الخزاعيان

هوية الکتاب

الخزاعيان

عبدالله بن بُدَيْل وسُلَيْمان بن صُرَد

من اصحاب أمير المؤمنين علیه السلام وكبار قادة جيشه

العوان: الخزاعيان - عبد الله بن بُدَيْل وسُلَيْمَان بن صُرَد - من اصحاب أمير المؤمنين علیه السلام

وكبار قادة جيشه (دراسة تحليلية)

المؤلف: أ.د صلاح مهدي الفرطوسي

تقديم : هاشم محمّد الباججي

مراجعة وتنقيح :مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية

الناشر : مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية - النجف الاشرف

المطبعة : دار أبو طالب علیه السلام- العتبة العلوية المقدّسة 1443ه- - 2022م

التصميم والإخراج الفني

احمد مكّي جعفر

am AGENCY

ص: 1

اشارة

ص: 2

الخزاعيان

عبد الله بن بُدَيْل وسُلَيْمَان بن صُرَد

من اصحاب أمير المؤمنين علیه السلام وكبار قادة جيشه

(دراسة تحليلية)

أ. د صلاح مهدي الفرطوسي

ص: 3

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز

العراق - النجف الأشرف

07721584777

هوية الكتاب

العوان: الخزاعيان - عبد الله بن بُدَيْل وسُلَيْمَان بن صُرَد - من اصحاب أمير المؤمنين علیه السلام

وكبار قادة جيشه (دراسة تحليلية)

المؤلف: أ.د صلاح مهدي الفرطوسي

تقديم : هاشم محمّد الباججي

مراجعة وتنقيح :مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية

الناشر : مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية - النجف الاشرف

المطبعة : دار أبو طالب علیه السلام- العتبة العلوية المقدّسة 1443ه- - 2022م

التصميم والإخراج الفني

احمد مكّي جعفر

am AGENCY

1443 2690 078 | وكالة اي ام الإعلالية

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

In the Name of Allah,

the Most Beneficent, the Most Merciful

ص: 5

قَالَ تَعَالَى :

« رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا

بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا

فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ »

البقرة: 286

ص: 6

إهداء

مرَّ عقد ونيف بعد عودتي من مغتربي، وأنا أتابع مسيرة العالمين العاملين الكبيرين السيّد أحمد الصافي والشيخ عبد المهدي الكربلائي حفظهما الله في إيصال كلمة المرجعية الرشيدة إلى أبناء وطننا، وفي حركة الإعمار التي قاداها بمدينة كربلاء المقدسة، والحركة الثقافية الجديدة التي أسساها بها، وفي رعاية الشباب العاطل والأيتام والأرامل والمعوزين بها، وفي المرافق الثقافية الراقية التي أسساها بها، والمراكز الصحية التي شيداها ، وغيرها؛ ولكل هذا وغيره كثير أهديهما هذا الجهد المتواضع تقديرًا لما قدَّماه من جهد تنوء به العصبة، مشفوعًا بدعوات دوام السداد والتوفيق، وبأمل أن يقتدي غيرهما بهما.

المؤلف

ص: 7

ص: 8

المحتويات

مقدمة المركز ... 11

المقدمة ... 13

تمهيد ... 19

خزاعة ... 19

عبد الله بن بديل الخزاعي ... 2

قائد ميمنة أمير المؤمنين علیه السلام في واقعة صفين ... 24

عبد الله ... 32

مع أمير المؤمنين علیه السلام في معركة الجمل ... 36

مع أمير المؤمنين علیه السلام في وقعة صفين ... 39

الصحابي سُلَيْمان بن صُرَد الخزاعي ... 49

أمير التوابين وقائدهم ... 49

سلیمان بن صرد ... 57

صاحب أمير المؤمنين علیه السلام ... 67

القائد الهمام في وقعة صفّين ... 71

دوره في خلافة الحسن ... 57

اجتماع المعارضة في منزل سليمان ... 81

فرسان معركة الثأر ... 88

هروب عبيد الله بن زياد من البصرة إلى الشام ... 91

الطريق إلى الخلود ... 100

الطريق إلى معركة الثأر ... 102

أيام معركة الثأر ... 106

مصادر البحث ومراجعه ... 112

ص: 9

ص: 10

مقدمة المركز

باسمه تعالی

الحمد لله واهب النعم، وله الشكر على ما ألهم، وصلى الله على النبي الاكرم وعلى اله خير الأنام، وأصحابه المنتجبين الكرام.

لقد كان أصحاب الامام أمير المؤمنين علیه السلام أقمارا منيرة، ونجوم زاهرة، في غسق الليل المظلم، وفتنه الهوجاء التي زلزلت الرجال، وأبرزت معادنهم، لكنهم ثبتوا مع الحق المبين والصراط المستقيم، فكان سطوع نجوم أصحاب الامام مستمدّ من نور شمس أمير المؤمنين علي علیه السلام المشرقة على العالم، التي طبق شعاعها الوجود وأضاء جميع أرجائه، ومن هنا، فليس التعريف بأصحاب أمير المؤمنين علیه السلام هو من أجل معرفة ذلك الإمام الهمام علیه السلام، ولا من أجل أن نعد ذلك فضيلة له علیه السلام، لأنه هو بنفسه منبع جميع الفضائل والكمالات، وإن سطوع أصحابه وأنصاره الأوفياء مستمدّ من نبعه المتدفّق على الدوام، وقد أوضح هذه المسألة أصحاب الفكر من صدر الإسلام وإلى يومنا هذا، حيث يقول عبد الرحمن بن الحجاج : (كنا في مجلس أبان بن تغلب، فجاء شاب فقال: يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب علیه السلام من أصحاب النبي صلی الله علیه و آله وسلم؟ فقال له أبان كأنك تريد أن تعرف فضل علي بمّن تبعه من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم؟ قال فقال الرجل: هو ذلك. فقال : والله ما عرفنا فضلهم إلا باتباعهم إياه) (1)

فأصحاب الامام أمير المؤمنين علیه السلام لهم ثلة من المؤمنين الصادقين الأوفياء، الذين أذعنوا لأوامر إمامهم عن علم ومحبة، فلم يميزوا في هذا الشأن

ص: 11


1- رجال النجاشي، النجاشي، ص 9

بين التعب والراحة والسلامة ،والمرض والحرّ والبرد، والسفر والحضّر، بل كانوا رهن اشارته ، فهناك العديد من الصَّحابة والتّابعين الذين ساروا على النهج الصحيح وسلكوا الطريق المستقيم الذي فيه نجاة الأُمَّة وهو طريق مُحَمَّد صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بيته الأطهار علیهم السلام الذين هم سفينة نجاة الأمة في الدنيا والآخرة، ومن هؤلاء الذين سلكوا هذا الطريق الصحيح وتمسكوا به ولم يضلّهم أعداء النَّبيّ مُحَمَّد وآل بيته الأطهار (صلوات الله تعالى عليه وعليهم أجمعين)، هما الخزاعيان عبد الله بن بديل وسليمان بن صرد اللذان كانا من أصحاب الامام أمير المؤمنين وكبار قادة جيشه، فأعط--وا مثالا عظيما للإخلاص والتضحية والطاعة، ومن هذه المفاهيم انطلق يراع الأستاذ الفاضل الدكتور صلاح الفرطوسي حفظه الله ليخط صورا رائعة لمعنى الصحبة والطاعة والإخلاص المتمثلة بالخزاعيين الجليليين عبد الله

بن بديل وسليمان بن صرد، وبعد مراجعة مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث الكتاب وعرضه على المجلس العلمي الاستشاري في المركز تقرر طباعته لنشر فكر الامام أمير المؤمنين علیه السلام وتراثه الخالد ومواقف بعض أصحابه.

والله من وراء القصد

مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية

النجف الاشرف، رجب الاصب 1443 ه- - 2022م

ص: 12

المقدمة

مازلت أطوف منذ قرابة عقدين ونصف حول بهاء أمير المؤمنين علیه السلام وسيرته

الخالدة، بعد أن أخذني أخذ مقتدر إلى أطوار حياته من يوم ولادته المعجز علیه السلام في بيته العتيق وحتى يوم استشهاده في مسجد الكوفة بعاصمته؛ ولم أستطع الخروج من ذلك الفلك الدوار لتمسكي بولايته، وشديد إعجابي بشخصيته، ،وزهده، وشجاعته وفروسيته وعدله، وعميق إيمانه، وسحر بيانه وحكمته ولغته التي هي من دون لغة الخالق وفوق لغة المخلوقين، وإخلاص-ه لدعوة سيد الكائنات صلی الله علیه و آله وسلم، و ذوبانه بها، وغيرها من صفاته التي عز على التاريخ الوقوف على مثيل لها.

ثم تنقلت من بعد إلى النظر في سيرة بعض أصحابه الذين أخذتهم محبته، والإخلاص له إلى جنّات الخلد؛ فات حت-ف أنفه رعيل، وعذب في سجون الطغاة آخرون، واستشهد رعيل آخر داخل أسوار الكوفة أو خارجها، وهجّر جمهور منهم إلى أقاصي الشرق فماتوا بحسرة أو استشهدوا في تلك البقاع النائية.

ولم تشهد حروبه بعد بيعته علیه السلام حربًا كالتي شهدتها وقعتي الجمل وصفين بسبب كثرة من شارك فيها من البدريين، والمبايعين تحت الشجرة، والصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

ولقد سجلت فيهما بطولات خلدها التاريخ على الرغم من الحصار الذي فرضته الدولتين الأموية والعباسية على أخبارهم؛ ومازال الباقي من أخبارهما محل تأمل، وإعجاب، ونظر، بسبب كثرة التضحيات التي قدمت فيهما، وآيات الولاء التي سجلت بصحفهما، والفرسان النجباء الذين استشهدوا بهما من صحابة وتابعين، على الرغم من اختلاف الرؤى فيهما .

ص: 13

وحينما أستعرض بعض أسماء الموالين من أصحابه علیه السلام أبحث قبل كل شيء عن العبرة في صدق الولاء لرجال قدموا حياتهم رخيصة في المعركتين الخالدتين اللتين انبرى فيهما الباطل بكل جبروته إلى الحق بكل عنفوانه؛ وهي صفحات تداولتها كتب السيرة والرجال باختلاف وجهات نظر أصحابها؛ ومازالت على الرغم من مرور قرون عليهما محل زهو بدماء الرجال التي سالت على بطحاء البصرة وصفين، تتداولها القبائل التي شارك فرسانها بهما في مجالسهم وغيرهم حتى يوم الناس هذا بكل فخر ودهشة، وإكبار، واعتزاز.

وجمهور ممن خرج منهما سالما واصل الكفاح ضد الباطل بكل شجاعة وإقدام، فقضى بعضهم في طريق محاربته، ومات بعضهم حتف أنفه هنا أو هناك، أو في سجون الطغاة، وهجر آخرون خارج أسوار المصرين الكبيرين(1).

وكما استهوتني من قبل، وأخذتني أخذ مقتدر أيضًا سيرة الأحنف بن

قيس، وعدي بن حاتم الطائي، وصعصعة بن صوحان وحذيفة بن اليمان وکمیل بن زياد، والحارث الهمداني، والمختار الثقفي، وجارية بن قدامة السعدي رضوان الله عليهم، وغيرهم كثر بسبب ولائهم، وشدة بأسهم، وصفات الفرسان النجباء التي تحلوا بها، وإخلاصهم(2) لعقيدتهم، استهوتني أيضًا سيرة الصحابيين المجاهدين عبد الله بن بديل، وسليمان بن صُرَد الخزاعيين رضوان الله تعالى عليهما، وكان ذلك كله وغيره أثناء تأليفي كتاب (وما أدراك ما علي) (3).

ص: 14


1- نشرت عن هذا النفر الخالد أربعة كتب هي: الثوية بقيع الكوفة ، ورجال من بقيع ثوية الكوفة، وخارج أسوار الكوفة، والأحنف بن قيس أعظم المعاقين في الإسلام.
2- نشرت عن الأحنف كتابًا بعنوان الأحنف بن قيس أعظم المعاقين في الإسلام، وقد طبعته العتبة العلوية المقدسة، وأعادت طبعه أمانة مسجد السهلة المعظم ، وسردت جوانب من سيرة جارية بن قدامة في كتابي رجال من بقيع ثوية الكوفة.
3- طبع طبعتان الأولى بدار المؤرخ العربي سنة 2008 م ، والثانية طبعته العتبة العلوية المقدسة سنة 2011م .

ولم تسنح لي الفرصة من قبل للكتابة عن الفارس المغوار عبد الله بن بديل شهيد صفين وأخو الشهداء وقائد ميمنة أمير المؤمنين علیه السلام فيها ؛ وقد حانت لي مؤخرًا فسحة لكتابة صفحات عن سفره الخالد أثناء إقامتي في هولندا، لعلي أفيه بعض ما يستحقه من تنويه.

وكتبت من قبل عن الفارس الشجاع أمير التوابين سليمان بن صرد مقالة نشرتها في مجلة حوليات الكوفة سنة 2015م ، وعرضته أيضًا مع رجال ثورة التوابين في كتابي الموسوم ب( خلف اسوار الكوفة)(1) ، وذلك لصفات الفرسان النجباء التي تمثلت به، ومنزلته في الوسط الكوفي، وقوة إيمانه وإخلاصه المنقطع النظير لأهل بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم، حتى ذهب شهيد ولائه ومحبته.

ومنذ حين وأنا أتطلع للعودة إلى سيرته، لمحاولة معرفة الجوانب التي غابت أغلب صفحاتها في غياهب التاريخ من يوم إسلامه ولحين استشهاده رضوان الله عليه.

وفي أثناء مرحلة التأمل وقفت على أخبار كانت غائبة عنّي خلال السنوات الماضية أثناء تحقيقي كتاب نهج البلاغة (2)للشريف الرضي رضوان الله تعالى عليه، وما ورد في شروحه من روايات تتعلق بالكوفة وثوراتها وتاريخها ورجالاتها، والانفجار المعرفي الذي أحدثه أمير المؤمنين علیه السلام فيها؛ فبانت لي أمور استدعت إعادة الفحص لسبر أغوارها.

ووقفت أيضًا على دراستين مهمتين تناولتا سيرة الإمام الحسن علیه السلام وخلافته، والأحداث التي اضطرته إلى عقد معاهدة صلح مع معاوية وموقف سليمان وأصحابه منها؛ الأولى للمغفور له العلامة الشيخ مرتضى

ص: 15


1- نشرته عتبة مسلم بن عقيل سنة 2015م.
2- سيصدر قريبًا في ثلاثة أجزاء، وهو من منشورات العتبة العلوية المقدسة.

آل ياسين والثانية للعلامة المحقق السيّد سامي البدري حفظه الله وسدده فأفدت منهما أيما فائدة، وسدا ثغرات لم ألتفت إليها في محاولاتي السابقة.

وتبقى أشياء في سيرته وما رافقها من أحداث لم أستطع سبر غوره-ا بالصورة التي تستحقها، ولاسيما ما يتعلق بالفجوات التاريخية التي غاب فيها ذكره عن المشهد السياسي والعسكري أثناء خلافة أبي بكر وعمر وعثمان أو ا بعد ذلك، لأن الروايات التي تناولت سيرته، أو تعرضت لها لم تسعفني بما يأخذ بيدي إلى معرفة أسبابها، إما لعدم تعرضها لها، أو لاختلاط الغث بالسمين فيها.

وبكل الأحوال فإن كلا المحاولتين أعتز بهما لأنهما قد تضيف جديدًا لما كتب عن هذين الصحابيين الكريمين؛ ولا أستبعد أني قد أعود إليهما عندما أجد ما يبرر عودتي، ولم تشغلني الشواغل عنهما.

ويدعوني العرفان إلى تقديم جزيل الشكر والامتنان إلى مركز الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ممثل بالسيّد علي الجابري الذي غمرني بلطفه وعطفه وتكفل طبع هذا الكتاب، وإلى الصديق العزيز هاشم الباججي الذي له الفضل بعقد صلة الرحم هذه بيني وبين القائمين على هذه المركز الطالع والشكر موصول إلى ابن عمي حيدر الفرطوسي وابن أخي علي الطريحي.

وهو الله سبحانه وتعالى أسأله أن يمن على بلادنا بالخير والرفعة ويدفع

عنها كل بلاء إنه على كل شيء قدير.

والله الموفق.

فلاردنكن- هولندا في 2021/10/30م

ص: 16

ص: 17

ص: 18

تمهيد

خزاعة

ما إن حطّت هاجر سلام الله عليها ركابها بواد غير ذي زرع حتى منّ الله

سبحانه وتعالى على ذلك الوادي بالخير والبركة، بسبب تفجر بئر زمزم فتحول ذلك الجدب إلى وارف أصبح مقصد لبعض القبائل التي أتعبها هجير الصحراء وشحة الماء فيها، وأصبح بيت إبراهيم من بعد قبلة للمسلمين له--م

ولمن سبقهم.

وكانت قبيلة جرهم (1) تسكن بعرفات وذي المجاز(2)، وعرفات وغيرها مما جاور مكة أرض صحراوية يندر فيها الماء؛ وبعد تفجر بئر زمزم استأذنت جرهم من هاجر أم إسماعيل رضوان الله عليهما كي يسكنوا بجوارها، فاستأذنت إبراهيم فوافق على سكنهم ورحب به (3).

ولما كبر إسماعيل تزوج منهم امرأة ثم فارقها، وتزوج بأخرى منهم أيضًا، فکثر نسله، وكان عدنان من بين أبنائه النجباء، ومن نسله قبيلة قريش؛ واستمرّ حكم البيت بيد جرهم مدة من الزمن بعد رحيل إسماعيل (4) .

أما خزاعة فقد اضطرت إلى هجر اليمن وسكنت نواحي مكة بعد انهيار سد مأرب ثم استطاعت الاستيلاء عليها بعد حرب انتصرت فيها على

ص: 19


1- جرهم: بطن من القحطانيين كانت منازلهم باليمن، ثم انتقلوا إلى الحجاز، ثم نزلوا مكة من بعد، وقيل : إنهم بقية عاد، الأنساب 1 / 29 ، ومعجم قبائل العرب 1/ 183.
2- هو أحد أسواق العرب الأدبية في الجاهلية يقام قبل موسم الحج، تجتمع فيه القبائل، ينشدون الأشعار ويتبادلون المنفعة.
3- البحار 12/ 99 ، و 96 / 37، وتفسير القمي ،1 / 61 ، وتفسير الطبرسي 389/1 ، وموسوعة التاريخ الإسلامي 871 ، وغيرها.
4- البداية والنهاية ،2 /231 ، السيرة النبوية لابن كثير 56/1.

جرهم وأخرجتها منها، وقرر رئيسها دفن هدايا البيت في بئر زمزم ثم طمرها (1) خوفًا من استيلاء خزاعة عليها.

وروي إن أصل خزاعة من اليمن، وأنهم هاجروا أيام سيل العرم منها، وأقاموا بمكة؛ وقيل : إنهم من نسل إسماعيل علیه السلام (2)، وإنهم من مضر (3). ونقل العيني اختلاف الرواة في أصلهم، فقيل : إنهم من اليمن وقال آخرون إنهم من مضر(4).

وقيل: إن لحيَّ بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن هو ابن الأزد، هو أبو خزاعة، وإنما قيل لهم خزاعة لأنهم افترقوا عن الأزد لما تفرقت من اليمن أيام السيل (5)، ولحيَّ هو الذي قاتل جرهم، وانتصر عليهم وأخرجهم من البيت(6) .

وبعد استلاء خزاعة على مكة، طردوا قريشًا منها أيضًا، واضطر وهم إلى

سكن الشعاب والجبال في أطراف مكة وما حولها.

واستمرت ولاية البيت قرابة ثلاثة قرون في بني كعب بن عمرو بن ثم انتهت إلى حليل بن حبشية بن سلول :وقيل: هو الذي أوصى بها لقصي بن كلاب بعد أن زوجه ابنته حبّي.

ويبدو أن ولاية البيت أصبحت بيد ولده المخترش بعد رحيل أبيه، وهو أبو غبشان، ويقال : إن العرب كانت تجعل له جعلا في كل موسم، فقصروا

ص: 20


1- موسوعة التاريخ الإسلامي 82/1 .
2- فتح الباري 693/6 .
3- المصدر السابق 399/6 .
4- عمدة القاري 89/16 .
5- إكمال الكمال 2917 .
6- معجم البلدان 204/5.

معه في بعض المواسم، ومنعوه بعض ما كانوا يعطونه، فغضب؛ فدعاه قصي وسقاه، ثم اشترى منه البيت بأزواد ويقال بزق خمر فرضي ومضى إلى ظهر مكة (1) .

وعمرو بن لحيّ السابق الذكر هو الذي رآه النبي صلی الله علیه و آله وسلم (يجر قصبة في النار

وهو أول من غير دين إبراهيم ودعا العرب إلى عبادة الأصنام )(2).

وروي أن خزاعة استمرت بولاية البيت بحسب ابن قتيبة حتى أحدثوا

أحداثًا، ونصبوا أصناما، فحاربهم قصي بمن تبعه (3) .

وقيل تولى سدانة البيت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة، وهو لحيّ، وإن قصي خطب إلى حليل ابنته حبّي؛ فزوجه إياها، وكل أبناء قصي منها، وكبيرهم عبد مناف، واسمه المغيرة الذي انتهى إليه

أمر البيت.

وروي أيضًا أن حليلا تقلد رئاسة خزاعة، فلما كبر وضعف، دفع مفاتيح الكعبة إلى ابنته حبيّ وحبيّ - بباء مشددة معجمة - زوجة قصي هي أم عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى وعبد بني قصي.

وقيل : حين صارت الإمرة لها كانت تأمر قصيَّا بفتح باب الكعبة مرة، وتأمر أخاها أبو غبشان المخترش بذلك أخرى. ويروى أيضًا أنه بعد موت حليل صارت الرئاسة إلى ابنه المخترش ويبدو أن هذا لم يكن بالرجل الذي يحسن الرئاسة، إذ قيل : إنه كان مضعفا. فسأله قصي أن يجعل سدانة البيت إليه، ففعل، وللرواية بقية سنأتي على ذكرها.

ص: 21


1- طبقات بن سعد 1/ 68 .
2- السيرة النبوية 12 / 76 ، واللباب في تهذيب الأنساب 439/1 ، وينظر أيضًا المعارف 640، 641، والروض المعطار 497 .
3- مواهب الجليل للخطاب الرعيني 506/4 .

وقيل : إنّ حليل ابن حبشية أوصى لقصي بسدانة البيت إكراما لابنته بذلك . وقيل أيضًا: إنه سأل المخترش ابن حليل أن يجعل إليه السدانة، وبذل له ناقة كانت له ناجية، وهي السريعة، وزاده زق خمر . فصيرها إليه .

وقالوا أيضًا لما أخذ قصي مفاتيح الكعبة من حليل، أنكرت خزاعة ذلك، وكثر كلامها فيه. وأجمعوا على محاربة قصي ،وقريش، وطردهم من مكة وما والاها؛ فبادر قصي باستصراخ سيد قضاعة وقائدها رزاح بن ربيعة وأخيه حنّ، فأنجداه. فقاتل خزاعة ومن معها من كنانة وغيرها؛ فلما ظهر عليهم أخرجهم من مكة وأدخل قريشا فيها، وقسمها أرباعًا بينهم، وتولى أمر البيت ولكنه أبقى على خزاعة بعض الإبقاء للصهر الذي بينه وبينهم (1).

وكل أخبار مكة والقبائل التي جاورتها أو اتخذتها سكنا، أو انتهت إليها أو تولت أمر البيت أكل الدهر عليها و شرب دونت بعد وقوعها بقرون ومن الصعب تكذيبها أو تصديقها، وقد رواها القصاص والنسابون والمؤرخون بالصورة التي عرضتها من دون أن يكون لي موقف منها.

صل الله عله

ومما روي أيضًا أن أمير المؤمنين علیه السلام لما أراد الهجرة بعيال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بيته نصحه عمه العباس أن يخرج في خفارة خزاعة (2)، ولكنه لم يوافقه .

واله و

ومما روي أيضًا أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم نزل على خزاعة مدة ثلاثة أيام، ويبدو أن نزوله كان في أيام جوع وقحط (3)؛ ولا يدري متى كان نزوله عليها أبعد صلح الحديبية، أم قبله ومنازل خزاعة مجاورة لمنازل قريش.

ص: 22


1- المعارف 641 ، أنساب الأشراف 1/ 49 -50 ، تاريخ ابن خلدون 2 ق 1/ 315، البداية والنهاية 2 35 ، تهذيب الكمال 326/14
2- السراط المستقيم للبياضي 1/ 177 عن الواقدي.
3- الثقات 3 /160 ، ومشاهير علماء الأمصار 81 ، والمنتخب من كتاب ذيل المذيل 73 ، وتهذيب الكمال 383/16 .

ومما روي عن ابن عباس (إن القرآن نزل بلغة الكعبيين كعب قريش

وكعب خزاعة بسبب تجاور القبيلتين )(1).

وخزاعة منذ أن كان عبد المطلب رضوان الله عليه كانوا حلفًا معه (2)؛ وقيل :

إنها كانت عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع سرّه. وكانت سببًا مباشرً ا لفتح مكة ولأبنائها مواقف خالدة في بعض غزوات رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وفي الحروب التي قادتها الأطماع الشرسة أثناء خلافة أمير المؤمنين علیه السلام، وقد استشهد رجال كانوا

مثال التضحية والولاء والإخلاص لهما.

ص: 23


1- فتح الباري ،9 23 ، والتمهيد 277/8 والإتقان 1 / 134 ، وإمتاع الأسماع 4 / 258 .
2- المغازي ،7812 ، الوافي بالوفيات 55/26 ، وتنظر مصادر أخر كثيرة.

عبد الله بن بديل الخزاعي

قائد ميمنة أمير المؤمنين علیه السلام في واقعة صفين

وسأحاول في وقفتي هذه عرض سيرة هذا الصحابي الجليل على الرغم من شحة مصادرها، فهو من كبار الصحابة، ورأس من رؤوسهم، حق لقبيلته أن تفخر به، إذ كان بطلاً من كبار فرسان الإسلام، شارك في فتوحات الشرق؛ وهو أحد قادته، ويعود إليه الفضل في فتح وسط إيران وأصفهان ،وغيرها، وكان سيفًا قويَّا من سيوف الحق في وقعتي الجمل وصفين.(1)

بديل بن ورقاء

والمرور على سيرة عبد الله يستدعينا المرور على سيرة أبيه بُدَيْل لمكانته بين الصحابة أيضًا (2)؛ كان قبل صلح الحديبية وبعده سيّد خزاعة، ثم انتهت الرئاسة إلى ولده عبد الله بعد رحيله (3)، ويبدو أنه كان رئيسها بمكة؛ وهو بن

ورقاء بن عمرو بن ربيعة بن عبد العزى بن ربيعة بن جري بن عامر بن مازن بن عدي بن عمرو بن ربيعة بن حارثة (4). ولم أقف لبديل على كنية.

وحين توجه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة إلى مكة المكرمة للعمرة نزل بأقصى الحديبية على مكان قليل الماء، فاشتكى

ص: 24


1- تاريخ الطبري 125/4 .
2- المعارف 641 ، وتهذيب الكمال ،14 / 326 ، والبداية والنهاية 35/2 .
3- تهذيب التهذيب 5 / 136 ، وتقريب التهذيب 1 / 480 ، وتاريخ ابن أعثم 176 .
4- طبقات خليفة 181 .

أصحابه العطش، فانتزع النبي سهمًا من كنانته وأمرهم أن يجعلوه بموضع

الماء، فمازالوا يشربون منه ويسقون دوابهم(1) .

