بحوث في الفقه المعاصر المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن الجواهري

الناشر: دار الذخائر

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

الصفحات: 480

نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بحوث في الفقه المعاصر

الجزء الثاني

تأليف: حسن الجواهري

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

تصنيف الكونجرس: BP183/5/ج 9ب 3 1377

تصنيف ديوي: 297/342

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 78-24055

ص: 1

ص: 1

اشارة

دار الذخائر

بيروت - لبنان

كافة الحقوق محفوظة ومسجلة

الطبعة الأولی

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

حدود عرفات مزدلفة، منی

اشارة

ص: 5

ص: 6

إنّ البحث الذي نريد الكتابة عنه هو بحثٌ تاريخيٌّ جغرافيّ يكون موضوعاً لأحكام شرعيّة كثيرة ، ألا وهو تحديد عرفات ، مزدلفة ، منى. وقد ذكر الفقهاء الأحكام الكثيرة الواردة على هذه الموضوعات الثلاثة ، ولئن كان الموضوع قد حدّده الشارع المقدّس في الروايات الواردة عن المعصوم علیه السلام إلاّ أنّ المصداق لهذا المفهوم لا بدّ من أخذه من أهل الخبرة في تعيين ما حدّده الشارع ، وعلى هذا فنحن بحاجة :

أولاً : إلى ما حدّده الشارع المقدّس كمفهوم لهذه الألفاظ الثلاثة.

وثانياً : إلى تعيين هذه المواضع إمّا من شياع أهل الخبرة إذا اختلفوا في تعيين المصداق ، أو لم يختلفوا حيث إنّه يفيد علماً أو اطمئناناً.

ولا يخفى أنّ القاعدة عند الشكّ في تعيين المصداق تقتضي الاقتصار على القدر المتيقّن ؛ لقاعدة الاشتغال اليقيني الذي يستدعي الفراغ اليقيني ، بمعنى أنّ مشكوك الموقفيّة أو الموضعيّة يوجب الشك في الامتثال الذي حدّد في هذه الأمكنة ، فتجري القاعدة.

ولا بأس بالتنبيه إلى بعض الاشكالات والأبحاث الفقهيّة التي تتعلّق بهذه الدراسة. فنقول وباللّه التوفيق :

أولاً : حدود عرفات

اشارة

إنّ عرفات منطقة تقع شرقيّ مكّة بحوالي 22 كم وهي سهل واسع منبسط

ص: 7

مُحاط بقوس من الجبال يكون وتره وادي عَرَفَة ، فمن الشمال الشرقي يُشرف عليها جبل أسمر شامخ وهو ( جبل سعد ) ومن مطلع الشمس يشرف عليها جبل أشهل أقلّ ارتفاعاً من سابقه ويتّصل به من الجنوب ، وهذا يُسمّى ( مِلْحه ) ، ومن الجنوب تشرف عليه سلسلة لاطية سوداء تسمّى ( اُمّ الرضوم ) ، أمّا من الشمال إلى الجنوب فيمرّ وادي عَرَفَة (1).

وقد ذكرت الروايات حدود عرفات ممّا يلي الحرم ، لأنّها هي التي تحتاج إلى تحديد ، أمّا الجهات الثلاث الأُخرى فكأنّها لا تحتاج إلى تحديد ؛ لوجود سلسلة الجبال التي تقطع بين عرفات وغيرها. فقالت الروايات وتبعها الفقهاء : بأنّ الحاج لو وقف « بنَمِرَة أو عَرَفَة ، أو ثوية ، أو ذي المجاز ، أو بجنب الأراك ، أو غير ذلك ممّا هو خارج عن عرفة لم يجزه » ، فمن الروايات :

1 - صحيحة معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « فإذا انتهيت إلى عَرَفات فاضرب خباك بنَمِرَة ، ونمرة هي بطن عُرَنَة دون الموقف ودون عرفة ... وحدّ عَرَفَة من بطن عُرَنَة وثوية ونَمِرَة إلى ذي المجاز ، وخلف الجبل موقف » (2).

2 - خبر سماعة عن الإمام الصادق علیه السلام : « واتّقِ الأراك ونَمِرَة وهي بطن عُرنَة ، وثوية وذي المجاز فإنّه ليس من عَرَفَة ولا تقف فيه » (3).

3 - خبر إسحاق بن عمّار عن الإمام الكاظم علیه السلام . قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ارتفعوا عن وادي عُرَنَة بعرفات » (4).

ص: 8


1- معالم مكة التأريخيّة والأثريّة : 182 ، البلادي ( عاتق بن غيث ) ، طبع دار مكّة ، 1980 م.
2- الوسائل : ج 10 ، الباب 9 من أبواب إحرام الحاجّ ، ح 1 ، وذيل ح 1 من باب 10 من أبواب إحرام الحاجّ ، ح 1.
3- المصدر السابق ، الباب 10 ، ح 6.
4- المصدر السابق ، الباب 10 ، ح 4.

أقول : إنّ هذه الأماكن الخمسة هي حدود عَرَفَة من ناحية الغرب ( الحرم ) وهي راجعة إلى أربعة كما هو المعروف من الحدود ، لأنّ نَمِرَة هي بطن عَرَفَة ، كما روي في حديث معاوية المتقدّم عن الإمام الصادق علیه السلام .

شرح الألفاظ :

1 - نَمِرَة :

نَمِرَة : بفتح النون وكسر الميم وفتح الراء المهملة ( وهي بطن عُرَنَة ) كما ذكرت الروايات المتقدّمة.

وقد ذكر ابن تيمية عن نَمِرَة فقال : « ونَمِرَة كانت قرية خارجة عن عرفات من جهة اليمن ، فيقيمون فيها إلى الزوال كما فعل النبي صلی اللّه علیه و آله ثمّ يسيرون منها إلى بطن الوادي ، وهو موضع النبيّ صلی اللّه علیه و آله الذي صلّى فيه الظهر والعصر وخطب ، وهو في حدود عَرَفَة لبطن عُرَنَة ، وهناك مسجد يُقال له مسجد إبراهيم ، وإنّما بُني في أوّل دولة بني العبّاس ».

وقال ابن القيّم : « نَمِرَة قرية غربيّ عرفات ، وهي خراب اليوم ، نزل بها النبي صلی اللّه علیه و آله حتّى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحّلت له ، ثمّ سار حتّى أتى بطن الوادي من أرض عَرَفَة فخطب الناس ، وموضع خطبته لم يكن من الموقف ، فإنّه خطب بعُرَنَة ، وليس من الموقف ، فهو صلی اللّه علیه و آله نزل بنَمِرَة وخطب بعُرَنَة ووقف بعَرَفَة » (1).

والمُراد من المسجد الذي يسمّى مسجد إبراهيم فيما ذكره ابن تيمية هو المسجد القديم الذي اختلف فيه أنّه من عرفات أو خارجها ؟ على ثلاثة أقوال :

1 - فقد ذكر إمام الحرَمَين الجويني والقاضي حسين والرافعي وجماعة من

ص: 9


1- هداية الناسكين ، تحقيق الدكتور الفضلي : 175 ، عن هامش كتاب الإرتسامات اللِطاف ، أرسلان ( الأمير شكيب بن حمود 1366 ه ) ، تعليق عبد الرزّاق محمّد سعيد حسن ( الطائف : مكتبة المعارف ) : ص 58 - 65.

الخراسانيّين : أنّ مقدّم المسجد القديم في وادي عُرَنَة ومؤخّره في عَرَفات ، ويتميّز ذلك بصخرات كبار فُرِشت هناك.

2 - قال في البحر العميق نقلا عن الطرابلسي وغيره : « إنّ جميع المسجد القديم من عَرَفَة ، وإنّ جداره الغربيّ لو سقط لسقط على بطن عُرَنَة ».

3 - صرّح كثيرٌ من علماء الإسلام بعدم دخول المسجد القديم في عَرَفة تبعاً للروايات المشتملة على صفة حجّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقد روى معاوية بن عمّار حجّ النبي صلی اللّه علیه و آله فقال : حتى انتهى إلى نَمِرَة وهي بطن عُرَنَة بحيال الأراك ، فضرب قبّته وضرب الناس أخبيتهم عندها ، فلمّا زالت الشمس خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومعه قريش وقد اغتسل وقطع التلبية حتّى وقف بالمسجد ، فوعَظَ الناس وأمَرَهم ونهاهم ، ثمّ صلّى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتَين ، ثمّ مضى إلى الموقف فوقف به » (1).

وقد قال الشافعي - وهو مكّي قَرَشي - في الأُْمّ : « وعَرَفَة ما جاوز وادي عُرَنَة الذي فيه المسجد ، وليس المسجد ولا وادي عُرَنَة من عَرَفَة ».

وقال النووي في الايضاح : « واعلم أنّه ليس من عرفات وادي عُرَنَة ولا نَمِرَة ولا المسجد المسمّى مسجد إبراهيم - ويُقال له أيضاً مسجد عُرَنة - بل هذه المواضع خارجة عن عرفات على طرفها الغربيّ ممّا يلي مُزْدَلِفَة ».

أقول : إنّ القاعدة التي ذكرناها في أوّل البحث في خصوص ما إذا اختلف أهل الخبرة في كون المسجد من عَرَفات أو خارج عنها فإنّ المدار على الشياع الذي يفيد الاطمئنان بأنّ المسجد ليس من عَرَفَة ، على أنّ ظاهر الصحيحة المتقدّمة أنّه خارج عن موقف عرفات ، كما هو الأحوط لهذه العبادة العظيمة.

ومساحة ضلع هذا المسجد القديم من مبتدئه من الناحية الغربيّة إلى منتهاه من الناحية الشرقيّة ( مئة ذراع وثلاث وستّون ذراعاً ) كما ذكره الأزرقي في تأريخ مكّة ، وأنّ مساحة ضلعه من ركنه الشمالي الشرقي إلى الركن الجنوبي الشرقي

ص: 10


1- الوسائل : 8 ، الباب 2 من أبواب أقسام الحجّ ، ح 3.

( مئتان وثلاث عشرة ذراعاً ) (1).

