقع المفيد للردع، لعراء مقام صدوره عن تلك الدواعي، و مع الغضّ عن جميع ذلك فنقول: إنّ هاتين الروايتين مع صحّتهما معا، و اتّحاد الطريق فيهما متعارضتان جزما، فلا بدّ إمّا من الجمع بينهما بإرجاع إحداهما إلى الاخرى باعتبار الدلالة، أو جهة الصدور، أو مراجعة الترجيح فيما بينهما، أو إرجاعهما إلى باب التعادل المقتضي للتخيير فيما بينهما، و على كلّ تقدير كان المتعيّن العمل بالرواية القاضية بالطهارة.

أمّا على التقدير الأوّل: فلأنّ بناء العمل على رواية النجاسة بجعلها حاكمة على رواية الطهارة يستلزم فساد الاستثناء الواقع فيها، لابتناء صحّة هذا الاستثناء على اعتبار المستثنى منه ملاقاة النجاسة أعمّ من المغيّرة و غير المغيّرة، فلو أخرجت الملاقاة المغيّرة بالاستثناء و الملاقاة الغير المغيّرة برواية النجاسة لزم كذب المستثنى منه.

و لا يرد نظير ذلك في عموم أدلّة التغيّر المتقدّمة الّتي منها: النبوي «خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء، إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(1). بعد الجمع في تخصيصها بين الاستثناء الوارد فيها و أدلّة انفعال القليل، لأنّ مرجع هذين التخصيصين إلى تخصيص «شيء» بما عدا النجاسة المغيّرة باستثناء المذكور، و تقييد «الماء» بالكرّ بموجب أدلّة انفعال القليل، و لا يلزم من ذلك محذور من حيث كون لفظة «الماء» أعمّ من الكرّ، و لفظة «شيء» أعمّ من النجاسة المغيّرة و النجاسة الغير المغيّرة، و بعد ارتكاب التقييد مع التخصيص المذكورين يبقى تحت اللفظين الكرّ و ما زاد عليه مع النجاسة الغير المغيّرة، فصدق بذلك المستثنى منه جزما، و لا يتأتّى نظير هذا الفرض في المقام، لأنّ مبنى الاستدلال برواية النجاسة على دعوى: نجاسة ماء البئر - و إن كان كرّا - بملاقاة النجاسة و لو لم يكن مغيّرة، فلا يبقى تحت المستثنى منه شيء.

و لو قدّرنا المستثنى عامّا بالقياس إلى ملاقاة النجاسة و عدم ملاقاتها لزم فساد آخر، و هو كون السلب الوارد فيه من باب السالبة المنتفية الموضوع، و لو قدّرناه عامّا بالقياس إلى ملاقاة النجاسة و ملاقاة ما عدا النجاسة لزم فساد ثالث، و هو حمل

ص: 528


1- سنن البيهقي 259:1، كنز العمّال 397:9 ح 26652، و رواها أيضا في المعتبر: 8.

المستثنى منه بعد الاستثناء و التخصيص على ملاقاة غير النجاسة، فيرجع مفاده إلى أنّ ملاقاة غير النجاسة لا يوجب فساد الماء، و هو كما ترى من باب توضيح الواضحات، و هو كما ترى ممّا لا ينبغي حمل كلام الحكيم عليه.

فلا بدّ من تطرّق التصرّف إلى رواية النجاسة، إمّا بحملها على التقيّة، أو بحمل «التطهير» الوارد فيها مع ضميمة التقرير على رفع الاستقذار و تنفّر الطبع، و ليس شيء من ذلك بعيدا في مقابلة المحاذير المذكورة، مع وجود ما يقرّبهما معا، أمّا الأوّل: فلما مرّ من قيام دواعي التقيّة، و أمّا الثاني: فلورود لفظ «التطهير» في الروايات على هذا المعنى.

و أمّا على التقدير الثاني: فلوضوح أنّ الترجيح في جانب رواية الطهارة لموافقتها الأصل، و العمومات القرآنيّة القاضية بطهارة الماء بحسب الخلقة الأصليّة، و مخالفتها لمذهب العامّة، و كونها بعضا من مجموع الأخبار المتقدّمة الّتي أكثرها معتبرة فيما بين صحاح و موثّقات، فإنّ المعارضة في الحقيقة فيما بين مجموع تلك الأخبار و الأخبار المذكورة للقول بالنجاسة، و لا ريب أنّ الكثرة من المرجّحات، و ليس في جانب تلك الأخبار إلاّ الإجماعات المنقولة و الشهرة العظيمة، و هي موهونة بقوّة المخالف، و العلم باستنادها إلى أدلّة ضعيفة غير واضحة الدلالة، الغير السليمة عن قصور جهة صدورها، و لا ينبغي اعتبار الكثرة فيها بضمّ أوامر النزح الواردة في أنواع النجاسات - حسبما يأتي تفصيلها - لأنّ ذلك فرع سلامة تلك الأوامر عمّا يزاحمها ممّا يقتضي حملها على الاستحباب، و ستعرف قيام ذلك في المقام من وجوه عديدة.

و أمّا على التقدير الثالث(1): فلأنّ المقام - مع أنّه ليس من جزئيّات التعادل، لما عرفت من وجوه المرجّح من جهات عديدة - قابل لاختيار كلّ من المتعارضين، فلم لا يختار أخبار الطهارة، مع أنّ العمل بها عمل بالأصل، و عمومات الطهارة، و الأدلّة النافية للعسر و الحرج، و عمومات السمحة السهلة.

و بجميع ما قرّرناه في الوجه الأخير من البداية إلى تلك النهاية ينقدح الجواب عن الأخبار الاخر، فإنّ طريق الاستدلال بها واحد، و إن كان بعضها أظهر في الدلالة على الانفعال من البعض الآخر فيكون طريق الجواب أيضا واحد، و إن كان لا يجري بالنسبة

ص: 529


1- و في الأصل: «و أما على التقدير الثاني»، و الصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق.

إليها الوجهان الأوّلان ممّا ذكرناه بالقياس إلى الصحيحة الاولى، كما لا يخفى على المتأمّل.

و محصّل الجواب: أنّ ترك العمل بأخبار الطهارة عملا بأخبار النجاسة خلاف الإنصاف، و خلاف طريقة الاجتهاد و قواعد الاستنباط، و قوانين فهم الألفاظ، و ليس لهذا القول بعد ذلك ممّا يصلح الاستناد إليه إلاّ الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة، و الأخبار المتضمّنة للنزح كما حكي الاستدلال بهما أيضا.

و الجواب عن الأولى: قد تبيّن بما ذكر من قيام ما يوهنها، فلا يمكن التعويل عليها، و عن الثانية: بمنع دلالتها على الوجوب أوّلا، لقيام ما يزاحمها في تلك الدلالة ممّا يصرفها إلى الاستحباب أوّلا(1)، و منع الملازمة بين وجوب النزح و النجاسة، بعد قيام قوّة احتمال التعبّد - كما عليه جماعة - و لا سيّما مع ملاحظة كون الحمل عليه طريق جمع بينها و بين أخبار الطهارة، مع كثرتها و اعتبارها سندا و قوّتها دلالة، مضافا إلى ورود النزح في أشياء طاهرة كما ستعرف.

و أمّا القول بالفرق بين الكرّ و ما دونه:
اشارة

فحكي الاحتجاج له بوجوه:

أحدها: رواية الحسن بن صالح الثوري المرويّة في التهذيبين

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا كان الماء في الركيّ كرّا لم ينجّسه شيء»(2).

و ثانيها: ما عن الفقه الرضوي

حيث قال عليه السّلام: «و كلّ بئر عمق مائها ثلاثة أشبار و نصف في مثلها، فسبيلها سبيل الماء الجاري، إلاّ أن يتغيّر لونها أو ريحها»(3).

و ثالثها: موثّقة عمّار

- المتقدّمة - قال: سئل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن البئر يقع فيها زنبيل من عذرة يابسة أو رطبة، فقال: «لا بأس إذا كان فيها ماء كثير»(4).

و رابعها: عموم ما دلّ من الأخبار على اشتراط الكرّيّة في عدم الانفعال.

و أجاب الشيخ(5) عن الأوّل بوجهين:

أحدهما: أن يكون المراد بالركيّ المصنع الّذي لا يكون له مادّة بالنبع، دون الآبار

ص: 530


1- كذا في الأصل.
2- الوسائل 160:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 8 - الكافي 4/2:3 التهذيب 1282/408:1 - الاستبصار 88/33:1.
3- فقه الرضا عليه السّلام: 91.
4- الوسائل 174:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 15 - التهذيب 1312/416:1 - الاستبصار 117/42:1.
5- الاستبصار 33:1 ذيل الحديث 88.

الّتي لها مادّة، فإنّ ذلك هو الّذي يراعى فيه الاعتبار بالكرّ.

و الثاني: أن يكون ذلك ورد مورد التقيّة، لأنّ من الفقهاء من سوّى بين الآبار و الغدران في قلّتها و كثرتها، فيجوز أن يكون الخبر ورد موافقا لهم، و الّذي يبيّن ذلك أنّ الحسن بن صالح - راوي هذا الحديث - زيديّ بتري، متروك الحديث فيما يختصّ به.

و الجواب عن الثاني: بما تقدّم الإشارة إليه من عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظة «كثير» فلا بدّ من حملها على الكثرة العرفيّة، و هي غير معتبرة في عدم انفعال الماء إجماعا، فيجب كونها معتبرة للتحفّظ عن التغيّر، و لو سلّم فهي محتملة للتقيّة كما عرفت في كلام الشيخ، و مع هذا كلّه فهي معرض عنها الأصحاب بأجمعهم و كان القول بموجبها خرق للإجماع.

و عن الثالث: بعدم اعتبار السند، و على فرض الاعتبار يتوهّن بما عرفت.

و عن الرابع: بأنّ عمومات الكرّ تخصّص بما عدا البئر، تحكيما لعمومات البئر عليها، و إن كان بينهما عموم من وجه حسبما عرفت سابقا مع وجه التحكيم، دون العكس.

و قد يقرّر الاحتجاج بذلك على وجه لا يتوجّه إليه ما ذكر من التحكيم، و هو عموم أدلّة انفعال القليل، و لا يعارضها عموم أدلّة طهارة ماء البئر لانصراف ما فيها من الإطلاق إلى ما يبلغ الكرّ، بملاحظة أنّه الغالب في الآبار، و لذا ترى أنّهم عليهم السّلام أمروا أحيانا بنزح مائة دلو و سبعين دلوا، و الكرّ، من غير تقييد بكون الماء كثيرا تعويلا على الغالب.

و دعوى: أنّ العمومات مخصّصة بما دلّ على طهارة البئر عند التغيّر، بنزحها حتّى يزول التغيّر، فلو لا اعتصام الماء لا نفعل ما يخرج منها بملاقاة المتغيّر، مدفوعة: باحتمال كون النزح مطهّرا تعبّديّا على خلاف القاعدة.

و اجيب عنه: بأنّه لو لا إعراض الأصحاب عن هذا القول أمكن المصير إليه، لقوّة مستنده.

و أمّا قول الجعفي: فلم نقف على مستنده.

ثمّ على المختار فهل النزح الوارد في الأخبار المستفيضة واجب أو لا؟

فيه خلاف، فعن المشهور القول باستحبابه، و صرّح الشيخ في التهذيبين(1) بوجوبه، و هو صريح

ص: 531


1- الاستبصار 31:1 ذيل الحديث 84 قال فيه: «فليس لأحد أن يجعل ذلك دليلا أنّ المراد بمقادير النزح ضرب من الاستحباب» - التهذيب 232:1.

العلاّمة في المنتهى(1) و يشكل ذلك من حيث إنّه في الكتاب المذكور صرّح بكون النزح الوارد عن الأئمّة عليهم السّلام تعبّدا، مع تصريحه عند الفراغ عن بحث المنزوحات: «بأنّه لا يجب النيّة في النزح، و يجوز أن يتولّى النزح البالغ و غيره، و المسلم و غيره مع عدم المباشرة، للمقتضي و هو النزح السالم عن معارضة اشتراط النيّة»(2).

و هو كما ترى خلاف المعنى المصطلح عليه في الواجب التعبّدي. و لكن يدفعه: أنّ إطلاق التعبّد هنا ليس باعتبار المعنى المصطلح عليه، بل معناه: أنّه شيء يلتزمه المكلّف و يثبت عليه و يستقرّ في ذمّته لأجل ما فيه من وصف العبوديّة، كما صرّح به الفاضل عند الاستدلال على ما ادّعاه من عدم وجوب النيّة بقوله: «لعدم الدالّ (3) على الوجوب، و لأنّه ليس في نفسه عبادة مطلوبة، بل معنى وجوب النزح عدم جواز الاستعمال إلاّ به، لأنّه مستقرّ في الذمّة فجرى مجرى إزالة النجاسات».(4)

و قضيّة هذه العبارة كون النزح المعتبر على حدّ الواجبات التوصليّة، الّتي لا يتوقّف الخروج عنها على المباشرة النفسيّة و لا نيّة القربة، بل قضيّة العبارة أنّ إطلاق الوجوب هنا أيضا ليس على معناه المصطلح عليه، و هو الطلب الحتمي الّذي يستتبع مخالفته استحقاق الذّم و العقوبة، بمعنى أنّه ليس هناك طلب حتمي متعلّق بالنزح نفسه ليكون بنفسه مطلوبا لذاته أو للغير، بل معنى وجوبه أنّه يحرم استعمال الماء بدونه، فهو ممّا يتوقّف عليه إباحة الاستعمال و ارتفاع الحرمة، فيكون شرطا للإباحة، و هو المراد بكونه مستقرّا في الذمّة، على معنى أنّ من أراد استعمال الماء على وجه مباح و هو لا يتأتّى إلاّ بعد النزح، فذمّته مشغولة بالنزح.

فمعنى كونه جاريا مجرى إزالة النجاسات، أنّه نظيرها في اشتغال الذمّة المتوقّف رفعه على حصول المشتغل به في الخارج كيفما اتّفق، لا أنّه نظيرها في جميع الجهات، و إلاّ فهي مع ما ذكر واجبة بالمعنى المصطلح عليه و إن كان وجوبها للغير، و هو الأمر النفسي مشروط بالطهارة.

فتبيّن من جميع ذلك: أنّ الوجوب المدّعى هنا ليس هو الوجوب النفسي التعبّدي، و لا الوجوب النفسي التوصّلي كدفن الميّت و مواراته، و لا الوجوب التوصّلي الغيري

ص: 532


1- منتهى المطلب 68:1.
2- منتهى المطلب 105:1.
3- كذا في الأصل، و في النسخة الموجودة عندنا «لعدم الدليل...» الخ.
4- منتهى المطلب 105:1.

كإزالة النجاسة عن الثوب و البدن، لأنّ كلّ ذلك يتضمّن الطلب الحتمي و هو منتف في المقام، و هذا المعنى من الوجوب قد يسمّى عندهم بالوجوب الشرطي قبالا للنفسي و الغيري، و إن كان إطلاق الوجوب عليه باعتبار المعنى المصطلح عليه مجازا، و لا يخفى أنّ الوجوب بهذا المعنى يصحّ إطلاقه على كلّ ما هو شرط لإباحة شيء محرّم، كاستئذان المالك مثلا عند إرادة التصرّف في ملكه، فإنّه محرّم بدون الإذن.

و على هذا المعنى يحمل قولهم: يجب الوضوء للنافلة، و لمسّ كتابة القرآن، و يجب الغسل لدخول المساجد، و قراءة العزائم و نحو ذلك، و ممّن صرّح بثبوت هذا الإطلاق و ثبوت التسمية المذكورة عندهم صاحب المدارك في أوّل الكتاب عند شرح قول المحقّق: «فالواجب من الوضوء ما كان لصلاة واجبة». بقوله: «إنّما قيّد الصلاة بالواجبة، لعدم وجوب الوضوء للنافلة، و إن كان شرطا فيها، إذ لا يتصوّر وجوب الشرط لمشروط غير واجب، و لأنّه يجوز تركه لا إلى بدل، و لا شيء من الواجب كذلك.

و قد توهّم بعض من لا تحقيق له وجوب الوضوء للنافلة، لتوجّه الذمّ إلى تاركه إذا أتى بالنافلة في تلك الحال، و هو خطأ، فإنّ الذمّ إنّما يتوجّه إلى الفعل المذكور لا الترك، و أحدهما غير الآخر.

نعم، قد يطلق على هذا النوع من الندب اسم الواجب تجوّزا، لمشابهة الواجب في أنّه لا بدّ منه بالنسبة إلى المشروط، و إن كان في حدّ ذاته مندوبا، و يعبّر عنه بالوجوب الشرطي إشارة إلى علاقة التجوّز»(1) انتهى.

و على هذا فاستعمال الماء قبل النزح يستتبع استحقاق العقوبة بالنسبة إلى فعل المحرّم لا بالنسبة إلى ترك الواجب، و لا يخلّ ذلك في صحّة ما استعمل فيه ذلك الماء كالطهارة لمشروط بها ما لم يندرج في مسألة اجتماع الأمر و النهي المستحيل عندنا، و لا أنّه يفيد تحريما في فعل متوقّف على استعمال الماء فيه مشروط بطهارة ذلك الماء كما في المأكول، نعم يفيد تحريما في استعمال المشروب لا بعنوان أنّه شرب للماء، بل بعنوان أنّه استعمال لما لا يجوز استعماله بدون الشرط المذكور، كما أنّ أكل مال الغير حرام لا بعنوان أنّه أكل، بل بعنوان أنّه إتلاف لمال الغير بدون إذن منه.

ص: 533


1- مدارك الأحكام 9:1.

و يستفاد هذا المعنى مع جميع ما ذكر من معنى الوجوب هنا و غيره من الشيخ في التهذيب، حيث إنّه بعد ما نقل عبارة شيخه المفيد قدّس سرّه في المقنعة و هو قوله: «و بقي أن ندلّ على وجوب تطهير مياه الآبار، و أنّ من استعملها قبل تطهيره يجب عليه إعادة ما استعمله فيه إن وضوءا فوضوءا، و إن غسلا فغسلا و إن كان غسل الثياب فكذلك».

قال: «قال محمّد بن الحسن: عندي أنّ هذا إذا كان قد غيّر ما وقع فيه من النجاسة أحد أوصاف الماء، إمّا ريحه أو طعمه أو لونه، فأمّا إذا لم يتغيّر شيئا من ذلك فلا يجب إعادة شيء من ذلك، و إن كان لا يجوز استعماله إلاّ بعد تطهيره»(1).

أقول: و يشكل ذلك بأنّه إذا كان أصل الاستعمال حراما فكيف يعقل صحّة الوضوء أو الغسل معه و إن لم يكن الماء نجسا، فإنّ اجتماع الأمر و النهي غير جائز عقلا و لو كان الأمر غيريّا، - كما قرّر في محلّه - و كان قوله بالصحّة مبنيّ على تجويزه الاجتماع بينهما مطلقا، أو إذا كان الأمر غيريّا، و كيف كان فمراد أهل القول بوجوب النزح تعبّدا كونه شرطا لإباحة استعمال الماء، و هو لا يستلزم نجاسته جزما. و حينئذ فلا وقع لما اورد(2) عليهم: «من أنّهم إن أرادوا به الوجوب الشرطي لما يشترط فيه الطهارة من الشرب، و الاستعمال في المأكول، و الطهارة به من الحدث و الخبث، بمعنى عدم جواز هذه الامور قبل النزح، فليس النجاسة إلاّ ما منع استعماله في هذه الامور، فإذا تحقّق المنع عن هذه الامور تحقّقت النجاسة، و يلزمها نجاسة الملاقي له، فلا يرد أنّ الثمرة تظهر في عدم تنجّس ملاقيه. فتأمّل.

و إن أرادوا الوجوب النفسي ففي غاية البعد عن ظاهر الروايات» فإنّ (3) النجاسة وصف وجوديّ هو منشأ للمنع عن الامور المذكورة لا أنّها نفس المنع عنها، و لا ريب أنّ منشأ المنع أعمّ من النجاسة، و لذا ترى المنع عنها ثابتا في الماء المغصوب أيضا، و لا يقال: بأنّه نجاسة، فالثمرة المذكورة في محلّها، و لعلّ الأمر بالتأمّل في كلامه إشارة إلى المعنى الّذي قرّرناه.

فالأولى أن يقال في ردّهم: بأنّ قولكم بوجوب النزح بالمعنى المذكور نشأ عن

ص: 534


1- التهذيب 232:1.
2- و المورد هو الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة 207:1.
3- هذا جواب عن إيراد الشيخ الأعظم رحمه اللّه.

توهّم كونه طريق جمع بين الروايات القاضية بطهارة ماء البئر الملاقي للنجاسة و الأخبار الآمرة بالنزح، فالقول بالطهارة مع وجوب النزح تعبّدا جمع بينهما في العمل.

و يرد عليه: أنّ بناء هذا الجمع - مع كون الوجوب عبارة عن المعنى المتقدّم - على حمل الأوامر و الجمل الخبريّة الواردتين في أخبار النزح على كونها للإرشاد إلى الواقع، المفيد لشرطيّة النزح لجواز الاستعمال، المستلزمة لحرمته بدونه.

و يعارضه إمكان حملها على الاستحباب الغير المستلزم لحرمة الاستعمال بدونه.

و اختيار الأوّل دون الثاني لا بدّ له من شاهد خارجي، و أيّ شيء في المقام ينهض شاهدا بذلك، مع ما فيه من استلزامه حرمة الاستعمال الّتي هي مخالفة للأصل، إذ المفروض أنّها لم تثبت بدليل منفصل عن تلك الأخبار، و إنّما تثبت بعد حمل أوامرها مع جملها الخبريّة على بيان الشرطيّة من باب الدلالة الالتزاميّة.

مع إمكان ترجيح الثاني عليه بشهادة نفس الأخبار القاضية بالطهارة، بملاحظة ما في أكثرها من إطلاق نفي البأس، و لا ريب أنّ وجوب النزح بالمعنى المصطلح عليه - إن ثبت به قول - و حرمة الاستعمال بدونه - كما يقول به الجماعة - بأس.

مع ما يلزم على هذا القول من تجويز المعصوم عليه السّلام لاجتماع الأمر و النهي في الأخبار النافية للبأس عن استعمال الماء المفروض قبل النزح - كما هو مورد تلك الأخبار - لو صحّ الوضوء و الغسل بهذا الماء قبله كما هو مقالتهم المتقدّمة، إذ مبنى ذلك على جعل إطلاق نفي البأس الوارد فيها شاملا لصورتي العلم بملاقاة النجاسة و الجهل بها إلى ما بعد الاستعمال، و إن اختصّ موردها بصورة الجهل كما لا يخفى، نظرا إلى أنّ خصوصيّة مورد السؤال لا تصلح مخصّصة لعموم الجواب أو إطلاقه، فيرجع مفاد قولهم: «لا بأس بالماء المفروض، أو باستعماله المفروض» إلى أنّه لا بأس به سواء كان في صورة العلم أو الجهل، و لا ريب أنّ نفي البأس عنه في صورة العلم مع قصد صحّة العمل تصريح بجواز اجتماع الأمر و النهي، و هو على خلاف مقتضي العقل القاطع.

إلاّ أن يقال: بمنع تناول الجواب لصورة العلم أيضا، بل إطلاقه ينزّل إلى مورد السؤال كما هو الأظهر، بل لا إطلاق في جملة منها لصراحتها في صورة الجهل حين الاستعمال كما لا يخفى، فنفي البأس عن الاستعمال المذكور في صورة الجهل المتضمّن

ص: 535

لتصحيح العمل لا ينافي حرمته في صورة التذكّر، المستلزمة لبطلان العمل، حذرا عن اجتماع الأمر و النهي، فصحّة العمل في صورة التذكّر لا تستفاد من تلك الأخبار، فهي ساكتة عن إفادة استحباب النزح كما هي ساكتة عن إفادة حرمة الاستعمال قبله، فحينئذ لا بدّ في تعيين أحد المعنيين من ملاحظة روايات النزح و تحصيل الشاهد منها.

و لكن يدفعه: منع إطلاق هذا التنزيل، بل جملة من تلك الأخبار صريحة في صورة العلم، كصحيحة عليّ بن جعفر(1)، و صحيحة زرارة(2)، و مرسلة عليّ بن حديد(3)، و جملة اخرى مطلقة بالقياس إلى صورتي العلم و الجهل، كصحيحة معاوية بن عمّار المشتملة على قوله عليه السّلام: «لا يغسل الثوب، و لا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر، إلاّ أن ينتن»(4)، و موثّقة زيد بن أبي اسامة الشحّام(5)، و لا ريب أنّه لا داعي فيها إلى التنزيل المذكور، فإذا كانت هي بصراحتها أو إطلاقها شاملة لصورة العلم بالملاقاة مع تضمّنها لصحّة الوضوء و نحوه، فكما لا يمكن القول في مواردها بالنجاسة، فكذلك لا يمكن القول بحرمة الاستعمال حذرا عن اجتماع الأمر و النهي.

و احتمال كون روايات النزح مخصّصة لها بما بعد النزح، يدفعه: مع أنّه موجب لحمل كلام المعصوم عليه السّلام على ما لا حاجة له إلى البيان، من حيث إنّ الصحّة و عدم البأس ممّا يعلمه كلّ أحد حتّى على تقدير النجاسة الّتي ترتفع بالنزح، أنّ أخبار النزح بناء على صلوحها للتخصيص لا تنافي كون اعتبار النزح لأجل التطهير و إزالة النجاسة، و ليست بظاهرة الدلالة على أنّه لأجل حرمة الاستعمال قبله.

ثمّ بعد البناء على الطهارة بأدلّة اخرى خارجة عنها، فكما أنّها محتملة لإفادة شرطيّة النزح المستلزمة لحرمة الاستعمال بدونه، فكذلك محتملة لاستحبابه، فلا تنافي بينها و بين أخبار الطهارة القاضية بصحّة العمل بدون النزح، و معه لا تصلح مخصّصة، و حيث إنّ هذا الاحتمال قائم فيها مع الاحتمال الأوّل فلم يثبت فيها عنوان المخصّصيّة،

ص: 536


1- الوسائل 172:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 247:1 قطعة من الحديث 709.
2- الوسائل 170:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 1289/409:1.
3- الوسائل 174:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 14 - التهذيب 693/239:1.
4- الوسائل 173:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 10 و 12 - التهذيب 232:1 و 670/233 و 674.
5- الوسائل 173:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 10 و 12 - التهذيب 232:1 و 670/233 و 674.

لأنّه مبنيّ على الاحتمال الأوّل و المفروض كونه مشغولا بالمعارض المساوي، إن لم نقل بكونه أقوى.

هذا مع أنّ هذه الأخبار متعارضة بنفسها، لتضمّنها باختلافها تقديرات متعدّدة لنجاسة واحدة، بحيث لا يمكن الأخذ بكلّ من هذه التقديرات بعنوان أنّه شرط، نظرا إلى أنّه أمر واقعي و الواقع لا يقبل الاختلاف، مع ما في أكثرها من القصور في أسانيدها، فلا تنهض دليلا على إثبات الحكم المخالف للأصل، فلا بدّ من حملها على الاستحباب، لأنّه الّذي يتسامح في أدلّته، و هو الّذي لا يقبل الاختلاف بحسب مراتبه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ النزح إن اعتبر مطهّرا للبئر - على القول بالنجاسة، أو في صورة التغيّر - ففي سقوطه بقيام غيره مقامه ممّا هو مطهّر لغيرها، من إلقاء الكرّ، أو إجراء الماء الجاري عليها، أو وقوع المطر عليها، نوع كلام بين الأصحاب يأتي التعرّض له عند البحث عن المنزوحات، و أمّا على المختار من استحباب النزح، و على القول بوجوبه تعبّدا، فمقتضى القاعدة عدم سقوطه بالغير ما دام صدق اسم البئر باقيا.

و لعلّه إلى ذلك يرجع ما فصّله بعضهم من أنّ النزح لو كان للنجاسة فالظاهر حينئذ سقوطه، و إن كان للتعبّد فإن حصل الامتزاج بالجاري أو الكثير فالظاهر أيضا السقوط، لأنّ النزح إنّما تعلّق به في حال البقاء على حقيقته، و عند الاستهلاك يصير في حكم المعدوم، و إن حصل الاتّصال فالظاهر عدم السقوط لعدم خروجه عن حقيقته.

***

ص: 537

ينبوع [في عدم جواز استعمال الماء النجس]

اشارة

كلّ ماء حكم بنجاسته شرعا من جهة التغيّر، أو الملاقاة للنجاسة، أو قيام أمارة عليها - حيث تعتبر - لم يجز استعماله في الطهارة حدثا و خبثا، و في مشروط بالطهارة غير الطهارة أكلا و شربا، شرعا إلاّ عند الضرورة، و يتوقّف الجواز على تطهيره بما هو مطهّر له شرعا، و حيث إنّ العنوان مشتمل على أحكام فلا بدّ من إيراد البحث في مقاصد:

المقصد الأوّل: في عدم جواز استعماله في الطهارة و لو كانت عن خبث مطلقا،

و الظاهر أنّ هذا الحكم إجماعيّ في الجملة، و فتاوي الفقهاء متظافرة عليه، قال العلاّمة في المنتهى: «لا يجوز استعمال الماء النجس في رفع الحدث، و لا في إزالة النجاسة»(1)قال المحقّق في الشرائع: «و إذا حكم بنجاسة الماء لم يجز استعماله في الطهارة مطلقا، و لا في الأكل و الشرب إلاّ عند الضرورة»(2) و في النافع: «كلّ ماء حكم بنجاسته لم يجز استعماله، و لو اضطرّ معه إلى الطهارة يتيمّم»(3) قال الشهيد في الدروس: «و يحرم استعمال الماء النجس، و المشتبه به في الطهارة» إلى قوله: «و يجوز شربه للضرورة»(4).

و مفهومه عدم جواز الشرب لغير الضرورة.

و في المدارك: «الإجماع عليه ناقلا حكايته عن النهاية(5) أيضا، مع التصريح بعدم الفرق بين حالتي الاختيار و الاضطرار»(6)، كما تشير إليه قيد الإطلاق في عبارة الشرائع، و صرّح بالإجماع أيضا في الرياض(7) و في الحدائق(8) نفى الخلاف، و في شرح الدروس للخوانساري: «كأنّه إجماعي»(9)، و حكي إطلاق المنع في الطهارة

ص: 538


1- منتهى المطلب 54:1.
2- الشرائع 15:1.
3- المختصر النافع: 44.
4- الدروس الشرعيّة 123:1.
5- نهاية الإحكام 246:1.
6- مدارك الأحكام 106:1-107.
7- رياض المسائل 193:1.
8- الحدائق الناضرة 193:1.
9- مشارق الشموس: 281 (حجرية).

و اختصاصه بالاختيار في الشرب، كما في المناهل(1) عن النهاية(2)، و السرائر(3)، و المعتبر(4)، و القواعد(5)، و التحرير(6)، و الذكرى(7)، و الجعفريّة(8)، و مجمع الفائدة(9).

و استدلّ عليه: بأنّ الطهارة تقرّب إلى اللّه تعالى، و هو لا يحصل بالنجاسة، و لا يخفى ما فيه من المصادرة، فإنّ عدم حصول القرب بتلك الطهارة مبنيّ على ثبوت المنع الشرعي عن استعمال هذا الماء فيها، و هو لا يثبت بهذا الوجه.

و في المنتهى(10) الاستدلال عليه بالنسبة إلى إزالة النجاسة: «بأنّ الماء منفعل بها، فكيف يعدمها عن غيره» و بالنسبة إلى رفع الحدث بصحيحتي حريز، و الفضل المتقدّمتين في أخبار انفعال القليل، ففي أولاهما قال عليه السّلام: «فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم فلا توضّأ منه، و لا تشرب»(11). و في الثانية فقال: «رجس نجس، لا تتوضّأ بفضله، و اصبب ذلك الماء، و اغسله بالتراب أوّل مرّة، ثمّ بالماء»(12).

و يدلّ عليه أكثر ما تقدّم من روايات الباب المذكور، و أصل الحكم واضح لا حاجة له إلى الاستدلال، لتظافر الأخبار المفيدة للقطع باشتراط الطهارة في ماء الوضوء و الغسل، مع قضاء العقل القاطع بعدم صلوح النجس لرفع النجاسة، بل هو لا يفيد إلاّ تأكّد نجاسة المحلّ، و قضيّة ذلك عدم كون استعماله فيها مجزيا، فعدم الإجزاء ممّا لا إشكال فيه، بل الإشكال في أنّه هل يحرم بحيث يترتّب عليه الإثم و استحقاق العقوبة؟

و منشؤه أنّ فتاوي الأصحاب تضمّنت في عناوين المسألة للتعبير عن الحكم بلفظ «الحرمة» و «عدم الجواز» فاختلفت الآراء الناظرة فيها في المعنى المراد من اللفظين، لاحتمالهما إرادة مجرّد البطلان و عدم الإجزاء، أو المعنى المتعارف المستتبع للإثم، ففي المدارك: «المراد بعدم الجواز هنا معناه المتعارف و هو التحريم، بقرينة قوله: «و لا في

ص: 539


1- المناهل - كتاب الطهارة - الورقة: 162 (مخطوط).
2- النهاية: 8-7.
3- السرائر 88:1.
4- المعتبر: 11.
5- قواعد الأحكام 189:1.
6- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.
7- ذكرى الشيعة 110:1.
8- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 86:1).
9- مجمع الفائدة و البرهان 280:1-281.
10- منتهى المطلب 54:1.
11- الوسائل 137:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 625/216:1.
12- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر ح 4 - التهذيب 646/225:1.

الأكل و الشرب»، فإنّ استعماله فيهما محرّم قطعا»(1)، و عزى ذلك إلى المحقّق الثاني في شرح القواعد(2)، و ثاني الشهيدين في الروضة(3)، و عنه في المسالك: «أنّه حرام مع اعتقاد شرعيّته أمّا بدونه فلا»(4).

و عن العلاّمة في النهاية إرادة المعنى الأوّل، قائلا - بعد الحكم بالتحريم -: «إنّا لا نعني بالتحريم حصول الإثم بذلك، بل نعني عدم الاعتداد به في رفع الحدث»(5)، و احتمله صاحب المدارك أخيرا في عبارة الشرائع، و احتجّ على الاحتمال الأوّل: «بأنّ استعمال المكلّف النجس فيما يعدّه طهارة في نظر الشارع، أو إزالة للنجاسة يتضمّن إدخال ما ليس من الشرع فيه، فيكون حراما لا محالة»(6) و حكي مثل هذا الاحتجاج عن المحقّق الثاني، قائلا: «بأنّ استعمال المكلّف الماء النجس في الطهارة و إزالة النجاسة، إدخال لما ليس من الشرع فيه، فيكون حراما لا محالة»(7).

فظهر من جميع ما ذكر أنّ القائلين بإرادة الحرمة الشرعيّة مرادهم بها الحرمة التشريعيّة و الظاهر أنّ العلاّمة في النهاية لا ينكر الحرمة بهذا المعنى، بل الّذي نفاه إنّما هو الحرمة الذاتيّة، كما أنّ ظاهر الآخرين أنّهم لا ينكرون الحرمة بمعنى عدم الإجزاء، كيف و الحرمة التشريعيّة ممّا لا يعقل الالتزام بها إلاّ مع الاعتراف بعدم الإجزاء في نظر الشارع، لأنّه الّذي يحقّق موضوع التشريع و يثبته مع علم المكلّف به، و أمّا الحرمة الذاتيّة فلم نقف على قائل بها بعنوان الجزم و اليقين.

نعم، يستفاد عن المحقّق الخوانساري في شرح الدروس توهّم احتمالها، حيث أنّه بعد ما تنظّر في احتجاج المحقّق الثاني المتقدّم بقوله: «فيه نظر، إذ كونه من قبيل الإدخال الّذي يكون حراما ممنوع لا بدّ له من دليل».

قال: «و يمكن الاستدلال على الحرمة بالمعنى المتعارف في استعمال الماء النجس في الطهارة، بما ورد كثيرا في أكثر الروايات من النهي عن التوضّي و الغسل بالمياه النجسة، مثل ما ورد في الماء المتغيّر بالنجاسة و غيره، بحيث يفضي احصاؤه إلى تطويل

ص: 540


1- مدارك الأحكام 106:1.
2- جامع المقاصد 149:1.
3- لم نجده في الروضة نعم هو موجود في روض الجنان: 155.
4- مسالك الأفهام 21:1.
5- نهاية الإحكام 246:1.
6- مدارك الأحكام 106:1.
7- جامع المقاصد 149:1.

زائد»(1)، و لا ريب أنّ هذه النواهي على تقدير بقائها على ظواهر لا تقضي إلاّ بالحرمة الذاتيّة، لأنّ الحرمة التشريعيّة لا تنعقد إلاّ بعد ما كان موضوعها - و هو كون موردها خارجا عن الشرع - محرزا، و لا يعلم به إلاّ من تلك النواهي على تقدير كونها لبيان الواقع، و إرشاد المكلّف إلى مانعيّة النجاسة عن الصحّة، و كون المأتيّ به المتضمّن لها خارجا عن المأمور به.

و من البيّن أنّ الحمل عليه لا يجامع الحمل على المعنى المتعارف، و إن كان الحمل على هذا المعنى يستلزم انعقاد موضوع التشريع، بناء على أنّ النهي ممّا يقتضي الفساد، لكن حكم التشريع لا يتأتّى من هذا المعنى و إلاّ لزم الدور، لأنّ انعقاده متأخّر عن انعقاد موضوعه، و هو متأخّر عن انعقاد المعنى المتعارف، فلو كان ذلك المعنى هو حكم التشريع بعينه لزم تقدّم الشيء على نفسه و أنّه محال، فلا يبقى إلاّ أنّ الحرمة المستفادة منها هو الحرمة الذاتيّة.

و لكن يضعف هذا الاستدلال، و استفادة هذا المعنى من تلك النواهي، بملاحظة ما قرّرناه في بحث انفعال القليل من ظهورها بملاحظة المقام في إثبات شرطيّة الطهارة و مانعيّة النجاسة، على حدّ سائر النواهي المتعلّقة بالعبادات و المعاملات على ما قرّرناه في محلّه، و صرّح به هنا غير واحد من الأعاظم، و محصّل مفادها يرجع إلى دفع توهّم الاجتزاء في الطهارة بالماء النجس، الناشئ عن توهّم إطلاق الأوامر الواردة بالطهارات من الوضوء و الغسل و نحوه، و معه فلا يستفاد منها إلاّ البطلان و عدم الإجزاء.

و أمّا الحرمة إن اريد بها الذاتيّة فلا دليل عليها و لا قائل بها أيضا، و إن اريد بها التشريعيّة فالحقّ - وفاقا للجماعة - ثبوتها بدليل العقل، الّذي يستدعي بيانه التعرّض لبيان تفصيل موضوعها، فنقول: إنّ المكلّف إذا أتى بما ليس من الشرع - أي ما ليس من المأمور به المشروع له - فإمّا أن يأتي به باعتقاد أنّه ليس من الشرع، أو يأتي به باعتقاد أنّه من الشرع، أو يأتي به مع الشكّ في أنّه من الشرع أم ليس من الشرع، و على الأخير فإمّا أن يأتي به لرجاء كونه من الشرع، أو يأتي به على أنّه منه - أي يقصد أنّه منه - كما أنّه على الأوّل إمّا أن يأتي به بقصد أنّه من الشرع و لغرض الامتثال بما

ص: 541


1- مشارق الشموس: 281.

أمر به، أو يأتي به لغرض آخر من تعليم أو تعلّم أو تعود أو نحوه.

فإن أتى به على أنّه من الشرع - أي لغرض الامتثال - مع اعتقاد أنّه منه، الحاصل من الاجتهاد أو التعويل على ما أفاد له ذلك الاعتقاد من الطرق الغير الاجتهاديّة، فلا شبهة في خروجه عن موضوع التشريع، و لا قبح فيه ذاتا و لا عرضا إن لم نقل بأنّ فيه حسنا، بل ربّما يقبح تركه في نظر العقل من جهة التجرّي.

و ما عرفته عن ثاني الشهيدين(1) من اعتباره اعتقاد الشرعيّة في موضوع الحرمة التشريعيّة لا بدّ من تنزيله إلى غير تلك الصورة بحمل الاعتقاد المذكور على قصد الشرعيّة - أي قصد امتثال المشروع بما ليس بمشروع مع اعتقاد المشروعيّة - ضرورة أنّ اعتقاد الشرعيّة على معناه الظاهر إن اعتبر مع اعتقاد عدم المشروعيّة أو الشكّ فيها فهو فرض محال، و إن اعتبر لا مع اعتقاده و لا الشكّ فيه فأيّ شيء يقضي بحرمته، و بأيّ وجه يدخل في التشريع المحرّم، خصوصا إذا كان اعتقاد الشرعيّة حاصلا له بالاجتهاد، مع ملاحظة قولهم: «بأنّ المخطئ معذور و لا إثم عليه، بل له أجر واحد».

و إن أتى به لرجاء المشروعيّة مع الشكّ فيها، فهو أيضا خارج عن عنوان التشريع جزما، بل العقل فيه مستقلّ بحسنه، و هذا هو معنى ما يقال: من أنّ الحرمة التشريعيّة لا تمنع عن الاحتياط.

و إن أتى به لغرض آخر معتقدا عدم مشروعيّته فهو أيضا ليس من التشريع المحرّم.

و إن أتى به على أنّه مشروع مع اعتقاد عدم المشروعيّة فهو التشريع المحرّم الّذي يستقلّ العقل بقبحه، و دونه في القبح ما لو أتى به على أنّه مشروع مع الشكّ في المشروعيّة، فإنّ الإتيان بغير المشروع أو ما يشكّ في مشروعيّته بقصد الامتثال ممّا يعدّ في نظر العقلاء استهزاء، و ينبغي تنزيل إطلاق ما تقدّم من الاحتجاج عن المدارك(2) و شرح القواعد(3)بل كلّ من فسّر التشريع: «بإدخال ما ليس من الدين في الدين» إلى هاتين الصورتين.

و ممّا فصّلناه تبيّن أنّ ما عرفت عن الخوانساري(4) من إطلاق منع كون الطهارة بالماء النجس من الإدخال المحرّم ليس في محلّه.

ص: 542


1- مسالك الأفهام 21:1.
2- مدارك الأحكام 106:1.
3- جامع المقاصد 149:1.
4- مشارق الشموس: 281.

ثمّ قضيّة إطلاق ما تقدّم من الأخبار المشار إليها و فتاوي الفقهاء و تخصيصهم الأكل و الشرب باستثناء حال الضرورة، عدم الفرق في عدم جواز استعمال الماء النجس في الطهارة بين حالتي الاختيار و الاضطرار، بل هو المصرّح به في كلام غير واحد، مصرّحين بانتقال التكليف مع الاضطرار إلى التيمّم، بل لم نقف في ذلك على مشكّك و لا مصرّح بالجواز مع الاضطرار، عدا الخوانساري في نفيه البعد عنه، قائلا: «و بالجملة لا شكّ في أنّ الاحتياط في عدم التطهّر به في أكثر الصور، نعم في بعض الصور النادرة كما إذا لم يكن إلاّ الماء النجس و يعلم المكلّف أنّ بعد التطهّر به يمكن أن يصل إلى ماء طاهر، و لكن لا يتيسّر له إلاّ تطهير أعضائه الّتي لاقاها الماء النجس لا الطهارة، لا يبعد أن يكون الاحتياط في الطهارة بالماء النجس، ثمّ يطهّر الأعضاء، ثمّ التيمّم، خصوصا إذا كان نجاسة الماء بما يختلف فيه لا بالمتّفق عليه»(1).

و هو كما ترى ممّا يخالف الاصول و القواعد و النصوص، و لا يشهد له شيء من العقل و النقل، نعم ربّما يؤيّده ما تقدّم في جملة الأخبار المستدلّ بها على عدم انفعال القليل بالملاقاة، من صحيحة عليّ بن جعفر قال: و سأله عن اليهودي و النصراني يدخل يده في الماء أ يتوضّأ منه للصلاة؟ قال عليه السّلام: «لا، إلاّ أن يضطرّ إليه(2)، و صحيحة ابن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الوضوء ممّا ولغ الكلب فيه - إلى أن قال - أ يتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال عليه السّلام: «نعم، إلاّ أن تجد غيره»(3) و صحيحة ابن بزيع قال:

كتبت إلى من يسأله عن الغدير، يجتمع فيه ماء السماء، و يستقى فيه من بئر، فيستنجي فيه الإنسان من بول، أو يغتسل فيه الجنب، ما حدّه الّذي لا يجوز؟ قال فكتب: «لا تتوضّأ من مثل هذا إلاّ من ضرورة إليه»(4)، و دلالة هذه الروايات على ما توهّمه من الجواز واضحة، لكن لا على التفصيل الّذي ذكره، و لو لا مخالفة الإجماع و إعراض الأصحاب عنها لما كان المصير إليها بعيدا، فهي حينئذ مطروحة أو مؤوّلة، لقوّة احتمال أن يراد بالضرورة و الاضطراب موجب التقيّة كما تقدّم بيانه في الباب المشار إليه، مع انطباق

ص: 543


1- مشارق الشموس: 281.
2- الوسائل 421:3 ب 14 من أبواب النجاسات ح 9 - التهذيب 640/223:1.
3- الوسائل 228:1 ب 2 من أبواب الأسآر ح 6 - التهذيب 649/226:1.
4- الوسائل 163:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 15 - التهذيب 1319/418:1 و 427/150.

الأخيرة على محلّ البحث بناء على ما سبق من طهارة ماء الاستنجاء و عدم اشتمال السؤال على ملاقاة النجاسة صريحا، و كيف كان فالقول المذكور في غاية الضعف.

المقصد الثاني: في عدم جواز استعماله في الشرب و غيره ممّا يتوقّف على الماء من أنواع المآكل،

ما لم تدع إليه ضرورة مبيحة لعامّة المحذورات عدا ما خرج، و الظاهر أنّ هذين الحكمين أيضا إجماعيّ، و ما تقدّم من الفتاوى مصرّحة بهما، و الأخبار المستفيضة المتقدّمة في الباب المشار إليه - مضافة إلى غيرها - ناطقة بأوّلهما، كما أنّ الظاهر أنّ الحرمة الذاتيّة هنا ممّا لا إشكال فيه، لكن ظاهر الفتاوى مع النصوص المشار إليها اختصاص المنع بالشرب و ما يلحق به دون سائر الانتفاعات من سقي الدوابّ و الأشجار و البساتين و المزارع و الأبنية، باستعماله في الطين و الجصّ و عجن الحناء و غيره من الأصباغ.

نعم عن الشيخ في المبسوط(1) عدم جواز استعماله بحال.

و تحقيق القول في ذلك يستدعي النظر في كون الأصل في المتنجّسات جواز الانتفاع بها مطلقا إلاّ ما خرج بالدليل، أو عدم جوازه إلاّ ما ثبت بالدليل؟

و ظاهر أنّ المراد بالأصل المطلوب هنا هو الأصل الثانوي، و إلاّ فمقتضى الأصل الأوّلي المستفاد من عموم خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً (2) الجواز مطلقا، ضرورة اندراج المتنجّس قبل طروّ النجاسة له تحت ذلك العامّ، و طروّ النجاسة أوجب الشكّ في كون الطارئ مانعا و عدمه، فالمقتضي للجواز موجود و الشكّ في مانعيّة الطارئ.

و قضيّة ذلك كون الأصل هو الجواز مطلقا، لكنّ الكلام في انقلاب هذا الأصل إلى أصل ثانوي مستفاد من عموم الدليل و عدمه.

و قد وقع الخلاف في ذلك بين أصحابنا رضوان اللّه عليهم فعن القدماء و مشهور المتأخّرين كالشيخين في المقنعة(3) و النهاية(4) و الخلاف(5) و المبسوط(6) و السلاّر(7)

ص: 544


1- المبسوط 6:1 قال فيه «فإن تغيّر أحد اوصافه بنجاسة تحصل فيه فلا يجوز استعماله إلاّ عند الضرورة للشرب لا غير... الخ».
2- البقرة: 29.
3- المقنعة: 582-69-68-65 حيث قال: «و لا بأس أن يشرب المضطرّ من المياه النجسة بمخالطة الميتة لها، و الدم و ما أشبه ذلك و لا يجوز له شربها مع الاختيار...».
4- النهاية و نكتها 209:1.
5- الخلاف 197:1 المسألة 153.
6- المبسوط 6:1 و 7.
7- المراسم: 34 قال: «و أمّا المضاف إلى النجس فليس بطاهر و لا مطهّر، و لا يجوز شربه و لا استعماله على وجه إلاّ أن تدعو إلى شربه ضرورة...».

و الحلّي(1)، و ابن الزهرة في الغنية(2)، و العلاّمة(3) و الشهيد(4) في قواعديهما، و الفاضل المقداد في التنقيح،(5) انقلاب الأصل.

بل عن الأخير دعوى الإجماع عليه قائلا - في الاستدلال على عدم جواز بيع الأعيان النجسة -: «بأنّها ممّا لا يجوز الانتفاع بها، و كلّ ما لا يجوز الانتفاع بها لا يجوز بيعها»، فقال: «أمّا الصغرى: فبالإجماع المعتضد بفتاوي الأصحاب من القدماء و أكثر المتأخّرين»(6)، و عن فخر الإسلام في شرح الإرشاد(7) أيضا عليه الإجماع، و نحوه محكيّ عن الشيخ في المبسوط(8)، و عن المحقّق الأردبيلي(9) المصير إلى الثاني، و قبله المحقّق في المعتبر قائلا: «الماء النجس لا يجوز استعماله في رفع حدث و لا إزالة خبث مطلقا، و لا في الأكل و الشرب إلاّ عند الضرورة، و أطلق الشيخ رحمه اللّه المنع من استعماله إلاّ عند الضرورة.

لنا: أنّ مقتضى الدليل جواز الاستعمال، ترك العمل به فيما ذكرنا بالاتّفاق و النقل و بقي الباقي على الأصل»(10) انتهى.

و نسب اختياره إلى الشيخ جعفر(11) من متأخّري متأخّرينا، بل هو ظاهر كلّ من اقتصر في المنع على ذكر الشرب فقط أو مع الأكل كما عرفت.

و من مشايخنا(12) من وافق الأوّلين، و منهم(13) من اختار الثاني و هو الأقوى، إذ ليس للأوّل إلاّ وجوه واضحة الدفع و العمدة منها أمران:

أحدهما: الإجماعات المشار إليها المعتضدة بفتوى الشيخ في النهاية، المنزّلة منزلة

ص: 545


1- السرائر 88:1.
2- غنية النزوع: 46 قال: «لأنّه يقتضي تحريم استعمال الماء المخالط للنجاسة مطلقا...».
3- قواعد الأحكام 189:1.
4- قواعد الأحكام و الفوائد 85:2، القاعدة 175 حيث قال: «النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة و الأغذية...» و لم نعثر على غير ذلك من العبارة الّتي تدلّ على المطلوب.
5- التنقيح الرائع 5:2.
6- التنقيح الرائع 5:2 و في النسخة الّتي عندنا هكذا: «و أمّا الصغرى: فإجماعيّة».
7- لم نعثر عليه.
8- المبسوط 8:1.
9- مجمع الفائدة و البرهان 281:1.
10- المعتبر: 11.
11- لم نعرف الناسب.
12- جواهر الكلام 534:1.
13- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 275:1.

الرواية المرسلة، لما قيل عنه من أنّه لا يذكر فيها إلاّ متون الروايات من دون اختلاف، أو مع اختلاف يسير غير مخلّ بالمعنى.

و ثانيهما: الرواية المنقولة عن تحف العقول(1) مرسلة؛ و عن الوسائل(2) مسندة بسند غير نقيّ، و هي رواية طويلة و موضع الحاجة منها قوله عليه السّلام:

«و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته، أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش، أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شيء من وجوه النجس، فهذا كلّه حرام و محرّم، لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه، فجميع تقلّبه في ذلك حرام».

و فيه: مع القدح في سند الرواية المشتمل على الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، و أبيه عليّ بن أبي حمزة المجروحين في كلام أهل الرجال(3) مع عدم العلم بجابر له، منع الدلالة على وجه يتناول محلّ البحث، من حيث إنّ لفظة «وجوه النجس» الواقعة فيها عبارة عن الذوات المأخوذة عنوانا لحكم النجاسة الّتي هي بأنفسها مقتضية لها، بعد تسليم أنّ لفظة «النجس» بانفرادها تشمل المتنجّس أيضا، و لا ريب أنّ محلّ البحث ليس من هذا القبيل لكون النجاسة في المتنجّسات - و لا سيّما المياه - عرضيّة.

و أمّا الإجماعات المنقولة فعلى فرض تناولها لمحلّ الكلام، فموهونة بمصير المتأخّرين كلاّ أم جلاّ إلى عدم انقلاب الأصل الأوّلي، كما يظهر للمتتبّع في كلماتهم في باب المكاسب؛ و أمّا باقي الوجوه المستدلّ بها على انقلاب الأصل مع أجوبتها فتطلب من الباب المذكور، فإذن كان الأصل الأوّلي المشار إليه المعتضد بأصلي البراءة و الإباحة على حاله.

المقصد الثالث: في كيفيّة تطهير المياه المتوقّف عليها إباحة الاستعمال.

اشارة

و اعلم أنّه كما أنّ عروض النجاسة لما يكون طاهرا بحسب ذاته و أصله على

ص: 546


1- تحف العقول: 331.
2- الوسائل 83:17 كتاب التجارة، ب 2 من أبواب ما يكتسب به، ح 1 و 101:19 ب 1 من كتاب الإجارة ح 1.
3- راجع منتهى المقال 408:1، 327:4.

خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلاّ بدلالة الشرع عليه، فكذلك زوال تلك النجاسة العارضة بعد العلم بعروضها على خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلاّ بدلالة الشرع عليه، و قضيّة ذلك وجوب البناء على النجاسة فيما لو شكّ في طهارته بعد تيقّن النجاسة، من غير فرق فيه بين كون الشكّ من جهة حصول الرافع المعلوم كونه رافعا، أو في رافعيّة الحاصل لأمر راجع إليه نفسه في شبهة موضوعيّة أو حكميّة لعدم تعيّنه بحسب الشرع، أو للشكّ في مدخليّة شيء فيه؛ أو لأمر راجع إلى المحلّ.

و قد تبيّن فيما سبق أنّ الأصل في اقتضاء ترتّب جميع أحكام النجاسة على المحلّ كالعلم، على معنى أنّه يقوم مقامه ما لم يحصل ما يرفعه، فالماء المحكوم عليه بالنجاسة إذا شكّ في زوال نجاسته، لا كلام فيه إذا كان الشكّ ناشئا عن حصول المزيل، أو عن الشبهة الموضوعيّة في الحاصل، كما لو ثبت شرعا أنّ الكرّ من الماء رافع لنجاسة القليل المتنجّس، و مطهّر له، فالقي عليه مقدار كرّ متردّد بين كونه ماء أو مضافا، فإنّ المرجع في مثل ذلك هو الأصل بلا إشكال.

و إنّما الغرض المهمّ في المقام، استعلام حال الشكّ إذا كان في رافعيّة الحاصل لشبهة حكميّة راجعة إلى المحلّ، كما لو شككنا في كونه قابلا للطهارة كالثياب، أو غير قابل لها كالأدهان المتنجّسة، أو إلى الرافع بعد إحراز القابليّة للمحلّ، إمّا من حيث تعيين أصله المردّد بين كونه ماء أو غيره، كزوال التغيّر مثلا في الكرّ المتغيّر بالنجاسة، أو من حيث مدخليّة ما يشكّ في مدخليّة فيه، كالدفعة و الامتزاج و غيره ممّا ستعرفه من موارد الخلاف، فلا بدّ في الخروج عن ذلك الشكّ من الدلالة الشرعيّة نصّا أو إجماعا، غير أنّ النصوص - كتابا و سنّة - خالية عن تلك الدلالة كما اعترف به غير واحد.

هذا إذا أردنا من الدلالة من جهة النصّ ما يكون دلالة صريحة مستقلّة، و إلاّ أمكن إثبات الدلالة التزاما تبعيّا، بملاحظة النصوص الواردة في البئر المتغيّر ماؤها بالنجاسة، الدالّة على طهرها بالنزح المزيل للتغيّر، بناء على ما نستظهر منها كون المطهّر في الحقيقة هو الماء المتجدّد من المادّة لا النزح، و لا مجرّد زوال التغيّر أو هو مع الزوال، فإنّ ذلك مع ملاحظة ما دلّ من الأخبار، على عدم انفعال البئر بمجرّد الملاقاة، ممّا يمكن أخذه دليلا على الملازمة المجمع عليها الّتي ستعرف الكلام في إثباتها هذا.

ص: 547

و أمّا عمومات طهوريّة الماء - كتابا و سنّة - فلا قضاء لشيء منها بشيء ممّا ذكر، لكونها ساكتة عن التعرّض لكيفيّة التطهير و محلّه، و ما يقبله من المتنجّسات، و لا ينافيه ورودها كلاّ أم بعضا مورد الامتنان، لحصول الامتنان بمجرّد كون الماء بنوعه قابلا لتطهير الغير، و لا يقتضي أزيد من ذلك، و لو سلّم اقتضاؤه الزيادة و هو كون هذا الحكم ثابتا لجميع أفراد النوع، فلا يقتضي حكما بالقياس إلى موارده من حيث القابليّة للتطهّر، كما أنّه لا يقتضي حكما بالقياس إلى كيفيّة التطهير من جهة ما يعتبر فيه و ما لا يعتبر من الشرائط و الموانع.

فما ستسمعه عن غير واحد من التمسّك بإطلاق تلك الأدلّة أو عمومها - في بعض تفاصيل محلّ البحث و فروعه الآتيتين - ليس على ما ينبغي، إذ التمسّك بالإطلاق عند عدم القيد المفيد للاشتراط، فرع ثبوت إطلاق في اللفظ يساعد عليه متفاهم العرف، و هو مع عدم تعرّض الدليل للكيفيّة الراجعة إلى الشرائط نفيا و إثباتا غير معقول، نعم قيام الدلالة من جهة الإجماع الكاشف عن رأي الحجّة ثابت في المقام جزما، فإنّهم مجمعون على أنّ الماء المتنجّس بجميع أقسامه قابل للتطهير، و على أنّ مطهّره لا يكون إلاّ ماء طاهرا في الجملة، لكن هذا الإجماع الثاني قد طرأه إجمال في معقده من جهة الشبهة في مدخليّة بعض في حصول التطهير ممّا تقدّم إليه الإشارة، و من هنا وقع الخلاف بينهم في اعتبار هذه الامور نفيا و إثباتا، غير أنّه على تقدير عدم قيام الدلالة على الخروج عن هذه الشبهة لا يورث ذلك إشكالا لا يحصل التفصّي عنه، لتعيّن مراجعة الأصل حينئذ.

نعم، ربّما يقع الإشكال في أنّ هذا المرجع هل هو الأصل المقتضي للنجاسة، و هو استصحاب الحالة السابقة، أو الأصل المقتضي للطهارة و هو أصالة عدم الشرطيّة؟ فإنّ فيه أيضا خلافا تعرفه - مع تحقيقات منّا - عند ذكر حجج النافين لشرطيّة لامتزاج، و لمّا كان موضوع المسألة الّذي هو معقد للإجماع المذكور ممّا يختلف أحكامه باعتبار اختلاف أنواعه،

فلا بدّ من إيراد البحث عنه في مراحل:
المرحلة الاولى: في تطهير الماء القليل المتنجّس متغيّرا أو غيره،
اشارة

و قد ذكروا فيه أنّه يطهّر بإلقاء كرّ عليه دفعة كما في الشرائع(1)، هذا إذا لم يكن متغيّرا أو كان و زال تغيّره

ص: 548


1- شرائع الإسلام 7:1.

بالواحد، و إلاّ فكرّ آخر، و هكذا إلى أن يزول التغيّر فيطهّر، فاعتبار الزيادة إنّما هو حيث لم يزل التغيّر بدونها لا لتوقّف الطهر عليها.

نعم، الكرّيّة معتبرة في الطهر مع التغيّر و مع عدمه عند أهل القول بانفعال القليل بالملاقاة بلا خلاف، و وجهه واضح من حيث إنّ ما دونه ينفعل بمجرّد الملاقاة، من غير فرق فيه عندهم بين ملاقاة النجس أو المتنجّس، فكيف يصلح مطهّرا للغير، و قد يدّعى عليه الوفاق على الإطلاق، غير أنّه يشكل ذلك على مذهب العماني و من تبعه، بل عن فخر الإسلام في شرح الإرشاد(1) ما ينافي إطلاق هذه الدعوى، حيث أنّه بعد حكاية هذا المذهب قال - في عبارة محكيّة عنه -: «و يتفرّع عليه أنّه لو تغيّر بعض أقلّ من الكرّ ثمّ زال التغيّر من قبل نفسه طهر عند العماني و من وافقه».

و قضيّة هذا التفريع أنّه لا يعتبر الكرّيّة في الرفع كما أنّه لا يعتبرها في الدفع، فلو تغيّر ما دون الكرّ على هذا فالقي عليه طاهر أقلّ من الكرّ موجب لزوال تغيّره، لزم انقلابه طاهرا.

و لعلّ وجه التفريع المذكور أنّ كلّ معلول يدور وجودا و عدما مع علّته، فيرتفع بارتفاع العلّة، و حيث أنّه لا تأثير لمجرّد الملاقاة عند أهل هذا المذهب فانحصر علّة النجاسة عندهم في التغيّر، فإذا زال بغير الكرّ وجب زوال النجاسة أيضا، و قضيّة ذلك حينئذ طهره أيضا بزوال التغيّر بنفسه من غير حاجة إلى إلقاء الماء الطاهر و لو قليلا، و هو كما ترى في غاية البعد، و لم يعهد القول بذلك عن أهل هذا القول.

نعم، لغيرهم في مسألة الكرّ المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه أو بعلاج كلام يأتي

ص: 549


1- لم نعثر عليه: و في هامش الأصل بخطّ مصنّفه رحمه اللّه: «و اعلم: أنّ في مطهّر القليل بإلقاء الكرّ يتصوّر أحوال كثيرة، بعضها متّفق على كونه شرطا في التطهير و بعضها مختلف في شرطيّته و بعضها يتوهّم كونه شرطا. أمّا القسم الأوّل: فكالكرّيّة و طهارته و استلزامه و زوال التغيّر و ملاقاته المتنجّس. و أمّا القسم الثاني: فكالدفعة و الامتزاج و علوّ المطهّر أو مساواته إن كان به قول محقّق في أصحابنا. و أمّا القسم الثالث: فالعلوّ و المساواة على تقدير عدم القول به صريحا، لأنّه ما يوهمه أكثر عناوينهم - على ما يأتي الإشارة إليه - و كورود المطهّر على المتنجّس على ما يوهمه عبارة الشيخ في الخلاف و يأتي ذكره، و كالزيادة على الكرّيّة على ما يوهمه عبارة المحقّق الثاني فيما يأتي، و كاستهلاك المتنجّس على ما يوهمه بعض استدلالاتهم المتضمّنة لهذا اللفظ و ستعرفه» (منه).

التعرّض له، و ستعرف أنّ المشهور في تلك المسألة عدم كفاية ذلك، بل لم يسند المخالفة إلاّ إلى يحيى بن سعيد، و جعله بعضهم لازما لقول كلّ من يقول بطهارة القليل المتنجّس بإتمامه كرّا، مع ما فيه من المناقشة و منع الملازمة كما ستعرفه.

فالّذي يظهر - و اللّه أعلم - أنّه لا قائل هنا بكفاية زوال التغيّر مطلقا أو مع تلبّسه بإلقاء الماء القليل، و التفريع المذكور لعلّه اجتهاد من قائله من دون وقوع التصريح به في كلام الجماعة، فيردّه حينئذ منع الملازمة بين مقامي الدفع و الرفع، و قضيّة العلّيّة على نحو ما ذكرناه أمر نظري عقلي، و كون العلّة المبقية غير العلّة المحدثة على فرض افتقار الباقي في بقائه إلى العلّة احتمال قائم في المقام، و معه لا دافع لاستصحاب النجاسة كما لا رافع للنجاسة المستصحبة.

و يمكن أن يكون التفريع المذكور مبنيّا على توهّم امتناع كون الماء الواحد بعضه طاهرا لمكان عدم انفعال الجزء الغير المتغيّر و بعضه الآخر نجسا و هو الجزء المتغيّر، و يردّه: إن كان ذلك لمجرّد العقل.

أوّلا: النقض بحالة التغيّر، فإنّه لا يخرج الماء الواحد عن الوحدة.

و ثانيا: أنّ جعل الجزء المتنجّس تابعا للجزء الطاهر في صيرورته طاهرا بمجرّد زوال التغيّر فرارا عن المحذور، ليس بأولى من جعل الجزء الطاهر تابعا للجزء المتنجّس بمجرّد عروض التغيّر في صيرورته متنجّسا، و الاستصحاب كما أنّه يجري بالقياس إلى الجزء الطاهر كذلك يجري بالقياس إلى الجزء المتنجّس، و شمول دلالة الشرع على عدم قبول القليل الانفعال بمجرّد الملاقاة بعد تسليمها لتلك الصورة غير معلوم، لو قيل بأنّ شمول دليل علّيّة التغيّر للانفعال لما بعد زوال التغيّر غير معلوم.

و ثالثا: منع امتناع تبعّض الماء في وصفي الطهارة و النجاسة عقلا، إذ لا مانع منه من جهة العقل و الشرع، و عدم امتياز الجزءين في نظر الحسّ لا يقضي بعدم امتيازهما في علم اللّه سبحانه، غاية الأمر أنّ الطهارة و النجاسة وصفان لا يجتمعان في محلّ واحد، لكن مجرّد صدق الوحدة على الماءين في نظر العرف لا يستلزم وحدة محلّ الوصفين في متن الواقع و إن فرضناهما مختلطين بالامتزاج، نظرا إلى أنّه لا يخرج الأجزاء المتواصلة عمّا هي عليها ذاتا و وصفا سيّما بناء على عدم تداخل الأجسام، و إن أوجب

ص: 550

فيها طريان مفارقة البعض عن بعض كما لا يخفى.

و القول: بأنّه يلزم حينئذ عدم جواز استعمال الطاهر الموجود هنا فيما يشترط فيه الطهارة، لاشتمال كلّ جزء منه بعد الامتزاج على جزء من المتنجّس و هذا في معنى نجاسة الكلّ، إذ لا يجوز على الفرض شربه و لا التوضّي و لا تطهير الثوب و البدن به.

يدفعه: أنّ ذلك من جهة قيام مانع عرضي لا من جهة فقد المقتضي كما في الشبهة المحصورة، فلا ملازمة بين منع الاستعمال من جهة الاشتباه و بين كونه لأجل النجاسة في الجميع لا غير.

و أمّا ما يتوهّم: في تلك الصورة أو نظيرها - كما في الكرّ الملقى على المتنجّس، بناء على عدم تأثيره في طهره و لا تأثّره عنه بقبول النجاسة لمكان كرّ غير متغيّر - من أنّه لو ارتمس فيه مرتمس ارتفعت جنابته باشتمال الماء الطاهر عليه، و إن كان يتنجّس بدنه من حين الخروج.

ففيه: ما لا يخفى من الغرابة و البعد عن قواعد الشرع؛ فإنّ الجنابة لا ترتفع إلاّ بطهارة الماء المستعمل فيها بجميع أجزائه، و العلم باشتمال البدن في الصورة المفروضة على الماء الطاهر ليس من العلم بطهارة الماء المشتمل عليه بجميع أجزائه، و معه فأيّ شيء ينهض رافعا للحدث المتيقّن و دافعا لاستصحابه؟ و كيف كان فمذهب العمّاني و موافقيه في تلك المسألة غير معلوم.

و من هنا يعلم القدح في إطلاق دعوى الإجماع على اشتراط الكرّيّة في المطهّر، و الإجماع على كون الكرّ مطهّرا ليس من الإجماع على أنّ الطهر لا يحصل إلاّ بالكرّ.

نعم، على المختار من انفعال القليل بالملاقاة لا إشكال في اعتبار الكرّيّة، و كأنّ إطلاق نقل الإجماعات منزّل على هذا التقدير.

ثمّ: لا يذهب عليك إنّا و إن منعنا بطلان تبعّض الماء الواحد في الطهارة و النجاسة من جهة العقل، و لكنّه لا نمنعه من جهة الإجماع، مضافا إلى ما أشرنا إليه من قيام الدلالة التبعيّة عليه فيما دلّ من النصوص على طهر البئر المتغيّر بالنزح إلى أن يزول التغيّر، بناء على ما تقدّم الإشارة إليه مع ما سيأتي من تفصيل ذلك، غير أنّ العمدة هو الإجماع و هو قائم جزما، كيف و هو قضيّة إجماعهم على أنّ الكرّ أو غيره ممّا سيأتي

ص: 551

مطهّر عن القليل المتنجّس، و ستعرف في مسألة الامتزاج عن كاشف اللثام(1) دعوى الإجماع عليه بالخصوص، فعندهم - على ما يظهر للمتأمّل - ملازمتان قطعيّتان أثبتهما النصوص و الإجماع، و ملازمة ثالثة أثبتها الإجماع خاصّة أو هو مع ما أشرنا إليه من الدلالة التبعيّة في نصوص زوال التغيّر.

أمّا الاوليان: فإحداهما أنّ الماء الملقى على المتنجّس إذا كان ذا قوّة عاصمة كالكرّيّة مثلا لم ينفعل بملاقاته.

و اخراهما: أنّه إذا عرا عن تلك القوّة ينفعل بتلك الملاقاة.

و أمّا الثالثة: فهي أنّ بقاء الماء الملقى على وصف الطهارة - كما هو مقتضي الملازمة الاولى - ملازم لزوال النجاسة عن الماء المتنجّس و إلاّ لزم تبعّض الماء الواحد في الطهارة و النجاسة و هو منفيّ بالإجماع، و مرجع هذه الملازمة إلى اعتبار التبعيّة فيما بين الماءين بعد حصول التلاقي بينهما، فلا بدّ على طريقة الانفصال الحقيقي إمّا و أن يتبع الماء الطاهر لما القي عليه في وصف النجاسة، أو يتبع الماء المتنجّس لما القي عليه في وصف الطهارة، فحينئذ لو القي على الماء المتنجّس مقدار كرّ من الماء الطاهر فلا يخلو إمّا أن نقول: بنجاسة الملقي كالملقى عليه أو بالعكس؛ أو ببقاء كلّ على حكمه الأوّل، و الأوّل منفي بحكم الملازمة الاولى، كما أنّ الثالث منفي بحكم الملازمة الثالثة، فتعيّن الثاني إذ لا احتمال سواه.

كما أنّه لو القي عليه ما دون كرّ من الماء فإمّا أن يقال بطهارتهما معا، أو بنجاستهما كذلك، أو ببقاء كلّ على حكمه، و الأوّل منفي بحكم الملازمة الثانية، كما أنّ الأخير منفي بحكم الملازمة الثالثة، فتعيّن الثاني إذ لا احتمال سواه.

و لعلّه إلى هذا المعنى يرجع ما في كلامهم من الاحتجاج على حكم المطهّريّة كما في المنتهى قائلا: «و الواقف إنّما يطهّر بإلقاء كرّ عليه دفعة من المطلق بحيث يزول تغيّره، و إن لم يزل فبإلقاء كرّ آخر عليه و هكذا، لأنّ الطاري غير قابل للنجاسة لكثرته، و المتغيّر مستهلك فيه فيطهّر»(2) بناء على أنّ مراده بالاستهلاك زوال امتياز التغيّر عن الكرّ بما يتحقّق بينهما من الوحدة، و ذكر نظير هذا الاستدلال في الجاري المتغيّر أيضا

ص: 552


1- كشف اللثام 310:1.
2- منتهى المطلب 64:1.

المحكوم عليه بأنّه إنّما يطهّر بإكثار الماء المتدافع حتّى يزول التغيّر، و أمّا تطهير القليل الّذي أورده بعدهما و إن لم يستدلّ فيه بمثل ما ذكر غير أنّه جار فيه أيضا، و كأنّه تركه هنا اكتفاء بما سبق.

و لكن ينبغي أن يعلم أنّ الملازمة الأخيرة موضوعها الماء الواحد، فلا بدّ في الاستدلال بها من إحراز الوحدة أوّلا، و كأنّ اختلافهم الآتي في الشروط الآتية من الدفعة و الممازجة و نحوها ناش عن طلب إحراز الوحدة، فمن يراها كلاّ أم بعضا شرطا يرى أنّ الوحدة لا تصدق إلاّ معها، و من لا يعتبرها يراها صادقة بدونها، و عليه لا يكون شيء من تلك الشروط أمرا تعبّديّا صرفا، و بذلك ربّما يرتفع الحاجة في إثبات اعتبار شيء منها أو نفي اعتباره إلى التمسّك بالأصل، من استصحاب أو أصالة عدم الشرطيّة - على الخلاف المتقدّم إليه الإشارة - لكون الحكم حينئذ منوطا بالوحدة و صدقها و هو أمر عرفي لا يرجع فيه إلى الشرع.

كما علم بذلك وجه الاختلاف الّذي وقع بين العلاّمة و المحقّق في المنتهى و المعتبر في غديرين أحدهما أقلّ من الكرّ فلاقته نجاسة ثمّ وصل بالآخر البالغ كرّا، حيث إنّ العلاّمة قال في الكتاب: «لو وصل بين الغديرين بساقية اتّحدا، و اعتبر الكرّيّة فيهما مع الساقية جميعا، أمّا لو كان أحدهما أقلّ من كرّ و لاقته نجاسة فوصل بغدير بالغ كرّا، قال بعض الأصحاب: الأولى بقاؤه على النجاسة، لأنّه ممتاز عن الطاهر، مع أنّه لو مازجه و قهره لنجّسه، و عندي فيه نظر فإنّ الاتّفاق واقع على أنّ تطهير ما نقص عن الكرّ بإلقاء كرّ عليه، و لا شكّ أنّ المداخلة ممتنعة، فالمعتبر إذن الاتّصال الموجود هنا»(1).

و الظاهر أنّ مراده ببعض الأصحاب هو المحقّق، لما حكي عنه في المعتبر من قوله: «الغديران الطاهران إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد، فلو وقع في أحدهما نجاسة لم ينجّس، و لو نقص كلّ واحد منهما عن الكرّ إذا كان مجموعهما مع الساقية كرّا فصاعدا، الثالث: لو نقص الغدير عن كرّ فنجس فوصل بغدير فيه كرّ ففي طهارته تردّد، و الأشبه بقاؤه على النجاسة لأنّه ممتاز عن الطاهر، و النجس لو غلب على الطاهر نجّسه مع ممازجته فكيف مع مباينته»(2).

ص: 553


1- منتهى المطلب 53:1.
2- المعتبر: 11.

و إن شئت صدق مقالتنا في دعوى رجوع ذلك إلى الخلاف في صدق الوحدة و عدمه؛ فانظر في كلاميهما تجدهما مشتملين نفيا و إثباتا على إناطة الحكم بصدق الوحدة و عدم صدقه، لتصريح العلاّمة بصدقها في المسألة الاولى بقوله: «اتّحدا» فيكون المسألة الثانية أيضا على قياسها، و تصريح المحقّق بعدم صدقها بعنوان الحقيقة لقوله: «صارا كالماء الواحد» فإنّ التأدية بأداة التشبيه تقتضي كون الماءين مع عدم اتّحادهما حقيقة في حكم الماء الواحد البالغ كرّا في عدم انفعاله بمجرّد الملاقاة، و على قياسها المسألة الثانية فإنّ الوحدة الحقيقيّة إذا لم تكن متحقّقة بمجرّد الوصل بساقية لم يكن مجرّد الوصل كافيا في التطهير، على خلاف الحكم في المسألة الاولى و هو الكفاية في عدم الانفعال.

وجه الفرق بين المسألتين: أنّ الأحكام تدور مدار عناوينها المأخوذة في الأدلّة، و الماء الواحد من حيث أنّه ماء واحد لم يؤخذ عنوانا في حكم عدم الانفعال بملاقاة النجاسة، بل المأخوذ عنوانا في هذا الحكم - حسبما قرّرناه في بحث الكرّ - إنّما هو عنوان الكرّيّة و ما فوقها، و صدق هذا العنوان لا يتوقّف على وحدة الماء حقيقة بل يكفي فيه مجرّد الاتّصال بين الماءين كما لا يخفى على المتأمّل؛ بخلاف حكم التطهير فإنّه معلّق على عنوان الوحدة الّذي لا يتأتّى بمجرّد الاتّصال المفروض.

و بما وجّهناه في الفرق بين المسألتين يندفع المنافاة المتوهّمة بين الكلامين، فظهر أنّ النزاع بينهما راجع إلى الصغرى، فالعلاّمة يرى مجرّد هذا الاتّصال كافيا في صدق عنوان الوحدة، و المحقّق لا يراه كافيا لتصريحه بأنّه ممتاز عن الطاهر، بل يراه متوقّفا على حصول الممازجة كما فهمه العلاّمة من كلامه و ردّه بأنّ المداخلة ممتنعة، و استظهره منه أيضا جماعة، و يرشد إليه أيضا قوله - في الوجه الثاني ممّا استدلّ به -:

«و النجس لو غلب على الطاهر نجّسه مع ممازجته، فكيف مع مباينته» يعني فكيف يطهّر مع مفارقته عن الطاهر البالغ كرّا.

و حاصله: أنّ نجاسة الكرّ معلّقة على غلبة النجس عليه و تغيّره بسببه، و هي لا تتأتّى إلاّ مع الممازجة، ضرورة أنّ النجس لو كان مفارقا عن الكرّ لم يصدق عليه أنّه غلبه، كما أنّ طهر النجس معلّق على صيرورته مع الكرّ ماء واحدا، و لا يتأتّى ذلك إلاّ مع الممازجة.

ص: 554

و بعبارة اخرى: أنّ الكرّ في كلّ من تأثّره عن النجس و تأثيره فيه موقوف على الممازجة، أمّا الأوّل: فلأنّ تأثّره منه يتوقّف على غلبته عليه، و لا يتأتّى الغلبة إلاّ مع الممازجة.

و أمّا الثاني: فلأنّ تأثيره فيه يتوقّف على الوحدة، و لا يتأتّى الوحدة إلاّ مع الممازجة.

و يوافقه على دعوى كون العبرة في مقام التطهير بالوحدة الرافعة للتمييز بين الماءين الغير المتحقّقة بمجرّد الوصل بينهما عبارة الشهيد المحكيّة عن الذكرى قائلا:

«و يطهّر القليل بمطهّر الكثير ممازجا، فلو وصل بكرّ مماسّة لم يطهّر للتمييز المقتضي لاختصاص كلّ بحكمه، و لو كان الملاقاة بعد الاتّصال و لو بساقية لم ينجّس القليل مع مساواة السطحين أو علوّ الكثير كماء الحمّام، و لو نبع الكثير من تحته - كالفوّارة - فامتزج طهّره لصيرورتهما ماء واحدا، أمّا لو كان ترشّحا لم يطهّر لعدم الكثرة الفعليّة»(1).

و مراده بالكثرة الفعليّة الكرّيّة الفعليّة الّتي هي مناط التطهير؛ و لا ريب أنّها غير متحقّقة مع الرشح.

و يرد عليه مع المحقّق بالنظر إلى إطلاق كلاميهما: أنّ ما ذكرتماه إنّما يستقيم على فرض تسليمه فيما لو كان الوصل بين الغديرين بساقية، خصوصا إذا كانت الساقية خفيّة، و إلاّ فلو كان هنا حوضان أحدهما كرّ دون الآخر مفصول بينهما بفاصل يساويها في الأبعاد الثلاث و كان ما دون الكرّ نجسا، ثمّ رفع الفاصل بحيث صارا حوضا واحدا فإنّه لا شبهة حينئذ في صدق الوحدة صدقا حقيقيّا، إذا كان المراد بها الوحدة العرفيّة كما هو الظاهر المصرّح به في جملة من العبائر، و ظنّي أنّ هذا الفرض لا يندرج في معقد كلاميهما كما يفصح عنه التصريح بالساقية في كلام المحقّق المتضمّن لقضيّة الوصل بين الماءين.

نعم، يتوجّه الإشكال إلى إطلاق كلام العلاّمة في دعوى الاتّحاد، فإنّ حصوله لو اريد به اتّحاد الماءين في جميع صور المسألة حتّى ما لو كان الوصل بينهما بساقية خفيّة في غاية الإشكال، و الاكتفاء بنحو هذا الاتّصال في نهاية الصعوبة.

و ممّا يومئ إلى أنّ محطّ كلامهم هنا اعتبار الوحدة عبارة الشيخ في المبسوط الّتي حكاها العلاّمة في المنتهى موردا عليه في بعض محتملاته قائلا: «و قال الشيخ في

ص: 555


1- ذكرى الشيعة 85:1.

المبسوط: «لا فرق بين أن يكون الطاري نابعا من تحته أو يجري إليه أو يغلب»، فإن أراد بالنابع ما يكون نبعا من الأرض، ففيه إشكال من حيث إنّه ينجّس بالملاقاة فلا يكون مطهّرا، و إن أراد به ما يوصل إليه من تحته فهو حقّ»(1).

فإنّ الشيخ يرى الوحدة صادقة في جميع التقادير، و العلاّمة يراها متوقّفة على كون النبع وصلا للكثير إليه من تحته، و وجه استشكاله على هذا التقدير لو كان المراد بالنابع ما ينبع من الأرض إمّا لأنّ الجاري مطلقا ليس عنده من ذوات القوّة العاصمة فيكون إشارة إلى الملازمة الثانية ممّا تقدّم، أو أنّ العبرة في التطهير بحصول الكثير في الماء فعلا و لا يتأتّى ذلك إلاّ بالوصل إليه دفعة، و لا يكفي فيه مجرّد النبع كيفما اتّفق، لأنّه عبارة عن خروج الماء جزء فجزء فهو ما لم ينبع لم يحصل في المتنجّس و بالنبع خرج عن كونه جزءا من المطهّر، لأنّه يوجب اتّحاده مع المتنجّس؛ و مثل هذا الاتّحاد لا يجدي لأنّ العبرة فيه باتّحاد المطهّر معه، و الجزء المنفصل عنه المتّحد مع المتنجّس ليس بمطهّر بنفسه، لعدم كونه ذا القوّة العاصمة فينجّس بالملاقاة؛ و على هذا يكون ذلك أيضا إشارة إلى الملازمة الثانية؛ و موافقا لما عرفته عن الشهيد فيما يخرج إليه بالرشح.

و إلى هذا ينظر ما عن المعتبر: «من أنّ هذا أشبه بالمذهب، لأنّ النابع ينجّس بملاقاة النجاسة، و إن أراد بالنابع ما يوصل إليه من تحته لا أن يكون من الأرض فهو صواب»(2).

و قد أشار بقوله: «هذا أشبه» إلى ما عن الخلاف(3) في ردّ الشافعي القائل بكفاية النبع، من أنّ الطهارة بالنبع حكم مختصّ بالبئر، و من هنا يمكن أن يقال: إنّ مراد الشيخ بالنبع في العبارة المتقدّمة عن المبسوط هو ثاني ما ذكره العلاّمة في توجيهها، و معه لا يتوجّه إليه ما ذكره من الترديد.

و من جميع ما ذكر تعرف أنّ اشتراط الدفعة في كلامهم كما هو الأظهر - على ما سيأتي - إنّما هو لإحراز عنوان الوحدة، إذ بدونها لا يتأتّى الوحدة فيما بين المطهّر و المتنجّس، بل إنّما تتأتّى فيما بينه و بين جزء من المطهّر، و هو ليس بذي القوّة العاصمة فينفعل بحكم الملازمة الثانية، فورود الكرّ بل الأكرار عليه تدريجا لا يكفي في التطهير، سواء تخلّل الفصل بين الدفعات المتدرّجة أو لا، و ستعرف تفصيل القول فيه و في سائر الشروط.

ص: 556


1- منتهى المطلب 65:1، المبسوط 7:1.
2- المعتبر: 11.
3- الخلاف 193:1 المسألة 148.

و ممّا بيّنّاه - من مناط التطهير - تعرف عدم اشتراطه بعلوّ المطهّر و لا مساواته في السطح، لعدم توقّف صدق الوحدة على شيء من الوصفين، ضرورة أنّها تحصل بعد الملاقاة و الاتّصال سواء نزل إليه من عال، أو ورد عليه من مساو، أو اتّصل به من تحت بشرط كون الاتّصال حاصلا بينه و بين تمام الكرّ، كما لو كان هناك فيما بينهما حاجز فرفع، فلو جرى إليه من فوّارة و نحوها لا يكفي في الطهر لفقده ما هو مناط التطهير و هو الوحدة الحاصلة بالنسبة إلى تمام المطهّر لا جزئه.

فما قد يفصّل في المقام - من أنّه إن كان من فوّارة بحيث يكون مستعليا على الماء النجس حصل التطهّر به، إن كان استعلاؤه بحيث لا يمسّ الماء النجس إلاّ بعد نزوله، و إن كان لا من فوّارة بل إنّما ينبع ملاقيا للماء النجس فبناء على الاكتفاء بالاتّصال في التطهير بمثله، أو على تسليم الملازمة في أنّه ليس لنا ماء واحد بعضه طاهر و بعضه نجس مع القول بعدم اشتراط الكرّيّة في الجاري، اتّجه القول بالطهارة أيضا، و إلاّ أمكن المناقشة فيه لاستصحاب النجاسة - ليس على ما ينبغي.

بل الإنصاف عدم حصول الطهر في كلّ من الصورتين لانتفاء الدفعة الّتي عليها مدار الوحدة، و هو صريح المحكيّ عن العلاّمة في نهاية الإحكام من أنّه: «لو نبع من تحت فإن كان على التدريج لم يطهّره و إلاّ طهّره»(1).

و كيف كان: فاشتراط الاستعلاء أو المساواة في المطهّر خال عن الوجه، بل لم نقف عليه بقائل تحصيلا و لا نقلا، بل العبارات المتقدّمة عن فحول فقهائنا كالشيخ و العلاّمة مصرّحة في عدم الاشتراط.

نعم ربّما يستشمّ - كما في الروضة -(2) عن تعبيرهم ب «إلقاء كرّ دفعة» بناؤهم على شرطيّة العلوّ أيضا، و دونه في الإشعار بذلك ما في الروضة أيضا من أنّ المشهور اشتراط طهر القليل بالكرّ بوقوعه عليه دفعة(3).

و ما عن تذكرة العلاّمة من: «أنّا نشترط في المطهّر وقوع كرّ دفعة، قائلا - في ردّ الشافعي -: بأنّه لو نبع الماء من تحته لما يطهّر، و إن أزال التغيّر خلافا للشافعي، لأنّا نشترط في المطهّر وقوعه كرّا دفعة»(4).

ص: 557


1- نهاية الإحكام 257:1.
2- الروضة البهيّة 254:1.
3- الروضة البهيّة 254:1.
4- تذكرة الفقهاء 21:1.

و عن الشيخ في الخلاف(1) من أنّه يشترط في تطهير الكرّ الورود، و أنت بعد التأمّل في ما تقدّم من عباراتهم المصرّحة بعدم الفرق أو الظاهرة فيه تعرف أنّ هذا الاستظهار ليس في محلّه، كيف و المقصود من هذه العبارات إفادة اعتبار القيد من الكرّيّة و الدفعة دون المقيّد، كما يرشد إليه ورود بعضها في ردّ الشافعي القائل بكفاية النبع، و معه فلو بني على الأخذ بمثل هذا الظهور - بعد الغضّ عمّا ينافيه ممّا ذكر - لاتّجه اعتبار امور اخر غير الاستعلاء الّتي منها قصد التطهير، لكون الإلقاء من الأفعال الاختياريّة المنوطة بالقصد و النيّة، و هو كما ترى.

و لذا قد يقال - في توجيه التعبير بالإلقاء و الوقوع و الورود -: من أنّه إنّما وقع من جهة أنّ الغالب في تطهير المياه القليلة الباقية في الحياض المنفعلة بالملاقاة كون المطهّر ماء خارجيّا.

و قد يوجّه أيضا: بأنّ مراد من وقعت منه مثل هذه العبارات إنّما هو في مقابلة الشيخ القائل بكفاية التطهير بالنبع من تحت.

و فيه: إن اريد بالنبع ما يكون من الأرض على حدّ ما في الجاري فقد عرفت من عبارة الخلاف المتقدّمة(2) أنّ الشيخ أيضا لا يقول بالاكتفاء به، و إن اريد به وصل الكثير إليه من قعره فقد تبيّن أنّه لا يخالفه غيره كالمحقّق و العلاّمة في الاكتفاء به.

و يشهد بما ذكرناه من عدم اعتبارهم ظهور الألفاظ المذكورة هنا - مضافا إلى ما تقدّم - إطلاق الاتّفاق الّذي ادّعاه العلاّمة في المنتهى في مسألة الغديرين الموصول بينهما بساقية عند دفع كلام المحقّق المصرّح بعدم كفاية مجرّد الاتّصال في التطهير.

نعم، ربّما يظهر عن عبارة الشيخ في الخلاف المعبّرة باشتراط الورود توقّف الطهر على ورود المطهّر، فلو عكس بإيراد المتنجّس على الكرّ الطاهر لم يؤثّر في الطهر، و قضيّة إطلاق الآخرين عدم الفرق و هو الأقرب أخذا بالملازمة الثالثة المتقدّم ذكرها، المنوطة بصدق الوحدة الحاصلة في صورة العكس أيضا، بل حصولها فيه أظهر و أبين كما لا يخفى، إلاّ أن يكون ذلك في نظره شرطا تعبّديّا كالكرّيّة، غير أنّه يحتاج إلى دليل.

و يظهر الثمرة فيما لو القي الماء النجس في الكثير فيطهّر على ما ذكرناه، من غير فرق

ص: 558


1- الخلاف 193:1 المسألة 148.
2- الخلاف 193:1 المسألة 148.

بين كونه من فوق أو من تحت، كما لو كان في إناء ثمّ كسر الإناء في قعر الحوض البالغ كرّا.

و إذا تمهّد جميع ما بيّنّاه فتنقيح المسألة يستدعي رسم امور:
أحدها: النظر في اعتبار الدفعة و عدمه،

فإنّه ممّا اختلفت فيه عبائر الأصحاب فصريح أكثر العبائر المتقدّمة اعتبارها؛ و في الحدائق: «بل الظاهر أنّه المشهور بين المتأخّرين»(1)و في الروضة التصريح بالشهرة(2)، و عن ظاهر آخرين بل صريح بعضهم عدم اعتبارها.

و ربّما يشتبه المراد بالدفعة هنا فيذكر فيه وجوه، و ذلك لأنّ الكرّيّة إمّا أن تكون محرزة فيما يلقى قبل الإلقاء أو لا، بل يلقى عليه من الماء القليل مرّات إلى أن يبلغ المجموع الملقى كرّا.

و على الأوّل: فإمّا أن يلقى بعضا فبعضا على وجه يحصل الانقطاع فيما بين الأبعاض الملقاة من حين الإلقاء - كأن يلقى ثلثه فقطع، ثمّ يلقى الثلث الثاني فقطع، ثمّ يلقى الثلث الأخير - أو لا، بل يلقى المجموع بلا انقطاع فيما بين الأبعاض، و عليه فإمّا أن يتحقّق وقوع المجموع عليه في آنات متعدّدة على نحو التدريج كما لو أجرى الكرّ عليه بساقية ضيّقة، أو يتحقّق وقوعه في آن واحد عرفي - كما هو المصرّح به في كلام جماعة - أو حقيقي كما هو المنفيّ في كلامهم.

و لا ينبغي أن يكون المراد بها هنا ما يقابل المعنى الأوّل، و لا ما يقابل المعنى الثاني، لأنّ اعتبارها بكلّ من المعنيين ليس أمرا وراء اعتبار الكرّيّة، فلا معنى للخلاف فيه حينئذ لو كان الخلاف محقّقا، مع أنّ اعتبار الكرّيّة تغني عن اعتبارها، لظهور اعتبار الكرّيّة في كون المحرز للإلقاء و المعدّ له كرّا في الواقع واقعا على المتنجّس بوصف الكرّيّة.

فتعيّن أن يكون المراد ما يقابل المعنى الثالث، و هو المعنى الرابع بعينه كما صرّح به غير واحد، منهم صاحب المدارك قائلا فيه: «المراد بالدفعة هنا وقوع جميع أجزاء الكرّ على الماء النجس في آن عرفي»(3) و قريب منه ما في الحدائق(4).

و يدلّ على إرادته أيضا التقييد بالعرفي في بعض كلماتهم، بل ما تقدّم عن العلاّمة في النهاية و التذكرة أيضا في ردّ الشافعي القائل بكفاية النبع من تحته شاهد بذلك.

ص: 559


1- الحدائق الناضرة 337:1.
2- الروضة البهيّة 254:1.
3- مدارك الأحكام 40:1، مع اختلاف يسير في العبارة.
4- الحدائق الناضرة 337:1.

و اختلف في وجه اعتبار الدفعة بهذا المعنى، فقد يقال: بأنّه يحتمل أن يكون ذلك لأجل تحصيل الامتزاج، فإنّ الوقوع دفعة يوجب ذلك غالبا بل دائما، و عن حاشية الروضة لجمال المحقّقين: «إنّ في صورة إلقاء الكرّ دفعة يتحقّق الممازجة، و إنّما الخلاف في اشتراط الممازجة فيما يلق دفعة»(1).

و أن يكون اعتبارها مختصّا بصورة الإلقاء دون الاتّصال الّذي يحصل فيما بين الغديرين المتواصلين، تحرّزا عن اختلاف سطوح المطهّر فينفعل السافل منه بالملاقاة و لا يتقوّى الجزء العالي منه.

و أن يكون ذلك لاستصحاب النجاسة و لزوم الاحتياط في إزالتها بعد ذهاب جماعة إلى الدفعة، و عن حاشية الروضة(2) - المشار إليها - الاعتماد عليه.

و أن يكون الوجه فيه ما ذكره في جامع المقاصد: «من ورود النصّ بالدفعة و تصريح الأصحاب بها»(3).

بل قد يقال: بأنّ ذلك هو غاية ما يمكن الاستناد فيه إليه، و أمّا ما في المدارك من المناقشة فيه: «بأنّا لم نعثر عليه في كتب الحديث، و لا نقله ناقل في كتب الاستدلال»(4)فغير قادح في الاعتبار، إذ عدم الوجدان لا يقضي بعدم الوجود، و نسبته إلى تصريح الأصحاب مع ما في الحدائق(5) من نسبته إلى المشهور بين المتأخّرين جابران لهذا المرسل، مع أنّ استصحاب النجاسة محكّم و لا بيان لكيفيّة التطهير.

هذا كلّه: مع التأييد بأنّ مع التدريج ينجّس كلّ جزء يصل إلى الماء النجس لعدم تقوّي السافل بالعالي.

و أنت خبير بما في هذه الوجوه من الوهن الواضح.

أمّا الوجه الأوّل: فلأنّ النسبة بين الدفعة و الممازجة - على ما يشهد به التأمّل الصادق - عموم من وجه يجتمعان في مادّة و يفترقان في اخريين، و لذا ترى أنّ العلاّمة

ص: 560


1- حاشية الروضة البهيّة - للخوانساري رحمه اللّه - (الطبعة الحجريّة): 12 في ذيل قول المصنّف: «و كذا لا يعتبر ممازجته» الخ مع اختلاف يسير في العبارة.
2- حاشية الروضة البهيّة - للخوانساري - (الطبعة الحجريّة): 12 حيث قال: «فيكفي لنا دليلا على اعتبارها ذهاب جمع من الأصحاب إلى اعتبارها و عدم دليل لنا على التطهير بدونها فتأمّل».
3- جامع المقاصد 133:1.
4- مدارك الأحكام 140:1.
5- الحدائق الناضرة 337:1.

في المنتهى مع أنّه صرّح باعتبار الدفعة(1) أنكر على بعض الأصحاب - و هو المحقّق على ما هو ظاهر ما تقدّم - اعتبار الممازجة، مصرّحا في الغديرين المتواصلين بكفاية الاتّصال الموجود هنا(2).

فما عرفت عن جمال المحقّقين من أنّ في صورة إلقاء الكرّ دفعة يتحقّق الممازجة في حيّز المنع؛ لعدم الملازمة بينهما كما لو وضع على الماء المتنجّس كرّ محرز في إناء على وجه يتحقّق معه المماسّة بين سطحيهما بدون مداخلة، و على فرض تسليم استلزامه المداخلة لا محالة فهي ليست من الممازجة المقصودة هنا، بل هي مداخلة في الجملة فتكون أعمّ أيضا.

و أمّا الوجه الثاني: فلأنّه تقييد في إطلاق كلامهم من وجهين؛ فالتقييد الأوّل ينافي إطلاق اشتراطهم الدفعة كالمحقّق و العلاّمة في المعتبر(3) و المنتهى(4)، كما أنّ التقييد الثاني ينافي إطلاقهم في عدم انفعال الكرّ بالملاقاة، المقتضي لعدم الفرق بين استواء السطوح و اختلافها، المستلزم لأن يكون كلّ من الأعلى و الأسفل متقوّيا بالآخر كما في الكتابين أيضا.

و الظاهر أنّ مرادهم بالدفعة ما يعمّ إلقاء تمام الكرّ عليه في آن واحد عرفي، و وصله إليه إذا كان في غدير يمكن وصله إليه، و منه مسألة الغديرين المتواصلين، لأنّ مناط نظرهم - على ما عرفت من الملازمة الثالثة - حصول عنوان الوحدة فيما بين الماءين من حين اللقاء و لا يتأتّى ذلك إلاّ بأحد الوجهين، هذا مضافا إلى ما ستعرف في الاعتراض على ما يأتي عن صاحب المدارك و المعالم.

و أمّا الوجه الثالث: فلأنّ الاستصحاب - مع أنّ المقصود من اعتبار الدفعة إحراز شرط لا حاجة له عند التحقيق إليها و هو الوحدة بين الماءين - ليس في محلّه.

و أمّا الوجه الرابع: فلأنّ النصّ المدّعى وروده ممّا لا أثر له أصلا، و إلاّ كانت العادة قاضية بنقله إلينا و ضبطه في الكتب لعموم البلوى به و من هنا أنكره في المدارك(5)، و لو سلّم فهو مرسل لا جابر له، إذ ما تقدّم ممّا ادّعي كونه جابرا لا يصلح جابرا كما هو

ص: 561


1- منتهى المطلب 64:1.
2- منتهى المطلب 54:1-53.
3- المعتبر: 11.
4- منتهى المطلب 64:1.
5- مدارك الأحكام 40:1.

واضح، مع إمكان كون مراد من ادّعاه به غير معناه المصطلح عليه على أن يكون عطف تصريح الأصحاب عليه تفسيرا له.

فتحقيق المقام أن يقال: إنّ الدفعة إن اريد بها ما يكون شرطا تعبّديّا فالمتّجه منع اعتبارها، لانتفاء الدلالة عليه شرعا.

و إن أريد بها ما يكون مقدّمة لإحراز الوحدة بين الماءين - الكرّ و المتنجّس - الرافعة للتمييز بينهما، فاعتبارها ممّا لا محيص عنه، بناء على ما تقدّم من الملازمة المتوقّفة عليها.

و لكن ينبغي أن يراد بالدفعة حينئذ ما يعمّ الإلقاء في آن واحد، و إيجاد الاتّصال بين الكرّ و المتنجّس في موضع عدم إمكان الإلقاء، كما لو كانا في حوضين أو غديرين فوصل بينهما على وجه صارا حوضا أو غديرا واحدا، و ذلك ممّا لا يقتضي ممازجة و لا مداخلة، و لا يكفي فيه إجراء الكرّ إليه على وجه يدخل فيه جزء فجزء و إن لم يحصل الانقطاع في الأثناء، إذ لا يتحقّق معه الوحدة بينه و بين تمام الكرّ؛ و الوحدة الحاصلة بينه و بين أجزاء الكرّ ليست من الوحدة بينه و بين الكرّ، و ذلك يوجب انفعال كلّ جزء منه يدخل فيه و يتّحد معه، لا لأنّ الكرّ يشترط في عدم انفعاله مساواة السطوح، بل لأنّ الجزء المفروض بمجرّد اتّحاده مع الماء المتنجّس يخرج عن كونه جزء من الكرّ و يدخل في عنوان الجزئيّة للماء المتنجّس، و المفروض أنّه بنفسه غير معتصم فينفعل لا محالة، بل لو دخل فيه كرور كثيرة بهذا الوجه انفعل المجموع بانفعال أجزائها المجتمعة فيه المتّحدة معه، كما لو القي عليه مياه قليلة بدفعات متكرّرة.

و لعلّه إلى ما ذكرنا من كفاية الاتّصال الحاصل في بعض الصور ينظر ما نسب إلى الشهيد في الذكرى؛ و إن كان لا يوافق ما تقدّم عنه فيه(1) أيضا سابقا من الاكتفاء بإلقاء كرّ عليه متّصل مع عدم اشتراط الدفعة.

و لكنّ الإنصاف: أنّ ظاهر مراده بالاتّصال هنا اتّصال أجزاء الكرّ الملقى بعضها ببعض، احترازا عمّا القي بدفعات متكرّرة على وجه يتحقّق الانفصال فيما بينها؛ و الاتّصال بهذا المعنى أحد المعاني المتقدّمة للدفعة، فالقول بأنّه لم يشترط الدفعة بإطلاقه في غير محلّه.

و من هنا ظهر أنّه لا وقع لما عن المحقّق الشيخ عليّ من الاعتراض عليه: «بأنّ فيه

ص: 562


1- ذكرى الشيعة 85:1.

تسامحا لأنّ وصول أوّل جزء منه إلى النجس يقتضي نقصانه عن الكرّ، فلا يطهّر حينئذ و لورود النصّ بالدفعة، و تصريح الأصحاب بها»(1).

فإنّ وجه الاعتراض إن كان أنّه أهمل الدفعة بالمرّة و لم يعتبرها، ففيه: أنّ الاتّصال الّذي صرّح به أحد معاني الدفعة.

و إن كان أنّه لم يعتبر الزيادة على الكرّ في مقام التطهير لئلاّ يخرج عند الاتّصال عن الكرّيّة.

ففيه: منع خروجه عنها باتّصال أوّل جزء منه بالماء المتنجّس، لأنّ مجرّد اتّصاله به بواسطة هذا الجزء يوجب تحقّق الوحدة فيما بينهما الّتي هي مناط حكم التطهير و موضوع الملازمة المتقدّمة المجمع عليها، فإنّ في آن الاتّصال يحصل الوحدة و يقارنها طهره عند ذلك بلا تراخي زمان.

و لا ينافيه كون الوحدة شرطا مأخوذا في موضوع الملازمة فلا بدّ من تقدّمها على الطهر، ضرورة تقدّم الشرط على مشروطه فكيف يقارنها الطهر في آن واحد، لأنّ أقصى ما يقتضيه عنوان الشرطيّة - كما هو الحال في سائر المقدّمات - إنّما هو التقدّم بحسب الذات و هو حاصل في المقام، و لا ينافيه المقارنة بحسب الزمان، فلا [وجه](2)للاعتراض المذكور في شيء من الاحتمالين.

إلاّ أن يقال: بأنّ المقصود منه هو الاحتمال الأوّل، لكن وجهها: أنّ الاتّصال بمعنى الدفعة بالمعنى المذكور ليست من الدفعة الّتي هي المقصودة في المقام اللازم اعتبارها، لشموله ما لو دخل فيه الكرّ الواحد على سبيل التدريج و المفروض أنّه غير كاف على التحقيق، فحينئذ كانت الاعتراض بنفسه متّجها غير أنّ صدر العبارة تأبى عن إرادة هذا المعنى؛ و إنّما هو ظاهر في دعوى اعتبار الزيادة على الكرّ، إلاّ أن يقال أيضا: إنّ العبارة صدرا و ذيلا تتضمّن دعوى اعتبار أمرين:

أحدهما: الزيادة على الكرّ، و قد أشار إليه بصدر العبارة.

و ثانيهما: الدفعة بالمعنى المبحوث عنه، فأشار إليه بدعوى ورود النصّ و التصريح.

لكن يرد عليه في اعتبار الأمر الأوّل: أنّ مجرّد وصول الجزء إلى النجس لو كان

ص: 563


1- جامع المقاصد 133:1.
2- زيادة يقتضيها السياق.

مقتضيا للنقصان لما كانت الزيادة مجدية في رفع المحذور، لأنّ ذلك الاقتضاء لا يستقيم إلاّ مع سبق الجزء على الكلّ في الوصول إليه، فلو فرض الإلقاء على نحو يستلزم سبق بعض الأجزاء على بعض في الوصول فهذا المعنى يتحقّق بالنسبة إلى ما يلحق الجزء الأوّل، فإنّه أيضا سابق بالقياس إلى لاحقه و هكذا إلى أن ينتهي إلى النقصان بل إلى آخر الأجزاء، فيلزم أن لا يطهّر أبدا و لو بإلقاء كرور على هذا الوجه، و هذا كما ترى.

مع أنّ اعتبارهم الدفعة و تقييدهم إيّاها بالعرفيّة في معنى اعتبار عدم سبق بعض أجزاء الكرّ على بعض آخر في الملاقاة إذا اريد بالسبق وجودا و عدما ما يكون عرفيّا، فإنّ عدم السبق العرفي متحقّق مع الدفعة العرفيّة جزما، و إذا اريد به ما يكون عقليّا فلا يتحقّق الشرط أبدا فيلزم محذور عدم حصول الطهر أبدا.

و ممّا يرشد إلى ما ذكرناه آنفا - من أنّ الاتّصال بالمعنى الّذي اكتفينا به بالنسبة إلى الغديرين أو الحوضين المتواصلين داخل في الدفعة المشترطة ما في منتهى العلاّمة من تقييد العنوان بالدفعة(1)، مع ما عرفت منه من التصريح بكفاية الاتّصال الموجود في الغديرين المتواصلين(2)، و لا ينبغي أن يكون مراده بالدفعة هنا مجرّد الاتّصال بين أجزاء الكرّ احترازا عمّا يلقى متفرّقة الأجزاء كما فهمه ثاني الشهيدين - فيما حكي عنه في شرح الدروس -(3) لأنّ ذلك مناف لما سمعت عنه في دفع كلام الشيخ في المبسوط(4) و ما حكي عنه في التذكرة(5) فراجع و تأمّل.

ثمّ إنّ لصاحب المعالم رحمه اللّه تفصيلا في المقام، محكيّا عنه في كلام غير واحد من الأعلام، قائلا في معالمه: «و التحقيق في ذلك أنّه لا يخلو إمّا أن يعتبر في عدم انفعال مقدار الكرّ استواء سطحه أو لا، و على الثاني إمّا أن يشترط في التطهير حصول الامتزاج أو لا، و على تقدير عدم الاشتراط إمّا أن يكون حصول النجاسة عن مجرّد الملاقاة أو مع التغيّر، فهاهنا صور أربع:

الاولى: أن يعتبر في عدم انفعال الكرّ استواء السطح، و المتّجه حينئذ اشتراط الدفعة في الإلقاء، لأنّ وقوعه تدريجا يقتضي خروجه عن المساواة فينفعل الأجزاء الّتي

ص: 564


1- منتهى المطلب 64:1.
2- منتهى المطلب 54:1.
3- مشارق الشموس: 193.
4- منتهى المطلب 65:1، المبسوط 7:1.
5- التذكرة 23:1.

يصيبها الماء النجس، و ينقص الطاهر عن الكرّ فلا يصلح لإفادة الطهارة، و لا فرق في ذلك بين المتغيّر و غيره لاشتراك الكلّ في التأثير في القليل، و المفروض صيرورة الأجزاء بعدم المساواة في معنى القليل.

الثانية: أن يهمل اعتبار المساواة و لكن يشترط الامتزاج، و الوجه حينئذ عدم اعتبار الدفعة بل ما يحصل به ممازجة الطاهر بالنجس و استهلاكه، حتّى لو فرض حصول ذلك قبل إلقاء تمام الكرّ لم يحتج إلى الباقي، و لم يفرّق هنا أيضا بين المتغيّر و غيره، لكن يعتبر في المتغيّر مع الممازجة زوال تغيّره، فيجب أن يلقى عليه من مقدار الكرّ ما يحصل به الأمران.

و لو قدّر قوّة المتغيّر بحيث يلزم منه تغيّر شيء من أجزاء الكرّ حال وقوعها عليه وجب مراعاة ما يؤمن معه ذلك الأمر بتكثّر الأجزاء أو بإلقاء الجميع دفعة.

الثالثة: أن لا يشترط الممازجة و لا يعتبر المساواة و يكون نجاسة الماء بمجرّد الملاقاة، و المتّجه حينئذ الاكتفاء بمجرّد الاتّصال، فإذا حصل بأقلّ مسمّاه كفى و لم يحتج إلى الزيادة منه.

الرابعة: الصورة بحالها و لكن كان النجاسة للتغيّر، و المعتبر حينئذ اندفاع التغيّر كما في صورة اشتراط الامتزاج، و حينئذ لو فرض تأثير المتغيّر في بعض الأجزاء يتعيّن الدفعة و ما جرى مجراها كما ذكر، و حيث قد تقدّم منّا الميل إلى اعتبار المساواة فاعتبار الدفعة متعيّن»(1) انتهى.

و لا يخفى ما في هذا التفصيل من الخروج عن السداد، و العدول في جميع صوره عن جادّة الصواب.

أمّا الصورة الاولى: فيرد على ما حقّقه فيها أوّلا: منع ابتناء اعتبار الدفعة هنا على اشتراط مساواة السطوح في عدم انفعال الكرّ، فإنّ القول باشتراط المساواة إنّما نشأ عن توهّم توقّف اعتصام الكرّ عن الانفعال على صدق عنوان الوحدة على ما يصدق عليه عنوان الكرّيّة، و لا يتأتّى ذلك إلاّ مع مساواة السطوح.

و كما أنّ اعتصام الكرّ عن الانفعال يتوقّف على صدق الوحدة عليه - على هذا

ص: 565


1- فقه المعالم 155:1-156.

القول - فكذلك طهر الماء النجس بإلقاء الكرّ يتوقّف على صدق عنوان الوحدة على المجموع منه و من الكرّ الملقى عليه و لا يتأتّى ذلك إلاّ مع الدفعة، إذ الوحدة الحاصلة مع التدريج حاصلة بينه و بين أبعاض الكرّ لا بينه و بين الكرّ، و لازمه انفعال الأبعاض بمجرّد الملاقاة، سواء قلنا باشتراط المساواة في الاعتصام عن الانفعال في غير الصورة المفروضة أو لم نقل، فلا معنى لتفريع اشتراط الدفعة على أحد القولين دون الآخر.

ثمّ على القول باشتراط المساواة فالمقتضي لانفعال الأجزاء ليس هو صيرورتها من جهة عدم المساواة في معنى القليل، بل خروجها بمجرّد الدخول في الماء المتنجّس عن جزئيّة الكرّ و اتّحادها مع النجس؛ بناء على الملازمة الثانية المتقدّمة.

و ممّا ذكر جميعا انقدح ضعف ما ذكره في الصورة الثانية من اعتبار ما يحصل به الممازجة دون الدفعة - بناء على الإهمال في اعتبار المساواة - فإنّ ذلك غير كاف جزما؛ هذا مضافا إلى بطلان ما ذكره من عدم الاحتياج إلى القاء تمام الكرّ لو فرض استهلاك الماء النجس بالطاهر قبل إلقاء التمام، فإنّ الحكم معلّق على عنوان الكرّيّة مع تحقّق الوحدة بين الماءين كما عرفت؛ و كيف يجتمع هذا العنوان قبل إلقاء التمام.

مع أنّ الاستهلاك لو اريد به مجرّد زوال الامتياز في نظر الحسّ فهو معتبر بالقياس إلى نفس الكرّ لا مجرّد ما حصل منه الممازجة بينه و بين النجس، و لو اريد به مقهوريّة النجس في جنب الطاهر الممازج معه فهو كثيرا ما - بل دائما - يحصل بين ما لو كان الطاهر الملقى قريبا من الكرّ، بل كثيرا غير بالغ حدّ الكرّيّة و كان النجس بالقياس إليه أقلّ قليل، فبناء على عدم الحاجة إلى إلقاء تمام الكرّ على تقدير حصول الاستهلاك يلزم حصول الطهر في تلك الصورة أيضا، لأنّ وجود ما لا يحتاج إلى إلقائه بمنزلة عدمه؛ فأين اعتبار الكرّيّة المجمع على اعتبارها؟.

إلاّ أن يقال: إنّ اعتبار التمام إنّما هو لحفظ المطهّر عن الانفعال، لكنّه لا يجدي في دفع محذور عدم اعتبار الكرّيّة في مسألة التطهير.

و انقدح: بما ذكر أيضا عدم كون ما ذكره في حكم الصورة الثالثة على ما ينبغي؛ فإنّ مسمّى الاتّصال غير كاف جزما حيث لم يرد فيه نصّ لفظي؛ و لا أنّ الاتّصال مأخوذ عنوانا في الأدلّة اللفظيّة حتّى يكتفى بمسمّاه بناء على الإطلاق، و إنّما الحكم مستفاد من الإجماع

ص: 566

معلّق على وصفي الكرّيّة و الوحدة - حسبما قرّرناه - فلا بدّ حينئذ من الاتّصال بقدر ما يجمع معه الوصفان؛ على معنى أن يصدق الوحدة عرفا على الماء النجس مع الكرّ الملقى عليه و غيره، و لو مع القول بعدم اشتراط الممازجة و لا المساواة في عدم انفعال الكرّ.

و منه يظهر الضعف في حكم الصورة الرابعة، فإنّ مجرّد الزوال غير كاف في الطهر لو فرض حصوله بما دون الكرّ أو ببعضه، لما تبيّن سابقا من أنّ الكرّيّة إنّما اعتبرت لا لزوال التغيّر، و اعتبار زوال التغيّر المصرّح به في كلامهم ليس من جهة أنّه بنفسه مقتض للطهر كما قيل به في الكرّ أو الجاري المتغيّر؛ بل من جهة أنّ وجوده و بقاءه مانع عن حصول الطهر بالكرّ؛ و إذ قد عرفت أنّ الكرّ بشرط اتّحاده مع النجس مناط للحكم فلا بدّ من اعتبار الدفعة أو الاتّصال الرافعين للتمييز بين الماءين، سواء زال التغيّر بدون ذلك أو لا، و سواء أهملنا اعتبار الممازجة و المساواة أو لا.

فصار محصّل المقام: أنّ الدفعة بالمعنى الشامل للاتّصال الرافع للتمييز ممّا لا محيص عنه في كلّ التقادير؛ و من هنا وردت الفتاوى في اعتبار الدفعة مطلقة، و لا يقدح في اعتبارها من جهة الإجماع على الملازمة الثالثة عدم ورود اعتبارها في كلام بعضهم، أو تصريحه بعدم الاعتبار، لأنّ ذلك مخالفة - على فرض تحقّقها و استقرارها - ترجع إلى أمر صغروي و هو أنّ الوحدة ربّما تحصل بدون الدفعة، فإنّا أيضا نوافق على هذه الدعوى على تقدير صدق الفرض و صحّته؛ ضرورة أنّ الدفعة إنّما نعتبرها توصّلا إلى إحراز الوحدة لا تعبّدا.

و ثانيها: النظر في اعتبار الامتزاج و عدمه،
اشارة

فإنّه أيضا ممّا اختلفت فيه كلمة الأصحاب، و قد عرفت عن العلاّمة في المنتهى(1) التصريح بكفاية الاتّصال في مسألة الغديرين عند دفع كلام المحقّق، و عزى إليه أيضا في التحرير(2) و النهاية(3)، و هو محكيّ عن المحقّق و الشهيد الثانيين(4)، و هو ظاهر المحقّق في الشرائع(5) حيث أطلق إلقاء

ص: 567


1- منتهى المطلب 53:1.
2- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 4.
3- نهاية الإحكام 232:1.
4- و الحاكي هو صاحب فقه المعالم 149:1 - جامع المقاصد 133:1 - الروضة البهيّة 258:1.
5- لشرائع الإسلام 7:1.

الكرّ دفعة خلافا لجماعة، قيل: و نسب إلى الأشهر.

و عن بعضهم: أنّ القول بالامتزاج لم يعرف ممّن قبل المحقّق في المعتبر(1)، و ربّما عزى إلى الشيخ في الخلاف مستشهدا بأنّه في الاستدلال على طهر الكثير المتغيّر - بأن يرد عليه من الكثير ما يزيل تغيّره - قال: «إنّ البالغ الوارد لو وقع فيه عين النجاسة لم ينجّس؛ و الماء المتنجّس ليس بأكثر من عين النجاسة»(2)، ثمّ ذكر في القليل النجس:

«أنّه لا يطهّر إلاّ بورود كرّ عليه لما ذكرنا من الدليل»(3) انتهى.

قيل في وجه الاستشهاد بذلك: و لا ريب أنّ تمسّكه بأولويّة المتنجّس بالطهارة من عين النجاسة لا يصحّ إلاّ مع امتزاجه بالكرّ و استهلاكه؛ إذ مع الامتياز لا يطهر عين النجاسة حتّى يقاس عليه المتنجّس.

و لا يخفى ما فيه من الاشتباه الواضح، فإنّ الأولويّة المشار إليها هنا مدّعاة في عدم انفعال الكثير الملقى على المتنجّس لتطهيره، لا في طهر المتنجّس و زوال نجاسته، و أحدهما ليس بعين الآخر.

و توضيح ذلك - بناء على ما تقدّم إليه الإشارة من الملازمة المجمع عليها - أنّ الكثير إذا القي على المتنجّس فلا محالة إمّا أن يتأثّر هو من المتنجّس فينجس، أو يتأثّر المتنجّس منه فيطهر، و الأوّل ممّا لا سبيل إليه، لأنّ الكثير من حكمه أن لا ينجس بمجرّد ملاقاة عين النجاسة فكيف بالمتنجّس و هو أهون من العين، فإنّه أولى بعدم التأثير لعرضيّة نجاسته، فتعيّن الثاني لبطلان الواسطة بالإجماع على الملازمة، و هذا المعنى على ما هو صريح العبارة ممّا لا ربط له بما ذكر و لا فيه إشعار باعتبار الممازجة.

و قد يستظهر القول بالامتزاج من كلّ من ذكر في الجاري المتغيّر أنّه يطهّر بتدافع الماء من المادّة و تكاثره حتّى يزول التغيّر، كما في المقنعة(4) و المبسوط(5) و السرائر (6)و الوسيلة؛(7) فإنّ اعتبار زوال التغيّر بالتدافع و التكاثر لا يكون إلاّ لاعتبار الامتزاج، إذ لو

ص: 568


1- حكاه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة عن شارح الروضة 138:1 - لاحظ المناهج السويّة (مخطوط): 30 - المعتبر: 11.
2- الخلاف 193:1 المسألة 148 و 149.
3- الخلاف 193:1 المسألة 148 و 149.
4- المقنعة: 66.
5- المبسوط 6:1.
6- السرائر 62:1.
7- الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة 414:2).

كفى الاتّصال كان الطهر بمجرّد زوال التغيّر كما في اللمعة(1) و الجعفريّة(2).

و هذا أيضا بمكان من الوهن، فإنّ إفراد الجاري المتغيّر بهذا التعبير و جعل اعتبار الوصفين مغيّا بغاية زوال التغيّر - على فرض استلزامهما الامتزاج - يأبى عن كون ذلك لتوقّف الطهر عليه، مع ملاحظة أنّ توقّف زوال التغيّر في الغالب عليهما أمر حسّي لا يقبل الإنكار.

و ظنّي أنّ هذا التعبير في الجاري المتغيّر نظير تعبيرهم في القليل المتغيّر بأنّه يطهّر بإلقاء كرّ عليه فما زاد كما في الشرائع(3) و غيره؛ مع إجماعهم على أنّ الزيادة على الكرّيّة لا تعتبر إلاّ حيث يتوقّف عليها زوال التغيّر.

و قال في المنتهى: «و الواقف إنّما يطهّر بإلقاء كرّ عليه دفعة من المطلق بحيث يزول تغيّره، و إن لم يزل فبإلقاء كرّ آخر عليه و هكذا»(4) و قال أيضا بعد ذلك بقليل: «الماء القليل و إن لم يتغيّر بالنجاسة فطريق تطهيره بإلقاء كرّ عليه أيضا دفعة، فإن زال تغيّره فقد طهر إجماعا، و إن لم يزل وجب إلقاء كرّ آخر و هكذا إلى أن يزول التغيّر»(5).

فاعتبار التدافع و التكاثر في كلامهم ليس إلاّ من حيث توقّف زوال التغيّر عليهما، و لذا أنّ العلاّمة في المنتهى صدر منه العبارة المذكورة بعينها مع أنّ ظاهره فيه بل صريحه في بعض مواضع منه كفاية مجرّد الاتّصال و عدم اعتبار الامتزاج، فما عن جامع المقاصد (6)أيضا من جعله التعبير بتلك العبارة مبنيّا على اعتبار الامتزاج، ليس على ما ينبغي.

فالإنصاف: أنّ هذا القول صريحا لم يثبت إلاّ من المحقّق و العلاّمة و الشهيد في المعتبر و التذكرة و الذكرى، فعن المعتبر في مسألة الغديرين المتواصلين ما تقدّم من قوله: «لو نقص الغدير عن كرّ فوصل بغدير آخر فيه كرّ ففي طهارته تردّد؛ و الأشبه بقاؤه على النجاسة لأنّه ممتاز عن الطاهر، و النجس لو غلب الطاهر ينجّسه مع ممازجته فكيف مع مباينته»(7).

و ربّما يستظهر ذلك من كلامه الآخر فيه، قائلا - في الاستدلال على طهارة القليل النجس بورود كرّ من الماء عليه -: «بأنّ الوارد لا يقبل النجاسة و النجس مستهلك» (8)فإنّه كالصريح في اعتبار الامتزاج.

ص: 569


1- اللمعة الدمشقيّة: 15.
2- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 83:1.
3- شرائع الإسلام 7:1.
4- منتهى المطلب 64:1 و 65.
5- منتهى المطلب 64:1 و 65.
6- جامع المقاصد 135:1.
7- المعتبر: 11.
8- المعتبر: 11.

و ضعفه واضح بعد ملاحظة ما ذكرناه في المسألة المتقدّمة من ظهور كون الاستهلاك بالنسبة إلى النجس مرادا به فوات التمييز بينه و بين الكرّ، و هذا كما ترى يحصل بغير الامتزاج أيضا، كيف لا مع أنّ الاستهلاك بالمعنى الّذي يحصل من المداخلة و الامتزاج في كثير من صور المسألة متساوي إلى الطاهر و النجس، كما لو كان النجس أقلّ من الكرّ الطاهر بيسير، فالقول بتحقّق الاستهلاك في مثل ذلك بالنسبة إلى النجس ليس بأولى من القول بتحقّقه بالنسبة إلى الكرّ الطاهر؛ فلو لا أنّ المناط حينئذ انتفاء التمايز بينهما الموجب لجريان الملازمة المجمع عليها - المتقدّم إليها الإشارة - لاتّجه الحكم بنجاسة الطاهر لمكان الاستهلاك الموجب للنجاسة عندهم، فتأمّل.

و قال العلاّمة في التذكرة - على ما حكي عنه -: «لو وصل بين الغديرين بساقية اتّحدا إن اعتدل الماء، و إلاّ ففي حقّ السافل، فلو نقص الأعلى عن الكرّ انفعل بالملاقاة؛ فلو كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتّصال، و انتقاله إلى الطهارة مع الممازجة.

لأنّ النجس لو غلب على الطاهر نجّسه مع الممازجة فمع التمييز يبقى على النجاسة»(1).

و عن الذكرى: «و يطهّر القليل بمطهّر الكثير ممازجا، فلو وصل بكرّ مماسّة لم يطهّر، للتمييز المقتضي لاختصاص كلّ بحكمه(2) الخ».

و ربّما يستظهر ذلك عن كلامه الآخر قائلا - عقيب ما ذكر -: «لو نبع الكثير من تحته - كالفوّارة - فامتزج طهّره، لصيرورتهما ماء واحدا، أمّا لو كان رشحا لم يطهّر لعدم الكثرة الفعليّة»(3) نظرا إلى أنّ مراده من الكثرة الفعليّة ما يحصل به الامتزاج لا بلوغ الكرّ، إذ لا يعتبر عنده الكرّيّة في النابع، و لو فرض النابع في كلامه بئرا أو كونه قائلا بانفعال مطلق النابع القليل كان اللازم تعليل الحكم بنجاسة النابع بالملاقاة كما في المعتبر(4) و المنتهى(5).

و أنت خبير أيضا بما فيه من الخروج عن استقامة السليقة، فإنّه فرض النبع في الكثير إذا تحقّق من تحت النجس كالفوّارة، فليس مراده به النابع المصطلح عليه في الجاري حتّى يقال: بأنّه لا يقول بانفعال قليله، و من المعلوم أنّ مطهّر القليل اتّحاده مع

ص: 570


1- التذكرة 23:1.
2- ذكرى الشيعة 85:1.
3- ذكرى الشيعة 85:1.
4- المعتبر: 11.
5- منتهى المطلب 65:1.

الكرّ الفعلي، بأن يتّحد مع نفس الكرّ دون ما يرشّح منه شيئا فشيئا، فمراده بعدم الكثرة الفعليّة - كما تقدّم الإشارة إليه أيضا - الكرّيّة الفعليّة فيما يحصل الاتّحاد بينه و بين المتنجّس الّتي هي مناط التطهير.

و كيف كان فالعبارات المذكورة من هؤلاء الأساطين صريحة في اعتبار الممازجة، غير أنّه لا يتحقّق بمجرّد ذلك إجماع و لا شهرة في الاعتبار، فلا ندري أنّ دعوى الشهرة أو الأشهريّة من أين حصلت؟ مع أنّها معارضة بعباراتهم الاخر الّتي هي بين صريحة و ظاهرة في عدم الاعتبار كما عرفته عن العلاّمة في كتبه المتقدّم إليها الإشارة؛(1) و عن ظاهر الشرائع و هو المحكيّ عن اللمعة، فيحتمل حينئذ رجوعهم عمّا بنوا عليه الأمر أوّلا من اعتبار الممازجة، مع أنّ التعليلات الواردة في عباراتهم المتقدّمة تقضي بأنّه ليس بشرط تعبّدي، و إنّما هو معتبر لإحراز الوحدة بين الماءين و رفع التمييز الّذي يوجب لأن يلحق كلّ واحد حكمه السابق.

و إذا كان مناط الحكم هو هذا، فنحن نقول: إنّه قد يتأتّى مع عدم الممازجة أيضا، فقضيّة ذلك إناطة الحكم بالوحدة الرافعة للتمييز، و جعل الممازجة و غيرها كالدفعة - على ما بنينا عليه - مقدّمة لها، فيقال باعتبار كلّ في موضع التوقّف عليه لا مطلقا.

و قد ينقل في المقام قول ثالث، و هو التفصيل بين الجاري و ماء الحمّام و بين غيرهما، فيشترط الامتزاج في الأوّلين، و نسب إلى ظاهر المنتهى و النهاية و التحرير و الموجز و شرحه(2) من حيث إنّهم حكموا بالطهارة بتواصل الغديرين(3)، و عبّروا في الجاري بأنّه يطهّر بالتدافع و التكاثر(4)، و اعتبروا في طهارة ماء الحمّام استيلاء الماء من المادّة عليه إمّا مطلقا - كما في كتب العلاّمة - أو مع عدم تساوي سطح الطاهر و النجس كما في الأخيرين(5).

و بما ذكرناه في توجيه ما ذكروه في الجاري يظهر ضعف هذا الاستظهار بالنسبة إلى الجاري من العبارة المذكورة؛ و أمّا بالنسبة إلى ماء الحمّام فقد قيل في ردّه: «بظهور

ص: 571


1- تقدّم تخريج كلمات هؤلاء الأعلام آنفا، فلا نعيد.
2- نسب إليهم المحقّق الشيخ أسد اللّه الكاظمي في مقابس الأنوار: 82. (3-5) منتهى المطلب 53:1، نهاية الإحكام 259:1. تحرير الأحكام 4:1، الموجز الحاوي (الرسائل العشر: 36)، كشف الالتباس 48:1 و 42 و 43.

عدم قائل بكون ماء الحمّام أغلظ حكما من غيره»، هذا مع ما عن الموجز و شرحه(1)من أنّ صريحهما عدم الفرق بين ماء الحمّام و غيره من الحياض الصغار.

و قد يحكى(2) هذا الفصل بعكس ما ذكر من أنّ الامتزاج يختصّ بغير الجاري و ماء الحمّام تعويلا على صحيحة ابن بزيع - المتقدّمة -(3) المعلّلة بوجود المادّة، و مرسلة الكاهلي المتقدّمة: «كلّ شيء يراه المطر فقد طهر»(4)، و قوله عليه السّلام «ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا»(5)، و مستنده على فرض ثبوته ضعيف كما ستعرفه.

و أمّا القول بالاعتبار مطلقا فلا مستند له إلاّ وجهان:

أحدهما: ما يستفاد من بعض تعليلاتهم - كما عرفت - من توقّف صدق عنوان الوحدة و زوال امتياز الماءين على الممازجة.

و جوابه: ما سمعت مرارا من منع التوقّف.

لكن ربّما يشكل ذلك لو كان الحكم المجمع عليه منوطا بزوال الامتياز، بدعوى:

أنّ المانع عن الطهر هو الامتياز كما سمعته في عبارتي المعتبر(6) و الذكرى(7) لإمكان الفرق بين الوحدة و عدم الامتياز بنحو ما يفرّق به بين العامّ و الخاصّ المطلقين، لإمكان فرض الوحدة مفارقة عن عدم الامتياز كما في وصل الغديرين أحدهما إلى الآخر على وجه يفرض بينهما في الذهن - بل الخارج أيضا - حدّ فاصل، كما لو علّم موضع تلاقيهما من خارج حيّزيهما، فالمجموع بملاحظة ما حصل بينهما من الاتّصال الحسّي ماء واحد، و كلّ واحد بملاحظة الحدّ الفاصل أو الموضع المعلّم ماء ممتاز عن صاحبه، و حينئذ فلم يثبت كون معقد الإجماع هو الوحدة فقط، و مع مانعيّة الامتياز لا محيص عن اعتبار الامتزاج إحرازا لرفع المانع.

ص: 572


1- الموجز الحاوي (الرسائل العشر: 36) - كشف الالتباس 43:1.
2- حكاه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة 150:1 عن بعض معاصريه، و لعلّه صاحب الجواهر، راجع جواهر الكلام 149:1، قوله: «هذا كلّه في إلقاء الكرّ...» الخ.
3- الوسائل 172:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 6.
4- الوسائل 146:1 ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 5.
5- الوسائل 150:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 7.
6- المعتبر: 11.
7- ذكرى الشيعة 85:1.

و يدفعه: أنّ ظاهرهم كون اعتبار الامتياز وجودا و عدما، و التعليل به في صورة الحكم بعدم الطهر وارد في كلامهم أيضا لتوهّم كونه مساوقا لعدم الوحدة، و كون زواله مساوقا للوحدة و إلاّ فالحكم منوط بالوحدة، أ لا ترى أنّ الشهيد في أوّل كلامه في العبارة المتقدّمة منه في الذكرى علّل الحكم بعدم الطهر لمجرّد الوصل بالتمييز، المقتضي لاختصاص كلّ بحكمه؛ ثمّ قال: «و لو نبع الكثير من تحته - كالفوّارة - فامتزج طهّره لصيرورتهما ماء واحدا»(1) و هذا كالصريح في أنّ اعتبار الامتزاج و إن كان لإحراز عدم التمييز بين الماءين غير أنّ عدم التمييز مساوق للوحدة الّتي هي مناط الحكم، و إلاّ لزم كون تعليله بصيرورتهما ماء واحدا تعليلا للحكم المعلّق على الخاصّ بالعامّ كما لا يخفى و هو قبيح.

و قد عرفت في المسألة السابقة عن المحقّق أنّ تعليله بقوله: «لأنّه ممتاز عن الطاهر»(2) إنّما هو في موضع حكم فيه على الماء بكونه كالماء الواحد، المقتضي بظاهر التشبيه انتفاء الوحدة الحقيقيّة؛ فغرضه من اعتبار الممازجة الّتي لا تتأتّى مع الامتياز إنّما هو إحراز كون الماءين ماء واحدا بعنوان الحقيقة، لعدم كفاية مجرّد كونهما كالماء الواحد هنا كما كان كافيا في حكم عدم الانفعال المنوط بصدق عنوان الكرّيّة دون صدق عنوان الوحدة الحقيقيّة، كما تقدّم شرحه مفصّلا.

نعم في عبارة العلاّمة - المتقدّمة عن التذكرة -(3) ما ربّما يوهم كون الحكم بعدم الطهارة مع عدم الممازجة واردا فيما يعمّ صورتي صدق الوحدة و عدمه؛ بناء على أنّ قوله: «فلو كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتّصال؛ و انتقاله إلى الطهارة مع الممازجة» ابتداء كلام في مسألة الغديرين الموصول بينهما بساقية شامل لكلتا صورتي اعتدال الماء و مساواة سطحه، المقتضي لاتّحاد الماءين، و عدمهما المقتضي لعدم الاتّحاد وارد على خلاف حكم التقوّي و الاعتصام عن الانفعال الّذي فصّل فيه بين صورتي الاعتدال المقتضي لكون كلّ من الغديرين متقوّيا بالآخر فلا يطرؤهما الانفعال.