وبينا هم بانتظار ما يقرره الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، إذ جاء بديل بن ورقاء في نفر من قومه، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وأخاه عامرا نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت؛ فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: إنا لم نأت لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين (2). وطلب منه صلى اله عليه واله وسام إخبار قريش عن سبب مجيئه، فأخبرهم (3).

ولا يُدرى هل كان هذا اللقاء ببديل هو الأول أو سبقته لقاءات قديمة قبل الهجرة، إذ إن بديلاً يوم أسلم كان قد تجاوز التسعين بحسب رواية؛ وبحسب حلفهم مع عبد المطلب رضوان الله عليه لا أستبعد أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم قد التقاه بمكة غير مرة.

والظاهر أن بديلاً كان له مقام ومهابة بمكة؛ فبعد صلح الحديبة آمن الناس على أنفسهم، وأمّن بعضهم بعضًا، فاغتنم بنو الديل من بني بكر بن عبد مناة الفرصة وغفلة خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الديلي بمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة حتى بيّت خزاعة ونال منهم فاقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح والرجال فانهزم قسم من خزاعة إلى الحرم، ولاذ قسم آخر بدار ،بدیل و دار مولى له يسمى رافعا (4) ، ولو لم يكن لبديل مهابة ومقام لما استطاع الخزاعيون الاحتماء بداره.

ص: 25


1- تاريخ مدينة دمشق 57 / 226 ، وتاريخ الإسلام ،2 / 367 ، والبداية والنهاية 4 / 198.
2- تاريخ الطبري 2 / 274 ، والكامل 201/2 ، والفائق في غريب الحديث 1/ 300، وشرح نهج البلاغة 65/5 ، وجامع البيان في تأويل آي القرآن 127/26 .
3- صحيح ابن حبان 11/ 218.
4- تهذيب الكمال 362/14 ، وتاريخ الإسلام 2/ 522 ، والوافي بالوفيات 14/ 48 ، تاريخ ابن خلدون 2 ق ،42/2 ، وخلاصة تهذيب الكمال 162.

وبعد فعلة بني بكر وقريش تلك خرج عمرو بن سالم الخزاعي، وبديل بن ورقاء الخزاعي، وقوم من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مستغيثين به مما أصابهم من بني بكر وقريش؛ وأنشده عمرو بن سالم قصيدة يشكو فيها ما فعله القوم بهم؛ قال:

يا رب إني ناشدٌ محمَّدا *** حِلْفَ أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتمُ ولداً وكنا والدا *** ثَمَّتَ أسلمنا فلم ننزع يدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا *** و هُم أذلٌ وأقلٌ عددا

و هُم بيَّتونا بالوتير هُجَّدا *** وقتلونا رُكَّعاً وسُجَّدا

وجعلوا لي في كداء رصدا *** فانصر رسول الله نصراً أيدا

وادع عباد الله يأتوا مددا *** فیهم رسول الله قد تجردا

إن سِيمَ خسفاً وجهه تربَّدا *** فی فيلق كالبحر يجري مُزبدا

قرمٌ لقرم من قروم أصيدا

فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: حسبك يا عمرو، ودمعت عيناه أو قال: نصرت يا عمر و بن سالم. وتهيأ لفتح مكة (1)، وهكذا كانت تلك الفعلة الشنيعة سببًا لذلك الفتح العظيم.

والظاهر أن خزاعة أسلمت غالبيتها على ما يبدو بعد الحلف، فقد ورد في

قصيدة عمرو بن سالم السابقة الذكر قوله :

ص: 26


1- السيرة النبوية 854/4 ، وفتح الباري 399/7 ، والمعجم الصغير 2/ 74، والاستيعاب / 1175 ، والكامل 2/ 240 ، وتاريخ الإسلام 2/ 523 ، والبداية والنهاية 317/4.

قد كنتمُ ولداً وكنا والدا *** ثَمَّتَ أسلمنا فلم ننزع يدا

هم بُيَّتونا بالوتير هُجَّدا ***وقتلونا رُكَّعاً وسُجَّدا

فأجابهم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلى نصرهم وقال : لا ينصرني الله إن لم أنصر بني كعب -

يعني خزاعة - ثم نظر إلى سحابة فقال : إنها لتستهل بنصرتي خزاعة ، وقال صلی الله علیه و آله وسلم لبديل ومن معه : إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في مدة الصلح و سينصرف بغير تحقيق غاية.

وندمت قريش على ما فعلت وفعلاً خرج أبو سفيان إلى المدينة لتجديد العقد وزيادة مدته، ولكن وفادته لم تنفعه فعاد بالخيبة والخسران ولقي بديلًا بعسفان وهي شمال غرب مكة المكرمة، فلم يخبره بمسيره إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم(1).

وبعد فتح مكة لجأ جمهور من قريش إلى دار بديل ودار مولاه رافع (2)أيضًا، إذ قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يوم الفتح: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن دخل دار بديل بن ورقاء فهو

آمن»(3) .

ولا شك أن بديلاً وأبناءه هاجروا إلى المدينة بعد الفتح، فقد روي عن الإمام

جعفر بن مُحمَّد علیه السلام، وعن ابن عباس وأبي هريرة وغيرهم أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بعث بديلًا على جمل أورق أي رمادي اللون وأمره أن ينادي في النّاس أيام منى ألا تصوموا فإنّها أيام أكل وشرب وبعال والبعال النكاح وملاعبة الرّجل أهله (4) ، ولاشك أن بعثه هذا كان من المدينة.

ص: 27


1- الدرر 212 ، وتفسير الثعلبي ،10 / 311 ، الاستيعاب 2 / 485 ، وأسد الغابة 2/ 150، وتفسير الثعلبي 319/10
2- الاستيعاب 1 / 150 و أسد الغابة 1/ 170 .
3- تهذيب الكمال 184/7 ، الاستيعاب 1 / 150 ، أسد الغابة 1 /170
4- براهين الحج/3 343، ونزهة النظر في غريب النهج والأثر ، والتمهيد 21 / 233 ، ونصب الراية

(1)

وبديل هذا رضوان الله عليه صحابي مشهور، شارك بعد الفتح هو وبعض أبنائه في بعض غزوات النبي صلی الله علیه و آله وسلم؛ وفي غزوة هوازن أغنم الله المسلمين أموالهم

ونساءهم، وأمر رسول الله بالذراري والأموال أن تحدر إلى الجعرانة، وهي على مرحلة من مكة، وولى على الغنائم بديلًا (2) وتوليته تدلل بما لا يقبل الشك على قربه ومكانته من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

وروي عن ولده سلمة (3) أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كتب كتابا لوالده بديل(4). ورى ابن الأثير وغيره عنه أنه قال: (دفع إليّ أبى بديل بن ورقاء الكتاب وقال يا بني هذا كتاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فاستوصوا به فلن تزالوا بخير ما دام فيكم

وهو:

(بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى بديل بن ورقاء وسروات بني عمرو، فإني أحمد إليكم الله الذي لا اله الا هو أما بعد، فإني لم أثم بالكم ولم أضع في جنبكم وان أكرم أهل تهامة على أنتم وأقربهم لي رحما ومن معكم من المطيبين، وإني قد أخذت لمن هاجر منكم مثل ما أخذت لنفسي ولو هاجر بأرضه غير ساكن مكة الا معتمرا أو حاجا وإني لم أضع فيكم إذا سلمت، وإنكم غير خائفين من قبلي ولا محصرين . قال :الراوي: هذا حديث غريب وكان الكتاب بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه) (5). ولم أر موقع

ص: 28


1- للزيلعي 3/ 57 ، وكنز الأعمال 625/8 .
2- الكامل في التاريخ 2 / 266 ، ومجمع الزوائد 6 / 186 ، والوافي بالوفيات 63/10، عن ولده سلمة.
3- ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب 2 / 640 أن سلمة صحابي روايته عن أبيه، وروى عنه ابنه عبد الله ينظر الجرح والتعديل 157/4، 361/2. وفي الإصابة 121/3 هو وأخوته عبد الله وعبد الرحمن وعثمان وسلمة من الصحابة، وفاته ذكر غيرهم.
4- الاستيعاب 1 / 150 .
5- المغازي 74/12 ، وأسد الغابة 1 / 170 ، والمصنف لابن أبي شيبة 533/8 ، وتاريخ دمشق 14 / 143 ، والإصابة 1 / 424 ، مكاتيب الرسول 3 125 ، وغيرها.

غرابة الحديث وهو بخط أمير المؤمنين علیه السلام .

عاش بديل أكثر من تسعين سنة، بل تذهب رواية ذكرها الشيخ الطوسي إلى أنه قال: (لما كان يوم الفتح أو قفني العباس بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا يوم قد شرفت فيه قوما، فما بال خالك بديل بن ورقاء وهو قعيد حيّه ؟ فقال النبي صلی الله علیه و آله وسلم البديل : احسر عن حاجبيك يا بديل؛ فحسرت عنهما وحدرت لثامي فرأى سوادًا بعارضي، فقال: كم سنوك يا بدیل؟ فقلت: سبع وتسعون يا رسول الله . فتبسم النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وقال : زادك الله جمالا وسوادا وأمتعك وولدك، لكن رسول الله قد نيف على الستين، وقد أسرع الشيب فيه ) (1). ورسالته صلی الله علیه و آله وسلم تدلل أيضًا على مكانة بديل من النبي ومنزلته السامية عنده.

و شهد بدیل وابنه عبد الله من بعد حنينًا (2) وهو واد بين مكة والطائف وقد قعت في السنة الثامنة للهجرة، بين المسلمين قبيلتي هوازن وثقيف وشهد الطائف أيضًا(3) وقد وقعت في السنة الثامنة للهجرة بين المسلمين والقبيلتين المذكورتين أيضًا، وشهدا تبوك (4) وكانت في السنة التاسعة للهجرة، وهي آخر غزوات الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(5) .

ولا يدرى على وجه التحديد متى رحل بُدَيْل إلى جوار ربه، ولكن قيل

إن وفاته رضوان الله عليه كانت قبيل رحيل النبي صلی الله علیه و آله وسلم.(6)

ص: 29


1- الأمالي 376، وأسد الغابة 1/ 170 ، وينظر لسان الميزان 1 / 421، والبحار 263/93.
2- معجم البلدان 2/ 300.
3- المصدر السابق 12/4 .
4- هي بئر بين أرض عامر وحرة بني سليم، ينظر : معجم البلدان 14/2 .
5- الاستيعاب 1 / 150 ، وأسد الغابة 1/ 170 ، وتعجيل المنفعة لابن حجر 49 .
6- أسد الغابة 1/ 170 ، وتعجيل المنفعة لابن حجر 49.

أبناؤه

كان رضوان الله علیه هو ونسله الطيب من خيار الصحابة، ومن المخلصين الأمير المؤمنين ، ذكر له ابن حجر أربعة أبناء، وهم سلمة وعبد الله وعبد الرحمن وعثمان (1)، والأخير جد الشاعر دعبل الخزاعي (2). أما ابن حجر فاكتفى بذكر اثنين من أبنائه، عبد الله وعبد الرحمن(3). ولم أقف لعثمان على خبر باستثناء صحبته، كما لم أستطع معرفة زمان استشهاده، ولعله استشهد أيام الاحتجاج على الخليفة عثمان، إذ كان أخوه عبد الله في معركة صفين ينادي (يا لثارات عثمان) (4) ، حتى ظن معاوية أن المقصود هو الخليفة عثمان.

ومن أبناء بديل النجباء نافع رضوان الله عليه، وقد استشهد، في سرية بئر معونة (5) صبرًا في السنة الرابعة للهجرة، وهو من فضلاء الصحابة (6)، ورثاه عبد الله بن رواحة الأنصاري بقوله:

رحم الله نافع بن بديل *** رحمة المبتغواب الجهاد

صابر صادق وفى إذا ما ***أكثر القوم قال قول السداد

ومن أبنائه النجباء أيضًا سلمة الذي روى كتاب رسول الله إلى والده(7)، وقد مرّ ذكره، ووثق صحبته أبو حاتم، ولكنه قال : لم أر روايته إلا عن أبيه.

ص: 30


1- الإصابة 121/3 .
2- الجواهر السنية 266 .
3- الإصابة 5 / 48 .
4- نهج البلاغة 199/5.
5- معجم البلدان 160/5 .
6- الاستيعاب 1489/4 .
7- المعجم الكبير ،2/ 29 ، ومجمع الزوائد 172/8 ، وينظر أيضًا مكاتيب الرسول 1/ 222، وغيرها.

وعنه ابنه عبد الله بن سلمة (1) . ولم أقف له على أخبار تذك-ر غ-ي-ر ال-ذي ذكر، لا في حياة النبي ولا في معارك الفتح ، ولا مع أمير المؤمنين؛ ولعله هو الذي استشهد في معركة الجمل.

ومن أبنائه أبو عمرو، ويبدو أنه من المشاركين بفتوح مصر، وهو أحد رؤساء المحتجين على الخليفة عثمان من المصريين (2)، وذكره الشيخ المفيد باسم عمر و بن بديل وكذا ذكر ابن حجر(3).

مما روي أن الخليفة عثمان حين حوصر أوهم المحاصرين أنه كتب، أو كتب على لسانه كتاب بعزل واليه على مصر عبد الله بن أبي السرح وتولية محمّد بن أبي بكر مكانه، وأرسلت الرسالة مع مولاه، إلا أن الشك راود المحاصرين، فأمسكوا برسوله، وعثروا على الرسالة، وكان من بين ما ورد فيها أمره بقطع رقبة أبي عمر و بن بديل (4)، وروي بقطع يده، وقد أنكر الخليفة كتابته تلك

الرسالة (5).

وروي أن أبا عمرو دخل على الخليفة فطعنه بسهم (6)، وأبو عمر و هذا نسب إليه البلاذري فتح أصفهان (7)، ولا أظنه أصاب لأن فتحها كان على يد أخيه عبد الله . ولم أستطع معرفة اسم أبي عمرو في المصادر التي رجعت إليها، ولعل اسمه كنيته.

ص: 31


1- الاستيعاب 2/ 649 ، البداية والنهاية 84/4.
2- تاريخ الطبري 402/3 ، وأنساب الأشراف 549/5 ، والمنتظم 511/5، والنجوم الزاهرة 81/1.
3- الإصابة 499/4 .
4- أنساب الأشراف 555/5 ، الجمل 69 ، ووهم المحقق فكناه بأبي عمر، ومن حياة الخليفة عثمان بن عفان 270.
5- تاريخ المدينة 4 / 1151 .
6- تاريخ دمشق 399/39، 426 .
7- فتوح البلدان 2/ 384 .

واستشهد لبديل أيضًا ولد في معركة الجمل، روي أن اسمه عبد الرحمان، ولا أظن الراوي أصاب، ولعله سلمة الذي مرّ ذكره، لأن عبد الرحمان استشهد في معركة صفين.

ومن أبنائه أيضًا حبيب. وه-و م-ن رواة حديث الولاية(1)، ولم أقف له على

خبر باستثناء روايته الحديث المذكور.

واستشهد ولده عبد الرحمن في وقعة صفين والتحق به ولده محمد في المعركة نفسها(2) ، كما استشهد فيها ولده عبد الله الذي سنأتي على ترجمته.

ولم تذكر له المصادر بين الذكور المذكورين أنثى، ولعله لم يرزق بها.

عبد الله

يبدو أن أبناء بديل انحازوا إلى صفّ أمير المؤمنين علیه السلام، وكانوا جميعهم من

صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وغالبيتهم استشهد في معركتي الجمل وصفين.

واختلف في نسب أم عبد الله، واسمها منية ، وقيل : هي منية بنت جابر،

وقيل : منية بنت الحارث بن جابر بن وهيب أو وهب (3). ومن رمن الصعب الجزم في موقع عبد الله بين أبناء بديل، وإن كانت أخباره توحي أنه الأكبر.

وقيل: إنه وأبوه من مسلمة الفتح ، وقيل : إن إسلامهما كان قبل الفتح (4).

ص: 32


1- أسد الغابة /378/1 ، والإصابة ،2 / 13 ، والولاية لابن عقدة 241 ، وأسد الغابة 1/ 361، وبحار الأنوار 182/37 ، والغدير 1 /25 ، تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي 2 / 240، وقاموس الرجال 487/10.
2- معجم رجال الحديث 340/10، 134/16.
3- الطبقات الكبرى 456/5 ، والاستيعاب 4 / 1585 ، وإكمال الكمال 46/6 .
4- أسد الغابة 1/ 170 ، والاستيعاب 872/3 ، والوافي بالوفيات 63/10 .

وقال ابن حجر: إنه أسلم هو وأبوه يوم الفتح(1)، وهو أمر أستبعده كما تبين لنا من صلة أبيه برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفتح، وقبل صلح الحديبية، وبعد نقض الصلح، وبعد الفتح.

وعبد الله رضوان الله عليه من خيار الصحابة، ومن أصحاب أمير المؤمنين المخلصين، وانتهت إليه رئاسة خزاعة بعد رحيل أبيه، كما سبق القول، وشهد هو وأبوه حنينًا والطائف وتبوك (2)، وقال ابن عبد البر رواية عن الكلبي : إن عبد الرحمن بن بديل هو وأخوه عبد الله أرسلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن (3)، بل ذهب الطبرسي إلى أنه بعث عبد الله رفقة أخويه عبد الرحمن ومحمّد إلى اليمن(4) لتفقيه أهلها (5) .

ولا أقف لعبد الله على أخبار أخر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم باستثناء ما ذكرناه(6)،

وقيل: له رواية عنه صلى الله عليه وسلم (7).

دوره في خلافة عمر بن الخطاب

ولم يكن له دور يذكر في خلافة أبي بكر، ولكنه كان رضوان الله عليه من كبار قادة الفتح زمن الخليفة عمر بن الخطاب، إذ روي أن الخليفة وجهه إلى أصبهان

ص: 33


1- الإصابة 4 / 18 ، وتهذيب الكمال 14 / 324 ، وخلاصة تهذيب تهذيب الكمال 192.
2- رواء الغليل 55/1 .
3- سبل الهدى والرشاد 363/11 .
4- خاتمة المستدرك 147/8 ، قاموس الرجال 1329 ، ونقل صاحب القاموس عن الاستيعاب أن رسول الله أرسل عبد الرحمن وعبد الله إلى اليمن، وإنهما استشهدا بمعركة صفين، وكان ابن وثق صحبته واستشهاده بمعركة صفين، ينظر الإصابة 5/6.
5- الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة . 419
6- الاستيعاب ،1 / 150 ، 812/2، 872/3 .
7- الإصابة 29/4 .

سنة ثلاث وعشرين، ويقال: بل كتب إلى أبي موسى الأشعري يأمره بتوجيهه في جيش إليها، فوجهه؛ ففتح جَيَّا صلحًا، وهي بناحية أصبهان(1) بعد قتال على أن يؤدي أهلها الخراج والجزية، وعلى أن يؤمنوا على أنفسهم وأموالهم، باستثناء ما في أيديهم من السلاح. وروي أيضًا أن أبا موسى الأشعري ضمّ إلى عبد الله ألفي رجل لفتحها ففتحها (2)، وذكر أنه يعود إليه الفضل في فتح وسط إيران (3) .

وبعد فتح أصفهان وجه عبد الله الأحنفّ بن قيس(4)نشرت عنه كتابًا بعنوان (الأحنف بن قيس أعظم المعاقين في الإسلام)، وينظر فتوح البلدان383/2. (5) - وكان في جيشه - إلى اليهودية، وهي مدينة من أعمال أصفهان(6)، فصالحه أهلها على مثل ذلك الصلح.

وغلب ابن بديل على أرض أصبهان ونواحيها ؛ وروي أنه كان العامل عليها

إلى أن مضت سنة من خلافة عثمان، ثم ولاها عثمان السائب بن الأقرع (7).

وقيل : إنه فتح كرمان في خلافة عمر أيضًا، ثم فتح الطبسين من كرمان، وقدم على الخليفة عمر من بعد ، وطلب منه أن يقطعه الطبسين، فأراد أن يفعل، فقيل له : إنهما رستاقان، وهي أراض وقرى زراعية، فلم يستجب الخليفة لطلبه (8) .

وقيل أيضًا: إن فتح سجستان كان على يده أيضًا (9) وهي في شرق إيران،

ص: 34


1- معجم البلدان 2/202.
2- الفتوح 2/ 314.
3- تاريخ الطبري 4 / 125 ، وفتوح البلدان 2/ 383.
4- نشرت عنه كتابًا بعنوان (الأحنفّ بن قيس
5- أعظم المعاقين في الإسلام)، وينظر فتوح البلدان383/2.
6- معجم البلدان 452/5 .
7- فتوح البلدان 383/2.
8- الكامل في التاريخ 44/3 .
9- البداية والنهاية 7 / 147 ، والروض المعطار 386.

وقسم منها يقع في جنوب أفغانستان والظاهر أن عبد الله عاد إلى الكوفة بعد عزله من ولاية أصبهان.

وبسبب الفتنة التي استشرت في أخريات خلافة عثمان لسوء سلوك ولاته

توجه رجال من وجوه مصر والكوفة والبصرة إلى الخليفة لطلب عزلهم ،وروي أن عبد الله كان بين المحتجين من الكوفيين (1)ولم أقف على اسمه بينهم، وروي أنه عُدّ أيام الفتنة ضمن خمسة من دهاة الناس (2).

وبحسب رواية، فإن عبيد الله بن عمر قدم الكوفة بعد مصرع الخليفة عثمان بن عفان، ونزل في بيت المختار زوج ابنة أخيه عبد الله، ولاشك أن نزوله - إن صحت الرواية - كان قبل توجه أمير المؤمنين علیه السلام إلى البصرة؛ فالتقاه عبد الله بن بديل وقال له اتق الله يا عبيد الله لا تهرق دمك في هذه الفتنة فقال له ابن عمر وأنت فاتق الله ؛ فقال إنما أطلب بدم أخي قتل ظلما، فقال، وأنا أطلب بدم الخليفة المظلوم (3). ولم أقف على اسم أخيه هذا، وكأنه عثمان السابق الذكر.

وروي أن عبد الله كان من رؤساء القراء بالكوفة (4)، وأظن ذلك من المبالغ فيه .

ص: 35


1- تمهيد الأوائل للباقلاني 522 .
2- الإصابة 29/4 .
3- الإصابة 19/4 ، وتاريخ مدينة دمشق 69/38 .
4- موسوعة الإمام علي 183.

مع أمير المؤمنين علیه السلام في معركة الجمل

توجه الإمام علیه السلام من المدينة إلى البصرة بمن التحق به من المهاجرين والأنصار، وبمن التحق به من الكوفة وجبلي طيّء؛ لمحاربة الباطل الذي استشرى من دون وجه حق في البصرة؛ وما كان راغبًا بحرب، ولا داعيًا لها، ولكن الباطل لم يرعوي؛ فكان لابد من الاحتكام إلى العقل والحكمة والكلمة الطيبة لمواجهته مع من اصطف معه من جحافل الشر والجهل والطمع ، وقادته السيّد أم المؤمنين عائشة والصحابيان طلحة والزبير ابن عمة أمير المؤمنين الذي كان من أشد الداعين إلى خلافته بعد رحيل النبي صلى الله عليه واله وسلم .

ويبدو أن خزاعة قد اصطفت معه علیه السلام، وكان من خيار صحابته منها الصحابي عمرو بن الحمق، الذي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وشارك أمير المؤمنين في جميع حروبه، ويوم بايعه قال: (يا أمير المؤمنين والله ما بايعتك ولا أجبتك على عرض من الدنيا تؤتنيه، ولا التماس سلطان ترفع ذكري به، ولكني أجبتك الخصال خمس: إنك ابن عم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأولى الناس بالمؤمنين بالله، وزوج سيدة نساء الأمة فاطمة بنت رسول الله علیها السلام، وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله، وأعظم رجل من المهاجرين والأنصار سهما في الإسلام، فوالله لو كلفت نقل الجبال الرواسي، ونزح البحار الطوامي أبدا حتى يأتي علي في شيء أوه-ن ب-ه عدوك، وأقوي به وليك، ويعلي الله كعبك، ويفلج

الله علي به حجتك، ما ظننت أني أديت كل الذي يحق علي من حقك. فقال عليّ : اللهم نور قلبه باليقين واهده الصراط المستقيم ليت في جندي مائة مثلك ) (1).

ص: 36


1- وقعة صفين 103 .

وروي أنه هرب من الكوفة في ولاية زياد بن أبيه إلى الموصل، ولجأ إلى غار بسبب مرضه، واستطاع الإمساك به عبد الله بن أبي بلتعة قائد جيش عبد الرحمن بن عثمان ، وقيل : نهشته حية فمات فقطع رأسه عبد الرحمن بن عثمان والي الموصل سنة خمسين، وأرسله إلى معاوية، وهو أول رأس يحمل في الإسلام، وكان معاوية قد طلبه، ولم يقدر عليه فأخذ امرأته فحبسها، وهرب في زمن زياد إلى الموصل (1).

ومن أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام من خزاعة الفارس الشجاع الأمير الصحابي سلیمان بن صرد الخزاعي قائد ثورة التوابين ولكبير منزلته خصصت له القسم الثاني من هذا الكتاب.

ولم يسمح أمير المؤمنين علیه السلام الجيش في معركة الجمل أن يبدأ الحرب، اقتداء بسيرة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ولكن أصحاب جمل عسكر رشقوا جيشه بالنبل رشقًا

شديدا متتابعا، فضج إليه أصحابه، وقالوا: عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين؛ جيء إليه برجل قتيل ، وقيل له: هذا فلان قد قتل . فقال : اللهم اشهد ثم قال: أعذروا إلى القوم، فأتي إليه برجل آخر، وقالوا: وهذا قد قتل أيضًا، فقال: اللهم اشهد أعذروا إلى القوم، ثم أقبل عبد الله بن بدي-ل ب-ن ورقاء الخزاعي، يحمل أخاه عبد الرحمن، وقد أصابه سهم فقتله - ولا أظنه عبد الرحمان، ولاشك أنه غيره من أخوانه - لأن عبد الرحمن استشهد في وقعة صفين - فوضعه بين يديه، وقال: يا أمير المؤمنين، هذا أخي قد قتل، فعند ذلك استرجع علیه السلام، ودعا بدرع رسول الله ذات الفضول فلبسها، وتقلد سيفه ذا الفقار، ودفع إلى ابنه محمّد راية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم السوداء، وتعرف بالعقاب، وقال للحسنين عليهما السلام: (إنما دفعت الراية إلى أخيكما وتركتكما لمكانكما من

ص: 37


1- المعارف ،291 ، والأوائل للطبراني ،107 ، والاستيعاب 3/ 1173 ، والمعيار والموازنة للإسكافي - 130.

رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم(1).

وقال عبد الله بن بديل في يوم الجمل ذاك :

يا قوم للخطة العظمى التي حدثت *** رب الوصي وما للحرب من آسي

الفاصل الحكم بالتق- وى إذا ضربت *** تلك القبائل أخماسا لأسداس(2).

ويغلب على ظني أن عبد الله التقى السيدة عائشة بعد انتهاء المعركة، بحسب رواية الشيخ المفيد: فقال لها : ( أنشدك الله ألم نسمعك تقولين: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول : علي مع الحق والحق مع علي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، قالت: بلى، فقال لها : إذا كان ذلك مم هذا! فقالت دعوني والله لوددت أنهم تفانوا جميعا، فدل ذلك على أنه لم تعترضها شبهة في قتاله وأنها في خلاف الله ورسوله) (3). وترد رواية أخرى حول لقائه بالسيدة عائشة تذهب إلى أنه انتهى إلى عائشة يوم الجمل وهي في الهودج فقال : يا أم المؤمنين أتعلمين أني أتيتك عندما قتل عثمان فقلت ما تأمريني فقلت الزم عليا فسكتت)(4). و تنسب هذه الرواية إلى الأحنف بن قيس أيضًا(5) .