ولكن حصلت زيادات على القدر القديم للمسجد ، فإن كانت هذه الزيادة لجهة المشرق فقد دخلت هذه الزيادة في عَرَفَة ، كما قال البعض وهو القشيري ، فقد قال : « والمسجد - أي القديم - الذي يصليّ فيه الإمام - اليوم - يوم عَرَفَة هو في بطن عُرَنَة ، فإذا خرج منه الإنسان يريد الوقوف فقد صار في عَرَفَة ».

ولكن إذا أخذنا بهذا القول الشائع والمشهور ، وقلنا : إنّ المسجد القديم ليس من عرفات ، وقد صلّى النبيّ صلی اللّه علیه و آله الظهر والعصر فيه فسوف تواجهنا مشكلة ينبغي حلّها ، وهذه المشكلة عبارة عن القول بعدم وجوب الوقوف في عَرَفَة من أوّل الزوال إلى الغروب اختياراً ، بل يكفي الوقوف بعَرَفَة بعد الزوال بمقدار ما يغتسل ويصليّ ويخطب ويذهب إلى الموقف ، بينما ذُكر : أنّ وقت الاختيار في الوقوف بعَرَفَة هو من زوال الشمس إلى غروبها ، وأنّ الركن هو المسمّى ، وكأنّ هذا من البديهيّات ، فقد ذكر الشهيد الأوّل والثاني في كتاب اللُمعة الدمشقيّة وشرحها بأنّ من الواجبات : « الوقف بمعنى الكون بعَرَفَة من زوال التاسع إلى غروب الشمس مقروناً بالنيّة المشتملة على قصد الفعل المخصوص متقرّباً بعد تحقّق الزوال بغير فصل ، والركن من ذلك أمر كلّي وهو جزءٌ من مجموع الوقت بعد النيّة ولو سائراً ، والواجب الكلّ » (2).

وقد صرّح غير واحد من الفقهاء بذلك ، بل في المدارك نسبته إلى الأصحاب ، فيجب مقارنة النيّة للزوال ليقع الوقوف بأسره بعد النيّة ، وإلاّ فات جزءٌ منه ، ثمّ لو أخّر أثِم ، إلاّ أنّه يجزي ، كما صرّح به في الدروس (3).

ص: 11


1- مجلّة العرب السعوديّة : ج 5 ، السنة السادسة ، 1972 م ، تحت عنوان تحديد عرفات ، عن هداية الناسكين : 173.
2- المصدر السابق : ص 269.
3- جواهر الكلام : ج 19 ص 15.

وهذه المشكلة وإن لم تُحلّ بناءً على وجوب الوقوف من الزوال إلى الغروب إلاّ أنّها لا تعينّ القول القائل بوجوب مسمّى الوقوف في عَرَفَات فقط ، فإنّ هذا القول يدفعه وجوب البقاء إلى الغروب وحُرمة الخروج من عَرَفات قبله ، والكفّارة لِمَن تعمّد ذلك ، ووجوب العَود إلى الموقف لو خرج إذا كانت الشمس لم تغرب.

وقد تحلّ هذه المشكلة بأحد حلَّين :

الحلّ الأوّل : ( بناءً على وجوب الوقوف ما بين الحدَّين ) بقولنا : إنّ المراد من الوقوف في عَرَفَة هو الوقوف العرفي الذي تكون مقدّماته المشرفة على الوقوف محسوبة منه ، وعلى هذا تكون مقدّمات الوقوف المشتملة على الغسل والصلاة والخطبة والتهيّؤ للوقوف من الوقوف.

الحلّ الثاني : عدم وجوب دليل يثبت وجوب الوقوف ما بين الحدَّين ، بل ذكر ذلك بعض الفقهاء ، وأمّا الدليل الذي ذكر لنا حجّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله فهو يدلّ على أنّ الوقوف يكون بعد الظهر بساعة - مثلاً - إلى غروب الشمس ، وهذا الحلّ الثاني هو الأوفق ، إذ أنّ الحلّ الأوّل وإن كان يثبت أنّ مقدّمات الوقوف من الوقوف إلاّ أنّه لم يثبت أنّ الوقوف كان في عرَفات.

قرائن على أنّ نَمِرة من عَرَفَات :

وإلى هنا كنّا نؤيّد القول القائل بأنّ نَمِرَة هي خارجة عن حدود عَرَفَات كما ذكرت ذلك الروايات ، ولكن هناك قولٌ آخر يبيِّن أنّ نَمِرَة من عَرَفَات لكنّها خارج موقف الدعاء وسنذكر بعض القرائن على ذلك :

1 - ما قاله في القاموس : « إنّها - أي نَمِرة - موضعٌ بعَرَفات ، أو الميل الذي عليه أقطاب الحَرَم » وحينئذ يكون المراد بُمضيّه الرواح إلى الموقف ميسرة الجبل الذي يستحبّ الوقوف به.

2 - إطلاق عَرَفات في بعض الأخبار على ما يشمل نَمِرَة - أيضاً - كما ورد في صحيح معاوية بن عمّار وأبي بصير جميعاً عن الإِمام الصادق علیه السلام ، حيث قال :

ص: 12

« وحدّ عَرَفَات من المأزمَين إلى أقصى الموقف » (1).

وهذا الحديث صريحٌ في أنّ ما بعد المأزمَين إلى أقصى الموقف اسمه عرفات ، ونَمِرَة داخلةٌ في عرفات ، حيث إنّها واقعةٌ على يمين مَن خرج مِن المأزمَين وأراد الموقف ، وعلى هذا فيكون إطلاق عرفات على ما بعد نَمِرَة في بعض الأخبار لأجل أفضليّة هذه القطعة ، أو لكونها محلاًّ للاعتراف بالذنوب ، لا أنّ عرفات هي هذه القطعة فقط.

3 - ما ذُكر من استحباب الجمع بين الصلاتَين بعَرَفَة ، قال في التذكرة : « ويجوز الجمع لكلّ مَن بعَرَفَة من مكّي وغيره ، وقد أجمع علماء الإسلام على أنّ الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعَرَفَة » (2).

وعلى هذا يظهر أنّ صلاة النبي صلی اللّه علیه و آله كانت بعَرَفَة ، ويشهد لهذا ما رُويَ في دعائم الإسلام عن الإمام الصادق علیه السلام عن عليّ علیه السلام : « أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غدا يوم عَرَفَة من منى فصلّى الظهر بعَرَفَة ، لم يخرج من منى حتّى طلعت الشمس » (3).

كما يظهر من خبر جذاعة الأزدي معروفيّة إيقاع الصلاتَين بعَرَفَة في ذلك الزمان ، حيث قال : قلت للإمام الصادق علیه السلام : رجلٌ وقف بالموقف فأصابته دهشة الناس فبقي ينظر إلى الناس ولا يدعو حتّى أفاض الناس ، قال علیه السلام : « يجزيه وقوفه. ثمّ قال : أليس قد صلّى بعرفات الظهر والعصر وقنت ودعا ؟! قلت : بلى. قال علیه السلام : فعرفات كلّها موقف ، وما قرب من الجبل فهو أفضل » (4).

4 - لقد ذكر بعض الفقهاء : أنّ نَمِرَة من عَرَفَة ، فقد قال الصدوق في المقنع :

ص: 13


1- الوسائل : ج 10 ، الباب 10 من أبواب الإحرام بالحجّ والوقوف بعرفة ، ح 8.
2- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ، للمحقّق صاحب الجواهر : ج 19 ، ص 23.
3- مستدرك الوسائل : ج 10 ، الباب 7 من أبواب إحرام الحجّ ، ح 1.
4- وسائل الشيعة : ج 10 ، باب 16 من أبواب احرام الحج ، ح 2.

« ثم تلبّي وأنت مارٌّ إلى عرفات ، فإذا ارتقيت إلى عرفات فاضرب خباءَك بنَمِرَة ، فإنَّ فيها ضَرَب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خباءه وقبّته ، فإذا زالت الشمس يوم عَرَفَة فاقطع التلبية ، وعليك بالتهليل والتحميد والثناء على اللّه ... ثمّ قال : إيّاك أن تفيض منها قبل غروب الشمس ... ».

وقال ابن بابويه في الفقيه : « فإذا أتيت إلى عرفات فاضرب خباءَك بنَمِرَة قريباً من المسجد ، فإن ثمَّ ضرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خباءه وقبّته ... ».

وفي المقنعة : « ثمّ لِيُلَبّ وهو غاد إلى عرفات ، فإذا أتاها ضرب خباءه بنَمِرة قريباً من المسجد ، فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ضرب قبّته هناك ... » (1).

وقد ذكر عن بعض الحنفيّة : أنّه قيل : حدّ عرفات ما بين الجبل المشرف على بطن عرنة إلى الجبال المقابلة لعرنة ممّا يلي حوائط بني عامر وطريق الحضّ.

وعن الأزرقي : عن ابن عبّاس : أنّ حدّ عرفات من الجبل المشرف على بطن عرنة - بالنون - إلى جبال عرفات إلى وصيق إلى ملتقى وصيق ووادي عرنة.

وعن بعضهم : أنّ مقدّم مسجد إبراهيم علیه السلام أوّله ليس من عُرَنَة ، ومقتضاه أنّ ما عدا الأوّل من عرفات ، فيمكن أن تكون صلاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيما كان منه من عرفات ، ويشهد لذلك ما يُحكى عنهم من الجواب لأبي يوسف ( عن إشكاله بمنافاة الصلاة للوقوف من أوّل الوقت إلى الزوال ) بأنّه لا منافاة ، فإنّ المصليّ واقف. وهذا كالصريح في كَون المسجد من عرفة. وقد تقدّم منّا عن الرافعي الجزم بذلك مع شدّة تحقيقه واطّلاعه (2).

أقول : إذا أخذنا بهذه القرائن على أنّ نَمِرَة التي فيها المسجد الذي يُقال عنه : إنّه مسجد إبراهيم ، وقُلنا : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد صلّى فيه الظهر والعصر جمعاً فيجب أن

ص: 14


1- جواهر الكلام : ج 19 ، ص 20 و 23 - 24.
2- المصدر السابق : ص 26 ، 27.