و عدمه المقتضي لاختصاص التقوّي بالأسفل دون الأعلى الّذي يلزم منه انفعال الأعلى بملاقاته النجاسة لو نقص عن الكرّ، فإطلاق الحكم ببقاء النجس على حاله عند عدم الممازجة من غير تفصيل الشامل للصورتين معا ممّا ينفي كون العبرة في مسألة التطهير

ص: 573


1- ذكرى الشيعة 85:1.
2- المعتبر: 11.
3- تذكرة الفقهاء 23:1.

بمجرّد الوحدة، و يقضي بإناطة الحكم بالممازجة الّتي هي أخصّ من الوحدة.

و لكن يدفعه أيضا: ظهور كون قوله هذا، كقوله المتقدّم عليه: «فلو نقص الأعلى عن الكرّ انفعل بالملاقاة»(1) من فروع صورة عدم اعتدال الماء و اختلاف سطوحه فيكون كلّ من الحكمين في نظره مستندا إلى عدم الاتّحاد الّذي لا يتأتّى في تلك الصورة بمجرّد الاتّصال.

و بالجملة: نحن لا نفهم من كلماتهم إلاّ إناطة الحكم بالوحدة الّتي قد تتأتّى بدون الممازجة، و إن كان بعض عباراتهم يقضي بتوهّم توقّفها عليها فيعود النزاع صغرويّا، لكن فيه بعد شيء يتبيّن وجهه عن قريب.

و ثانيهما: ما هو العمدة المعوّل عليه في كلام غير واحد - خصوصا فحول مشايخنا المعاصرين - من أصالة النجاسة و عدم الدليل على الطهارة إلاّ بالممازجة، لضعف ما تمسّكوا به على الطهارة بدونها، و هذا كما ترى تتضمّن ثلاث مقدّمات.

إحداها: أنّ أصالة النجاسة تقتضي ثبوتها إلى أن يثبت ما يرفعها.

و ثانيتها: أنّ الدليل قائم على الطهارة مع الممازجة.

و ثالثتها: أنّ أدلّة القول بالطهارة مع عدم الممازجة ضعيفة، و هذه المقدّمة مسلّمة في الجملة لا شبهة فيها لما ستعرفه.

أمّا المقدّمة الاولى فستعرف أيضا حالها من صحّة أو سقم.

و أمّا المقدّمة الثانية فيستند عليها بوجوه:

منها: الإجماع على أنّ الكرّ الممتزج بالنجس مطهّر له كما ادّعي؛ و هو كما ترى لا يقضي بأزيد من حصول الطهر به، و إلاّ فالمجمع عليه المتوقّف عليه الطهر حقيقة هو الكرّ المتّحد مع المتنجّس، فيكون فرض الامتزاج معه مع عدم مدخليّته في الحكم كالحجر الموضوع في جنب الإنسان، إلاّ على توهّم توقّف الاتّحاد عليه لكن لا مطلقا بل بالمعنى الّذي سنقرّره.

و منها: أنّ الكرّ إذا فرض عدم قبوله الانفعال بالملاقاة و امتزج مع المتنجّس فإن طهّره فهو المطلوب و إلاّ فإن تنجّس به لزم خلاف الفرض؛ و إن اختصّ بالطهارة لزم

ص: 574


1- التذكرة 23:1.

تعدّد حكم الماءين الممتزج أحدهما بالآخر، بل يلزم عدم جواز استعمال الكرّ فيما يشترط فيه الطهارة، لاشتمال كلّ جزء منه على جزء من المتنجّس و هذا في الحقيقة في معنى انفعاله، إذ لا يجوز شربه و لا التوضّؤ منه و لا تطهير الثوب به، و قد تبيّن في صدر المسألة ضعف ذلك بجميع فقراته، إلاّ إذا استند في دعوى عدم جواز تعدّد حكم الماءين الممتزج أحدهما بالآخر إلى الإجماع، ليرجع إلى ما تقدّم من الملازمة الثالثة، لكن يبقى المناقشة في كون الامتزاج مأخوذا في موضوع تلك الملازمة على جهة الاستقلال.

و منها: فحوى ما دلّ على طهارة نجس العين بالاستهلاك، كرواية العلاء بن الفضيل - المتقدّمة في باب الكرّ - عن الحياض يبال فيها، قال: «لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(1) فإنّ وقوع النجاسة العينيّة يستلزم تغيّر ما اكتنفتها من أجزاء الماء فينجّس، و قد حكم الشارع بنفي البأس عن ذلك و ليس إلاّ لامتزاجه بباقي أجزاء الكرّ، فدلّ على حصول الطهارة بالامتزاج.

و فيه: منع دلالة الرواية على تحقّق الممازجة و الاستهلاك، و لو سلّم فكونهما مؤثّرين في الحكم في موضع المنع؛ و لو سلّم فلعلّه حكم مختصّ بعين النجاسة حيث إنّها لا تنتقل إلى الطهارة إلاّ بانقلاب الماهيّة و تبدّل العنوان الغير المعقولين في المقام.

الغير الحاصلين في غير صورة الاستهلاك الّذي هو فوق الامتزاج.

و لو سلّم الدلالة على الامتزاج بالمعنى المتنازع فيه على جهة الاعتبار، فلعلّه لكونه مقدّمة لزوال التغيّر عن الأجزاء المكتنفة من الماء بالنجس المغيّر لها حسبما فرضه المستدلّ؛ و الحاصل كون اعتباره على فرض الدلالة عليه لأجل مدخليّته في الطهر دون زوال التغيّر المقتضي للنجاسة موضع منع.

و منها: أنّه حيث يكون طاهرا و وصل دخل تحت قوله عليه السّلام: «إذا كان الماء قدر كرّ» بخلاف ما إذا كان نجسا لاشتراط كون ذلك الماء طاهرا و إلاّ لم يكن وجه لقوله: «لم ينجّسه شيء».

نعم على رواية «لم يحمل خبثا» ربّما يكون داخلا لكن لا نقول بمقتضاها، كما سيظهر في مسألة إتمام القليل المتنجّس كرّا.

ص: 575


1- الوسائل 139:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 7.

و هذا بظاهره كما ترى لا ينتج شيئا إلاّ أن يوجّه: بأنّ الماء النجس إذا وصل بكرّ لا يمكن إثبات طهره بمجرّد ذلك الوصل تعويلا على الرواية، لتوقّف صدق قضيّة «لم ينجّسه شيء» على كون الطهارة محرزة قبل الوصل و الملاقاة، فلا يمكن إحرازها بعد الملاقاة بتلك القضيّة، فلا بدّ من اعتبار أمر زائد على الكرّيّة ليفيد طهارته و ليس ذلك إلاّ الامتزاج.

و فيه: أنّ مستند القول بالطهارة بمجرّد الوصل ليس هو الرواية ليصحّ دفعه بما ذكر، ثمّ أنّه أيّ دليل على تأثير الامتزاج بما هو امتزاج في الطهارة ليفيد اعتباره زائدا على وصف الكرّيّة؟

فإن قلت: الإجماع قائم بأنّ الماء المتنجّس الممتزج بالكرّ ينتقل حكمه إلى الطهارة.

قلت: قصارى ما يقتضيه الإجماع المذكور أنّ الامتزاج لا ينافي الطهارة، و هو ليس من دعوى كونه مؤثّرا في شيء.

فإن قلت: إنّما يشهد بكونه مؤثّرا وقوع اعتباره في كلام جماعة من المجمعين.

قلت: مع أنّه معارض بعدم وقوعه في كلام الآخرين، بل التصريح بعدم التأثير في كلام غير واحد منهم، قد عرفت الوجه في اعتباره و أنّه ليس اعتبارا للامتزاج بعنوان أنّه امتزاج بل بعنوان أنّه محصّل للوحدة.

و منها: أنّ المعروف من الماء المطهّر - حيث يطهّر - أنّ المطهّر يتخلّل في أجزائه و يجري عليه حيث يكون جسما قابلا لذلك، و إلاّ فلا معنى للقول بطهارة الطرف البعيد المتناهي في البعد بمجرّد ملاقاته لأوّل أجزاء الطرف الآخر، و القول بأنّ الأجزاء الملاقية طهرت بالملاقاة و هي طهّرت غيرها للملاقاة و الامتزاج، و هكذا خيال حكمي لا يصلح لأن يكون مستندا للحكم الشرعي من غير دليل، على أنّه مبنيّ على السراية و هي مخالفة للأصل من وجه.

و فيه: أنّ الجزء الأوّل من الدليل لا يرجع إلى محصّل إلاّ القياس الباطل، إذ المداخلة و التخلّل و الجريان قد ثبت اعتبارها في التطهير بالقياس إلى غير موضع النزاع كالثوب و نحوه؛ و لو اريد به الإلحاق بمورد الغالب فهو ظنّي لا يعبأ به، و الجزء الثاني منه استبعاد صرف لا يصلح مستندا في المقام بعد ما قام من الشرع ما يقضي به، و المتّبع هو الإجماع القائم في المقام و قد تبيّن مفاده و معقده.

ص: 576

و أمّا القول بعدم الاعتبار مطلقا، فمستنده وجوه:

منها: الأصل الّذي حكي التمسّك به عن بعض الأفاضل، و الظاهر أنّ المراد به أصالة عدم الشرطيّة.

و اجيب عنه: بأنّ الأصل يقتضي النجاسة، و كأنّ المراد به استصحاب النجاسة.

و وجهه: أنّ تطهير الماء بعد تيقّن النجاسة حكم ورد من الشارع على خلاف الأصل، و من البيّن أنّ كلّ حكم مخالف للأصل يجب الاقتصار فيه على القدر اليقيني الرافع منه لموضوع الأصل، و قضيّة ذلك القول بمدخليّة كلّ ما يشكّ في مدخليّته معه، و منه الامتزاج في خصوص المقام تحصيلا للرافع اليقيني للنجاسة.

و لكن يشكل ذلك أوّلا: بأنّ التمسّك باستصحاب النجاسة هنا إنّما يستقيم لو كان النزاع في أمر تعبّدي و قد عرفت منعه بما لا مزيد عليه، لرجوع الكلام إلى تحقّق موضوع الطهارة و هو الوحدة بدون الممازجة و عدمه، و نحن في علم بتحقّقها بدونها و معه لا يعقل الاستصحاب.

و يمكن دفعه: بأنّ هذا إنّما يتّجه إذا اريد بالوحدة في موضوع الطهارة ما يكون كذلك في نظر الحسّ، و لم لا يجوز أن يراد به ما هو كذلك في نظر العرف؟

و بعبارة اخرى: ما يصدق عليه الماء الواحد حال الاتّصال عند العالم بالحال و الجاهل بها، و مجرّد الاتّصال غير كاف في ذلك، لأنّ أقصى ما فيه صدق الوحدة عند الجاهل؛ و أمّا العالم فلعلمه بسبق الانفصال و طروّ الاتّصال لا يحسبه من الماء الواحد إلاّ بعد المداخلة و تحقّق الممازجة و هو المراد بالوحدة العرفيّة، لأنّها عبارة عمّا لا يختلف العرف في وصفه بالوحدة، و إليه يشير تعليلاتهم المتقدّمة بالامتياز، فالوحدة بهذا المعنى إن لم يتيقّن دخولها في معقد الإجماع فلا أقلّ من احتمال دخولها فيه، فيكون المقام من مورد الاستصحاب.

و ثانيا: أنّ التمسّك بالاصول إنّما يصحّ إذا لم يكن في المقام أصل موضوعي رافع لموضوعها؛ و لا ريب أنّ الشبهة راجعة إلى موضوع حكم المطهّريّة الّتي أثبتها الشارع، و الاستصحاب لا يتعرّض لذلك الموضوع نفيا و إثباتا و إلاّ كان أصلا مثبتا؛ و قد دلّ الإجماع على قيام المطهّريّة بالكرّ الملقى المتّصل مع الماء المتنجّس، و حصل الشكّ في مدخليّة

ص: 577

الممازجة في ذلك الموضوع و عدمها، و أصالة عدم الشرطيّة تتعرّض له و توجب عدم المدخليّة، فإذا ثبت به المطهّر الرافع للنجاسة ثبوتا شرعيّا و صادف الماء المتنجّس فقد أوجب ارتفاع الشكّ في الطهارة ارتفاعا شرعيّا و معه لا وجه للاستصحاب أيضا.

و توضيح المقام: أنّ الأصل المقتضي للنجاسة ممّا لا معنى له إلاّ استصحاب النجاسة المستند إلى عموم قوله عليه السّلام: «لا ينقض اليقين إلاّ بيقين مثله»(1) المقتضي لوجوب إجراء حكم النجاسة هنا إلى أن تتحقّق رافع يقيني، و هذا الأصل ممّا لا إشكال في كبراه؛ و لكنّ الكلام في صغراه حيث إنّ أصالة عدم الشرطيّة - فيما لا يبيّنه إلاّ الشرع و لم يبيّنه في مفروض المقام بعد ما بيّن أصل الرافع في الجملة، و هو الكرّ الملقى دفعة محصّلة للوحدة بينه و بين ما يلقى عليه - أصل يقيني أو ظنّي بالظنّ الخاصّ القائم مقام اليقين، ناف لاحتمال شرطيّة الامتزاج مقتض لكون ما ذكر هو الرافع اليقيني، أو القائم مقام الرافع اليقيني المأخوذ غاية لحكم الاستصحاب المقتضي للنجاسة، و قضيّة ذلك كون المقام مندرجا تحت تلك الغاية - نظير ما لو ورد نصّ خاصّ بعدم شرطيّة الامتزاج قطعي أو ظنّي معتبر -، لا أنّه مندرج في المغيّا و معه لا معنى للاستصحاب بعد فرض كونه مغيّا بغاية حاصلة [حتّى](2).

و بالجملة: أصالة عدم الشرطيّة ممّا لا مدفع له إلاّ منع صغراه، بأن يقال: أصل معلّق على عدم وصول البيان و استصحاب النجاسة - حسبما فرضه الخصم - كاف في وصوله هنا، أو منع كبراه بأن يقال: إنّ هذا الأصل ممّا لا مدرك له بالنسبة إلى القضايا الوضعيّة الّتي منها المقام، إذ غاية ما قام عليه الدليل من الشرع قطعا أو ظنّا خاصّا إنّما هو أصل البراءة الغير الجارية إلاّ في القضايا التكليفيّة، نظرا إلى أنّ الأدلّة المقامة عليها منها ما هو مقيّد بالعلم الّذي هو موضوع للتكليف، دون الموضوع الّذي هو أمر واقعي لا يدخل فيه العلم شطرا و لا شرطا إلاّ في موضوع قام على جزئيّته الدليل، كما في النجاسة فيما يحكم عليه بالنجاسة بناء على ما تقدّم تحقيقه من أنّ أحكام النجاسة مرتّبة في نظر الشارع على العلم بها الّذي يقوم مقامه الاستصحاب.

ص: 578


1- الوسائل 245:1 ب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 1 - و فيه: «لا تنقض اليقين أبدا بالشكّ و انّما تنقضه بيقين آخر».
2- كذا في الأصل.

و منها ما هو ناف للمؤاخذة و العقاب عند عدم البيان اللذين لا يعقلان إلاّ في التكاليف.

و منها ما هو ناف للحكم حتّى يرد فيه أمر أو نهي، فلا يجري أيضا إلاّ في التكاليف.

و الأوّل: ممّا لا سبيل إليه جزما، لأنّ الاستصحاب لا يقتضي إلاّ ترتّب أحكام النجاسة على المورد و إلاّ كان أصلا مثبتا، فهو إنّما يرفع صغرى الأصل المقتضي للطهارة، و هو أنّ شرطيّة الامتزاج في التطهير ممّا لم يبيّنه الشارع إذا اقتضى شرطيّة الامتزاج؛ و المفروض أنّه غير صالح له فيبقى الصغرى المذكورة صادقة؛ و إذا انضمّ إليها الكبرى المذكورة كان مفاديهما نفي الشرطيّة فيرتفع به صغرى الاستصحاب، هذا مع أنّ جعل الاستصحاب رافعا لصغرى أصالة عدم الشرطيّة يؤدّي إلى الدور المستحيل، لأنّ جريان الاستصحاب هنا موقوف على ثبوت صغراه و هو تيقّن النجاسة مع عدم تيقّن ما يرفعها، و هو موقوف على عدم جريان كبرى أصالة عدم الشرطيّة(1)، و هو موقوف على انتفاء صغراها، إذ المفروض في منع الصغرى كون الكبرى مسلّمة و إلاّ رجع الكلام إلى المنع الثاني و هو خلاف الفرض، فلو توقّف انتفاء هذه الصغرى على جريان الاستصحاب لزم توقّف جريان الاستصحاب على نفسه.

و لا يرد نظير ذلك في صورة العكس، لأنّ جريان أصالة عدم الشرطيّة و إن كان موقوفا على عدم جريان استصحاب النجاسة لكن عدم جريان استصحاب النجاسة أعمّ من أن يكون من جهة عدم صغراه المتوقّف على جريان أصالة عدم الشرطيّة، أو من جهة عدم ثبوت كبراه هنا بالخصوص؛ و لمّا كان الأوّل باطلا لاستلزامه الدور المستحيل فتعيّن الثاني؛ و هو لا يستتبع محذورا لأنّ غاية ما يترتّب عليه خروج كبرى الاستصحاب عن الكلّيّة لا بطلانها رأسا.

و قضيّة ذلك لزوم تخصيص في دليل الاستصحاب، بأن يكون مفاده لزوم العمل بكلّ استصحاب إلاّ ما عارضه أصالة عدم الشرطيّة، و هو بعد ما قام عليه الدليل - و لو من جهة العقل - ممّا لا ضير فيه.

ص: 579


1- و حاصله: أنّ منع هذه الكبرى تارة بمنع ثبوت أصلها رأسا، بأن يقال: إنّ أصالة عدم الشرطيّة ممّا لا دليل عليها في الشريعة، أو بمنع جريانها في خصوص المقام لانتفاء صغراها، و الأوّل خلاف الفرض، فتعيّن الثاني و معه يلزم الدور. (منه عفى عنه).

و لا يمكن جريان نظير ذلك في أصالة عدم الشرطيّة بأن يقال في منع الدور: إنّ عدم ثبوت صغرى الاستصحاب و إن كان موقوفا على عدم جريان أصالة عدم الشرطيّة، لكنّه أعمّ من أن يكون من جهة عدم ثبوت صغراها المتوقّف على جريان الاستصحاب؛ أو من جهة عدم ثبوت كبراها هنا بالخصوص؛ و لمّا كان الأوّل باطلا لاستلزامه الدور المستحيل فتعيّن الثاني، لأنّه لو بنى في ذلك على منع الكبرى لزم بطلانها رأسا فيلزم بقاء أصالة عدم الشرطيّة و الدليل عليها بلا مورد كما لا يخفى على المتأمّل؛ و هو كما ترى.

و ممّا ذكر يتبيّن وجه تقدّم الاستصحاب على أصل البراءة حيثما يتقدّم عليه، و وجه تقدّم أصل البراءة على الاستصحاب حيثما يقدّم عليه، فإنّ الأوّل من جهة كون الاستصحاب واردا على أصل البراءة رافعا لموضوعه كما هو واضح بخلاف الثاني؛ فإنّ تقدّمه على الاستصحاب إنّما هو من جهة حكومة دليله على دليل الاستصحاب و تعرّضه له بالتخصيص و لا يعقل كونه من باب الورود؛ لأنّ فرض وروده على الاستصحاب يقضي بكونه متعرّضا لصغرى الاستصحاب مع كون كبراه سليما عن المعارض؛ و المفروض أنّه أيضا لعموم دليله و سلامة كبراه عن المعارض متعرّض لصغرى أصل البراءة لئلاّ يلزم بقاء دليله في مظانّ الشكّ في الشرطيّة بلا مورد؛ فيلزم الدور في الجانبين كما يظهر بالتأمّل فيما سبق.

نعم، فرض الورود بالنسبة إلى الاستصحاب إنّما يصحّ فيما لو عارضه استصحاب آخر و كان شكّه سببيّا كما في استصحاب طهارة الماء المشكوك في كرّيّته عند ملاقاته النجاسة؛ فإنّ تقديم استصحاب القلّة و عدم الكرّيّة على استصحاب الطهارة لا يمكن كونه من باب الحكومة؛ لأنّه ليس مدلولا لدليل يعارض دليل استصحاب الطهارة حتّى يفرض ذلك الدليل مخصّصا لدليل استصحاب الطهارة، لكونهما مدلولي دليل واحد، و المفروض أنّ دخول بعض أفراد العامّ تحته عند التنافي بينه و بين البعض الآخر لا يعقل كونه مخصّصا له مخرجا لذلك الفرد المنافي عن تحته لامتناع الترجيح بغير مرجّح؛ ضرورة كون أفراد العامّ المندرجة فيه متساوية الإقدام بالنسبة إليه؛ فلا بدّ في تقديمه من اعتبار مقدّمة اخرى بأن يقال: إنّ الشكّ في الكرّيّة لمّا كان علّة للشكّ في النجاسة و العلّة متقدّمة بالذات على معلولها فهو حين طروّه المتقدّم بالذات على الشكّ

ص: 580

في النجاسة كان مقتضيا للاستصحاب قبل الالتفات إلى معارض له، فيكون الاستصحاب المتقوّم به علما شرعيّا بالنجاسة و معه لا يبقى لاستصحاب الطهارة موضوع؛ فمعنى تقديم استصحاب عدم الكرّيّة أنّه لا استصحاب هنا يكون معارضا له؛ لا أنّ هنا استصحابا محقّقا و هو مقدّم عليه، فإنّه غير معقول لما عرفت من قضيّة لزوم الترجيح بغير مرجّح و قد يتّفق في تعارض الاستصحابين ما لا يمكن فيه اعتبار الحكومة و لا الورود؛ كما لو كان شكّاهما في مرتبة واحدة من غير سببيّة أحدهما للآخر؛ كما في الكرّ الوارد على الماء المتنجّس تدريجا المقارن للشكّ في تنجّسه مع الشكّ في طهر الماء المسبّبتين عن الشكّ في اشتراط الدفعة في التطهير؛ و منه المقام بملاحظة الشكّ في شرطيّة الامتزاج، فإنّ استصحاب نجاسة المتنجّس يعارضه استصحاب طهارة الكرّ ففي مثل ذلك لا يمكن العمل بأحد الاستصحابين تعيينا، لأنّ التعيين لا بدّ و أن يكون إمّا من باب الحكومة أو الورود؛ و لا سبيل إلى الأوّل لعدم إمكانه و لا إلى الثاني لفقد المرجّح المذكور من كون الشكّ في أحدهما علّة للآخر، فإمّا أن يقال حينئذ بالتخيير، أو طرحهما معا، و الظاهر أنّ الثاني أيضا ممّا لا سبيل إليه و إن قال به بعض الأصحاب لأنّه يوجب التخصيص في أدلّة الاستصحاب بلا مخصّص، لأنّ العمل بها في أحد الاستصحابين ممكن، و عدم العمل بالآخر بعد التخيير ليس من باب التخصيص، بل من جهة اقتضاء بناء العمل على صاحبه نظير أمر الأبوين في مكان التنافي.

و لو سلّم كونه من باب التخصيص فلا بأس به بالنسبة إلى أحدهما، لأنّ المانع عن العمل قائم في هذا المقدار فالمخصّص حينئذ هو العقل؛ هذا كلّه و إن كان كلاما خارجا عن المقام لكن أوردناه هنا لكثرة فوائده، فلنعد إلى ما نحن فيه فنقول: قد عرفت أنّ منع صغرى أصالة عدم الشرطيّة ممّا لا سبيل إليه.

و أمّا منع الكبرى فقد يسبق إلى الوهم عدم إمكانه أيضا لما ورد في بعض أخبار البراءة ما يعمّ غير موارد التكليف أيضا، كقوله: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نصّ» فإن(1) النصّ أعمّ من خطاب التكليف، و خطاب الوضع.

لكنّ الإنصاف: أنّ هذا الخبر على تقدير ثبوته و صحّته وارد في سياق نفي التكليف

ص: 581


1- الفقيه 317:1 و فيه: «نهى» بدل «نصّ».

و لوازمه؛ خصوصا إذا كان قوله: «مطلق» مرادا به «مرخص فيه»، فإنّه لا يفيد حينئذ إلاّ الإباحة بالمعنى التكليفي؛ و هو ليس من محلّ البحث في شيء؛ و لا يمكن إرجاع المقام إلى ما يتعلّق بالتكليف بملاحظة العبادة المشروطة بالطهارة؛ نظرا إلى أنّ شرطيّة الامتزاج في الواقع تستلزم عدم صحّة الصلاة بالوضوء أو الغسل الحاصلين بذلك الماء الّذي لم يحصل في تطهيره الامتزاج؛ و هو في حكم الترك فيترتّب استحقاق العقوبة عليه و هو منفيّ بالأصل، لأنّ أدلّة الأصل مسوقة في سياق أصل التكليف لا ما يكون التكليف من لوازمه البعيدة، و إلاّ أمكن التوصّل به إلى نفي كلّ حكم وضعي و هو خلاف الطريقة المستمرّة عند العلماء، فاستصحاب النجاسة حينئذ لا مدفع له، و لكن بملاحظة ما ذكرناه من قيام احتمال كون الوحدة المأخوذة في الملازمة المجمع عليها هي الوحدة العرفيّة الغير الحاصلة إلاّ بالممازجة.

و منها: أنّ اتّصال القليل بالكثير قبل ورود النجاسة كاف في دفعها فكذا ما بعده، لأنّ عدم قبول النجاسة في الأوّل إنّما هو لصيرورة الماءين ماء واحدا بالاتّصال.

و فيه: ما لا يخفى من فساد الوضع، لأنّ دعوى الملازمة بين الوحدة الحاصلة بالاتّصال و زوال النجاسة إن كانت لمجرّد ثبوت الملازمة بينها و بين عدم قبول الانفعال كما هو صريح الاستدلال، ففيه: أنّه قياس، و مع الفارق، لوضوح الفرق بين مقامي الدفع و الرفع، و إن كانت لأمر خارج كالإجماع و نحوه فبطل توسيط مسألة الدفع حينئذ، و مع ذلك فكفاية الوحدة الحاصلة لمجرّد الاتّصال في مورد الإجماع أوّل الدعوى، لأنّها وحدة حسّيّة و لعلّ المأخوذ في مورد الإجماع هو الوحدة العرفيّة الّتي لا يتفاوت فيها العالم و الجاهل، و قد عرفت أنّها لا تتأتّى إلاّ بالمداخلة، و أقلّ مراتب هذا الاحتمال تحقّق موضوع الاستصحاب و هو كاف في لزوم اعتبار الممازجة تحصيلا للرافع اليقيني.

و منها: ما عرفت عن منتهى العلاّمة(1) من أنّ الاتّفاق واقع على أنّ تطهير ما نقص عن الكرّ بإلقاء كرّ عليه، و لا شكّ أنّ المداخلة ممتنعة فالمعتبر إذن الاتّصال الموجود هنا.

و فيه: أنّ المداخلة المحكوم عليها بالامتناع إن اريد بها دخول الأجزاء بعضها في بعض حتّى الأجزاء الصغار من أحد الماءين فيها من الماء الآخر دخولا حقيقيّا

ص: 582


1- منتهى المطلب 65:1.

فالامتناع مسلّم؛ و لكن اعتباره عند أهل القول بالممانعة ممنوع؛ و إن اريد بها انتشار أجزاء أحد الماءين في أجزاء الماء الآخر على وجه يوجب تعذّر امتياز البعض عن بعض على قياس ما هو الحال في سائر المركّبات المزجيّة فامتناعها ممنوع؛ كيف و جواز ذلك من ضروريّات العقل خصوصا في الماء الّذي هو سريع النفوذ.

و منها: أنّ الأجزاء الملاقية للطاهر يجب الحكم بطهارتها عملا بعموم ما دلّ على طهوريّة الماء، فتطهر الأجزاء الّتي يليها كذلك و كذا الكلام في بقيّة الأجزاء، و في المدارك: «و هذا اعتبار حسن نبّه عليه المحقّق الشيخ على في بعض فوائده، و جدّي في روض الجنان»(1).

و فيه: ما لا يخفى من المصادرة المحضة، لتوجّه المنع إلى طهر الأجزاء الملاقية بمجرّد الاتّصال، لجواز كونه مشروطا بالممازجة و الانتشار و لا نافي له؛ بناء على أنّ عموم المطهّريّة قاصر عن إفادة كيفيّة التطهير كما تقدّم إليها الإشارة، فالاستصحاب سليم عن المعارض.

و منها: أنّ الامتزاج إن اريد به امتزاج كلّ جزء من الماء النجس لجزء من الماء الطاهر لم يمكن الحكم بالطهارة أصلا لعدم العلم بذلك، و إن اكتفى بامتزاج البعض لم يكن الطهر للبعض الآخر هو الامتزاج بل مجرّد الاتّصال، فيلزم إمّا القول بعدم طهارته أصلا، أو القول بالاكتفاء بمجرّد الاتّصال.

و فيه: أنّ المراد بالامتزاج انتشار يتعذّر معه الامتياز و هو معلوم الحصول ضرورة.

و قد يقرّر هذا الوجه بما فيه بسط و تطويل، فيقال: «لو اعتبر الممازجة فإمّا أن يراد امتزاج الكلّ بالكلّ، أو البعض بالبعض.

أمّا الأوّل ففيه أوّلا: أنّه غير ممكن.

و ثانيا: أنّه غير ممكن الاطّلاع عليه، فالأصل بقاء النجاسة.

و ثالثا: أنّ جماعة من معتبري الامتزاج كالعلاّمة و الشهيد و غيرهم حكموا بطهارة حياض الصغار المتّصلة باستيلاء الماء من المادّة عليها، و بغمس كوز الماء النجس في الكثير و لو بعد مضيّ زمان، و طهارة القليل بماء المطر، بل ادّعى السيوري(2) و الشهيد الثاني(3)

ص: 583


1- مدارك الأحكام 36:1 - راجع روض الجنان: 138.
2- التنقيح الرائع 45:1.
3- الروضة البهيّة 258:1.

الإجماع على الثالث، مع أنّ الامتزاج الكلّي لا يحصل في شيء.

و رابعا: أنّ الامتزاج ليس كاشفا عن الطهارة حين الملاقاة قطعا بل يتوقّف عليه، و المفروض أنّ الماء المعتصم يخرج عن كونه كرّا أو جاريا أو ماء غيث قبل تمام الامتزاج الكلّي.

و خامسا: أنّه إذا القي النجس الكثير في المطهّر القليل بحيث يستهلك فيه؛ فإمّا أن يحكم بالنجاسة و هو خلاف الأصل و الإجماع؛ أو بالطهارة و هو المطلوب؛ و كذلك عكسه إذا سيق المطهّر عن مجاري متعدّدة بل دفعة، و غاية ما يمكن أن يقال: إنّه يطهّر أجزاءه المخالطة له و هكذا بالتدريج.

و فيه: مع استلزامه المنع عن استعمال الماء قبله بلا دليل؛ و اختلاف الماء الواحد في السطح الواحد، أنّه إنّما يتمّ إذا اجتمع الأجزاء المختلطة بحيث لا يتوسّط بين الكرّ منها النجس و علم ذلك و المعلوم مع الاستهلاك خلافه.

و أمّا الثاني: فإن اريد بالبعض مسمّاه فهو المطلوب؛ أو القدر المعيّن فلا بدّ من أن يبيّن، أو الأكثر بالأكثر تقريبا فلا دليل عليه، مع أنّ الفرق بين الأبعاض غير معقول، مضافا إلى ورود كثير ممّا ذكر في الأوّل هنا»(1) انتهى.

و فيه: أنّ الامتزاج إذا اريد به انتشار الأجزاء في الأجزاء على وجه يزول معه الامتياز بينهما في نظر العالم بالحال فلا استحالة فيه، و لا أنّ الاطّلاع عليه محال بل هو ممكن ضرورة من الحسّ و الوجدان، و ظهور كلام العلاّمة في المسألتين المشار إليهما في عدم اعتبار الامتزاج الكلّي ليس بأقوى من صريح كلامه في جملة من كتبه في نفي اعتباره؛ و المفروض أنّ القائل باعتبار الامتزاج لا يعتني بمثل هذه المخالفة و إن ثبتت منه بنحو الصراحة، مع أنّه لو كان مستنده في دعوى الاعتبار هو الأصل تكون هذه المخالفة محقّقة لموضوع ذلك الأصل، فالاستشهاد بها حينئذ لا يجدي نفعا في إلزامه؛ و الامتزاج عند هذا القائل يعتبر ناقلا لا كاشفا و عند خصمه لا يترتّب عليه أثر، فهو على كلا المذهبين غير مناف لبقاء الماء المعتصم كائنا ما كان على طهارته و طهر المتنجّس، و بعد ما كان الحكمان متّفقا عليهما عند الفريقين فبأيّ شيء يلزم أحد

ص: 584


1- حكاه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة عن بعض الأفاضل، 147:1 - و الظاهر أنّه هو المحقّق الشيخ أسد اللّه الدزفولي الكاظمي في مقابس الأنوار: 82.

الفريقين على بطلان مذهبه، لأنّ الّذي يقول به من جهة الامتزاج خاصّة لا ينافيه الامتزاج عند الفريق الآخر القائل بعدم كونه مؤثّرا.

فلو قيل: إنّ الإشكال يتوجّه على تقدير عدم حصول الطهر بمجرّد الاتّصال، و توقّفه على حصول الامتزاج بالمعنى المفروض، فحصوله متأخّر عن الامتزاج و هو يستلزم محالا، لأنّ الماء المعتصم بمجرّد الامتزاج الجزئي المتقدّم على الامتزاج الكلّي طبعا يخرج عن كونه معتصما بل عن كونه جزء من المعتصم، على معنى أنّه لا يبقى فيه عنوان الكرّيّة و لا الجريان و لا المطريّة بصيرورته كلاّ أم بعضا جزء من المتنجّس، فهو حينئذ إذا لم يكن بنفسه معتصما عن الانفعال فكيف يعقل بالنسبة إلى غيره كونه رافعا للانفعال.

ففيه: أنّ هذه الشبهة و إن كانت في محلّها غير أنّها تندفع بملاحظة أنّ أصل حكم التطهير هنا ثابت بالإجماع، لجواز كون الإجماع حاصلا فيه على هذا النمط، و لا اجتهاد بعد الإجماع لكون أحكام الشرع منوطة بالتعبّد.

و فرض إلقاء النجس الكثير لو اريد به الكثير العرفي المتجاوز عن الكرّيّة في المطهّر القليل لو اريد بقلّته ما يكون عرفيّا مجامعا للكرّيّة على وجه يستهلك معه المطهّر لا ينافي مناط الطهر هنا بل يؤكّده، لأنّ الغرض الأصلي من الامتزاج إنّما هو رفع الامتياز بين الماءين و هو حاصل في هذا الفرض جزما.

و أمّا عكس هذا الفرض و هو سوق المطهّر القليل من مجاري متعدّدة إلى الكثير النجس؛ فالمتّجه فيه عدم حصول الطهر لا من جهة اختلال جهة الامتزاج بل من جهة اختلال الدفعة الّتي قد عرفت كونها شرطا كما لا يخفى؛ بل قضيّة بعض ما سبق في بحث الدفعة انتقال المطهّر إلى النجاسة، و لو سلّم بقاؤه على الطهارة فلا استحالة في اختلاف الماء الواحد في السطح الواحد من حيث الحكم في غير مورد الامتزاج؛ فإنّ المانع عن ذلك ليس هو العقل كما تقدّم شرحه؛ و لا الشرع إذا اعتبرناه غير الإجماع، و أمّا إذا اعتبرناه الإجماع فهو غير ثابت في جميع فروض المسألة.

و بذلك يظهر الجواب أيضا عمّا استدلّ به أيضا من أنّ الاتّصال يقتضي الاتّحاد و الماء الواحد لا يختلف حكمه؛ فإنّ الاتّحاد إن اريد به اتّحاد السطح فقط مع إمكان التمييز بينهما فالكبرى ممنوعة، و إن اريد به الاتّحاد الرافع للامتياز و هو الاتّحاد في

ص: 585

الإشارة فالصغرى ممنوعة، بل بملاحظة ذلك - مضافا إلى بعض ما سبق - يظهر الجواب عن الوجه الآخر ممّا استدلّ به من أنّ الاتّصال يوجب اختلاط بعض أجزاء الكرّ ببعض أجزاء المتنجّس؛ فإمّا أن يرتفع النجاسة عن النجس أو يتنجّس جزء الكرّ، و الثاني مخالف لأدلّة عدم انفعال الكرّ فتعيّن الأوّل، فإذا طهر الجزء طهر الجميع لعين ما ذكر، لجواز الواسطة بين ارتفاع النجاسة عن النجس و تنجّس جزء الكرّ و هو بقاء كلّ على حكمه إلى أن يتحقّق الامتزاج المعتبر، غاية ما يلزم اختلاف السطح الواحد في الحكم و لا دليل على بطلانه مطلقا.

ثمّ على فرض تسليم زوال النجاسة عن الجزء المختلط فالتعدّي منه إلى الأجزاء الباقية لا وجه له بعد الفرق بينهما بتحقّق الشرط في الأوّل دون الثاني.

و منها: الروايات الواردة في مطهّريّة الماء بقول مطلق أو في الجملة، كقوله: «الماء يطهّر و لا يطهّر»(1) بناء على أنّ المعنى: «يطهّر حتّى نفسه و لا يطهّر بغير نفسه»، بقرينة ما ذكر من جهة حذف المتعلّق دفعا للتناقض، «و ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا»(2) و لا يضرّ غلبة المزج في النهر المشبّه به، لظهور أنّ التشبيه في أصل الحكم لا في كيفيّته، «و كلّ شيء يراه المطر فقد طهر(3)» كما في مرسلة الكاهلي، فإنّه يصدق على ماء المطر الواقع على سطح الحوض أنّه رأى الحوض فطهر.

و ما حكاه العلاّمة عن بعض علماء الشيعة: من أنّه كان بالمدينة رجل يدخل إلى أبي جعفر عليه السّلام و كان في طريقه ماء فيه العذرة و الجيفة، و كان يأمر الغلام يحمل كوزا من ماء يغسل رجليه إذا خاضه، فأبصر بي يوما أبو جعفر عليه السّلام فقال: إنّ هذا لا يصيب شيئا إلاّ طهّره»(4).

و ما في صحيحة ابن بزيع «ماء البئر واسع لا يفسده شيء، إلاّ ما غيّر طعمه أو ريحه، فينزح حتّى يذهب الريح و يطيب الطعم، لأنّ له مادّة»(5) بناء على اختصاص

ص: 586


1- الوسائل 133:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 3.
2- الوسائل 150:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 7.
3- الوسائل 146:1 ب 6 من أبواب الماء المطلق ح 5.
4- مختلف الشيعة 178:1 مع اختلاف يسير.
5- الوسائل 173:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 7.

التعليل بالفقرة الأخيرة، أو شموله لها و لما قبلها، و على كلّ تقدير فيدلّ على كفاية زوال التغيّر في طهارة ما ينجّس بالتغيّر و له مادّة من غير اعتبار امتزاجه بشيء من المادّة أو ماء معتصم آخر، فإذا اكتفى بالاتّصال في المتغيّر ذي المادّة اكتفى في غيره من المياه النجسة بغير التغيّر باتّصاله بماء معتصم.

و قد تقدّم منّا في صدر الباب ما يدفع به أكثر هذه الروايات، و نقول هنا: إنّ الرواية الاولى مع أنّها غير معتبرة السند بالسكوني غير واضحة الدلالة، لمكان ما فيها من الإجمال المتقدّم بيانه مشروحا، و كون حذف المتعلّق مفيدا للعموم - على فرض تسليمه - مشترك الاعتبار بالنسبة إلى الفقرتين، و دفع التناقض الّذي يلزم على تقدير اعتبار العموم فيهما بتخصيص أحدهما بالآخر متساوي النسبة إليهما معا، فلا معيّن لإبقاء الاولى على العموم و تقييد الثانية، مع قوّة احتمال أن يكون الفعلان على فرض التشديد معلومين، أو مجهولين مرادا بهما قضيّتان مهملتان متصادقتان على الماء، لما فيه من اجتماع حيثيّتين باعتبار نفسه أو باعتبار الفاعل أو باعتبار القابل، فهو بملاحظة إحدى الحيثيّتين يطهّر أو يقبل الطهر، و بملاحظة الحيثيّة الاخرى لا يطهّر أو لا يقبل الطهارة، كما إذا قلت: «إنّي احبّ الشيء الفلاني و لا احبّه» و من المعلوم أنّ مثل هذه القضيّة لا يفيدنا إلاّ الإجمال، و معه كيف يصلح محلاّ للاستدلال.

و رواية النهر مع ضعف سندها - كما تقدّم في بحث الجاري و الحمّام - ممنوعة الدلالة على حكم التطهير، لما تقدّم من القرينة على إرادة تقوّي البعض بالبعض لا تطهّره به، و لو سلّم الدلالة على التطهير فهي أيضا دلالة إجماليّة مقصودة منها إعطاء أصل الحكم لا كيفيّته.

و المرسلة مع أنّه لم يثبت لإرسالها جابر و إن كانت دلالتها واضحة لمكان الإطلاق في الرؤية، يقيّدها رواية الميزابين(1) - المتقدّمة في بحث المطر - المتضمّنة لاعتبار الاختلاط كما لا يخفى على المتأمّل، و مع الغضّ عن ذلك فالتعدّي عن حكم المطر إلى غيره ممّا لا قاضي به؛ و الكلام إنّما هو في التطهير بالكثير و لعلّ بينهما فرقا في نظر الشارع.

ص: 587


1- الوسائل 144:1 ب 5 من أبواب الماء المطلق ح 6 - و فيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لو أنّ ميزابين سالا، أحدهما ميزاب بول و الآخر ميزاب ماء، فاختلطا ثمّ أصابك ما كان به بأس».

و ببعض ما ذكر يظهر الجواب عن المرسلة الاخرى مع ما فيها من ظهور قوله عليه السّلام:

«هذا لا يصيب شيئا إلاّ طهّره»(1) في كونه تأكيدا لطهوريّة المشار إليه، مرادا به أنّ هذا الماء من شأنه أن يطهّر الأشياء المتنجّسة لا أنّ من شأنه أن ينجّس الأشياء الطاهرة، ردعا للمخاطب عن معتقده الّذي كشف عنه فعله، فلم يعتبر فيها أيضا عموم أو إطلاق يصلح للاستناد إليه.

و الظاهر أنّ الصحيحة أدلّ على خلاف مطلب المستدلّ؛ بناء على ظهور رجوع التعليل إلى الفقرة الأخيرة كما تقدّم في باب البئر و غيره، نظرا إلى ما تقدّم منّا في بعض المباحث المتقدّمة من أنّ اعتبار النزح هنا ليس من جهة أنّه بنفسه مطهّر، بل إنّما هو لمجرّد رفع مانعيّة التغيّر و إلاّ فالمطهّر في الحقيقة هو الماء المتجدّد من المادّة، ضرورة أنّ ماء البئر كلّما ينزح يتجدّد من المادّة ما يقوم مقام المنزوح حتّى يزول التغيّر، فالطهر مستند إلى هذا الماء المتجدّد و هو لازم الممازجة مع الماء المتنجّس عادة بسبب النزح الّذي يوجب مباشرة الدلو و غيره من الآلات المقتضية بحكم العادة تحرّك الماء و تقلّب أجزائه من مكان إلى آخر كما لا يخفى.

و هذا كما ترى ملزوم للممازجة لا محالة، و لو سلّم فالتعدّي من البئر إلى غيرها لا بدّ له من وسط و هو مفقود، بناء على اختصاص العلّة بزوال التغيّر كما هو الظاهر؛ و لعلّ ذلك حكم مختصّ بالبئر كسائر أحكامها المختصّة بها الّتي منها المنزوحات المقدّرة فيها وجوبا أو استحبابا فليتدبّر،

و لنختم المقام بذكر فوائد:
الاولى: أنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا أنّ المعتبر من الامتزاج ما يرتفع به امتياز الماءين على وجه لا يقع عليهما عند المطّلع بالحال إلاّ إشارة واحدة،

سواء حصل ذلك باختلاط كلّ الأجزاء بكلّ الأجزاء أو بغيره، لأنّ المقتضي للامتزاج هو الامتياز فلا بدّ و أن يكون العبرة بارتفاعه المتحقّق تارة بالامتزاج الكلّي و اخرى بالامتزاج الجزئي، خلافا لكاشف اللثام - المحكيّ عنه - الاكتفاء بامتزاج البعض مطلقا مدّعيا عليه الإجماع، قائلا:

«بأنّه مع الاتّصال لا بدّ من اختلاط شيء من الأجزاء، فإمّا أن ينجّس الطاهر، أو يطهّر النجس، أو يبقيان على ما كانا عليه، و الأوّل و الثالث خلاف ما اجمع عليه فتعيّن الثاني.

ص: 588


1- مختلف الشيعة 178:1.

و إذا تطهّر ما اختلط من الأجزاء طهر الباقي، إذ ليس لنا ماء واحد في سطح واحد يختلف أجزاؤه طهارة و نجاسة بلا تغيّر؛ و أيضا لا خلاف في طهر الزائد على الكرّ أضعافا كثيرة بإلقاء كرّ عليه و إن استهلكه.

و ربّما كانت نسبة ما يقع فيه الاختلاط منه و من أجزاء النجس إلى مجموع أجزائه كنسبة ما يقع فيه الاختلاط بين القليل و الكثير عند أوّل الاتّصال، فإمّا أن يقال هنا: أنّه يطهّر الأجزاء المختلطة، ثمّ هي تطهّر ما جاورها و هكذا إلى أن يطهّر الجميع، فكذا فيما فيه المسألة.

و إمّا أن لا يحكم بالطهارة إلاّ إذا اختلط الكرّ الطاهر بجميع أجزاء النجس و يحكم ببقائه على الطهارة، و بقاء الأجزاء الغير المختلطة من النجس على النجاسة إلى تمام الاختلاط، و قد عرفت أنّه ليس لنا ماء واحد في سطح واحد يختلف أجزاؤه من غير تغيّر، و أيضا فالماء جسم لطيف سيّال تسري فيه الطهارة سريعا كما تسري فيه النجاسة، و لا دليل على الفرق بينهما»(1) انتهى.

و ضعفه ظاهر بعد الإحاطة بجميع ما تقدّم مع أنّه لو كان هذا التحقيق منه بناء على القول باشتراط الامتزاج لغى معه الاشتراط، لأنّ الاختلاط الجزئي كيفما اتّفق لازم عقلي للاتّصال كما لا يخفى على المتأمّل.

الثانية: قد يستظهر من كلمات أهل القول باعتبار الامتزاج زيادة عليه القول باعتبار الاستهلاك أيضا على الوجه المعتبر في تطهير المضاف و عدم كفاية مطلق الامتزاج؛

و هو كما ترى إفراط كما أنّ ما سبق عن كاشف اللثام من القول بكفاية الاختلاط الجزئي الحاصل عند أوّل الاتّصال تفريط؛ و لم نقف في كلمات من تقدّم على ما يقضي بهذا الظهور، بل من تأمّل في العبارات المتقدّمة و نظر فيها حقّ النظر يجدها بين صريحة و ظاهرة في عدم اعتباره؛ و ما تقدّم في عبارة كاشف اللثام من نفي الخلاف في طهر الزائد على الكرّ أضعافا كثيرة بإلقاء كرّ عليه و إن استهلكه ممّا يشهد بكذب دعوى اعتباره عندهم، كيف و هو مستحيل الفرض فيما لو كان الماء النجس أقلّ من الكرّ الملقى عليه بقليل، فضلا عن كونه أكرارا كثيرة و الملقى عليه كرّا واحدا.

ص: 589


1- كشف اللثام 310:1.

نعم، ربّما يوهم اعتباره وقوع لفظ «الاستهلاك» في بعض استدلالاتهم المتقدّمة على طهر القليل بإلقاء كرّ عليه؛ و مثله ما في الاستدلال على طهر الجاري المتغيّر بزوال التغيّر من جهة تدافع الماء من المادّة و تكاثره كما عرفته عن المنتهى(1)، لكن كلماتهم الاخر في طيّ تفاصيل المسألة قرائن تنهض شاهدة بعدم إرادة الاستهلاك بالمعنى المذكور، بل بإرادة الامتزاج الرافع للامتياز الخارجي بين الماءين، و حينئذ فيلزم حصول الطهر و لو فرض الكرّ الملقى مستهلكا في جنب النجس كما في مفروض كاشف اللثام، و هو الحقّ الّذي لا محيص عنه بالنظر إلى استدلالهم بما تقدّم من الملازمة المجمع عليها الّتي لا يقطع بها إلاّ مع الامتزاج المذكور، فحينئذ يكفي في طهر كرور متكاثرة كرّ واحد إذا امتزج معها على الوجه المذكور.

الثالثة: لا فرق في اعتبار الامتزاج في تطهير القليل المتنجّس بين أنواعه،

حتّى ماء الحمّام الّذي هو عبارة عمّا في حياضه الصغار إذا تنجّس بسبب انقطاعه عن المادّة، فإنّ مستند الاعتبار في غيره الّذي هو استصحاب النجاسة إلى أن يتحقّق مزيل يقيني كما ترى جار في ماء الحمّام أيضا، نظرا إلى أنّه بملاحظة الخلاف المتقدّم في بابه من مواضع الشبهة، و طهره بإلقاء الكرّ عليه دفعة مع تحقّق الممازجة أيضا ممّا لا إشكال فيه.

و أمّا طهره بإجراء المادّة عليه فالظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه عندهم، بل عليه الإجماع في كلام المحقّق الخوانساري المتقدّم في بابه؛(2)، نعم ربّما يتوهّم الخلاف في اعتبار كرّيّة المادّة عند الرفع و عدمه و إن لم يوجد عليه قول محقّق كما مرّ ثمّة، و على أيّ حال فقضيّة الأصل المشار إليه اعتبارها فهو أيضا ممّا لا إشكال فيه.

نعم، يحصل الإشكال بالنظر إلى اشتراط الدفعة - المتقدّم في تحقيقه الكلام - الّتي لا تكاد تتحقّق في مادّة الحمّام لورود الماء منها إلى الحياض تدريجا، و لو فرضناهما متساويي السطح فاتّصل أحدهما بالآخر أشكل الحال من جهة حصول الوحدة المعتبرة في تطهير القليل حسبما تقدّم؛ فإن حصل الإجماع على إلغاء هذين الأمرين في خصوص

ص: 590


1- منتهى المطلب 64:1.
2- مشارق الشموس: 208 حيث قال: «... فالمعوّل في عدم نجاسة الحوض الصغير بملاقاة النجاسة حال كونه متّصلا بالمادّة الإجماع كما هو الظاهر، و كذا في تطهيره بعد النجاسة بجريان المادّة إليه إذا كانت كرّا...».

الحمّام و إلاّ أشكل الحال غاية الإشكال و قوي معه احتمال تعيّن إلقاء الكرّ في تطهيره، و على أيّ حال فالاحتياط في مثله المعتضد بالاستصحاب ممّا لا ينبغي تركه جدّا.

الرابعة: كما أنّ القليل المتنجّس يطهّر بإلقاء كرّ عليه فكذا يطهّر بالجاري و نزول الغيث،

أمّا الأوّل فقد نصّ عليه غير واحد منهم الشهيد في الدروس(1) و غيره، بل الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه في الجملة كما في شرح الدروس للخوانساري(2).

نعم، على القول باشتراط الكرّيّة في عدم انفعال الجاري يعتبر الكرّيّة؛ و أمّا على المختار فالكرّيّة ليست بمعتبرة هنا كما أنّ الظاهر عدم اعتبار الدفعة هنا، بل لا معنى له بعد ملاحظة أنّ وصف الجريان لا يجامعه الدفعة بالمعنى المتقدّم؛ و أمّا الامتزاج فقد صرّح غير واحد بأنّ الكلام فيه هنا كالكلام في إلقاء الكرّ، و قضيّة ذلك كونه معتبرا هنا عند معتبريه ثمّة، و هذا هو مقتضى الأصل المتقدّم ذكره، و لا فرق في الطهر به بين الورودين و لا بين علوّ المطهّر و غيره، فلو اتّصل به الجاري من تحته فامتزجا طهر، و الدلالة على ذلك كلّه ما سبق مفصّلا في إلقاء الكرّ.

و أمّا ما عن العلاّمة في القواعد(3) و التحرير(4) من أنّه لا يطهّر بالنبع من تحته، فلعلّه لا ينافي ما ذكرناه، لجواز أن يكون مراده بالنبع خروج الكثير المنخفض عن القليل إليه بطريق النبع، كما مرّت الإشارة إليه في نظير ذلك عنه في المنتهى(5) في ردّ الشيخ في المبسوط.

و قد يذكر في توجيهه وجهان آخران كما في شرح الدروس(6).

أحدهما: ابتناؤه على اشتراط العلوّ في الطهر، و هو ليس على ما ينبغي كما يظهر وجهه بملاحظة ما أشرنا إليه عنه في المنتهى.

و ثانيهما: ابتناؤه على ما هو مختاره من نجاسة الجاري بالملاقاة إذا كان قليلا، و ما ذكرناه أوجه، و أمّا الثاني فقد سبق شرحه مفصّلا في باب المطر.

و ثالثها: في تطهير القليل بإتمامه كرّا،
اشارة

و ثالثها(7): في تطهير القليل بإتمامه كرّا،

و هذا ممّا اختلف فيه الأصحاب رضوان اللّه

ص: 591


1- الدروس الشرعيّة 118:1.
2- مشارق الشموس: 193 قال: «الظاهر أنّ تطهيره بالجاري في الجملة ممّا لا خلاف فيه...» الخ.
3- قواعد الأحكام 186:1.
4- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 4.
5- منتهى المطلب 65:1.
6- مشارق الشموس: 194.
7- تقدّم ثانيها في ص 97.

عليهم، فعن الشيخ في الخلاف(1) و ابن الجنيد(2) و أكثر المتأخّرين عدم طهره به مطلقا سواء كان بطاهر أو نجس؛ و في بعض العبائر: «أنّه المشهور»، و عن المرتضى في المسائل الرسيّة(3)، و الشيخ في ظاهر المبسوط(4)، و السّلار(5)، و يحيى بن سعيد(6)، و ابني إدريس(7) و حمزة(8)، و المحقّق الشيخ عليّ (9) القول بالطهارة، و هؤلاء - على ما نقل - بين مطلق و مصرّح بعدم الفرق بين الطاهر و النجس كما عن ابن إدريس(10)، و عن المبسوط نسبته إلى بعض أصحابنا، و مقيّد له بالطاهر كما عن بعضهم على ما في محكيّ المبسوط(11) و الذكرى(12).

و الأقوى الأوّل، لأنّه ماء حكم الشارع بنجاسته فيقف زواله على دلالة من الشارع و هي منتفية، كيف و أنّ المتمّم إن كان طاهرا فقد تنجّس بالملاقاة بحكم علّيتها المستفادة من مفهوم «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(13) و معه لا يعقل الطهارة في المجموع بمجرّد الإتمام؛ و إن كان نجسا فأولى بعدم التأثير في التطهير.

و يؤيّده عموم النهي عن استعمال غسالة الحمّام الّتي لا تنفكّ عادة عن الطاهر إذا بلغ المجموع كرّا.

فإن قلت: كما أنّ ملاقاة هذا النجس علّة لانفعال الملاقي بحكم المفهوم فكذلك علّة لكرّيّة المجموع و هي مانعة عن الانفعال؛ فيجب القول بعدمه في الملاقي عملا بمنطوق الرواية، ثمّ يحكم بطهارة المجموع عملا بالإجماع على عدم اختلاف الماء الواحد في السطح الواحد في وصفي الطهارة و النجاسة و لو بعد اعتبار الممازجة بينهما.

قلت: مع أنّ المستفاد من المنطوق أنّ الكرّيّة مانعة عن الانفعال إذا صادفت طهارة

ص: 592


1- الخلاف 194:1 المسألة 149، حيث قال: «و لا يحكم بطهارته إلاّ إذا ورد عليه كرّ من الماء فصاعدا».
2- حكى عنه في مختلف الشيعة 179:1.
3- جوابات المسائل الرسيّة الاولى (رسائل الشريف المرتضى 361:2).
4- المبسوط 7:1.
5- المراسم العلويّة (سلسلة الينابيع الفقهيّة 246:1).
6- الجامع للشرائع: 18.
7- السرائر 63:1.
8- الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة 414:2).
9- جامع المقاصد 134:1.
10- السرائر 63:1.
11- المبسوط 7:1، قال: «و في أصحابنا من قال: إذا تمّمت بطاهر كرّا زال عنها حكم النجاسة و هو قويّ...».
12- ذكرى الشيعة 86:1.
13- الوسائل 159:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 6 - الكافي 1/2:3 - التهذيب 109/40:1.

المجموع فلا يندرج فيه المقام؛ و معه يبقى المفهوم سليما عن المعارضة، أنّ الملاقاة لكونها علّة للكرّيّة مقدّمة ذاتا على الكرّيّة فهي بمجرّد تحقّقها تؤثّر في انفعال الملاقي قضاء لاستحالة تخلّف المعلول عن العلّة، غاية الأمر أنّ هذا المعلول يقارن المعلول الآخر و هو الكرّيّة في الوجود الخارجي، و قضيّة ذلك مصادفة هذا المعلول محلاّ غير قابل لأن يؤثّر في عدم انفعاله و إلاّ لزم اجتماع النقيضين.

فإن قلت: إنّما يلزم المحذور لو ترتّب الأثران على الملاقاة و الكرّيّة متقارنين و هو ليس بلازم، لجواز أن يترتّب الأثر على الكرّيّة بعد ما ترتّب على الملاقاة أثرها، غاية ما هنالك لزوم الالتزام بأنّ هنا حدوثا للانفعال و زوالا له جمعا بين المفهوم و المنطوق.

قلت: ذلك خروج عن الفرض حيث إنّ الاعتراض - قبالا لما ادّعيناه من اقتضاء الملاقاة انفعال الملاقي - دعوى مانعيّة الكرّيّة عن حدوث الانفعال، و ما ذكر في التفصّي عن المحذور التزام بكون الكرّيّة رافعة للانفعال الحادث؛ و الفرق بين المعنيين بيّن كما بين السماء و الأرض؛ مع أنّ مفاد المنطوق كون الكرّيّة مانعة عن حدوث الانفعال لا أنّها رافعة للانفعال الحادث فلا منطوق بالقياس إلى ما ذكر، فيعود الكلام إلى بقائه تحت المفهوم.

و دعوى دخوله فيه أوّلا و خروجه ثانيا بطروّ الكرّيّة ممّا لا شاهد بها.

و في كلام غير واحد الاحتجاج على المختار بالاستصحاب و هو لا يخلو عن نوع مناقشة؛ إذ لو اريد بالنجاسة المستصحبة نجاسة الجميع فهو كذب، لمكان كون الحالة السابقة في المتمّم الطهارة.

و لو اريد بها ما يختصّ بالبعض المتنجّس فهي معارضة بطهارة المتمّم؛ و لو اريد العمل بالاستصحابين معا و لو بعد الممازجة، فهو باطل بحكم الملازمة المجمع عليها المقتضية لعدم اختلاف الماء الواحد في الحكم.

إلاّ أن يقال: بأنّ المراد بها النجاسة المختصّة مع الحكم بنجاسة الجميع بحكم تلك الملازمة، أو بحكم ما دلّ على انفعال القليل بملاقاة المتنجّس الّذي حكم عليه بالنجاسة شرعا، على ما سبق تحقيقه في ذيل مسألة أنّ النجاسة منوطة في نظر الشارع بالعلم بها و لو شرعا.

ص: 593

و لكن يتوجّه إليه: أنّ المقام ليس من موارد الاستصحاب لمكان العلم ببقاء النجاسة، إلاّ أن يكون التمسّك به مبنيّا على المماشاة مع الخصم.

و كيف كان فاحتجّ أهل القول بالطهارة بوجوه:
منها: ما عن المرتضى من أنّ البلوغ قدر الكرّ يوجب استهلاكه للنجاسة فليستو وقوعها قبل البلوغ و بعده.

منها: ما عن المرتضى(1) من أنّ البلوغ قدر الكرّ يوجب استهلاكه للنجاسة فليستو وقوعها قبل البلوغ و بعده.

و جوابه: أنّ معنى كون بلوغ قدر الكرّ موجبا لاستهلاك النجاسة أنّ الماء معه لا يتأثّر عمّا يقع فيه من النجاسة العينيّة الغير المغيّرة و ما في حكمها في التأثير كالمتنجّس، كما أنّ معنى كون الماء البالغ قدر الكرّ مستهلكا للنجاسة عدم قبوله أثر النجاسة الواقعة فيه و عدم بروز أثر تلك النجاسة فيه و عروضه له، بحيث كان وجودها فيه بمنزلة عدمها، فلو اريد بالمقدّمة الاولى من الدليل هذا المعنى فهو حقّ متين لا سترة عليه، لكنّه لا يقتضي الاستواء بين وقوعها قبل البلوغ و وقوعها بعد البلوغ، ضرورة الفرق بينهما كما بين السماء و الأرض، إذ ليس الكلام في أنّه هل يتأثّر أو لا يتأثّر؟ بل في أنّه هل يزول عنه الأثر أو لا يزول؟ و من البيّن أنّ أحدهما ليس بعين الآخر و لا ملازمة بينهما عقلا و لا شرعا، فيكون التعدّي عن أحدهما إلى الآخر قياسا و مع الفارق، ضرورة أنّ الماء في رفعه الأثر الحاصل ربّما يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه في دفعه الأثر الغير الحاصل كما هو معلوم من الشرع.

و لو اريد بها ما زاد على هذا المعنى بدعوى: أنّ الكرّيّة في الماء صفة لا تجامعها صفة النجاسة سابقة و لا حقة، و بعبارة اخرى: أنّ الشرع قد كشف عن كون الكرّيّة مضادّة للنجاسة و لا معنى له إلاّ كونها في مقام الرفع رافعة و في مقام الدفع دافعة؛ فهو أوّل الدعوى لمنع قيام الدلالة من الشرع على هذا المعنى، بل القدر المسلّم قيام الدلالة على أنّ سبق الكرّيّة يوجب في الماء قوّة تعصمه عن حصول أثر النجاسة و حدوثه فيه.

و منها: ما عنه أيضا من أنّ الإجماع واقع على طهارة الماء الكثير إذا وجدت فيه نجاسة

و منها: ما عنه(2) أيضا من أنّ الإجماع واقع على طهارة الماء الكثير إذا وجدت فيه نجاسة

و لم يعلم هل كان وقوعها قبل بلوغ الكرّيّة أو بعده، و ما ذاك إلاّ لتساوي الحالين، إذ لو اختصّ الحكم ببعديّة الوقوع لم يكن للحكم بالطهارة وجه، لأنّه كما

ص: 594


1- المسائل الرسيّة الاولى (رسائل الشريف المرتضى 361:2 و 362).
2- المسائل الرسيّة الاولى (رسائل الشريف المرتضى 361:2 و 362).

يمكن تأخّره عن البلوغ كذا يمكن تقدّمه عليه.

و جوابه أوّلا: أنّه أدلّ على خلاف المقصود من الاستدلال، ضرورة أنّه لو لا الفرق بين وقوعها قبل بلوغ الكرّيّة و وقوعها بعده لغى أخذ الشكّ قيدا في موضوع الحكم المجمع عليه، و المفروض أنّه لا إجماع مع عدم اعتبار هذا الشكّ، فظهر أنّ للشكّ المذكور مدخليّة في الحكم و بطل به دعوى تساوي الحالين مطلقا.

و ثانيا: أنّ ذلك من جهة استصحاب الطهارة الأصليّة في الماء، حيث إنّ بلوغ الكرّيّة مع وقوع النجاسة بكليهما أمران حادثان لا يجري فيهما الأصل، فيبقى أصالة الطهارة سليمة.

و ثالثا: أنّ ذلك لما سبق تحقيقه من أنّ أحكام النجاسة في نظر الشارع معلّقة على العلم بتحقّق أسباب النجاسة و لو شرعا، و أنّ مشكوك النجاسة عندنا محكوم عليه عنده بالطهارة، و لا ريب أنّ المقام ممّا لا مدخل له في ذلك، فبالجملة فرق بين المقامين و الفارق هو الإجماع في أحدهما دون الآخر، مضافا إلى الأصلين المتقدّم إليهما الإشارة.

و قد يجاب عنه - بعد ما قرّر بأنّه: لو لم يحكم بالطهارة بذلك لم يحكم بطهارة الماء الّذي وجد فيه نجاسة لم يعلم وقوعها قبل الكرّيّة أو بعدها -: «بأنّ الالتزام به ليس من المنكرات فلا يحكم عليه بالطهارة و لا النجاسة، فهو لا ينجّس الطاهر و لا يطهّر النجس، فيكون حاله حال المشكوك في كرّيّته إذا لاقته النجاسة في وجه قويّ، لأنّه كما أنّ الكرّيّة شرط و قد شكّ فيها فكذلك الطهارة شرط و قد شكّ فيها»(1).

و فيه: أنّ ذلك لا يلائم الإجماع المدّعى على الحكم بالطهارة، و كأنّه غفلة عن كون مستند بطلان التالي هو الإجماع كما يرشد إليه تجريد التقرير المذكور عن ذكره، و قد وقع التصريح بالاستناد إليه في كلام جماعة على وجه يظهر منهم الاعتراف به، و حكي الاعتراف به أيضا عن الفاضلين(2) و الشهيد(3).

هذا مع ما في مقايسة المقام على المشكوك في كرّيّته من الفساد الواضح، لمنع أصل الحكم في المقيس عليه، ضرورة أنّ المشكوك في كرّيّته إمّا أن يعلم له حالة سابقة من

ص: 595


1- المجيب هو صاحب الجواهر رحمه اللّه، راجع جواهر الكلام 316:1.
2- قواعد الأحكام 184:1.
3- ذكرى الشيعة 81:1 قال فيه: و لو علمه و شكّ في سبق النجاسة، فالأصل الطهارة الخ أقول: و هذا كما ترى ليس من الاستناد بالإجماع.

قلّة أو كرّيّة أو لا؟ فعلى الأوّل يكون المتّبع هو الأصل الّذي يقتضيه الحالة السابقة، فالمتّجه حينئذ الحكم بالنجاسة لاستصحاب القلّة أو الحكم بالطهارة لاستصحاب الكرّيّة.

و على الثاني: يكون المتّبع قاعدة الطهارة بعد الحكم على الأصلين بالتساقط، بل لا أصل في البين حينئذ لانتفاء الحالة السابقة الّتي هي من أركان الاستصحاب، فيبقى قاعدة الطهارة المستفادة عن عموم «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(1) سليمة.

و أمّا التعليل بشرطيّة الكرّيّة و شرطيّة الطهارة المشكوك فيهما فممّا لا يرجع إلى محصّل، لأنّ الكرّيّة شرط في عدم نجاسة الماء بوقوع النجاسة فيه، و الطهارة شرط في تطهير النجس، لكنّ الشرط إذا كان مطابقا للأصل أمكن إحرازه بالأصل، فلم لا يحكم بأصالة الطهارة إن سلمت عن معارضة أصالة عدم الكرّيّة و تقدّمها عليها حتّى يترتّب عليه تطهير النجس؟ و مع عدم السلامة فأصالة عدم الكرّيّة يقضي بالنجاسة فيترتّب عليها تنجّس الطاهر، ففسد التعليل كما فسد أصل الحكم.

و منها: ما عن ابن إدريس الاحتجاج بالإجماع قائلا: «بأنّ إجماع أصحابنا على هذه المسألة إلاّ من عرف اسمه و نسبه»،

و منها: ما عن ابن إدريس(2) الاحتجاج بالإجماع قائلا: «بأنّ إجماع أصحابنا على هذه المسألة إلاّ من عرف اسمه و نسبه»،

و بقوله عليه السّلام: «إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا»(3)مدّعيا إجماع المؤالف و المخالف على هذه الرواية، فإنّها عامّة لصورتي تأخّر الخبث و تقدّمه.

بل عن القاموس(4) و نهاية ابن الأثير(5) أنّ معنى «لم يحمل خبثا»: لم يظهر فيه خبث، و حينئذ يكون دلالته من باب الخصوص لا العموم، لأنّ عدم ظهور الخبث فيه يستلزم معناه أنّه كان سابقا على البلوغ و بعده لم يظهر حكمه فيه.

و بالعمومات الدالّة على طهارة الماء و جواز استعماله كقوله سبحانه: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (6) و قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (7)؛ و قوله صلّى اللّه عليه و آله لأبي ذر: «إذا وجدت الماء فامسسه جسدك»(8)، و قوله: «أمّا أنا فلا ازيد على أن أحثوا

ص: 596


1- الوسائل 134:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5.
2- السرائر 66:1.
3- مستدرك الوسائل 198:1، ب 9 ح 6.
4- القاموس المحيط، مادّة «حمل» 362:3.
5- نهاية ابن الأثير: مادّة «حمل» 144:1.
6- الأنفال: 11.
7- المائدة: 6.
8- هذا من حديث رواه أحمد في مسنده 146:5، و أبو داود في السنن 91:1، و روي الترمذي في جامعه 193:1، القطعة الأخيرة منه المتعلّقة بالتيمّم و الغسل و روى ابن العربي في شرحه على جامع الترمذي الحديث بتمامه، و رواه أيضا البيهقي في السنن 179:1.

على رأسي ثلاث حثيات فإذن أنّي قد طهرت»(1)، و ضعف الجميع واضح.

أمّا الأخير: فلأنّ عموم الآية لا تعرّض فيه لما بعد النجاسة، بل أقصى ما فيها الدلالة على حكم الماء بحسب الخلقة الأصليّة و هو لا ينافي طروّ النجاسة فضلا عن استمرارها بعد الطروّ.

و أمّا البواقي: فلأنّها قضايا مهملة سيقت لإعطاء أصل حكم التطهير، من غير نظر فيها إلى تشخيص موضوعه عموما و لا خصوصا.

و أمّا الأوّل: فلمنافاته مخالفة المعظم فلا اعتداد بنقله بعد الاسترابة في منقوله.

و أمّا الأوسط: فمع ما فيه من قدح السند - على ما يظهر وجهه - يرد عليه منع دلالته على ما يرامه المستدلّ كما هو واضح لمن له أدنى خبرة بمعاني الألفاظ و مقتضى تراكيب الكلام؛ إذ أقصى ما فيها من الدلالة أنّ الماء ببلوغ الكرّيّة لا يتحمّل صفة الخبثيّة، على معنى أنّه لا يحدث له تحمّل تلك الصفة، لا أنّه بسببه يضع حمله من تلك الصفة على تقدير تحمّله لها قبل البلوغ، و هذان معنيان متغايران، و الأوّل منهما يقتضي خلوّ الماء عنها قبل البلوغ؛ و محلّ البحث مندرج في الثاني فلا يندرج في الرواية، فيكون مفادها مطابقا لمفاد «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء».

و لا ينافيه ما عرفت نقله عن القاموس و النهاية، لأنّ عدم ظهور الخبث معناه عدم بروزه في ظرف الخارج لا زوال الخبث البارز في الخارج عنه.

و للمحقّق - على ما نقل عنه في المعتبر - كلام طويل في دفع هذه الأدلّة و لا سيّما الرواية، حيث إنّه بعد ما نقل الأدلّة قال: «فالجواب: دفع الخبر فإنّا لم نروه مسندا، و الّذي

ص: 597


1- هذا الحديث رواه الشوكاني في نيل الأوطار عن أحمد 215:1 هكذا: «أمّا أنا فاحثي على رأسي ثلاث حثيات ثمّ أفيض فإذا أنا قد طهرت»، ثمّ قال: و قال الحافظ: قوله: «فإذا أنا قد طهرت» لا أصل له من حديث صحيح و لا ضعيف. و لكنّه وقع من حديث أمّ سلمة، قال لها: «إنّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثمّ تفيضين الماء عليك فإذا أنت قد طهرت» و أصله في صحيح مسلم». انتهى ما في نيل الأوطار: و روى البخاري في صحيحه: ح 1 (باب من أفاض على رأسه ثلاثا) قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا» و أشار بيديه كلتيهما، و هكذا رواه مسلم في صحيحه 136:1؛ و النسائي في سننه 49:1، و ابن ماجة في سننه 203:1؛ و أبو داود في سننه 62:1؛ و ابن حجر في مجمع الزوائد 271:1؛ و رواه أيضا ابن ماجه في سننه 203:1 هكذا: «أمّا أنا فأحثو على رأسي ثلاثا».

رواه مرسلا المرتضى رضي اللّه عنه و الشيخ أبو جعفر و آحاد ممّن جاء بعده؛ و الخبر المرسل لا يعمل به و كتب الحديث عن الأئمّة عليهم السّلام خالية عنه أصلا، و أمّا المخالفون فلم أعرف به عاملا سوى ما يحكى عن ابن حيّ و هو زيدي منقطع المذهب، و ما رأيت أعجب ممّن يدّعي إجماع المخالف و المؤالف فيما لا يوجد إلاّ نادرا، فإذن الرواية ساقطة.

و أمّا أصحابنا فرووا عن الأئمّة عليهم السّلام «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» و هذا صريح في أنّ بلوغه كرّا هو المانع لتأثّره بالنجاسة، و لا يلزم من كونه لا ينجّسه شيء بعد البلوغ رفع ما كان ثابتا فيه و منجّسا قبله، و الشيخ رحمه اللّه قال بقولهم عليهم السّلام، و نحن قد طالعنا كتب الأخبار المنسوبة إليهم فلم نر هذا اللفظ، و إنّما رأينا ما ذكرناه و هو قول الصادق عليه السّلام «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» و لعلّ غلط من غلط في هذه المسألة لتوهّمه أنّ معنى اللفظين واحد.

و أمّا الآيات و الخبر البواقي فالاستدلال بها ضعيف لا يفتقر إلى جواب، لأنّا لا ننازع في استعمال الطاهر المطلق، بل بحثنا في هذا النجس إذا بلغ بطاهر، فإن ثبت طهارته تناولته الأحاديث الآمرة بالاغتسال أو غيره، و إن لم يثبت طهارته فالإجماع على المنع منه فلا تعلّق له إذن فيما ذكره، و هل يستجيز أن يقول محصّل: أن يقول النبي صلّى اللّه عليه و آله:

«أحثوا على رأسي ثلاث حثيات ممّا يجتمع من غسالة البول و الدم و ملغة الكلب»؟.

و احتجّ لذلك أيضا بالإجماع و هو أضعف من الأوّل؛ لأنّا لم نقف على هذا في شيء من كتب الأصحاب و لو وجد كان نادرا، بل ذكره المرتضى رحمه اللّه في المسائل منفردة و بعده اثنان أو ثلاثة ممّن تابعه، و دعوى مثل هذا إجماعا غلط، إذ لسنا بدعوى المائة نعلم بدخول الإمام عليه السّلام فيهم فكيف بفتوى الثلاثة و الأربعة»(1) انتهى.

المرحلة الثانية: في تطهير الكرّ و الجاري المتغيّرين، ففيها مسألتان.
اشارة

المرحلة الثانية:(2) في تطهير الكرّ و الجاري المتغيّرين، ففيها مسألتان.

المسألة الاولى: في تطهير الكرّ.
اشارة

فانّه يطهّر بإلقاء كرّ عليه فما زاد حتّى يزول التغيّر، سواء عمّ التغيّر جميع الكرّ أو اختصّ ببعضه مع كون الباقي أقلّ من كرّ، و لو زال التغيّر بكرّ واحد و لو بعد مكث و مضيّ مدّة اكتفى به و لم يحتج إلى الزائد، بشرط أن لا يتغيّر الكرّ الملقى كلاّ أم بعضا

ص: 598


1- المعتبر: 12.
2- تقدّمت المرحلة الاولى في ص 548.

و إلاّ احتيج إلى إلقاء كرّ آخر، و البحث في اعتبار الدفعة و الممازجة كما سبق، فالمتّجه على المختار اعتبارهما هنا أيضا.

و لو اختصّ التغيّر ببعض الكرّ و كان الباقي أيضا كرّا و لم يقطع التغيّر عمود الغير المتغيّر كفى ذلك الباقي في طهر صاحبه، بشرط تموّج بعضه في بعض تحقيقا للممازجة المعتبرة، و على القول بعدم اعتبارها كفى الاتّصال الموجود هنا، لكن يشترط على كلا التقديرين زوال التغيّر.

و أمّا الدليل على الطهر في جميع الصور المذكورة هو الدليل المتقدّم في تطهير القليل من الملازمة المجمع عليه.

و يطهّر الكثير أيضا بالجاري و بماء المطر على النحو المتقدّم إليه الإشارة، و ينوط الحكم فيهما أيضا بزوال التغيّر، فهذا كلّه ممّا لا إشكال فيه.

نعم، الإشكال في طهره بزوال التغيّر من قبل نفسه، أو بعلاج من تصفيق الرياح أو وقوع أجسام طاهرة فيه و نحوه، كما نقل القول به عن يحيى بن سعيد من أصحابنا في الجامع(1)، و عن العلاّمة في النهاية(2) أنّه تردّد في حصول الطهارة بزوال التغيّر من قبل نفسه خاصّة؛ و أمّا الباقون فعلى أنّه لا يطهّر به مطلقا، و قد يجعل ذلك أشهر القولين.

و في المنتهى: «المشهور أنّه لا يطهّر به»(3)، و لم يعرف من أصحابنا عدا من ذكر قائل بالطهر به.

نعم، في المنتهى نقل تفصيلا عن الشافعي و أحمد من العامّة و هو: «أنّه إن زال التغيّر لطول المكث عاد طهورا، و إن زال لطرح المسك و الزعفران فلا، لأنّهما ساتران لا مزيلان»، ثمّ قال: «و في التراب قولان مبنيّان على أنّه مزيل أو ساتر».

ثمّ قال: «و لو زال التغيّر بأخذ بعضه لم يطهر و إن كان كرّا، و كذا لو زال التغيّر بإلقاء أقلّ من الكرّ على الأقوى، خلافا لبعض علمائنا و للشافعي»(4).

لكن في المدارك جعل القول الأوّل - الّذي ذهب إليه القاضي - مبنيّا على ما ذهب إليه من أنّ الماء النجس يطهّر بالإتمام، و من هنا صرّح بأنّه في الحقيقة لازم لكلّ من قال بذلك(5).

ص: 599


1- الجامع للشرائع: 18.
2- نهاية الإحكام 258:1.
3- منتهى المطلب 64:1.
4- منتهى المطلب 64:1.
5- مدارك الأحكام 46:1 و فيه «الفاضل» بدل «القاضي».

و في الحدائق: «صرّح جمع من الأصحاب بأنّ القول بطهارة المتغيّر بزوال التغيّر لازم لكلّ من قال بالطهارة بالإتمام»(1)، و نقل دعوى هذه الملازمة عن المحقّق في المعتبر(2) أيضا.

و لعلّها مبنيّة على توهّم رجوع القول بالطهارة بالإتمام إلى دعوى منافاة عنوان الكرّيّة لوصف النجاسة، و هو ممّا لا ينافيه أكثر أدلّة هذا القول، بل بعضها - إن تمّ - متناول للمقام كالرواية المتقدّمة مع عمومات الطهارة و المطهّريّة، و لا ينافيه كون التغيّر عند أصحاب هذا القول مقتضيا للنجاسة حتّى مع عنوان الكرّيّة، لأنّ أقصى ما يلزم من ذلك التزامهم بتقييد العنوان بغير صورة التغيّر أو تخصيص تلك الصورة عن العامّ.

و لا يقدح فيه القول بالطهارة بعد زوال التغيّر، لأنّ ذلك تخصيص في بعض الأحوال و هو لا يقضي بتخصيص الفرد في جميع الأحوال، فالمخرج عن العموم هو حالة التغيّر دون الفرد المتغيّر حتّى لا يمكن دخوله فيه بعد الخروج، و قضيّة ذلك شمول حكم العامّ له بعد ارتفاع الحالة المذكورة نظرا إلى وجود المقتضي و ارتفاع المانع.

و لكن يضعّف دعوى الملازمة بمصير بعض أهل القول بالطهارة في مسألة الإتمام إلى عدمها في مسألة زوال التغيّر كالحلّي(3) - على ما حكي - و ذهاب بعض القائلين بعدم الطهارة ثمّة إليها هنا، مستدلاّ: بأنّ الأصل في الماء الطهارة، و الحكم بالنجاسة للتغيّر، فإذا زالت العلّة انتفى المعلول كما حكاه في المدارك(4)، و كيف كان فعمدة ما احتجّ به للقول بالطهارة هو الوجه المذكور.

و اجيب عنه: بأنّ المعلول هو حدوث النجاسة لا بقاؤها، و قد تقرّر في الاصول أنّ

ص: 600


1- الحدائق الناضرة 246:1.
2- المعتبر: 9 حيث قال: «الثاني: طريق تطهير المتغيّر إن كان جاريا... و إن كان واقعا فبأن يطرأ عليه من الماء الطاهر المطلق ما يرفع تغيّره... و لو تمّم كرّا فزال معه لم يطهر و يجيء على قول من يطهّر النجس ببلوغه كرّا أن يقول بالطهارة هنا».
3- السرائر 62:1 حيث قال: «و إن ارتفع التغيّر عنه من قبل نفسه، أو بتراب يحصل فيه، أو بالرياح الّتي تصفقها... لم يحكم بطهارته الخ». و قال في مسألة إتمام القليل كرّا: «و الطريق إلى تطهير هذا الماء أن يزاد زيادة تبلغه الكرّ أو أكثر منه... الخ» 63:1.
4- مدارك الأحكام 46:1.

البقاء لا يحتاج إلى دليل في نفسه، إذ الأصل أنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع و ذلك معنى الاستصحاب، لكن ربّما يتوجّه إليه مناقشة من حيث التعليل المذكور يظهر وجهها بالتأمّل.

و قد يستدلّ له بوجوه اخر:

منها: الرواية المتقدّمة في المسألة السابقة(1) إمّا بناء على ما قرّرناه من أنّ الخارج من ذلك حالة التغيّر فيدخل ما بعدها في العموم، أو لأنّه إذا فرض الماء المتغيّر نصفين زال تغيّرهما فاجتمعا دخل تحت عموم الرواية، و إذا ثبت فيه ثبت في غيره بالإجماع.

و فيه: أنّ الاستناد إلى تلك الرواية إنّما يصحّ لو كانت متعرّضة لحكم الزوال عقيب الحدوث خصوصا أو عموما و قد مرّ منعه في المسألة السابقة، فإنّ العبارة قاصرة جدّا عن التعرّض للحكم المذكور نفيا و إثباتا، و ظاهرة في إعطاء حكم الدفع الّذي ليس المقام عنه، و مع الغضّ عن ذلك فالتمسّك بالإجماع بناء على التقرير الثاني ضعيف جدّا، إذ لا محمل له إلاّ مركّب الإجماع و هو مع وجود القول بالفصل كما ترى؛ و قد عرفت أنّ الحلّي العامل بالرواية فيما هو من قبيل المسألة الثانية أنكر الطهارة هنا.

و قد يجاب عنه(2) أيضا: بأنّ الرواية مخصوصة بالنصّ و الإجماع بالخبث الّذي لا يكون مغيّرا للماء، فإذا ثبت النجاسة بالتغيّر كانت مستصحبة، و بالتأمّل فيما قرّرناه في تحقيق دعوى الملازمة بين القولين تقدر على تزييف ذلك بأحسن وجه.

و منها: قاعدة الطهارة بناء على عدم جريان استصحاب النجاسة، لأنّ موضوع النجاسة هو المتلبّس بالتغيّر، أو المردّد بين ما حدث فيه التغيّر في زمان و ما تلبّس به، و على التقديرين فلا يعلم بقاء الموضوع الّذي هو شرط في جريان الاستصحاب.

و فيه: منع كون موضوع النجاسة شيء ممّا ذكر، بل الموضوع هو الماء الملاقي للنجاسة المغيّرة، بناء على أنّ الموجب للنجاسة هو الملاقاة المغيّرة دون الملاقاة مطلقة و لا التغيّر منفردا و هو باق جزما، و سيلحقك زيادة توضيح في ذلك.

و منها: الأخبار الظاهرة في اعتبار فعليّة التغيّر في النجاسة مثل قوله عليه السّلام: «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ [من الماء] و اشرب»(3) و قوله عليه السّلام: «لا بأس إذا

ص: 601


1- و المراد بها قوله عليه السّلام: «إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا».
2- المجيب هو المحقّق الخوانساري رحمه اللّه في مشارق الشموس: 204.
3- الوسائل 137:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 1.

غلب لون الماء لون البول»(1)، و قوله عليه السّلام: «إذا كان النتن الغالب على الماء فلا توضّأ و لا تشرب»(2) و نحو ذلك.

و فيه: أنّ اعتبار فعليّة التغيّر في النجاسة ممّا لا ينكره أحد، لكنّها تلاحظ تارة بالقياس إلى حدوث التغيّر فيراد بها حدوثه فعلا، و اخرى بالقياس إلى بقاء التغيّر فيراد بها بقاؤها فعلا، و المطلب إنّما يثبت لو كان المستفاد من الأخبار اعتبار الفعليّة في كلّ من جهتي الحدوث و البقاء، على معنى استفادة استناد النجاسة حدوثا و بقاء إلى التغيّر حدوثا و بقاء، فحدوثها إلى حدوثه و بقاؤها إلى بقائه، و قضيّة ذلك انتفائها عند انتفاء إحدى جهتي التغيّر، فلا حدوث مع عدم حدوثه و لا بقاء لها مع عدم بقائه، و هذا كما ترى موضع منع كلّ المنع، لوضوح أنّ أقصى ما يستفاد منها اعتبار الفعليّة في جهة الحدوث فقط، و أمّا جهة البقاء فهي إمّا دالّة على عدم اعتبار الفعليّة فيها أو ساكتة عن التعرّض لها نفيا و إثباتا، فعلى كلّ من التقديرين يجب استصحاب النجاسة بعد زوال التغيّر إلى أن يقوم رافع يقيني، و إن كان الاستصحاب على التقدير الأوّل يراد به معنى و على التقدير الثاني معنى آخر و سيأتي بيان المعنيين مع الفرق بينهما.

و ممّا يفصح عمّا ذكرناه من أنّ المستفاد من الأخبار اعتبار الفعليّة في جهة الحدوث فقط ورد التعبير في الأخبار عن اعتبار التغيّر في النجاسة بصيغة الفعل ماضيا و مستقبلا الّتي هي باعتبار الوضع اللغوي ظاهرة في الحدوث، و سيلحقك زيادة بيان في ذلك.

و منها: الأمر بالنزح في البئر المتغيّر حتّى يزول التغيّر الوارد في صحيحة محمّد بن بزيع(3) بناء على أنّ كلمة «حتّى» للتعليل أو للانتهاء، مع استظهار كون ما بعدها علّة غائيّة نظير ما في قولك: «تفكّر في العبارة حتّى - أو إلى - أن تفهمها».

و فيه أوّلا: منع كون كلمة «حتّى» تعليليّة لظهورها في الانتهاء، و لو سلّم فليس ذهاب الريح و طيب الطعم علّة للطهر و إنّما هو علّة للنزح الّذي اعتبره الشارع لرفع المانع عن الطهر المقارن للطهر الحاصل بتجدّد الماء من المادّة، فالمطهّر هو الماء المتجدّد دون زوال التغيّر، لكون وجود التغيّر مانعا عن حصول الطهر.

ص: 602


1- الوسائل 139:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 7 و 6.
2- الوسائل 139:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 7 و 6.
3- الوسائل 172:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق 7.

و ثانيا: منع دخولها على العلّة الغائيّة على تقدير كونها انتهائيّة، لما تبيّن من أنّ الغاية المقصودة من النزح طهر البئر بتجدّد الماء من المادّة، و ذهاب الريح مع طيب الطعم مقصود بالتبع دفعا للمانع.

و لو سلّم كونه مقصودا بالأصالة فإنّما يقصد إحرازا لرفع المانع لا لأنّ المقصود إحراز المقتضي للطهارة و لا يكون إلاّ زوال التغيّر.

و لو سلّم أنّ إحراز المقتضي أيضا مقصود بالأصالة فالمقتضي ليس إلاّ الماء المتجدّد من المادّة المقارن تجدّده لزوال التغيّر فكلاهما مقصودان بالأصالة، إلاّ أنّ تجدّد الماء مقصود لإحراز المقتضي و زوال التغيّر مقصود لإحراز رفع المانع.

و لو سلّم أنّ عدم المانع له مدخليّة في ترتّب الأثر فغايته كونه جزءا للعلّة لا أنّه علّة تامّة، فالجزء الآخر هو تجدّد الماء.

و لو سلّم عدم الدلالة على مدخليّة تجدّد الماء فلا نسلّم الدلالة على نفي المدخليّة أيضا، و لازم ذلك قيام الاحتمال المتساوي و معه يكون المقام من مجاري الاستصحاب الّذي لا قاطع له سوى تجدّد الماء، فكون زوال التغيّر علّة غائيّة لا يستلزم كونه هو المطهّر، فالاستدلال بالصحيحة على طهر الماء بمجرّد زوال التغيّر غير متّجه، سواء جعل كلمة «حتّى» تعليليّة، أو انتهائيّة داخلة على العلّة الغائية أو لا.

حجّة القول المشهور امور:
أحدها: ما اعتمد عليه المحقّق الخوانساري

فإنّه قال - معرضا عن الوجوه الثلاث الآتية -: «و الأولى أن يتمسّك بالروايات الدالّة على النجاسة بالتغيّر، لأنّ فيها النهي عن الوضوء و الشرب من هذا الماء، و النهي للدوام و التكرار خرج ما بعد التطهير بالإلقاء و نحوه ممّا فيه إجماع أو دليل آخر بالدليل فيبقى الباقي»(1)، و هذا كما ترى بمكان من الوهن، ضرورة أنّ النهي هنا تابع للنجاسة لكونه ناشئا منها فدوامه موقوف على بقائها بعد زوال التغيّر، فالتمسّك بدوامه على بقائها لا يخلو عن نوع مصادرة، و لك أن تقول:

بكونه مؤدّيا إلى الدور كما يعرف بأدنى تأمّل، و من هنا يعلم أنّ دعوى دوام النهي هنا إن لم تكن عن علم ببقاء النجاسة لا بدّ لها من وسط، فمع وجوده لغى توسيط دوام

ص: 603


1- مشارق الشموس: 204.

النهي و بدونه بقي المطلب موقوفا، فالاستدلال بالأخبار إن كان و لا بدّ منه فلا بدّ و أن يقرّر بطريق آخر سنشير إليه.

و ثانيها: ما اعتمد عليه العلاّمة في المنتهى

و ثانيها: ما اعتمد عليه العلاّمة في المنتهى(1)

من «أنّ النجاسة حكم شرعي، فيتوقّف زواله على حكم آخر» و هذا أيضا لا يخلو عن نوع ضعف؛ إذ كلّ من المقدّمتين مسلّمة لا إشكال فيها غير أنّ الحكم بزوال النجاسة يكفي فيه زوال علّة الحدوث، و مع قيام شبهة العلّيّة في التغيّر المقطوع زواله لا يمكن العلم بعدم زوال العلّة، فالعمدة في المقام نفي العلّيّة عن التغيّر لا الاقتصار على ما لا يجدي شيئا من ثبوت المطلوب و دفع كلام الخصم.

و ثالثها: ما اعتمد عليه في الكتاب المذكور أيضا

من أنّ «النجاسة تثبت بوارد، فلا تزول إلاّ بوارد، بخلاف نجاسة الخمر، فإنّها تثبت بغير وارد فتطهر بغير وارد»(2)، و هذا أضعف من سابقه.

و رابعها: ما اعتمد عليه غير واحد من فحول أصحابنا منهم العلاّمة

في الكتاب المذكور(3) من أنّه كان نجسا قبل الزوال فيستصحب الحكم بعده أيضا، و هذا هو الّذي لا محيص عنه في المقام، و محصّله يرجع إلى التمسّك بالاستصحاب و إن اختلفوا في المعنى المراد به هنا، حيث إنّ ظاهر الأكثرين و صريح بعضهم أنّ المراد به معناه المعهود الّذي يعدّ عندهم من أدلّة الأحكام الظاهريّة و اختلف في حجّيّته، خلافا لصريح بعضهم في عدّه هنا من العمل بعموم الدليل و إطلاقه كما نقله صاحب الحدائق عن بعض من استدلّ بالوجه المذكور، حيث أنّه بعد ما فرغ عن تقرير الاستدلال قال: «و ليس الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المتنازع فيه، بل مرجعه إلى العمل بعموم الدليل»(1).

و الظاهر أنّ الاستصحاب بهذا المعنى هو الّذي يعبّر عنه في العمل بالأدلّة اللفظيّة بأصالة العموم، أو الإطلاق، و أصالة عدم التخصيص، أو عدم التقييد، و من المصرّح به في كلامهم أنّ الاستصحاب عندهم يطلق على هذا المعنى.

قال في مقدّمات الحدائق: «و اعلم أنّهم صرّحوا بأنّ الاستصحاب يقع على أقسام أربعة:

أحدها: نفي الحكم الشرعي و براءة الذمّة منه إلى أن يظهر دليله و هو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة.

ص: 604


1- الحدائق الناضرة 247:1 و 51.

و ثانيها: استصحاب حكم العموم إلى أن يقوم المخصّص و حكم النسخ إلى أن يرد الناسخ.

و ثالثها: استصحاب إطلاق النصّ إلى أن يثبت القيد.

و رابعها: استصحاب حكم شرعي في موضع طرأت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم لها، بمعنى أنّه يثبت في وقت ثمّ يجيء وقت آخر لا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم فيه فيحكم ببقائه على ما كان استصحابا لتلك الحالة الاولى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا خلاف و لا إشكال في حجّيّته بالمعنى الثاني و الثالث، لأنّ مرجعهما إلى الاستدلال بعموم النصّ و إطلاقه و إنّما الإشكال و الخلاف في معنى البراءة الأصليّة و قد تقدّم و في المعنى الرابع» انتهى.

و قال في الكتاب المذكور بعد الفراغ عن نقل الاستدلال بالاستصحاب مع العبارة المصرّحة «بأن ليس الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المتنازع فيه» في شرح هذا الكلام و توضيحه: «و تحقيق القول في الاستصحاب و جملة أقسامه قد تقدّم في المقدّمة الثالثة.

فظاهر كلام المستدلّ هنا أنّ الاستصحاب المذكور من قبيل القسم الثالث المذكور هناك الّذي هو عبارة عن إطلاق النصّ، دون القسم الرابع الّذي هو محلّ للنزاع». - إلى أن قال -: «و تحقيق القول في ذلك أن يقال: إذا تعلّق حكم بذات لأجل صفة - كالماء المتغيّر بالنجاسة، و الماء المسخّن بالشمس، و الحائض أي ذات دم الحيض - فهل يحكم بمجرّد زوال التغيّر و زوال السخونة و انقطاع الدم بخلاف الأحكام السابقة، أو يحكم بإجراء الأحكام السابقة إلى ظهور نصّ جديد؟ فيه إشكال ينشأ من أنّ الحكم في هذه النصوص الواردة في هذه الأفراد المعدودة و نحوها محتمل القصر على زمان وجود الوصف، بناء على أنّ التعليق على الوصف مشعر بالعلّيّة، و أنّ المحكوم عليه هو العنوان لا الفرد و قد انتفى، و بانتفائه ينتفي الحكم، و محتمل للإطلاق بناء على أنّ المحكوم عليه إنّما هو الفرد لا العنوان، و العنوان إنّما جعل آلة لملاحظة الفرد، فمورد الحكم حقيقة هو الفرد.

فعلى الاحتمال الأوّل يكون من القسم الرابع، و إن تغيّر الماء بالنجاسة نظير فقد

ص: 605

الماء في مسألة المتيمّم الداخل في الصلاة ثمّ يجد الماء، فكما أنّ وجود الماء هناك حالة [اخرى] مغايرة للأولى؛ فتعلّق النصّ بالاولى لا يوجب استصحابه في الثانية لمكان المخالفة فكذا هنا زوال الوصف حالة ثانية مغايرة للأولى لا يتناولها النصّ المتعلّق بالاولى.

و على الاحتمال الثاني يكون من قبيل القسم الثالث»(1) انتهى.

و محصّل كلامه رفع مقامه: أنّ كون الاستصحاب هنا مرادا به المعنى المعروف المتنازع فيه أو المعنى الآخر المعبّر عنه بإطلاق الدليل مبنيّ على كون حكم النجاسة بالتغيّر متعلّقا بالعنوان دون الفرد، أو بالفرد دون العنوان، لكن فيه فساد المبنى في وجه و فساد الابتناء في وجه آخر؛ و ذلك لأنّ العنوان و الفرد إن اريد بهما معناهما الظاهر المتعارف و هو المفهوم الكلّي في الأوّل و الفرد الخارجي المنطبق عليه في الثاني.

ففيه: فساد المبنى، لأنّ الفرد لا يتخلّف عن عنوان و لا يخالفه و إلاّ لا يكون فردا له، فكلّ ما اعتبر في العنوان من القيود و الصفات لا بدّ من اعتباره في الفرد المطابق له إحرازا لقضيّة الانطباق، فإذا فرض أنّ منشأ فقد الإطلاق في دليل الحكم كون موضوعه مأخوذا فيه وصف مشعر بالعلّيّة فلا يفترق الحال فيه بين القول بتعلّقه بأصل العنوان مع قطع النظر عن أفراده الموجودة في الخارج و بين القول بتعلّقه بالفرد المنطبق عليه، لقيام الموجب في كلّ منهما، فلا يحصل في دليل الحكم على التقدير الثاني إطلاق أيضا بالقياس إلى حالتي وجود الوصف و زواله ليتمسّك به عند طروّ حالة الزوال، و إلاّ لزم كون الفرد المنطبق على العنوان أعمّ من العنوان و هو محال.

هذا مع أنّ المحقّق أنّ الأحكام كائنة ما كانت إنّما تتعلّق بالعناوين دون الأفراد المنطبقة عليها، و الفرد لا مدخل له في متعلّق الحكم إلاّ باعتبار الوجود الخارجي من حيث إنّ وجوده في الخارج يتضمّن وجود العنوان، و من هنا يظهر فساد ما لو قرّر الاستصحاب بالمعنى المعروف - فرارا عن شبهة ارتفاع الموضوع المتقدّم إلى رفعها الإشارة - بأنّ: هذا الماء الموجود في الخارج المشار إليه بالإشارة الحسّيّة كان نجسا قبل زوال التغيّر فيحكم عليه بالنجاسة أيضا بعده استصحابا للحالة السابقة في موضوع

ص: 606


1- الحدائق الناضرة 248:1.

نقطع ببقائه و هو هذا الماء، فإنّ ذلك من أبده المفاسد.

ضرورة أنّ الحكم الشرعي الأصلي لم يكن متعلّقا بهذا الفرد من حيث أنّه هذا الفرد، و لا باعتبار عنوان صادق عليه حين زوال التغيّر، بل باعتبار عنوان التغيّر الّذي لم يكن باقيا فيه جزما و معه لا يعقل الاستصحاب، فعلى القول بمدخليّة الوصف في موضوع الحكم لا يمكن له البقاء بعد زوال ذلك الوصف.

و إن اريد بهما الذات الموصوفة و الذات المجرّدة عن الوصف، بمعنى تعلّق الحكم على الأوّل بالماء بوصف أنّه متغيّر على أن يكون وصف التغيّر جزء للموضوع: و تعلّقه على الثاني بالذات المعرّاة عن ذلك الوصف و بالماهيّة لا بشرط هذا الوصف، و لا ينافي ورود اعتباره في الأدلّة معه لأنّه معتبر معه من باب المرآتيّة لا الموضوعيّة على معنى كونه علامة لمعرفة موضوع الحكم و هو الّذي يطرأه ذلك الوصف، فإذا عرفناه بذلك الوصف نحكم عليه بهذا الحكم إلى أن يظهر له رافع سواء بقي فيه الوصف أم لا.

ففيه: فساد الابتناء لعدم انحصار وجه المسألة في الاحتمالين المذكورين، بل هاهنا احتمال ثالث يجري معه الشبهة و الإشكال، و هو أنّ الوصف ليس بداخل في الموضوع و لا أنّه معتبر لمجرّد العلاميّة، و إنّما هو علّة للحكم مؤثّر في حدوثه كما هو الحقّ الّذي لا محيص عنه.

و توضيح ذلك - كما أشرنا إليه سابقا -: أنّ موضوع النجاسة هنا هو الماء الملاقي للنجاسة المغيّرة، على أن يكون كلّ من الملاقاة و التغيّر جزء للعلّة و المجموع منهما علّة تامّة لا جزء للموضوع، فلا يكفي مجرّد الملاقاة و لا التغيّر بدون الملاقاة كما سبق تحقيقه في مسألة أنّ التغيّر الحاصل بمجاورة النجاسة لا يوجب نجاسة الماء؛ و الوجه في عدم كون التغيّر جزء للموضوع ورود اعتباره في أخبار الباب بعبارة القضيّة الشرطيّة المفيدة للسببيّة كما لا يخفى على المتتبّع، و قد حصلت هاهنا شبهتان:

إحداهما: ما نشأ منها الخلاف في أنّ زوال التغيّر بنفسه هل يوجب زوال النجاسة عن الماء أو لا؟

و اخراهما: ما نشأ منها الخلاف بين القائلين بعدم طهر الماء بمجرّد زوال التغيّر في أنّ ثبوت النجاسة في الحالة الثانية هل هو من مقتضى الخطاب الأوّل أو من مقتضى

ص: 607

الاستصحاب بالمعنى المعروف؟

و مرجع الشبهة الاولى إلى أنّ المستفاد من أدلّة التغيّر هل هو علّيّة حدوث التغيّر فقط أو علّيّة حدوثه و بقائه معا، كما أنّ مرجع الشبهة الثانية إلى أنّ الأدلّة الدالّة على علّيّة حدوث التغيّر فقط هل هي بالقياس إلى ما بعد التغيّر دالّة على ثبوت الحكم أيضا إلى أن يقوم له رافع يقيني فيكون المقام من مجاري استصحاب حكم الإطلاق المتّفق على حجيّته، أو ساكتة عنه نفيا و إثباتا، فيكون المقام من مجاري الاستصحاب بالمعنى المعروف المختلف في حجّيّته؟

و نحن قد تخلّصنا عن الشبهة الاولى بدعوى ظهور الأخبار الواردة في الباب في علّيّة الحدوث فقط من غير تعرّض فيها لجهة البقاء، و إن شئت لاحظ ما في النبوي من قوله: «إلاّ ما غيّر لونه»(1) أي أحدث فيه تغيّر اللون، و ما في خبري دعائم الإسلام من قوله: «ما لم يتغيّر أوصافه»(2) كما في أوّلهما، أي ما لم يحدث فيه تغيّر الأوصاف.

و قوله: «فإن كان قد تغيّر لذلك طعمه»(3) كما في ثانيهما، أي حدث فيه تغيّر الطعم.

و ما في المرويّ عن الفقه الرضوي من قوله: «إلاّ أن يكون فيه الجيف فتغيّر لونه»(4) أي حدث به تغيّر اللون.

و ما في المرسل المروي في المختلف من قوله: «إذا غلبت رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه، و إن لم يغلب عليه فاشرب منه»(5) أي حدث فيه غلبة الرائحة و لم يحدث الغلبة، و ما في خبر بصائر الدرجات من قوله: «إلاّ أن يغلب الماء الريح فينتن»(6) أي يحدث غلبة الريح على الماء فيحدث من جهة النتن في الماء.

و على هذا القياس ما في خبر العلاء من قوله: «لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(7)، و خبر أبي خالد القمّاط من قوله: «إن كان الماء قد تغيّر ريحه»(8)، و خبر

ص: 608


1- رواه في المعتبر مرسلا عن الجمهور، لاحظ المعتبر: 8 - الوسائل 135:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 9.
2- دعائم الإسلام 111:1 و 112.
3- دعائم الإسلام 111:1 و 112.
4- فقه الرضا عليه السّلام: 91.
5- مختلف الشيعة 178:1.
6- بصائر الدرجات: 13/238 - الوسائل 161:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 11.
7- الوسائل 139:1 و 138 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 7 و 4.
8- الوسائل 139:1 و 138 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 7 و 4.

حريز من قوله: «فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم»(1)، و خبر محمّد بن إسماعيل بن بزيع من قوله: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه»(2)، و خبر زرارة من قوله: «إلاّ أن يجيء له ريح يغلب على ريح الماء»(3)، و خبر عبد اللّه بن سنان من قوله: «إذا كان الماء قاهرا و لم يوجد فيه الريح فتوضّأ»(1)، و خبر معاوية بن عمّار من قوله: «لا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلاّ أن ينتن، فإن أنتن غسل الثوب»(2)، و خبر أبي بصير من قوله عليه السّلام: «إن تغيّر [الماء] فلا تتوضّأ منه و إن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه»(3)، و الخبر الآخر لمحمّد بن إسماعيل من قوله: «لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر»(4)، و خبر محمّد بن القاسم من قوله: «ما لم يتغيّر»(5)، و هذه كما ترى كلّها ظاهرة في علّيّة الحدوث من غير دلالة فيها على إناطة بقاء النجاسة على بقاء التغيّر على وجه يكون مفادها نفي الحكم مع انتفاء التغيّر مطلقا.

نعم، في جملة من أخبار الباب ما يوهم ذلك كما في ذيل خبر البصائر المتقدّم ذكره من قوله عليه السّلام: «و جئت تسأل عن الماء الراكد فإن لم تكن فيه تغيّر و ريح غالبة فتوضّأ منه»(6)، و خبر سماعة من قوله عليه السّلام: «إن كان النتن الغالب على الماء فلا يتوضّأ و لا يشرب»(10)، و المرسل الآخر في مختلف العلاّمة من قوله: «إن كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضّأ منه، و إن كان الماء غالبا على النجاسة فتوضّأ منه و اغتسل»(7)، بملاحظة أنّ لفظة «كان» من أفعال الناقصة لتقرير الصفة، فتدلّ على أنّ العبرة في النجاسة و عدمها بثبوت التغيّر و الغلبة و عدمهما.

و لا ينبغي لأحد توهّم عدم الفرق بين التركيبين في المعنى لأنّه من ضروريّات الوجدان، كما يفصح عنه ملاحظة قولنا: «إن قام زيد فأكرمه»، و قولنا: «إن كان زيد

ص: 609


1- الوسائل 141:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 11 مع اختلاف يسير في العبارة.
2- الوسائل 173:1 و 171 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 10 و 4.
3- الوسائل 138:1 ب 3 من أبواب الماء المطلق ح 3.
4- الوسائل 170:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 1 - و فيه: «إلاّ أن يتغيّر به».
5- الوسائل 173:1 و 171 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 10 و 4.
6- بصائر الدرجات: 13/238 - الوسائل 161:1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 11.
7- مختلف الشيعة 177:1.

قائما فأكرمه»؛ لظهور الثاني في اعتبار فعليّة التلبّس حدوثا و بقاء بخلاف الأوّل.

و لكن يمكن رفعه بأنّ الثبوت في جانب المنطوق و إن كان أعمّ من التلبّس المسبوق بالوجود و هو العدم الابتدائي، و أمّا عدم التلبّس المسبوق بالوجود الّذي هو من قبيل محلّ البحث فخارج عن مدلول اللفظ منطوقا و مفهوما، فلا دلالة في هذه الجملة من الأخبار أيضا على زوال النجاسة بمجرّد زوال التغيّر.

و أمّا الشبهة الثانية: فإنّما نتفصّى عنها بالتزام دخول محلّ البحث في مناطيق المتقدّم إليها الإشارة، فتكون النجاسة في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره ثابتة بإطلاق الدليل إلاّ في وجه ضعيف نشير إليه، ضرورة أنّ الأخبار الدالّة على علّيّة حدوث التغيّر مطلقة بالقياس إلى حالتي بقاء التغيّر و زواله، و كما أنّ قولك: «إن قام زيد فأكرمه» يدلّ في متفاهم العرف على وجوب الإكرام بمجرّد حدوث التلبّس بالقيام و بقاء ذلك الواجب على الذمّة إلى أن يحصل أداؤه في الخارج و لو بعد زوال التلبّس، و لا ينافي ذلك مفهوم الشرطيّة و هو عدم وجوب الإكرام عند انتفاء التلبّس رأسا، فكذلك أخبار الباب في دلالتها على علّيّة حدوث التغيّر للنجاسة، فإنّها أيضا بإطلاقها تنفي شرطيّة البقاء و تدلّ على بقاء النجاسة إلى أن يحصل رافعها و لو بعد زوال التغيّر، فمن أنكر ذلك فقد كابر وجدانه.

نعم، يشكل الحال بالقياس إلى جملة من تلك الأخبار المتقدّم إليها الإشارة أيضا، لما عرفت فيها من أنّ عدم التلبّس المسبوق بالتلبّس غير داخل فيها منطوقا و لا مفهوما، و ليس ذلك إلاّ من جهة أنّه لا إطلاق فيها منطوقا بالقياس إلى حالتي بقاء التلبّس و زواله، لكن قد عرفت أنّها باعتبار المفهوم ظاهرة في نفي النجاسة عند انتفاء التغيّر رأسا من غير تعرّض فيها مفهوما لحكم زوال التغيّر، فإن تمّ ذلك الظهور سهل الذبّ عن هذا الإشكال، ضرورة أنّ هذا الظهور لاختصاصه بانتفاء التغيّر رأسا ممّا يحرز به بالقياس إلى زوال التغيّر بعد حدوثه موضوع الاستصحاب بالمعنى المعروف، و لمّا كان الاستصحاب بهذا المعنى ممّا لا يعارض الدليل فيكون إطلاق المنطوق في الأخبار الاخر واردا عليه رافعا لموضوعه.

و عليه يكون مدرك النجاسة هو الاستصحاب بالمعنى الثالث ممّا تقدّم و هو العمل بإطلاق النصّ؛ و إلاّ وقع التعارض بين مفهوم هذه الجملة من الأخبار و منطوق الأخبار

ص: 610

الاخر على طريق تعارض العامّين من وجه؛ حيث إنّ المنطوق بإطلاقه يقضي بنجاسة ما حدث فيه التغيّر سواء بقي على حاله أو لم يبق، و المفهوم بإطلاقه يقضي بطهارة ما انتفى عنه التغيّر سواء حدث فيه أوّلا أو لم يحدث أصلا، فلا بدّ حينئذ إمّا من الترجيح بتقديم العمل بالمنطوق أخذا بالكثرة و قوّة الدلالة و نحوها، فيكون العمل أيضا بالاستصحاب بالمعنى الثالث، أو القول بالتساقط، فيندرج المقام حينئذ في موضوع الاستصحاب بالمعنى المعروف؛ و عليه يتعيّن العمل بهذا المعنى من الاستصحاب.

فنتيجة الكلام: أنّ النظر في أخبار التغيّر يقضي بنجاسة المتغيّر الّذي زال تغيّره إمّا للاستصحاب بمعنى العمل بإطلاق النصّ كما في وجه قويّ؛ أو للاستصحاب بالمعنى المعروف كما في وجه ضعيف.

و بالتأمّل في جميع ما قرّرناه ينقدح أنّ جريان الاستصحاب بهذا المعنى لا يتوقّف على القول بعدم حجّيّة مفهوم الوصف.

فما يقال - في دفع مقالة من فسّر الاستصحاب هنا بالعمل بعموم الدليل - من: أنّ الظاهر من الأدلّة أنّ القضيّة دائمة عرفيّة ما دام الوصف، يعني كلّ ماء متغيّر نجس ما دام متغيّرا فلا تفيد العموم المذكور، فانحصر الدليل حينئذ في الاستصحاب الممنوع عنده؛ و تقريره حينئذ: أنّ القضيّة المذكورة و إن كانت دائمة ما دام الوصف في صورة الإثبات إلاّ أنّها لا تدلّ على نفي الحكم عند نفيه كما هو المحقّق في مفهوم الوصف، فيبقى الحكم في ثاني الحال مشكوكا فيه فيتمسّك لثبوته بالاستصحاب حتّى يحصل الرافع اليقيني.

ففيه أوّلا: أنّ القضيّة بالعبارة المذكورة غير موجودة في شيء من أخبار الباب، و إنّما هي شيء يجري في لسان الفقهاء انتزعوه عن الأخبار فلا يصلح ميزانا لحكم الشرع الّذي يختلف باختلاف مؤدّى العبارات الصادرة من الشارع، و الموجود في خطاباته هنا إنّما هو إعطاء الحكم بعبارة القضيّة الشرطيّة كما عرفت، و مفهوم الشرط حجّة مضافا إلى ذكر المفهوم في كثير من الأخبار صريحا كما لا يخفى.

و ثانيا: أنّ ثبوت المفهوم هنا فيما له مفهوم لا ينافي جريان الاستصحاب بهذا المعنى، لما عرفت من أنّ أقصى ما فيه الدلالة على نفي الحكم على تقدير انتفاء

ص: 611

حدوث التغيّر، و أمّا انتفاء بقائه بعد الحدوث فالمفهوم أيضا ساكت عن حكمه إلاّ في وجه ضعيف تقدّم الإشارة إليه.

و الظاهر أنّ طهره بإلقاء كرّ عليه، أو إجراء جار آخر إليه، أو نزول الغيث عليه، مع مراعاة سائر الشروط المتقدّمة - الّتي منها زوال التغيّر في الجميع، و الدفعة في الأوّل و الممازجة فيه و في الباقيين أيضا -، ممّا لا إشكال فيه و لا شبهة تعتريه، لأنّ مناط الطهر بهذه الامور على التفصيل المتقدّم واحد يجري في الجميع، و ليس في عدم تعرّض الفقهاء إلاّ لبيان ما سيأتي من العنوان دلالة على خلاف ما ذكرناه لأنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، و وجه الاقتصار عليه التعرّض لذكر ما لا يجري في غير الجاري.

و من هنا ترى جماعة من فحول الأصحاب أنّهم بالنسبة إلى العنوان الآتي فرّعوا على القول باشتراط الكرّيّة في عدم انفعال الجاري أنّ من لوازمه أن لا يطهّر ذلك الماء إلاّ بمطهّر خارجي و إن كان عينا عظيما ما لم يكن الخارج من المنبع في كلّ نبع كرّا فما زاد.

و كيف كان فقد ذكروا أنّه «يطهّر بكثرة الماء الطاهر عليه - متدافعا - حتّى يزول التغيّر» كما في الشرائع(1) «أو إنّما يطهّر باكثار الماء المتدافع حتّى يزول التغيّر» كما في المنتهى(2)؛ «أو طهره بتدافعه حتّى يزول التغيّر» كما في الدروس(3)؛ و التصريح «بتدافع الماء من المادّة و تكاثره» محكيّ أيضا عن المبسوط(4) و السرائر(5) و الوسيلة(6)و المعتبر(7) و التذكرة(8)، و كونه مع زوال التغيّر في الجملة مطهّرا ممّا لا خلاف فيه أيضا.

المسألة الثانية: في تطهير الجاري.

نعم ربّما يتوهّم الإشكال في أمرين:

أحدهما: طهره بمجرّد زوال التغيّر، و قد صرّح غير واحد من أصحابنا المتأخّرين

ص: 612


1- شرائع الإسلام 19:1.
2- منتهى المطلب 64:1.
3- الدروس الشرعيّة 119:1.
4- المبسوط 6:1.
5- السرائر 62:1 حيث قال: «و الطريق إلى تطهيرها تقويتها بالمياه الجارية، و دفعها حتّى يزول عنها التغيّر».
6- الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة 414:2) حيث قال: «و يمكن تطهيره بإكثار الماء إلى حدّ يزيل حكم الاستيلاء...».
7- المعتبر: 8.
8- تذكرة الفقهاء 16:1.

- تبعا لصاحب المدارك -(1) أنّ اعتبار التدافع حتّى يزول التغيّر إنّما هو على رأي من يعتبر الممازجة كالمحقّق و غيره؛ و أمّا من يكتفي بالاتّصال فالظاهر على رأيه كفاية زوال التغيّر و إن لم يحصل التدافع.

و هو كما ترى فإنّ العلاّمة في المنتهى(2) - على ما عرفت - ممّن يكتفي بالاتّصال و هو مصرّح هنا بالتدافع كما عرفت.

و قال في موضع آخر قبل ذلك: «لو كان الحوض الصغير من الحمّام إذا نجس لم يطهّر بإجراء المادّة إليه ما لم يغلب عليه بحيث يستولي عليه، لأنّ الصادق عليه السّلام حكم بأنّه بمنزلة الجاري، و لو نجس الجاري لم يطهّر إلاّ باستيلاء الماء عليه بحيث يزيل انفعاله»(3).

و من هنا علم أنّه ليس لأحد أن يحمل ورود التدافع في كلامه و كلام غيره ممّن تقدّم على إرادة كونه أسهل أسباب زوال التغيّر و أغلبها في الجاري؛ على معنى أنّ ذكره ليس من جهة أنّه معتبر في التطهير؛ بل من جهة أنّه مقدّمة لإحراز زوال التغيّر الّذي هو مانع عن الطهر، بل الظاهر أنّه لا خلاف في اعتبار التدافع إلاّ ما يوهمه عبارة اللمعة(4)كما عن الجعفريّة أيضا من: «أنّه يطهّر بزوال التغيّر»(5).

و يمكن الذبّ عنه: بدعوى ابتناء الاكتفاء بمجرّد زوال التغيّر في مثل هذه العبارة على فرض كون اعتبار التدافع مفروغا عنه و ممّا لا بدّ منه، و السرّ في عدم التصريح به - مع أنّ الطهر بناء على اشتراطه بالتدافع لا يتأتّى إلاّ بعد إحراز مقتضيه و فقد مانعه - أنّ العمدة في المقام المحتاج إلى التنبيه عليه و التصريح به إنّما هو اعتبار زوال التغيّر الّذي هو مانع إحرازا لفقد المانع، و أمّا المقتضي فهو دائم الوجود، إذ الجاري لا يكون إلاّ بتدافع أجزائه من المادّة بعضها بعضا كما لا يخفى، فكلّما يحرز زوال التغيّر فالتدافع من المادّة موجود معه مقارن له.

و من هنا ظهر: أنّ التعرّض لهذا البحث - كما في كلام جمع كثير من متأخّري المتأخّرين - ليس فيه كثير فائدة؛ و على فرض جواز الانفكاك بينهما فليس في عدم اكتفاء العلاّمة و نحوه بالاتّصال بالمادّة هنا منافاة لاكتفائه بالاتّصال في الغديرين

ص: 613


1- مدارك الأحكام 33:1.
2- منتهى المطلب 64:1.
3- منتهى المطلب 33:1.
4- اللمعة الدمشقيّة: 15.
5- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 83:1).

المتواصلين، لوضوح الفرق بين المقامين بصيرورة الماءين في الغديرين عنده ماء واحدا بالاتّصال في نظر العرف دون ما يتّصل من الجاري بالمادّة، لأنّها ما لم يبرز منها شيء في الخارج لا تعدّ في نظر العرف من الماء المتّحد مع ما برز في الخارج، و الحاصل: أنّ الوحدة الّتي هي مناط التطهير في المياه الحاصلة في نظره بمجرّد الاتّصال غير محرزة هنا، و من هنا ظهر بطلان توهّم التلازم بين الاكتفاء بالاتّصال و عدم اشتراط التدافع رأسا.

و أمّا ما قيل في وجه التفرقة بين المسألتين: من أنّ الاتّصال الّذي يكتفى به في التطهير هو الحاصل بطريق العلوّ أو المساواة و ليس بمتحقّق هنا، لأنّ المادّة باعتبار خروجها من الأرض لا تكون إلاّ أسفل منه.

ففيه: مع أنّه لا يتمّ إلاّ في بعض الصور، بل الغالب في موادّ المياه الجارية ارتفاعها بالقياس إلى ما يجري منها على الأرض، أنّه لا يلائم ما عرفت عن العلاّمة القائل بكفاية الاتّصال، و غيره من التصريح في مسألة تطهير القليل بما يقضي بعدم الفرق بين الأحوال الثلاث، فراجع و تبصّر.

و ثانيهما: اعتبار الكرّيّة و عدمه في المطهّر هنا، فإنّ إطلاق أكثر العبائر يقضي بعدم اعتبارها، و هو صريح كلّ من وقفنا على كلامه من متأخّري المتأخّرين، بل هو لازم ما يراه المعظم من عدم انفعال قليل الجاري بمجرّد الملاقاة، و ليس في تعبير المحقّق في الشرائع(1) ب «كثرة الماء الطاهر» - على ما تقدّم - منافاة لذلك كما سبق إلى بعض الأوهام، إذ ليس المراد بالكثرة هنا ما يقابل القلّة بالمعنى المصطلح عليه، بل المراد بها كثرة التدافع، فهي في المعنى قيد للتدافع و إن قدّمت عليه لفظا، فهذا التعبير نظير تعبيرهم في تطهير الكثير المتغيّر بإلقاء كرّ فما زاد أو فصاعدا عليه حتّى يزول التغيّر، فكما أنّ الزيادة هنا أمر زائد على الكرّيّة معتبر معها حيث يتوقّف عليها زوال التغيّر لا مطلقا، فكذلك الكثرة في المقام أمر زائد على أصل التدافع، فاعتبارها إنّما هو حيث يتوقّف عليها زوال التغيّر، و إلاّ فالمطهّر هو خروج الماء الجديد من المادّة و لو في آن واحد بشرط تحقّق زوال التغيّر في هذا الآن مع مراعاة شرط الممازجة أيضا حسبما تقدّم.

نعم، ربّما يستشكل في ذلك بالنظر إلى مذهب العلاّمة لقوله في عدم انفعال الجاري

ص: 614


1- شرائع الإسلام 19:1.

باشتراط الكرّيّة(1)، و من هنا نشأ توهّم المدافعة بين مذهبه هذا و احتجاجه في المنتهى - على ما تقدّم - عنه من القضيّة بأنّ: «الحكم تابع للوصف فيزول بزواله، و لأنّ الطارئ لا يقبل النجاسة لجريانه و المتغيّر مستهلك»(2)، و هو في محلّه ظاهرا و إن نقل عن كاشف اللثام ما يدفعه في زعمه من «أنّ ذلك مبنيّ على اعتبار الدفعة في إلقاء الكرّ المطهّر، و قد عرفت أنّ معناها الاتّصال و هو متحقّق في النابع، و أمّا منبع الأنهار الكبار الّذي ينبع الكرّ أو أزيد منه دفعة فلا إشكال فيه.

نعم ينبغي التربّص في العيون [الصغار] و فيما لا ينبع الكرّ فصاعدا [متّصلا]، إذ ربّما ينقطع في البين فينكشف عدم اتّصال الكرّ»(3) إلى آخره، فإنّ ذلك - مع ما فيه من الحزازات الّتي يظهر بعد التأمّل - توجيه لما ذكر بما لا يرضى به صاحبه، كيف و قد عرفت عن العلاّمة التصريح بما يقضي بعدم كفاية مجرّد الاتّصال هنا.

و على أيّ حال كان فدليل طهر الماء بما عرفت من التدافع المزيل للتغيّر المحصّل للممازجة هو ما تقدّم من الملازمة المجمع عليها.

و قد يستدلّ عليه بمرسلة الكاهلي: «ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا»(4)و قد سمعت منع ذلك غير مرّة، و بصحيحة محمّد بن بزيع «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ ما غيّر طعمه أو ريحه، فينزح حتّى يذهب الريح و يطيب الطعم، لأنّ له مادّة»(5)بناء على حجّيّة العلّة المنصوصة القاضية هنا بتعدّي الحكم إلى كلّ ذي مادّة، و إنّما يستقيم ذلك لو لم يكن العلّة راجعة إلى زوال التغيّر المقصود بها بيان الملازمة بينه و بين النزح و قد تقدّم منعه.

المرحلة الثالثة: في تطهير البئر،
اشارة

المرحلة الثالثة:(6) في تطهير البئر،

[أما القول في عدم انفعاله بمجرد الملاقاة]

و هو على المختار من عدم انفعاله بمجرّد الملاقاة ممّا لا يحتاج إليه إلاّ في صورة التغيّر، فطهرها حينئذ بنزحها إلى أن يزول

ص: 615


1- منتهى المطلب 28:1 حيث قال: «لا فرق بين الأنهار الكبار و الصغار، نعم، الأقرب اشتراط الكرّيّة، لانفعال الناقص عنه مطلق...».
2- منتهى المطلب 64:1.
3- كشف اللثام 314:1.
4- و الصواب، «رواية ابن أبي يعفور» المرويّة في الوسائل 150:1 ب 7 من أبواب الماء المطلق ح 7.
5- الوسائل 172:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 7.
6- تقدّمت المرحلة الثانية في ص 598.

التغيّر بتجدّد الماء من المادّة، فيعتبر فيه النزح ثمّ تجدّد الماء ثمّ زوال التغيّر، فلا يكفي الأوّل بدون الأخيرين، و لا الأوسط بدون الطرفين، و لا الأخير بدون الأوّلين، خلافا لما حكي من القول بكفاية زوال التغيّر بالنزح و إن لم يتجدّد الماء تعويلا على إطلاق قوله عليه السّلام في صحيحة ابن بزيع «فينزح حتّى يذهب اللون و يطيب الطعم»(1)، و المحكيّ الآخر من القول بعدم اعتبار النزح و كفاية زوال التغيّر لاتّصاله بماء المادّة، بناء على أنّ علّة النزح في الصحيحة زوال تغيّره فهو المقصود دونه، و ذكره في الصحيحة لكونه مقدّمة له في الغالب.

لنا: الصحيحة المذكورة المذيّلة بقوله: «لأنّ له مادّة»(2) بناء على رجوعه علّة للملازمة بين النزح و زوال التغيّر كما هو الظاهر، لا لأنّ المطهّر هو زوال التغيّر مستقلاّ، بل لأنّه الماء المتجدّد أو هو و زوال التغيّر معا.

و لا ينافيه عدم التصريح به في العبارة، لأنّ تعليل زوال التغيّر بوجود المادّة نظرا إلى انتفاء الملازمة بينهما لا يظهر له أثر بدون التجدّد فهو مذكور بحكم تلك الملازمة، و يمكن اعتبار كونه مذكورا بحكم ملازمة النزح لزوال التغيّر مع ملاحظة أنّ النزح بنفسه لا يؤثّر في الزوال و إن بلغ إلى إخراج الكلّ.

و قد يستند في ذلك إلى الغلبة نظرا إلى أنّ الغالب في زوال التغيّر بالنزح تحقّقه بالتجدّد لا مطلقا.

و بكلّ من هذه التقادير يندفع أوّل القولين المذكورين و مستنده، و أمّا ثانيهما فضعفه مع مستنده يظهر بملاحظة ظهور كلمة «حتّى» في الانتهاء.

نعم، ربّما يشكل إثبات الدلالة على مدخليّة تجدّد الماء في حصول الطهر و إن سلّمنا الدلالة على اعتبار وجوده، لجواز كون اعتباره من جهة أنّه مقدّمة دائميّة أو غالبيّة لزوال التغيّر بالنزح.

و لكن يمكن دفعه: بأنّه كما لا يدلّ على المدخليّة على نحو يوجب الاطمئنان فكذلك لا يدلّ على المقدّميّة بهذا العنوان، فيبقى احتمال المدخليّة مقتضيا لجريان الاستصحاب و فيه الكفاية حتّى بالقياس إلى اعتبار النزح و إن فرضنا عدم ورود النصّ

ص: 616


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.

به؛ و قد تقدّم بعض الكلام في ذلك في بحث زوال التغيّر بنفسه عن الكرّ المتغيّر.

و في معنى الصحيحة المذكورة صحيحة أبي اسامة الشحّام الواردة في التهذيبين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: في الفأرة و السنّور و الدجاجة و الكلب و الطير؟ قال: «فإذا لم يتفسّخ أو يتغيّر طعم الماء فيكفيك خمس دلاء، و إن تغيّر الماء فخذ منه حتّى يذهب الريح»(1)، و موثّقة سماعة الواردة فيهما عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: عن الفأرة تقع في البئر أو الطير؟ قال:

«إن أدرك قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء - إلى أن قال -: و إن أنتن حتّى توجد ريح النتن في الماء نزحت البئر حتّى يذهب النتن من الماء»(2).

و صحيحة أبي بصير - المرويّة في الكافي - قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمّا يقع في الآبار؟، فقال: «أمّا الفأرة و أشباهها فتنزع منها سبع دلاء إلاّ أن يتغيّر الماء فينزح حتّى تطيب»(3).

و رواية زرارة - المرويّة في التهذيبين و إن كانت غير نقيّة السند - قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام بئر قطر فيها قطرة دم أو خمر؟ قال: «الدم و الخمر و الميّت و لحم الخنزير في ذلك كلّه واحد، ينزح منه عشرون دلوا، فإن غلبت الريح نزحت حتّى تطيب»(4).

و أمّا ما يتوهّم من منافاة صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: «لا يغسل الثوب و لا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلاّ أن ينتن، فإن أنتن غسل الثوب، و أعاد الصلاة، و نزحت البئر»(5) لتلك الأخبار حتّى عن الشيخ الاستناد إليها على نزح الجميع.

ففيه: منع واضح، ضرورة أنّ قوله: «نزحت البئر» قضيّة كما تحتمل تقييدها بالجميع كذا تحتمل التقييد بالبعض الّذي يزول معه التغيّر، و لا ريب أنّ الأوّل ليس بأولى من الثاني، فهي في الحقيقة قضيّة مجملة تبيّنها الأخبار المذكورة و معه لا يعقل التعارض.

نعم، في بعض الروايات كرواية منهال بن عمرو المرويّة في التهذيب، و صحيحة

ص: 617


1- الوسائل 184:1 و 183 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 7 و 4 - التهذيب 237:1 و 236 / 684 و 681 - الاستبصار 37:1 و 102/36 و 98.
2- الوسائل 184:1 و 183 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 7 و 4 - التهذيب 237:1 و 236 / 684 و 681 - الاستبصار 37:1 و 102/36 و 98.
3- الوسائل 185:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 11 - الكافي 6/6:3.
4- الوسائل 179:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 3 - التهذيب 697/241:1 - الاستبصار 96/35:1.
5- الوسائل 173:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 10 - التهذيب 670/232:1 - الاستبصار 80/30:1.

أبي خديجة المرويّة في الاستبصار ما ينافيها.

ففي أولاهما: قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: العقرب تخرج من البئر ميتة؟ قال:

«استق عشرة دلاء» قال: فقلت: فغيرها من الجيف؟ فقال: «الجيف كلّها سواء إلاّ جيفة قد أجيفت [فإن كانت جيفة قد أجيفت] فاستق منها مائة دلو، فإن غلب عليها الريح بعد مائة دلو فانزحها كلّها»(1).

و في ثانيتهما: قال: سئل عن الفأرة تقع في البئر؟ قال: «إذا ماتت و لم تنتن فأربعين دلوا، و إذا انتفخت فيه و نتنت نزح الماء كلّه»(2).

لكن يدفعهما: مع عدم صلوح الاولى بجهالة المنهال لمعارضة ما سبق، أنّهما محمولان على ما لو توقّف زوال التغيّر على نزح الجميع، كما يومئ إليه ما في الرواية الاولى من قوله عليه السّلام: «فإن غلب عليها الريح بعد مائة دلو» فإنّ التقييد ببعديّته بالقياس إلى المقدّر المذكور تقضي بأنّه في الفرض تغيّر لا يزول بنزح ما عدا الجميع، مع إمكان حملهما على الاستحباب كيف و أنّا في الرواية الثانية نحمل نزح الأربعين المقدّر لغير صورة النتن بقرينة ما سبق على الاستحباب فكيف بنزح الجميع المقدّر لصورة النتن، مع احتمال كون المراد بالبئر الواقع فيهما المصنع الّذي لا مادّة له و لا يزول تغيّره إذا توقّف على النزح إلاّ بنزح الجميع.

و مع الغضّ عن جميع ذلك فما تقدّم من الأخبار تترجّح عليهما لكثرتها و قوّة دلالتها لسلامتها عمّا يوهنها من الاحتمالات المذكورة الجارية فيهما دونها.

هذا كلّه على القول المختار من عدم انفعال البئر بمجرّد الملاقاة.

و أمّا على القول بالانفعال
اشارة

فاختلفت أقوالهم و تشتّت آرائهم في تطهير المتغيّر، و هي على ما حكاه غير واحد تبلغ ثمانية:

أحدها: ما عن أبي الصلاح ، و الشهيد في البيان، و ظاهر المفيد من أنّه ينزح حتّى يزول التغيّر،

أحدها: ما عن أبي الصلاح(3)، و الشهيد في البيان،(4) و ظاهر المفيد(5) من أنّه ينزح حتّى يزول التغيّر،

و إطلاق هذا القول كما ترى يشمل ما لو كان للنجاسة المغيّرة مقدّر

ص: 618


1- الوسائل 196:1 ب 22 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 667/231:1 - الاستبصار 70/27:1.
2- الوسائل 188:1 ب 19 من أبواب الماء المطلق ح 4 - الاستبصار 111/40:1 - التهذيب 692/239:1.
3- الكافي في الفقه: 130.
4- البيان: 99.
5- المقنعة: 66.