وذكر السيد الخوئي أن عبد الله ممن شهد أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، قال يوم الغدير من كنت مولاه فعلي مولاه (6) ، وقد نسبت الشهادة في غير مصدر لأخيه حبيب كما سبق القول.

ص: 38


1- شرح نهج البلاغة 9 / 111 .
2- شرح نهج البلاغة 1 / 46 ، البحار 22/38 منهاج البراعة 1 / 22 ، أعيان الشيعة 47/8 .
3- الجمل 232 .
4- فتح الباري 48/13 .
5- تنظر مصادر الخبر في كتابي عن الاحنف بن قيس 108 .
6- معجم رجال الحديث 126/11 .

مع أمير المؤمنين علیه السلام في وقعة صفين

لم تكن الكوفة صافية للإمام قبل أن يدخلها، ويوم دخلها، بل امتنع كثر من رجالها عن الالتحاق به إلى البصرة يوم اتجه إليها لولا أنه أرسل لهم ولده الحسن عليهما السلام، وأعلمهم أنه بنيته في الذهاب إلى أصحاب الجمل لعلهم يرتدعون ويعودون إلى الحق، لأن في الكوفة من الموالين لأعدائه حشر؛ وحين عزم على التوجه إلى الشام انبرى نفر أيضًا سوغوا له البقاء

ومكاتبة معاوية، وكأن المكاتبات السابقة كانت قليلة، ودار نقاش في مجلسه علیه السلام قبل الخروج ، شارك فيه كبار صحابته حول تعنت معاوية وإصراره على باطله، وضرورة مواجهته وتكلم جمهور منهم حول ضرورة الخروج إلى الشام بعد أن أعيته الحيلة مع معاوية، ولم تنفع المراسلات معه؛ وممن تحدث حول هذا الأمر عبد الله بن بديل إذ قال: (يا أمير المؤمنين، إن القوم لو كانوا الله يريدون والله يعملون ما خالفونا، ولكن القوم إنما يقاتلوننا فرارا من الأسوة وحبا للإثرة، وضنا بسلطانهم، وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم، وعلى إحن في نفوسهم، وعداوة يجدونها في صدورهم لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة، قتلت فيها آباء هم وأعوانهم. ثم التفت إلى الناس فقال : كيف يبايع معاوية عليَّا، وقد قتل أخاه حنظلة، وخاله الوليد، وجده عتبة في موقف ،واحد والله ما أظنهم يفعلون ، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصف فيهم قنا المران(1) ، وتقطع على هامهم السيوف، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد) (2).

ويبدو بحسب رواية أن أمير المؤمنين علیه السلام أرسله قائدًا لأحد قواطع الجيوش المتجهة إلى صفين، وحين وصل الأنبار بعث إليه كتابًا ورد فيه:( من عبد الله

ص: 39


1- القنا المران الرماح الصلبة اللدنة.
2- شرح نهج البلاغة 3/ 180 .

علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن بديل سلام عليك. أما بعد، فإنه بدا لي المقام بشاطئ الفرات لحمام عبد الله فليجيئني عبد الله بن عباس بمن معه وحريث بن جابر . وانظر جندك ، فأقم بهم بالمكان الذي أنت به، وإياك ومواقعة أحد من خيل العدو حتى أتقدم عليك، وأذك العيون نحوهم، وليكن مع عيونك من السلاح ما يباشرون به القتال، ولتكن عيونك الشجعان من جندك، فإن الجبان لا يأتيك بصحة الأمر. وانته إلى أمري ومن قبلك بإذن

الله (والسلام)(1) .

وحين وصل أمير المؤمنين علیه السلام بجيشه إلى صفين كان جيش معاوية قد احتل شريعة الماء؛ فأرسل علیه السلام عبد الله بن بديل إليه كي يبعد جيشه عن الشريعة فيكون الماء مباحًا للجميع ؛ وقال له: يقول علي : لو كنت سبقتك إلى الماء لما منعتكه، وإن منعك الماء محرم عليك، فدع أصحاب النبي صلی الله علیه و آله وسلم ليشربوا ويسقوا حتى ننظر إلى ما يؤول أمرنا، فان القتال شديد، فلا نبدأ في الشهر الحرام، فأتاه عبد الله برسالته، ولكنه أصر، وقال: قل له: يدفع إلي قتلة عثمان اقتلهم، فقال له عبد الله : أتظن يا معاوية ان عليا علیه السلام عجز عن أخذ الماء ؟ ولكنه يحتج عليك؛ وأنشد

أبيات النجاشي:

معاوي قد كنت رخو الخناق ***فألقحت حرب تضيق الخناقا

تشيب النواهد قبل المشيب *** متى ما تذقها تذم الذواقا

فان تكن الشام قد أصفقت ***عليك ابن هند فان العراقا

أجاب عليا«إلى دعوة ***تعز الهدى وتذل النفاقا

ص: 40


1- المعيار والموازنة 131.

فنحن فوارس يوم الزبير *** وطلحة إذ أبدت الحرب ساقا

ودارت رحاها على قطبها *** ودارت كؤوس المناي دهاقا

خضبنا الرماح وبيض السيوف *** وكان النزال وكان اعتناقا

فأنتم صباح غد مثلهم *** الجمال تبذ الحقاقا

وانصرف عبد الله إلى أمير المؤمنين علیه السلام وأخبره بخبره (1). ومن رسله علیه السلام أيضًا

صعصعة بن صوحان (2) وغيره.

وسوغت وجوه الشر لمعاوية في مجلسه أن يمنع الماء عن جيشه علیه السلام؛ فقام إلى معاوية رجل من أهل الشام من رؤساء الأزد يقال له فياض بن الحارث بن عمرو بن قرة الأزدي وقال : يا معاوية والله ما أنصفت القوم ولو كان هؤلاء من الروم أو الترك وطلبوك الماء، لوجب أن تسقيهم ثم تحاربهم، فكيف وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم البدريون والمهاجرون والأنصار وأبناؤهم، وفيهم ابن عم النبي صلى الله عليه واله وسلم ، وأخوه ، وصاحب سره وحبيبه وختنه، أفلا تتقى الله يا معاوية أما والله لو سبقوكم إلى الماء لسقوكم منه، وهذا والله أول الجور وكان فيَّاضٌ صديقًا لعمرو بن العاص، فأغلظ له معاوية، وقال لعمرو : اكفني صديقك فاتاه عمر و فاغلظ له، فما كان من الرجل إلا أن سرى في سواد الليل، والتحق بمعسكر أمير المؤمنين علیه السلام؛ وقال:

لعمر أبى معاوية بن حرب *** وعمرو ما لدائه ما دواء

ص: 41


1- شرح نهج البلاغة 3 /320 ، والمناقب ،206 ، وقاموس الرجال 10 / 154 .
2- شرح نهج البلاغة 319/4 .

سوى طعن يحار العقل منه *** وضرب ين تختلط الدماء

فلست بتابع دین ابن هند *** طوال الدهر ما أوفى حراء

فقد ذهب العتاب فلا عتاب *** وقد ذهب الولاء فلا ولاء

وقولي في وادث كل أمر *** على عمرو وصاحبه العفاء

أتحمون الفرات على أناس ***وفي أيديهم الأسل الظماء

وفي الأعناق أسياف حداد *** كأن القوم عندكم نساء

ألا الله درك با بن هند *** لقد ذهب الحياء فلا حياء

أترجوا أن يجاوركم عليّ ***بلا ماء وللأحزاب ماء

دعاهم دعوة فأجاب قوم *** كجرب الإبل خالطها الهناء (1).

وكان أمير المؤمنين قد أرسل غير رسول إلى معاوية كما سبق القول، إلا

أنهم انصرفوا إليه علیه السلام وأخبروه بإصراره على موقفه.

وشكا الناس إليه العطش، فقال: إن سفك الدماء عظيم قبل ان يحتج عليهم مرة بعد أخرى، وانتبه الأشعث بن قيس فوثب إلى علي علیه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين أنموت عطشا ومعنا سيوفنا ورماحنا؟ والله لا ارجع حتى أرد الفرات، فمُرّ الأشتر، فموعدنا الصبح، وقال:

ص: 42


1- المناقب 208 .

میعادنا اليوم بياض الصبح *** هل يصلح الزاد بغير الملح

لا لا ولا أمر بغير نصح ***دبوا إلى القوم بطعن سمح

مثل العزالي وضراب كفح *** حسبي من الاقدام قاب رمحي

وأصبح القوم واضعي سيوفهم على عواتقهم)(1)

وروي أن أمير المؤمنين علیه السلام حين وصل صفين قسم جيشه على الصورة

الآتية:

تولى أمير المؤمنين علیه السلام قيادة قلب الجيش، وكلف عبد الله بن بديل الخزاعي بقيادة ميمنته وعبد الله بن عباس بقيادة ميسرته، وانقسم القراء على ثلاثة أقسام قسم مع عمار بن ياسر ، وآخر مع قيس بن سعد والقسم الثالث مع عبد الله بن بديل فهو حاضر دائما في قلب المعركة وخائض غمارها في هذا الموقع أو ذاك، وهو قائد مبرز سواء قاتل بقومه الذين كان صاحب رايتهم منذ عهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم، أو قاتل بغيرهم من القبائل المشاركة في هذه الحرب)(2).

ووثق نصر رواية عن الشعبي قيادة عبد الله ميمنة الجيش (3)، وخطب في أصحابه يومها، وقال: إن (معاوية ادعى ما ليس ل-ه ونازع الأمر أهله ومن ليس مثله وجادل بالباطل ليدحض به الحق، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، وزين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليه--م

ص: 43


1- المناقب 310 .
2- مستدركات علم الرجال 171/3 .
3- وقعة صفين 208 .

الأمور، وزادهم رجسا إلى رجسهم؛ وأنتم والله على نور وبرهان، قاتلوا الطغام الجفاة ، قاتلوهم ولا تخشوهم، وكيف تخشونهم !؟ وفي أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبين قوله سبحانه:« أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » (1) ، لقد قاتلتهم مع النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، والله ما هم في هذه بأزكى ولا ؛ أتقى ولا أبرأ انهضوا إلى عدو الله وعدوكم بارك الله عليكم) (2). وروي أيضًا

أنه علیه السلام جعله على الرجالة (3) .

الإذن لعبد الله ببدء القتال :

جاهد أمير المؤمنين علیه السلام أن يقنع معاوية بالعدول عن موقفه، ولكن ابن أبي سفيان أصرّ على غيٍّه، ولكي يوقع الإمام الحجة عليه وعلى جيشه طلب أحدًا من أصحابه أن يذهب إلى جيش الشام يحمل إليهم كتاب الله، ويدعوهم إلى ما فيه؛ فأقبل فتى اسمه سعيد فقال: (أنا صاحبه. ثم أعادها فسكت الناس وأقبل الفتى فقال : أنا صاحبه فقال علي: دونك. فقبضه بيده ثم أتى معاوية فقرأه عليهم ودعاهم إلى ما فيه فقتلوه)(4)، ولم أقف على أية معلومة عن هذا الشهيد البطل باستثناء موقفه ذاك، فقال علیه السلام لعبد الله بدیل احمل عليهم الآن فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة، وهو يومئذ يحمل سيفين ويرتدي درعين وكان يضرب بسيفه ويقول:

لم يبق غير الصبر والتوكل *** والترس والرمح وسيف مقصل

ص: 44


1- التوبة 13 .
2- تاريخ الطبري 6 / 9 ، وشرح نهج البلاغة 1/ 483 .
3- الاستيعاب 872/3، وشرح نهج البلاغة 26/4
4- وقعة صفين 244 ، وينظر شرح نهج البلاغة 5 / 196 ، والمناقب ،236 ، لم يعرف أي شيء عن هذا الشهيد باستثناء اسمه.

ثم التمشي في الرحمل الأول *** مشى الجمال في حياض المنهل

قال أيضًا:

يا قوم للخطة العظمى التي حدثت *** حرب الوصي وما للحرب من آسى

الفاصل الحكم بالتقوى إذا ضربت *** تلك القبائل أخماسا الأسداس(1).

وارتجز في يومه ذاك بقوله:

لا تحيطن يا إلهي أجرى *** و عجلن یا رب لابن صخر

نار لظى لا يشترك في أمري *** إن ينج منى ينقصم من ظهري

ويا لها من غصة في صدري (2) .

وأزعم أنه لم يستطع أحد أن يزاحمه في حملته تلك باستثناء عمار بن ياسر، ومالك الأشتر وهاشم بن عتبة المرقال وأمثالهم من الفرسان الشجعان رضوان الله عليهم أجمعين، فقد كان صاعقة مدوية على جيش معاوية، وإذا كانت كتب التاريخ قصرت في حق عمار مالك والمرقال، وغيرهم، فإنها قصرت في حق عبد الله أيضًا، وهو فارس ليس كمثله أحد باستثناء م--ن

ذكرت من شجعان جيشه وفرسانه و غيرهم، فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية، وإلى الذين بايعوه على الموت؛ فأمرهم معاوية أن يصمدوا له؛ وبعث

ص: 45


1- شرح نهج البلاغة 1/ 146 .
2- وقعة صفين 245 ، والمناقب 236 .

إلى حبيب بن مس-لمة الفهري، وهو على ميسرته أن يحم-ل علي-ه ب-جمي-ع من معه، واختلط الناس، واضطرم ،الفيلقان، ميمنة أهل العراق وميسرة أهل الشام.

واستطاع الفارس الهمام إزاحة معاوية عن موقفه، وهو ينادي: يا ثارات عثمان ! وإنما يعنى أخّا له قد قتل، وظن معاوية وأصحابه أنه يعنى عثمان بن عفان وتراجع معاوية عن مكانه القهقرى كثيرا وأشفق على نفسه. ولم يبق مع ابن بديل في هجومه الكاسح ذاك إلا نحو مائة مقاتل من القراء، فاستند بعضهم إلى بعض، يحمون أنفسهم ، وصمّم عبد الله على قتل معاوية، وكاد يصل إليه، فنادى معاوية في الناس ويلكم الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح فرضخه الناس بالصخر والحجارة حتى أثخنوه فسقط، فأقبلوا

عليه بسيوفهم فقتلوه فذهب رضوان الله عليه شهيد المحبة والولاء.

وروى الدنيوري أنه خرج في خيل من أهل العراق، فخرج إليه أبو الأعور السلمي في مثل ذلك من أهل الشام فاقتتلوا هويا من النهار، فترك عبد الله أصحابه يعتركون في مجالهم، وضرب فرسه حتى أحماه، ثم أرسله على أهل الشام، فشق جموعهم، لا يدنو منه أحد إلا ضربه بالسيف حتى انتهى إلى الرابية التي كان معاوية عليها، فقام أصحاب معاوية دونه، فقال معاوية: ويحكم ! إن الحديد لم يؤذن له في هذا، فعليكم بالحجارة فرث بالصخر حتى مات) (1)؛ فسقط ذلك الفارس الشجاع عن صهوة جواده مضمخّا بدمه، بعد ان قتل مقتلة عظيمة من شجعان أهل الشام ثم تناوشوه بسيوفهم، فذهب حميدًا مع الأبرار من الشهداء والصدّيقين.

وجاء معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه، فأما ابن عامر فألقى عمامته على وجه-ه، وترحم عليه، وكان له أخ-ا صديقا من قبل، فقال معاوية:

ص: 46


1- الأخبار الطوال 176 .

اكشف عن وجهه فقال لا والله لا يمثل به وفي روح (1)! فقال معاوية اكشف عن وجهه فإنا لا نمثل به قد وهبناه لك. فكشف عن وجهه، فقال معاوية هذا كبش القوم ورب الكعبة والله ما مَثَل هذا إلا كما قال الشاعر:

أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها *** وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

ويحمى إذا ما الموت كان لقاؤه *** قدي الشبر يحمى الانف أن يتأخرا

کلیث هزبر كان يحمى ذماره *** رمته المنايا قصدها فتقطرا

ثم قال : إن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني فضلا عن رجالها،

لفعلت (2).

واستعلى أهل الشام عند قتل ابن بديل على أهل العراق يومئذ، (3). ولما

استشهد رضوان الله عليه صارت إمرة الميمنة لمالك الأشتر (4) ، فهزمهم.

رحم الله ابن بديل، وأجزل له الثواب، وأسكنه فسيح الجنان، فقد كان مثالاً لا يجارى في الإخلاص والتضحية والوفاء؛ فذه--ب حميدًا حق لخزاعة أن

تفخر به.

ص: 47


1- وقعة صفين 245 .
2- المصدر السابق 246-247 .
3- وقعة صفين 246 ، شرح نهج البلاغة 197/5 ، والبداية والنهاية، والمناقب 236 عنه.
4- البداية والنهاية 344/7 .

وفي ذلك اليوم الأغر استشهد أخوه عبد الرحمن(1)أيضًا، ولكن لم أقف على ما ينبئ أيهما سبق الآخر بالشهادة، وشحت المصادر عن ذكر دوره في

معركة صفين.

ص: 48


1- الاستيعاب 2/ 872، وجامع الرواة 1/ 474.

الصحابي سُلَيمَان بن صُرَد الخزاعي

امير التوابين وقائدهم

ص: 49

لا شك أن الخوض في سيرة سليمان لابد أن تأخذ بيد الباحثين إلى حقبة من تاريخ الكوفة تبدأ من يوم تمصيرها سنة سبع عشرة للهجرة، وتنتهي في سنة خمس وستين يوم استشهاده بعين الوردة رضوان الله عليه؛ بل تتعداها لحين فشل ثورة المختار واستشهاده هو وأصحابه ومن التحق ب-ه م-ن أصحاب سليمان سنة سبع وستين للهجرة، ومن بعد لحين ثورة ابن الأشعث على الحجاج بن يوسف وفشلها سنة ثلاث وثمانين للهجرة، واستشهاد من ذهب فيها إلى جوار ربه من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام؛ ثم من بعده ثورة الشهيد السعيد زيد بن علي بن الحسين علیه السلام واستشهاده سنة اثنتين وعشرين ومائة .

وتستدعي أيضًا المرور على ثورة المدينة المنورة التي قامت في السنة الأخيرة ملك الطاغية يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين للهجرة التي قادها عبد حنظلة (غسيل الملائكة) (1)واستشهد بها؛ إذ أرسل إليهم يزيد جيشًا قوامه أربعة آلاف مقاتل في شهر ذي الحجة من تلك السنة، فاستباح المدينة، وذهب ضحيتها جمهور كبير من بقايا الصحابة والتابعين، وكان من بين أسبابها سلوك الطاغية الذي يتنافى مع قيم الإسلام ومبادئه، وثورة أبي عبد الله الحسين واستشهاده، وإعلان عبد الله بن الزبير عدم مبايعة يزيد والعصيان بمكة.

وتستدعي أيضًا عرض سير من شاركه في القيادة بثورته الفريدة من أصحاب أمير المؤمنين، ومن شيعة الكوفة وغيرها التي راح ضحيتها قرابة أربعة آلاف شهيد كانوا مثالاً للبطولة والشجاعة والفداء والاستقامة والصدق ممن تمتع بصفات الفرسان النجباء والإخلاص في حب أمير المؤمنين وولديه الحسن والحسين علیهم السلام، استشهدوا في ثلاثة أيام بعد معارك طاحنة كلفت جيش عبيد الله بن زياد آلاف القتلى، وألحقت به الهزيمة في غير موقعة؛ وما كان

ص: 50


1- ترجمته في الطبقات 5/ 65 ، وتاريخ خليفة، والثقات 226/3، وغيرها.

لجيشه أن ينتصر عليهم لولا كثرته الكاثرة، مع تعبئة وسلاح لا حدود لهما، وقد تجاوز عدد المشاركين به الستين ألف مقاتل، وهم أضعاف جيش التوابين مضاعفة.

والكوفة برجالها الميامين والدماء التي سالت على أرضها وخلف أسوارها هي من أصعب حقب تاريخها ، وأكثرها زهوًا ودموية؛ إذ أوصلت رجالها إلى حدود الصين، ونشرت الإسلام في تلك البقاع البعيدة، وأسست حضارة مازال العالم ينظر إليها بكل فخر وتقدير وإعجاب ودهشة.

وعلى الرغم من الأحداث الكبرى التي سبقت الإشارة إلى بعضها شهد مسجدها جامعة لعلوم الحضارة الإسلامية التي أسسها الإمام علیه السلام، وانتشرت من بعد في آفاق الدنيا خلال القرنين الأول والثاني الهجريين على الرغم ممن قتل فيها أو سجن أو هجّر من أبنائها وأسرها إلى خراسان وغيرها.

وتزاحمها أيضًا أحداث متفرقات من يوم صلح الحسن علیه السلام، وما رافقه من رؤى مختلفات من محبي الإمامين الحسن والحسين علیهم السلام، ومن أعدائها؛ وروايات تدور حول الصلح أغلبها يستدعي التحقيق والتدقيق، لأن بعضها دُسَّ دسًّا لتشويه العوامل التي دفعت الإمام علیه السلام لاتخاذه.

وقد بذل الشيخ آل ياسين طيب الله ثراه جهدًا كبيرًا يذكر له ويؤجر عليه في دراسة سيرة الإمام الحسن وما دفعه للصلح مع معاوية في كتابه (صلح الحسن)؛ ثم تلاه السيد سامي البدري أطال الله عمره وحفظه با قدمه في كتابه الموسوم ب (الإمام الحسن في مواجهة الانشقاق الأموي)، من رؤى جديدة النظرة للصلح، صوَّب فيها ما علق في الأذهان بسبب تداخل الروايات، ولاسيما التي لا يمتّ سندها إلى وثاقة، ولا تثبت أمام النقد والتحليل، فأصاب، وبين الدوافع التي دفعت الإمام لذلك الصلح، وأسباب تشوه

ص: 51

الروايات التي دارت حوله، وانتهى إلى أن السنيات العشر لما بعد الصلح كانت سنيات أمن واستقرار وانتشار لفقه آل بيت محمّد، وتحقيق لمشروع إمام المتقين علیه السلام، يضاف إلى هذا عرضه الشيق لسيرة الإمام الحسن علیه السلام من يوم مولده لحين استشهاده سلام الله عليه.

وما إن رحل الإمام شهيدًا سلام الله عليه حتى كشَّر معاوية عن أنيابه،

وانقلب على جميع مبادئ الصلح الذي عقده الإمام معه، وقتل وهجَّر وأرسى قواعد الظلم في بلاد المسلمين؛ وابتلى الأمة الإسلامية من بعد بأسوأ أعماله، وأشنعها وذلك بترشيح ولده يزيد لخلافة المسلمين من بعده الذي كان من أسباب الانشقاق الذي حدث بين المسلمين.

فجزى الله الشيخ والسيد خير الجزاء، واحتسب جهدهما في ميزان حسناتهما

إنه على كل شيء قدير.

ثم تذهب بعيدًا إلى ما قبل تأسيس الكوفة من يوم غدرت قريش ومن حالفها بخزاعة، فنقضت عهدها مع النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وما تلاه من فتح عظيم؛ وروايات أخر يكتنفها غموض حول زمن التحاق سليمان برسول الله ومدة

صحبته، وما رواه عنه علیه السلام.

وخزاعة بحسب ابن عبد البر والزمخشري وغيرهما ( عيبة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ) ومما يراد بالعيبة موضع السرَّ (1) ولم أقف على قبيلة أخرى تشرفت بمثل هذا الوسام بين قبائل العرب غيرها.

وثورة التوابين تمثل حدثًا فريدا من نوعه بين الثورات الشيعية التي شهدتها الكوفة وغيرها من الأمصار أثناء الحكمين الأموي والعباسي؛ ومن غرائبها أن من شارك فيها لم يكن عنده من مطمح في دنيا القوم، ولا من هدف إلا

ص: 52


1- الاستيعاب 1428/3 ، والفائق في غريب الحديث 1 / 300.

طلب المغفرة من الذنب الذي ارتكب في عدم نصرة أبي عبد الله الحسين علیه السلام، وإلا الثأر للدماء الزكية التي سفكت على بطحاء كربلاء، والانتقام من قاتليهم، وإلا إعادة الحق إلى نصابه الذي اغتصب من بيت النبوة، أو الشهادة.

بل إن غالبية من نجا منها واصل طريق الشهادة من بعد، فشارك في ثورة ،المختار وكان سببًا في نجاحها قبل أن يستطيع من هرب من الكوفة إلى البصرة ممن شارك في جيش ابن سعد للالتحاق بمصعب بن الزبير في إفشالها، وتسبب في استشهاد سبعة آلاف مقاتل من أبنائها صبرًا في يوم واحد على الرغم من استسلامهم لجيش ابن الزبير، أما بقايا التوابين فقد خاضوا معركة باسلة مع المختار واستشهدوا معه(1).

والباحث في أحداث هذه ثورة لابد أن تأخذه المآخذ أي مأخذ، فسليمان وأصحابه أول من كاتب أبا عبد الله علیه السلام للانتقال إلى الكوفة لمبايعته، وحتّوه على القدوم بإجماع المصادر التي اطلعت عليها، وأول خطاب أرسله أبو عبد الله علیه السلام إلى الكوفة كان باسم سليمان وأصحابه لأنهم عماد الشيعة بها، وهو وأصحابه بحسب ابن عياش من أشراف القراء(2) وفيهم جمهور من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام، بل غالبيتهم من خيار أصحابه، ومن العارفين بحقه وحق ولديه الحسن والحسين علیهم السلام. أما من لم يعاصر الإمام فكانوا من شيعتهم ومحبيهم والمتطلعين لنصرتهم أيضًا.

ولعل النصر على جيش ابن زياد الذي خرجوا المقارعته كان من الممكن تحقيقه لو لم يتراجع حشد كبير عن الالتحاق بهم جاوز العشرة آلاف من الذين بايعوا سليمان قبل خروجه، لانحيازهم إلى رأي المختار الذي أراد أن يخرج بالكوفة؛ أو تخلفوا لأخذهم بإغراء والي ابن الزبير الذي حاول بكل

ص: 53


1- ينظر رجال من بقيع الكوفة 229 - 250 .
2- شرح نهج البلاغة 2 / 290 .

الوسائل إقناعهم بالبقاء لحين وصول اب-ن زي-اد، أو يشاركهم الخروج إليه، أو لأنهم عزت عليهم أنفسهم.

ويوم خرج سليمان بمن معه لم يعدم والي ابن الزبير وسيلة للاتصال بهم ثانية لثني عزمهم ، ولكنهم أصروا على الاستمرار في الطريق الذي رسموه لأنفسهم - الثأر أو الشهادة - لأن النصر الذي سيتحقق بالتحاقه معهم أو التحاقهم به سيكون نصرا لابن الزبير، وهذا ما لا يريدوه.

وبعد وصولهم قرقيسيا حاول أن يثني عزمهم أيضًا أمير حصنها لابن الزبير زفر بن الحارث الكلابي ( وكان زفر من قبل مع أصحاب الجمل، ثم انحاز إلى معاوية، وكان بصفين في ميمنته) (1)، ثم أصبح بعد قيام ثورة عبد الله بن الزبير من أنصاره، وعاد من بعد إلى المروانيين زمن عبد الملك بن مروان (2). وحاول بشتى الوسائل؛ بدخولهم معه في حصنه بانتظار جيش ابن زياد، وهو قادم لا محالة، أو أن يعسكر معهم خارجه؛ إلا أنهم أصروا على تنفيذ غايتهم، لأن النصر الذي سيتحقق إن هم وافقوا على البقاء سيكون نصرًا لابن الزبير أيضًا، وهم يريدونه نصر الحق أهل البيت الذي اغتصب والثأر لدمائهم الزكية.

وأمير التوابين رافقته قيادة لم ينج منها إلا رفاعة بن شداد الذي استطاع أن ينسحب بمن نجا بالباقين من أصحابه في جنح الظلام بعد أن يئس من النصر على جيش ابن زياد الذي كاثرته كثرته، ورأى أن التهيؤ ليوم آخر خير من موت ليس من ورائه طائل، ولكن الشهادة لم تفتهم من بعد.