نفسّر الروايات القائلة بذهاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى الموقف بعد الصلاة بإرادة موقف الدعاء في ميسرة الجبل الذي يُستحبّ فيه الوقوف أو التشاغل بما يقتضيه من الدعاء والتحميد والتمجيد والتهليل والتكبير لنفسه ولغيره ممّا جاءت به النصوص في ذلك الموقف.

والتحقيق : أنّ هذه القرائن كلّها لا تقف في وجه الروايات القائلة بأنّ الوقوف في نَمِرَة - التي هي بطن عرنة - لا يجزي.

ولا بأس بالتنبيه في آخر كلامنا عن نَمِرَة ، بأنّ في حدود عرفات يوجد جبل اسمه ( جبل نَمِرَة ) وهو غير قرية نَمِرَة التي هي بطن عرنة ، وإنّما عرّفه البلادي : « بأنّه جبلٌ صغير بارز تراه غربك وأنت واقفٌ بعرفة بينك وبينه سيل وادي عرنة ، وإذا كنت تؤمّ عرفة عن طريق ضبّ تمرّ بسفحه الشمالي » (1).

وهذا الجبل خارج عن حدود عرفة كما هو واضح.

2 - عُرَنَة :

عُرَنة : بضمّ العين المُهملة وفتح الراء المهملة وفتح النون - هي وادي ما بين عرفات والحرم عرضاً ، وهو حدّ عرفات من الناحية الغربيّة ، حيث يبتدئ من الجهة الشماليّة من مُلتقى وادي وصيق بوادي عُرَنَة ، وينتهي من الجهة الجنوبيّة عندما يُحاذي أوّل سفح الجبل الواقع بين طريق المأزمين وطريق ضبّ ، والذي بطرفه الشمالي قرية نَمِرَة من الجهة الشرقيّة غربيّ الواقف هناك وغربيّ سفح الجبال التي في منتهى عَرَفَة من الجهة الجنوبيّة الشرقيّة بخطٍّ مستقيم ، وقد قُدِّرت المسافة بين وصيق بوادي عُرَنَة من الجهة الشماليّة إلى مُنتهاه من الجهة الجنوبيّة بخمسة آلاف متر (2).

وبين وادي عُرَنَة المذكور وبين الموقف عَلَمان كبيران يقعان شمالي شرقي

ص: 15


1- معجم معالم الحجاز : ج 9 ، ص 92.
2- جاء ذلك في قرار اللجنة الحكومية السعوديّة المنشور في مجلّة العرب السعودية : ج 5 ، السنة السادسة ، 1972 م ، من الصفحات 375 - 384 ، تحت عنوان : تحديد عرفات ، عن هداية الناسكين : ص 172.

مسجد إبراهيم ، وهما الحدّ الفاصل بين وادي عُرَنَة وبين عَرَفَة ، كما ذكر ذلك تقيّ الدين الفاسي في كتابه ( شفاء الغرام ) حيث قال : « وكانت ثمّة ثلاثة أعلام سقط أحدها ، وهو الذي إلى جهة المغمّس وأثره بيّن ، ورأيت عنده حجراً مُلقىً مكتوباً فيه : أمر الأمير الأصفهسلار الكبير مظفّر الدين صاحب إربل حسان أمير المؤمنين بإنشاء هذه الأعلام الثلاثة بين منتهى أرض عَرَفَة ووادي عُرَنَة ، لا يجوز لحاجّ بيت اللّه العظيم أن يجاوز هذه الأعلام قبل غروب الشمس ، وفيه كان ذلك بتاريخ شعبان من شهور سنة ( 605 ه ) ، ورأيت مثل ذلك مكتوباً في حجر مُلقىً في أحد العَلَمين الباقيَين ، وفي هذَين العَلَمين مكتوب : أمَرَ بعمارة علَمَي عرفات ، وأضاف كاتب ذلك : هذا الأمر للمستظهر العبّاسي ، ثمّ قال : وذلك في شهر ... سنة أربع وثلاثين وستمائة » (1).

وقد تقدّم منّا ذكر الحديث عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في خبر إسحاق الذي يقول : « ارتفعوا عن وادي عرنة بعرفات » وهو يدلّ دلالة واضحة على أنّ عرنة ليس من موقف عرفة ، للأمر بالارتفاع عنه الذي لازمه النهي عن الإتيان بالوقوف به.

وبعبارة اُخرى : أنّ وادي عُرَنَة لمّا كان ملاصقاً لموقف عَرَفَة ، بل ومشابهاً له احتاج إلى أن يُنبَّه على عدم إجزاء الوقوف فيه والأمر بالوقوف حين الارتفاع عنه.

أقول : إنّ الأحاديث المتقدّمة التي ذكرت أنّ عُرَنَة ليست من عرفات قد شخّصت منذ قديم الزمان بأعلام تفصل بين عَرَفَة ووادي عُرَنَة ، وبهذا التحديد وبيان المصداق تخلّصنا من مشكلة التعيين التي لابدّ فيها من الرجوع إلى أهل الخبرة التي يضعف الاعتماد عليها كلّما تمادى الزمان.

إشكال في تعيين صُغرى عَرَفات :

قلنا فيما تقدّم : إنّ الروايات التي ذكرت بأنّ عُرَنَة ليست من عرفات قد

ص: 16


1- المصدر السابق.

شخّصها المتقدّمون علينا بزمن ليس بالقليل ، فقد ارتفع إشكال تحديد معنى عرفات من ناحية المصداق ، ولكن مع هذا بَقي إشكال واحد هو : إذا كانت عُرَنَة هي وادي بين عرفات والحرم عرضاً فينبغي أن يكون بانتهاء الوادي العرضي موقف عرفات ، ولكنّنا نرى الآن بين العَلَمينَ الذين وضَعَهُما ملك إربل في عام ( 605 ه ) وبين مجرى وادي عُرَنَة مسافة لا يقلّ عرضها عن مائة متر وهي مرتفعة عن وادي عُرَنَة ، فكيف لا تكون داخلة في موقف عرفة ؟!

الجواب : أنّه لابدّ من الرجوع إلى أهل الخبرة ، فقد ذكروا : أنّ مجرى وادي عُرَنَة آنذاك هو بداية وضع الأعلام ، ولكن بما أنّ سهول عَرَفَة كلّها رمال تنتقل فقد تراكمت الرمال في هذا الجانب من الوادي ، وقد ذكر القاطنون في تلك الأماكن بأنّ سيل الوادي قد يشتدّ في بعض الأحيان فيعلو على هذه الأتربة ويُزيلها (1).

وعلى هذا فيبقى أنّ حدّ عَرَفَة هو ما اُثبت بواسطة الأعلام منذ قديم الزمان ، وأنّ الأحكام الشرعيّة لا تتبدّل ولا تتغيّر بتراكم الأتربة في أحد جانبيَ الوادي.

3 - ثَويَّة :

ثوية : بفتح الثاء وتشديد الياء :

لقد ذكر الطريحي في مجمع البحرين قول : « والثويّة : حدٌّ من حدود عَرَفَة ، وفي الحديث : ليست منها ».

وقد ذكر في كتاب المجاز بين اليمامة والحجاز ما نصّه : « عرفات : إذا ترك الطريق ثنية ( الجُليلة ) خلفه ووادي نعمان يساره دلف إلى منطقة عرفات مارّاً بجنوبيّها غربيّها » (2).

وقال البلادي في ( معجم معالم الحجاز ) معرّفاً الجُليلة - وهي بالتصغير وتشديد الياء المثنّاة - شِعْب يسيل من جبل ملحة فيصبّ في عرفة من الجنوب

ص: 17


1- هكذا جاء في قرار اللجنة الحكوميّة السعوديّة المنشور في مجلة العرب ، عن هداية الناسكين.
2- المجاز بين اليمامة والحجاز ، ابن خميس : ص 290.

الشرقي مجتمعاً مع الأحموم ، في رأسه ريع ( يعني ثنية ) بهذا الاسم يطلعك من عرفة على نعمان » (1).

وقد ذكر محقّق كتاب هداية الناسكين هذا الاستنتاج : « وهذا يعني أنَّ هذه الثنية أو الريع حد من حدود عَرَفَة ، وعليه فمن المظنون قويّاً أنّ كلمة ( ثنية ) دخلها تحريف النسخ فعادت ثَويَّة » (2).

أقول : إذا كانت ثويّة أو ثنية هي حدّ عَرَفَة من ناحية الجنوب الغربي فإنّ جنوب عَرَفَة جبالٌ ممتدّةٌ من المشرق إلى الجنوب ، وقد اخترق فيها قبل فترة طريقٌ للسيّارات الذاهبة إلى الطائف ، فما أدخله هذا الحدّ من حوائط ابن عامر وقرية عَرَفَة داخلٌ في عرفات.

وقد نقل الطبري في القرى نقلا عن البلخي في معرفة حائط بني عامر فقال : « حائط بني عامر غير عُرَنَة ، وبقربه المسجد الذي يجمع فيه الإمام الظهر والعصر ، وهو حائط نخل وفيه عين تُنسب إلى عبد اللّه بن عامر بن كريز ، قلت : وهي الآن خراب ». وقد شوهد أخيراً الآثار لتلك الحوائط من الجهة الجنوبيّة عندما كشفت الرياح من آثار المصانع والبرك الكبار والأساسات القويّة التي تشير إلى أنّه كان في الموضع المذكور قصورٌ وحوائط وجوابي واسعة تليق بمكانة هذا الرجل الشهير ، والذي قال ابن الأثير عنه : « إنّه أوّل مَن اتّخذ الحياض بَعَرَفَة وأجرى فيها العين » (3).

وقال ياقوت في ( معجم البلدان ) نقلا عن البشاري : « قرية عرفة : قرية فيها مزارع وخضر ومطابخ وبها دورٌ حسنة لأهل مكّة ينزلونها يوم عَرَفَة والموقف منها على صيحة » (4). فإذا كانت قرية عَرَفَة داخلةً في حدود عرفة فالمراد

ص: 18


1- معجم معالم الحجاز ، البلادي : ج 2 ، ص 166.
2- هداية الناسكين ، للدكتور الفضلي : ص 169.
3- راجع مجلّة العرب السعوديّة : ج 5 ، السنة السادسة : ص 375 - 384.
4- المصدر السابق.