و غيره، قصر المقدّر عمّا يزول به التغيّر أو ساواه أو زاد عليه؛ و مستنده إطلاق ما تقدّم من الأخبار المستدلّ بها على المختار.

و يشكل ذلك في صورة زوال التغيّر قبل استيفاء المقدّر فيما له مقدّر، فإنّ الاكتفاء به مطلقا ترك للعمل بأخبار المقدّرات.

و كونه من باب تخصيص تلك الأخبار بغير صورة التغيّر، يدفعه: المعارضة بإمكان ذلك في الأخبار المذكورة بحملها على غير ما له مقدّر نظرا إلى أنّ النسبة بين النوعين عموم من وجه، و لا ريب أنّ مورد الاجتماع و هو التغيّر الحاصل بذي التقدير قابل لأن يخرج عن كلّ منهما، فإخراجه عن أحدهما ليس بأولى من إخراجه عن الآخر.

و ما عساه أن يتوهّم من أنّ تخصيص أخبار المقدّرات بإخراج مورد الاجتماع عنها مطلقا عمل بما في سوى صحيحة ابن بزيع من أخبار زوال التغيّر من الانتقال عن إيجاب نزح المقدّر إلى إيجاب نزح المزيل للتغيّر المفروض عروضه، نظرا إلى قضاء ذلك بكون إيجاب نزح المقدّر مشروطا بعدم التغيّر، و أمّا معه فالمتّبع إزالة التغيّر مطلقا، ثمّ هذا التفصيل المقتضي للاشتراط المذكور ينهض قرينة على تقييد الأخبار المطلقة من المقدّرات الغير المشتملة على التفصيل المذكور.

يدفعه: منع ابتناء هذا التفصيل على إرادة الاشتراط، و إنّما هو لبيان عدم كفاية نزح المقدّر الوارد تقديره في الأخبار المفصّلة في تحقّق موضوع زوال التغيّر، ضرورة عدم زواله بالخمس و السبع بل العشرين أيضا في الغالب، و الاكتفاء بنزح ذلك مع بقاء التغيّر ممّا لا معنى له، لا أنّه يفيد تقييد اعتبار نزح المقدّر بغير صورة التغيّر كما هو مفاد التوهّم المذكور.

مع أنّ هذا كلّه مبنيّ على تعارض هذين النوعين من الأخبار الّذي هو ضروري المنع في المقام، لمكان كونهما مثبتين متوافقين في المدلول فيمكن العمل بهما معا في كلّ من مادّتي الافتراق و الاجتماع، كما في قولك: «أكرم العلماء» «و أكرم الشعراء»، فلا سقوط في شيء من العامّين في شيء من الأحوال الثلاث الجارية في كلّ منهما من النقصان و المساواة و الزيادة الّتي يشملها العموم الإطلاقي، غاية الأمر أنّ ذلك يقضي بلزوم نزح الأكثر ممّا يحصل به زوال التغيّر و استيفاء المقدّر عملا بهما معا في جميع

ص: 619

الأحوال الثلاث المذكورة لمورد الاجتماع في كلّ من الجانبين، ضرورة أنّ الأخذ بالأكثر في كلّ من الجانبين أخذ بأقلّ الجانب الآخر لاندراج الأقلّ تحت الأكثر، بناء على أنّه في مفاد أخبار المقدّرات ليس مأخوذا بشرط عدم الزيادة، فمورد في كلّ من العامّين باق على إطلاقه، فلا داعي إلى التخصيص لا بالنظر إلى أحد العامّين و لا بالنظر إلى مورد اجتماعهما، هذا.

لكنّ الإنصاف: أنّ دعوى تناول أخبار المقدّرات لصورة التغيّر على وجه يكون مفادها إعطاء حكم المقدّر و كفايته مع التغيّر و عدمه في غاية الإشكال، بل هو عند التأمّل الصادق في حيّز المنع، بل الحكم في المقدّرات يختصّ بغير حالة التغيّر.

أمّا أوّلا: فلأنّ كثيرا ممّا ورد له تقدير بالخصوص من النجاسات ليس صالحا لتغيير الماء كبول الفطيم و قطرة خمر أو بول و ما أشبه ذلك، فكيف يكون حكمه لما يعمّ حالة التغيّر.

و أمّا ثانيا: فلأنّ من تتبّع آثار تلك الديار و أنصف ملاحظا لمساق ما ورد في حكم المقدّرات من الأخبار يجد جازما أنّ مفروض الأسئلة و مصبّ الأجوبة المنطبقة عليها إنّما هو حيثيّة وقوع النجاسات الّتي ورد فيها المقدّرات و ملاقاتها البئر من غير نظر للسائل و لا المسئول إلى حيثيّة التغيّر؛ بل يعلم أنّ مورد كلّ من السؤال و الجواب إنّما هو مجرّد الوقوع و الملاقاة لا هما أعمّ من التأثير في التغيّر و عدمه.

و أمّا ثالثا: فلأنّ ما عرفته في جملة من أخبار اعتبار إزالة التغيّر من استفصال المسئول بين حالة التغيّر و حالة عدمها و تخصيصه المقدّر بحالة العدم قرينة واضحة على أنّ الأجوبة الوارد في الأخبار المطلقة للمقدّرات ليست على إطلاقها بحيث تشمل في الدلالة على كفاية المقدّر كلتا حالتي التغيّر و غيرها، بل إنّما هي مخصوصة بما عدا حالة التغيّر، و لا ينافيه التنبيه مع ذلك على عدم كفاية مثل الخمس و السبع و العشرين من المقدّرات في تحقّق الزوال عند قيام مقتضي اعتباره.

و أمّا رابعا: فلأنّ التقدير في المقدّرات المطلقة لو كان مطلقا شاملا إطلاقه في الدلالة على كفاية المقدّر في التطهير حالة التغيّر أيضا لقضى به و لو حصل استيفاء المقدّر قبل زوال و هو ضروري البطلان، لا لما يقال: من أنّه نظير ما إذا استوفى المقدّر أو بعضه قبل إخراج عين النجاسة لأنّ بقاء التغيّر دليل بقاء العين، حتّى يتوجّه إليه المنع

ص: 620

على حدّ الضرورة، بل لأنّ زوال المعلول مع بقاء العلّة غير معقول، و قد ثبت عن الأدلّة أنّ التغيّر حدوثا و بقاء علّة للنجاسة و معه كيف يمكن اعتبار العموم أو الإطلاق في المقدّرات المطلقة، و قضيّة ذلك اختصاص اعتبارها بغير حالة التغيّر.

فإن قلت: غاية ما يلزم من ذلك تقييد المطلقات بما إذا لم يكن المقدّر أقلّ من مزيل التغيّر، فالمتّجه حينئذ اعتبار أكثر الأمرين من المقدّر و مزيل التغيّر عملا بنوعي أخبار الباب.

قلت: أخبار المقدّرات بناء على إطلاقها قابلة لأن يتصرّف فيها بأحد الوجهين، تخصيصها بغير حالة التغيّر مطلقا، أو تقييدها بما إذا لم يكن المقدّر أقلّ من مزيل التغيّر، غير أنّ هذا التصرّف الثاني ممّا يأباه كثير من المقدّرات الواردة لعدم كونها صالحة لإزالة التغيّر بالذات لمكان كونها أقلّ من مزيله كالثلاث و الخمس و السبع و العشرة و العشرين غالبا و ما أشبه، فلا بدّ في مثله من تطرّق أوّل التصرّفين، و قضيّة ذلك كون التطرّق إلى البواقي هو هذا التصرّف لمكان ورود أخبار الباب بأجمعها في متفاهم العرف على نمط واحد، و اعتبار أحد التصرّفين في جملة و التصرّف الآخر في جملة اخرى كما ترى بعيد عن العرف و الوجدان، و يزيد ذلك البعد في جملة مشتملة على مقدّرين في نوعين من النجاسات أحدهما لا يصلح مزيلا للتغيّر و الآخر صالح له في الجملة، و من هذه الجملة رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إن سقط في البئر دابّة صغيرة، أو نزل فيها جنب، نزح منها سبع دلاء، و إن مات فيها ثور أو صبّ فيها خمر نزح الماء كلّه»(1).

و رواية عمرو بن سعيد قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة و السنّور إلى الشاة؟ فقال: «كلّ ذلك يقول سبع دلاء، حتّى بلغت الحمار و الجمل، قال:

كرّ من ماء»(2)، و نظير ذلك كثير فيما بين روايات الباب.

و لا ريب أنّ الالتزام بالتخصيص صدرا و التقييد ذيلا في أمثال ذلك في غاية الغرابة، بل المتعيّن في متفاهم العرف اعتبار التخصيص مطلقا لعدم جريان التقييد فيهما معا.

و ممّا يؤيّد عدم تناول أخبار المقدّرات لحالة التغيّر كون التقدير الوارد فيها بأعداد

ص: 621


1- الوسائل 179:1 و 180 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 5 - التهذيب 241:1 و 235 / 695 و 679 - الاستبصار 93/34:1 و 91.
2- الوسائل 179:1 و 180 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 5 - التهذيب 241:1 و 235 / 695 و 679 - الاستبصار 93/34:1 و 91.

معيّنة لا يمكن أن يناط بها زوال التغيّر في المتغيّر لعدم انضباطه و تعيّنه في عدد معيّن، و بالجملة فالّذي يقتضيه التدبّر اختصاص روايات التقدير بغير حالة التغيّر، فيبقى الروايات المتضمّنة لحالة التغيّر في الدلالة على اعتبار إزالته سليمة عمّا يزاحمها من غير فرق في ذلك بين كون النجاسة المغيّرة ممّا لم تقدّر و غيره، أمّا الأوّل: فلما في جملة من تلك الأخبار من الاستفصال و أمّا الثاني: فلإطلاق صحيحة ابن بزيع.

فتحصّل من جميع ما قرّرناه: أنّ الأقوى ممّا بين أقوال المسألة - بناء على القول بنجاسة البئر بالملاقاة - إنّما هو القول المذكور، و هو اعتبار زوال التغيّر في تطهير البئر مطلقا عند التغيّر.

و ثانيها: ما عن الصدوقين و المرتضى و الشيخ و عليه المحقّق في الشرائع من أنّه ينزح الجميع و مع التعذّر فالتراوح،

و ثانيها: ما عن الصدوقين(1) و المرتضى(2) و الشيخ(3) و عليه المحقّق في الشرائع من أنّه ينزح الجميع و مع التعذّر فالتراوح،

و عدّ الشيخ من أهل هذا القول بناء على القول بالنجاسة بمجرّد الملاقاة ليس في محلّه، لما مرّ من أنّه قائل بوجوب النزح تعبّدا لا للنجاسة.

نعم، يصحّ ذلك ممّن لا يخصّص الاختلاف في تطهير المتغيّر بأهل القول بالنجاسة كالعلاّمة في المختلف.

و كيف كان فمستند هذا القول بالنسبة إلى نزح الجميع ما تقدّم من الروايات القاضية به، المعارضة لما مرّ من أخبار اعتبار نزح المزيل للتغيّر، و قد يعلّل بكون النجاسة الحاصلة بالتغيّر غير منصوص المقدّر بناء على ظهور أخبار المقدّرات في الاختصاص بغير صورة التغيّر، و بالنسبة إلى التراوح مع التعذّر موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - في حديث طويل - قال: و سئل عن البئر وقع فيه كلب أو فأرة أو خنزير؟ [قال:] «تنزف كلّها، ثمّ فإن غلب عليه الماء فلينزف يوما إلى الليل، ثمّ يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين، فينزفون يوما إلى الليل و قد طهرت»(4).

و في كلام الشيخ في التهذيبين - بعد قوله عليه السّلام: «تنزف كلّها» - يعني: إذا تغيّر لونه أو طعمه بدلالة ما تقدّم من أربعين دلوا في هذه الأشياء، و قد يعلّل بأنّه قائم مقام نزح

ص: 622


1- الفقيه 19:1، حكى عنه و عن والده في مختلف الشيعة 19:1.
2- الانتصار: 11.
3- المبسوط: 11:1.
4- الوسائل 196:1 ب 23 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 832/284/:1.

الجميع فيما يكون واجبا مع تعذّره.

و قد يستدلّ على الحكمين معا بأنّه: ماء محكوم بنجاسته فيجب إخراجه أجمع، و مع التعذّر التراوح كما في غيره من النجاسات المقتضية لنزح الجميع.

و الجواب عن الجميع: بأنّ ترك العمل بما تقدّم من الأخبار الدالّة على كفاية زوال التغيّر في التطهير مع كونها أظهر دلالة و أكثر عددا و المصير إلى هذا القول عملا بالوجوه المذكورة - مع تبيّن ضعف بعضها - خلاف الإنصاف؛ و حمل الأخبار المشار إليها على الاستحباب أو على صورة توقّف الزوال طريق الجمع، فوجوب نزح الجميع لإزالة التغيّر غير ثابت ليقوم مقامه التراوح عند التعذّر.

و الاستدلال بالموثّقة لإيجاب التراوح ليس في محلّه، لعدم اعتبار كونه في الرواية للتغيّر، و تنزيلها إليه تأويل يلتزم به لمجرّد الجمع فلا يصلح مستندا لإيجاب الجميع، و دعوى كون النجاسة الحاصلة بالتغيّر غير منصوص المقدّر مع ورود الأخبار المتقدّمة المعتبرة الواضحة الدلالة في غاية الغرابة، و الوجه الأخير القائم على الحكمين معا لا يرجع إلاّ إلى المصادرة فلا يلتفت إليه، و لو اريد الاستناد فيه إلى الاستصحاب فيردّه:

ورود الدليل على كفاية زوال التغيّر كما عرفت.

و ثالثها: ما عزى إلى الشيخ في النهاية و المبسوط و عن كاشف الرموز: أنّه نقله عن المقنعة من أنّه ينزح الجميع و مع تعذّره فإلى زوال التغيّر،

و ثالثها: ما عزى إلى الشيخ في النهاية(1) و المبسوط(2) و عن كاشف الرموز:(3) أنّه نقله عن المقنعة من أنّه ينزح الجميع و مع تعذّره فإلى زوال التغيّر،

و مستنده على ما قيل الجمع بين النوعين المتقدّمين من أخبار التغيّر، بحمل ما دلّ منها على نزح الجميع على صورة الإمكان و ما دلّ منها على اعتبار زوال التغيّر على صورة تعذّر نزح الجميع.

و فيه: أنّ حمل النوع الثاني على صورة تعذّر نزح الجميع ليس بأولى من حمل النوع الأوّل على صورة توقّف زوال التغيّر على نزح الجميع، بل الأولى هو هذا لكونه في الحقيقة تصرّفا في خبر واحد و هو صحيحة أبي خديجة، لما عرفت من أنّ الدالّ على نزح الجميع خبران أحدهما لقصور سنده - و هو رواية منهال - غير صالح لمعارضة ما سبق من المعتبرة بخلاف الأوّل فإنّه تصرّف في عدّة أخبار معتبرة.

ص: 623


1- النهاية و نكتها 209:1.
2- المبسوط 11:1.
3- كشف الرموز 57:1-56 و فيه: «قال الشيخان: مع تعذّر نزح الكلّ، ينزح حتّى يطيب».
و رابعها: ما عزى إلى ابن الزهرة و تبعه الشهيد في الذكرى من أنّه ينزح الأكثر ممّا يحصل به زوال التغيّر و استيفاء المقدّر،

و رابعها: ما عزى إلى ابن الزهرة(1) و تبعه الشهيد في الذكرى(2) من أنّه ينزح الأكثر ممّا يحصل به زوال التغيّر و استيفاء المقدّر،

و مستنده الجمع بين أخبار التقدير و أخبار زوال التغيّر، و كأنّ المراد بهذا الجمع ليس معناه المصطلح عليه المستلزم لطرح ظاهر أو ظاهرين بل العمل بالدليلين معا من غير طرح و إسقاط، بناء على ما قدّمنا توجيهه من أنّ الأخذ بأكثر كلّ من الجانبين عمل بأقلّ الجانب الآخر من حيث أنّه مندرج فيه.

و على هذا فلا وقع لما يعترض عليه بما في الحدائق من: «أنّه لا منافاة بين ما دلّ على نزح مقدار مخصوص مع عدم التغيّر و ما دلّ على نزح ما يزول به التغيّر و إن اتّحدت النجاسة ليحتاج إلى الجمع بين أخبارهما، لتغاير السببين الموجب لتغاير الحكمين»(3).

فإنّ مراعاة اتّحاد السبب إنّما تعتبر في قاعدة الحمل لا الجمع بالمعنى المذكور.

ثمّ على فرض شمول أخبار التقدير لجميع أحوال زوال التغيّر حتّى ما لو كان المزيل أقلّ من المقدّر أو بالعكس فلازمه دلالة دليل الأقلّ على كفايته في التطهير، و دلالة دليل الأكثر على خلاف ذلك و هو عين التعارض، فكيف ينفي المنافاة عمّا بينهما، و لو لا ما قدّمنا ذكره من منع تناول أخبار التقدير لحالة التغيّر كان ذلك القول جيّدا متعيّنا للقبول جدّا، و إن كان قد أهمل قائلوه في حكم ما لم يكن للنجاسة المغيّرة تقدير، فمن هنا كان القول الآتي أجود منه لتعرّضه لبيان حكم ما لا تقدير له من اعتبار إزالة التغيّر، و يمكن إرجاع ما ذكر إلى هذا القول فلا يكون حينئذ قولا على حدة.

و خامسها: ما نسب إلى صاحب المعالم و ظاهر جملة من تأخّر من أنّه ينزح أكثر الأمرين ممّا يزول معه التغيّر

و خامسها: ما نسب إلى صاحب المعالم(4) و ظاهر جملة من تأخّر من أنّه ينزح أكثر الأمرين ممّا يزول معه التغيّر

أو يستوفى به المقدّر إن كان للنجاسة المغيّرة تقدير، و إلاّ اكتفى بزوال التغيّر؛ و استظهره الخوانساري(5)، و صاحب الحدائق(6)، و هذا هو الحقّ الذي لم يكن محيص عن اختياره لو لا ما تقدّم، و عليه اتّضح ضعفه مع حجّته و هو الجمع بين النصوص الدالّة على الاكتفاء بزوال التغيّر و النصوص الموجبة لاستيفاء المقدّر في الحكم الأوّل، و عموم النصوص الأوّلة في الحكم الثاني حيث لا معارض لها فيما لا مقدّر له.

ص: 624


1- غنية النزوع: 48.
2- ذكرى الشيعة 88:1.
3- الحدائق الناضرة 78:1 (حجريّة) - سقط هذا الفقرة من الحدائق ط مؤسّسة النشر الإسلامي لاحظ الحدائق الناضرة 367:1 و 368. و لذا أرجعناه إلى الطبعة الحجريّة.
4- فقه المعالم 263:1.
5- مشارق الشموس: 239.
6- الحدائق الناضرة 368:1.
و سادسها: ما عن ابن إدريس ، و المحقّق الشيخ عليّ ، من نزح أكثر الأمرين من المقدّر و مزيل التغيّر إن كان للنجاسة المغيّرة مقدّر و إلاّ فالجميع،

و سادسها: ما عن ابن إدريس(1)، و المحقّق الشيخ عليّ (2)، من نزح أكثر الأمرين من المقدّر و مزيل التغيّر إن كان للنجاسة المغيّرة مقدّر و إلاّ فالجميع،

فإن تعذّر فالتراوح، و عن ثاني الشهيدين في الروض(3) أنّه اختاره.

و حجّته على الأوّل ما تقدّم من قضيّة [الجمع](4) و على الثاني و الثالث توهّم كونه ممّا لا نصّ فيه، و مذهبهم أنّ ما لا نصّ فيه يجب فيه نزح الجميع، و بدليّة التراوح مع تعذّره ففي صورة التغيّر بتلك النجاسة بالطريق الأولى، و يظهر الجواب عن الكلّ بملاحظة ما سبق.

و سابعها: ما صرّح به الشهيد في الدروس من وجوب نزح الجميع،

و سابعها: ما صرّح به الشهيد في الدروس(5) من وجوب نزح الجميع،

فإن غلب الماء اعتبر أكثر الأمرين من مزيل التغيّر و المقدّر، و استظهره الخوانساري(6) من المعتبر، ثمّ احتمل في كلامه كون مراده في صورة تعذّر الجميع وجوب نزح ما يزيل المتغيّر ثمّ استيفاء المقدّر، ثمّ قال: «و هذا القول أيضا غير صريح فيما إذا تعذّر نزح الجميع و لم يكن له مقدّر، لكن الظاهر الاكتفاء بزوال التغيّر»(7) انتهى.

و حجّته: ظاهرا الجمع بين ما دلّ على وجوب نزح الجميع مع ما دلّ على التقدير، و ما دلّ على اعتبار زوال التغيّر، و بملاحظة ما سبق في تقريب القول الأوّل و تزييف الأقوال الاخر يظهر الجواب عنه فلاحظ و تأمّل.

و ثامنها: ما نسبه الخوانساري إلى بعض الأصحاب، و قوّاه بعض مشايخنا - دام ظلّه - من نزح ما يزيل التغيّر أوّلا ثمّ المقدّر بعده إن كان لتلك النجاسة مقدّر،

و ثامنها: ما نسبه الخوانساري(8) إلى بعض الأصحاب، و قوّاه بعض مشايخنا - دام ظلّه - (9)من نزح ما يزيل التغيّر أوّلا ثمّ المقدّر بعده إن كان لتلك النجاسة مقدّر،

و إلاّ فالجميع، و إن تعذّر فالتراوح.

و حجّته: أنّ وقوع النجاسة الّتي لها مقدّر موجب لنزحه بمجرّده، فإذا انضمّ إليه التغيّر الموجب لنزح ما يزول به التغيّر صارا سببين، و لا منافاة بينهما فيعمل كلّ منهما عمله، و تقديم مزيل التغيّر لكون الجمع بين الأمرين لا يتمّ إلاّ به، و أمّا ما لا مقدّر له

ص: 625


1- السرائر 71:1.
2- جامع المقاصد 137:1.
3- روض الجنان: 143.
4- أضفناه لاستقامة العبارة.
5- الدروس الشرعيّة 120:1.
6- مشارق الشموس: 238، المعتبر: 18.
7- مشارق الشموس: 238.
8- مشارق الشموس: 238.
9- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 266:1.

فلوجوب نزح الجميع فيما لا نصّ فيه و بدليّة التراوح مع تعذّره.

و جوابه: منع سببيّة مجرّد الوقوع إذا صادفه التغيّر، لما عرفت من عدم تناول النصوص الدالّة على سببيّته إلاّ حال التغيّر، فانحصر السبب في التغيّر الّذي يكتفى فيه بزواله عملا بالنصوص الواردة فيه.

و توهّم جريان الاستصحاب المقتضي لاستيفاء المقدّر، يدفعه أوّلا: أنّه لو صحّ لقضى بوجوب نزح الجميع أو بدله.

و ثانيا: أنّ اعتبار ما زاد على زوال التغيّر ممّا ينفيه وروده غاية في النصوص الواردة فيه، فإنّ ورودها مورد التعليم يقضي باعتبار المفهوم فيها، كيف و لو وجب نزح المقدّر بعد إزالة التغيّر لوجب التنبيه عليه و المفروض خلافه، و بالجملة ظاهر نصوص زوال التغيّر - كما يظهر لمن تأمّل فيها جيّدا - أنّه لا يعتبر شيء بعد زوال التغيّر و معه لا معنى للاستصحاب.

و أمّا الجواب عن تقدير نزح الجميع أو بدله فيظهر ممّا مرّ، هذا كلّه فيما لو توقّف زوال التغيّر على النزح، و أمّا لو زال من قبل نفسه أو بعلاج فمقتضى ما حقّقناه في بحث تطهير الكرّ المتغيّر و غيره عدم طهرها به كما صرّح به غير واحد من أصحابنا، بل في كلام جماعة نفي الإشكال عنه.

نعم، الإشكال يقع فيما يطهّره حينئذ،

و ينبغي النظر فيه تارة على القول المختار من عدم انفعال البئر بمجرّد الملاقاة، و اخرى على القول الآخر.
أمّا الجهة الاولى [أي عدم انفعال البئر بمجرّد الملاقاة]:

فالظاهر أنّه لا فرق في طريق التطهير حينئذ بينها و بين سائر المياه المتنجّسة، فيجري فيها جميع ما تقدّم من الطرق المطهّرة من إلقاء الكرّ، و إجراء الجاري، و إنزال الغيث عليها.

و ضابطه اعتبار وجود الماء المعتصم فيها منضمّا إلى مائها مراعيا للشرائط المتقدّمة في تطهير القليل، إحرازا لموضوع الملازمة المتقدّمة المجمع عليها، و من جملة ذلك ظاهرا تجدّد الماء من المادّة، بناء على ما تقرّر عندنا من عدم انفعال مائها كائنا ما كان في غير صورة التغيّر، فإذا تجدّد الماء من المادّة و اتّحد مع الباقي صار موضوعا لتلك الملازمة، ضرورة أنّ المتجدّد غير قابل للنجاسة حينئذ بمجرّد ملاقاة

ص: 626

الباقي المتنجّس، فلو بقي ذلك على نجاسته بعد حصول الاتّحاد بينه و بين المعتصم لزم تبعّض الماء الواحد في الطهارة و النجاسة و هو منفي بحكم الملازمة المذكورة.

و من هنا اتّجه أن يقال: بكفاية مسمّى النزح على نحو يستتبع تجدّد شيء من ماء المادّة و امتزاجه مع الباقي لو توقّف تجدّده على النزح.

و ممّا يمكن أن يستدلّ به على هذا المطلب نفس الروايات الدالّة على طهرها بالنزح المزيل لتغيّرها، نظرا إلى أنّ الطهر لا يحصل إلاّ بالدلو الأخير المستتبع للزوال، لقيام المقتضي لبقاء النجاسة قبله حتّى بالقياس إلى ما تجدّد بالدلاء السابقة لو فرض تغيّره بممازجة المتغيّر، و من البيّن أنّ الطهر حينئذ لا يستند إلاّ إلى الجزء الأخير المتجدّد بنزح ذلك الدلو، و ليس ذلك إلاّ لما ذكرنا من كفاية المسمّى.

و لأجل ذلك أمكن الاستدلال بتلك الروايات على الملازمة المشار إليها كما أشرنا إليه أيضا في بعض ما سبق، و عليه يمكن الاحتجاج بنفس تلك الروايات على المختار من عدم انفعال ماء البئر بمجرّد ملاقاة النجس أو المتنجّس و لو قليلا.

و ما تقدّم في ذيل البحث عن تلك المسألة من المناقشة فيه باحتمال كون النزح مطهّرا تعبّديّا في البئر.

يدفعه: ورود النزح في الروايات مقيّدا بزوال التغيّر الّذي لا يتأتّى إلاّ بمقارنة النزح تجدّد الماء، فالماء المتجدّد مع عدم انفعاله بملاقاة المتنجّس له مدخل في التطهير من باب العلّيّة التامّة أو جزء العلّة و لو بحكم الاستصحاب.

و بملاحظة وجود الاستصحاب في مثل مسألتنا لا يبعد القول بكون الأحوط اعتبار التقدير هنا، و هو اعتبار نزح المقدار الّذي كان يزول معه التغيّر على فرض ثبوته و عدم سبق زواله بنفسه أو بعلاج.

و أمّا إذا تعذّر العلم بذلك المقدار - كما يتّفق في بعض الصور - فالأحوط اعتبار نزح الجميع، لأنّ العلم بنزح المقدار المذكور لا يحصل إلاّ بذلك.

و أمّا الجهة الثانية [أي في الانفعال بمجرد الملاقاة]:

فالظاهر عدم الفرق بينها و بين الجهة الاولى بملاحظة ما تقدّم ترجيحه من أنّ تطهير البئر في صورة التغيّر - على القول بانفعالها في غير صورة التغيّر - إنّما هو بالنزح المزيل للتغيّر أيضا، عملا بالنصوص المتقدّمة الّتي لا يعارضها نصوص

ص: 627

المقدّرات، فيجري في تلك الجهة حينئذ جميع ما تقدّم في الجهة الاولى.

فالأقرب حينئذ كفاية نزح المسمّى المستتبع للتجدّد من المادّة، و الأحوط نزح المقدار الّذي كان يزول معه التغيّر إن أمكن العلم به و إلاّ اعتبر نزح الجميع، لكنّ المنقول في ذلك عن الأصحاب قولان:

أحدهما: ما عن العلاّمة في التذكرة(1) من إطلاق القول بنزح الجميع، و عن ولده فخر المحقّقين(2) أنّه صحّحه، و عن الذكرى(3) أنّه قوّاه، و عن بعض المتأخّرين(4) أيضا موافقتهم على ذلك.

و ثانيهما: ما عن ثاني الشهيدين(5)، و صاحب المعالم(6) و ظاهر البيان(7) من الاكتفاء بمزيل التغيّر على تقديره.

و عن الأوّلين الاحتجاج بأنّه: ماء محكوم بنجاسته و قد تعذّر ضابط تطهّره، فيتوقّف الحكم بالطهارة على نزح الجميع.

و اجيب عنه: بمنع إطلاق دعوى التعذّر، فإنّه يمكن في كثير من الصور أن يعلم المقدار الّذي يزول معه التغيّر تقريبا، نعم لو فرض عدم العلم في بعض الصور توقّف الحكم بالطهارة حينئذ على نزح الجميع، إذ لا سبيل إلى العلم بنزح القدر المطهّر إلاّ به.

و احتجّ على القول الثاني بأنّه: إذا اكتفى بنزح ذلك المقدّر من الماء للتطهير مع وجود التغيّر فلئن يكتفى به مع ذهابه طريق الأولويّة، و الأقرب هو ما ذكرنا و إن كان الأحوط هو التفصيل كما عرفت، هذا.

و هل يطهّر البئر حينئذ على هذا القول بسائر المطهّرات الجارية في سائر المياه أو لا تطهّر إلاّ بالنزح؟

و الظاهر أنّ فيه خلافا و إن لم يصرّح به هنا بالخصوص، بناء على كونه من أفراد

ص: 628


1- تذكرة الفقهاء 30:1.
2- إيضاح الفوائد 21:1، 22.
3- ذكرى الشيعة 89:1.
4- حكاه عنهم في فقه المعالم 269:1.
5- حكاه عنه في فقه المعالم 269:1 بقوله: «ففي وجوب نزح الجميع حينئذ أو الاكتفاء بما يزول به التغيّر - لو كان - قولان - إلى أن قال -: «و الأقرب الثاني و هو الظاهر من كلام الشهيد رحمه اللّه في البيان، و اختيار والدي رحمه اللّه».
6- فقه المعالم 269:1.
7- البيان: 99.

العنوان الّذي حكي الخلاف فيه على القول بالنجاسة المتوقّف رفعها على نزح المقدّرات الواردة في الشريعة من قيام سائر الطرق المطهّرة للماء مقام نزح المقدّر هنا و عدمه.

فعن جماعة أنّهم صرّحوا بعدم انحصار طريق تطهير البئر حيث حكم بنجاسته في النزح، بل هو طريق يختصّ به، و هو يشارك غيره من المياه في الطهارة بوصول الجاري إليه أو وقوع الغيث عليه أو إلقاء الكرّ على ما مرّ تفصيله، و هو ظاهر العلاّمة في المنتهى قائلا: «لو سبق إليها نهر من الماء الجاري و صارت متّصلة فالأولى على التخريج الحكم بالطهارة، لأنّ المتّصل بالجاري كأحد أجزائه فخرج عنه حكم البئر»(1)، و يوافقه عبارته المنقولة عن القواعد قائلا: «لو اتّصلت بالنهر الجاري طهرت»(2)، بل قد يقال: كما أنّها تشارك غيرها في المطهّر فكذلك قد يشاركها غيرها في التطهير بالنزح كالغدير النابع على ما هو ظاهر صحيحة ابن بزيع الشاملة لكلّ ذي مادّة، و أفتى به الشيخان أيضا.

و عن ظاهر المعتبر انحصار طريق تطهيرها في النزح حيث قال: «إذا أجرى إليها الماء المتّصل بالجاري لم تطهر، لأنّ الحكم متعلّق بالنزح و لم يحصل»(3)، و وافقه عليه المحقّق الخوانساري محتجّا عليه: «بأنّ التطهير أمر شرعي لا بدّ له من دليل و لا دليل ظاهرا على ما عدا النزح فيستصحب حكم النجاسة»(4).

و ذهب الشهيد في الدروس بعد ما وافق الأوّلين في القول بالمشاركة في البيان - قائلا: «و ينجّس ماء البئر بالتغيّر و يطهّر بمطهّر غيره و بالنزح» -(5)، «و الأصحّ نجاسته بالملاقاة أيضا و طهره بما مرّ و ينزح كذا و كذا»(6) فذكر المقدّرات إلى تفصيل في المسألة، قائلا: «و لو اتّصلت بالجاري طهرت، و كذا بالكثير مع الامتزاج، و أمّا لو تسنّما عليها من أعلى فالأولى عدم التطهير، لعدم الاتّحاد في المسمّى»(7).

و يوافقه عبارته في الذكرى قائلا - على ما حكي -: «و امتزاجه بالجاري مطهّر، لأنّه أقوى من جريان النزح باعتبار دخول ما ينافي اسمه، و كذا لو اتّصل بالكثير، أمّا لو وردا من فوق عليها فالأقوى أنّه لا يكفي، لعدم الاتّحاد في المسمّى»(8).

ص: 629


1- منتهى المطلب 109:1.
2- قواعد الأحكام 189:1-188.
3- المعتبر: 19.
4- مشارق الشموس: 241.
5- البيان: 99.
6- الدروس الشرعيّة 119:1 مع تغيير يسير في العبارة.
7- الدروس الشرعيّة 120:1-121.
8- ذكرى الشيعة 89:1.

و له في بحث الواقف القليل من الدروس كلام ربّما يتوهّم كونه مدافعا للعبارة المذكورة، حيث قال: «و لو اتّصل الواقف بالجاري اتّحدا مع مساواة سطحيهما، أو كون الجاري أعلى لا العكس»(1).

و يمكن دفع توهّم المدافعة بإبداء الفرق بين المقامين، حيث إنّ المعتبر في محلّ البحث - و هو مقام الرفع عن ماء البئر - صيرورة الماءين واحدا بأن يخرج المجموع عن مسمّى البئر ليزول عنه الحكم المخصوص بها و هو النزح، و لا ريب أنّه لا يكفي فيه مجرّد الجريان من فوق ما دام مسمّى البئر باقيا، و المقصود في المقام الآخر - و هو الدفع عن الواقف القليل - مجرّد الاتّصال بالمعتصم، لقيام الدلالة على كفايته في اتّحادهما في الحكم، كما هو مذهب من يقول في الكرّ الغير المتساوي السطوح بتقوّي الأسفل بالأعلى دون العكس، فالمثبت هنا إنّما هو الاتّحاد في الحكم و المنفيّ في الأوّل هو الاتّحاد في الاسم، و لذا صدر العبارة مقيّدة بالمسمّى.

و أنت إذا تأمّلت في عبارة العلاّمة - المتقدّمة -(2) لم تجدها مخالفة لتلك العبارة، و يرجع إليهما ظاهرا كلام المعتبر(3) في المنع عن الكفاية، إذ لا يظنّ أنّه يقول به حتّى في صورة خروج العنوان عن مسمّى البئر كما لا يخفى.

فينبغي القطع حينئذ بعدم الخلاف في الكفاية في تلك الصورة، و منشأ احتجاج المعتبر على عدم الكفاية بما مرّ هو الحصر المستفاد من نصوص المنزوحات الّتي أصرحها دلالة عليه صحيحة ابن بزيع - المتقدّمة -(4) في أدلّة القول بالنجاسة، المشتملة على قوله عليه السّلام: «ينزح دلاء» في جواب قول السائل: «ما الّذي يطهّرها»؟

و اجيب عنه: بظهور ورودها مورد الغالب من تعذّر التطهير بغير النزح أو تعسّره، ولي في المسألة تأمّل.

و قد يعترض - على القول بتطهيرها بإلقاء الكرّ عليها -: بأنّ اللازم من القول بذلك الالتزام أيضا بصيرورة ماء البئر معتصما لا ينفعل بما يقع فيه، لأنّ دليل التطهير بإلقاء

ص: 630


1- الدروس الشرعيّة 119:1.
2- قواعد الأحكام 188:1.
3- المعتبر: 19.
4- الوسائل 176:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 21 - الكافي 1/5:3 - التهذيب 705/244:1 - الاستبصار 124/44:1.

الكرّ عدم قبول الكرّ للانفعال، و اتّحاد ماء البئر معه بالامتزاج أو مجرّد الاتّصال على الخلاف المتقدّم، و قضيّة ذلك عدم قبوله النجاسة الخارجيّة بعد ذلك، فيكفي في اعتصام البئر دائما إلقاء الكرّ عليه.

و دفع بإمكان أن يقال: أنّه إن استهلك به الكرّ في البئر بعد وقوعه دخل في حكم البئر فيشمله أدلّة البئر و يخرج عن مورد أدلّة الكرّ، و حصول التطهّر به إنّما هو بأوّل وقوع المطهّر، و امتزاج البئر مع شيء منه معتصم به و لا استهلاك في ذلك الآن، و إنّما المستهلك هو الواقع بعد انقضاء حالة الوقوع، فلا منافاة بين كونه رافعا و كونه غير دافع، بل و غير معتصم لاختلاف زمانيهما، و إن استهلك البئر بالكرّ الملقى لقلّتها جدّا كان لها حكم الكرّ لعدم صدق البئر عليها حينئذ، و إن شكّ رجع إلى أصالة عدم استهلاك البئر، أو إلى أصالة عدم الانفعال على اختلاف الأنظار في ذلك.

و لا يخفى ما في التعويل على أوّل هذين الأصلين، لكونه في الحقيقة ترجيحا للحادث بالأصل و معه كان أصالة عدم الانفعال و استصحاب الطهارة السابقة سليمتين عن المعارض.

ثمّ يبقى الكلام على القول بالنجاسة في تطهير البئر عن النجاسة الغير المغيّرة بطريق النزح،
اشارة

و له حسبما يستفاد من النصوص المختلفة المتعارضة بعد الجمع بينها مقدّرات اعتبرها الشارع على حسب اختلاف أنواع النجاسات،

و تفصيل البحث في ذلك يقع في طيّ مسائل:
المسألة الاولى: ما يوجب نزح الجميع،

و هو على ما ضبطه غير واحد من الأصحاب و أفتوا به امور، و هو موت البعير، و الثور، و وقوع الخمر و كلّ مسكر، و الفقّاع، و المنيّ، و أحد الدماء الثلاث، و في حكم موت البعير و أخيه وقوعهما ميّتين كما تنبّه عليه بعض مشايخنا(1)، للقطع باستناد الحكم إلى نجاستهما لا تحقّق موتهما في البئر.

و لا ينافيه اشتمال بعض العناوين بالموت الظاهر فيما يتحقّق فيها، بعد ملاحظة التنزيل على الغالب.

و «البعير» على ما نقل عن الجوهري(2) و غيره من أئمّة اللغة كالنهاية الأثيريّة(3)

ص: 631


1- جواهر الكلام 408:1-409.
2- الصحاح 593:2 مادّة «بعر».
3- النهاية في غريب الحديث 16:1 مادّة «إبل».

و المصباح المنير(1) و مختصر الصحاح:(2) «أنّه من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس»، و مقتضاه أنّه يشمل الذكر و الانثى، كما هو المصرّح به في كلام غير واحد من الأصحاب كمنتهى العلاّمة(3) و غيره - على ما حكي - كالحلّي(4)، و المقداد(5)، و المحقّق الأوّل(6)، و الثاني الشيخ عليّ (7)، و الفاضل الهندي(8)، و ثاني الشهيدين(8)، و غيرهم، بل عن الفاضل دعوى اتّفاق أهل اللغة عليه(10)، لكن يستفاد منه الميل - في كلام محكيّ عنه - إلى أنّ ذلك إنّما هو بحسب أصل اللغة و إلاّ ففي العرف شاع استعماله في الذكر خاصّة، كما إليه يرجع ما حكاه عن الشافعي من القول في الوصيّة بأنّه لو قال: «أعطوه بعيرا» لم يكن لهم أن يعطوه ناقة، فحمل «البعير» على الجمل، لأنّ الوصيّة مبنيّة على عرف الناس لا على محتملات اللغة الّتي لا يعرفها إلاّ الخواصّ(11).

و عليه أمكن الجمع بين ما عرفت عن الأئمّة و ما عن الغزالي في البسيط من: «أنّ المذهب أنّه لا تدخل فيه الناقة»(9)، لكنّه لا يجدي نفعا في صحّة حمل الخطاب الشرعي على المطلق على فرض صدق دعوى الانصراف العرفي إلى الذكر، لظهور عدم كون نظيره من الامور الحادثة بعد زمن الخطاب، و عليه اتّجه القول بأولويّة إلحاق الناقة بما لا نصّ فيه.

ثمّ في شمول «البعير» كالإنسان للكبير و الصغير كلام لهم تبعا لما عن أهل اللغة من الاختلاف في ذلك، فعن النهاية الأثيريّة(10) كما عن ظاهر فقه اللغة (11)- للثعالبي - التعميم، و عليه القطع في المنتهى(12)، كما عن المعتبر(13)، و الذكرى(14)، و وصايا التذكرة(15)، و القواعد(16).

ص: 632


1- المصباح المنير: مادّة «البعير»، ص 53.
2- مختار الصحاح: مادّة «ب ع ر».
3- منتهى المطلب 74:1.
4- السرائر 70:1.
5- التنقيح الرائع 46:1.
6- المعتبر: 15.
7- جامع المقاصد 138:1. (8 و 10 و 11) كشف اللثام 321:1.
8- روض الجنان: 147.
9- حكى عنه في كشف اللثام بقوله: «و قال الغزالي في بسيطه: الخ» 322:1.
10- النهاية في غريب الحديث؛ مادّة «إبل» 16:1.
11- فقه اللغة؛ مادّة «بعر»: 86.
12- منتهى المطلب 74:1.
13- المعتبر: 19.
14- ذكرى الشيعة 99:1.
15- تذكرة الفقهاء 485:2.
16- قواعد الأحكام 188:1.

و عن القاموس: «الجمل»: الباذل أو الجذع(1)، و عن العين(2): أنّه الباذل.

و عن الصحاح(3) و المحيط(4) و تهذيب اللغة(5) أنّه يقال: لما أجذع.

و أمّا «الثور» فهو الذكر من البقر كما في المجمع(6)، و لا ينبغي الريبة في اختصاصه بالأهلي، فاحتمال تناوله للوحشي في غاية الغرابة، و قد يحتمل لحوق الوحشي بالأهلي بملاحظة العطف في الرواية الآتية عليه بلفظة و «نحوه».

و كون الحكم في البعير ما ذكر هو المصرّح به في المنتهى(7) و الشرائع(8) و الدروس (9)و غيره(10)، المنفيّ عنه الخلاف في كلام جماعة(11)، بل عن الغنية(12) و السرائر(13) الإجماع عليه، و أمّا لحوق الثور به فقد جعله جماعة مشهورا و غيرهم وصفه بالأشهر.

و الحجّة فيهما صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا سقط في البئر شيء صغير فمات فيها فانزح منها دلاء، و إن وقع فيها جنب فانزح منها سبع دلاء، و إن مات فيها بعير أو صبّ فيها خمر فلينزح الماء كلّه»(14).

و صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام [قال]: «إن سقط في البئر دابّة صغيرة، أو نزل فيها جنب نزح منها سبع دلاء، و إن مات فيها ثور، أو صبّ فيها خمر، نزح الماء كلّه»(15).

و أمّا ما في خبر عمرو بن سعيد بن هلال، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة و السنّور إلى الشاة؟ فقال: «كلّ ذلك نقول سبع دلاء»، قال: حتّى بلغت الحمار و الجمل؟ قال: «كرّ من ماء»(16) فغير صالح لمعارضة ما ذكره لقصوره سندا بما في منتهى العلاّمة(17) من أنّ عمرو هذا فطحيّ، و الأصحاب لم يعملوا بهذه الرواية.

ص: 633


1- القاموس المحيط 375:1 مادّة «بعر».
2- العين؛ مادّة بعر: 132:2.
3- الصحاح؛ مادّة «بعر» 593:2.
4- القاموس المحيط 375:1 مادّة «بعر».
5- تهذيب اللغة 377:2.
6- مجمع البحرين: مادّة «ثور».
7- منتهى المطلب 68:1.
8- شرائع الإسلام 13:1.
9- الدروس الشرعيّة 119:1.
10- غنية النزوع: 48.
11- السرائر 70:1.
12- غنية النزوع: 48.
13- السرائر 70:1.
14- الوسائل 180:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 6 - التهذيب 694/240:1 - الاستبصار 92/34:1.
15- الوسائل 179:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 1 - الاستبصار 93/34:1.
16- الوسائل 180:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 679/235:1 - الاستبصار 91/34:1.
17- منتهى المطلب 69:1.

أو بما في حواشي الاستبصار(1) - للسيّد صاحب المدارك - من أنّ عمرو بن سعيد بن هلال لم ينصّ عليه علمائنا بمدح و لا قدح.

و تصدّى الشيخ في الاستبصار لدفع التنافي بتخصيصه التقدير المذكور بالحمار قائلا: «بأنّه لا يمتنع أن يكون عليه السّلام أجاب بما يختصّ حكم الحمار، و عوّل في حكم الجمل على ما سمع منه من وجوب نزح الماء كلّه»(2)، و هذا التأويل كما ترى لا يلائم ما في المدارك(3) عن الشيخين(4)، و أتباعهما(5)، من أنّهم أوجبوا في البقرة كرّا، بناء على أنّ تاءها للوحدة و المجرّد عنها اسم جنس يقع على الذكر و الانثى كما في المجمع(6)، و كأنّه وجد عن الشيخ في كتابه الآخر، و على أيّ نحو كان فهو ضعيف و إن أرادوا بالبقرة خصوص الانثى كما يظهر عن صاحب المدارك(7)، و مثله في الضعف ما عن ابن إدريس(8) من أنّه اكتفى في الثور بكرّ.

و كما أنّ الخبرين المتقدّمين يدلاّن على حكم ما تقدّم فكذلك يدلاّن على حكم وقوع الخمر على ما استدلّ عليه بهما الجماعة، مصرّحين بعدم الفرق بين قليله و كثيره، و جعله الشيخ مؤيّدا لصحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه في البئر يبول فيها الصبيّ، أو يصبّ فيها بول أو خمر؟ فقال: «ينزح»(9).

و فيه نظر و اعترض في تعميم الحكم بالقياس إلى القليل بمنع تناول الخبرين له، لأنّ التعبير بالصبّ يفهم منه الكثرة، و من هنا ذهب ابن بابويه القمّي - على ما حكي

ص: 634


1- لم نعثر عليه.
2- الاستبصار 35:1 ذيل الحديث 3 من ب 19 من أبواب المياه.
3- مدارك الأحكام 66:1.
4- و هما المفيد في المقنعة: 66 و الشيخ في المبسوط 11:1 - و النهاية 208:1.
5- منهم ابن البرّاج في المهذّب 21:1 و أبو الصلاح في الكافي في الفقه: 130 و السلاّر في المراسم العلويّة: 35.
6- مجمع البحرين: مادّة «بقر».
7- مدارك الأحكام 66:1 حيث قال: «و الأظهر إلحاق الثور و البقرة به» الخ.
8- السرائر 72:1 حيث قال: «ما يوجب نزح كرّ، و هو مرّت خمس من الحيوان: الخيل، و البغال، و الحمير أهليّة كانت أو غير أهليّة، و البقر وحشيّة كانت أو غير وحشيّة، أو ما ماثلها في مقدار الجسم»، و لا ريب في دخول الثور في ما ماثلها في مقدار الجسم.
9- الوسائل 179:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 696/241:1 - الاستبصار 94/35:1 - و زاد فيه: «ينزح الماء كلّه».

عنه -(1) في المقنع(2) إلى التفصيل بين القطرة فخصّها بعشرين دلوا، محتجّا بما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: بئر قطر فيها دم أو خمر؟ قال: «الدم و الخمر و الميّت و لحم الخنزير في ذلك كلّه واحد، ينزح منه عشرون دلوا، و إن غلبت الريح نزحت حتّى تطيب»(3).

و قد ورد لها التقدير بثلاثين أيضا كما في خبر كردويه، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن البئر يقع فيها قطرة دم، أو نبيذ مسكر، أو بول، أو خمر؟ قال: «ينزح منها ثلاثون دلوا»(4) و أجاب في المختلف عن الاعتراض: «بمنع دلالة الأنصاب على الكثير، بل مفهومه الوقوع لذي الأجزاء على الاتّصال سواء قلّ أو كثر، و الخمر الوارد في الحديث نكرة لا يدلّ على قلّة و لا كثرة».

و عن الخبرين: «بالمنع من صحّة سنديهما، لأنّ في طريقيهما من لا يحضرني الآن حاله»(5) و على فرض الصحّة فإعراض المعظم عنهما يخرجهما عن الاعتبار.

و أمّا سائر المسكرات فإلحاقها بالخمر محكيّ عن المفيد(6)، و الشيخ(7)، و المرتضى، و قد يدّعي فيه الشهرة العظيمة، بل عن الغنية(8)، و السرائر(9) الإجماع عليه، و قيّدها جماعة بالمائع بالأصالة احترازا عن الجامد كالحشيشة للاتّفاق على عدم نجاسته، كما في كلام المحقّق الخوانساري(10) لكنّهم لم يذكروا هنا في أصل الحكم حديثا، بل اعترف بعدم الظفر عليه غير واحد منهم العلاّمة في المنتهى(11).

نعم المصرّح به في جملة كلماتهم كما في المنتهى(12)، و غيره، و عن المعتبر(13)، و غيره أنّ ذلك من جهة إطلاق الخمر على كلّ مسكر في كثير من الأخبار، كرواية عطاء

ص: 635


1- و الحاكي هو الفاضل الهندي في كشف اللثام 318:1.
2- المقنع: 34، و لا يخفى أنّ الاحتجاج برواية زرارة يكون من الحاكي لا من المحكيّ عنه، و إن كان استناد المحكيّ عنه إليه أيضا غير بعيد و لذا قال في مدارك الأحكام 93:1: «و ربّما كان مستنده رواية زرارة».
3- الوسائل 179:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 3 - التهذيب 697/241:1 - الاستبصار 96/35:1.
4- الوسائل 179:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 698/241:1 - الاستبصار 95/35:1، و 125/45:1.
5- مختلف الشيعة 196:1-197.
6- و الحاكي هو العلاّمة في منتهى المطلب 70:1؛ المقنعة: 67.
7- النهاية 207:1.
8- غنية النزوع: 48.
9- السرائر 72:1.
10- مشارق الشموس: 220.
11- منتهى المطلب 70:1 و 71.
12- منتهى المطلب 70:1 و 71.
13- المعتبر: 13.

ابن يسار عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلّ مسكر خمر»(1)، و رواية عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام: «إنّ اللّه لم يحرّم الخمر لاسمها، و لكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(2).

و يعترض عليه تارة: بأنّه لو بنى على هذا العموم لزم عدم الفرق بين الجامد و المائع، و لو بنى على ظهور التنزيل في حرمة التناول خاصّة خرج ما عدا الخمر، لاختصاص ما فيه من الأمر بنزح الكلّ بالخمر.

و اخرى: بما في المدارك(3) من أنّ الإطلاق أعمّ من الحقيقة، و المجاز خير من الاشتراك.

و يمكن دفع الأوّل: باختيار الشقّ الأوّل مع القول بموجب العموم المذكور لو لا ما يوجب الخروج عنه بالقياس إلى الجامد من الدلالة على عدم نجاسته، و قد عرفت نقل الاتّفاق عليه، و كلّ عامّ قابل للتخصيص.

و دفع الثاني: بأنّ التمسّك بالإطلاق ليس لغرض إثبات الوضع و الحقيقة حتّى يقابل بما ذكر، مع ما فيه من عدم جريانه بالنسبة إلى احتمال الاشتراك المعنوي كما قرّر في محلّه، و إنّما المقصود به إثبات الإطلاق على نحو الاستعارة و التشبيه ليحرز به ما هو مناط قاعدتهم المعروفة من أنّ التشبيه يفيد المشاركة في الأحكام مطلقة أو الظاهرة منها خاصّة، نعم يشكل ذلك بمنع كون وجوب نزح الجميع من الأحكام الظاهرة، و المحقّق عدم اقتضاء التشبيه إلاّ المشاركة فيها خاصّة، و من هنا اتّجه أن يقال: إنّه لو قيل بنزح الجميع فيما لا نصّ فيه عمّ الحكم لغير الخمر أيضا و إلاّ فللتأمّل فيه مجال واسع.

و ممّا ذكر تبيّن الحال في الفقّاع الّذي حكى عن الشيخ(4) إلحاقه بالخمر، و عن أبي الصلاح(5) أنّه تبعه، و كذلك ابن إدريس(6) و غيره(7)، بل عنه(8) كابن زهرة(9) دعوى الإجماع عليه، فإنّ ذلك أيضا ممّا لا مستند له في الأخبار عدا ورود إطلاق الخمر عليه

ص: 636


1- الوسائل 326:25 ب 15 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 5 - الكافي 3/408:6.
2- الوسائل 342:25 ب 19 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 1 - الكافي 2/412:6.
3- مدارك الأحكام 63:1.
4- حكى عنه في منتهى المطلب 71:1 - لاحظ المبسوط 11:1.
5- الكافي في الفقه: 130.
6- السرائر 72:1.
7- كالقاضي في المهذّب 21:1.
8- السرائر 72:1.
9- غنية النزوع: 48.

في كثير منها، كرواية هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الفقّاع؟ فقال:

«لا تشربه فإنّه خمر مجهول»(1).

و عن الرضا عليه السّلام: «و هو حرام و هو خمر»(2) و عن أبي الحسن الأخير عليه السّلام قال: «هي خمر استصغرها الناس»(3) و الظاهر أنّ هذا هو مستند الحكم كما في كلام جماعة، و اعترض عليه أيضا في المدارك(4) بنحو ما مرّ، و قد تقدّم الجواب عنه مع المناقشة في أصل الاستدلال من وجه آخر، بل النظر في سياق الأخبار و ملاحظة صدرها و ذيلها يعطي عدم ورودها إلاّ لإفادة حكم التحريم، و إن بنينا في أصل مسألة التشبيه على التعميم، فالإشكال في الفقّاع هو الإشكال المتقدّم.

و أمّا موضوع الفقّاع فعن القاموس: «الفقّاع كرمّان، هذا الّذي يشرب، و إنّما سمّي بذلك لما يرتفع في رأسه من الزبد»(5).

و في المجمع: «شيء يشرب يتّخذ من ماء الشعير فقط و ليس بمسكر و لكن ورد النهي عنه»(6).

و عن المرتضى في الانتصار: «أنّ الفقّاع هو الشراب المتّخذ من الشعير»(7).

و في حاشية الشيخ عليّ للشرائع: «أنّ المراد به ما يتّخذ من الشعير و يسمّى بالغبيراء»(8).

و عن الشهيد في الذكرى إلحاق العصير العنبي به بعد ما غلى و اشتدّ(9)، و استبعده في الروضة(10)، و منعه في المدارك(11) عملا بالأصل السالم عن المعارض، و عن حاشية المدارك للمحقّق البهبهاني: «أنّ ما نقل في المسكر و الفقّاع وارد في العصير أيضا، بل

ص: 637


1- الكافي 423:6 ح 7، التهذيب 544/125:9، الاستبصار 373/96:4 - الوسائل 469:3 ب 38 من أبواب النجاسات ح 5.
2- التهذيب 536/124:9، مع اختلاف في العبارة.
3- الوسائل 365:25 ب 28 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 1، و في المصدر: «خميرة».
4- مدارك الأحكام 63:1.
5- القاموس المحيط مادّة: «الفقع».
6- مجمع البحرين: مادّة «فقع».
7- الانتصار: 199.
8- حاشية شرائع الإسلام - للمحقّق الكركي (مخطوط) الورقة: 4.
9- ذكرى الشيعة 99:1.
10- الروضة البهيّة 35:1.
11- مدارك الأحكام 65:1.

و أشدّ، يظهر ذلك من الأخبار الواردة في علّة حرمة الخمر، لاحظ الكافي و غيره»(1).

و قد يجعل من تلك الأخبار المشار إليها ما ورد من «أنّ الخمر من خمسة: العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب، البتع من العسل، و المزر من الشعير، و النبيذ من التمر»(2)، و فيه تأمّل.

و أمّا «المنيّ» ففسّره جماعة بمنيّ ذي النفس السائلة إنسانا كان أو غيره، و قيل باختصاصه بمنيّ الإنسان و أنّ غيره ملحق بما لا نصّ فيه.

و اعترضه: بأنّ كلا النوعين كذلك(3)؛ و الوجه في ذلك ما اعترف به غير واحد كما في المنتهى(4)، و عن المعتبر(5)، و شرح النهاية لأبي عليّ (5) من: أنّهم لم يقفوا فيه على نصّ، و لا ورد فيه مقدّر شرعي، و إن كان ممّا قال به الشيخ و تبعه جماعة.

و عن المحقّق الشيخ عليّ: «أنّه اشتهر القول بذلك بين الأصحاب»(6)، بل عن الغنية(7) و السرائر(8) الإجماع عليه، و في المنتهى (10)- كما عن المعتبر - (11)أنّه: «يمكن القول بأنّه ماء محكوم بنجاسته، و تقدير بعض المنزوحات ترجيح من غير مرجّح فيجب الجميع».

و على قياسه الكلام في الدماء الثلاثة، فإنّ القول بوجوب نزح الجميع فيها منقول عن الشيخ(9) و تبعه السلاّر(10)، و ابن البرّاج(11)، و ابن إدريس(12)، و ابن الزهرة(13)، بل عنهما دعوى الإجماع عليه، و اعترف غير هؤلاء بعدم ورود حديث في ذلك، و لذا عزي إلى المفيد(14) إطلاق القول في الدم بنزح عشرة لكثيره و خمسة لقليله، و مثله ابن بابويه و أبوه(15) في عدم التفصيل و إن خالفاه في التقدير.

ص: 638


1- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 118:1.
2- الوسائل 280:25 ب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 3 - الكافي 3/392:6.
3- المعترض هو صاحب المدارك، لاحظ مدارك الأحكام 65:1.
4- منتهى المطلب 72:1. (5 و 10 و 11) المعتبر: 13.
5- لا يوجد لدينا أصل الكتاب، و لكنّه نقل عنه في ذكرى الشيعة 93:1 و كشف اللثام 320:1 و جامع المقاصد 138:1.
6- جامع المقاصد 138:1.
7- غنية النزوع: 48.
8- السرائر 72:1 و 70.
9- المبسوط 11:1.
10- المراسم العلويّة: 35.
11- المهذّب 21:1.
12- السرائر 72:1 و 70.
13- غنية النزوع: 48.
14- المقنعة: 67.
15- مختلف الشيعة 197:1.

و عن المعتبر أنّه كسائر الدماء قائلا - في وجه قول الشيخ بعد الاعتراف بعدم عثوره على نصّ في ذلك -: «و لعلّ الشيخ نظر إلى اختصاص دم الحيض بوجوب إزالة قليله و كثيره من الثوب، فغلّظ حكمه في البئر و ألحق به الدمين الآخرين، لكن هذا التعليل ضعيف، فالأصل أنّ حكمه حكم بقيّة الدماء عملا بالأحاديث المطلقة»(1) انتهى.

و تنظر فيما ادّعاه من إطلاق الأحاديث بعد ما استوجه التسوية بينه و بين بقيّة الدماء، و استحسن ما ذكره من ضعف التعلّق بالتوجيه المذكور، و لعلّ وجه النظر في دعوى الإطلاق ما قيل فيه من دعوى الانصراف، المقتضي للحوق المقام بما لا نصّ فيه، لكنّه عند التأمّل في حيّز المنع، و الظاهر أنّ الإطلاق ثابت.

و قد يحكى عن ابن البرّاج(2) قول بوجوب نزح الجميع لعرق الجنب حراما، و عرق الإبل الجلاّلة، و الفيل، و آخر عن أبي الصلاح(3) بوجوبه لروث و بول ما لا يؤكل لحمه مطلقا، كما نسبه العلاّمة في المختلف(4) أو في غير بول الصبي و الرجل كما نسبه في الذكرى(5) على ما حكي.

و أورد على الجميع بعدم ورود الدليل عليه.

و قد يوجّه: بأنّ هذا القائل لعلّه يقول بوجوب نزح الجميع فيما لا نصّ فيه، فاعترض بأن لا وجه حينئذ لإفراد هذه الامور بالذكر، و كأنّه لذا عدّ الشهيد في الدروس(6) من جملة ما يجب فيه نزح الجميع نجاسة لا نصّ فيها بناء له على الأحوط، و نحوه محكيّ عن الشيخ في المبسوط قائلا: «بأنّ الاحتياط يقتضي نزح جميع الماء»(7) و يظهر منه الميل إلى اختيار أربعين الّذي هو أحد أقوال المسألة، لقوله - عقيب الكلام المذكور بلا فصل -: «و إن قلنا: بجواز أربعين دلوا منها، لقولهم عليهم السّلام: «ينزح منها أربعون دلوا إن صارت مبخرة»(8)، و في بعض النسخ المحكيّة عنه «و إن صارت منجرة»(9).

ص: 639


1- المعتبر: 14.
2- المهذب 21:1 و لم يذكر فيه الفيل، بل قال: «و كلّ ما كان جسمه مقدار جسمه - أي البعير - أو أكثر».
3- الكافي في الفقه: 130.
4- مختلف الشيعة 192:1.
5- ذكرى الشيعة 93:1.
6- الدروس الشرعيّة 119:1.
7- المبسوط 12:1.
8- البئر المبخرة: هي الّتي يشمّ منها الرائحة الكريهة كالجيفة و نحوها. (مجمع البحرين).
9- المبسوط 12:1.

و لا نعقل معنى هذه الرواية و لا وجه الاستدلال بها، مع ما فيها من ضعف السند بالإرسال، و لذا أورد عليه: بعدم وجود ذلك في كتب الأخبار مع عدم معلوميّة حال سنده بل و قصور دلالته، لمكان عدم كون متعلّق نزح أربعين مذكورا و الدلالة موقوفة عليه.

و لا يخفى عليك أنّ هذا كاف في القدح و إن قلنا بما قيل في دفع الأوّلين من أنّ الشيخ ثقة ثبت فلا يضرّ إرساله، لأنّه لا يرسل إلاّ من الثقات، و القول بأنّ الظاهر من احتجاجه دلالة صدره على محلّ النزاع في دفع الأخير ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه، بعد ملاحظة أنّ الخطاء غير مأمون على المجتهد و لا عبرة باجتهاد الغير.

نعم، هنا رواية اخرى ذكرها العلاّمة في المختلف(1) عن كتابه المسمّى بمدارك الأحكام، و هو ما رواه الحسين بن سعيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن كردويه قال:

سألت أبا الحسن عليه السّلام عن بئر يدخلها ماء المطر فيه البول، و العذرة، و أبوال الدوابّ و أرواثها، و خرء الكلاب؟ قال: «ينزح منها ثلاثون دلوا و إن كانت مبخرة»(2) و لكنّه كما ترى لا يرتبط بمحلّ البحث أوّلا، و بالقول المذكور ثانيا، و كيف كان فلهم في مسألة ما لا نصّ فيه أقوال ثلاث:

أحدها: القول بوجوب نزح الجميع، المحكيّ عن ابن إدريس(3)، و بن زهرة(4)، و عن الغنية(5) الإجماع عليه.

و ثانيها: القول بوجوب نزح أربعين، المنسوب إلى بعض الأصحاب(6)، الظاهر من الشيخ (7)فيما عرفت، و عزي إلى العلاّمة أيضا في بعض كتبه(8)، و إلى الشهيد في شرح الإرشاد(9).

و ثالثها: القول بوجوب نزح ثلاثين، المحكيّ عن السيّد جمال الدين بن طاوس في البشرى(10)، و عن الشهيد(11) نفي البأس عنه أيضا.

ص: 640


1- مختلف الشيعة 216:1.
2- التهذيب 1300/413:1.
3- السرائر 72:1.
4- غنية النزوع: 48.
5- غنية النزوع: 48.
6- الوسيلة: 75.
7- المبسوط 12:1.
8- إرشاد الأذهان 237:1.
9- روض الجنان: 150.
10- حكى عنه في كشف اللثام 352:1 و أيضا حكاه في مدارك الأحكام عن شرح الإرشاد 100:1.
11- حكى عنه في روض الجنان: 151 حيث قال: «و ذهب بعض الأصحاب إلى نزح الجميع و نفى عنه الشهيد في الشرح البأس الخ».

و احتجّ للقول الأوّل - كما في المنتهى -(1): بأنّه ماء محكوم بنجاسته، فلا بدّ من النزح و التخصيص ببعض المقادير ترجيح من غير مرجّح، فوجب نزح الجميع.

و مرجعه إمّا إلى الاحتياط كما تقدّم عن الشيخ(2)، بدعوى: أنّ مع نزح الجميع يحصل القطع بجواز الاستعمال و مع نزح البعض لا يحصل اليقين بالجواز.

أو إلى الاستصحاب كما في كلام جماعة و هو الظاهر، و يمكن كونه وجها آخر غيرهما كما هو الأظهر، و على أيّ حال فهذا القول هو الأقرب بناء على القول بالنجاسة، للاستصحاب السليم عن المعارض، و لا مجال لأصل البراءة هنا لأنّه لا يفيد حكم الطهارة عند الشكّ في النجاسة، و كذا الحال لو قلنا بوجوب النزح وجوبا شرطيّا لرجوع الشكّ حينئذ إلى ارتفاع المنع عن الاستعمال بغير نزح الجميع، و واضح أنّ الأصل عدمه.

نعم، على تقدير كون وجوبه في قول من لم يقل بالنجاسة تعبّديّا صرفا كان المتّجه الاكتفاء بالأقلّ و هو نزح ثلاثين، لو قلنا بانحصار أقوال المسألة في الثلاثة انحصارا نافيا للقول الرابع، كما هو الأصل المقرّر في كلّ أكثر و أقلّ يدور الأمر بينهما في التعبّديّات الصرفة.

نعم، يشكل الحال هنا على القول المختار من استحباب النزح من حيث أنّه في جميع موارده يتبع النصّ و لو ضعيفا، و لا نصّ هنا بالقياس إلى شيء من أقوال المسألة، و لو قيل باستحباب نزح الجميع احتياطا خروجا عن شبهة النجاسة أو الوجوب تعبّدا لم يكن بعيدا كما لا يخفى.

و احتجّ للقول بالأربعين: بما تقدّم عن الشيخ(3) و قد عرفت عدم نهوضه دليلا عليه في سنده و لا دلالته، قال في المدارك - بعد القدح فيما ذكر بنحو ما مرّ مفصّلا -: «نعم يمكن الاستدلال عليه بصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع المتقدّمة في أدلّة الطهارة، فإنّها صريحة في الاكتفاء في طهارة البئر مع تغيّره بنزح ما يزيل التغيّر خاصّة و عدم وجوب نزح الماء كلّه، و متى انتفى وجوب نزح الجميع مع التغيّر انتفى مع عدمه بطريق أولى، فيثبت الأربعون لعدم الجزم بحصول الطهارة بالثلاثين»(4) انتهى.

ص: 641


1- منتهى المطلب 104:1.
2- المبسوط 12:1.
3- المبسوط 12:1.
4- مدارك الأحكام 100:1.

و هو كما ترى لا يفيد إلاّ نفي وجوب نزح الجميع على تقدير تسليم أصل الدلالة، و أمّا تعيين أربعين فلا، إلاّ إذا ثبت الإجماع على نفي القول الرابع الزائد على الأقوال المذكورة، و هو بمحلّ من المنع.

و احتجّ للقول الثالث: برواية كردويه المتقدّمة(1)، و ردّ: بقصور السند أوّلا، و قصور الدلالة ثانيا، بوضوح اختصاصها بأشياء مخصوصة من دون أن يكون فيها دلالة على الحكم عموما، فالحكم الوارد فيها في الحقيقة من جملة المقدّرات الخاصّة لا أنّه حاكم لما لا تقدير له عموما.

ثمّ في المسألة وجه آخر احتمله المحقّق في المعتبر قائلا - على ما حكي عنه -:

«و يمكن أن يقال فيه وجه [ثالث] و هو: أنّ كلّما لم يقدّر له منزوح لا يجب فيه نزح، عملا برواية معاوية المتضمّنة لقول أبي عبد اللّه عليه السّلام «لا يغسل الثوب و لا يعاد الصلاة ممّا يقع في البئر إلاّ أن ينتن»، و رواية ابن بزيع «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه» و هذا يدلّ بالعموم فيخرج منه ما دلّت عليه النصوص بمنطوقها أو فحواها، و يبقى الباقي داخلا تحت هذا العموم»(2) انتهى.

و هو كما ترى إنّما يتّجه على القول بوجوب النزح لمجرّد التعبّد كما اعترف به هو في ذيل تلك العبارة، و إلاّ فالمتّجه تعيّن نزح الجميع عملا بالأصل المتقدّم.

ثمّ أنّه عن الشيخين(3) و أتباعهما(4) فيما تعذّر استيعاب ماء البئر فيما يجب نزح الجميع الحكم بالاكتفاء بالتراوح، و هو أن ينزح أربعة، كلّ اثنين دفعة يوما إلى الليل، فإنّ «التراوح» تفاعل من الراحة، لأنّ كلّ اثنين يريحان صاحبيهما، و كون ذلك كافيا ممّا جعله في شرح الدروس(5) مشهورا بين الأصحاب، بل في منتهى العلاّمة: «و لم أعرف مخالفا من القائلين بالنجاسة»(6)، و عن المحقّق في المعتبر تعليل الحكم - مضافا إلى ما سيأتي -: «بأنّه إذا وجب نزح الماء كلّه و تعذّر فالتعطيل غير جائز، و الاقتصار على نزح

ص: 642


1- التهذيب 1300/413:1.
2- المعتبر: 19.
3- المفيد في المقنعة: 67؛ و الشيخ في المبسوط 10:1؛ و النهاية 207:1.
4- منهم ابن البرّاج في المهذّب 21:1؛ و أبو الصلاح في الكافي في الفقه: 130؛ و السّلار في المراسم العدّية: 35.
5- مشارق الشموس: 240.
6- منتهى المطلب 73:1.

البعض تحكّم، و النزح يوما يتحقّق معه زوال ما كان في البئر فيكون العمل به لازما»(1).

و ضعفه واضح بعد ملاحظة كون بعض مقدّماته ممنوعة و بعضها الآخر مصادرة، و العمدة في المستند موثّقة عمّار المرويّة في التهذيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - في حديث طويل - قال: و سئل عن بئر يقع فيها كلب، أو فأرة، أو خنزير؟ قال: «ينزف كلّها، فإن غلب عليه الماء فلينزف يوما إلى الليل، ثمّ يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين، فينزفون يوما إلى الليل و قد طهرت»(2).

و في معناه ما روي عن فقه الرضا عليه السّلام من قوله عليه السّلام: «فإنّ تغيّر الماء وجب أن ينزح الماء كلّه، فإن كان كثيرا و صعب نزحه فالواجب عليه أن يكتري عليه أربعة رجال يستقون منها على التراوح من الغدوة إلى الليل»(3).

و اعترض على الأوّل تارة: بقصور سنده من حيث إنّ جماعة من رجاله فطحيّة فلا تعويل عليه.

فاجيب عنه: بأنّ جماعة من رواته و إن كانت فطحيّة غير أنّها ثقات، فيعمل بما رووه مع سلامته عن المعارض و اعتضاده بعمل الأصحاب؛ و ما عن الشيخ في العدّة(4)من دعوى إجماع الإماميّة على العمل برواية عمّار مع تأيّده بالرضوي المذكور، و اخرى: بتهافت متنه من حيث تضمّنه إيجاب نزح الجميع لما لا قائل به فيه.

فدفع: بأنّ نزح الجميع هنا إمّا محمول على الاستحباب، أو على صورة التغيّر كما صرّح به الشيخ في التهذيب؛(5) و أيّا ما كان فليس ممّا لا قائل به، و يثبت به بدليّة التراوح عن نزح الجميع و هو المطلوب.

و قد يستند - على تقدير الحمل على التغيّر - للتعدّي إلى غيره إلى الأولويّة، فإنّه إذا أجزأ التراوح في صورة التغيّر عن نزح الجميع عند العجز عنه، أجزأ عنه في المقام بطريق أولى.

ص: 643


1- المعتبر: 14.
2- الوسائل 196:1 ب 23 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 832/284:1-699/242:1.
3- فقه الرضا عليه السّلام: 94.
4- عدّة الاصول 150:1 في ب ذكر القرائن الّتي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد - و أيضا حكاه عنه المحقّق في المعتبر: 14.
5- التهذيب 242:1.

و فيه: منع استفادة البدليّة المطلقة على تقدير الحمل على الاستحباب كما هو الظاهر، فإنّ بدليّة مستحبّ عن مستحبّ لا يقضي ببدليّة مثل ذلك المستحبّ عن واجب، سيّما إذا اعتبرناه للتطهير لا لمجرّد التعبّد، و حمله على التعبّد تأويل لا شاهد له يصلح التعويل عليه، و على صحّة التعويل عليه هنا فهو في أشياء مخصوصة ليس معها ما يدلّ بعموم الحكم، و سقوط الخصوصيّة و لو سلّم فأقصى ما يسلّم فيه من العموم إنّما هو بالنسبة إلى أفراد التغيّر لا مطلقا، و الأولويّة المدّعاة ممنوعة، كيف و التغيّر أقوى سببي النجاسة.

و ثالثة: بأنّ ظاهره يدلّ على وجوب التراوح يوما بعد وجوب نزحه يوما، و حاصله الدلالة على وجوب نزحه يومين، لمكان قوله عليه السّلام: «ثمّ يقام عليها قوم يتراوحون» بعد قوله عليه السّلام: «فلينزف يوما إلى الليل» و هو ممّا لا قائل به.

فدفع تارة: بمنع كون كلمة «ثمّ» هنا للترتيب، لجواز كونها لغيره، كما ورد كثيرا و منه قوله تعالى: كَلاّٰ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاّٰ سَيَعْلَمُونَ (1).

و اخرى: بالإجماع على عدم وجوب ما عدا التراوح، فهو قرينة ظاهرة على عدم إرادة الترتيب.

و ثالثة: باحتمال سقوط لفظ «قال» بعد كلمة «ثمّ» على أن يكونا من كلام الراوي، كما يرشد إليه ما في سابقه في التهذيب(2) من قوله: «ثمّ قال: فإن غلب» الظاهر في كونه للشيخ، لمكان قوله - بعد قال -: «أعني أبا عبد اللّه»، هذا مضافا إلى ما عن بعض النسخ من قوله: «ثمّ قال: يقام» كما نقل، مع قوّة احتمال زيادة تلك اللفظة كما عن المعتبر(3) من عدم ذكره إيّاها.

و رابعة: بأنّ المراد بالنزف يوما نزح الجميع في يوم، ثمّ إذا لم ينزف في يوم تراوح عليها أربعة.

و خامسة: باحتمال الفتح في «ثمّ» على أن تكون للإشارة، فيكون معنى: ثمّ يقام في تلك الحال و ذلك الوقت يقام عليها قوم، و يكون قوله: «يقام» بيانا لكيفيّة النزف.

و لا يخفى ما في الكلّ من التكلّف؛ و في المقام فروع ينبغي الإشارة إليها.

ص: 644


1- التكاثر: 3 و 4.
2- التهذيب 699/242:1.
3- المعتبر: 14.

منها: أنّ الّذي يقتضيه عبارة المقنعة(1) المحكيّة في التهذيب كون حكم التراوح معلّقا على صعوبة نزح الجميع و تعسّره، لقوله: «و إن مات فيها بعير نزح جميع ما فيها، فإن صعب ذلك لغزارة الماء و كثرته تراوح على نزحه أربعة رجال»(2) إلى آخره.

إلاّ أنّ مقتضى صريح الجماعة كونه معلّقا على التعذّر، و الخبر المتقدّم(3) الّذي هو مستند الحكم يعضد الأوّل، لوقوع التعبير فيه بالغلبة الّتي هي أعمّ من موجب التعذّر، بل يوافقه صريح الرضوي(4) إن قلنا بالعمل به، و لعلّ كلام الجماعة مبنيّ على خارج بلغهم من إجماع و غيره، و إلاّ فلا يساعدهم الدليل النقلي كما عرفت.

و يمكن ابتناؤه على مراعاة الاحتياط الّذي هو حسن على كلّ حال، و إن كان كلامهم فيما نعلم خلوّا عن التعليل به، بل عن التعرّض لذكر هذا الفرع.

و كيف كان فالمعتبر في التعذّر أو التعسّر الموجبين للاكتفاء بالتراوح كونه ناشئا عن كثرة الماء و غزارته المانعة عن نزح جميعه، كما هو المصرّح به في كلماتهم، المنصوص عليه في الخبرين المتقدّمين، فلا يجتزأ به لو كان العذر أو العسر لمانع خارجي، اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد النصّ.

و منها: أنّ مقتضى القاعدة المشار إليها وقوع النزح في النهار القائم المتّصل طويلا كان أو قصيرا لإطلاق النصّ، فلا يكفي مقداره من الليل و لا الملفّق من الليل و النهار كائنا ما كان، و لا نصف النهار لو فرض فيه وقوع ما يقع في النهار التامّ من العمل، كما أنّه لا يجب تحرّي أطول الأيّام، بل هو في كثير من الصور منفيّ بالضرر.

لكنّ الكلام في تحديد النهار هنا من حيث احتمال كون العبرة فيه بما بين طلوع الشمس و غيبوبتها، كما هو في ظاهر العرف المنصرف إليه الإطلاق في النذور و الإجارات و غيرها من العقود، أو بما هو معتبر في يوم الصوم كما يساعد عليه الاحتياط و خرج به في كلام جماعة من الأصحاب.

و على أيّ حال فيجب تهيئة الأسباب قبل الوقت، بل أخذ شيء من الطرفين للعمل شروعا و ختما مقدّمة للعلم، و ربّما يقال بوجوب التهيّؤ قبل الوقت حتّى بالقياس إلى

ص: 645


1- المقنعة: 67.
2- التهذيب 240:1.
3- قد تقدّم آنفا في الصفحة 186.
4- قد تقدّم آنفا في الصفحة 186.

إرسال الدلو إلى البئر، و هو بعيد بل منفيّ ببطلان الترجيح من غير مرجّح، حيث إنّ ذلك لا يعقل إلاّ في الدلو الأوّل الّذي يشرع به.

و منها: أنّ قضيّة القاعدة المشار إليها بملاحظة مفهوم «القوم» الظاهر في الرجال إن لم نقل باختصاصه بهم - كما يقتضيه المحكيّ عن الصحاح(1) و النهاية الأثيريّة(2)، و قوله عزّ من قائل: لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وَ لاٰ نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ (3) و قول زهير: «أقوم آل حصن أم نساء»، مضافا إلى ورود التصريح بهم بالخصوص في الرضوي على تقدير العمل به - عدم الاجتزاء بالنسوان و لا الصبيان و لا الخناثي، و إن نهض كلّ واحد من هؤلاء بعمل الرجال، و هو المصرّح به في كلام غير واحد عدا العلاّمة في المنتهى(4)، حيث استشكل في عدم إجزاء هؤلاء لو ساوت قوّتهم قوّة الرجال، بل عن بعض الأصحاب - كما في المدارك -(5) الاجتزاء بهم، و استحسنه في الكتاب على تقدير عدم قصور نزحهم عن نزح الرجال، و هذا جيّد على القول بكون النزح للتطهير، للقطع بعدم مدخليّة الرجوليّة في ذلك.

و أمّا على القول به تعبّدا فالإشكال قويّ في غاية القوّة، و لعلّه الداعي إلى ما عرفته من العلاّمة من حيث إنّه في المسألة قائل بطهارة البئر و وجوب النزح تعبّدا كما تبيّن آنفا.

و منها: أنّ قضيّة إطلاق «القوم» في الخبر الأوّل، و إطلاق قوله عليه السّلام: «يتراوحون اثنين اثنين» عدم انحصار العدد المعتبر هنا في الأربعة، و كفاية الزائد عليه ما لم يؤدّ الكثرة إلى صرف الوقت بالبطء و نحوه، و لا ينافيه ما في الرضوي من تخصيص الأربعة بالذكر - على تقدير العمل به - بعد ملاحظة أنّ العدد لا مفهوم له، فتأمّل.

نعم، قضيّة ما ذكر من اعتبار التراوح بين اثنين اثنين في النزح عدم كفاية ما دون الأربعة اقتصارا على مورد النصّ، كما صرّح به غير واحد، و إن كان العلاّمة في المنتهى(6) قد استقرب إجزاء نزح الاثنين إن امتدّ نزحهما إلى الليل و علم مساواته لتراوح الأربعة، و هذا قويّ على تقدير اعتبار النزح للتطهير كما عرفت.

و قد يقال: باعتبار قيام الآخرين للنزح في أوّل زمان تعب الأوّلين و كلّهما تحصيلا

ص: 646


1- الصحاح 2016:5 مادّة «قوم».
2- النهاية في غريب الحديث؛ مادّة «قوم» 124:4.
3- الحجرات: 11.
4- منتهى المطلب 74:1.
5- مدارك الأحكام 68:1.
6- منتهى المطلب 74:1.

لصدق الإراحة، و ليس ببعيد سيّما على التعبّد.

و منها: قال في الروضة: «و يجوز لهم الصلاة جماعة، لا جميعا بدونها، و لا الأكل كذلك»(1) و في المدارك: «قيل [إنّه] يستثنى لهم الأكل جميعا، و الصلاة جماعة»(2)، ثمّ نفى عنه البأس تعليلا بقضاء العرف بذلك.

و أورد عليه: بأنّ مسألة التراوح حكم شرعي فلا دخل لمعرفة العرف فيه، و ظاهر الخبر امتداد النزح إلى الليل، و الغالب فيه التعبّد، و لذا لا يكفي فيه الليل و لا الملفّق»(3).

و فيه: أنّ مقصود المتمسّك بالعرف أنّه يفهم من خطاب التراوح عرفا الترخيص في الاجتماع للأكل و الصلاة، فلا ينافيه كون مسألة التراوح حكما شرعيّا، و لا ظهور الخبر في الامتداد إلى الليل، لأنّ معنى الامتداد حينئذ عدم التقاعد عن الاشتغال جميعا في غير ما ساعد العرف على الترخيص فيه، و عدم منافاته للامتداد.

نعم، عن بعض المحقّقين الاستشكال في الاجتماع لغير صلاة الجمعة، إذ دليل الجماعة أعمّ من دليل التراوح من وجه و الأصل بقاء نجاسة البئر، كيف و لو اعتبر هذا العموم لدخل سائر المستحبّات كقضاء حاجة المؤمن و تشييع الجنازة، و دعوى استثناء الصلاة من اللفظ عرفا أو عادة محلّ تأمّل.

و ربّما يتأمّل أيضا في طهارة البئر لو ترك النزح لصلاة الجمعة أيضا، لإمكان تطهيرها في غير يومها.

و قد يعترض على دعوى استثناء الجماعة للصلاة بأنّ اللازم عليهم استثناء زمان مقدّمات الجماعة كالسعي و الانصراف إلى المسجد و نحوه، و بالجملة هذه الأحكام كلّها على خلاف الاحتياط؛ و بناء العرف في خصوص المقام غير معلوم و إن ادّعي ثبوته على الترخيص في الاجتماع.

و منها: أنّ المشهور المدّعى عليه الشهرة كون العبرة في كيفيّة تراوح القوم اثنين اثنين اشتغال كلّ اثنين معا بالنزح، بأن يستقيا بدلو واحد و يتجاذبا إيّاه إلى أن يتعبا فيقعدان و قام الآخران مشتغلين متجاذبين كذلك، و عن ثاني الشهيدين في روض الجنان: «أنّ

ص: 647


1- الروضة البهيّة 44:1.
2- مدارك الأحكام 68:1.
3- المورد هو المحقّق البهبهاني في حاشية مدارك الأحكام 120:1.

أحد المتراوحين يكون فوق البئر يمتح الدلو و الآخر فيها يملؤه»(1)، و الأولى كونهما معا فوق البئر كما في المدارك(2) لأنّه المتعارف، و عن المولى التقيّ المجلسي قدّس سرّه(3) أنّه احتاط في ذلك بدخول واحد في البئر و وقوف اثنين في الفوق للنزح خروجا عن الشبهة.

المسألة الثانية: ما يوجب نزح كرّ من ماء البئر،

و هو على ما ضبطه الشهيد في الدروس(4) و أفتى فيه بالحكم المذكور، الدابّة، و البغل، و الحمار، و البقرة، و نقل عنه مثله في الذكرى(5) و البيان(6) و مثله في اللمعة(7) أيضا و لكن بإسقاط «البغل» تبعا في ذلك لشرائع(8) المحقّق، و قرينة المقابلة تعطي كون المراد ب «الدابّة» في كلامهما «الفرس» خاصّة، دون ما يدبّ على الأرض، و لا ما يركب على إطلاقهما.

قال في الروضة: «هذا هو المشهور و المنصوص منها، مع ضعف طريقة «الحمار و البغل»، و غايته أن ينجبر ضعفه بعمل الأصحاب، فيبقى إلحاق الدابّة و البقرة بما لا نصّ فيه أولى»(9).

قال العلاّمة في المنتهى - بعد ذكر الامور المذكورة بزيادة «أشباهها» -: «أمّا الحمار، فقد ذهب إليه أكثر أصحابنا» - إلى أن قال -: «و أمّا البقرة و الفرس، فقد قال الشيخ و السيّد المرتضى و المفيد بمساواتهما للحمار في الكرّ»(10).

و عن السرائر(11) أنّه ذكر الخيل، و البغال، و الحمير أهليّة كانت أو غير أهليّة، و البقرة وحشيّة أو غير وحشيّة، أو ما ماثلها في مقدار الجثّة.

و عن الوسيلة(12)، و الإصباح(13): الحمار و البقرة و ما أشبههما.

و عن المهذّب(14): الخيل، و البغال، و الحمير، و ما أشبههما في الجسم.

و عن الغنية(15) دعوى الإجماع على الخيل و شبهها، و عن المعتبر المناقشة في هذا التعميم، قائلا - بعد ما نسب إلحاق الفرس و البقر بالحمار إلى الثلاثة -(16): «و نحن نطالبهم بدليل ذلك، فإن احتجّوا برواية عمرو بن سعيد، قلنا: هي مقصورة على الجمل

ص: 648


1- روض الجنان: 148.
2- مدارك الأحكام 69:1.
3- روضة المتّقين 90:1.
4- الدروس الشرعيّة 119:1.
5- ذكرى الشيعة 94:1.
6- البيان: 100.
7- اللمعة الدمشقيّة 36:1.
8- الشرائع 13:1.
9- الروضة البهيّة 36:1.
10- منتهى المطلب 74:1.
11- السرائر 72:1.
12- الوسيلة: 69.
13- إصباح الشيعة: 4.
14- المهذّب 21:1.
15- غنية النزوع: 48.
16- يعني السيّد و الشيخين (منه).

و الحمار و البغل، فمن أين يلزم في البقرة و الفرس، فإن قالوا: هي مثلها في العظم، طالبنا هم بدليل التخطّي إلى المماثل من أين عرفوه، لا بدّ له من دليل، و لو ساغ البناء على المماثلة في العظم لكانت البقرة كالثور، و لكان الجاموس كالجمل، و ربّما كانت الفرس في عظم الجمل، فلا تعلّق إذا بهذا و شبهه، و من المقلّدة من لو طالبته بدليل ذلك لادّعى الإجماع بوجوده في كتب الثلاثة، و هو غلط و جهالة إن لم يكن تجاهلا، فالأوجه أن يجعل الفرس و البقرة في قسم ما لم يتناوله نصّ على الخصوص»(1) انتهى.

و الظاهر أنّ مراده بالمقلّد المدّعي للإجماع هو ابن الزهرة(2)، و مراده برواية عمرو بن سعيد ما تقدّم إليه الإشارة في المسألة الاولى، قال: سألت أبا جعفر عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة و السنّور إلى الشاة؟ فقال: «كلّ ذلك نقول سبع دلاء» قال: حتّى بلغت الحمار و الجمل، قال: «كرّ من ماء»(3).

و الظاهر أنّ مستند الحكم هنا هو هذه الرواية و لو بالنسبة إلى بعض المذكورات، و قد تقدّم عن العلاّمة(4)، و صاحب المعالم(5)، القدح في سندها، فإنّ العلاّمة رمى عمرو بن سعيد بالفطحيّة كما عنه أيضا في المختلف(6)، و عن المحقّق في المعتبر(7) و عن الشهيد في الذكرى(8).

و قد يستفاد توثيقه عن بعض الأخبار(9)، بل وثاقته و جلالة شانه عن كلام بعض العلماء الأخيار كالكليني، حيث وصف في الروضة(10) الحديث الّذي هو في سنده

ص: 649


1- المعتبر: 14.
2- غنية النزوع: 48.
3- الوسائل 180:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 679/235:1.
4- منتهى المطلب 69:1.
5- فقه المعالم 180:1، أقول: لم ينقل عنه سابقا القدح في سندها.
6- مختلف الشيعة 194:1.
7- المعتبر: 14.
8- ذكرى الشيعة 92:1.
9- قال المقدّس التقيّ المجلسي رحمه اللّه في روضة المتّقين 403/14: «روى الشيخ في الموثّق ما يدلّ على توثيقه في باب 19 الأوقات من التهذيب» انتهى. أقول: و المراد به هو ما رواه الشيخ في التهذيب 62/22:2 و الاستبصار 891/248:1.
10- الكافي 189/168:8 حيث قال: «و في الصحيح عن عمرو بن سعيد بن هلال، قال: قلت للصادق عليه السّلام: إنّي لا أكاد ألقاك إلاّ في السنين فأوصني بشيء، فقال: اوصيك بتقوى اللّه...» الحديث.

بالصحّة، و بالجملة فهو إمّا صحيح أو موثّق أو منجبر بعمل الأصحاب، و لا يقدح في اعتباره اشتماله على الجمل الّذي لم يقل بذلك الحكم فيه أحد، لأنّ ذلك يوجب الوهن فيه في هذا المقدار، أو أنّه لا جابر له بالقياس إلى هذا المقدار.

و إلى بعض ما ذكرناه يشير عبارة المنتهى القائلة: «بأنّها ضعيفة من حيث السند، و من حيث التسوية بين الحمار و الجمل، إلاّ أنّ أصحابنا عملوا فيها بالحمار و التسوية سقطت باعتبار حصول المعارض، فلا يلزم نفي الحكم عمّا فقد عنه المعارض».(1) و أمّا دلالته من حيث الصراحة فترى أنّها مقصورة على «الحمار» على ما هو في النسخ الموجودة الآن بأيدينا، أو هو و «البغل» على ما صرّح به ثاني الشهيدين(2) و المحقّق(3)فيما تقدّم، و عن المعتبر(4) أنّه نقل الرواية بزيادة «البغل» و نحوه محكيّ عن المهذّب(5)، بل عن شرح الفاضل الهندي(6) وجود «البغل» فيها في موضع من التهذيب(7)، و نحوه عن كشف الالتباس(8) و المقتصر(9) و الروض(10) و الذكرى(11)، و عن المحقّق البهبهاني - بعد نقل الرواية -: «و في نسخة من التهذيب حتّى بلغت الحمار و البغل و الجمل، و ظاهرها أنّ الراوي كان يسأل عن [حكم] موت حيوان بترتيب الجثّة من الصغر إلى الكبر، فقوله: «حتّى بلغت الحمار و الجمل» في قوّة أن يقال: إلى أن بلغت جثّة الحمار، ثمّ بعدها إلى أن بلغت جثّة الجمل، و معلوم أنّ جثّة البقر جثّة الحمار، و أمّا جثّة الدابّة فهي الجثّة المتوسّطة بين جثّة الحمار و جثّة الجمل، هذا على النسخة المشهورة، و أمّا على النسخة الغير المشهورة فغير خفيّ أنّ جثّتها جثّة البغل»(12) انتهى.

و المقصود من هذا التحقيق جعل الرواية متضمّنة لجميع الامور المذكورة حتّى الدابّة و البقرة و ليس ببعيد، بل الظاهر من سوق الرواية أنّ ذكر «الحمار» على النسخة المشهورة وارد من باب المثال، و إلاّ فغرض السائل سؤاله عن حكم «الحمار» و ما يشبهه أو يقرب منه في الجثّة، كما تنبّه عليه بعض مشايخنا قائلا: «و يظهر من سوق

ص: 650


1- منتهى المطلب 74:1.
2- روض الجنان: 148.
3- المعتبر: 14.
4- المعتبر: 14.
5- المهذّب 21:1.
6- كشف اللثام 326:1.
7- التهذيب 679/235:1.
8- كشف الالتباس 60:1.
9- المقتصر: 19.
10- ذكرى الشيعة 94:1.
11- روض الجنان: 148.
12- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 525.

الرواية عموم حكم الحمار لما ماثلها في الجنّة، حيث جعل الحيوانات أصنافا بحسب الجثّة فيشمل البقرة»(1).

و إلى ذلك نزّل ما تقدّم من عبارات القدماء قائلا: «بأنّ الظاهر أنّ الكلّ فهموا من رواية الحمار و غيرها ما ذكرنا من إرادة المثال»(2).

و لا يخفى على الفطن العارف أنّ ذلك في غاية الجودة، و أجود ممّا رامه العلاّمة في المنتهى(3) من الاستناد في تعميم الحكم إلى ما رواه الشيخ - في الصحيح - عن الفضلاء الثلاثة زرارة، و محمّد بن مسلم، و بريد بن معاوية العجلي، عن أبي عبد اللّه و أبي جعفر عليهما السّلام في البئر يقع فيها الدابّة و الفأرة و الكلب و الطير فيموت؟، قال: «يخرج ثمّ ينزح من البئر دلاء، ثمّ اشرب و توضّأ»(4).

فقال في وجهه: «قال صاحب الصحاح: «الدابّة» اسم لكلّ ما يدبّ على الأرض، و «الدابّة» اسم لكلّ ما يركب، فنقول: لا يمكن حمله على المعنى الأوّل و إلاّ لعمّ، و هو باطل لما يأتي، فيجب حمله على الثاني.

فنقول: الألف و اللام في «الدابّة» ليست للعهد، لعدم سبق معهود يرجع إليه، فإمّا أن يكون للعموم كما ذهب إليه الجبّائيان، أو لتعريف الماهيّة على المذهب الحقّ، و على التقديرين يلزم العموم في كلّ مركوب.

أمّا الأوّل: فظاهر، و أمّا الثاني: فلأنّ تعليق الحكم على الماهيّة يستدعي ثبوته في جميع صور وجودها و إلاّ لم يكن علّة، هذا خلف، و إذا ثبت العموم دخل فيه الحمار، و الفرس، و البغل، و الإبل، و البقر [نادرا] غير أنّ الإبل و الثور خرجا بما دلّ بمنطوقه على نزح الجميع، فيكون الحكم ثابتا في الباقي.

فإن قلت: يلزم التسوية بين ما عدّده الإمامان عليهما السّلام.

قلت: خرج ما استثنى بدليل منفصل، فيبقى الباقي لعدم المعارض، و أيضا: التسوية حاصلة من حيث الحكم بوجوب نزح الدلاء، و إن افترقت بالكثرة و القلّة، و ذلك شيء

ص: 651


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه 219:1.
2- كتاب الطهارة 222:1.
3- منتهى المطلب 74:1-75.
4- الوسائل 183:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 682/236:1.

لم يتعرّضا عليهما السّلام له، إلاّ أنّ لقائل أن يقول: إنّ ما ذكرتموه لا يدلّ على بلوغ الكرّيّة، و يمكن التمحّل بأن يحمل «الدلاء» على ما يبلغ الكرّ جمعا بين المطلق و المقيّد خصوصا مع الإتيان بصيغة جمع الكثرة.

لا يقال: إن حمل الجمع على الكثرة استحال إرادة القلّة منه، و إلاّ لزم الجمع بين إرادتي الحقيقة و المجاز، و إن حمل على القلّة فكذلك.

لأنّا نقول: لا نسلّم استحالة التالي، سلّمناه لكن إن حمل على إرادة معناه المجازي و هو مطلق الجمع لم يلزم ما ذكرتم، على أنّ لنا في كون الصيغ المذكورة حقائق أو مجازات في القلّة و الكثرة نظرا»(1)، إلى آخر ما ذكره، و لا يخفى ما في هذا التقريب من وجوه النظر.

أمّا أوّلا: فلأنّ لزوم الحمل على المعنى الثاني إنّما هو لقرينة المقابلة فيما بين الدابّة و الفأرة و الكلب و الطير لا العموم الموهوم، و إلاّ سهل علاجه بتطرّق التخصيص، كما يعالج ذلك على الحمل على المعنى الثاني أيضا بالقياس إلى الثور، و الحمل بالتخصيص حسبما اعترف به قدّس سرّه.

و توهّم كون الداعي إلى الفرق لزوم تخصيص الأكثر على التخصيص الأوّل دون الثاني، يدفعه: أنّ إخراج غير موضوع الحكم هنا ليس من باب التخصيص المصطلح، حيث لا عامّ في المقام، بل هو من باب تقييد المطلق و هو جائز كائنا ما كان.

و أمّا ثانيا: فلأنّ الحمل عليه يقضي بعدم تناول الحكم للبقرة، لعدم كونها بحسب العادة من جنس المركوب، و الركوب عليها عند بعض الطوائف النادرة - على فرض تسليمه - غير مجد، بعد ملاحظة أنّ المطلق لا ينصرف إلى الأفراد النادرة، و يرد ذلك بعينه بالنسبة إلى الحمار و البقر الوحشيّين مطلقا كما لا يخفى، مع أنّ ظاهر الجماعة بل صريح بعضهم عدم الفرق في الحكم المذكور بين الوحشي من الأنواع المذكورة و غيره.

و أمّا ثالثا: فلأنّ جعل اللام للعهد الذهني أيضا ممكن، مع عموم الحكم لجميع الأنواع المذكورة كما لا يخفى، و لا يبعد أخذ ورود السؤال بعنوان الوقوع قرينة على ذلك، بملاحظة أنّ الوقوع من عوارض الشخص دون الجنس و الماهيّة.

و أمّا رابعا: فلأنّ ذلك بعد اللتيّا و الّتي لا يجدي نفعا في ثبوت التحديد بالكرّيّة،

ص: 652


1- منتهى المطلب 79:1-78.

و التمحّل له بالجمع بين المطلق و المقيّد غير مفهوم المعنى، حيث لم يرد التقدير بالكرّيّة للدابّة، إلاّ أن يراد به ما ورد في الرواية السابقة بالقياس إلى الحمار أو هو و البغل، و فيه:

أنّ ما ورد في هاتين الروايتين أشبه بكونه من باب المجمل و المبيّن، مع ما في التشبّث بتلك القاعدة من إخراج الرواية أجنبيّة عن المطلوب، حيث إنّ «الدابّة» في تلك الرواية أيضا مطلقة، فيحمل على مقيّد الرواية السابقة و هو «الحمار»، بناء على أنّ المقيّد عبارة عمّا دلّ لا على شايع في جنسه، إلاّ أن يتفصّى بعدم المنافاة بينهما من هذه الجهة الّذي هو الداعي إلى الجمع و حمل أحدهما على الآخر، بخلاف ما بين التحديد بالدلاء و التحديد بالكرّيّة، المفيد أوّلهما الاجتزاء بما دون الكرّ كما لا يخفى، ثمّ حمل الجمع على الكثرة لا يقضي بتعيّن الكرّيّة، لأنّ الكثرة لها مراتب منها الكرّيّة، و منها ما فوقها، و منها ما دونها في الجملة، و كون اعتبار الزائد عليها هنا منفيّا بالإجماع - على فرض تسليمه - لا يقضي بنفي اعتبار ما دونها إذا اندرج في مفهوم الكثرة عرفا، إلاّ أن يتشبّث لنفي كفاية الأقلّ أيضا بالإجماع، فيتّضح حينئذ منعه مع عدم جدواه في تتميم الاستدلال بالرواية كما هو مقصود المقام، لكون المطلب إنّما ثبت حينئذ بالإجماع على نفي طرفي الكرّ.

المسألة الثالثة: فيما ينزح له سبعون دلوا بما اعتاده البئر،

و مع الاختلاف فالأغلب كما هو صريح الروضة(1) و غيرها، و هو على ما اتّفقت عليه كلمة أهل القول بالتنجيس و غيرهم ممّن يوجب النزح و لو تعبّدا موت الإنسان.

و في المنتهى: «و هو مذهب القائلين بالتنجيس»(2)، و في المختلف: «ذهب إليه أصحابنا»(3) و عن الغنية(4) و ظاهر المعتبر(5) دعوى الإجماع عليه، و مستنده على ما في كلام غير واحد موثّقة عمّار الساباطي المرويّة في التهذيب، قال سئل أبو عبد اللّه عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر؟ قال: «تنزح منها دلاء، هذا إذا كان ذكيّا فهو هكذا، و ما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا، و أقلّه العصفور ينزح دلوا واحدا، و ما سوى ذلك فيما بين هذين»(6).

ص: 653


1- الروضة البهيّة 37:1.
2- منتهى المطلب 76:1.
3- مختلف الشيعة 195:1 و فيه: «ذهب علماؤنا».
4- غنية النزوع: 48.
5- المعتبر: 14، حيث نسبه إلى علمائنا القائلين بالتنجيس.
6- التهذيب 678/234:1.

و قدح فيها العلاّمة في المنتهى بكون رواتها فطحيّة(1)، غير أنّه واضح الدفع بالعمل و الوثاقة كما هو صريح المحكيّ عن المعتبر(2)، و قضيّة إطلاق «الإنسان» عدم الفرق فيه بين الكبير و الصغير، و لا السمين و المهزول، و لا الذكر و الانثى، كما هو المصرّح به في كلام غير واحد، مع دعوى الاتّفاق عليه في بعض العبائر، و في شموله للكافر كشموله للمسلم قضيّة للإطلاق خلاف، فالأكثر على الشمول، و غيرهم كابن إدريس - في المحكيّ عنه - على منعه، لقوله في الكافر بوجوب نزح الجميع، محتجّا: «بأنّ الكافر نجس، فعند ملاقاته حيّا يجب نزح البئر أجمع، و الموت لا يطهر فلا يزول وجوب نزح الماء»(3)، ثمّ دفع التمسّك بإطلاق «الإنسان» بمعارضته للجنب إذا ارتمس في البئر المحمول على المسلم، مع أنّه بإطلاقه يعمّ الكافر.

و أجاب عنه في المنتهى: «بمنع وجوب نزح الجميع في مباشرة الكافر حيّا، لابتنائه على وجوب نزح الجميع فيما لا مقدّر له بالخصوص في النصوص، و هو في حيّز المنع، و ما ذكر من القياس ضعيف حيث أنّه لا جامع بين المقامين، إلاّ من حيث إنّ لفظ «الإنسان» مطلق، كما أنّ لفظ «الجنب» مطلق، و هذا لا يوجب أن لو قيّد أحد المطلقين بوصف وجب أن يقيّد به المطلق الآخر، كيف و لو صحّ ذلك لاطّرد في كلّ اسم جنس حلّي باللاّم، فوجب أن يقال: إنّ لفظ «البيع» في أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ (4) و لفظ «الزاني» و «الزانية» و كذا «السارق» و «السارقة» و نحوهما ليس للعموم، لأنّ لفظ «الجنب» ليس للعموم، و لا ريب في فساد ذلك، على أنّا نقول: إن وجد بالقياس إلى الجنب مخصّص امتنع القياس، و إلاّ كان التقييد فيه أيضا ممنوعا، مع أنّ دعوى عدم النصّ هنا غير مسلّمة، كيف و أنّ النصّ كما يدلّ بمنطوقه فكذلك قد يدلّ بمفهومه الّذي هو ثابت هنا، حيث إنّ «الإنسان» مطلق يتناول المسلم و الكافر، فيجري مجرى النطق بهما معا، فإذا وجب في موته سبعون لم يجب في مباشرته أكثر، لأنّ الموت يتضمّن المباشرة فيعلم نفي ما زاد من مفهوم النصّ، سلّمنا، لكن نمنع بقاء نجاسة الكفر بعد الموت، و إنّما يحصل له نجاسة بالموت مغايرة لنجاسة حالة الحياة.

ص: 654


1- منتهى المطلب 77:1.
2- المعتبر: 14.
3- السرائر 73:1 نقلا بالمعنى.
4- البقرة: 275.

و توضيحه: أنّ النجاسة حكم شرعي يتّبع مورد النصّ، و الكافر إنّما لحقه حكم التنجيس باعتبار كفره و جحوده الحقّ، و قد انتفى ذلك بموته فينتفي الحكم التابع له، و يلحقه حكم آخر شرعي بالموت، و الحكمان متغايران»، انتهى ملخّصا(1)، و عن المعتبر(2) أيضا الاعتراض على الحلّي بما يقرب من ذلك.

و أنت خبير بما في جميع ذلك من المكابرة و دفع ضرورة الوجدان، القاضي بكون المتّجه هو ما ذكره الحلّي(3)، و وافقه الإسكافي - على ما حكي -، لوجوب عدم كون المطلق في إفادة الإطلاق واردا مورد حكم آخر، و لذا لا يقولون بحلّيّة أكل الصيد كيفما اتّفق و لو قبل تطهير موضع عضّ الكلب، تمسّكا بقوله: فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (4) و ليس ذلك إلاّ من جهة أنّ ملاقاة الكلب برطوبة كعدم وقوع الذبح الشرعي جهة مقتضية للمنع، على نحو يكون كلّ منهما سببا مستقلاّ له، و كان المطلق مسوقا لرفع ما يقتضيه الجهة الثانية من المنع ساكتا عن الجهة الاولى نفيا و إثباتا، فيطهر حينئذ ثمّ يؤكل عملا بالدليلين الغير المتعارضين، المقتضي أحدهما اشتراط إباحة أكل ما لاقته النجاسة بتطهيره، و الآخر حلّيّة الصيد مع عدم وقوع الذبح الشرعي عليه، كيف فإمّا أن يقال: بورود الآية لرفع مقتضي الجهة الاولى، أو لرفع مقتضي الجهة الثانية، أو لرفع مقتضي الجهتين.

و الأوّل يأباه التعبير بعنوان «الإمساك»، كما أنّ الأخير يأباه متفاهم العرف، فتعيّن الأوسط، لأنّه الّذي يساعد عليه العرف، و لا ريب أنّ المقام ليس إلاّ من هذا الباب، فإنّ موت الإنسان في البئر أو وقوعه ميّتا بنفسه جهة مقتضية للنزح و نجاسة الكفر أيضا جهة اخرى مقتضية له، و إلاّ لزم الفرق في النجاسات بينها و بين غيرها و هو منفيّ باتّفاق الأقوال.

فقوله عليه السّلام: «و ما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء، فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا» إمّا أن يكون لبيان ما اقتضته كلتا الجهتين فلا يساعد عليه متفاهم العرف، أو لبيان ما اقتضته الجهة الثانية فينافيه صريح قوله: «فيموت» و ظاهر السياق صدرا و ذيلا، فتعيّن كونه لبيان ما اقتضته الجهة الاولى و هو الّذي يساعد عليه العرف،

ص: 655


1- منتهى المطلب 78:1-79 مع اختلاف يسير في العبارة.
2- المعتبر: 15.
3- السرائر 73:1.
4- المائدة: 4.

كيف و لو لا ذلك لزم استعمال لفظ «الإنسان» في أكثر من معنى لكون إحدى الجهتين مستلزمة لإرادة المطلق، و الاخرى مستلزمة لإرادة المقيّد، و لا يكفي فيه إرادة المطلق فقط لعدم كون الجهة الثانية من لوازم مطلق الماهيّة و احتمال كفاية سبعين عن الجهتين معا فلا يضرّ فيه إرادة المطلق مبنيّ على تداخل السببين، و هو منفيّ بما قرّر في محلّه من أصالة عدم التداخل.

فالحاصل: أنّ الكافر من حيث نجاسة كفره في حكم المسكوت عنه، و معه لا يعقل الحكم بكفاية السبعين الوارد لنجاسة الموت عن نجاسة الكفر أيضا، فيجب المراجعة من حيث النجاسة المسكوت عنها إلى ما يقتضيه دليلها خصوصا أو عموما، و لمّا لم يرد لها دليل خاصّ فالواجب مراجعة الدليل العامّ الجاري في غير المنصوص عموما.

فإن قلت: تخصيص الكافر عن حكم الموت المنصوص على مقدّره ليس بأولى من تخصيصه عن حكم الكفر الغير المنصوص على مقدّره.

قلت: ما ذكرناه ليس من باب التخصيص بل هو عمل بالدليلين، بناء على عدم التداخل إن قلنا في غير المنصوص بوجوب ثلاثين أو أربعين، نعم لو قلنا فيه بوجوب نزح الجميع كان الكافر خارجا عن حكم الموت المقدّر بسبعين، لكن لا بعنوان التخصيص بل من جهة انتفاء موضوع هذا المقدّر، نظرا إلى أنّ الماء إذا وجب نزح جميعه، فلا يبقى لنزح سبعين محلّ حتّى يمتثل الأمر به إلاّ في موضع التراوح، فيجب الجمع أيضا بين مقدّر الموت و التراوح قضيّة لعدم التداخل.

و من هنا اندفع ما يقال في الاعتراض على القول بأنّ النصّ و إن كان شاملا للكافر إلاّ أنّه أوجب نزح سبعين لأجل موته، فهو ساكت عمّا يجب نزحه للكفر، من: «أنّ الجهتين في الكافر متلازمتان فلا معنى للسكوت عن إحداهما، فهو نظير ما إذا حكم الشارع بصحّة الصلاة في ثوب عليه عذرة الكلب ناسيا، فإنّه لا يمكن القول بأنّ الحكم بالصحة من جهة نجاسة الثوب بالعذرة لا من جهة استصحاب فضلة ما لا يؤكل لحمه أو العكس، لأنّ الجهتين متلازمتان يقبح السكوت عن إحداهما في مقام البيان»(1) انتهى.

فإنّ الجهتين المتلازمتين إنّما تشاركتا في اقتضاء أمر واحد بحكم العقل، إذا لم

ص: 656


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 223:1.

يمكن تفارقهما باقتضاء أمرين مختلفين كالصحّة و عدمها في المثال المفروض، فيفارقه المقام لكون مقتضي الجهتين فيه أمرين وجوديّين يمكن اجتماعهما مختلفين بالزيادة و النقصان، فبطلت المقايسة بوضوح الفرق.

و من جميع ما قرّرناه تبيّن إصابة ما ذكره صاحب المعالم - على ما حكي عنه - في الاعتراض على المحقّق - الموافق للعلاّمة فيما تقدّم - من الاعتراض على ابن إدريس من «أنّ الحيثيّة معتبرة في جميع موجبات النزح، فمعنى وجوب نزح السبعين لموت «الإنسان» أنّ نجاسة موته يقتضي ذلك، فالعموم الواقع فيه إنّما يدلّ على تساوي المسلم و الكافر في الاكتفاء لنجاسة موتهما بنزح السبعين، فإذا انضمّ إلى ذلك جهة اخرى للنجاسة كالكفر و نحوه لم يكن للّفظ دلالة على الكفاية، أ لا ترى أنّه لو كان بدن المسلم متنجّسا بشيء من النجاسات و كانت العين غير موجودة لم يكف نزح المقدّر عن الأمرين، و لو تمّ ما ذكروه لاقتضى الاكتفاء و هم لا يقولون به.

و بالجملة، فالكفر أمر عرضي للإنسان كملاقاة النجاسة، و لكلّ منهما تأثير في بدنه بالتنجيس، لكن الأوّل يشمل جميع بدنه، و الثاني يختصّ بما يلاقيه، فكما أنّ العموم غير متناول لنجاسة الملاقاة، لا يتناول نجاسة الكفر.

و بهذا يظهر أنّ معارضة الحلّي في محلّها، إذ حاصلها أنّ الحيثيّة متبادرة من اللفظ، و لذلك فرّقوا بين المسلم و الكافر في مسألة الجنب، فينبغي مثل ذلك هاهنا أيضا».

- إلى أن قال -: «و قوله: «هذا ليس بنقض على مسألتنا بل نقض على استعمال اللاّم في الاستغراق» واه جدّا، لأنّ اللازم من عدم عموم لفظ «الجنب» لنجاسة الكفر عدم تناول الزاني و السارق و نحوهما لغير حيثيّة الزنا و السرقة بحيث يكون الحدّ المذكور لكلّ واحد منهما كافيا عنه و عن غيره»(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

و إنّما نقلناه بطوله لاشتماله على دفع أكثر ما سمعته عن العلاّمة كما لا يخفى على المتأمّل، و يمكن أن يستشهد على ما ادّعاه من اعتبار الحيثيّة في جميع موجبات النزح بصدر رواية المقام المتضمّن لقوله عليه السّلام: «هذا إذا كان ذكيّا، و ما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء فيموت فيه» عقيب ما أعطاه من الحكم بنزح دلاء لوقوع الطير المذبوح بدمه،

ص: 657


1- فقه المعالم 197:1-198.

نظرا إلى أنّه كان محلاّ لتوهّم الإطلاق بالقياس إلى أحوال وقوع الطير بالدم الّتي فيها وقوعه ميّتا بغير التذكية، أو تحقّق موته في الماء لغير الذبح الواقع عليه في مفروض السائل، بأن يستند موته إلى الماء دون الذبح، فإنّه عليه السّلام لمّا التفت إلى هذا المعنى فردع عنه بقوله عليه السّلام: «هذا إذا كان ذكيّا» فتعرّض لحيثيّة الموت بما أفاده بعد ذلك إلى آخر الرواية.

و قضيّة هذا الالتفات أنّه لو فرض تحقّق موت الطير المفروض في الماء مستندا إليه لم يكن مطلق الدلاء كافيا في نزحه، و هو عين ما عرفته عن صاحب المعالم و فهمه الحلّي، و لازم ما ذكره الجماعة و عرفته عن المحقّق و العلاّمة كون ذلك كافيا، فانظر كي تعرف المحقّ عن غيره.

ثمّ إنّ العلاّمة في المختلف صرّح بعدم الفرق في الكافر بين وقوعه ميّتا، و وقوعه حيّا ثمّ موته في البئر، فاكتفى في الجميع بنزح السبعين، قائلا - بعد نقل قول الحلّي و احتجاجه -: «و الحقّ تفريعا على القول بالتنجيس أن نقول: إن وقع ميّتا نزح له سبعون للعموم، و تمنع من زيادة نجاسته، فإنّ نجاسته حيّا إنّما هو بسبب اعتقاده، و هو منفي بعد الموت، و إن وقع حيّا و مات في البئر فكذلك، لأنّه لو باشرها حيّا نزح له ثلاثون لحديث كردويه»(1) انتهى.

و محصّله في كلا الشقّين يرجع إلى التمسّك بالعموم، و الظاهر ابتناؤه في الشقّ الثاني على القول بالتداخل، و إلاّ لم يكن للاكتفاء بالسبعين مع إيجاب الثلاثين لمباشرته حيّا - بناء على مصيره إليه فيما لا نصّ فيه - معنى، و على أيّ حال كان فوهنه واضح بعد ملاحظة ما تقدّم.

و عن المحقّق(2) و الشهيد الثانيين(3) الفرق بين وقوعه ميّتا فيكتفى بنزح السبعين للعموم، و موته في البئر بعد وقوعه حيّا فينزح الجميع إن قلنا به فيما لا نصّ فيه، و إلاّ فثلاثون أو أربعون على الخلاف، فلو كان المعهود عنهما موافقة العلاّمة في القول بزوال نجاسة الكفر بالموت لكان ذلك وجها ظاهرا في هذا الفرق، غير أنّ المحكيّ عن الشهيد في شرح الإرشاد(4) دفع كلام العلاّمة في دعوى زوال نجاسة الكفر، فحينئذ

ص: 658


1- مختلف الشيعة 195:1.
2- جامع المقاصد 146:1.
3- روض الجنان: 149.
4- روض الجنان: 149 حيث قال: «و أمّا منع زيادة نجاسته بعد الموت بزوال الاعتقاد الّذي -

يشكل الحال في الفرق.

و إن كان قد يوجّه:(1) «بأنّ نظر المفصّل إلى أنّ المستفاد من النصّ أنّ السبعين لأجل نجاسة الموت مطلقا لا خصوص موت المسلم، و لا فرق بين المسلم، و الكافر في النجاسة الحاصلة بالموت، و أمّا إيجاب نزح الجميع لموت الكافر فليس للفرق بين موته و موت المسلم، بل لخصوص نجاسة الكفر حال الحياة»(2)، و عليه يبنى ما تعرفه من الاعتراض عليهما.

و فيه: أنّ نجاسة الكفر إذا كانت مؤثّرة في اقتضاء نزح الجميع و لو من جهة البناء على حكم ما لا نصّ فيه، فما الّذي [ألغاها](3) في صورة ما لو وقع ميّتا إلاّ على ما يراه العلاّمة من زوالها بعد الموت، و لا أظنّ أنّ الموجّه لحدّة نظره يرضى بذلك، و عليه فما اعترض عليهما الخوانساري في شرح الدروس: «من أنّ الرواية صريحة في الوقوع حيّا ثمّ الموت بعده، فإن عمل على عمومها مع عدم اعتبار الحيثيّة لزم الاكتفاء بالسبعين في الموضعين، و إن لم يعمل على عمومها أو يعتبر الحيثيّة المقتضية لقصر السبعين على نجاسة الموت فقط يجب أن لا يكتفي به على التقديرين، إذ كما أنّ في الصورة الثانية يجتمع جهتان للنجاسة بالقياس إلى الكفر و الموت، فكذا في الصورة الاولى»(4) كان متّجها ثمّ الظاهر في المسلم عدم الفرق في اعتبار السبعين بين وقوعه ميّتا أو وقوعه حيّا و موته في البئر، لظهور النصّ في إناطة الحكم بالموت كائنا ما كان، و لا ينافيه ورود فرض الرواية في الوقوع حيّا، بعد ملاحظة كونه آخذا بما غلب وقوعه فليتأمّل، و الاحتياط طريق لا ينبغي الإغماض عنه.

المسألة الرابعة: فيما ينزح له خمسون دلوا، و هو على ما في كلام غير واحد من الأصحاب أمران:
أحدهما: العذرة،

و ظاهرهم كصريح بعضهم أنّ المراد بالعذرة هنا فضلة الإنسان، مع

ص: 659


1- الموجّه شيخنا الاستاذ دام ظلّه (منه).
2- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 225:1.
3- و في الأصل: «ألقاها» و الصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق.
4- مشارق الشموس: 227، مع اختلاف يسير في العبارة.

أنّهم في غير هذا الموضع اختلفوا في اختصاصها بها، و قد تقدّم عن صاحب المدارك(1)التصريح بأنّها لغة و عرفا فضلة الإنسان، و عن المعتبر(2) التصريح بأنّ العذرة و الخرء مترادفان يعمّان فضلة كلّ حيوان، و هو ظاهر المحكيّ عن الحلّي(3) حيث أضافها هنا إلى ابن آدم، بناء على أنّ القيد ظاهر في التخصيص.

و قد ورد في بعض الأخبار إطلاقها على ما يعمّ فضلة غير الإنسان أيضا، كخبر عبد الرحمن «عن الرجل يصلّي و في ثوبه عذرة من إنسان أو سنّور أو كلب»(4)، و رواية ابن بزيع - المتقدّمة - «في البئر يقع فيها شيء من العذرة كالبعرة و نحوها»(5)، و مقتضى قاعدتهم في استعمال اللفظ في معنيين خاصّ و عامّ كونه حقيقة في العامّ إلاّ إذا غلب الاستعمال في الخاصّ، فيكون حقيقة فيه خاصّة؛ و الظاهر ثبوت تلك الغلبة هنا.

لكن يشكل ذلك بأنّ مقتضى قاعدتهم الاخرى في تعارض قول نقلة اللغة كون اللفظ حقيقة في العامّ إذا كان الاختلاف بينهما في العموم و الخصوص المطلقين، و قد عرفت وجود هذا الخلاف بين قولي المعتبر و المدارك، و مثله موجود في كلام أئمّة اللغة، فإنّ المحكيّ عن جماعة منهم كون العذرة: خرء الإنسان، و ظاهر المصباح المنير و المجمع كونها للعامّ، حيث فسّرا بمطلق الخرء، قال الأوّل: «العذرة: وزان كلمة الخرء و لا يعرف تخفيفها و تطلق العذرة على فناء الدار، لأنّهم كانوا يلقون الخرء فيه، فهو مجاز من باب تسمية الظرف باسم المظروف»(6).

و قال الثاني: «العذرة وزان كلمة الخرء، و قد تكرّر ذكرها في الحديث، و سمّي فناء الدار(7) عذرة لمكان إلقاء العذرة هناك»(8)، و لعلّ الخلاف نشأ عن ملاحظة المطلق من غير نظر إلى انصرافه، و عن الأخذ بموجب الانصراف توهّما، و يمكن حمل التفسيرين على المسامحة في التعبير، كما يوهمه عبارة اخرى في المجمع في عنوان الخرء، قائلة:

«و قد تكرّر ذكر الخرء كخرء الطير و الكلاب و نحو ذلك، و المراد ما خرج منها كالعذرة

ص: 660


1- مدارك الأحكام 78:1.
2- المعتبر: 114.
3- السرائر 79:1.
4- الوسائل 10:2 ب 40 من أبواب الماء.
5- الوسائل 176:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 21 - الكافي 1/5:3.
6- المصباح المنير؛ مادّة «عذر»: 399.
7- فناء الدار، الخارج المملوك منها و هو حريمها (منه).
8- مجمع البحرين؛ مادّة «عذر».

من الإنسان»(1).

و في المصباح ما يوهم اختصاص الخرء أيضا بالإنسان، لأنّه إذا أخذ بشرح تلك المادّة قال: «خرئ بالهمزة يخرأ من باب تعب، إذا تغوّط و اسم الخارج خرء»(2)، و إذا أخذ بشرح مادّة التغوّط قال: «الغائط اسم للمكان المطمئنّ الواسع من الأرض، ثمّ أطلق الغائط على الخارج المتقذّر من الإنسان كراهية تسميته باسمه الخاصّ، لأنّهم كانوا يقضون حوائجهم في الأمكنة المطمئنّة فهو من باب مجاز المجاورة، ثمّ توسّعوا فيه حتّى اشتقّوا منه و قالوا: تغوّط الإنسان انتهى»(3).

و كيف كان فالعذرة إمّا اسم خاصّ أو اسم عامّ منصرف إلى مسمّى خاصّ، و على كلّ تقدير فيبقى فضلات سائر الحيوانات النجسة داخلة في عنوان ما لا نصّ فيه.

ثمّ الحكم المذكور للعذرة مشهور، و نقل الشهرة عليه في حدّ الاستفاضة، بل عليه نقل الإجماع عن ابن الزهرة(4)، و عن الصدوق(5) و المحقّق في المعتبر(6) و النافع(7)الحكم بالأربعين إلى الخمسين، و عن الأوّل في الأوّل عدم الوقوف على شاهد للأوّل، و لعلّه لتوهّم كون الترديد في الرواية المذكورة مستندة له من الإمام عليه السّلام، و هي رواية أبي بصير المرويّة في التهذيبين، و رواية عليّ بن أبي حمزة المرويّة في الكافي قال: سألت أبي عبد اللّه عليه السّلام عن العذرة تقع في البئر؟ قال: «ينزح منها عشرة دلاء، فإن ذابت فأربعون أو خمسون دلوا»(8) غير أنّ نظر المشهور في الاستناد إلى احتمال كونه من الراوي، الموجب للشكّ المحرز لموضوع الاستصحاب، و قصور سندها باشتراك أبي بصير و ضعف عليّ بن أبي حمزة منجبر بالعمل، مع أنّه يرد على المحقّق عدم انطباق قوله على الرواية لو حمل الترديد على كونه من الإمام عليه السّلام، لقضائه بالتخيير بين المقدّرين مع كون الزيادة للاستحباب و الأفضليّة كما عليه جماعة، و للوجوب كما عليه البعض مع قوّته عندنا، و القول المتقدّم يستدعي الاكتفاء بما بين المقدّرين أيضا و هو ليس من مقتضى النصّ في شيء، إلاّ أن يوجّه بحمل «إلى» في كلامه على بيان البدليّة، على حدّ

ص: 661


1- مجمع البحرين؛ مادّة «خرأ».
2- المصباح المنير، مادّة «خرئ»: 167.
3- المصباح المنير: 457، مادّة «الغائط».
4- غنية النزوع: 49.
5- المقنع: 30.
6- المعتبر: 15.
7- المختصر النافع: 42.
8- الكافي 11/7:3.

ما هو في كلامهم في حدّ الواجب المخيّر: «ما جاز تركه إلى بدل»، و في حدّ الواجب المطلق: «ما لا يجوز تركه لا إلى بدل»، و على أيّ حال فالأخذ بالمشهور أخذ بالأحوط فلا ينبغي تركه.

ثمّ صريح الرواية اشتراط هذا التقدير للعذرة بذوبانها، كما أنّ قضيّة ما فيها من الإطلاق عدم الفرق بين وقوعها رطبة أو يابسة فذابت في الماء، و أمّا الذوبان ففي كلام غير واحد الانتشار و تفرّق الأجزاء.

و في المجمع: «ذابت العذرة في الماء أي تفرّقت أجزاؤها و شاعت فيه»(1).

و في المصباح المنير: «أنّ الذائب خلاف الجامد»(2) و ذكر هذا الشرط وارد في كلام جماعة كالشرائع(3)، و النافع(4)، و عن المعتبر(5)، و التذكرة(6)، و الذكرى(7)، و الهداية(8)، و مصباح السيّد(9). و نقله في المختلف(10) عن الشيخين(11) و التقيّ (12)و الديلمي(13) و القاضي(14) و العجلي(15). و في اللمعة(16) كما عن البيان(17) و نهاية الشيخ(18)و مبسوطة(19) و الوسيلة(20) و المراسم(21) و الإصباح(22) و النهاية(23).

و في المنتهى(24) اعتبار كونها رطبة، و في الدروس(25) كما عن الإرشاد (26)و التحرير(27) اعتبار أحد الأمرين الذوبان أو الرطوبة، و عن الموجز(28) الاقتصار على التقطّع، و لعلّه يرادف الذوبان بالمعنى المتقدّم.

ص: 662


1- مجمع البحرين؛ مادّة «ذوب» 61:2.
2- المصباح المنير؛ مادّة «ذاب»: 211.
3- شرائع الإسلام 14:1.
4- المختصر النافع: 42.
5- المعتبر: 15.
6- التذكرة 26:1.
7- ذكرى الشيعة 94:1.
8- الهداية - للصدوق -: 71 قال: «و إن ذابت فيها فأربعون دلوا إلى خمسين دلوا».
9- حكى عنه في مفتاح الكرامة 110:1.
10- مختلف الشيعة 209:1.
11- المقنعة: 67 و النهاية 208:1.
12- الكافي في الفقه: 130.
13- المراسم العلويّة: 35.
14- المهذّب 22:1.
15- الوسيلة: 69 و 75.
16- اللمعة الدمشقيّة 37:1.
17- البيان: 100.
18- النهاية 208:1.
19- المبسوط 12:1.
20- الوسيلة: 69 و 75.
21- المراسم العلويّة: 35.
22- إصباح الشيعة (سلسلة الينابيع الفقهيّة) 3:2.
23- نهاية الإحكام 259:1.
24- منتهى المطلب 79:1.
25- الدروس الشرعيّة 119:1.
26- إرشاد الأذهان 237:1.
27- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 4.
28- الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة 412:26).

و أمّا اعتبار الرطوبة أو أحد الأمرين منها و من الذوبان فلعلّه على خلاف النصّ، و توجيهه بلزوم الذوبان للعذرة الرطبة عادة ممّا يؤدّي إلى عراء اعتبار الرطوبة مع الذوبان، و العطف بينهما بكلمة «أو» يمنع عن اعتبار كونه للتفسير، و كيف كان فلا دليل على الاكتفاء بمجرّد الرطوبة ما لم يصادفها الذوبان، و عليه فلو وقعت العذرة رطبة من دون أن تذوب فأخرجت لزمها نزح عشرة عملا بإطلاق النصّ.

و الظاهر من إطلاق العذرة أيضا عدم الفرق بين الكبير و الصغير، و لا بين الذكر و الانثى، و لا بين العاقل و المجنون، و لا بين المسلم و الكافر، إلاّ أن يدّعى الانصراف، فيكون عذرة الكافر حينئذ مندرجة في غير المنصوص، كما جزم به بعض مشايخنا(1)و أمّا مقدارها فالظاهر أنّه لا حدّ له، بل يكفي مسمّاه عرفا ما لم يدخل من جهة القلّة فيما لا يتناوله الإطلاق كحبّة من خردل، غير أنّه لا يجدي في سقوط المقدّر المذكور حيث أنّه لا تقدير لقليلها كذلك، و إلحاقه بما لا نصّ فيه يبطله الأولويّة إن قلنا فيه بنزح الجميع، نعم على القولين الآخرين لا يبعد اعتبار مقدّريهما.

و الأحوط اعتبار مقدّر الكثير و هو الخمسون، أو هو و الأربعون تخييرا، و لم نقف من الأصحاب على كلام في هذا الفرع سوى ما نسب إلى المحقّق البهبهاني في شرحه للمفاتيح قائلا: «و لا حدّ لمقدار العذرة، بل يكفي مسمّاه عرفا بأن يكون فردا متبادرا لقوله عليه السّلام: «فإن ذابت»، فلا يكفي كونها قدر حبّة من خردل و أقلّ منه، و على القول بالانفعال لعلّه يكفي لانفعال البئر به و احتياجها إلى مطهّر شرعي، و هو منحصر في النزح عند القائل به، فبنزح الخمسين يحصل الطهارة البتة بخلاف ما هو أقلّ منه»(2).

ثمّ إنّ لهم في اعتبار ذوبان الجميع أو كفاية ذوبان البعض كلاما، فقيل بالأوّل لأنّ الرواية أسندت الذوبان إلى العذرة الواقعة في البئر، و هو إنّما يحصل بذوبان الجميع، و قيل بالثاني لعدم اعتبار القلّة و الكثرة، فلو سقط مقدار البعض الذائب منفردا و ذاب كان كافيا في التأثير، فانضمام الغير إليه لا يمنعه عن التأثير، و هذا أوجه كما أنّ الأخذ بموجبه أحوط.

ص: 663


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 226:1.
2- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط).
و ثانيهما: كثير الدم الّذي مثّلوه بدم ذبح الشاة،

و في عبارة محكيّة عن السرائر(1)تحديد أقلّ الكثير بدم الشاة، و تحديد قليل الدم بما نقص عن دم الشاة، و عن القطب الراوندي(2) ملاحظة الكثرة و القلّة بالإضافة إلى ماء البئر كثرة و قلّة، فتختلفان باختلافهما فيه، خلافا للمشهور المحكيّ عنهم ملاحظة الكثرة بالإضافة إلى نفس الدم، و قد تقيّد الكثرة بالعرفيّة.

و في الجميع نظر لخلوّها عن المستند، و عدم ورود الحكم في النصوص منوطا بلفظي «الكثير» و «القليل» حتّى ينظر في مفهوميهما، و القول بأنّ المراد من الكثير ما ظهر من مورد الرواية في مقابل القليل و هما بالنسبة إلى الدم نفسه، واضح الدفع، بأنّ:

مورد الرواية على ما فهموا منه الكثير ليس إلاّ ذبح الشاة، و على ما فهموا منه القليل ليس إلاّ ذبح الدجاجة، أو دم رعاف، على ما في رواية عليّ بن جعفر الآتية(3).

و فيه أوّلا: عدم قضاء الرواية بالخمسين تعيينا و لا تخييرا، حتّى يقال بإناطته بالكثرة المفهومة من مورد الرواية.

و ثانيا: عدم قضائها بوقوع دم الشاة المذبوحة بأجمعه في البئر، حتّى يجعل ذلك ميزانا لمعرفة مناط الحكم، بل المتأمّل في مورد السؤال يعطي وقوع البعض المطلق أو القليل منه فيها، كما أنّ ذلك هو المفهوم من سؤال الدجاجة، ثمّ أنّه على تقدير انفهام الكثرة عن مورد تلك الرواية فهي كثرة إضافيّة بالقياس إلى مقابلة دم الدجاجة، و ذلك لا يوجب أصلا كلّيّا مطّردا في جميع أنواع الدم الكثير حتّى ما كان منه دم إنسان أو ثور أو بعير أو نحو ذلك، فالتعدّي حينئذ ممّا لا مسوّغ له إلاّ القياس المبنيّ على استنباط ظنّي بل وهمي، و هو كما ترى.

فما عن السرائر من أنّه: «ينزح لسائر الدماء النجسة من سائر دماء الحيوانات سواء كان مأكول اللحم أو غيره، نجس العين أو غيره، ما عدا دم الحيض و الاستحاضة و النفاس إذا كان الدم كثيرا، و حدّ أقلّ الكثير دم شاة خمسون دلوا، و للقليل منه وحده ما نقص عن دم شاة عشرة دلاء بغير خلاف، إلى آخره»(4)، ممّا لم يعرف له مستند، و لو

ص: 664


1- السرائر 79:1.
2- نقله عنه الشهيد في روض الجنان: 150.
3- الوسائل 193:1 ب 21 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 1288/409:1.
4- السرائر 79:1.