ص: 54


1- شرح نهج البلاغة 4 / 28 .
2- ترجمته في التاريخ الكبير 430/3 ، والجرح والتعديل 3/ 607 ، وتاريخ مدينة دمشق 36/19، وأنساب الأشراف 450/5 ، والأغاني 428/8 .

ورفاعة أيضًا من خيار فرسان جيش أمير المؤمنين وأصفيائه (1)، وكان على خيل بجيلة في معركة ،الجمل، وعلى خيلهم في معركة صفين؛ وحين طلبه زياد بن أبيه مع من طلبهم من أصحاب حجر بن عدي خرج هاربًا رفقة الصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي وهو من أصفياء أمير المؤمنين علیه السلام أيضًا، بل روي أنه كان من أمير المؤمنين بمنزلة سليمان من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم(2)، فأمسك بعمر و زبانية عبد الله بن أبي بلتعة قائد جيش والي معاوية على الموصل عبد الرحمن الثقفي، ولما عُرِف عمر و أمَرَ معاوية أن يطعن تسع طعنات كما طعن عثمان بزعمه (3)، وحمل رأسه إليه، وهو أول رأس يحمل في الإسلام من بلد إلى بلد (4) ، وكان ابن الحمق على خزاعة في معركة صفين (5).

أما رفاعة فقد استطاع أن يحمل على جمع ابن أبي بلتعة فأصاب منهم من ،أصابه، وعقر بعض خيلهم، فعادوا من حيث أتوا، واستطاع النجاة منهم. وقد تكون عودته إلى الكوفة بعد فرار عبيد الله بن زياد إلى الشام (6) .

وقبل أن يعود رفاعة بالناجين من معركة عين الوردة أصرَّ قرابة مائة من أصحاب سليمان الفرسان على مواصلة القتال، وفضلوا البقاء والاستشهاد في عين الوردة فكتب الله لهم الشهادة جميعًا.

وما إن عاد رفاعة إلى الكوفة حتى راسله المختار من سجنه، فاندفع معه ،

ص: 55


1- ترجمت له في كتابي رجال من بقيع ثوية الكوفة 253 - 256.
2- الاستيعاب 3 1173 ، الأوائل 107 ، الاختصاص ،3، 7، شرح نهج البلاغة 4 / 27 ، الغدير .45/9
3- عرضت سيرة بعضهم في كتابي الموسوم ب-( خلف أسوار الكوفة ) 225 - 265 ، وينظر أيضًا تاريخ الطبري 197/4 ، وتاريخ مدينة دمشق 499/45
4- صلح الحسن 142 .
5- رجال من بقيع ثوية الكوفة 265.
6- المصدر السابق.

ثم التحق بركبه، فكان في مقدمة أنصاره.

وقاد إبراهيم بن مالك الأشتر (1)بعد التحاقه بالمختار جيشًا لمنازلة عبيد الله بن زياد في الموصل بمنطقة الخازر، وكانت معركة الثأر العظيم التي قتل فيها عبيد الله بضربة سيف هائلة من يد إبراهيم، وطيف برأسه بالكوفة وغيرها، كما طيف برأس أبي عبد الله سلام الله عليه وعلى آل بيته الأطهار. وبعث المختار رأسه من بعد إلى محمد بن الحنفية(2)، وإلى زين العابدين علیه السلام الذي لم ير مبتسمًا قط إلا في ذلك اليوم (3) ، وقتل إبراهيم أيضًا الحصين بن نمير السكوني وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري وأحرق جثتيهما (4) .

وبسبب مكانة أولئك الفرسان النجباء في ذلك الحدث العظيم فلابد من المرور على سيرتهم مجتمعين مع صاحبهم، وكنت قد عرضت سير بعضهم(5)، وقد أعرض سيرة من لم أعرض سيرته في فرصة لاحقة، أما بعد التخطيط للثأر فإن أخبارهم تشتبك مع بعضها ولا يمكن فصلها؛ وعرض سيرة قائدهم وأمير ثورتهم الذي تنعقد وقفتنا عليه، أهمّ أمرٍ في هذه العجالة.

وأزعم أننا بسرد سيرته نكون قد مررنا على أحداث ثورة لم ينصفها المؤرخون بالصورة التي تستحقها، ولم يمنحها الباحثون فرصة للتأمل والنظر والإنصاف، ولم ينقل لنا الرواة جميع أخبارهم كي نستطيع عرض مواقفهم الخالدة التي اتسمت بالشجاعة والوفاء والتضحية والفداء.

ص: 56


1- ينظر الفتوح /6 / 294 ، وأنساب الأشراف 41/7 ، والافي بالوفيات 6 / 56 ، وما ذكرت حوله في ترجمة المختار بكتابي رجال من بقيع ثوية الكوفة 229 - 250 .
2- البحار 386/45 .
3- تاريخ اليعقوبي 2/ 259 ، وتنظر ترجمة المختار في كتابي رجال من بقيع الكوفة 229 - 252 .
4- البحار 45 / 386 .
5- تنظر ترجمتهم في كتابي رجال من بقيع ثوية الكوفة، وخارج أسوار الكوفة.

سليمان بن صرد

في خضم الأحداث الدامية التي مرَّ بها القرن الأول الهجري التي تدعو إلى العجب بسبب اختلاف أهواء رجالاته، وانحراف كثير منهم عن جادة الإسلام القويم لا تسأل عن كيفية استشهاد سليمان وأصحابه في معركة (عين الوردة)، وهو يقاتل جيشًا قوامه ستين ألف مقاتل لم يستطع مبارزته أحد فرسانه وجهًا لوجه بسيف أو برمح، كما يفعل الأبطال النجباء، لأن الجواب سهل لا يحتاج إلى بحث وتنقيب، لقد جاءه سهم جبن راميه أن يواجهه - وهو من قادة جيش عبيد الله بن زياد - بسيفه أو رمحه كما يفعل الشجعان على الرغم من تجاوز فارسنا الهمام الثالثة والتسعين.

ويبدو أن من المناسب أن تتساءل كيف عاش ذلك المجاهد الشجاع، وكيف واجه الأحداث التي تشيب لها الرؤوس، وكيف استطاع المحافظة على مبادئه من دون أن تدنس، وكيف لم تستطع دولة المغريات أن تحرفه عن الدرب الذي اختطه لنفسه، وه-و ي-رى بأم عينه دولة الطلقاء ومن سار في ركابها تثري ذلك الثراء الهائل حتى وصل الأمر ببعضهم أن يكسِّر الذهب الذي خلفه وهو من كبار الصحابة - بالفؤوس لكثرته وثقل وزنه، وغيره عشرات ممن بنى القصور وملك الضياع والأموال الطائلة من الصحابة والأقرباء والأنسباء وتجار الباطل (1) ؛ يرى كل هذا سليمان وكان بإمكانه أن يغترف منه أسوة بكثر غيره ولا سيما أنه في متناول يده لو أراد؛ فهو الأقرب نسبًا إليهم، ولكنه اتخذ القرار الصعب أن يخرج حميدًا ليس في تاريخه ما يشينه، ولم يعتزل كما اعتزل آخرون لا لهم ولا عليهم فخذلوا الحقَّ، ولم ينصروا الباطل بحسب أمير المؤمنين علیه السلام، ولكنه جاهد بعزيمة وقوة ضد الباطل وجبروته ومما يؤسف عليه أن الباطل استطاع الفوز في النهاية وإن كان فوزه إلى حين، وفوزه

ص: 57


1- ينظر ما ذكرته بهذا الصدد كتابي الموسوم ب- ( وما أدراك ما علي 30/2-33)

من سنن الحياة، واندحاره من سننها أيضًا.

ويوم فاز لم يكتف بما حققه من فعل دنس، وإنما جند أمة من المنتفعين بالقوة وبالسحت الحرام لإطفاء وهج تاريخ الحق ورجالاته، ومنهم تاريخ صاحبنا سليمان، ولم يبق إلا بصيصًا من نور لا يغني ولا يسمن من جوع

ولكنه يؤشر.

وسليمان هو الأمير أبو مُطَرِّف بن صُرَد بن الجون بن أبي الجون، وأبو الجون هو عبد العزى بن منقذ بن ربيعة بن أصرم الخزاعي، كان اسمه في الجاهلية يسارًا، ومن نعم الله عليه أنه يوم التقى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم سماه سليمان(1) بحسب رواية؛ ولعل اختيار الاسم له رابط باسم صاحبه سلیمان المحمّدي، وكأنه صلی الله علیه و آله وسلم لو اختار له اسما هو من الأسماء المحببة إليه. وكأن الرجل أيضًا اختار أن يقتدي بسميه ، فكان من خيار العُبَّاد وأفاضلهم، ومن أشراف القراء (2)؛ ويراودني يقين أنه أخذ قراءته عن سيد القراء وإمامهم أمير المؤمنين علیه السلام، ويوثق هذا أنه ممن روى عنه.

ورجل بقامة سليمان ومكانته لابد له من عزوة تقويه وسط عشيرته؛ كأن يرث رئاسة، أو حزمة من الأبناء النجباء، أو أخوة أو أعمام وأخوال، ولكن مثل هذا لم أقف عليه، فليس أبوه من المذكورين، ولم تذكر له ذرية ذات شأن، وإن ذهبت بعض المصادر إلى أن زوجته ابنة جبير ولدت له، ولكن لم يعرف مولودها.

ولم أقف له على قرابة باستثناء عم-ه الصحابي أكثم بن أبي الجون الذي رويت عنه أحاديث (3)، وعم آخر ذكره ابن حجر في الإصابة زعم أن

ص: 58


1- المستدرك 3 /530 .
2- الطبقات الكبرى 4 / 293 ، عمدة القاري 5 / 126، 24 / 210 .
3- طبقات بن سعد 4/ 292 ، والمستدرك 4 /650 ، ورجال الطوسي 62/26 ، ومجمع الزوائد

(1)

اسمه أصرم بن ضبيس بن حرام(2)، وهذا ليس بعمّ له، وإنما سليمان من نسله. وذكر له من الإخوة علقمة، ولا دور له في الأحداث، ولكن قيل : إن له ولد اسمه حدير له إدراك، ولحدير ولد اسمه ميسرة (3). وقيل: له عم يدعى عمرو بن لحيّ (4)، ولا علاقة لعمر و هذا بسليمان، وإنما هو من نسله، وله أخبار يوم كانت مكة في حكم خزاعة تعرضت لبعضها عند الحديث عن عبد الله بن بديل. هذا ما وقفت عليه، وقد ألححت في متابعة رصيده الأسري لمعرفة الأسباب التي وضعته في مقدمة أشراف الكوفة، فاستقرّ رأيي على أنه حاز تلك المكانة لعوامل أخر لا علاقة لها بأسرة أو نسب أو مال، وإنما بفعال أخذت بيده إلى المكانة التي سما إليها.

وإذا كنّا لا نستطيع تحديد زمان إسلامه أو مكانه، فبالإمكان تقريبه إلى ما قبل فتح مكة يوم اعتدت قريش ومن والاها على خزاعة التي تحالفت مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في صلح الحديبية، أو بعد فتح مكة.

ونزول النبي على خزاعة يؤكد مكانتها في نفسه، بل روی ابن عبد البر وغيره أنه صلی الله علیه و آله وسلم قال: «خزاعة منّي وأنا منهم»، ويوم (5)، ويوم عقد صلح الحديبية دخلت في حلفه كما سبق ذكر ذلك، وأدخلت قريش كنانة في حلفها، فبغت على خزاعة وهجمت عليها في غفلة بمشاركة رجالات من قريش كسهيل بن عمرو ، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم، فقتلت الرجال والأطفال والنساء، ولم تنجّجهم محاولتهم الهروب إلى الحرم للجوء إليه، فلاذ

ص: 59


1- 213/7 ، والمعجم الكبير 1/ 296 ، والاستيعاب 142/1 ، والجرح والتعديل 2/ 329، وإكمال الكمال 190/7 .
2- الإصابة ،1 / 258 ، وأصرم هذا ليس بعمّ لسليمان ينظر الطبقات 4 / 292.
3- الإصابة 144/2
4- أسد الغابة ،1 / 111 ، طبقات الصحابة 1 / 63 .
5- الاستيعاب 1 /170 ، وينظر أيضًا الجرح والتعديل 360، وأسد الغابة 1 / 188، والإصابة 1 / 433 ، والسيرة الحلبية 3/ 5 ، وسبق التعرض إلى نزول النبي الله في أثناء الحديث عن خزاعة.

من نجا منهم بدار بدیل بن ورقاء الخزاعي الذي مكنهم من الوصول إلى

الحرم، إذ إن منازلهم لا تبعد عن مكة كثيرًا ، فهي بالوتير في أسفلها (1) .

وكان لفعلة كنانة ورجال من قريش سببًا مباشرً ا لفتح مكة (2)؛ وقد يكون ذلك الحلف، وتلك الفعلة من بعد، والفتح العظيم الذي تحقق بسببه مگن سليمان أن يكون قريبًا من النبي صلی الله علیه و آله وسلم يوم وفد إلى المدينة، ومكنته أيضًا أن

يروي أحاديث عدة عنه (3) ، وقيل : إن جملة ما رواه عنه صلی الله علیه و آله وسلم من دون واسطة خمسة عشر حديثًا (4) .

وروى أيضًا عن أمير المؤمنين وولده الحسن علیه السلام، وعن حذيفة بن اليمان وأبي بن كعب، وجبير بن مطعم، وعنه تميم بن سلمة، وشقير العبدي، وشمر، وضبغم الضبي، وعبد الله بن يسار الجهني وعدي بن ثابت وأبو إسحاق السبيعي، ومسلم بن صبيح، ويحيى بن يعمر، وأبو حنيفة، وأبو عبد الله الجدلي، وعبيد بن نضيلة، ورفاعة بن شداد، وسوار أبو إدريس، وعتبة بن

أبي عتبة، وغيرهم من كبار التابعين (5).

وسليمان من المشاركين بجيوش الفتح لا شك في ذلك، فقد روي أنه سكن

ص: 60


1- معجم البلدان 360/5 ، والوتير اسم ماء أسفل مكة عليه منازل خزاعة.
2- سبل الهدى والرشاد 200 - 206 .
3- ينظر في بعض ما رواه مسند أحمد 4 / 262 ، ومجمع البيان في تفسير القرآن 136/8، وسير أعلام النبلاء 13/ 387 ، والسيرة لاين كثير 221/3 ، ومعالم التنزيل 525 ، ومجمع الزوائد 2 / 240 ، وعمدة القاري ،137 ، وميزان الاعتدال 2 / 240 ، والإصابة 241/3، وتوضيح المشتبه 169، وغيرها.
4- كشف المشكل من حديث الصحيحين 1 / 10 .
5- مسند الإمام أحمد 4 / 81 ، 124/5، وسنن ابن ماجة 1 / 190 ، ورجال الطوسي 13/40 ، 12/66، 3/94 ، وشرح صحيح مسلم ،9/4 ، والسنن الكبرى 118/1، والاستذكار 2/ 485 ، والتمهيد 282/8 ، والجرح والتعديل 123/4 ، وتهذيب التهذيب 12/ 155، والإصابة 1443 ، وتاريخ مدينة دمشق 58 / 193 ، وتهذيب الكمال 454/11 ، 19 / 240 ، وقد ترجمت لمن توفي منهم بالكوفة في كتابي الثوية بقيع الكوفة.

الكوفة أول ما مصّرت، وابتنى دارًا وسط عشيرته خزاعة (1)؛ وسكنه ذاك يعني أنه كان في جيش سعد بن أبي وقاص على الأغلب، وذكر أيضًا أنه ورد بغداد والمدائن، وقرطبل ، وهي قرية بين بغداد وعكبرا مشهورة بخمرتها، ووروده ذاك أيضًا يعني مشاركته مع الجيوش التي وردتها (2).

ولم يكن خامل الذكر وسط عشيرته أو بين الكوفيين، فقد كان له قدر وشرف. وما كان أيضًا فتى في يومه ذاك، فقد يكون قارب الخمسين أو تجاوزها (3).

ويؤيد ذلك ما رواه ابن سعد من أنه كان مسّا يوم نزلها (4)، وذكر ابن عبد البر أنه كان خيرًا فاضلاً له دين وعبادة.. وكان له شرف وقدر وكلمة في قومه ) (5) فإذا كان له من العمر ثلاث وتسعين سنة (6) يوم استشهد سنة خمس وستين، فلا نكون قد ابتعدنا عن الصواب في تقدير عمره يوم نزل

الكوفة.

وإذا كان الرواة والمؤرخون قد أهملوا جوانب مهمة من سيرته، فإنهم تركوا بصيصا من نور يساعد على معرفة مكانته وتقديرها، فقد روي أنه تزوج بأم كلثوم ابنة جبير بن مطعم(7) ، وليس جبيرًا هذا بشخصية خاملة في الوسط

ص: 61


1- الاستيعاب 649/2 .
2- الطبقات الكبرى 4 / 292 ، والاستيعاب 2 / 650 ، وتاريخ بغداد 215/1 ، ومعجم البلدان 271/4.
3- الطبقات الكبرى 4 / 292 ، وجمهرة أنساب العرب ،238 ، والاستيعاب 2/ 649-650 ، وأسد الغابة 2/ 315، وسير أعلام النبلاء 3 394، وتهذيب الكمال 11 / 454 ، وعمدة القاري 126/5، 210.
4- الطبقات الكبرى 25/6 .
5- الاستيعاب ،2 / 650 ، وتهذيب الكمال 456/11 ، والإكمال في أسماء الرجال 92 .
6- سنأتي على توثيق ذلك من بعد.
7- ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أنه ابن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن

(1)

القريشي، ولا شك في أن سليمان لو لم يكن ذا منزلة كبيرة ما فكر جبير بتزويجه ابنته. وروي أنها ولدت له، ولكني لم أقف على ذكر لأحد من أبنائه لا منها ولا من غيرها، ولعل مُطَرِّفا الذي كان يكنى به منها(2)، وقد يكون مات وهو طفل صغير أو أنه كان خامل الذكر لم يستطع الالتحاق بمجد أبيه الباذخ.

ومما يستدعي الذكر أيضًا قولهم : إنه تزوج بأم سعيد بن العاص، وهي أم

كلثوم بنت عمرو بن عبد الله، وتزوج سعيد بأم البنين ابنة جبير بن مطعم وعلى هذا فإن سليمان عديل سعيد وزوج أمه في الوقت نفسه، ومعروف أن الرجلين - جبير وسعيد - ما كانا على وفاق مع أمير المؤمنين علیه السلام، فالأول كان من أصحاب الخليفة عثمان بن عفان، وهو الذي صلَّى عليه، وكان بين أنفار شاركوا بدفنه، والثاني قتل أمير المؤمنين علیه السلام أباه في معركة بدر (3). ومن الصعب أن نتصور رجلاً خامل الذكر يتزوج أو يزوج بامرأتين من قريش، إذ يندر وقوع مثل تلك الزيجات خارج الوسط القرشي.

ولو لم تأخذه حسن العاقبة إلى الوجهة التي أخذته إليها لرأيناه بجانب الخليفة عثمان، أو بجانب معاوية، أو أحد قادة جيشه، أو في ديوانه ليس ببعيد عنه، أو واليًّا من ولاته، أسوة بكثر التحقوا به سواء أكانوا على صلة به أم

لم يكونوا .

ص: 62


1- قصي القرشي، أمه أم جميل بنت سعيد من بني عامر ، وكان جبير نسابة قريش وقيل : من أنسب العرب. ذكر أنه تعلم النسب من الخليفة أبي بكر، أسلم يوم الفتح ، وقيل : عام خيبر، وكانت لأبيه يد عند رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فقد أجاره عند عودته من الطائف ومات سنة اثنتين للهجرة قبل بدر، ومات جبير سنة سبع وخمسين وقيل : تسع وخمسين في حياة معاوية. عبده حبشي لعنة الله عليه قاتل حمزة، وكان جبير قال له: إن قتلت عليا فأنت حر قتل عمي طعيمة سيّد البطحاء ، فقال له حبشي: إن عليَّا رجل حذر مرس كثير الالتفات، ولكن أقتل لك حمزة ترجمته في الاستيعاب 3 / 104 ، وبشأن حبشي ينظر شرح البلاغة 1 / 243 ، وراجع ترجمته أيضًا في تنقيح المقال 257/14 - 264 .
2- المستدرك 3 530 ، وفتح الباري 311/7.
3- الطبقات الكبرى 305 - 31، وجمهرة الأمثال 1 / 555 ، وتاريخ مدينة دمشق 21/ 138، و تهذيب الكمال 509/4 ، وجبير بن مطعم هو الذي صلى على الخليفة عثمان بن عفان وشارك بدفنه ينظر تاريخ خليفة 132 .

ولا يدري متى تزوج ببنت جبير، كما لا يدري متى تزوج بأم سعيد، ولاشك أن زواجه بهما كان بالمدينة قبل استخلاف الإمام علیه السلام؛ غير أن الزيجتين تكونا عاملاً محفزًا لاختيار دنيا معاوية كما اختارها آخرون، ولاسيما بعد

رحيل أمير المؤمنين علیه السلام.

وكما كان سليمان سندًا لأمير المؤمنين علیه السلام فإن للرجل مواقف في مساندة الإمام الحسن علیه السلام، ولو عاطفيا، إذ إنه لم يشارك في قتال ولم يكن في جيشه أثناء تشکیله كما يبدو، وقد يكون خارج الكوفة في ذلك الوقت، وموقفه لا يمكن مقارنته بموقف عبيد الله بن عباس مثلاً، الذي استطاع معاوية إغراءه بعد أن وثق به الحسن وسلمه قيادة جيشه، فتركه من دون قيادة، وذهب إلى سحت معاوية على الرغم من فعلته بأبنائه يوم كان واليًّا لأمير المؤمنين علیه السلام على اليمن (1) ، وليس ذلك بمستغرب على أبناء العباس، فقبله أخوه عبد الله الذي ترك إمامه في أحلك ظروف خلافته و نهب بيت مال البصرة وهرب به إلى مكة.

وقد نتساءل عن سر اختيار الحسن علیه السلام عبيد الله لقيادة جيشه، وهو يعلم أنه لم يكن بذلك القائد المحنك، ولا الفارس الشجاع، بدليل فشله في إدارة إمارته باليمن ذلك الفشل الذريع الذي انتهى إلى قتل ولديه على يد بسر بن أرطأة الذي أرسله معاوية إلى اليمن لطرده وإخضاعها لحكمه.

وكان أمام الحسن علیه السلام رجال من أخلص أصحاب أمير المؤمنين وأصلبهم وأشجعهم وأكثرهم ده--اءً وحكمة في القيادة كقيس بن سعد ب-ن عب-ادة الأنصاري (2) ، الذي عينه قائدًا بعد عبيد الله الذي لم تمنعه رحم ماسة من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، و من قائده ولا الميثاق الذي واثق الله عليه في البيعة منذ كان

ص: 63


1- أنساب الأشراف 3/ 50 ، وأمالي الشيخ الطوسي 77، والغدير 2/ 84.
2- ترجمته في أسد الغابة 4 / 215 - 207 ، وغيره كثير.

أوّل من دعا الناس إلى بيعة الحسن في مسجد الكوفة، ولا الخوف من حديث الناس ونقمة التاريخ بالذي منعه عن الانحدار إلى هذا المنحدر السحيق.. ثم أشاح عنه التاريخ بوجهه، فلم يذكره إلا في القائمة السوداء..(1). ترى لماذا اختاره علیه السلام؟، هل هي صلة الرحم دفعته لاتخاذ ذلك القرار؟ أو الوتر الذي وتر به عبيد الله يوم ذبح بسر ولديه وحنقه على معاوية؟ أو الخوف من

تسليم القيادة لمن لا يستطيع ائتمانه عليها ؟ أو أمر آخر هو أعلم به علیه السلام.

بل لماذا لم يختر جارية بن قدامة السعدي مثلاً الذي استطاع أن يهزم فلول جيش بسر بن أرطأة، ويقتل خلقا من جنده، وأتبعه-م بقتل وأسر إلى مكة، وحين دخل مكة كان ابن ملجم لعنة الله عليه قد فعل فعلته، فأخذ جارية البيعة من المكيين للإمام الحسن علیه السلام وأنو فهم راغمة بسبب تثاقلهم عن

بیعته (2).

وحين دخل المدينة في طريق عودته إلى الكوفة وجد أهلها قد اصطلحوا على أبي هريرة وهو يصلي بهم فهرب منه فقال جارية والله لو أخذت أبا سنور لضربت عنقه (3)، وقد تثاقلوا عن بيعة الحسن أيضًا، فخطب بالمدنيين وذكر بخطبته مقام أمير المؤمنين علیه السلام ومنزلته، ومن جملة ما قاله في خطبته (أما والذي لا إله إلا هو لو أعلم الشامت منكم لتقربت إلى الله عز وجل بسفك دمه، وتعجيله إلى النار! قال لهم: قوموا فبايعوا للحسن بن علي، ثم أقام يومه ذلك يبايعه الناس) (4) على الرغم من تثاقلهم أيضًا.

وخرج منصرفًا إلى الكوفة. وتلحظ أن سبب تثاقل أغلب وجوه المصرين

ص: 64


1- صلح الحسن.
2- الغارات 2/ 638 - 639 .
3- ينظر تاريخ الطبري ،4 / 107 ، وترجمت له ترجمة مطولة في كتابي رجال من بقيع ثوية الكوفة.
4- تاريخ الطبري ،4 / 107 ، والغارات 2/ 638 - 639 .

المقدّسين مكة والمدينة من بيعته علیه السلام على الرغم من مكانته، فهو سيّد شباب أهل الجنة، وريحانة رسول الله، وسبطه وابن بنته البكر سيّدة نساء العالمين الذي عرف بين المصرين مكة والمدينة خاصة بخلق جده وأبيه، وباستقامتهما وعدلهما؛ تثاقلوا عن بيعته لعلمهم أنه إن ولي الأمر سيسير بهم بسيرة جده وأبيه في توزيع مال المسلمين ، وهو أمر لا يريده غالبية وجوه المكيين والمدنيين، لا لشيء إلا لأن الأصفر الرنان في خزائن معاوية يوزعه كيف شاء

على مريديه

ولما بلغ جارية الكوفة بايع الإمام ، وعزّاه ،بمصابه، وقال له: (ما يجلسك ؟! سربنا يرحمك الله إلى عدوك قبل أن يسار إليك ، فقال علیه السلام: لو كان الناس كلهم مثلك سرت بهم)(1)

وله موقف جدير بالتنويه أيضًا يروى بطرق مختلفة، إذ إنه حينما وفد على معاوية مع الوافدين عليه قال له: (أنت الساعي مع علي بن أبي طالب والموقد النار في شيعتك تجوس قوسًا عربية تسفك دماءهم، فقال له جارية: يا معاوية دع عنك عليا فما أبغضناه منذ أحببناه، ولا غششناه منذ نصحناه، فقال: ويحك ! ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية! قال: أنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية - وه-ي أنثى الكلاب - قال: لا أم لك ! قال: أمي ولدتني للسيوف التي لقيناك فيها قال : إنك لتهددني! قال: إنك لم تفتحنا قسرًا، ولم تملكنا عنوة، ولكنك أعطيتنا عهدًا وميثاقًا، وأعطيناك سمعا وطاعة، فإن وفيت لنا وفينا لك، وإن فزعت إلى غير ذلك، فإنا تركنا وراءنا رجالاً شدادًا، وألسنة حدادًا، قال له معاوية : لا كثر الله في الناس من أمثالك، قال جارية قل معروفًا وراعنا، فإن شرَّ الدعاء المحتطب ) (2) .