من الموقف هنا هو الوقوف في سفح الجبل للدعاء الذي يكون مستحبّاً.

4 - ذو المجاز :

قال الأزرقي في أخبار مكّة : « وذو المجاز : سوقٌ لهُذيل عن يمين الموقف مِن عَرَفَة قريب كبكب على فرسخ من عَرَفَة » (1).

وقال حمد الجاسر : « يسمّى المجاز الآن ، وهو واد عظيم يحفّ كبكب من غربيّه ثمّ يمرّ بعرفات ، وفيه مياه ومزارع على المطر ، وسكّانه هذيل » (2).

وقد اختصره صاحب الجواهر بقوله : « وهو سوق كانت على فرسخ من عرفة بناحية كبكب » (3).

وفي الوافي : « وفي النهاية : ذو المجاز موضعٌ عند عرفات كان يُقام فيه سوقٌ من أسواق العرب في الجاهليّة ، والمجاز موضع الجواز والميم زائدة ، سمّي به لأنّ إجازة الحاج كان فيه » (4).

أقول : إذا كان ذو المجاز هو السوق فهو بعيدٌ من عرفات وليس حدّاً لها ، وإذا كان هو الوادي العظيم الذي يمرّ بعرفات فتكون إحدى جهاته حدّاً لعرفات ، وهي الجهة الملاصقة لعرفات منه ، ولمّا كان هذا الوادي شبيهٌ بعرفات نهى الشارع المقدّس عن الوقوف فيه.

5 - الأراك :

والمقصود به نعمان الأراك.

ص: 19


1- أخبار مكّة ، الأزرقي : ج 1 ، ص 191.
2- راجع المجاز بين اليمامة والحجاز ، لابن خميس : ص 284.
3- جواهر الكلام : ج 19 ، ص 18.
4- كتاب الوافي للفيض الكاشاني : ج 13 ، ص 1021.

قال البلادي : « واد فحل من أودية الحجاز التهاميّة ... وينحدر غرباً ، فيمرّ جنوب عرفات عن قرب ، ثمّ يجتمع بعُرَنَة فيطلق عليه اسم عُرَنَة ، يمرّ بين جبلَي كُساب وحَبَشي جنوب مكّة على أحد عشر كيلا ، ويكون هناك حدود الحرم الشريف ، ويتّسع الوادي بين كبكب والقرضة فيسمّى خبت نعمان لفياحه وسعته » (1).

وقال الجاسر : « ونعمان : واد عظيم يقطعه القادم من الطائف إلى مكّة من طريق كرا إذا أقبل على عرفات ، وهو يحفّ جنوب عرفات ، فيه مزارع ومياه كثيرة » (2).

وقال في مجمع البحرين : « الأراك كسحاب شجر يُستاك بقضبانه ، له حمل كعناقيد العنب يملأ العنقود الكفّ ، والمراد به هنا موضعٌ بعرفة من ناحية الشام قرب نَمِرَة » (3).

أقول : يبدو - كما ذكرنا سابقاً - أنّ الأراك ليس من حدود عرفة ؛ لعدم ملاصقته للحدود ، وإنّما نُهي عن الوقوف فيه وصرّح بعدم الإجزاء ؛ لاحتمال الاشتباه في الوقوف فيه.

وقد ذكر الدكتور الفضلي : أنّ عين زبيدة الشهيرة تنبع منه (4).

والخلاصة : فعرفة من جهة الشمال الشرقي حدّها جبل سعد ( جبل عرفات ).

ومن جهة الشرق سلسلة جبال. وكذا من جهة الجنوب. ومن الغرب وادي عُرَنَة.

وعلى هذا فسيكون ذو المجاز - إذا لم يكن هو السوق - حدّها من جهة الشمال الغربي.

ص: 20


1- معجم معالم الحجاز : ج 9 ، ص 69.
2- انظر المجاز لابن خميس : ص 287.
3- مجمع البحرين للطريحي ، مادّة أرك.
4- هداية الناسكين : 169.

وأمّا الأراك فهو ليس حدّاً لعَرَفَة ، كما هو واضح.

وجوه الجبال المحيطة بعَرَفَات داخلة في الموقف :

قد يقال : إنّ الجبال المحيطة بعرفات بما أنّها حدّ لعرفات فهي خارجةٌ عن الحدود ، فلا يجوز الوقوف بها ، مثلها مثل الحدود التي ذكرت في الرواية لعرفة فإنّها خارجةٌ عن الحدود.

ولكن نقول : إنّ الروايات التي ذكرت حدود عَرَفَة مثل ( نَمِرَة وعُرَنة وثَويَّة وذي المجاز والأراك ) قد صرّحت بخروجها عن عَرَفَة ؛ للنهي الذي ورد في الوقوف بها أو الأمر بالاتّقاء.

أمّا الجبال المحيطة بعرَفَة فالمفهوم الارتكازي أنّ واجهاتها من عَرَفَة ، بالإضافة إلى وجود القرائن الكثيرة الدالّة على دخول واجهات الجبال في عرفة ، منها :

1 - موثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : « سألت الإمام موسى بن جعفر علیهماالسلام عن الوقوف بعرفات فوق الجبل أحبّ إليك أم على الأرض ؟ فقال : على الأرض » (1).

وواضح أنّ فوق الجبل يكون محبوباً إليه ، إلاّ أنّ الأرض أحبّ إليه ، وهو معنى الجواز.

2 - صحيح معاوية بن عمّار ، عن الإمام الصادق علیه السلام في حديث قال : « وحدّ عَرَفَة من بطن عُرَنَة وثَويَّة ونَمِرَة إلى ذي المجاز ، وخلف الجبل موقف » (2). ومراده خلف الجبل الذي يكون وجهه إلى عرفات ، وهو يشمل كلّ ما يكون خلفه حتّى جهته التي تكون إلى عرفات.

ص: 21


1- الوسائل : ج 10 ، الباب 10 من أبواب إحرام الحجّ والوقوف بعرفة ، ح 5.
2- المصدر السابق ، ح 1.

3 - استحباب الوقوف في ميسرة الجبل : ومعنى ذلك - على أكثر تقدير - كراهة الوقوف على واجهة الجبل وهو معنى الجواز ، فقد روى معاوية بن عمّار في الصحيح عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « قف في ميسرة الجبل ، فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقف بعرفات في ميسرة الجبل ، فلمّا وقف جعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته فيقفون إلى جانبه ، فنحّاها ، ففعلوا مثل ذلك ، فقال : أيّها الناس ، إنّه ليس موضع أخفاف ناقتي الموقف ، ولكن هذا كلّه موقف ، وأشار بيده إلى الموقف » (1).

4 - عدم وجود أيّ رواية ولو ضعيفة في النهي عن الصعود على واجهة الجبال ، سواء كانت في عَرَفَة أو المُزْدَلِفة أو منى ، وما ذاك إلاّ لأوضحيّة جواز الوقوف عليها ودخولها في الحدّ.

5 - ما قاله الماوردي عن الشافعي : « حيث وقف الناس من عرفات في جوانبها ونواحيها وجبالها وسهولها وبطاحها وأوديتها ... إلخ » فإنّ هذا الكلام إذا ثبت تتمّ دليليّته بعدم الردع من قبل الإمام علیه السلام .

فتبيّن من هذه الأدلّة إجزاء الوقوف على واجهة الجبل المطلّة على عرفات أو منى أو مزدلفة على كراهيّة فيها.

ثانياً : حدود المزدلفة

اشارة

ويقال لها : جُمَع ( كما في بعض مناسك الحجّ ). ويقال لها : المشعر الحرام ، أو المشعر اختصاراً ، أخذاً بقوله تعالى : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) ولكن يُطلق المشعر على نفس المسجد القائم في المزدلفة ، ويؤيّده العنديّة المذكورة في الآية ، كما يطلق على جبل قُزَح أيضاً ، فقد ورد استحباب وطئ

ص: 22


1- المصدر السابق : الباب 11 ، ح 1.

الصرورة المَشْعَر برجله.

فقد حُكي عن الشهيد الأوّل في الدروس : « والظاهر أنّه المسجد الموجود الآن » ، وورد استحباب الصعود على قُزَح ( بضمّ القاف وفتح الزاي المعجمة ) ، قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه : « هو المشعر الحرام ، وهو جبلٌ هناك يستحبّ الصعود عليه وذكر اللّه عليه » (1).

وعلى هذا الذي تقدّم يكون إطلاق المشعر على المزدلفة كلّها إطلاقاً مجازيّاً من باب تسمية الشيء باسم الجزء.

وأمّا جُمَع التي ضُبِطَت في بعض مناسك الحجّ بضمّ الجيم وفتح الميم ، فقد ضُبِطَت عند الجغرافيّين والبلدانيين وأهل اللغة والمعاجم ، بفتح الجيم وسكون الميم ، فقد قال الشريف الرضي :

اُحِبُّكَ ما أقامَ منى وجَمْع *** وما أرسى بمكّة أخشباها

وقد سمّيت بذلك لاجتماع الحجّاج فيها بعد الإفاضة من عرفات.

وأمّا تسميتها بالمزدلفة : وبدون أل على صيغة اسم الفاعل على زِنَة ( مُفْتَعِل ) فقد جاءت هذه التسمية من الازدلاف بمعنى التقدّم والإفاضة كما جاء في حديث معاوية بن عمّار ، عن الإمام الصادق علیه السلام : « وإنّما سُمّيت مزدلفة لأنّهم ازدلفوا إليها من عرفات » (2). ومقتضى مفاد هذا الحديث أن يكون لفظها بصيغة اسم المفعول ( مزدلَفة ) بفتح اللام لأنّها اسم مكان.

وأمّا حدود المزلفة : فقد ذكرت الروايات حدود المزدلفة « بما بين المأزمين إلى الحياض إلى وادي محسِّر » (3).

وفي صحيح زرارة عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « حدُّها ما بين المأزمين إلى

ص: 23


1- شرح اللمعة الدمشقيّة : ج 2 ، ص 276.
2- الوسائل : ج 10 ، الباب 4 من أبواب الوقوف بالمشعر ، ح 5.
3- المصدر السابق ، ح 1.