كان مبناه على ما ذكر فليس إلاّ قياسات في قياس، و كيف كان فالحكم المذكور لكثير الدم موصوف في كلامهم بكونه مشهورا.

و عن جماعة كشرح الفاضل على القواعد(1)، و الكفاية(2)، و الذكرى(3)، و الرياض(4)، و المجمع(5) نقل الشهرة عليه، و عن الغنية(6) الإجماع عليه، و في العبارة المتقدّمة من(7) السرائر نفي الخلاف عنه، و حكاه في المنتهى(8) و غيره عن الشيخ في النهاية(9) و المبسوط(10)، لكن أضاف إليه العشرة للقليل.

و في المسألة مع ذلك أقوال اخر:

منها: ما عن المفيد في المقنعة(11) من أنّ لكثير الدم عشر دلاء و لقليله خمس دلاء.

و منها: ما عن الصدوق(12) من وجوب ثلاثين إلى ربعين في الكثير و دلاء يسيرة في القليل، و عن المعتبر(13) أنّه مال إليه، و عن الشهيد في الذكرى(14) أنّه حسّنه، و عن الفاضل الهندي أنّه قرّبه، قائلا: «بأنّه لا يخلو عن قرب»(15).

لأنّ المرويّ صحيحا عن عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام في رجل ذبح شاة فاضطربت فوقعت في البئر، و أوداجها تشخب دما؟ قال: «ينزح منها ما بين ثلاثين إلى أربعين»(16) و طرح هذا الصحيح لأجل الشهرة و الإجماع المدّعى في الغنية، و عدم الخلاف المدّعى في السرائر، مع مخالفة المشايخ الأربعة من القدماء و الفاضلين و الشهيدين من المتأخّرين في غير محلّه، نعم العمل بالمشهور أحوط»(17).

و منها: ما عن المرتضى في المصباح(18) من أنّ الدم فيه ما بين الدلو الواحدة إلى عشرين، و أمّا روايات الباب فعدّة أخبار لا بأس بإيرادها جميعا.

ص: 665


1- كشف اللثام 329:1.
2- كفاية الأحكام: 10.
3- ذكرى الشيعة 94:1.
4- رياض المسائل 156:1.
5- مجمع الفائدة و البرهان 271:1.
6- غنية النزوع: 48.
7- السرائر 79:1.
8- منتهى المطلب 79:1.
9- النهاية 209:1.
10- المبسوط 12:1.
11- المقنعة: 67.
12- الفقيه 29/20:1.
13- المعتبر: 15.
14- ذكرى الشيعة 94:1.
15- كشف اللثام 330:1 و فيه: «و هو الأقرب» بدل «لا يخلو عن قرب».
16- الوسائل 193:1 ب 21 من أبواب الماء المطلق ح 1.
17- لاحظ كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه 330:1.
18- حكاه عنه في المعتبر: 15.

منها: الصحيحة المشار إليها في كلام الفاضل، و هي على ما في الاستبصار عن عليّ بن جعفر، قال: سألته عن رجل ذبح شاة فاضطربت فوقعت في بئر ماء و أوداجها تشخب دما هل يتوضّأ من تلك البئر؟ قال: «ينزح منها ما بين الثلاثين إلى الأربعين دلوا و يتوضّأ و لا بأس به».

قال: و سألته عن رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت في بئر هل يصلح أن يتوضّأ منها؟ قال: «ينزح منها دلاء يسيرة ثمّ يتوضّأ منها».

و سألته عن رجل يستقي من بئر فرعف فيها هل يتوضّأ منها؟ قال: «ينزح منها دلاء يسيرة»(1).

و منها: ما تقدّم في المسألة الاولى من رواية كردويه، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن البئر يقع فيها قطرة دم، أو نبيذ مسكر، أو بول، أو خمر؟ قال: «ينزح منها ثلاثون دلوا»(2).

و منها: ما تقدّم أيضا في المسألة المذكورة من رواية زرارة قال: قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام بئر قطر فيها قطرة دم أو خمر؟ قال: «الدم و الخمر و الميّت و لحم الخنزير في ذلك كلّه واحد ينزح منه عشرون دلوا»(3) إلى آخره.

و منها: ما تقدّم في المسألة الثالثة من رواية عمّار المتضمّنة لقوله: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر؟ فقال: «ينزح منها دلاء، هذا إذا كان ذكيّا» (4)إلى آخره.

و منها: ما تقدّم في أدلّة القائلين بنجاسة البئر بالملاقاة من رواية ابن إسماعيل ابن بزيع، قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شيء من العذرة كالبعرة و نحوها، ما الّذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه السّلام بخطّه في كتابي: «ينزح دلاء منها»(5).

ص: 666


1- الوسائل 193:1 ب 21 من أبواب الماء المطلق ح 1 - الاستبصار 123/44:1.
2- الوسائل 179:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 2 و 3 - التهذيب 698/241:1 و 697.
3- الوسائل 179:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 2 و 3 - التهذيب 698/241:1 و 697.
4- الوسائل 194:1 ب 21 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 678/234:1.
5- الوسائل 176:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 21 - الكافي 1/5:3 - التهذيب 705/244:1.

و أنت خبير بأنّ هذه الروايات لا ينطبق شيء منها على شيء من الأقوال المتقدّمة حتّى قول الصدوق أيضا، لأنّ قضيّة ذلك القول دخول الثلاثين في التحديد القاضي بجواز الاكتفاء به، و ما يمكن توهّم انطباقه عليه من الروايات إنّما هو صحيحة عليّ بن جعفر - على ما فهمه الفاضل -(1) و هي كما ترى ظاهرة في الخروج، و كون العبرة بما بين الثلاثين و الأربعين من الأعداد، و أقصى ما يتكلّف في ذلك إدراج الطرف الثاني و هو الأربعون في الحدّ، بناء على أنّ التقييد بالغاية ظاهر في دخول الغاية في المغيّا، و أمّا الطرف الأوّل فلا مقتضي لاندراجه بحسب الدلالة اللفظيّة، و ادّعاء فهم العرف للدخول غير مسموع؛ و المفروض أنّه لا أولويّة في البين أيضا لتوجب ظنّ الدخول، و كون مستند دخوله الإجماع ينفيه الخلاف الفاحش المتقدّم و مخالفة المشهور.

و أمّا ما قيل في الاحتجاج للمفيد بمكاتبة ابن بزيع الحاكمة بنزح دلاء، من أنّ أكثر عدد يضاف إلى هذا الجمع عشرة فيجب أن يؤخذ به و يصير إليه، إذ لا دليل على ما دونه، على ما حكي عن الشيخ(2) من هذا التقرير للاحتجاج.

ففيه: ما لا يخفى، أمّا أوّلا: فلعدم انطباق مورد الرواية على القول المذكور، مع عدم تبيّن وجه الحكم في تعيّن الخمس لقليل الدم، نظرا إلى أنّ السؤال مفروض في القطرات المنبئة عن القلّة، و تعيّن العشرة في ذلك القول مفروض في الكثير.

و أمّا ثانيا: فلمنع الاختلاف في مفاد صيغ الجمع في نظر العرف على ما قرّر في محلّه، و ما عليه النحاة من الفرق بين جموع القلّة و جموع الكثرة بكون أقلّ الأوّل ثلاثة و أكثره عشرة و هي أقلّ الثاني اصطلاح لا شاهد عليه، بل العرف شاهد بخلافه، فلا يعدل عنه في خطابات الشرع، و مقتضاه الاقتصار على الثلاثة في الجميع عملا بالإطلاق القاضي بكفاية أقلّ المراتب.

و أمّا ثالثا: فلمنع كون لفظة «الدلاء» من جموع القلّة على ما هو مضبوط عندهم، و مع كونه من جموع الكثرة فقضيّة البناء على الفرق المذكور كون العشرة أقلّ عدد يضاف إلى هذا الجمع لا أكثره.

و أمّا رابعا: فلمنع تعيّن الحمل على الأكثر بعد تسليم المقدّمتين، بل القاعدة تقتضي

ص: 667


1- كشف اللثام 329:1.
2- التهذيب 245:1.

الاكتفاء بالأقلّ كما عرفت، و من هنا لو ذهب الوهم إلى اعتبار ذلك مستندا لقول الشيخ بالعشرة في القليل - كما تقدّم عنه في النهاية(1) و المبسوط -(2) و هو الّذي نسب إلى المشهور أيضا في بعض المسائل الآتية بدعوى: أنّ هذا العدد أقلّ ما يضاف إلى جمع الكثرة، لاتّجه المنع إليه بابتنائه على الفرق المتقدّم منعه.

و بالجملة: أقوال المسألة لا يخلو عن اضطراب و تشويش، حيث لا مستند لشيء منها يكون واضح الدلالة على المطلق حتّى المشهور، و إن حكي عليه الإجماع و الشهرة، لأنّهما ما لم يوجبا أو لم يقترنهما ما يوجب الاطمئنان لا عبرة بهما، و مع ذلك فهو الأحوط لكونه أجمع الأقوال بعدم خروج شيء منها عنه.

و يمكن تأييده بما عرفت من مصير الشيخ في النهاية إليه، بناء على أنّه بمنزلة الرواية المرسلة لما اعترف به من أنّه لا يفتي فيها إلاّ بمتون الروايات(3)، فالمصير إليه حينئذ أولى عملا بالاحتياط.

ثمّ إنّ إطلاق الأصحاب يقضي بشمول الحكم لدم نجس العين، بل هو صريح ما تقدّم عن ابن إدريس(4)، غير أنّ التأمّل في ظاهر الروايات و لو من جهة الانصراف ممّا يعطي خلافه، فالأولى على القول بوجوب نزح الجميع في غير المنصوص إلحاقه به، و إلاّ فإلحاقه بغيره من الدماء مع البناء فيها على المشهور أولى و أحوط، و على قياسه الدماء الثلاث الّتي قد عرفت عن الحلّي(5) التصريح باستثنائها من عنوان المسألة، و اللّه العالم.

المسألة الخامسة: فيما ينزح له أربعون دلوا،

و قد اختلفت كلمة الأصحاب في ضبط ذلك و حصره عددا، ففي شرائع المحقّق: «أنّه لموت الثعلب، و الأرنب، و الخنزير، و السنّور، و الكلب، و شبهه، و بول الرجل»(6).

و في المنتهى(7) عزاه في الجميع مع زيادة «الشاة» إلى الشيخين، ثمّ نسب إلى السيّد أنّه وافقهما في الكلب و بول الرجل، و إلى ابن بابويه أنّه وافقهم في البول.

و وافقهم في الجميع إلاّ زيادة لفظة «شبهه» الشهيد في الدروس(8) و اللمعة(9)، و عن

ص: 668


1- النهاية 7:1 و 209.
2- المبسوط 12:1.
3- النهاية 7:1 و 209.
4- السرائر 79:1.
5- السرائر 79:1.
6- شرائع الإسلام 13:1.
7- منتهى المطلب 28:1.
8- الدروس الشرعيّة 120:1.
9- اللمعة الدمشقيّة 38:1 و لكن اضيف فيه إلى المذكورات قوله: «و شبه ذلك» و يحتمل كونه -

السرائر(1) زيادة الشاة، و الغزال، و ابن آوى، و ابن عرس، على ما عرفت عن الشرائع ثمّ قال: «و ما أشبه ذلك في مقدار الجسم على التقريب»(2).

و عن الغنية(3) الإجماع على المذكورات و أشباهها، و في الروضة (4)- كما عن شرح المفاتيح - (5)جعل الحكم مشهورا، و عن الذكرى(6) أنّ الحكم في الكلب و السنّور مشهور، و عن الكفاية(7) شهرته في الكلب و السنّور، قال الصدوق في الفقيه: «فإن وقع فيها كلب نزح منها ثلاثون دلوا إلى أربعين دلوا، فإن وقع فيها سنّور نزح منها سبع دلاء» - إلى أن قال -: «و إن بال فيها رجل استقى منها أربعون» - إلى أن قال -:

«و إن وقعت شاة و ما أشبهها في بئر ينزح منها تسعة دلاء إلى عشرة دلاء»(8).

و عنه في المقنع: «إن وقع فيها كلب أو سنّور فانزح ثلاثين دلوا إلى أربعين، و قد روى سبع دلاء»(9).

و مستند المشهور في غير بول الرجل - على ما في كلام غير واحد - روايتان، إحداهما: موثّقة سماعة - المرويّة في التهذيبين - قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في البئر أو الطير؟ قال: «إن أدرك قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء، و إن كانت سنّورا أو أكبر منه نزحت منها ثلاثين دلوا أو أربعين دلوا»(10).

اخراهما: رواية القاسم عن عليّ المرويّة فيهما أيضا، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في البئر؟ قال: «سبع دلاء» قال: و سألته عن الطير و الدجاجة تقع في البئر؟ قال: «سبع دلاء، و السنّور عشرون، أو ثلاثون، أو أربعون دلوا، و الكلب و شبهه»(11).

و لا يذهب عليك أنّ هذه الرواية كسابقتها إنّما تقتضي الأربعين على جهة التخيير، و هو ينافي التعيين الّذي صار إليه الجماعة، و لكن ظاهرهم أنّهم إنّما صاروا إليه من

ص: 669


1- السرائر 76:1.
2- السرائر 76:1.
3- غنية النزوع: 49.
4- الروضة البهيّة 38:1.
5- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 526.
6- ذكرى الشيعة 95:1.
7- كفاية الأحكام 10:1.
8- الفقيه 21:1.
9- المقنع: 30.
10- الوسائل 183:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 4 و 3 - التهذيب 236:1 و 681/235 و 680 - الاستبصار 98/36:1 و 97.
11- الوسائل 183:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 4 و 3 - التهذيب 236:1 و 681/235 و 680 - الاستبصار 98/36:1 و 97.

جهة الاستصحاب كما هو صريح البعض، أو لمراعاة الاحتياط خروجا عن شبهة الخلاف، و عملا بجميع ما ورد في هذا الباب من الأخبار، و إن شئت فانظر إلى كلام الشيخ في التهذيب في وجه الاحتجاج بالروايتين، قائلا: «و ليس لأحد أن يقول: كيف عملتم على أربعين دلوا في السنّور و الكلب و شبههما، و في الدجاجة و الطير على سبع دلاء، و في هذين الخبرين ليس القطع إلى أربعين دلوا، بل إنّما يتضمّن على جهة التخيير، و هلاّ عملتم بغير هذين الخبرين ممّا يتضمّن نقصان ما ذهبتم إليه؟ لأنّا إذا عملنا على ما ذكرناه من نزح أربعين دلوا ممّا وقع فيه الكلب و شبهه، و [نزح] سبع دلاء ممّا وقع فيه الدجاج و شبهه، فلا خلاف بين أصحابنا في جواز استعمال ما بقي من الماء، و يكون أيضا الأخبار تتضمّن الأقلّ من ذلك داخلة في جملته، و إذا عملنا على غير ذلك نكون دافعين لهذين الخبرين جملة و صائرين إلى المختلف فيه، فلأجل هذا عملنا على نهاية ما وردت به الأخبار»(1).

و اعتذر بمثل ذلك في الاستبصار(2)، و أضاف فيه التعليل: بأنّ العمل بالخبرين ممّا يوجب العلم بزوال النجاسة، و لا يحصل مع العمل على غيرهما، و على هذا فيظهر ثمرة الاستدلال بالخبرين في نفي اعتبار ما زاد على أربعين، لأنّه أقصى ما ورد به النصّ، و حينئذ فلا إشكال ظاهرا.

نعم، يبقى الكلام في جواز الاعتماد على الرواية الثانية باعتبار سنده الّذي هو بنفسه ضعيف بواسطة القاسم بن محمّد، و عليّ بن أبي حمزة، و لذا وصفه في المنتهى(3)بالضعف تعليلا بكون الرجلين واقفيّين، و لكن الخطب في ذلك بعد ملاحظة انجباره بالشهرة و بعمل من لا يعتمد على أخبار الآحاد كالحلّي(4)، مع ما ستعرفه في عليّ، ممّا يوجب الاطمئنان به، مع أنّ تعويل الشيخ عليه من أمارات الاعتبار عندهم.

و ممّا بيّنّاه من ظاهر دلالة الخبرين ظهر وجه الاختلاف بينهم و بين الصدوق، فإنّ ظاهره أنّه أخذ بظاهر التخيير من دون التفات إلى احتياط و غيره، مع ظهور كون مستنده الموثّقة أو ما هو نظيرها في الاقتصار على ما يشمل الكلب و السنّور، لكنّه مع

ص: 670


1- التهذيب 236:1 الحديث 681.
2- الاستبصار 37:1.
3- منتهى المطلب 83:1.
4- السرائر 76:1.

إشكال في دعوى الانحصار لا ينطبق إلاّ على فتواه في المقنع(1)، و أمّا فتواه في «الشاة» - على ما عرفته عن الفقيه -(2) فقيل: إنّ مستنده رواية إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه، أنّ عليّا عليه السّلام كان يقول: «الدجاجة و مثلها يموت في البئر نزح منها دلوان [أ] و ثلاثة، فإذا كانت شاة و ما أشبهها فتسعة أو عشرة»(3).

و هذه الرواية مع روايات اخر قد خرجت على خلاف المذهب المشهور، و لأجل ذا سقطت عن الاعتبار، سيّما الروايات الاخر الّتي لا عامل بها أصلا، و هي الّتي بين ما دلّ على وجوب نزح الجميع كرواية عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سئل عن بئر يقع فيها كلب، أو فأرة، أو خنزير؟ قال: «تنزف كلّها»(4)، و حملها الشيخ(4) على صورة التغيّر.

و ما دلّ على نزح دلاء كرواية الفضل البقباق، قال: قال: أبو عبد اللّه عليه السّلام في البئر يقع فيها الفأرة، أو الدابّة، أو الكلب، أو الطير، فيموت، قال: «يخرج ثمّ ينزح من البئر دلاء ثمّ يشرب منه و يتوضّأ»(6).

و رواية عليّ بن يقطين عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن البئر يقع فيها الحمامة، و الدجاجة، أو الفأرة، أو الكلب، أو الهرّة؟ فقال: «يجزيك أن تنزح منها دلاء، فإنّ ذلك يطهّره إن شاء اللّه تعالى»(7).

و في معناهما روايات اخر، و حملهما الشيخ على إرادة بيان الحكم لبعض المذكورات كالفأرة و الطير، أو أنّ الدلاء جمع كثرة و هو ما زاد على عشرة فلا يمتنع أن يكون المراد به أربعين.

و ما دلّ على كفاية السبع كرواية عمرو بن سعيد بن هلال، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة و السنّور إلى الشاة؟ فقال: «كلّ ذلك نقول سبع دلاء» (5)إلى آخره، و ما دلّ على كفاية الخمس كرواية أبي أسامة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الفأرة، و السنّور، و الدجاجة، و الكلب، و الطير، قال: «فإذا لم يتفسّخ، أو يتغيّر طعم الماء، فيكفيك خمس

ص: 671


1- المقنع: 30.
2- الفقيه 21:1.
3- الوسائل 186:1 ب 18 من أبواب الماء المطلق ح 3 - التهذيب 683/237:1. (4 و 6 و 7) الوسائل 184:1 و 182 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 8 و 6 و 2 - التهذيب 242:1 و 699/237 و 685 و 686.
4- التهذيب 699/242:1.
5- الوسائل 180:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 5 - التهذيب 679/235:1.

دلاء»(1) و حملها الشيخ على نظير ما سبق من إرادة بيان الحكم لبعض المذكورات.

و لا يخفى أنّ اختلاف هذه الروايات و غيرها من روايات البول قرينة واضحة على المختار من عدم نجاسة البئر و عدم وجوب نزحها، لأنّ الاستحباب هو الّذي لا ينافيه هذا الاختلاف، لاختلاف مراتب الفضل و الرجحان.

و أمّا الحكم في بول الرجل فقد أسنده في المدارك(2) إلى الخمسة و أتباعهم، و عن الغنية(3) و السرائر(4) الإجماع عليه، و مستنده الرواية المرويّة - في التهذيبين - عن عليّ ابن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن بول الصبيّ الفطيم يقع في البئر؟ فقال:

«دلوا واحدة»، قلت: بول الرجل؟ قال: «ينزح منها أربعون»(5).

و الرواية واضحة الدلالة على المطلوب، غير أنّه قد يستشكل بالنظر إلى سندها من جهة عليّ بن أبي حمزة المجروح عندهم، المرميّ بالوقف، لكن الخطب فيه أيضا سهل بعد ملاحظة الانجبار بالشهرة كما صرّح به جماعة منهم المحقّق - على ما حكي - قائلا: «إنّها مجبورة بعمل الأصحاب»(6).

و عن المنتهى: «أنّ عليّ بن حمزة لا يعوّل على روايته، غير أنّ الأصحاب قبلوها و بذلك يطرح ما يعارضها من الأخبار»(7).

و في حاشية المدارك - للمحقّق البهبهاني -: «أنّ الشيخ ادّعى إجماع الإماميّة على العمل برواية عليّ بن أبي حمزة، مضافا إلى أنّ هذه الرواية منجبرة بالشهرة»(8).

ص: 672


1- الوسائل 184:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 684/237:1.
2- مدارك الأحكام 82:1 - و المراد بالخمسة هم والد الصدوق و السيّد، نقله عنهما في المعتبر 16. و الصدوق كما في الفقيه 17:1، و الهداية 30؛ و المفيد في المقنعة 67؛ و الشيخ كما في التهذيب 243:1؛ و المبسوط 12:1؛ و النهاية: 7. و المراد باتباعهم هما أبو الصلاح في الكافي في الفقه: 130؛ و السلاّر في المراسم العلويّة: 35.
3- غنية النزوع: 49.
4- السرائر 78:1.
5- الوسائل 181:1 ب 16 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 700/243:1 - الاستبصار 90/34:1.
6- المعتبر: 16.
7- منتهى المطلب 86:1 و عبارة: «و بذلك يطرح ما يعارضها من الأخبار» لا يوجد في المنتهى، بل هو من كلام الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة 231:1 الّذي نقل عنه المصنّف رحمه اللّه عبارة المنتهى، - كما يظهر بالتتبّع - و زعم أنّه من تتمّة كلام العلاّمة رحمه اللّه.
8- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 136:1.

و عن المحقّق في المعتبر أنّه دفعه - مضافا إلى دعوى الانجبار - «بأنّ كونه واقفيّا غير قادح في اعتبار روايته، لأنّ تغيّره إنّما كان بعد موت الكاظم عليه السّلام فلا يقدح فيما قبله»(1).

و استضعفه في المدارك بأنّ: «العبرة في عدالة الراوي بوقت الأداء لا التحمّل، و من المعلوم انتفاء تحقّق ذلك»(2).

و عن صاحب المعالم نظير ذلك مع وجه آخر، قائلا: «بأنّ قوله: «ابن أبي حمزة إنّما تغيّر في زمن موسى، عليه السّلام» عجيب، إذ ليس الاعتبار في عدالة الراوي بحال التحمّل بل بحال الرواية، و كيف يعلم بمجرّد إسنادها إلى الصادق عليه السّلام أنّ روايته لها وقعت قبل تغيّره؟ و ما هذا إلاّ محض التوهّم.

مع أنّ الجزم بإرادة ابن أبي حمزة البطائني الّذي هو واقفي لا وجه له، لاشتراك الاسم بينه و بين ابن أبي حمزة الثمالي، و أيّ قرينة واضحة على التمييز»(3).

أقول: لا حاجة إلى قرينة التميّز لكون الثمالي بنفسه ثقة مصرّحا بتوثيقه في كلام غير واحد، فلا وجه لما ذكره إن أراد به القدح من جهة الاشتراك.

و في حاشية المدارك - للمحقّق المتقدّم ذكره - التعرّض لتوجيه كلام المحقّق دفعا للاعتراض المذكور قائلا: «و لعلّ غرض المحقّق أنّ الأصحاب يعملون بروايته مع أنّ عادتهم عدم الاتّفاق على العمل برواية من أنكر الحقّ عنادا، و أكل أموال الكاظم عليه السّلام ظلما و عدوانا، فالظاهر أنّهم إنّما أخذوا الرواية عنه قبل أن يصدر منه ما صدر»(4).

و قد يوجّه أيضا: «بأنّه لعلّه لأنّ الظاهر أنّ من تحمّل الحديث عن الإمام عليه السّلام يبادر إلى نقله و روايته لغيره و ثبته في كتابه، و الظاهر أنّ من سمعه إنّما سمعه منه قبل موت الكاظم عليه السّلام، و يبعد أن يكون قد ترك الرواية من زمان الصادق عليه السّلام إلى زمان الرضا غير مرويّة و لا مثبتة في الكتاب»(5).

و في المسألة قولان آخران.

أحدهما: ما يستفاد من العلاّمة في المنتهى قائلا: «و الأقرب عندي في العمل الأخذ

ص: 673


1- المعتبر: 16.
2- مدارك الأحكام 82:1.
3- فقه المعالم 207:1.
4- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 136:1.
5- الموجّه هو الشيخ الأعظم الأنصاري في كتاب الطهارة 231:1.

برواية محمّد بن بزيع لسلامة سندها، و يحمل «الدلاء» في البول على رواية كردويه، فإنّها لا بأس بها»(1).

و مراده من رواية محمّد بن بزيع الصحيحة - المتقدّمة مرارا - المتضمّنة لقوله عليه السّلام:

«ينزح منها دلاء»(2) و برواية كردويه ما تقدّم من قوله سألت أبا الحسن عليه السّلام عن البئر يقع فيها قطرة دم، أو نبيذ مسكر، أو بول، أو خمر؟ قال: «ينزح منها ثلاثون دلوا»(3).

و لعلّ الحمل الّذي اعتبره بين الروايتين مبنيّ على توهّم عطف البول في رواية كردويه على المضاف في «قطرة دم» دون المضاف إليه، و إلاّ لم يكن لحمل «دلاء» الصحيحة على ثلاثين دلوا [وجها](4) لاختصاصه بالقطرة، و مع ذلك فأصل القول شاذّ لا عبرة به.

و ثانيهما: ما استظهره صاحب المدارك(5) من نزح دلاء للقطرات من البول مطلقا، لصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه السّلام(6)، و نزح الجميع لانصبابه فيها مطلقا، لصحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السّلام في البئر يبول فيها الصبي، أو يصبّ فيها بول، أو خمر؟ فقال: «ينزح الماء كلّه»(7).

و يظهر الميل إليه من صاحب المعالم أيضا، قائلا - في كلام محكيّ له -: «المتّجه العمل بصحيحة معاوية بن عمّار في الكثير، لدلالة الانصباب عليه، و بصحيحة محمّد بن إسماعيل في القليل، لظهور القطرات فيه، إلاّ أن يتحقّق إجماع على خلافه، لا مجرّد عدم ظهور القائل به كما يقال»(8).

و هذا أيضا كسابقه في الشذوذ المسقط للاعتبار.

(فروع) أحدها: إذا عرفت أنّ مورد النصّ و الفتوى هو الرجل، و هو ظاهر في الذكر البالغ، تعلم أنّ الحكم لا يتناول المرأة، فحصل الفرق إذن بينهما، و هو المحكيّ عن

ص: 674


1- منتهى المطلب 86:1.
2- الوسائل 176:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 21 - الكافي 1/5:3.
3- الوسائل 179:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 698/241:1.
4- زيادة يقتضيها السياق.
5- مدارك الأحكام 82:1.
6- الوسائل 176:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 21.
7- الوسائل 179:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 696/241:1.
8- فقه المعالم 208:1، مع اختلاف يسير في العبارة.

الأكثر المصرّح به في كلام جماعة.

لكن المرويّ عن السرائر(1) عدم الفرق تعليلا: بأنّ الأخبار متواترة من الأئمّة الطاهرين عليهم السّلام على أنّه ينزح لبول الإنسان أربعون دلوا، و ظاهره الشمول للمرأة فضلا عن الصغير، قيل: و هو المحكيّ عن التحرير(2)، بل و عن الغنية(3)، و الإصباح(4) و الإشارة(5).

قيل: و في شرح المفاتيح(6) و غيره نقل الإجماع عن ابن زهرة عليه، قال في المنتهى: «لا فرق بين بول المرأة و الرجل، إن عملنا برواية محمّد بن بزيع أو رواية كردويه، و إن عملنا برواية عليّ بن أبي حمزة حصل الفرق، و ابن إدريس لم يفرّق بينهما من مآخذ اخر، قال: لأنّها إنسان، و الحكم معلّق عليه معرّفا باللام الدالّ على العموم، و مقدّماته كلّها فاسدة. نعم لا فرق في المرأة بين الصغيرة و الكبيرة في وجوب الأربعين»(7).

و عن المعالم: «و على ما ذكرناه - من العمل بروايتي معاوية بن عمّار، و محمّد ابن إسماعيل - لا فرق بينهما، لإطلاق البول في الروايتين»(8).

و عن المعتبر الاعتراض على ما ذكره ابن إدريس، قائلا: «نحن نسلّم أنّها إنسان، و نطالبه أين وجد الأربعين معلّقة على بول الإنسان، و لا ريب أنّه وهم»(9)، و استحسنه المحقّق الخوانساري(10) تعليلا بعدم وقوفه في الروايات على ما يدلّ عليه.

ثمّ القائلون بالفرق اختلفوا في مقدّر المرأة، فعن جماعة منهم إلحاقه بما لا نصّ فيه، و عن المعتبر أنّه أوجب ثلاثين دلوا، سواء كان من صغيرة أو كبيرة لرواية كردويه، و حكم باستحباب نزح الجميع لرواية معاوية بن عمّار، و تنظر المحقّق الخوانساري في القولين بكليهما.

«أمّا الأوّل: فلورود النصّ فيه متعدّدا، كصحيحتي معاوية بن عمّار، و ابن بزيع

ص: 675


1- السرائر 78:1.
2- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.
3- غنية النزوع: 490.
4- إصباح الشيعة: 4.
5- إشارة السبق: 81 و فيه: «و كذا البول البشري البالغ».
6- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 526 - حيث قال: «لكن نقل ابن زهرة الإجماع على أربعين في بول الإنسان و كذلك ابن إدريس محتجّا بتواتر الأخبار في ذلك».
7- منتهى المطلب 86:1.
8- فقه المعالم 209:1.
9- المعتبر: 16.
10- مشارق الشموس: 230.

و روايتي كردويه، إلاّ أن يقال: صحيحة معاوية لم يعمل بها الأصحاب في حكم البول فلا عبرة بها، و قد يقال: إنّ عدم عمل الأصحاب بها إنّما هو في بول الرجل لوجود مخصّص في الخارج، و ذلك لا يستلزم عدم العمل بها في بول المرأة، إلاّ أن يقال: إذا ثبت عدم العمل بها في بول الرجل فالتخصيص ليس بأولى من المجاز، فليحمل على الاستحباب؛ و كذا الحال في صحيحة ابن بزيع، و أمّا روايتا كردويه فإحداهما خارجة عن البحث لاختصاصها بالمخالط بماء المطر، و أمّا الاخرى فغير نقيّة السند، فالعمل بها مشكل، مع أنّ الأصحاب لم يعملوا بمضمونها، و أيضا أنّها مختصّة ظاهرا بقطرة البول فلا نصّ فيما عداها.

و أمّا الثاني: فلأنّ رواية كردويه لا تصلح للاعتماد عليها مع ظهورها في القطرة، و الّذي يقتضيه النظر أن يكتفى في القليل منه بدلاء لصحيحة ابن بزيع، مع تأيّدها بالأصل، و أمّا في الكثير فلا يبعد الاكتفاء بالثلاثين، لأنّه القدر المتيقّن و لا دليل على الزائد، و الأولى الأربعون، و الأحوط الجميع»(1)، انتهى ملخّصا. و هذا كما ترى قول آخر اختاره و هو فرق في بول المرأة بعد الفرق بينه و بين بول الرجل بين قليله و كثيره، فعلم أنّ المسألة ذات أقوال، و حيث إنّا لا نقول بالنجاسة و لا بوجوب النزح فلا جدوى للتعرّض لجرح هذه الأقوال و تعديلها.

و ثانيها: عن ظاهر الأكثر عدم لحوق الخنثى بالرجل، و عن بعضهم استقرب إلحاقه بما لا نصّ فيه، و عن المسالك: «و الأجود في بول الخنثى وجوب أكثر الأمرين من الأربعين و ما يجب لما لا نصّ فيه»(2).

و في الروضة - بعد إلحاقه بما لا نصّ فيه -: «و لو قيل فيما لا نصّ فيه بنزح ثلاثين أو أربعين وجب في بول الخنثى أكثر الأمرين منه و من بول الرجل مع احتمال الاجتزاء بالأقلّ»(3) انتهى.

و في حكم الخنثى الممسوح و هو الّذي ليس له ما للرجال و لا للنساء.

و ثالثها: قضيّة إطلاق الرجل في مورد النصّ عدم الفرق فيه بين المسلم و غيره، كما

ص: 676


1- مشارق الشموس: 230.
2- مسالك الأفهام 17:1.
3- الروضة البهيّة 38:1.

في الروضة(1)، و عن المسالك(2)، و المهذّب(3)، و شرح الفاضل(4)، بل عن السرائر(5)، و التحرير(6)، و نهاية الإحكام(7)، أيضا.

و في المنتهى التصريح به(8)، و عن المعالم(9)، و شرح المفاتيح(10)، و الذخيرة(11)، «أنّه ظاهر الأصحاب».

و في شرح الدروس للخوانساري: «أنّ المتقدّمين حتّى ابن إدريس القائل بالفرق بين موت المسلم و الكافر لم يفرّقوا بينهما في البول، لتناول العموم لهما، و احتمل بعض المتأخّرين الفرق لأنّ لنجاسة الكفر تأثيرا، و لهذا لو وقع في البئر ماء متنجّس بملاقاة بدن الكافر لوجب له النزح، فكيف يكتفي للبول مع ملاقاته لبدنه بأربعين، و الحكم إنّما هو منوط بنجاسة البول لا بنجاسة الكفر، و قال: و هذا وارد في سائر فضلاته كعذرته و بوله، و مثله دم نجس العين»(12) انتهى.

و أنت خبير بوهن هذا الكلام و فساد ذلك الاستنباط، فإنّ أقصى ما ثبت بالدليل من نجاسة الكافر إنّما هو نجاسة ظواهر بدنه لا بواطنه، و لا سيّما عروقه و مجاري فضلاته، و البول و ما أشبهه إنّما يخرج من الباطن من دون لصوقه لظاهر البدن كما لا يخفى، و لو فرض الكلام فيما لو لاصق ظاهر البدن اتّفاقا - فمع أنّه خارج عن مفروض المسألة - يتّجه المنع إلى اقتضاء ذلك تأثيرا من حيث ابتنائه على قبول النجس أو المتنجّس للنجاسة ثانيا، و هو موضع منع، خصوصا في النجس بالأصل كالبول و الدم و غيرهما من الفضلات، و قياس ما نحن فيه على الماء المتنجّس بملاقاة بدن الكافر باطل لوضوح الفرق بين المقامين.

و من هنا يظهر الفرق بين مسألتنا هذه و ما تقدّم من مسألة الموت الّذي صرنا فيه

ص: 677


1- الروضة البهيّة 38:1.
2- مسالك الأفهام 17:1.
3- المهذّب 22:1.
4- كشف اللثام 333:1.
5- السرائر 78:1.
6- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.
7- نهاية الإحكام 259:1.
8- منتهى المطلب 86:1.
9- فقه المعالم 209:1.
10- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 526 و فيه: «و نسب إلى الأكثر عدم الفرق بين المؤمن و الكافر لعموم اللفظ».
11- ذخيرة المعاد: 133.
12- مشارق الشموس: 230.

إلى الفرق بينهما فيما لو وقع الكافر حيّا في البئر ثمّ اتّفق موته فيها.

و محصّل الفرق: أنّ ماء البئر يلاقيه نجاسة الكفر سابقة على الموت و هي داخلة في غير المنصوص و لا يشملها حكم الموت، كما سبق تفصيل القول في تحقيقه، بخلاف المقام الّذي لم يطرأ الموضوع نجاسة اخرى غير النجاسة البوليّة.

فاندفع بذلك ما عن صاحب المعالم قائلا: «و التحقيق: أنّ الحيثيّة معتبرة في الجميع كما أشرنا إليه في مسألة موت الإنسان، و اللازم من ذلك عدم الاكتفاء بالمقدّر لحيثيّته عند مصاحبة اخرى لها، لما سيأتي من عدم تداخل المنزوحات عند تعدّد أسبابها.

و لا ريب أنّ ملاقاة النجاسة لنجاسة اخرى على وجه مؤثّر يوجب لها قوّة و اعتبارا زائدا على حقيقتها، و الدليل الدّال على نزح مقدار مخصوص لها غير متناول لما سواها، فكيف يكون كافيا عن الجميع بتقدير الاجتماع»(1) انتهى.

و محصّل الاندفاع: منع اجتماع الحيثيّتين من النجاسة أو نجاستين مؤثّرتين، حيث لا مقتضى لأحدهما كما عرفت.

المسألة السادسة: فيما ينزح له ثلاثون دلوا،

و هو على ما في كلام غير واحد ماء المطر المخالط للبول، و العذرة، و خرء الكلب.

و أصل الحكم مشهور، و نقل الشهرة عليه إلى حدّ الاستفاضة في كلامهم مذكور، و مستنده الرواية المرويّة - في التهذيبين و غيرهما - عن ابن أبي عمير عن كردويه، قال:

سألت أبا الحسن عليه السّلام عن بئر يدخلها ماء المطر فيه البول، و العذرة، و أبوال الدوابّ و أرواثها، و خرء الكلاب؟ قال: «ينزح منها ثلاثون دلوا، و إن كانت مبخرة»(2) و ضعف الرواية بكردويه لجهالته غير قادح، بعد ملاحظة قضيّة الانجبار بالشهرة و رواية ابن أبي عمير عنه.

و أمّا ما عن مبسوط الشيخ من أنّه: «متى وقع في البئر ماء خالطه شيء من النجاسات مثل ماء المطر و البالوعة و غير ذلك، نزح منها أربعون دلوا للخبر»(3) فاسد مخالف للنصّ و الفتوى، و الخبر المشار إليه ممّا لم يعرف له أثر.

ص: 678


1- فقه المعالم 210:1.
2- الوسائل 181:1 ب 16 من أبواب الماء المطلق ح 3 - التهذيب 1300/413:1 الاستبصار 120/43:1.
3- المبسوط 12:1.

و مثله في الشذوذ ما عن الفقيه(1) بدل «ماء المطر» «ماء الطريق»، إلاّ أن ينزّل إلى إرادة ماء المطر لأنّه الغالب، و كيف فالتعدّي عن مورد النصّ غير سائغ، و إلحاق غير المنصوص هنا كالمطر المخالط بغير ما ذكر من النجاسات، و الماء المخالط لها و لغيرها بغير المنصوص المخصوص بحكم آخر متعيّن، إن لم يفهم من دليل مقدّر كلّ نجاسة منفردة شموله لها مختلطة.

و لعلّه إلى ذلك ينظر ما عن السرائر من «أنّ ما في المبسوط غير واضح و لا محكيّ، بل تعتبر النجاسة المخالطة للماء [الواقع في ماء البئر]، فإن كانت منصوصة [عليها] أخرج المنصوص [عليها]، و إن كانت غير منصوصة دخلت في قسم غير المنصوص، و الصحيح من المذهب و الأقوال المقصودة(2) بالإجماع و النظر و الاعتبار و الاحتياط نزح جميع ماء البئر، و مع التعذّر التراوح»(3) انتهى.

و قضيّة ما عرفت عدم التعدّي عن حكم النصّ إلى ما لو انضمّ إلى المذكورات غيرها، أو وقع الغير بدل بعضها، و لمّا كان النصّ ظاهرا في اعتبار وقوع جميع المذكورات فقد يشكل الحال لو فقد بعضها، لكن في كلام غير واحد - كما عن الشيخ عليّ في شرحه للقواعد(4)، و شرح الدروس(5)، و غيرهما - الاقتصار على حكم الجميع بالطريق الأولى.

و للتأمّل في أمثال هذه الأولويّة مجال واسع ما لم تكن عرفيّة، و الأقرب ملاحظة حال النصّ الوارد في مقدّر النجاسة المختلطة إذا وقعت منفردة، فإن تناولها مختلطة و إلاّ فالإلحاق بغير المنصوص، من غير فرق في جميع ما ذكر بين كون مقدّر البعض المختلط مساويا للثلاثين أو زائدا عليه أو ناقصا منه.

و قد يقال في الأخير: بالاقتصار على المقدّر الأقلّ من ثلاثين إن كان، و يدّعى عليه الأولويّة أيضا بالإضافة إلى حالة الانفراد و إن كان الأحوط اعتبار الثلاثين، و في

ص: 679


1- الفقيه 35/22:1.
2- و الصواب: «المعتضدة» كما قال في السرائر: «فالصحيح من المذهب و الأقوال الّذي يعضده الإجماع» الخ.
3- السرائر 81:1، مع اختلاف يسير في العبارة.
4- جامع المقاصد 142:1.
5- مشارق الشموس: 231.

الروضة أطلق القول بأنّ الحكم معلّق على الجميع فيجب لغيره مقدّره أو الجميع إن لم يكن له مقدّر، الأقرب بالاحتياط هو ما ذكرنا.

ثمّ إنّ هاهنا إشكالا معروفا أورده بعضهم على أصل المسألة، و هو: أنّ ترك الاستفصال عن النجاسات المذكورة يقتضي [تساوي] جميع محتملاتها في الحكم، فيستوي حال العذرة رطبة و يابسة، و حال البول إذا كان بول رجل أو غيره، و قد حكموا بنزح خمسين للعذرة الرطبة، و أربعين لبول الرجل مع انفراد كلّ منهما، فكيف تجتزئ بالثلاثين مع انضمام أحدهما إلى الآخر، و انضمام غيرهما إليهما، و هو مقتض لزيادة النجاسة و تضاعفها.

و اجيب عنه تارة: بإمكان تنزيل الرواية على ماء المطر المخالط لهذه النجاسات مع استهلاك أعيانها.

و ردّ: بأنّه على تقدير الاستهلاك لا يبقى فرق بين ماء المطر و غيره و قد فرّقوا.

و اخرى: بجواز استناد الحكم إلى التخفيف المستند إلى مصاحبة ماء المطر كما عن المسالك(1).

و ثالثة: بأنّ الاستبعاد غير مسموع في مقابلة النصّ، خصوصا مع ملاحظة ابتناء أحكام البئر - بل الأحكام الشرعيّة مطلقا - على جمع المتباينات و تفريق المتماثلات(2).

و رابعة: بأنّ هذا الكلام إنّما يتوجّه إذا كان دليل الحكم ناهضا بإثباته و ليس الأمر كذلك هاهنا، نظرا إلى أنّ راوي هذا الحديث أعني «كردويه» مجهول الحال، إذ لم يتعرّض له الأصحاب في كتب الرجال، و بما تقدّم ذكره تقدر على دفع ذلك.

المسألة السابعة: فيما ينزح له عشرة دلاء و هو أمران:
أحدهما: العذرة الجامدة،

و المراد بها ما يقابل الذائبة الذائبة المنزوح لها خمسون دلوا على ما تقدّم الكلام فيها مشروحا، و حيث إنّ الذوبان كان عبارة عن تفرّق الأجزاء و شيوعها في الماء فالجمود كان عبارة عمّا لم تتفرّق أجزاؤه، بأن تخرج قبل شيوعها و لو بعد صيرورتها متبتلة أو رطبة، و الحكم المذكور لها هو المشهور المحكيّ عليه الشهرة في حدّ الاستفاضة، المنفيّ عنه الخلاف كما عن السرائر(3)، بل المنقول عليه الإجماع عن

ص: 680


1- مسالك الأفهام 19:1.
2- المجيب بهذا هو صاحب المعالم رحمه اللّه في فقه المعالم 218:1.
3- السرائر 79:1.

الغنية(1)، المنصوص عليه فيما تقدّم في العذرة الذائبة من رواية أبي بصير(2) المنجبر ضعفها بالعمل، و باقي الأحكام و الفروع الجارية فيها كما تقدّم ثمّة، فراجع و استعلم.

و ثانيهما: الدم القليل،

المقابل لكثيره المتقدّم ذكره و البحث عنه مفصّلا مقرونا بما يستعلم منه حال القليل أيضا.

و مجمل القول فيه على وجه الإعادة: أنّ الحكم المذكور له مشهور منقول عليه الشهرة كما عن جماعة، بل الإجماع كما عن الغنية(3)، و حدّدوه: بدم الدجاجة و الرعاف اليسير، و قد تقدّم بعض الكلام فيه مع المناقشة في التحديد بما ذكر على وجه يكون ضابطا كلّيّا.

و أمّا تعيين العدد المذكور فممّا لا نصّ فيه أصلا، و العمدة من مستنده ما تقدّم من صحيحة عليّ بن جعفر(4) في رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت في بئر، القائلة:

«بأنّه ينزح منها دلاء يسيرة»، و في رجل يرعف فيها الآمرة بنزح دلاء يسيرة أيضا.

و هذه كغيرها ممّا استفاض في باب الدم من الروايات المتقدّم إلى جملة منها الإشارة غير قاضية بالعدد المذكور، فإنّ «الدلاء» تشمل ما زاد عليها و ما نقص منها، و لا يعطيها التقييد باليسيرة في جملة منها ظهورا في ذلك.

فما قد يوجّه به من أنّ «الدلاء» و إن كان جمع كثرة إلاّ أنّ تقييده هنا بلفظ «اليسيرة» الّذي يؤدّي مؤدّى القلّة قرينة على إرادة القلّة منه هنا ليس بسديد، و ما قد عرفته عن الشيخ(5) في تقريب الاستدلال بها من «أنّ أكثر عدد يضاف إلى هذا الجمع عشرة فيجب أن يؤخذ به، إذ لا دليل على ما دونه»، فقد سمعت المناقشة فيه من جهات عديدة فراجع و تأمّل، أ لا ترى أنّ المعتبر اعترض عليه: «بأنّا لا نسلّم أنّه إذا جرّد عن الإضافة كانت حاله كذا، فإنّه لا يعلم من قوله: «عندي دراهم» أنّه لم يخبر عن زيادة عن عشرة، فإنّ دعوى ذلك باطلة»(6).

و أمّا ما ذكره المنتهى في دفعه: «بأنّ الإضافة هنا و إن جرّدت لفظا، لكنّها مقدّرة،

ص: 681


1- غنية النزوع: 49.
2- الوسائل 191:1 ب 20 من أبواب الماء المطلق ح 1.
3- غنية النزوع: 49.
4- الوسائل 193:1 ب 21 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 1288/409:1.
5- التهذيب 245:1 ذيل الحديث 705.
6- المعتبر: 16.

و إلاّ للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة»، - إلى أن قال -: «فلا بدّ من إضمار عدد تضاف إليه تقديرا، فتحمل على «العشرة» الّتي هي أقلّ ما يصلح إضافته لهذا الجمع أخذا بالقدر المتيقّن، و حوالة على أصالة براءة الذمّة»(1) فممّا لا محصّل له، من أنّ تأخير البيان فرع إرادة التعيين الّذي لم ينهض عليه إلى الآن قرينة من عقل أو نقل، فيبقى ظهور التخيير على ما هو شأن كلّ جمع منكر علّق عليه الحكم سليما عمّا يعارضه أو يصلح معارضته، و على تقدير وجوب التقدير فيكون أقلّ ما يصلح إضافة إلى الجمع «عشرة» في حيّز المنع، بل أقلّه على ما أطبق العرف و اللغة عليه «ثلاثة»، فليحمل عليه لأصالة البراءة من الزائد، كما اعترف به غير واحد منهم صاحب المدارك(2).

و بالجملة: لو لا الحكم مشهورا لكان سلب تعيين هذا العدد هنا ممّا لا إشكال فيه، و لا شبهة تعتريه، لكن مخالفة المشهور أيضا ممّا لا تخلو عن إشكال، و إذن كان الاحتياط في طرفه، فالمصير إليه حينئذ احتياطا ممّا لا بأس به.

المسألة الثامنة: فيما ينزح له سبع دلاء، و هو امور:
أحدها: موت الطير،

المفسّر بالحمامة و النعامة و ما بينهما في محكيّ المسالك(3)، و جماعة، و مثله عن كتب العلاّمة(4)، و الموجز(5)، و شرحه(6).

و عن الذكرى: «أنّ الصادق فسّره بذلك»(7) و عن جماعة الحمامة و الدجاجة و ما أشبههما(8).

ص: 682


1- منتهى المطلب 81:1.
2- مدارك الأحكام 84:1.
3- مسالك الأفهام 17:1.
4- نهاية الأحكام 208:1؛ و إرشاد الأذهان 237:1؛ تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.
5- الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة 412:26).
6- كشف الالتباس 78:1.
7- ذكرى الشيعة 96:1، و لم ينسبه إلى الصادق عليه السّلام، بل قال: «سبع لموت الطير - في المشهور - لرواية عليّ بن أبي حمزة عن الصادق عليه السّلام و فسّر بالحمامة و النعامة و ما بينهما»، نعم في مفتاح الكرامة 114:1 و طهارة الشيخ 234:1 كما هنا، و من المظنون قويّا كون السبب فيه قراءتهم قوله: «فسّر» بصيغة المعلوم، من دون المراجعة إلى أصل الرواية.
8- كالمفيد في المقنعة: 66؛ و الشيخ في المبسوط 11:1؛ و ابن زهرة في غنية النزوع: 49 و فيه: «أو ما ماثلهما».

و في المنتهى: «قال ابن إدريس:(1) و السبع يجب للنعامة و الحمامة و ما بينهما»(2).

ثمّ في المدارك: «أنّ القول بوجوب السبع في موت الطير للثلاثة و أتباعهم»(3).

و في شرح الدروس للخوانساري: «هذا هو المعروف بين الأصحاب»(4)، و عن الذخيرة: «أنّه مذهب الأصحاب»(5).

و عن غير واحد؛ هو المشهور، و عن الغنية الإجماع عليه(6)، و مستنده روايات فيها صحيح، و فيها غير صحيح، موثّق و غيره.

و منها: صحيحة أبي اسامة عن أبي عبد اللّه قال: «إذا وقع في البئر الطير، و الدجاجة، و الفأرة، فانزح منها سبع دلاء»(7).

و منها: موثّقة سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في البئر، أو الطير؟ قال: «إن أدرك قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء»(8).

و منها: رواية عليّ بن أبي حمزة - المتقدّمة - قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في البئر؟ قال: «سبع دلاء». قال: و سألته عن الطير، و الدجاجة، تقع في البئر؟ قال:

«سبع دلاء(9) إلى آخره».

ثمّ في المقام أخبار اخر تعارضها بظاهرهما بين دالّة على نزح دلاء، و دالّة على دلوين و ثلاث، و دالّة على الخمس، و قد تقدّم ذكرها في بحث السنّور، لكنّ الخطب فيها سهل لعدم عامل بها من الأصحاب، عدا رواية الخمس مع كونها صحيحة الّتي استظهر العمل بها في المدارك ناسبا اختياره إلى المعتبر أيضا، حيث قال: «و الأظهر الاكتفاء بالخمس

ص: 683


1- السرائر 77:1.
2- منتهى المطلب 89:1.
3- مدارك الأحكام 84:1 و المراد بالثلاثة: السيّد المرتضى كما نقله عنه في منتهى المطلب 1: 87؛ و المفيد في المقنعة: 66؛ و الشيخ في النهاية 208:1؛ و المبسوط 11:1. و المراد بأتباعهم: ابن البرّاج في المهذّب 22:1، و السلاّر في المراسم العلويّة: 36 و ابن إدريس في السرائر 77:1.
4- مشارق الشموس: 231.
5- ذخيرة المعاد: 134 و فيه: «كذا ذكره الأصحاب».
6- غنية النزوع: 49.
7- الوسائل 173:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 12 - التهذيب 674/233:1.
8- الوسائل 183:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 681/236.
9- الوسائل 186:1 ب 18 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 680/235:1.

كما اختاره في المعتبر(1)، لصحيحة أبي اسامة المتقدّمة، و عليه يحمل إطلاق لفظ «الدلاء» في صحيحتي زرارة و عليّ بن يقطين»(2) انتهى.

و الخطب في ذلك أيضا سهل لقصور عمل واحد أو اثنين عن دفع ما عرضها من الوهن بسبب إعراض الأكثر.

و ثانيها: وقوع الكلب المستتبع لخروجه حيّا،

فإنّ وجوب السبع فيه ممّا ذهب إليه أكثر الأصحاب كما في شرح الدروس(3)، و هو اختيار الشيخ في المبسوط(4) كما في المنتهى(5)، و على المشهور كما عن الذكرى(6)، خلافا لابن إدريس الذاهب فيه إلى نزح أربعين كما في موته(7)، و لصاحب المدارك(8) الّذي يظهر منه الميل إلى الاكتفاء بمسمّى الدلاء حملا للسبع و الخمس الواردين في الأخبار على الاستحباب.

و مستند المشهور صحيحة عبد اللّه بن المغيرة - كما في نسخة الاستبصار - و أبي مريم - كما عن نسخة التهذيب - قال: حدّثنا جعفر، قال: كان أبو جعفر عليه السّلام: «يقول إذا مات الكلب في البئر نزحت»، و قال [أبو] جعفر: «إذا وقع فيها ثمّ أخرج منها حيّا نزح منها سبع دلاء»(9).

و لمّا كان صدرها ينافي ما تقدّم في موته من نزح أربعين لظهوره في نزح الجميع فتصدّى الشيخ في الاستبصار(10) و غيره بحمله على صورة التغيّر، مع جواز ابتنائه على الاستحباب كما احتمله بعضهم، كما يحمل على أحدهما ما في خبر عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن بئر يقع فيها كلب، أو فأرة، أو خنزير؟ قال: «تنزف كلّها»(11)

ص: 684


1- المعتبر: 17.
2- مدارك الأحكام 85:1.
3- مشارق الشموس: 234.
4- المبسوط 11:1.
5- منتهى المطلب 90:1.
6- ذكرى الشيعة 96:1.
7- السرائر 76:1.
8- مدارك الأحكام 92:1.
9- الوسائل 182:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 687/237:1 - الاستبصار 103/38:1 و لا يخفى أنّ لفظة (أبو) لم ترد في الأصل، و لكنّها موجودة في نسخة صاحب الوسائل رحمه اللّه و كتب مصنّفه عليها علامة «نسخة»، كما في ذيل الوسائل المطبوعة باهتمام مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث.
10- الاستبصار 38:1 ذيل الحديث 102.
11- الوسائل 184:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 8 - التهذيب 699/242:1 - الاستبصار 1: 104/38.

بعد تنزيل الإطلاق إلى صورة الموت، و لكن الحمل الأوّل مبنيّ على القول بنزح الجميع في صورة التغيّر و قد عرفت أنّ التحقيق خلافه، فعلى المختار يتعيّن الحمل على الاستحباب خاصّة لو قلنا بتناول إطلاقه لصورة الوقوع و الخروج حيّا، فعليه لا معارض للصحيحة.

نعم، في صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: سألته عن البئر يقع فيها الحمامة، و الدجاجة، أو الفأرة، أو الكلب، أو الهرّة؟ فقال: «يجزيك أن تنزح منها دلاء»(1) الخ.

و في صحيحة أبي اسامة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الفأرة و السنّور و الدجاجة و الكلب و الطير، قال: «فإذا لم يتفسّخ أو يتغيّر طعم الماء فيكفيك خمس دلاء»(2) إلى آخره، و إطلاقهما يشمل محلّ البحث أيضا، لكنّ العلاج سهل بحمل «الدلاء» في الأوّل على السبع حملا للمطلق على المقيّد إن كان المقام من مجاريها، و إلاّ فرميه كالثاني على الشذوذ من جهة إعراض الأصحاب عنه أولى، كما ضعّفه غير واحد، و عن ابن إدريس أنّه طرح الصحيحة قائلا: «بأنّها ليست بشيء يعتمد عليه و الواجب العدول عن الرواية الضعيفة، و نزح أربعين دلوا»(3) ثمّ اعترض على نفسه: «بأنّك إذا لم تعمل بالرواية، فلم لم تقل بنزح الجميع، لأنّه ممّا لا نصّ فيه؟

فاعتذر بأنّه: إذا كان حال موته يجب له أربعون ففي الحياة بطريق أولى، لأنّ الموت يزيد النجس نجاسة»(4). و ربّما يعتذر له:(5) بأنّ تضعيفه الرواية مع كونها صحيحة مبنيّ على أصله المعروف من منع العمل بأخبار الآحاد، و هو الوجه في وصفه المقام بما لا نصّ فيه، لأنّ ما فيه نصّ غير معتبر بمنزلة ما لا نصّ فيه، و عليه فما اعترض عليه العلاّمة من قوله: «و الجواب: المنع من عدم النصّ و قد ذكرنا حديث

ص: 685


1- الوسائل 184:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 8 و 2 - التهذيب 242:1 و 699/237 و 686 - الاستبصار 38:1 و 104/37 و 101.
2- الوسائل 184:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 684/237:1.
3- السرائر 76:1.
4- السرائر 77:1 نقلا بالمعنى.
5- المعتذر هو صاحب المعالم رحمه اللّه - حيث قال - بعد ما أورد كلام ابن إدريس -: «و هذه الحجّة جيّدة على أصل ابن إدريس في ترك العمل بخبر واحد»، فقه المعالم 227:1.

أبي مريم»(1) ليس على ما ينبغي، و كأنّ الأولويّة الّتي ادّعاها في الحيّ بالقياس إلى الميّت مبناها على مفهوم الموافقة من الخطاب الوارد في الميّت، فلا يرد عليه: «أنّ هذه أحكام شرعيّة تتبع الاسم، فلا بدّ و أن تستفاد من النصّ، و لذا يجب في الفأرة مع تفسّخها و تقطّع أجزائها و انفصالها بالكلّيّة نزح سبع دلاء، مع وجوب نزح الجميع في البعرة منها لعدم ورود النصّ هنا و ثبوته هناك»(2)، فإنّ مفهوم النصّ غير خارج عن النصّ.

إلاّ أن يقال: بمنع كون الحكم في الأصل مستفادا من النصّ بخصوصه، كما يعلم ذلك بمراجعة كلام الشيخ المتقدّم في بحث الأربعين للكلب(3)، المصرّح بكون الأخذ به معيّنا من باب الاحتياط.

لكن يمكن دفعه - بعد الإغماض عن احتمال كون ابن إدريس قد بلغه في ذلك الحكم نصّ خاصّ -: بأنّ غاية ما هنالك كون تعيّن الأربعين متّجها من باب الحكم الظاهري، فيجري الأولويّة أيضا بدعوى: أنّ الحيّ من الكلب أولى من ميّته بذلك الحكم الظاهري، نعم إن كان و لا بدّ من منع دليله فيمنع من الأولويّة المدّعاة، لابتنائها على كون النجس قابلا للتنجّس ثانيا و هو لا يسلّم إلاّ بدليله، و هو غير واضح.

و منه: يظهر الجواب لو قرّر الاستدلال: بأنّ الكلب ميّتا أنجس منه حيّا، مضافا إلى جواز أن يكون له حال الحياة صفة يقتضي زيادة في نجاسته و قد زالت عنه بالموت، و كون الموت منجّسا للحيوان إنّما تسلّم فيما لم يسبقه النجاسة، و لو سلّم كونه هنا مؤثّرا لا محالة فلعلّه من باب أنّه قد ارتفعت منه النجاسة الثابتة حال الحياة و تجدّدت نجاسة اخرى بسبب الموت على حدّ نجاسة سائر الأموات، مع كون النجاسة المتجدّدة أخفّ من الزائلة، و استصحاب الحالة السابقة مع تبدّل العنوان غير معقول، إذ لا ريب أنّ الميّت ليس بكلب حقيقة، و احتمال أن يقال: إنّ هذا العين الخارجي قد كان نجسا و هو باق، فيبقى نجاسته بحكم الاستصحاب.

يدفعه: أنّ الأحكام الشرعيّة لا تتبع الأعيان الخارجيّة، و إنّما تتبع عناوينها الكلّيّة، و العنوان غير باق هنا جزما، مع أنّ ثبوت الأولويّة إن كان من باب مفهوم الموافقة

ص: 686


1- مختلف الشيعة 219:1.
2- مختلف الشيعة 219:1.
3- التهذيب 236:1، ذيل الحديث 681 - الاستبصار 37:1.

- حسبما وجّهناها به - فهي أمر عرفي لا يمكن إحرازه بالاستصحاب، لعدم كون اعتمادهم بمثل هذه الأولويّة في فهم الخطاب معلوما من بنائهم، و إن لم يكن من هذا الباب فلا محصّل لها إلاّ الظنّ العقلي بها، فيشكل التعويل عليها حينئذ، و ممّا يكشف عن كونها من الأولويّة الظنّية ما تقدّم الإشارة إليه - على فرض كونه كذلك في الواقع - من أنّ ذلك من باب إجراء ما ثبت في الأصل من الحكم الظاهري في الفرع، فلا يرجع في الحقيقة إلاّ إلى القياس الباطل في مذهبنا.

و ثالثها: بول الصبيّ الّذي لم يبلغ

كما في الشرائع(1)، هذا باعتبار المنتهى و أمّا باعتبار المبدأ فالظاهر أنّه الّذي يتغذّى بالطعام، كما يقتضيه قرينة المقابلة بينه و بين الصبي الّذي لم يتغذّ بالطعام، و أطلق الصبيّ في المنتهى(2) لكن في مقابلة الصبيّ الرضيع، و قيّده في الدروس(3) بغير الرضيع، و عنه في الذكرى تفسير الصبيّ بأنّه: «الذي لم يتغذّ باللبن أو اغتذى به مع غلبة غيره»(4)، و عن المعتبر تفسير الرضيع: «بمن لم يأكل»(5) و قضيّة ذلك كون المعتبر في الصبيّ هنا هو الأكل مطلقا، و الاكتفاء به مطلقا محكيّ عن المشهور تارة، و عن الأكثر اخرى؛ و عن الأكثر اخرى؛ و عن جماعة ثالثة، و عن صريح المختلف(6)، و شرح الفاضل(7)، و ظاهر المقنعة(8)، و النهاية(9) رابعة، و عن المسالك - تبعا لجامع المقاصد(10) في تفسير محلّ البحث -: «أنّه الفطيم» «و المراد به من زاد سنّه على الحولين»(11)، مع تفسيرهما الرضيع بمن كان في الحولين، و عن ابن إدريس(12)تفسير الرضيع هنا بمن كان له دون الحولين، سواء أكل أو لا، و سواء فطم أو لا.

و لا مستند لشيء من هذه التفاسير، مع ما فيها من الاختلاف الفاحش، و لم يرد في نصوص الباب إلاّ لفظا «الصبي» و «الفطيم»، و «الصبيّ» على ما في المصباح المنير:

الصغير(13).

ص: 687


1- شرائع الإسلام 14:1.
2- منتهى المطلب 94:1.
3- الدروس الشرعيّة 120:1.
4- ذكرى الشيعة 101:1 نقلا بالمعنى.
5- المعتبر: 17.
6- مختلف الشيعة 205:1.
7- كشف اللثام 340:1.
8- المقنعة: 67.
9- النهاية 208:1.
10- جامع المقاصد 143:1.
11- مسالك الأفهام 19:1.
12- السرائر 78:1.
13- المصباح المنير؛ مادّة «الصبيّ»: 332.

و مثله في المجمع(1)، و عن الصحاح: الغلام(2)، و عن القاموس: من لم يفطم بعد.

و أمّا «الفطيم» ففي المصباح: فطمت المرضع الرضيع فطما من باب ضرب، فصلته عن الرضاع فهي (فاطمة)، و الصغير (فطيم)(3).

و في المجمع: «الفطيم ك «كريم»، هو الّذي انتهت مدّة رضاعه، يقال: فطمت الرضيع من باب ضرب، فصلته عن الرضاع»(4).

و كيف كان فإيجاب السبع للصبيّ المقيّد بأحد ما ذكر هو المشهور كما عن جماعة، و عن المحقّق البهبهاني في شرح المفاتيح: «أنّ الأصحاب أفتوا بالسبع»(5)، و عن الغنية(6)، و السرائر(7) الإجماع عليه، و في شرح الدروس: «هذا مختار الشيخين(8) و جماعة، و الصدوق في المقنع(9) و الفقيه(10) أوجب ثلاثة دلاء، و اختاره المرتضى رحمه اللّه»(11)-(12) انتهى.

و مخالفة الصدوق و السيّد محكيّة في كلام جماعة(13)، و مستند المشهور رواية منصور بن حازم المرويّة - عن التهذيب في باب تطهير المياه - عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«ينزح منها سبع دلاء إذا بال فيها الصبيّ، أو وقعت فيها فأرة، أو نحوها»(14).

و لعلّ القول المذكور مع ما يأتي من القول بنزح دلو واحد للصبيّ الرضيع الغير المغتذي بالطعام جمع بين هذه الرواية و ما تقدّم في بحث بول الرجل من رواية عليّ بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن بول الصبيّ الفطيم يقع في البئر؟ فقال:

«دلو واحد»(15) على ما أخذ مستندا لهذا القول بناء على حمل «الفطيم» على المشارف للفطام كما قيل، و لو لا ذلك لبطل التقييد بما عرفت، لتناول إطلاق «الصبيّ» لغير مورد القيد أيضا، و لذا صار السلاّر (16)- على ما حكي عنه - إلى إطلاق القول بوجوب السبع

ص: 688


1- مجمع البحرين؛ مادّة «صبا» 260:1.
2- الصحاح؛ مادّة «صبا» 2398:6.
3- المصباح المنير؛ مادّة «فطم»: 447.
4- مجمع البحرين؛ مادّة «فطم» 131:6.
5- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (المخطوط) الورقة: 528 -.
6- غنية النزوع: 49.
7- السرائر 78:1.
8- النهاية 208:1، و المقنعة: 67.
9- المقنع: 30.
10- الفقيه 17:1.
11- ذكره في المصباح و حكاه عنه المحقّق في المعتبر: 17.
12- مشارق الشموس: 236.
13- منهم صاحب المعالم رحمه اللّه في فقه المعالم 226:1-225.
14- الوسائل 181:1 ب 16 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 2 - التهذيب 701/243:1 و 700.
15- الوسائل 181:1 ب 16 من أبواب الماء المطلق ح 1 و 2 - التهذيب 701/243:1 و 700.
16- المراسم العلويّة: 36.

في بول الصبيّ عملا بالرواية.

و أمّا ما سمعت عن الصدوق و السيّد فعن المعتبر: «لم نعثر له على نصّ»(1)، و قد يقال: مستنده ما روى في الفقه الرضوي: «من أنّ بول الصبيّ إذا أكل الطعام استقى منها له ثلاث أدلو، و إن كان رضيعا استقى منها دلوا واحدا»(2).

و هاهنا قول آخر حكاه بعضهم عن ابن حمزة(3) من أنّه أوجب السبع في بول الصبيّ و أطلق، ثمّ أوجب الثلاث في بوله إذا أكل الطعام ثلاثة أيّام، ثمّ أوجب واحدة في بوله إذا لم يطعم، و لعلّه جمع بين روايات المقادير الثلاث كما قيل، و إن كان فيه بعض الخصوصيّات الخارجة عن الروايات كلّها، كتعيّن ثلاثة أيّام لما وجب له الثلاث، و هاهنا رواية اخرى تقدّم ذكرها في بحث الخمر دالّة على وجوب نزح الجميع، و هي صحيحة معاوية بن عمّار في البئر يبول فيها الصبيّ، و يجد فيها البول أو الخمر؟ قال:

«ينزح الماء كلّه»(4) و هي - مع سقوط اعتبارها بالنسبة إلى هذا الجزء بإعراض الأصحاب عنه و إن كانت صحيحة لذاتها - مؤوّلة إلى صورة التغيّر، و إن كان بعيدا بملاحظة مساوقاته كما لا يخفى.

ثمّ إطلاق الأخبار و علمائنا الأخيار يتناول ولد الكافر عدا الشهيد المحكيّ عنه في البيان(5) التقييد بابن المسلم، و لعلّه أخذ بقضيّة الانصراف و لا يخلو عن وجه، و إن كان الأقرب الأوّل، نعم لا يلحق به الصبيّة من جهة عدم النصّ كما عن بعض المحقّقين.

و رابعها: موت الفأرة،

لكن في الشرائع(6)، و الدروس(7)، و غيرهما(8) تقييدها بالتفسّخ أو الانتفاخ، و الّذي ورد في الأخبار من حيث الوصف «التفسّخ» كما في بعضها، و «الانسلاخ» في البعض الآخر، و لم نقف على ما ذكر فيه «الانتفاخ»، فلذا أورد في المدارك على معتبريه: «بأنّه لا وجه لإلحاق الانتفاخ بالتفسّخ، لعدم الدليل

ص: 689


1- المعتبر: 17 و فيه: «فنحن نطالبهم بلفظ الرضيع أين نقل و كيف قدّر لبوله دلو واحد».
2- فقه الرضا عليه السّلام: 94 مع اختلاف يسير في العبارة - الفقيه 22/13:1.
3- الوسيلة: 70.
4- الوسائل 179:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 4 - التهذيب 696/241:1.
5- البيان: 100.
6- شرائع الإسلام 14:1.
7- الدروس الشرعيّة 120:1.
8- كمنتهى المطلب 90:1 - المبسوط 12:1 - غنية النزوع: 49.

عليه»(1). و فيه عن المصنّف «أنّه حكى عن بعض المتأخّرين أنّه جعل حدّ التفسّخ الانتفاخ»(2).

و لا يخفى بعده من العرف و اللغة و تصريح غير واحد من الأصحاب حيث فسّروا «التفسّخ» بتفرّق الأجزاء.

نعم عن الدلائل(3) و ظاهر الكفاية(4) دعوى الشهرة فيهما معا، بل عن الغنية الإجماع عليهما معا(5)، و عن المسالك(6)، و الروضة(7)، التصريح بالشهرة في الثاني خاصّة، لكن يعارض الجميع ما عن شرح المفاتيح(8)، و كشف الالتباس(9)، من الشهرة في الأوّل، بل عن كشف الرموز نفي الخلاف عنه(10).

و كيف كان فمستند هذا القول روايات منها ما هي مطلقة، و منها ما هي مقيّدة، و منها ما هي مجملة أو مطلقة أيضا، و لكن أعمّ من المطلقة الاولى.

فمن المطلقات موثّقة سماعة - المتقدّمة - قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في البئر، أو الطير؟ قال: «إن أدرك قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء» إلى آخره(11).

و منها: رواية عليّ بن أبي حمزة - المتقدّمة أيضا - قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في البئر؟ قال: «سبع دلاء»(12).

و من المقيّدات؛ رواية أبي عيينة - المرويّة في التهذيب - قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في البئر؟ فقال: «إذا اخرجت فلا بأس، و إن تفسّخت فسبع دلاء»(13).

ص: 690


1- مدارك الأحكام 86:1.
2- مدارك الأحكام 86:1، و قوله: «و فيه عن المصنّف الخ» يعني: و في المدارك عن المصنّف في المعتبر».
3- حكاه عنه في مفتاح الكرامة 115:1.
4- كفاية الأحكام: 10.
5- غنية النزوع: 49.
6- مسالك الأفهام 17:1.
7- الروضة البهيّة 41:1.
8- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 527.
9- كشف الالتباس 79:1.
10- كشف الرموز 54:1.
11- الوسائل 186:1 ب 18 من أبواب الماء المطلق ح 1 - و فيه «سألته» بدل «سألت» و «أدركته» بدل «أدرك».
12- الوسائل 183:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 3 - التهذيب 680/235:1.
13- الوسائل 174:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 13 - و فيه: «خرجت» بدل «اخرجت» - التهذيب 673/233:1.

و منها: رواية أبي سعيد المكاري - المرويّة في التهذيبين - عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إذا وقعت الفأرة في البئر فتسلّخت فانزح منها سبع دلاء»(1)، و لا بأس بما فيهما من الضعف بعد ملاحظة قضيّة الانجبار بالشهرة، و بذلك تنهضان لتقييد الروايتين المطلقتين و ما في معناهما، و إن كان فيهما ما هو موثّق، و لا ضير في اختلاف القيدين الواردين فيهما من حيث إنّ «الانسلاخ» يغاير «التفسّخ»، لابتناء العمل بهما معا على كفاية أحد الأمرين في انعقاد الحكم، فليحمل الإطلاق في غيرهما على ما يتحقّق معه أحد الأمرين، و ممّن صرّح بكفاية أحد الأمرين المحقّق في النافع(2) - على ما حكي عنه - و إن لم نجده فيه.

و أمّا الصنف الثالث من الروايات، فمنها: صحيحة الفضلاء الثلاث زرارة، و محمّد بن مسلم، و بريد بن معاوية العجلي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و أبي جعفر عليهما السّلام في البئر يقع فيها الدابّة، و الفأرة، و الكلب، و الطير فيموت؟ قال: «يخرج، ثمّ ينزح من البئر دلاء، ثمّ اشرب [منه] و توضّأ»(3)، و صحيحة أبي العبّاس الفضل البقباق، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

في البئر يقع فيها الفأرة أو الدابّة، أو الكلب، أو الطير فيموت؟، قال: «يخرج ثمّ ينزح من البئر دلاء، ثمّ يشرب منه و يتوضّأ»(4).

و هاتان الروايتان و ما في معناهما قابلة لأن تحمل على ما تقدّم لإجمالهما أو إطلاقهما، و لك أن تحملهما على صحيحة معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة و الوزغة تقع في البئر؟ قال: «ينزح منها ثلاث دلاء»(5) تقليلا للتقييد بناء على حمل الصحيحة على ما يتحقّق معه أحد الأمرين، لا بحيث رجع مفاده إلى اعتبار الفأرة بشرط لا، فإنّ ذلك أيضا نوع من التقييد، بل بمعنى حملها على الماهيّة المطلقة خرج عنها بعض أفرادها بالدليل، فيقال: إنّ هذه الماهيّة من حكمها أن ينزح لها ثلاث

ص: 691


1- الوسائل 187:1 ب 19 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 691/239:1 - الاستبصار 110/39:1.
2- لم نجده أيضا في النافع، لاحظ المختصر النافع: 43، حيث قال: «و للفأرة إن تفسّخت - سبع - و إلاّ فثلاث الخ».
3- الوسائل 183:1 و 184 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 5 و 6 - التهذيب 236:1 و 682/237 و 685 - الاستبصار 36:1 و 99/37 و 100.
4- الوسائل 183:1 و 184 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 5 و 6 - التهذيب 236:1 و 682/237 و 685 - الاستبصار 36:1 و 99/37 و 100.
5- الوسائل 187:1 ب 19 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 688/238:1.

دلاء إلاّ الفرد المتفسّخ أو المتسلّخ منها لوجوب السبع له، غير أنّ اللازم من ذلك التفصيل في الفأرة بين المتفسّخ أو المتسلّخ و غيرهما، كما ذهب إليه الشيخ و صرّح في الاستبصار و غيره(1)، حيث جمع بين الصحيحة المذكورة و موثّقة سماعة، و رواية ابن أبي حمزة المتقدّمتين بحملهما على صورة التفسّخ، و استشهد له برواية أبي سعيد المكاري المتقدّمة، و الظاهر أنّه لا ضير فيه لوجود عامل حينئذ بالصحيحة المذكورة و إن لم يعرف عن المشهور ما عدا حكم المقيّد.

و بما ذكرنا من وجود عامل بالصحيحة يظهر العذر في عدم الحمل على سائر الروايات الواردة في الباب المتضمّنة للخمس أو غيرها، لعدم وجود عامل بها صريحا، و بذلك يعلم أنّ أمثال هذه الروايات لا تنهض معارضة لما تقدّم، و هي رواية أبي اسامة المتضمّنة لقوله عليه السّلام: «فيكفيك خمس دلاء»(2) و رواية عمّار الساباطي المذيّلة لقوله عليه السّلام:

«تنزف كلها»(3).

و في المسألة قولان آخران، أحدهما: ما عن المقنع: «و إن وقع فأرة فانزح منها دلوا واحدا، و أكثر ما روي في الفأرة إذا تفسّخت سبع دلاء»(4) و مثله عن الفقيه، و مستندهما على الدلو الواحد مع عدم التفسّخ غير واضح كما اعترف به غير واحد، و ربّما احتمل كونه إلحاقا بالعصفور و لا يخفى ضعفه.

و ثانيهما: ما يظهر عن صاحب المدارك(5) من العمل بالسبع مع التفسّخ، و الخمس بدونه، استنادا إلى صحيحة أبي اسامة القائلة بأنّه: «إذا لم يتفسّخ أو يتغيّر طعم الماء فيكفيك خمس دلاء» بعد ما استقرب الاكتفاء بالثلاث مطلقا و لا موافق له في ذلك.

و في لحوق الجرذ بالفأرة في الحكم وجهان، من اندراجه فيها اسما كما يشهد به كلام جماعة من أئمّة اللغة، ففي المصباح المنير: «قال ابن الأنباري و الأزهري هو الذكر من الفأر، و قال بعضهم هو الضخم من الفيران، و يكون في الفلوات و لا يألف البيوت»(6)، و عن الصحاح(7) و القاموس(8): الجرذ ضرب من الفأر.

ص: 692


1- الاستبصار 39:1.
2- الوسائل 184:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 7 و 8.
3- الوسائل 184:1 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 7 و 8.
4- المقنع: 32-31.
5- مدارك الأحكام 86:1.
6- المصباح المنير؛ مادّة «الجرذ»: 96.
7- الصحاح؛ مادّة «جرذ» 561:2.
8- القاموس المحيط؛ مادّة «الجرذ» 661:1.

و في المجمع: «هو الذكر من الفيران و يكون في الفلوات، و هو أعظم من اليربوع أكدر في ذنبه سواد، و عن الجاحظ الفرق بين الجرذ و الفأر كالفرق بين الجواميس و البقر و البخاتي و العراب»(1)، و من التأمّل في انصراف الإطلاق إلى ما يتناوله، و هذا هو الأحوط، فيلحق بغير المنصوص.

و خامسها: اغتسال الجنب في البئر مطلقا،
اشارة

كما في الشرائع(2)، و النافع(3)، و المنتهى(4)، و الدروس(5)، كما عن المعتبر(6)، و القواعد(7)، و الإرشاد(8)، و البيان(9)، و اللمعة(10)، و قيل:

بل جميع كتب العلاّمة، و في صريح الخوانساري في شرحه للدروس(11)، كما عن شرح المفاتيح للعلاّمة البهبهاني(12)، و ظاهر الكفاية: «أنّه المشهور»(13).

أو ارتماسه فيها كما عن نهاية الشيخ(14)، و مقنعة المفيد(15)، بل كتب الشيخين(16)، و السلاّر(17)، و بني حمزة(18)، و البرّاج(19)، و سعيد(20)، و إدريس(21)، و غيرهم بل عن ابن إدريس الإجماع عليه(22).

و هل مرادهم به ما يحصل بعنوان الاغتسال؟ أو مطلق الارتماس و لو لغير الاغتسال؟ وجهان: أظهرهما الأوّل، و إن لم يصرّحوا به لظهور كلامهم - و لا سيّما استدلالهم برواية أبي بصير المشتملة على الاغتسال - فيه، و تنقيح المسألة يستدعي تقديم نقل ما ورد في هذا الباب من السنّة و هي عدّة روايات:

منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «و إن وقع فيها جنب فانزح منها سبع دلاء»(23).

ص: 693


1- مجمع البحرين؛ مادّة «جرذ» 179:3.
2- شرائع الإسلام 14:1.
3- المختصر النافع: 43.
4- منتهى المطلب 89:1.
5- الدروس الشرعيّة 120:1.
6- المعتبر: 17.
7- قواعد الأحكام 187:1.
8- إرشاد الأذهان 237:1.
9- البيان: 100.
10- اللمعة الدمشقيّة 41:1.
11- مشارق الشموس: 231.
12- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 527.
13- كفاية الأحكام: 10.
14- النهاية 208:1.
15- المقنعة: 67.
16- و هما الشيخ الطوسي في النهاية 208:1؛ و الشيخ المفيد في المقنعة: 67.
17- المراسم العلويّة: 36.
18- الوسيلة: 70.
19- المهذّب 22:1.
20- الجامع للشرائع: 19.
21- السرائر 79:1.
22- السرائر 79:1.
23- الوسائل 180:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 6 - التهذيب 694/420:1.

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: «إذا دخل الجنب البئر نزح منها سبع دلاء»(1).

و منها: صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إن سقط في البئر دابّة صغيرة، أو نزل فيها جنب، فانزح منها سبع دلاء»(2).

و منها: رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب يدخل في البئر فيغتسل منها؟ قال: «ينزح منها سبع دلاء»(3).

و منها: صحيحة ابن أبي يعفور، و عنبسة بن مصعب، - المتقدّمة في بحث انفعال البئر -: «إذا أتيت البئر و أنت جنب و لم تجد دلوا و لا شيئا تغرف به، فتيمّم بالصعيد، فإنّ ربّ الماء و ربّ الصعيد واحد، و لا تقع في البئر، فتفسد على القوم ماءهم»(4).

و الداعي إلى ذكر هذا الأخير هنا بعض الأغراض المتعلّقة بالباب و إن لم يكن متضمّنا للتقدير بالسبع.

فاعلم أنّه لا كلام لهم في النزح بالسبع هنا، حيث لا منكر له و لا قائل بالزيادة عليه، كما أنّه لا خلاف لهم في أنّ الجنابة لها مدخليّة في ذلك الحكم.

نعم، لهم كلام من جهات اخر.
الجهة الاولى: في أنّ المقتضي للنزح هل هو وقوع الجنب في البئر و إن لم يغتسل، المعبّر عنه بمطلق مباشرته جنبا؟

أو اغتساله منها و لو ترتيبا، أو ارتماسه و لو لغير الغسل؟ كما يقتضيه إطلاق حكاية القول به، احتمالات بل أقوال:

أوّلها: منسوب إلى صريح المحكيّ عن جماعة، كما هو صريح صاحب المدارك (5)و ظاهر الخوانساري(6).

و ثانيها: ما صار إليه جماعة، و لعلّه المشهور بين المتأخّرين، و قد عرفت نقل الشهرة عليه.

و ثالثها: ما عرفته عن جماعة من المتقدّمين.

ص: 694


1- الوسائل 195:1 ب 22 من أبواب الماء المطلق ح 2 و 4 - التهذيب 703/244:1 و 702.
2- الوسائل 179:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 695/241:1 - الاستبصار 93/34:1.
3- الوسائل 195:1 ب 22 من أبواب الماء المطلق ح 2 و 4 - التهذيب 703/244:1 و 702.
4- الوسائل 177:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 2 - الكافي 9/65:3 - التهذيب 426/149:1.
5- مدارك الأحكام 88:1.
6- مشارق الشموس: 232.

حجّة القول الأوّل: إطلاق الصحاح من الأخبار المذكورة عدا الأخير الّذي هو ساكت عن أصل الحكم، و عدم صلوح غيرها مستندا للحكم و إن تضمّن التعليق بالاغتسال في وجه.

حجّة القول الثاني، وجوه:

الأوّل: تعليق الحكم على الاغتسال في رواية أبي بصير فيحمل عليها غيرها حملا للمطلق على المقيّد.

و أورد عليه تارة: بضعف سند الرواية بعبد اللّه بن بحر، و اشتراك أبي بصير كما في المدارك(1).

و يردّه: أنّه مع انجباره بالشهرة غير قادح، إلاّ أن يمنع الشهرة أو استناد المشهور إلى تلك الرواية.

و اخرى: بعدم خروج الرواية منافية للأخبار المطلقة من حيث إنّ التقييد الوارد فيها إنّما هو من كلام السائل، و جوابه عليه السّلام عن ذلك المقيّد لا يقتضي نفي الحكم عمّا عداه.

و ثالثة: بمنع المنافاة أيضا المقتضية لوجوب الحمل، لجواز وجوب السبع لكلّ من الوقوع و الاغتسال معا.

و توضيحه: أنّه ليس المقيّد هنا نظير قولك: «أعتق رقبة مؤمنة» في مقابلة قولك:

«أعتق رقبة» ليكون مفاد الأوّل بحسب المنطوق الوجوب التعييني المنافي للوجوب التخييري المستفاد من الثاني.

و المفروض عدم حجّيّة مفهوم القيد ليكون مفاده انتفاء الحكم عند انتفاء القيد المعلّق عليه المنافي لمنطوق المطلق، و قضيّة الجمع بين المطلق و المقيّد في العمل مع إمكانه كفاية كلّ من الأمرين في انعقاد الحكم، أو القول بأنّ المقتضي للحكم إنّما هو مطلق المباشرة، و التعليق على الاغتسال لكونه من أفرادها أو مستلزما لها، و هذا في غاية الجودة.

و ممّن أغرب في هذا المقام المحقّق الخوانساري في شرح الدروس حيث تعرّض لهذا الإيراد، ثمّ اعترض على نفسه بقوله:

«فإن قلت: ليس المراد أنّه ممّا يجب فيه حمل المطلق على المقيّد حتّى يشترط المنافاة، بل أنّ التقييد بالاغتسال قرينة على أنّ المراد في الروايات الاخر من الوقوع

ص: 695


1- مدارك الأحكام 88:1.

و النزول و الدخول الاغتسال، مع أنّ له ظهورا في الجملة أيضا بحسب العرف، سيّما مع تأييده بالأصل».

فدفعه بقوله: «قلت: هذا لا يصلح قرينة أيضا، لأنّ التقييد بالاغتسال ليس في كلامه عليه السّلام بل السائل إنّما سأل عن الاغتسال و أجاب عليه السّلام بنزح السبع، فيجوز أن يكون أمره عليه السّلام بالنزح فيه لأنّه من أحد أفراد الوقوع و هو ظاهر، مع أنّ الرواية غير نقيّ السند، و ما ذكرته من ظهور الدلالة بحسب العرف ممنوع، و التأييد بالأصل لا وجه له بعد ورود الروايات الصحيحة بخلافه»(1) انتهى.

و فيه: أنّ منع التنافي على مدّعي الحمل في معنى منع صلاحية التقييد قرينة على كون المراد بالأفعال المذكورة خصوص الاغتسال، فلا يسوغ إبداء هذا الاحتمال لمن يسلّم المنع المذكور، ضرورة أنّ قرينة المجاز عبارة عمّا يعاند ظهوره لظهور اللفظ في معناه الحقيقي بحسب إرادة المتكلّم مع كونه أقوى من ظهور اللفظ في نظر العرف و العادة، و لا نعني من التنافي في مسألة وجوب حمل المطلق على المقيّد إلاّ ما يكون من هذا الباب، فلا فرق بين الاحتمالين في اشتراط المنافاة، غاية الأمر حصول الفرق بينهما بلزوم التجوّز في الألفاظ المذكورة على الاحتمال الثاني، لابتنائه على فرض كون المستعمل فيه الاغتسال بقيد الخصوصيّة الّذي هو فرد من كلّ واحد من تلك الأفعال، بخلافه على احتمال الحمل الّذي هو أوّل الاحتمالين، بناء على ما تقرّر في محلّه من أنّه لرجوعه إلى إطلاق الكلّي على الفرد - من حيث انطباقه لا من حيث الخصوصيّة - لا يستلزم تجوّزا في اللفظ.

و الثاني: أنّه لو لا الحمل على الاغتسال لم يكن للنزح وجه، إذ المفروض خلوّ بدنه عن النجاسة العينيّة من منيّ أو غيره، أمّا غير المنيّ فواضح، و أمّا هو فلأنّ المني ممّا يجب له نزح الجميع فلا معنى لإيجاب السبع منه، و قضيّة ذلك عدم كونه لأجل النجاسة، فتعيّن أن يكون لزوال الطهوريّة الحاصلة من الاغتسال، فظهر الاشتراط به و هو المطلوب.

و فيه أوّلا: منع انحصار سبب النزح في عروض النجاسة أو زوال الطهوريّة، لجواز كونه للتعبّد المحض، أو لرفع القذارة الوهميّة الّتي تتنفّر عنها الطباع و نحو ذلك.

ص: 696


1- مشارق الشموس: 232.

و ثانيا: منع اقتضاء مباشرة البدن للمني عدم لحوق الحكم بنزح السبع به، و القول بنزح الجميع في المنيّ ليس إلاّ من جهة دخوله في عنوان ما لا نصّ فيه، و الروايات المذكورة على تقدير استفادة كون ذلك الحكم لأجل مباشرة البدن للمنيّ بملاحظة الحمل على الغالب - على ما قيل من أنّ الغالب عدم انفكاك بدن الجنب عن نجاسة المنيّ - تصلح نصّا بالقياس إليه، فتخرج به عن العنوان المذكور، و معه لا مانع لإيجاب السبع له.

و قد يجاب أيضا: بمنع انحصار الأسباب المقتضية للتنجيس في الامور المعهودة في مظانّها، لجواز كون بدن الجنب أيضا ممّا اعتبره الشارع منجسا للماء كسائر الأسباب المنجّسة له.

و فيه: من البعد ما لا يخفى، بل ينبغي القطع الضروري بفساده، كيف و لو صحّ ذلك لاطّرد الحكم بالتنجيس، فكان القليل من الراكد أولى بالتنجّس من جهته، و وجب تنجّس ما يلاقيه برطوبة من الأجسام الطاهرة لأنّ هذا هو معنى النجس، و كونه نجسا بالقياس إلى شيء دون آخر ممّا لم يعهد له نظير في الشريعة.

و الثالث: أنّ الأخبار و إن كان أكثرها مطلقة لكن إطلاقها ينصرف إلى صورة الاغتسال، بل لو ادّعي انصرافها بحكم غلبة الوجود إلى الارتماس لم يكن بعيدا، كما هو ظاهر لفظ «الوقوع» في رواية الحلبي، و هذا لو تمّ لكان في غاية المتانة، و به يدفع ما تقدّم من احتجاج أهل القول الأوّل بإطلاق تلك الأخبار، و يرتفع الحاجة إلى أن يقال في اشتراط الاغتسال بأنّ العمل بإطلاق الأخبار ليس مشتهرا بين الأصحاب، و يورث ذلك شبهة عظيمة في تعيين معناها فيندرج المقام في ما يكتفى فيه بالقدر المتيقّن أو المظنون.

لكن دعوى الانصراف غير خالية عن الإشكال، لعدم إمكان العلم به إلاّ بعد العثور بمنشئه و هو الغلبة وجودا أو إطلاقا و لا سبيل لنا إلى ذلك، كيف لا و لم يعهد عندنا فيما نعلم دخول الجنب أو نزوله في البئر فضلا عن كون الغالب فيه الاغتسال، فإحراز الغلبة إن كان و لا بدّ منه لا يتأتّى حينئذ إلاّ بملاحظة حال زمن الصدور أو بلد الخطاب، و هو أيضا كما ترى غير متيسّر.

نعم، لو كان مورد الروايات الاغتسال في البئر أو بماء البئر و نحو ذلك لكان ثبوت الانصراف إلى الارتماس كما ادّعاه المستدلّ في آخر كلامه بلا إشكال؛ لا من جهة

ص: 697

غلبة الوجود حتّى يتوجّه ما أشرنا إليه من عدم العلم بالوجود؛ بل لأنّ ذلك من مقتضى الهيئة التركيبيّة العارضة لخصوص هذه المفردات بحسب العرف كما يشهد به الوجدان السليم، لكن مفروض المقام ليس من هذا الباب.

فإن قلت: المركّب قد يتبادر منه بنفس معناه التركيبي معنى مفرد كما في قولك:

«دخلت الحمام» و «اشتريت الثوب» و نحوه المتبادر منه التنظيف و اللبس، فلم لا يجوز أن يكون القضيّة الواردة في الأخبار المطلقة من هذا الباب؟

قلت: فهم المعنى الخارج عن أجزاء القضيّة لا بدّ له من مقتض، و هو إمّا غلبة وجود أو إطلاق قد عرفت عدم ثبوتها هنا، أو لزوم عرفي كما في المثال المذكور و نظائره، حيث إنّ المعنى الخارج المتبادر الّذي هو التنظيف أو اللبس إنّما يتبادر من جهة كونه في العرف و العادة غاية، و بملاحظة أنّ وضع الحمّام للتنظيف و وضع الثوب للبس، و هذا المعنى فيما نحن فيه أيضا منتف، لعدم كون وضع البئر لاغتسال الجنب فيها حتّى يكون الاغتسال متبادرا من قضيّة قوله عليه السّلام: «فإن وقع فيها جنب» أو «إذا دخل الجنب البئر» و نحوه نظير تبادر الغايات من القضايا العرفيّة.

نعم، ربّما يمكن استفادة ذلك من هذه التراكيب بملاحظة خارج آخر، و هو ما في صحيحة ابن أبي يعفور من قوله عليه السّلام: «و لا تقع في البئر» الظاهر أو الصريح في الاغتسال أو كونه للاغتسال، فإنّ ظاهر هذا الكلام بقرينة كونه في سياق الاغتسال يدلّ على كونه بالنسبة إلى هذا المعنى اصطلاحا معهودا لديهم، و حينئذ يترتّب عليه الانصراف إلى الارتماس.

و بذلك يظهر صدق مقالة قدماء الأصحاب في اعتبار الارتماس، و يتعيّن كون مرادهم به ما يحصل معه الاغتسال، و إن كان قد يناقش في ذلك بأنّ هذا الظهور - لو سلّم - لا ينافي ظهور رواية أبي بصير في الترتيب، فيجمع بينهما على تقدير اعتبار السند و الدلالة بكون كلّ من الفردين سببا للحكم، لا بحمل المطلق على المقيّد كما توهّم، و هذا الظهور كما ترى ممّا لا يعرف له مستند إلاّ باعتبار لفظة «من» المذكورة فيها على خلاف لفظة «في» الظاهرة في الارتماس.

و يزيّفه: أنّ لفظة «من» هنا ابتدائيّة نشويّة نظير ما في قولك: «فهمت منه» و «علمت

ص: 698

منه» و «أردت من اللفظ كذا و كذا» فيكون للأعمّ من الترتيب و مقابله.

الجهة الثانية: في أنّ النزح الواجب على تقدير كونه للاغتسال ارتماسا هل هو لنجاسة ماء البئر بسببه، أو لزوال الطهوريّة عنه، أو أنّه تعبّد صرف؟

الجهة الثانية: في أنّ النزح الواجب على تقدير كونه للاغتسال ارتماسا هل هو لنجاسة ماء البئر بسببه، أو لزوال الطهوريّة عنه(1)، أو أنّه تعبّد صرف؟

وجوه بل أقوال.

اختار أوّلها العلاّمة في المختلف(2)، بناء على مذهب الشيخين(3) من سلب الطهوريّة عن الماء المستعمل في الحدث الأكبر، و هو المحكيّ عن صريح المعتبر(4) تارة و ظاهره اخرى(5).

و ثانيها: محكيّ عن كتب ثاني الشهيدين(6)، و يلوح الثالث عن كلام جماعة كما في المدارك(7)، و هذا هو الأقوى و الموافق للأصول القويمة السليمة عمّا يصلح معارضا و لا رافعا لها، بل الأوّل من الأقوال ممّا ينبغي القطع ببطلانه لما تقدّم من أنّ حدوث النجاسة بغير سبب يقتضي التنجيس غير معقول.

و القول بكون الروايات محمولة على الغالب من عدم انفكاك بدنه عن النجاسة.

يدفعه: منع هذه الغلبة في الجنب الواقع أو الداخل أو النازل في البئر، و مع تسليمها مطلقا فليس عليها مدار القول بالنجاسة، ضرورة منافاتها لما حكي عن الشهيد من أنّ ظاهره أنّ علّة النزح هي النجاسة لكن بشرط الاغتسال، فإنّ استناد النجاسة إلى النجاسة الخارجيّة العارضة للبدن بحكم الغلبة يقتضي عدم الفرق بين تحقّق الاغتسال و عدمه بعروض النجاسة للماء بمطلق المباشرة فيلغو الاشتراط.

كما أنّ القول بأنّ ما ذكر استبعاد مدفوع بالنصّ، يدفعه: أنّ الاستبعاد لا يرتفع

ص: 699


1- ينبغي أن تكون العبارة هكذا «... هل هو لزوال الطهوريّة عنه أو لنجاسة ماء البئر بسببه... الخ» حتّى يستقيم ما سيجيء منه قدّس سرّه من قوله: «و ثانيها: محكيّ عن كتب ثاني الشهيدين الخ»، لأنّ الشهيد رحمه اللّه من القائلين بكون العلّة في وجوب النزح هو نجاسة البئر و إن كان بدنه خاليا من النجاسة، انظر: (روض الجنان: 154).
2- مختلف الشيعة 220:1.
3- المقنعة: 67 - النهاية 202:1 حيث قال: «و لا بأس باستعمال المياه و إن كانت قد استعملت مرّة اخرى في الطهارة، إلاّ أن يكون استعمالها في الغسل من الجنابة أو الحيض، أو ما يجري مجراهما، أو في إزالة النجاسة».
4- المعتبر: 21 حيث قال: «و ما يرفع به الأكبر طاهر و في رفع الحدث به ثانيا قولان، المرويّ المنع...».
5- المعتبر: 22 حيث قال: «و الأولى عندي تجنّبه و الوجه التفصّي من الاختلاف و الأخذ بالاحتياط».
6- روض الجنان: 154 - الروضة البهيّة 270:1.
7- مدارك الأحكام 88:1.

بمجرّد النصّ بل يتوقّف على دلالته الواضحة المعتبرة، و لا سبيل لأحد إلى إحراز تلك الدلالة في نصوص المقام، كيف لا و قصارى ما فيها إنّما هو الدلالة على وجوب النزح بعد تسليمها و هي أعمّ، و العامّ لا يصلح دليلا على الخاصّ، و ما تقدّم منّا من دعوى نهوض الدلالة عرفا في الأوامر الواردة في باب المياه و غيرها من سائر التطهيرات و كذلك نواهيها على كونها لأجل النجاسة لا التعبّد الصرف إنّما نقول به فيما لم يصادف الأمر ما يوجب وهنه في تلك الدلالة، و من الموهنات القائمة في المقام عدم معهوديّة مقتض للنجاسة في الشريعة يختلف فيه الأشياء، و لا سيّما المياه القابلتين للتنجّس.

و كون ذلك الاختلاف إنّما نشأ عن قصور ماء البئر في القوّة العاصمة عن الانفعال فلذا ينفعل كرّه بملاقاة مطلق النجاسة.

يفسده: أنّ ماء البئر ليس بأضعف من المضاف و هم لا يقولون بانفعاله بمباشرة الجنب و لو بقصد الاغتسال.

و كون ذلك مستندا إلى الفرق في أنّ المضاف لا يرفع الحدث - مع أنّه باطل بأنّ التحقيق كما سيأتي أنّ الحدث لا يرتفع بهذا الاغتسال أيضا - ينفيه: أنّ رفع الحدث حيثيّة في الماء تكشف عن زيادة القوّة فكيف تصلح أمارة لما هو ملزوم للقصور و الضعف؟ مع أنّ المقتضي لهذا الحكم إن كان هو رفع نوع الحدث فهو منقوض بالأحداث الاخر من الحيض و الاستحاضة و النفاس، و إن كان هو رفع حدث الجنابة خاصّة فيؤول الكلام إلى دعوى: أنّ من المنجّسات الثابتة في الشريعة رفع حدث الجنابة، و هذا كما ترى حكم كلّي قاطع للأصول المحكمة شرعيّة و عقليّة فكيف يمكن إثباته بمثل هذه الدلالات الضعيفة، مع أنّ في ثبوتها ألف كلام و فيه مخالفة للشهرة أيضا.

و بجميع ما ذكر يندفع ما قيل في تقريب القول بالنجاسة من استظهاره من ظاهر لفظ «الإفساد» الوارد في صحيحة ابن أبي يعفور، بدعوى: «أنّ ظاهره عدم ترتّب أثر عليه فلا يطهّر من الحدث و لا الخبث؛ بل ظاهره عدم الصلاح فيه رأسا فلا يصلح للشرب أيضا، و هذه الامور من لوازم النجاسة»(1) انتهى.

مع ما فيه من منع ظهور تلك اللفظة في هذا النحو من عموم الحكم، بل قصارى ما

ص: 700


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 238:1.

فيه الدلالة على قضيّة مهملة مردّدة بين امور قد تقدّم الإشارة إلى جملة منها في مسألة انفعال البئر و عدمه، و أظهر تلك الامور كون المراد بالفساد هنا زوال الطهوريّة عن الماء في زعم من ليس منّا كما يومئ إليه التعبير بلفظة «القوم» الظاهرة أو المحتملة احتمالا مساويا لكون المراد بهم العامّة القائلة بسلب الطهوريّة في الماء المستعمل.

و بذلك - مضافا إلى ما حقّقناه في الماء المستعمل - يظهر منع القول بكون علّة النزح هنا زوال الطهوريّة عن ذلك الماء، فإنّ ذلك أيضا يفتقر إلى دلالة قويّة فكيف يثبت بالدلالات المدخولة.

و ما اخترناه من التعبّد الصرف إنّما هو أخذ بالقدر المتيقّن المتّفق عليه من تلك الدلالات، فإنّ الوجهين الأوّلين أيضا مبنيّان على التعبّد، غير أنّهما لاشتمالهما على اعتبار أمر زائد وجودي أو ارتفاعي منفيّان بمخالفة الاصول و قصور الدلالة الواردة على خلافها الغير الصالحة لقطعها.

و من المقالات المخرجة على خلاف الأصل و الاعتبار ما حكي عن بعض القائلين بنجاسة البئر من القول بأنّه: «إن اغتسل مرتمسا طهر بدنه من الحدث و نجس بالخبث، و إن اغتسل مرتّبا أجزأه غسل ما غسله قبل وصول الماء إلى البئر إن كان خارجا عن الماء و إلاّ فما قارن به النيّة خاصّة».

و هو كما ترى، مع ما عن الشهيد(1) الموافق له في القول بالنجاسة من الاعتراض عليه في صورة الترتيب من أنّ الحكم معلّق على الاغتسال و لا يتحقّق إلاّ بالإكمال.

الجهة الثالثة: اختلفوا في ارتفاع الحدث عن هذا المغتسل و عدمه،

فقيل: بالأوّل لتحقّق الامتثال و عدم استلزام الأمر بالنزح النهي عن الاستعمال، و قيل: بالثاني و حكي اختياره عن المحقّق الشيخ عليّ (2) محتجّا عليه بأنّ خبر عبد اللّه بن أبي يعفور صريح في النهي عن الوقوع في البئر، و ذلك مقتض لفساد الغسل.

و عن الشهيد الثاني أنّه أجاب: «بمنع أنّ النهي عن العبادة، بل عن الوقوع في الماء و إفساده، و هو إنّما يتحقّق بعد الحكم بطهر الجنب لا بمجرّد دخوله في البئر، فلا يضرّ هذا النهي لتأخّره و عدم كونه عن نفس العبادة»(3).

ص: 701


1- روض الجنان: 154.
2- جامع المقاصد 143:1.
3- روض الجنان: 154.

و تنظر فيه سبطه في المدارك: «بأنّه رحمه اللّه قد حقّق فيما سبق أنّ المراد بالوقوع الغسل، حملا للمطلق على المقيّد، فيكون النهي متوجّها إليه خاصّة، و الفساد و إن كان مترتّبا على الغسل و متأخّرا عنه عند القائل به إلاّ أنّ المفسد له في الحقيقة هو الغسل، و ليس بعده فعل يمكن توجّه النهي إليه، و إنّما الموجود أثر ذلك الفعل» انتهى(1).

و الّذي يساعد عليه النظر فساد ذلك الغسل و إن لم نحمل «الوقوع» عليه، إن كان المراد بالإفساد المنهيّ عنه سلب الطهوريّة عن الماء - و كان المورد نظير مورد الرواية في كون البئر ممّا تعلّق به ملك الغير على جهة الاختصاص أو الاشتراك - فإنّه بهذا المعنى - مع الشرط المذكور - من آثار الغسل و معلولاته، و من المحقّق في محلّه أنّ مقدّمة الحرام محرّمة سيّما إذا كانت علّة تامّة له.

و لا يجدي في رفع المحذور عدم مقارنة الغسل لنيّة الإفساد إن أمكن الانفكاك بينهما في حقّ العالم بالحكم، لأنّ قصد العلّة في حكم العقل كاف في قصد المعلول.

نعم، على تقدير كون المراد بالإفساد معنى آخر من نشر التراب في الماء و جعله كدرا و نحو ذلك أمكن منع العلّيّة، نظرا إلى أنّه حينئذ ليس من آثار حيثيّة الغسل، و إنّما هو من آثار الوقوع و إن لم يقارنه الغسل، و لكنّه لا يجدي نفعا إلاّ إذا لم يتّحد الكونان بحسب الوقوع الخارجي.

و ربّما أمكن منعه بدعوى: أنّ الإفساد حينئذ و إن كان مترتّبا على الوقوع لكنّه من حيثيّة الغسل بمنزلة الجنس و هي بمنزلة الفصل، و لا ريب أنّ الجنس و الفصل متّحدان في الوجود الخارجي، فليس للفصل وجود سوى وجود الجنس، فالنهي متعلّق بإيجاد هو بعينه إيجاد للغسل، و معه لا يمكن تعلّق الأمر به، ضرورة استحالة اجتماع الأمر و النهي.

و يمكن دفعه: بمنع اتّحاد الكونين، و منع كون الغسل فصلا للوقوع، بدعوى: أنّ الإفساد يترتّب على الوقوع سواء وجد معه الغسل أو لا، فهو أمر زائد على كلّ من اللازم و الملزوم، و ما هذا شأنه لا يكون لازما لشيء منهما و لا ملزوما له، فلا يسري إليه النهي لا أصالة و لا تبعا.

و فيه: منع نفي كون الغسل ملزوما للوقوع، كيف و هو من مقدّماته إن لم يقارن نيّته

ص: 702


1- مدارك الأحكام 90:1.

لأوّل الوقوع و إلاّ فيتّحدا في الوجود الخارجي، و من البيّن أنّ المقدّمة من لوازم ذيها، فإذا كانت منهيّا عنها لكونها علّة للإفساد المنهيّ خرجت عن كونها مقدورة من جهة الشرع، لأنّ المنع الشرعي كالمنع العقلي، و من المحقّق عند العقل أنّ الواجب المطلق بالقياس إلى القدرة على مقدّماته الوجوديّة مشروط كالقدرة على نفسه، فهو فاقد للأمر عند انتفاء القدرة عنه أو عن إحدى مقدّماته، و معه لا يعقل فيه الصحّة المقصودة في العبادات.

لكن هذا إنّما يتمّ في المقدّمة المنحصرة كما في مورد الرواية، و أمّا في غيرها كما لو تمكّن عن الغسل بطريق آخر غير الوقوع في البئر فلا يلزم من عدم مقدوريّة إحدى مقدّماته انتفاء الأمر عنه رأسا، و قضيّة ذلك وقوعه صحيحا و بوصف كونه مأمورا به، و إن كانت مقدّمته قد حصلت بوصف كونها منهيّا عنها، غاية ما هنا لك عدم تعلّق الوجوب المقدّمي - على القول به كما هو الحقّ - بتلك المقدّمة، و من البيّن أنّ عدم وجوب فرد من المقدّمة لمانع لا يقضي بعدم وجوب ذيها.

ثمّ كلّ ذلك إنّما يتوجّه إذا كان الإفساد بهذا المعنى ممّا تعلّق به النهي، كما لو تحقّق الوقوع و الغسل في حقّ الغير الّذي يعلم من حاله أنّ هذا الّذي يترتّب عليهما إفساد في نظره، و إلاّ فأصل الوقوع و الإفساد ليسا بمنهيّ عنهما فلا مانع حينئذ من الصحّة.

و بذلك يعلم أنّ البئر في مورد الرواية كانت ملكا للغير أو ممّا تعلّق به ملك الغير أيضا، ككونها من مشتركات المسلمين كافّة و لو بعنوان الوقف دون الملك المطلق، أو من مشتركات قوم منهم من غير فرق بين حمل «الإفساد» على إرادة سلب الطهوريّة أو غيره ممّا أشرنا إليه، و إن كان يجب الحمل على الثاني بقرينة خارجيّة غير ما تقدّم الإشارة إليه، و هي: أنّه لو لا ذلك لزم من وجود الشيء عدمه، و أنّه محال.

و بيان الملازمة: أنّ كون ماء البئر مستعملا في رفع الحدث وصف لا ينعقد في الخارج إلاّ إذا وقع الغسل صحيحا، و صحّة الغسل مع فرض كونه علّة للإفساد بهذا المعنى المنهيّ عنه غير معقولة كما تقدّم، فإذا لم يقع على وصف الصحّة لم ينعقد الوصف المذكور في الخارج؛ و قضيّة استحالة ذلك خروج النهي لغوا يجب تنزيه كلام الحكيم عنه، و لا يتأتّى ذلك إلاّ بحمل «الإفساد» على غير المعنى المذكور، و إذا اعتبر مع ذلك عدم كون البئر ممّا تعلّق به حقّ الغير خرج محلّ البحث عن مورد الرواية

ص: 703

بالمرّة، إذ ليس الكلام فيما لو تحقّق الغسل في ملك الغير أو ما تعلّق به حقّه؛ و لا ريب أنّ إفساد المالك و في حكمه المأذون ماء بئره بأيّ معنى اريد منه ليس بمنهيّ عنه، و إذا انضمّ إليه حيثيّة كونه في ملك الغير أو ما تعلّق به حقّ الغير مع عدم الإذن فيه لا مالكيّا و لا شرعيّا فعدم الصحّة إنّما هو من حيثيّة اخرى و هي التصرّف العدواني في ملك الغير، لا لحيثيّة كونه للإفساد و سلب الطهوريّة.

و كيف كان فالحقّ: أنّ الغسل صحيح، إذ لا موجب لتوهّم فساده إلاّ وجوب النزح على فرضه، و هو غير مستلزم له عقلا و لا شرعا و هذا ممّا لا تعلّق له بمورد الرواية حتّى يصحّ التعلّق بها في إبداء القول بالفساد، و إنّما هي محمولة على مورد لم يكن محلّ البحث منه جزما.

و من هنا اتّضح زيادة على ما مرّ في الجهة الثانية أنّ علّة وجوب النزح الوارد في الأخبار المطلقة ليست سلب الطهوريّة عن الماء، إذ لا دليل عليه لمن توهّم ذلك إلاّ الرواية المذكورة و قد عرفت أنّها ممّا لا تعلّق له بمحلّ البحث و بمسألة وجوب النزح أصلا، و نحن إنّما ذكرناها هنا من جهة دفع بعض الكلمات المتعلّقة بها الصادرة عنهم هنا لا من جهة أنّ لها مدخليّة بموضع البحث هذا، و تدبّر.

الجهة الرابعة: عن جماعة من الأصحاب أنّهم اشترطوا خلوّ بدن الجنب عن نجاسة عينيّة ليتمّ الاكتفاء بالسبع،

إذ لو كان عليه نجاسة لوجب مقدّرها إن كان و إلاّ فعلى ما اختلف فيه من حكم ما لا نصّ فيه؛ و عن العلاّمة في المنتهى(1) التوقّف في الاشتراط، و إن كانت هذه النسبة لا تخلو عن نظر، لعدم دلالة كلامه على أنّه متوقّف في أصل المسألة، و إن كان لا يخلو عن المناقشة من جهة اخرى حيث توهّم اختصاص النجاسة العينيّة المشترط خلوّها بالمنيّ كما لا يخفى على المتأمّل.

و على أيّ حال كان فالحقّ ما صار إليه الجماعة من قضيّة الاشتراط، نظرا إلى أنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها و هي ممّا تختلف باعتبار الحيثيّات؛ و الظاهر أنّ الأخبار الواردة في المقام معلّقة على حيثيّة الجنابة فلا تدخل فيها الحيثيّات الاخر، و لا يعقل

ص: 704


1- منتهى المطلب 89:1.

في الخطاب الوارد لبيان حكم حيثيّة مخصوصة إطلاق بالقياس إلى غيرها من الحيثيّات المستقلّة بأحكام اخر، و قد تقدّم تقريب هذا الاستدلال في بحث موت الإنسان.

و من هنا يعلم اختصاص الحكم باغتسال غير الكافر، و أمّا هو فاغتساله يندرج في عنوان ما لا نصّ فيه إن لم يثبت في الشريعة لنجاسة الكفر بالنسبة إلى منزوحات البئر حكم بالخصوص، و إلاّ فالواجب إجراء حكمه، و أمّا الذكر و الانثى فالظاهر من الإطلاق عدم الفرق بينهما كما هو كذلك بالقياس إلى المخالف و المؤمن، و اللّه أعلم.

المسألة التاسعة: فيما ينزح له خمس،

و هو مقصور في فتاويهم على ذرق الدجاج، لكن عن مقنعة(1) المفيد و جماعة آخرين تقييده بالجلاّل، بل في الحاشية الميسيّة على الشرائع(2) أنّ المشهور اختصاص النزح بالجلاّل منه، و عن التذكرة(3): «أنّ الأكثر قيّده بذلك»، و عن نهاية الشيخ(4) و جماعة غير الأوّلين عدم تقييده بذلك، بل عن الروضة(5)و الروض(6): «أنّه المشهور».

و لم نعرف دليل هذا الحكم في شيء من القولين بل في كلام غير واحد الاعتراف بعدم الوقوف على دليل عليه، و إن شئت لاحظ العلاّمة في المنتهى قائلا: «و لم أقف على حديث يدلّ على شيء منهما»(7).

و عن معتبر المحقّق: «و في القولين إشكال أمّا الإطلاق فضعيف، لأنّ ما ليس بجلاّل ذرقه طاهر، و كلّ رجيع طاهر لا يؤثّر في البئر تنجيسا، أمّا الجلاّل فذرقه نجس لكن تقدير نزحه بالخمس في موضع المنع و نطالب قائله بالدليل»(8).

و في المدارك: «و لم أقف على نصّ يقتضي النزح لذلك»(9).

لكن في حاشية هذه العبارة للعلاّمة البهبهاني: «الظاهر أنّ المفيد رحمه اللّه و مثله ممّن حكم بهذا الحكم كان لهم نصّ»(10) انتهى.

و يمكن تأييد القول الآخر بأنّ فتوى الشيخ في النهاية بمنزلة الرواية المرسلة، بناء

ص: 705


1- المقنعة: 68، و في هامش المقنعة: عن بعض النسخ «الدجاج الجلاّلة».
2- حكاه عنه في مفتاح الكرامة 118:1.
3- تذكرة الفقهاء 27:1.
4- النهاية 209:1.
5- الروضة البهيّة 42:1.
6- روض الجنان: 154.
7- منتهى المطلب 94:1.
8- المعتبر: 18.
9- مدارك الأحكام 92:1.
10- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 142:1.

على ما حكي عن صريح كلامه فيها من أنّه لا يفتي فيها إلاّ بمتون الروايات من دون تغيير أو مع تغيير يسير، و إذا ثبتت الشهرة المدّعاة على هذا القول كانت جابرة لإرسالها، فهذا القول متعيّن لكن على تقدير صحّة الحكايتين.

و أمّا ما عرفت عن المعتبر من المناقشة فيه، فيدفعه أوّلا: ما في المدارك(1) من تقييد هذا القول بالبناء على القول بنجاسة الذرق، فإن كان القول بالنزح هنا ممّا لا بدّ من دفعه فلا بدّ من بناء دفعه على منع ما هو مبنيّ عليه كما منعه في الكتاب المذكور.

و ثانيا: بأنّ مرسلة النهاية على تقدير صحّة الحكايتين كما أنّها تصلح مستندة للنزح تصلح مستندة لنجاسة الذرق، فتأمّل.

و ثالثا: بأنّ الحكم بالنزح قد يكون لمحض التعبّد كما هو الحال في اغتسال الجنب على ما تقدّم، و لا سيّما على مذهب الشيخ القائل بالوجوب التعبّدي في سائر النجاسات، فعلى فرض ثبوت المرسلة و اعتبارها اتّضح مستند الحكم و إن قلنا بمنع الملازمة بين إيجاب النزح و نجاسة الموجب كما أشرنا إلى إمكانه في الأمر بالتأمّل.

و احتمل بعضهم الاستناد إلى الإجماع، كما نقل ادّعاؤه في الروض(2) على عدم وجوب الزائد على الخمس، مع ضميمة أنّ الأقلّ غير مبرئ للذمّة بعنوان اليقين.

و نوقش فيه بمخالفة أبي الصلاح، فإنّه قال: «بأنّ خرء ما لا يؤكل لحمه يوجب نزح الماء»(3).

و فيه: ظهور كلام أبي الصلاح فيما لا يؤكل لحمه بأصل الشرع لا من جهة العارض، هذا مع ما قيل في دفعها من أنّ المخالفة من معلوم النسب غير مضرّة في انعقاد الإجماع على رأي القدماء و من وافقهم.

و ممّا بيّنّاه يتبيّن ضعف ما يوهمه كلام بعضهم من لحوق ذرق الدجاج الجلاّل بمورد كلام أبي الصلاح الّذي لا مدخل له بالمقام.

و أضعف منه ما في المدارك من قوله: «و استقرب المصنّف في المعتبر دخوله في قسم العذرة»(4)، فاعترض عليه بقوله: «و فيه بعد»(5).

ص: 706


1- مدارك الأحكام 92:1.
2- روض الجنان: 155.
3- الكافي في الفقه: 130 نقلا بالمعنى.
4- مدارك الأحكام 92:1.
5- مدارك الأحكام 92:1.

و وجه ضعفه: أنّه ذكر ذلك في خرء ما لا يؤكل لحمه الظاهر فيما يكون كذلك أصالة المتّفق على نجاسته، لأنّه على ما في عبارة محكيّة له عن المعتبر قال - بعد ما ناقش في قولي المسألة بما تقدّم -: «و قال أبو الصلاح: خرء ما لا يؤكل لحمه يوجب نزح الماء، و يقرب عندي أن يكون داخلا في قسم العذرة ينزح له عشرون، فإن ذاب فأربعون أو خمسون، و يحتمل أن ينزح له ثلاثون لخبر المنجبرة»(1) انتهى.

و قد عرفت أنّ ما لا يؤكل لحمه في عبارة أبي الصلاح ظاهر فيما هو كذلك بأصل الشرع فكذلك ما ذكره المحقّق، بناء على أنّه إنّما نقل كلام أبي الصلاح هنا من جهة المناسبة لا من جهة تفريع المسألة على عنوان ما لا يؤكل لحمه، كيف لا و ذكره له من جهة التفريع يناقض ما ذكره أوّلا في دفع القولين في المسألة.

إلاّ أن يقال: بأنّه يناقض دفعه القول بالحكم فيما ليس بجلاّل دون دفعه القول به في الجلاّل، لأنّه دفع له في تقدير النزح بالخمس لا في دعوى النجاسة الّتي لا مجال لها في ذرق غير الجلاّل.

فيرد عليه حينئذ أوّلا: ما تقدّم من منع تعلّق المسألة بمورد كلام أبي الصلاح.

و ثانيا: ما أورده غير واحد من أنّ العذرة لغة فضلة الإنسان خاصّة، و نزح الثلاثين المستند إلى خبر المنجبرة و هو رواية كردويه المتضمّنة لوقوع ماء المطر المخالط بالبول و خرء الكلاب و غيرهما مختصّ بالأشياء المذكورة مع مخالطة ماء المطر، فالتعدّي عنها ممّا لا مسوّغ له.

و المراد بالجلاّل - على ما في المدارك -(2) المتغذّي بعذرة الإنسان محضا إلى أن يسمّى في العرف جلاّلا.

المسألة العاشرة: فيما ينزح له ثلاث، و هو الفأرة إذا لم يتفسّخ و لم تنتفخ،

أفتى به الشيخان(3)، و أبو الصلاح(4)، و سلاّر(5)، و ابن البرّاج(6)، و ابن إدريس(7)، على ما حكاه

ص: 707


1- المعتبر: 18.
2- مدارك الأحكام 92:1.
3- أي الشيخ الطوسي في النهاية انظر النهاية 208:1 و المبسوط 12:1 و الشيخ المفيد في المقنعة: 66.
4- الكافي في الفقه: 130.
5- المراسم العلويّة: 36.
6- المهذّب 22:1.
7- السرائر 77:1.

في المختلف(1)، خلافا لعليّ بن بابويه المحكيّ عنه في المختلف(2) أيضا الاكتفاء بنزح دلو واحد، و عن المرتضى على ما في المختلف(3) أيضا أنّه قال: ينزح لها سبعة دلاء؛ و قد روي ثلاثة و لم يفصّل.

و احتجّ الشيخ - على ما حكي عنه - و هو ظاهره بل صريحه في التهذيبين بما رواه فيهما من صحيحة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة و الوزغة تقع في البئر؟ قال: «ينزح منها ثلاث دلاء»(1).

و في معناها صحيحة عبد اللّه بن سنان(2) المرويّة فيهما، و توهّم إطلاق الوقوع الشامل لصورتي الموت و الخروج حيّا، يدفعه: انصرافه إلى الموت عرفا كما فهمه الشيخ و غيره من الجماعة.

و أمّا الروايات القاضية بنزح السبع فيها على الإطلاق فهي محمولة على صورة وجود الوصفين بقرينة ما تقدّم في المسألة الثانية من الروايات المقيّدة كما صنعه الشيخ في الكتابين(3)، حيث جمع بذلك بين الروايات المختلفة، فلذا صار في الفأرة إلى التفصيل في نزحها بالسبع و الثلاث بين صورتي وجود الوصف و انتفائه كما تقدّم بيانه.

و بما ذكر يظهر الجواب عن احتجاج المرتضى بالروايات المطلقة في السبع، فإنّ من وظيفة المطلق أن يحمل على المقيّد حيث يتعارضان.

و أمّا قول عليّ بن بابويه فلم يعرف حجّته كما اعترف به في المختلف(4)، و قد يلحق بها هنا امور:

منها: الحيّة، حكاه في المختلف(5) عن الشيخ(6).

و أبي الصلاح(7)، و سلاّر(8)، و ابني البرّاج(9)، و إدريس(10).

ص: 708


1- الوسائل 187:1 ب 19 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 688/238:1 - الاستبصار 106/39:1.
2- التهذيب 689/238:1.
3- التهذيب 238:1 ذيل الحديث 690.
4- مختلف الشيعة 205:1 و 213.
5- مختلف الشيعة 205:1 و 213.
6- المبسوط 12:1 - النهاية 208:1.
7- الكافي في الفقه: 130.
8- المراسم العلويّة: 35-36.
9- المهذّب 22:1.
10- السرائر 83:1.

و عن جماعة دعوى الشهرة فيه(1)، و عن السرائر: نفي الخلاف عنه(2).

و عن الغنية: الإجماع عليه(3)، و اختلفت الحكاية عن ابن بابويه ففي المختلف ينزح منها سبع دلاء، حكاه عنه في مسألة العقرب أيضا قائلا: «و قال عليّ بن بابويه في رسالته: إذا وقعت فيها حيّة، أو عقرب، أو خنافس، أو بنات وردان، فاستق منها للحيّة سبع دلاء، و ليس عليك فيما سواها شيء»(4).

و عن المحقّق في المعتبر(5) أنّه نقل عبارة الرسالة المذكورة بحيث كان فيها دلو واحد في موضع السبع.

و عن صاحب المعالم: «و فيما عندنا من نسخة الرسالة القديمة الّتي عليها آثار الصحّة «دلاء» بدون السبع»(6).

و عنه أيضا - عقيب الكلام المذكور المنقول بالمعنى -: «و على ما فيها ربّما لا يبقى في المسألة خلاف، لأنّ لفظ «الدلاء» لا يبعد حمله عند الإطلاق على الثلاث لما مرّ تقديره»(7) انتهى.

و اعترف غير واحد بعدم ورود نصّ فيها بالخصوص.

و عن المعتبر: «و يمكن الاستدلال بما رواه الحلبي في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال إذا سقط في البئر حيوان صغير فمات فيها فانزح منها دلاء»(8) فينزّل على الثلاث لأنّه أقلّ محتملاته(9).

و في المختلف: «احتجّ الأكثرون برواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فيما يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكبره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا، و أصغره العصفور ينزح منها دلو واحد(10).

و للحيّة يجب فيها أكثر من العصفور و إلاّ لم يختصّ القلّة بالعصفور، و إنّما أوجبنا نزح ثلاث لمساواتها الفأرة في قدر الجسم تقريبا.

ص: 709


1- كما في ذكرى الشيعة 98:1 - كشف اللثام 345:1.
2- السرائر 83:1.
3- غنية النزوع: 49.
4- مختلف الشيعة 212:1.
5- المعتبر: 18.
6- فقه المعالم 243:1 نقلا بالمعنى.
7- فقه المعالم 243:1 نقلا بالمعنى.
8- الكافي 7/6:3 - الوسائل 180:1 ب 15 من أبواب الماء المطلق ح 6.
9- المعتبر: 18.
10- التهذيب 678/234:1.

و بما رواه إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام أنّ عليّا عليه السّلام كان يقول:

«الدجاجة و مثلها يموت في البئر ينزح منها دلوان و ثلاثة»(1) و لا ريب أنّ الحيّة لا تزيد على قدر الدجاجة في الجسم»(2).

و اعترض على الاحتجاج بتلك الأخبار بأنّ الأحاديث الواردة في أنّ ما لا نفس له إذا وقع في البئر لا بأس به - كما في بعض - و لا يفسد الماء - كما في آخر - مخرجة للحيّة عن عموم تلك الأخبار، و من الأحاديث المذكورة ما حكاه في المختلف(3) من رواية عمّار الساباطي في حديث طويل عن الصادق عليه السّلام: و قد سئل عن الخنفساء، و الذباب، و الجراد، و النمل، و ما أشبه ذلك يموت في البئر و الزيت و شبهه قال: «كلّ ذلك ما ليس له دم فلا بأس»(4).

و منها: ما حكاه أيضا في الصحيح عن ابن مسكان عن الصادق عليه السّلام قال: «و كلّ شيء سقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس»(5).

و هذا الاعتراض إنّما يتّجه لو ثبت صغرى القياس و هو مذهب المشهور على ما في محكي شارح المفاتيح(6) من أنّها ليس لها نفس.

و عن الفاضل في شرح القواعد أنّه تشكّك فيه ثمّ قال: «و يمكن اختلاف أنواعها»(7) انتهى.

لكن صرّح جماعة من فحول أصحابنا بأنّ لها نفسا، و من المصرّحين المحقّق - في عبارة محكيّة له - في المعتبر قائلا: «و الّذي أراه وجوب النزح في الحيّة، لأنّ لها نفسا سائلة و ميتتها نجسة»(8).

و منهم العلاّمة في المنتهى قائلا: «و الأولى عندي تعلّق الحكم، و هو نزح الثلاث بالحيّة دون غيرها، لوجود النفس السائلة لها دون غيرها و ميتتها نجس»(9).

و منهم من عاصرناه من فحول مجتهدينا المعاصرين قدّس سرّه على ما وجدناه في كلام له

ص: 710


1- الوسائل 186:1 ب 18 من أبواب الماء المطلق ح 3 - التهذيب 683/237:1.
2- مختلف الشيعة 214:1 و 213.
3- مختلف الشيعة 214:1 و 213.
4- التهذيب 665/230:1 و 832/284.
5- التهذيب 230:1-666/231.
6- مصابيح الظلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 528.
7- كشف اللثام 346:1.
8- المعتبر: 18.
9- منتهى المطلب 96:1.

في الكتاب المعمول في أجوبته عن الأسئلة المعروضة عليه(1)، و نقل عنه(2) أيضا أنّه أخبر التصريح عن بعض الأعلام أنّه امتحنها بالذبح فرأى أنّ لها نفسا سائلة، و من البيّن أنّ الاحتجاج بالأخبار المتقدّمة مبنيّ على هذا المذهب و معه لا وقع للاعتراض المذكور أصلا.

و عن عليّ بن بابويه أنّه احتجّ على إيجاب سبع بأنّها في قدر الفأرة أو أكبر، و قد بيّنّا أنّ في الفأرة سبع دلاء فلا يزيد الحيّة عليها للبراءة و لا ينقص عنها للأولويّة(3).

و ضعفه واضح، لمنع الأولويّة و عدم تأثير للبراءة بعد ملاحظة استصحاب النجاسة، و أمّا الاكتفاء بالدلو الواحد - على ما في المعتبر -(4) فلم نعرف له دليل، و أمّا على ما حكاه المعالم فاحتمل بعضهم الاستدلال عليه بصحيحة الحلبي المتقدّمة، بل بصحيحة الفضلاء، و رواية الفضل المتقدّمتين في بحث الفأرة من المسألة الثامنة.

و منها: الوزغة، أفتى بالثلاث فيها على ما في المختلف(5) الشيخان(6)، و ابن البرّاج(7)، و ابن حمزة(8)، و الصدوق(9)، و دليله على ما تقدّم في الفأرة من صحيحتي ابن عمّار، و ابن سنان، واضح.

لكن يشكل الحال في ذلك بعدم كون الوزغة - على ما صرّحوا به - من ذوات النفس ليوجب موتها نجاسة البئر، و لذا صار ابن إدريس - على ما عزى إليه - إلى منع وجوب النزح فيها، محتجّا: بأنّها لا نفس لها سائلة(10)، إلاّ على ما ذكره العلاّمة في المختلف في تقريب هذا القول من أنّه: «يجوز أن يكون الأمر بالنزح من حيث الطبّ بحصول الضرر في الماء بالسمّ لا من حيث النجاسة، و لا شكّ أنّ السلامة من الضرر أمر مطلوب للشارع، فلا استبعاد في إيجاب النزح لهذا الغرض»(11).

ص: 711


1- لم نجده في جامع الشتات - على ما فحصنا عنه في الجملة - و لعلّه يوجد مع شدّة الفحص.
2- غنائم الأيّام 569:1 حيث قال: «و سمعت ثقة قتلها و شاهد أنّ لها دما سيّالا في غاية القوّة كالسائل عن الفصد، و سمعت بعض مشايخنا أيضا أنّه سمع ثقة آخر كذلك».
3- مختلف الشيعة 214:1 و 210.
4- المعتبر: 18.
5- مختلف الشيعة 214:1 و 210.
6- أي الشيخ الطوسي في النهاية 208:1، و الشيخ المفيد في المقنعة: 67.
7- المهذّب 22:1.
8- الوسيلة: 75.
9- الفقيه 28/14:1.
10- السرائر 83:1.
11- مختلف الشيعة 212:1.

فإن تمّ ذلك اندفع به قول ابن إدريس أيضا و احتجاجه، و إلاّ لسرى الإشكال إلى الفأرة الّتي عطف عليها الوزغة في الرواية، و قضيّة ذلك استحباب النزح فيهما معا كما أفتى به المحقّق في الوزغة خاصّة على ما حكي عنه في المعتبر(1).

و في المسألة قول ثالث أو رابع محكيّ عن سلاّر(2) و أبو الصلاح الحلبي(3) و هو الاكتفاء بالدلو الواحد، احتجاجا بما في التهذيب و الفقيه عن يعقوب بن ميثم أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام فقال له: بئر ماء في مائها ريح يخرج منها قطع جلود، فقال: «ليس بشيء، لأنّ الوزغ ربّما طرح جلده، إنّما يكفيك من ذلك دلو واحد»(4).

و في معناها ما عن الكافي(5) في باب البئر.

و لا يخفى ما في هذا الاحتجاج من الوهن بعدم دلالة الروايتين على نفي الزائد لو وقع فيها الوزغ بنفسه، و إنّما هما تدلاّن على الاكتفاء بالواحد في جلده، و هو ليس من موضوع المسألة في شيء.

و منها: العقرب، حكي القول به عن الشيخ في النهاية(6)، و المبسوط(7)، و تبعه ابن البرّاج(8)، و أبو الصلاح(9)، و لم يتعرّض لها ابن حمزة، و سلاّر، و الشيخ المفيد، و قد تقدّم عن عليّ بن بابويه(10) ما يدلّ على عدم وجوب شيء فيها، و هو اختيار ابن إدريس(11).

حجّة الشيخ - على ما في المختلف - (12)ما رواه هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الفأرة و العقرب و أشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيّا هل يشرب من ذلك الماء أو يتوضّأ به؟ قال: «يسكب ثلاث مرّات، و قليله و كثيره بمنزلة واحدة، ثمّ يشرب منه و يتوضّأ منه غير الوزغ، فإنّه لا ينتفع ما يقع فيه»(13).

وجه الاستدلال: أنّ العقرب ينزح لها مع خروجها حيّة ثلاث دلاء فمع الموت أولى، مضافا إلى أنّ المقتضي للنزح في الوزغة و هو السمّ موجود في العقرب.

ص: 712


1- المعتبر: 18.
2- المراسم العلويّة: 36.
3- الكافي في الفقه: 130.
4- التهذيب 1325/419:1 - الفقيه 30/15:1، و فيها «يعقوب بن عثيم» بدل «يعقوب بن ميثم».
5- الكافي 9/6:3.
6- النهاية و نكتها 208:1.
7- المبسوط 12:1.
8- المهذّب 22:1.
9- الكافي في الفقه: 130.
10- حكاه عنه في مختلف الشيعة 212:1.
11- السرائر 83:1.
12- حكاه عنه في مختلف الشيعة 212:1.
13- التهذيب 690/238:1 - الوسائل 188:1 ب 19 من أبواب الماء المطلق ح 5.