ص: 65


1- ينظر ما كتبته عن جارية في كتابي رجال من بقيع ثوية الكوفة 257 - 267 ، وتنظر تفصيلات عنه في الاستيعاب لابن عبد البر 437/2
2- سبقت الإشارة إلى أني نشرت ترجمة وافية عن جارية في كتابي رجال من بقيع ثوية الكوفة 257 -

(1)

وكل مغريات معاوية وسحته التي أغرت غير سليمان لم تستطع إغراء سليمان، ولم تمنعه أن يكون من خيار أصحاب الحسنين وأبيهما، ومن أشد المخلصين لآل البيت علیهم السلام.

ص: 66


1- 267،وينظر : الغدير 171/10 ، أعيان الشيعة 61/4 - 62 .

صاحب أمير المؤمنين علیه السلام

لم أقف لسليمان على أثر في الأحداث التي عصفت بخلافة عثمان، إلا أن وجوده بالمدينة في أثنائها قد يؤيد مشاركته بها، أو يكون له رأي فيها وإن لم يتضح، ولاسيما أنه من وجوه مبايعي أمير المؤمنين علیه السلام من الشيعة بحسب الشيخ المفيد(1) ، ولا شك أن بيعته تلك كانت بالمدينة، لأن من ذكرهم الشيخ من المبايعين كانوا بها.

ثم عاد من بعد إلى الكوفة، ولا يدري متى عاد، وليس هناك من خبر يؤيد خروجه إليها يوم خرج الإمام علیه السلام منها؛ ولا على ذكر له بالكوفة يوم دخلها الإمام الحسن رفقة عمار بن ياسر حين أرسله الإمام علیه السلام لحث الناس على الالتحاق به، فقرأ رسالته عليهم وخطب بهم وحثّهم ولم يُسْمَع لصاحبنا صوت بين أصواتهم.

وليس وحده الذي لم يسمع له صوت، فهناك كثر كأبي عبد الله خباب بن الأرت، وهو أيضًا من أوائل سكنة الكوفة. وإن كانت مصادر تذهب إلى أنه كان في جيشه علیه السلام في معاركه الجمل وصفين والنهروان، وقيل: إنه يوم مات في مرضه صلى عليه أمير المؤمنين علیه السلام وهي رواية ضعيفة، ولكنه ترحم عليه

لا عند عودته من صفين، إذ قال : (يرحم الله خبَّابًا، فلقد أسلم راغبا وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا ) (2) ، وهو أول من دفن بثوية الكوفة (3).

وليس سليمان بالرجل الذي يختفي صوته بالكوفة يوم دخلها الحسن لحث الكوفيين على الالتحاق بأمير المؤمنين علیه السلام، والظاهر أنه لم يكن بها، بدليل لقائه

ص: 67


1- الجمل 108 .
2- ينظر نهج البلاغة 3/ 117 بتحقيقي.
3- ينظر ترحمه في نهج البلاغة بتحقيقنا 3/ 117 ، والاستيعاب 3/ 873، وتهذيب الكمال 456/11 ، وله ترجمة في كتابي رجال من بقيع ثوية الكوفة 35 - 46 .

أمير المؤمنين علیه السلام في موضع وراء نجران الكوفة، وهو على ي-ومين منها كما سيأتي .

وعلى الرغم من ذهاب غير مصدر إلى مشاركته بمعركتي الجمل وصفين في صفٌ أمير المؤمنين علیه السلام(1) ، أو أنه من المشاركين في جميع مشاهده علیه السلام(2)؛ فإني ل أقف على رواية في مصادر عدة عند نصر بن مزاحم وغيره، تذهب إلى أنه لم يشترك بوقعة الجمل، وأن أمير المؤمنين عاتبه حين رجع من البصرة إلى الكوفة، فقد روي أنه لما دخل للسلام عليه، قال له علیه السلام: (ارتبت و تربصت وراوغت، وقد كنت من أوثق الناس في نفسي، وأسرعهم فيما أظن إلى نصرتي، فما قعد بك عن أهل بيت نبيك؟ وما زهدك في نصرتهم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تردنَّ الأمور إلى أعقابها، ولا تؤنبني بما مضى منها، واستبق مودتي تخلص لك نصيحتي، فقد بقيت أمور تعرف فيها عدوك من وليك. فسكت عنه، وجلس سليمان قليلاً ثم نهض ، فخرج للقاء الحسن علیه السلام فالتقاه وهو قاعد بباب المسجد، فقال: ألا أعجبك من أمير المؤمنين، وما لقيت منه من التوبيخ والتبكيت ؟ فقال الحسن : إنما يعاتب من ترجى مودته ونصيحته، فقال : لقد وثبت أمور ستشرع فيها القنا، وتنتضى فيها السيوف، ويحتاج فيها إلى أشباهي ، فلا تستغشوا عتبي، ولا تتهموا نصحي ؛ فقال الحسن علیه السلام: رحمك الله ما أنت عندنا بالظنين ) (3). وذكر البلاذري غير رواية لهذا الحادث من غير طریق تؤكد عدم مشاركته بمعركة الجمل، كما تؤكد عتاب أمير المؤمنين علیه السلام، منها أنه كان في استقباله عند عودته من البصرة وراء نجران الكوفة (4) فصرف

ص: 68


1- المحبر 291 ، والطبقات الكبرى 4 / 292 ، قال ذلك ابن سعد حين ترجم له مع الصحابة، ولكن حين ترجم له مع من نزل الكوفة منهم في 25/6 اكتفى بذكر مشاركته بصفين من دون إشارة إلى مشاركته بوقعة ، الجمل وتاريخ الكوفة 506.
2- المحبر 291 ، وأسد الغابة ،351،2 ، تهذيب الكمال 456/11 .
3- وقعة صفين 6 ، وينظر الفتوح 2 / 492 ، وشرح نهج البلاغة 3/ 105، والمصنف 721/8، وللخبر غير رواية لا تبتعد عن الرواية المذكورة.
4- روى ياقوت في معجمه 5 / 269 أن نجران هذه موضع على يومين من الكوفة فيما بينها وبين واسط سکنه نصاری نجران فسمي باسم بلدهم.

وجهه عنه، (فلا دخل الكوفة عاتبه، وقال له : كنت أوثق الناس في نفسي، فاعتذر وقال: يا أمير المؤمنين استبق مودتي تخلص لك نصيحتي)(1)، وإذا صحت الرواية فقد تنبئ أنه كان في طريقه إلى البصرة للمشاركة في الحرب ولكن الوقت لم يسعفه، وقد تأخر لشاغل شغله، إذ لا يوجد مسوغ للذهاب إلى ما وراء نجران الكوفة لاستقبال الإمام وهي على يومين منها بعد عودته من حرب الجمل علیه السلام.

ومنها أنه طلب من الإمام الحسن علیه السلام أن يطلب العذر له عند أمير المؤمنين علیه السلام،

ويخبره أن مانعا منعه من المشاركة في الحرب (2) .

ووثق الشيخ الطوسي عدم مشاركته في معركة الجمل، وجاء بعبارة قد توقع باللبس حول الطلب من الحسن نقل اعتذاره لأمير المؤمنين حينما ذكره مع من روى عنه علیه السلام، إذ قال: (سليمان بن صرد الخزاعي المتخلف عنه يوم الجمل المروي عن الحسن أو المروي على لسانه في عذره عن التخلف) (3).

وكان للسيد الخوئي رأي آخر أيد فيه رأي الشيخ الطوسي في عدم مشاركة سليمان في حرب الجمل، إلا أنه لم يأخذ بالرواية التي تذهب إلى إن أمير المؤمنين عاتبه على موقفه، ورجح عنده أن سبب عدم مشاركته قد يكون بأمر من الإمام علیه السلام، أو لعذر ذلك كان؛ أما سبب دفعه أمر المعاتبة فيعود إلى أن عدة ممن روى الخبر لا تثبت وثاقتهم(4). وقد أميل إلى ما ذهب إليه السيّد الخوئي، فليس مثل سليمان وقربه لآل البيت يتأخر عن نصرة إمامه في ذلك اليوم

ص: 69


1- أنساب الأشراف 271/2 .
2- أنساب الأشراف 2 /273 ، وينظر أيضًا الفتن 74 .
3- رجال الطوسي 12/66 .
4- معجم رجال الحديث 283/9 .

الأيوم، بل ليس كثرة تردد عتاب أمير المؤمنين له في المصادر يؤيد ووقوع ذلك العتاب، لأن كثر من الروايات في المصادر القديمة تذكر عن راو ولا يمحصها صاحب المصدر للتوثق من صحتها، وترددها غالبية المصادر من

بعده على علاتها من دون فحص وتوثيق ؛ وحتى لو صح عتاب الإمام علیه السلام فإن الرواية تخبر عن قرب ومحبة وإخلاص.

وتذهب رواية في نهاية الإرب (1) من الصعب الأخذ بها إلى أن صاحب شرطة أمير المؤمنين علیه السلام، معقل بن قيس أو سليمان بن صرد؛ ولعل تعيينه إن صح يكون بسبب خروج معقل من الكوفة في أمر من أمور الإمام علیه السلام، وإن صحت روايته فيكون تعيينه بعد خروج معقل منها .

ويبدو أن السيد الخوئي لم تثبت عنده صحبة سليمان أيضًا، إذ قال: (لأن الفضل بن شاذان صرح أنه من التابعين الكبار)، وتصريح الفضل من الصعب الأخذ به، لأن استشهاده، وله من العمر ثلاث تسعين سنة يقرب أنه كان قد جاوز العشرين يوم نزل رسول الله على خزاعة، يضاف إلى هذا أن اسمه كان يسارًا وأن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم سماه سليمان، ويضاف إلى هذا أيضًا كثرة ما رواه عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بدون واسطة مع كثرة تردد الخزاعيين على المدينة ولا شك أنه كان من بينهم بسبب قربهم من النبي، وما قال صلی الله علیه و آله وسلمبحقهم.

ص: 70


1- نهاية الإرب 20 /230 .

القائد الهمام في وقعة صفين

ثم لم أقف لسليمان على خبر ما بين وقعة الجمل والتوجه إلى صفين، باستثناء رواية أنه صاحب شرطة أمير المؤمنين التي سبق ذكرها، وهي رواية ضعيفة لا يعتد بها؛ وقد يكون كلَّفه الإمام بإمارة لم تفصح عن ذكرها المصادر، ولكن توالي أحداث صفين أكدت صدق ما قاله في حاجة الإمام لأمثاله من القادة الميامين، فقد بزّ كثيرين شجاعة وقيادة وإخلاصا في المعركة (1)؛ وبرز شامخاً بين القادة الميامين (2)؛ ويوم قسم الإمام علیه السلام جيشه على مراتبهم

(4) جعله على رجالة ميمنته (3) ، وبالغ بعضهم فقال: إنه صاحب رايته (4) .

واحتلاله ذلك الموقع المميز يخبر عن مكانة وتاريخ بطولي في ساحات الوغى؛ إذ لم يكن في موقع متقدم وسط من شارك في تلك الحرب من خزاعة فحسب، وإنما كان على رِجالة ميمنته في ذلك الجيش الكبير.

وأقف على أمر لافت للنظر ينبئ عن مكانة سليمان وأهمية أثره وسط ذلك الحشد، فحين خرج إلى صفين كتب له عامل أمير المؤمنين على الكوفة عقبة بن مسعود: (أما بعد، فإنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم، ولن تفلحوا إذا أبدا، فعليك بالجهاد والصبر مع أمير المؤمنين والسلام) (5)، وهذا دليل على سمو قدره ومكانته، إذ لم أقف على أحد كتب

ص: 71


1- الأخبار الطوال 186، 197 .
2- ينظر المستدرك للحاكم ،530 ، وفتح الباري 311/7 ، والمعجم الكبير 98/7 ، وتاريخ بغداد .215/1
3- وقعة صفين ،205 ، والأخبار الطوال 171 ، وتاريخ خليفة 146 ، والثقات 2/ 289 ، وشرح نهج البلاغة 27/4 .
4- الاستيعاب ،1 / 10 4 ، 2 / 650 ، والأخبار الطوال 186 ، والفتوح 2/ 122 ، وينظر أسد الغابة 2/ 63 ، وشعب المقال في درجات الرجال 273، شعب المقال 273.
5- الطبقات الكبرى /25/6 ، ووقعة صفين ،313، وشرح نهج البلاغة 247/5 ، ومستدركات علم

(1)

إليه عقبة أو غيره يحثه على الصدق في الجهاد ممن بقي بالكوفة باستثناء

سليمان.

ويبدو أنه لم يكن بعيدًا عن شجعان بني هاشم فقد روي أنه في اليوم التاسع عشر من الحرب برز من أصحاب معاوية عثمان بن وائل يصول ويجول ويدعو للبراز وكان يعد بمائة ،فارس، والعباس بن الحارث بن عبد المطلب ينظر إليه مع سليمان بن صرد، فقال لسليمان : أنا أبرز إليه وقد نهاني أمير المؤمنين علیه السلام، وفي قلبي أني أقتله، فبرز إليه وقال أبياتًا من الشعر، وما إن رأى فرصة حتى ضربه ضربة قدت رأسه من رقبته (2).

ومن المواقف البطولية التي احتسبت له أن ميمنة جيش معاوية كانت بقيادة حوشب ذي الظليم، وهو من فرسان جيشه وشجعانهم (3)، بل كان هو وذو الكلاع رئيسين في قومهما من أهل اليمن، وكانا يمثلان مع من تبعهما القوة اليمنية الضاربة في جيشه (4). وقد برز لحوشب حين خرج يطلب البراز وكان سليمان قارب السبعين أو تجاوزها فيما أحسب، فطعنه في بطنه بر مح--ه طعنة خرج السنان من ظهره، وقال حين حمل عليه :

يالك يومًا كاسفًا عصبصبا *** يالك يومًا لا يواري كوكبا

يا أيها الحي الذي تذبلبا *** لسنا نخاف ذا الظليم حوشبا

لأن فينا بطلاً مجربا *** ابن بديل كالهزیر مُعْضَبا

أمسی عليٌ عندنا محببا *** نفديه بالأم ولا نبقأبا(5)

ص: 72


1- رجال الحديث 5/ 250 .
2- والمناقب 230 ، وتاريخ الإسلام 64/5 .
3- الفتوح 532/2، 565 ، ومستدركات علم رجال الحديث 296 .
4- الأخبار الطوال - 186185 ، والاستيعاب ،1 / 410 ، 2 / 650 ، والفتوح 122/2، وينظر أسد الغابة 2/ 63 .
5- وقعة صفين 400 ، والفتوح 3 / 122، وأسد الغابة 2 / 351، وتهذيب الكمال 456/11. -

وبمصرعه فقد معاوية قائدًا ورئيسًا، يمثل ثلة كبيرة من جنوده اليمنيين فوقعت عليه جراء مصرعه (مصيبة عظيمة) (1) .

وابن بديل الذي ذكره سليمان في أبياته هو عبد الله سيّد خزاعة، من الأبطال الشجعان الميامين في جيش أمير المؤمنين علیه السلام بمعركة صفين، استطاع أن يزيح معسكر معاوية في محاولة للوصول إليه، حتى كاد يصل، لولا أن جنده أثخنوه بالحجارة فاستشهد (2). وعبد الله بن بديل وأخوه محمّد يروى أنه من رسل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وقد استشهدا في معركة صفين بجانب أمير المؤمنين

وكان عبد الله رفقة سعد بن قيس الهمداني على جناح جيش الإمام في صفين (3)، وبديل وأبنائه ممن يستحقون التنويه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك أثناء ترجمته .

ولما رفعت المصاحف، وسقط ما في يد أمير المؤمنين أقبل سليمان رفقة محرز بن جريش على الإمام ووجهه مضروب بالسيف، فلما نظر إليه علي قال: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) . فأنت ممن ينتظر و ممن لم يبدل، فقال: يا أمير المؤمنين، أما لو وجدت أعوانًا ما كتبت هذه الصحيفة ) (4) ، وكأن أمير المؤمنين علیه السلام بشره بيومه العظيم الذي سيأتي من بعد في عين الوردة.

و محرز بن جريش بن ضليع بحسب نصر كان يدعى مخضخضًا، روي أنه أخذ عنزة بصفين وإداوة فيها ماء، وكان يمرَّ على جرحى أصحاب أمير المؤمنين فيسقيهم الماء، وإذا مرَّ على جريح من جيش معاوية ضربه بالعنزة

ص: 73


1- الفتوح 122/3 .
2- فتوح البلدان 2 / 384 ، والكامل في التاريخ 409/3 ، وصلح الحسن 123، وتوجد تفصيلات حول الروايات جديرة بالمراجعة في 115 - 124 منه.
3- خاتمة المستدرك 147/8، وسائل الشيعة 20/ 463 ، مناقب آل أبي طالب 352/2.
4- وقعة صفين 519، وينظر الأخبار الطوال 197.

حتى يموت، وكان على رأي سليمان أيضًا في عدم الانصياع للتحكيم إذ قال لأمير المؤمنين: (يا أمير المؤمنين، ما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل

فو الله إني لأخاف أن يورث ذُلاًّ، فقال علي : أبعد أن كتبناه ننقضه)(1).

وتلاحظ أن رأي سليمان كان على رأي إمامه أن تستمر الحرب ومشى وسط الجيش يحثهم ، ولكنه لم يجد إلا ثلَّة صغيرة على رأيه، فقال لإمامه : (أما والله لقد مشيت في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأول، فما وجدت أحدًا عنده خير إلا قليلاً)(2) .

ولا أقف لسليمان بعد عودة أمير المؤمنين علیه السلام إلى الكوفة على خبر، وكأنه تركها إلى مكان آخر، إذ إنه ليس بالرجل الذي يختفي ذكره بها وسط غير وقعة أحاطت بها وبرزت عشرات القادة الأبطال الميامين من أصحاب أمير المؤمنين الذين خاضوا غمار معركة النهروان، أو كانوا من قادة وقائعه من الكوفة إلى اليمن وعمان وإلى البصرة وبلاد فارس .

والذي يرجح عندي أن سبب انقطاع أخباره بها لأن أمير المؤمنين ولاه ولاية بالجبل - لم أستطع معرفة مكانها - بعد عودته من صفين، فقد وقفت على رسالة كتبها إليه علیه السلام جاء فيها : (إلى سليمان بن صرد، وهو بالجبل: ذكرت ما صار في يدك من حقوق المسلمين ، وأن قبلك وقبلنا في الحق سواء، فأعلمني ما اجتمع عندك من ذلك، فأعط كل ذي حقَّ حقه، وابعث إلينا بما سوى ذلك لنقسمه فيمن قبلنا إن شاء الله ) (3). والرسالة تخبر أيضًا أن المراسلات لم تنقطع بينهما .

ص: 74


1- وقعة صفين 519 .
2- المصدر السابق
3- أنساب الأشراف 166/2 .

دوره في خلافة الحسن

ليست ثورة التوابين ابنة يومها أو ردة فعل بسبب شعورهم بالذنب نتيجة تخاذلهم عن نصرة أبي عبد الله الحسين علیه السلام فحسب، وإنما تعود إلى يوم صلح الحسن علیه السلام، إذ لم يكن من رأي بعض المخلصين من أصحاب أمير المؤمنين أن يعقد الحسن سلام الله عليهما صلح-ا م-ع معاوية (1)، وكان للحسن رأي آخر قرره بعد أن رأى بأم عينه تخاذل الكوفيين وتقاعسهم عن نصرة الحق وهروب ثلة من قادته إلى باطل معاوية.

لم أقف لسليمان على دور في جيش الإمام علیه السلام، وكأنه لم يكن بالكوفة، بل لعله لم يكن فيها يوم بايع الناس الإمام، ولم يشارك بجيشه، ولو كان فيه لاحتل موقعا متقدما في قيادته، وقد يكون عند بيعة الإمام واستعداده لقتال معاوية على إمارته بالجبل التي تولاها الأمير المؤمنين علیه السلام

وكان من رأي الثائر العظيم أبي عبد الله الحسين علیه السلام أيضًا أن تستمر الحرب على العدوان مهما كانت النتائج، إذ ليس من المعقول تسليم تراث جده رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بحسب الرواية إلى طلقاء بني أمية يعيثون به فسادًا، ولكنه اضطر للاستجابة لإمام زمانه الذي رأى أن يستريح بر، أو يستراح من

فاجر).

ويوم قرر الحسن علیه السلام العودة إلى المدينة دخل وجوه الشيعة عليه بحسب رواية لتوديعه من بينهم سليمان، وبعد خروجهم من مجلسه دخلوا على أبي عبد الله علیه السلام، وفي مقدمتهم ، جندب بن عبد الله الأزدي وهو من الصحابة (2)، والمسيب

ص: 75


1- الغدير 574/4 .
2- مر ذكره أثناء ترجمة جندب بن كعب في كتابي رجال من بقيع ثوية الكوفة 135 .

بن نجبة الفزاري، وسليمان بن صرد الخزاعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي(1) فوجدوه قائمًا يستحث أهل الدار على حمل المتاع، فسلموا عليه، فلما رأى ما بهم من الكآبة وسوء الهيأة، تكلم فقال بحسب رواية: (إن أمر الله كان قدرًا مقدورًا، إن أمر الله كان مفعولاً، وذكر كراهيته لذلك الصلح، وقال: لكنت أُطَيِّبَ النفس بالموت دونه ، ولكن أخي عزم علي، وناشدني فأطعته، فكأنما يحز أنفي بالمواسي، ويشرح قلبي بالمدى !! وقد قال الله عز وجل: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ، فقال له جندب والله ما بنا إلا أن تضاموا وتنتقصوا، فأما نحن، فإنا نعلم أن القوم سيطلبون مودتنا بكل ماقدروا عليه، ولكن حاش الله أن نوازر الظالمين ، ونظاهر المجرمين، ونحن لكم شيعة، ولهم عدُوًّ. وقال سليمان بن صرد: إن هذا الكلام الذي كلمك به جندب هو الذي أردنا أن نكلمك به كلنا، فقال: رحمكم الله صدقتم وبررتم . وعرض له سليمان بن صرد وسعيد بن عبد الله الحنفي الرجوع عن الصلح . فقال : هذا ما لا يكون ولا يصلح ) (2) . وسألوه عن موعد خروجهم من الكوفة، فأعلمهم أن مسيرهم سيكون بالغد، فخرجوا للتوديع حتى جاوزوا دير هند(3)، وقد ذكر البلاذري في أنسابه أيضًا أن الحسين حينما فاتحه الحسن بقراره قال له: أنشد الله أن تكون أول من عاب أباك وطعن عليه ورغب عن أمره، فقال إني لا أرى ما تقول، ووالله لئن لم تتابعني لأشدنك في الحديد فلا تزال فيه حتى أفرغ من أمري، فقال له : - الحسين - فشأنك )(4) . وأزعم أن هذه الرواية لبست غير ثوبها وتحرف أصلها حتى أصبح فيه-ا من التهديد ما لا يمكن أن يصدر عن الحسن بحق أخيه علیه السلام لأنه لم يكن من رأيه

ص: 76


1- استشهد مع أبي عبد الله الحسين علیه السلام، وهو آخر رسل أهل الكوفة، ينظر أنساب الأشراف 185،1963 ، وأعيان الشيعة 241/7 .
2- أنساب الأشراف 3 / 148 - 149 ، وينظر أيضًا الغدير 1/ 64 .
3- أنساب الأشراف 3/ 48 ، ومعجم البلدان 2 / 541 ، وصلح الحسن 118 عن مصادره.
4- أنساب الأشراف 51/3.

مصالحة معاوية، وكذا ليس الحسين يخاطب أخاه الحسن بذلك الخطاب وأستبعد أن يهدد الحسن علیه السلام أخاه سبط رسول الله بذلك التهديد، وما هو إلا نقاش ومشاورة، أطاع الحسين إمامه با عزم عليه.

واستمر موقف كثير من المخلصين في إنكار الصلح، وأظهروا أسفهم على ترك مقاتلة الباطل، ولاسيما بعد تنصل معاوية من جميع الشروط التي اشترطها على نفسه.

وتذهب رواية تسير في ركاب الرواية اللاحقة، وذكرت في مصادر عدة، مفادها أن سليمان كان غائبا عن الكوفة قبل عودة الحسن علیه السلام إلى المدينة، وقد وثق عدم وجوده بها الشيخ راضي آل ياسين، نقلاً عن الإمامة والسياسة لابن قتيبة (1).

وذكر السيد المرتضى أن الشيعة خرجت للقاء الإمام الحسن علیه السلام بعد سنتين من خروجه من الكوفة فيهم سليمان(2)(وكان سيد أهل العراق ورأسهم، فدخل على الحسن فقال : السلام عليك يا مذل المؤمنين ! فقال الحسن: وعليك السلام، اجلس الله أبوك . قال : فجلس سليمان، وقال: أما بعد فإن تعجَّبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية، ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق، وكلهم يأخذ العطاء، مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم، سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز ) (3) ؛ والرواية توقع باللبس إن صحِّت أيضًا، وكأنه لا علم له بما جرى ولا علم له بمن ثبت من جيشه علیه السلام؛ أما القسم

ص: 77


1- الإمامة والسياسة 1 / 141 ، وذكر ابن قتيبة أيضًا أن سليمان كان سيد أهل العراق ورأسهم، و تسييده بهذه الصورة مبالغة ليس هناك ما يدعو لها.
2- الإمام الحسن علیه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي الباب الثاني من كتابه، وهو بعنوان (السنوات العشر الأولى من الصلح ) وفيه تفصيلات كثيرة جديرة بالمراجعة لسبر أحداث تلك السنيات وأثرها في نجاح مشروع الإمام الحسن علیه السلام، وينظر أيضًا تنزيه الأنبياء 223 .
3- أنساب الأشراف 3/ 48 ، وتنزيه الأنبياء ،223 ، وصلح الحسن 118 عن مصادره.

الثاني منها الذي خاطب به الإمام السلام عليك يا مذلّ المؤمنين) فأظنها حشرت حشرًا من بعد، ولا صحة لها، وهي من المكذوب الذي ما أكثره في كتب تراثنا؛ إذ ليس مما يتصور أن يخاطب سليمان الإمام بذلك الخطاب، إلا أن يكون ذاك من دالة المحبة المفرطة، ولكن تدفعها الرواية السابقة التي ذهبت إلى أنه ونفر من وجوه الشيعة دخلوا عليه لوداعه من دون أن يدور في ذلك اللقاء مثل هذا، لا في مجلسه ولا في أثناء وداعهم الإمامين.

وترد رواية في خاتمة المستدرك توثق قربه بجانب الإمام علیه السلام، وإنه ممن استجاب لطلبه حين دعا الكوفيين لحرب معاوية ، قال : (دعا أهل الكوفة لحرب معاوية.. فكأنما ألجموا بلجام الصمت عن إجابة الدعوة إلا عشرون رجلاً منهم قاموا منهم سليمان بن صرد (1).

أما عدد من كان مع الإمام بحسب ما نسب إلى سليمان من أنه تجاوز مائة ألف مقاتل فلا صحة له أيضًا، وقد استعرض الشيخ آل ياسين ما ورد من روايات بشأن عدد المقاتلين في جيشه علیه السلام، فناقشها، وخلص إلى أن نصوصها لا تصبر على النقاش، ولا يصح الاعتماد عليها، وقال: (ولم يبق لدينا إلَّا عدد جيش المقدمة، وهو اثنا عشر ألفا، وعدد المتطوعين بعد ذلك في الكوفة، وهو أربعة آلاف.. فهذه قرابة عشرين ألفا، هي جيش الحسن عند زحفه إلى معسكره في مسكن والمدائن)(2).

وروي أيضًا أن سليمان وأصحابه خرجوا بعد حين إلى المدينة للقاء الإمام الحسن والسلام عليه ؛ وبعد انتهاء مراسيم التحية واللقاء قال سليمان للحسن علیه السلام، بحسب رواية: (ما ينقضي تعجبن-ا من-ك م-ن بيعتك معاوية، ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة كلهم يأخذ العطاء، وهم على أبواب

ص: 78


1- خاتمة المستدرك 47/8 .
2- الإمام الحسن في مواجهة الانشقاق الأموي 202 .