الجبل إلى حياض محسِّر » (1).

وقال الصادق علیه السلام في خبر أبي بصير : « حدّ المزدلفة من وادي محسِّر إلى المأزمين » (2).

وفي خبر إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن علیه السلام : قال : « سألته عن حدّ جَمْع ؟ قال : ما بين المأزمين إلى وادي محسِّر » (3).

وفي صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام في حديث قال : « ولا تجاوز الحياض ليلة المزدلفة » (4).

شرح الحدود :

1 - المأزمان - بكسر الزاء وبالهمز ، ويجوز التخفيف بالقلب ألفاً - ، وهما جبلان بينهما مضيق يدلف إلى عرفات ، وهو حدّ المزدلفة من الشرق ، فقد ذكر الجوهري : « أنّ المأزم كلّ طريق ضيّق بين جبلَين ، ومنه سمّي الموضع الذي بين جمع وعرفة مأزمَين ».

وفي القاموس : « المأزم ، ويقال له : المأزمان مضيق بين جمع وعرفة ، وآخر بين مكّة ومنى ». وظاهرهما : أنّ المأزم اسمٌ لموضعٍ مخصوص وإن كان بلفظ التثنية.

2 - حياض مُحَسِّر ( وادي محسِّر ) : محسِّر - بضمّ الميم وفتح الحاء المهملة وكسر السين المهملة وتشديدها - على زِنَة اسم الفاعل.

قال البلادي : « محسِّر : واد صغير يمرّ بين منى ومزدلفة وليس منها ، يأخذ من سفوح ثبير إلى الأثبرة الشرقيّة ، ويدفع إلى عرفة مارّاً بالحسينيّة ، ليس به

ص: 24


1- المصدر السابق ، ح 2.
2- المصدر السابق ، ح 4.
3- المصدر السابق ، ح 5.
4- المصدر السابق ، ح 3.

زراعة ولا عمران ، والمعروف منه ما يمرّ فيه الحاجّ على طريق بين منى ومزدلفة ، وله علامات هناك منصوبة » (1).

وقال ابن خميس في مجازه : « ومحسِّر : واد يُقبل من الشمال إلى الجنوب من فج يفصل بين منى وجبالها وبين مزدلفة وجبالها ، وهو منخفض يسيل عليه ما والاه منهما ، وما يسيل من منى أكثر ، وعرض وادي محسِّر خمسمئة وأربعون ذراعاً » (2) ، أي ما يساوي (270) متراً تقريباً.

وذكر في وجه تسميته بمحسِّر من التحسير ، أي الإيقاع في الحسرة ، أو الإعياء ، سُمّي به لأنّه قيل : إنّ أبرهة أوقع أصحابه في الحسرة أو الإعياء لمّا جهدوا أن يتوجّه إلى الكعبة فلم يفعل » (3).

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد من الحياض هي وادي محسِّر ، لا أنّه مكانٌ آخرٌ من المزدلفة ، وأنّ الحياض جمع حوض وهو الوادي الذي قد يكون فيه مجموعة حياض ، وقد تقدّم من الروايات التعبير ( بحياض محسِّر ) فيكون التعبير بوادي محسِّر بعد كلمة « الحياض » في بعض الروايات لبيان معنى الحياض.

ووادي محسِّر هو حدود مزدلفة من ناحية الغرب ، فضفّة وادي محسِّر الشرقيّة هي الحدّ الفاصل بين مزدلفة ومنى.

أقول : هذا التحديد الذي ذُكر هو تحديد للمزدلفة من ناحية طولها.

أمّا تحديد مزدلفة العرضي فيوجد جبلان كبيران مطلاّن على المزدلفة : أحدهما من الجهة الشماليّة يقال له جبل المزدلفة ، والآخر من الجهة الجنوبيّة ، وقد ذكرتهما صحيحة زرارة المتقدّمة عن الإمام الباقر علیه السلام بقولها : « إلى الجبل » ، والمراد به جنس الجبل هناك فيشمل الشمال والجنوب.

ص: 25


1- معجم معالم الحجاز ، البلادي : ج 8 ، ص 42.
2- المجاز لابن خميس : ص 301.
3- جواهر الكلام : ج 19 ، ص 21.

إذن تبيّن أنّ ما بين حدَّي مزدلفة طولا وما بين حدَّيها عرضاً من الشعاب والهضاب والقلاع والروابي ووجوه الجبال كلّها تابعةٌ لمشعر مزدلفة وداخلةٌ في حدودها ، فعن الإمام الباقر علیه السلام قال : « ووقف النبيّ صلی اللّه علیه و آله بجمع ، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته ، فأهوى بيده وهو واقفٌ فقال : إنّي وقفت ، وكلّ هذا موقف » (1).

وعلى هذا التحديد لمزدلفة فلا يجوز الوقوف في المأزمَين وقبلها إلى عرفات ، ولا في وادي محسِّر وبعده إلى منى ، فإنّ هذه الحدود ليست من مزدلفة ، فلا يجزي الوقوف فيها ، وقد ورد في صحيح هشام بن الحكم عن الإمام الصادق علیه السلام قال في حديث : « ولا تجاوز وادي محسِّر حتّى تطلع الشمس » (2).

وصحيح الحلبي ، عن الإمام الصادق علیه السلام قال في حديث : « ولا تجاوز الحياض في ليلة المزدلفة » (3).

وقد جوّزت الروايات الارتفاع إلى المأزمَين الذي هو حدّ لمزدلفة خارجٌ عن المحدود عند الضرورة ؛ لازدحام الناس وضيق مزدلفة عليهم ، فقد روى سماعة في الموثّق قال ، قلت للإمام الصادق علیه السلام : « إذا كثر الناس بجمع وضاقت عليهم كيف يصنعون ؟ قال : يرتفعون إلى المأزمَين » (4).

ثالثاً : حدود مِنى

اشارة

منى : - بكسر الميم والتنوين - ، سُمّيت بذلك لما يُمنى فيها من الدماء.

ص: 26


1- الوسائل : ج 10 ، الباب 8 من أبواب الوقوف بالمشعر ، ح 7.
2- المصدر السابق ، الباب 15 من أبواب الوقوف بالمشعر ، ح 2.
3- المصدر السابق ، الباب 8 من أبواب الوقوف بالمشعر ، ح 3.
4- المصدر السابق ، الباب 9 من أبواب الوقوف بالمشعر ، ح 1.

وقيل : إنّها سُمّيت لما يُمنى فيها من الدعاء.

وقيل : لِما رُويَ عن ابن عبّاس : « أنّ جبرئيل علیه السلام لمّا أراد أن يُفارق آدم علیه السلام قال له : تَمَنَّ ، قال : أتَمنَّى الجنَّة ، فُسُمِّيت بذلك لاُمنيته » (1).

وقيل : « سميت منى لأنّ جبرئيل أتى إبراهيم علیه السلام فقال له : تمنَّ على ربِّك ما شئت ». فسُمِّيَت مِنى ، واصطلح عليها الناس ، وفي الحديث : « أنّ إبراهيم تمنّى هناك أن يجعل اللّه مكان ابنه كبشاً يأمره بذبحه فديةً له » (2). فأعطاه اللّه مُناه.

وقد اتّفقت الروايات على أنّ حدّ مِنى من جهة الطول من العقبة إلى وادي محسِّر ( على صيغة اسم الفاعل ) ، فقد ذكر في صحيح معاوية ، عن أبي بصير ، عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « حدّ منى من العقبة إلى وادي محسِّر » (3).

وجمرة العقبة هي حدّ منى من جهة مكّة ، ووادي محسِّر حدّها من جهة مزدلفة ، وهذا الحدّ قد ذكره المؤرّخون والجغرافيّون أيضاً.

فقد قال الأزرقي في أخبار مكّة بسنده عن ابن جريح : « قال : قُلت لعطاء ابن أبي رباح أين مِنى ؟ قال : من العقبة إلى محسِّر ، قال عطاء : فلا أحبّ أن ينزل أحد إلاّ فيما بين العقبة ومحسِّر ... » (4).

أقول : هذا الذي تقدّم هو حدّ لمِنى من ناحية الطول ، أمّا حدّها من ناحية العرض فهو ما بين الجبَلَين الكبيريَن بامتدادهما من العقبة حتّى وادي محسِّر ، وقد ذكر الفاسي في شفاء الغرام : « أنّ ما أقبل على مِنى من الجبال المحيطة بها من كِلا جانبَيها فهو منها ، وما أدبر من الجبال فليس منها » (5).

ص: 27


1- جواهر الكلام : ج 19 ، ص100.
2- راجع مجمع البحرين ، مادّة مِنى.
3- الوسائل : ج 10 ، الباب 6 من أبواب إحرام الحجّ ، ح 3.
4- مجلّة العرب ، السنة الثامنة : ج 1 ، ص 78 - 80 ، عن هداية السالكين : ص 164.
5- المصدر السابق ، عن هداية السالكين : ص 163.

وقد قال النووي في المجموع : « واعلم أنّ منى شِعبٌ ممدودٌ بين جبلَينَ : أحدهما ثبير ، والآخر الصابح قال الأصحاب : ما أقبل على مِنى من الجبال فهو منها ، وما أدبر فليس منها » (1).

أقول : كأنَّ مِنى لا تحتاج إلى أن تحدّد من ناحية العرض ؛ لوجود هذَين الجبلَين الكبيرين المفروض أنّهما حدٌّ للمنطقة ، فكأنّ السؤال في الروايات عن حدٍّ خاصٍّ من ناحية مكّة ومزدلفة فذكرته الروايات.

العقبة هل هي من مِنى ؟

الجواب : بقرينة اتّفاقهم على أنّ ( محسِّراً ) ليس من مِنى ، وإنّما هو حدّ لها فكذلك العقبة ، لاقترانها هي الأُخرى بأداة التحديد وهي ( من ) ، ولكن حكى عن بعض الفقهاء : أنّ العقبة من مِنى وليست حدّاً لها.

وسُمّيت بالعقبة لأنّها مدخل مِنى من الغرب ، وسُمّيت الجمرة هنا بجمرة العقبة.