و هذا من جهة ابتنائه على القياس الفاسد ضعيف جدّا، و العمدة هي الرواية، و فيها:

أنّ الأولويّة المدّعاة إنّما تنهض على تقدير دلالة الرواية على الوجوب و لعلّها في حيّز المنع، كما يرشد إليه العطف على الفأرة المخرجة حيّة المجمع على عدم وجوب النزح فيها، كيف و هو إمّا من جهة النجاسة فهي منتفية مع الحياة، أو من جهة شبهة السمّية الّتي انتفاؤها أوضح، و مع ذلك فهي على فرض الدلالة معارضة بعموم ما تقدّم في غير ذي النفس، و خصوص صحيحة ابن مسكان المتقدّمة عن الصادق عليه السّلام قال: «و كلّ شيء سقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس»(1) و هي صحيحة، و عمل بها العلاّمة(2) و غيره فتكون أرجح، و عليه يجمع بينها و بين ما تقدّم بحمله على الاستحباب كما صنعه العلاّمة في المختلف(3)، و بذلك يظهر الوجه في رواية منهال بن عمرو عن الصادق عليه السّلام قلت له: العقرب يخرج من البئر ميتة؟ قال: «استق عشرة دلاء»(4) و قد حملها الشيخ على الاستحباب(5)، كما في المختلف(6).

و عن المانعين عن وجوب النزح الاحتجاج: بأنّه حيوان لا نفس له سائلة فلا يجب بموته شيء كالذباب و الخنافس، و بالروايات المتقدّم إليها الإشارة في غير ذوات النفس، و هو في غاية الجودة.

المسألة الحادية عشر: فيما ينزح له دلو واحد، و هو أمران:
أحدهما: العصفور و ما أشبهه،

نسب القول به في المنتهى(7) إلى الشيخين (8)و أتباعهما(9)، و في كلام غير واحد نسبته إلى المشهور.

بل في شرح الدروس (10)- كما عن المعالم - (11)لم يعرف فيه خلاف.

ص: 713


1- التهذيب 231:1-666/230.
2- المختلف 212:1 حيث قال: «و هذا الحديث أصحّ ما رأيته في هذا الباب، و عليه أعتمد... الخ».
3- مختلف الشيعة 212:1.
4- الوسائل 196:1 ب 22 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 667/231:1.
5- التهذيب 667/131:1.
6- مختلف الشيعة 212:1.
7- منتهى المطلب 98:1.
8- أي الشيخ الطوسي في النهاية 208:1، و الشيخ المفيد في المقنعة: 67.
9- كابن البرّاج في المهذّب 22:1، و ابن إدريس في السرائر 77:1، و السلاّر في المراسم العلويّة: 35-36.
10- مشارق الشموس: 238.
11- فقه المعالم 249:1.

و عن الغنية: الإجماع عليه و على مماثله في الجسم من الطير(1).

نعم ربّما يستظهر الخلاف من الصدوقين، فعن الفقيه: «و أكثر ما يقع في البئر الإنسان» - إلى أن قال -: «و أصغر ما يقع في البئر الصعوة فينزح منها دلو واحد، و فيما بين الإنسان على قدر ما يقع منها» و عن أبيه: أنّه كذا قال في الرسالة(2).

و وجه المخالفة: أنّ الصعوة ليس بمطلق العصفور بل عصفور صغير، كما نصّ عليه في القاموس(3).

و قد يوجّه كلامهما على وجه يرتفع معه المخالفة و هو إمّا بإطلاق الخاصّ على العامّ، أو بأنّه لم يثبت كون الصعوة أخصّ فيكونان مترادفين.

و كيف كان فمستند المشهور رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام و ذكر الحديث - إلى أن قال -: «و أقلّ ما يقع في البئر عصفور ينزح منها دلو واحد»، و عمّار و إن كان فطحيّا لكن الرواية موثّقة، و مع ذلك فهي معتضدة بعمل المشهور بل الكلّ.

قال العلاّمة في المنتهى: «لكنّ الأصحاب قبلوا روايته و شهدوا له بالوثاقة»(4).

و بذلك تنهض الرواية مخصّصة للمعتبرة الاخر من الصحاح و غيرها القاضية بعضها بالدلاء في الطير، و الاخر بالسبع، و ثالث بالخمس، و رابع بالثلاث.

فما في المدارك(5) من الميل إلى الخمس أو الثلاث في الطير مطلقا لصحيحتي الفضلاء، و عليّ بن يقطين عن الباقر و الصادق و الكاظم عليهم السّلام، كما عن المعالم(6) من نفي البعد عن العمل بصحيحة الحلبي المتقدّمة في موت الحيّة لصغير الحيوان الشامل للعصفور، ليس ممّا يلتفت إليه، و قد يمنع(7) شمول الحيوان للطير و هو بعيد.

و عن بعض الأصحاب تفسير «العصفور» بما دون الحمامة، و قيل: و هو الظاهر من تفسيرهم «الطير» بالحمامة و نحوها ممّا فوقها، و هو كما ترى لا يلائم تفسيرهم

ص: 714


1- غنية النزوع: 49.
2- المعتبر: 18.
3- تاج العروس في شرح القاموس؛ مادّة «صعو» 209:10.
4- منتهى المطلب 98:1.
5- مدارك الأحكام 94:1.
6- فقه المعالم 249:1.
7- المانع هو صاحب المعالم رحمه اللّه حيث قال: «... لعدم دخول العصفور في لفظ الحيوان بالنظر إلى العرف... الخ» فقه المعالم 250:1.

ل «شبهه» بما يضاهيه في الجسم و المقدار.

و مع ذلك فيدفعه: ما في الرواية من التصريح بما يوجب خروج الحمامة و ما دونه إلى العصفور عن هذا الحكم، فإنّ فيها: «و ما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا، و أقلّه العصفور ينزح منها دلو واحد، و ما سوى ذلك فيما بين هذين»(1).

فإنّ المراد بأكثره إمّا الأكثريّة في الجثّة و المقدار كما يؤيّده ما في بعض نسخ الرواية من التعبير بأكبره، أو أكثريّة المنزوح كما يناسبه التعبير عمّا يقابله بالأقلّ في كلتا النسختين، و على التقديرين فمرجع اسم الإشارة الثانية إمّا أحد الأمرين من «الإنسان» و «العصفور» كما هو الظاهر، أو خصوص «العصفور»، و على التقديرين فالحكم عليه بكونه فيما بين هذين، مع ظهور المثنّى في التقديرين المذكورين في الرواية من السبعين و الواحد، مخرج لما عدا الحمامة ممّا فوقها إلى الإنسان و ما تحتها إلى العصفور عن هذين الحكمين.

و قضيّة ذلك عدم بلوغ مقدّره في الكثرة إلى السبعين و لا في القلّة إلى الواحد، و هو أمر مجمل يستفصل من الروايات، و مع ذلك فكيف يفسّر به «العصفور» حيث أنّه ليس بمعناه الموضوع له على ما يشهد به العرف و نصّ عليه أئمّة اللغة، و لا أنّ في المقام قرينة قاضية بإرادة ذلك في الرواية، و العجب عن المحقّق الميسي في حاشية الشرائع(2)حيث أنّه فسّر «شبهه» أوّلا بما يشبهه في حجمه، ثمّ قال: «و هو ما دون الحمامة»، و لا ريب أنّ بين الحمامة و العصفور وسائط كثيرة.

و بملاحظة ما ذكرناه يشكل التعدّي عن العصفور إلى ما يشبهه في الجثّة و المقدار أيضا كما اعترف به جماعة، و منعوه تعليلا بأنّ النصّ مخصوص بالعصفور، فإنّ ذلك إنّما يصحّ لو جعلنا المراد بالأكثر الأكثريّة في الجثّة و المقدار المستلزمة لكون المراد بالأقلّ الأقلّيّة فيهما أيضا، نظرا إلى أنّ الرواية في صدد التعرّض لحصر أصناف الحيوانات في الثلاثة، فلو لم يكن المراد بالعصفور ما يعمّ المتساويات في الجثّة و المقدار بطل الحصر المقصود، فتأمّل.

ص: 715


1- التهذيب 678/234:1.
2- حكاه عنه في مفتاح الكرامة 119:1.

و لكن قد عرفت أنّ هذا الاحتمال يعارضه الاحتمال الآخر الّذي لا يقتضي كون المراد بالعصفور المعنى الأعمّ كما يظهر بأدنى تأمّل، نظرا إلى أنّ الحصر المقصود حينئذ إنّما هو في المنزوحات المقدّرة، فجعلها المعصوم عليه السّلام في الكثرة و القلّة و ما يتوسّطهما على أقسام ثلاث و هي السبعون و الواحد و ما بينهما، و قضيّة ذلك خروج الرواية من هذه الجهة مجملة، إلاّ أن يجعل فهم المشهور قرينة على التعيين و هو مشكل.

و أمّا ما يقال - في تقريب التعدّي -: من أنّه لمّا ثبت تفسير «الطير» بالحمامة فما فوقها كما تقدّم في بحثه، و كان له سبع و لا واسطة بين السبع و الواحد من العدد فيما بين الحمامة و العصفور تعيّن إلحاق ما دونها به.

ففيه أوّلا: ثبوت الواسطة بنصّ الرواية بالتقريب الّذي قرّرناه.

و ثانيا: أنّ عدم ورود الواسطة في النصوص يقضي بكون ما عدا العصفور ممّا دون الحمامة ملحقا بما لا نصّ فيه كما هو الحال في سائر النجاسات الغير المنصوصة لا بالعصفور.

و كيف كان فالحكم معلّق على العصفور خاصّة، و على تقدير التعدّي يتعدّى إلى كلّ ما يشابهه في الجثّة بحسب الخلقة الأصليّة لا باعتبار صغر السنّ من غير فرق في ذلك بين المأكول و غيره.

فما عن نظام الدين الصهرشتي شارح النهاية(1) من إجراء هذا الحكم في صغير الطير(2) كالفرخ ممّا لا ينبغي الالتفات إليه، و أضعف منه ما عن الراوندي(3) من تخصيصه الحكم بمأكول اللحم احترازا عن الخفّاش، تعليلا بأنّه مسخ أو أنّه نجس، فإنّه مع أنّه ممّا لا دليل عليه مردود أوّلا: بمنع كونه مسخا، و ثانيا: نمنع نجاسته، و ثالثا:

بكونه أخصّ من المدّعى.

و ثانيهما: بول الصبيّ

الّذي لم يتغذّ بالطعام، نسب إلى الشيخين(4) و كثير من الأصحاب، و ادّعي عليه الشهرة، و عن أبي الصلاح و ابن زهرة المصير إلى نزح ثلاث دلاء(5)، و عن

ص: 716


1- حكى عنه في المعتبر: 18.
2- كلّ طائر حال صغره «نسخة بدل».
3- حكى عنه في المعتبر: 18.
4- أي الطوسي في النهاية 208:1 و المفيد في المقنعة: 67.
5- الكافي في الفقه: 130؛ و غنية النزوع: 49.

الثاني دعوى الإجماع عليه، و هو عجيب مع مخالفة المشهور و مع ذلك فمستند قوله غير واضح؛ و لو احتجّ له بصحيحة ابن بزيع المتقدّمة(1) الحاكمة بنزح دلاء لقطرات البول، لدفعه: إمّا الانصراف إلى ما عدا بول الرضيع، أو لكون قطرات البول أعمّ من وجه من بوله فلا يتناول ما زاد على القطرات، و يقضي بالثلاث في غير بوله و القول به ضعيف كما تقدّم.

و كيف كان فمستند المشهور - على ما حكي الاحتجاج به عن الشيخ - رواية عليّ بن أبي حمزة المتقدّمة الواردة في بول الصبيّ الفطيم، يقع في البئر فقال: «دلو واحد»(2)و هذا مبنيّ على حمل «الفطيم» على المشارف للفطام، نظرا إلى تحديد «الصبيّ» هنا في كلامهم بمن يغتذي باللبن محضا، أو بحيث يغلب على الطعام، فيغاير «الفطيم» المتقدّم تفسيره في بول الصبيّ المتغذّي بالطعام، و هو كما ترى. مجاز يحتاج إلى القرينة، و لعلّ المشهور عثروا بها كما يومئ إليه كلام عن المهذّب البارع(3) من أنّ الرضيع هو المعبّر عنه في الروايات بالفطيم.

و كيف كان فالقول المذكور مستندا إلى هذه الرواية غير خال عن الإشكال، و الأحوط بل الأولى إطلاق القول في بول الصبيّ بالسبع، وفاقا للسلاّر على ما حكي عنه فيما تقدّم، مستندا إلى إطلاق رواية منصور بن حازم المتقدّمة في بحث بول الصبيّ.

نعم، إنّما يتّجه القول بالواحد هنا على تقدير صحّة الاستناد إلى ما روي عن الفقه الرضوي المتقدّم ذكره في البحث المذكور، لكنّه لم يثبت عندنا إلى الآن ما يقضي بصحّة ذلك، و عليه فالاحتياط بناء على القول بالتنجيس أو الوجوب تعبّدا ممّا لا ينبغي تركه.

و لنختم المقام بإيراد مباحث نذكرها هنا من باب التفريع:
المبحث الأوّل: فيما يتعلّق بالدلو المعتبر في النزح؛
اشارة

الوارد في الروايات، و ما يلحق به و ما لا يلحق و فيه مسائل:

الاولى: في أنّ «الدلو» المعتبر في الروايات آلة للنزح ليس ممّا ثبت له معنى شرعي،

و لا أنّه ممّا له في عرف زمان الشارع معنى خاصّ به، و لا أنّه ممّا اختلف فيه عرف الراوي و المرويّ عنه و بلد السؤال، أو ممّا اختلف فيه الاصطلاحات كالمنّ

ص: 717


1- الوسائل 176:1 ب 14 من أبواب الماء المطلق ح 21 - الكافي 1/5:3.
2- التهذيب 700/243:1.
3- المهذّب البارع 102:1.

و الرطل و نحوهما، و لا أنّه ممّا اختلف فيه العرف و اللغة؛ بل هو لغة و عرفا لفظ مقول بالاشتراك المعنوي على الصغار و الكبار مع اختلاف آحادهما و المتوسّط بينهما، لكن إطلاقه لا ينصرف إلى الصغير و الكبير الخارجين عن حدّ التعارف و الاعتدال، كما لو كان منه في الصغر ما يسع مدّا أو أقلّ إلى مثقال و مثقالين مثلا، و في الكبر ما يسع كرّا أو كرورا أو نصف كرّ أو ثلثه و ربعه مثلا، فإنّهما على فرض دخولهما في مسمّى اللفظ عرفا أو لغة خارجان عن إطلاق اللفظ جدّا، و مقتضي القاعدة المحكّمة في مثل ذلك أن يحمل الخطاب على ما يصدق عليه الاسم عرفا و ينصرف إليه اللفظ استعمالا، كبيرا كان أو صغيرا أو متوسّطا بينهما ما لم يخرجا عن حدّ الاعتدال، إذ المفروض عدم ورود نصّ في تقديره كما وردت النصوص في تقدير النزح و اعتبار العدد، و ورود النصوص المقدّرة للعدد بالنسبة إلى الدلو مطلقة من غير استفصال(1) فيها عن الصغر و الكبر و لا تفصيل بين الصغير و الكبير، و لعلّه إلى ما ذكرناه يرجع ما في كلام الفقهاء من العبارات المختلفة في هذا المقام.

فعن مبسوط الشيخ: «أنّه دلو العادة الّتي يستقي بها دون الدلاء الكبار لأنّه لم يقيّد في الخبر»(2).

و عن السرائر: «أنّه دلو العادة - دون الشاذّة - الّتي يستقي بها، و دون الصغار و الكبار الخارجة عن المعتاد و الغالب لأنّه لم يقيّد في الخبر»(3).

و عن الغنية و الكافي: «أنّه دلو البئر المألوف»(4).

و عن الوسيلة: «الدلو دلو العادة»(5)، و نحوه عن المنتهى و التحرير(6)، و في الشرائع:

«ما جرت العادة باستعمالها»(7)، و عن المعتبر: «هي المعتادة صغيرة كانت أو كبيرة، لأنّه ليس في الشرع لها وضع فيجب أن تتقيّد بالعرف»(8).

و عن التذكرة: «الحوالة في الدلو على المعتاد لعدم التقدير الشرعي»(9) و عن كتب

ص: 718


1- الاستفصال من الراوي و التفصيل من الإمام عليه السّلام. (في هامش الأصل بخطّ مؤلّفه رحمه اللّه).
2- المبسوط 12:1.
3- السرائر 83:1.
4- غنية النزوع 48:1، و الكافي في الفقه: 130.
5- الوسيلة: 75.
6- منتهى المطلب 104:1 - تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.
7- شرائع الإسلام 14:1.
8- المعتبر: 18.
9- تذكرة الفقهاء 28:1.

الشهيد: «أنّها المعتادة»(1).

إذ ليس المراد بالعادة في تلك العبارات ما يوجب تقييد المفهوم العرفي حتّى يطالب بدليله، بل الغلبة و كثرة التداول الموجبين لانصراف اللفظ إلى ما ليس بخارج عن حدّ الاعتدال لقلّة وجوده و عدم كونه ممّا اعتيد استعماله في الآبار و إن فرض استعماله في بعض الأحيان كما يشهد به مقابلة الشواذّ أو الكبار أو الصغار و الكبار، نظرا إلى ظهور أنّ المراد بهما ما هو الخارج في الصغر و الكبر عن حدّ الاعتدال المتعارفي لا مطلق مسمّى الصغير و الكبير، اللذين من جهة أنّهما أمران إضافيّان لا واسطة بينهما بحيث لا يكون صغيرا و لا كبيرا، بل كلّما فرض من دلو معتاد فهو صغير بالإضافة إلى دلو و كبير بالإضافة إلى آخر.

فما في المدارك من أنّه: «ينبغي أن يكون المرجع في الدلو إلى العرف العامّ، و لا عبرة بما جرت العادة باستعماله في تلك البئر إذا كان مخالفا له»(2)، و قريب منه ما في شرح الدروس - كما عن المعالم(3) أيضا - إن اريد به المعنى الّذي ذكرناه فمرحبا بالوفاق، و إن اريد به ما يعمّ ذلك فوارد على خلاف التحقيق، و الظاهر أنّهم يريدون المعنى الأوّل و عليه لا يخالف كلامهم للعبارات المتقدّمة.

و أمّا ما يظهر من بعضهم من توهّم المخالفة فهو إمّا مبنيّ على فهم المعنى الثاني من كلامهم، أو على ما قد يستظهر من العبارات المذكورة من إرادة ما هو المعتاد على تلك البئر، بل هو محكيّ عن صريح المحقّق و الشهيد الثانيين(4).

ثمّ يقال: «بأنّ أظهر تلك العبارات فيه عبارة السرائر(5)، حيث احترز ب «العادة» عن الشاذّة الّتي يستقى بها، فإنّ المراد بها - بقرينة عطف الصغار و الكبار عليها - ما شذّ إلاّ الاستقاء بها و إن كانت متوسّطة في الصغر و الكبر»(6) انتهى.

و الأوّل و إن كان محتملا لكنّ الثاني مقطوع بفساده، بل العبارات ظاهرة فيما ذكرناه، و أظهرها فيه عبارة المعتبر المذيّلة بقوله: «فيجب أن يتقيّد بالعرف»، بل هو

ص: 719


1- البيان: 100، الدروس الشرعيّة 121:1، اللمعة الدمشقيّة 37:1.
2- مدارك الأحكام 96:1.
3- فقه المعالم 286:1.
4- جامع المقاصد 146:1، روض الجنان: 148.
5- السرائر 83:1.
6- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 246:1.

بضميمة تفسيره «الدلو» بالمعتادة مع تعميمه إيّاها من حيث الصغر و الكبر صريح في ذلك كما يظهر بأدنى التفات.

نعم، ربّما يوهم خلاف ذلك عبارة الغنية و الكافي لمكان احتمال كون «اللام» في البئر للعهد، غير أنّه مدفوع أيضا بظهوره في الجنس على ما هو وضعها الأصلي.

و دعوى أظهريّة عبارة السرائر في ذلك بتقريب ما ذكر، يدفعها: أنّ المراد بالشاذّة بقرينة استثناء الصغار و الكبار ما يشذّ اتّخاذ الدلو منها من جلود السباع و نحوها بعد تذكيتها، لكونها من الأفراد الغير المتداولة في العرف و العادة، و عليه يكون المراد بالصغار و الكبار ما هو الخارج في الصغر و الكبر عن حدّ الاعتدال ممّا يتّخذ من الجلود المتعارف اتّخاذ الدلو منها، لا ما يشذّ استعماله في تلك البئر و لو كان ممّا يتّخذ من الجلود المتعارفة ممّا لا يكون صغيرا و لا كبيرا خارجا عن الاعتدال، و إلاّ بطل إطلاق استثناء الصغار و الكبار، لكونه منافيا لجعل العبرة بالمعتاد على تلك البئر لو فرض كون معتادها دلوا كبيرا أو صغيرا، فإنّ هذا كلّه مضافا إلى أنّ اعتبار المعتاد على تلك البئر خاصّة دعوى لا شاهد عليها، بل تقييد لإطلاق «الدلو» في الأخبار بلا موجب له من شاهد خارجي.

فإن قلت: الشاهد له التبادر العرفي و لو كان إطلاقيّا، أ لا ترى أنّه إذا أمر السيّد عبده بنزح دلاء من بئر معيّن لكان المنساق منه نزحه بما يعتاد من الدلاء على تلك البئر.

قلت: نمنع ذلك التبادر من إطلاق اللفظ، و إنّما المتبادر أوّلا الماهيّة الشاملة للمعتاد عليها و لغيره، و لمّا كان الأخذ بالماهيّة لا يتأتّى إلاّ بأخذ مصداق لها فحصل الالتفات إلى تعيين المصداق للأخذ به مقدّمة، [فيلتفت](1) الذهن إلى ذلك المعيّن المعتاد على تلك البئر، و لذا لو فرض أنّ العبد عدل عن استعمال هذا المعتاد و استعار دلوا آخر ممّا يعتاد على غير تلك البئر كان ممتثلا لأمر السيّد جزما، و إن كان قد يعدّ فعله هذا سفها إذا كان صدر منه بلا حكمة دعت إليه كما لا يخفى.

فإن قلت: القدر المتيقّن المتّفق على حصول الامتثال به إنّما هو المعتاد على تلك البئر خاصّة.

قلت: هذا يرجع إلى مراعاة الاحتياط الّذي نمنع وجوبه بعد نهوض إطلاق اللفظ

ص: 720


1- و في المصدر: «فيلفت» و الصواب ما أثبتناه في المتن.

الوارد في الأخبار، و استحبابه المسلّم بحكم العقل و النقل لا ينافي الاكتفاء بغير المعتاد ممّا هو متداول في العرف.

فإن قلت: لا إشكال كما لا خلاف لأحد في أنّ الظاهر المنساق من الأخبار إنّما هو المتعارف في زمن الصدور، فلم لا تعتبره و تكتفي بالمفهوم العرفي العامّ؟.

قلت: هذا الظهور إنّما هو من جهة اختصاص الخطاب بأهل زمن الصدور بل خصوص المخاطب، لكن قد عرفت سابقا أنّه لا مخالفة في لفظ «الدلو» بين عرف ذلك الزمان و عرف سائر الأزمنة إلى زماننا هذا، و لا بين العرف العامّ و اللغة، فإذا اكتفينا بالعرف العامّ الثابت في هذا الزمان فقد أخذنا بما كان متعارفا نوعه في زمن الصدور جزما.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ الاحتمالات الجارية في المقام و في عبارات الأصحاب من كون العبرة بالمعتاد في زمن الصدور خاصّة، أو بالمعتاد في جميع الأزمنة، أو بالمعتاد في زماننا هذا في جميع البلدان، أو بالمعتاد في بلد البئر المبتلى بها، كلّها يرجع إلى معنى واحد، و هو كون العبرة بالمفهوم العرفي العامّ المنصرف عند الإطلاق إلى الأفراد الغالبة، و هي الّتي صارت معتادة في جميع الأزمنة و كافّة البلدان الدائرة بين صغير و كبير غير الخارجين عن الاعتدال و المتوسّط بينهما، فالمكلّف بحكم إطلاق الأخبار و فتاوي العلماء الأخيار مخيّر بين الجميع، و إن لم يكن معتادا استعماله على شخص البئر أو نوعها.

نعم، الاحتياط الاستحبابي في اعتبار المعتاد لو كان أكبر من غيره، كما أنّه في غيره لو كان أكبر منه.

فما يستفاد من بعضهم و تبعه غير واحد من متأخّري المتأخّرين بعد اعتبار ما جرت العادة على شخص البئر أو على نوعها من أنّه إن تساوت الدلاء فيه في جميع الأزمان فلا إشكال، و إن اختلفت فالغالب، و إن تساوت فالتخيير، و لو لم يكن لها دلو في البلد و لا لأمثالها فدلو أقرب البلدان إليها فالأقرب إن اتّفقت، و مع الاختلاف ما تقدّم من اعتبار الغالب إن كان و إلاّ فالتخيير، تكلّف غير واضح الوجه.

و ينفيه: إطلاق الأخبار، مع الجزم بأنّ أصحاب الأئمّة ما كانوا يلتزمون بمثل هذا التكلّف، فلذا لم يقع إليه في النصوص و كلام الأصحاب إشارة.

ص: 721

و عن بعض المتقدّمين:(1) أنّ المراد بالدلو الهجريّة(2) و وزنها ثلاثون رطلا، و قيل:

أربعون، و هو ضعيف جدّا لعراه عن مستند معتبر، و إن كان قد يقال: إنّ مستنده ما نقل عن الفقه الرضوي من أنّه: «إذا سقط في البئر فأرة أو طائر أو سنّور و ما أشبه ذلك فمات فيها و لم يتفسّخ نزح منها سبعة أدلو من دلاء هجر، و الدلو أربعون رطلا»(3)، فإنّ العذر في عدم الاعتداد بذلك ما تقدّم الإشارة إليه، كما عليه بناء المعظم على ما اعتذر لهم بعضهم في عدم اعتدادهم هنا بما عرفت.

المسألة الثانية: عن العلاّمة [و غيره بأنّه لو نزح البئر بإناء عظيم يسع العدد و مقدار الدلاء المقدّرة دفعة أو دفعات كان مجزيا]

في أكثر كتبه(4)، و تبعه الشهيد في الذكرى(5)، و صاحب المعالم(6) و غيره - على ما حكي - القول بأنّه لو نزح البئر بإناء عظيم يسع العدد و مقدار الدلاء المقدّرة دفعة أو دفعات كان مجزيا، و عن المحقّق في المعتبر(7)، و العلاّمة في التحرير(8)، و المنتهى(9)، و الشهيد في الدروس(10) و البيان(11)، و الشهيد الثاني(12) أيضا القول بخلافه، حجّة الأوّلين وجهان:

أحدهما: أنّ الغرض من اعتبار النزح - و هو إخراج المقدار - يحصل بذلك أيضا فيكون مجزيا.

و فيه: إنّ ذلك إنّما يصحّ فيما لو كان المقدّر الشرعي مقدّرا وزنيّا كالكرّ المقدّر نزحه في بعض النجاسات، و في حكمه النزح المزيل للتغيّر على المختار من حصول الطهر بإزالة التغيّر و نزح الجميع فيما اعتبر له ذلك، فإنّ الغرض في هذه الصور يحصل بكلّ ما أمكن معه النزح كما نصّ عليه غير واحد و نفوا عنه الإشكال بل الخلاف أيضا، و لا ريب أنّ مفروض المسألة ليس من هذا الباب، بل المقدّر الشرعي هنا عددي، و أداء المقدّر الوزني من دون مراعاة العدد المخصوص لا يقوم مقام العدد و إن بلغ في الكثرة ما

ص: 722


1- حكاه في فقه المعالم 287:1.
2- و في هامش المعالم عن بعض النسخ: «المراد بالدلو النجرية».
3- فقه الرضا عليه السّلام: 92.
4- كما في تذكرة الفقهاء 28:1.
5- ذكرى الشيعة 89:1.
6- فقه معالم 288:1-287.
7- المعتبر: 19.
8- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.
9- منتهى المطلب 104:1.
10- الدروس الشرعيّة 121:1.
11- البيان: 100.
12- مسالك الأفهام 19:1.

بلغ؛ و لعلّ الشارع الحكيم من جهة علمه بأنّ أثر هذه النجاسة لا يزول إلاّ بتحقّق هذا العدد في الخارج و اعتبره على قياس ما هو الحال في التطهير عن النجاسات الحاصلة في الثوب و نحوه المعتبر في غسلها التعدّد مرّتين أو ثلاث أو سبع مرّات، و كما أنّ ذلك لا يطهّر بغسله مرّة بمدّ أو أكثر من الماء الّذي لو فرض غسله به مع اعتبار العدد كان كافيا في طهره فكذلك المقام، لا نقول بأنّه مثله حتّى يكون راجعا إلى القياس، بل المراد أنّ كونه كذلك محتمل فينعقد معه موضوع الاستصحاب و هذا أصل لا رافع له هنا.

نعم، ربّما يقوى هذا التوهّم على القول بوجوب النزح تعبّدا، نظرا إلى أنّ وجوبه حينئذ توصّلي و من حكمه أن يحصل في الخارج بأيّ نحو اتّفق، و لذا لا يعتبر فيه نيّة القربة كما يأتي إليه الإشارة.

و لكن يدفعه: أنّ المأخوذ في مفهوم الواجب التوصّلي حصول المأمور به في الخارج كيفما اتّفق إذا اتي به على نحو ما امر به، و المفروض خلافه، إذ الأمر قد تعلّق بالعدد و المقدار الغير العددي ليس منه، كيف و لو صحّ ذلك لكان الواجب على الشارع التعرّض لتعيين المقدار، و كان عليه التفصيل في الدلاء باعتبار ما يكون منها كافيا عدده المعيّن في خروج المقدار المعيّن.

و من هنا قد يؤيّد القول بعدم الإجزاء بأنّهم عليهم السّلام أمروا بنزح العدد من غير تفصيل بين الدلو الصغير و الكبير مع أنّ الغالب التفاوت بين الدلاء بكثير.

و أمّا ما قد يؤيّد به القول بالإجزاء من أمنه من انصباب الماء النجس عن الدلو في البئر إلاّ نادرا، فليس بشيء بعد ثبوت العفو عن ذلك قليله و كثير [ه]، و مجرّد احتمال كون الأمر بالعدد واردا مورد الغالب لا يوجب اليقين بالبراءة الّذي يستدعيه اليقين بالاشتغال، و لذا احتجّ المانعون عن الاجتزاء بأنّ الحكمة قد تعلّقت بالعدد و لا يعلم حصولها بغيره، و احتجّوا أيضا بعدم الإتيان بالمأمور على وجهه.

و ثانيهما: أنّ الأمر بالنزح وارد على الماء، و الدلاء مقدار، فيكون القدر هو المراد، و تقييده بالعدد لانضباطه و ظهوره بخلاف غيره.

و جوابه: يظهر بملاحظة ما ذكرناه جوابا عن الأوّل، و محصّله: يرجع إلى منع المقدّمة الثالثة و الرابعة معا، فإنّ كلاّ من ذلك أوّل المسألة و عين المدّعى، فلا بدّ له من دليل آخر.

ص: 723

و بالجملة: التعدّي عن مورد النصّ إلى ما هو خارج عنه ممّا لا وجه له سواء على القول بالتنجيس و غيره.

نعم، على القول بالتنجيس لا يبعد القول بكفاية نزح العدد بإناء آخر من سطل أو آنية فخار أو نحوهما ممّا يسع ما يسعه الدلو المعتاد، بدعوى: القطع الوجداني بعدم مدخليّة خصوصيّة إناء دون إناء آخر في التطهير إذا تساويا في السعة، و لا ينافيه اختصاص ما ورد في النصوص بالدلو بعد ملاحظة كونه الآلة الغالبة في النزح، فلا ينافي ثبوت الحكم في غير الغالب أيضا.

[المسألة] الثالثة: إذا غار ماء البئر قبل النزح ثمّ عاد فعلى القول بالوجوب تعبّدا لا إشكال في سقوط الأمر بالنزح ما دام غائرا،

ضرورة ارتفاع الأمر بانتفاء موضوعه، و عوده بالعود غير معلوم فالأصل عدمه، و على قياسه الكلام بناء على المختار من استحباب النزح، و أمّا على القول بالنجاسة ففي منتهى العلاّمة: «أنّ الأصل فيه الطهارة»(1)، و هو محكيّ عن جملة من الأصحاب كما عن القواعد(2)، و الدروس(3)، و ظاهر المعالم(4)، و قيل: بل عن كثير من الأصحاب(5) [و] احتجّوا بوجهين:

الأوّل: أنّ المقتضي للطهارة ذهاب الماء و هو كما يحصل بالنزح يحصل بالغور، و لا يعلم كون الغائر هو العائد، و الأصل فيه الطهارة.

و الثاني: أنّ النزح لم يتعلّق بالبئر، بل بمائها المحكوم بنجاسته، و لا يعلم بوجوده و الحال هذه، فلا يجب نزحه.

و اجيب(6) عن الأوّل: بمنع كون المقتضي للطهارة ذهاب [الماء]، لجواز كونه النزح، باعتبار أنّه يوجب جريان الماء فيطهّر به أرض البئر و ماؤها، و لا ريب أنّ هذا المعنى مفقود في الغور فلم يطهّر أرض البئر، فكلّما ينبع منها الماء يصير نجسا لملاقاته النجاسة على القول بانفعال البئر بها.

ص: 724


1- منتهى المطلب 108:1.
2- قواعد الأحكام 188:1.
3- الدروس الشرعيّة 121:1.
4- فقه المعالم 283:1.
5- و القائل هو صاحب المعالم رحمه اللّه في فقه المعالم 283:1.
6- المجيب هو المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس: 244.

و عن الثاني: بأنّ المفروض أنّ ماء كانت نجسة(1)، و لم يعلم لها مزيل فيستصحب نجاستها، و به ينجّس كلّما ينبع من الماء.

و لا يخفى ضعف الجوابين، و إن كان منع كون المقتضي للطهارة ذهاب الماء في محلّه، فإنّ نجاسة أرض البئر لا قاضي بها إلاّ الاستصحاب، و كون النجاسة المستصحبة منجّسة غير مسلّمة لمكان كونها ظاهريّة.

و مع الغضّ عن ذلك، فكما يحتمل تنجّس الماء المتجدّد بأرض البئر كذلك يحتمل تطهّر الأرض بذلك الماء فيحكم على الماء بالطهارة شرعا، مع توجّه المنع إلى انفعاله على فرض كون النجاسة في الأرض يقينيّة لعدم الدليل عليه.

و توهّم شمول أدلّة انفعال البئر له في محلّ المنع، لعدم كون النابع حال نبعه ممّا يصدق عليه ماء البئر، بل لا يبعد صدق الجاري عليه حينئذ، كما يرشد إليه ما تقدّم في بعض ما يتعلّق من الكلام بصحيحة ابن بزيع من استظهار كون المطهّر لماء البئر في الحقيقة هو الماء المتجدّد و النزح مقدّمة لتجدّده، و هو لا يلائم كونه مشمولا لأدلّة الانفعال، مع أنّه لا حاجة لنا إلى إثبات هذه الدعوى بعد قيام منع كونه حال النبع من ماء البئر، فإنّه يوجب اندراجه تحت الأصل العامّ المقتضي لطهارة كلّ ماء مشكوك في حاله، و طهارته شرعا يستلزم تطهّر الأرض أيضا، و على فرض عدم الاستلزام فبقاؤها على النجاسة مع الحكم على الماء بالطهارة الموجبة لعدم وجوب النزح غير قادح - و لو بعد دخول الماء - في صدق ماء البئر، لمكان كون النجاسة المفروضة استصحابيّة فلا تندرج في أدلّة الانفعال، لمكان ظهورها في عين النجاسة لا فيما هو بحكمها، فالقول بأنّها توجب نجاسة الماء المتجدّد في غاية الضعف. و أضعف منه ما قيل بالنجاسة فيما لو طهرت أرض البئر بعد الغور بالشمس أو بالمطر، تعليلا: بأنّ غور الماء النجس قد أوجب تنجّس عمق الأرض فينجّس الماء بوصوله إليه، إلاّ إذا طهر

ص: 725


1- كذا في الأصل، و في مشارق الشموس هكذا: «و أمّا الثاني: فلأنّ تعلّق النزح بمائها لا دخل له في المقام، إذ الكلام في أنّ أرض البئر كانت نجسة و لم يعلم لها مزيل، إذ ما علم من الشرع أنّه مزيل لها إنّما هو النزح و قياس الغور عليه قياس مع الفارق كما ذكرناه، فيستصحب نجاستها، فكلّما ينبع منها الماء يصير نجسا الخ».

القدر من العمق الّذي علم بوصول الماء الغائر إليه.

ثمّ أنّه إذا اجريت البئر المتنجّس ماؤها عن تحتها فعن بعض القائلين بالطهارة في الغور أنّه نفاها هنا، و ليس بوجه لعدم الدليل على النجاسة حينئذ لخروج الماء المتنجّس عن مكانه بالجريان؛ و تنجّس المتجدّد الجاري عن مكانه غير معلوم فيحكم عليه بالطهارة بتقريب ما تقدّم، و الاستصحاب مع عدم بقاء الموضوع الأوّلي غير معلوم، و كون أرض البئر حال وجود الماء المتنجّس متنجّسة غير ضائر في طهارة الماء هنا بل طهارة نفسها كما تقدّم.

و من هنا اعترض صاحب المعالم على القول المذكور: «بأنّ التوجيه المذكور في مسألة الغور جاء هنا أيضا، و يزيد ذلك عليها بحصول الجزم بأنّ الآتي غير الذاهب، فإنّ الجريان يذهب الموجود جزما، و ما يأتي بعده ماء جديد، مضافا إلى أنّ الحكم بالنزح [معلّق] بالبئر و الإجراء يخرجها عن الاسم»(1) انتهى؛ و في حكم الغور ما لو ثقبت البئر من التحت إلى أن خرج ماؤها أجمع من الثقبة، فما لو نبع عليها من الماء ثانيا محكوم عليه بالطهارة و لا نزح للأصل.

المبحث الثاني: فيما يتعلّق بالنزح و آلاته، و النازح و ما يجب فيه و ما لا يجب،
اشارة

و هو يتضمّن مسائل:

الاولى: أطلق غير واحد القول بوجوب إخراج النجاسة قبل النزح،

و قد يدّعى عليه الإجماع، و في المنتهى ما يوهم اختصاص الإجماع بأصحاب القول بالتنجيس، حيث قال: «النزح إنّما يجب بعد إخراج النجاسة، و هو متّفق عليه بين القائلين بالتنجيس، فإنّه قبل الإخراج لا فائدة فيه و إن كثر»(2) انتهى.

و قد يحتمل الإجماع على القول بعدم التنجيس أيضا، كما في حاشية المدارك للمحقّق البهبهاني قائلا: «يجب إخراج النجاسة قبل الشروع في النزح، و الظاهر أنّه اتّفاق بين القائلين بالتنجيس، بل لعلّه عند القائلين بعدمه أيضا كذلك»(3) انتهى.

فإن تمّ الإجماع على القولين معا، و إلاّ أمكن المناقشة بدعوى: اقتضاء القواعد

ص: 726


1- فقه المعالم 283:1.
2- منتهى المطلب 107:1.
3- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 148:1.

اختصاص الحكم بالقول بالتنجيس دون غيره.

أمّا الأوّل: فلأنّ المستفاد من الروايات الآمرة بالنزح - على تقدير دلالتها على التنجيس - كون سبب النزح وقوع النجس من حيث استلزامه نجاسة ماء البئر، فسبب النزح في الحقيقة هو نجاسة الماء و هي مترتّبة على وجود النجس فيه، سواء كان ذلك الوجود حدوثيّا أو استمراريّا، فإنّه ما دام موجودا في الماء كان مقتضيا لتنجّسه، فالنزح الحاصل مع وجوده لا يجدي نفعا و إن بلغ في الكثرة ما بلغ، حتّى فيما لو كان الواجب نزح الجميع، فإنّ نزح الجميع حينئذ مع مقارنته لوجود النجاسة إلى الدلو الأخير لا يفيد تطهّرا و لو بالقياس إلى أرض البئر، بل هو حينئذ نظير مسألة الغور، فلو تجدّد الماء بعد ذلك فعلى القول بأنّه ينجّس لملاقاته الأرض النجسة لم يزل التنجيس و إن كان ذلك عندنا خلاف التحقيق.

و أمّا الثاني: فلأنّ المستفاد من الروايات حينئذ كون أوامر النزح معلّقة على وقوع النجس على معنى حدوث ملاقاته الماء، استمرّت الملاقاة إلى أن يلحقها النزح أو زالت، فإنّها سبب لماهيّة النزح في ضمن عدد معيّن، فإذا استكمل العدد صدق عرفا حصول الماهيّة المقيّدة به في الخارج، و من المقرّر أنّ الأمر مقتض للإجزاء و مع سقوطه فلا نزح بعده و إن كان النجس موجودا، و إلاّ لزم وجوب الامتثال عقيب الامتثال و هو مع عدم تكرار الأمر غير معقول.

لا يقال: و من المقرّر في مسائل الاصول تكرّر الأمر المشروط بتكرّر شرطه، فلا معنى لالتزام سقوط الأمر مع وجود النجس الّذي هو في معنى التكرّر، لأنّ ذلك غفلة عمّا قرّرناه أوّلا من أنّ سبب النزح على ما هو ظاهر الأدلّة حدوث الملاقاة، و لا ريب أنّ الاستمرار ليس منه.

أ لا ترى أنّ السيّد إذا قال لعبده: «إن دخل زيد في الدار فأضفه»، لا يستفاد منه عرفا إلاّ سببيّة حدوث الدخول للضيافة، فلذا لو دخل و بقي فيها مستمرّا فأضافه العبد مرّة امتثل، و لا يعاقب على ترك الضيافة ثانيا من جهة استمرار وجوده فيها، و إنّما يعاقب عليه لو خرج بعد الدخول فدخل ثانيا على وجه صدق معه تكرّر الدخول، فالاستمرار لا ينزّل في نظر العرف منزلة التكرار جزما.

ص: 727

نعم، على تقدير كون الوجوب هنا مرادا به الشرطي بالمعنى المتقدّم أمكن القول بتوقّف الامتثال على إخراج النجاسة، لأنّ النزح حينئذ مقدّمة لارتفاع المنع عن الاستعمال، و هو بالنزح قبل الإخراج غير معلوم الارتفاع فيستصحب.

هذا كلّه إذا أردنا الأخذ بموجب القواعد الخارجة عن النصوص، و إلاّ ففي بعض النصوص ورد الأمر بالإخراج صريحا، كما في صحيحتي الفضلاء(1) و الفضل(2)، و إن لم نقف على من التفت أو استند إليه، ففيهما معا قال: «يخرج ثمّ ينزح» إلى آخره، و هذا كما ترى يتناول جميع المذاهب.

نعم، على القول بوجوب النزح تعبّدا أمكن القول بكون وجوب الإخراج نفسيّا للأصل، لا أنّه غيريّ حتّى يلتزم بكونه شرطا لصحّة النزح لكنّه بعيد عن السياق، و العجب عن الأصحاب في عدم التفاهم إلى ذلك. فليتدبّر.

و في حكم عين النجس الموجودة المانعة عن تأثير النزح إلى أن يخرج - على القول بالتنجيس أو مطلقا على القول المتقدّم - الشعر المنتشر في الماء إذا كان من نجس العين، فيستعلم خروجه و لو بالنزح ثمّ ينزح المقدّر، و الظاهر قيام الظنّ مقام العلم في موضع تعذّره.

قال الشهيد في الدروس: «و لو تمعّط(3) الشعر فيها كفى غلبة الظنّ بخروجه و إن كان شعرا [نجسا]، و لو استمرّ خروجه استوعب فإن تعذّر و استمرّ عطّلت حتّى يظنّ خروجه أو استحالته»(4).

و عنه في الذكرى: «[لو تمعّط الشعر في الماء] نزح الماء حتّى يظنّ خروجه، [إن كان شعر نجس العين] فإن استمرّ الخروج استوعب، فإن تعذّر لم يكف التراوح ما دام الشعر، لقيام النجاسة، و النزح بعد خروجها أو استهلاكها، و كذا لو تفتّت اللحم.

و أمّا شعر طاهر العين فأمكن الإلحاق بمجاورته النجس مع رطوبته و عدمه لطهارته في أصله»(5).

ص: 728


1- الوسائل 183:1 و 184 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 5 و 6.
2- الوسائل 183:1 و 184 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 5 و 6.
3- أى انبثّ و انتشر، كما في شرحه (منه).
4- الدروس الشرعيّة 121:1.
5- ذكرى الشيعة 102:1، مع اختلاف يسير في بعض العبارات.
الثانية: قال في الدروس: «و يعفى عن المتساقط من الدلو و عن جوانبها و حماتها»

الثانية: قال في الدروس: «و يعفى عن المتساقط من الدلو و عن جوانبها و حماتها»(1)

و في شرحه للخوانساري تقييد المتساقط بكونه بالقدر المعتاد قائلا: «و هذا الحكم ممّا لا خفاء فيه، و كاد أن يكون من الضروريّات، إذ لو لم يكن ذلك لما أمكن تطهير البئر بالنزح في المعتاد»(2).

و في حاشية المدارك للمحقّق المتقدّم ذكره: «و المتساقط من الدلو الأخير معفوّ عنه، للمشقّة العظيمة، و لأنّ الطهارة معلّقة على النزح و قد حصل، و لكن الظاهر أنّ المعفوّ عنه هو المتساقط العادي، فلو خرج عن العادة مثل أن يكون في الدلو خرق و مزق بما يزيد على العادة لم يكن معفوّا عنه، بل لم يكن الدلو محسوبا من العدد، و كذا لو تحرّك الدلو بما هو زائد على المعتاد فانصبّ منه كثير، على أنّ في مطلق الخرق و التمزّق إشكالا، لأنّ المتبادر من الدلو هو الصحيح السالم.

نعم، ما يخرج من مسامّات(3) الدلو و مخارق الإبر لا يضرّ إذا كان الدلو من الدلاء المتعارفة»(4) انتهى.

و الظاهر أنّ مرادهم بالعفو هنا - كما هو المصرّح به في الشرح المتقدّم - أنّ المتساقط و إن كان متنجّسا لكنّه لا يوجب انفعال ما في البئر بتجدّد أثر على الأثر الأوّل كما في غير الدلو الأخير، أو تجدّده الرافع للطهارة الحاصلة بالنزح كما فيه.

و يشكل ذلك على القول بالتنجيس بأنّ المحقّق عندهم في تنجّس ماء البئر عدم الفرق بين النجس و المتنجّس، و لا بين كثير كلّ منهما و قليله، فكيف يلائم الحكم المذكور لمقالتهم هذا، و كيف يعقل ذلك إذا كانت الماهيّة الصادقة على القليل و الكثير في حكم الشرع مقتضية للتنجيس، و لزوم العسر الشديد لا يقضي إلاّ بنفي التكليف و هو ليس من المدّعى في شيء، إلاّ بإرجاعه إلى تخصيص الأدلّة القاضية عندهم بالانفعال و هي الأوامر الواردة بالنزح.

و فيه: أنّ التزام التخصيص في جميع هذه الأوامر ليس بأولى من التزام التجوّز بإرادة الاستحباب.

ص: 729


1- الدروس الشرعيّة 121:1.
2- مشارق الشموس: 244.
3- السمّ: الثقب... و مسامّ الجسد: ثقبه. القاموس المحيط؛ مادّة «ثقب» 133:4.
4- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 149:1.

و لو سلّم أنّ التخصيص بنوعه أرجح من المجاز لا يلزم منه الأرجحيّة في جميع الأشخاص حتّى ما كان منها موهونا بمصادفة خارج كما في المقام، لما تقدّم من اختلاف الروايات في تقديرات النجاسات حتّى ما كان منها نوعا واحدا، و اختلاف أفراد نوع واحد من النجاسات في مقدار النزح كثرة و قلّة، مع انتفاء ذلك الاختلاف في غير ماء البئر ممّا يتنجّس بملاقاة النجاسة.

سلّمنا لكن يمكن التفصّي عنهما معا و إن استلزم القول بوجوب النزح تعبّدا، نظرا إلى أنّ النجاسة في مفاد تلك الأوامر ليست من مقتضي الوضع اللغوي و لا العرفي الثابت على خلاف اللغة، و إنّما هو لازم عرفي أو شرعي علم أو ظنّ به في غير المقام بملاحظة طريقته في الأوامر الواردة في المياه و غيرها ممّا يغسل و يتطهّر من الأواني و الثياب و غيرها، فغايته أنّه ظهور خارجي ثبت في الأوامر بالعرض، و جعل الضرورة و غيرها بالقياس إلى حكم المتساقط قرينة على الخروج عن هذا الظاهر من جهة التخصيص ليس بأولى من جعلها كاشفة عن عدم اعتبار ذلك الظاهر رأسا في خصوص المقام.

و على أيّ حال كان فالعفوّ عن المتساقط بالقيد المتقدّم بناء على التنجيس ثابت لا شبهة فيه، و بعض ما تقدّم في عبارة الحاشية موضع [منع]؛ و ما ادّعاه من تبادر الصحّة حتّى بالنسبة إلى خرق و مزق و ثقبة لا يسلم عنها الدلاء غالبا غير مسلّم، و العبرة بما هو الغالب و المعتاد.

ثمّ إنّ العفو عن المتساقط كما هو ثابت بالقياس إلى ماء البئر فكذلك ثابت بالقياس إلى جوانب البئر و جوانبها و طينتها فيما لو فرض السقوط عليها، كما يتّفق في نزح الجميع.

و ممّن صرّح بذلك العلاّمة في المنتهى، قائلا: «لا تنجس جوانب البئر بما يصبّها من المنزوح، للمشقّة المنفيّة»(1). و تنزيل ما تقدّم عن الدروس(2) إلى هذا المعنى، كما احتمله الشارح فخدشه: «بأنّ هذا الحكم و إن لم يستبعد في الجدران، لكن لا معنى له في الحماة»(3) و هي الطينة، في غاية البعد من هذه العبارة، و إنّما هي ظاهرة في العفو بالمعنى المراد بالنسبة إلى المتساقط، و هو أنّ الجدران و الطينة و إن كانت نجسة بملاقاة

ص: 730


1- منتهى المطلب 105:1.
2- الدروس الشرعيّة 121:1.
3- مشارق الشموس: 244.

الماء المتنجّس، غير أنّ نجاستها لا تؤثّر في ماء البئر حال النجاسة و لا حال صيرورته طاهرا بالنزح، و ليت شعري لم لم يحكم بطهارتهما تبعا لطهارة الماء بعد كمال النزح؟ كما ذكروه في المباشر، و الدلو، و الرشاء كما يأتي في المسألة الآتية، فإنّه أقرب بظاهر الشرع، و لعلّه المراد من العبارة، و إن كانت غير ظاهرة فيه كما فهمه الشارح المتقدّم، قائلا:

«بأنّ المراد بالعفو أنّه بعد تمام النزح يصير طاهرا»(1) و كيف كان فالأقرب هو الطهارة.

الثالثة: جعل في شرح الدروس المتساقط الخارج عن المعتاد أعمّ من أن ينصبّ جميع الدلو المنزوح في الماء و عدمه،

الثالثة: جعل في شرح الدروس(2) المتساقط الخارج عن المعتاد أعمّ من أن ينصبّ جميع الدلو المنزوح في الماء و عدمه،

و انصباب الدلو بأجمعه عندهم مسألة يستفاد منهم الخلاف فيها على قولين، بل أقوال ثلاث:

الأوّل: ما صرّح به في الذكرى - على ما حكي - من أنّه: «لو انصبّ بأسره اعيد مثله - في الأصحّ - و إن كان الأخير، للأصل»(3)، و هو الّذي يظهر من إطلاق المحقّق المتقدّم في حاشية المدارك بل صريحه من «أنّه لا يوجب إلاّ نزح عوضه»(4)، ثمّ حكى الفرق عن منتهى العلاّمة(5) بإدخال ما يكون من الدلو الأخير فيما لا نصّ فيه، فقال:

«و في الفرق تأمّل»(6).

و الثاني: ما يستفاد من الشرح المتقدّم من الميل إلى دخوله في غير المنصوص في كلّ من الدلو الأخير و غيرها، حيث أخذ بالمناقشة فيما فصّله العلاّمة بنفي الفرق، تعليلا: «بأنّ وجه إدخال الدلو الأخير فيما لا نصّ فيه - على الظاهر - أنّه ماء نجس لاقى البئر فانفعل عنه كغيره من أنواع النجاسات، و لم يرد له مقدّر، فيكون من أفراد غير المنصوص، و هو جار فيما عداه.

و توهّم الفرق بأنّ البئر طاهرة في صورة انصباب الدلو الأخير و نجسة في غيرها.

يدفعه: أنّ ثبوت الانفعال بنوع من أسبابه لا يمنع من تأثير سبب آخر، أ لا ترى أنّ أهل القول بالتداخل أوجبوا نزح الأكثر، و إن كان الموجب له متأخّرا في الوقوع عن موجب الأقلّ»(7).

ص: 731


1- مشارق الشموس: 244.
2- مشارق الشموس: 244.
3- ذكرى الشيعة 91:1.
4- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 151:1.
5- منتهى المطلب 108:1.
6- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 151:1.
7- مشارق الشموس: 244.

و الثالث: ما فصّله العلاّمة قائلا في المنتهى: «لو وجب نزح عدد معيّن، فنزح الدلو الأوّل ثمّ صبّ فيها، فالّذي أقوله تفريعا على القول بالتنجيس: أنّه لا يجب نزح ما زاد على العدد عملا بالأصل، و لأنّه لم تزد النجاسة بالنزح و الإلقاء، و كذا إذا القي الدلو الأوسط، أمّا لو القي الدلو الأخير بعد انفصاله عنها، فالوجه دخوله تحت النجاسة الّتي لم يرد فيها نصّ، و كذا لو رمى الدلو الأوّل في بئر طاهرة الحق بغير المنصوص»(1).

انتهى، و هذا القول بظاهر القواعد لا يخلو عن قوّة، ففيما عدا الدلو الأخير - و لا سيّما الدلو الأوّل و ما يقرب منه - لا دليل على وجوب الزيادة على ما في الذمّة أوّلا من تمام العدد، كما في الدلو الأوّل أو ما بقي منه كما في غيره، و دخوله في غير المنصوص إن اريد به في الاسم فقط فهو مسلّم، لكنّه غير مجد في التزام أمر زائد.

و إن اريد به في الحكم أيضا، فهو إنّما يسلّم إذا اقتضى انفعالا آخر في الماء غير ما هو حاصل قبل انصبابه، و هو - مع كون نجاسته أثرا من الأثر الثابت أوّلا - في حيّز المنع، فيدفع احتماله بالأصل، و كونه مشمولا لعموم أدلّة الانفعال ممنوع، لظهور الأدلّة في ملاقاة نجس أو متنجّس محلاّ طاهرا، و لا ريب أنّ هذه الصغرى منتفية هنا.

نعم، هذا الكلام متّجه في الدلو الأخير بعد انفصاله عن المحلّ الموجب لطهارته، فإنّه بعد الانصباب داخل في الصغرى المذكورة، فيترتّب عليها الكبرى و هي انفعال المحلّ ثانيا، و لمّا لم يرد بالنسبة إليه نصّ بالخصوص فيلحقه حكم غير المنصوص.

لكن المتعيّن في نزحه هنا في بادئ النظر ما صار إليه صاحب المعالم(2) - على ما حكي عنه - من الاكتفاء بنزح أقلّ الأمرين من مقدّر النجاسة المقتضية للنزح و منزوح غير المنصوص حسبما يترجّح فيه، و لمّا ثبت أنّ الأرجح عندنا في ذلك نزح الجميع فالمتعيّن حينئذ نزح المقدّر، للقطع بأنّ نجاسته فرع من هذا الأصل، و أنّها أضعف منها بمراتب، فلا يزيد حكمها على حكم الأصل.

و إلى ذلك يرجع الأولويّة الّتي ادّعاها في المعالم(3) لصورة الاكتفاء بالمقدّر، و المناقشة فيها بمنع الأوّليّة - كما في كلام الخوانساري شارح الدروس - (4)لا يلتفت إليها.

ص: 732


1- منتهى المطلب 108:1.
2- فقه المعالم 281:1.
3- فقه المعالم 281:1.
4- مشارق الشموس: 244.
الرابعة: قال في الدروس: «و بطهرها يطهر المباشر و الرشاء»

الرابعة: قال في الدروس: «و بطهرها يطهر المباشر و الرشاء»(1)

و الظاهر أنّ مراده من المباشر ما يعمّ بدنه و ثيابه، لكن بشرط كون النجاسة الحاصلة فيهما مستندة إلى ما يلزمه النزح من مباشرة الماء المتنجّس، و هذا الحكم لم يرد لبيانه نصّ بالخصوص غير أنّه يستفاد من غير واحد كونه اتّفاقيّا، و يجوز للفقيه أن يستند فيه إلى ظهورات يستظهرها من الروايات بدلالاتها الغير المقصودة، مثل سكوتها عن إيجاب غسل هذه الأشياء بعد كمال النزح، و خلوّها عمّا يدلّ على بقائها على نجاسة، مع أنّها لا ينفكّ عنها النزح، و استحباب الزائد على المقدّر في بعض المنزوحات من دون إشارة إلى تبديل الدلو و الرشاء و لا تطهيرهما و تطهير المباشرة، مع أنّه لو بقي أحد هذه الأشياء على نجاسة لسرت إلى ماء البئر لضرورة الملاقاة عادة.

و أقوى ما يستظهر منه ذلك الحكم صحيحة الفضلاء و صحيحة الفضل المتقدّمتان في الأبواب السابقة، القائلة اولاهما بأنّه: «يخرج، ثمّ ينزح من البئر دلاء، ثمّ اشرب منه و توضّأ»(2).

و ثانيتهما: بأنّه «يخرج، ثمّ ينزح من البئر دلاء، ثمّ يشرب و يتوضّأ»(3) فلو أنّ الدلو و غيره لا يطهّر بطهر الماء لكان عليه أن يقول بعد قوله عليه السّلام: «ثمّ ينزح»، «ثمّ يغسل الدلو، و الرشاء، و يد المباشر، ثمّ يشرب و يتوضّأ» و إلى بعض ما ذكرناه هنا أشار المحقّق في محكيّ المعتبر قائلا: «بأنّه لو كان نجسا لم يسكت عنه الشرع، و لأنّ الاستحباب في النزح(4) يدلّ على عدم نجاستها، و إلاّ لوجب نجاسة ماء البئر عند الزيادة عليه(5) قبل غسلها، و المعلوم من عادة الشرع خلافه»(6).

الخامسة: وجوب النزح على القولين توصّلي و لو من جهة الأصل فيه،

و لازمه أن لا يعتبر فيه نيّة و لا قصد القربة و لا مباشرة نفسيّة، فلو انعقد في الخارج على العدد المقدّر لا بنيّة، أو بنيّة جهة اخرى، أو بنيّة نزح المقدّر لكن رياء، كان كافيا في سقوط

ص: 733


1- الدروس الشرعيّة 121:1.
2- الوسائل 183:1 و 184 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 5 و 6.
3- الوسائل 183:1 و 184 ب 17 من أبواب الماء المطلق ح 5 و 6.
4- يعني النزح الزائد على المقدّر في بعض النجاسات (منه).
5- يعني المقدّر (منه).
6- المعتبر: 19.

الأمر، كما أنّه كذلك لو حصل من غير المكلّف بالغا أو غيره، مسلما أو غيره بشرط عدم المباشرة المنجّسة، بل يكفي نزح المقدّر لو حصل من غير إنسان كالثور و نحوه، و قد صرّح بأكثر ما ذكرناه غير واحد من أصحابنا، منهم العلاّمة في المنتهى(1).

المبحث الثالث: فيما يتعلّق بما ينزح له من النجاسات الموجبة له،
اشارة

و فيه: مسائل ثلاث:

الاولى: قال المحقّق في شرائعه: «حكم صغير الحيوان في النزح حكم كبيره في النزح»

الاولى: قال المحقّق في شرائعه: «حكم صغير الحيوان في النزح حكم كبيره في النزح»(2)

و لعلّه أخذ بما يوجب اليقين بالبراءة، و إلاّ فلمنع انصراف أدلّة العناوين الموجبة للنزح إلى ما عدا الكبير - و لا سيّما ما كان من الصغير في أوائل تولّده - مجال واسع، و عليه دخول الصغير في غير المنصوص لا يخلو عن قوّة، غير أنّه لو قيل في غير المنصوص بما يزيد على مقدّر هذا النوع من الحيوان فالقطع حاصل بأنّ منزوح صغيره لا يزيد على منزوح كبيره، و لو قيل بما يقصر عنه فالاكتفاء به له غير بعيد، و إن كان الاحتياط في الأخذ بمقدّر النوع، و يعضده استصحاب النجاسة.

الثانية: قال في المنتهى: «لو وقع جزء الحيوان في البئر، كيده و رجله، يلحق بحكمه،

عملا بالاحتياط الدالّ على المساواة، و أصالة البراءة الدالّة على عدم الزيادة»(3)و هو الظاهر من شرائع المحقّق حيث قال: «إلاّ أن يكون بعضا من جملة لها مقدّر فلا يزيد حكم أبعاضها عن جملتها»(4).

و عن المحقّق الشيخ عليّ (5) احتمال إلحاقه بغير المنصوص لعدم تناول اسم الجملة له، و عن صاحب المعالم التفصيل قائلا: «بأنّه إن كان مقدّر الكلّ أقلّ من منزوح غير المنصوص اكتفى به للجزء، لأنّ الاجتزاء به في الكلّ يقتضي الاجتزاء به في الجزء بالطريق الأولى، و إن كان المقدّر زائدا فالمتّجه عدم وجوب نزح الزائد»(6) انتهى.

و هذا هو الأقرب و إن كان الأحوط المتأيّد بالاستصحاب على القول بالنجاسة اعتبار مقدّر الكلّ مطلقا.

نعم، على القول بوجوب النزح تعبّدا رجع الشكّ إلى ثبوت التكليف بالزائد و الأصل ينفيه، و لا يعارض هنا باستصحاب الأمر و لا اشتغال الذمّة، مع إمكان المنع

ص: 734


1- منتهى المطلب 105:1.
2- شرائع الإسلام 14:1.
3- منتهى المطلب 107:1.
4- شرائع الإسلام 14:1.
5- حكى عنه في مدارك الأحكام 98:1.
6- فقه المعالم 277:1.

عن أصل الاشتغال على هذا القول بالنسبة إلى غير المنصوص.

و هذا المنع قويّ متّجه، و عليه يختصّ ما تقدّم من حكم غير المنصوص و اخترنا فيه لزوم نزح الجميع بالقول بالانفعال، لأنّ الاشتغال على هذا القول تابع لعروض النجاسة للبئر و هو قدر مشترك بين المنصوص و غيره، و إن كان إتمامه في غاية الإشكال إلاّ من جهة الإجماع على عدم الفرق، و لعلّه ثابت. فتأمّل.

هذا كلّه إذا اتّحد الجزء أو تعدّد و علم بكونه من حيوان واحد، و أمّا مع الاشتباه في كونه من واحد أو اثنين ففي المدارك: «الأقرب عدم التضاعف، لأصالة عدم التعدّد»(1)و هو واضح الضعف، لأنّ التعدّد بالنسبة إلى الجزءين محرز فلا يعقل نفيه بالأصل، و بالنسبة إلى الكلّ محتمل ككون الاتّحاد محتملا فلا يقين بشيء منهما لاحقا و لا سابقا.

و عن الشهيد: «أنّ الأجود التضاعف»(2) و كأنّ مستنده الاستصحاب، لكن بناء على عدم التداخل و لو من جهة الاستصحاب.

و عن صاحب المعالم: «الوجه عندي نزح أقلّ الأمرين من مقدّر الكلّ من كلّ منهما و من منزوح غير المنصوص»(3)، و هذا جيّد و إن كان الاحتياط و استصحاب النجاسة يقتضي اعتبار مقدّر الكلّ بل القول بالتضاعف.

و لو اشتبه الجزء بين حيوانين مقدّر أحدهما أكثر من الآخر، فمقتضى الاستصحاب اعتبار مقدّر الأكثر، و منه يعلم الحال في الجزءين المشتبهين بين حيوانين مختلفين في المقدّر.

الثالثة: قال في الدروس: «و لو تضاعف المنجّس تضاعف النزح، تخالف أو تماثل في الاسم أو في المقدّر»

الثالثة: قال في الدروس: «و لو تضاعف المنجّس تضاعف النزح، تخالف أو تماثل في الاسم أو في المقدّر»(4)

و عزاه الخوانساري في الشرح(5) إلى جماعة من المتأخّرين، منهم المحقّق و الشهيد الثانيين(6)، و هو محكيّ عن المعالم أيضا(7)، و هذا هو الّذي يعبّر عنه بعدم التداخل مطلقا، و عن العلاّمة في جملة من كتبه كالقواعد(8)، و المنتهى(9)المصير إلى تداخل النجاسات مطلقا، متخالفة كانت كالإنسان و الكلب، أو متماثلة في

ص: 735


1- مدارك الأحكام 99:1.
2- ذكرى الشيعة 91:1.
3- المعالم 278:1.
4- الدروس الشرعيّة 121:1.
5- مشارق الشموس: 243.
6- كما في جامع المقاصد 147:1، و مسالك الأفهام 20:1.
7- فقه المعالم 275:1.
8- قواعد الأحكام 188:1 حيث قال: «و لو تكثّرت النجاسة تداخل النزح مع الاختلاف و عدمه».
9- منتهى المطلب 107:1.

الاسم كإنسانين، أو في المقدّر كالكلب و السنّور.

قال في المنتهى: «إذا تكثّرت النجاسة، فإن كانت من نوع واحد فالأقرب سقوط التكرير في النزح، لأنّ الحكم معلّق على الاسم المتناول للقليل و الكثير لغة؛ أمّا إذا تغايرت فالأشبه عندي التداخل.

لنا: أنّه بفعل الأكثر يمتثل الأمرين فيحصل الإجزاء، و قد بيّنّا أنّ النيّة غير معتبرة، فلا يقال: إنّه يجب عليه النزحان، لكلّ نجاسة مقدار مغاير»(1) انتهى.

و تبعه في ذلك شارح الدروس(2)، و عن المحقّق في المعتبر القول بعدم التداخل إذا كانت الأجناس مختلفة كالطير و الإنسان، و إن تماثلت في المقدّر، لأنّ الأصل في الأسباب أن تعمل عملها و لا يتداخل مسبّباتها، و تردّد إذا كانت متساوية، لأنّ النجاسة من الجنس الواحد لا تتزايد، إذ النجاسة الكلبيّة موجودة في كلّ جزء، فلا يتحقّق زيادة توجب زيادة النزح، و أنّ كثرة الواقع تؤثّر كثرة في مقدار النجاسة فتؤثّر شياعا في الماء زائدا، و لهذا اختلف النزح بتعاظم الواقع.

و ربّما يحكى عن ابن إدريس(3) التصريح بالفرق من دون تردّد.

حجّة القول الأوّل: ما تقدّم في أوّل شقّي المعتبر، و قد يقرّر: بأنّ مقتضي دليل كلّ نوع سببيّة وقوعه لاشتغال الذمّة بنزح المقدّر، فتعدّد السبب يقضي بتعدّد الاشتغال، و هو يقضي بتعدّد الامتثال.

و هذا القول هو الأقوى على ما قرّرناه في كتبنا الاصوليّة، و الحجّة المذكورة ممّا لا دافع لها، من غير فرق في ذلك بين القول بالتنجيس و القول بوجوب النزح تعبّدا، و إن كان على الثاني أظهر.

فإن قلت: نمنع استفادة السببيّة عن أدلّة أنواع النجاسة، لجواز كونها معرّفات كما في سائر العلل الشرعيّة للأحكام، فلا مانع من تعدّدها على معلول واحد.

قلت: مع أنّه لا يجري على القول بالتنجيس، لضرورة كون وقوع كلّ نوع سببا لنجاسة البئر، إن اريد به كونه مجرّد احتمال فهو ممّا لا يصغى إليه في إخراج الخطاب عن ظاهره، و لا يقدح في وجوب الأخذ بالظاهر، حيث إنّ الاستدلال ليس بعقلي صرف.

ص: 736


1- منتهى المطلب 107:1.
2- مشارق الشموس: 243.
3- السرائر 77:1.

و إن اريد به كونه مع ذلك ظاهرا، فمنعه أوضح ممّا مرّ، لوضوح ظهور الخطاب في السببيّة و لو من جهة دلالته التنبيهيّة، كما هو الحال في محلّ المقال.

مع أنّ الظاهر أنّ فرض المعرّفية غير مجد في حسم مادّة الإشكال، حيث لا فرق بين العلّة و المعرّف إلاّ في أنّ الاولى واسطة في الثبوت و الثاني واسطة في الإثبات، على معنى كونه علّة للعلم بالثبوت، فالمعرّف ما كان علّة تامّة لوجود شيء في الذهن، و كما أنّه يستحيل استناد وجود شيء في الخارج إلى أكثر من علّة تامّة واحدة، فكذلك يستحيل استناد وجوده الذهني إلى أكثر من علّة تامّة، و جواز اجتماع أكثر من دليل واحد في مسألة واحدة لا يقضي بكون العلم الحاصل فيها معلولا لكلّ واحد، بل العلّة حينئذ إمّا المجموع أو أحدها الغير المعيّن، مع انتفاء سبق البعض البالغ في العلّيّة أو كونه بالقياس إلى غيره أقوى في التأثير.

فحينئذ ينبغي أن يقال - في نظائر المقام مع فرض الاجتماع -: بأنّ وقوع كلّ معرّف سبب للعلم بوجود معرّفه الواقعي و إن لم نعرفه بعينه، سواء كان نفس الحكم الشرعي أو ما هو علّة له في الواقع، حتّى أنّه إذا اجتمع هناك معرّفان نقول: بتحقّق معلومين و هكذا، بل هذا ممّا لا بدّ منه على قياس ما هو الحال على فرض العلّيّة الواقعيّة، نظرا إلى أنّ كلّ واسطة في الثبوت واسطة في الإثبات أيضا، فبتعدّد العلّة يتعدّد المعلوم الّذي هو المعلول الواقعي.

و لا ريب أنّ المعلوم بعنوان كونه معلولا لا يتعدّد إلاّ إذا أثّر كلّ علّة بوجودها في وجود معلولها، و هو ملزوم للعلم بالوجود، و هكذا يقال في المعرّف و إن لم يكن المعلوم المتعدّد معلولا له.

و بالجملة تعدّد المعرّف بظاهر الخطاب بتعدّد التعريف، و هو لا يعقل إلاّ مع تعدّد المعرّف، و القول بكون الكلّ للتعريف إلى معرّف واحد خلاف ظاهر الخطاب القاضي بكون كلّ معرّفا تامّا.

و بالتأمّل فيما ذكرناه يندفع ما يقال - في تأييد الحمل على التعريف من -: أنّه إذا كان ظاهر الدليل اتّحاد المسبّب - و لو نوعا - كما هو المفروض، فلا حاجة إلى ارتكاب تعدّده الشخصي بتعدّد الأشخاص، بل ينبغي حمل السبب على المعرّف.

ص: 737

و يشهد له أنّه لا يفهم عرفا فرق بين ورود الأسباب المتعدّدة لحكم شخصي، مثل قوله: «إن زنى زيد فاقتلوه، و إن ارتدّ فاقتلوه»، و بين ورودها لحكم واحد بالنوع قابل للتعدّد الشخصي، مثل قوله: «إن قدم زيد من السفر فأضفه، و إن زارك في بيتك فأضفه».

و وجه الاندفاع: أنّ الاتّحاد و التعدّد الملحوظين في المقام إنّما يعتبران في إيجاد النوع، بل في إيجاب إيجاده لا في نفسه، فكون المسبّب واحدا بالنوع لا ينافي تعدّد إيجاداته إذا قضت به السببيّة المستفادة عن دليل كلّ نوع، و لا أنّه يوجب اعتبار التعدّد الشخصي في مورد الدليل، ليكون ارتكابا لخلاف ظاهر فيه، إذ الشخصيّة الملحوظة هنا من لوازم الامتثال بالنوع، لا من مقاصد دليل ذلك النوع و لا من محتملاته المخرجة له عن ظاهره، فإذا كان ظاهر الدليل سببيّة كلّ نوع أو كلّ وقوع لإيجاد نوع المسبّب و هو النزح، فقضيّة تعدّد الأنواع أو تعدّد الوقوعات تعدّد الإيجادات بتعدّد إيجابات إيجاده على حدّ الأوامر الواردة بإيجاد طبيعة واحدة في غير مورد التأكيد، فالحاجة ماسّة إلى اعتبار التعدّد لكن في الامتثال بنوع المسبّب لا في أشخاصه.

و أمّا التفرقة بين المثالين بكون الأوّل من باب ورود الأسباب المتعدّدة لحكم شخصي، و الثاني من باب ورودها لحكم واحد بالنوع، فضعفها واضح، بعد ملاحظة أنّ مجرّد إضافة «القتل» إلى «زيد» لا توجب كونه واحدا بالشخص، لما اعتبر في الشخصيّة من انضمام خصوصيّات اخر من جهة الفاعل و زمان الفعل و مكانه و نحوه، [و] كلّها ملغاة في المثال، فقتل «زيد» كضيافته أمر كلّي، غير أنّ الأوّل غير قابل لتعدّد اشخاصه في ظرف الخارج لا في وعاء الذهن، و الثاني قابل له.

و لعلّ ذلك الفرق أوجب توهّم كون الأوّل واحدا بالشخص و الثاني واحدا بالنوع.

و أنت خبير بأنّ ما هو من لوازم الوجود لا يؤخذ فيما هو من مقاصد الخطاب، و عدم قابليّة التعدّد في الخارج لا ينافي إمكان فرض التعدّد.

و من هنا نقول - في مثال القتل أيضا -: إنّ توارد الأسباب المتعدّدة عليه يقضي بتعدّد الأمر به على نحو التكاليف المتعدّدة، و لا ينافيه عدم بقاء التكليف بعد حصول امتثال واحد منها، لأنّ ذلك من جهة سقوط الباقي بارتفاع موضوعه لا من جهة أنّ الثابت بالدليل فيه تكليف واحد، أو من جهة كفاية امتثال واحد عن اشتغالات عديدة.

ص: 738

و من هنا يندفع اعتراضان آخران أوردا على التقرير المتقدّم في الاحتجاج:

أحدهما: منع قضاء تعدّد المسبّب بتعدّد الواجب، فإنّ المسبّب اللازم تعدّده بتعدّد أسبابه إنّما هو الوجوب، و لا ريب أنّ تعدّد الوجوب لا يقتضي تعدّد الواجب، بل من الجائز اجتماع إيجابات متعدّدة في واجب واحد للتأكيد أو لجهات اخر.

و ثانيهما: ما يرجع إلى منع اقتضاء تعدّد الواجب تعدّد الامتثال، بل يكفي فعل واحد عن فعلين، لصدق الامتثال مع الواحد أيضا على قياس ما هو الحال في الأغسال و غيرها من الأحداث المقتضية للوضوء أو الغسل.

وجه اندفاع الأوّل: أنّ الوجوب إن اريد به التكليف الفعلي المتوقّف فعليّته على العلم بتحقّق سببه الّذي منه صدور الخطاب الكاشف عن انقداح الطلب النفساني صدورا، المتوقّف تعلّقه على العلم بتحقّق جهة صدوره، فلا ريب أنّ تعدّده يقضي بتعدّد الواجب، كيف لا و كلّ عرض لا بدّ له من معروض، و مقايسة ذلك على مقام التأكيد غير سديدة، ضرورة أنّ الحادث في التأكيد ليس إيجابات حقيقيّة متعدّدة، بل إيجاب واحد مبيّن بعبارات متعدّدة، و حمل المقام على نظير ذلك خروج عن الظاهر بلا داع إليه.

و وجه اندفاع الثاني: أنّ معنى تعدّد الواجب تعدّد الاشتغال بأفعال متعدّدة أو فعل واحد بالنوع، و لا ريب أنّ تعدّد الأفعال ممّا يستدعي في حكم العقل تعدّد الامتثال ما لم يقم دليل على كفاية الواحد، و مع قيامه خرج المورد عن المبحث.

فمنه يتبيّن فساد التمثيل بالأغسال و غيرها، فإنّ الاكتفاء بالواقع هناك اتّباع للدليل الغير الموجود هنا، و لو سلّم عدم قضاء العقل بلزوم التعدّد في الامتثال عند تعدّد الاشتغال فلا أقلّ من الشكّ في اعتباره، و هو محرز للأصل المقتضي لبقاء الاشتغال بغير ما امتثل به، و لا رافع له في جانب اللفظ و لو من جهة الإطلاق كما لا يخفى.

و ممّا يعترض في المقام: إنّ القاعدة و إن اقتضت عدم التداخل، إلاّ أنّ من المعلوم في خصوص المقام أنّ النزح لإزالة النجاسة الحاصلة من ملاقاة ما وقع فيه، و النجاسة و إن تعدّدت أفرادها - كما يكشف عن ذلك اختلاف كيفيّة إزالتها - إلاّ أنّ الثابت من ذلك كفاية مزيل أحد الأفراد لإزالة الفرد الآخر المساوي له في الكيفيّة، فيكفي مزيل واحد للنجاسة الحاصلة من وقوع شاة و كلب، لأنّ الفرض اتّحاد نجاستهما لاتّحاد مزيلهما،

ص: 739

و كفاية مزيل الأشدّ لإزالة الأضعف، فيتداخل الأقلّ مقدارا في الأكثر.

و فيه: منع ثبوت هذا المعنى من أدلّة المقام، فالكفاية المدّعاة من كلّ من القسمين مبنيّة على أحد الأمرين، من أصالة التداخل في مسبّبات الأسباب، أو قيام القرينة عليه في خصوص المقام، و الكلّ محلّ منع، بل الأصل المستفاد من الأدلّة يقتضي خلافه و لا مخرج عنه هنا.

فإن قلت: لا ريب أنّ السبب المقتضي للنزح على القول بانفعال البئر بالملاقاة إنّما هو النجاسة العارضة للماء بسبب وقوع ما يقع فيها من أنواع النجاسات لا نفس الوقوع، فلا عبرة بتعدّد الوقوع و لا الواقع، بل المعتبر في عدم التداخل هنا - على ما يقتضيه الإنصاف - إحراز أحد الأمرين، من تعدّد الحدوث لصفة النجاسة على حسب تعدّد ما يقع فيها، بأن يحدث بوقوع كلّ واقع من صفة النجاسة فرد ممتاز و لو في علم اللّه سبحانه مقتض لمقدّره المعلوم له من الشرع، زاد على مقدّر الفرد الآخر أو ساواه أو قصر عنه، أو بلوغ الصفة الحادثة بكثرة الواقع و تلاحقه في القوّة و تأكّد التأثير حدّا لا ترتفع معه إلاّ بنزح مجموع المقدّرين أو المقدّرات المساوية أو المتخالفة، بدعوى: أنّ الصفة الحادثة مرتبة بالغة من مراتب النجاسة، بناء على أنّها تتأكّد و تتضاعف، و أنّ مجموع المقدّرين أو المقدّرات كأنّه في نظر الشارع مقدّر لتلك المرتبة، و كلّ من هذين الأمرين و إن كان ممكنا في نظر العقل لكن ليس في حكمه و لا في النصوص الواردة في الشرع ما يقتضي أحدهما.

غاية الأمر قيام احتمال في ذلك و هو لا يعارض الأصل الجاري في المقام، فإنّ الأصل عدم حدوث ما زاد على فرد واحد، كما أنّ الأصل عدم بلوغ الصفة الحادثة إلى ما ذكر من المرتبة.

و لا ينبغي معارضة ذلك الأصل باستصحاب النجاسة، كما تمسّك به بعضهم على عدم التداخل، لعدم كون ذلك الاستصحاب في مجراه، إمّا لانتفاء الحالة السابقة إن قرّر بالقياس إلى ما لم ينزح مقدّره، أو لتيقّن ارتفاع الأثر إن قرّر بالقياس إلى ما ينزح مقدّره.

و لا يقاس ذلك الاستصحاب على استصحاب القدر المشترك المتيقّن المردّد بين الأقلّ و الأكثر، لوضوح الفرق بينهما بكون القدر المشترك المتيقّن من أوّل الأمر مردّدا، فهو في الحقيقة كسائر مواقع الاستصحاب أمر واحد طرأه حالة يقين سابقة و حالة

ص: 740

شكّ لاحقة كما يظهر بأدنى تأمّل، بخلاف المقام لمكان اليقين بحدوث أثر أحد الواقعين بعينه كما في المتعاقبين، أو لا بعينه كما في المتقارنين، و الشكّ في حدوث أثر الآخر من أوّل الأمر، فاليقين و الشكّ هنا واردان على موضوعين ممتازين في حالة واحدة، لا على موضوع واحد في حالتين، كما لا يخفى.

قلت: كما أنّ صفة النجاسة الحاصلة في الماء سبب للنزح، كذلك وقوع النجاسة الخارجيّة في البئر سبب لحدوث تلك الصفة، و لمّا كانت السببيّة المستفادة من أدلّة كلّ نوع السببيّة التامّة - على معنى كون وقوع كلّ نوع سببا تامّا لانفعال ماء البئر إلى ما يتوقّف ارتفاعه على نزح المقدّر - فلا جرم يتعدّد الأثر الحاصل في الماء، سواء فرضت أثر كلّ فردا مستقلاّ من النجاسة، أو مجموع الآثار فردا بالغا في القوّة إلى ما لا يرتفع إلاّ بنزح مقدّرات المجموع، و إن كانت تلك الاستفادة حاصلة من إطلاق الأدلّة، فإنّ منع تماميّة السبب لا مستند له إلاّ قيام احتمال مدخليّة وجود شرط أو فقد مانع، و كلّ ذلك ممّا ينفيه إطلاق أدلّة السببيّة، و معه لا مجرى للأصل المذكور هنا.

و لا ينبغي نقض المقام بإطلاق أدلّة انفعال القليل من الراكد بكلّ نجاسة، و أدلّة تطهير الأواني و الثياب و غيرها عن النجاسات الملاقية لها، نظرا إلى أنّ الكلام حرفا بحرف جار في الجميع، و لا قائل بعدم التداخل في شيء من المسألتين، بل التداخل في ثانيتهما محكيّ عليه الاتّفاق في كلام بعض، لمكان الفرق بين المقامين، فإنّ الشرع في كلّ من المسألتين أسقط اعتبار إطلاق الأدلّة الموجودة فيهما، حيث دلّ من جهة الضرورة و غيرها على كفاية غسل واحد عن الجميع عند الاجتماع، و القول فيهما - عند التحقيق - القول في مسألتي الأغسال و رفع الأحداث الصغيرة، و إلاّ فلو لا ذلك لكان التمسّك بإطلاق الأدلّة في الجميع متّجها، و كان مقتضاه السببيّة التامّة المقتضية في كلّ سبب وظيفته و إن تعدّدت.

و يمكن الفرق بين المسألتين و غيرهما من النظائر و بين المقام بعد فرض اشتراك الجميع في بقاء إطلاق الأدلّة على حاله، و كون مقتضاه في الجميع تعدّد الآثار الحادثة في المحلّ من جهة تعدّد المؤثّرات، بناء على دلالة الإطلاق على كون كلّ مؤثّرا تامّا و لكنّ الشرع في غير المقام من جهة الضرورة اكتفى بمزيل واحد عن الجميع، و لا يجوز مقايسة المقام عليه لبطلانه رأسا، و لإمكان الفارق بمدخليّة خصوصيّة في البئر قاضية

ص: 741

بعدم الاكتفاء، بل تحقّق الفارق كما يفصح عنه الاختلاف في كيفيّة التطهير هنا اختلافا فاحشا شديدا مع انتفاء نظيره في المسألتين، و لو لا ذلك من جهة مدخليّة الخصوصيّة لبطل الفرق المذكور جدّا.

لا يقال: الإطلاق المدّعى هنا لعلّه في حيّز المنع، بل لا نرى في أدلّة المقام إطلاقا صالحا لتناول سائر الأحوال، إن لم نقل بظهورها حال الانفراد كما هو كذلك في أكثرها، كما لا يخفى على من يلاحظها سياقا و سؤالا و جوابا.

لأنّا نقول: إنّ المعتبر في نهوض الإطلاق دليلا عدم اعتبار التقييد لا ثبوت اعتبار الإطلاق، و إلاّ لانسدّ باب التمسّك بالمطلقات؛ و لا ريب في عدم ثبوت التقييد و لا عدم قيام ما يقضي باعتبار الانفراد، و ظهوره المدّعى و إن كان مسلّما في الجملة لكنّه غير كاشف عن الاعتبار، لكونه ناشئا عن اتّفاق الانفراد في الغالب؛ فالموجب للظهور هو غلبة اتّفاق الانفراد، و مثل هذه الغلبة غير معتبرة جدّا في شيء من المحاورة، و هل هي إلاّ نظير غلبة الصفاء في الماء الّذي رتّب عليه الشارع أحكاما كثيرة؟

و بالجملة: لا عبرة بالغلبة الناشئة عن مجرّد العادة، لكون موردها من البدو إلى الختم من اتّفاقيّات الامور لا من مقاصدها، بل المعتبر منها في إفادة انصراف اللفظ و ظهوره المعتبر في خلاف الإطلاق إنّما هو الغلبة في إطلاق اللفظ، بأن يغلب استعماله لبعض الأفراد المساوي للبعض الآخر في الوجود أو الأقلّ منه وجودا.

و من هنا يندفع ما عساك تقول في منع نهوض الإطلاق على بعض الوجوه: من إبداء احتمال مدخليّة طهر المحلّ و عدم سبق النجاسة إليه، فيكون ثاني السببين مصادفا للمحلّ و هو غير قابل للتأثير؛ و الإطلاق المتوهّم موهون جدّا بقوّة احتمال الغناء عن التصريح بالاشتراط و التعرّض للذكر بوجوده في موارد السؤال و عدم الحاجة إلى التنبيه عليه، كما يقتضيه سياق الأسئلة و غيرها، فإنّ ذلك في جميع النصوص ظاهر في ورود النجاسة أو فرض ورودها على محلّ طاهر، فإنّ ذلك ليس إلاّ من جهة الغلبة العادية المستندة إلى مجرّد الاتّفاق، و لا يصلح مثلها صارفة عن الإطلاق.

نعم، هنا مناقشة اخرى قويّة لم نقف على من سبقنا إليها كجملة ممّا تقدّم، و هي أنّ تحكيم هذا الإطلاق على الأصل المتقدّم ذكره يعارضه قضاء نفس تلك الأدلّة بكون

ص: 742

مقدّر كلّ نوع مطهّرا تامّا و موجبا مستقلاّ لطهر الماء، فحينئذ لو وقع فيها فردان من نوع، أو نوعان متساويان، أو مختلفان في المقدّر، فنزح مقدّر أحد الفردين أو أحد النوعين ساوى مقدّر الباقي أو زاد عليه أو نقص عنه، فإمّا أن يقال: بحصول الطهر في الماء، أو يقال: بتوقّفه على نزح مقدّر الباقي.

و الأوّل اعتراف بالتداخل و عدم تضاعف النزح، و الثاني إخراج للسببيّة المستفادة عن الإطلاق عن كونها تامّة.

بل الإنصاف: أنّ استفادة السببيّة التامّة عن تلك الأدلّة بالقياس إلى المنجّس ليست بأظهر من استفادتها بالقياس إلى المطهّر، إن لم نقل بأنّها في الدلالة على أنّ كلّ مقدّر سبب تامّ للطهر أظهر، فقضيّة التنافي بين القضيّتين طرح إحداهما و الأخذ بالاخرى بمرجّح خارجي، و لا يبعد كون الرجحان في جانب القضيّة الثانية، لتأيّدها أوّلا:

بالأصل المتقدّم، و ثانيا، بملاحظة النظائر الّتي تقدّم إلى بعضها الإشارة؛ و ثالثا: بقضاء الاعتبار بأنّ أثر النجاسة ليس من الامور القابلة للتعدّد.

و احتمال التأكّد بكثرة الوارد ليس ممّا يساعد عليه النظر، حيث لا مقتضي له سوى قيام الدليل على تأكّد أثر بعض النجاسات بالقياس إلى أثر نجاسة اخرى، كالخمر بالقياس إلى الدم، كما يفصح الاختلاف في المقدّر بالكثرة و القلّة؛ و هو كما ترى قياس و مع الفارق، لجواز كون تأكّد الأثر في المقيس عليه من مقتضيات ذات المؤثّر و طبعه، فكيف يقاس عليه غيره في اقتضاء التأكّد بواسطة أمر عرضي و هو انضمام مؤثّر إلى مثله.

و لكن يمكن دفعها: بمنع اقتضاء الأدلّة كون كلّ مقدّر سببا تامّا للطهر، بل القدر المسلّم اقتضاؤها كونه سببا تامّا لزوال الأثر الناشئ عن النوع المعلّق على وقوعه ذلك المقدّر، و لا ريب أنّه بحكم السببيّة التامّة في مزيله حاصل، غايته كونه مقارنا لطهر المحلّ إن قلنا بكونه أمرا وجوديّا، و قد يقارن أثر النجاسة الباقية المتوقّف زواله على نزح مقدّرها أيضا، فعدم حصول الطهر فعلا لمانع بعد نزح أحد المقدّرين لا ينافي كون ذلك النزح سببا تامّا كما لا يخفى.

و أمّا ما ذكر من الوجوه في تأييد القضيّة الثانية، فليس شيء منها بشيء يصلح للتعويل عليه في نظائر المقام.

ص: 743

و بالتأمّل في جميع ما ذكر ظهر ضعف حجّة القول بالتداخل مطلقا أو في الجملة،

و بقي في المقام امور ينبغي الإشارة إليها من باب التفريع.
أحدها: قضيّة الدليل المذكور عدم الفرق في المنجّس بين النوعين المختلفين في الاسم و الحكم معا، أو في الاسم فقط،

واقعين في البئر على سبيل التعاقب أو الدفعة، و بين فردين من نوع واحد، خلافا لمن توهّم الفرق محتجّا في الأخير: بأنّ الحكم معلّق في الأخير على الاسم المتناول للقليل و الكثير لغة و عرفا.

و اجيب عنه: بأنّ ظاهر الأدلّة في الأكثر تعلّق الحكم بالفرد من الجنس، نعم قد يتمّ ذلك في مثل البول و العذرة و أشباهها، لشمول اللفظ للقليل منهما و الكثير، أمّا في مثل البعير و الحمار فلا، لعدم شمول اللفظ أزيد من واحد.

و لا يخفى وهنه على الخبير البصير، فإنّ الأحكام تتبع الطبائع باعتبار وجوداتها، على معنى أنّ المصحّح لتعلّق الحكم بها وجوداتها الخارجيّة و لو بحسب الإمكان لئلاّ يلزم السفه، مضافا إلى التكليف بغير المقدور.

نعم، قد ترد الطبيعة في الخطاب مقرونة بما هو من لوازم الوجود الخارجي، ك «الوقوع» الوارد في أسئلة نصوص الباب و أجوبتها كما هو الأكثر، فيظنّ أنّ ذلك الوجود له مدخليّة في موضوع الحكم فيترتّب عليه حينئذ دعوى تعلّقه بالفرد، و هذا كما ترى، فإنّ أقصى ما يلزم من ذلك توارد السؤال و الجواب على الفرد من حيث انطباقه على الطبيعة المطلقة لا من حيث الفرديّة.

فتحصّل من ذلك دفع الاحتجاج بأنّه إن اريد بما ذكر كون ذلك هو الأصل في المسألة الاصوليّة فقد دفعناه في محلّه، و إن اريد به كونه كذلك في خصوص المقام بملاحظة ما ذكر من القرينة فقد تبيّن منعه.

فالحقّ أنّ الحكم معلّق على الطبيعة من غير نظر إلى الأفراد، و قد دلّ الدليل على أنّها في ضمن أيّ فرد تحقّقت مؤثّر تامّ لما يقتضي نزح المقدّر، و مقتضي المؤثّريّة التامّة تعدّد أثرها بوقوعاتها المتعدّدة على سبيل التدريج.

فما في بعض العبائر من دعوى القطع بعدم الفرق في الحكم بين مقدار من البول وقع دفعة أو وقع كلّ جزء منه دفعة؛ و أنّا نفهم من أدلّة وقوع هذه الطبائع أنّ السبب وجودها

ص: 744

في البئر و لو برجوعات متعدّدة، واضح الضعف؛ بعد ملاحظة ما بيّنّاه من قاعدة السببيّة.

و أضعف منه ما في كلام بعض المشايخ من: «أنّ الدليل لمّا دلّ على أنّ العذرة ينزح لها خمسون دلوا و كانت ماهيّة صادقة على القليل و الكثير، و اشتغل الذّمّة بالنزح بالوقوع الأوّل و جاء الوقوع الثاني انقلب الفرد الأوّل إلى الثاني، فصارت مصداقا واحدا للماهيّة، و هكذا كلّما يزداد فيدخل تحت قوله عليه السّلام: «العذرة المذابة ينزح لها خمسون» و ليس هذا إلاّ كتعدّد النوع الواحد من الحدث الأصغر أو الأكبر، كالبول مرّات و الجنابة مرّات»(1) انتهى.

و لعلّه قدّس سرّه فرض الكلام فيما يقع مستمرّا على وجه يكون أجزاؤها الواقعة متواصلة أو متفاصلة بفصل غير معتدّ به، و إلاّ فلا يرجع إلى محصّل، فإنّ الواقع بالوقوع الأوّل قد وقع بوصف أنّه مؤثّر تامّ فلا بدّ له من أثر لا محالة، ثمّ إذا جاء الوقوع الثاني فإمّا أن ينعقد به مع قطع النظر عن الأوّل المؤثّر التامّ أو لا، و على الأوّل فما معنى الانقلاب؟ و أيّ شيء أوجب وحدة المصداق؟ مع أنّه عند التحقيق غير معقول بملاحظة أنّ الواقع أوّلا قد انعدم بعد وقوعه بالاستهلاك، و الواقع ثانيا حين وقوعه موجود، و كيف ينعقد المعدوم مع الموجود مصداقا واحدا لماهيّة.

ثمّ أيّ فائدة في ذلك الانقلاب و وحدة المصداق إلاّ قيام الأثر بهما معا، و هو خلاف فرض كونهما مؤثّرين تامّين؛ مع أنّه غير معقول أيضا، إذ الأثر قد استكمل بالأوّل فتوجّه الثاني أيضا إليه توارد للعلّتين التامّتين على معلول واحد.

إلاّ أن يقال: بكون ترتّب الأثر على الأوّل معلّقا على لحوق الثاني و هو خلاف ما فرضناه أوّلا كما لا يخفى.

و على الثاني فعدم التأثير إمّا لقصور في الواقع، بدعوى: أنّه فاقد للماهيّة الّتي علّق عليها التأثير، أو فاقد للخصوصيّة الثابتة في الواقع الأوّل. أو لقصور في المحلّ، بدعوى: أنّه لا يتأثّر إلاّ إذا كان فارغا عن أثر مؤثّر آخر.

و لا سبيل إلى شيء منها، لقيام الضرورة بوجود الماهيّة، كيف لا و أنّ الكلام على هذا الفرض دون غيره، و ضرورة عدم مدخليّة الخصوصيّة المتعيّنة في صلاحية التأثير

ص: 745


1- جواهر الكلام 494:1.

و لا فعليّته، سيّما مع أنّ الكلام على تقدير تعلّق الحكم بالطبيعة و ظهور إطلاق الأدلّة - على ما بيّنّاه - في عدم مدخليّة ما عدا الماهيّة، فسبق أثر إلى المحلّ لا يصلح مانعا عن التأثير و إلاّ لزم تقييد الأدلّة بلا شاهد عليه.

و نعم ما قيل(1) - في دفع بعض ما ذكر - من: أنّ صدق «أنّ العذرة ينزح لها خمسون» على الكلّ إنّما يوجب حدوث سبب متأخّر عن الكلّ، لا انقلاب ما حدث بالأوّل إلى كونه مسبّبا عن المصداق الواحد الصادق على الكلّ.

ثمّ تشبيه المقام بمسألة الحدث الأصغر و الأكبر، قد عرفت ما فيه بغير مرّة.

نعم، ربّما يشكل الحال في اعتبار تعدّد الأثر على حسب تعدّد الفرد الواقع في صورة وقوع الفردين على سبيل الدفعة، إذ الماهيّة حينئذ ليست إلاّ واحدة صادقة على الجميع، و لم يتحقّق لها وقوع إلاّ مرّة واحدة، فكيف يتعدّد أثرها.

و قد يفصّل:(2) بأنّ موضوع الحكم بالمقدّر إن كان هو الفرد الواحد فوقوع المتعدّد دفعة في حكم المتعاقبين، و احتمال خروج ذلك عن مورد النصّ ضعيف، و إن كان هو الطبيعة الكلّيّة الصادقة على القليل و الكثير فلا يحصل التعدّد فيها إلاّ بالتعاقب مع الفصل الموجب لصدق التعدّد.

أقول: و يمكن اعتبار التعدّد أيضا على الوجه الثاني، إذ لا عبرة بتعدّد الوقوع حتّى يقال: بانتفائه هنا، و لا أنّ النظر في هذا الوجه إلى تعدّد الواقع حتّى يقال: برجوعه إلى الوجه الأوّل، بل المعتبر تعدّد التأثير و إن كان قائما بماهيّة واحدة، كما هو كذلك في الفردين المتعاقبين، و كما أنّ الماهيّة يجوز اتّصافها بوصفين متضادّين فصاعدا، و وجودها في مكانين متغايرين فصاعدا، فكذلك يجوز اتّصافها بتأثيرين فصاعدا، كلّ تأثير في ضمن خصوصيّة لا بشرط انضمام الخصوصيّة، بل لأنّ من دأبها أن تؤثّر حال الوجود، نظرا إلى أنّ التأثير الفعلي من لوازم وجودها الخارجي و لا وجود لها إلاّ مع انضمام الخصوصيّة، و لا يعقل فرق من هذه الجهة بعد إلغاء الخصوصيّة بين وجودها في ضمن فردين متقارنين و وجودها في ضمن فردين متعاقبين، فإنّ المؤثّر في الكلّ هو

ص: 746


1- القائل هو الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة 251:1.
2- المفصّل هو الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في المصدر السابق.

الماهيّة، و كما يتعدّد تأثيرها مع التعاقب فينبغي أن يتعدّد التأثير مع التقارن، و مجرّد تقارن الفردين و تعاقبهما مع إحراز بعض ما سبق لا يصلح في حكم العقل فارقا بينهما في الحكم، كيف لا و لا ريب أنّها في ضمن كلّ من الفردين المتقارنين كانت مؤثّرة تامّة على تقدير الانفراد و عدم اتّفاق الانضمام بينهما حتّى أنّها من جهتها منفردين كانت مقتضية لأثرين، فأيّ شيء أسقطها عن هذا الحكم؟ و هل هو إلاّ إنكار السببيّة التامّة بالقياس إليها؟ أو رجوعا عن القول بأنّ الأدلّة قضت بكونها سببا تامّا للتنجيس كائنة ما كانت؛ و المفروض تحقّقها في ضمن كلّ من الفردين فيجب بحكم السببيّة المطلقة أن تؤثّر أثرين.

و ثانيها: عن أهل القول بعدم التداخل أنّه استثنوا من ذلك ما إذا تبدّل موضوع حكم بسبب تعاقب الفردين من ماهيّة فصاعدا بموضوع حكم آخر،

كما لو وقع دمان قليلان فصاعدا إلى أن بلغ المجموع حدّ الدم الكثير الّذي هو موضوع لنزح خمسين، كما أنّ القليل موضوع لنزح عشرة فاكتفوا منه بمنزوح الموضوع الثاني و هو خمسون في المثال.

و عن الشهيد رحمه اللّه(1) استثناء آخر لما إذا كان التكثّر داخلا تحت الاسم كزيادة كثرة الدم، فلا زيادة في القدر حينئذ لشمول الاسم.

و الأوّل لا يخلو عن مناقشة، فإنّ القليل و الكثير ليسا بعنوانين واردين في النصوص ليتمسّك في الموارد المشتبهة بإطلاق لفظيهما، و إنّما هما معنيان استفادوهما من النصوص الواردة في رمي الشاة و الدجاجة كما مرّ، فيضعف تناولهما لمثل هذه الكثرة الانتزاعيّة جدّا.

بل لو كان الموجود في النصوص هو لفظ «الكثرة» - كالموجود في الفتاوي - لكان شموله لمثل المقام في غاية الإشكال، إذ «الكثرة» هنا في مقابل «القلّة» فتكون ظاهرة فيما كان وصفا حقيقيّا في فرد، لا ما كان منتزعا عن أفراد، مع أنّك قد عرفت أنّ التأثير قائم بذات المؤثّر حال الوجود، فالمقتضي لنزح خمسين إنّما هو الكثير الخارجي لا مفهومه الذهني الصرف و لا خارج له هنا، لأنّ الفرد الأوّل عند وجوده كان منفردا عن الثاني ثمّ انعدم باستهلاكه في الماء عند وجود الثاني.

ص: 747


1- ذكرى الشيعة 91:1.

نعم، إذا اعتبر العقل بينهما حالة انضمام حصل عنده عنوان «الكثرة» و ليس ذلك إلاّ مفهوما ذهنيّا، مع أنّ الفرد الأوّل بحكم أدلّة السببيّة قد أثّر بحدوثه في نزح العشرة جزما، فإذا حدث الفرد الثاني لكان ينبغي أن يؤثّر في نزح عشرة اخرى لا في انقلاب الحكم الأوّل إلى حكم آخر، لا لأنّ الأصل عدم حدوث ذلك الحكم، حتّى يعارض بأصالة عدم حدوث العشرة الثانية نظرا إلى أنّ الشكّ في تعيين الحادث لا في نفس الحدوث، بل لأنّ الانقلاب يقتضي زوال الحكم الأوّل و حدوث حكم آخر و الأصل في الحادث القلّة، و لا ريب أنّ الزوال محلّ شكّ و لا معارض للأصل النافي له.

مع أنّه كما يصدق على مجموع هذه الدماء عنوان «الكثرة» فيندرج بذلك في أدلّة دم الكثير، فكذلك يصدق على كلّ واحد عنوان «القلّة» فيندرج بذلك في أدلّة القليل، و لا يمكن الجمع بين الدليلين بمراعاة المنزوحين الحاصلة بنزح الخمسين تارة اعتبارا للمجموع، و نزح العشرة مكرّرا تارة اخرى اعتبارا لكلّ واحد، لأنّ العبرة في تعدّد السبب المقتضي لتعدّد المسبّب بالتعدّد الحقيقي الخارجي، و المغايرة بين المجموع و كلّ واحد اعتباري عقلي، فيجب إعمال أحد الدليلين بإعمال الترجيح بينهما، و لعلّ الرجحان مع دليل العشرة لكون القلّة في كلّ واحد حقيقيّة و الكثرة في المجموع اعتباريّة.

و ملخّصه دعوى: أنّ أدلّة القليل أظهر شمولا للمقام من أدلّة الكثير فيجب العمل بها.

و قد يتكلّف في المقام بلزوم مراعاة أكثر الأمرين من منزوح القليل المتكرّر و منزوح الكثير جمعا بين الدليلين، بدعوى: «أنّ الموجود في الخارج على سبيل البدل إمّا أسباب متعدّدة للعشرة، و إمّا سبب واحد للخمسين، و لا وجه لإلغاء تأثير مصداق السبب المقتضي للأكثر، و لا لإلغاء تأثير المقتضي للأقلّ، لكنّه يتداخل في الأكثر لعدم إمكان الجمع بين مقتضاهما للحكم بالسبعين فيما لو وقع دمان قليلان.

و إنّما اعتبرنا التداخل في جانب الأقلّ إذ بعد البناء على تداخل مقتضي المصداقين لا معنى لتداخل الأكثر في الأقلّ إلاّ إسقاط الزائد مع وجود سببه، و هو طرح لإطلاق دليله من غير تقييد، بخلاف تداخل الأقلّ في الأكثر فإنّه لا يوجب إسقاطا، فلو فرضنا أنّ التعدّد يقتضي أزيد من الخمسين كما إذا وقع القليل سبع مرّات فصار بالثامن كثيرا، فإنّه و إن صدق على المجموع «وقوع الدم الكثير»، إلاّ أنّه يصدق أيضا «وقع فيه سبع

ص: 748

مرّات بل ثمانية دماء قليلة» فلا معنى حينئذ لإلغاء ما يوجبه كلّ مرّة، و ليس في ذلك إلغاء لمقتضى مصداق الدم الكثير»(1).

و فيه: أنّ الجمع بعد فقد المرجّح و اليأس عن الترجيح، و قد عرفت وجود المرجّح، فالأقوى إذن الاكتفاء بمنزوح القليل متكرّرا حسب تكرّر الدم، زاد المجموع على منزوح الكثير أو ساواه أو نقص عنه، و إن كان الاحتياط مع مراعاة جانب الكثير، و أحوط منه الأخذ بالأكثر كائنا ما كان.

و ثالثها: قضيّة إطلاقهم في عدم التداخل مع إطلاق قولهم فيما تقدّم بلحوق الجزء بالكلّ تضاعف النجاسة فيما لو وقع فيه جزءان من حيوان،

لكن عن الشهيد(2) أنّه مع اختياره القولين المذكورين اكتفى بنزح مقدّر الكلّ، بناء على صدق الاسم فيما لو اتّفق وقوع أجزاء الحيوان كلّها دفعة أو تدريجا، و قد يقال: بأنّه مستثنى من قاعدة عدم التداخل، و كأنّ القائل بدخول الجزء فيما لا نصّ فيه أيضا قائل بالاكتفاء.

و اعترض عليه الخوانساري في شرح الدروس بأنّ: «ذلك يستلزم نقصان النزح بسبب زيادة النجاسة، و ذلك لأنّه إذا وقع جزءان من الحيوان دفعتين بحيث لم يتمّ كلّه فعلى القول بالإلحاق و عدم التداخل يجب نزح مقدّر ذلك الحيوان مرّتين، و على القول بإدخاله فيما لا نصّ فيه يجب نزح ما يجب فيه مرّتين، و إذا وقع حينئذ الجزء الآخر الّذي يتمّ به الحيوان يجب نزح مقدّره «مرّة»، فيلزم المحذور على الأوّل مطلقا و على الثاني إذا كان هذا المقدّر أقلّ من مرّتي منزوح ما لا نصّ فيه».

ثمّ دفعه رحمه اللّه: «بأنّ الاستبعاد في الامور الشرعيّة ممّا لا مجال له خصوصا في أحكام البئر»(3).

و أنت خبير بعدم ابتناء الاعتراض على الاستبعاد الصرف، بل الاعتراض متّجه من جهة أنّ في الحكم المذكور مخالفة للأصل، لابتنائه على انقلاب الحكم الأوّل الناشئ من قاعدة عدم التداخل المبتنية على قاعدة السببيّة، و لا معنى له إلاّ زوال حكم و حدوث حكم آخر، و لا دليل لهم عليه يرفع حكم الأصل.

ص: 749


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 254:1، مع اختلاف يسير.
2- ذكرى الشيعة 91:1.
3- مشارق الشموس: 243.

و تحقّق صدق اسم الكلّ لا يصلح رافعا لحكم حادث قبله، و إنّما هو موجب لحدوث حكم غير حادث لو لا المانع، و هو هنا غير معقول لما عرفت من كون المغايرة بين الكلّ و الأبعاض اعتباريّة، و معه لا يتعدّد مقتضاهما.

إلاّ أن يدفع: بأنّ الحكم بلحوق الجزء بالكلّ كان مبنيّا على الاحتياط، بناء على عدم صدق اسم الكلّ على الجزء، و تضاعف النزح على تقدير تعدّد الجزء الغير البالغ حدّ الكلّ أيضا كان مبنيّا على ذلك، فالاستصحاب المذكور النافي لاحتمال زوال الحكم الأوّل استصحاب في حكم الاحتياط، فهو حكم ظاهري في حكم ظاهري، و صدق الاسم حيثما تحقّق إنّما يعطي الحكم الواقعي و لو بملاحظة دليل اجتهادي، و من البيّن ارتفاع الحكم الظاهري بانكشاف الحكم الواقعي و حدوثه.

لكن إنّما يستقيم ذلك بعد تسليم قضيّة الصدق، و إلاّ فللمناقشة فيه مجال واسع، لوضوح مدخليّة تواصل الأعضاء في صدق اسم الحيوان بعنوان الحقيقة أو المجاز القريب.

و الأولى في كلّ من الجزء و الجزءين فصاعدا و تمام الأجزاء اعتبار ما تقدّم عن صاحب المعالم(1) من الاكتفاء بأقلّ الأمرين من مقدّر الكلّ و مقدّر غير المنصوص، و دليله الأولويّة.

إلاّ أن يقال: بمنع الأولويّة، بل ثبوتها مع تمام الأجزاء أو ما يقرب منه من الأجزاء الناقصة في الإلحاق بغير المنصوص المقتضي عند التعدّد المفروض تعدّد نزح ما يجب لغير المنصوص، للقطع بأنّ النجاسة الملاقية للماء حينئذ أكثر و أزيد من الملاقية فيما لو وقع الحيوان كاملا متواصلة الأعضاء، هذا و مع ذلك فالمسألة ليست بخالية عن الإشكال.

و ممّا ذكرناه جميعا بان الحكم فيما لو وقع جزءان من إنسانين مثلا، فعلى القول بإلحاق الجزء بالكلّ يجب نزح مقدّر الإنسان مرّتين، و على القول بإدخاله فيما لا نصّ فيه يجب منزوح ما لا نصّ فيه مرّتين، و على قول صاحب المعالم يجب نزح أقلّ الأمرين من المقدّر للكلّ من كلّ منهما و من منزوح غير المنصوص، كذا قيل.

و رابعها: عن الشهيد في الذكرى أنّه ألحق الحيوان الحامل و ذا الرجيع النجس بغيرهما،

و رابعها: عن الشهيد في الذكرى(2) أنّه ألحق الحيوان الحامل و ذا الرجيع النجس بغيرهما،

إمّا لانضمام المخرج المانع من الدخول في الماء، أو لإطلاق الأدلّة في تقدير

ص: 750


1- فقه المعالم 277:1.
2- ذكرى الشيعة 91:1.

النزح، إلاّ إذا انفتح المخرج بحيث تحقّق معه ملاقاة الماء لما في الباطن.

و عن صاحب المعالم(1) أنّه استوجهه إلاّ في ثاني التعليلين، فإنّ الاعتماد عليه في الحيوان الحامل مشكل، من حيث إنّ الإطلاق إنّما يجدي فيما يغلب لزومه لذي المقدّر كالرجيع الكائن في الجوف، و ليس الحمل منه كما لا يخفى، و إنّما الاعتماد على التعليل الأوّل و استحسنه في هذا الكلام الخوانساري(2).

و الظاهر ابتناء هذا الكلام على قاعدتهم في انصراف المطلق إلى الغالب، الّتي مآلها إلى مانعيّة الندرة عن شمول الإطلاق، و إن كان مؤدّى العبارة يعطي شرطيّة الغلبة للشمول، و على أيّ تقدير فلا وجه له بعد ملاحظة ما سبق بيانه من أنّ العبرة في انصراف المطلق ليست بالغلبة العاديّة.

و خامسها: عن صاحب المعالم أنّه بعد ذكر المسألة قال: «إذا تقرّر هذا، فاعلم أنّ الحكم على تقدير سعة ماء البئر لنزح المقادير المتعدّدة واضح.

و أمّا مع قصوره عنها فالظاهر الاكتفاء بنزح الجميع، لأنّه به يتحقّق إخراج الماء المنفعل، و الحكم بالنزح إنّما تعلّق به، و هذا آت فيما لو زاد المقدّر الواحد عن الجميع أيضا.

و حينئذ فلو كان كلّ واحد من المتعدّد موجبا لنزح الجميع حصل التداخل و اكتفى بنزحه مرّة، و لو كان الماء - و الحال هذه - غالبا و قلنا بقيام التراوح مقام نزح الجميع حينئذ، ففي الاكتفاء بتراوح اليوم للكلّ نظر.

من حيث إنّه قائم مقام نزح الجميع و بدل منه، و قد فرض الاكتفاء في المبدل بالمرّة فكذا البدل.

و من أنّ الاكتفاء في المبدل بالمرّة إنّما هو لزوال متعلّق الحكم بالنزح أعني الماء المنفعل، و ذلك مفقود في البدل، و لا يلزم من ثبوت البدليّة المساواة من كلّ وجه.

و يمكن ترجيح الوجه الأوّل بأنّ ظاهر أدلّة المنزوحات كون نزح الجميع أبعد غايات النزح عند ملاقاة النجاسات، و قيام التراوح مقامه حينئذ يقتضي نفي الزيادة عليه»(3) انتهى.

ص: 751


1- فقه المعالم 277:1.
2- مشارق الشموس: 243.
3- فقه المعالم 276:1-275.

و لا يخفى ضعف الوجه الأوّل مع ما ذكره في ترجيحه، فإنّ التراوح يقوم مقام نزح الجميع في كونه أبعد الغايات إذا لم يتعدّد ما يوجب نزح الجميع، و أمّا معه فسقوط الحكم مع حصول نزح الجميع مرّة إنّما هو لعدم قابليّة المحلّ للتعدّد لا لحصول ما هو أبعد الغايات عن الكلّ، و حينئذ فلا موجب لسقوط التعدّد عن التراوح المفروض بدلا، لانتفاء موجب السقوط و هو تعذّر التعدّد.

فقضيّة البدليّة تعدّد البدل مع تعدّد المبدل و اتّحاده مع اتّحاده، و إن شئت نظّر المقام بمسألة قتل زيد إذا تعدّد أسبابه كقتل النفس مرّتين مثلا، و قلنا: ببدليّة الدية عن القصاص إذا رضي بها أولياء الدم، فحينئذ لو اختير المبدل فلا إشكال في الاكتفاء بالمرّة، و إن قلنا بعدم التداخل لعدم قابليّة المحلّ للتعدّد، و أمّا مع اختيار البدل فلا أظنّ قائلا يقول بالاكتفاء فيه بدية واحدة.

و أمّا ما قيل: من أنّ الواجب أوّلا نزح الجميع للكلّ فإن لم يمكن قام مقام الجميع التراوح، و كما أنّه إذا نزح الجميع في صورة الإمكان أجزأ لعدم بقاء ما يتعلّق به النزح، كذلك إذا نزح الماء بطريق التراوح، فإنّ ماء التراوح على هذا يكون عبارة عن مجموع ماء البئر، فلم يبق للنزح حينئذ متعلّق حتّى يمكن تعدّد البدل، لأنّ الماء الباقي بعد التراوح يكون في حكم النابع بعد نزح الجميع، و كما أنّه لا يتعلّق النزح بالنابع فكذلك لا يتعلّق بما هو مثله.

فضعفه واضح جدّا، ضرورة أنّ التراوح بدل عن نزح الجميع في تعلّق الحكم به لا أنّه بدل عنه في ارتفاع الحكم عنه، و لا ريب أنّ الحكم قد تعلّق بنزح يتعدّد بتعدّد أسبابه من أوّل الأمر، غايته أنّه إذا حصل في الخارج مرّة ارتفع الحكم عن الباقي لعدم بقاء متعلّقه، لا أنّ الباقي لم يتعلّق به الحكم من أوّل الأمر، و لذلك لا يوجب ذلك تخصيصا في دليل سببيّة ما يقتضي من النجاسات نزح الجميع ثانية و ثالثة و هكذا، فإنّ زوال الحكم المتعلّق بانتفاء متعلّقه غير عدم تعلّق الحكم من أوّل الأمر بما هو صالح له، و التخصيص يلزم على الأوّل دون الثاني، فإذا فرض أنّ الحكم يتعدّد تعلّقه بنزح الجميع عند تعدّد أسبابه و فرض تعذّر ذلك من جهة غلبة الماء و استيلائه، فلا جرم يتعدّد الحكم المتعلّق ببدله بعد ثبوت البدليّة؛ و المفروض أنّ انتفاء المتعلّق بالقياس إليه

ص: 752

غير معقول ما دام نزح الجميع غير ممكن، فلا مقتضي حينئذ لسقوط الحكم عن الباقي بعد حصول التراوح مرّة، و لو فرض أنّ الماء الباقي بعد تراوح اليوم يقصر عن تراوح يوم آخر فهو فرض انكشاف خطأ في ظنّ تعذّر نزح الجميع أوّلا، فينكشف به عدم انتقال الحكم من المبدل إلى بدله من أوّل الأمر، فيجب الإقدام على نزح الباقي لينعقد به نزح الجميع المأمور به الأوّلي.

و لو سلّم أنّ الحكم أوّلا بمقتضى حجّيّة الظنّ كان متعلّقا بالبدل، فانكشاف القصور بالقياس إلى البدل الآخر يكشف عن كون الحكم بالقياس إليه قائما بنفس المبدل لا منتقلا منه إلى البدل.

***

ص: 753

ينبوع [في المسألة البئر و البالوعة]

لا ينجّس البئر بالبالوعة، قربت منها أم بعدت ما لم يعلم بتغيّرها بما فيها إذا كان نجاسة عينيّة، على المختار من عدم انفعالها بمجرّد الملاقاة أو بملاقاة ما فيها لها، و إن لم يكن نجاسة عينيّة على القول الآخر، و لا يكفي فيهما الظنّ المطلق بتحقّق السبب، و الكلام في كلّ هذه المطالب و أدلّتها قد تقدّم، و يدلّ على المختار أو يؤيّده رواية محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه السّلام في البئر يكون بينها و بين الكنيف خمسة أذرع و أقلّ و أكثر يتوضّأ منها؟ قال: «ليس يكره من قرب و لا بعد، يتوضّأ منها و يغتسل ما لم يتغيّر الماء»(1).

و على القول الآخر يؤول الرواية إلى أنّ التغيّر إنّما اعتبر هنا أمارة غالبيّة على الملاقاة، لا لقصر الحكم على التغيّر ليخرج عنه الملاقاة المطلقة.

و البالوعة: ثقب في وسط الدار كما في المجمع(2)، و عن الصحاح أيضا(3)، أو بئر يحفر ضيّق الرأس يجري فيها ماء المطر و نحوه كما عن القاموس(4)، أو مجمع ماء النزح كما في الروضة(5)، أو مرمى مطلق النجاسات كما عن الروض(6)، أو ما يرمى فيه ماء النزح أو غيره من النجاسات كما في المدارك(7)، و هو الأجود.

و على أيّ معنى فحكموا بأنّه تستحبّ التباعد بينها و بين البئر و اتّفقوا عليه، و إن اختلفوا في تحديد ما ينبغي بينهما من البعد، فعن المشهور - مع استفاضة حكاية الشهرة فيه - أنّه بخمسة أذرع مع صلابة الأرض أو فوقيّة البئر، و بسبعة أذرع مع انتفاء الأمرين.

ص: 754


1- الوسائل 200:1 ب 24 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 1294/411:1.
2- مجمع البحرين؛ مادّة «بلع».
3- الصحاح؛ مادّة «بلغ» 1188:3.
4- قاموس اللغة 7:3.
5- الروضة البهيّة 47:1.
6- روض الجنان: 156.
7- مدارك الأحكام 102:1.

و مقتضى ذلك استحباب الخمس في أربع صور من الستّ الّتي هي مرتفع الاثنين اللذين هما صلابة الأرض و رخاوتها في الثلاث الّتي هي فوقيّة البئر و مساواتها و تحتيّتها، و استحباب السبع في صورتين منها و هما صورة المساواة و تحتيّة البئر مع رخاوة الأرض.

و معنى فوقيّة البئر أن يكون قرارها أعلى من قرار البالوعة، بأن يكون البالوعة أعمق منها كما في المدارك(1)، و في كلام شارح الدروس: «أنّ العبرة في الفوقيّة على ما ذكره الأصحاب بقراريهما، لا بوجه الأرض»(1)، و في عبارة الشيخ علي في حاشية الشرائع: «المراد بالفوقيّة كون قرار البئر أعلى، و يتحقّق علوّ أحدهما بكونها أكثر عمقا و بالجهة»(2)، و قضيّة ذلك - كما في المدارك - (4)كون القرار عبارة عن قعريهما من الأرض.

و قد يقال في تفسيره: إنّه وجه الماء لا قعره، و الأوّل أظهر؛ و صرّحوا أيضا بأنّ المراد بالذراع ما هو المعتبر في تحديد المسافة، و فسّرها في المدارك(5) بالذراع الهاشميّة(3)، و ليس على ما ينبغي؛ بل المعتبر في المسافة ذراع اليد المحدودة بستّ قبضات معتدلة، و كلّ قبضة أربع أصابع معتدلة، و الإصبع عرض ستّ شعيرات معتدلة، و الشعيرة ستّ شعرات من ذنب البرذون.

و مقابل المشهور مذهب ابن جنيد الإسكافي، و هو على ما في مختلف العلاّمة أنّه:

«إن كانت الأرض رخوة و البئر تحت البالوعة فليكن بينهما اثنى عشر ذراعا، و إن كانت صلبة أو كانت البئر فوق البالوعة فليكن بينهما سبع أذرع»(4).

و هذه العبارة كما ترى لا توافق عبارته المحكيّة عنه في مختصره؛ و هي: «لا استحبّ الطهارة من بئر يكون بئر للنجاسة الّتي يستقرّ فيها النجاسة من أعلاها في مجرى الوادي، إلاّ إذا كان بينهما في الأرض الرخوة اثنى عشر ذراعا، و في الأرض الصلبة سبع أذرع، فإن كان تحتها و النظيفة أعلاها فلا بأس، و إن كانت محاذيتها في سمت القبلة فإذا كان بينهما سبع أذرع فلا بأس»(5).

ص: 755


1- مشارق الشموس: 246.
2- حاشية الشرائع - للمحقّق الكركي - (مخطوط) الورقة 5.
3- ذراع الهاشميّة ذراع و ثلث باليد، فذراع اليد أربع و عشرون إصبعا عرضا، و ذراع الهاشميّة اثنان و ثلاثون إصبعا (منه عفى عنه).
4- مختلف الشيعة 247:1.
5- حكاه عنه في فقه المعالم 292:1.

و وجه المخالفة: أنّها يقضي باعتبار اثنى عشر بشرط فوقيّة البالوعة و رخاوة الأرض، و السبع بشرط فوقيّة البالوعة و صلابة الأرض، أو بشرط تحاذيهما من جهة القبلة، بأن يكون إحداهما في جهة الشرق و اخراهما في جهة الغرب؛ و عدم اعتبار شيء من التقديرين و غيرهما مع انتفاء الامور كلّها، بأن يكون البالوعة تحت البئر في رخوة أو صلبة، فإنّ إطلاق نفي البأس هنا يقضي بعدم اعتبار تقدير في ذلك.

و هاهنا مذاهب اخر محكيّة:

منها: ما حكي عن ظاهر الصدوق من جعله المدار على الصلابة و الرخاوة، و هذه عبارته في الفقيه: «و البئر إذا كان إلى جانبها كنيف، فإن كانت الأرض صلبة فينبغي أن يكون بينهما خمسة أذرع، و إن كانت رخوة فسبعة أذرع»(1).

و منها: ما عن السرائر(2) من أنّه يستحبّ أن يكون بين البئر الّتي يستقى منها و بين البالوعة سبعة أذرع، إذا كانت البئر تحت البالوعة و كانت الأرض سهلة، و خمسة أذرع إذا كانت فوقها و الأرض أيضا سهلة، و إن كانت الأرض صلبة فخمس.

و مرجع ذلك إلى ما حكي من عبارة التلخيص من أنّه: «يستحبّ تباعد البئر عن البالوعة بسبع أذرع مع الرخاوة و التحتيّة، و إلاّ فخمس»(3).

و منها: ما حكي عن الإرشاد من «أنّه يستحبّ تباعد البئر عن البالوعة بسبع أذرع إن كانت الأرض رخوة أو كانت البالوعة فوقها، و إلاّ فخمس»(4)، و عن بعض النسخ «الواو» بدل «أو» و حينئذ يرجع إلى عبارة التلخيص، و السرائر.

و مستند المشهور الجمع بين رواية الحسن بن رباط و مرسلة قدامة بن أبي زياد الجمّاز، المرويّتين في الكتب الثلاث الكافي و التهذيبين.

فاولاهما: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن البالوعة يكون فوق البئر؟ قال: «إذا كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع، و إن كانت فوق البئر فسبعة أذرع من كلّ ناحية(5)

ص: 756


1- الفقيه 18:1 ذيل الحديث 22.
2- السرائر 95:1-94.
3- تلخيص المرام (سلسلة الينابيع الفقهيّة 271:26).
4- إرشاد الأذهان 238:1.
5- في شرح الدروس: «و فسّر قوله عليه السّلام: «من كلّ ناحية» بأنّه لا يكفي البعد بهذا المقدار من جانب واحد من جوانب البئر إذا كان البعد بالنظر إليها متفاوتا، و ذلك مع استدارة رأس البئر، فربّما يبلغ المساحة السبع إذا قيس إلى جانب و لا يبلغه بالقياس إلى جانب آخر، فالمعتبر -

و ذلك كثير»(1).

و ثانيتهما: عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته كم أدنى ما يكون بين بئر الماء و البالوعة؟ فقال: «إن كان سهلا فسبعة أذرع، و إن كان جبلا فخمسة أذرع، ثمّ قال: يجري الماء إلى القبلة إلى يمين القبلة، و يجري عن يمين القبلة إلى يسار القبلة، و يجري عن يسار القبلة إلى يمين القبلة، و لا يجري من القبلة إلى دبر القبلة»(2).

وجه الاستدلال بهما: أنّ الحكم بالخمس في الاولى معلّق على أسفليّة البالوعة و في الثانية على جبليّة الأرض و هي صلابتها، كما أنّ الحكم بالسبع في الاولى معلّق على فوقيّة البالوعة و في الثانية على سهليّة الأرض و هي رخاوتها، فالاولى مطلقة من حيث الأرض و مقيّدة من حيث الوضع، كما أنّ الثانية مطلقة من حيث الوضع و مقيّدة من حيث الأرض، فيتعارضان فيما لو كانت البالوعة فوقا في أرض صلبة و ما لو كانت البالوعة أسفل في أرض سهلة، ضرورة أنّ مطلق الاولى في الصورة الاولى يقتضي السبع، و مقيّد الثانية يقتضي فيها الخمس، كما أنّ مقيّد الاولى في الصورة الثانية يقتضي الخمس و مطلق الثانية يقتضي فيها السبع، فيطرح مطلق كلّ في جانب السبع بمقيّد الاخرى في جانب الخمس جمعا بينهما.

و قضيّة ذلك دخول الصورتين المذكورتين في حكم الخمس، لرجوع قوله عليه السّلام: «و إن كانت فوق البئر فسبعة أذرع» في الرواية الاولى بعد التقييد إلى أن يقول: «و إن كانت فوق البئر فسبعة أذرع إلاّ أن تكونا في أرض صلبة فيكفي حينئذ الخمس» فيدخل الاولى من الصورتين في حكم الخمس، و رجوع قوله عليه السّلام: «إن كان سهلا فسبعة أذرع» في الرواية الثانية بعد التقييد إلى أن يقول: «إن كان سهلا فسبعة أذرع إلاّ مع أسفليّة البالوعة

ص: 757


1- الوسائل 199:1 ب 24 من أبواب الماء المطلق ح 3 - الكافي 1/7:3 - التهذيب 1290/410:1 الاستبصار 126/45:1.
2- الوسائل 198:1 ب 24 من أبواب الماء المطلق ح 2 - الكافي 3/8:3 التهذيب 1291/410:1.

فيكفي حينئذ الخمس» فيدخل الثانية من الصورتين في حكم الخمس أيضا، فالداخل في حكم الخمس أربع صور من الستّ المذكورة، و الباقي تحت السبع صورتان.

و أنت خبير بأنّه يمكن انعكاس الفرض أيضا بحيث كان الداخل في حكم السبع أربع صور و الباقي تحت الخمس صورتين، و إنّما يتأتّى ذلك بطريق آخر للجمع، و هو طرح مطلق كلّ في جانب الخمس بمقيّد الاخرى في جانب السبع، و قضيّة ذلك دخول الصورتين المذكورتين موردا للتعارض في حكم السبع، فيبقى تحت الخمس ما لو كانت البالوعة في الأرض الصلبة أسفل من البئر أو مساوية لها.

و إلى ذلك ينظر عبارة الإرشاد المتقدّمة على النسخة الّتي فيها «أو»، و كان منشؤها اختيار هذا الطريق من الجمع على خلاف ما اختاره المشهور، و من هنا ترى شارح الدروس اعترض على مختار المشهور بأنّ: «طريق الجمع لا ينحصر فيما ذكر، إذ كما يقيّد الحكم بالسبعة في الموضعين، يمكن أن يقيّد الحكم بالخمسة فيهما، لكن الأولى متابعة المشهور مع التأييد بالأصل»(1) انتهى.

و إن كان صاحب الحدائق تصدّى بدفعه قائلا: «لا يخفى أنّ الغرض من التحديد في هذه الأخبار و الشروط المذكورة فيها إنّما هو منع تعدّي ماء البالوعة إلى البئر، فمع السهولة فيما عدا صورة علوّ قرار البئر لمّا كان مظنّة التعدّي كان اعتبار البعد بالسبعة أليق، و مع الصلابة و كذا مع علوّ قرار البئر في السهلة لمّا كان مظنّة عدم التعدّي حسن الاقتصار على الخمسة، فلا يحتاج إلى قيد آخر»(2).

و عن الشهيد الثاني في الروض المناقشة في مستند المشهور، بقوله: «و الرواية الّتي هي مستند الحكم ليس فيها ما يدلّ على حكم التساوي فهو مسكوت عنه»(3) انتهى.

و لعلّه إلى دفع هذه المناقشة ينظر ما قد يتكلّف في بيان وجه جمع المشهور، و يقال: «و جمع المشهور بينهما بتقييد حكم السبع في الروايتين مع إرادة عدم فوقيّة البئر من الفقرة الثانية من الرواية الاولى، لأنّ المتبادر من مثله نقيض الشرطيّة الاولى لا ضدّها»(4) انتهى.

ص: 758


1- مشارق الشموس: 246.
2- الحدائق الناضرة 387:1.
3- روض الجنان: 157.
4- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 267:1.

فإنّ عدم فوقيّة البئر المراد من تلك الفقرة أعمّ من فوقيّة البالوعة و مساواتها، فعلم من الرواية حينئذ حكم التساوي أيضا.

و أنت خبير بعدم الحاجة إلى ارتكاب هذا التكلّف و عدم ورود المناقشة المذكورة، فإنّها إنّما تتوجّه إذا انحصر مستند المشهور في الرواية الاولى، و قد عرفت أنّه المجموع منها و من الرواية الثانية بعد اعتبار الجمع بينهما و تقييد مطلق كلّ بمقيّد الاخرى، و لا ريب أنّ حكم التساوي و إن كان مسكوتا عنه بالقياس إلى الرواية الاولى، غير أنّه منطوق به في الرواية الثانية بحكم الإطلاق من حيث الوضع، الشامل لصور ثلاث، منها صورة التساوي، و المفروض أنّه لم يخرج من هذا الإطلاق بعد اعتبار التقييد بالقياس إليه إلاّ صورة فوقيّة البئر، فتبقي الصورتان الأخيرتان مندرجتين في حكم السبع.

و من هنا يعلم عدم خروج صورة التساوي المحكوم عليها بالخمس مع صلابة الأرض، لأنّها مندرجة في الفقرة الثانية من الرواية الثانية أخذا بموجب الإطلاق الّذي لم يطرأه التقييد أصلا.

و قد يقال: «بأنّ المستفاد من مجموع الروايتين أنّ السبعة لها سببان: و هما السهولة و فوقيّة البالوعة، و الخمسة أيضا لها سببان: الجبليّة و أسفليّة البالوعة، و يحصل التعارض عند تعارض السببين، كما إذا كانت الأرض سهلة و البالوعة أسفل، فلا بدّ من مرجّح خارجي، و كذا إذا كانت الأرض جبليّة و البالوعة فوق البئر، و لعلّه بالنسبة إلينا يكفي الشهرة في الترجيح، فيحكّم كلّ منهما على الآخر بمعونتها، و بالنسبة إليهم لا نعلم المرجّح و لعلّه دليل خارجي» انتهى.

و هذا الكلام نقله بعض مشايخنا(1) عن بعض مشايخه المعاصرين(2) أنّه ذكره بعد ما زيّف جمع المشهور بعدم جريانه على القواعد، و مبناه على العمل بالروايتين معا من دون تصرّف فيهما، و هو كما ترى غير معقول مع فرض التعارض، فكيف يستفاد السببيّة لكلّ من الامور الأربع حتّى يفرض صورة التعارض بين السببين.

ثمّ على فرض هذا التعارض فكيف يصحّ الشهرة مرجّحة فيه، و هي على فرض صلوحها للمرجّحيّة إنّما يرجع إليها في تعارض الدليلين، و الكلام المذكور مبنيّ على

ص: 759


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 268:1.
2- جواهر الكلام 524:1.

عدم الالتفات إلى تعارض الدليلين، لأنّه أخذ بالمدلولين بعد الفراغ عن تماميّة الدليلين.