منازلهم ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد، ولا حظًا من العطية، فلو كنت إذ فعلت ما فعلت أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب، وكتبت عليه كتابًا بأن الأمر لك بعده، كان الأمر علينا أيسر ولكنه أعطاك شيئًا بينك وبينه ثم لم يف به. ثم لم يلبث أن قال على رؤوس الناس: إني كنت شرطت شروطًا، ووعدت عدة إرادة لإطفاء نار الحرب، ومداراة لقطع هذه الفتنة، فأما إذا جمع الله لنا الكلمة والألفة، وآمنَّا من الفرقة، فإن ذلك تحت قدمي !!! فوالله ما أغيرني بذلك إلا ما كان بينك وبينه وقد نقض، فإذا شئت فأعد الحرب جذعة، وأذن لي في تقدمك إلى الكوفة، فأخرج عنها عامله، وأظهر خلعه وننبذ إليه على سواء إن الله لا يحب الخائنين، وتلحظ مدى تعلق هذا الصحابي الجليل بسبط رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، واستعداده للتضحية لأجله ... فقال الحسن: أنتم شيعتنا وأهل مودتنا ... ولكني أرى غير ما رأيتم، وما أردت فيما فعلت إلا حقن الدماء، فارضوا بقضاء الله، وسلموا لأمره ألزموا بيوتكم، وأمسكوا أيديكم حتى يستريح برُّ، أو يستراح من فاجر (1). والظاهر - كما سبق القول - أن سليمان لم يكن بالكوفة لحين خروج معاوية منها بعد وقوع الصلح(2). وكأنه لم يسمع بما فعله أصحاب الحسن علیه السلام به من محاولة قتله ونهب متاعه، وهروب أقرب المقربين إليه كعبيد الله الذي ترك جيش الإم-ام من دون قيادة، ورحل إلى معاوية(3)الذي استطاع إغراءه بسحِّه.

وتذهب رواية دست دشَّا لإظهار الإمام الحسن بثوب الرجل المط-لاق،

أنه خطب ابنة المسيب، فاستشار أمير المؤمنين علیه السلام، فقال له: إن الحسن مطلاق ولكن زوجها عبد الله بن جعفر، لتشويه صورته علیه السلاموإظهاره بصورة الرجل

ص: 79


1- تنزيه الأنبياء 223 ، وتلاحظ أن رواية المرتضى كأنها أخذت من رواية ابن قتيبة.
2- صلح الحسن ،118 ، وينظر تنزيه الأنبياء 221 - 223.
3- الغدير 2/ 84 .

الذي ليس له من هم إلا الزواج والطلاق(1) .

وقد ينتهي تعجب سليمان بعد حين إن كان قد تعجب يوم بايعه في ثورته أكثر من ستة عشر ألفا، وحين خرج إلى النخيلة بقي فيها ثلاثة أيام بانتظار المبايعين، ولكن لم يلتحق به منهم إلا أقل من ربعهم على الرغم من تردد شعار ( يالثارات الحسين في أرجاء الكوفة ومسجدها؛ فخطب بمن رافقه ومن بين ما قاله: (من أراد الدنيا فلا يصحبنا ، ومن أراد وجه الله والثواب في الآخرة فذلك ) (2).

وإذا صحت رواية ويغلب على ظني أنها لا تصح فإن سليمان زار معاوية إبان حكمه مرة، كما زاره غيره من كبار أصحاب الإمام علیه السلام وأهل بيته، بسبب سياسة الترهيب والترغيب التي اتبعها معهم ، وقادها له في العراق واليه زياد بن أبيه، أو طمعًا بعطايا معاوية وهباته.

فقد روي أن سعيدًا كان عند معاوية جالسًا معه على سريره، فقال له وكأنه أراد أن يحطّ منه لكأن عمتك حمزة هند عند بعض أزواجها فيما يوصف لي)، فلم يجبه، ودخل سليمان بن صرد، وكانت أم سعيد عنده؛ فرحب به معاوية وأجلسه على سريره بينه وبين سعيد، ثم قال له: كيف بر هذا بكم؛ فقال سعيد: ما أردتّ بهذا يا أمير المؤمنين؟ قال: ما أردتَ بحمزة هند (3).

وما يرجح الشكّ فيها أني لم أقف له على ذكر مع الوافدين عليه من وجوه الشيعة، ولم تقدم الرواية أية إشارة عن سببها ومن شاركه بها، كما أن مواقف سليمان من معاوية لم تكن بغائبة عنه، فقد ناصبه العداوة منذ صلح الحسن علیه السلام

وقبله، وقاد جبهة المعارضة الشيعية ضده آنذاك.

ص: 80


1- رواية خطبتها تنظر في تاريخ مدينة دمشق 13/ 263ن وتهذيب الكمال 6 / 236 ، وسير أعلام النبلاء 31/3 .
2- لإمام الحسن في مواجهة الانشقاق الأموي 202 - 208 نقلاً عن شرح ابن أبي الحديد في شرح النهج 46/11 ، ومصادر أخر معتبرة في هوامش الصفحات.
3- تاریخ مدينة دمشق 138/21 .

اجتماع المعارضة في منزل سليمان

لم يتخذ معاوية موقفًا عدائيًا معلنًا وواضحًا من وجوه شيعة العراق في حياة الإمام الحسن علیه السلام ، وكانت و فودهم تترى عليه، يغدق عليهم الأموال والعطايا؛ إما لتحييدهم أو طمعا بانحيازهم إليه، أو تسكين نفوسهم وثنيهم عن رأيهم في مناصرة أهل البيت أو التخطيط لمشروعه الذي لم يعلن عنه آنذاك، وهو تولية ولده يزيد حكم المسلمين من بعده؛ وممن وفد عليه الأحنف بن قيس، وأبو أيوب الأنصاري، وجارية بن قدامة السعدي وغيرهم عشرات، وشاركهم في الوفادة عليه أيضًا بعض بني هاشم كعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس ومحمّد بن الحنفية وغيرهم؛ وهو رأي وثقه السيّد سامي البدري بأربعة أبواب في كتابه الموسوم ب-(الإمام الحسن في مواجهة الانشقاق الأموي)، تناول فيها الصلح ورواياته، ونقدها وتفنيدها، أو توثيق الموثق منها، مع قراءة لمشروع الإمام علي الذي حققه الإمام الحسن عليهما السلام بصلحه، وبذل جهدًا لتوثيق رؤيته في صواب قراره علیه السلام بنزوعه للصلح وإنصافه، فكانت السنوات العشر الأولى من حياته قبل رحيله علیه السلام، سنوات حماية وأمن لشيعة العراق التي أكدتها بنود الصح؛ وفي الكتاب أيضًا فصول عدة جديرة بالتنويه والتحليل والعرض ، وأزعم أن كتابه هذا هو من خير ما كتب عن خلافة الإمام الحسن علیهما السلام وصلحه وسيرة حياته، ورحيله مسموما فيما قرأت، ثم فيه عرض للانقلاب الأموي الذي حدث بعد رحيله علیه السلام.

وما إن رحل إلى جوار ربه سنة خمسين للهجرة علیه السلام، حتى كاد معاوية يطير فرحًا، ولم يكتم سروره أمام ابن عباس الذي وفد عليه لطلب نواله وبدأ بالتخطيط للإعلان عن تولية ولده يزيد من بعده.

ثم كان الانقلاب فقد كشر معاوية عن أنيابه، وكانت الفاجعة بأمره قتل

ص: 81

حجر بن عدي وأصحابه سنة إحدى وخمسين ودفنهم بمرج راهط، وهي من فتوح حجر ؛ وحين قبض زياد بن سمية عليهم لإرسالهم إليه، أشهد جمهورًا دنسًا من رواد مجلسه يشهدون بخروجهم عن الطاعة ونقض البيعة وما إلى ذلك من تُهم، وسيرهم إليه(1).

وانقلب معاوية على (سياسة الأمان لشيعة علي إلى رعب وقتل وملاحقة، ومن سياسة ذِكْر عليّ بخير إلى لعن وذكر بسوء.. وكتب نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئًا من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليَّا ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته) (2)، ولم يكتف بذلك، وإنما تبع كتابه ذاك بكتابين أرسلهما إلى جميع البلدان جاء فيهما (انظروا من قامت عليه البينة أنه يجب عليَّا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه... ومن اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا ،داره، فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولاسيما بالكوفة)(3).

وروي أنه يوم فجع شيعة الكوفة برحيل الحسن علیه السلام اجتمعوا ومعهم بنو جعدة بن هبيرة (4) ابن عمة أمير المؤمنين علیه السلام في دار سليمان بن صرد، فكتبوا إلى أبي عبد الله كتابًا بالتعزية، جاء فيه: (إن الله قد جعل فيك أعظم الخلف ممن مضى ونحن شيعتك المصابة بمصابك، المحزونة بحزنك المسرورة بسرورك، المنتظرة لأمرك، وكتب إليه بنو جعدة بحسن رأي أهل الكوفة فيه...)(5)،

ص: 82


1- ينظر: الاستيعاب 1 / 320، والاستذكار 5 / 120 ، وشرح نهج البلاغة 4 / 85، والكني والألقاب 1/ 17 .
2- منهاج البراعة 14 / 41 ، وصلح الحسن 315 عن مصادره.
3- المصدرين السابقين وشرح ابن أبي الحديد 45/11 ، والشيعة في الميزان 105 ، وقد تكررت الرسالة بنصها في مصادرة كثيرة.
4- ترجمته في كتابنا الثوية بقيع الكوفة 1/ 59 - 60 .
5- تاريخ اليعقوبي 2/ 228 ، وأنساب الأشراف 152/3.

وتلحظ في رسالتهم استعدادهم للثورة على معاوية، ولا شك أن ثائرتهم ازدادت ثورة بعد أمر معاوية بقتل حجر بن عدي وأصحابه.

ولم يتوقف تحرك تلك الوجوه من بعد، ولاسيما بعد أن رأوا بأم أعينهم الفرق الهائل بين حكم أمير المؤمنين علیه السلام، وحكم بني أمية الذين استولوا على أموال المسلمين ينفقونها من دون وازع ويسجنون ويقتلون ويسفّرون، ولكن لم يدر في خلدهم أن معاوية سيورّث الحكم لابنه يزيد مع وجود الحسين ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.

فلما بلغهم هلاك معاوية، وتولية يزيد ، وامتناع أبي عبد الله وابن الزبير عن بيعته، اجتمعوا في منزل سليمان ثانية، فحمدوا الله على هلاك معاوية، وقرروا مبايعة الحسين علیه السلام فقال سليمان بن صرد: إن معاوية قد هلك، وإن حسينًا قد تقبض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه؟ قالوا: لا بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه قال فاكتبوا إليه... الرسالة) (1)

وترد رواية توقع باللبس في تاريخ اليعقوبي مفادها أن سليمان (خرج يطلب بدم الحسين فلما صار - المختار - إلى الكوفة اجتمعت إليه الشيعة فقال لهم: إن محمّد بن عليّ بن أبي طالب بعثني إليكم أميرًا وأمرني بقتل المحلين وأطلب بدماء أهل بيته المظلومين، وإني والله قاتل ابن مرجانة، والمنتقم لآل رسول الله ممن ظلمه-م، وصدقته طائفة من الشيعة وقالت طائفة : نخرج إلى محمّد بن علي نسأله...) ((2)، ولا علاقة لسليمان بهذه الرواية، وقد وقع اللبس بس سقوط كلمة المختار من النص

ص: 83


1- - تاريخ الطبري 4 / 261 ، وأعلام الورى 1/ 436 .
2- تاريخ اليعقوبي 2/ 258 .

ومما روي في مصادر عدة أن سليمان، والمسيب بن نجبة الفزاري ورفاعة

بن شداد، وعبد الله بن ،وأل وحبن وأل، وحبيب بن مظاهر الأسدي (1) وكلهم من خيار أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام ومعهم ثلة من وجوه شيعته أول من كاتب الحسين علیه السلام، وجاء في رسالتهم: (أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد، الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها ،أمرها، وغصبها فيئها، وتأمر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها واستبقى أشرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبعدا له كما بعدت ثمود. إنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله) (2) ، وكان وافدهم إليه عبيد الله بن مسمع الهمداني (3) وعبد الله بن وداك السلمي فاستلم الإمام رسالتهم في العشرين من رمضان (4) ، واستمرت رسائل الكوفيين تترى عليه من بعد(5). فأجابهم في غير رسالة (6) لما أرادوه .

وذكر ابن سعد في طبقاته أثناء ترجمته الإمام الحسين عليه السلام أن سليمان كتب للإمام الحسين أن يقدم الكوفة، فلما قدمها أمسك عنه(7)، وكأنها الخبر يشير إلى أنه كان بالكوفة يوم قدمها مسلم بن عقيل، وقبل دخول عبيد الله بن زياد، ولكن لا أقف على رواية بلقائه مسلم بن عقيل لا هو ولا أصحابه،

ص: 84


1- رجال الطوسي - 3/60، ونقد الرجال 1/ 399، ومعجم رجال الحديث 201/5.
2- تاريخ الطبري /261/4 ، والفتوح 5/ 28 ، واللهوف في قتلى الطفوف 23 ، والكامل في التاريخ 20/4 .
3- ينظر الإرشاد 37/2 ، ومناقب آل أبي طالب 241/3 .
4- الأخبار الطوال 229 ، وأنساب الأشراف 3/ 157 ، والبحار 333/44
5- البحار 333/44 .
6- الأخبار الطوال 230 ، وتاريخ الطبري 297/4، والفتوح 20/5 .
7- اللهوف في قتلى الطفوف 156 ، عن الطبقات.

ولم يبايعوه كما بايعه الآخرون، وهو أمر يوقع بالحيرة والتردد، بل إنهم في اختفاء أصواتهم ساعدوا ابن زياد في القضاء على تحرك شيعة الكوفة، وتمكنه من قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وسجن المختار.

ومما روي أن الحسين علیه السلام كتب لذلك النفر: (من الحسين بن علي إلى سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وعبد الله بن وأل) (1)، ذكَّرهم فيها بما قاله رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بشأن السلطان الجائر ، وقَبَل بيعتهم ، وطلب منهم الوفاء بها على الرغم من علمه بما فعله أهل الكوفة بأبيه وأخيه، وبعثها مع قيس بن مسهر الصيداوي (2) ، إلا أن الجلاوزة استطاعوا الإمساك بقيس فقتله ابن زیاد و فاز قیس رضوان الله عليه من بعد بالحسنيين.

ولحق بركب الخالدين حبيب بن مظاهر الأسدي على الرغم من كبر سنه (3)، وكان سعد بن عبد الله الحنفي (4) آخر رسل أهل الكوفة وغيرهما؛ أما البقية فعلى الرغم من مكانتهم في أنفسهم وبين قبائلهم فمن الصعب أن تقف على عذر لتخلفهم، ويزيد من الصعوبة أيضًا إيجاد عذر لهم أنهم تخلفوا من قبل عن مسلم بن عقيل يوم حط ركابه بينهم وبايعته آلاف مؤلفة من الكوفيين، والغالب على الظن أن هذا النفر لم يكن بالكوفة يوم دخلها مسلم ويوم استشهاد أبي عبد الله علیه السلام كما ذكر ذلك سابقًا.

ويبدو أن أغلب من التحق من الكوفيين بركب أبي عبد الله كانوا معه بمكة - بحسب السيد سامي البدري - قدموها أثناء وفوده-م علي-ه، إلا أنفار التحقوا به من الكوفة استطاعوا الإفلات من الحصار الذي ضربه ابن زياد

ص: 85


1- الفتوح 81/5 ، والبحار 381/44 .
2- ترجمته في كتابنا الثوية بقيع الكوفة 2/ 199 - 200 ، وينظر في رسل أهل الكوفة وكتبهم للإمام الفتوح 81/5، وأعيان الشيعة 589/1 .
3- أعيان الشيعة 553/4 .
4- تاريخ الطبري 4 / 318 .

عليها، وقد كان بإمكان الآخرين الإفلات كما أفلت غيرهم.

وذكر محمّد جواد مغنية أن الذي طالب بدم الحسين حقًّا بدافع من دينه وإخلاص-ه ه-و سليمان بن صرد ومن كان معه لذا انضم إليه كثير من القرَّاء وأهل المعرفة، أما الغوغاء فكانت مع المختار(1)، وقد لا يؤخذ برأيه بشأن من انضم إلى المختار، إذ قد تكون وجهة نظرهم أقرب إلى الرأي الصواب بدليل أن ما أراد سليمان تحقيقه حققه المختار.

وقد صمت التاريخ عن أخبارهم كما سبق القول، ولا أستطيع تصديق اعتزالهم الذي لم يكن له ما يبرره، ولا عما ينبئ أن والي الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري (2) قد سجنهم أو رحلهم خارجها، إذ لم تشر المصادر لا من قريب ولا من بعيد إلى مثل هذا، بل إن الترحيل خارج الكوفة أو السجن في سجونها كان بعد استلام زياد بن أبيه إمارة العراق وانقلاب معاوية على شروط الصلح، ومن بعده ولد زياد عبيد الله إمارة الكوفة مع إمارة البصرة، وبعد خذلان الكوفيين سفير إمامهم وقتله وسحل جسده الطاهر في أسواق الكوفة وأزقتها.

كما أن هذا النفر لم يكن خامل الذكر في الكوفة كي تندرس أخباره، فليس بعد ذلك الاندفاع الذي اندفعوا إليه في بيعة الحسين علیه السلام وحثه على القدوم يكون هذا الصمت، بحيث حين أوقع عبيد الله بن زياد بمسلم بن عقيل تركوه في ساعاته الأخيرة بها و لا ملجأ يلجأ إليه، في وقت استطاع آخرون التخلص من إسار الحصار الذي ضربه ابن زياد، والتحقوا بركب أبي عبد الله الحسين علیه السلام كما سبق القول، وقدموا أرواحهم رخيصة بين يديه، فاحتلوا

ص: 86


1- الشيعة في الميزان 105 .
2- قتله أهل حمص ، وكان واليا عليها سنة أربع وستين حين دعا لابن الزبير ينظر: الاستيعاب 4 / 1496

مكانتهم في سفر كبار الخالدين من الشهداء.

وهو في النهاية قدر الله أراد أن يستشهد أبو عبد الله وأهل بيت-ه ك-ي يعي-د

للإسلام هيبته وشموخه.

ص: 87

فرسان معركة الثأر

خمسة من خيار صحابة أمير المؤمنين ومحبيه وقادة جيشه المخلصين تصدّروا قائمة التشيع بالكوفة قبل فاجعة الط-ف كانوا في مقدمة من كتب إلى أبي عبد الله الحسين علیه السلام يوم أعلن امتناعه عن بيعة يزيد، كما سبق القول، ولما استجاب لدعوتهم اختفت أصواتهم كما سبق القول أيضًا.

ويوم استعرض عبيد الله بن زیاد تلك الرؤوس الشامخة من آل بيت النبوة بقصره أفاق الشيعة من سكرتهم على أبشع جريمة ارتكبت في التاريخ، ولكنهم لم يحركوا ساكنا أيضًا، فغاب شجعانهم عن ذلك المسرح الرهيب، ولم يسمع في مجلسه وأثناء خطبته إلا صوتان سنأتي على ذكر هما وبعض الأصوات الحزينة الخافتة في بيوت أهلها.

هول الفاجعة والتخطيط للثأر

ومعلوم أن حدث استشهاد أبي عبد الله الحسين علیه السلام لم يكن بالحدث العابر في تاريخ تلك الحقبة من الزمن، ولا في تاريخ الإسلام، بل وحتى يوم الناس هذا، وسيبقى ما بقيت البشرية تبحث عن مخلص يخلصها من جور الظلمة واضطهادهم.

دخل عبيد الله بن زياد من معسكره إلى قصر الإمارة مزهوّا بالنصر الذي حققه لتثبيت حكم طاغية بني أمية، ولو كان على بينة بالبلاء الذي ينتظره في دنياه وآخرت-ه لم-ا فك-ر بالانحياز ليزيد وارتكاب ذلك الجرم الرهيب. وكان القتلة المجرمون من أتباعه فرحين بما سيقدمه أميرهم لهم من عطايا وهبات سب الرؤوس التي تحملها رماحهم، ولو كانوا يعلمون أيضًا بما ينتظرهم

ص: 88

من عقاب في دنياهم وآخرتهم لما فكروا في الالتحاق بجيش عمر بن سعد.

ولم ينبس مجلسه الذي جمع فيه جمع ممن تشم فيه رائحة ولاء لآل البيت وغيرهم بالكوفة ، وكان من بين الحضور الصحابي الجليل زيد بن أرقم الذي أدركه الهرم في ذلك اليوم الذي ما كان يتمنى أن يراه، ولما رأى ابن زياد ينكث بقضيبه ثنيتي أبي عبد الله علیه السلام لم يستطع صبرًا، فقال: (اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم انفضح الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد: أبك-ى الله عينيك! فلولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك؛ قال (الراوي): فنهض فخرج، فلما خرج سمعتُ - الراوي - الناس يقولون: والله لقد قال زيد بن أرقم قولاً لو سمعه ابن زياد لقتله؛ قال: قلت: ماذا قال؟ قالوا: مر بنا وهو يقول: ملك عبدٌ عبدًا، فاتخذهم تُلدٌا؛ أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم؛ قتلتم ابن فاطمة، وأمَّرتم ابن مرجانة، فهو يقتل

خياركم، ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذلّ، فبعدًا لمن يرضى بالذل )(1) .

كان ذلك الصوت اليتيم الذي سمع في المجلس من صحابي أدركته

الشيخوخة، على الرغم من ازدحام مجلسه بالشخصيات التي بايعت الحسين علیه السلام

وغدرت به.

وما إن انتقل إلى مسجد الكوفة الجامع لإلقاء خطبة النصر العامة حتى سُمِع صوت يتيم آخر تردد صداه في أرجاء المسجد بل مازال مدويًا حتى الآن؛ خطب ابن زياد فقال: (الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذاب بن الكذاب الحسين بن علي

ص: 89


1- أسد الغابة 212 ، وأنساب الأشراف / 208 ، وتاريخ الطبري 349/4، والكامل في التاريخ 81/4.

وشيعته) (1) ، وما إن وصل بخطبته تلك إلى هذا الموضع منها حتى قام عبد الله بن عفيف الغامدي - وهو من كبار صحابة أمير المؤمنين فقد إحدى عيني-ه في معركة الجمل، وفقد الأخرى في معركة صفين فقال: (يا بن مرجانة، إن الكذاب بن الكذاب أنت وأبوك ، والذي ولاك وأبوه؛ يا بن مرجانة، أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين ) (2) فوثبت جلاوزة ابن زياد لأخذه، فنادى بشعار الأزد - يا مبرور - فوثبت إليه فتية من الأزد فانتزعوه من أيديهم وأتوا به إلى أهله، وكأن ذلك المسجد ليس فيه من شيعة عليٌّ إلا عبد الله بن عفيف، بل كأن ذلك الجمع الغفير ليس فيه م-ن مسلم يردُّ عليه كذبه وبهتانه فأرسل ابن زياد من بعد إلى من جاء بعبد الله رضوان الله عليه م-ن الجلاوزة فقتله (3) من دون خوف أو وازع وعلى مرأى ومسمع من رجالات

الأزد وغيرهم.

تلك كانت أصوات رجالات الكوفة التي سمعت بها، على الرغم من

وجود بعض من قادة جيوش معارك أمير المؤمنين وأصحابه بها.

وإذا كانت هذه وضعية الكوفة، فعلى عكسها كانت وضعية المدينة المنورة

يوم ثارت من بعد سنة ثلاث وستين على حكم يزيد و انتقامًا لجرائمه وسلوكه المشين، حتى اضطر بنو أمية وبنو مروان إلى الهرب منها، والتجأت نساؤهم ومن لم يستطع الفرار منهم إلى حمى علي بن الحسين علیه السلام، فحماهم من الثوار على الرغم من الفاجعة التي فجعه بها ذلك النسل الدنس.

واستطاع قائد يزيد مسلم بن عقبة المرّي ومساعده الحصین بن نمير السكوني دخول المدينة في وقعة الحرّة واستباحتها في ذي الحجة سنة ثلاث

ص: 90


1- تاريخ الطبري 4/ 350 ، والكامل في التاريخ 82/4 .
2- المحبر 480 ، وتاريخ الطبري 4 / 350 ، والكامل في التاريخ 82/4 ونهاية الإرب 20/ 466 .
3- ترجمته في كتابي رجال من بقيع ثوية الكوفة 197 - 199.

وستين، وقتل غالبية سكانها من صحابة وتابعين من دون تفكير بقدسيتها ومكانتها، ولم ينج من تلك المذبحة إلا علي بن الحسين وأهل بيته ومن لجأ إليه أو استطاع الفرار منها إلى حيث لا تناله السيوف(1).

ولم يمهل المنتقم الجبار مسلمًا من عقابه فهلك بعد ثلاثة أيام من استباحته مدينة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في طريقه إلى مكة لاستباحتها أيضًا كما فعل بالمدينة وللقضاء على ثورة ابن الزبير (2).

وما هي إلا سنيات ثلاث حتى تزلزلت الأرض تحت أقدام دولة بني أمية،

فعصفت بها، وانتقمت من رموزها ومزقتها شر ممزق، ولم تبق لها من ذكر فاندحرت وذهب أثرها إلى لعنة الأجيال. وحتى قبورهم لم تنج من غضب الله ، فنبشت وأحرقت تلك العظام البالية التي بقيت فيها بعد استلام بني العباس الحكم سنة اثنتين وثلاثين ومائة للهجرة، بعد أن أكلت الحشرات ودود الأرض لحومهم.

هروب عبيد الله بن زياد من البصرة إلى الشام.

ولم يدم زهو عبيد الله بن زياد وجبروته طويلاً في العراق، فقد هلك يزيد وبهلاكه سحب البساط من تحته، ولم يكن قادرًا على البقاء في العراق؛ وذكر ابن طاووس رواية لم أقف عليها عند غيره مفادها أنه ما إن وصل خبر هلاك الطاغية، حتى ثار شيعة الكوفة، فوثبوا على دار ابن زیاد فنهبوها ونهبوا أمواله وخيله ، وقتلوا غلمانه، وكسروا حبسه وأخرجوا منه أربعة آلاف

ص: 91


1- ينظر: تاريخ خليفة 184 ، وفتح الباري 13 / 60 ، وشرح نهج البلاغة 3 259 ، وتاريخ مدينة دمشق 479/24.
2- ينظر: مجمع الزوائد 249/7 ، وفتح الباري 499/8 ، 13 / 60 ، وشرح ابن أبي الحديد 3/ 259 وأصدق الأخبار 10 وغيرها.

وخمسمائة رجل من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام، منهم سليمان بن صرد وإبراهيم بن مالك الأشتر وابن صفوان ويحيى بن عوف، وصعصعة العبدي وغيرهم. وتهيأ ذلك النفر للإمساك بعبيد الله بن زياد وقتله.

وما إن سمع ابن زياد بما فعله شيعة الكوفة بحسب الرواية حتى أزمع الهرب من البصرة، فارتقى منبرها، وأعلم الناس بهلاك يزيد - وكانوا على علم بذلك - وأعطاهم العطايا، ووكل خليفة له من بعده، وخرج رفقة أصحابه، فالتقاه عمرو بن الجارود(1)ببعض الطريق وأعلمه أنه مقتول لا محالة إلا بحيلة احتالها له، وهي أن يربطه على بطن ناقة يضع عليها القرب المنفوخة والأحمال ويسيرها وسط إبله، فلما التقاه سليمان وأصحابه، أنكر معرفته بمكان ابن زیاد وطلب منهم تفتيش القافلة، ففتشوها ولم يعثروا عليه ولما بعد عنه رَكْبُهم، حلّه من أسفل الناقة، فأعطاه ابن زياد عشرة آلاف دينار من الأموال التي نهبها من بيت مال البصرة. (2) والتحق ببلاد الشام.