مشكلة الذبح :

وعلى ما تقدّم من حدود مِنى تواجهنا مشكلة حاليّة بناءً على ما اتّفقت عليه الإماميّة من وجوب الذبح في مِنى ، لأنّ المذبح الذي أوجدته الحكومة السعودية يكون خارج مِنى حسب العلامات التي نصبت هناك ، وتمنع الحكومة الذبح في غير هذه الأماكن التي أعدّتها للذبح حتّى في الأيّام الأُخرى بعد يوم النحر وأيّام التشريق ، فهل من مخرج لهذه المشكلة العويصة ؟

وتشتدّ هذه المشكلة على الناس فيما إذا علمنا أنّ الذبح خارج مِنى لا يجزي ، إذ ليس المورد من موارد التقيّة ، فإنّ مورد التقيّة فيما إذا كان المكلّف غير معروف المذهب ، فلا يعمل بما هو الحقّ عنده خوفاً من الظالم ، والواقع القائم الآن بخلافه

ص: 28


1- المصدر السابق ، عن هداية السالكين : ص 164.

تماماً ، لأنّ المكلّف معروف المذهب ، ومعلوم أنّه لا يعتقد صحّة الذبح خارج مِنى ، وأنّه يريد الذبح في مِنى ، إلاّ أنّ المنع الحكومي الناشئ من أنّ من يخالف ويشقّ عصا طاعة وليّ الأمر لا يجوز إقراره على مخالفته من أيِّ مذهب كان.

وعلى هذا يكون المورد إذا كان هناك إجبار على الذبح في المسلخ على المكلفّ من باب ارتكاب أخفّ المحظورَين وأقلّ الضررَين ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ، ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ، فهو من باب قوله علیه السلام : « لَئِن أفطر يوماً ثمّ أقضيه أحبّ إليَّ من أن تضرب عنقي » ، وأمّا إذا لم يكن إجبارٌ على الذبح وذَبَحَ خارج مِنى فهو لا يجزي أيضاً.

وعلى هذا فيجب القضاء على المكلف لهذا النسك إذا تمكّن بعد ذلك في بقيّة أيّام ذي الحجة ، أو أن يخلف ثمنه عند عدل ليشتري له هدْياً ويذبحه في شهر ذي الحجّة.

فهل توجد طريقة للتخلّص من هذه المشكلة وتقول بالاكتفاء بالذبح في المذبح الحالي الذي هو خارج مِنى ؟

الجواب : توجد عندنا روايات معتبرة تقول : إذا ازدحمت مِنى بالناس ارتفعت إلى وادي محسِّر ، فيكون وادي محسِّر حكمه حكم مِنى ، وحينئذ يكون الذبح في المذبح الحالي مجزياً.

ففي معتبرة سماعة قال : « قلت للصادق علیه السلام : إذا كثر الناس بمِنى وضاقت عليهم كيف يصنعون ؟ فقال : يرتفعون إلى وادي محسِّر ... » (1).

فهل يمكن الاكتفاء بهذه الرواية للذبح خارج الحدّ والوقوف كذلك ؟

إذا كان الجواب بالإيجاب فتنحلّ مشكلة مهمّة.

خلاصة لكلّ البحث :

الخلاصة هي : أنّ نَمِرَة - التي هي بطن عُرَنَة - هل من عرفات أو لا ؟ وكذا مسجد

ص: 29


1- الوسائل : ج 10 ، الباب 11 من أبواب إحرام الحجّ ، ح 4.

إبراهيم القديم الذي يكون في نَمِرَة ؟

فإن قلنا : إنّها خارجةٌ من عرفات - كما هو ظاهر الروايات التي شرحت لنا حجّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكذا بقيّة الروايات التي أخرجت نَمِرَة عن حدود عرفات - تواجهنا مشكلة أنّ الوقوف في عُرَنَة ليس من الزوال إلى الغروب.

وإن قلنا : إنّ نَمِرَة من عرفات - كما هو رأي يقال - تخلّصنا من هذه المشكلة ، ولكن تبقى مشكلة ثانية ، وهي مخالفة ظاهر الروايات ، بل صريح بعضها ، وأقوال أهل الخبرة الذين حدّدوا عرفات بإخراج نَمِرَة من عرفات ؛ لأنّها بطن وادي عُرَنَة ، وهذا الوادي كلُّه حدّ عرفات من جهة الغرب ، وقد صرّحت الروايات بالارتفاع عنه.

أقول : ألا نحتمل وجود منطقة في داخل عرفات كانت تسمّى نَمِرَة قد صلّى النبي صلی اللّه علیه و آله فيها ووضع رحله ؟ وأمّا قرية نَمِرَة التي هي بطن عُرَنَة فهي خارجةٌ عن حدّ عرفات ، فإن ثبت ذلك انحلّت مشكلة عدم وجوب الوقوف من أوّل الزوال إلى الغروب في عُرَنَة. ويكون حكاية حجّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله مطابقة لوجوب الوقوف في عرفة من أوّل الزوال إلى الغروب ، وأمّا الموقف الذي يُذكر في الروايات فالمراد به الوقوف في سفح الجبل الذي يستحبّ فيه الدعاء والوقوف.

وإن لم يثبت ذلك فلابدّ من القول بعدم وجوب الوقوف من الزوال إلى الغروب ، بل الواجب هو الوقوف بعد الظهر بساعة إلى الغروب.

وأمّا بالنسبة للمزدلفة فلا يوجد خلاف في حدودها ، وقد وقع تعيين هذه الحدود طبقاً لما قرّره الشارع المقدّس بين المأزمين ووادي محسِّر ، وأمّا التحديد العرضي فهو الجبلان المطلاّن عليها من الجبهة الشماليّة والجنوبيّة.

وأمّا مِنى فأيضاً لا يوجد خلاف في حدّها الذي هو من وادي محسِّر إلى العقبة طولا وما بين الجبلين المطلّين عليها عرضاً ، وقد تعرّضنا لمشكلة الذبح التي هي مشكلة معاصرة ؛ لوجود المذابح خارج مِنى ، والحكومة السعودية تمنع من الذبح في مِنى ، وأوجدنا حلاًّ قد يكون مقبولاً من الناحية الفنّيّة.

ص: 30

أدنی الحل

اشارة

ص: 31

ص: 32

إنّ المقصود بأدنى الحِلِّ : هو أقرب الأماكن الى حدود الحرم من خارج الحدود ؛ ولهذا تعرف المنطقة التي تقع داخل حدود الحرم ب ( الحرم ) ، لما لها من أحكام خاصة تقديساً لمكّة.

وتعرف المنطقة التي تقع خارج الحدود ب ( الحِلّ ) ؛ لأنّ اللّه تعالى حلّل فيها ممارسة ما حرّم داخل الحدود.

وقد انعكس ذكر ( الحلّ والحرم ) في الشعر العربي ، كما ورد في قول الفرزدق مادحاً الإمام علي بن الحسين ( زين العابدين ) علیه السلام :

هذا الذي تعرفُ البطحاء وطأته *** والبيتُ يعرفه والحلّ والحرمُ

وقد جعل الشارع المقدّس أدنى الحِلِّ ميقاتاً للعمرة المفردة على نحو الرخصة بالتفصيل الآتي :

لقد ذكر الفقهاء ( رضوان اللّه عليهم ) : أنّ القارن أو المفرِد أو المتمتّع بعد إتمام حجّة التمتع ، أو مَنْ كان بمكّة ليس بحاجٍّ ، أو مَنْ تعدَّى المواقيت - التي وقَّتَها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للإحرام وأراد الدخول الى مكّة - إذا أراد إتيان العمرة المفردة فميقاته أدنى الحِلّ بلا خلاف في ذلك.

ومعنى ذلك : هو أن يخرج المعتمر - مثلاً - الى خارج حدود الحرم المحدّد في الروايات بأنّه : « بريد في بريد » فيحرم منه.

وقد ذكر الفقهاء استحباب أن يحرم المعتمر من الجعرانة أو الحديبيّة أو

ص: 33

التنعيم ، للتصريح بها في الروايات ، وللتأسّي ، فمن الروايات :

1 - ما عن معاوية بن عمار في الصحيح عن الإمام الصّادق علیه السلام قال : « اعتمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثلاث عمر متفرقات : عمرة ذي القعدة ، أهلّ من عسفان وهي عمرة الحديبية ، وعمرةٌ أهلَّ من الجحفة وهي عمرة القضاء ، وعمرة من الجعرانة بعدما رجع من الطائف من غزوة حنين » (1).

وقد نقل عن طريق أبناء السنّة ، عن ابن عباس : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله اعتمر أربع عمر : عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء من قابل ، والثالثة من الجعرانة ، والرابعة التي مع حجّته » (2).

أقول : وظاهر الروايتين جواز الإحرام من عسفان ، وهو يبعد عن مكّة مرحلتين ( 48 كيلومتراً ) تقريباً ، وهو ليس ميقاتاً ، وليس من أدنى الحِلّ.

ولكن الإمام الخوئي رحمه اللّه ذكر ما يلي : « أنّ الذي يظهر من الروايات الصحيحة والتواريخ المعتبرة أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنما اعتمر بعد الهجرة عمرتين ، وإنّما عبّر في الصحيحة المتقدمة بثلاث عمر باعتبار شروعه في العمرة والإحرام لها ، ولكنّ المشركين منعوه من الدخول الى مكّة ، فرجع صلی اللّه علیه و آله بعد ما صالحهم في الحديبية ، واعتمر في السنة اللاحقة قضاءً عما فات عنه صلی اللّه علیه و آله وعن أصحابه ، فسُمّيت بعمرة القضاء ، كما صرّح بذلك في صحيحة أبان ، عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « اعتمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عمرة الحديبية وقضى الحديبية من قابل ، ومن الجعرانة حين أقبل من الطائف ثلاث عمر كلهن في ذي القعدة » (3).

وفي صحيحة صفوان أنه صلی اللّه علیه و آله أحرم من الجعرانة (4).

ص: 34


1- وسائل الشيعة : ج 10 ، باب 2 من أبواب العمرة ، ح 2.
2- وسائل الشيعة : ج 10 ، باب 2 من أبواب العمرة ، ح 6.
3- وسائل الشيعة : ج 10 ، باب 2 من أبواب العمرة ، ح 3.
4- وسائل الشيعة : ج 8 ، باب 9 من أقسام الحجّ ، ح 6.