فظهر أنّ ما صنعه المشهور هو الموافق للقواعد، و عليه كان المستفاد من الروايتين بعد الجمع و التقييد - مع ملاحظة أنّ الغرض الأصلي من التقدير و التحديد الواردين فيهما إنّما هو حفظ ماء البالوعة عن النفوذ و التعدّي إلى البئر - أنّ عدم التعدّي مشروط بأحد الامور الثلاث من صلابة الأرض في البعد المحدود بالخمس، و أسفليّة البالوعة في ذلك البعد أيضا، و كون البعد بينهما سبعة أذرع مع انتفاء الأمرين الأوّلين.

و بذلك - مضافا إلى ما مرّ - يظهر الدليل على جمع المشهور، و كونه أولى من الجمع الّذي كان يقتضيه الإرشاد على إحدى النسختين.

و بقي الكلام في مستند سائر الأقوال ما عدا قولي المشهور و الإرشاد.

أمّا قول الصدوق: فلعلّه مبنيّ على الأخذ بالرواية الثانية بعد البناء على التخيير، أو من جهة ترجيحها على الرواية الاولى بمرجّح داخلي أو خارجي، أو على العمل بهما معا، بتوهّم أنّهما من باب العامّ و الخاصّ المتوافقي الظاهر، نظرا إلى أنّ الفقرة الاولى من الرواية الاولى مقيسا إلى الفقرة الثانية من الثانية، و الفقرة الثانية من الاولى مقيسا إلى الفقرة الاولى من الثانية خاصّ في مقابل العامّ موافق ظاهراهما فلا تعارض بينهما، و معه يجب العمل عليهما معا بحمل الخاصّ على بيان إحدى فردي العامّ.

أمّا عموم فقرتي الرواية الثانية فلأنّهما يتضمّنان من جهة الوضع صورا ثلاث، و أمّا خصوص فقرتي الرواية الاولى فلاختصاص كلّ منهما من جهة الوضع بإحدى الثلاث، و أمّا موافقة الظاهرين في الحكم فلاتّحاد اولى الاولى مع ثانية الثانية في التقدير بالخمس، و اتّحاد ثانية الاولى مع اولى الثانية في التقدير بالسبع.

و أنت خبير بما في كلّ من هذه الوجوه من الفساد الواضح:

أمّا فساد الأوّلين: فلأنّ اعتبار التخيير أو الترجيح بين الدليلين المتعارضين إنّما هو مبنيّ على عدم إمكان الجمع بينهما بأحد من وجوه التصرّف، من تخصيص أو تقييد فيهما معا أو في أحدهما حسبما يقتضيه القواعد و القرائن العرفيّة، و قد عرفت أنّ الجمع بنحو التقييد في الروايتين معا مع قيام القرينة على تعيينه ممكن، و معه لا يعقل التخيير و لا الترجيح.

ص: 760

و أمّا فساد الثالث: فلما عرفت من أنّ كلاّ من الروايتين بالقياس إلى الاخرى خاصّ من جهة و عامّ من جهة اخرى، و معه لا يمكن العمل عليهما بعد مقابلة الفقرة الاولى من كلّ للفقرة الثانية من الاخرى لتخالفهما في الحكم.

و هاهنا وجه رابع يمكن كونه مناط قول الصدوق، و هو ابتناؤه على طرح الرواية الاولى أوّلا و بالذات و الإعراض عنها ابتداء، لما بلغه من الخارج و كشف له عن عدم سلامة سندها، فهو أعلم بما منعه.

لكنّا نقول: بأنّ شيئا من الروايتين لا يخلو سندها عن شيء - و لا سيّما الثانية - من جهة ما فيها من الإرسال؛ لكن عمل المشهور بهما جابر لضعفهما، هذا مع ما تقرّر عندهم من جواز المسامحة في أدلّة السنّة كما صرّح به هنا بعض الأجلّة.

و أمّا قول السرائر: فقد يقال: بأنّ مستنده الجمع بين الروايتين بتقييد حكم السبع في إحداهما به في الاخرى، مع بقاء الفقرة الثانية من الاولى على ظاهرها من إرادة خصوص فوقيّة البالوعة دون عدم فوقيّة البئر، الشامل بعمومه لصورة التساوي.

و هو كما ترى جمع لا يجامع القواعد، كيف و هو فرع التعارض، و لا تعارض بين الروايتين بالقياس إلى حكم السبع لتوافق الحكمين، غاية الأمر أنّ مقتضاهما - لكون كلّ أعمّ من الآخر من وجه بحسب المفهوم - اجتماع السببين للسبع في صورة سهولة الأرض مع فوقيّة البالوعة.

و لو فرض مستند هذا القول كونه جمعا بين الروايتين بتقييد كلّ من فقرتي الاولى بالفقرة الاولى من الثانية مع بقاء فقرتها الثانية على ظاهرها.

لدفعه: أنّ الفقرة الاولى من الثانية لا تعارض الفقرة الثانية من الاولى لما ذكر، فلا وجه لاعتبار التقييد هنا، مضافا إلى أنّ الفقرة الثانية من الثانية لا يلائم الفقرة الثانية من الاولى، فلا بدّ من تقييد في إحداهما بالاخرى.

و أمّا قول التلخيص و إحدى نسختي الإرشاد: فقد عرفت أنّ مرجعهما إلى قول السرائر إلاّ بنحو من الاعتبار الّذي قد يتكلّف، و هو أن يراد بتحتيّة البئر مع رخاوة الأرض نقيض الفوقيّة، و هو عدم فوقيّة البئر الشامل لصورتي التساوي مع الرخاوة أيضا، بناء على أنّ المراد بها في عبارة السرائر معناه الظاهر، و عليه يكون مستند هذا

ص: 761

القول الجمع بين الروايتين حسبما فهمه المشهور.

لكنّك خبير بأنّ هذا الفرق بين القولين تحكّم بحت، فهما معا إمّا يوافقان المشهور أو يخالفانه، بناء على أنّهما يهملان صورة التساوي مع رخاوة الأرض المحكوم عليها في كلام المشهور باعتبار السبع.

و أمّا قول الإسكافي: فمستنده - على ما حكاه العلاّمة في المختلف(1) بعد ما حكى مذهبه المتقدّم - رواية محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه فقال [لي]: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: «عن البئر يكون إلى جنبها الكنيف؟ فقال: إنّ مجرى العيون كلّها مع(2) مهبّ الشمال، فإذا كانت [البئر] النظيفة فوق الشمال و الكنيف أسفل منها لم يضرّها إذا كان بينهما أذرع، و إن كان الكنيف فوق النظيفة فلا أقلّ من اثنى [عشر] ذراعا، و إن كانت تجاهها بحذاء القبلة و هما مستويان في مهبّ الشمال فسبعة أذرع...»(3).

بل الاستناد إلى تلك الرواية صريح عبارته المتقدّمة المذيّلة بقوله: «تسليما لما رواه ابن يحيى عن سليمان عن أبي عبد اللّه» عقيب ما تقدّم من العبارة.

و أورد عليه: بأنّ الرواية لا تنطبق على كلامه بشيء من النقلين المتقدّمين، أمّا على ما نقله العلاّمة و غيره فلأنّهم نقلوا عنه التباعد بسبعة أذرع في صورة فوقيّة البئر، مع أنّه ليس في الرواية لذلك أثر.

و أمّا على ما نقلوه من العبارة المتقدّمة، فلأنّهم نقلوا عنه التفصيل في صورة علوّ البالوعة بالرخاوة و الصلابة، و الرواية كما ترى لا تفصيل فيها بشيء من ذلك.

و قد يعتذر له بما يدفع معه هذا الإشكال عن العبارة المنقولة عنه لو كان سديدا، فيقال: «و لعلّه قدّس سرّه فهم من إطلاق الأرض الرخوة، لأنّها الغالب، و تحديده البعد في الصلبة بسبع لرواية الحسن بن رباط - المتقدّمة - في اعتبار السبع مع فوقيّة البالوعة، بناء على أنّ المراد بالفوقيّة أعمّ من العلوّ من حيث الجهة، و حملها على الصلبة لكونها الفرد المتيقّن من الإطلاق كالرخوة في هذه الرواية، فيطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر»(4) انتهى.

ص: 762


1- مختلف الشيعة 248:1.
2- و في بعض النسخ: «من» بدل «مع» كما في الوسائل.
3- الوسائل 200:1 ب 24 من أبواب الماء المطلق ح 6 - التهذيب 1292/410:1.
4- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 270:1.

و لا يخفى بعده و خروجه عن السداد، و مع [هذا] فأصل هذا القول لشذوذه و ندرة القائل به ليس ممّا يلتفت إليه ليصرف النظر في تصحيح مستنده، و يزيد على ضعف القول رأسا ضعف هذه الرواية بمحمّد بن سليمان الديلمي، قال في المدارك: «فقد قيل:

إنّ سليمان كان غاليا كذّابا، و قال القتيبي: إنّه كان من الغلاة الكبار، و قال النجاشي: أنّ ابنه محمّدا ضعيف جدّا لا يعوّل عليه في شيء»(1).

ثمّ عن جماعة من المتأخّرين القائلين بالمشهور أنّهم ألحقوا بالفوقيّة الحسّية الفوقيّة بالجهة، فحكموا بالاكتفاء بالخمس مع استواء القرارين و رخاوة الأرض إذا كانت البئر في جهة الشمال، بناء على أنّ جهة الشمال أعلى و أنّ مجاري العيون كما يدلّ عليه رواية سليمان المتقدّمة المتضمّنة لقوله عليه السّلام: «مجرى العيون كلّها مع مهبّ الشمال»، و في ذيل رواية قدامة أيضا إشارة إلى هذا المعنى حيث قال: «يجري الماء إلى القبلة» - إلى قوله -: «و لا يجري من القبلة إلى دبر القبلة»، فإنّ المراد بالقبلة قبلة أهل العراق بقرينة أنّ الرواة منهم، و هي كناية عن جهة الجنوب، و إنّما عبّر عنها بها لمعروفيّتها عند عامّة الناس من العراقيّين، فالمراد بدبر القبلة العراق و ما يحاذيها، لوقوعها في جهة الشمال، فيمين القبلة و يسارها إشارة إلى الغرب و الشرق.

و حاصل معنى الرواية: أنّ الماء بالأخرة يميل إلى جهة القبلة و هي الجنوب، و إن مال أوّلا إلى يمين القبلة، و عن يمين القبلة إلى يسار القبلة، و عن يسار القبلة إلى يمين القبلة، بخلاف دبر القبلة فإنّ الماء لا يميل إليه بالطبع أصلا.

و السرّ في ذلك، ما قيل: من أنّ كلّ شيء يميل إلى مركزه، و مركز الماء البحر، و هو في طرف الجنوب، فهو بالطبع(2) مائل إلى الجنوب ليصل إلى البحر، و ما قد يشاهد من خلاف ذلك فليس من جهة الطبع، بل هو لأجل العارض. و كيف كان: فمستند الإلحاق

ص: 763


1- مدارك الأحكام 104:1 - كما في رجال النجاشي: 182؛ و أيضا رجال النجاشي: 365 و كذا في رجال الكشّي: 375 و فيه: «محمّد بن مسعود، قال: قال عليّ بن محمّد: سليمان الديلمي من الغلاة الكبار».
2- و السرّ في ذلك - على ما ذكروه -: أنّ الشمال مشرف على الجنوب بحسب وضع الأرض، لأنّ كرة الأرض واقعة في البحر، ثلثاها في الماء و ثلثها خارج البحر، و قبّة الأرض و رأسها محاز للقطب الشمالي، فالماء بالطبع - يميل إلى الجنوب سواء كان فوق الأرض أو جاريا في أعماق الأرض. فليتأمّل (كذا في هامش الأصل بخطّ مصنّفه قدّس سرّه).

على ما في المدارك و غيره(1) رواية سليمان المتقدّمة، و أورد عليه في الكتاب: «بأنّها غير دالّة عليه».

أقول: و كأنّ المقصود بالاستناد إليها إثبات العلوّ لجهة الشمال بالقياس إلى الجنوب، ليترتّب عليه الإلحاق، بناء على ما استفادوه من النصوص من أنّ الغرض من التحديد الوارد فيها حفظ الماء عن نفوذ البالوعة إليه كما تقدّم الإشارة إليه، و حينئذ فلا إشكال في أنّ البئر إذا كانت واقعة في جهة الشمال فلا تميل إليها البالوعة و إن تساوى قراراهما، بخلاف ما لو كانت واقعة في جهة الجنوب، فإنّ البالوعة حينئذ يميل إليها بالطبع.

ثمّ إنّ صور المسألة على ما ذكره الجماعة أربع و عشرون، حاصلة من ضرب الجهات الأربع و هي الجنوب و الشمال و المشرق و المغرب في الستّة المتقدّمة، الحاصلة من ضرب الاثنين المتصوّرين من جهة الأرض في الثلاث المتصوّرة من حيث الوضع.

و محصّل العمل: أنّ البعد فيما بين البئر و البالوعة إمّا أن يكون ممّا بين الجنوب و الشمال، أو ممّا بين المشرق و المغرب، و كلّ من هذين صورتان، و على التقادير الأربع فالأرض إمّا صلبة أو رخوة، فهذه ثمان صور، و على التقادير إمّا أن يستوي القراران حسّا، أو يكون البئر أعلى، أو البالوعة، فالمرتفع أربع و عشرون صورة، و إن لم يكن لبعضها تأثير في اختلاف الحكم.

و قد ذكروا: أنّ في سبع عشر منها يكون التباعد بخمس أذرع، و في سبع منها بسبع أذرع، و هذه السبع بعض من الثمان المخرجة لصورتي استواء القرارين، أو علوّ قرار البالوعة في الأرض الرخوة، بناء على أنّ كلّ صورة من الصور الستّ المتقدّمة يتحصّل لها بملاحظة الجهة أربع صور، فإذا اخرج من تلك الثمان صورة ما لو استوى القراران و كان البئر أعلى جهة من البالوعة بكونها في جهة الشمال و البالوعة [تحتها] و ادخلت في صور الحكم بالخمس، يبقى تحت حكم السبع سبع صور يعلم تفاصيلها بالتأمّل.

لكن في كلام شارح [الدروس] بعد ذكر الصور ما لفظه: «و في صورة يقع التعارض بين الفوقيّتين يجعلونها بمنزلة التساوي»(2)، و مراده بالفوقيّتين فوقيّة البئر قرارا و فوقيّة البالوعة جهة، أو بالعكس، و المراد من كونها بمنزلة التساوي الحكم عليها بالسبع، و حينئذ

ص: 764


1- مدارك الأحكام 103:1 - روض الجنان: 156.
2- مشارق الشموس: 247.

لا يتمّ العددان المذكوران حسبما ضبطوهما، و لذا اعترض عليهم المحقّق المشار إليه عقيب الكلام المذكور بكثير قائلا: «و في كلام جمع من الأصحاب هاهنا تأمّل ظاهر، إذ ذكروا أنّ التباعد بسبع في سبع، و بخمس في الباقي، و الاعتبار يقتضي أن يكون التباعد بسبع في ثمان أو ستّ، لأنّ فوقيّة القرار إمّا أن تعارض فوقيّة الجهة و تصير بمنزلة التساوي أو لا، فعلى الأوّل الأوّل، و على الثاني الثاني، و أمّا اعتبار الجهة في البئر دون البالوعة فتحكّم»(1).

و هذا الاعتراض كما ترى متّجه.

و وجهه واضح بالتأمّل، و إن كان صاحب الحدائق تصدّى لدفعه قائلا: «بأنّ ما نقله [عنهم] من جعلهم صورة التعارض بمنزلة التساوي ممّا لم أقف عليه فيما حضرني من كلامهم، بل صرّح غير واحد منهم أنّ الفوقيّة بالجهة إنّما تعتبر في الرخاوة مع تساوى القرارين و مقتضى ذلك اختصاص اعتبارها بالبئر دون البالوعة، و لهذا صرّح في الروض(2) - في صورة كون البئر في جهة الجنوب مع رخاوة الأرض و علوّ قرار البئر - بأنّه: «يستحبّ التباعد بخمس أذرع نظرا إلى علوّ قرار البئر»، و بمقتضى ما ذكره من تعارض الفوقيّتين مطلقا ينبغي أن يكون بسبع»(3) انتهى.

و هذا الكلام عند التحقيق غير صالح لدفع الاعتراض، كيف و التحكّم المذكور في كلام المعترض باق على حاله، و الاستشهاد بكلام الروض لا يجدي نفعا، إذ الاعتراض على هذا الكلام و نظائره، و وجه التحكّم: أنّ علوّ الجهة إمّا أن يصلح مؤثّرا في اقتضاء خلاف ما يلزم مع انتفائه أو لا، فعلى الأوّل ينبغي أن يلاحظ في كلّ من البئر و البالوعة و يرتّب عليه أثره، و على الثاني ينبغي أن لا يلاحظ في شيء منهما، و الفرق بينهما في الاعتبار و العدم ليس إلاّ تحكّما بحتا، كما أنّ ما عساه أن يدّعي من أنّه صالح للتأثير في البئر دون البالوعة ليس إلاّ مكابرة محضة، بل ليس إلاّ من الخرافات، فالاعتراض بظاهر الحال في محلّه.

ثمّ إنّ في تحديد البعد بين البئر و البالوعة روايات اخر لم يعمل بها الأصحاب، مثل ما حكاه في الحدائق(4) عن الحميري في قرب الأسناد عن محمّد بن خالد الطيالسي

ص: 765


1- مشارق الشموس: 247.
2- روض الجنان: 157.
3- الحدائق الناضرة 385:1.
4- الحدائق الناضرة 390:1.

عن العلاء عن الصادق عليه السّلام «قال: سألته عن البئر يتوضّأ منها القوم، و إلى جانبها بالوعة؟ قال: إن كان بينهما عشرة أذرع و كانت البئر الّتي يستقون منها تلي الوادي، فلا بأس»(1).

و ما رواه في الكافي عن الفضلاء الثلاث زرارة، و محمّد بن مسلم، و أبي بصير، قالوا:

قلنا له: بئر يتوضّأ منها، يجري البول قريبا منها أ ينجّسها؟ قال فقال: «إن كانت البئر في أعلى الوادي، و الوادي يجري فيه البول من تحتها، فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع، أو أربعة أذرع، لم ينجّس ذلك شيء، [و إن كان أقلّ من ذلك نجسها](2).

قال: و إن كانت البئر في أسفل الوادي، و يمرّ الماء عليها، و كان بين البئر و بينه سبعة أذرع لم ينجّسها، و ما كان أقلّ من ذلك لم يتوضّأ منه».

قال زرارة: فقلت له: فإن كان مجرى البول يلزقها و كان لا يثبت على الأرض؟ فقال:

«ما لم يكن له قرار فليس به بأس؛ و إن استقرّ منه قليل فإنّه لا يثقب الأرض، و لا قعر له حتّى بلغ البئر، و ليس على البئر منه بأس، فيتوضّأ منه، إنّما ذلك إذا استنقع كلّه»(3).

و هذه الرواية مذكورة في التهذيبين أيضا باختلاف يسير في بعض ألفاظها.

و يبقى الكلام في وجه استفادة ما أطبقوا عليه من استحباب التباعد بين البئر و البالوعة بأحد الأبعاد المتقدّمة على الخلاف، مع ظهور النصوص الموجودة في هذا الباب في الوجوب، فهو إمّا من جهة الإجماع الناهض قرينة على صرف النصوص عن ظاهرها، و لا ينافيه الاختلاف مع التمسّك بتلك النصوص، لأنّ ذلك اختلاف في مقدار المستحبّ و استعلام له.

أو من جهة اختلاف النصوص الواردة في التحديد، نظرا إلى أنّه يصلح قرينة على إرادة الاستحباب الّذي يختلف مراتبه، كما ذكروا نظيره في مواضع، منها: ما تقدّم في روايات النزح من تصريحهم بكون اختلافها الشديد في التقادير قرينة على استحباب النزح، أو من جهة تنزيل النصوص إلى الاستحباب الّذي يتسامح في دليله، نظرا إلى ما فيها من الضعف المانع عن صلوحها دليلا على الوجوب.

ص: 766


1- الوسائل 200:1 ب 24 من أبواب الماء المطلق ح 8 - قرب الأسناد: 16.
2- الزيادة منّا بملاحظة متن الرواية، و لعلّها سقطت من قلمه الشريف سهوا.
3- الوسائل 197:1 ب 24 من أبواب الماء المطلق ح 1 - الكافي 2/7:3 - التهذيب 1293/410:1.

أو من جهة قيام قرينة عليه في نفس تلك النصوص، كما تقدّم من رواية محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه السّلام في البئر يكون بينها و بين الكنيف خمسة و أقلّ و أكثر يتوضّأ منها؟ قال: «ليس يكره من قرب و لا بعد، يتوضّأ منها و يغتسل ما لم يتغيّر الماء»(1)، و ممّن صرّح بالوجه الأخير الشيخ في الاستبصار قائلا: «هذا الخبر يدلّ على أنّ الأخبار المتقدّمة كلّها محمولة على الاستحباب دون الحظر و الإيجاب»(2).

***

ص: 767


1- الوسائل 200:1 ب 24 من أبواب الماء المطلق ح 7 - التهذيب 1294/411:1.
2- الاستبصار 129/46:1.

ينبوع [في الماء المضاف]

اشارة

المضاف كلّ ما افتقر صدق اسم «الماء» عليه إلى تقييد، كما في منتهى العلاّمة(1)، أو ما لا يتناوله إطلاق «الماء» كما في الدروس(2)، أو ما لا يتناوله الاسم بإطلاقه كما في نافع المحقّق(3).

أو كلّ ما اعتصر من جسم أو مزج به مزجا يسلبه إطلاق الاسم كما في شرائعه(4).

أو ما لا ينصرف إليه لفظ «الماء» على الإطلاق عرفا بل يحتاج في صدقه إلى القيد كما في الحدائق(5).

أو كلّ مائع يصحّ إطلاق اسم «الماء» عليه لعلاقة المشابهة الصوريّة كما في كلام بعض مشايخنا العظام(6).

و لا يخفى على البصير أنّ هذه التعاريف و غيرها ممّا هو مذكور في كلام الأصحاب كلّها لفظيّة يراد بها كشف المسمّى بأشهر اسميه، على حدّ ما هو قانون أهل اللغة في بيان مسمّيات الألفاظ، فلا ضير في عدم كون بعضها مطّردا بدخول الدم المعتصر من جسم، أو منعكسا بخروج المصعّد من الأنوار أو الأوراق كماء الورد و الهندباء و نحوهما، فالمناقشة في ذلك بالقياس إلى تعريف الشرائع بعد وضوح الأمر ليست في محلّه.

ثمّ إنّ المضاف منه ما يحصل بالتصعيد كماءي الورد و الهندباء، و ما يحصل بالعصر كماءي الحصرم و الرمّان، و ما يحصل بمزج الماء بغيره على وجه زال عنه عنوان المائيّة في نظر العرف كماء الزعفران و نحوه، و أمّا الممزوج بغيره لا على هذا الوجه فليس

ص: 768


1- منتهى المطلب 114:1.
2- الدروس الشرعيّة 122:1.
3- المختصر النافع: 43.
4- شرائع الإسلام 15:1.
5- الحدائق الناضرة 391:1.
6- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 290:1.

بمضاف و إن تغيّر وصفه لونا كالممتزج بالتراب، أو طعما كالممتزج بالملح و إن اضيف إليهما، و العبرة فيهما بالصدق العرفي و عدمه، و لو اشتبه العرف أو اشتبه الأمر على العرف بتردّد الموضوع بين المطلق و المضاف يرجع في إحراز أحد العنوانين أو الأحكام المترتّبة عليهما إلى الاصول و القواعد المقرّرة، و ذلك يتأتّى في صور:

منها: ما لو وجد مائع و تردّد ابتداء بين المطلق و المضاف من غير تبيّن حالته السابقة، و في مثله لا أصل يحرز به العنوان، و أمّا الأحكام فبالنسبة إلى انفعاله بملاقاة النجاسة فالأصل هو الانفعال إذا كان قليلا، لأنّه إن كان في الواقع مطلقا فحكمه هذا و إن كان مضافا فأولى بذلك.

و إذا كان كثيرا فقد يتوهّم فيه الطهارة لأصالة عدم الانفعال، و ليس كما توهّم، لما هو المعلوم من ضرورة المتشرّعة و تتبّع الأخبار الجزئيّة الواردة في الأبواب المتفرّقة من أنّ النجس معدّ لتنجيس ما يلاقيه كائنا ما كان عدا ما كان منه مخرجا بالدليل من المواضع المخصوصة الّتي ليس المقام منها، فإنّ ذلك أصل كلّي مستفاد من الشرع وارد على الأصل المذكور و نظائره، و من علامات هذا الأصل أنّ المركوز في قاطبة الأذهان من عالم أو عامّي مطالبة من [يدّعي](1) عدم التنجيس في مواضع ملاقاة الطاهر مع النجس مع تحقّق شرائط السراية الّتي منها الرطوبة.

و لو قيل: هذا الأصل يكذّبه ما استقرّ في الأذهان من مطالبة من يدّعي انفعال الماء القليل الراكد بالملاقاة، فلو أنّ الأصل ثابت لكان كافيا في الدلالة.

لدفعه: أنّ ذلك إنّما هو من جهة مخالفة هذه الدعوى لأصل ثانوي ثابت في الماء خاصّة، من أنّه بحسب الخلقة الأصليّة طاهر، و أنّ الطبيعة المائيّة مقتضية للطهارة غير قابلة للنجاسة عدا ما خرج منه بالدليل و هو القليل الراكد عند من يقول بانفعاله، فإنّ الماء بمقتضى هذا الأصل من جملة المخرجات عن الأصل المذكور.

مع إمكان أن يقال: إنّ الداعي إلى ذلك و إلى تجشّم الاستدلال على الانفعال بأدلّة خاصّة، حدوث القول بعدم الانفعال استنادا إلى أدلّة خاصّة لو تمّت دليلا لما كان الأصل

ص: 769


1- و في الأصل: «مدّعي» و الصواب ما أثبتناه في المتن.

صالحا للمعارضة لها، فالغرض من تجشّم الاستدلال دفع هذا القول و ردّ أدلّته، فليتأمّل.

و قد يستظهر هذا الأصل عن قوله عزّ من قائل: وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ (1)، أو يؤيّد باستدلال الغنية(2) على نجاسة القليل بالملاقاة بتلك الآية.

و لا يخفى وهنه - بعد تسليم كون الآية محمولة على المعنى المبحوث عنه - فإنّ أقصى ما يستفاد منها وجوب الاجتناب عن «الرجز» الّذي هو النجس أو المتنجّس أيضا، و ليس ذلك إلاّ كبرى كلّيّة، فإن اريد بصغرى تلك الكبرى كون ملاقي النجس رجزا فهو أوّل المسألة، بل لا يكاد يستقيم ذلك إلاّ بإثبات وصف الرجزيّة من الخارج، و هو ليس استدلالا بالآية، و لو اريد بها نفس النجس الّذي لاقاه الطاهر فالكبرى بالقياس إليه مسلّمة، لكنّه لا يجدي نفعا في ثبوت دعوى سراية ما فيه من النجاسة إلى ملاقيه، كما لا يخفى.

و أمّا حكمه بالنسبة إلى إفادته التطهير عن حدث أو خبث، فمبنيّ على المباحث الآتية، فإن ثبت فيها أنّ المضاف صالح لذلك مطلقا أو في الجملة يلزمه كون المقام صالحا له كذلك، لأنّه إمّا مطلق أو مضاف و الكلّ صالح له.

و منها: ما لو امتزج المطلق بمضاف خاصّ على وجه يعلم معه بعدم صدق الاسمين عليه، فتحقّق عنوان المضاف على الوجه الكلّي ممّا لا ريب فيه بنفس الفرض، مع ملاحظة انتفاء الواسطة بحسب الشرع فيما بين المطلق و المضاف، و عدم اندراج المفروض في اسم نوع خاصّ منه لا يوجب خروجه عن عنوانه الكلّي، مع عدم اندراجه في اسم المطلق أيضا، فهو مضاف لا اسم له بالخصوص.

و قضيّة ذلك عدم ترتّب أحكام الماء عليه كائنة ما كانت، لأنّ الخروج عن الاسم كاف في العدم، و لا يمكن استصحاب تلك الأحكام لتيقّن ثبوتها قبل هذه الحالة في هذا الموضوع الخارجي.

أمّا أوّلا: لتبدّل المشار إليه السابق بالامتزاج و إن اعتبرنا الشخص، فإنّ الموجود بعد الامتزاج ليس بعين ما كان قبل الامتزاج ليترتّب عليه الأحكام السابقة.

ص: 770


1- المدّثر: 5.
2- غنية النزوع: 46.

و أمّا ثانيا: لكون الأحكام تابعة للعنوان الّذي هو ليس بباق بالفرض، و عروضها لهذا الموضوع الموجود في الخارج لم يكن من جهة أنّه هو هذا الموجود في الخارج، بل من جهة انطباقه على عنوان غير باق هنا.

و لا يفرّق فيما ذكرناه من عدم ترتّب أحكام الماء على ذلك، بين ما لو تحقّق استهلاك أحدهما بالآخر في الواقع و بين ما لو لم يتحقّق استهلاك واقعي.

فما توهّم من احتمال ترتّب ثار المطلق على أجزاء المطلق الموجودة فيه، و ترتّب ثار المضاف على أجزاء المضاف الموجودة فيه - بناء على عدم الاستهلاك - فيصحّ ارتماس الجنب لانغماره بالأجزاء المائيّة الموجودة فيه بالفرض مقطوع بفساده، لكون تلك الأحكام منوطة بما هو داخل في اسم «الماء» عرفا لا بما يعمّ هذه الأجزاء، مع أنّ العلم بمباشرة تلك الأجزاء المتفرّقة لجميع أجزاء البشرة من أيّ شيء حصل؟ بعد فرض كون كلّ من الأجزاء المائيّة و الأجزاء المضافيّة بالقياس إلى مباشرة كلّ جزء من كلّ عضو - و لو على البدل - متساوي النسبة، و لعلّ الرطوبة الموجودة في جزء غير معيّن من العضو من أثر الأجزاء المضافيّة خاصّة، على معنى أنّ هذا الجزء لم يباشره جزء مائي أصلا.

و منها: ما لو امتزج المطلق بمضاف أو مائع غير مضاف كالدبس، أو جامد غير مضاف على وجه شكّ معه في سلب الإطلاق عنه، فالظاهر بقاء الإطلاق بمقتضى الأصل الجاري هنا.

و القول بأنّ المفروض من باب الشكّ في اندراج هذا الجزئي الحقيقي تحت العنوان، و هذا لم يكن متيقّنا في الآن السابق، و ما كان مندرجا في السابق تحت العنوان كان جزئيّا حقيقيّا آخر متشخّصا بمشخّصات اخر.

واضح الدفع، بأنّ الأحكام ليست مترتّبة على الجزئي الحقيقي ليكون التبدّل مضرّا في استصحاب بقائه، و إنّما هي مترتّبة على العنوان الّذي هو مشكوك في بقائه بعد تيقّن ثبوته في الآن السابق، و لا ريب أنّ مجرّد تبدّل الشخص لا يستلزم تبدّل العنوان ما لم يعلم بكون المتبدّل إليه من أشخاص عنوان آخر غير العنوان المتيقّن، و المقام ليس منه، لجواز كون هذا الشخص من أشخاص العنوان الأوّل، و إن غاير الشخص الأوّل بتغاير مشخّصاته الحادثة، كيف لا و معنى الشكّ في بقاء العنوان الأوّل هو هذا، فالقطع بتبدّل

ص: 771

الشخص لا ينافي الشكّ في بقاء العنوان و هو المستصحب المتيقّن الثبوت المشكوك البقاء، فالاستصحاب في محلّه.

و إذا تمهّد هذا، فاعلم أنّه لا إشكال و لا كلام في طهارة المضاف بنفسه إذا كان أصله طاهر، أو لم يطرأه ما يقتضي تنجّسه، و نقل الإجماعات عليه و نفي الخلاف فيه في حدّ الاستفاضة، مضافا إلى أنّ الطهارة هي الأصل في الأشياء و النجاسة طارئة فيحتاج إلى سبب، فهذا الحكم ليس بمقصود المقام، بل المقصود البحث عن امور اخر يلحقها من جهة قبوله الانفعال و عدمه، و صلوحه رافعا للحدث و عدمه، مزيلا للخبث و عدمه، و قبوله التطهير على فرض الانفعال و طريق تطهيره، و غير ذلك ممّا يتلى عقيب ذلك،

فينبغي إيراد الكلام في مباحث:

المبحث الأوّل: المشهور القريب من الإجماع أنّ المضاف مطلقا لا يرفع حدثا مطلقا اختيارا و لا اضطرارا،

بل هو إجماع من أصحابنا حقيقة كما يفصح عنه نقل الإجماعات في كلام غير واحد، بناء على أنّ مخالفة معلوم النسب لا تقدح في انعقاد الإجماع، أو أنّها منقرضة بتأخّر الإجماع، و المخالف من أصحابنا الصدوق على ما حكي عنه في الفقيه قائلا: «و لا بأس بالوضوء و الغسل من الجنابة و الاستياك بماء الورد»(1)، و عن الشيخ في الخلاف(2) أنّه حكى عن قوم من أصحاب الحديث منّا أنّهم أجازوا الوضوء بماء الورد، و عن ظاهر ابن أبي عقيل العماني(3) أنّه جوّز الوضوء حال الضرورة فيقدّم على التيمّم.

و المعتمد: الأوّل، لأصالة بقاء الحدث، و المنع عن الدخول في الصلاة إلى أن يتحقّق رافع يقيني و مبيح شرعي، مضافا إلى جملة ممّا احتجّ به الأكثر و هو امور:

منها: قوله عزّ من قائل: فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا (4) حيث أوجب التيمّم عند فقد الماء، و لا ريب أنّ الماء بإطلاقه لا يتناول المضاف، فعلم منه سقوط الواسطة، إذ اللفظ يحمل على حقيقته، فلو كان الوضوء سائغا بغير الماء لم يجب التيمّم عند فقده.

و منها: ما اعتمد عليه العلاّمة في المختلف(5) من قوله تعالى: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ

ص: 772


1- الفقيه 6:1.
2- الخلاف 55:1، المسألة: 5.
3- حكاه عنه في مختلف الشيعة 222:1.
4- النساء: 43.
5- مختلف الشيعة 223:1-222.

اَلسَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (1) بتقريب: أنّه خصّ التطهير بالماء بقرينة وروده مورد الامتنان، فلو وقع بغيره لكان الامتنان بالأعمّ أولى، و لم تكن للتخصيص فائدة، و قضيّة ذلك كلّه أن لا يقع بغيره، و لا يخفى وهنه.

أمّا أوّلا: فلأنّ الامتنان معلّق على حيثيّة الإنزال من السماء لأجل فائدة التطهير لا على مجرّد جعل تلك الفائدة في الماء، و لا ريب أنّ هذه الحيثيّة المحقّقة للامتنان مختصّة بالماء.

و حاصل معنى الآية: «أنّ إنزال الماء من السماء إنّما هو لأجل تطهيركم به» و لا ريب أنّ هذا المعنى لا ينافي حصول التطهير بغير الماء أيضا، و إلاّ يرد النقض بالصعيد الّذي يحصل به التطهير أيضا.

و أمّا ثانيا: فلأنّ المضاف أيضا بجميع أقسامه أصله من الماء كما يظهر بأدنى التفات، فحصول التطهير به لا ينافي قصد الامتنان بكون الماء منزّلا لحصول التطهير به، لرجوعه بالأخرة إليه من جهة استناده إليه بحسب أصله.

و اعترض أيضا: بأنّه يجوز أن يخصّ أحد الشيئين الممتنّ بهما بالذكر، لكونه أبلغ و أكثر وجودا و أعمّ نفعا.

و منها: رواية أبي بصير المرويّة في التهذيبين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يكون معه اللبن، أ يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: «لا إنّما هو الماء و الصعيد»(2) بتقريب: أنّ كلمة «إنّما» للحصر، فتفيد انتفاء التطهّر بغير الماء و الصعيد.

و عن الصدوق الاحتجاج بما رواه في التهذيب عن محمّد بن عيسى عن يونس عن أبي الحسن عليه السّلام قال: قلت له: الرجل يغتسل بماء الورد و يتوضّأ به للصلاة؟ قال: «لا بأس بذلك»(3).

و يضعّف: باشتمال سنده على سهل بن زياد و هو عامّي، و محمّد بن عيسى عن يونس، و قد نقل الصدوق عن شيخه محمّد بن الوليد أنّه لا يعتمد على حديث محمّد بن

ص: 773


1- الأنفال: 11.
2- الوسائل 201:1 ب 1 من أبواب الماء المضاف ح 1 - التهذيب 540/188:1.
3- الوسائل 204:1 ب 3 من أبواب الماء المضاف ح 1 - التهذيب 627/218:1.

عيسى عن يونس، و حكم الشيخ في كتابي الأخبار(1) بشذوذ هذه الرواية، و أنّ العصابة أجمعت على ترك العمل بظاهرها قائلا: «بأنّه خبر شاذّ شديد الشذوذ، و إن تكرّر في الكتب و الاصول، فإنّما أصله يونس عن أبي الحسن و لم يروه غيره، و قد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره، و ما هذا [يكون] حكمه لا يعمل به.

و لو سلّم لاحتمل أن يكون أراد به الوضوء الّذي هو التحسين، و قد بيّنّا فيما تقدّم أنّه يسمّى وضوء».

ثمّ قال: «و ليس لأحد أن يقول: إنّ في الخبر أنّه سأله عن ماء الورد يتوضّأ به للصلاة؟ فإنّ ذلك لا ينافي ما قلناه، لأنّه يجوز أن يستعمل للتحسين و مع هذا يقصد به الدخول في الصلاة من حيث أنّه متى استعمل الرائحة الطيّبة لدخوله في الصلاة و لمناجاة ربّه كان أفضل من أن يقصد به التلذّذ حسب دون وجه اللّه، و في هذا إسقاط ما ظنّه السامع.

و يحتمل أن يكون أراد بقوله: «ماء الورد» الّذي وقع فيه الورد، لأنّ ذلك يسمّى «ماء ورد» و إن لم يكن معتصرا منه، لأنّ كلّ شيء جاور غيره فإنّه يكسب اسم الإضافة إليه»(2) انتهى.

و في حاشية المدارك: «و ربّما وجّه بأنّ المراد ماء الورد»(3) بكسر الراء.

و بجميع ما ذكر يظهر ضعف قول العماني أيضا، و لم يذكر له مستند فيما حضرنا من كتب الأصحاب.

و ظاهر النقل عنه أنّه يجوز التطهير بكلّ مضاف من غير اختصاص له بماء الورد و لا موافق له و للصدوق فيما ادّعياه.

نعم، ربّما يحكى عن المحدّث الكاشاني في المفاتيح و الوافي ما يوهم ميله إلى موافقة الصدوق، حيث قال في الأوّل: «و يحتمل قويّا الجواز لصدق الماء على ماء الورد، لأنّ الإضافة ليست إلاّ لمجرّد اللفظ كماء السماء، دون المعنى كماء الزعفران و الحناء و الخليط بغيره، مع تأيّد الخبر بعمل الصدوق و ضمانه صحّة ما رواه في الفقيه

ص: 774


1- . التهذيب 219:1 - الاستبصار 14:1.
2- التهذيب 219:1.
3- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 174:1.

و عدم المعارض النافع»(1).

و قال في الثاني - بعد نقل خبر يونس المتقدّم -: «و أفتى بمضمونه في الفقيه، و نسبه في التهذيبين إلى الشذوذ، ثمّ حمله على التحسين و التطيّب للصلاة دون رفع الحدث مستدلاّ بما في الخبر الآتي إنّما هو الماء و الصعيد.

أقول: هذا الاستدلال غير صحيح، إذ لا منافاة بين الحديثين، فإنّ ماء الورد ماء مستخرج من الورد»(2) انتهى.

و مرجعه إلى إنكار الإضافة المخرجة عن الإطلاق، فماء الورد ماء و إن اضيف إلى الورد كماء البئر و نحوه، فما لم يكن الإضافة مؤثّرة في سلب الإطلاق لم يكن منافاة بين الخبر و ما دلّ على انحصار الطهور في الماء و الصعيد.

و هذا الكلام كما ترى يرجع إلى إنكار الصغرى، فلا مخالفة بينه و بين المشهور في منع التطهّر بغير الماء، و إنّما خالفهم في خصوص المقام في دعوى كون المتّخذ من الورد ماء و إن أطلق مضافا إلى الورد.

فدفع كلامه حينئذ إنّما هو بدفع هذه الدعوى، لا بإقامة الدليل على أنّ المضاف لا يرفع الحدث، كما قد يوجد في بعض العبائر.

المبحث الثاني: المشهور أنّ المضاف كما لا يرفع الحدث لا يرفع الخبث أيضا،

و عن الروض(3) الإجماع عليه، خلافا للمفيد في المسائل الخلافيّة(4)، و المرتضى في شرح الرسالة قائلا فيه: «يجوز عندنا إزالة النجاسة بالمائع الطاهر غير الماء»(5) و نقل عنه أيضا في المسائل الناصريّة(6) جواز ذلك بكلّ مائع، و عن المعتبر(7) أنّه أضاف ذلك إلى مذهبنا، و عن ابن أبي عقيل(8) أيضا القول بجواز ذلك حال الضرورة خاصّة، و المعتمد الأوّل للأصل المتقدّم، حجّة المشهور امور:

منها: ورود الأمر بغسل الثوب و البدن بالماء في أخبار كثيرة، و هو حقيقة في

ص: 775


1- مفاتيح الشرائع 47:1 - و فيه: «و عدم المعارض الناصّ».
2- الوافي 325:6.
3- روض الجنان: 132.
4- حكاه عنهما في المعتبر: 20.
5- حكاه عنهما في المعتبر: 20.
6- المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 148:1).
7- لم نجده في المعتبر، و لكنّه موجود في المسائل المصريّة (الرسائل التسع - للمحقّق الحلّي -: 216-215).
8- حكاه عنه في المختلف 222:1.

المطلق فيجب حمله عليه، و لا ينافي ذلك إطلاق الأمر بالغسل في بعضها أيضا، لأنّ المقيّد يحكم على المطلق كما هو مقرّر في الأصول.

و اعترض عليه تارة: بأنّ الأوامر المذكورة مخصوصة بنجاسات معيّنة و المدّعى عامّ.

فأجاب عنه المحقّق - بما حكي عنه في بعض مسائله -: «من أنّه لا قائل هنا بالفرق»(1) و اخرى بما عن الذخيرة: من أنّه كما يمكن الجمع بحمل المطلق على المقيّد، كذا يمكن بالحمل على الاستحباب، أو على ما هو الغالب من أنّه لا يستعمل في الإزالة غير الماء(2).

و الجواب عن الأوّل: مقرّر في الاصول.

و عن الثاني: بأنّ الغلبة المدّعاة إن اريد بها ما هو في جانب المطلق، على معنى أنّ الأمر بمطلق الغسل ينصرف إليه بالماء لأنّه الغالب، فهو تأييد لقول المشهور، و دفع لما ورد على تمسّكهم بالأوامر المقيّدة من وجود الأوامر بالمطلق أيضا، و رفع للحاجة إلى تجشّم حمل المطلق على المقيّد دفعا للمعارضة بينهما، إذ مبنى هذا الكلام على منع المعارضة بينهما من طريق آخر غير قاعدة الحمل.

فإن اريد بها ما هو في جانب القيد الوارد في المقيّد، على معنى كون قيد «الماء» واردا مورد الغالب فلا يكون مفهومه حجّة.

ففيه: منع ابتناء قاعدة الحمل على أن يكون للقيد الوارد في الكلام مفهوم كما هو مقرّر في الاصول، و إنّما هو مبتن على التنافي بين إطلاق المطلق و تقييد المقيّد، و هو حيثما حصل كان من مقتضيات منطوق المقيّد و إن لم يكن له مفهوم، حيث إنّ إطلاق المطلق يقتضي تخيير الوجوب، و التقييد يقتضي تعيينه رأسا و هما متنافيان، و من هنا كان الحمل ممّا يقول به من لا يقول بالمفهوم رأسا.

و يمكن المناقشة في هذا الحمل بأنّ: من شرائطه المقرّرة في محلّه اتّحاد موجب الخطابين، بأن يكون علّة الحكمين متّحدة، و هذا الشرط ليس بمحرز في المقام، حيث إنّ علّة الحكم في المقيّد النجاسة البوليّة و نحوها، و هي في المطلق سائر النجاسات، و لعلّه إلى هذا البيان يرجع ما تقدّم في الاعتراض الأوّل. فجوابه: حينئذ ما عرفت عن

ص: 776


1- المسائل المصريّة (الرسائل التسع - للمحقّق الحلّي -: 211).
2- ذخيرة المعاد: 112.

المعتبر(1)، و مرجعه على هذا البيان إلى منع انحصار الشرط في اتّحاد ذات الموجب، بل هو أحد الأمرين من اتّحاد الذات و اتّحاد الأثر و إن تعدّدت الذات، و يعلم ذلك عند تعدّد ذات الموجب بقيام دليل من الخارج، على أنّ هذه الموجبات متّحدة في الاقتضاء و الأثر، و المقام من هذا الباب، و الدليل الخارج هو عدم القول بالفرق بين أنواع النجاسات في اقتضاء الغسل بما يوجب زوالها، إن ماء ففي الجميع و إن أعمّ منه ففي الجميع.

نعم، إن كان المقام و لا بدّ من المناقشة فيه، فالأولى أن يقال: إنّ من شروط قاعدة الحمل كون المطلق و المقيّد تكليفيّين إلزاميّين، دون وضعيّين، أو تكليفيّين غير إلزاميّين، و لعلّه منتف في المقام، لما هو المقرّر من أنّ الأوامر و النواهي الواردتين في نظائره يراد بها الإرشاد دون الطلب و الإلزام، فهي إرشاد ورد بصورة الطلب، فتكون مساقها مساق القضايا الوضعيّة، و هي في الحقيقة قضايا إخباريّة، و معه لا تنافي بين مطلقاتها و مقيّداتها ليوجب الاضطرار إلى الحمل.

فالأولى في طريق الاستدلال منع إطلاق الغسل بالقياس إلى ما يحصل منه بالمضاف، بدعوى: كونه باعتبار اللغة و العرف حقيقة فيما يحصل بالماء، كما هو مذكور في كلام جماعة من الأصحاب، فحينئذ لا تنافي بين المطلقات و المقيّدات، بل المقيّدات على ذلك معتبرة بالقياس إلى المطلقات من باب القرائن المؤكّدة، بل لا تقييد حينئذ و لا إطلاق، بل الكلّ مجتمعة على مدلول واحد، غاية الأمر أنّ الدلالة في البعض من باب النصوصيّة و في الباقي من باب الظهور لابتنائها فيه على إعمال أصالة الحقيقة كما لا يخفى.

و لعلّه إلى هذا المعنى يشير ما ورد في بعض المعتبرة كقوله: «و لا يجزي في البول غير الماء»(2) و قوله: «كيف يطهّر من غير ماء»(3) بناء على كون المراد أنّ الحكم معلّق على الغسل و هو لا يتأتّى بغير الماء، و قوله: «كيف يطهّر من غير ماء»؟ مبالغة في إنكار تأتّيه بغير الماء، و ليس ذلك إلاّ من جهة كمال البعد بين الغسل المعلّق عليه الحكم و ما يحصل بغير الماء.

ص: 777


1- و الصواب: «ما عرفت عن المحقّق»، لأنّ ما ذكره المحقّق رحمه اللّه من الجواب بقوله: «أنّه لا قائل هنا بالفرق» ليس موجودا في المعتبر، بل يكون في المسائل المصريّة كما أشرنا إليه في محلّه.
2- الوسائل 316:1 ب 9 من أبواب الخلوة ح 6 - التهذيب 147/50:1.
3- الوسائل 453:3 ب 29 من أبواب النجاسات، ح 7 - التهذيب 805/273:1.

و يؤيّده ما عن الصحيح عن الحلبي عن الصادق عليه السّلام عن رجل أجنب في ثوب و ليس معه غيره؟ قال: «يصلّي فيه إلى حين وجدان الماء»(1).

فإنّ قضيّة الجمع بين الجواب و السؤال أنّ الرجل كان في حالة الاضطرار لمجرّد انحصار ثوبه في ثوب الجنابة و عدم وجدانه الماء، فلو أنّ الغسل أو إزالة الخبث يتأتّى بغير طريق استعمال الماء لم يكن هناك حالة اضطرار، و ليس في الرواية تعرّض لعدم وجدانه غير الماء من أنواع المضاف، و لا أقلّ من الريق، مع ما قيل من أنّ أهل الحجاز كان في بيوتهم الخلّ و ماء الورد و أمثالهما، أو كان هذه الأشياء موجودة في بلادهم مكّة و المدينة و نحوهما، فكيف يفرض في حقّهم عدم التمكّن عن المضاف.

و منها: قوله تعالى وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (2) و قوله عليه السّلام في حديث «كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة البول قرضوا لحومهم بالمقاريض، و قد وسّع اللّه عليكم بأوسع ما بين السماء و الأرض، و جعل لكم الماء طهورا»(3) فإنّ قصر الحكم في مقام الامتنان يدلّ على انحصار المطهّر فيه، و هذا موهون بما ذكرنا في المسألة السابقة فلاحظ بعين الدقّة.

و منها: أنّ ملاقاة المائع للنجاسة يقتضي نجاسته، و النجس لا يزال به النجاسة، و هو كما ترى لا يتمّ على القول بطهارة الغسالة، و على قول المرتضى(4) بالفرق بين الورودين، بل على قول الآخرين بنجاسة الغسالة أيضا، كيف و هو منقوض على هذا القول باستعمال المطلق القليل في إزالة النجاسة، فإنّه ينجّس بالملاقاة و مع هذا يفيد طهارة المحلّ.

و أمّا ما قيل في دفعه - كما عن المعتبر -: «من أنّ مقتضى الدليل التسوية بينهما، لكن ترك العمل به في المطلق للإجماع و لضرورة الحاجة إلى الإزالة، و الضرورة تندفع بالمطلق، و لا يسوّى غيره لما في ذلك من تكثير المخالفة للدليل»(5).

ففيه: ما لا يخفى من الغفلة عن حقيقة المقصود بالنقض، فإنّه عند التحقيق حلّ و ردّ بصورة النقض.

ص: 778


1- الوسائل 484:3 ب 45 من أبواب النجاسات ح 1 - مع اختلاف يسير - التهذيب 799/271:1.
2- الفرقان: 48.
3- الوسائل 133:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 4.
4- المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 136:1) - و أيضا حكاه عنه في المعتبر: 20.
5- المعتبر: 20، نقلا بالمعنى.

و ملخّصه: منع ما استحاله المستدلّ من إفادة المتنجّس طهر متنجّس غيره، و سنده عدم المنافاة بين نجاسة المطهّر المكتسبة عن المتنجّس الّذي يطهّره و بين طهارة ذلك المتنجّس بهذا المطهّر، كما كشف عنه الشرع في القليل المطلق المستعمل في إزالة النجاسة، و معه انهدم بنيان الاستدلال الّذي مبناه على الاستحالة العقليّة، و إن لم يوجب بنفسه ثبوت مدّعى الخصم، نظرا إلى أنّ الاحتمال مبطل لمثل هذا الاستدلال.

و منها: أنّها طهارة تراد لأجل الصلاة، فلا تجوز إلاّ بالماء كطهارة الحدث، بل اشتراط الماء هنا أولى، لأنّ اشتراطه في النجاسة الحكميّة يعطي أولويّة اشتراطه في النجاسات الحقيقيّة.

و ضعفه واضح، و إن قال العلاّمة في توجيهه: بأنّه استدلال بالاقتضاء، فإنّ التنصيص على الأضعف يقتضي أولويّة ثبوت الحكم في الأقوى، كما في دلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب، لمنع كونه أقوى بعد ملاحظة أنّه يعتبر في النجاسة الحكميّة ما لا يعتبر في الحقيقيّة كالنيّة و غيرها من الشرائط المقرّرة في محالّها.

و منها: أنّ منع الشرع في استصحاب الثوب النجس مثلا في الصلاة ثابت قبل غسله بالماء، فيثبت بعد غسله بغير الماء أيضا بحكم الاستصحاب، و هذا أمتن و إليه يرجع ما اعتمدنا عليه من الأصل، و إن اعترض شارح الدروس: «بأنّ الاستصحاب إنّما يكون حجّة إذا كان دليل الحكم غير مقيّد بوقت دون وقت و ليس المقام كذلك، إذ العمدة في إثبات المنع المذكور بطريق العموم الإجماع، و هو في منع استصحاب النجس قبل الغسل مطلقا، لا قبل الغسل بالماء»(1) فإنّ هذا التشكيك مدفوع بما قرّر في الاصول.

و عن المرتضى الاحتجاج بوجوه:

الأوّل: الإجماع، و ضعفه بعد ملاحظة مصير المعظم إلى المخالفة واضح، و أمّا نسبة ذلك إلى مذهبنا فعن المحقّق أنّه وجّهه: «بأنّ مذهبنا العمل بالبراءة الأصليّة ما لم يثبت الناقل، و هنا لم يثبت»(2) قيل: و لو لا هذا التوجيه لظنّنا موافقة بعض من تقدّم عليهما

ص: 779


1- مشارق الشموس: 260.
2- المسائل المصريّة (الرسائل التسع - للمحقّق الحلّي - 216)،... انظر كتاب طهارة للشيخ الأنصاري رحمه اللّه 297:1.

لهما في هذه المسألة(1).

الثاني: قوله تعالى: وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ (2)، بتقريب: أنّه تعالى أمر بتطهير الثوب من دون استفصال بين الماء و غيره، و عنه - على ما في المختلف -(3) أنّه اعترض على نفسه بالمنع من تناول الطهارة للغسل بغير الماء.

فأجاب: بأنّ تطهير الثوب ليس بأكثر من إزالة النجاسة منه، و قد زالت بغسله بغير الماء مشاهدة، لأنّ الثوب لا يلحقه عبادة.

و أجاب عنه في المختلف: «بأنّ المراد - على ما ورد في التفسير - لا تلبسها على معصية و لا على غدر، فإنّ الغادر [و] الفاجر يسمّى دنس الثياب.

سلّمنا: أنّ المراد الطهارة المتعارفة شرعا، لكن لا دلالة فيه على أنّ الطهارة بأيّ شيء تحصل، بل دلالتها على [ما قلناه: من] أنّ الطهارة إنّما تحصل بالماء أولى، إذ مع الغسل بالماء يحصل الامتثال قطعا، و ليس كذلك لو غسل بغيره.

و قوله: «النجاسة قد زالت حسّا»، قلنا: لا يلزم من زوالها في الحسّ زوالها شرعا، فإنّ الثوب لو يبس بلله بالماء النجس، أو بالبول لم يطهر و إن زالت النجاسة عنه، مع أنّه أجاب حين سئل «عن معنى نجس العين و نجس الحكم» بأنّ: الأعيان ليست بنجسة لأنّها عبارة عن جواهر مركّبة و هي متماثلة، فلو نجس بعضها نجس سائرها، و انتفى الفرق بين الخنزير و غيره، و قد علم خلافه، و إنّما التنجيس حكم شرعي.

و لا يقال: نجس العين إلاّ على وجه المجاز دون الحقيقة، و إذا كانت النجاسة حكما شرعيّا لم يزل عن المحلّ إلاّ بحكم شرعي، فحكمه رحمه اللّه بزوالها عن المحلّ لزوالها حسّا ممنوع»(4) انتهى.

و لا يخفى لطف هذا الجواب خصوصا بعض وجوهه، و هو منع دلالة الآية على أنّ الطهارة بأيّ شيء تحصل، فإنّ ذلك في كمال المتانة.

و وافقه على هذا الجواب المحقّق - فيما حكي عنه -(5) من «منع دلالتها على،

ص: 780


1- و القائل هو الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة 297:1.
2- المدّثّر: 4.
3- مختلف الشيعة 224:1.
4- المختلف 225:1-224.
5- الحاكي هو المحقّق الخوانساري رحمه اللّه في مشارق الشموس: 261.

موضع النزاع، لأنّها دالّة على وجوب التطهير و البحث ليس فيه، بل في كيفيّة الإزالة»(1)و ملخّصه على ما رامه رحمه اللّه: أنّ مرجع الاستدلال بالآية إلى التمسّك بإطلاقها المتناول لما يحصل بالماء و ما يحصل بغيره، لمكان عدم الاستفصال، و هو باطل لأنّ الآية ليست في صدد بيان كيفيّة التطهير و طريقه ليكون الإطلاق من هذه الجهة مناطا للحكم، و إنّما هي في صدد تشريع أصل التطهير مع السكوت عن كيفيّته، و معه لا معنى للتمسّك بالإطلاق من هذه الجهة، على ما هو الشرط المقرّر في التمسّك بالمطلقات من عدم ورودها مورد بيان حكم آخر.

و الثالث: إطلاق الأمر بالغسل من النجاسة في عدّة أخبار من غير تقييد بالماء، و قد اعترض على نفسه أيضا: «بأنّ إطلاق الأمر بالغسل ينصرف إلى ما يغسل به في العادة، و لم يقض العادة بالغسل بغير الماء.

فأجاب: بمنع اختصاص الغسل بما يسمّى الغاسل به غاسلا عادة، إذ لو كان كذلك لوجب المنع من غسل الثوب بماء الكبريت و النفط و غيرهما ممّا لم يجر العادة بالغسل به، و لمّا جاز ذلك و إن لم يكن معتادا إجماعا علمنا عدم الاشتراط بالعادة، و أنّ المراد بالغسل ما يتناوله اسمه حقيقة من غير اعتبار العادة»(2) انتهى.

و جوابه بناء على ما قدّمناه في تتميم الاستدلال على المذهب المشهور واضح، و مرجعه إلى منع إطلاق الغسل بالقياس إلى ما يحصل بغير الماء، فإنّ اللفظ لا يعقل فيه إطلاق بالقياس إلى معنييه الحقيقي و المجازي.

و حكي هذا الجواب عن جماعة من الأصحاب منهم العلاّمة في المنتهى(3)، و الشهيد في الذكرى(4)، و إن كانوا في دعوى الحقيقة بين مطلق و مقيّد لها بالشرعيّة، و عن المطلقين الاحتجاج بسبقه إلى الذهن عند الإطلاق، كما يسبق عند إطلاق الأمر بالسقي فيما لو قال السيّد: «اسقني» حيث لا يتبادر منه إلاّ السقي بالماء، و لذا لو أتاه المأمور بمضاف كان معاقبا، و ليس ذلك إلاّ من جهة كون الماء مأخوذا في مفهوم السقي.

و أمّا على طريقة من يقول بأنّ الغسل باعتبار مفهومه اللغوي و إن كان للأعمّ و لكنّه

ص: 781


1- المسائل المصريّة (الرسائل التسع - للمحقّق الحلّى - 214).
2- مختلف الشيعة 225:1.
3- منتهى المطلب 126:1.
4- ذكرى الشيعة 72:1.

لا ينصرف عند الإطلاق إلاّ إلى أحد فرديه لكونه الغالب، فيجاب عن النقض تارة:

بالفرق بين الانصرافين، و اخرى: بأنّ شمول المطلق أو حكمه لبعض الأفراد النادرة لدليل لا يوجب التعدّي إلى غيره منها.

و الرابع: أنّ الغرض من الطهارة إزالة عين النجاسة كما يشهد به ما رواه الفقيه في باب ما ينجّس الثوب و الجسد في الصحيح عن حكم بن حكيم الصيرفي، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أبول فلا اصيب الماء، و قد أصاب يدي شيء من البول، فأمسحه بالحائط و التراب، ثمّ يعرق يدي فأمسّ وجهي أو بعض جسدي، أو يصيب ثوبي؟ قال: «لا بأس به»(1).

و ما رواه التهذيب في زيادات باب تطهير الثياب عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عن عليّ عليه السّلام «قال: لا بأس بأن يغسل الدم بالبصاق»(2).

و اجيب عنه - كما عن المعتبر -(3) بما يرجع محصّله إلى أنّ: زوال النجاسة بالتراب ممّا لا يقول به الخصم، و خبر غياث متروك لكون غياث بتريّا ضعيف الرواية فلا يعمل على ما ينفرد به، أو محمول على جواز الاستعانة في غسله بالبصاق، فإنّ جواز الغسل به لا يقتضي طهر المحلّ به منفردا، و البحث فيه.

و كما في الرياض بأنّ: «دعوى التبعيّة مصادرة محضة(4)، و الخبر مع ضعفه و عدم صراحته لا يقاوم ما قدّمناه، و هو مع ذلك من طريق الآحاد و السيّد لا يعمل به، و به يجاب عن الحسن(5)، مع معارضته بما تقدّم من أنّه «لا يجزي في البول غير الماء» مع عدم وضوح الدلالة، لاحتمال رجوع نفي البأس إلى نجاسة الممسوس لا إلى طهارة الماسّ بذلك، [و ذلك] بناء على عدم العلم بملاقاة المحلّ النجس له و إن حصل الظنّ به، بناء على عدم اعتباره في أمثاله، و في الموثّق: «إذا بلت و تمسّحت فامسح ذكرك

ص: 782


1- الوسائل 401:3 ب 6 من أبواب النجاسات ح 1 - الفقيه 158/40:1.
2- التهذيب 1350/425:1 - الوسائل 205:1 ب 4 من أبواب الماء المضاف ح 2.
3- المعتبر: 20.
4- و لا يخفى أنّ هذه الفقرة لا يرتبط بالجواب عن الرواية المبحوث عنها، بل هي جواب عن دليل آخر على المدّعى الّذي أورده في الرياض بقوله: «و تبعيّة النجاسة للعين، فإذا زالت زالت». فلاحظ و تأمّل.
5- المراد به رواية حكم بن حكيم الصيرفي الّذي عبّر عنها في الرياض بالحسن. لاحظ رياض المسائل 172:1.

بريقك، فإن وجدت شيئا فقل هذا من ذاك»(1)-(2) انتهى.

ثمّ عن المحدّث الكاشاني في المفاتيح أنّه قال: «يشترط في الإزالة إطلاق الماء على المشهور خلافا للسيّد و المفيد فجوّزا بالمضاف، بل جوّزا تطهير الأجسام الصيقليّة بالمسح بحيث يزول العين لزوال العلّة، و لا يخلو من قوّة، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات، أمّا وجوب غسلها بالماء من كلّ جسم فلا، فكلّ ما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهيره إلاّ ما أخرج بدليل، حيث اقتضى فيه اشتراط الماء كالثوب و البدن، و من هنا يظهر طهارة البواطن كلّها بزوال العين مضافا إلى نفي الحرج، و يدلّ عليه الموثّق، و كذا أعضاء الحيوان المتنجّسة غير الآدمي كما يستفاد [من الصحاح]»(3) انتهى.

و ظاهر هذا الكلام بل صريحه موافقة السيّد فيما نسب إليه من تطهير الأجسام الصيقليّة بالمسح على الوجه الّذي ذكره، بل ظاهره موافقته في رفع الحدث بالمضاف لكن في غير الثوب و الجسد، و لا يخفى ما فيه من مخالفته لما علم من الشرع ضرورة، و نطقت به الأخبار البالغة فوق الكثرة المتفرّقة في أبواب النجاسات و المطهّرات، و لباس المصلّي و غيره، و بالجملة المعلوم من الشرع خلاف ما ذكره جدّا.

و نعم ما قيل - في ردّه من معارضة الكلّيّة المدّعاة في كلامه -: بأنّ كلّ متنجّس يجب تطهيره بالماء إلاّ ما خرج بالدليل، و لا ريب أنّ هذه الكلّيّة أكثر أفرادا و أشمل أشخاصا من الكلّيّة الّتي ادّعاها، بحيث لم يخرج سوى ما ذكره من الفردين، و هما طهارة البواطن و طهارة أعضاء الحيوان بالغيبة.

و هل يصحّ من عالم كامل أو جاهل عاقل أن يدّعي قاعدة كلّيّة و ضابطة مطّردة يكون خارجها أكثر بمراتب شيء من داخلها، بحيث لم يعلم لها داخل إلاّ فردان أو ثلاثة أفراد، و ليس ذلك إلاّ من سوء الحدس و قصور الملكة».

المبحث الثالث: المعروف من مذهب الأصحاب المنقول فيه الإجماع في كلام غير واحد أنّ المضاف ينفعل بملاقاة النجاسة

و إن كثر و بلغ في الكثرة ما بلغ مطلقا، أو بشرط ورودها، بناء على ما هو لازم كلام المفيد و السيّد من تجويز رفع الحدث به، إلاّ

ص: 783


1- الفقيه 160/69:1.
2- رياض المسائل 172:1.
3- مفاتيح الشرائع 77:1.

على المشهور المنصور من الجمع بين الانفعال و الرفع على الوجه الّذي سبق بيانه في محلّه، و هو الحقّ الّذي لا محيص عنه.

و الحجّة فيه بعد الإجماع الضروري فتوى و عملا، بعض الأخبار الواردة في مواضع مخصوصة من المضافات - بل مطلق المائعات و إن كانت من قبيل الأدهان، مع ضميمة الإجماع على عدم الفصل - مثل ما رواه التهذيب في باب الأطعمة و الأشربة عن زكريّا ابن آدم قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قطرة خمر، أو نبيذ مسكر، قطرت في قدر فيه لحم [كثير] و مرق كثير؟ قال: «يهراق المرق، أو يطعمه أهل الذمّة [أ] و الكلاب، و اللحم اغسله و كله»(1).

و ما رواه أيضا في الباب المذكور عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام سئل عن قدر طبخت، و إذا في القدر فأرة؟ قال: «يهراق مرقها، و يغسل اللحم، و يؤكل»(2).

و ما رواه أيضا عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت، فإن كان جامدا فألقها و ما يليها، و كل ما بقي، و إن كان ذائبا فلا تأكله و استصبح به، و الزيت مثل ذلك»(3).

فما في شرح [الدروس] من المناقشة في الخبر الأخير من: «أنّه ليس ممّا نحن فيه، إذا المضاف في اصطلاحهم لا يشمل الدهن و الزيت»(4)، ليس على ما ينبغي القاعدة المستفادة من الشرع بملاحظة بناء المتشرّعة و الأخبار المتفرّقة في الأبواب الفقهيّة، من أنّ كلّ مائع - بل كلّ جامد رطب - قابل للانفعال بملاقاة النجاسة، و أنّ كلّ نجس معدّ لتنجيس ملاقيه برطوبة، عدا ما خرج بالدليل.

و لنذكر نبذة من الأخبار الّتي يستفاد منها تلك الكلّيّة و هي كثيرة جدّا.

منها: ما رواه في الوسائل عن عليّ بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون له الثوب قد أصابه الجنابة، فلم يغسله هل

ص: 784


1- الوسائل 470:3 ب 38 من أبواب النجاسات ح 8 - التهذيب 820/279:1.
2- الوسائل 205:1 ب 5 من أبواب الماء المضاف ح 3 و 1 - التهذيب 86:9 و 365/85 و 360.
3- الوسائل 205:1 ب 5 من أبواب الماء المضاف ح 3 و 1 - التهذيب 86:9 و 365/85 و 360.
4- مشارق الشموس: 257.

يصلح النوم فيه؟ قال: «يكره».

قال: و سألته عن الرجل يعرق في الثوب يعلم أنّ فيه جنابة كيف يصنع؟ هل يصلح له أن يصلّي قبل أن يغسل؟ قال: «إذا علم أنّه إذا عرق أصاب جسده من ذلك الجنابة الّتي في الثوب فليغسل ما أصاب جسده من ذلك، و إن علم أنّه قد أصاب جسده و لم يعرف مكانه فليغسل جسده كلّه»(1).

و منها: ما رواه أيضا عن الخصال عن عليّ بن إبراهيم في حديث الأربعمائة، قال:

«تنزّهوا عن قرب الكلاب، فمن أصاب الكلب و هو رطب فليغسله، و إن كان جافّا فلينضح ثوبه بالماء»(2).

و في معناه ما رواه أيضا عن الشيخ عن حريز عن الفضل أبي العبّاس قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، و إن مسّه جافّا فاصبب عليه الماء»، قلت: لم صار بهذه المنزلة؟ قال: «لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر بغسلها»(3).

و منها: ما رواه أيضا عن الكافي عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام: عن نية أهل الذمّة و المجوس؟ فقال: «لا تأكلوا من نيتهم، و لا من طعامهم الّذي يطبخون، و لا في نيتهم الّتي يشربون فيها الخمر»(4) و في هذا دلالة على ما هو من محلّ البحث بالخصوص كما لا يخفى.

و في معناه ما رواه أيضا عنه عن عبد اللّه بن يحيى الكاهلي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوم مسلمين يأكلون و حضرهم رجل مجوسي، أ يدعونه إلى طعامهم؟ فقال: «أمّا أنا فلا أؤاكل المجوسي» الحديث(5).

و منها: الأخبار الآمرة لمن صافح الكافر بغسل يده(6)، و الناهية عن مؤاكلته(7)، و الدالّة على نجاسة سؤره(8)، الشاملة بعمومها لما هو من أفراد المبحث، و هي كثيرة كما

ص: 785


1- الوسائل 404:3 ب 7 من أبواب النجاسات ح 9 و 10 - مسائل عليّ بن جعفر: 237/159.
2- الوسائل 417:3 ب 12 من أبواب النجاسات ح 11 - الخصال: 626.
3- الوسائل 414:3 ب 12 من أبواب النجاسات ح 1 - التهذيب 759/261:1.
4- الوسائل 517:3 ب 72 من أبواب النجاسات ح 2 - الكافي 5/264:6.
5- الوسائل 419:3 ب 14 من أبواب النجاسات ح 2 - الكافي 4/263:6. (6 و 7 و 8) راجع الوسائل 419:3 أحاديث ب 14 من أبواب النجاسات.

لا يخفى على المتتبّع.

و منها: ما رواه أيضا عن الشيخ عن العيص بن القاسم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء، فمسح ذكره بحجر، و قد عرق ذكره و فخذه؟ قال:

«يغسل ذكره و فخذيه»(1).

و منها: ما رواه الشيخ في الموثّق عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن الشمس هل تطهّر الأرض؟ قال: «إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس، ثمّ يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة، و إن أصابته الشمس و لم ييبس الموضع القذر و كان رطبا فلا يجوز الصلاة عليه حتّى ييبس، و إن كان رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصلّ على ذلك الموضع، و إن كان غير الشمس أصابه حتّى يبس فانّه لا يجوز ذلك»(2).

و منها: ما في الكافي عن عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الدنّ يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه الخلّ أو كامخ أو زيتون؟ قال: «إذا غسل فلا بأس» الحديث، و فيه أيضا دلالة على ما هو من أفراد المسألة كما لا يخفى.

و منها: الأخبار الكثيرة المتقدّمة في بحث القليل.

و بالجملة: المستفاد من تلك الأخبار و غيرها بعنوان القطع أنّ الرطوبة حيثما توسّطت فيما بين نجس أو متنجّس و طاهر أثّرت في تنجّس ذلك الطاهر بملاقاته النجس أو المتنجّس، فهذا أصل كلّي لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه، و لا يفرّق فيه بين النجس و المتنجّس، كما يعلم بملاحظة بعض الأخبار المذكورة.

فما عن بعض المتأخّرين(3) من التشكيك في تنجّس الشيء بملاقاة المتنجّس الّذي ليس معه نجاسة عينيّة، بل تقويته العدم استظهارا له من بعض الأخبار، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه للقطع بفساده.

فما عن المحدّث الكاشاني في جملة كلام له في الوافي و نحوه في المفاتيح قائلا:

ص: 786


1- الوسائل 350:1 ب 31 من أبواب أحكام الخلوة ح 2 - التهذيب 1333/421:1.
2- الوسائل 452:3 ب 29 من أبواب النجاسات ح 4 - التهذيب 1548/372:2.
3- هو المحدّث الكاشاني في مفاتيح الشرائع 75:1.

«لا يخفى على من فكّ رقبته عن ربقة التقليد أنّ هذه الأخبار و ما يجري مجراها صريحة في عدم تعدّي النجاسة من المتنجّس إلى شيء قبل تطهيره و إن كان رطبا إذا ازيل عنه عين النجاسة بالتمسّح و نحوه، و إنّما المنجّس للشيء عين النجاسة لا غير، على أنّا لا نحتاج إلى دليل في ذلك، فإنّ عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب، إذ لا تكليف إلاّ بعد البيان»(1) مقطوع بفساده.

و قد يستدلّ على هذا الأصل بقوله تعالى: وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ (2)، و يؤيّد ذلك بفهم الغنية(3)حيث استدلّ به على انفعال القليل بملاقاة النجاسة، و قد تقدّم منّا ما يخدشه في صدر الباب.

و قد يستدلّ أيضا(4) بما دلّ على وجوب الاجتناب عن النجاسات، بتوهّم: أنّه يستفاد منه وجوب الاجتناب عمّا يلاقيها، و يجعل من أجل هذه الاستفادة عدّ الإمام عليه السّلام من ارتكب الطعام الملاقي للميتة مخالفة للشارع في تحريمه لها، كما نطق به خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أتاه رجل فقال له: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر عليه السّلام: «لا تأكله»، فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها، قال: فقال له أبو جعفر عليه السّلام: «إنّك لم تستخفّ بالفأرة، و إنّما استخففت بدينك، أنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء»(5).

فإنّ أكل الطعام المذكور لا يكون استخفافا لحكم الشارع بحرمة الميتة، يعني نجاستها إلاّ من جهة ما هو المركوز في الأذهان من استلزام نجاسة الشيء لنجاسة ما يلاقيه.

و فيه: نوع تأمّل، و العمدة أصل القاعدة و هي ثابتة جدّا لوضوح مدركها للمتتبّع، و يستفاد من كلام الفقهاء أيضا تسالمهم عليها، و إليها يرجع استدلال المعتبر - على ما حكي عنه - على نجاسة المضاف و إن كثر بالملاقاة: «بأنّ المائع قابل للنجاسة، و النجاسة موجبة لنجاسة ما لاقته، فيظهر حكمها عند الملاقاة، ثمّ تسري النجاسة بممازجة المائع بعضه بعضا»(6).

ص: 787


1- الوافي 150:4 - لاحظ مفاتيح الشرائع 75:1.
2- المدّثر: 5.
3- غنية النزوع 42:1.
4- المستدلّ هو الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة 299:1.
5- الوسائل 206:1 ب 5 من أبواب الماء المضاف، ح 2 - التهذيب 1327/420:1.
6- المعتبر: 21.

و استحسنه في المدارك(1)، فما في كلام شارح الدروس من المناقشة فيه: «بعدم دليل عامّ يدلّ على نجاسة جميع المائعات بملاقاة النجاسة أو المتنجّس بأيّ نحو كان»(2) ليس على ما ينبغي بعد استفادة عموم القاعدة من الأخبار الجزئيّة الواردة في موارد مخصوصة.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الحكم المستفاد من تلك القاعدة بالقياس إلى محلّ البحث مخصوص بما عدا الأجزاء العالية فيما اختلفت سطوحه، بناء على أصالة عدم سراية النجاسة من السافل إلى العالي على الوجه الّذي قدّمناه مفصّلا في مستثنيات انفعال القليل، من غير فرق فيه بين المطلق و المضاف كما تقدّم ذكره، وفاقا لبعض مشايخنا المحقّقين(3)، و ممّن صرّح به هنا بالخصوص صاحب المدارك مدّعيا فيه القطع، حيث إنّه بعد ما استحسن الدليل المتقدّم على الانفعال قال: «و لا تسري النجاسة مع اختلاف السطوح إلى الأعلى قطعا، تمسّكا بمقتضى الأصل السالم من المعارض»(4) انتهى.

و لا ريب أنّ دعوى القطع لا تقصر عن دعوى الإجماع، و إن كان الجمع بينهما و بين التمسّك بالأصل لها ممّا لا يكاد يمكن، غير أنّه قدّس سرّه أعلم بحقيقة ما ادّعاه، و قد تقدّم في البحث المذكور عن الشهيد في روض الجنان(5) و عن غيره دعوى عدم معقوليّة السراية، فإنّها و إن كانت لا تخلو عن إشكال كما تقدّم وجهه، لكنّه في قوّة نقل الإجماع الكاشف عن عدم وجدانهم الخلاف في المسألة، الكاشف عن عدم وجوده.

و قد يوجّه: بأنّ مرادهم عدم تعقّل المتشرّعة له و عدم دخوله في أذهانهم لا عدم المعقوليّة المصطلح عليه عند أهل المعقول، فإنّ عدم السراية إلى الأعلى في مطلق المائعات من الامور المركوزة في أذهان المتشرّعة، الكاشفة عن بناء الشارع عليه و اعتقاده به.

و بالجملة: لم نقف على مخالف في ذلك عدا السيّد الجليل في مناهله(6) - فيما

ص: 788


1- مدارك الأحكام 114:1.
2- مشارق الشموس: 257.
3- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 300:1.
4- مدارك الأحكام: 114.
5- روض الجنان: 136.
6- المناهل - كتاب الطهارة الورقة: 218 (مخطوط) حيث قال: «و بالجملة: لا إشكال في أنّ تلك الإجماعات تقتضي نجاسة جميع أجزاء المضاف من غير فرق بين الأجزاء الّتي هي تحت الجزء المتّصل بالنجس و الّتي فوقه و الّتي تساويه من الأطراف... الخ».

حكي عنه -(1) من إنكار ذلك في خصوص المضاف، تمسّكا بشمول إطلاق فتاويهم و معاقد إجماعاتهم على انفعال المضاف بالملاقاة لما إذا كان المضاف عاليا.

و فيه: ما لا يخفى، فإنّ إطلاق الفتاوى يقيّد بما ذكر، على قياس ما هو الحال في انفعال القليل من المطلق، و إلاّ فالفتاوى و نقل الإجماعات و أخبار الأئمّة عليهم السّلام في ذلك أيضا مطلقة تشمل بإطلاقها لما إذا كان المطلق عاليا، و مع ذلك فلا كلام لأحد بالنسبة إليه في عدم سراية النجاسة إلى الأعلى بالشروط المتقدّمة، هذا كلّه و لكنّ الاحتياط ممّا يحسن مراعاته هنا جدّا.

المبحث الرابع: لا خلاف بين الأصحاب في طهر المضاف المتنجّس بصيرورته مطلقا بسبب اختلاطه بما زاد على الكثير من المياه المطلقة،

بل بكلّ ماء معتصم و إن كان جاريا أو ماء مطر، بناء على أنّ ذكر «الكثير» في عباراتهم إنّما ورد من باب المثال، أو من جهة غلبة استعماله في التطهير، لا من باب قصر الحكم عليه.

و الدليل على ذلك: ما تقدّم في تطهير المطلق المتنجّس من الإجماع على الملازمة الّتي يعبّر عنها بامتناع اختلاف ماء واحد في سطح واحد في الحكم، بكون بعضه محكوما عليه بالطهارة و البعض الآخر محكوما عليه بالنجاسة، على ما هو المفروض من أنّهما باختلاطهما و امتزاجهما صارا ماء واحدا و وقع عليهما إشارة واحدة، مع انضمام ما دلّ على عدم انفعال الماء المعتصم بملاقاة النجاسة.

فحينئذ يقال: إنّ هذا الماء لا بدّ أن يكون له حكم واحد من طهارة الجميع أو نجاسة الجميع بحكم الملازمة المجمع عليها، و لا سبيل إلى الحكم بنجاسة الجميع بحكم أدلّة عدم انفعال المعتصم بما لاقاه من نجس أو متنجّس، فتعيّن طهارة الجميع إذ لا واسطة بعد(2).

و إلى هذه الحجّة أشار العلاّمة في المنتهى قائلا: «و الطريق إلى تطهيره حينئذ إلقاء كرّ فما زاد عليه من الماء المطلق، لأنّ بلوغ الكرّيّة سبب لعدم الانفعال عن الملاقي، و قد مازجه المضاف فاستهلكه، فلم يكون مؤثّرا في تنجيسه لوجود السبب، و لا يمكن الإشارة إلى عين نجسة فوجب الجزم بطهارة الجميع»(3).

ص: 789


1- الحاكي هو الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة 301:1.
2- كذا في الأصل.
3- منتهى المطلب 127:1.

و قد يستدلّ بوجهين آخرين:

أحدهما: الأدلّة الدالّة على عدم انفعال الكثير بوقوع الأبوال النجسة و الدم و العذرة و نحوها، إذ من المعلوم أنّ هذه النجاسات توجب إضافة أجزاء من الماء مجاورة لها و لو يسيرة، بل اختلاطها بالماء يوجب صيرورة أنفسها مضافة في أوّل الاختلاط، فحكم الشارع بطهارة الجميع لا يكون إلاّ بالاستهلاك.

و فيه: تأمّل واضح، من حيث إنّ حكم الشارع بطهارة الجميع ممّا لا يستفاد من تلك الأدلّة و لا دلالة فيها عليه بشيء، بل غايتها الدلالة على بقاء الماء بعد وقوع هذه الأشياء على طهارته الأصليّة و عدم زوال الطهارة، و هو كما ترى يجامع بقاء ما وقع فيه من هذه الأشياء على حكمها الأصلي من النجاسة و لو في علم اللّه سبحانه على فرض الاستهلاك، بناء على أنّه ليس عبارة عن الانعدام بالمرّة، بل عن تلاشي الأجزاء و شيوعها في أجزاء الماء على وجه امتنع على الحسّ إدراكها، فلا قاضي إذا بطهر هذه الأجزاء و زوال صفة النجاسة عنها، و لو انضمّ إلى تلك الأدلّة مقدّمة امتناع اختلاف الماء الواحد في الحكم رجع الدليل إلى الوجه الأوّل، فلا تغاير بينهما ليكون دليلا ثانيا كما هو مقصود المستدلّ.

و ثانيهما: أنّ المضاف المتنجّس يصير ماء مطلقا، فيطهّر بامتزاجه بالكثير إجماعا، كما تقدّم في تطهير القليل.

و فيه: أنّ صيرورته ماء مطلقا لم تكن جزما إلاّ بالامتزاج، و عبارة الدليل تستدعي اعتبار امتزاج آخر غير هذا الامتزاج الموجب للإطلاق، على وجه يتحقّق هنا امتزاجان، أحدهما ما هو موجب للإطلاق، و الآخر ما هو موجب للطهر، ليكون طهره من باب طهر الماء القليل و مندرجا في دليله.

فإن اريد بما ذكر ما هو ظاهر العبارة، ففيه أوّلا: أنّ ثاني الامتزاجين بعد تحقّق الامتزاج الأوّل محال، إذ الامتزاج وصف يحصل في الشيئين، مسبوق بالامتياز بينهما، رافع لذلك الامتزاج(1)، و المفروض أنّ الكثير مع المضاف المتنجّس بالامتزاج الأوّل صارا ماء واحدا، فلا امتياز بينهما بعد ليلحقه امتزاج رافع له.

ص: 790


1- كذا في الأصل، و الصواب: «الامتياز» بدل «الامتزاج» نظرا إلى السياق. و لعلّه سهو منه رحمه اللّه و اللّه العالم.

و ثانيا: أنّ اعتبار الامتزاج الثاني على فرض تحقّقه يشبه بكونه خلاف الإجماع، لتطابق عباراتهم بعد البناء على اشتراط الامتزاج في التطهير على كفاية الامتزاج الأوّل الموجب للإطلاق.

و إن اريد به خلاف ظاهر العبارة، و هو الاكتفاء بالامتزاج الأوّل كما هو مقتضى كلام الأصحاب.

ففيه: أنّ دعوى الطهر بذلك لا تتمّ إلاّ بعد إحراز المقدّمة المذكورة في الوجه الأوّل المجمع عليها، و معه يرجع الكلام أيضا إلى الوجه الأوّل، فلم يتحقّق هنا دليل آخر كما لا يخفى.

و دعوى: كون ذلك تطهيرا للماء بعينه، فيكون مشمولا لدليله من حيث إنّه دليله، ممّا يكذّبه الوجدان، بل هو تطهير من باب تطهير المطلق لجريان دليله فيه، لا تطهير المطلق بعينه، و الفرق بين المعنيين واضح للمتأمّل، و كيف كان فلا خلاف عندهم في كون ما ذكر مطهّرا للمضاف المتنجّس، لكنّهم اختلفوا في جهات اخر.

إحداها: اعتبار الزيادة على الكرّ في مطهّر المضاف و عدمه، و القائل بالاعتبار الشيخ في المبسوط على ما هو ظاهر عبارته المحكيّة: «و لا طريق إلى تطهيرها بحال إلاّ أن يختلط بما زاد على الكرّ من المياه الطاهرة المطلقة»(1) كما في كلام شارح الدروس(2).

أو «و المضاف إذا وقعت فيه نجاسة نجس قليلا كان أو كثيرا على ما قدّمناه و لا يطهر إلاّ بأن يختلط بما زاد على الكثير(3) من المطلق» على ما في مختلف العلاّمة(4).

أو «أنّه - يعني المضاف - لا يطهّر إلاّ بأن يختلط بما زاد عن الكرّ الطاهر المطلق» على ما في كلام بعض مشايخنا العظام(5).

و كيف كان فظاهر هذه العبارات المحكيّة عن الشيخ اشتراط الزيادة على الكرّ، و اتّفق الآخرون على خلافه، و إن احتمل موافقة المعتبر(6) له حيث إنّه تصدّى لنقل قوله و لم يتعرّض لردّه.

ص: 791


1- المبسوط 5:1.
2- مشارق الشموس: 257.
3- و في مختلف الشيعة: «الكرّ» بدل «الكثير».
4- مختلف الشيعة 240:1.
5- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 305:1.
6- المعتبر: 21.

و ممّن صرّح بمخالفته العلاّمة في المختلف، حيث إنّه بعد ما نقل كلامه المشتمل على فقرة اخرى تأتي بيانها قال: «و الحقّ عندي خلاف ما قاله الشيخ رحمه اللّه في موضعين، أحدهما: أنّا لا نشترط امتزاجه بما زاد على الكرّ، بل لو مزج بالكرّ و بقي الإطلاق جاز استعماله» انتهى.

و ربّما يحمل كلام الشيخ إلى كونه واردا على جهة التساهل لا على جهة الاشتراط.

أقول: و يمكن تنزيل عبارته إلى إرادة ما يراد بقولهم: «يطهّر بإلقاء كرّ فما زاد» كما سبق نظيره في عبارة المنتهى، و على تقدير كون المراد ظاهر العبارة على وجه ينشأ منه الخلاف في المسألة فلا وجه له يعتدّ به، إلاّ ما قيل: من أنّ قدر الكرّ لا ينفكّ غالبا عن تغيّر أحد أوصاف جزء ما منه، و معه ينتقض عن الكرّيّة فينجّس البتّة، فلا بدّ من الزيادة عليه.

و فيه أوّلا: النقض بكثير من أفراد الزائد على الكرّ أيضا كما لا يخفى، إلاّ أن يكون المراد بالزيادة زيادة ما يبقى بعد تغيّره من كرّ غير متغيّر.

و ثانيا: كونه في الحقيقة اجتهادا في مقابلة النصّ، لأنّ اعتبار الزيادة بالوجه المذكور هنا يستدعي اعتبارها في مسألة عدم انفعال الكثير بملاقاة النجاسات الّتي منها البول المغيّر و الدم و العذرة، إذ الفرق بين المسألتين تحكّم بحت، و الالتزام بالاعتبار فيهما تقييد للأدلّة القاضية بعدم الانفعال.

إلاّ أن يقال: بأنّ التزام التقييد ممّا لا محيص عنه، عملا بموجب ما دلّ بعمومه على نجاسة الماء بالتغيّر قليلا كثيرا أو جزء كثير، بناء على ما قدّمنا تحقيقه من الإجماع على تحكيم أدلّة التغيّر على أدلّة الكثير، و إن كان بينهما عموم من وجه.

و عليه نحن نفرّق بين المسألتين باعتبار الزيادة بالقدر المذكور ثمّة دون المقام، و الفارق ما قدّمنا في بحث التغيّر من أنّه إنّما يوجب التنجّس إذا حصل من عين النجاسة دون المتنجّس منها، و التغيّر المفروض في المقام مستند إلى المضاف و هو ليس بعين النجس.

ثمّ يرد على الشيخ - مع هذا -: أنّ هذا الشرط على فرض اعتباره ليس أمرا وراء ما يعتبره في مطهّر المضاف من بقائه على إطلاقه و عدم تغيّر أوصافه من الطعم و اللون و الرائحة على ما سيجيء من الخلاف فيه، بناء على ما اشتهر في كلامهم من أنّ الشيخ يعتبر هنا امورا ثلاث: الزيادة على الكرّيّة، و بقاء الإطلاق، و عدم التغيّر، إلاّ أن يحكم

ص: 792

بخطئهم في تلك النسبة، بدعوى: أنّ الشيخ قائل باعتبار أمرين يعبّر عن أحدهما بعبارتين متلازمتين، و قضيّة ذلك أن يكون للشيخ موافق في اعتبار الزيادة و إن لم يصرّح بها في عبائرهم، نظرا إلى ما سيأتي في الجهة الثانية من مصير جماعة إلى اعتبار عدم التغيّر.

و ثانيتها: اعتبار بقاء المطهّر بعد الاختلاط على إطلاقه، و عدم سلبه المضاف الإطلاق و عدمه، و أوّل من علم منه القول بالاعتبار الشيخ حيث أنّه بعد العبارة المتقدّمة عنه في المختلف قال: «ثمّ ينظر فإن سلبه إطلاق اسم الماء لم يجز استعماله بحال، و إن لم يسلبه إطلاق اسم الماء و غيّر أحد أوصافه إمّا لونه أو طعمه أو رائحته لم يجز استعماله بحال»(1) ثمّ تبعه بعده المحقّق في المعتبر(2)، و العلاّمة في التحرير(3)، و النهاية(4)، و التذكرة(5) - على ما حكي - و هو ظاهره في المختلف(6)، حيث إنّه في ردّ قول الشيخ لم يتعرّض إلاّ لنفي اعتبار الزيادة على الكرّيّة و اعتبار عدم التغيّر في الأوصاف الثلاث، و حكي اختيار هذا القول عن المحقّق و الشهيد الثانيين(7)، و عليه الشهيد في الدروس(8)، و محكي الذكرى(9)، و عبارته في الدروس: «و يطهّر بصيرورته مطلقا، و قيل: باختلاطه بالكثير و إن بقى الاسم»(10).

و العبارة المحكيّة عن المعتبر ما قال: «لو كان المائع الواقع في الماء نجسا، فإن غلب أحد أوصاف المطلق كان نجسا، و لو لم يغلب أحد أوصافه و كان الماء كرّا فإن استهلكه الماء صار بحكم المطلق و جاز استعمالها أجمع، و لو كانت النجاسة جامدة جاز استعمال الماء حتّى ينقص عن الكرّ، ثمّ ينجّس الماء بما فيه من عين النجاسة»(11).

و هذه العبارة و إن لم يصرّح فيها باشتراط بقاء الإطلاق و لكن اشتراط عدم التغيّر يقضي باشتراط بقاء الإطلاق بطريق أولى كما لا يخفى، مضافا إلى مفهوم قوله: «فإن

ص: 793


1- مختلف الشيعة 240:1 - راجع المبسوط 5:1.
2- المعتبر: 21.
3- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.
4- نهاية الإحكام 237:1.
5- تذكرة الفقهاء 33:1.
6- مختلف الشيعة 240:1.
7- كما في جامع المقاصد 136:1؛ و الروضة البهيّة 45:1.
8- الدروس الشرعيّة 122:1.
9- ذكرى الشيعة 74:1.
10- الدروس الشرعيّة 122:1.
11- المعتبر: 11.

استهلكه الماء».

و العبارة المحكيّة عن التحرير ما قال: «و يطهّر بإلقاء كرّ عليه فما زاد عليه دفعة بشرط أن لا يسلبه الإطلاق و لا يغيّر أحد أوصافه»(1).

و أمّا النهاية و التذكرة فلم نقف على عبارتهما(2).

و المخالف في المسألة العلاّمة في المنتهى و القواعد(3)، لمصيره فيهما إلى تطهيره باختلاطه بالكثير و إن تغيّر أحد أوصاف المطلق، بل و إن سلب عنها الإطلاق، لكن في الصورة الثانية يزول عنه حكم الطهوريّة لا الطهارة، و يصير في حكم المضاف فينجّس بملاقاة النجاسة، و عبارته المؤدّية في المنتهى لهذا المعنى قوله: «لو سلبه المضاف إطلاق الاسم، فالأقوى حصول الطهارة و ارتفاع الطهوريّة»(4) و لم نقف على عبارة القواعد(5).

ثمّ لا يذهب عليك أنّ قول الشيخ باشتراط بقاء الكثير على إطلاقه مع اختلاطه بالمضاف المتنجّس يستلزم اشتراط زوال الإضافة عن المضاف، ضرورة أنّ البقاء على الإطلاق مع امتزاج المضاف على وجه صارا واحدا لا يتأتّى إلاّ مع زوال الإضافة عنه.

فما في كلام شارح الدروس من قوله: «و اعلم: أنّه لم يفهم من كلام المبسوط أنّه إذا لم يتغيّر أحد أوصاف المطلق لكن بقى المضاف ممتازا، و لم يسلب عنه الإضافة زالت أوصافه أو لا، فما حكمه»(6).

ليس على ما ينبغي بل الاستلزام المذكور ثابت على القول باشتراط بقاء الإطلاق و عدم اشتراط عدم التغيّر بغير ما ذكر.

ص: 794


1- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.
2- و أمّا عبارة التذكرة فهكذا: «و طريق تطهيره إلقاء كرّ عليه إن لم يسلبه الإطلاق، فإن سلبه فكرّ آخر و هكذا، و لو لم يسلبه لكن غيّر أحد أوصافه فالأقوى الطهارة خلافا للشيخ»، تذكرة الفقهاء 33:1؛ و أمّا ما في النهاية فقوله: «و لو مزج المضاف النجس بالمطلق فسلبه إطلاق الاسم، خرج عن كونه مطهّرا...» نهاية الإحكام 237:1.
3- منتهى المطلب 128:1 - قواعد الأحكام 179:1.
4- منتهى المطلب 128:1.
5- و في القواعد: «و - يطهر - المضاف بإلقاء كرّ دفعة و إن بقي التغيّر ما لم يسلبه الإطلاق فيخرج عن الطهوريّة» قواعد الأحكام 179:1.
6- مشارق الشموس: 258.

فلا وجه لقوله أيضا: «و كذا لم يعلم على القول الثالث أنّ حكمه مع الامتياز و عدم سلب الإضافة ما ذا؟»(1).

فإنّ حكم ذلك يعلم من اعتبارهم الاختلاط في التطهير كما لا يخفى، و مراده بالقول الثالث حسبما ذكره هو ما ذكرناه.

حجّة القول باشتراط بقاء الإطلاق - على ما قرّر -: أنّ المضاف يتوقّف طهره على شيوعه في المطلق بحيث يستهلك، و هذا لا يتمّ بدون بقاء المطلق على إطلاقه، و إذا لم يحصل الطهارة للمضاف و صار المطلق بخروجه عن الاسم قابلا للانفعال فلا جرم ينجّس الجميع.

و مقتضى هذه الحجّة أنّ هذا الشرط من فروع اشتراط الاختلاط و الامتزاج، بمعنى شيوع الأجزاء في الأجزاء على وجه زالت الامتياز بينهما، و هو كما ترى، فإنّ ظاهرهم التسالم في اشتراط الاختلاط بهذا المعنى، و الّذي يختلفون فيه أمر زائد عليه.

و لو سلّم اختلافهم في اشتراط الاختلاط أيضا كما يومئ إليه تعبير العلاّمة في المنتهى بقوله: «و الطريق في تطهيره إلقاء كرّ فما زاد عليه»(2) و تعبير الشيخ بأنّه: «لا يطهّر إلاّ بأن يختلط بما زاد على الكثير»(3) فهو أمر آخر لا ربط له بمسألة بقاء المطلق على إطلاقه، إذ قد يحصل الشيوع بينهما على الوجه المذكور مع خروج المطلق عن إطلاقه، و إن خرج المضاف أيضا عن اسمه الأوّل، كما لو كان الخليط خلاًّ حادّا في غاية الحدّة، أو ماء ممزوجا بالدبس، و كان بعد الامتزاج حلوا في غاية الحلاوة، و ذلك واضح، و يتّضح غاية الاتّضاح فيما لو كان الخليط كثيرا في غاية الكثرة، فعبارة الحجّة حينئذ إمّا مسامحة في التعبير أو اشتباه عن سوء الفهم.

و المنقول من حجّة المنتهى و القواعد: أنّ بلوغ الكرّيّة سبب لعدم الانفعال من دون التغيّر بالنجاسة، فلا يؤثّر المضاف في تنجّسه باستهلاكه إيّاه، لقيام السبب المانع، و ليس

ص: 795


1- مشارق الشموس: 258.
2- منتهى المطلب 127:1.
3- كذا في الأصل، و لا يخفى عدم مطابقته مع ما في المبسوط، و إليك نصّه: «و لا طريق إلى تطهيرها بحال إلاّ أن يختلط بما زاد على الكرّ من المياه الطاهرة المطلقة... الخ» المبسوط 5:1.

ثمّة عين نجسة مشار إليها يقتضي التنجيس.

و لا يخفى ما فيه أيضا من الاشتباه الواضح، لأنّ عبارة المنتهى خالية عن الاحتجاج على نفي شرطيّة البقاء على الإطلاق، و إنّما هي فتوى بلا دليل، و ما ذكر من الحجّة شيء قرّره العلاّمة على ما ادّعاه من حصول المطهّر بإلقاء كرّ فما زاد، و ليس كلامه في تقريره صريحا و لا ظاهرا في فرض استهلاك المطلق في جنب المضاف، بل سوق الدليل يقتضي انعكاس الفرض كما لا يخفى على من يراجع كلامه و تأمّل في عبارته المتقدّمة.

و كيف كان، فاجيب عن التقرير المذكور: بأنّ بلوغ الكرّيّة وصف للماء المطلق، فإنّما يكون سببا لعدم الانفعال مع وجود موصوفه، و مع صيرورته مستهلكا يخرج عن الاسم، فيزول الوصف الّذي هو السبب لعدم الانفعال، فينفعل حينئذ و لو بالمتنجّس.

و اعترض عليه بوجهين:

أحدهما: أنّ غاية ما ذكر في الجواب أنّ الماء المطلق بعد صيرورته مضافا ينجّس بملاقاة النجاسة و هو ليس بتمام، لأنّ الشأن حينئذ في إثبات نجس أو متنجّس ينجّسه و لا سبيل إليه، إذ المضاف الّذي كان نجسا قبل الاختلاط لم يعلم بقاؤه على النجاسة حينئذ، نظرا إلى أنّ نجاسته السابقة كانت ثابتة بالإجماع و لا إجماع فيما نحن فيه، لمكان الخلاف - على الفرض - في طهارته.

نعم، لو ثبت حجّيّة الاستصحاب فيما نحن فيه أيضا، و سلّم شمول روايات عدم جواز نقض اليقين بالشكّ له، لكان الأمر كما ذكر، فإنّ نجاسته المستصحبة حينئذ يبقى إلى صيرورة المطلق مضافا، و حينئذ ينجّس به.

و فيه: أنّ الاستصحاب المذكور حجّة على ما قرّر في محلّه، لكنّ الإشكال يقع في إفادة النجاسة المستصحبة تنجّس الغير، فإنّ دليل تنجّس الملاقي للنجس أو المتنجّس لا يشمله، لظهوره في النجس أو المتنجّس اليقينيّين كما يظهر بأدنى تأمّل، و أقصى ما يقتضيه النجاسة المستصحبة إنّما هو وجوب الاجتناب عن معروضها، و هو لا يقضي بنجاسة ما يلاقي ذلك المعروض، إلاّ على القول بأنّ وجوب الاجتناب عن الشيء يستلزم وجوب الاجتناب عمّا يلاقيه، و هو عندنا محلّ تأمّل كما سبق الإشارة إليه في المبحث الثالث، إلاّ أن يتمّ ذلك الاستلزام في خصوص المقام بضميمة إجماع الأعلام

ص: 796

على امتناع اختلاف الماء الواحد في الحكم، بدعوى: عدم اختصاص هذه القاعدة بالماء بل تجري في مطلق المائع، و لعلّها كذلك.

و ثانيهما: أنّ كلام الأصحاب ليس مفروضا في صورة استهلاك المطلق، بل المعتبر عندهم استهلاك المضاف في الكثير المطلق، و حينئذ لو فرض أنّ استهلاك المضاف في الماء المطلق و حدوث إضافته صار دفعة واحدة حقيقيّة، أمكن أن يقال: إنّ المضاف لم يلاق نجسا، بل الكثير بتلاشيه فيه صار مضافا، و المفروض حدوث الطهارة بنفس التلاشي لأنّ الكثير لا ينفعل، فالاختلاط سبب للتطهير و الإضافة معا، و لو شكّ في طهارة المضاف حينئذ شكّ في نجاسة الكرّ و الأصل عدمهما، فيتساقطان و يرجع إلى قاعدة الطهارة.

و دفع: بأنّ الامتزاج الدفعي الحقيقي ممّا لا يوجد في الخارج، و بدونه لا مناص عن التزام النجاسة بما ذكر، بل ينبغي الحكم بالانفعال مع الدفعة إذا القي الكرّ على المضاف على ما فرضه في المنتهى، لأنّ محلّه يبقى على النجاسة فينجّس المضاف بملاقاته.

أقول: و يمكن دفع ذلك بأنّ طهارة المحلّ حينئذ تابعة لطهارة الحالّ، فإذا فرض أنّ طهارة المضاف مع إضافة المطلق قد حصلتا في آن واحد، فيلزم طهارة المحلّ أيضا تبعا.

و لا يلزم منه كون مطهّره المضاف، ليرد عليه: أنّ المضاف لا يصلح مطهّرا، لأنّ المؤثّر في طهارة الحالّ حين الامتزاج هو المطلق، و هو لو صلح مؤثّرا فيها في تلك الحين كان صالحا له بالقياس إلى المحلّ أيضا و الفرق تحكّم.

إلاّ أن يقال: بأنّ المقتضي لتأثيره في طهارة الحالّ إنّما هو امتناع اختلاف المائعين في الحكم المجمع عليه عند الأصحاب، و هذا غير جار بالقياس إلى المحلّ.

و فيه: كما أنّ هذا الإجماع ثابت بالقياس إلى الحالّ كذلك ثابت بالقياس إلى المحلّ أيضا، إذ لا يعقل شرعا كون مائع كائن في محلّ طاهرا و محلّه نجسا، فطهارته حين ما هو طاهر تستلزم طهارة محلّه، و بعد حدوث الطهارة فيه لا يعود نجاسته الزائلة.

و تحقيق المقام: أنّ حكم المسألة لا بدّ و أن يستفاد من الملازمة المجمع عليها النافية لاختلاف المتخالطين في الحكم، فإن حكم ببقاء المضاف على نجاسته فيتبعه المطلق، و إن حكم ببقاء المطلق بعد الإضافة على طهارته فيتبعه المضاف، لكنّ الحكم

ص: 797

ببقاء المطلق على الطهارة لا بدّ و أن يستند إلى أدلّة عدم انفعال الكثير بملاقاة النجاسة، و شمول تلك الأدلّة لمثل المقام محلّ تأمّل، بل مقطوع بعدمه عند التحقيق، و ذلك لأنّها لا تثمر في المقام إلاّ بعد إحراز الملازمة المذكورة، و قد تبيّن في مباحث تطهير المطلق المتنجّس أنّ تلك الملازمة منوطة بصدق الوحدة الحقيقيّة على المتخالطين، و لا ريب أنّها لا تتأتّى إلاّ بعد الامتزاج الكلّي بينهما، و كما أنّ الامتزاج بحصوله هنا علّة لتحقّق الوحدة فكذلك علّة لحدوث الإضافة في المطلق على وجه كلّي، فالوحدة حين حدوثها مقارنة لوصف الإضافة في الجميع، فالجميع ماء مضاف حين هو واحد، فلا يقع مع ذلك مشمولا لأدلّة عدم انفعال الكثير، لكون تلك الأدلّة واردة في الماء، و المفروض حين ما هو واحد ليس بماء، بل هو عند حدوث وصفي الوحدة و الإضافة مضاف ملاق للمضاف المتنجّس، و معه يجب القطع بنجاسة الجميع.

أمّا نجاسة المضاف الأوّل: فلعدم تحقّق رافع لنجاسته قطعا.

و أمّا نجاسة المضاف الثاني: فلملاقاته المتنجّس.

و ممّا بيّنّا تبيّن: أنّه لا محلّ للاستصحاب هنا لا في جانب المضاف الأوّل و لا في جانب المضاف الثاني، أمّا الأوّل: فلانتفاء الشكّ اللاحق، و أمّا الثاني: فلانقلاب الموضوع كما لا يخفى، بناء على أنّ الموضوع هو العنوان الغير الباقي لا مصداقه الباقي.

فالحق إذا قول الشيخ و تابعيه، من غير فرق في ذلك بين ما لو القي المضاف في المطلق أو انعكس الأمر، و إن قيل: بأنّ موضع النزاع هو الأوّل دون الثاني، كما عن جماعة من أصحابنا كجامع المقاصد(1)، و كاشف اللثام(2)، و المعالم(3)، قائلين بأنّ صورة العكس يجب فيها الحكم بعدم الطهارة جزما، لأنّ مكان المضاف - أي محلّه - متنجّس به، و هو ما لم يصر مطلقا لا يطهّره، و ملاقاته له مستمرّة فيردّه على النجاسة لو فرضنا طهارته، و قد سبق منّا ما يصحّح هذا الكلام و يزيّفه.

و ثالثها: اعتبار عدم تغيّر أحد أوصاف المطلق باختلاطه مع المضاف المتنجّس و عدمه، و المصرّح بالاعتبار هو الشيخ(4) على ما عرفت في عبارته المتقدّمة، و بعده

ص: 798


1- جامع المقاصد 125:1.
2- كشف اللثام 291:1.
3- فقه المعالم 434:1.
4- المبسوط 5:1.

المحقّق في المعتبر(1)، و العلاّمة في التحرير(2)، كما يظهر بملاحظة عبارتيهما المتقدّمتين، و المخالف العلاّمة في صريح المنتهى(3)، و المختلف(4)، و محكيّ النهاية(5)، و التذكرة(6)، و القواعد(7)، و الشهيد في ظاهر الدروس(8) بناء على إطلاق كلامه، و محكيّ الذكرى(9)، و المحقّق و الشهيد الثانيان(10) في المحكيّ عنهما.

و هاهنا شيء ينبغي أن ينبّه عليه و هو أنّه ربّما وقع الاختلاف فيما حكي عن الشيخ بحسب العبارة اختلاف مؤدّيا إلى اختلاف المعنى في وجه، و ذلك أنّه قد عرفت عبارة المختلف في نقل القول عن الشيخ بقوله: «قال الشيخ رحمه اللّه: المضاف إذا وقعت فيه نجاسة نجس، قليلا كان أو كثيرا على ما قدّمناه، و لا يطهّر إلاّ بأن يختلط بما زاد على الكثير من المطلق، ثمّ ينظر فإن سلبه إطلاق اسم الماء لم يجز استعماله بحال، و إن لم يسلبه إطلاق اسم الماء و غيّر أحد أوصافه إمّا لونه أو طعمه أو رائحته لم يجز استعماله بحال»(11) انتهى.

و عبارته على ما حكاه بعض مشايخنا(12) عن المبسوط: «أنّه لا يطهّر إلاّ بأن يختلط بما زاد عن الكرّ الطاهر المطلق، ثمّ نظر فيه، فإن سلبه أو غيّر أحد أوصافه لم يجز استعماله و إن لم يغيّره و لم يسلبه جاز استعماله فيما يستعمل فيه المياه الطاهرة»(13) انتهى.

و عن بعض نسخ المبسوط عطف غيّر «بالواو» لا ب «أو» و حينئذ يوافق العبارة ما نقله شارح الدروس عن المبسوط من: «أنّه و لا طريق إلى تطهيرها بحال إلاّ أن يختلط بما زاد على الكرّ من المياه الطاهرة المطلقة، ثمّ ينظر فيه، فإن سلبه إطلاق اسم الماء و غيّر أحد أوصافه، إمّا لونه أو طعمه أو رائحته، فلا يجوز أيضا استعماله بحال، و إن لم يغيّر أحد أوصافه و لا سلبه اسم الماء جاز استعماله في جميع ما يجوز استعمال المياه الطاهرة»(14) انتهى.

ص: 799


1- المعتبر: 21.
2- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.
3- منتهى المطلب 127:1.
4- مختلف الشيعة 240:1.
5- نهاية الإحكام 237:1.
6- تذكرة الفقهاء 33:1.
7- قواعد الأحكام 185:1.
8- الدروس الشرعيّة 122:1.
9- ذكرى الشيعة 74:1-75.
10- جامع المقاصد 136:1.
11- مختلف الشيعة 240:1.
12- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 305:1.
13- المبسوط 5:1.
14- مشارق الشموس: 257.

وجه الاختلاف: أنّ العبارة الاولى مع الثانية على نسخة العطف «أو» تقتضي كون المانع عن الاستعمال أحد الأمرين: من سلبه الإطلاق، و حدوث التغيّر، و إذا اجتمعا فأولى بالمنع، و الجواز يتوقّف حينئذ على ارتفاع الأمرين معا.

بخلاف العبارة الثالثة مع الثانية على نسخة العطف «بالواو» فإنّها تقتضي كون المانع مجموع الأمرين، و أمّا أحدهما منفردا عن الآخر فيمكن أن لا يكون مانعا و إن لم يصرّح بحكمه في العبارة.

و كيف كان فمستند القول بعدم الاعتبار ما سبق ذكره عن المختلف(1)، و محصّله:

أنّ مقتضى دليل نجاسة الماء بالتغيّر أنّه ينجّس إذا تغيّر بعين النجاسة لا إذا تغيّر بالمتنجّس بها، و هذا حقّ لا مدفع له على ما قرّرناه في محلّه.

و حجّة قول الشيخ و متابعيه: أنّ المضاف بعد تنجّسه صار في حكم النجاسة، فكما ينجّس الماء بالتغيير بها ينجّس بالتغيّر به أيضا.

و ضعفه واضح، إذ لو اريد بما ادّعى من القضيّة الكلّيّة، يدفعه: عدم نهوض دليل عليها.

و لو اريد بها كونها كذلك في الجملة، فهو حقّ لكنّه غير مجد في ثبوت المطلب كما لا يخفى.

و الأولى بناء القولين هنا على ما تقدّم من الخلاف في اقتضاء التغيّر بالمتنجّس نجاسة الماء و عدمه.

و قد يقال: بأنّه يمكن أن يحتجّ عليه باستصحاب النجاسة إلى أن يثبت المزيل، و هو غير ثابت هنا.

فعورض: «بأنّه كما يحكم باستصحاب النجاسة في المضاف يحكم باستصحاب الطهارة أيضا في المطلق، بل فيه أولى لوجود أدلّة اخر فيه سوى الأصل مقتضية للطهارة، من الروايات الدالّة على طهارته ما لم يتغيّر بعين النجاسة، و مقتضى الاستصحابين حينئذ الحكم ببقاء كلّ على وصفه السابق، و إذا أدخل اليد مثلا في هذا الماء فإن علم بملاقاة الأجزاء المضافة أيضا يحكم بنجاسة اليد، و إلاّ بني على أصل الطهارة.

لكن يدفعه: إمكان الاستدلال على طهارة الجميع بظهور تحقّق الإجماع على أنّ

ص: 800


1- مختلف الشيعة 240:1.

هذا الماء له حكم واحد، و لا اختلاف لأجزائه في الحكم، و لا ترجيح ليغلّب أحد الاستصحابين على الآخر، فيحكم بتساقطهما، و يبنى الحكم على أصالة الطهارة في جميع الأشياء سيّما الماء، و أصالة حلّ التناول، و حصول الامتثال باستعماله في الأوامر الواردة بالتطهير بالماء»(1) انتهى محصّلا.

ثمّ إنّ الكلام في سائر شرائط المطهّر هنا من الدفعة و الممازجة و غيرها نفيا و إثباتا، نظيره فيما سبق من مباحث تطهير المتنجّس من المطلق حرفا بحرف، فكلّما اعتبرناه من الشروط ثمّة لا بدّ من اعتباره هنا بعين ما قدّمنا ذكره ثمّة، فراجع و تأمّل.

المبحث الخامس: إذا اختلط المضاف بالمطلق فلا إشكال في أنّ الأحكام تتبع في ترتّبها إطلاق الاسم عرفا،

بل لا خلاف فيه إذا اختلفا في الأوصاف، و أمّا إذا اتّفقا و لو بزوال الوصف عن أحدهما كماء الورد المنقطع الرائحة فاختلفت كلمة الأصحاب في جواز التطهّر به و عدمه، و مجموع القول فيه ما تكفّله كلام العلاّمة في المختلف قائلا:

«قال الشيخ رحمه اللّه: إذا اختلط المطلق بالمضاف كماء الورد المنقطع الرائحة حكم للأكثر، فإن تساويا ينبغي القول بجواز استعماله لأنّ الأصل الإباحة، و إن قلنا يستعمل [ذلك] و يتيمّم كان أحوط.

قال ابن البرّاج: و الأقوى عندي أنّه لا يجوز استعماله في رفع الحدث، و لا إزالة النجاسة، و يجوز في غير ذلك.

ثمّ نقل مباحثة جرت بينه و بين الشيخ رحمه اللّه، و خلاصتها تمسّك الشيخ رحمه اللّه بالأصل الدالّ على الإباحة و تمسّكه هو بالاحتياط.

و الحقّ عندي: خلاف القولين معا، و أنّ جواز التطهير به تابع لإطلاق الاسم، فإن كانت الممازجة أخرجته عن الإطلاق لم يجز الطهارة به و إلاّ جاز، و لا اعتبر في ذلك المساواة و التفاضل، فلو كان ماء الورد أكثر و بقى إطلاق [اسم] الماء أجزأت الطهارة به، لأنّه امتثل المأمور به و هو الطهارة بالماء المطلق، و طريق معرفة ذلك أن يقدّر ماء الورد باقيا على أوصافه ثمّ تعتبر ممازجته حينئذ فيحمل عليه منقطع الرائحة»(2) انتهى.

و عنه في النهاية أنّه علّل الحكم بالتقدير: «بأنّ الإخراج عن الاسم سالب للطهوريّة،

ص: 801


1- مشارق الشموس: 258.
2- مختلف الشيعة 239:1.

و هذا الممازج لا يخرج عن الاسم بسبب الموافقة في الأوصاف، فيعتبر بغيره(1) كما يفعل في حكومات الجرائح»(2) و إليه يرجع ما عن المحقّق الثاني في بعض فوائده من أنّه بعد ما اختار التقدير وجّهه: «بأنّ الحكم لمّا كان دائرا مع بقاء اسم الماء مطلقا، و هو إنّما يعلم بالأوصاف، وجب تقدير بقائها قطعا كما يقدّر الحرّ عبدا في الحكومة»(3).

و لا يخفى أنّ التأمّل في هذه الكلمات و ما ذكر من التعليلات يعطي أنّهم متسالمون في أنّ العبرة في ترتيب الأحكام على المتخالطين إنّما هي بإطلاق الاسم عرفا، فما يطلق عليه اسم الماء عرفا يرتّب عليه أحكام الماء الّتي منها الطهوريّة، و ما يطلق عليه اسم المضاف خصوصا أو عموما يرتّب عليه أحكام المضاف الّتي منها عدم الطهوريّة، و أنّ ما اشتبه الحال فيه يرجع لاستعلام حكمه إلى الاصول، و ظاهر كلام الشيخ أنّ الأكثريّة في أحد المتخالطين ميزان لبقاء الاسم مطلقا كان أو مضافا، و معنى قوله:

«حكم للأكثر» حكم على ما حصل بالاختلاط بالاسم الّذي هو للأكثر، أي لأكثرهما.

و أمّا مع التساوي فالميزان المميّز لأحد العنوانين مفقود، و معه يدخل الموضوع في عنوان المشتبه الّذي يرجع فيه إلى الاصول، و هذا المقدّر على ما يستفاد من الحكاية متّفق عليه بينه و بين ابن البرّاج، و اختلافهما راجع إلى تعيين الأصل الّذي يرجع إليه في مشتبه الحال، فرجّح الشيخ كونه أصل الإباحة القاضية بجواز الاستعمال، ثمّ جعل الجمع بين الاستعمال و التيمّم أحوط، و خالفه ابن البرّاج فرجّح الأصل كونه الاحتياط القاضي بالاجتناب و ترك الاستعمال.

و مخالفة العلاّمة لهما ترجع إلى منع كون المفروض من صور الاشتباه الّذي يرجع فيه إلى الاصول، بناء على أنّ الاشتباه المسوّغ لذلك ما لم يكن إلى دفعه طريق و المقام ليس منه، لأنّ تقدير المخالفة في الأوصاف بين المتخالطين ثمّ حمل المفروض على ما يقتضيه اعتبار التقدير، من كونه من موارد إطلاق اسم المطلق أو من موارد إطلاق اسم المضاف طرق إلى رفع الاشتباه، و استعلام الحال في الواقع من إطلاق أحد الاسمين عرفا، فإنّ الاشتباه مانع للعرف عن الإطلاق و موجب للتوقّف ما دام هو موجودا،

ص: 802


1- كذا في الأصل، و في نسخة الموجودة بأيدينا: «تغيّره» بدل «بغيره».
2- نهاية الإحكام 227:1.
3- حكاه عنه في فقه المعالم 431:1.

و تقدير المخالفة بالمعنى المذكور رافع للمانع، فخلافه أعلى اللّه مقاماته إنّما هو في صغرى العمل بالاصول لا في كبراه.

و ممّا بيّنّاه ظهر أنّ ما ذكره شارح الدروس في ردّ كلام العلاّمة من «أنّ ما اختاره العلاّمة من التقدير أمر لا مستند له أصلا لا شرعا و لا عقلا، و هل هو إلاّ مثل ما يقال - فيما إذا جاور مضاف مطلقا و لم يخالطه -: أنّه يقدّر بأنّه لو خالطه هل يخرجه عن الإطلاق أم لا؟ كيف و بناء الأحكام على الأسماء، فإذا أمر بالماء و فرض أنّه يصدق على شيء بالفعل أنّه ماء فلا شكّ أنّه يجوز الطهارة به إلى آخره»(1) أجنبيّ عن هذا المقام بالمرّة، فإنّ العلاّمة أو غيره لا ينكر كون بناء الأحكام على الأسماء، بل الداعي إلى اعتباره التقدير إنّما هو هذه المقدّمة، لأنّه يرى استعلام الاسم متوقّفا على التقدير المذكور، و أنّ بدونه لم يتبيّن الاسم ليرتّب عليه الحكم.

و تنظير مورد كلامه بما ذكره من المثال ليس على ما ينبغي، بل هو بالقياس إلى العلاّمة و أحزابه سوء أدب جزما، كيف و لا اشتباه فيما ذكره و معه لا داعي إلى اعتبار التقدير و إلاّ يؤدّي إلى السفه، بخلاف المقام الّذي هو مورد كلام العلاّمة، فإنّه مقام الاشتباه و الصدق العرفي لأحد الاسمين بدون الطريق المذكور و ما يجري مجراه مجهول، لا علينا فقط بل على العرف أيضا، فإنّ الاشتباه حاصل لأهل العرف، فإنّهم يتوقّفون في إطلاق أحد الاسمين حتّى يرتفع الاشتباه.

فما ذكر من أنّه إذا أمر بالماء و فرض أنّه يصدق بالفعل على شيء أنّه ماء فلا شكّ أنّه يجوز الطهارة به حقّ، لكن المقام ليس منه، إذ لا صدق للاسم بالفعل ما دام الاشتباه باقيا، هذا إذا كان العبرة بصدقه عند العالمين بالحال و المطّلعين على الاختلاط المفروض في محلّ المقال، و أمّا إذا كان النظر إلى صدقه عند الجاهلين الغير المطّلعين على حقيقة الحال فالصدق عندهم ما دام الجهل و إن كان مسلّما لكنّه لا عبرة به أصلا، و إلاّ فهذا الصدق حاصل عندهم في المضاف الخالص المسلوب عنه الصفات كماء الورد المنقطع الرائحة، فإنّه بحيث لو رآه كلّ من لا يعلم بأصله يحكم عليه بأنّه ماء، و يرتّب عليه أحكام الماء، فيجب متابعته و الأخذ بقضيّة الصدق عنده، و أنّه باطل

ص: 803


1- مشارق الشموس: 261.

بديهة، و ليس الاكتفاء بالصدق عند الجاهلين بالحال مع تحقّق علمنا بالحال إلاّ كالاكتفاء بصدق اسم الماء على ما نعلم كونه خمرا عند من يجهله، فيجوز شربه و استعماله في كلّ مشروط بالمطلق الطاهر و هذا كما ترى.

و نظير المقام ما لو كان هناك ماء نعلم بأنّ له حالة سابقة و هي النجاسة و وجده من لا يعلم له بهذه الحالة، فإنّه حينئذ بمقتضى الأصل المقرّر للجاهل الابتدائي يبني على الطهارة و يرتّب عليه أحكامها، و ليس لنا ذلك اتّباعا له بل تكليفنا البناء على النجاسة عملا بالاستصحاب.

و بالجملة: ما ذكره رحمه اللّه من الاعتراض في غاية الضعف و السقوط، و لنرجع إلى تحقيق المسألة.

فنقول: إنّ ملاحظة ما نقل من كلماتهم تعطي كون الكلام في حالة الضرورة و الاضطرار إلى استعمال هذا الشيء الحاصل بالاختلاط، و إلاّ لم يكن للحكم على كون الجمع بين الاستعمال و التيمّم أحوط معنى كما لا يخفى.

و من هنا يتبيّن أنّه ليس شيء من الأصلين المتمسّك بهما في كلامي الشيخ و ابن البرّاج في محلّه، أمّا ما تمسّك به الشيخ فليس المقام من مواضع اشتباه التكليف المحتمل للحرمة حتّى يرجع فيه إلى أصل الإباحة، بل الاشتباه إنّما هو باعتبار الوضع و هو صحّة هذا الاستعمال و ترتّب الآثار الشرعيّة عليه من زوال نجاسة أو ارتفاع حدث، و أصل الإباحة لا ينفع في ذلك شيئا، بل المقام في موارد الاستصحاب القاضي هنا ببقاء كلّ من النجاسة و الحدث، و الحرمة التشريعيّة الّتي تتأتّى في استعمال المضاف مع العلم بإضافته في التطهيرات لا تتأتّى هنا أيضا، لأنّه لا يستعمله على أنّه مضاف و إنّما يستعمله لرجاء كونه مطلقا.

و أمّا ما تمسّك به ابن البرّاج فلأنّ الاحتياط المذكور يعارضه الاحتياط المقتضي للاستعمال، و ذلك لأنّ المقام لكونه مقام ضرورة بالنسبة إلى استعمال ذلك فالأمر دائر بين التكليف بالمائيّة و التكليف بالترابيّة، لأنّ الأوّل مشروط بوجدان الماء و الثاني مشروط بفقدانه، و لا ريب أنّ الشكّ في الشرط يستلزم الشكّ في المشروط، فكما أنّ الاقتصار على استعمال هذا الشيء خلاف الاحتياط لاحتمال كونه في الواقع مضافا،

ص: 804

فكذلك العدول إلى التيمّم أيضا خلاف الاحتياط، لجواز كون ذلك مطلقا في الواقع، و مقتضى العمل على الاحتياطين الجمع بين الأمرين حسبما ذكره الشيخ أخيرا، لا الاجتناب عن استعمال ذلك رأسا.

ثمّ يبقى الكلام بعد ما أمكن الاحتياط بالجمع فيما ذكره العلاّمة من اعتبار التقدير استعلاما للحال و رفعا للاشتباه الّذي هو مناط الاحتياط بناء على إمكانه، و جواز ذلك كما ترى ممّا لا إشكال فيه و لا خلاف، بل الكلام - لو كان - فإنّما هو في وجوبه، و لمّا كان المقام ممّا أمكن فيه الامتثال العلمي و كان دائرا بين الامتثال التفصيلي - و هو ما اوتي بشيء على أنّه بعينه المأمور به - و الامتثال الإجمالي - و هو ما اوتي بأشياء على أنّ المأمور به فيها مردّد بينها، بأن يكون الإتيان بكلّ واحد على أنّه أحد الامور المردّد فيها المأمور به - فالكلام يرجع إلى أنّ المعتبر في مورد إمكان الامتثال العلمي هل هو الامتثال التفصيلى، و لا يجوز العدول إلى الامتثال الإجمالي إلاّ مع تعذّر الامتثال التفصيلي أو لا؟ بل يجوز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي أيضا، على معنى ثبوت التخيير بين الامتثالين من أوّل الأمر.

و المسألة اصوليّة و فيها وجهان بل قولان و تحقيقها موكول إلى محلّه، و مجمل القول فيها - حسبما يساعد عليه النظر القاصر - أنّ الامتثال التفصيلي متعيّن ما دام ممكنا، عملا بأصل الشغل السليم هنا عن المعارض، بناء على ما هو الراجح من كون الامتثال اللازم في الأوامر من قبيل الأغراض لا من قيود المأمور به حتّى يدفع احتمال مدخليّة التفصيل و كونه معتبرا مع المأمور به بإطلاق الأمر.

و عليه كان الأقوى في المقام ما ذهب إليه العلاّمة و من وافقه كالشهيد رحمه اللّه في الدروس(1)، و المحقّق الثاني في بعض فوائده(2) من اعتبار التقدير و وجوبه، إذ به يحصل الامتثال العلمي التفصيلي، و ما يحصل من الامتثال بالاحتياط المقتضي للجمع و إن كان علميّا لكنّه إجماليّ ينفي جواز الاكتفاء به بأصل الشغل. فما في كلام جماعة من أنّ هذا القول ممّا لا دليل عليه من عقل و لا شرع كلام خال عن التحصيل.

ثمّ عن العلاّمة أنّه اعتبر تقدير الوصف في كثير من كتبه و لم يتعرّض لبيان الوصف

ص: 805


1- الدروس الشرعيّة 122:1.
2- حكاه عنه في فقه المعالم 431:1.

المقدّر، من حيث إنّه يختلف بالشدّة و الضعف و التوسّط بينهما، فهل المعتبر تقدير الأشدّ أو الأضعف أو الوسط؟ لكن عن المحقّق الثاني(1) أنّه حكى عنه(2) أنّه قال في بعض كتبه: «يجب التقدير على وجه تكون المخالفة وسطا، و لا يقدّر الأوصاف الّتي كانت قبل ذلك» و استوجهه.

و عن الشهيد في الذكرى الموافقة له في ذلك قائلا: «فحينئذ يعتبر الوسط في المخالفة، فلا يعتبر في الطعم حدّة الخلّ، و لا في الرائحة ذكاء المسك، و ينبغي اعتبار صفات الماء من العذوبة و الرقّة و الصفاء و أضدادها»(3) انتهى.

و عن المحقّق المذكور تعليل ما استوجهه: «بأنّه بعد زوال تلك الأوصاف صارت هي و غيرها على حدّ سواء، فيجب رعاية الوسط، لأنّه الأغلب، أو للتبادر عند الإطلاق.

قال: «و إنّما قلنا إنّ الزائل هنا لا ينظر إليه بعد الزوال، لأنّه لو كان المضاف في غاية المخالفة في أوصافه فنقصت مخالفته لم يعتبر ذلك القدر الناقص، فكذا لو زالت أصلا و رأسا»(4) انتهى.

و اعترض عليه: «بأنّ النظر إلى كلامه الأخير يقتضي كون المقدّر هو أقلّ ما يتحقّق به الوصف لا الوسط.

و تحقيقه: أنّ نقصان المخالفة كما فرضه لو انتهى إلى حدّ لم يبق معه إلاّ أقلّ ما يصدق به المسمّى لم يؤثّر ذلك النقصان، و لا اعتبر مع الوصف الباقي أمر آخر، فكذا مع زوال الوصف من أصله، و اعتبار الأغلبيّة و التبادر هنا ممّا لا وجه له»(5) انتهى.

و أنت خبير بما في كلّ من التعليل و الاعتذار و تحقيق المعتبر(6)، أمّا الأوّل: فلأنّ التسوية بين الوصف الزائل و غيره أوّل الكلام.

و أمّا الثاني: فرجوعه إلى القياس مع توجّه المنع إلى الحكم في المقيس عليه أيضا.

و أمّا الثالث: فلما يتّضح بعد ذلك.

و تحقيق المقام: إنّك قد عرفت أنّ الداعي إلى اعتبار التقدير إنّما هو استعلام كون

ص: 806


1- و الحاكي عنه هو صاحب المعالم رحمه اللّه في فقه المعالم 431:1.
2- أي عن العلامة رحمه اللّه.
3- ذكرى الشيعة 74:1.
4- حكاه عنه في فقه المعالم 431:1.
5- فقه المعالم 432:1.
6- كذا في الأصل.

هذا الشيء ممّا سلب عنه الإطلاق لئلاّ يجوز استعماله في التطهير، أو سلب عنه الإضافة ليجوز استعماله في التطهير، و من المعلوم أنّ معنى سلب الإطلاق و سلب الإضافة المحتملين هنا بحسب الواقع انقلاب ماهيّة أحد المختلطين بالآخر، لا مجرّد تغيّر وصف أحدهما بوصف الآخر، أو بقائه على وصفه الأصلي.

فالمضاف إذا كان على الوصف الأضعف فربّما لا يوجب لضعف وصفه تغيّر وصف المطلق مع احتمال سلب الإطلاق في الواقع، كما أنّه إذا كان على الوصف الأشدّ فربّما يوجب بشدّة وصفه تغيّر وصف المطلق مع احتمال بقاء الإطلاق السالب لإضافة المضاف بحسب الواقع، و إنّما يعلم هذا الاختلاف فيما بين الظاهر و الواقع في كلّ من القسمين بفرض مضاف آخر متوسّط الوصف متساوي المقدار للمفروض، مختلطا بمثل ما اختلط به الأوّل من الماء في المقدار، فإن خالف الأوّل في التأثير و الاقتضاء كشف عن كون ما اقتضاه الأوّل من البقاء على الوصف الأصلي أو الخروج عنه مستند إلى الوصف القائم به من جهة ضعفه أو شدّته، لا إلى ذاته الموجبة عند التأثير لانقلاب الماهيّة، لاستحالة الاختلاف بينهما في الاقتضاء و التأثير، مع اتّحاد الذات فيهما و مساواتهما فيما يرجع إلى الذات.

مثلا لو فرضنا ثلاثة أمداد من ماء الورد أحدهما شديد الرائحة و الآخر متوسّطها و الثالث ضعيفها، فامتزج كلّ واحد بمدّ من ماء مثلا، فإن تغيّر وصفه على الأوّلين دون الأخير كشف ذلك عن سلب الإطلاق في الواقع في كلّ من الثلاث؛ و أنّ بقاء الأخير على وصفه الأصلي إنّما هو لضعف ممزوجه في الوصف لا في الاقتضاء المستند إلى ذاته في ذلك الفرض؛ و إن تغيّر وصفه على الأوّل دون الأخير كشف ذلك عن بقاء الإطلاق الواقعي في جميع الثلاث؛ و أنّ خروج الأوّل عن وصفه الأصلي إنّما هو لأجل شدّة ممزوجه في الوصف لا في الاقتضاء المستند إلى ذاته في هذا الفرض.

و نتيجة هذا الاختلاف أنّ الوصف إذا كان ضعيفا فله تأثير في عدم تغيّر الوصف و إن انقلبت معه الماهيّة، و إذا كان شديدا فله تأثير في تغيّر الوصف و إن لم تنقلب معه الماهيّة، و عليه فلا عبرة بالأوصاف الضعيفة و لا الأوصاف الشديدة، بل المعتبر هو الأوصاف المتوسّطة، لأنّ الوصف المتوسّط على البيان المذكور لا بدّ و أن يغاير

ص: 807

القسمين، و لا يعقل المغايرة إلاّ بأن لا يكون بنفسه مؤثّرا لا في التغيّر و لا في عدمه مخالفا لما أثّرته الماهيّة.

و حينئذ لو امتزج ذو الوصف المتوسّط بالمطلق و صادف امتزاجه لتغيّر المطلق كشف ذلك عن انقلاب الماهيّة و سلب إطلاقه بحسب الواقع، و كونه مستندا إلى ذات ذي الوصف لا إلى وصفه.

و قضيّة ذلك لزوم تقدير الوصف المتوسّط في محلّ البحث لا الوصف الزائل، ضعيفا كان أو شديدا، إذ معه يحصل التغيّر السالب للإطلاق المصادف لانقلاب الماهيّة.

فظهر من جميع ذلك أنّ الأقوى ما صار إليه الجماعة، و أنّ القول بلزوم تقدير أقلّ ما يتحقّق به مسمّى الوصف كالقول بأنّ تقدير الوصف المتوسّط لا دليل عليه ضعيف، كيف و هذا من مقتضى الاحتياط و أصل الشغل الّذي قرّرناه دليلا على وجوب التقدير خروجا عن شبهة بقاء الإطلاق المانع عن التيمّم أو زواله المسوّغ له، بل مقتضى هذا الاحتياط العدول إلى تقدير الوصف المتوسّط فيما له وصف محقّق شديد أو ضعيف، و إن لم نقف على القول به من الأصحاب كما لا يخفى، و اللّه العالم.