وذكر الشيخ النمازي أن عبيد الله بن زياد حبس أربعة آلاف وخمسمائة من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام منهم سليمان وإبراهيم بن مالك وصعصعة وأمثالهم ، فلم يكن لهم سبيل إلى نصرة الحسين علیه السلام (3)، إلا أن روايته هذه تفتقر إلى سند يؤيدها، ولو صحت لكان لهذه المجموعة صوت بعد دخول مسلم بن عقيل الكوفة وقبل أن يدخلها ابن زياد.

وبعد مبايعة الكوفيين عبد الله بن الزبير واستيلائه على مقاليد الحكم في الحجاز

ص: 92


1- بحسب رواية ابن طاووس، ولم أقف عليها عند غيره.
2- اللهوف في قتلى الطفوف 153 - 154 .
3- مستدركات علم رجال الحديث 4/ 137 .

والعراق، هرع الشيعة (1) إلى ذلك النفر؛ وهم سليمان، والمسيب بن نجبة الفزاري وعبد الله بن وأل (2) ، وعبد الله بن سعد بن نفيل (3) ، ورفاعة بن شداد.

فاجتمعوا في منزل سليمان بن صرد (4)، ومعهم قرابة مائة رجل، بعد انجلاء جوّ الرعب الذي زرعه ابن زياد في نفوس الكوفيين، فابتدأ المسيب بالكلام فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد فإنا ابتلينا بطول العمر، فنرغب إلى ربنا في ألا يجعلنا ممن يقول له : «أَوَلَمْ نُعَمِرُكُم مَّا يَتَذَكَرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ»، وقد بلا الله أخيارنا فوجدنا كذابين في أمر ابن بنت نبينا، وقد بلغتنا كتبه وأتتنا رسله، وسألنا نصره عودًا ،وبدءًا، وعلانية ،وسرا، فبخلنا عليه بأنفسنا حتى قتل إلى جانبنا فلا نحن نصرناه بأيدينا، ولا خذلنا عنه بألسنتنا، ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة من عشائرنا ، فما عذرنا عند ربنا؟ لا عذر والله أو نقتل قاتليه والموالين عليه، وإنه لابد لكم من أمير تفزعون إليه، وترجعون إلى أمره وراية تحفون بها معه)(5).

وتكلم رفاعة بن شداد البجلي (6)، فحمد الله وأثنى عليه أيضًا، ثم قال: (دَعوَتَ إلى جهاد الفاسقين، والتوبة من الذنب العظيم، فمسموع ذلك عنك، ومقبول منك، وقلت : ولُّوا أمرتم رجلاً تفزعون إليه، وتطيفون برايته، وتطيعون له، فإن تكن ذلك الرجل تكن عندنا مرضيَّا منتصحًا، وإن رأيت ورأى أصحابنا ولينا هذا الأمر شيخ الشيعة، وصاحب رسول الله،

ص: 93


1- ينظر: أنساب الأشراف 364/6 .
2- تاريخ الطبري 4 / 426 - 428 ومروج الذهب 3/ 93 ، وتنظر تفاصيل أخر في أنساب - الأشراف 364/6 ، والاستيعاب 2 / 650 ، والبحار 355/45 .
3- ينظر الغارات 2 775 ، والكامل 189/4 .
4- الإصابة 144/3 .
5- أنساب الأشراف 364/6 ، وينظر أيضًا تاريخ الطبري 427/4 ، والكامل في التاريخ 159/4 ، والبداية والنهاية 271/8.
6- ترجمته في كتابي رجال من بقيع ثوية الكوفة 253 - 256.

وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد المحمود في دينه وبأسه، الموثوق برأيه وتدبيره. وتكلم عبد الله بن وأل، وعبد الله بن نفيل بنحو كلام رفاعة... فقال المسيب وأنا أرى مثل الذي رأيتم ، فولوا سليمان أمركم، فولوه عليهم وقلدوه رئاستهم) (1)؛ فخطب سليمان وقال: (إني أخاف ألّا نكون أُخَّرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة، وعظمت فيه الرزية لما هو خير لنا، نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبينا ونعدهم نصرنا، ونحثهم على المصير إلينا، فلما قدموا علينا ونينا وعجزنا وداهنًا وتربصنا حتى قتل ولد نبينا وسلالته وبضعة من لحمه، فاتخذه الفاسقون غرضًا للنبل، ودرية للرماح فلا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى الله عنكم ، بأن تناجزوا من قتله، وتبيروه، ألا ولا تهابوا الموت، فوالله ما هابه أحد قط إلا ذل، وكونوا كتوابي بني إسرائيل، إذ قال لهم نبيهم: ﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِيكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِبِكُمْ ؛ فا فعل القوم؟ جثوا والله للركب، ومدُّوا الأعناق، ورضوا بالقضاء حين علموا أنه لا ينجيه-م م--ن عظم الذنب إلا الصبر على القتل، فكيف بكم لو قد دعيتم إلى مثل ما دعي القوم إليه. اشحذوا السيوف، وركبوا الأسنة، وأعدوا ما استطعتم لعدوكم من قوة) (2) .

وبسبب حاجة جمهور من الموالين للسلاح والمؤونة تبرع بماله كله خالد بن سعد بن نفيل، وقال: (أما أنا فوالله لو أعلم أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي، ويرضى عنّي ربي لقتلتها، ولكن هذا أَمَرَ به قوم كانوا قبلنا، ونهينا عنه، فأشهد الله ومن حضر من المسلمين أن كلما أصبحت أملكه سوى سلاحي الذي أقاتل به عدوي صدقة على المسلمين أقويهم به على قتال

ص: 94


1- أنساب الأشراف 364/6 ، معجم رجال الحديث 19 / 180.
2- تاريخ الطبري 429/4، 5 / 137 ، والفتوح 75/7 ، وينظر تاريخ خليفة 212.

القاسطين) (1)، وقد استشهد هو وأخوه عبد الله بن سعد الذي حدا حدو أخيه بالتبرع بماله للمحتاجين منهم يتقوون به، وتابعهما أبو المعتمر حنش بن ربيعة الكناني (2)، والأسود بن ربيعة بن مالك الكندي (3). فقال سليمان من أراد التبرع منكم فليأت به عبد الله بن وأل التيمي.

وبعد استقرار رأيهم على أخذ الثأر أو الشهادة، حدَّدوا موعدًا لخروجهم، وكتب سليمان إلى رأس شيعة المدائن سعد بن حذيفة بن اليمان(4)، وإلى رأس شيعة البصرة المثنى بن محرمة العبدي(5) يعلمها بموعد خروجهم، وبما استقر عليه رأيهم (6)، فاستجابا لطلبه وأعلموه بموافاته في الموعد الذي حدده (7).

كان ابتداء أمرهم في آخر سنة إحدى وستين، وهي السنة التي استشهد بها أبو عبد الله علیه السلام (8)، وكان خروجهم الذي ضربوه لمن كتبوا إليه في مستهل شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين على أن يتوافوا ويجتمعوا بالنخيلة (9).

ص: 95


1- تاريخ الطبري 4 / 428 ، والفتوح 205/6 .
2- أحد أصحاب أمير المؤمنين ، وممن روى عنه ، وهو من و فرسان جيشه في معركة النهروان وقاتل الخارجي حرقوص بن زهير السعدي، وحجر بن عوضة الكندي. ينظر تاريخ الطبري ،4 / 428 ، والفتوح 205/6 ، وتاريخ الإسلام /6 / 240 ، وأنساب الأشراف 366/6 .
3- قد يكون من فرسان الفتوح، وذكره ابن خلدون مع الصحابة ينظر تاريخ الطبري 4 / 426 - 427 ، وأنساب الأشراف 6 / 366 ، تاریخ ابن خلدون 2 / 112 ، واللباب في تهذيب الأنساب 129/1 .
4- ترجمته في كتابنا الثوية بقيع الكوفة 1/ 285 - 289 .
5- ترجمته في المصدر السابق 2 / 216 - 217 .
6- تاريخ الطبري 4 / 430 وأنساب الأشراف 364/6.
7- تاريخ الطبري 431/4 .
8- تاريخ الطبري 4 / 426، 431 ، والبحار 355/45 .
9- تاريخ الطبري 430/4 وما بعدها، ينظر ومروج الذهب 3/ 93 وأنساب الأشراف 364/6 .

وروي أن اجتماعاتهم كانت دورية كل جمعة في بيت سليمان بحسب حميد بن مسلم (1)، وعلى أغلب الظن كانت بعد هروب عبيد الله بن زياد فيما أحسب .

هلك يزيد في شهر ربيع الأول يوم الخميس لأربع عشرة خلت منه سنة أربع وستين (2)، وفي تلك السنة انفلت زمام الحكم من بني أمية، وكادت تخلص الشام لابن الزبير أيضًا، وكاد مروان يبايعه (3)، ولكن بويع له بالجابية بعد أمور يطول شرحها؛ وبويع لابن الزبير بالحجاز والعراق.

أما أهل الكوفة فقد انقسموا على فرقتين فرقة انحازت لابن الزبير فبايعته، وقد انضوي تحت لوائها جمهور من الكوفيين في مقدمتهم جميع من شارك في قتال أبي عبد الله علیه السلام كعمر بن سعد وشبث بن ربعي وشمر بن ذي الجوشن وخولي بن يزيد الأصبحي، وبكير بن حمران وزيد بن الرقاد الجنبي وسنان بن أنس الأصبحي وحكيم بن طفيل الطائي، وبلال بن أسيد، وغيرهم عشرات (4) ، وفرقة انحازت إلى سليمان وأصحابه ليس لها من هم إلا الثأر من قتلة أبي عبد الله الحسين علیه السلام، ولم تستطع حسم الأمر بالكوفة لصالحها، وفي النهاية سلمت الكوفة أمرها لابن الزبير وبايعته على الرغم من كثرة أنصار سليمان.

وكان بين استشهاد أبي عبد الله علیه السلام وهلاك يزيد ثلاث سنوات وشهران وأربعة أيام (5) . ويوم هلك كان عبيد الله بن زياد بالبصرة، وخليفته بالكوفة عمرو

ص: 96


1- ترجمته في كتابنا الثوية بقيع الكوفة 1 / 238 - 240 ، وهو راوي أخبار استشهاد أبي عبد الله من قبل، وراوي أخبار ثورة التوابين من بعد، والمشارك بها وينظر تاريخ الطبري 428/4.
2- تاريخ الطبري 383/4.
3- ينظر: الكامل في التاريخ 145/4 ، والبداية والنهاية 261/8 ، ونهاية الإرب 48/21 .
4- هؤلاء وغيرهم عشرات ترجمنا لهم في كتابنا الثوية بقيع الكوفة.
5- تاريخ الطبري 4324 ، وتاريخ مدينة دمشق 458/27 .

بن حريث المخزومي (1)، فطلب أصحاب سليمان منه الوثوب عليه بالكوفة، وإظهار الطلب بدم ،الحسين، وتتبع قتلته من مثل عمر بن سعد وغيره،

ولاسيما بعد أن تكاثرت أعدادهم وتوسع نشاطهم (2)؛ ولم يكن من رأي سليمان الخروج بالكوفة فقال: (رويدا لا تعجلوا، إني قد نظرت فيما تذكرون، فرأيت أن قتلة الحسين هم أشراف الكوفة ، وفرسان العرب، وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون علموا أنهم المطلوبون، فكانوا أشد شيء عليكم وقد نظرت في من معي منكم، فعلمت أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا نفوسهم، ولم ينكؤوا في عدوهم، وكانوا لهم جزرًا، ولكن بثوا دعاتكم

فإني أرجو أن يكون الناس أسرع استجابة حيث هلك هذا الطاغية) (3).

أما أنصار ابن الزبير فبايعوه، وطردوا عمرو بن حريث المخزومي (4) وولوا

عليهم عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الجمحي الذي بايع لابن الزبير (5) بانتظار وصول واليه. وهو أمر لم يستطع اغتنامه شيعة الكوفة لا مع عبيد الله بن زیاد من قبل ولا مع عمرو بن حريث من بعد، وإن كانت رواية سبق ذكرها تذهب إلى أنهم هجموا على دار عبيد الله بن زیاد فهدموها وكسروا سجنه، ولاحق-وه عند فراره من البصرة.

وروي أيضًا أن عبد الله بن سعد بن نفيل طلب أيضًا القيام بالكوفة، ولكن سليمان قال: إن هذا لكما قلت ولكن ابن زیاد هو الذي سرّب إليه عمر بن سعد ،والجنود، وعبّأهم عليه ، وقال : لا أمان له عندي، فسيروا إليه

ص: 97


1- رجمته في كتابي الثوية بقيع الكوفة 1/ 131 - 133.
2- تجارب الأمم 2/ 109، 114 .
3- المصدر السابق 1082 - 109 .
4- الثوية بقيع الكوفة 1/ 198.
5- تاريخ مدينة دمشق 458/37 ، وينظر في ترجمته أسد الغابة 3/ 95 ، وتهذيب الكمال 175/14 ، الإصابة 3/ 488.

فإنكم إن رزقتم الظفر به فأمر من دونه أهل مصركم أيسر أمره) (1). وقد أصاب سليمان وظفر لو أن جميع من بايعه خرج معه يوم خرج لسارت الأمور بالطريق التي رسمها

وبعد وصول والي ابن الزبير عبد الله بن يزيد الخطمي (2)بثمانية أيام قدم المختار من مكة، وبدأ دعوته بالكوفة أيضًا، فلم يجد استجابة مهمة بسبب اجتماع الشيعة على سليمان.

ولم يكن من رأي المختار خروجهم، ورأى أن سليمان سيأخذ بأيديهم إلى

التهلكة، ولم يكن باستطاعته الخروج بالكوفة أيضًا حتى ير إليه أمر سليمان (3)، إلا أنه أثر على جماعة سليمان فثبط عزيمة كثر منهم فانحازت طائفة منهم إلى صفَّه.

كان قدوم عبد الله بن يزيد الخطمي واليَّا، ومعه إبراهيم بن محمد بن طلحة على خراجها لثمان بقين من رمضان، قبل مقدم المختار بثمانية أيام كما سبق القول . وفي حينها اجتمع رؤوس القراء ووجوههم على سليمان فليسوا يعدلون به (4). وحين أخبر الخطمي بنشاطه وما يدعو إليه، خطب الناس فقال: (إن قومًا اجتمعوا للطلب بدم ،الحسين فرحم الله الحسين، ورحم هؤلاء القوم، والله لقد دللت على أماكنهم وعليهم، فأبيت أن أهيجهم، والله ما قتلت الحسين ولا مالات على قتله وما أحببته، فلعن الله قتلته، فليظهر هؤلاء القوم آمنين ليسيروا إلى قاتل الحسين وقاتل خياركم وأماثلكم، فقد أقبل إليكم فإن عهد العاهد به على مسيرة ليلة من منبج، فقتاله والاستعداد

ص: 98


1- أنساب الأشراف 368/6.
2- ترجمته في الاستيعاب 3/ 1001 ، والجرح والتعديل 197/5 .
3- تاريخ الطبري 433/4 .
4- أنساب الأشراف 6/ 364، وتاريخ مدينة دمشق 37/ 458.

له أحزم وأشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم؛ ولكن ابن طلحة قام حين فرغ يزيد من كلامه فقال : لا يغرنّكم مقالة هذا المداهن، فوالله لئن خرج علينا خارج لنقتلنَّه ؛ فقطع عليه المسيب بن نجبة كلامه فقال : يا بن الناكثين، أنت تهددنا بسيفك وغشمك ! أنت والله أذل من ذلك؛ إنا لا نلومك على بغضنا، وقد قتلنا أباك وجدك، والله إني لأرجو ألا يخرجك الله من بين ظهراني أهل هذا المصر حتى يثلثوا بك جدك وأباك وأما أنت أيها الأمير فجزاك الله خيرًا، فقد قلت قولاً سديداً... ثم إن أصحاب سليمان انتشروا يشترون السلاح، ويتجهزون ظاهرين لا يخافون أحدًا) (1).

وحين علم عبد الله وابن طلحة أن سليمان خارج لعبيد الله بن زياد لا محالة طلبا اللقاء به، فجاء رفقة أشراف أهل الكوفة ليس بينهم من شرك بحرب الحسين علیه السلام، وكان عمر بن سعد خلال تلك الأيام يبيت في قصر الإمارة مخافة أن يأتيه القوم وهو غافل فيقتلونه (2). ولما دخلا عليه أشادا بمكانته ومنزلته وشجاعة من معه، وطلبا منه البقاء حتى يأتيهم ابن زیاد ليقاتلاه معاً فاعتذر منهما وأصرَّ على الخروج. ولما يئسا من بقائه طلبا منه الانتظار كي يجهزا جيشًا يخرج معه لمقاتلة عدوهم المشترك، فكره سليمان ذلك، لأن النصر إن كان سيكون نصرًا لابن الزبير وسيضطرون من بعد إلى مبايعته وهذا ما لا يريده ولا يريده أصحابه (3).

ص: 99


1- تاريخ الطبري 4 / 435 ، وانساب الأشراف 367/6 - 368 ، والكامل 164/4 .
2- ينظر: الكامل في التاريخ 177/4 .
3- تاريخ الطبري 453/4 - 456 ، وأنساب الأشراف 369/6 ، وتجارب الأمم 2/ 115، والبداية والنهاية 277/8 .

الطريق إلى الخلود

مع هلال شهر ربيع الآخر من سنة خمس وستين للهجرة، خرج سليمان إلى النخيلة؛ وحين خرج لم يلتحق به إلا قرابة أربعة آلاف من بايعه، فلما رأى قلتهم استغرب فعلتهم ، وكان عدد مبايعيه ستة عشر ألفا، فأعلمه حميد بن مسلم(1) أن المختار يثبط عزيمتهم، وقد التحق به قرابة ألفين ممن بايع سلیمان؛ فبعث حكيم بن منقذ العبدي والوليد بن حصين الكناني (2) في جماعة من الفرسان، وطلب منهما دخول الكوفة والنداء بشعار (يا لثارات الحسين) (3)، فلما بلغا المسجد ناديا بذلك الشعار المدوي، وهي المرة الأولى التي يتردد صداه في أروقة الكوفة ومسجدها، واستمر سليمان يراسل مبايعيه ثلاثة أيام فخرج إليه منهم ألف أو نحو ألف تسربوا في أثناء الطريق من بعد، فقام إليه المسيب فقال : ( يرحمك الله إنه لا ينفعك المكره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية والحسبة، ومن فرّ إلى ربه من ذنبه ) (4). ومما يروى أيضًا أن عبد الله بن خازم الأزدي - ولم يكن من أصحاب سليمان - حينما سمع النداء دعا بسلاحه وأمر بإسراج فرسه، فحاولت امرأته منعه من الخروج وكانت جميلة أثيرة على قلبه، فلم تستطع ثنيه عن عزمه، والتحق بركب التوابين. وحين سمع كرب بن نمران النداء أيضًا وهو في المسجد خرج وعاد إلى بيته وركب

فرسه والتحق بالركب أيضًا (5).

ومن الشخصيات التي كانت تحث على الالتحاق بركب سليمان الشاعر

ص: 100


1- ترجمته في كتابي خلف أسوار الكوفة 251 - 267 .
2- ينظر مستدركات علم رجال الحديث 249 .
3- تجارب الأمم 2/ 113 .
4- تاريخ الطبري 4 / 452 ، وأنساب الأشراف 368/6 .
5- تاريخ الطبري 451/4 - 454 ، وينظر أيضًا مستدركات أعيان الشيعة 2/ 162 .

عوف بن عبد الله بن الأحمر (1) ، قال في قصيدة طويلة رثى بها أبا عبد الله

الحسين علیه السلام:

صحوت وودعت الصبا والغوانيا وقلت لأصحابي أجيبوا المناديا وقولو

له إذا قام يدعو إلى الهدى وقبل الدعا لبيك لبيك داعيا (2)

وبعد خروج سليمان تعاظم أمر المختار بالكوفة، فذهب عمر بن سعد بن أبي وقاص وشبث بن ربعي وغيرهما إلى الخطمي والي ابن الزبير وأعلاه بأمره، وإنه أكثر خطرًا عليه من سليمان، فأرسل إليه الشرط فأحاطوا بداره، وسجنه (3)

ص: 101


1- من أصحاب أمير المؤمنين ، وكان معه بصفين، ترجمته في الإصابة 5 / 128 ، والذريعة 21/ 218 .
2- في مروج الذهب 93/3 هو عبد الله.
3- البداية والنهاية 274/8 ، وكتبت عن المختار وسيرته بحثا نشرته في كتابي رجال من بقيع ثوية الكوفة 229 - 250 .

الطريق إلى معركة الثأر

حين وصل سليمان وأصحابه إلى قبر أبي عبد الله الحسين علیه السلام لتوديعه، والاعتذار منه عما ارتكبوه بحقه من ذنب، صاحوا صيحة واحدة ( يا رب إنا قد خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا ما مضى، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسينًا وأصحابه الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك يارب إنا على مثل ما قتلوا عليه فإن لم تغفره لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، فأقاموا عنده يومًا وليلة يبكون ويتذرعون، حتى صلوا الغداة

الغد عند قبره.. فأمر سليمان أصحابه بالركوب... قال الراوي أبو صادق فوالله لرأيتهم ازدحموا على قبر الحسين أكثر من ازدحام الناس على الحجر الأسود) (1)( وقال سليمان (يا رب إنا خذلناه فاغفر لنا وتب علينا) (2) وقام عبيد الله بن الحر الجعفي وأنشد أبيات وهب بن زمعة الجمحي في رثاء أبي

عبد الله علیه السلام ، منها :

إليك أخا الصبّ الشجي صبابة

تذيب الصخور الجامدات همومها

عجبت وأيام الزمان عجائب

ويظهر بين المعجبات عظيمها

تبيت النشاوى من أمية نوّمًا

وبالطفٌ قتلى ما ينام حميمها

ص: 102


1- تاريخ الطبري 455/4 - 456 ، ومقتل الحسين 290 .
2- تاريخ الطبري 457/4 ، والكامل ،4 / 178 ، والفتوح 214/6، وتاريخ الإسلام 46/5، وأصدق الأخبار 281 .

وتضحى كرام من ذؤابة هاشم

يحكم فيها كيف شاء ذميمها (1)

ومما يدعو إلى التنويه أن سليمان وأصحابه حينما نزلوا على قبر أبي عبد الله علیه السلام بذلك الحشد الكبير لا بد أنه لم يكن دارسًا، ولو كان لما استطاعوا الاحتشاد عليه، ولا شك أن ربوة كانت عليه، أو كان معلّمًا بحجارة أو علامة واضحة معروفة للزائرين يستدل بها على القبر الشريف، وتمثل تلك العلامة التي لا نستطيع تصورها ولا معرفة من قام بعملها على وجه التحديد، ولا يوجد بين أيدينا مصدر موثوق يشير إليها، أول محاولة لتعليم القبر المقدس. ولعل الأسديين الذين دفنوا تلك الأجساد الطاهرة هم من قام بذلك، ولا شك أنه لم يكن هناك من بناء عليه، وما ذكر في هذا الاتجاه بذلك التاريخ لا يعول عليه (2) .

وكان سليمان آخر الباقين على مرقده الشريف هو ونحو ثلاثين من

أصحابه، فقالوا وتوسلوا واستغفروا ثم التحقوا بأصحابهم(3)، ومنها إلى الأنبار ثم الصدود، فلما وصل القيارة(4)، لحقه بها المحِلُّ بن خليفة الطائي حفيد عدي بن حاتم(5) ومعه رسالة من عبد الله بن يزيد والي ابن الزبير يذكر فيها مكانتهم في

ص: 103


1- أعيان الشيعة 281/10 .
2- ذكر السيّد محسن الأمين في كتابه أعيانة الشيعة 1 / 627 إن الأسديين أول من بنى القبر الشريف، ولا أظنه يعني بالبناء ما يتعارف عليه.
3- في معجم البلدان 263/2 ، من قرى السواد من أعمال الكوفة.
4- مدينة قرب الموصل معروفة ينبع منها القار، وفيها عين ماء فوارة يستحم بها طلبًا للشفاء ينظر معجم البلدان 491/4 .
5- ترجمته في كتابنا الثوية بقيع الكوفة 2/ 219 - 220 .

مصر هم، ويدعوهم إلى اجتماع كلمتهم لمحاربة عدوهم، فأجابه سليمان برسالة شکره بها، وأعلمه أنهم ماضون إلى ما عزموا عليه (1) .

وصل سليمان وأصحابه إلى قرقيسيا (2)، وكان على حصنها زفر بن الحارث الكلابي، وقد تحصن ولم يخرج إليهم ، فبعث إليه سليمان المسيب، وهو من أقربائه، لشراء ما يحتاجون إليه، فلما علم به قال لولده : أما تدري أي بني من هذا؟ هذا فارس مضر الحمراء كلها (مضر الحمراء-الجد السابع عشر للنبي صلی الله علیه و آله وسلم)، وإذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم، وفتح له باب الحصن وأجلسه إلى جانبه ، فحدثه المسيب عن غايتهم ، وحاجتهم إلى شراء ما يحتاجونه من سوقهم، فموَّنهم بما يحتاجون إليه ، وأمر للمسيب بفرس وعشرة آلاف درهم، فأخذ الفرس واعتذر عن أخذ الدراهم، وأمر لسليمان بمثل ما أمر به للمسيب، وأكرم وجوه أصحابه وعرض عليهم البقاء ودخول الحصن أو أن يعسكر معهم بانتظار عدوهم المشترك، فاعتذر المسيب، وأعلمه أن أهل مصر هم أرادوا ذلك منهم ولكنهم لم يستجيبوا لهم؛ ولما يئس من بقائهم أعلمهم أن ابن زياد قد بعث خمسة أمراء من جيشه فصلوا من الرقة، وهم الحصين بن نمير السكوني (3)، وشرحبيل ذو الكلاع، وأدهم بن

ص: 104


1- تاريخ الطبري 457/4 .
2- في معجم البلدان 328/4 بلدة على نهر الخابور عند مصبه بنهر الفرات.
3- قتله شريك بن خزيم أحد شجعان جيش إبراهيم بن مالك الأشتر، حين أرسله المختار لقتل عبيد الله بن زياد والقضاء على جيشه، وينظر البحار 381/45، ففيه أبيات لشريك، وتفاصيل مصرع الحصين.

محرز الباهلي(1) ، وربيعة بن مخارق الغنوي (2)لم أقف على ترجمته. (3)، وجبلة بن عبد الله الخثعمي وجميعهم من أشد أعداء الشيعة؛ وأشار عليهم زفر بمبادرة القوم في عين الوردة، لاختيار المكان المناسب للقتال، ولاسيما أن جميع من كان مع سليمان هم من الفرسان وطلب منهم سرعة المسير إليها قبل أن يحتل جند ابن زياد المكان الذي يناسبهم فيها (4).

وإذا كان قوام جيش عبيد الله بن زياد قارب الستين ألف أو تجاوزه فسيكون قوام كل أمير من أمراء جيشه عشرة آلاف مقاتل أو أكثر من ذلك، أي أن كل أمير جيشه أكثر من ضعف جيش التوابين.