فالذي يستفاد من صحيحة معاوية بن عمار : أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أحرم من مسجد الشجرة للعمرة ، ورفع صوته بالتلبية من عسفان ( وهو معنى أهلّ ) وهي العمرة التي منعه المشركون من الدخول الى مكة وصالحهم في الحديبيّة ، ورجع من دون إتيان مناسك العمرة ، ثم في السنة اللاحقة اعتمر وأحرم من مسجد الشجرة ، وأهلّ ورفع صوته بالتلبية من الجحفة فسُميت بعمرة القضاء ، وأمّا الجعرانة فالظاهر من الصحيحة أنه صلی اللّه علیه و آله أحرم منها لظهور قوله : « وعمرة الجعرانة » في أن ابتداء العمرة كان من الجعرانة ، لا أنه أحرم قبل ذلك ورفع صوته بالتلبية من الجعرانة ، كما صرح بذلك في صحيحة أبان المتقدمة. فالمستفاد من الصحيحة جواز الإحرام للعمرة المفردة من الجعرانة اختياراً وإن لم يكن من أهل مكّة كالنبي صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، كما يجوز الإحرام من أدنى الحِلّ ، ولكن يختص ذلك بمن بدى له العمرة في الأثناء » (1).

أقول : وعلى هذا الذي تقدم فستكون هذه الرواية دليلا على جواز الإحرام من الجعرانة ، التي هي أقرب الحلِّ الى الحرم فقط.

2 - ما عن جميل بن دراج في الصحيح ، قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن المرأة الحائض إذا قدمت مكّة يوم التروية ؟ قال علیه السلام : تمضي كما هي الى عرفات فتجعلها حجة ، ثم تقيم حتى تطهر فتخرج الى التنعيم فتحرم فتجعلها عمرة ، قال ابن أبي عمير : كما صنعت عائشة » (2).

وكان صُنْعُ عائشة ، كما ذكره ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب معاوية بن عمار ، فقال :

« ... إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نزلها - البطحاء - حين بعث عائشة مع أخيها عبد الرحمان إلى التنعيم ، فاعتمرت لمكان العلّة التي أصابتها ؛ لأنّها قالت

ص: 35


1- مستند العروة الوثقى : ج 2 ، ص391 - 392 ، كتاب الحج ، تقريرات الإمام الخوئي ، بقلم السيد رضا الخلخالي.
2- وسائل الشيعة : ج 8 ، باب 21 من أقسام الحجّ ، ح 2.

لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ترجع نساؤك بحجّة وعمرة معاً ، وأرجع بحجّة ؟ فأرسل بها عند ذلك ... » (1).

3 - روى ابن بابويه في الصحيح ، عن عمر بن يزيد ، عن الإمام الصّادق علیه السلام : « مَنْ أراد أن يخرج من مكّة ليعتمر فليعتمر من الجعرانة أو الحديبية أو ما أشبههما » (2).

وهذه الرواية تشمل جميع مواضع الحرم لقوله علیه السلام : « أو ما أشبههما » ، كما أنها مطلقة من حيث كون العمرة مسبوقة بالحجّ أم لا ، فحينئذ لا ينبغي الريب في هذا الحكم.

أقول : تبيّن من هذه الروايات : أنّ ثلاثة مواقيت قد فضِّلت في إحرام العمرة المفردة على بقية نقاط أدنى الحِلّ ، وهي :

1 - الحديبية. 2 - الجعرانة. 3 - التنعيم.

أمّا الجحفة فهي ميقات أبعد من أدنى الحِلّ بكثير ، يمرّ بها - الآن - حجّاج البحر القادمون عن طريق ميناء ينبع من مصر وغيرها ، وحجّاج البّر القادمون من الأردن عن طريق العقبة. وقد رأينا أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أهلَّ منها ، وكذا عسفان التي تبعد عن مكة مرحلتين.

ولا بأس بالإشارة الى أنَّ هذه المواقيت الثلاثة هي رخصة لا عزيمة ، كما ذكر ذلك صريحاً شيخ الطائفة وصاحب الجواهر 0 (3).

وبهذا يكون من الجائز الخروج الى أحد المواقيت كالجحفة ويلملم والعقيق وغيرها للإحرام منها ، وذلك للروايات الدالة على أنَّ هذه المواقيت لأهلها ولمن أتى عليها من غير أهلها ، فقد روى صفوان بن يحيى في الصحيح عن الإمام أبي

ص: 36


1- المصدر السابق ، باب 3 من أقسام الحج ، ح 4.
2- المصدر السابق ، باب 22 من المواقيت ، ح 1.
3- جواهر الكلام : ج 18 ، ص 119.

الحسن الرضا علیه السلام فكتب : « ... أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقَّت المواقيت لأهلها ، ومن أتى عليها من غير أهلها ، وفيها رخصة لمن كانت به علة ، فلا تجاوز الميقات إلاّ من علّة » (1).

والذي نريد أن نبحثه الآن هو تفصيل المواقيت الثلاثة ، وهي : ( الحديبية ، الجعرانة ، التنعيم ) ، وما أشكل على موضع التنعيم من كونه أبعد من موضعه الحالي والجواب عنه ، فنقول :

1 - الحديبية

اشارة

الحديبية : - بضمّ الحاء المهملة ، ففتح الدال المهملة ، ثمّ ياء مثنّاة تحتانية ساكنة ، ثمّ باء موحّدة ، ثم ياء مثنّاة تحتانية ، ثمّ تاء التأنيث - هي في الأصل اسم بئر خارج الحرم على طريق جدّة عند مسجد الشجرة ، التي كانت عندها بيعة الرضوان ، التي نزل فيها القرآن : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ... ) (2).

وقال الخطّابي في أماليه : سُمّيت بالحديبية لشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع ، وبين الحديبية ومكة مرحلة وفي الحديث : « إنّها بئر ». وبعض الحديبية في الحِلّ وبعضها في الحرم وهو أبعد الحلّ من البيت ... وعند مالك بن أنس انها جميعها من الحرم (3).

ضبط الكلمة :

لقد استعملت الياء المثناة المفتوحة بالتخفيف والتشديد.

ص: 37


1- وسائل الشيعة ، 8 : باب 15 من ابواب المواقيت ، ح 1.
2- الفتح : 18.
3- معجم معالم الحجاز لعاتق بن غيث البلادي : ج 2 ، ص 246 - 247.

وفي كشف اللثام : قال السهيلي : « والتخفيف أعرف عند أهل العربية ، وقال أحمد بن يحيى : لا يجوز فيها غيرُه وكذا عن الشافعي ». وقال أبو جعفر النحاس : « سألت كل من لقيت ممن أثق بعلميته من أهل العربية عن الحديبية فلم يختلفوا على أنها مخففة. وقيل : إنَّ التثقيل لم يُسمع من فصيح » (1).

وقال في الحدائق الناضرة : « قال ابن ادريس في السرائر : الحديبية اسم بئر خارج الحرم يقال : الحديبية بالتخفيف والتثقيل ، وسألت ابن العطار النوهي ؟ فقال : أهل اللغة يقولونها بالتخفيف ، وأصحاب الحديث يقولونها بالتشديد ، وخطّه عندي بذلك ، وكان إمام اللغة ببغداد » (2).

وفي تهذيب الأسماء عن مطالع الأنوار : « ضبطناها بالتخفيف عن المتقنين ، وأمّا عامّة الفقهاء والمحدّثين فيشدّدونها » (3).

وتعرف منطقة الحديبية - اليوم - ب « الشميسي » بالتصغير ، وتقع غربي مكة المكرمة في الحِلّ على طريق مكة جدة القديم ، بينها وبين علمي الحرم المكي مسافة قليلة ، وبين العلمين ومكة حوالي اثنين وعشرين كيلو متراً.

2 - الجعرانة

اشارة

ضبطها : « بكسر الجيم وإسكان العين المهملة وتشديد الراء المهملة المفتوحة » كما عن الجمهرة. وعن الأصمعي والشافعي : « بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء. قيل : العراقيون يثقّلونه ، والحجازيون يخفّفونه » وحكي عن ابن ادريس : بفتح الجيم وكسر العين وتشديد الراء أيضاً ، فالراء فيها تخفف وتشدّد

ص: 38


1- كشف اللثام.
2- الحدائق الناضرة للشيخ يوسف البحراني : ج 14 ، ص 455 - ص 456.
3- عن كتاب الحج ، تقريرات آية اللّه العظمى السيد الشاهرودي : ج 2 ، ص 294.

لاستعمالين موثقين.

وهي موضع بين مكّة والطائف من الحِلِّ ، بينها وبين مكّة ثمانية عشر ميلاً على ما ذكره الباجي ، وتقع شمال شرقي مكة المكرمة ، وفيها علما الحدّ ، ومنها أحرم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعمرته الثالثة على ما نصت عليه الروايات ، وفيها مسجده الذي صلّى فيه وأحرم منه عند مرجعه من الطائف بعد فتح مكة ، ويقع هذا المسجد وراء الوادي بالعدوة القصوى ويعرف بالمسجد الأقصى لذلك ، ولوجود مسجد آخر بُني من قبل أحد المحسنين يعرف بالمسجد الأدنى. وبالقرب من مسجد الرسول صلی اللّه علیه و آله بئر واسعة عذب ماؤها. وهي اليوم قرية صغيرة تبعد عن مكة في الشمال الشرقي لها بحوالي أربعة وعشرين كيلو متراً ، وفيها المسجد الذي أقامته الحكومة السعودية محرماً ، شرقي أرض المسجد القديم دونما فصل بينهما .. (1) ولكن مؤلف معجم معالم الحجاز ذكر عن الجعرانة : « ومن قال : إنها - الجعرانة - بين مكة والطائف فقد أخطأ ، فهي شمال مكة ، مع ميل إلى الشرق ولا لزوم في ذكر الطائف في تحديدها أبداً ، إذ هي لا تبعد عن مكة بأزيد من (29) كيلو متراً » (2).