المبحث السادس: لو كان مع المكلّف من المطلق ما لا يكفيه للطهارة و أمكن إتمامه بمضاف على وجه لا يسلبه الإطلاق،

فعن الشيخ عدم وجوب ذلك(1)، و خالفه العلاّمة فرجّح وجوبه(2)، و تبعه المحقّق الثاني(3)، و بعض من لا تحصيل له.

قال في المختلف: «لو كان معه رطلان من المطلق و يفتقر في طهارته إلى ثلاثة أرطال مثلا و معه ماء الورد إذا مزجه بالمطلق لم يسلبه الإطلاق، قال الشيخ رحمه اللّه: ينبغي أن يجوز استعماله و ليس واجبا، بل يكون فرضه التيمّم، لأنّه ليس معه من الماء ما يكفيه لطهارته.

و هذا القول عندي ضعيف لاستلزامه التنافي بين الحكمين، فإنّ جواز الاستعمال يستلزم وجوب المزج، لأنّ الاستعمال إنّما يجوز بالمطلق، فإن كان هذا الاسم صادقا عليه بعد المزج وجب المزج، لأنّ الطهارة بالمطلق واجبة مع المكنة، و لا يتمّ إلاّ بالمزج، و ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، و إن كذّب الإطلاق عليه لم يجز استعماله

ص: 808


1- المختلف 240:1-239.
2- المبسوط 10:1-9.
3- جامع المقاصد 126:1.

في الطهارة و يكون خلاف الفرض، فظهر في الحكمين.

و الحقّ عندي: وجوب المزج إن بقي الإطلاق، و المنع من الاستعمال إن لم يبق»(1).

انتهى.

و أنت بعد التأمّل في سوق ما نقله عن الشيخ تعرف عدم التنافي بين ما ذكره من الحكمين، فإنّ استعمال المضاف المحكوم عليه بجوازه المتعقّب للحكم بعدم وجوبه ليس مرادا به الاستعمال في الطهارة، حتّى يرد عليه ما ذكر، بل المراد به استعماله في المزج فإنّه جائز و ليس بواجب، لا أنّ استعماله منفردا في الطهارة جائز، و لا أنّ استعماله مركّبا مع المطلق بلا سلبه الإطلاق ليس بواجب، فإنّ كلاّ من ذلك باطل جدّا، فلا تنافي بين الحكمين أصلا.

و أمّا ما رجّحه من وجوب المزج، فأجاب عنه ابنه فخر المحقّقين في الشرح - على ما حكي عنه -: «بأنّ الطهارة واجب مشروط بوجود الماء و التمكّن منه، فلا يجب إيجاده لأنّ شرط الواجب المشروط غير واجب»(2).

و ردّه شارح الدروس: «بصدق الوجدان فيما نحن فيه، و ليس وجدانه هنا بأبعد من الوجدان فيما إذا أمكن حفر بئر مثلا، و الظاهر أنّه لا نزاع أنّه إذا أمكن حفر بئر مثلا لتحصيل الماء لوجب، فلم لم يحكم بالوجوب هنا و التفرقة خلاف ما يحكم به الوجدان»(3).

و عن المحقّق الثاني أنّه ردّه في جامع المقاصد بأنّه: «إن أراد بإيجاد الماء ما لا يدخل تحت قدرة المكلّف، فاشتراط الأمر بالطهارة به حقّ و لا يضرّنا، و إن أراد به الأعمّ فليس بجيّد، إذ لا دليل يدلّ على ذلك، و الإيجاد المتنازع فيه معلوم كونه مقدورا للمكلّف، و الأمر بالطهارة خال عن الاشتراط، فلا يجوز تقييده إلاّ بدليل»(4) انتهى.

و لعلّ نظره في منع اشتراط الأمر بالطهارة إلى مثل قوله تعالى: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (5)، و قوله عليه السّلام: «إذا دخل الوقت وجبت الصلاة و الطهور»(6).

و لا يخفى ضعف كلّ من الردّين، أمّا ما ردّه شارح الدروس: فلمنع صدق الوجدان

ص: 809


1- المختلف 240:1-239.
2- إيضاح الفوائد 18:1.
3- مشارق الشموس: 266.
4- جامع المقاصد 126:1.
5- المائدة: 6.
6- الوسائل 372:1 ب 4 من أبواب الوضوء ح 1 - التهذيب 546/140:2.

فيما نحن فيه، فإنّ العبرة إنّما هو بصدق وجدان الماء لا ما يؤول إلى الماء، فإنّ الماء اسم لما تلبّس بمبدإ المائيّة فعلا، و المفروض ليس من هذا الباب، بل هو آئل إلى المتلبّس بالمبدإ على تقدير لحوق المزج، و بذلك يظهر التفرقة بينه و بين حفر البئر إخراجا للماء، لأنّه طلب للمتلبّس بالمبدإ بالفعل.

و إلى ذلك ينظر ما عن بعض المحقّقين من أنّ صدق الوجدان على ما نحن فيه عرفا غير مسلّم، و جعله كحفر البئر على تقدير تسليم صدق الوجدان عنده قياس مع الفارق، فإنّ الماء هنا موجود بالفعل و الحفر للتوصّل إليه بخلاف ما نحن فيه، فإنّه معدوم الحقيقة و المزج إيجاد لها كنفس الاستطاعة المعدومة.

و أمّا ما ردّه المحقّق الثاني: فلأنّ الآية و الرواية و غيرهما و إن كانت مطلقة و لكن قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا (1) مقيّد، ضرورة أنّ تقيّد الأمر بالتيمّم بعدم وجدان الماء يقضي بتقييد الأمر بالوضوء بوجدانه، فيقيّد بها ما ذكر من المطلقات جدّا.

فلو قيل: تقييد الآية للإطلاق متوقّف على حمل «الوجدان» على حقيقته مع بقاء الآية على إطلاقها، و لا ريب أنّه ليس بممكن، لأنّا نرى تحقّق وجدان الماء بالفعل مع حرمة الوضوء لمانع شرعي كخوف الضرر من استعماله و نحوه، و نرى عدم تحقّقه كالفاقد له المتمكّن عن حفر البئر و نحوه لتحصيله مع وجوب الوضوء به، فلا بدّ حينئذ من التجوّز في الآية، و هو إمّا بالتقييد لمنطوقها و مفهومها لوجوب استثناء ما عرفت من الصور، فيرد ما ذكرت حينئذ من كون التقييد بالوجدان موجبا لتقييد تلك الإطلاقات، و مقتضاه عدم وجوب المزج.

أو بحمل الوجدان على التمكّن و الاقتدار مجازا، فلا يرد بذلك حينئذ عدم وجوب المزج لمكان التقييد بالقدرة و هي متحقّقة في المقام، فالوضوء حينئذ واجب لتحقّق شرط وجوبه، و هو يستلزم وجوب المزج لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به واجب.

نعم، لو لم يتمكّن المكلّف من المزج المذكور سقط عنه الوضوء بحكم الآية، لأنّه يكون من باب الواجب المشروط المنتفي شرطه، و لكن لمّا كان المفروض تحقّق القدرة الّتي هي شرط التكليف بالفرض بقيت تلك الإطلاقات الدالّة على الوجوب على

ص: 810


1- المائدة: 6.

إطلاقها، و تكون هذه المقدّمة أعني المزج المحصّل للماء بالنظر إلى الوضوء الواجب مقدّمة وجوديّة يجب تحصيلها، و المجاز و إن كان مرجوحا بالقياس إلى نوع التقييد، إلاّ أنّه لوحدته و تعدّد التقييد منطوقا و مفهوما - مع تفسير المقدّس الأردبيلي في آيات أحكامه(1) ل «تجدوا» في الآية ب «تتمكّنوا» من دون نقل خلاف فيه، المشعر بالاتّفاق عليه، مع تصريح بعض الفقهاء أيضا بذلك، و شهرة الحكم المذكور على الظاهر - وجب المصير إليه، فالقول بوجوب المزج إذا أرجح، مع أنّه أحوط.

لقلنا: مع أنّه لا حاجة إلى استثناء بعض المذكورات حتّى يلزم بذلك تقييد، لما عرفت من صدق قضيّة وجدان الماء عند التمكّن بالحفر و نحوه من مقدّمات التحصيل، لا تعارض بين التقييد و المجاز المذكورين ليوجب ذلك إلى مراجعة الترجيح، بل مفاد الآية ما يستلزم تقييد المطلقات و لو حملنا «الوجدان» على التمكّن، فلا يلزم وجوب المزج على التقديرين و كونه مقدّمة وجوديّة، أمّا على تقدير حمل «الوجدان» على حقيقته المستلزم للتقييد فلما ذكرناه، و أمّا على تقدير حمله على التمكّن و الاقتدار فلأنّ التمكّن ليس بحاصل بالقياس إلى الماء بالمعنى المذكور، و إنّما هو تمكّن بالقياس إلى ما يؤول إلى الماء بعين ما ذكر، فلا يختلف الحال بسبب اختلاف التفسير، فتفسير المحقّق الأردبيلي رحمه اللّه مع كونه متعيّنا لا ينفع شيئا في إثبات دعوى إطلاق وجوب الوضوء المقتضي لوجوب المزج، إلاّ على تقدير حمل «الماء» أيضا على معناه المجازي بعلاقة الأول، و هو كما ترى مجاز آخر غير ما يلزم منه بحمل «الوجدان» على التمكّن، فما في كلام جماعة من بناء المسألة على احتمالي كون «الوجدان» مرادا به معناه الحقيقي أو التمكّن مجازا ليس بشيء.

فالراجح في النظر - على ما بيّنّاه - ما صار إليه الشيخ عملا بقاعدة عدم وجوب إيجاد مقدّمة الوجوب، و إن كان الإيجاد ممكنا بحسب أصله و ذاته، كاستطاعة الحجّ الغير الموجودة مع التمكّن عن إيجادها بالسعي في تحصيل المال أو قبول ما يبذله باذل.

***

ص: 811


1- زبدة البيان: 26.

ينبوع [في الماء المشتبه بالنجس]

اشارة

و ممّا خصّه الأصحاب بالعنوان من أفراد المياه، الماء الطاهر المباح المطلق إذا اشتبه بغيره من النجس، أو المغصوب، أو المضاف، فإنّ كلّ واحد من ذلك ممّا لحقه البحث عندهم، و كثر التشاجر في فروع بعضها لديهم، و بسط الكلام فيها يستدعي رسم مقامات:

المقام الأوّل: في الماء المشتبه بالنجس، المعنون في كلام بعضهم بالإناءين أحدهما طاهر و الآخر نجس فاشتبها،

اشارة

و ظاهر أنّ تخصيص الإناء بالذكر مثال، أو اقتفاء في التعبير لعبارة النصّ على ما سيظهر في الموثّقتين الآتيتين، كما أنّ ذكر هذا العدد بالخصوص مبنيّ على المثال، أو اكتفاء بأقلّ مراتب التعدّد، و ظاهرهم كصريح غير واحد منهم عدم اختصاص الحكم بما كان الاشتباه ابتدائيّا، كما لو وقعت النجاسة في الطاهرين أو أكثر على ما لا يعلم أيّهما هو و إن اختصّ به مورد النصّ، بل يجري فيما لو كان الاشتباه طارويّا أيضا، كما لو كان الطاهر مع النجس ممتازين ففات امتيازهما.

و في حكم الاشتباه الابتدائي الحاصل بين الطاهرين ما يحصل بين النجسين لو زالت النجاسة عن أحدهما من غير علم بأنّه أيّ منهما، كما أنّه في حكم النجس بالذات النجس بالعرض و هو المتنجّس، فإنّ جميع هذه الصور من واد واحد و إن اختصّ عنوان الأصحاب كالنصّ الموجود في الباب ببعضها، مع ما بينها من التفاوت في قوّة احتمال عدم وجوب الاجتناب عن الجميع و ضعفه حسبما يأتي الإشارة إليه.

و كذلك التفاوت في قوّة احتمال الوجوب و ضعفه، بل الظاهر بناء على عموم القاعدة المستفاد عن عموم جملة من أدلّتهم الآتية - كما هو الحقّ الّذي لا محيص عنه - عدم الفرق في الحكم بين ما لو كانت أطراف الشبهة من أفراد ماهيّة واحدة مشتركة بينها

ص: 812

كالإناءين و الثوبين و نحوهما، و ما لو كانت من أفراد ماهيّتين فصاعدا، كالثوب و الإناء أو الثوب و البدن إذا علم بإصابة نجاسة للأمر المردّد بينهما، فإنّ قضيّة حجّيّة العلم الإجمالي وجوب الاجتناب عن كليهما معا في الصلاة و نحوها من مشروط بالطهارة.

نعم، ينبغي تخصيص الحكم بما كانت الشبهة محصورة، أخذا بموجب تصريحاتهم و أدلّتهم المقتضية لعدم وجوب الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة حسبما قرّر في الاصول.

و كيف كان، فقال المحقّق قدّس سرّه في الشرائع: «و لو اشتبه الإناء النجس بالطاهر وجب الامتناع عنهما»(1) و صرّح بما يقرب من ذلك في النافع(2)، و قريب منهما ما في الدروس(3)، و منتهى العلاّمة و مختلفه(4)، و حكى الجزم به في المنتهى(5) عن الشيخ في النهاية، و ابن بابويه في كتابه، و المفيد في المقنعة.

كما حكى الموافقة في ذلك في المناهل(6) عن الفقيه(7)، و النهاية(8)، و الناصريّات(9)، و الغنية(10)، و المعتبر(11)، و السرائر(12)، و التحرير(13)، و القواعد(14)، و نهاية الإحكام(15)، و الإيضاح(16)، و الذكرى(17)، و جامع المقاصد(18)، و الجعفريّة(19)، و مجمع الفائدة(20).

و استفاض نقل الإجماع عليه، و حكى نقله أيضا عن الشيخ في الخلاف(21)، و المحقّق في المعتبر(22)، و العلاّمة في المختلف(23) و التحرير(24) و نهاية الإحكام(25)،

ص: 813


1- شرائع الإسلام 15:1.
2- المختصر النافع: 44.
3- الدروس الشرعيّة 122:1.
4- منتهى المطلب 174:1 - مختلف الشيعة 248:1.
5- منتهى المطلب 174:1 - انظر: المقنع: 28 - النهاية 206:1 المقنعة: 69.
6- المناهل - كتاب الطهارة - الورقة 162 (مخطوط).
7- الفقيه 7:1.
8- النهاية 206:1.
9- الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة 140:1).
10- غنية النزوع 51:1.
11- المعتبر: 26.
12- السرائر 85:1.
13- غنية النزوع 51:1.
14- قواعد الأحكام 189:1.
15- نهاية الإحكام 248:1.
16- إيضاح الفوائد 22:1.
17- ذكرى الشيعة 110:1.
18- جامع المقاصد 150:1.
19- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 86:1).
20- مجمع الفائدة و البرهان 281:1.
21- الخلاف 196:1 المسألة 153.
22- المعتبر: 26.
23- مختلف الشيعة 248:1.
24- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 6.
25- نهاية الإحكام 248:1.

و صاحب الذخيرة(1)، و عن ظاهر جماعة كالتنقيح(2)، و السرائر(3)، و المنتهى(4)، بل لم نقف على حكاية خلاف في المسألة عن أصحابنا، بل عن العامّة أيضا عدا ما عن الشافعي على ما في حاشية المدارك للمحقّق البهبهاني قائلا: «و نقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد من الفقهاء، منهم الفاضلان(5)، بل ما نقلوا خلافا إلاّ عن الشافعي، فإنّه قال: «يجتهد المكلّف في تحصيل الأمارات المرجّحات و مع العجز يتخيّر»(6)، فالظاهر أنّها وفاقيّة بين المسلمين جميعا»(7) انتهى.

و العجب عن صاحب المدارك(8) في جعله مذهب الأصحاب، مشعرا بدعوى الإجماع، مع ميله إلى جواز الارتكاب إذا لم يحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه، إلاّ أن يكون ذلك من جهة القدح في هذا الإجماع بتضعيف مستنده حسبما يأتي في كلامه.

و الحقّ ما صاروا إليه، و استقرّت عليه فتاواهم، و انعقد عليه إجماعهم من وجوب الامتناع عن الجميع، و مستنده من النقل الموثّقان المتقدّمان في أخبار انفعال القليل.

أحدهما: ما عن سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل معه إناءان، فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو، و ليس يقدر على ماء غيره؟ قال: «يهريقهما [جميعا] و يتيمّم إن شاء اللّه»(9).

و ثانيهما: ما عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو؟ و ليس يقدر على ماء غيره؟ قال عليه السّلام:

«يهريقهما جميعا و يتيمّم»(10).

و الخبران المتقدّمان في مسألة إناطة أحكام النجاسة بالعلم بتحقّق السبب،

ص: 814


1- ذخيرة المعاد: 138.
2- التنقيح الرائع 64:1.
3- السرائر 85:1.
4- منتهى المطلب 174:1.
5- المعتبر: 26 - المختلف 248:1 - تذكرة الفقهاء 89:1.
6- كذا في الأصل، و في بعض النسخ: «يجتنب» بدل «يتخيّر».
7- حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 162:1.
8- مدارك الأحكام 107:1.
9- الوسائل 151:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 662/229:1.
10- الوسائل 155:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 14 - و فيه «غيرهما» بدل «غيره» - التهذيب 712/248:1.

أحدهما: الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم المرويّ في الكافي عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - في حديث - قال: «و إن استيقن أنّه قد أصابه شيء و لم ير مكانه فليغسل ثوبه كلّه»(1).

و ثانيهما: خبر عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام - في حديث - قال:

«و إن علم أنّه قد أصاب جسده و لم يعرف مكانه فليغسل جسده كلّه»(2).

وجه الاستدلال بهما: أنّه لو كان الاشتباه صالحا لرفع النجاسة أو أحكامها لم يكن للأمر بغسل الثوب كلّه و لا للأمر بغسل الجسد كلّه وجه، نعم لا ينهض ذلك حجّة على من جوّز الارتكاب في غير ما يحصل معه مباشرة الجميع.

و الأخبار الآمرة في الثوبين المشتبهين بالصلاة فيهما معا، الّتي منها حسنة صفوان بن يحيى عن الصادق عليه السّلام أنّه كتب إليه يسأله عن رجل كان معه ثوبان، فأصاب أحدهما بول، و لم يدر أيّهما هو؟ و حضرت الصلاة و خاف فوتها و ليس عنده ماء، كيف يصنع؟ قال: «يصلّي فيهما»(3).

و عن الصدوق في الفقيه: أنّه بعد نقل الرواية قال: «يعني على الانفراد»(4)و التقريب في الاستدلال بها نظير ما مرّ، مع قيامه حجّة على من جوّز الارتكاب بغير ما يحصل معه مباشرة الجميع، و فيها دلالة على المطلوب من وجه آخر و هو: كون وجوب الغسل في تلك الصورة مع وجود الماء معتقدا للسائل مفروغا عنه لديه، كما يفصح عنه قوله: «و ليس عنده ماء» فسئل عمّا أشكل عليه الأمر و هو الصلاة في تلك الحالة، بقوله: «كيف يصنع»؟ فأجابه الإمام عليه السّلام بما ينطبق على سؤاله.

و المقصود من إيراد هذه الأخبار التنبيه على أنّ الناظر فيها و في غيرها ممّا نقف عليها بالتتبّع يجد أنّ الشارع في جميع أنواع المشتبه كان بناؤه على إيجاب الاجتناب، و ترتيب آثار النجس على جميع أطراف الشبهة.

ص: 815


1- الوسائل 403:3 ب 7 من أبواب النجاسات ح 5 - مع اختلاف يسير - الكافي 4/54:3 - التهذيب 728/252:1.
2- الوسائل 404:3 ب 7 من أبواب النجاسات ح 10 - مسائل عليّ بن جعفر: 238/159.
3- الوسائل 505:3 ب 64 من أبواب النجاسات ح 11 - و فيه: «يصلّى فيهما جميعا» - التهذيب 887/225:2 - الفقيه 757/161:1.
4- الفقيه 161:1 ذيل الحديث 757.

و المناقشة في الأوّلين بما في المدارك(1) من ضعف السند بجماعة من الفطحيّة ممّا لا يلتفت إليها، بعد ملاحظة انجبارهما بعمل الأصحاب كافّة، و كونهما ممّا تلقّوه بالقبول كما في صريح غير واحد من الفحول، مع ملاحظة موافقة مضمونهما لحكم العقل و مقتضى القواعد و الاصول حسبما يأتي بيانها، مع أنّ الموثّق بنفسه ممّا يفيد الاطمئنان الّذي عليه مناط الحجّيّة في الأخبار حسبما قرّر في الاصول.

كما لا يلتفت أيضا إلى المناقشة فيها بمعارضة أصالة الطهارة، و أصالة الحلّيّة في الأشياء، و الأخبار الدالّة على «أنّ كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» الّتي منها: صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام «كلّ شيء يكون فيه حرام و حلال، فهو لك حلال [أبدا] حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(2).

و منها: رواية سليمان(3) قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الجبن؟ فقال: «سألتني عن طعام يعجبني»، ثمّ أعطى الغلام درهما فقال: «يا غلام ابتع لنا جبنا»، ثمّ دعى بالغداء فتغدّى و تغدّينا معه، فأتى الجبن فأكل و أكلنا، فلمّا فرغنا قلت: ما تقول في الجبن؟ فقال: «تراني آكله»، قلت: بلى و لكنّي احبّ أن أسمعه منك، فقال: «سأخبرك من الجبن و غيره، كلّما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه [فتدعه]»(4)فإنّ الأصلين ثابتان في غير نظائر المقام ممّا لا علم معه بتحقّق السبب أصلا، كما يفصح عنه التقييد بغاية العلم في مستند الأصل الأوّل، و هو الخبر المستفيض المتقدّم ذكره مرارا «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(5) و «كلّ شيء نظيف حتّى يعلم أنّه قذر»(6)فإنّ العلم الّذي هو منتهى الحكم بالطهارة حاصل في المقام، و دعوى: عدم شمول العلم لما اشتبه معلومه غير مسموعة.

و الأخبار المذكورة مع أنّها غير صالحة لمعارضة ما سبق، ظاهرة بحكم العرف في

ص: 816


1- مدارك الأحكام 107:1.
2- الوسائل 87:17 ب 4 من أبواب ما يكتسب به ح 1 - الفقيه 1002/216:3.
3- و في الوسائل: «ابن سليمان».
4- الوسائل 117:25 ب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ح 1 - الكافي 1/339:6.
5- الوسائل 134:1 ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5.
6- الوسائل 467:3 ب 37 من أبواب النجاسات ح 4 - التهذيب 832/284:1.

غير ما حصل فيه العلم و لو على نحو ما هو المفروض في المقام، على معنى كون المراد بقوله:

«كلّ شيء يكون فيه حرام و حلال» أنّ كلّ شيء صالح لأن يوجد فيه فرد حرام و فرد حلال و محتمل لهما معا فهو لك حلال، كما يفصح عنه صريح صحيحة ضريس قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن السمن و الجبن نجده في أرض المشركين بالروم أ نأكله؟ فقال: «أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل، و أمّا ما لم تعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام»(1).

و ظهور الموثّقة الّذي هو كالصريح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب فيكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، و مملوك عندك و هو حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك و هي اختك، أو رضيعتك، و الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة»(2).

و لا ينافيه لفظ «بعينه» لكون المراد به العلم بوجود شخص الحرام في محلّ الابتلاء، و هو مفروض الحصول في المقام، مع قوّة احتمال ورودها - بعد تسليم شمولها لصورة العلم المبحوث عنه - في الشبهة الغير المحصورة الّتي أجمعوا فيها على عدم وجوب الاجتناب، و قضت به الأدلّة النافية للعسر و الحرج الموجبين هنا لاختلال نظم العالم، مضافة إلى قاعدة قبح التكليف بما لا يطاق في أكثر صور تلك الشبهة، بل هو الظاهر منها بعد تسليم المقدّمة المذكورة، كما يفصح عنه ما حكاه في المجالس عن أبي الجارود قال: سألت الباقر عليه السّلام عن الجبن؟ فقلت: أخبرني عمّن رأى أنّه يجعل فيه الميتة، فقال:

«أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض، فما علمت منه ميتة فلا تأكله، و ما لم تعلم فاشتر و بع و كل، و اللّه أنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم و التمر و الجبن، و اللّه ما أظنّ كلّهم مأمون هذه البريّة و هذه السودان»(3).

ثمّ على فرض تسليم عموم هذه الأخبار لصورتي العلم و عدمه، و كلا قسمي الشبهة، فهي لعمومها قابلة للتخصيص، و أخبار الباب أخصّ منها مطلقا فتنهض

ص: 817


1- الوسائل 235:24 ب 64 من أبواب الأطعمة المحرّمة ح 1 - التهذيب 336/79:9.
2- الوسائل 89:17 ب 4 من أبواب ما يكتسب به ح 4 - الكافي 40/313:5.
3- الوسائل 119:25 ب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ح 5 - و فيه: «ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر و هذه السودان».

مخصّصة لها، و على فرض منع هذه القضيّة فهذه الأخبار موهونة بعدم أخذ الأصحاب بعمومها فيما يتعلّق بالمقام.

و من العقل و الاصول العامّة وجوه بين سليم و سقيم.

منها: ما نقرّره على وجه يكون سليما عمّا يقدح فيه، من: أنّ النجاسة في موضع العلم بتحقّق سببها ما يوجب وجود تكاليف كثيرة مترتّبة على العلم المذكور، من حرمة مباشرتها في الأكل و الشرب، و وجوب إزالتها في مشروط بها من الصلاة و الوضوء و نحوهما، و وجوب الصلاة و نحوها بما سلم عنها من ثوب أو بدن أو ماء أو نحوه، و لا ريب أنّ التكليف اليقيني بحكم العقل المرشد المكلّف إلى ما يدفع معه استحقاق العقوبة و مخالفة الإطاعة يستدعي الفراغ اليقيني و الامتثال العلمي بالمعنى الأعمّ، ممّا هو قائم مقام العلم في نظر الشارع، و الفارغ اليقيني بعنوان أنّه يقيني كالامتثال العلمي بوصف أنّه علمي لا يتأتّى إلاّ بإجراء لوازم النجاسة في الجميع، من التحرّز عن الجميع في مقام الأكل و الشرب، و عدم تطهير الثوب أو البدن، و كذلك الاغتسال و التوضّي به، و عدم الدخول في الصلاة و نحوها مع مباشرته كلاّ أم بعضا في بدن أو ثوب، و لو كان ذلك من جهة كون الثوب بنفسه من أطراف الشبهة، فيكون الكلّ واجبا من باب المقدّمة الثابت وجوبها هنا كوجوب ذيها بحكم العقل على جهة الإنشاء بنفسه، لا إدراك المنشأ لغيره.

و المناقشة في هذا الدليل إنّما هي بمنع مقدّماته، كمنع العلم بتحقّق السبب رأسا، أو منع تأثير هذا القسم في ثبوت النجاسة، أو منع كفايته في اقتضاء النجاسة الثابتة به لأحكامها و لوازمها، بدعوى: أنّ الاشتباه المقارن لهذا العلم مانع عن حدوث تلك الأحكام و رافع لما حدث منها قبل طروّه كالعذر العقلي أو الشرعي، أو أنّ الشارع جعله أمارة لرفع أحكام النجاسة عن النجس المعلوم بالإجمال، أو منع شمول الأدلّة المرتّبة لتلك الأحكام للمعلوم بالإجمال، أو منع استدعاء الشغل اليقيني العلم بالفراغ بالموافقة، بل غاية ما يستدعيه إنّما هو منع المخالفة القطعيّة و هي لا تحصل بارتكاب ما لا يقطع معه بمباشرة النجس الواقعي.

و أنت خبير بأنّها بجميع الوجوه المقرّرة دعوى ممنوعة على مدّعيها.

أمّا الوجه الأوّل من المنع: فلأنّ المفروض حصول العلم بوجود السبب، و كونه إجماليّا باعتبار عدم تعيّن متعلّقه في ظاهر الحال لا يقضي بانتفائه رأسا.

ص: 818

و أمّا الوجه الثاني: فلأنّ ثبوت صفة النجاسة في الشيء لا ينوط يعلم أصلا، حتّى يقال: بأنّ العلم الإجمالي غير مؤثّر فيه، بناء على أنّها من الامور الواقعيّة التابعة لموضوعاتها الّتي كشف عنها الشرع و رتّب عليها أحكاما، فثبت حين ثبوت الموضوع، و تنتفي بانتفائه، من غير مدخليّة للعلم فيها وجودا و عدما، و القول: بأنّها ليست إلاّ الأحكام المرتّبة الّتي لا بدّ فيها من العلم ضعيف جدّا، و على فرض صحّته فالمناط موجود قطعا.

و أمّا الوجه الثالث: فلأنّ جريان أحكام النجاسة تابع للأدلّة المعلّقة لها على العلم بتحقّق سبب النجاسة، و لا ريب أنّه لا تقييد في تلك الأدلّة كما يظهر بملاحظة ما تقدّم من الأخبار المستفيضة القريبة من التواتر في مسألة إناطة أحكام النجاسة بالعلم، أو ما يقوم مقامه، و دعوى انصراف العلم الوارد فيها إلى غير المقام مكابرة يكشف عنها بناء العرف في عدم الفرق في الأخذ بآثار العلم بين المعلوم تحقّق سببه تفصيلا أو إجمالا.

هذا بناء على ما تقرّر في المسألة المشار إليها من نهوض الأخبار المذكورة فيها مقيّدة لأدلّة الواقع، و إلاّ فخطاب قوله: «اجتنب عن النجس» مثلا و ما يؤدّي مؤدّاه ظاهر في وجوب الاجتناب عن النجس الواقعي من غير مدخليّة للعلم إلاّ طريقا للتوصّل إلى امتثال الأمر بالاجتناب و نحوه بحكم العقل، الّذي لا فرق فيه بين المعلوم نجاسته تفصيلا أو إجمالا.

فمنع شمول أدلّة الواقع، أو الأدلّة المقيّدة لتلك الأدلّة بصورة العلم لمثل المقام مكابرة، يدفعها: فهم العرف، و عدم قيام صارف من قبله، و لا من قبل العقل و لا الشرع.

أمّا الأوّل: فلأنّ أهل العرف هم الّذين يقيمون بذمّ من يخالف معلوم بالإجمال.

و أمّا الثاني: فلأنّ العقل لا يأبى عن معاقبة المخالف بل يجوّزها، و لا يرضى من العالم بالإجمال بخلاف الامتثال الّذي هو متمكّن عنه بالفرض.

و أمّا الثالث: فلأنّه ليس في خطابات الشرع إلاّ ما يقضي بمنع المخالفة كما عرفته من الأخبار الآمرة بالاجتناب، أو بما هو من لوازم الاجتناب.

و توهّم المعارضة لذلك بما تقدّم من الأصلين، و عمومات الأخبار المعمولة في أصل البراءة، قد عرفت ما فيه بما لا مزيد عليه.

ص: 819

و بذلك كلّه يندفع القول بكون الاشتباه المقارن للعلم المفروض مانعا عن ترتّب أحكام المعلوم و رافعا لما حدث منها، سواء اريد به المانعيّة و الرافعيّة الثابتتان بحكم العقل أو خطاب الشرع، فإنّ قضيّة كلّ منهما كون العلم المصادف لهذا الاشتباه مقتضيا تامّا لترتّب الأحكام جميعا، و معه لا يعقل المانعيّة و لا الرافعيّة.

و أمّا الوجه الأخير: فلأنّ مرجع ما ذكر إلى دعوى كفاية الموافقة الاحتماليّة في موضع التمكّن عن الموافقة القطعيّة، و هي ممّا ينكره العقل السليم و الوجدان المستقيم، و الّذي يكشف عن ذلك صحة معاقبة من اقتنع في امتثال الأمر المتوجّه إليه باحتمال الموافقة فصادف عمله مخالفة(1) الواقع، من غير فرق في ذلك بين الأفعال و التروك، فإنّ معنى كفاية الاحتمال كونه قائما مقام العلم مبرءا للذمّة، و معه لا يحسن العقاب على اتّفاق المخالفة، لأنّ الاحتمال من شأنه ذلك.

و بجميع ما ذكر تبيّن أنّ وجوب الامتناع عن جميع أطراف الشبهة المتّفق عليه لدى الأصحاب ليس إلاّ وجوبا مقدّميّا ثابتا بحكم العقل، مضافا إلى خطاب الشرع به أصالة كما تقدّم، و من لوازم الوجوب المقدّمي أن لا يترتّب على مخالفة عقاب ما لم تفض إلى مخالفة الواقع، و ما تقدّم من خطاب الشرع لا يستفاد منه في خصوص المقام أزيد من ذلك، فهو في الحقيقة تقرير لحكم العقل، هذا بناء على الإغماض عمّا هو الأصل المقرّر عندنا في الخطابات الواردة في نظائر المقام، و إلاّ فهي بملاحظة الانسياق العرفي ظاهرة في الإرشاد إلى أمر واقعي من النجاسة أو أحكامها كما في المقام.

و منها: ما احتجّ به العلاّمة في المختلف - على ما نقله في المدارك -(2) من «أنّ اجتناب النجس واجب قطعا، و هو لا يتمّ إلاّ باجتنابهما معا، و ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب»(3).

و يمكن إرجاعه بضرب من التأويل إلى ما قرّرناه، بأن يكون المراد من الاجتناب الواجب المتوقّف على اجتنابهما معا اجتنابه على وجه القطع به، حتّى يكون الواجب قائما به على هذا الوجه لا الاجتناب الواقعي، و يكون الواجب في الحقيقة هو القطع بالاجتناب لا نفس الاجتناب، أو يكون قوله: «قطعا» قيدا للمحمول لا للإسناد، حتّى

ص: 820


1- كذا في الأصل.
2- مدارك الأحكام 107:1.
3- مختلف الشيعة: 18.

يكون وصف الوجوب راجعا إلى القطع، و لو لا ذلك لضعف: بأنّ المتوقّف على اجتنابهما معا ليس هو اجتناب النجس الواقعي بنفسه لاتّفاق حصوله تارة بالاجتناب عن أحدهما و اخرى باجتنابهما بل المتوقّف عليه حينئذ العلم باجتناب النجس الواقعي.

و كيف كان فعن صاحب المدارك - وفاقا لشيخه الأردبيلي -(1) الاعتراض عليه:

«بأنّ اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلاّ مع تحقّقه بعينه لا مع الشكّ فيه، و استبعاد سقوط حكم هذه النجاسة شرعا إذا لم يحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه غير ملتفت إليه، و قد ثبت نظيره في حكم واجدي المنيّ في الثوب المشترك، و اعترف به الأصحاب في غير المحصور أيضا، و الفرق بينه و بين المحصور غير واضح عند التأمّل»(2).

و أنت خبير بما فيه، فإنّ تقييد أدلّة أحكام النجاسة بصورة العلم بتحقّق السبب و إن كان مسلّما ثابتا بالأدلّة المتقدّم إليها الإشارة، لكن دعوى كون المعتبر في ذلك تحقّقه بعينه لا ترجع إلى محصّل، إلاّ تقييد الأدلّة المقيّدة بما يخرج معه علم يكون معلومه مجملا، و هي كما ترى دعوى لا شاهد لها من عقل و لا نقل، بل الشواهد العرفيّة و العقليّة و النقليّة متطابقة في خلاف تلك الدعوى كما تقدّم بيانه، فمنع سقوط حكم هذه النجاسة ليس من جهة الاستبعاد الصرف، مع ما في جعل ذلك استبعادا غير ملتفت إليه، و تقييده بما لم يحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه من التدافع الواضح، ضرورة أنّ سقوط حكم هذه النجاسة في الواقع أو الظاهر يقتضي جواز المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه، كما أنّ منع مباشرة الجميع اعتراف بعدم سقوط حكم النجاسة و لزوم الاجتناب عن الجميع الّذي حكم به العقل و وافقه الشرع ليس من أحكام هذه النجاسة من حيث هي حتّى يرتفع الاستبعاد عن سقوطه بل هو من أحكام العلم بعدم مباشرة النجاسة.

و أعجب ممّا ذكر مقايسة المقام على مسألة واجدي المنيّ في الثوب المشترك، فإنّ وضوح الفرق بين المقامين كما بين السماء و الأرض، فإنّ المكلّف في محلّ البحث عالم بتوجّه طلب الشارع إليه لعلمه بتحقّق سبب النجاسة بالقياس إليه نفسه، فينعقد معلومه بذلك تكليفا فعليّا في حقّه فيجب عليه امتثاله على وجه القطع به، بخلاف المقيس عليه الّذي لا علم فيه لأحد من المشتركين في الثوب بتوجّه الخطاب إليه، من

ص: 821


1- مجمع الفائدة و البرهان 281:1.
2- مدارك الأحكام 107:1.

جهة عدم علمه بتحقّق السبب منه، بل لو فرض استمرار العذر لهما معا يقبح على الشارع الحكيم توجيه الخطاب إليهما بطلب الاغتسال عنهما معا أو عمّن تحقّق منه السبب بحسب الواقع، ضرورة عدم جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه؛ و هو علم المأمور بتحقّق جهة صدور الطلب المتوقّف على علمه بتحقّق السبب منه بعينه، و لا يجدي فيه علم الآمر بواقع الأمر، لأنّ العبرة في صحّة الأمر بعلم المأمور لا بعلم الآمر.

و أضعف من الجميع الاستشهاد بما اعترف به الأصحاب من حكم الشبهة الغير المحصورة، فإنّ هذا الاعتراف منهم إنّما نشأ عن وجوه غير جارية في المقام الّذي هو من أفراد الشبهة المحصورة، و إلاّ فلو لا قيام تلك الوجوه ثمّة لمكان الحكم الّذي اعترفوا به على خلاف القاعدة، فالفرق بين المقامين واضح للمتأمّل.

و منها: ما احتجّ به في المنتهى(1) تبعا للخلاف -(2) على ما في شرح الدروس -(3)من أنّ الصلاة بالماء النجس حرام، فالإقدام على ما لا يؤمن معه أن يكون نجسا إقدام على ما لا يؤمن معه فعل الحرام، فيكون حراما.

و لا يخفى ضعفه، فإنّ حرمة الصلاة بالماء النجس إن اريد بها الحرمة الذاتيّة فالمتّجه منعه، لعدم قيام دليل عليه من الشرع بالخصوص، و إن اريد بها الحرمة التشريعيّة فالمتّجه منع كلّيّة المقدّمة الثانية، لأنّه لا يأتي بالماء المذكور إلاّ لرجاء إصابة الماء الطاهر، فلا يعلم اندراجه في موضوع التشريع ليكون حراما.

و منها: ما عن المعتبر(4) من أنّ يقين الطهارة في كلّ منهما معارض بيقين النجاسة و لا رجحان، فيتحقّق المنع.

و عن المعالم الإيراد عليه: «بأنّ يقين الطهارة في كلّ واحد بانفراده إنّما يعارضه الشكّ في النجاسة لا اليقين»(5).

و استجوده شارح الدروس، و أضاف إليه: «أنّه لو تمّ المعارضة من دون رجحان فما الوجه في المصير إلى المنع، لم لا يصار إلى أصلي البراءة و الطهارة»(6).

و الظاهر أنّ المراد بيقين الطهارة في الحجّة اليقين الفعلي بالطهارة المردّدة ظاهرا،

ص: 822


1- منتهى المطلب 176:1.
2- الخلاف 197:1 المسألة 153.
3- مشارق الشموس: 281.
4- المعتبر: 26.
5- فقه المعالم 378:1.
6- مشارق الشموس: 281.

المتساوي نسبتها من جهة الاشتباه إليهما معا، و هذا و إن كان ممّا يقتضي جواز الاستعمال، غير أنّه يعارض اليقين الفعلي بالنجاسة المردّدة المتساوي نسبتها إلى كلّ واحد، المقتضي لمنع الاستعمال.

و قوله: «و لا رجحان» أي لا مزيّة لأحد اليقينين لتوجب الأخذ به في حدّ ذاته، لعدم تعيّن مورده، فلا بدّ من مراجعة الخارج، و مقتضاه المنع عن الجميع، إمّا لحكم العقل بوجوب الإطاعة الّتي لا يحصل العلم بها إلاّ بذلك، أو لبناء العرف على تقديم أدلّة المنع على أدلّة الجواز و فهمه حكومة الاولى على الثانية.

و بالجملة مرجع هذه الحجّة - بناء على الظاهر - إلى ما قرّرناه و حقّقناه، و عليه يضعّف ما ذكر في الإيراد عليه، و لا سيّما الوجه الثاني، فإنّ كلاّ من أصلي البراءة و الطهارة ممّا يصار إليه في غير موضع العلم بالخلاف، و كأنّ مبنى الوجه الأوّل على توهّم إرادة اليقين السابق من يقين الطهارة، فيقال في دفعه: إنّه لا مقابل له في كلّ واحد منفردا إلاّ احتمال النجاسة، و هو لا يصلح معارضا لليقين بالطهارة السابق على طروّ الاشتباه، بل هو ممّا يحقّق الاستصحاب و محلّه، أو يوجب مراجعة أصل الطهارة الجاري في كلّ مشكوك في نجاسته.

و أنت خبير بما فيه من أنّه لا يجري في أكثر الصور المتقدّمة، و لا سيّما صورة تأخّر الشبهة عن اليقين بنجاستهما معا عند إصابة المزيل لأحدهما المشتبه، فينعكس فرض الاستصحاب حينئذ، مع أنّ اليقين بالنجاسة و لو كانت مردّدة المفروض وجوده في المقام صالح لنقض اليقين السابق بالطهارة، ضرورة أنّه يقين نقضناه بيقين مثله، مع أنّ مقتضى القاعدة المتقدّمة المأخوذة من حكم العقل عدم الفرق بين الصور المشار إليها، الّتي منها ما لو كان المشتبهان مسبوقين بالطهارة كما في مورد الرواية، أو بالنجاسة، أو غير معلوم الحالة السابقة.

و لعلّه لأجل ما أشرنا إليه من توهّم جريان الاستصحاب أو أصل الطهارة قد يقال:

«و يحتمل ضعيفا الفرق بين الصور بالحكم بجواز ارتكاب أحدهما في الاولى دون الأخيرتين، أو في الاولى و الأخيرة دون الثانية»(1)، بل و مقتضى القاعدة جريان الحكم في الشيئين

ص: 823


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه - 278:1.

المختلفين في الماهيّة المعلوم بإصابة النجاسة لأحدهما لا بعينه كما نبّهنا عليه سابقا.

و أمّا ما في المدارك من أنّه «يستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الماء و خارجه لم ينجّس الماء بذلك، و لم يمنع من [استعماله]»(1)، آخذا له مؤيّدا لما تقدّم منه من إنكار لزوم الاجتناب عن الجميع فغير واضح الوجه، إذا كان كلّ من المشتبهين ممّا يحوج إلى استعماله المكلّف في مشروط بالطهارة، بحيث لو فرض علم تفصيلي له بمورد النجاسة لكان مخاطبا بالاجتناب عنه خطابا فعليّا كثوب بدنه، و ماء إناءه الّذي يريد استعماله أو شربه، و الأرض الّتي يريد التيمّم بها، أو ماء يريد شربه، و أرض يريد التيمّم بها(2) و ما أشبه ذلك.

و ليس في كلام الأصحاب و لا في أخبار الأئمّة الأطياب عليهم صلوات اللّه ربّ الأرباب ما يقضي بما ادّعاه تصريحا و لا تلويحا.

نعم، في رواية عليّ بن جعفر المتقدّمة في مواضع متكثّرة من الأبواب المتقدّمة ما ربّما يوهم ذلك حيث يقول: «عن رجل رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا، فأصاب إناءه، هل يصلح الوضوء منه؟ قال: إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئا بيّنا فلا تتوضّأ منه»(3).

و قد تقدّم منّا ما يدفع ذلك، فإنّ الرواية صريحة في إصابة الإناء و لا مدخل له بصورة الاشتباه، و السؤال واقع عن صلاحية إصابة الإناء أمارة على إصابة الماء أيضا ليوجب الامتناع عنه في الوضوء، فالمورد ليس إلاّ من باب الشكّ الصرف في إصابة الماء، و هذا من مجاري أصالة الطهارة، و لذا أناط الإمام عليه السّلام الامتناع عنه باستبانة الدم في الماء.

و يمكن تنزيل كلامه إلى ما لا يستلزم توجّه التكليف الفعلي بالاجتناب على تقدير العلم التفصيلي بموقع النجاسة، بحمل «الخارج» الّذي هو أحد طرفي الشبهة على ما لا يقع موضع ابتلاء للمكلّف، بحيث لو فرض توجّه التكليف إليه لعدّ عبثا، لكنّه يخرج حينئذ عن كونه مؤيّدا لمطلوبه.

و بالجملة هاهنا صورتان، إحداهما: ما لو كان كلّ من أطراف المشتبه من مواضع ابتلاء

ص: 824


1- مدارك الأحكام 108:1.
2- كذا في الأصل.
3- الوسائل 150:1 ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 1 - التهذيب 1299/412:1 - الكافي 16/74:3.

المكلّف، على وجه صحّ توجّه التكليف إليه فعلا على تقدير عدم الاشتباه، مع كون التكليف الفعلي مسبّبا عمّا حصل الاشتباه في مورده.

و اخراهما: ما لم يكن بعض الأطراف من مواضع ابتلاء المكلّف، أو كان لكن كان الحكم بالاجتناب عن بعض معيّن ثابتا على كلا تقديري إصابة هذه النجاسة المردّدة و عدمها، كما لو أصاب قطرة بول أو دم و تردّد بين إصابته الماء أو الثوب، و إصابته الأرض النجسة أو العذرة الموجودة فيها أو البالوعة و نحوها.

و لا ريب أنّ محلّ الكلام و مورد حكم العقل هو الصورة الثانية، إذ مع الابتلاء تنجّز التكليف الفعلي و يقوم العلم الإجمالي بتحقّق سببه مقام العلم التفصيلي حسبما ذكرنا.

و أمّا الصورة الثانية فالارتكاب فيها لمحلّ الابتلاء من أطراف الشبهة جائز قطعا، و العلم الإجمالي بتحقّق النجاسة المردّدة بينه و بين غير محلّ الابتلاء لا يؤثّر في تنجّز التكليف أصلا، فأصالة الطهارة فيه سليمة عن المعارض قطعا.

و منه ما لو وقع النجاسة على ما يتردّد بين ثوبه و ثوب شخص آخر الّذي لا يمسّ له الابتلاء بذلك، و منه ما لو تردّدت النجاسة الواقعة بين وقوعها في إنائه الّذي يريد التطهّر به أو استعماله في أكل أو شرب أو في الماء الكثير أو الجاري الموجود عنده، فإنّ أمثال هذه الفروض من باب الشكّ الصرف في التكليف، بالقياس إلى ما لو علم بتحقّق السبب فيه تفصيلا لكان مكلّفا بالاجتناب عنه فعلا.

ثمّ إنّ هاهنا فروعا ينبغي التعرّض لبيانها لما فيها من عموم النفع.
أحدها: إذا اتّفق ملاقاة طاهر للمشتبه، فهناك صور.

الاولى: ما يتولّد معه العلم التفصيلي بالنجاسة، كما لو اتّفق ملاقاته لكلا طرفي الشبهة.

الثانية: ما يتولّد معه العلم الإجمالي، كما لو اتّفق ملاقاة طاهر لأحد طرفي الشبهة و آخر لطرفها الآخر.

الثالثة: ما يتولّد معه مجرّد الاحتمال.

و لا إشكال في الصورة الاولى لدخول المفروض في النجس المعلوم بالتفصيل، و لا في الصورة الثانية لدخول المفروضين في الشبهة المحصورة فيلحقهما حكمها، و أمّا

ص: 825

الصورة الثالثة ففيها إشكال نشأ من جهة خلاف بين الأصحاب، فقيل: بأنّه لا يلحقه حكم المشتبه و لا يجب اجتنابه، صرّح به في المدارك(1)، و حكى القطع به عن المحقّق الشيخ عليّ في حاشية الشرائع(2)، و الميل إليه عن جدّه قدّس سرّه في روض الجنان(3)، لأنّ احتمال ملاقاة النجس لا يرفع الطهارة المتيقّنة، و قد روى زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا»(4) و لأنّه لم يعلم ملاقاته لنجس، و إنّما علم ملاقاته لما يجب الاجتناب عنه مقدّمة، فهو باق على أصالة الطهارة، و لا يجري فيه دليل وجوب الاجتناب عن النجاسة الواقعيّة بعد حكم الشارع بأنّه طاهر غير نجس.

و قيل: بأنّه يلحقه حكم المشتبه الّذي منه وجوب غسله، صرّح به العلاّمة في المنتهى قائلا: «بأنّه لو استعمل أحدهما و صلّى به، لم تصحّ صلاته و وجب غسل ما أصابه المشتبه بماء متيقّن الطهارة كالنجس»(5).

ثمّ حكى عن الحنابلة وجها بعدم وجوب غسله، لأنّ المحلّ طاهر بيقين، فلا يزول بشكّ النجاسة.

فأجاب عنه: «بأنّه لا فرق هنا بين يقين النجاسة و شكّها في المنع بخلاف غيره»(6).

و اجيب عنه: «بأنّ اليقين بالنجاسة موجب لليقين بنجاسة ما أصابه، و أمّا الشكّ فيها فلا يوجب اليقين بنجاسة ما أصابه، فيبقى على أصالة الطهارة، و عدم الفرق بين اليقين و الشكّ هنا شرعا إنّما هو في وجوب الاجتناب لا في تنجيس الملاقي»(7).

و الوجه في ذلك: أنّ الساري من حكم النجس الواقعي إلى كلّ من المشتبهين إنّما هو الحكم التكليفي أعني وجوب الاجتناب، لأنّ الاجتناب عن كلّ واحد مقدّمة علميّة للواجب، و أمّا الحكم الوضعي و هي نفس النجاسة فلا يعقل سرايتها إليهما، بل هي قائمة بما هو نجس واقعا. و يظهر من صاحب الحدائق موافقة العلاّمة، حيث يقول: «بأنّ مقتضى القاعدة المستفادة من استقراء الأخبار الواردة في أفراد الشبهة المحصورة أنّ

ص: 826


1- مدارك الأحكام 108:1.
2- لم نجده في حاشية الشرائع.
3- روض الجنان: 156.
4- الوسائل 477:3 ب 41 من أبواب النجاسات ح 1 - التهذيب 1335/421:1.
5- منتهى المطلب 178:1-179.
6- منتهى المطلب 178:1-179.
7- كتاب الطهارة - للشيخ الانصاري رحمه اللّه - 283:1.

الشارع أعطى المشتبه بالنجس و الحرام حكمهما، أ لا ترى أنّ ملاقاة النجاسة بعض أجزاء الثوب مع الاشتباه بباقي أجزاءه موجب لغسله كملا»(1).

و ردّ: بمنع عموم هذه الدعوى إن أريد بها جميع الأحكام، و عدم جدواه إن اريد في الجملة.

و بمثل ذلك اعترض صاحب المعالم على ما ذكر في الاحتجاج على مذهب العلاّمة، من أنّ المفروض كون الاشتباه موجبا للإلحاق بالنجس في الأحكام، فملاقيه إمّا نجس أو مشتبه بالنجس، و كلاهما موجب للاجتناب، قائلا: «و فساده ظاهر، فإنّ إيجاب الاشتباه للإلحاق بالنجس إن كان في جميع الأحكام فهو عين المتنازع؛ و إن كان في الجملة فغير مجد، و كون مطلق الاشتباه موجبا للاجتناب في حيّز المنع، و إنّما الموجب لذلك على ما هو المفروض اشتباه خاصّ» انتهى(2).

و تحقيق المقام: أنّه لا يمكن مقايسة ملاقي المشتبه كائنا ما كان على نفس المشتبه في شيء من أحكامه حتّى الحكم التكليفي المعبّر عنه هنا بوجوب الاجتناب، لأنّ أصالة الطهارة أصل قرّره الشارع - حسبما تقدّم بيانه مفصّلا - لإحراز الطهارة في كلّ ماء - بل كلّ شيء - مشكوك في نجاسته، باعتبار الشكّ في عروض وصف النجاسة بتحقّق سببه و عدمه، و لا ريب أنّ المقام من مجاريه، السليمة عمّا يمنع جريانه، و معناه القاعدة المقتضية لإجراء جميع أحكام الطهارة و آثارها، و عدم الاعتناء باحتمال طروّ النجاسة - و لو ظنّا - ما لم يستند إلى دليل شرعي.

و قضيّة ذلك كونه في مجاريه علما شرعيّا بالطهارة في ترتيب أحكامها، كالدخول في الصلاة و غيرها من مشروط بالطهارة، متلبّسا بمورده باستعمال و غيره من أنواع الملاقاة، و تناوله أكلا أو شربا أو نحو ذلك من أنواع التصرّفات المنوط جوازها بالطهارة، فلا يعارضه أصل الشغل الجاري في الصلاة و نظائرها، و لا استصحاب الأمر المقتضيين للعلم بالبراءة المتوقّف على ترك مباشرة المورد، لأنّ العلم المأخوذ في مقتضاهما بملاحظة الأدلّة الشرعيّة القطعيّة، الّتي عمدتها السيرة و الإجماع الضروري و الأخبار المتفرّقة في الأبواب الفقهيّة البالغة فوق حدّ التواتر، معنى أعمّ من الشرعي

ص: 827


1- الحدائق الناضرة 513:1 نقلا بالمعنى.
2- فقه المعالم 581:2.

الّذي هو موجود في المقام.

و لا يجري نظيره في نفس المشتبه لعدم كونه من مجاريه المأخوذ فيها الشك في عروض الوصف، ضرورة أنّ أحد فردي المشتبه متيقّن طهارته و الفرد الآخر متيقّن نجاسته، و لا شكّ في شيء منهما، غاية الأمر حصول الاشتباه بين موردي الطهارة و النجاسة المتيقّنتين، و معه لا يعقل جريان الأصل المعلّق على الشكّ في عروض الوصف، و لا ينفع في ذلك فرض الكلام في أحدهما المعيّن الّذي هو مشكوك في طهارته و نجاسته، لأنّ هذا الشكّ شكّ في تعيين ما عرض له الوصف لا أنّه شكّ في عروض الوصف، و مثله لم يعلم كونه مشمولا لأدلّة الأصل إن لم ندّع العلم بالعدم.

و لو سلّم عموم الأدلّة، فهذا الأصل كما يمكن فرض جريانه في هذا المعيّن فكذلك يمكن جريانه في المعيّن الآخر، و إعماله فيه دون صاحبه ترجيح بلا مرجّح، و إعمالهما معا طرح لأدلّة النجس الواقعي المحرز لأحكامه جميعا فيما هو النجس الواقعي من الفردين، و اعتبار التخيير بينهما ممّا لم يقم عليه دليل من العقل و لا النقل، فيبقى حكم العقل بلزوم اجتناب الجميع مقدّمة للعلم بالامتثال سليما عمّا يرفعه.

و لا يمكن استفادة التخيير من نفس أدلّة الأصل، كما هو في سائر موارد التخيير المعلّق على الاضطرار، و لذا كان التخيير الثابت فيها راجعا إلى حكم العقل الّذي هو هنا بعد حكمه بلزوم تحصيل المقدّمة العلميّة غير معقول.

و ممّا ذكر جميعا يندفع ما توهّم في المقام من أنّ الموجب لسقوط أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى - بالفتح - و هي معارضتها بأصالة طهارة المشتبه الآخر موجود بعينه في الثالث الملاقي - بالكسر -، فيسقط أصالة طهارته أيضا، فيجب الاجتناب عنه مقدّمة للواجب الواقعي.

هذا مع أنّ المعارضة بين الأصلين بالنسبة إلى المقام إنّما تتأتّى فيما كان الأخذ بأحد الأصلين منافيا للعلم بحصول امتثال الأمر بالاجتناب عن النجس الواقعي، كما في الأصل الجاري في كلّ من المشتبهين، و لا ريب أنّ ما يجري في الملاقي بالكسر ليس بهذه المثابة، لعدم دخول مورده في أطراف العلم الإجمالي المحرز للتكليف الفعلي.

فإن قلت: مقتضى الخطاب بالاجتناب عن النجس الواقعي وجوب ترتيب جميع

ص: 828

آثار النجس على المشتبه، الّتي منها الاجتناب عن ملاقيه، كما أنّ منها الامتناع عن تناوله أكلا و شربا، و لا يعلم امتثال هذا الخطاب إلاّ بالامتناع عن ملاقي المشتبه أيضا، فيكون ذلك أيضا مقدّمة علميّة للامتثال.

قلت: آثار النجس الواقعي على قسمين:

أحدهما: ما ليس له في ترتّبه موضوع سوى نفس النجس المعلوم وجوده هنا فيما بين المشتبهين، كحرمة تناوله أكلا و شربا، و عدم إجزاء استعماله في مشروط بالطهارة.

و ثانيهما: ما له في ترتّبه موضوع أثبته الشارع، لا يترتّب ذلك الحكم إلاّ بعد كون ذلك الموضوع محرزا، كوجوب الاجتناب عن ملاقي النجس، فإنّه حكم تابع لموضوعه و هو الملاقاة، و هو في المقام غير محرز، لعدم تبيّن كون الملاقى - بالفتح - هو النجس الواقعي، و مجرّد الاحتمال غير كاف في ذلك، فحينئذ لم يعلم كون الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - المفروض هنا من آثار النجس المشتبه، كما علم ذلك في الملاقي لكلا المشتبهين.

و بجميع ما ذكر ينقدح أنّه لو فقد المشتبه الملاقي لم يكن المشتبه الآخر مع الملاقى من باب الشبهة المحصورة كما قد يتوهّم.

نعم، لو اتّفق اشتباه الملاقى بالمشتبه الملاقي أو صاحبه استقرّت الشبهة بين الجميع، لدخول الملاقى في دائرة العلم الإجمالي.

و ثانيها: لو انصبّ أحد الإنائين بعد ملاقاة النجاسة و قبل العلم بها،

فإذا علم بها حصل الاشتباه في محلّ الملاقاة هل هو الإناء المنصبّ أو الباقي؟ لم يجب الاجتناب عن الباقي لا أصالة و لا مقدّمة.

أمّا الأوّل: فلعدم تبيّن كون الملاقاة بالنسبة إليه.

و أمّا الثاني: فلعدم تنجّز التكليف بذي المقدّمة، أمّا قبل الانصباب فلعدم العلم بتحقّق السبب، و أمّا بعده فلعدم العلم ببقاء الموضوع.

و من هذا الباب ما لو انصبّ أحد الإنائين بعد الاشتباه الطاري لمحلّ الملاقاة المعلومة، ضرورة أنّ ارتفاع موضوع الحكم من مسقطاته، و بقاؤه مع هذا الفرض غير معلوم، و معه لا يعلم ببقاء التكليف. و لا يمكن إبقاء الموضوع بحكم الاستصحاب، لأنّ

ص: 829

الانصباب قد حدث بيقين و الشكّ في المنصبّ، و لا يعقل تعيينه بالأصل، و لا يمكن أيضا استصحاب وجوب الاجتناب كما توهّم، إذ لو اريد به الوجوب الأصلي المعلّق على النجس الواقعي فبقاء موضوعه غير محرز، و لو اريد الوجوب المقدّمي فهو - مع أنّه تابع لوجوب ذي المقدّمة و وجوده - حكم قد ثبت من العقل الّذي هو موجود مع الفرض، فينبغي المراجعة إليه نفسه لا استصحاب حكمه، و لا نجده بعد المراجعة إلاّ ساكتا، كيف و حكمه كان مبنيّا على عدم اقتناعه باحتمال الامتثال في موضع تيقّن الاشتغال، و هو في الفرض غير متيقّن.

فما يقال هنا: من أنّه يجب الامتناع عن الآخر الباقي لبقاء حكم العقل الثابت قبل الانصباب، و لا معنى لارتفاعه بتعذّر الامتناع عن المنصبّ، شيء لا نعقله، فحينئذ لو اشتبه طاهر آخر بذلك المشتبه الباقي لا يوجب اندراجهما في عنوان الشبهة، فما في منتهى العلاّمة من أنّه «لو كان أحدهما متيقّن الطهارة و الآخر مشكوك النجاسة، كما لو انقلب أحد المشتبهين ثمّ اشتبه الباقي بمتيقّن الطهارة، [و كذا لو اشتبه الباقي بمتيقّن النجاسة] وجب الاجتناب»(1) ليس بسديد.

نعم، قوله: «و كذا لو اشتبه الباقي بمتيقّن النجاسة وجب الاجتناب» سديد.

هذا كلّه إذا كان النظر إلى إثبات الحكم من جهة القاعدة، و أمّا بناء على الاقتصار على النصّ فيمكن استفادة الإلحاق منه في مورده بناء على عدم التعدّي عنه إلى غيره، نظرا إلى أنّه لو كان انصباب أحدهما وسيلة إلى رفع التكليف بالاجتناب المسوّغ لاستعمال الباقي في طهارة و غيرها لكان على المعصوم عليه السّلام الإرشاد إليه بالأمر باهراق أحد الإنائين دون الجميع، فالأحوط إذن الاجتناب عن الباقي و طاهر مشتبه به أيضا، و لا يترك هذا الاحتياط البتّة.

و ثالثها: إذا تمكّن المكلّف عن ماء آخر غير المشتبهين لصلاته حدثا أو خبثا تعيّن بلا إشكال و لا خلاف،

و لا يسوغ معه العدول عن المائيّة إلى التيمّم، و إذا لم يتمكّن عن ماء آخر فإن لم يمكن له الصلاة بالطهارة المتيقّنة عن الحدث فالظاهر أنّه لا إشكال أيضا عندهم في تعيّن العدول إلى التيمّم، و إن أمكن له الصلاة بالطهارة المتيقّنة كما لو

ص: 830


1- منتهى المطلب 178:1.

تطهّر بأحدهما و صلّى، ثمّ تطهّر بالآخر و صلّى بعد ما غسل من أعضائه ما لاقاه الأوّل، فالمصرّح به في كلام جمع المنع عنه أيضا، بل في الحدائق: «الظاهر أنّه لا خلاف في الحكم المذكور»(1)، و المنقول عن المعتبر في تعليله: «أنّه ماء محكوم بالمنع منه، فيجري استعماله مجرى النجس»(2)، و عن بعضهم: «أنّه يصدق عليه بعد الطهارة الاولى أنّه متيقّن الحدث شاكّ في الطهارة، و من هذا [شأنه] لا يسوغ له الدخول في الصلاة نصّا و إجماعا، و الوضوء الثاني يجوز أن يكون بالنجس، فيكون قد صلّى بنجاسة»(3).

و علّله في المدارك: «بأنّ هذين الماءين قد صارا محكوما بنجاستهما شرعا، و استعمال النجس في الطهارة ممّا لا يمكن التقرّب به، لأنّه بدعة»، ثمّ قال: «و فيه ما فيه»(4) و لعلّه لمنع المقدّمة الاولى، حيث إنّ هذين الماءين إنّما حكم بالاجتناب عنهما لا بنجاستهما معا، و لا ملازمة بين وجوب الاجتناب عن شيء و نجاسته، و المانع عن قصد التقرّب إنّما هو النجاسة المتيقّنة، و هي مع الصلاة بكلّ واحد بعد استعماله منفردا ثمّ غسل ما لاقاه الأوّل غير حاصلة، و مقارنة رجاء إدراك الصلاة مع الطهارة الحدثيّة رافعة لعنوان البدعة، و احتمال فوات الطهارة الخبثيّة عند كلّ صلاة لا يعارض اليقين بوقوع إحداهما مع الطهارة لا محالة.

نعم، إنّما يترتّب الأثر على هذا الاحتمال فيما لم يتخلّل صلاة بين الوضوءين، بأن توضّأ بأحدهما ثمّ توضّأ بالآخر بعد ما غسل به العضو الملاقي للأوّل ثمّ صلّى، فإنّ الغسل و إن كان يمنع عن يقين وجود النجاسة في العضو حين الوضوء الثاني و الصلاة به، غير أنّه يوجب اليقين بطروّ النجاسة للعضو المردّد بين كونه بالوضوء الأوّل أو غيره لا محالة، مع عدم اليقين بزوالها بمجرّد ذلك الغسل لجواز كونه باعثا على طروّها، و لا ريب أنّ المقام حينئذ من مواضع الاستصحاب، و النجاسة المستصحبة كالنجاسة المتيقّنة في اقتضاء المنع، و ليس كذلك الحال في الفرض المتقدّم لاستلزامه وقوع إحدى الصلاتين بالطهارة المتيقّنة.

ص: 831


1- الحدائق الناضرة 517:1، و فيه: «الّذي صرّح به جمع من الأصحاب المنع و هو الظاهر».
2- المعتبر: 26.
3- حكاه عنه في الحدائق الناضرة 517:1.
4- مدارك الأحكام 109:1.

نعم، قضيّة ما نبّهنا عليه من تقرير الاستصحاب تحقّق المنع في هذا الفرض أيضا عن الصلاة الثانية و لو بمعونة أصالة تأخّر الحادث، بملاحظة أنّ استعمال الماء الثاني في غسل العضو و الوضوء بعده مع استلزامه حصول اليقين بطروّ النجاسة للعضو لا محالة مردّد بين كونه مقتضيا لطروّها أو رافعا للطاري، فلا يمكن الحكم عليه بأحد العنوانين معيّنا، لكن أصالة تأخّر الحادث يقتضي مقارنة طروّها له، و لا يمكن الاستناد إلى أصل الطهارة بالقياس إلى العضو لانقطاعه باليقين المذكور، فالإقدام على الصلاة ثانيا حينئذ إلقاء للنجاسة المستصحبة و نقض لليقين بها بمجرّد الشكّ، فهذه الصلاة محكوم بفسادها جدّا، و إن لم نقل بحرمة فعلها من جهة تحقّق عنوان البدعة فيها، أو حرمة مخالفة الاستصحاب، أو حرمة الصلاة بالنجاسة - و لو مستصحبة - حرمة ذاتيّة.

و من هنا لا يبعد طرد نظير هذا الكلام إلى الصلاة الاولى أيضا، بملاحظة أنّه حين الإقدام عليها شاكّ في شرط الصحّة من طهارة حدثيّة و خبثيّة معا، و معلوم أنّ الشكّ في الشرط يستلزم الشكّ في المشروط، و الشكّ في الصحّة كاف في الحكم بالفساد، إذ لا بدّ في الإقدام عليها على وجه الصحّة من كون شروط الصحّة محرزة و لا محرز لهذين الشرطين.

و لو سلّم أنّ الطهارة الخبثيّة ممّا يحرز بالأصل فلا يتمّ ذلك في الطهارة الحدثيّة، بل الأصل بالنسبة إليها يقتضي الخلاف كما لا يخفى، فالمانع عن الإقدام على هذه الصلاة هو استصحاب الحدث، كما أنّ المانع عن الصلاة الثانية هو استصحاب الخبث.

و مع قيام هذين المانعين فكيف يكتفي بهاتين الصلاتين في إحراز الصحّة و امتثال الأمر بالصلاة، و لعلّه إلى ما قرّرناه ينظر الثاني من الوجوه المتقدّمة في سند المنع، فتبيّن أنّه أوجه من الوجهين الآخرين.

فما يقال: من أنّ الأقوى وجوب الجمع بين الوضوءين مع التيمّم على تقدير إمكان غسل العضو الملاقي لأوّل الماءين ثمّ الصلاة عقيب كلّ وضوء غير واضح الوجه، فإنّ الوضوءين لاقتران كلّ منهما بما يقتضي بطلان الصلاة معه يكون وجودهما بمنزلة عدمهما، فهما مع التيمّم كالحجر الموضوع جنب الإنسان.

إلاّ أن يقال: بأنّ المكلّف قبل الإقدام على إيجاد الوضوءين يعلم أنّ أحدهما يقع

ص: 832

بماء طاهر على محلّ طاهر، فيعلم أنّ إحدى الصلاتين تقع جامعة لشرطي الطهارة الحدثيّة و الخبثيّة معا، و إن كان لا يعلم به عند إيجاد كلّ بعينه، فهو من أوّل الأمر قاصد لإيجادهما بداعي إدراك المأمور به الواقعي و هو الصلاة الجامعة للشرطين، كما في الصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة بشرط أن لا يقصد عند إيجاد كلّ كونه بعينه المأمور به الواقعي، و لا كونه بعينه مقدّمة علميّة، بل يأتي بكلّ على أنّه بعض من العدد المندرج فيه المأمور به الواقعي، فالاشتباه لا ينافي قصد التقرّب و النيّة الّتي هي الداعي في الحقيقة، و انضمام التيمّم حينئذ إلى الوضوءين إنّما هو للخروج عن شبهة الحرمة الذاتيّة في التطهّر بالماء النجس الموجبة لسقوط الأمر بالمائيّة، لعدم إمكانها بعد فرض وجوب الاجتناب عن الجميع مقدّمة علميّة للاجتناب الواجب، الثابت وجوبه بالقياس إلى ما هو نجس في الواقع، كما هو الحال بالقياس إلى مقام الاستعمال في الأكل و الشرب، فيكون الوجه في وجوب الجمع حينئذ هو الاحتياط الّذي هو واجب في نظائر المقام.

لكن يشكل ذلك: بأنّ الالتزام بذلك الاحتياط رعاية لتحصيل الطهارة الحدثيّة على وجه اليقين ترك للاحتياط بالقياس إلى رعاية الطهارة الخبثيّة، لما عرفت من أنّ الغسل المتخلّل بين الوضوءين مورث لطروّ النجاسة اليقينيّة، و محرز لموضوع استصحاب تلك النجاسة المتيقّنة إلى أن يقارن الوضوء و الصلاة الثانيين للنجاسة المستصحبة في العضو، و معه لا يعقل كونهما بعضا من العدد المندرج فيه المأمور به الواقعي.

فالأقوى إذن الاكتفاء بصلاة واحدة مع الوضوء بإحدى الماءين مع انضمام التيمّم إليه، هذا كلّه على حسب القواعد مع قطع النظر عن النصّ، و لعلّه عليه يبتني كلام الأصحاب في الاستدلال على المنع من الاستعمال رأسا بالوجوه المتقدّمة و إلاّ فالنصّ المتقدّم ذكره في الإناءين صريح في المنع من الاستعمال مطلقا و الأمر بالتيمّم، فالأخذ بمقتضى النصّ يستدعي تعيّن التيمّم، و كون التكليف في الصلاة معه فقط.

إلاّ أن يقال: بأنّه حكم ثبت في محلّ خاصّ و لا عموم في النصّ ليشمل ساير أفراد الشبهة الحاصلة في الماءين.

و أمّا ما في كلام بعض مشايخنا(1) من احتمال تنزيله على صورة عدم التمكّن من

ص: 833


1- كتاب الطهارة - للشيخ الأنصاري رحمه اللّه 287:1.

إزالة النجاسة المتيقّنة عن بدنه، فإنّ تكرار الصلاة مع كلّ وضوء و إن كان ممكنا، إلاّ أنّه قد لا يمكن إزالة النجاسة للصلاة الآتية و لسائر استعمالاته المتوقّفة على طهارة يده و وجهه، مع كون المقام من مواضع ترك الاستفصال المفيد للعموم في المقال، ليس على ما ينبغي، إذ لم يعلم بقاطع و لا موهن له في المقام.

فتقرّر بجميع ما ذكر: أنّ الأقوى الاقتصار على التيمّم في مورد النصّ خاصّة، و الجمع بينه و بين استعمال أحد الماءين في غيره عملا بالاحتياط.

و رابعها: ما تقدّم من الكلام إنّما هو في استعمال أحد الماءين أو كليهما للطهارة عن الحدث،

و أمّا بالقياس إلى الطهارة عن الخبث ففي جوازه بأحدهما، أو بهما معا، أو عدم جوازه مطلقا وجوه، نسب أوسطهما إلى جماعة منهم العلاّمة الطباطبائي رحمه اللّه القائل في منظومته

«و إن تواردا على رفع الحدث *** لم يرتفع، و ليس هكذا الخبث»(1).

و هذا هو الأقوى عملا بالطهارة المتيقّنة المشكوك في استناد حصولها إلى الغسل بالماء الأوّل أو الغسل بالماء الثاني لكن بعد انضمام أصالة التأخّر، لأنّها أمر حادث يشكّ في بدو زمان حدوثه، فأصل العدم يقتضي حدوثه بالغسل الأوّل، و ليس في المقام أصل يقتضي النجاسة، إذ لو اريد بها النجاسة السابقة على الغسلين فالأصل بالنسبة إليهما منقطع بالقطع بأنّ أحد الغسلين قد أثّر طهارة لا محالة، و لو اريد بها ما يستند طروّها إلى ملاقاة النجس الواقعي من هذين الماءين المقطوع بتحقّقها.

ففيه: أنّ هذه الملاقاة هنا غير معلوم التأثير، لأنّ المنجّس إنّما يفيد تنجيسا إذا ورد محلاّ فارغا عن النجاسة و من الجائز مصادفة الغسل بالماء النجس نجاسة المحلّ، بأن يكون هو أوّل الغسلين، و لا أثر له في إفادة التنجيس، و مصادفته طهارة المحلّ بأن يكون هو ثاني الغسلين، فيكون موجبا لنجاسة المحلّ ثانيا، و قضيّة ذلك كون النجاسة الثانية مشكوكا في حدوثها رأسا، فلا يعقل بالنسبة إليها أصل.

و لو سلّم أنّ المتنجّس قابل للتنجيس ثانيا، فأقلّه معارضة الأصل المقتضي لتأخّر تلك النجاسة للأصل المتقدّم المقتضي لتأخّر الطهارة الحاصلة من الغسل بطاهر

ص: 834


1- الدرّة النجفيّة: 8 و فيها: «و لو تعاقبا على رفع الحدث».

الماءين، فيتساقطان، فيرجع إلى أصالة الطهارة في الأشياء، و لا معارض لها بعد تساقط الأصلين و انقطاع الأصل بالنسبة إلى النجاسة السابقة.

فبجميع ما ذكر يندفع ما يقال - في وجه الاحتمال الثالث ممّا تقدّم - من: أنّ المرجع بعد تساقط الأصلين عموم ما دلّ على وجوب غسل الثوب من النجاسة المردّدة مثلا إذا فرضناها بولا، دلّ قوله عليه السّلام: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»(1) على وجوب الغسل عقيب كلّ بول، و الأمر بالغسل و إن لم يعلم بقاؤه، إلاّ أنّ الاحتياط اللازم عند الشكّ في سقوط الأمر يقتضي وجوب الغسل، فإنّ وجوب الاحتياط يدفعه الأصل المشار إليه، و استحبابه غير مفيد.

نعم، مقتضى الاحتياط و استصحاب النجاسة السابقة لزوم الغسل بكلّ من الماءين و عدم الاقتصار على أحدهما.

فما يقال - في وجه الاحتمال الأوّل ممّا تقدّم -: من أنّ إطلاقات الغسل بالماء يقتضي ذلك، غاية الأمر أنّه خرج منها ما علم نجاسته و بها يدفع استصحاب نجاسة المحلّ، واضح الضعف، فإنّ المنساق من الإطلاقات كون الغسل حاصلا بالماء الطاهر، فالمفروض غير معلوم الاندراج فيها.

و لو سلّم الشمول لكن دليل اشتراط الطهارة في الغاسل المسلّم عند المستدلّ - كما يفصح عنه قوله: «خرج منها ما علم نجاسته» - قيدها بصورة الطهارة، و الشرط غير معلوم الحصول فيحصل به موضوع استصحاب النجاسة في المحلّ، و هو محرز لموضوع تلك الإطلاقات و هو النجاسة، ضرورة أنّ النجاسة الّتي يجب الغسل عنها أعمّ من النجاسة المستصحبة، و مع ذلك فكيف يندفع بها الاستصحاب المذكور.

نعم، يندفع بحصول ما علم كونه رافعا بحسب الشرع و هو غير معلوم الحصول كما عرفت.

ثمّ لو انصبّ أحد الماءين ففي وجوب الغسل بالآخر عند انحصار الماء فيه و عدمه وجهان، من أنّ النجاسة المستصحبة كالنجاسة المتيقّنة في اقتضاء المنع و وجوب الغسل و نحو ذلك من سائر أحكام النجاسة، و الغسل المذكور لا يوجب ارتفاع شيء

ص: 835


1- الوسائل 405:3 ب 8 من أبواب النجاسات، ح 2 و 3 - الكافي 3/57:3 - التهذيب 770/264:1.

من تلك الأحكام، بل غاية ما يوجبه إنّما هو نقل النجاسة المتيقّنة إلى النجاسة المستصحبة، فالأحكام بعد باقية، فلم يترتّب عليه فائدة، فلا وجه لإيجابه.

و من أنّ النجاسة الغير المعلومة أهون في نظر الشارع من معلومتها، فلذا القي أحكام النجاسة الواقعيّة بمجرّد انتفاء العلم بها، و الأوّل اولى للأصل و إن كان أحوط.

و خامسها: اختلفوا في وجوب إراقة الماءين الواردة في النصّ المتقدّم في الإنائين، فعن الشيخين(1) و الصدوقين(2) الوجوب لظاهر الأمر الوارد في النصّ، و عن ابن إدريس(3) و من تأخّر عنه الثاني، و عليه العلاّمة في المختلف(4) و غيره، و عن بعض الأصحاب(5) أنّ علّة الأمر بالإراقة ليصحّ التيمّم، لأنّه مشروط بعدم الماء.

و قد يعدّ ذلك قولا على حدة في مقابلة الأوّل، حملا له على وجوبها تعبّدا و ذلك على وجوبها مقدّمة للتيمّم.

و ردّه غير واحد - كما في المختلف(6)، و عن المعتبر(7)، أيضا -: «بأنّ وجود الماء الممنوع من استعماله لا يمنع التيمّم كما في المغصوب».

و حاصله: أنّ شرط التيمّم عدم التمكّن من استعمال الماء لا مجرّد عدمه، و منع الشارع عن استعمال هذا الماء رافع لتمكّن الاستعمال، فالشرط حاصل، و معه لا حاجة إلى إراقة الماء.

و هذا كما ترى مبنيّ على حرمة الاستعمال ذاتا حتّى في رفع الحدث، و هو محلّ إشكال.

و الأولى في دفع هذا القول أن يقال: إنّ التيمّم مع وجود هذا الماء إمّا أن يكون سائغا أو لا، فعلى الأوّل لا مقتضي للإراقة، و على الثاني يتعيّن المائيّة بذلك الماء، و ذلك يكشف عن عدم المنع من استعماله في الطهارة، ضرورة امتناع التكليف بالمتناقضين كامتناع عدم ثبوت التكليف بشيء من البدلين.

و بذلك يظهر ضعف ما ذكر في توجيه الأمر الوارد في النصّ، نعم إنّما يتّجه ذلك

ص: 836


1- و هما الشيخ الطوسي كما في النهاية 207:1 و الشيخ المفيد في المقنعة: 69.
2- المقنع: 28 - الفقيه 7:1.
3- السرائر 85:1.
4- مختلف الشيعة 249:1 و 250.
5- حكاه عنه في المعتبر: 26.
6- مختلف الشيعة 249:1 و 250.
7- المعتبر: 26.

فيمن يشكّ في حصول شرط التيمّم و الحال هذه، فيلتزم بإراقة الماء إحرازا للشرط المشكوك فيه، و هو مستحيل على المعصوم عليه السّلام.

فالأقوى إذن عدم وجوب الإراقة للأصل، و لا ينافيه الأمر الوارد لظهور كونه كناية عن النجاسة و المبالغة فيها، كما في كثير من الأخبار بالقياس إلى غير المقام، المتقدّمة في بحث انفعال القليل، و إطلاق مثل هذا اللفظ في موضوع إرادة المبالغة في عدم ترتّب الفائدة المطلوبة من الشيء شايع في العرف و العادة.

و يؤيّده: أنّه لو كان مكان الماءين عين النجس لم يجب إراقته بالضرورة.

المقام الثاني: في الماء المشتبه بالمغصوب،

و الكلام فيه أيضا كسابقه في وجوب الاجتناب عن الجميع، و عدم جواز ارتكاب شيء كلاّ و لا بعضا، و الدليل عليه أيضا ما تقدّم على جهة التفصيل، و ما عن بعض أفاضل متأخّري المتأخرين من استشكاله في ذلك استنادا إلى قوله عليه السّلام: «كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه»(1)، ليس بشيء.

و المعروف عن علماء الاصول في تلك المسألة و نظائرها الّتي منها المسألة المتقدّمة المندرج جميعها في عنوان «الشبهة المحصورة» أقوال، قد استقصينا الكلام في جرحها و تعديلها في المسألة الاصوليّة، فلو ارتكب كليهما أو أحدهما فعل حراما، لكن لو توضّأ أو اغتسل بهما ففي صحّته أقوال.

أحدها: الصحّة، لأنّ أحدهما ماء مباح، و لا شكّ أنّه قد وقع الطهارة، فيستلزم أن تكون صحيحة، و كون كلّ منهما حراما منهيّا عنه لا يوجب الفساد، بعد منع دلالة النهي على فساد العبادة، حكى التصريح به عن بعض محقّقي متأخّري المتأخّرين.

و ثانيها: عدم الصحّة، صرّح به غير واحد من متأخّري أصحابنا، و قوّاه العلاّمة في المنتهى(2) تعلّقا بنهي العبادة المقتضي للفساد، و يقين الاشتغال المقتضي ليقين البراءة الغير الحاصل هنا، لعدم حصول الجزم بالتقرّب، بل التقرّب بما يحتمل كونه حراما احتمالا مساويا ربّما يعدّ قبيحا، بل هو الظاهر، فلا يقع الامتثال.

و ثالثها: الفرق بين صورتي انحصار الماء فيهما فلا يصحّ، و عدمه فيصحّ، لأنّ

ص: 837


1- التهذيب 337/79:9.
2- منتهى المطلب 179:1.

الانحصار يوجب ارتفاع الأمر بالمائيّة و عدم تعلّقه رأسا، لامتناع الأمر باستعمال ما نهي عن استعماله، بخلاف صورة عدم الانحصار فإنّ الأمر بالمائيّة متوجّه جزما، و مباح الماء موجود بين المشتبهين، فالمكلّف قبل اشتغاله باستعمال هذا و ذاك قاصد باستعمالهما لإدراك الطهارة بالمباح الموجود فرضا، و بذلك يتحقّق قصد التقرّب و إن لم يستتبع حصوله بفعله المنهيّ عنه و لو مقدّمة، فإنّ شرط الصحّة قصد التقرّب لا حصوله، بل الشرط في الحقيقة قصد الامتثال الموجب للتقرّب، فالتعبير عنه به تعبير باللازم.

فلو سلّم حينئذ أنّه مع تفطّنه بأنّه يفعل المحرّم جازم بعدم حصول التقرّب، و معه يستحيل منه القصد، نقول: إنّ استحالة قصد التقرّب لا تستلزم استحالة قصد الامتثال.

و فيه: منع إمكان حصول قصد الامتثال، بل عدم إمكان قصد التقرّب لعدم إمكان قصد الامتثال، ضرورة أنّ الامتثال بمعنى موافقة الأمر فرع الأمر، و إيجاد الطهارة بهذين الماءين بعد فرض كونه محرّما فكيف يعقل كونه موردا للأمر، و المفروض أنّه ليس إلاّ أمرا واحدا، و الأمر الواحد لا يصلح موردا للأمر و النهي، و كونه موردا لأحدهما دون الآخر خلاف الفرض أو مثبت للمطلوب من انتفاء الأمر، فلا جرم يتقيّد المأمور به بغير هذين الماءين و إن كان بينه و بين استعمالهما المنهيّ عنه عموم من وجه، لضابطة ما تقرّر في الاصول من امتناع اجتماع الأمر و النهي و إن كان أحدهما مقدّميّا الموجب للتصرّف في الأمر، و مجرّد كون أحد الماءين مباحا ذاتيّا مع فرض الحرمة العرضيّة المانعة عن تعلق الأمر غير مجد كما لا يخفى، فالأقوى إذن عدم الصحّة.

نعم، لو استعملهما أو استعمل أحدهما في رفع الخبث كان مجزيا، لا لحصول الامتثال، بل لسقوط الأمر بحصول الغرض في الخارج.

و المقام الثالث: في الماء المشتبه بالمضاف،

المصرّح به في كلام الأصحاب وجوب التطهير بكلّ منهما، و هو كذلك لوجود الماء جزما و التمكّن قطعا، فيثبت الأمر بالمائيّة لوجود المقتضي و فقد المانع، و لا يحصل يقين الامتثال إلاّ بالجمع، فيجب تحقيقا لمقتضى يقين الاشتغال.

و المناقشة فيه: بأنّه لا بدّ من الجزم كما في النيّة، و لا جزم هنا عند شيء من الطهارتين، قد عرفت ما فيها من أنّ الجزم هنا حاصل قبل التشاغل، فإنّه جازم بأنّ

ص: 838

أحد المشتبهين ماء و هو باستعمالهما معا يدرك استعمال الماء المأمور به، فينوي من حينه امتثال الأمر و أداء المأمور به، فيأتي بهذا و ذاك بداعي هذه النيّة، مع مقارنتها من حينها لنيّة كون الجمع بينهما مقدّمة للعلم، من غير أن ينوي في كلّ بخصوصه عنوان المقدّميّة، و لا عنوان كونه مأمورا به على جهة الاستقلال، غاية الأمر أنّه ينوي عند إيجاد كلّ إيجاد الوضوء أو الغسل بشرائطهما و آدابهما المقرّرة في الشريعة.

و أمّا ما يقال في دفعها: من منع اشتراط مثل هذا الجزم في النيّة، و لو سلّم فهو في صورة تيسّر الجزم أو الظنّ، و أمّا مع عدم التيسّر فلا، فإن اريد به منع اعتبار الجزم في الخصوصيّتين بدعوى: كفاية الجزم الإجمالي في تيسّر نيّة التقرّب فهو راجع إلى ما ذكرناه، و إن اريد به منع اعتبار الجزم رأسا فهو واضح الضعف، كيف و هو - عند التحقيق - راجع إلى إنكار اعتبار نيّة التقرّب في صحة العبادة، ضرورة أنّها غير ممكن الحصول مع عدم الجزم و لا الظنّ المعتبر بوجود المأمور به مع المأتيّ به لا تفصيلا و لا إجمالا.

و ما يقال: من أنّ احتمال المطلوبيّة و لو مرجوحا يكفي في تأتّي قصد التقرّب، فإنّما يسلّم إذا جامع هذا الاحتمال للجزم الإجمالى بوجود المأمور به الواقعي مع المأتيّ به، بأن يكون الاحتمال بالقياس إلى الخصوصيّة و الجزم في الأمر المردّد بينها و بين خصوصيّة اخرى، كما في اشتباه القبلة و نحوها، و لا يوجب ذلك الترديد في النيّة، لأنّه إنّما يلزم إذا كان التردّد بين أن يفعل و أن لا يفعل، لا إذا تردّد المأمور به اليقيني بين هذا و ذاك.

ثمّ إنّ هذا الحكم عند عدم التمكّن عن ماء آخر غير مشتبه واضح، و أمّا مع التمكّن عنه فالمحكيّ عن ثاني الشهيدين في شرحه للإرشاد(1) عدم الصحّة، للقدرة على الجزم التامّ في النيّة فلا تصحّ بدونه، و مرجعه إلى عدم الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكّن عن الامتثال التفصيلي، و لا يخلو عن قوّة كما تقدّم الإشارة إليه في مباحث النزح.

و هاهنا مسألة اخرى و هي: أنّه لو انقلب أحد المشتبهين بحيث تعذّر استعماله، فالمنقول في المدارك عن الأصحاب «أنّهم قطعوا على وجوب الوضوء بالباقي مع التيمّم، مقدّما للأوّل على الثاني»(2) انتهى.

ص: 839


1- روض الجنان: 156.
2- مدارك الأحكام 109:1 مع اختلاف يسير.

و نقل القطع عن الأصحاب كما ترى لا تقصر عن نقل إجماعهم على المسألة، غير أنّه على كلّ تقدير يشكل التوفيق بينه و بين المحكيّ عن جدّه في روض الجنان(1) من الاستناد لأصل الحكم إلى القواعد العمليّة من أصل الشغل و الاستصحاب، القاضي بعدم كونه بالخصوص مأخوذا من المعصوم، و نظير هذه القواعد ممّا لا سبيل له إلى إعطاء القطع إلاّ أن يفرض بالقياس إلى الحكم الفعلي الظاهري.

و كيف كان فالعبارة المنقولة عن روض الجنان ما هذه صورته: «و لو فرض انقلاب أحدهما قبل الطهارة وجب الطهارة بالآخر ثمّ التيمّم، لما تقدّم من أنّ الجمع مقدّمة الواجب المطلق، و لأنّ الحكم بوجوب الاستعمال تابع لوجود المطلق، و قد كان وجوده مقطوعا به فيستصحب إلى أن يثبت العدم، و يحتمل ضعيفا عدم الوجوب فيتيمّم خاصّة، لأنّ التكليف بالطهارة مع تحقّق وجود المطلق و هو منتف، و لأصالة البراءة من وجوب الطهارتين.

و جوابهما: يعلم ممّا ذكرناه، فإنّ الاستصحاب كاف في الحكم بوجود المطلق، و أصالة البراءة منتفية بوجوب تحصيل مقدّمة الواجب المطلق و هي لا تتمّ إلاّ بفعلهما معا.

فإن قيل: ما ذكرتم من الدليل يقتضي عدم وجوب التيمّم، فإنّ استصحاب وجود المطلق - إن تمّ - لا يتمّ معه وجوب التيمّم، إذ هو مع الاشتباه لا مع تحقّق الوجود.

قلنا: الاستصحاب المدّعى إنّما هو استصحاب وجوب الطهارة بناء على أصالة عدم فقد المطلق، و ذلك لا يرفع أصل الاشتباه، لأنّ الاستصحاب لا يفيد ما في نفس الأمر، فالجمع بين الطهارتين يحصّل اليقين»(2) انتهى.

و كأنّ مراده بالواجب المطلق الّذي يجعل الجمع مقدّمة له يقين البراءة الّذي يستدعيه يقين الشغل بالصلاة مع الطهارة المردّدة بين المائيّة و الترابيّة، الواجب بحكم العقل، المتوقّف على الجمع بين الطهارتين، و عليه فهذا هو الوجه الّذي لا محيص عنه، فيكون القول بوجوب الجمع - كما نقل القطع به عن الأصحاب - ممّا لا بدّ من المصير إليه.

و أمّا التمسّك باستصحاب وجود المطلق ففي غاية الوهن، ضرورة أنّه لا يجدي إلاّ مع الحكم من جهته بكون هذا الموجود هو الماء المطلق، و هو محال بعد ملاحظة أنّ

ص: 840


1- روض الجنان: 156.
2- روض الجنان: 156.

استصحاب وجود المضاف أيضا يقتضي الحكم عليه بكونه مضافا، و مع الغضّ عن ذلك فوجود الماء - على ما تقرّر في الشريعة - مع إمكان استعماله مانع عن [الترابيّة](1)و رافع للتكليف بها، و معه فلا مقتضي للجمع.

و الاعتذار له: «بأنّ المدّعى هنا استصحاب وجوب الطهارة بناء على أصالة عدم فقد المطلق، و ذلك لا يرفع أصل الاشتباه، لأنّ الاستصحاب لا يفيد ما في نفس الأمر»، غير نافع في دفع الإشكال، بعد ملاحظة أنّ وجوب الطهارة المائيّة - و لو ثبت بنحو الاستصحاب - لا يجامع التكليف بالترابيّة، و لا يعتبر في وجود المطلق كونه معلوما بالعلم الحقيقي، بعد ملاحظة كون الاستصحاب - على فرض جريانه و استكماله شرائط الحجّيّة - علما شرعيّا قائما مقام العلم الحقيقي، و لا يعتبر فيه إفادة نفس الأمر و إلاّ انسدّ باب التعويل عليه، و خرج عن كونه أصلا تعبّديّا غير ناظر إلى ما في الواقع و نفس الأمر.

و أمّا ما عن بعض الأصحاب - كما في المدارك -: «من أنّ الماء الّذي يجب استعماله في الطهارة إن كان هو ما علم كونه ماء مطلقا فالمتّجه الاجتزاء بالتيمّم و عدم وجوب الوضوء به كما هو الظاهر، و إن كان [هو] ما لا يعلم كونه مضافا اكتفي بالوضوء، فالجمع بين الطهارتين غير واضح»(2).

فيدفعه: أنّ الواجب استعماله في الطهارة ليس هذا بعينه و لا ذاك بخصوصه، بل ما هو ماء مطلق بحسب الواقع و نفس الأمر، لكنّ الواقع لكونه ممّا لا مرآة له إلاّ العلم، و لا طريق إلى إدراكه إلاّ من جهة الاعتقاد بالمعنى الشامل للشرعي، فلا بدّ في حكم العقل من إحرازه بطريق علمي و لو شرعا، و حيثما فقد الطريق بكلا قسميه مع عدم قيام ما يرفع الخطاب بالواقع سوى الاشتباه الغير الصالح للرفع إلاّ مع فرض كون المنصبّ المتعذّر استعماله هو المطلق، اتّجه الاحتياط في حكم العقل مقدّمة ليقين الشغل بالطهارة أو بالصلاة معها، حسبما تقدّم بيانه بما لا مزيد عليه.

نعم، يبقى الإشكال فيما تقدّم في كلام الأصحاب من اعتبار تقديم المائيّة على الترابيّة فإنّه غير واضح الوجه، كما حكى التنبّه عليه عن المفصّل المتقدّم ذكره، حيث

ص: 841


1- و في الأصل: «المائيّة» و الظاهر أنّه سهو، و الصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق.
2- مدارك الأحكام 109:1.

أنّه بعد العبارة المتقدّمة عنه قال: «و مع ذلك فوجوب التيمّم إنّما هو لاحتمال كون المنقلب هو المطلق، فلا يكون الوضوء بالآخر مجزيا، و هذا لا يتفاوت الحال فيه بين تقديم التيمّم و تأخيره كما هو واضح»(1) انتهى.

و يمكن الاعتذار عنه بأنّ التيمّم بدل اضطراري للمائيّة، و رتبته في الحكم الشرعي متأخّرة عنها، فينبغي أن يتأخّر عنها أيضا في الوضع العملي، غير أنّه لا يفيد لزوم الاعتبار، فالإشكال من هذه الجهة على حاله، و إن كان مقتضى الاحتياط الّذي عليه مبنى الجمع هو ذلك خروجا عن شبهة مخالفة الواقع.

***

ص: 842


1- مدارك الأحكام 109:1.

ينبوع [في الأسآر]

اشارة

و ممّا خصّه الأصحاب بالعنوان بحث الأسآر، المتّخذة لديهم قسما للمطلق بجميع أقسامه، و المضاف بجميع فروضه الّتي يلحقها البحث هنا طهارة و نجاسة و حرمة و كراهة، و نحن أيضا أفردناها بالذكر تأسّيا لهم و تبعا لممشاهم، و إلاّ فيشكل الحال كلّ الإشكال بأنّ منظور هذا الباب إن كان بيان حكم الماء من حيث أنّه ينفعل أو لا ينفعل بملاقاة ما يباشره من حيوان نجس العين أو طاهرها، فقد تبيّن ذلك في المباحث المتقدّمة المتكفّلة لبيان ما ينفعل من الماء و ما لا ينفعل قليلا أو كثيرا، و لبيان ما كان يتعلّق بالمضاف من الانفعال و نحوه.

و إن كان بيان حكم ذي السؤر من أنواع الحيوانات من طهارة عينيّة أو نجاسة عينيّة موجبة لانفعال السؤر مع قلّته أو إضافته، فهو ممّا يتبيّن في مباحث النجاسات و لا ربط له بهذا المقام.

و إن كان بيان ما يتعرّض لتحقيقه في ضمن بعض مباحث هذا الباب من كون زوال عين النجاسة عن الحيوان أو غيبته بعد مباشرتها مطهّرا له، فهو شيء ينبغي إيراده في مباحث المطهّرات.

و إن كان بيان الأحكام التكليفيّة الراجعة إليه من حرمة استعماله أو كراهته أو إباحته أكلا أو شربا أو تطهيرا، فالأنسب إيراده في باب الأطعمة و الأشربة.

إلاّ أن يقال: إنّ استعماله في مقام التطهير لم يتبيّن حكمه من الحرمة و الكراهة في الأبواب الاخر، فهو المقصود بالبيان هنا، و إن بيّن معه أحكام اخر من الطهارة و النجاسة و غيرها تبعا، لمراعاة شدّة مناسبة إيراده في أبواب المياه، على حدّ ما روعي ذلك في مباحث الماء المستعمل في الحدث كبيرا أو صغيرا و إن كان له محلّ مناسب أيضا في

ص: 843

أبواب الطهارات، غير أنّ ذلك أنسب لكون موضوع القضيّة الّذي هو العمدة من أجزائها هو الماء، و هو المأخوذ عنوانا في جملة من الأخبار حسبما يأتي ذكرها مفصّلة.

و كيف كان فقد اختلفت كلمة أئمّة اللغة في تفسير «السؤر» بحسب اللغة اختلافا دائرا بين أقوال، مرجعها إلى ما تكفّلها العبارة المنقولة عن كاشف اللثام من: «أنّه في اللغة: البقيّة من كلّ شيء، أو ما يبقيه المتناول من الطعام و الشراب، أو من الماء خاصّة»(1).

و مثله ما في الرياض بزيادة «مع القلّة» عقيب قوله: «من الماء خاصّة» مفرّعا عليه: «أنّه لا يقال لما يبقى في النهر أو البئر أو الحياض الكبار إذا شرب منها»(2)، و كأنّه غفلة عمّا ورد في بعض الروايات من أنّه «لا يشرب سؤر الكلب إلاّ أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه»(3)، أو مبنيّ على جعله من باب الاستعمال الأعمّ، أو على جعل الاستثناء من باب الانقطاع.

و على أيّ حال فأوّل الوجوه: قول نقل التصريح به عن القاموس بقوله: «البقيّة، و الفضلة» و في معناه ما في المجمع عن الأزهري مع دعوى الاتّفاق عليه قائلا: «اتّفق أهل اللغة أنّ سائر الشيء باقية قليلا كان أو كثيرا.

و ثانيها: ممّا لم نقف تحصيلا و لا نقلا على صريح من كلامهم، نعم عن المغرب و غيره - على ما في المجمع - أنّه: «بقيّة الماء الّتي يبقيها الشارب في الإناء أو في الحوض، ثمّ استعير لبقيّة الطعام»(4) و لكنّه لا يلائم الوجه المذكور إلاّ بحمله على إرادة ما يعمّ المعنى الحقيقي و المجازي على ما هو مقتضى العبارة المذكورة، أو على إرادة ما يعمّ المعنى اللغوي الثابت بالوضع الأوّلي و العرفي الثابت بالوضع الثانوي، بناء على حمل الاستعارة في العبارة المذكورة على ما استتبع النقل العرفي.

و ثالثها: ما نسب إلى المعالم أنّه نقله عن الجوهري بعبارة: «البقيّة بعد الشرب»(5)غير أنّ في شرح الدروس(6) ما يقضي بإنكار وجدانه في الصحاح، فلعلّه لم يجده بهذه

ص: 844


1- كشف اللثام 283:1.
2- رياض المسائل 187:1.
3- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر، ح 7 - التهذيب 650/226:1.
4- مجمع البحرين: مادّة (سأر).
5- فقه المعالم 355:1 و فيه: «السؤر في اللغة ما يبقى بعد الشرب، قاله الجوهري».
6- مشارق الشموس: 267.

العبارة كما تنبّه عليه في الحدائق(1)، و إلاّ فهو منقول عنه بعبارة قوله: «يقال: إذا شرب فأسأر، أي أبقى شيئا من الشراب في قعر الإناء»(2) و عن المعتبر: «السؤر: لغة بقيّة المشروب»(3) و في الحدائق - عن المجمع -: أنّه نقل عن الأزهري «أنّ السؤر هو ما يبقى بعد الشرب»(4) و هو كما ترى لا يوافق ما قدّمنا نقله عنه عن الأزهري، و ليس في النسخة الحاضرة عندنا سواه.

نعم فيها(5) عن النهاية: «سائر مهموز، و معناه الباقي، لأنّه اسم فاعل من السؤر، و هو ما يبقى بعد الشراب، و هذا ممّا يغلط فيه الناس فيضعونه موضع الجميع»(6) فإنّ ذلك يمكن أن يرجع إلى القول المذكور المنسوب إلى المجمع نقله عن الأزهري، بناء على كون الذيل بيانا للصدر، و يحتمل رجوعه إلى أحد القولين الأوّلين بناء على كون الخصوصيّة المأخوذة في الذيل واردة من باب المثال.

و ربّما يوجد في كلام بعض أهل اللغة ما يبائن جميع الأقوال المذكورة كالفيّومي في المصباح المنير، قائلا: «إنّ السؤر من الفأرة و غيرها كالريق من الإنسان»(7).

و لم يتعرّض لذكره كثير من الأصحاب، إمّا لتبيّن ضعفه عندهم، أو لعدم ارتباطه بمقام البحث.

و قد يوجّه ذلك: بأنّه إمّا معنى آخر و أنّه في الأصل لذلك، أو أنّ تسمية بقيّة المشروب سؤرا لما يمازجه من الريق بسبب الشرب، و لا يخفى بعده.

و كيف كان فمقتضى القول الأوّل عدم الفرق في البقيّة بين كونها من مأكول أو مشروب، مطلق أو مضاف، قليل أو كثير، في آنية أو غيرها، أو من غيرهما من جامد أو مائع، كما أنّ مقتضى القول الثاني اختصاصها بالمشروب مع عدم الفرق فيه بين المطلق و المضاف، و القليل و الكثير في الإناء أو غيره.

و أمّا القول الثالث فمقتضاه - على ما في الصحاح(8) و المعتبر -(9) عدم الفرق فيه

ص: 845


1- الحدائق الناضرة 417:1.
2- مختار الصحاح؛ مادّة «س أ ر» 348.
3- المعتبر: 23.
4- الحدائق الناضرة 418:1.
5- مجمع البحرين؛ مادّة «سأر».
6- النهاية في غريب الحديث و الأثر؛ مادّة «سأر» 327:2.
7- المصباح المنير؛ مادّة «سأر»: 295.
8- الصحاح؛ مادّة «سأر» 675:2.
9- المعتبر: 23.

بين كون المشروب من ماء أو مضاف، فيخالفه نقل الكاشف(1) حينئذ من هذه الجهة، و كأنّه مبنيّ على توهّم انصراف الشرب إلى ما يستلزم الماء، كما أنّ اعتبار القلّة - على ما سمعته عن الرياض -(2) لعلّه لأجل توهّم الانصراف، و إلاّ فقد عرفت عن الأزهري تصريحا بالتعميم بالقياس إلى القليل و الكثير.

نعم، ربّما يتبادر إلى الذهن بملاحظة الاستعمالات كون الباقي أقلّ من الذاهب و إن كان كثيرا في نفسه، غير أنّه أيضا عند التحقيق تبادر بدوي لا عبرة به، لعدم إباء الاستعمالات إطلاقه على الأكثر كما يظهر بأدنى تأمّل.

فمن هنا يعلم أنّ ما تقدّم من تفريع الرياض المتضمّن لنفي قول السؤر على ما يبقى في النهر أو البئر أو الحياض الكبار إذا شرب منها، ليس على ما ينبغي.

نعم، اشتراط القلّة في المعنى المبحوث عنه هنا الوارد في كلام الأصحاب الموجود في أخبار الباب كما حكي التصريح به عن جماعة، ليس ببعيد تعويلا على ظهور الفتاوي و الأخبار في القلّة، غير أنّ تفسيرها حينئذ بما دون الكرّيّة - كما في جواهر بعض مشايخنا -(3) لعلّه غير مستقيم، و كأنّه توهّم عن كون بعض الأحكام الجارية على السؤر ما لا يجري إلاّ إذا كان الماء قليلا بهذا المعنى، كالنجاسة إذا كان ذو السؤر من نجس العين، و إلاّ فلقائل أن يقول: بأنّ كلام الأصحاب مع روايات الباب لا يتناول في غير حكم النجاسة إلاّ ما كانت القلّة فاحشة، فلا يشمل البحث لكثير من أفراد ما دون الكرّ.

و ربّما وقع النزاع عندهم في اختصاص البحث بالماء أو عمومه لمطلق المائع، فعن جملة التصريح بالأوّل، و عن ابن إدريس(4) التصريح بالثاني، فلعلّ وجه الأوّل ورود الروايات المشتملة على السؤر و ما يرادفه في خصوص الماء كما يظهر بأدنى تأمّل، و وجه الثاني عدم الفرق في بعض أحكامه كالطهارة و النجاسة بين سائر المائعات، بل ربّما يستفاد من بعض الروايات ما يعمّ المائع مطلقا بل الجامد أيضا، كما في المرويّ عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن أكل سؤر الفأر»(5)، و صحيح زرارة عنه أيضا أنّ في كتاب عليّ عليه السّلام «أنّ الهرّ سبع [و] لا بأس بسؤره، و إنّي لأستحيي من

ص: 846


1- كشف اللثام 283:1.
2- رياض المسائل 187:1.
3- جواهر الكلام 661:1.
4- السرائر 85:1.
5- الوسائل 240:1 ب 9 من أبواب الأسآر ح 7 - الفقيه 1/2:4.

اللّه أن أدع طعاما لأنّ الهرّ أكل منه»(1).

و كما تستفاد منها عموم الحكم بالقياس إلى كلّ مأكول و مشروب، كذلك يستفاد منها خصوصه بالقياس إلى كون المباشرة حاصلة بالفم، و كأنّه من هنا نشأ مخالفة صاحب المدارك للشهيد و غيره فيما سيجيء من الاعتراض عليه.

لكن المستفاد من خبر العيص عن القاسم(2) عن سؤر الحائض قال: «توضّأ منه، و توضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة، و تغسل يدها قبل أن تدخلها الإناء، و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو و عائشة يغتسلان في إناء واحد»(3) عموم الحكم لمطلق المباشرة كما فهمه جماعة، و هو الّذي حكى التصريح به عن السرائر(4) و الذكرى(5)، و المهذّب للقاضي(6)، و الروض(7)، و المسالك(8)، و غيرها.

و عن المقنعة: «أنّ أسآر الكفّار هو ما فضل في الأواني ممّا شربوا منه، أو توضّئوا به، أو مسّوه بأيديهم و أجسادهم»(9).

و في معناه ما عن بعضهم: «من أنّ السؤر عبارة عمّا شرب منه الحيوان أو باشره بجسمه من المياه و سائر المائعات».

و بجميع ما ذكر - مضافا إلى ما يأتي - يعلم أنّه لا فرق في المباشر بين الآدمي و غيره من سائر أنواع الحيوان، كما صرّح به غير واحد.

و إن شئت فلاحظ المنتهى حيث إنّه بعد العنوان أخذ بتقسيم السؤر باعتبار انقسام ذيه قائلا: «الحيوان على وجهين: آدميّ و غير آدميّ، فالآدميّ إن كان مسلما أو بحكمه فسؤره طاهر، عدا الناصب و الغلاة، فإنّ سؤرهم نجس.

و غير الآدميّ مأكول اللحم و غيره، فالأوّل سؤره طاهر، فإن كان لحمه مكروها كان سؤره كذلك، كالفرس و الحمار و البغل، و غير المأكول إمّا أن يكون نجس العين

ص: 847


1- الوسائل 227:1 ب 2 من أبواب الأسآر ح 2 - التهذيب 655/227:1.
2- كذا في الأصل، و الصواب: «العيص بن القاسم» بدل «العيص عن القاسم».
3- الوسائل 234:1 ب 7 من أبواب الأسآر ح 1 - التهذيب 633/222:1 - الكافي 2/10:3 - مع اختلاف في بعض العبارات.
4- السرائر 85:1.
5- ذكرى الشيعة 106:1.
6- المهذّب 25:1.
7- روض الجنان: 157.
8- مسالك الأفهام 23:1.
9- المقنعة: 65.

كالكلب و الخنزير أو لا، و الأوّل سؤره نجس، و الثاني سؤره طاهر» - ثمّ قال -: «هذا على القول المشهور لأصحابنا»(1) انتهى.

و لقد أجاد الشهيد رحمه اللّه(2) و غيره(3) - على ما نقل - حيث أخذوا بمجامع الفتاوى و الجهات المستفادة من الأخبار و كلام العلماء الأخيار، فقالوا في تعريفه الاصطلاحي:

«أنّه ماء قليل باشره جسم حيوان»(4).

لكن يبقى المناقشة فيه من حيث كون جنسه الماء، و قد عرفت أنّ المستفاد من الأخبار و غيرها ما يعمّ غير الماء أيضا.

و أجود منه ما تقدّم نقله عن بعضهم، و في معناه ما نقله في المجمع من: «أنّه ما باشره جسم حيوان»(5) بناء على أنّ المراد بالتعريف هنا ما هو كذلك بحسب الاصطلاح، فما في المدارك(6) من الاعتراض على ما سمعت عن الشهيد و غيره بأنّه غير جيّد، بعد ما ذكر أنّ الأظهر في تعريفه في هذا الباب: «أنّه ماء قليل لاقاه فم حيوان»، ليس في محلّه، لما عرفت من أنّ المستفاد من بعض الروايات ما يعمّ مباشرة الفم و غيره، هذا مع وضوح فساد ما ذكره في تعليله من الوجهين.

أحدهما: أنّه مخالف لما نصّ عليه أهل اللغة، و دلّ عليه العرف العامّ بل الخاصّ أيضا، كما يظهر لمن تتبّع الأخبار و كلام الأصحاب.

وجه الضعف: ما عرفت من أنّ كلاّ من الأخبار و كلام الأصحاب شاهد بخلاف ما ذكره.

و ثانيهما: أنّ الوجه الّذي جعل لأجله السؤر قسيما للمطلق مع كونه قسما منه بحسب الحقيقة وقوع الخلاف في نجاسة بعضه من طاهر العين و كراهة بعض آخر، و ليس في كلام القائلين بذلك دلالة على اعتبار مطلق المباشرة، بل كلامهم و دليلهم كالصريح في أنّ مرادهم بالسؤر المعنى الّذي ذكرناه خاصّة.

وجه الضعف: صراحة كلامهم في خلاف ما ذكره، مع أنّ منشأ جعله قسيما

ص: 848


1- منتهى المطلب 148:1.
2- البيان: 46.
3- منهم الشهيد الثاني في الروضة البهيّة 46:1.
4- كما في حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام 194:1.
5- مجمع البحرين؛ مادّة «سأر».
6- مدارك الأحكام 128:1.

للمطلق إن كان وقوع الخلاف في الطهارة و النجاسة فالأنسب له جعل البحث في مطلق المباشرة، لأنّ ملاقاة الحيوان إذا قضت بنجاسة ملاقيه فلا يعقل اختصاصه بعضو منه دون عضو، إن اريد بالنجاسة الصفة المقتضية لأحكامها دون نفس الأحكام المقرّرة لها، لجواز كون ذلك تعبّدا من الشارع، مختصّا ببعض الفروض، حسبما استفيد من دليل التعبّد إن كان، و ستعرف خلافه.

و ربّما يحكى التعريف المتقدّم عن الشهيد و جملة ممّن تأخّر عنه - كما في الحدائق -(1)على وجه تضمّن اعتبار طهارة الحيوان، فيقال: «أنّه ماء قليل باشره جسم حيوان طاهر» و هو كما ترى لا يوافق شيئا ممّا تقدّم، و على فرض ورود الاشتراط في كلام بعضهم، يدفعه: بعض ما تقدّم ممّا يقضي بكون العنوان ملحوظا على الوجه الأعمّ كما في عبارة المنتهى(2)، مضافا إلى ما في أكثر كتبهم من التعرّض لسؤر الكلب و الخنزير و غيرهما ممّا يحكم عليه بنجاسة العين، كبعض فرق الإسلام من الخوارج و الغلاة.

ثمّ إنّ المعنى المذكور على ما في كلام غير واحد من تقييده بالاصطلاح، أو التنبيه على كونه مرادا من اللفظ في خصوص المقام، اصطلاح من المصنّفين مأخوذ من الأخبار المتفرّقة، و فتاوى الفرقة المتفقّهة من باب الأخذ بالقدر الجامع، حسبما أشرنا إليه، و قد يحتمل كونه معنى شرعيّا تعويلا على تعريف جمع له: «بأنّه «شرعا ماء قليل باشره جسم حيوان».

و فيه: منع واضح، لإمكان أن يراد به ما عند المتشرّعة، أو ما عند حفظة الشريعة، كيف و لم يثبت في كلام الشارع أصل الاستعمال على الوجه الأعمّ و لا أخبار الأئمّة عليهم السّلام، و لو فرض وجوده أيضا فهو ليس إلاّ استعمالا غير صالح للاستناد إليه في إثبات الوضع الشرعي، على ما هو مقرّر في محلّه.

ثمّ تمام البحث في أحكام هذا المعنى العامّ يقع في طيّ مسائل:

المسألة الاولى: لا خلاف عند أصحابنا في نجاسة سؤر ما حكم بنجاسته شرعا

آدميّا كان كالكافر و الخوارج و هم أهل النهروان و من دان بمقالتهم، و الغلاة و هم

ص: 849


1- الحدائق الناضرة 418:1 ليس فيه ما يقتضي طهارة الحيوان فلاحظ.
2- منتهى المطلب 148:1.

القائلون بإلهيّة عليّ عليه السّلام أو أحد من الأئمّة، و النواصب و هم المبغضون لأهل البيت عليهم السّلام كما في المدارك(1)، أو المعلنون لعداوتهم عليهم السّلام كما في حاشية الشرائع للشيخ عليّ، أو غير آدميّ كالكلب و الخنزير، بل إجماعاتهم المنقولة على ذلك مستفيضة، و مصنّفاتهم من نفي الخلاف و الإشكال مشحونة، و لو وجد خلاف في سؤر بعض ما حكم بنجاسته في الجملة من أفراد موضوع تلك القاعدة فهو راجع إلى الصغرى، و هي نجاسة ذي السؤر أو طهارته من آدميّ كاليهود و النصارى و المجسّمة و المجبّرة و ولد الزنا و كلّ مخالف للحقّ، أو غير آدميّ كالمسوخ من القرد و الذئب و الثعلب و الأرنب، فإنّ المنقول عن المفيد(2) في أحد قوليه طهارة اليهود و النصارى، و هو مذهب ابن الجنيد(3) في مطلق أهل الكتاب، و الباقون على النجاسة، و عن الشيخ في المبسوط(4) نجاسة المجسّمة و المجبّرة، و وافقه جماعة(5) على نجاسة المجسّمة، و عن المرتضى(6) و ابن إدريس(7) القول بكفر ولد الزنا، و عن جماعة كفر المخالفين، بل هو المشهور بين المتقدّمين كما في الحدائق(8)، و عن الشيخ(9)نجاسة المسوخ، و الكلام في جميع هذه الأقسام موكول إلى محلّه فيأتي إن شاء اللّه.

المسألة الثانية: المشهور المدّعى عليه الإجماع أنّ كلّما حكم عليه بالطهارة شرعا من الحيوانات فسؤره طاهر،

على عكس القاعدة المتقدّمة، و عزى ذلك إلى عامّة من تأخّر، بل عن الغنية(10) و الخلاف(11) الإجماع عليه، و هو صريح السرائر - في عبارة محكيّة له - في باب الأطعمة و الأشربة قائلا: «فأمّا ما حرم شرعا فجملته إنّ الحيوان ضربان: طاهر و نجس، فالنجس الكلب و الخنزير، و ما عداهما كلّه طاهر في حال حياته، بدلالة إجماع أصحابنا، المنعقد على أنّهم أجازوا شرب سؤرها في حال الوضوء منه، و لم يجوّزوا في الكلب و الخنزير»(12).

ص: 850


1- مدارك الأحكام 129:1.
2- حكى عنه في المعتبر: 24.
3- حكى عنه في فقه المعالم 525:2.
4- المبسوط 14:1.
5- كما في منتهى المطلب 224:3؛ و الدروس الشرعيّة 124:1؛ و البيان: 39.
6- الانتصار: 273 حيث قال: «إنّ ولد الزنا لا يكون قطّ طاهرا و لا مؤمنا بإيثاره و اختياره، و إن أظهر الإيمان».
7- السرائر 357:1.
8- الحدائق الناضرة 175:5.
9- الخلاف 184:3 المسألة 306.
10- غنية النزوع: 45.
11- الخلاف 187:1-188 المسألة 144.
12- السرائر 118:3.

و عليه العلاّمة في جملة من كتبه(1)، و عزاه في الحدائق(2) إلى جمهور المتأخّرين، بل لا يوجد خلاف في المسألة إلاّ ما عن نهاية العلاّمة(3) من استثناء سؤر آكل الجيف من الطير، و ما عن المرتضى(4) و ابن الجنيد(5) من استثناء الجلاّل، و ما عن الشيخ في التهذيبين من المنع من الوضوء و الشرب من سؤر غير مأكول اللحم عدا السنّور و الطير كما في التهذيب(6)، أو غير الفأرة و الطيور من البازي و الصقر و العقاب و غيرها كما في الاستبصار(7)، معلّلا له فيه بمشقّة الاحتراز عنها.

و عنه أيضا في المبسوط(8) المنع من سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان الغير الآدميّ و الطيور إلاّ ما لا يمكن التحرّز عنه، كالهرّة و الفأرة، و ربّما نقل ذلك عن المهذّب(9) أيضا.

و عن ابن إدريس أنّه حكم بنجاسة سؤر ما أمكن التحرّز عنه ممّا لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر غير الطيور، قائلا بأنّه: «لا بأس بأسآر الفأر و الحيّات و جميع حشرات الأرض»(10).

و لا يخفى ما في هذا القول من السقوط لضعفه، و مخالفته الاصول المحكمة المجمع عليها، و القواعد المتقنة السليمة عمّا يصلح لمعارضتها، و خصوصا ما تقدّم من الإجماع الّذي ادّعاه في الأطعمة و الأشربة الحاصر للنجاسة المانعة عن الاستعمال في سؤر الكلب و الخنزير، و لعلّه هنا وقع منه خطأ فالتفت إليه في الباب المذكور فعدل عنه مدّعيا على خلافه الإجماع، كيف لا و نجاسة السؤر تتبع نجاسة ذيه، و لا يظنّ أنّه قائل بنجاسة ما عدا الكلب و الخنزير من أنواع الحيوانات و الطيور - لكونه في غير ما وقع الخلاف في نجاسته ممّا تقدّم الإشارة إليه - على خلاف الطريقة المستمرّة بين المسلمين المعلومة

ص: 851


1- كما في تذكرة الفقهاء 39:1؛ و نهاية الإحكام؛ 238:1 و مختلف الشيعة 229:1.
2- الحدائق الناضرة 429:1.
3- و الظاهر أنّه سهو منه رحمه اللّه، لأنّ الّذي استثنى سؤر آكل الجيف هو الشيخ رحمه اللّه في النهاية 203/1 و أمّا العلاّمة رحمه اللّه فهو من القائلين بكراهته سؤره كما في نهاية الإحكام 239:1.
4- قال المحقّق في المعتبر - بعد نسبة القول بالكراهة إليه في جمل العلم و العمل -: «و استثناه من المباح في المصباح» انظر المعتبر: 24.
5- مختلف الشيعة 229:1.
6- التهذيب 224:1.
7- الاستبصار 25:1.
8- المبسوط 10:1.
9- المهذّب 25:1.
10- السرائر 85:1.

من صاحب الشريعة، و لو ادّعاه هو أو غيره لم يكن له عليه دلالة من كتاب و لا سنّة.

نعم، في مرسلة وشّاء عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أنّه كان يكره سؤر كلّ شيء لا يؤكل لحمه»(1) ما يوهم ذلك، غير أنّها - مع ما فيها من الضعف بالإرسال، و عدم فهم الأصحاب منها إلاّ الكراهة المصطلحة الّتي هي في الجملة مسلّمة، و توجّه القدح إلى متنها من حيث إنّ الكراهة المأخوذة فيها لفظ الراوي دون الإمام عليه السّلام - من أخبار الآحاد الّتي لا عمل بها عنده، مع معارضتها بأقوى منها سندا و أظهر دلالة و أصحّ متنا و هي صحيحة البقباق(2)، المعتضدة بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع، مضافا إلى دعواه حسبما تقدّم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن فضل الهرّة و الشاة و البقرة، و الإبل و الحمار و الخيل، و البغال و الوحش و السباع، فلم أترك شيئا إلاّ سألته عنه؟، فقال: «لا بأس [به] حتّى انتهيت إلى الكلب»؟ فقال: «رجس نجس، لا تتوضّأ بفضله، إلى آخره»(3).

و في معناها حسنة معاوية بن شريح قال: سأل عذافر أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن سؤر السنّور و الشاة و البقرة، و البعير و الحمار و الفرس، و البغل و السباع، يشرب منه أو يتوضّأ منه؟ فقال: «نعم اشرب منه و توضّأ». قال: قلت له: الكلب؟ قال: لا. «قلت:

أ ليس هو سبع؟ قال: «لا و اللّه أنّه نجس، لا و اللّه أنّه نجس»(4).

و صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام - في حديث - قال: سألته عن العظاية(5) و الحيّة، و الوزغ، يقع في الماء فلا يموت، أ يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: «لا بأس به»(6).

مع أنّها لو صلحت مستندة لهذا الحكم المخالف للأصول فهي دالّة عليه على جهة العموم فما وجه تخصيصه بما خصّ به، و لو فرضنا، أنّه قال بنجاسة السؤر مع الاعتراف بطهارة ذيه فهو أشدّ ضعفا، بل هو عند التحقيق ممّا لا يكاد يعقل، سيّما مع ملاحظة

ص: 852


1- الوسائل 232:1 ب 5 من أبواب الأسآر ح 2 - الكافي 7/10:3.
2- و هو الفضل أبو العبّاس البقباق.
3- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر ح 4 و 6 - التهذيب 646/225:1 و 647.
4- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر ح 4 و 6 - التهذيب 646/225:1 و 647.
5- العظاية: و هي دويبة معروفة، و قيل: هو السام الأبرص (النهاية - لابن أثير - 260:3).
6- الوسائل 238:1 ب 9 من أبواب الأسآر ح 1 - التهذيب 1326/419:1.

استصحاب الطهارة و أصلها المستفاد من عمومات الآيات و الروايات مع فقد ما يوجب الخروج عنهما.

إلاّ أن يراد بالنجاسة ما هو من أحكامها الّتي منها منع الشرب و الوضوء لا نفس الصفة المقتضية لتلك الأحكام، حتّى يقال: بأنّها عرضيّة لا بدّ لها من منشأ و ليس إلاّ نجاسة ذي السؤر و قد فرض خلافه، فيردّه: الأصلان المذكوران السليمان عمّا يصلح للمعارضة، و المرسلة المتقدّم إليها الإشارة قد تبيّن حالها.

و احتمال كون ذلك كاغتسال الجنب في البئر المحكوم عليه كونه سببا للنزح و لا سبب له إلاّ النجاسة و إن فرض خلوّ بدنه عنها، مردود من جهات شتّى، من منع الحكم في المقيس عليه، لابتناء أحكام البئر على الندب و الاستحباب بناء على التحقيق.

و لو سلّم الحتم فهو ليس إلاّ تعبّدا صرفا كما عليه جماعة، فلا فرق فيه بين وقوع النجس أو الطاهر، لكون الحكم حينئذ منوطا بمجرّد التعبّد لا لعروض صفة النجاسة لماء البئر.

و لو سلّم كون بدن الجنب مع فرض طهارته موجبا لنجاسة الماء فهي نجاسة حكميّة لا حقيقيّة، و مع ذلك لا يلزم من ثبوتها ثمّة ثبوتها هنا إلاّ قياسا و هو باطل.

و بجميع ما ذكر تبيّن ضعف ما عرفته عن الشيخ في كتبه(1)، و عن المهذّب(2) أيضا، سواء أراد بالمنع ما هو كذلك تعبّدا، أو ملزومه من النجاسة كما هو الأظهر، بملاحظة ما في كلامه في الاستبصار(3) من جعله الجواز فيما استثناه من باب العفو، لأجل كون التحرّز عن ذلك ممّا يشقّ على الإنسان.

هذا مع ضعف مستنده الّذي هو موثّقة عمّار الساباطي(4) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سئل عن ماء يشرب منه الحمام؟ فقال: «كلّ ما اكل لحمه يتوضّأ من سؤره و يشرب»، و عن ماء يشرب منه باز، أو صقر، أو عقاب؟ فقال: «كلّ شيء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه، إلاّ أن ترى في منقاره دما، فإن رأيت في منقاره شيئا فلا تتوضّأ منه و لا تشرب»(5).

ص: 853


1- المبسوط 10:1.
2- المهذّب 25:1.
3- الاستبصار 25:1.
4- و هو عمّار بن موسى الساباطي.
5- الوسائل 230:1 ب 4 من أبواب الأسآر ح 2 - التهذيب 660/228:1.

وجه الدلالة - على ما بيّنه في التهذيب -: أنّ قوله: «كلّما يؤكل لحمه يتوضّأ بسؤره و يشرب» يدلّ على أنّ ما لا يؤكل لحمه لا يجوز التوضّؤ به و الشرب منه، لأنّه إذا اشترط في استباحة سؤره أن يؤكل لحمه دلّ على أنّ ما عداه بخلافه، و يجري هذا المجرى قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «في سائمة الغنم زكاة» في أنّه يدلّ على أنّ المعلوفة ليس فيها زكاة(1).

قال في الاستبصار - بعد إيراد الرواية -: «و هذا خبر عامّ في جواز استعمال سؤر كلّ ما يؤكل لحمه من سائر الحيوان، و أنّ ما لا يؤكل لحمه لا يجوز استعمال سؤره - إلى أن قال -: و ما يتضمّن هذا الخبر من جواز سؤر طيور لا يؤكل لحمها مثل البازي و الصقر إذا عرا منقارهما من الدم مخصوص من بين ما لا يؤكل لحمه في جواز استعمال سؤره، و كذلك ما رواه إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ أبا جعفر عليه السّلام كان يقول: «لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه و تتوضّأ منه».

الوجه فيه: أن نخصّه من بين ما لا يؤكل لحمه من حيث لا يمكن التحرّز من الفأرة و يشقّ ذلك على الإنسان، فعفي لأجل ذلك عن سؤره»(2) انتهى.

وجه الضعف - على ما بيّنه -: ابتناؤه على ثبوت مفهوم الوصف، و من المقرّر في محلّه المنع من ذلك، و لو سلّم ثبوته في أصل المسألة فقد يمنع ثبوته هنا بالخصوص، كما يرشد إليه فرض السؤال ثانيا عمّا شرب منه باز أو صقر أو عقاب، فإنّه كاشف عن عدم انفهام الانتفاء عن المسكوت عنه و إلاّ لم يحتج إلى السؤال.

و لو سلّم أنّه فهم الانتفاء في الجملة - أي على سبيل القضيّة الجزئيّة لا القضيّة الكلّيّة - فلا يجدي في ثبوت الدلالة على تمام المدّعى، إذ الجزئيّة صادقة في ضمن بعض ما لا يؤكل لحمه من الكلب و الخنزير و غيره من نجس العين.

و ملخّص هذا الكلام: أنّ الاستدلال لا يتمّ إلاّ بإثبات مقدّمتين.

إحداهما: ثبوت اعتبار المفهوم هنا، و اخراهما: ثبوت كونه معتبرا على سبيل الكلّيّة، على معنى ثبوت الحكم المفهومي لجميع أفراد ما لا يؤكل لحمه.

و لا ريب أنّ سؤال الراوي عقيب استماع المنطوق مع جواب الإمام عليه السّلام في مورد السؤال الّذي هو بعض أفراد المسكوت عنه على طبق المنطوق يكشفان عن عدم

ص: 854


1- التهذيب 224:1.
2- الاستبصار 26:1.

اعتبار المفهوم هنا رأسا، أو عن كونه معتبرا هنا على سبيل الجزئيّة الصادقة في بعض أفراد المسكوت عنه كالكلب و الخنزير، و أيّا ما كان فالاستدلال ساقط جزما.

و مع الغضّ عن ذلك أيضا فدلالة المفهوم لا تقاوم دلالة المنطوق، و قد تقدّم من المناطيق ما يقضي بخلاف ذلك المفهوم، كما أنّ السند الموثّق لا يقاوم السند الصحيح، و لا سيّما إذا اعتضد الصحيح بما تقدّم ذكره من الشهرة العظيمة الّتي كادت تكون إجماعا.

و كيف كان فالعمل على الصحيح وفاقا للمعظم، لكون مفاده هو الصحيح، مع ما فيه من العمل على الاصول و القواعد.

المسألة الثالثة: لا فرق فيما حقّقناه من طهارة سؤر الحيوان الطاهر العين لطهارة ذيه بين كون الحيوان مأكول اللحم أو غيره،

و لا بين كونه آكل الجيف أو غيره، سواء اريد من أكل الجيف ما من شأنه ذلك كما في صريح المدارك(1)، أو ما برز منه الأكل في الخارج كما نقل التصريح به في الحدائق(2) عن المنتهى(3).

لنا على ذلك: مضافا إلى الاصول و القواعد المتقدّم إليهما الإشارة، الموثّقة المتقدّمة في عبارة الاستبصار السائلة عن ماء يشرب منه باز أو صقر أو عقاب، المصرّحة: «بأنّ كلّ شيء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه» إلى آخره، مضافة إلى الصحيحة و الحسنة المتقدّمتين(4) المبيحتين لسؤر السباع، الّتي لا تكاد تنفكّ عن أكل الجيف في الغالب، و إطلاق هذه الأحاديث كما ترى يشمل كلتا صورتي بروز المبدأ في الخارج و عدمه، و من هنا يمكن أن يؤخذ الأخبار الواردة في طهارة سؤر الهرّة - بل في فضله الّتي يأتي إليها الإشارة - دليلا على هذا المطلب، بل المستفاد منها دلالة اخرى عليه من حيث تضمّنها إعطاء قاعدة كلّيّة في السباع كما سيظهر وجهه.

فما عرفته عن النهاية(5) من استثناء سؤر آكل الجيف إمّا لمنعه عنه كما في بعض العبائر الناقلة، أو لحكمه عليه بالنجاسة كما في الحدائق(6)، و مثله ما عن كشف اللثام

ص: 855


1- مدارك الأحكام 130:1.
2- و في الأصل: (ئق) و لكن لم نجده في الحدائق، و لكنّه يوجد الاحتمالين في جواهر الكلام 672:1.
3- منتهى المطلب 161:1.
4- أي صحيحة البقباق و حسنة معاوية بن شريح المتقدّمتان في المسألة الثانية من مسائل هذا الباب آنفا.
5- النهاية 203:1.
6- الحدائق الناضرة 430:1.

من «أنّ كلام القاضي(1) يعطي نجاسة السؤرين»(2) - يعني: هذا السؤر مع سؤر الجلاّل - ممّا لا يصغى إليه، لمخالفته الاصول المعتبرة و الأخبار المصرّحة من جهات عديدة، كيف و لا مستند لشيء من المنع و لا الحكم بالنجاسة إلاّ ما نقل من الاستدلال عليه بالمفهوم المتقدّم في موثّقة عمّار المتضمّنة لقوله عليه السّلام: «كلّ ما أكل لحمه يتوضّأ من سؤره و يشرب منه»(3) و قد تبيّن ما فيه من وجوه المنع.

و قد يجاب عنه: بعدم شموله لجميع أفراد المقام، لأنّ آكل الجيف قد يكون مأكول اللحم فلا يجري فيه المفهوم، ضرورة امتناع وقوع شيء واحد موردا للمنطوق و المفهوم معا، و لعلّه مبنيّ على حمل آكل الجيف على ثاني المعنيين المتقدّم إليهما الإشارة، و إلاّ فعلى أوّلهما كان في غير محلّه، إذ لم يعهد إلى الآن من أفراد ما يؤكل لحمه ما من شأنه أكل الجيف كما لا يخفى.

و أمّا ما يجاب عنه أيضا: من أنّ الحكم معلّق على عدم مأكوليّة اللحم و لا مدخل لأكل الجيف فيه، فممّا لا يرجع إلى محصّل، إذ لو اريد به منع جريان الحكم فيما يؤكل لحمه إذا أكل الجيف بالعرض فمرجعه إلى الجواب السابق، و لو اريد به منع جريانه في غير مأكول اللحم إذا أكل الجيف فغير مفيد، لأنّ الحيثيّتين مجتمعتان، بل الحيثيّة الاولى لا تكاد تنفكّ عن الثانية، فالمنع ثابت على أيّ تقدير.

و العجب عن الحدائق(4) و تبعه غيره حيث جمع بين الجوابين، إلاّ أن يرجع الثاني إلى منع انطباق الدليل على موضوع البحث و إن كان قد يجامع مورده.