ولا أدرى متى علم سليمان وأصحابه بهلاك مروان بن الحكم أقبل وصولهم إلى قرقيسيا أو بعدها، فقد روي أنه لما وصل جيش التوابين الجزيرة بلغهم هلاك مروان بن الحكم، وكان هلاكه في رمضان، فتولى الحكم من بعده ولده عبد الملك بوصية من أبيه، ومروان هو الذي أنفذ عبيد الله بن زياد، وعقد له وقال له كل بلد افتتحته فأنت أميره، فلم يبلغ الجزيرة حتى مات مروان، فقلده عبد الملك م-ا قل-ده أبوه، وأعطاه مثل الذي أعطاه من الولاية(5).

ص: 105


1- عده الشيخ الطوسي من أصحاب أمير المؤمنين ، وسوء عاقبته حرفه إل معاوية وبني مروان من بعد، وفي معركة صفين كان في جيش معاوية، وبارز شمر بن ذي الجوشن فشجّه، وعاد إليه شمر فصرعه ينظر طبقات بن سعد 293/4 ، وتاريخ الطبري 6 / 470 و تاريخ مدينة دمشق 58 / 195 ، ومعجم رجال الحديث 177/3 .
2- قتله عبد الله بن ربيعة الأسدي
3- أحد فرسان جيش إبراهيم بن مالك الأشتر، ينظر: الكامل في التاريخ 229/4.
4- تاريخ الطبري 459/4 .
5- أنساب الأشراف 417 ، تاريخ مدينة دمشق 37/ 458 ، والبداية والنهاية 281/8 .

أيام معركة الثأر

نزل سليمان غربي عين الوردة (1)، فعبأ كتائبه، واستراح قبل وصول جيش ابن زياد، فلما علم بقرب وصوله، قام فخطب بأصحابه، وذكرهم أسباب خروجهم، وطلب منهم السير بسيرة أمير المؤمنين علیه السلام في جيشه ؛ ثم أوصاهم بأنه إذا قُتِلَ فأمير القوم المسيب، فإن أصيب فالأمير عبد الله بن سعد بن نفيل ، فإن أصيب فالأمير رفاعة بن شداد واصطحب معه من الكوفة ثلاثة من القصاصين في مقدمتهم أبو جويرية العبدي، كي يطوفوا بالناس ويحرضوهم على القتال. وكان جويرية يدور فيهم، ويقول: أبشروا عباد الله بكرامة الله ورضوانه فحقّ والله لمن ليس بينه وبين لقاء الأحبة ودخول الجنة إلاّ فراق هذه الأنفس الأمارة بالسوء، أن يكون بفراقها سخياً، وبلقاء ربه مسرورًا)(2) .

ثم بعث سليمان المسيب طليعة في أربعمائة فارس، وطلب منه شن الغارة على أوّل عسكر ابن زياد، وكان في خيل المسيب حُمّيد بن مسلم راوي أغلب أخبار التوابين، كما روى من قبل أحداث يوم الطف، قال: فسرنا يومًا وليلة، وهومنا عند الفجر بمقدار ما أكلت دوابنا علفها، ثم صلينا الصبح.

قسم المسيب جيشه على أربعة أقسام، مائة فارس بقيادة أبي جويرية بن الأحمر (3)، ومائة وعشرين بقيادة عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي (4)، وهو من فرسان معركة صفين (5) ومثلها بقيادة حنش بن ربيعة الكناني وهو ممن

ص: 106


1- معجم البلدان 4 / 180.
2- عن أعيان الشيعة 318/2 .
3- ينظر: الغارات ،774/2 ، وذوب النضار 85، 91،
4- ينظر البحار 359/45، 362
5- منهاج البراعة 305/4.

روى عن أمير المؤمنين علیه السلام (1) وقيل : إنه من الصحابة (2)، وبقي هو في مائة، وطلب منهم أن يأتوه بأول من يلتقونه كي يعرف أخبار جيش بن زياد. قال حمید بن مسلم فلقينا أعرابيًّا يقول:

يا مال لا تعجل إلى صحبي *** واسرح فإن ك آمن السرب

فتفاءل القوم واستبشروا وسألوه، فأخبرهم أن أدنى عساكر بن زیاد منهم هو عسكر ابن ذي الكلاع، لا يبعد عنهم أكثر من ميل واحد، وهو في قرابة عشرة آلاف مقاتل

أو يزيدون.

فهجموا عليهم وهم غارون ، ولم يستطع جيشه الصمود أمام أصحاب لمسيب، إذ مزقوهم، وقتلوا وجرحوا، ولم يُنَجِّ ابن ذي الكلاع من سيوفهم إلا الهرب ببقية الهاربين من أصحابه، وتركوا عسكرهم نهبًا للمسيب وفرسانه فأخذوا ما خف حمله منه . والتحق فرسان المسيب غانمين بأميرهم.

فلما علم ابن زياد بتلك الهزيمة المنكرة بعث الحصين بن نمير في اثني عشر ألف مقاتل، والحصين صاحب شرطته يوم كان واليا على الكوفة إبان خروج أبي عبد الله الحسين علیه السلام من مكَّة؛ وكان من بعد مع مسلم بن عقبة المرّي الذي أرسله يزيد لاستباحة المدينة والهجوم على مكة لقتل ابن الزبير(3).

فخرج سليمان للحصين بمن معه يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الأولى، وجعل عبد الله بن نفيل على ميمنته والمسيب على ميسرته، ووقف

ص: 107


1- ترجمته في كتابنا الثوية بقيع لكوفة 1 / 240 .
2- ترجمته أيضًا في كتاب أصحاب الإمام علي 387/1.
3- ينظر طبقات بن سعد 4 / 293 ، 5 / 68، 6 / 216 ، والأخبار الطوال 258 - 259 ، 267 ، وتنظر مواضع كثيرة في تاريخ مدينة دمشق وغيره.

هو في القلب. فلما دنا عسكر الحصين دعوهم إلى بيعة عبد الملك بن مروان والدخول في طاعته، ودعاهم سليمان إلى تسليمهم ابن زياد، وخلع عبد الملك، وإخراج بن الزبير من البلاد وردّ الأمر إلى أهل بيت النبي صلی الله علیه و آله وسلم.

قال :حميد ونشبت الحرب فحملت ميمنة سليمان على ميسرتهم، وميسرته على ميمنتهم، وحمل سليمان على القلب فهزمناهم إلى عسكرهم، واستمر القتال إلى أن حجز بيننا الليل ؛ قال : وفي الصباح أمدهم عبيد الله بن زياد بثمانية آلاف مع ابن ذي الكلاع (1) ، فقاتلناهم قتالاً لم ير أحد مثله حتى المساء، فأكثروا فينا الجراح وأكثرناها بهم واقتتلنا في اليوم الثالث يوم الجمعة قتالاً شديدا، ثم إن أهل الشام كاثرونا وتعاطفوا علينا من كل جانب، ولكن کثر تهم لم ترهب سليمان وفرسانه الأشاوس ، إذ كسر جفن سيفه يقاتلهم، والتحق به فرسان كثيرون فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة، فلما رأى الحصين ما فعله أصحاب سلیمان بهم أمر جيشه برميهم بالنبال؛ ورمى يزيد بن الحصين بن نمير سليمان بسهم فقتله، فقال: فزت ورب الكعبة (2)؛ بعد أن قتل من القوم مقتلة عظيمة، وأبلى وحثّ وحرّض(3)، فعل كل ذلك على الرغم من تجاوزه التسعين، فأية شجاعة تمتع بها هذا المجاهد العظيم، الذي لم يستطع مواجهته يزيد بن الحصين كما يفعل الشجعان النجباء، وإنما ختله بسهم جبان من بعيد من دون أن يشعر به سلیمان و فرسانه(4).

فأخذ الراية من بعد ذلك الفارس الشجاع المسيبُ بن نجبة الذي هزم

ص: 108


1- أنساب الأشراف 371/6 .
2- الطبقات الكبرى 4 / 292 ، وينظر مجمع الزوائد 2497 ، والاستيعاب 2 / 650 ، وتهذيب الكمال 11 / 456 ، وذكره الرازي في كتابه الجرح والتعديل 255/9 مع من روى عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، وهو الذي حمل رأسي سليمان والمسيب بن نجبة الفزاري إلى عبد الملك بن مروان ينظر تهذيب التهذيب 4 / 175 وغيره.
3- مروج الذهب 3/ 94
4- مروج الذهب 3 / 96 ، والكامل 189/4 .

جيش ذي الكلاع من قبل، وشد على القوم مرارًا، ثم استشهد رضوان الله عليه، فأخذ الراية من بعده عبدُ الله بن سعد بن نفيل، فأقبل بمن كان معه من الأزد، قال :حميد ونحن على تلك الحال وصل إلينا ثلاثة فرسان طليعة من أصحاب سعد بن حذيفة بن اليمان.

وحمل ربيعة بن مخارق على عبد الله بن سعد، فطعنه برمحه فذهب حميدًا كصاحبيه رضوان الله عليه، وحمل عبد الله بن عوف بن الأحمر على ربيعة بن مخارق، فصرعه، وكاد يقتله لولا أن أصحابه استنقذوه.

وروى المجلسي أن عبد الله حين أخذ الراية حمل على القوم وهو يقول:

ارحم إلهی عبدك التوابا *** ولا تؤاخذه فقد أنابا

وفارق الأهلين والأحبابا *** يرجو بذاك الفوز والثوابا

فلم يزل يقاتل حتى استشهد رضوان الله عليه، ثم تقدم أخوه خالد بن سعد بالراي-ة، وحرض أصحابه على القتال، وسأل عن قاتل أخيه، فقيل له : إنه ابن أخي ربيعة بن مخارق فحمل عليه فقنعه بالسيف واعتنقه الآخر، فخرَّ إلى الأرض، وأنقذه أصحابه (1) ؛ وقاتل خالد حتى قتل (2)، وسقطت الراية منه ونادوا عبد الله بن وأل فحملها، وقاتل إلى أن استشهد رضوان الله عليه(3(3).

وحين استشهد أخذ القيادة رفاعة، وطلب الانسحاب من الباقين من أصحابه بسبب كثرة قتلاهم وجرحاهم، وقلة الباقين منهم، وكثرة جيش عدوهم فاقترح عليه عبد الله بن عوف بن أحمر (4)الانتظار إلى الليل للتمكن

ص: 109


1- تاريخ الطبري 467/4 .
2- بحار الأنوار 361/45
3- تاريخ الطبري 467/4 .
4- من فرسان جيش أمير المؤمنين ، وكان معه بوقعة صفين، ترجمته في الثوية بقيع الكوفة

(1)

من حمل الجرحى والمسير من دون أن يشعر بهم جند ابن زیاد (2).

وقد شهدت تلك الواقعة في ثلاثة أيام بطولات كلها في مجد التوابين(3)، وكانت ملحمة من الملاحم الكبرى في تاريخ تلك الفترة العاصفة من تاريخ

الإسلام.

وحمل أدهم بن محرز الباهلي (4)رأسي سليمان والمسيب إلى عبد الملك بن مروان، وكان سليمان يوم استشهد ابن ثلاث وتسعين سنة (5). فلما بشره بتلك الجريمة صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد فإن الله قد أهلك من رؤوس أهل العراق ملقح الفتنة ورأس الضلالة سليمان بن صرد، ألا وإن السيوف تركت رأس المسيب بن نجبة خذاريفه)(6)، ألا وقد قتل الله من رؤوسهم رأسين عظيمين ضالين مضلين عبد الله بن سعد أخا الأزد، وعبد الله بن وال أخا بكر بن وائل، فلم يبق بعد هؤلاء أحد عنده دفاع ولا امتناع) (7) . ولم يلتفت عبد الملك لجثث الآلاف المؤلفة من جيشه التي تركت فوق الثرى.

وبسبب تقارب زمان هلاك مروان وتولية عبد الملك ووقعة عين الوردة

اختلط الأمر عند بعض المؤرخين فظنوا وقوعها في حياة مروان(8) .

واختلط الأمر اختلاطًا غريبًا عند ابن حبان أيضا في كتابيه الثقات

ص: 110


1- 124 - 125 ، وينظر أنساب الأشراف 5/ 165 ، وشرح نهج البلاغة 319/3.
2- تاريخ الطبري 4 /460 - 462 ، وينظر التنبيه والإشراف ،269 ، ومروج الذهب 3 / 94 .
3- مروج الذهب 3 / 94 - 96 ، والكامل 183/4 ، وتاريخ مدينة دمشق 197/58 برقم 7440
4- الغارات 775/2 .
5- الطبقات الكبرى 4 / 292 ، 6 / 25 ، والاستيعاب 2 / 650 وتهذيب الكمال 456/11 ، والإصابة 3 / 144 وتاريخ خليفة 201 ، وتاريخ مدينة دمشق 58/ 200 ، والإصابة 3 / 144 .
6- خذاريف: قطع.
7- تاريخ مدينة دمشق 466/7 .
8- تهيب التهيب 4 / 175 .

والمشاهير ، فجاء برواية غاية في التحريف والتشويه مفادها أن سليمان (قتل مع المختار بن أبي عبيد بعين الوردة في رمضان سنة سبع وستين، وكان مع الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما، فلما قتل الحسين انفرد من عسكره تسعة آلاف نفس فيهم سليمان بن صرد وقالوا: نحن التوابون، قتلهم كلهم عبيد الله بن زياد وكان فيهم المختار بن أبي عبيد ) (1). ولا أدري كيف تلفّقت هذه الرواية عنده.

وقد رثى ذلك النفر المجاهد أعشى همدان بقصيدة كانت تقرأ سرَّا بين

أتباع أهل البيت في ذلك الزمن ؛ مطلعها(2):

المَّ خيالٌ منكِ يا أمَّ غالبٍ *** فحُيَّتِ عا من حَبِيبٍ مجانب

وجاء فيها:

وأضحى الخزاعي الرئيس مجدَّلاً *** کأن لم يقاتل مرّة ويحارب(3)

وما عرضته يمثل إطلالة على أحداث كثيرة متشابكة لا تستوعبها عجالة، أريد من ورائها تسليط كوة من ضوء على مرحلة غاية في الأهمية من تاريخ الكوفة المليء بالأحداث خلال القرن الأول الهجري.

ص: 111


1- الثقات 3 /160 ، ومثله في مشاهير علماء الأمصار 81.
2- القصيدة في تاريخ الطبري 471/4 - 472 ، وينظر مروج الذهب /3/ 95 ، والكامل 4 / 186 .
3- مروج الذهب 3 / 96 ، والكامل 189/4.

مصادر البحث ومراجعه

- الأخبار الطوال ابن قتيبة الدينوري« ت 282ه-»، مصور على قرص

أصدرته مكتبة آل البيت علیهم السلام لتحقيق التراث سنة 1426ه-.

- الإرشاد الشيخ المفيد (ت 413 ه-)، تحقيق مؤسسة آل البيت لتحقيق

التراث، ط 2 ، نشر دار المفيد 1993م.

- الاستذكار، ابن عبد البر (ت 463ه-)، مصور على قرص أصدرته

مؤسسة آل البيت علیهم السلام لتحقيق التراث سنة 1426ه-.

- الاستيعاب ابن عبد البر (ت 463 ه-)، تحقيق علي محمّد البجاوي، دار

الجيل بيروت 1992م.

- أسد الغابة ابن أثير ت 630ه- » ، طبعة انتشارات اسماعیلیان، طهران.

- الإصابة لابن حجر العسقلاني ت 852ه- ، تحقيق عادل عبد الموجود.

- أصحاب الإمام علي السيّد أصغر ناظم زادة، ترجمة رحيم حسين،

العتبة العلوية المقدسة، 2019.

- أصدق الأخبار في قصة الأخذ بالثار، السيّد عبد الكريم الحسيني

مطبعة العرفان، صيدا 1331ه-.

- أعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسي (ت 548ه-»، مؤسسة آل البيت علیهم السلام

لإحياء التراث، مطبعة ستارة، قم 1417ه-.

أعيان الشيعة، السيّد محسن الأمين، ط ه ، دار التعارف، بيروت.

- الإكمال في أسماء الرجال، ولي الدين محمّد بن عبد الله الخطيب

التبريزي مؤسسة أهل البيت علیهم السلام، قم المقدسة.

- إكمال الكمال ابن ماكولا (475 ه- ، دار الكتاب الإسلامي،

والفاروق الحديثة للطباعة والنشر، القاهرة.

- الإمام الحسن في مواجهة الانشقاق الأموي، السيّد سامي البدري،

ص: 112

ص: 113

ط2، قم المشرفة 2013م.

- الأمالي الشيخ الطوسي( ت 460 ه-)، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية،

نشر دار الثقافة، قم 1414ه-.

- إمتاع الأسماع، تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (ت 845ه-)، تحقيق

محمّد عبد الحميد النميسي، دار الكتب العلمية، بيروت 1999م.

- الإمامة والسياسة ابن قتيبة( ت 276ه-)، تحقيق طه محمّد الزيني

مؤسسة الحلبي للنشر والتوزيع.

-أنساب الأشراف البلاذري( ت 279 ه-)، تحقيق محمّد باقر المحمودي

مؤسسة الأعلمي، بيروت 1974م.

-البحار، المجلسي (ت 1111ه- )، مؤسسة الوفاء، بيروت 1983م.

- البداية والنهاية ، ابن كثير( ت 774ه-) ، مكتبة المعارف، بيروت.

- تاريخ الإسلام الذهبي ( ت 748ه-)، تحقيق عمر عبد السلام دار

الكاتب العربي، بيروت.

- تاریخ ابن خلدون، ابن خلدون، ط4 ، إحياء التراث العربي، بيروت.

- تاريخ بغداد الخطيب البغدادي« ت 463 ه- » ، دار الكتب العلمية،

بيروت 1993م.

- تاريخ خليفة، خليفة بن خياط العصفري( ت 240ه-)، تحقيق د. سهيل

زکار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1993م.

- التاريخ الكبير، البخاري (ت 256ه-) ، مصور على قرص أصدرته

مكتبة أهل البيت علیهم السلام لإحياء التراث سنة 1426ه-.

- تاريخ مدينة دمشق ابن عساكر( ت 571ه-)، تحقيق علي شيري دار

الفكر ، بيروت 1995م.

- تاريخ الرسل والملوك، الطبري ( ت 310ه-)، دار الكتب العلمية ، ط 4 ،

بيروت 2008م.

ص: 114

- تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي (ت 292 ه-)، تحقيق عبد الأم الأمير مهنا،

مؤسسة الأعلمي، بيروت 1993م.

- تجارب الأمم، ابن مسكويه الرازي (ت 421 ه-)، تحقيق . أبو القاسم

إمامي، دار سروش للطباعة والنشر، طهران 1407ه-.

- تذكرة الحفاظ الذهبي (ت 748ه-)، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى

المعلمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

- التمهيد، ابن عبد البر ت 463 ه- ، مصور على قرص أصدرته

مؤسسة آل البيت علیهم السلام لتحقيق التراث سنة 1426ه-.

- التنبيه الأشراف، المسعودي (ت 345 ه-)، دار صعب، بيروت.

- تنزيه الأنبياء، الشريف المرتضى ( 436 ه- ) ، ط 2 ، دار الأضواء، بيرود

1989م.

- تنقيح المقال في علم الرجال، الشيخ عبد الله المامقاني «ت 1351 ه-»، تحقيق محيي الدين المامقاني، مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، قم 1423ه-. تهذيب التهذيب، ابن حجر (ت 852 ه- )، دار الفكر للطباعة والنشر

بيروت 1984م.

- تهذيب الكمال، ابن الحجاج يوسف المزي «ت 742 ه-»، تحقيق د.

بشار عواد، ط4 ، مؤسسة الرسالة، بيروت.

- توضيح المشتبه محمّد بن عبد الله الدمشقي «ت 842 ه- »، مؤسسة

الرسالة للطباعة والنشر، ط 2 ، بيروت 1993م.

- الثقات، محمّد بن حبان التميمي البستي ( ت 354ه-)، تحقيق د. محمّد

عبد المعين ،خان، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند 1973 .

- الثوية بقيع الكوفة، د. صلاح مهدي الفرطوسي، دار الجواهري

بيروت 2014.

- جامع البيان في تأويل آي القرآن، محمّد بن جرير الطبري «ت 310 ه-»،

ص: 115

ضبط وتوثيق صدقي حميد العطار، دار الفكر، بيروت 1955م.

- الجرح والتعديل، عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي

(ت 327ه-)، طبع بمطبعة دار المعارف العثمانية، الهند 1952م.

- الجمل الشيخ المفيد (ت 413 ه-)، تحقيق السيّد علي مير شريفي، ط2،

نشر مكتب الإعلام المركزي، قم 1416ه-.

- جمهرة الأمثال أبو هلال العسكري (ت 395 ه-)، تحقيق محمّد أبو

الفضل إبراهيم ، ط 2 ، دار الجيل بيروت.

- جمهرة أنساب العرب، ابن حزم( ت 456 ه-)، راجعه عبد المنعم خليل

إبراهيم طه ، دار الكتب العلمية، بيروت 2009م.

- خاتمة المستدرك، الشيخ حسين النوري الطبرسي

(ت 1320ه-)، تحقيق مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، قم 1415ه-.

- ذوب النضار في شرح الثار، ابن نما الحلي( ق ه-)، تحقیق فارس حسون

كريم، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدسة 1416ه-.

- رجال الطوسي، الشيخ الطوسي( ت 460 ه-)، تحقيق جواد القيومي

الأصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدسة، 1425ه-.

- رجال من بقيع ثوية الكوفة، د صلاح مهدي الفرطوسي، نشر أمان-ه

جد الكوفة والمزارات الملحقة به، بیروت 2012.

- خلف أسوار الكوفة ، أ. د صلاح مهدي الفرطوسي، أمانة مسجد

الكوفة دار الكفيل للطباعة والنشر 2015م.

- سبل الهدى والرشاد محمّد بن يوسف الصالحي الشامي (ت 942 ه-)، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت 1993م.

- السنن الكبرى النسائي (ت 303ه-)، تحقيق عبد الغفار البنداري، دار الكتب العلمية، بيروت 1991م.

- سنن ابن ماجة (ت 275ه-)، ابن ماجة تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي

دار الفكر ،بيروت .

ص: 116

- سير أعلام النبلاء، الذهبي (ت 748ه-) ، ط9 ، مؤسسة الرسالة بيروت 1993م.

- السيرة النبوية، ابن كثير (ت 747 ه-)، تحقيق مصطفى عبد الواحد

دار المعرفة، بيروت 1971 .

- شرح صحیح مسلم، النووي (ت 676 ه-)، نشر دار الكتاب العربي،

بیروت 1987م.

- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (ت 656ه-)، تحقيق حسين

مؤسسة الأعلمي، بيروت 1995م.

- الشيعة في الميزان، محمّد جواد مغنية دار الشروق، بيروت .

- صلح الحسن الشيخ راضي آل ياسين، منشورات الشريف الرضي مصور على قرص أصدرته مؤسسة آل البيت الكتب العلمية، بيروت 1991م. لتحقيق التراث سنة 1426ه-. الطبقات الكبرى ابن سعد (ت 230 ه-)، تقديم إحسان عباس، دار

صادر، بیروت 1997م.

- عمدة القاري العيني (ت 855 ه- )، نسخة مصورة على قرص أصدرته

مكتبة أهل البيت 1993م. سنة 1426ه-.

- الغارات، إبراهيم بن محمّد الثقفي الكوفي (ت 283ه-) تحقيق جلال الدين أرموي ، نسخة مصورة على قرص أصدرته مكتبة أهل البيت الكتب العلمية، بيروت 1991م. سنة 1426ه-.

- الغدير الشيخ عبد الحسين الأميني، نشر الحاج حسن إيراني (ط4)

بيروت 1977م.

- فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه-)،

دار المعرفة للطباعة والنشر، ط 2 ، بيروت.

- الفتن، نعيم بن حماد المروزي (ت 229 ه-)، تحقیق سهیل زکار دار

الفكر، بیروت 1993م.

ص: 117

- الفتوح ابن أعثم ( ت 14 ه- ) ، دار الكتب العلمية، بيروت.

- فوات الوفيات ابن شاكر الكتبي (ت 764ه-)،

- الكامل في التاريخ ابن الأثير( ت 630 ه-) ، دار صادر، بیروت 2008م.

- كشف المشكل من حديث الصحيحين، ابن الجوزي (ت 597 ه- )، دار

الوطن للنشر، الرياض 1997م.

- اللهوف في قتلى الطفوف، السيّد ابن طاووس (664ه- )، قم المقدسة.

- مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي (ت 548ه-)، مؤسسة الأعلمي،

بيروت 1955م.

- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، أبو بكر الهيثم الهيثمي

ت 807 ه- ، دار الكتب العلمية، بيروت 1988م.

- المحبر، محمّد بن حبيب (ت 245 ه- )، نسخة مصورة على قرص

أصدرته مؤسسة أهل البيت 1993م. سنة 1426ه-.

- مروج الذهب، المسعودي (ت 346ه-)، تحقيق محي الدين عبد الحميد

المكتبة الإسلامية، بيروت.

-مستدركات علم رجال الحديث الشيخ علي النمازي مطبعة حيدري

طهران 1415ه-.

- المستدرك على الصحيحين الحاكم النيسابوري (ت 405 ه-)، إشراف د.

يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة بيروت

مسند أحمد، أحد بن حنبل (ت 241ه-)، دار صادر، بيروت.

- مشاهير علماء الأمصار ، محمّد بن حبان (ت 354ه-)، تحقیق مرزوق

علي إبراهيم، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة 1991م.

- المعارف، ابن قتيبة( ت 276ه-)، تحقيق ثروة عكاشة، وزارة الثقافة

والإرشاد القومي، نشرته بالأوفست مكتبة الحيدرية 13385ه-.

- معالم التنزيل في تفسير القرآن، البغوي ت 510 ه-، نسخة مصورة

على قرص أصدرته مؤسسة أهل البيت 1993م. سنة 1426ه-.

ص: 118

- معجم البلدان، ياقوت الحموي (ت 626 ه- )، ط 3، دار صادر، بیروت 2007م.

- معجم رجال الحديث السيّد الخوئي، ط5 ، 1992م.

- المعجم الكبير ، الطبراني (ت 360 ه-)، تحقيق حمدي عبد المجيد، ط2 1985 م.

- المناقب، الموفق بن أحمد بن محمّد المكي الخوارزمي (ت 568 ه-)، تحقيق الشيخ مالك المحمودي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدسة.

- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (ت588 ه-)، تحقيق لجنة من

أساتذة النجف المطبعة الحيدرية 1956م المنتخب من كتاب ذيل المذيل محمّد بن جرير الطبري (ت 3110

ه-)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت 1939م.

- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، قطب الدين الراوندي « 573ه-»،

تحقيق السيّد عبد اللطيف الكوهكمري، مطبعة الخيام، قم 1406ه-.

- ميزان الاعتدال الذهبي (ت 748ه-)، تحقيق علي محمّد البجاوي، دار

المعرفة للطباعة والنشر، بيروت. الوافي بالوفيات الصفدي «ت 764ه-»،

2011م.

- وما أدراك ما علي، د. صلاح مهدي الفرطوسي، العتبة العلوية المقدسة 2011 م.

- وسائل الشيعة، الشيخ محمّد بن الحسن العاملي

(ت 1104ه-)، مؤسسة آل البيت 2007م. 2007م. لإحياء التراث، قم 1414.

- وقعة صفين، نصر بن مزاحم( ت 212 ه-)، تحقيق عبد السلام محمّد

هارون، مكتبة المرعشي، قم 1418ه-.

1 - السيرة النبوية 6813 ، وينظر أيضًا الاستيعاب 1489/4 .

2 - شرح نهج البلاغة 1/ 46 ، البحار 22/38 منهاج البراعة 1/ 22، أعيان

ص: 119

الشيعة 47/8 .

3 - المناقب 208 .

4- شرح نهج البلاغة 1/ 146 .

5- وقعة صفين 400 ، والفتوح 122/3، وأسد الغابة 2/ 351، وتهذيب

الكمال 456/11 .

ص: 120

ص: 121

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.