المسألة الرابعة: بالنظر في بعض ما تقدّم يعلم الحكم في سؤر الجلاّل أيضا،

و هو على ما في كلام غير واحد المتغذّي بعذرة الإنسان محضا إلى أن ينبت عليه لحمه و يشتدّ عظمه، و زاد في المدارك قوله: «بحيث يسمّى في العرف جلاّلا قبل أن يستبرأ بما يزيل الجلل»(5) و الظاهر أنّ الأخير قيد يرجع إلى الحكم لا أنّه من قيود الموضوع، و فيه التصريح بدعوى الشهرة على طهارة هذا السؤر(6)، و لا فرق في ذلك بين كون

ص: 856


1- المهذّب 25:1.
2- كشف اللثام 285:1.
3- التهذيب 642/224:1.
4- الحدائق الناضرة 431:1.
5- مدارك الأحكام 130:1.
6- حيث قال: «و الحكم بطهارة سؤر هذين النوعين - أي الجلاّل و آكل الجيف - بالقيد المذكور و كراهة مباشرته هو المشهور بين الأصحاب» - لاحظ مدارك الأحكام 130:1.

الحيوان مأكول اللحم فصار جلاّلا أو غير مأكول اللحم من الطيور أو غيرها، و القول بالمنع عن هذا السؤر مع طهارة ذيه كما عرفته عن المرتضى(1) كالقول بنجاسته كما عرفت نقله عن القاضي(2) - فيما حكي عن كاشف اللثام -(3) كالمحكيّ عن الإصباح(4)من نجاسة سؤر جلاّل الطيور، ممّا لا يعرف له وجه، كما اعترف به غير واحد و حكي أيضا عن جمع.

و ربّما نقل الاستدلال عليه: بأنّ رطوبة أفواهها تنشأ من غذاء نجس فيجب الحكم بالنجاسة.

و قد يحتمل الاستدلال عليه أيضا بما دلّ من الأخبار على نجاسة عرق الجلاّلة، كخبر هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه قال: «لا تأكلوا لحوم الجلاّلات، فإن أصابك من عرقها فاغسل»(5) بناء على ما في حاشية الوسائل من مصنّفه(6) - على ما حكي - «من أنّهم أجمعوا على تساوي حكم العرق و السؤر هنا، بل في جميع الأفراد، و الفرق إحداث قول ثالث».

و بملاحظة ما ذكر في الخبر من المنع عن أكل لحوم الجلاّلات أمكن الاستدلال عليه أيضا بأخبار ما لا يؤكل لحمه - و لو من جهة المفهوم - كما علم من طريقة الشيخ في غير مأكول اللحم(7)، بناء على أنّ المراد في مورد المفهوم المذكور ما يعمّ المنع العرضي.

و في جميع هذه الوجوه ما لا يخفى من الضعف و الاعتساف المخرج عن الإنصاف، فإنّ الاستحالة المغيّرة للعنوان رافعة لحكم النجاسة كما في غير المقام، مع ما فيه من

ص: 857


1- حكاه عنه المحقّق رحمه اللّه في المعتبر: 24.
2- المهذّب 25:1.
3- كشف اللثام 285:1.
4- إصباح الشيعة: 5.
5- الوسائل 233:1 ب 6 من أبواب الأسآر ح 1 - الكافي 1/250:6.
6- هكذا في هامش الوسائل 233:1 عن مصنّفه: «استدلّ علماؤنا على كراهة سؤر الجلاّل بحديث هشام و أحاديث ما لا يؤكل لحمه، و دلالة الثاني ظاهرة واضحة و دلالة الأوّل مبنيّة على أنّهم أجمعوا على تساوي حكم العرق و السؤر هنا، بل في جميع الأفراد، و الفرق إحداث قول ثالث، و أيضا فإنّ بدن الحيوان لا يخلو أبدا من العرق إمّا رطبا و إمّا جافّا، فيتّصل السؤر به، فحكمه حكمه، و على كلّ حال فضعف الدلالة منجبر بأحاديث ما لا يؤكل لحمه» انتهى.
7- التهذيب 224:1 ذيل الحديث 642، حيث قال: «قوله: «كلّ ما اكل لحمه يتوضّأ بسؤره و يشرب» يدلّ على أنّ كلّ ما لا يؤكل لحمه لا يجوز التوضّؤ به و الشرب منه الخ».

النقض - على ما في كلام غير واحد -(1) بما لو تغذّى بغير العذرة من النجاسات العينيّة من دم و نحوه، و بما لو تغذّى بالمتنجّس من العذرة، و بما لو تغذّى بها و بغيرها من النجاسات أو غيرها على جهة الانضمام، و بآكل الجيف محضا، و ببصاق شارب الخمر إذا لم يتغيّر به.

و إحداث القول الثالث عن مستند شرعي - و لو كان من الاصول المعتبر - ليس بباطل ما لم يثبت الإجماع على نفيه و بطلانه، و هو غير ثابت بل الثابت خلافه، كيف و قد عرفت نقل الشهرة هنا على الطهارة.

و المفهوم - مع ما فيه ممّا تقدّم - ظاهر في المنع الذاتي، فلا يصرف إلى المنع العرضي إلاّ بدليل و ليس، و بالجملة الاصول الموجودة في المقام ممّا لا سبيل إلى رفع اليد عنها، و هذا هو مستند الحكم هنا.

و إن كان قد يستدلّ عليه أيضا بعموم الروايات الحاكمة بطهارة سؤر الطيور و السنّور و الدوابّ و السباع، الّتي منها: موثّقة عمّار «كلّ شيء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه إلاّ أن ترى في منقاره دما، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضّأ منه و لا تشرب»(2) المشتملة على العموم اللغوي الّذي قيل فيه إنّه يتناول الأفراد النادرة أيضا، فلا يقدح لو قيل بكون الجلاّل من الأفراد النادرة.

و منها: صحيحة البقباق(3) و حسنة معاوية بن شريح(4) المتقدّمتان.

و ظنّي أنّ هذا في غير محلّه نظرا إلى أنّ النجاسة المبحوث عنها في تلك المسألة ما يكون عرضيّا ناشئا عن أمر عرضيّ للحيوان المأكول لحمه و غيره، و لعلّ الروايات المذكورة أو أكثرها مسوقة لبيان الطهارة الذاتيّة المنافية للنجاسة الذاتيّة، فلا تنافي النجاسة العرضيّة الناشئة عن الجلل، و العموم اللغوي في الموثّقة لا يجدي إلاّ في تعميم الحكم الأوّل بالقياس إلى جميع أنواع الطيور، فيبقى الحكم الثاني مسكوتا عنه، و لا يمكن إثباته بتوهّم [كونه] بالقياس إلى الأحوال، بعد ملاحظة عدم كونه مسوقا لبيان ما

ص: 858


1- كما في المعتبر: 24.
2- الوسائل 230:1 ب 4 من أبواب الأسآر ح 2 - الكافي 5/9:3.
3- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر ح 4 و 6.
4- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر ح 4 و 6.

عدا الطهارة الذاتيّة.

إلاّ أن يستكشف الانسياق لبيان الطهارة على الوجه الأعمّ عن الاستثناء الوارد في الموثّقة لصورة وجود الدم في المنقار، نظرا إلى أنّه إثبات للنجاسة الفعليّة الغير المنافية للطهارة الذاتيّة، فيكون المراد من المستثنى منه إثبات الطهارة الفعليّة الّتي هي أمر زائد على الطهارة الذاتيّة، فحينئذ يبقى المناقشة في الاستدلال بعمومات اخر ممّا ورد في السنّور و الدوابّ و السباع كالصحيحة و الحسنة المتقدّمتين، و غيرهما ممّا سيأتي ذكرها في بحث الهرّة، فإنّ الظاهر المنساق منها كونها لبيان الطهارة الذاتيّة، و ستسمع زيادة بيان في ذلك، فلا ينبغي أخذها مستندة لنفي النجاسة العرضيّة.

و بالجملة فرق واضح بين النجاسة الّتي هي من مقتضيات ذات الحيوان و طبعه و النجاسة الطارئة له لعارض، و الكلام في المسائل السابقة نفيا و إثباتا كان راجعا إلى النجاسة المستندة إلى الذات، و في هذه المسألة راجع إلى النجاسة المستندة إلى ما هو خارج عن الذات، فما انتهض دليلا على نفي النجاسة في المقام الأوّل على جهة الاختصاص لا ينبغي أخذه دليلا على نفيها في المقام الثاني، و إن كان ما انتهض دليلا على نفيها في المقام الثاني صالحا لأن يؤخذ دليلا عليه في المقام الأوّل، و الظاهر أنّ الأخبار المشتملة على استثناء صورة وجود النجاسة من قبيل القسم الثاني، بخلاف الأخبار المتضمّنة لنفي البأس عن سؤر الهرّة و الدوابّ و السباع، فإنّها لا تنطبق إلاّ على المقام الأوّل فتكون من قبيل القسم الأوّل.

المسألة الخامسة: و الظاهر أنّه لا خلاف عندهم في كراهة سؤر الجلاّل و آكل الجيف،

بل نسب القول بالكراهة في كلام غير واحد(1) إلى جمهور أصحابنا في كلّ حيوان غير مأكول اللحم عدا السنّور، و لعلّه لا ضير فيه لرواية الوشّاء المتقدّمة(2)تسامحا في أدلّة السنن، و يمكن الاستناد في ذلك أيضا إلى مستند الكراهة في الأنعام الثلاثة من الخيل و البغال و الحمير من جهة الأولويّة كما لا يخفى؛ و قد شاع في كلامهم التعليل لذلك أيضا بالخروج عن شبهة المنع و التحريم، و ليس على ما ينبغي عند التأمّل،

ص: 859


1- كما في الحدائق الناضرة 432:1.
2- الوسائل 232:1 ب 5 من أبواب الأسآر ح 2 - الكافي 7/10:3.

إذ الخروج عن الشبهة يقتضي المصير إلى ما يلازم الترك و ليس إلاّ الاحتياط، و الكراهة ليست منه و إلاّ كانت تحريما.

نعم، على الاكتفاء في قاعدة التسامح بمجرّد فتوى الفقيه - خصوصا إذا صدرت عن الجمهور - اتّضح حكم المسألة من حيث الكراهة غاية الوضوح كما لا يخفى.

و أمّا السنّور فمقتضى فتوى غير واحد من الأصحاب مع ملاحظة ما ورد فيها من الأخبار الكثيرة النافية للبأس عن سؤره، الحاكمة عليه بكونه من أهل البيت، الآمرة باستعمال سؤره شربا و وضوءا و غيره مع أنواع التأكيدات انتفاء الكراهة عن سؤره، بل قد يستظهر من الأخبار فضل ذلك السؤر، ففي الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الهرّة أنّها من أهل البيت و يتوضّأ من سؤرها»(1) و في آخر عن أبي جعفر عليه السّلام قال في كتاب عليّ عليه السّلام «أنّ الهرّ سبع، و لا بأس بسؤره، و إنّي لأستحيي من اللّه أن أدع طعاما لأنّ الهرّ أكل منه»(2).

و في ثالث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الكلب يشرب من الماء؟ قال:

«اغسل الإناء». و عن السنّور؟ قال: «لا بأس أن تتوضّأ من فضلها، إنّما هي من السبع»(3).

و في رواية أبي الصباح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان عليّ عليه السّلام يقول: لا تدع فضل السنّور أن تتوضّأ [منه]، إنّما هي سبع»(4) و يستفاد منها مع سابقتيها ما أشرنا إليها من القاعدة الكلّيّة في السباع، و في الخبر قال: الصادق عليه السّلام «إنّي لا أمتنع من طعام طعم منه لسنّور، و لا من شراب شرب منه»(5) و في رواية سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، «إنّ عليا عليه السّلام قال: إنّما هي من أهل البيت»(6).

المسألة السادسة: في كلام غير واحد كالمحقّق و العلاّمة و الشهيد تقييد كراهة سؤر الجلاّل آكل الجيف المتضمّنة لطهارته بصورة خلوّ موضع الملاقاة عن عين النجاسة.

ص: 860


1- الوسائل 227:1 ب 2 من أبواب الأسآر ح 1 و 2 - التهذيب 226:1 و 652/227 و 655.
2- الوسائل 227:1 ب 2 من أبواب الأسآر ح 1 و 2 - التهذيب 226:1 و 652/227 و 655.
3- الوسائل 227:1 ب 2 من أبواب الأسآر ح 3 - و فيه: «يشرب من الإناء» بدل «يشرب من الماء».
4- الوسائل 228:1 ب 2 من أبواب الأسآر ح 4 - التهذيب 653/227:1.
5- الوسائل 228:1 ب 2 من أبواب الأسآر ح 7 - الفقيه 11/8:1.
6- الوسائل 228:1 ب 2 من أبواب الأسآر ح 5 - التهذيب 654/227:1.

قال في الشرائع: «و يكره سؤر الجلاّل، و كذا ما أكل الجيف إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة»(1) و في معناه عبارة النافع(2).

و قال في المنتهى: «يكره سؤر ما أكل الجيف من الطير إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة، و هو قول السيّد [المرتضى] - إلى أن قال -: و هكذا سؤر الهرّة و إن أكلت الميتة ثمّ شربت، قلّ الماء أو كثر، غابت عن العين أو لم تغب»(3).

و قال في الدروس: «و يكره سؤر الجلاّل و آكل الجيف مع الخلوّ عن النجاسة»(4)و عن العلاّمة في التذكرة(5) و المحقّق في المعتبر(6) نظير ما ذكره في الهرّة، و فهم جماعة كصاحبي المدارك و الحدائق و غيرهما من تلك العبارة أنّ المراد بها طهارة الهرّة بمجرّد زوال العين، بل في الحدائق: «أنّه المشهور بين الأصحاب»(7).

و جزم به في المدارك قائلا: «و هنا شيء ينبغي التنبيه له، و هو أنّ مقتضى الأخبار المتضمّنة لنفي البأس عن سؤر الهرّة و غيرها من السباع طهارتها بمجرّد زوال العين، لأنّها لا تكاد تنفكّ عن النجاسات خصوصا الهرّة، فإنّ العلم بمباشرتها للنجاسة متحقّق في أكثر الأوقات، و لو لا ذلك للزم صرف اللفظ الظاهر إلى الفرد النادر، بل تأخير البيان عن وقت الحاجة، و أنّه ممتنع عقلا، و بذلك صرّح المصنّف في المعتبر(8) و العلاّمة في التذكرة(9) و المنتهى(10)، فإنّهما قالا: إنّ الهرّة لو أكلت ميتة ثمّ شربت من الماء القليل لم ينجّس بذلك، سواء غابت أو لم تغب»(11) انتهى.

أقول: ما سمعته من الاستدلال على الطهارة بمجرّد زوال العين موافق لما ذكره العلاّمة في المنتهى، فإنّه بعد قوله: «و هو قول السيّد المرتضى في العبارة المتقدّمة قال:

«لنا: ما أوردناه من الأحاديث العامّة في استعمال سؤر الطيور و السباع، و هي لا تنفكّ عن تناول ذلك عادة، فلو كان ذلك مانعا لوجب التنصيص عليه، و إلاّ لزم صرف الطهارة(12)

ص: 861


1- شرائع الإسلام 16:1.
2- المختصر النافع: 44.
3- منتهى المطلب 161:1.
4- الدروس الشرعيّة 123:1.
5- تذكرة الفقهاء 42:1.
6- المعتبر: 25.
7- الحدائق الناضرة 433:1.
8- المعتبر: 25.
9- تذكرة الفقهاء 42:1.
10- منتهى المطلب 161:1.
11- مدارك الأحكام 133:1.
12- هكذا في الأصل، و في منتهى المطلب المطبوعة: «الظاهر» بدل «الطهارة».

إلى نادر لا دلالة للفظ السائل(1) عليه، و ذلك بعيد و محال من حيث إنّه تأخير البيان عن وقت الحاجة» انتهى(2).

و محصّل مراده: أنّ الغالب في الهرّة و غيرها من السباع إنّما هو مباشرة النجاسات من الجيف و غيرها، و ما لم يباشرها منها أصلا ليس إلاّ فردا نادرا، و النصوص قد تضمّنت نفي البأس عن أسئارها فتكون دالّة على طهارتها، فإمّا أن يراد بها بيان الحكم للفرد النادر و هو الّذي لم يباشر النجاسات أصلا، أو للأفراد الغالبة الّتي لا تنفكّ عن مباشرة النجاسات، و لا سبيل إلى الأوّل لانصراف اللفظ المجرّد إلى الغالب، فلو كان المراد به بيان الحكم للفرد النادر لوجب التنصيص عليه بنصب قرينة توجب انفهامه لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، من حيث إنّ السائل لا دلالة للفظه على إرادة ذلك الفرد بل هو ظاهر في إرادة الغالب، و من الواجب انطباق الواجب عليه حذرا عن المحذور فتعيّن الثاني.

لكن يبقى الإشكال في وجه تقييدهم الطهارة بصورة زوال عين النجاسة عن موضع الملاقاة، نظرا إلى إطلاق النصوص بالقياس إلى تلك الصورة أيضا، و كأنّه نشأ عن غلبة اخرى في مورد الغلبة الاولى، إذ كما أنّ الغالب في الهرّة و غيرها من السباع مباشرة النجاسات، فكذلك الغالب فيما يباشرها وروده على الماء بعد زوال عين النجاسة عن موضع ملاقاة الماء، إذ لا ملازمة بين غلبة مباشرة النجاسة و غلبة ملاقاة الماء مع النجاسة، بل الغالب عند الملاقاة عدم وجود النجاسة، فيكون الفرد النادر - و هو ملاقاة الماء مع وجود النجاسة - خارجا عن النصوص المنصرفة إلى الغالب.

و قضيّة ذلك اندراج تلك الصورة في قاعدة انفعال القليل بملاقاة النجاسة، فاشتراط الخلوّ عن عين النجاسة عمل بتلك القاعدة حيث لا معارض لها حينئذ لا أنّه مستفاد من النصوص.

و يمكن القول بأنّ ذلك جمع بين تلك النصوص و أدلّة القاعدة المذكورة، من حيث

ص: 862


1- هكذا في الأصل، و في النسخة المطبوعة: «الشامل» بدل «السائل»، و لا يبعد صحّة ما في الأصل، بناء على ما سيجيء منه قدّس سرّه في بيان معنى العبارة.
2- منتهى المطلب 161:1.

إنّ بين كلّ مع الآخر عموم من وجه كما يظهر بالتأمّل، لكن في كلّ من الوجهين شيء يظهر للمتأمّل أيضا.

و كيف كان فللعلاّمة قول آخر في النهاية - حكاه جماعة - و هو «أنّه لو نجس فم الهرّة بسبب كأكل الفأرة و شبهه، ثمّ وقعت في ماء قليل، و نحن نتيقّن نجاسة فمها، فالأقوى النجاسة، لأنّه ماء قليل لاقى نجاسة، و الاحتراز يعسر عن مطلق الولوغ، لا عن الولوغ بعد تيقّن النجاسة، و لو غابت من العين و احتمل ولوغها في كثير أو جار لم ينجّس، لأنّ الإناء معلوم الطهارة، فلا يحكم بنجاسته بالشكّ»(1).

و نتيجة كلامه - على ما فهمه جماعة - إناطة الطهارة بالغيبة مع احتمال الولوغ في الكثير أو الجاري لا بمجرّد زوال عين النجاسة، و في المدارك بعد ما نقل هذا القول عن النهاية قال: «و هو مشكل، و قد قطع جمع من المتأخّرين بطهارة الحيوان غير الآدمي بمجرّد زوال العين، و هو حسن، للأصل و عدم ثبوت التعبّد بغسل النجاسة عنه»(2).

و إلى هذا أشار في الحدائق بقوله: «و ألحق جملة من المتأخّرين بها - يعني بالهرّة - كلّ حيوان غير آدمي»(3).

و فيه(4) أيضا قول بالنجاسة و أصالة البقاء عليها نقله من دون تعيين قائله، ثمّ نقل القول بالطهارة بالغيبة عن نهاية العلاّمة، و التأمّل في العبارة المتقدّمة للنهاية يعطي أنّه لا يريد الحكم بطهارة الهرّة بسبب الغيبة و لو مع الاحتمال المتقدّم، بل مراده الحكم بطهارة الماء الملاقي لها عملا بالأصل فيه الّذي لا يرتفع بالشكّ، و ذلك لا ينافي بقاء الهرّة أيضا على وصف النجاسة و لو بحكم الأصل الموجود فيه.

نعم، مبنى كلامه على عدم تحكيم استصحاب النجاسة على استصحاب طهارة الملاقي، و هو خلاف طريقة الأصحاب الّتي قضت بها أخبار الاستصحاب، و على أيّ حال كان فقد تبيّن أنّ في الحيوانات المباشرة للنجاسات أقوالا.

أحدها: طهارتها بمجرّد زوال عين النجاسة.

و ثانيها: النجاسة مطلقا عملا بأصالة البقاء.

ص: 863


1- نهاية الإحكام 239:1 مع اختلاف يسير في بعض الفقرات.
2- مدارك الأحكام 134:1.
3- الحدائق الناضرة 433:1.
4- الحدائق الناضرة 433:1.

و ثالثها: الطهارة بالغيبة مع الاحتمال لا غير.

و تمكّن أخذ الطهارة بالغيبة المطلقة أيضا قولا في المسألة و إن لم يكن نقله أحد، و يمكن اعتبار الغيبة توصّلا إلى إبداء الاحتمال المحرز لموضوع الاستصحاب في الماء لا للتوصّل إلى طهارة الحيوان كما هو ظاهر عبارة النهاية.

ثمّ إنّ لقولهم بالطهارة لمجرّد الزوال معنيين:

أحدهما: كون زوال العين موجبا لارتفاع أثرها الحاصل في جسم الحيوان الغير الآدمي، بناء على أنّه كجسم الآدمي تقبل النجاسة، و هي الأثر الحاصل فيه بعروض العين له، فعليه يكون الزوال من جملة المطهّرات.

و ثانيهما: كونه موجبا لبروز الطهارة الأصليّة الّتي كانت للحيوان قبل عروض العين له، بناء على أنّه ليس كجسم الآدمي في قبول النجاسة، بل هو قبل عروض العين و حاله باق على وصف الطهارة، غاية الأمر أنّ العين ما دامت موجودة مانعة عن ترتيب أحكام الطهارة على المحلّ، فإذا زالت بقيت الطهارة الموجودة في المحلّ حال وجودها بلا مانع عن ترتيب أحكامها عليه.

فالعين على أوّل المعنيين رافعة لطهارة المحلّ، و على ثانيهما مانعة عن ترتّب أحكامها عليه، و هذا هو الّذي مال إليه بعض مشايخنا(1)، بل في كلامه ما يقضي برجوع قولهم: «أنّ الحيوانات تطهر بزوال العين» إلى هذا المعنى.

و محصّل هذا المعنى: «أنّه لا يحكم بتنجيس هذه النجاسات، لأبدان الحيوانات، بل تكون من قبيل البواطن، فلا تنفعل بملاقاة النجاسات، بل إن كانت عين النجاسة موجودة كان الحكم مستند إليها، و إلاّ فلا».

إلى أن قال: «و لعلّه إلى ما ذكرنا أشار السيّد مهدي في منظومته:

و اجعل زوال العين في الحيوان *** طهرا كذا بواطن الإنسان»(2)

فعلم من جميع ما ذكر: أنّ في كون أجسام سائر الحيوانات كسائر المتنجّسات في افتقارها إلى مطهّر خارجي و مزيل شرعي و عدمه خلافا.

ص: 864


1- و هو صاحب الجواهر رحمه اللّه لاحظ جواهر الكلام 676:1.
2- الجواهر 676:1 - لاحظ الدرّة النجفيّة: 54.

فما يقال: من أنّ الظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب في أنّ جسم الحيوانات لا يعامل معها معاملة غيرها من كفاية العلم بنجاستها في زمان في وجوب الاجتناب عنها إلى أن يعلم طهارتها بمطهّر غيرها، ليس على ما ينبغي، إلاّ أن يرجع إلى إنكار وجود القول بالنجاسة المطلقة، الّذي مرجعه إلى القول باعتبار مطهّر خارجي حسبما نقله في الحدائق(1).

و كيف كان فهاهنا صور:

إحداها: ملاحظة جسم الحيوان قبل العلم بمباشرة النجس، و هذا ممّا لا إشكال لأحد في الحكم عليه بالطهارة عملا بأصالة الطهارة.

و ثانيتها: ملاحظته بعد حصول مطهّر شرعي له، بوروده على الكثير أو الجاري بعد مباشرة النجاسة، و هذا أيضا ممّا لا إشكال لأحد في الحكم عليه بالطهارة.

و ثالثتها: ملاحظته حال وجود النجاسة العينيّة، و هذا أيضا ممّا لا إشكال لأحد في عدم ترتيب أحكام الطهارة عليه، إمّا لوجود الرافع أو لوجود المانع.

و رابعتها: ملاحظته بعد زوال عين النجاسة قبل العلم بحصول المطهّر الخارجي، فهذا هو محلّ الخلاف في أنّه هل يكفي مجرّد ذلك في الحكم عليه بالطهارة، أو يتوقّف على الغيبة، مع احتمال حصول المزيل الشرعي بوروده على كرّ أو جار، أو لا يكفي شيء من ذلك، بل يتوقّف الحكم بالطهارة على حصول المزيل؟

و الأقوى وفاقا للأكثر هو الأوّل، لكن لا على معنى كون الزوال مطهّرا، بل على معنى كونه من باب ارتفاع المانع، فالطهارة الموجودة بعده هي الطهارة الأصليّة الّتي صادفها المانع في زمان فارتفع ذلك المانع بفرض زوال العين، من غير فرق في ذلك بين الهرّة و غيرها من سائر أنواع الحيوانات، أكلت لحمها أو لا، لكن لا للأخبار النافية للبأس عن سؤرها كما عرفت الاستناد إليها في الجملة عن العلاّمة و صاحب المدارك(2)، فإنّ جملة من تلك الأخبار قد عرفت سابقا أنّه لا تعلّق لها بمقام البحث، كأخبار الهرّة و الصحيحة مع الحسنة المتقدّمتين فيها و في الدوابّ و السباع، لما عرفت

ص: 865


1- الحدائق الناضرة 343:1.
2- مدارك الأحكام 133:1 - تذكرة الفقهاء 42:1 - المعتبر: 25.

من عدم تعرّض فيها إلاّ لبيان الطهارة الذاتيّة، و لا سيّما الصحيحة و الحسنة، لما فيهما من تعليل المنع عن سؤر الكلب بنجاسته الّتي هي بالقياس إليه ذاتيّة، فيكون الرخصة في سؤر ما عداه من الأنواع المذكورة فيهما لطهارتها الذاتيّة، فلا ينافيها المنع لنجاسة عرضيّة، فلا تعرّض في تلك الأخبار لبيان الطهارة الفعليّة فضلا عن تعرّضها لبيان كيفيّة تلك الطهارة و بيان حال الحيوان بعد زوال عين النجاسة العرضيّة، فالتمسّك بها في هذه المقامات ليس إلاّ من الخرافات الناشئة عن سوء الفهم و قلّة التدبّر.

و أمّا جملة اخرى من أخبار الباب كما في موثّقة عمّار من قوله: و عن ماء يشرب منه باز، أو صقر، أو عقاب، فقال: «كلّ شيء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه، إلاّ أن ترى في منقاره دما، فإن رأيت شيئا في منقاره فلا تتوضّأ منه و لا تشرب».

و سأل عن ماء شربت منه الدجاجة، قال: «إن كان في منقارها قذر لا تشرب و لا تتوضّأ منه، و إن لم تعلم أنّ في منقارها قذرا توضّأ و اشرب»(1) و إن كانت متعرّضة لبيان الطهارة الفعليّة بقرينة الاستثناء القاضي بالنجاسة الفعليّة، غير أنّه لا يستفاد منها أيضا ما يتعلّق بالمقام من كفاية زوال عين النجاسة في الحكم على الحيوان بالطهارة و عدمها، لما في المستثنى من الإجمال، حيث لا يعلم أنّه حالة وجود عين النجاسة بخصوصها حتّى يفارق سائر أنواع الحيوان من الإنسان من جهته، أو هي مع ما بعدها إلى أن يعلم بحصول المزيل الشرعي، حتّى يشارك الحيوان الإنسان في أنّه لا يحكم عليه بالطهارة إلاّ إذا لم يعلم بطروّ عين النجاسة، أو علم معه بحصول المزيل، فيكون النظر في تلك الأخبار على هذا الاحتمال - كالأخبار الواردة في طهارة ثياب المشركين و أوانيهم - إلى أصالة الطهارة.

فالقول: بأنّ الأخبار الواردة في أسآر ما يعلم بطهارته من الحيوانات كالحمام و الدجاجة و غيرها لم يستثن فيها إلاّ صورة وجود النجاسة على جسم الحيوان، و المناسب على تقدير إناطة الحكم بأصالة الطهارة استثناء صورة العلم بتنجيس نفس الجسم، بإطلاقه ليس على ما ينبغي، لما عرفت من أنّ مقتضى الاحتمال الثاني الجاري في تلك الأخبار مساويا للاحتمال الأوّل هو إناطة الحكم في هذه الحيوانات أيضا بأصالة الطهارة.

ص: 866


1- الوسائل 230:1 ب 4 من أبواب الأسآر ح 2 و 3 - التهذيب 660/228:1 - الكافي 5/9:3.

و كيف كان فقضيّة الإجمال الناشئ عن تساوي الاحتمالين سقوط الاستدلال بتلك الأخبار أيضا على حكم المسألة، بل المستند في الحقيقة في عموم المسألة ممّا اخذ عنوانا في الأخبار و ما لم يؤخذ هو الأصل، فإنّ فتوى الفقهاء بطهارة الحيوان بمجرّد زوال العين مع ملاحظة ما تقدّم من المعنيين في شرح هذه العبارة و مصير بعضهم إلى ثانيهما يوجب الشكّ في عروض صفة النجاسة - و هو الأثر الحاصل من عين النجس الجسم الحيوان، الملازم لزوال طهارته الأصليّة الموجودة فيه قبل وجود العين عليه - و عدمه، و من البيّن أنّ الأصل عدم عروض ذلك الأثر، كما أنّ الأصل بقاء الطهارة الأصليّة، و لا ينافيه عدم ترتّب آثار الطهارة على الجسم ما دامت العين موجودة عليه، لجواز استناد ذلك إلى وجود المانع - حسبما فصّلناه - لا إلى فقد المقتضي، و لا ريب أنّ مجرّد الاحتمال كاف في جريان الأصل و صحّة الاستناد إليه.

لا يقال: هذا الأصل قد انقطع بعموم قاعدة تنجيس النجاسات العينيّة لما يلاقيها من الأجسام و غيرها، المستفادة من عمومات النجاسات، ضرورة أنّ القاعدة إذا استفيدت من الدليل دليل بالقياس إلى مورد الأصل رافع لموضوعه، فلا أصل حينئذ، بل الأصل بعد زوال عين النجاسة عن جسم الحيوان يقتضي الحكم عليه بالنجاسة إلى أن يعلم المزيل، و معه كيف يحكم بالطهارة لمجرّد زوال العين.

لأنّا نمنع ثبوت هذه القاعدة على جهة العموم حتّى بالقياس إلى جسم الحيوان غير الإنسان، فإنّها ليست لفظا عامّا، و لا ثابتة بلفظ عامّ شامل لمثل المقام، بل هي أمر معنوي مستفاد عن الإجماع و الأخبار الجزئيّة الواردة في أبواب النجاسات الآمرة بغسل ما يلاقيها من أنواع المتنجّسات.

و لا ريب أنّ ملاحظة كلام الفقهاء - حسبما تقدّم - مع ما علم من سيرة قاطبة المسلمين من عدم التزامهم بغسل الحيوانات عند ملاقاتها للنجاسات، بل ملاحظة ما يرد من الحكم بالسفه على من التزم ذلك، يوجب الشكّ في انعقاد هذه القاعدة على جهة العموم، بل التتبّع في النصوص و آثار الأئمّة عليهم السّلام في تفاصيل أحكام النجاسات يعطي عدم انعقاد القاعدة إلاّ في الإنسان، و ما يتعلّق به من الأواني و الثياب، حيث لا يوجد فيها ما يأمر بغسل الحيوانات أيضا مع عموم البلوى بأكثرها، كالآمرة منها بغسل الإنسان و أوانيه و ثيابه.

ص: 867

و كأنّه إلى ذلك ينظر ما تقدّم عن المدارك(1) من الاستناد إلى عدم ثبوت التعبّد بغسل النجاسة عنه، لما استحسنه من طهارة الحيوان غير الآدمي بمجرّد زوال العين، كما أنّ الأصل الّذي اعتمد عليه - مع ما ذكر - أمكن رجوعه إلى ما قرّرناه.

و يوافقه في منع ثبوت التعبّد بالغسل ما نقل عن المعالم من أنّه «لو فرضنا عدم دلالة الأخبار على العموم، فلا ريب أنّ الحكم بتوقّف الطهارة في مثلها على التطهير المعهود شرعا منفيّ قطعا، و الواسطة بين ذلك و بين زوال العين يتوقّف على الدليل، و لا دليل»(2).

فإنّ مراده بالعموم في فرض عدم دلالة الأخبار عليه عموم الحكم بالطهارة لمجرّد زوال العين في سائر الحيوانات، و ما نفاه من الدليل على وجود الواسطة مرجعه إلى إنكار ثبوت القاعدة المشار إليها على جهة العموم.

فما يقال في دفعه: من أنّ النظر في أخبار النجاسات يقضي بثبوت قاعدتين.

الاولى: أنّها تنجّس كلّ ما تلاقيه، و مثلها المتنجّسات.

و الثانية: أنّ كلّ متنجّس لا يطهّر إلاّ بالغسل بالماء، بل يكفي في الثانية الاستصحاب، و لو لا هما لثبت الإشكال في كثير من المقامات، ليس على ما ينبغي، فإنّ ثبوت القاعدة الاولى على الإطلاق في حيّز المنع، و معه دعوى عدم ثبوت التعبّد بالغسل و عدم ثبوت الواسطة بين طهارة الحيوانات و بين زوال عين النجاسات عنها متّجهة، كما أنّ التمسّك بالأصل - حسبما قرّرناه - ممّا لا مانع عنه من معارض اجتهادي أو فقاهي، فلا يكون الحكم بالطهارة لمجرّد الزوال بالمعنى المتقدّم واردا على خلاف أصل و لا قاعدة.

فاندفع بذلك ما قيل أيضا: «من أنّ هذا الحكم مخالف لإحدى قواعد اقتضتها العمومات.

إحداها: قاعدة تنجيس النجاسات [العينيّة] لما يلاقيها حتّى أجسام الحيوانات.

الثانية: عدم زوال نجاسة المتنجّس و لو كان جسم حيوان بمجرّد زوال عين النجاسة عنه.

الثالثة: تنجيس المتنجّس و لو كان جسم حيوان لما يلاقيه من المياه و غيرها.

الرابعة: أنّ النجاسة إذا ثبتت في محلّ فهي مستصحبة.

ص: 868


1- مدارك الأحكام 134:1.
2- فقه المعالم 368:1.

الخامسة: أنّ استصحاب نجاسة الشيء حاكم على استصحاب طهارة ملاقيه.

إلى أن قيل: ثمّ الأولى إخراج المقام من القاعدة الثانية(1) لأصالة بقاء الأوّلين على عمومهما، و لا يرد ذلك في الثالثة لأنّ مستندها راجع إلى الاستصحاب، فيصلح أخبار الباب للورود عليه بجعل زوال العين من جملة المطهّرات، فلا يلزم من ذلك طرح الاستصحاب كما لا يخفى»(2).

فإنّ القاعدة الاولى إذا لم تكن متناولة للمقام فالقواعد الاخر كلّها مسلّمة في مجاريها و المقام ليست منها، فلا مخالفة فيه لشيء منها، و أخبار الباب لو صلحت دليلا على المقام لم تكن مخرجة عن شيء من تلك القواعد، و لا مخصّصة لقاعدة انفعال القليل بملاقاة كلّ من النجس و المتنجّس.

و من هنا يعلم الوجه في استثناء صورة وجود عين النجاسة، فإنّه في الحقيقة عمل على عموم قاعدة الانفعال، لاستناد الانفعال حينئذ إلى عين النجاسة، فإذا زالت العين خرج المقام من جهة الأصل المذكور عن كونه من موارد تلك القاعدة، إذ لا نجس حينئذ بحكم الفرض و لا متنجّس بحكم الأصل، ثمّ إنّ في بعض فقرات الكلام المذكور أيضا نظرا يظهر بالتأمّل.

و بجميع ما ذكر انقدح أنّ الزوال في محلّ الكلام الموجب لطهارة المحلّ - بالمعنى المختار - أعمّ من الجفاف، فيما إذا كانت النجاسة من قبيل الماء و إن أفادت خشونة أو ثخنا لما كانت عليه، فإنّ مرجع الزوال - على ما بيّنّاه - إلى ارتفاع المانع، و هذا يتحقّق مع الجفاف في المائع الخالي عن العين الّتي يبقى بعد الجفاف، كما في الدم و المنيّ، إلاّ أن لا يصدق الزوال عرفا مع ما فرض حدوثه من الخشونة أو الثخونة.

فما عن الشهيد في الذكرى من الاعتراض على الشيخ و المحقّق فيما حكى عنهما في مسألة ما لو طارت الذبابة عن النجاسة إلى الثوب أو الماء - من: «أنّه عند الشيخ

ص: 869


1- و في النسخة المطبوعة من طهارة الشيخ: «الثالثة» بدل «الثانية»، و لا يخفى أنّ ما في المتن هو الصواب بالنظر إلى مقتضى التعليل الّذي ذكره، و لكن لا يناسبه قوله بعدها: «لأصالة بقاء الأوّلين على عمومهما» اللّهم إلاّ أن يقال: بحصول التقدّم و التأخّر فيما تقدّم فلاحظ و تأمّل.
2- القائل هو الشيخ الأنصاري رحمه اللّه - انظر كتاب الطهارة 377:1.

عفو، و اختاره نجم الدين المحقّق في الفتاوي، لعسر الاحتراز، و لعدم الجزم ببقائها، لجفافها بالهواء» - بأنّه: «إنّما يتمّ في الثوب دون الماء»(1)، لم يصادف محلّه ما لم يرجع الفرض إلى ما بقى عينه بعد الجفاف كما لا يخفى.

و بجميع ما ذكر تبيّن الحال في بواطن الإنسان المحكوم عليها بالطهارة بزوال العين، فإنّ الّذي ينبغي أن يراد منه هنا أيضا إنّما هو عدم انفعال الباطن بما لاقته من النجاسة، بل العين ما دامت موجودة فأحكام النجاسة مستندة لها، و إلاّ بقيت الطهارة الأوّليّة بلا مقارنة المانع.

و إلى هذا المعنى ينبغي أن ينزّل ما يقتضيه ظاهر كلماتهم من عدّ زوال العين من المطهّرات في البواطن و الحيوان غير الآدمي.

و أمّا الغيبة فلا أثر لها في الحيوان غير الإنسان، و أمّا هو فكونها بالنسبة إليه من المطهّرات مطلقا أو بشروط آخر مقرّرة عندهم، فيأتي تحقيق البحث عنه في بحث المطهّرات إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ لا ملازمة بين كون زوال العين من المطهّرات و كون الغيبة منها و لو من جهة استلزامها الزوال، لأنّ النسبة بينهما عموم من وجه، فقد يزول العين بدون الغيبة، و قد يغيب مع عدم زوال العين إلى أن حصل معه مباشرة الماء و نحوه ممّا ينفعل، فحينئذ لو غاب بعد مباشرة النجاسة فباشر الماء قبل العلم بزوال العين، فإن كان ذلك مع العلم بعدمه فالمتّجه انفعال ذلك، و إن كان مع الشكّ في تحقّق الزوال و عدمه فالأوجه أيضا الحكم عليه بالانفعال، تحكيما لاستصحاب بقاء العين على استصحاب الطهارة الماء.

المسألة السابعة: المشهور محصّلا و محكيّا - كما صرّح به غير واحد - كراهة سؤر البغال و الحمير،

كما في الشرائع(2) و اللمعة(3) و عن التحرير(4) و الإرشاد(5) و الذكرى(6).

أو «سؤر البغال و الحمير و الخيل» كما عن نهاية الأحكام(7) و عن المنتهى

ص: 870


1- ذكرى الشيعة 83:1.
2- شرائع الإسلام 16:1.
3- اللمعة الدمشقيّة 47:1.
4- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.
5- إرشاد الأذهان 238:1.
6- ذكرى الشيعة 107:1.
7- نهاية الإحكام 240:1 و في النسخة المطبوعة: «الدوابّ» بدل «الخيل».

أيضا(1) لكن مع تبديل «الخيل» ب «الفرس».

أو «سؤر البغال و الحمير الأهليّة» كما عن جامع المقاصد(2) مصرّحا بعدم كراهة سؤر الوحشيّة، بل قيّد «الأهليّة» معتبر في الحمير، و إن أطلقها جماعة كما صرّح به في المدارك(3) و نقل التصريح به عن الميسي(4) كما عرفته عن الكركي، و في المدارك: «إذ الوحشيّة لا كراهة في سؤرها»(5) كما عرفته عن المقاصد أيضا.

و ربّما يعمّم الحكم بالقياس إلى كلّ ما يكره لحمه كما يقتضيه صريح الدروس في قوله: «السؤر يتبع الحيوان طهارة و نجاسة و كراهة»(6) و ظاهر تعليلهم في البغال و الحمير كما عن الذكرى(7)، و جامع المقاصد(8)، و الروضة(9)، بأنّ: «السؤر لا يخلو عن فضلات الفم، و هي تابعة للّحم، و هو مكروه فكانت مكروهة، فكان السؤر مكروها».

و هذا التعليل كما ترى يستدعي كون الملازمة بين كراهة اللحم و كراهة السؤر من الامور المسلّمة.

و كيف كان فالعمدة بيان مستند الحكم، و لو لا الكراهة من الامور الّتي يتسامح فيها و في دليلها أمكن المناقشة فيها هنا، حيث لم يذكر لها مستند إلاّ ما ذكر في التعليل الّذي قد يمنع فيه الكبرى، و هي دعوى التبعيّة في الكراهة، لوجوب كونها عن دليل شرعي، و ليس فليس.

و استدلّ جماعة بمفهوم مضمرة سماعة الّذي قيل فيه: «أنّه لا يروي إلاّ عن الإمام عليه السّلام»(10) فلا يضرّ إضماره، كما لا يقدح جهالة السند بأبي داود لمكان التسامح في دليل الكراهة.

قال: سألته هل يشرب سؤر شيء من الدوابّ أو يتوضّأ؟ فقال: «أمّا الإبل و البقر و الغنم فلا بأس»(11).

و كأنّ إثبات المفهوم هنا - مع أنّه من باب اللقب - لورودها في مقام البيان

ص: 871


1- منتهى المطلب 148:1.
2- جامع المقاصد 124:1.
3- مدارك الأحكام 136:1.
4- نقل عنه في مفتاح الكرامة 84:1.
5- مدارك الأحكام 136:1.
6- الدروس الشرعيّة 123:1.
7- ذكرى الشيعة 107:1.
8- جامع المقاصد 124:1.
9- ) الروضة البهيّة 47:1.
10- الوسائل 232:1 ب 5 من أبواب الأسآر ح 3 - الكافي 3/9:3.
11- الوسائل 232:1 ب 5 من أبواب الأسآر ح 3 - الكافي 3/9:3.

و التفصيل، و حمل البأس الثابت بالمفهوم هنا على الكراهة، مع أنّه أعمّ من الحرمة كما اعترف به جماعة، جمعا بينها و بين الأخبار النافية للبأس الّتي يأتي إليها الإشارة، نظرا إلى أنّ نفي البأس يراد به الرخصة الغير المنافية للكراهة.

و قد يستدلّ أيضا بالمرسلة المتقدّمة [عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «إنّه] كان يكره سؤر كلّما لا يؤكل لحمه»(1) بناء على حمل «ما لا يؤكل لحمه» على إرادة الأعمّ ممّا لا يعتاد أكله و ما لم يخلق لأجل الأكل.

و استدلّ أيضا بخبر ابن مسكان عن الصادق عليه السّلام سألته: عن الوضوء بما ولغ فيه الكلب و السنّور، أو شرب منه جمل أو دابّة أو غير ذلك، أ يتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال:

«نعم، إلاّ أن تجد غيره فتنزّه [عنه]»(2).

و لا قائل هنا بالفصل بين الوضوء و غيره، و لعلّه مبنيّ على أنّ خروج بعض مدلول الخبر عنه لدليل لا يقدح في العمل عليه للبعض الآخر من مدلوله، و إلاّ فلا إشكال في المنع عن سؤر الكلب، كما لا كلام في عدم كراهة سؤر السنّور كما تقدّم.

لكن قد يعارض الجميع بصحيحة أبي العبّاس البقباق المتقدّمة(3) النافية للبأس عن سؤر البقر و الإبل و الحمار و الخيل و البغال و الوحش و السباع، و رواية معاوية بن شريح(4) المرخّصة بكلمة الإيجاب في سؤر السنّور و الشاة و البقرة و البعير و الفرس و البغل و السباع.

لكنّ الإنصاف عدم ظهور شيء من ذلك في المعارضة لما تقدّم، لورود نفي البأس و الإيجاب فيهما في مقابل سؤر الكلب، فيراد بهما مجرّد نفي المنع، و هو لا ينافي الكراهة.

نعم، إنّما يحسن المعارضة بصحيحة جميل بن درّاج قال: سألت الصادق عليه السّلام عن سؤر الدوابّ و الغنم و البقر، أ يتوضّأ منه و يشرب؟ فقال: «لا بأس»(5).

و صحيحة عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام قال: «لا بأس بأن تتوضّأ ممّا يشرب

ص: 872


1- الوسائل 232:1 ب 5 من أبواب الأسآر ح 2.
2- الوسائل 228:1 ب 2 من أبواب الأسآر ح 6 - التهذيب 649/226:1.
3- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر ح 4 و 6.
4- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر ح 4 و 6.
5- الوسائل 232:1 ب 5 من أبواب الأسآر ح 4 - التهذيب 657/227:1.

منه ما يؤكل لحمه(1).

و موثّقة عمّار المتضمّنة لقوله عليه السّلام «كلّما يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره و يشرب»(2).

و لعلّه لأجل هذه الأخبار صار بعض المتأخّرين - كما حكي - إلى عدم الكراهة، بل هو صريح الحدائق حيث أنّه بعد ما ذكر هذه الأخبار عقيب ما ذكره من مستند القول بالكراهة قال: «و الحقّ تقديم العمل بهذه الأخبار، لاستفاضتها و صراحتها، و صحّة أكثرها، و ضعف ما عارضتها سندا و دلالة»(3).

هذا مع ملاحظة ما قيل: من ظهور كلمة «لا بأس» في نفي جميع أفراد البأس منها الكراهة، لمكان كونها نكرة في سياق النفي، لا أنّها تفيد نفي العذاب خاصّة، و لعلّه إلى ذلك ينظر ما ادّعاه الحدائق من قوّة هذه الأخبار دلالة.

لكنّ الإنصاف عدم صلاحية ذلك لمعارضة ما تقدّم بعد مراعاة قاعدة المسامحة ثمّة، و دعوى ظهور نفي البأس فيما ذكر غير مسموعة، بل الإنصاف بملاحظة الانسباق العرفي أنّها في نظائر المقام ظاهرة في رفع توهّم النجاسة أو الحرمة، فلا يراد منها ما ينافي الكراهة، و لذا يقال: بظهورها في إرادة الإذن الغير المنافية لها، و الأمر بالتوضّؤ و الشرب في الخبر الأخير لا يراد منه في نظائر المقام إلاّ الإرشاد إلى انتفاء النجاسة أو غيرها من جهات المنع، مع ظهور قوله: «ما يؤكل لحمه» فيه و في سابقه فيما يكون أكل لحمه بعد الجواز الشرعي الغير المنافي للكراهة معتادا و متعارفا بين الناس.

مع أنّه قد يقال: إنّ البقر بمفهومه يشمل الجاموس أيضا الّذي يكون لحمه مكروها، فينبغي أن يراد بنفي البأس عن سؤره الوارد في الصحيحة ما لا ينافي الكراهة، فتأمّل، فإنّ ذلك لعلّه مبنيّ على الملازمة المدّعاة بين كراهة لحم الحيوان و كراهة سؤره، و قد سمعت المناقشة فيه.

و مع الغضّ عن جميع ذلك فلعلّ الشهرة الموجودة في المقام بكلا قسميها كافية في إثبات هذا الحكم لقاعدة التسامح، على أنّه لا مخالف في المسألة ظاهرا عدا ما عرفت

ص: 873


1- الوسائل 231:1 ب 5 من أبواب الأسآر ح 1.
2- الوسائل 230:1 ب 4 من أبواب الأسآر ح 2 - التهذيب 642/224:1.
3- الحدائق الناضرة 428:1.

نقله عن بعض المتأخّرين، و لعلّ المراد به صاحب الحدائق الّذي سمعت كلامه، المتضمّن لترجيح عدم الكراهة.

و ربّما يستظهر ذلك أيضا من المفيد من قدماء أصحابنا لقوله في المقنعة: «و لا بأس بالوضوء من فضلة الخيل، و البغال، و الحمير، و الإبل، و البقر، و الغنم، و ما شرب منه سائر الطير إلاّ ما أكل الجيف، فإنّه يكره الوضوء بفضلة ما [قد] شرب منه» انتهى(1).

فإنّ استثناءه يقضي بأن يكون مراده بالبأس المنفيّ ما يعمّ الكراهة، لكون الحكم الثابت في المستثنى هو الكراهة، كما صرّح به في العبارة أيضا.

و لك أن تمنع مخالفة المفيد تعويلا على هذه العبارة، لما يقال: من أنّ الكراهة في أخبار الأئمّة المعصومين و كلام علمائنا المتقدّمين كان كثير الاستعمال في الحرمة، بل ربّما يدّعي ظهورها فيها، و كونها بما يقابل الحرمة اصطلاح محدث من الفقهاء، فلا ينزّل عليه إطلاقات الأخبار و العلماء الأخيار، فهذه هو الحكم الثابت في المستثنى، لجواز أن يكون المفيد ممّن يمنع عن سؤر أكل الجيف أو ينجّسه كما تقدّم القول به فيما بين الأصحاب، فيكون الحكم المأخوذ في المستثنى المفاد بكلمة «لا بأس» نفي الحرمة، فلا ينافي الكراهة و لو في بعض ما ذكر من الامور المفصّلة.

المسألة الثامنة: المعروف من المذهب - كما حكي - كراهة سؤر الفأرة،

و هو مقتضى ما تقدّم من عموم الكراهة فيما لا يؤكل لحمه، فهي تتضمّن أمرين.

الأوّل: عدم المنع عن هذا السؤر.

و الثاني: كون الإذن فيه على جهة الكراهة دون الندب و الإباحة.

و دليل الأوّل - مضافا إلى ما تقدّم ذكرها في المسائل السابقة من الروايات العامّة أو المطلقة الشاملة لمثل المقام جزما، بل الشهرة المحكيّة -: الأخبار المستفيضة النافية للبأس عنه و الآمرة باستعماله، كالصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام في حديث قال: و سألته عن الفأرة وقعت في جبّ دهن، و اخرجت قبل أن تموت، أ يبيعه من مسلم؟ قال: «نعم، و يدهّن منه»(2).

ص: 874


1- المقنعة: 65.
2- الوسائل 238:1 ب 9 من أبواب الأسآر ح 1 - التهذيب 1326/419:1.

و خبر إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ أبا جعفر عليه السّلام كان يقول: «لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء، أن تشرب منه و تتوضّأ منه»(1) و المرويّ عن الحميري في قرب الاسناد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه السّلام «أنّ عليّا عليه السّلام قال: «لا بأس بسؤر الفأر أن يشرب منه و يتوضّأ»(2).

و خبر هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الفأرة، و العقرب، و أشباه ذلك، يقع في الماء فيخرج حيّا، هل يشرب من ذلك الماء و يتوضّأ به؟ قال:

«يسكب منه ثلاث مرّات، و قليله و كثيره بمنزلة واحدة، ثمّ تشرب منه و يتوضّأ منه، غير الوزغ، فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه»(3).

و خبر سعيد الأعرج قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في السمن أو الزيت، ثمّ تخرج منه حيّا؟ قال: لا بأس به» و في بعض النسخ: «لا بأس بأكله».

و بجميع ذلك يندفع ما عن الشيخ في النهاية في باب أحكام النجاسات(4) و كذلك المبسوط في باب تطهير الثياب(5) من أنّه «إذا أصاب ثوب الإنسان كلب، أو خنزير، أو ثعلب، أو أرنب، أو فأرة، أو وزغة، و كان رطبا وجب غسل الموضع الّذي أصابه» و هو المحكيّ عن المقنعة(6)، بل الفقيه(7) أيضا، فإنّ ذلك إمّا لنجاستها فالأخبار العامّة و الخاصّة قائمة بخلافها، أو تعبّد من الشارع - فمع أنّه في غاية البعد - خارج عمّا نحن فيه، مع أنّ كلماته الاخر في غير المقام نافية للنجاسة لما حكي عنه في باب المياه من النهاية أنّه قال: «إذا وقعت الفأرة و الحيّة في الإناء و شربتا منها، ثمّ خرجتا [حيّا] لم يكن به بأس، و الأفضل ترك استعمالها»(8).

و عنه أيضا في المبسوط(9) في مقام البحث أنّه لا بأس فيما لا يمكن التحرّز منه من حيوان الحضر مثل الهرّة و الفأرة و الحيّة.

و دليل الثاني - مضافا إلى ما مرّ من عموم القاعدة فيما لا يؤكل لحمه عدا ما

ص: 875


1- الوسائل 239:1 ب 9 من أبواب الأسآر ح 2 - التهذيب 1323/419:1.
2- الوسائل 241:1 ب 9 من أبواب الأسآر ح 8 - قرب الاسناد: 70.
3- الوسائل 240:1 ب 9 من أبواب الأسآر ح 4 - التهذيب 690/238:1.
4- النهاية 267:1.
5- المبسوط 37:1.
6- المقنعة: 70.
7- الفقيه 74:1.
8- النهاية 205:1.
9- المبسوط 10:1.

استثنى و هو السنّور، و عموم خبر الوشّاء: «أنّه كان يكره سؤر كلّما لا يؤكل لحمه» -(1):

ما ورد في حديث المناهي: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عن أكل سؤر الفأرة»(2)، فإنّ حمل النهي هنا مع ظهوره في التحريم على التنزيه طريق جمع بين الأخبار المستفيضة المتقدّمة و بينه، و كذا الكلام بينها و بين صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الفأرة و الكلب إذا أكلا من الخبز، أو شمّاه [أ يؤكل]؟ قال: «يطرح ما شمّاه، و يؤكل ما بقي»(3)و صحيحة الاخرى عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء فتمشي على الثياب، أ يصلّي فيها؟ قال: «اغسل ما رأيت من أثرها»(4) بناء على ما نزّل الأمر فيهما على الاستحباب.

فما عن المعتبر و المنتهى(5) من أنّه يظهر منهما نفي الكراهة، مع ما قيل:(6) من أنّ ظاهر كلامهما نفي الرجحان لا نفي المرجوحيّة، ممّا لا يلتفت إليه، و مع الغضّ عن جميع ما ذكر فشهرة الكراهة كافية في المصير إليها.

المسألة التاسعة: عن المعتبر أنّه حكي عن الشيخ أنّه قال: «يكره سؤر الدجاج على كلّ حال»

المسألة التاسعة: عن المعتبر أنّه حكي عن الشيخ أنّه قال: «يكره سؤر الدجاج على كلّ حال»(7)

ثمّ قال بعد الحكاية: «و هو حسن إن قصد المهملة، لأنّها [لا] تنفكّ عن الاغتذاء بالنجاسة»(8).

و عن المعالم(9) أيضا أنّه استحسن ما استحسنه المحقّق.

و عن العلاّمة و غيره(10) إطلاق القول بكراهة هذا السؤر تعليلا بعدم انفكاك منقارها

ص: 876


1- الوسائل 232:1 ب 5 من أبواب الأسآر ح 2.
2- الوسائل 234:1 ب 9 من أبواب الأسآر ح 7 - الفقيه 1/2:4.
3- الوسائل 465:3 ب 36 من أبواب النجاسات ح 1 - التهذيب 663/229:1.
4- الوسائل 460:3 ب 33 من أبواب النجاسات ح 2 - التهذيب 761/261:1.
5- كما في مشارق الشموس: 274، حيث قال: «و يفهم من المعتبر أنّه لا يكرهه» - و كذا في جواهر 691:1 حيث قال: «خلافا لما يظهر من المعتبر و المنتهى من نفي الكراهة الخ» - لاحظ المعتبر: 25، و منتهى المطلب 163:1.
6- القائل هو صاحب الجواهر رحمه اللّه، لاحظ جواهر الكلام 692:1.
7- المبسوط 10:1 و فيه: «يكره سؤر ما شرب منه الدجاج خاصّة على كلّ حال».
8- المعتبر: 25.
9- المعالم 369:1 و قال فيه: «و ما شرطه في الحسن هو الحسن».
10- حكاه عنه في المعالم 369:1 - لاحظ منتهى المطلب 163:1 - ذكرى الشيعة 107:1.

عن النجاسة غالبا، و نحن قد هدمنا في المسائل السابقة بنيان هذا الكلام، و حقّقنا أنّ مجرّد الاغتذاء بالنجاسات لا يقتضي منعا - و لو بنحو الكراهة - ما لم يحصل الملاقاة حال وجود النجاسة في المنقار و نحوه، فيمتنع الاستعمال حينئذ لا أنّه يكره.

و بالجملة هذا القول لضعف مستنده ممّا لا ينبغي المصير إليه، كيف و النصوص الواردة عن أمناء الشرع عموما و خصوصا قاضية بخلافه، أ لا تنظر إلى ما تقدّم من العمومات النافية للبأس عن سؤر ما يؤكل لحمه، و خصوص رواية أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: «فضل الحمامة و الدجاجة لا بأس به، و الطير»(1).

و موثّقة عمّار المتقدّمة أنّه سئل عن ماء شربت منه الدجاجة؟ «قال: إن كان في منقارها قذر لم يتوضّأ منه و لم يشرب، و إن لم تعلم أنّ في منقارها قذرا توضّأ منه و اشرب»(2).

و عن التهذيب أنّه ذكر ذلك و زاد: «و كلّما يؤكل لحمه فليتوضّأ منه»(3).

لكنّ الإنصاف بضابطة ما ذكرنا سابقا من أنّ نفي البأس في نظائر المقام لا يفيد إلاّ نفي الحرج من نجاسة أو حرمة، كما أنّ الأمر بالشرب و التوضّؤ لا يفيد إلاّ الإرشاد إلى انتفاء الماهيّة المقتضية للمنع من نجاسة و نحوها، لا يمكن التعويل في نفي الكراهة على هذه الأخبار.

فالأولى أن يستند إلى الأصل، مع ضميمة ضعف مستند القول بالكراهة إن كان هو الاعتبار المتقدّم، فتأمّل جدّا.

المسألة العاشرة: نصّ المحقّق في الشرائع و الشهيد في الدروس بكراهية سؤر الحيّة،

المسألة العاشرة: نصّ المحقّق في الشرائع(4) و الشهيد في الدروس(5) بكراهية سؤر الحيّة،

كما عن التحرير(6)، و القواعد(7)، و الإرشاد(8)، و ظاهر الذكرى(9)، و عن البيان(10)،

ص: 877


1- الوسائل 230:1 ب 4 من أبواب الأسآر ح 1 - الكافي 2/9:3.
2- الوسائل 231:1 ب 4 من أبواب الأسآر ح 3 و 4 - التهذيب 832/284:1.
3- الوسائل 231:1 ب 4 من أبواب الأسآر ح 3 و 4 - التهذيب 832/284:1.
4- شرائع الإسلام 16:1.
5- الدروس الشرعيّة 123:1.
6- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.
7- قواعد الأحكام 185:1.
8- إرشاد الأذهان 238:1.
9- ذكرى الشيعة 107:1.
10- البيان: 101.

و الروض(1) أيضا، و في المدارك: «القول بكراهة سؤر الحيّة للشيخ في النهاية و أتباعه»(2)، لكنّ المنقول من عبارته في النهاية لعلّه ليس صريحا في إرادة الكراهة بالمعنى المصطلح عليه، فإنّه قال: «إذا وقعت الفأرة و الحيّة في الآنية، أو شربتا منها، ثمّ خرجتا [حيّا] لم يكن به بأس، و الأفضل ترك استعماله على كلّ حال»(3).

فإنّ التعبير بأفضليّة الاجتناب يقتضي إرادة المرجوحيّة بالإضافة إلى الغير، لا المرجوحيّة الذاتيّة على حدّ ما يراد من الكراهة حيثما تضاف إلى العبارات على بعض الوجوه المذكورة فيها، و لك أن تأخذ قوله أوّلا: «لم يكن به بأس» مؤيّدا له، بناء على بعض الوجوه المتقدّمة من ظهوره لكونه نكرة في سياق النفي في نفي جميع أفراد البأس الّتي منها الكراهة المصطلحة.

و كيف كان. فعن ظاهر المعتبر(4) و المنتهى(5) إنكار الكراهة هنا، بل هو صريح المدارك(6) قائلا: و الأظهر انتفاء الكراهة كما اختاره في المعتبر، لصحيحة عليّ ابن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام قال: سألته عن الغطاية، و الحيّة، و الوزغ تقع في الماء فلا تموت؟ أ يتوضّأ للصلاة؟ فقال: «لا بأس به»(7).

و أنت بملاحظة ما مرّ مرارا تقدر على دفع هذا الاستدلال.

نعم، العمدة في المقام ملاحظة ما يكون مستندا للقول بالكراهة الّذي صار إليه من الأساطين من عرفتهم، فإنّه مشهور جدّا، حتّى أنّه في شرح الدروس: «إنّي لم أجد نقل خلاف في الحيّة»(8) فلك أن تعتمد على ما تقدّم من عموم مرسلة وشّاء(9)، بناء على أنّ الحكم ممّا يتسامح فيه، و على خبر أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن حيّة دخلت حبّا فيه ماء، و خرجت منه؟ قال: «إن وجد ماء غيره فليهرقه»(10) بناء على حمل الأمر بالإهراق على إرادة الندب، لعدم قائل فيه بالوجوب، أو على كونه مبالغة

ص: 878


1- روض الجنان: 162.
2- مدارك الأحكام 137:1.
3- النهاية 206:1.
4- المعتبر: 25.
5- منتهى المطلب 163:1.
6- مدارك الأحكام 137:1.
7- الوسائل 238:1 ب 9 من أبواب الأسآر ح 1.
8- مشارق الشموس: 277.
9- الوسائل 232:1 ب 5 من أبواب الأسآر ح 2.
10- الوسائل 239:1 ب 9 من أبواب الأسآر ح 3 - التهذيب 1302/413:1.

الكراهة، و إلاّ فلا فائدة في الإهراق نفسه، لجواز الانتفاع بهذا الماء في غير جهة الشرب و التطهير به.

لا يقال: لعلّه كناية عن المنع تحريما، و إنّما علّق على وجدان ماء غيره لأنّه لا تكليف مع الانحصار، كما هو لازم قولكم: بكونه مبالغة في الكراهة، إذ لا كراهة مع الانحصار، لأنّ احتمال التحريم إن كان لمجرّد التعبّد ينفيه الاتّفاق على انتفائه.

نعم، هذا احتمال ربّما يقال: بدخوله في كلام من منع من سؤر ما لا يؤكل لحمه.

لكن يزيّفه: أن لا مانع عن سؤر ما لا يؤكل لحمه إلاّ الشيخ(1)، و قد صرّح هنا بنفي البأس، و الحلّي في السرائر(2)، و قد عرفت سابقا أنّه أدرج المقام فيما لا يمكن التحرّز عنه، و إن كان لأمر يرجع إلى الطبّ، و هو تأثير السمّية في الماء.

ففيه: أنّ التأثير إن كان محقّقا لا محالة فهو يقضي بالمنع مطلقا، فلا وجه للتفصيل.

و من هنا يمكن أن يؤخذ الرواية دليلا على انتفاء النجاسة عن هذا السؤر كما تنبّه عليه بعضهم، و إن كان محتملا فهو لا يقتضي إلاّ رجحان الاجتناب احتياطا، و لعلّه لأجل ذلك عبّر الشيخ عن الكراهة بأفضليّة الاجتناب، كما فهم المعالم قائلا - بعد نقل عبارة النهاية المتقدّمة -: «يتوجّه عليه المطالبة بدليل ما ذكره من أفضليّة ترك الاستعمال، و لعلّه نظر في الفأرة إلى ما سيأتي في باب النجاسات - إن شاء اللّه - من دلالة بعض الأخبار على رجحان الغسل ممّا لاقته برطوبة، و في الحيّة إلى ما يخشى من تأثير سمّها في الماء، فإنّ ذلك و نحوه كاف في أفضليّة العدول عن هذا الماء إلى غيره»(3) انتهى.

و بالجملة الكراهة هنا ممّا لا إشكال فيه و لو من جهة الاعتماد على مجرّد الشهرة و ذهاب أساطين الفرقة.

المسألة الحادية عشرة: اختلفت كلمتهم في الوزغة،

فالمنسوب إلى ابن إدريس(4)و الفاضلين(5) و والد العلاّمة(6) و جمهور المتأخّرين طهارة سؤرها، و عن

ص: 879


1- التهذيب 224:1 - الاستبصار 25:1.
2- السرائر 85:1.
3- المعالم 370:1.
4- السرائر 83:1 حيث قال في آخر بحث منزوحات البئر: «فأمّا إذا مات فيها عقرب أو وزغة، فلا ينجّس» الخ - قريب منه ما في بحث الأسآر لاحظ (السرائر 85:1).
5- و هما العلاّمة في منتهى المطلب 169:1؛ و فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد 28:1.
6- حكاه عنه ولده العلاّمة في مختلف الشيعة 465:1.

المحقّق(1) أنّه الظاهر من كلام المرتضى في بعض كتبه، و هو صريح الدروس(2)، و مختار المدارك على ظاهر كلامه، بل فيه: «هو المشهور بين الأصحاب»(3)، و عليه الشرائع أيضا، لكن عبّر فيه بالموت فقال: «و يكره ما مات فيه الوزغ و العقرب»(4) و لعلّ الحكم يتعدّى إلى ما عدا صورة الموت من باب الفحوى.

و فيه: أنّه يستقيم إذا كان منظور العبارة نفي النجاسة خاصّة ردّا على من توهّمها، و أمّا إذا اريد بها إفادة الكراهة مع ذلك فلا يحصل تمام المقصود، إذ لا ملازمة بين الكراهة بالموت فيه و الكراهة بالوقوع فيه، فضلا عن الفحوى، بل الفحوى إنّما تحصل لو عبّر بالوقوع أو مطلق الملاقاة.

فالعبارة المذكورة لا تخلو عن قصور، و كأنّه في هذا التعبير أخذ بمفهوم الدليل المقام على كراهة هذا السؤر الثابت في المقام من حيث الفحوى كما عرفت.

و كيف كان فعن التذكرة: «أنّ الكراهة هنا من حيث الطبّ لا لنجاسة الماء»(5)و استحسنه المدارك(6).

و المخالفة هنا بالمصير إلى النجاسة لم يثبت إلاّ عن المقنعة و موضع من النهاية و المبسوط، و عبارة المقنعة - على ما حكي - أنّه بعد ذكر الكلب و الخنزير قال: «و كذلك الحكم في الفأرة و الوزغة يرشّ الموضع الّذي مسّاه بالماء من الثوب إذا لم يؤثّرا فيه، و إن رطّباه و أثّرا فيه غسل بالماء، و كذلك إن مسّ واحد ممّا ذكرناه جسد الإنسان، أو وقعت يده عليه و كان رطبا غسل ما أصابه منه، و إن كان يابسا مسحه بالتراب»(7).

و أمّا عبارة النهاية فقد سمعتها في مسألة سؤر الفأرة(8)، و أمّا عبارة المبسوط

ص: 880


1- المعتبر: 118، حيث قال: «فقال علم الهدى: لا بأس بأسآر جميع حشرات الأرض و سباع ذرات الأربع الاّ أن يكون كلبا أو خنزيرا، و هذا يدلّ على طهارة ما عدا هذين و يدخل فيه الثعلب و الأرنب و الفأرة و الوزغة».
2- الدروس الشرعيّة 123:1.
3- مدارك الأحكام 138:1.
4- شرائع الإسلام 16:1.
5- التذكرة 44:1 و فيه: «و الوجه الكراهة من حيث الطبّ» و قريب منه ما في منتهى المطلب 169:1.
6- مدارك الأحكام 138:1.
7- المقنعة: 71.
8- النهاية 267:1 حيث قال: «و إذا أصاب ثوب الإنسان كلب أو خنزير أو ثعلب أو أرنب أو فأرة أو وزغة و كان رطبا وجب غسل الموضع الّذي أصابه... الخ».

- فعلى ما حكي - من أنّه في باب تطهير الثياب قال: «فما مسّ الكلب و الخنزير و الثعلب و الأرنب و الفأرة و الوزغة بسائر أبدانها إذا كانت رطبة، أو أدخلت أيديها و أرجلها في الماء وجب غسل الموضع و إراقة ذلك الماء، و لا يراعى في غسل ذلك العدد، لأنّ العدد يختصّ بالولوغ، و إن كان يابسا يرشّ الموضع بالماء، فإن لم يتعيّن الموضع غسل الثوب كلّه أو رشّ، و كذلك إن مسّ هذه(1) شيئا من ذلك و كان واحد منهما رطبا وجب غسل يده، و إن كان يابسا مسحه بالتراب، و قد رويت رخصة في استعمال ما يشرب منه سائر الحيوانات في البراري سوى الكلب و الخنزير، و ما شربت منه الفأرة في البيوت و الوزغ أو وقعا فيه و خرجا حيّين، لأنّه لا يمكن التحرّز من ذلك»(2) انتهى.

و لا يذهب عليك أنّ ملاحظة هذه العبارة صدرا و ذيلا تقضي باختياره التفصيل بين المقامين، أي مقام ملاقاة ما يجب غسله في النجاسة من الثوب و الجسد، و مقام شرب الماء أو الوقوع فيه ثمّ الخروج حيّا، ففي الأوّل يجب الاجتناب بالغسل و الرشّ، و في الثاني لا يجب الاجتناب رخصة لعدم إمكان التحرّز، غير أنّه بملاحظة هذا التعليل ليس بظاهر في القول بطهارة الماء حينئذ، بل غايته الرخصة في استعماله من باب العفو الغير المنافي للنجاسة، نظير ما قيل في ماء الاستنجاء.

و بذلك ارتفع المنافاة بين عبارته المذكورة في هذا الموضع و عبارته في بحث السؤر(3)، حيث إنّه بعد ما حكم بعدم جواز استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان الإنسي استثنى منه الفأرة و نحوها ممّا يشقّ التحرّز عنه.

و بذلك يحصل الجمع أيضا بين عبارتيه في النهاية حسبما تقدّم ذكرهما في سؤر الفأرة، فما في كلام غير واحد(4) من استبعاد كون الاختلاف بين كلاميه في الكتابين مبنيّا على الفرق بين المقامين ليس في محلّه، و كأنّه نشأ عن عدم الاطّلاع على ذيل العبارة المذكورة، أو عدم إعمال النظر في فهمها صدرا و ذيلا على ما ينبغي.

و على أيّ حال كان، فالمنقول من حجّة هذا القول وجوه من الروايات.

ص: 881


1- و في النسخة المطبوعة: «بيده» بدل «هذه».
2- المبسوط 37:1 و 10.
3- المبسوط 37:1 و 10.
4- كما في جواهر الكلام 690:1 حيث قال: بعد نقل كلاميه في النهاية و المبسوط -: «و احتمال الفرق بين الموضعين في غاية البعد».

منها: صحيحة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة و الوزغة تقع في البئر؟ قال: «ينزح منها ثلاث دلاء»(1) وجه الاستدلال - على ما وجّهه العلاّمة في المختلف -: أنّه لو لا نجاسة الوزغة لما وجب لها النزح بالموت، فإنّ الموت إنّما يقتضي التنجيس في محلّ له نفس سائلة لا مطلقا»(2).

و كأنّ ذكر الموت مع خلوّ الرواية عنه لظهور «الوقوع» عرفا فيه، أو لقرينة ذكر الفأرة في موضوع هذا الحكم الّذي لا توجبه إلاّ بالموت، لأنّها لا تنجّس إلاّ بالموت لما فيها من النفس السائلة، فما لم يفرض موتها لم يعقل لها نجاسة لكونها طاهرة العين، فإذا كان الحكم معلّقا على موتها كان بالقياس إلى الوزغة أيضا مفروضا حال الموت، و لا يمكن أن يكون ذلك لنجاستها الحاصلة بالموت، إذ ليس لها نفس سائلة، فيجب أن يكون لنجاستها العينيّة الثابتة لها في جميع الأحوال، و قضيّة ذلك نجاسة سؤرها أيضا، لكونه ماء قليلا أو مضافا لاقية النجاسة.

و ملخّصه بالتقريب الّذي ذكرناه: أنّ وجوب النزح لا يكون إلاّ لنجاسة ما يقع في البئر، و النجاسة في الحيوان إمّا ذاتيّة كما في الكلب، أو عرضيّة تحصل بالموت كما في الفأرة، و حيث إنّ الوزغة لا يفرض لها نجاسة عرضيّة حاصلة بالموت لعدم كونها من ذوات الأنفس فلا بدّ و أن يكون نجاستها ذاتيّة كالكلب، فحينئذ لا يتفاوت الحال في انفعال القليل أو المضاف بملاقاتها بين حياتها و موتها.

و جوابه: حينئذ منع بطلان التالي أوّلا، فإنّ النزح في جميع موارد ثبوته مبنيّ على الاستحباب كما سبق تحقيقه، فالوزغة حينئذ ليس نجسة، و النزح لموتها أيضا ليس بواجب، فتأمّل جيّدا.

و منع الملازمة ثانيا: إذ ليس ثبوت وجوب النزح مع انتفاء النجاسة في سببه بعادم النظير فيما بين المنزوحات، أ لا ترى أنّ النزح لاغتسال الجنب - على القول بوجوبه - واجب و لو مع خلوّ بدنه عن النجاسة، و لو سلّم فالرواية لا تقاوم لمعارضة ما سيأتي من الأخبار الخاصّة القاضية بالطهارة.

ص: 882


1- الوسائل 187:1 ب 19 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 688/238:1.
2- مختلف الشيعة 466:1.

و منها: ما في موثّقة عمّار عن الصادق عليه السّلام من أنّه سئل عن العظاية(1) تقع في اللبن؟ قال: «يحرم اللبن، و قال: إنّ فيها السمّ»(2).

و فيه: ما لا يخفى من عدم انطباق ذلك على البحث، فإنّ المطلوب هو النجاسة، و التعليل بالسمّية يأباها فتأمّل.

و لو سلّم فالكلام إنّما هو في الوزغة و ليست العظاية بنصّ أهل اللغة منها، قال الفيّومي في المصباح المنير: «أنّها دويبة على خلقة سام أبرص»(3) قال - في مادّة «برص» -: «سام أبرص كبار الوزغ»(4) و مثله المجمع(5) في «سام أبرص»، كما في شرح «العظاء» قال: «العظاء ممدود دويبة أكبر من الوزغة الواحدة عظاءة و عظاية، و جمع الاولى عظاء، و الثانية عظايات»(6).

و فيه أيضا في شرح الوزغ: أنّه «بالتحريك واحد الأوزاغ و الوزغان و هي الّتي يقال لها سام أبرص، و هي حيوان صغير أصغر من العظاية»(7).

و عن القاموس: الوزغة محرّكة سام أبرص و الجمع وزغ(8).

كما أنّه في المصباح: «الوزغ معروف و الانثى وزغة و قيل: الوزغ جمع وزغة مثل قصب و قصبة، فيقع الوزغة على الذكر و الانثى، و الجمع أوزاغ، و وزغان بالضمّ و الكسر و الفتح، حكاه الأزهري، و قال: الوزغ سام أبرص(9).

و في المدارك: «الوزغ جمع وزغة به أيضا دابّة معروفة، و سام أبرص من أصنافه»(10). و بالجملة المستفاد من كلام أهل اللغة و غيرهم أنّ العظاية مغايرة للوزغة، فتخرج الرواية عن محلّ الكلام بالمرّة، مع أنّ هذا الحكم في العظاية أيضا ممّا لم يثبت

ص: 883


1- بتقديم العين المهملة على الظاء المعجمة على وزن كفاية (في هامش الأصل بخط مصنّفه رحمه اللّه) - و هي دويبة ملساء أصغر من الحرذون، تمشي مشيا سريعا ثمّ تقف، يقال له بالفارسية: «بزمجة» أو «مارمولك».
2- التهذيب 284:1 ذيل الحديث 119.
3- المصباح المنير؛ مادّة «العظاءة»: 417.
4- المصباح المنير؛ مادّة «برص»: 44.
5- مجمع البحرين؛ مادّة «برص».
6- مجمع البحرين؛ مادّة «عظا».
7- مجمع البحرين؛ مادّة «وزغ».
8- القاموس المحيط؛ مادّة «الوزغة».
9- المصباح المنير؛ مادّة «الوزغ»: 657 و فيه: «وزغان بالكسر و الضمّ حكاه الأزهري الخ».
10- مدارك الأحكام 137:1.

به قائل عدا المقنع(1)، لما قيل: من أنّه أفتى بمضمونها، فلعلّها تسقط عن الحجّيّة من هذه الجهة، هذا مع عدم صلوحها لمعارضة ما يأتي في حجج القول بالطهارة.

و منها: حسنة هارون بن حمزة الغنوي المتقدّمة المذيّلة بقوله عليه السّلام: «غير الوزغ، فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه»(2).

و فيه: أنّ عدم الانتفاع بما يقع فيه مبالغة في الكراهة، و تأكيد في استحباب التنزّه بملاحظة الأخبار المبيحة الآتية، مع أنّه لا ملازمة بينه و بين النجاسة كما هو محلّ النزاع، فلعلّه من جهة السمّية أيضا كما عرفت القول به عن التذكرة(3) و استحسنه المدارك(4).

و مع هذا كلّه فهي غير صالحة لمعارضة الأخبار المشار إليها، فإنّها عموما و خصوصا كثيرة جدّا، فمن الأخبار العامّة صحيحة أبي العبّاس البقباق المتقدّمة(5) المشتملة على نفي البأس عن فضل أشياء، منها: الوحش.

و رواية ابن مسكان المتقدّمة(6) عن الوضوء ممّا ولغ فيه الكلب و السنّور، أو شرب منه جمل أو دابّة أو غير ذلك، أ يتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال: «نعم، إلاّ أن تجد غيره فتنزّه عنه» بالتقريب المتقدّم، مع عدم قادحيّة خروج الكلب عن مدلولها بدليل، و حمل الماء على الكرّ - مع أنّه مطلق - بقرينة ولوغ الكلب بعيد، فتأمّل.

و منها: الموثّق عن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - في حديث طويل - قال: سئل عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النملة و ما أشبه ذلك، يموت في البئر و الزيت و السمن و شبهه؟ قال: «كلّ ما ليس له دم فلا بأس به»(7).

و رواية حفص بن غياث عن جعفر بن محمّد عليه السّلام قال: «لا يفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة»(8).

و رواية محمّد بن يحيى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تفسد الماء إلاّ ما كانت له

ص: 884


1- المقنع: 35.
2- الوسائل 240:1 ب 9 من أبواب الأسآر ح 4 - التهذيب 690/238:1.
3- تذكرة الفقهاء 44:1.
4- مدارك الأحكام 137:1.
5- الوسائل 226:1 ب 1 من أبواب الأسآر ح 4.
6- الوسائل 228:1 ب 2 من أبواب الأسآر ح 6.
7- الوسائل 463:3 و 364 ب 35 من أبواب النجاسات ح 1 و 2 - التهذيب 230:1 و 665/231 و 669.
8- الوسائل 463:3 و 364 ب 35 من أبواب النجاسات ح 1 و 2 - التهذيب 230:1 و 665/231 و 669.

نفس سائلة»(1).

و التقريب في هذه واضح، بعد ملاحظة تسالمهم في أنّ الوزغة ليست من ذوات الأنفس، كما تبيّن عن تقريب الاستدلال على النجاسة بصحيحة معاوية بن عمّار(2).

و من الأخبار الخاصّة الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام - في أثناء حديث - قال: و سألته عن العظاية، و الحيّة، و الوزغ يقع في الماء، فلا يموت، أ يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: «لا بأس»(3).

و هذا الحديث كما ترى يصلح لأن يخرج - مضافا إلى ما مرّ - دليلا على مغايرة العظاية للوزغ، كما أنّه يصلح لأن يؤخذ قرينة على أنّ الحرمة في الموثّقة المتقدّمة ليست على معناها الظاهر المصطلح عليه شرعا، ثمّ إذا انضمّ إليه - بعد استفادة الطهارة و جواز الاستعمال منه - عموم رواية الوشّاء المتقدّمة، مضافة إلى الشهرة محقّقة و محكيّة، مع ضميمة قاعدة المسامحة ثمّ أمر الكراهة، فهو الأقوى في المسألة إن شاء اللّه.

المسألة الثانية عشرة: ذهب من عدا الشيخ في النهاية و ابن البرّاج و أبي الصلاح إلى طهارة ما مات فيه العقرب، و جواز استعماله على كراهية.

فإنّ الشيخ قال: «و كلّ ما وقع في الماء، فمات فيه ممّا ليس له نفس سائلة، فلا بأس باستعمال ذلك الماء، إلاّ الوزغ و العقرب خاصّة، فإنّه يجب إهراق ما وقع فيه و غسل الإناء»(4).

و ابن البرّاج حكم بنجاسته(5)، و أبو الصلاح أوجب النزح لها من البئر ثلاث دلاء(6)، و ذلك آية كونه ينجّسها.

و عن المختلف: «قال ابن البرّاج: إذا أصاب شيئا وزغ أو عقرب فهو نجس،

ص: 885


1- الوسائل 464:3 ب 35 من أبواب النجاسات ح 5 - الكافي 4/5:3.
2- الوسائل 187:1 ب 19 من أبواب الماء المطلق ح 2 - التهذيب 688/238:1.
3- الوسائل 239:1 ب 9 من أبواب الأسآر ح 9 - التهذيب 1326/419:1.
4- النهاية 204:1.
5- المهذّب 26:1 حيث قال: «و ليس ينجّس الماء ممّا يقع فيه من الحيوان إلاّ أن تكون له نفس سائلة، و أمّا ما يقع فيه ممّا ليس له نفس سائلة - غير العقرب و الوزغ - فإنّه لا ينجّسه».
6- الكافي في الفقه: 130.

و أطلق، و أوجب أبو الصلاح النزح لها من البئر ثلاث دلاء.

و الوجه عندي: الطهارة، و هو اختيار ابن إدريس، و هو الظاهر من كلام السيّد المرتضى، فإنّه حكم بأنّ كلّ ما لا نفس له سائلة كالذباب و الجراد و الزنابير و ما أشبهها لا ينجّس بالموت، و لا ينجّس الماء إذا وقع فيه قليلا كان أو كثيرا.

و كذا عليّ بن بابويه فإنّه قال: إن وقعت فيه عقرب أو شيء من الحيّات(1) و بنات وردان، و الجراد، و كلّ ما ليس له دم فلا بأس باستعماله و الوضوء منه، مات أو لم يمت»(2) انتهى.

و الأقوى ما صار إليه الجماعة المدّعى عليه الشهرة من الطهارة، لنا على ذلك: بعد الأصل، و عموم موثّقة عمّار، و رواية حفص، و مرفوعة محمّد بن يحيى المتقدّمة، الحاصرة لإفساد الماء في ما له نفس سائلة، خصوص المرويّ عن قرب الأسناد في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن الكاظم عليه السّلام قال: سألته عن العقرب و الخنفساء و أشباههما، يموت في الجرّة أو الدّن، يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: «لا بأس به»(3) و حسنة هارون بن حمزة الغنوي قال: سألته عن الفأرة و العقرب و أشباه ذلك، يقع في الماء و يخرج حيّا، هل يشرب من ذلك الماء و يتوضّأ؟ قال: «يسكب منه ثلاث سكبات، قليله و كثيره بمنزلة واحدة، ثمّ يشرب منه و يتوضّأ»(4) إلى آخره.

و هذا الحديث و إن اختصّ بحالة الحياة، غير أنّ الظاهر بملاحظة ما سبق في تقريب استدلال العلاّمة(5) على نجاسة الوزغة بصحيحة معاوية بن عمّار عدم اختصاص حكمه بها، فإنّ نجاسة الحيوان إمّا ذاتيّة فلا يتفاوت الحال في تنجيس الغير بين حياته و مماته، أو حاصلة بالموت فلا يوجب تنجّس الغير إلاّ بعد الموت، و الثاني منفيّ هنا بفرض انتفاء النفس السائلة، كما أنّ الثاني منفيّ بنصّ الحديث، و عن مختلف العلاّمة(6) الاستدلال على الحكم هنا بما وصفه بالصحّة من رواية ابن مسكان قال:

ص: 886


1- و في مختلف الشيعة: «الخنافس» بدل «الحيّات».
2- مختلف الشيعة 467:1.
3- الوسائل 465:3 ب 35 من أبواب النجاسات ح 6.
4- الوسائل 240:1 ب 9 من أبواب الأسآر ح 4 - و فيه: «ثلاث مرّات» بدل «ثلاث سكبات».
5- لاحظ مختلف الشيعة 466:1 و 468.
6- لاحظ مختلف الشيعة 466:1 و 468.

سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمّا يقع في الآبار - إلى أن قال -: «و كلّ شيء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك، فلا بأس»(1).

و يشكل التعويل عليه: بأنّ البئر لا يقاس عليها غيره في الأحكام الثابتة لها، خصوصا على مذهبه فيها و هو عدم انفعالها بالملاقاة و إن أوجب النزح تعبّدا.

حجّة القول بالنجاسة: موثّقة سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن جرّة وجد فيها خنفساء قد ماتت؟، قال: «ألقها و توضّأ منه، و إن كان عقربا فأرق الماء و توضّأ من ماء غيره»(2).

و موثّقة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الخنفساء يقع في الماء أ يتوضّأ منه؟ قال: «نعم لا بأس به»، قلت: فالعقرب؟ قال: «أرقه»(3).

و التقريب في ذلك - مع ظهوره في المباشرة عن حياة - ما تقدّم.

و الجواب عن الكلّ: أنّ ما تقدّم في دليل الطهارة لاجتماعه جميع جهات الاعتبار و الوثوق ينهض قرينة على [أنّ] الأمر فيهما مرادا به الاستحباب، فمقتضاهما استحباب التنزّه عن هذا الماء، و هو ليس بنكير، مع ما فيهما من قوّة احتمال كون الجهة الداعية إلى ذلك وجود السمّية، فلم يلزم من ذلك ثبوت النجاسة على ما هو المتنازع.

و بالجملة: العدول عن الطهارة إلى النجاسة مع ملاحظة ما ذكر، لأجل ما ذكر، خلاف الإنصاف.

و أمّا الكراهة: و إن استدلّ عليها في شرح الدروس(4) بمرسلة الوشّاء، و رواية ابن مسكان، و مضمرة سماعة المتقدّمة، لكن ليس شيء منها بشيء هنا.

أمّا الأولى: فلورودها فيما له لحم، و العقرب ليست من ذوات اللحم.

أمّا الثانية: فلورودها في شرب الدابّة فلا يتعدّى منه إلى المباشرة ميّتا، إذ ليس حكم الكراهة كحكم النجاسة، بحيث إذا ثبت في حال الحياة - بتقريب ما ذكرنا - لكان ثابتا في حال الممات أيضا كما لا يخفى، فلا يلزم من رجحان التنزّه عن سؤر العقرب رجحانه عن [ما] ماتت فيه، هذا مع إمكان المناقشة في انصراف «الدابّة» إليها، و يجري

ص: 887


1- الوسائل 464:3 ب 35 من أبواب النجاسات ح 3 - التهذيب 666/230:1.
2- الوسائل 464:3 ب 35 من أبواب النجاسات ح 4 - الكافي 6/10:3.
3- التهذيب 664/230:1.
4- مشارق الشموس: 280.

هذا الكلام بعينه في الثالثة أيضا.

فالإنصاف: أنّ إثبات الكراهة هنا من جهة السند في غاية الإشكال، و إن أمكن إثباتها بملاحظة الشهرة.

المسألة الثالثة عشر: في سؤر الحائض الّذي اختلفت كلمتهم فيه حكما و إطلاقا، و تقييدا و قيدا،
اشارة

فعن ظاهر المقنع(1)، و الشيخ في كتابي الحديث(2) المنع عن التوضّؤ به مطلقا، كما عن الأوّل قائلا بأنّه: «لا تتوضّأ بسؤر الحائض»، أو «إذا لم تكن مأمونة»(3)كما عن الثاني قائلا - عند رفع التنافي عمّا بين الأخبار الآتية -: «فالوجه في هذه الأخبار ما فصّله في الأخبار الأوّلة، و هو أنّه إذا لم تكن المرأة مأمونة فإنّه لا يجوز التوضّؤ بسؤرها».

ثمّ قال: «و يجوز أن يكون المراد بها ضربا من الاستحباب»(4).

و أمّا الآخرون فقد أطبقوا على القول بالكراهة في استعماله مطلقا، غير أنّه عن مصباح علم الهدى(5) و مبسوط الشيخ(6) القول بها في مطلق الحائض، و عن المعظم القول بها في المقيّدة بغير المأمونة(7)، أو بالمتّهمة(8)، على الخلاف الآتي في ذلك أيضا.

و قد يمنع مخالفة القولين الأوّلين للأخيرين، بمنع ظهور لفظ المقنع في الخلاف، فإنّه و إن كان بنفسه يفيد التحريم، غير أنّ الصدوق في الغالب يعبّر عن الحكم بلفظ الرواية، و الشيخ إنّما ذكر ذلك لمجرّد الجمع بين الأخبار المتنافية كما هو دأبه في غير المقام، لا أنّه ذكره عن اعتقاد، و لذا صرّح عقيب ذلك بإبداء احتمال آخر، و هو: «كون المراد بالأخبار الناهية عن التوضّؤ بفضل الحائض مطلقا ضربا من الاستحباب»(9).

و من هنا ترى صاحب المدارك أنّه بعد ما نقل الكراهة المطلقة عن مبسوط الشيخ، قال: «و جمع في كتابي الحديث بين الأخبار تارة بالمنع من الوضوء بسؤر غير المأمونة،

ص: 888


1- المقنع: 17 و 41.
2- التهذيب 222:1 - الاستبصار 17:1.
3- الاستبصار 17:1.
4- التهذيب 222:1 /ذيل الحديث 636.
5- حكاه عنه في المعتبر: 25.
6- المبسوط 10:1.
7- كما في المقنعة: 584 - و المراسم العلويّة: 37 - و الجامع للشرائع: 20.
8- كما في النهاية 203:1 - و الوسيلة: 76 - و السرائر 62:1.
9- لاحظ التهذيب 222:1.

و اخرى بالاستحباب»(1).

و هذا الاختلاف في كلماتهم كما ترى إنّما نشأ عن الاختلاف الواقع في أخبار الباب، فإنّ منها ما يظهر منه المنع المطلق عن التوضّؤ، و منها ما يظهر منه المنع المقيّد عن التوضّؤ أيضا، و منها ما يظهر منه الكراهة المطلقة عن التوضّؤ أيضا، و منها ما يتردّد بين المنع المطلق عن التوضّؤ و بين جواز التوضّؤ مطلقا و جوازه مقيّدا.

فمن القسم الأوّل: رواية عنبسة بن مصعب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سؤر الحائض يشرب منه و لا يتوضّأ»(2).

و رواية ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام أ يتوضّأ الرجل من فضل المرأة؟ قال: «إذا كانت تعرف الوضوء يتوضّأ، و لا يتوضّأ من سؤر الحائض»(3).

و رواية الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الحائض: «يشرب من سؤرها و لا يتوضّأ منه»(4).

و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته هل يتوضّأ عن فضل الحائض؟ قال: «لا»(5).

و من القسم الثاني: رواية عليّ بن يقطين عن أبي الحسن عليه السّلام في الرجل يتوضّأ بفضل الحائض؟ قال: «إذا كانت مأمونة فلا بأس»(6).

و من القسم الثالث: رواية أبي هلال قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «المرأة الطامث أشرب من فضل شرابها، و لا أحبّ أن أتوضّأ منه»(7) بناء على أنّه يدلّ على نفي المحبوبيّة و هو أعمّ من المبغوضيّة، فلا يستفاد منه ما زاد على الكراهة، و ربّما يقال:

بظهور هذه اللفظة فيها.

و من القسم الرابع: رواية عيص بن القاسم المرويّة في الكافي و التهذيبين - فعلى ما

ص: 889


1- مدارك الأحكام 134:1.
2- الوسائل 237:1 ب 8 من أبواب الأسآر ح 6 - التهذيب 634/222:1 و فيه: «تشرب منه و لا توضّأ».
3- الوسائل 236:1 ب 8 من أبواب الأسآر ح 3 و 2 - الكافي 11:3 و 4/10 و 3.
4- الوسائل 236:1 ب 8 من أبواب الأسآر ح 3 و 2 - الكافي 11:3 و 4/10 و 3.
5- الوسائل 237:1 ب 8 من أبواب الأسآر ح 7 و 6 - التهذيب 636/222:1 و 634.
6- الوسائل 237:1 ب 8 من أبواب الأسآر ح 7 و 6 - التهذيب 636/222:1 و 634.
7- الوسائل 238:1 ب 8 من أبواب الأسآر ح 9.

في الكافي - «قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام هل يغتسل الرجل و المرأة من إناء واحد؟ فقال:

«نعم، يفرغان على أيديهما قبل أن يضعا أيديهما في الإناء».

قال: و سألته عن سؤر الحائض؟ فقال: «لا توضّأ منه، و توضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة، ثمّ تغسل يديها قبل أن تدخلهما في الإناء، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يغتسل هو و عائشة في إناء واحد، [و] يغتسلان جميعا»(1).

و على ما في التهذيبين قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن سؤر الحائض؟ قال: «توضّأ منه، و توضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة»(2) إلى آخره.

و الجنب هنا مراد بها المرأة، على ما قيل: من أنّه لفظ يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، و قوله: «إذا كانت مأمونة» على نسخة الكافي لا يتحمّل قيدا لما حكم به لسؤر الحائض من قوله: «لا يتوضّأ منه» كما هو واضح، فعليه يكون مفاد ذلك المنع المطلق على طبق القسم الأوّل من الروايات.

و على نسخة التهذيبين يحتمل كونه قيدا للجنب فقط، فيكون مفاد الرواية حينئذ بالقياس إلى سؤر الحائض الجواز المطلق، كما يحتمل كونه قيدا لها و لما قبلها على إرادة كلّ واحدة، فيكون مفادها حينئذ الجواز المقيّد.

و كيف كان ففيما بين تلك الأخبار من التنافي ما لا يخفى، و معه لا يمكن العمل بالجميع إلاّ بنوع من التصرّف يوجب الجمع بينها، و هو يتصوّر من وجوه:

أوّلها: أن يحمل «لا يتوضّأ» في روايات القسم الأوّل، و في رواية القسم الرابع - على نسخة الكافي - على المنع، مع حمل إطلاقه على المنع المقيّد المستفاد من مفهوم رواية القسم الثاني و كذلك رواية القسم الرابع على نسخة التهذيبين، مع رجوع القيد إلى سؤر الحائض أيضا، بناء على كون كلمة «لا بأس» مرادا بها نفي الحرمة خاصّة.

و يحمل قوله: «لا احبّ» في رواية القسم الثالث على إرادة المبغوضيّة مع حمل إطلاقه على المنع المقيّد المذكور، ليكون مفاد المجموع حينئذ المنع من سؤر الغير المأمونة خاصّة، و هذا هو الّذي عزي إلى ظاهر التهذيبين، و اقتضاه ما ذكره أوّلا من وجه الجمع كما لا يخفى.

ص: 890


1- الكافي 2/10:3.
2- التهذيب 633/222:1.

و ثانيها: أن يؤخذ بظاهر قوله: «لا أحبّ» في رواية القسم الثالث من إرادة الكراهة، ثمّ يجعل قرينة على كون المراد بقوله: «لا يتوضّأ» في روايات القسم الأوّل و كذلك ما في رواية القسم الرابع - على نسخة الكافي - إنّما هو الكراهة، مع حمل قوله:

«لا بأس» في رواية القسم الثاني على نفي الحرمة الغير المنافي لثبوت الكراهة لمحلّ النطق و إلغاء المفهوم عن المسكوت عنه، و حمل قوله: «يتوضّأ» في رواية القسم الرابع - على نسخة التهذيبين - على الإذن الموجودة في ضمن الكراهة مع عدم رجوع القيد إليه، فيكون مفاد الجميع حينئذ الكراهة المطلقة، و هذا هو الّذي نقل عن السيّد و الشيخ في المصباح و المبسوط.

و ثالثها: أن يحمل لفظة «لا بأس» في رواية القسم الثاني على إرادة نفي المرجوحيّة المطلقة، حتّى الكراهة الغير المنافي لثبوتها في جانب المفهوم، ثمّ يؤخذ بظاهر قوله: «لا احبّ» في رواية القسم الثالث و يجعل أيضا قرينة على إرادة الكراهة من قوله: «لا يتوضّأ» في الروايات الاخر، لكن مع تقييد الجميع بغير المأمونة عملا بمنطوق رواية القسم الثاني، و حمل «يتوضّأ» في رواية القسم الرابع - على نسخة التهذيبين - على الإذن المطلق الّذي هو القدر المشترك بين الكراهة و الإباحة الخاصّة، فيكون مفاد الجميع كراهة سؤر الغير المأمونة مع انتفائها عن سؤر المأمونة، و هذا هو المشهور الّذي صار إليه المعظم.

و هاهنا احتمالات اخر يظهر بالتأمّل، و لا ريب أنّ المصير إلى بعض ما ذكر من الوجوه الثلاث بعينه لا بدّ له من مرجّح عرفي يرجّح أحدها بعينه، و ظاهر أنّ مناط الترجيح هو الظهور و الأظهريّة، على ما هو مقرّر في المرجّحات الراجعة إلى الدلالة.

و لا يبعد أن يقال: بترجيح الوجه الأخير، بل هو الأقوى، و إن استلزم ذلك ارتكاب خلاف ظاهر في لفظة «لا بأس»، بحملها على نفي المرجوحيّة المطلقة، مع ظهورها عرفا في نفي الجهة المقتضية للمنع من نجاسة أو غيرها، و في لفظة «لا يتوضّأ» بحملها على الكراهة مع ظهورها في الحرمة، و فيها مع لفظة «لا احبّ» بإلحاق التقييد بهما مع ظهورهما في الإطلاق.

لكنّ الإنصاف: أنّ لفظة «لا احبّ» أظهر في إفادة الكراهة، و الجملة الشرطيّة أظهر

ص: 891

في إفادة المفهوم من جميع الامور المذكورة في إفادة ظواهرها، و من البيّن وجوب تقديم الأظهر على غيره في مقام التعارض، فلا يصار معه إلى الوجه الأوّل لاستلزامه العدول عن ظاهر لفظة «لا احبّ»، مع مشاركته للوجه الأخير في اقتضاء التقييد، و لا إلى الوجه الثاني لأدائه إلى إلغاء المفهوم عن الجملة الشرطيّة، مع مشاركته للوجه الأخير في اقتضاء حمل «لا يتوضّأ» على إرادة الكراهة، مع إمكان المنع من ظهورها في التحريم، لأنّها جملة خبريّة و هي عند تعذّر الحقيقة ظاهرة في الإنشاء المطلق و منه الكراهة.

و لو سلّم ظهورها فيه بالنوع فيتوهّن ذلك الظهور بمصير المعظم إلى خلافه، إن لم نقل بكون فهمهم الكراهة موجبا لظهورها، و بمثل ذلك أمكن منع ظهور لفظة «لا بأس» فيما ذكر.

بل قد يقال: «إنّ ظاهر نفي البأس في المقيّدات بعد العلم بعدم الحرمة في غير المأمونة نفي الكراهة رأسا»(1)، فإنّ العلم بانتفاء الحرمة - لو فرض - يصلح قرينة على كون النظر في روايات الباب نفيا و إثباتا منطوقا و مفهوما إلى الكراهة خاصّة، و من هنا أمكن أيضا استظهار الكراهة من لفظتي «يتوضّأ» و «لا يتوضّأ».

ثمّ يبقى ممّا يتعلّق بالمسألة امور:
الأوّل: قد عرفت أنّ مقتضى الجمع بين الأخبار اختصاص الكراهة بالحائض الغير المأمونة،

على ما هو صريح رواية عليّ بن يقطين، و رواية عيص بن القاسم على نسخة التهذيبين في أحد الوجهين، و قد ورد التقييد به في كلام جماعة من المقيّدين كالشرائع(2) و عن الذكرى(3)، و المراسم(4)، و الجامع(5)، و المهذّب(6). لكن في الدروس(7) تبديل الغير المأمونة بالمتّهمة، كما عن السرائر(8) و المعتبر(9)، و المنتهى(10)، و المختلف(11)، و التحرير(12)،

ص: 892


1- القائل هو الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة 382:1.
2- شرائع الإسلام 16:1.
3- ذكرى الشيعة 107:1.
4- المراسم العلويّة: 36.
5- الجامع للشرائع: 20.
6- المهذّب 430:2.
7- الدروس الشرعيّة 123:1.
8- السرائر 62:1.
9- المعتبر: 25.
10- منتهى المطلب 162:1.
11- مختلف الشيعة 232:1.
12- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.

و القواعد(1)، و الإرشاد(2)، و اللمعة(3)، و الجعفريّة(4).

و في كلام غير واحد أنّ الثمرة تظهر في الحائض المجهولة الحال، فإنّ سؤرها مكروه على الأوّل دون الثاني، لأنّ المتّهمة أخصّ من غير المأمونة، حيث إنّها تشمل المجهولة دون المتّهمة، و لعلّه كذلك بملاحظة مضمونها لغة، فإنّ «المأمون» مأخوذ من الأمن أو الأمانة و هو: الوثوق و الاطمئنان، فالمأمونة: هي المرأة الّتي يوثق بطهارتها و يطمئنّ على تحفّظها عن النجاسة، و لا ريب أنّ الوثوق و الاطمئنان منحصر في صورة العلم أو الظنّ بالتحفّظ، فغير المأمونة حينئذ من لم يعلم و لا يظنّ تحفّظها عن النجاسة، سواء علم أو ظنّ بالعدم كما في المتّهمة - على تقدير الظنّ بالعدم، نظرا إلى أنّ الاتّهام عبارة عن سوء الظنّ، فالمتّهمة: من ظنّ بسوء تحفّظها عن النجاسة - أو لم يعلم و لا يظنّ كالمجهولة.

و من هنا حكم في المدارك بأولويّة إناطة الكراهة بغير المأمونة من المتّهمة، تعليلا:

«بأنّ النصّ إنّما يقتضي انتفاء المرجوحيّة إذا كانت مأمونة، و هو أخصّ من كونها غير متّهمة، لتحقّق الثاني في ضمن من لا يعلم حالها دون الأوّل»(5).

لكن قد يقال: باتّحادهما عرفا، على معنى أنّ المتبادر عرفا من المأمونة هي الّتي لا تتّهم، و كأنّه إلى ذلك يرجع ما عن بعض المحقّقين من أنّ غير المأمونة هي المتّهمة، إذ لا واسطة بين المأمونة و من لا أمانة لها، و الّتي لا أمانة لها هي المتّهمة. و عليه فلا يتوجّه إليه ما في المدارك من الاعتراض عليه بأنّ: «المتبادر من المأمونة من ظنّ تحفّظها من النجاسات، و نقيضها من لم يظنّ بها ذلك، و هو أعمّ من المتّهمة و المجهولة»(6).

و مرجع ما ذكر إلى منع كون غير المأمونة أعمّ من المتّهمة، بل هما متساويان في العرف، و كما أنّ من لم يعلم حالها لا تدخل في مفهوم «المتّهمة» فكذلك لا تدخل في مفهوم «الغير المأمونة»، فعلى التعبيرين لا يحكم عليها بشيء من الكراهة و العدم واقعا، و إن كان مقتضى استحباب الحالة السابقة الثابتة للماء هو عدم الكراهة في الحكم الظاهري.

ص: 893


1- قواعد الأحكام 185:1.
2- إرشاد الأذهان 238:1.
3- اللمعة الدمشقيّة 47:1.
4- الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي 86:1).
5- مدارك الأحكام 136:1.
6- مدارك الأحكام 136:1.

لكن يبقى الكلام في صحّة دعوى التبادر العرفي و لعلّها غير ثابتة.

و بالجملة مبنى الإشكال على دخول الظنّ في مفهومي «المأمونة» و «المتّهمة» لغة، و قضيّة ذلك كون نقيض كلّ - و هو ما لا ظنّ فيه - أعمّ من عين الآخر.

نعم، لو قدرت «المأمونة» الواردة في الروايات مأخوذة من «الأمن» بمعنى السلامة و الحفظ و الخلوص عن النجاسة ليكون أمرا واقعيّا من غير مدخليّة للعلم أو الظنّ فيه إلاّ من باب الطريقيّة، أمكن القول بدخول المجهولة بحسب الواقع إمّا في «المأمونة» أو في نقيضها، فلا يحكم عليها بحسب الواقع بشيء من الكراهة و العدم، و إن وجب الحكم في الظاهر بعدمها استصحابا للحالة السابقة.

و لعلّه إلى ذلك يرجع ما قيل: من أنّا نمنع أخذ الظنّ في المأمونة، بل المراد منها المتحفّظة عن النجاسة واقعا، فتارة يظنّ و تارة يقطع، و غير المأمونة غير المتحفظة في الواقع، و على كلّ حال فمجهولة الحال لا يحكم عليها بشيء و إن كان الواقع لا يخلو منهما، كما يرشد إليه قول ابن إدريس في السرائر: «أنّ المتّهمة الّتي لا تتوقّى عن النجاسات»(1) و قول أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ سؤر الحائض لا بأس [به] أن يتوضّأ منه إذا كانت تغسل يديها»(2).

لكنّه كما ترى لا يجدي نفعا في إصلاح التعبير بالمتّهمة عن غير المأمونة، بل قضيّة هذا التوجيه إناطة الكراهة وجودا و عدما بموضع القطع بالتحفّظ و الخلوص عن النجاسة و عدمه، لا لأنّ القطع له مدخليّة في موضوع الحكمين، بل لأنّه هو الطريق الموصل إلى الواقع على حدّ ما هو في سائر الموضوعات، فيلزم أن لا يحكم في الّتي ظنّ تحفّظها و الّتي ظنّ عدم تحفّظها - و هي المتّهمة - و الّتي شكّ في حالها بشيء من الكراهة و العدم في الواقع، و إن قضى الظاهر بالحكم بعدمها حتّى في المتّهمة أيضا.

لكن هذا بناء على الاقتصار في العمل على الروايات المقيّدة بالمأمونة، و أمّا بناء على العمل بالروايات الناهية على الإطلاق و أخذ الروايات المقيّدة مخصّصة لها - على ما هو مبنى الجمع بينهما - اتّجه الحكم بالكراهة في جميع الأقسام الثلاث المذكورة، إذ لم يعلم بملاحظة المخصّص إلاّ خروج المأمونة عنها، و هي الّتي علم أمانتها في الواقع.

ص: 894


1- السرائر 62:1.
2- الوسائل 238:1 ب 8 من أبواب الأسآر ح 9.

و من هنا ربّما قيل: إنّ الروايات قد نهت عن الوضوء بسؤر الحائض مطلقا، أقصى ما هناك أنّه خرجت المأمونة عن هذا الإطلاق فيبقى الباقي.

و على كلّ تقدير فالتعبير بالمتّهمة مع الاقتصار عليها ليس على ما ينبغي، إذ النظر في الحكم بالكراهة هنا إن كان إلى إطلاق الروايات المطلقة في غير ما خرج بالدليل، فهي مقتضية للكراهة فيما يعمّ المتّهمة و غيرها كالمجهولة إذا لم يؤخذ المتّهمة فيها عنوان الحكم بل العنوان هو الحائض، غاية الأمر أنّه خرج عنها المأمونة هي الّتي يوثق بطهارتها - و لو ظنّا - أو الّتي يقطع بتحفّظها عن النجاسة بالخصوص، و إن كان إلى مفهوم الروايات المقيّدة، فهو على تقدير يوجب الحكم فيما يعمّ غير المتّهمة أيضا، و على تقدير آخر لا يوجبه في المتّهمة أيضا.

و بملاحظة جميع ما ذكر آل الكلام إلى دعوى: أنّ الأقوى بملاحظة إطلاق الأخبار الناهية عن سؤر الحائض كراهة سؤر جميع أفرادها عدا المأمونة، و هي المحفوظة عن النجاسة في الواقع، فلا يحكم بها إلاّ مع العلم بالحفظ، بل ينبغي أن يستثنى من هذا الإطلاق الّتي علم بعدم سلامتها عن النجاسة الشخصيّة لثبوت المنع هنا بملاحظة أدلّة اخر، و أمّا الّتي ظنّ بعدم سلامتها عن شخص النجاسة فاستثناؤها و العدم يدور على القول بالظنّ في ثبوت النجاسات و عدمه.

الأمر الثاني: قد عرفت بملاحظة ما تقدّم أنّ المأخوذ في موضوع حكم الكراهة إنّما هو الوضوء بسؤر الحائض مطلقة أو مقيّدة،

بل قد عرفت أنّها فارقة في النهي و الترخيص بين الوضوء و الشرب، حتّى أنّه قد خرجت أكثرها مصرّحة بالشرب مع النهي عن الوضوء المحمول على إرادة الكراهة، و من هنا استشكل بعضهم في حكم الشرب، لكن المعروف من مذهبهم عدم الفرق بينهما، بل عن المحقّق البهبهاني: «أنّ الاقتصار على الوضوء لم نقل به فقيه»(1) و لعلّه من جهة التسامح، و عليه يحمل النهي الوارد في الأخبار بالقياس إلى الوضوء على شدّة الكراهة لا على اختصاصها به، و لا يخلو عن إشكال.

ص: 895


1- حكاه عنه في مفتاح الكرامة 84:1 حيث قال: «و قال الاستاذ إنّ الاقتصار على الوضوء لم يقل به فقيه، فالظاهر أنّ التعميم محلّ وفاق» انتهى.
الأمر الثالث: مقتضى بعض الروايات المتقدّمة كون سؤر الجنب أيضا في حكم سؤر الحائض،

فيكون مكروها مع عدم المأمونيّة، و قد يلحق بهما سؤر المستحاضة أيضا و النفساء، بل عن غير واحد كالشهيدين في البيان(1) و الروضة(2)، و ظاهر الشيخين(3)و الحلّي(4) و المحقّق(5) إلحاق سؤر كلّ متّهم بها، و عن المحقّق الشيخ عليّ المناقشة فيه بكونه تصرّفا في النصّ، بل عنه بعين عبارته: «أنّه تصرّف في التصرّف»(6) و لا يخلو عن قوّة، و ربّما يؤيّد ذلك بما يظهر من الأخبار من استحباب التنزّه عمّن لا يتنزّه، بل قد يستظهر ذلك من رواية ابن أبي يعفور: أ يتوضّأ الرجل من فضل المرأة؟ قال: «إذا كانت تعرف الوضوء يتوضّأ»(7) بناء على أنّ الظاهر من الوضوء الاستنجاء أو إزالة مطلق الخبث.

***

ص: 896


1- البيان: 101.
2- الروضة البهيّة 47:1.
3- و هما الشيخ المفيد في المقنعة: 584؛ و الشيخ الطوسي في النهاية 106:3.
4- السرائر 123:3.
5- المعتبر: 25.
6- جامع المقاصد 124:1 العبارة الموجودة فيه هكذا: «و تعدية الحكم إلى كلّ متّهم تصرّف في النصّ» و لكنّه نقل العبارة في الحدائق عن بعض فضلاء المتأخرين بما في المتن. راجع الحدائق الناضرة 424:1.
7- الوسائل 236:1 ب 8 من أبواب الأسآر ح 3.

ينبوع [الماء المسخن بالشمس]

اشارة

و ممّا حكم عليه بكراهة استعماله مطلقا، أو في الطهارة مطلقا، أو في الوضوء خاصّة، الماء الّذي سخّنته الشمس، نصّ عليه غير واحد من الأصحاب، و عن الذخيرة:

«أنّه مشهور بين الأصحاب»(1) بل عن الخلاف(2) الإجماع على كراهة الوضوء بالمسخّن بالشمس إن قصد به ذلك.

و الأصل فيه رواية إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عائشة و قد وضعت قمقمتها في الشمس، فقال: يا حميرا، ما هذا؟ قالت:

أغسل رأسي و جسدي، قال: لا تعودي، فإنّه يورث البرص»(3).

و رواية إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الماء الّذي تسخّنه الشمس لا تتوضّئوا به، و لا تغسلوا به، و لا تعجنوا به، فإنّه يورث البرص»(4).

و ما في الخصال عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه: خمس خصال تورث البرص: النورة يوم الجمعة و يوم الأربعاء، و التوضّؤ و الاغتسال بالماء الّذي تسخّنه الشمس، و الأكل على الجنابة، و غشيان المرأة في أيّام حيضها، و الأكل على الشبع»(5) و إنّما حمل النهي في الروايتين الاوليين على الكراهة مع ظهوره في الحرمة لما في سنديهما من الضعف، الموجب لعدم صلاحيتهما لإثبات الحرمة، فحمل النهي على الكراهة مسامحة في دليلها.

ص: 897


1- ذخيرة المعاد: 144.
2- الخلاف 55:1، المسألة 4.
3- الوسائل 207:1 ب 6 من أبواب الماء المضاف ح 1 - التهذيب 1113/366:1.
4- الوسائل 207:1 ب 6 من أبواب الماء المضاف ح 2 - الكافي 5/15:3.
5- الخصال: باب الخمسة، ص 270.

و يؤيّده الشهرة و الإجماع المنقولان، مضافا إلى أنّه مقتضى الجمع بين الروايات المذكورة و بين مرسلة محمّد بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بأن يتوضّأ [الإنسان] بالماء الّذي يوضع في الشمس»(1).

لا يقال: مقتضى الرواية الثالثة كالتعليل في الاوليين حرمة استعمال الماء لأنّ البرص ضرر أخبر به المعصوم، و من أحكام الضرر أن يجب دفعه و لو كان ممّا يرجع إلى الدنيا، إذ لا يستفاد منها كونه علّة تامّة لإيراث البرص، بل غاية ما يستفاد أنّه ممّا من شأنه ذلك، فحين شخص الاستعمال لا يقطع و لا يظنّ بأنّه يؤثّر لا محالة، بل قصارى ما هنالك الاحتمال، و هو لا يقضي إلاّ باستحباب التجنّب و الاحتياط.

ثمّ في المقام فروع ينبغي التعرّض لها.

الأوّل: أنّه يستفاد من المحقّق في ظاهر الشرائع [اعتبار قصد التسخين في موضوع حكم الكراهة]

- حيث عبّر عن المسألة بأنّه:

«تكره الطهارة بماء اسخن بالشمس في آنية» -(2) اعتبار قصد التسخين في موضوع حكم الكراهة، بل هو صريح الخلاف على ما تقدّم عنه من نقل الإجماع، المذيّل بقوله:

«إن قصد به ذلك»(3) و صريح المحكيّ عن السرائر من: «أنّ ما أسخنته الشمس بجعل جاعل له في إناء، و تعمّده لذلك، فإنّه مكروه في الطهارتين معا فحسب»(4) و حكي عن ظاهر غير واحد أيضا.

لكن يدفعه: إطلاق الروايات الشاملة لما لا قصد إلى تسخينه، و ليس فيها ما يخصّصها عدا ما يوهم الرواية الاولى، المشتملة على قوله: «قد وضعت قمقمتها في الشمس»، و فيه: ما لا يخفى.

و أضعف منه الاعتذار لهم بأنّه: من جهة الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن، فإنّ ذلك إنّما يستقيم في موضع الإجمال الّذي هو منتف هنا جزما فالإطلاق لا صارف عنه هنا قطعا.

ص: 898


1- الوسائل 208:1 ب 6 من أبواب الماء المضاف ح 3 - التهذيب 1114/366:1.
2- لشرائع الإسلام 15:1.
3- الخلاف 54:1 المسألة 4 و فيه: «و أمّا المسخّن بالشمس إذا اريد به ذلك، فهو مكروه إجماعا».
4- السرائر 95:1.

فالأقرب: عموم الكراهة بالقياس إلى صورتي القصد و عدمه، عملا بالإطلاق المنجبر ضعفه بعمل المعظم كما قيل، مضافا إلى أنّ التعليل: بإيراث البرص أيضا ممّا ينفي هذا التوهّم، لأنّ ذلك إنّما يترتّب عليه من باب الخاصّيّة، فليس للقصد فيها مدخليّة.

الثاني: و ممّا يستفاد من عبارة الخلاف المتقدّمة اختصاص الكراهة بالوضوء،

الثاني: و ممّا يستفاد من عبارة الخلاف المتقدّمة(1) اختصاص الكراهة بالوضوء،

كما أنّ المستفاد من عبارة الشرائع(2) المتقدّمة اختصاصها بالطهارة، و من صريح ما تقدّم عن التحرير(3) قصر الحكم على الطهارتين فحسب، و عن الشهيد في الذكرى(4)تخصيص الحكم بالطهارة مع العجين.

و الأولى وفاقا لغير واحد من الأجلّة عدم الفرق بين سائر الاستعمالات أيضا، لإطلاق الرواية الاولى المحفوف بترك الاستفصال، و ليس في المقام ما يوهم الخروج عنه إلاّ ما في الرواية الثانية و الثالثة.

و فيه: أنّ الأخذ به أخذ بمفهوم اللقب، و هو من أصله فاسد، و معه فلا يقاوم إطلاق منطوق الرواية الاولى، و مع الغضّ عن ذلك فثبوت المفهوم عند القائلين به في جميع موارده منوط بعدم ورود المنطوق مورد الغالب.

و لعلّ النكتة في عدم التعرّض لذكر سائر الاستعمالات الّتي منها الشرب أنّه قلّما يتّفق من سائر الاستعمالات - و لا سيّما الشرب - بما سخّنته الشمس، بل النفوس تراها كارهة عن شرب هذا الماء.

نعم، إنّما يغلب فيه الاستعمال في الطهارتين و العجين، و لا سيّما في أوقات الشتاء، بل الناس تراهم متعمّدين في تسخين الماء لهذه الاستعمالات خصوصا العجين، فوردت الروايتان على طبق ما يغلب في عملهم، و لا ينافي مثل ذلك ثبوت الحكم للمسكوت عنه أيضا.

و الثالث: المستفاد من عبارة السرائر و الشرائع المتقدّمتين، و كذلك النافع [اختصاص الحكم بالآنية و انتفاؤه عن غيرها]

و الثالث: المستفاد من عبارة السرائر(5) و الشرائع(6) المتقدّمتين، و كذلك النافع [اختصاص الحكم بالآنية و انتفاؤه عن غيرها](7)

ص: 899


1- الخلاف 54:1 المسألة 4.
2- شرائع الإسلام 15:1.
3- تحرير الأحكام - كتاب الطهارة - (الطبعة الحجريّة): 5.
4- ذكرى الشيعة 78:1.
5- السرائر 95:1.
6- شرائع الإسلام 15:1.
7- المختصر النافع: 44.

و المنتهى(1) و كلام الشيخ عليّ في حاشية الشرائع(2) اختصاص الحكم بالآنية و انتفاؤه عن غيرها، بل عن التذكرة(3) و نهاية الإحكام(4) الإجماع على نفيها عن غيرها من الأنهار و الحياض و المصانع، و كأنّهم استفادوه عن الرواية الاولى المشتملة على ذكر القمقمة، و إلاّ فالنصوص الاخر مطلقة، مع توجّه المنع إلى استفادته من الرواية المذكورة أيضا، فإن ثبت ذلك إجماعا و إلاّ فللمناقشة فيه مجال واسع، إلاّ أن تدفع بتعسّر الاجتناب عمّا أسخنته في غير الآنية. فتأمّل.

ثمّ على تقدير الاختصاص بالآنية ظاهرهم بل صريح غير واحد عموم الحكم للأواني المنطبعة - و هي المصنوعة من الصفر و الحديد و الرصاص و النحاس و نحوها - و لغيرها، و عدم الفرق أيضا بين البلاد الحارّة و غيرها من البلاد المعتدلة، و كلّ ذلك لعموم النصّ و الفتاوي، و نقل الإجماع أيضا و عن التذكرة(5) القطع به، خلافا لما عن النهاية من دعوى التخصيص، قائلا: «بأنّ التعليل بكونه يورث البرص يقتضي قصر الحكم على الأواني المنطبعة غير الذهب و الفضّة في البلاد الحارّة، لأنّ الشمس إذا أثّرت في تلك الأواني استخرجت منها زهومة(6) تعلو الماء، و منها يتولّد المحذور» (7)و لا يخفى ما فيه من الاعتبار في مقابل النصّ.

الرابع: في كلام غير واحد بقاء الكراهية و إن زالت السخونة و الحرارة الحادثة من الشمس، و علّل بالاستصحاب.

و عن بعضهم الاحتجاج عليه: بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ.

و فيه أوّلا: فساد المبنى، لما قرّر في محلّه.

و ثانيا: فساد الابتناء، إذ ليس الحكم في نصوص الباب معلّقا على المشتقّ ليترتّب عليه ما ذكر.

نعم، التمسّك بالاستصحاب لا ضير فيه، بناء على أنّ المستفاد من النصوص بملاحظة صيغة «تسخّنه» ليس إلاّ سببيّة حدوث السخونة لحدوث الكراهة، و أمّا كون

ص: 900


1- منتهى المطلب 24:1.
2- حاشية شرائع الإسلام - كتاب الطهارة - (مخطوط) الورقة: 6.
3- تذكرة الفقهاء 13:1.
4- نهاية الإحكام 226:1.
5- تذكرة الفقهاء 13:1.
6- رسومة (منه).
7- نهاية الإحكام 226:1 نقلا بالمعنى.

بقائها سببا للبقاء أيضا فلا، غاية الأمر وقوع الشكّ في البقاء فيجري فيه الاستصحاب.

ثمّ في اشتراط القلّة هنا في موضوع الكراهة و عدمه وجهان، بل قولان - على ما قيل - أقواهما: العدم، عملا بالإطلاق.

ثمّ ما تقدّم من كراهة مطلق الاستعمال إنّما هو فيما استلزم المباشرة بالجسد أو عضو منه، و أمّا مع عدم المباشرة كما لو أزال به نجاسته أو سقى به دابّة أو نحو ذلك فالظاهر انتفاء الكراهة، نظرا إلى التعليل بإيراث البرص، و على قياس ذلك في انتفاء الكراهة ما لو سخّنت الشمس آنية خالية، ثمّ وضع فيها ماء و هي حارّة، فأفادت فيه سخونة و حرارة من غير أن يستند ذلك حينئذ إلى تأثير من الشمس، فإنّ ذلك غير معلوم الاندراج في دليل الكراهة و لا فتاوى الطائفة إن لم ندّع العلم بعدم اندراجه، بل نظيره ما لو تسخّن ماء الآنية بتأثير من الشمس و النار على نحو الشركة بحيث لو لا أحدهما لم يكن الآخر كافيا في تسخينه، فإنّ المستفاد من النصوص كون الشمس علّة تامّة للسخونة، و مثله ما لو وجد الماء متسخّنا في موضع صالح لأن يستند سخونته إلى الشمس أو النار من غير أن يتبيّن عنده أحد الأمرين، سواء بقي شاكّا أو ظانّا ما لم يكن الظنّ مستندا إلى دليل شرعي، فإنّ الأصل في كلّ من هاتين الصورتين سليم عن معارضة الغير.

و لنختم الكتاب بذكر امور اخر تلحق بهذا الباب.

أحدها: أنّه يكره استعمال ما اسخن بالنار في تغسيل الموتى ما دام الغاسل متمكّنا من استعمال الماء البارد،

أو لم يكن على بدن الميّت ما لا يقلعه إلاّ الماء الحارّ من نجاسة أو وسخ أو نحو ذلك، من غير خلاف يحكى في المقام، بل في كلام غير واحد(1) نفي الخلاف، بل عن خلاف الشيخ(2) إجماع الفرقة و أخبارهم عليه، و في المدارك: «هذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب، حكاه في المنتهى»(3).

و الأصل فيه صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «لا يسخّن الماء للميّت»(4) و مرسلة

ص: 901


1- كما في جواهر الكلام 604:1؛ و مدارك الأحكام 118:1.
2- الخلاف 692:1 المسألة 470.
3- مدارك الأحكام 118:1 - لاحظ منتهى المطلب 160:7.
4- الوسائل 498:2 ب 10 من أبواب غسل الميّت ح 1 - التهذيب 938/322:1.

عبد اللّه بن المغيرة عن أبي جعفر عليه السّلام و أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يقرب الميّت ماء حميما»(1).

و رواية يعقوب بن يزيد عن عدّة من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يسخّن للميّت الماء، لا تعجل له النار»(2) و رواية محمّد بن عليّ بن الحسين قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «لا يسخّن الماء للميّت، قال و روي - في حديث آخر -: إلاّ أن يكون شتاء باردا فتوفّي الميّت ممّا توقّي منه نفسك»(3).

و عن كاشف اللثام: و روى عن الرضا عليه السّلام «و لا تسخّن له ماء إلاّ أن يكون ماء باردا جدّا فتوقّي الميّت ممّا توقّي منه نفسك»(4).

و كأنّه إشارة إلى الرضوي المذكور في الرياض(5) قال في المدارك: «و النهي و إن كان حقيقة في التحريم لكنّه محمول على الكراهة، لاتّفاق الأصحاب على أنّ ذلك غير محرّم»(6) انتهى.

فبذلك علم وجه الاستدلال بتلك الأخبار، كما علم بما ذكر فيها وجه الاستثناء المتقدّم، و لذا قال الشيخ - على ما حكاه في الكتاب المشار إليه(7)، و استحسنه -: «و لو خشي الغاسل من البرد انتفت الكراهة»(8) و وافقه على ذلك كلّ من أفتى هنا بالكراهة فيما نعلم.

نعم، ينبغي الاقتصار على ما تندفع به الضرورة كما نصّ عليه جماعة، و ممّا يلحق بالضرورة إسخانه لتليين أعضائه و أصابعه، و هو حسن في موضع توقّف الغسل على التليين و توقّف التليين على حرارة الماء.

لكن عن بعضهم تجويز ذلك و لو مع عدم الضرورة، تعليلا بخروجه عن الغسل، و هو فاسد لعدم إناطة الكراهة بالغسل كما يظهر بملاحظة الأخبار المطلقة المتقدّمة، إلاّ أن يدّعى انصراف إطلاقها إلى الغسل، و لعلّه في حيّز المنع كما يرشد إليه النهي عن تعجيل النار له.

و ثانيها: لا يكره استعمال الماء المتسخّن بالنار في غير تغسيل الأموات،

للأصل، و السيرة المعلومة.

قال في المنتهى: «الماء المسخّن بالنار لا بأس باستعماله، لبقاء الاسم، خلافا

ص: 902


1- الوسائل 499:2 ب 10 من أبواب غسل الميّت ح 2 و 3.
2- الوسائل 499:2 ب 10 من أبواب غسل الميّت ح 2 و 3.
3- الوسائل 499:2 ب 10 من أبواب غسل الميّت ح 4 و 5 - الفقيه 397/86:1.
4- كشف اللثام 305:1 - لاحظ فقه الرضا عليه السّلام: 167.
5- رياض المسائل 186:1.
6- مدارك الأحكام 118:1.
7- مدارك الأحكام 118:1.
8- المبسوط 177:1 - النهاية و نكتها 246:1.

لمجاهد - إلى أن قال -: بل يكره تغسيل الميّت منه»(1).

و عن السرائر: «الماء الّذي يسخّن بالنار لا يكره استعماله في حال»(2)، بل عن الخلاف: «أنّه ممّا قال به جميع الفقهاء إلاّ مجاهد فإنّه كرهه»(3).

لكنّ العلاّمة في المنتهى(4) احتجّ عليه من طريق العامّة بما رواه الجمهور عن شريك قال: أجنبت و أنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فجمعت حطبا و أحميت الماء فاغتسلت، فأخبرت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم ينكر(5).

و من طريق الخاصّة بما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه اضطرّ إليه و هو مريض فأتوه به مسخّنا فاغتسل، و قال: «لا بدّ من الغسل»(6).

و أنت خبير بعدم صلاحية شيء من ذلك دليلا على نفي الكراهة، نعم ينبغي أن يعلم أنّ الثاني لا يدلّ على الكراهة أيضا، و إن كان قد يوهمها بملاحظة قوله: «أنّه اضطرّ إليه» لجواز عود الضمير إلى الغسل كما قيل، أو إلى الماء، لا إلى تسخينه.

و لو سلّم عوده إليه فعدم الاضطرار إلى التسخين أعمّ من كونه بنفسه مرجوحا كما لا يخفى.

و ثالثها: في المنتهى - عن ابن بابويه رحمه اللّه -: «و يكره التداوي بالمياه الحارّة من الجبال الّتي يشمّ منها رائحة الكبريت،

لأنّها من فوح جهنّم»(7).

أقول: يدلّ عليه ما رواه في الوسائل عن محمّد بن عليّ بن الحسين قال: أمّا ماء الحمات(8)، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّما نهى أن يستشفى بها و لم ينه عن التوضّؤ بها، قال: و هي المياه الحارّة الّتي يكون في الجبال يشمّ منها رائحة الكبريت. قال: و قال عليه السّلام: إنّها من فوح جهنّم(9).

و رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نهى رسول اللّه الاستشفاء

ص: 903


1- منتهى المطلب 36:1 و 26.
2- السرائر 95:1.
3- الخلاف 54:1 المسألة 4.
4- منتهى المطلب 36:1 و 26.
5- سنن البيهقي 5:1 - الإصابة 36:1 مع اختلاف يسير في اللفظ.
6- التهذيب 576/198:1 - الوسائل 209:1 ب 7 من أبواب الماء المضاف ح 2. و صدر الحديث هكذا: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة، و لا يجد الماء - إلى أن قال: - و ذكر أبو عبد اللّه عليه السّلام:...
7- منتهى المطلب 27:1.
8- الحمة: العين الحارّة يستشفي بها المرضى. الصحاح 1904:5.
9- الوسائل 220:1 ب 12 من أبواب الماء المضاف ح 1 و 2 - الفقيه 24/13:1 و 25/14.

بالحمات، و هي: العيون الجارية الّتي تكون في الجبال توجد منها رائحة الكبريت، فإنّها من فوح جهنّم»(1).

و رواية مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه قال: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى أن يستشفى بالحمات الّتي توجد في الجبال»(2) فالكراهة أيضا ممّا لا إشكال فيه، لكن بعد ملاحظة السيرة النافية للحرمة عن ذلك.

ثمّ ينبغي أن يعلم أنّ الكراهة في جميع ما حكم عليه بالكراهة من أوّل الكتاب إلى هذه الأبواب إنّما تثبت ما لم يتعيّن استعمال هذا الماء، كما في موضع الانحصار مع الضرورة إليه، و مع تعيّنه زالت الكراهة، ضرورة امتناع اجتماعها مع الوجوب في شيء واحد، فيخصّص به دليل الكراهة، تقديما لأقوى المصلحتين على الاخرى دون العكس.

و أمّا معنى الكراهة حيثما تضاف إلى الطهارات - مع أنّها من العبادات - فهو على ما تقرّر في الاصول، و لا حاجة إلى التعرّض له هنا.

هذا آخر ما أوردناه في كتاب المياه، و يتلوه الجزء الثاني من الكتاب بعون اللّه الملك الوهّاب، الّذي له الحمد أوّلا و آخرا و ظاهرا و باطنا.

قد فرغ من تسويده مؤلّفه الفقير إلى اللّه الغنيّ عليّ محمّد بن إسماعيل المرحوم الموسوي، عند طلوع الفجر من يوم الثلاثاء الاثنى عشر من شهر الرجب المرجّب من شهور سنة 1272 ه(3).

حفيد المؤلّف السيّد عليّ العلوي القزويني

ص: 904


1- الوسائل 221:1 ب 12 من أبواب الماء المضاف ح 3 و 4.
2- الوسائل 221:1 ب 12 من أبواب الماء المضاف ح 3 و 4.
3- لقد بذلنا غاية الجهد في تحقيقه و تصحيحه طبقا للنسخة الفريدة بخطّ المؤلّف قدّس اللّه تعالى نفسه الزكيّة. و قد تمّ بحمد اللّه تعالى الجزء الأوّل من هذا التراث الفقهي، و يتلوه إن شاء اللّه تعالى الجزء الثاني، أوّله: «و بعد فهذا الجزء الثاني من كتاب ينابيع الأحكام في تحرير الحلال و الحرام المتكفّل لما يتعلّق بالطهارات الثلاث و توابعها». نسأل اللّه أن يجعله ممّا ينتفع به الباحثون، فيصير ذخرا ليوم لا ينفع مال و لا بنون إلاّ من أتى اللّه بقلب سليم. و كان الفراغ من تصحيحه ليلة الغدير من شهور سنة اثنين و عشرين و أربعمائة بعد الألف (1422) من الهجرة النبوية، على هاجرها ألف سلام و تحية.

الفهرس

الصورة

ص: 905

الصورة

ص: 906

الصورة

ص: 907

الصورة

ص: 908

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.