الجعرانة وموقعها الجغرافي :

ذكر مؤلف مختصر معجم معالم مكّة التاريخية : أنَّ « جبل الستار يقع قُرب الجعرانة من الجنوب ، وهو الجبل الذي يُشرف على علميْ طريق نجد من الشمال ، والذاهب من مكة الى نخلة يجعل الستار على يساره عن قرب ، والجعرانة - اليوم - قرية صغيرة في صدر وادي سَرِف » (3).

ص: 39


1- هداية الناسكين : ص 89 ، تحقيق الدكتور عبد الهادي الفضلي.
2- معجم معالم الحجاز ( عاتق بن غيث البلادي ) : ج 2 ، ص 148 - 149.
3- مختصر معجم معالم مكة التاريخية : ص 15.

3 - التنعيم

اشارة

التنعيم : - بفتح التاء الفوقانية المثناة - « بلفظ المصدر ، سُمي به موضع على ثلاثة أميال من مكة أو أربعة ... به مسجد الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ومسجد الإمام زين العابدين علیه السلام ومسجد اُمّ المؤمنين عائشة ، وسمي بالتنعيم لأنّ جبلا اسمه نعيم يقع عن يمينه ، وعن شماله يقع جبل آخر اسمه ناعم ، واسم الوادي نعمان ، وهو أقرب أطراف الحِلّ الى مكة ، كما هو واضح الآن » (1).

والتنعيم يقع في الشمال الغربي لمكّة المكرّمة ، بينها وبين سَرِف - الذي فيه قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوجة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - على طريق مكة المدينة المارِّ بوادي فاطمة ( المعروف قديماً بمرِّ الظهران ).

وقد ذكر مؤلف مختصر معجم معالم مكة التاريخيّة موقع التنعيم فقال : « واد ينحدر شمالا بين جبال بشم شرقاً ، وجبل الشهيد جنوباً ، فيصب في وادي ياج وهو ميقات لمن أراد العمرة من المكّيّين ، وتسمى عمرته : عمرة التنعيم ، أي مكان الاعتمار ؛ وذلك تمييزاً لها عن عمرة الجعرانة ، وكان يسمى نعمان ، قال محمد بن عبد اللّه النميري :

فلم تر عيني مثل سرب رأيتهُ *** خرجنَ من التنعيم معتمرات

مررنَ بفخٍّ ثمّ رُحْنَ عشية *** يلبين للرحمن مؤتجرات

تضوَّع مسكاً بطنُ نعمان إذ مشت *** به زينبٌ في نسوةٍ عطرات (2)

وقد ذكر في المختصر المتقدّم : « وقد توهّم البعض أنّ نعمان الوارد هنا هو

ص: 40


1- كتاب الحج للسيد آية اللّه العظمى الشاهرودي : ج 2 ، ص 295 بتصرّف. أقول : سيأتي أنّ جبل نعيم جنوب شرق التنعيم ( مسجد العمرة ) وجبل ناعم يكون من ناحية الشرق.
2- مختصر معجم معالم مكة التاريخية : ص 9 - 10.

نعمان الأراك وهذا خطأ ، إذ أنّ من يعتمر قاصداً المسجد الحرام ليس قريباً من نعمان الأراك » (1).

أقول : لا ينبغي الريب في أن نعمان الذي يكون بعد الاعتمار من مسجد التنعيم لا ارتباط له بنعمان الأراك الذي يكون جنوب عرفات ، وذلك لأنَّ التنعيم يقع شمال غربي مكّة ، فالمعتمر منه الذي يريد مكة لا يمرّ بنعمان الأراك الذي يكون جنوب عرفات (2) ، والذي حدده البلادي بأنه « واد فحل من أودية الحجاز التهامية ... ينحدر غرباً ، فيمرّ جنوب عرفات عن قرب ، ثم يجتمع بعُرنة فيطلق عليه اسم عُرَنة ، يمرّ بين جبلي كُساب وحَبَشي جنوب مكة على أحد عشر كيلو متراً ، ويكون هناك حدود الحرم الشريف ، ويتسع الوادي بين كبكب والقرضة فيسمى خبت نعمان لفياحه وسعته » (3).

ثمّ إنّه يُعرف موضع الإحرام من التنعيم اليوم ب « العمرة » ، وفيه مسجد يعرف ب « مسجد عائشة » نسبة الى أمّ المؤمنين عائشة زوجة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لأنَّ أخاها عبد الرحمان أحرم بها للعمرة من التنعيم امتثالا لأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عندما أمره بذلك ، كما ذكرت ذلك الرواية المتقدّمة ، وقد شيّدت الحكومة السعودية مسجداً جنوبي علمي الحرم المكّي ، الماثلين حالياً ، وقريباً من موقع المسجد ، الذي كان قبله في هذا الموضع ، وقد أصبح المكان اليوم حيّاً من أحياء مكّة السكنيّة يُعرف بحيّ العمرة ، يبعد عن المسجد الحرام أو مكّة القديمة (6) كيلومترات.

التشكيك في ميقات التنعيم الحالي :

هذا وقد وجدت كلمات لبعض المؤرخين الجغرافيين تلمح الى أن التنعيم

ص: 41


1- المصدر السابق.
2- ومعلوم أنّ عرفات تقع شرقي مكّة.
3- معجم معالم الحجاز : ج 9 ، ص 69.

الذي هو موضع الإحرام هو في غير الموضع المعروف حاليّاً بالعمرة ، واليك بعض الكلمات في ذلك :

1 - قال أبو إسحاق الحربي الخراساني ( ت 285 ) في كتابه المناسك ص 467 : « والتنعيم وراء القبر ( قبر ميمونة ) بثلاثة أميال قبل مسجد عائشة ، وهو موضع الشجرة ، وفيه مسجد وأبيات ، ومنه يحرم مَنْ أراد أن يحرم ».

والشجرة التي أشار اليها هي شجرة هليلجة كانت في المسجد المعروف بمسجد الهليلجة ثمّ سقطت.

وهذا الكلام يتنافى مع ما هو واقع اليوم ، من أن التنعيم بين مكة وسَرِف الذي فيه قبر ميمونة ، ويتنافى مع كون التنعيم هو مسجد عائشة التي أحرمت منه بأمر الرسول الكريم حيث يقول المؤرخ : « بأن التنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال ، وقبل مسجد عائشة ».

ثم قال أبو اسحاق الحربي الخراساني : « عن مالك بن دينار ، عن القاسم ، عن عائشة : أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أعمرها من التنعيم ، ثم مسجد عائشة بعده بنحو ميلين دون مكة بأربعة أميال ».

وهذا الكلام - أيضاً - يغاير ما هو المعروف اليوم من أن المسافة الى علمي التنعيم القائميْن حالياً لا يزيد على ستة كيلومترات أي أربعة أميال.

2 - وجاء في كتاب وفاء الوفاء للسمهودي ( ت 911 ه ) : « قال الأسدي : والتنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال ، وهو موضع الشجرة وفيه مسجدٌ لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفيه آبار ، ومن هذا الموضع يحرم من أراد أن يعتمر ، ثمّ قال : ميقات أهل مكّة بالإحرام مسجد عائشة ، وهو بعد الشجرة بميلين ، وهو دون مكة بأربعة أميال ، وبينه وبين أنصاب الحرم غلوة ».

وهذا النص - أيضاً - يصرِّح بأن التنعيم الذي يحرم منه للعمرة ليس هو ما يكون ماثلاً اليوم ، إذ يكون التنعيم بعد قبر ميمونة بثلاثة أميال ، وبينه وبين أنصاب الحرم غلوة.

ص: 42

3 - وقال أحمد بن عبدالحميد العباسي - من مؤرخي القرن العاشر الهجري - في كتابه عمدة الأخبار ص 144 : « والتنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال ».

4 - وقال المقدم عاتق بن غيث البلادي - مؤرخ الحجاز المعاصر - في كتابه على طريق الهجرة ص 10 : « ويقال : إنَّ العمرة كانت في هذا المكان ( يعني عند قبر ميمونة ) وإنّ المكيّين يعتقدون أنه حدود الحرم ، ثمّ غيّرت العمرة عندما اختلَّ الأمن خوفاً على الحجَّاج والمعتمرين ».

أقول : إنّ هذه النصوص المتقدمة كلها قد اتفقت على أن التنعيم الذي اُجيز للمعتمر أن يحرم منه هو : إمّا أن يكون عند قبر ميمونة كما في النص الأخير ، وإمّا أن يكون أبعد منه بثلاثة أميال أو ميلين ، وبهذا تكون هذه النصوص قد خالفت موقع مسجد التنعيم اليوم من كونه بين مكة وسَرِف - الذي فيه قبر ميمونة - الذي يبعد عن المسجد أو مكة القديمة ستة كيلومترات تقريباً.

وهناك نصوص اُخرى صرحت بأنّ التنعيم هو أبعد من أدنى الحلِّ الى مكة بقليل ، منها :

1 - ما ذكره المحب الطبري المكي ( ت 694 ه ) فيما حكاه عنه محقق أخبار مكة للأزرقي رشدي ملحِسي بهامش الكتاب المذكور ، 2 : 130 : والتنعيم « أبعد من أدنى الحلِّ بقليل وليس بطرف الحلِّ ».

2 - وقال أبو الطيب الفاسي المكي في شفاء الغرام ، 1 : 289 : « الثاني التنعيم المذكور في حدِّ الحرم من جهة المدينة المنوّرة ، وهو أمام أدنى الحلِّ كما ذكره المحب الطبري ، قال : « وليس بطرف الحلِّ » ومَنْ فسّره بذلك تجوَّز وأطلق اسم الشيء على ما قرب منه ، وأدنى الحلِّ إنما هو من جهته ، وليس موضع في الحلِّ أقرب إلى الحرم منه ، وهو على ثلاثة أميال من مكّة ، والتنعيم أمامه قليلا ».

وهناك نص ثالث يقول : بأنَّ التنعيم يبعد عن مكّة فرسخين ، فقد قال الفاسي : « وقال صاحب المطالع : والتنعيم من الحلّ بين مكة وسَرِف على فرسخين من مكّة ، وقيل : على أربعة أميال ».

ص: 43

موقع فخ :

ومما يزيد في التشكيك موقع فخ الذي يقع غربي مكة ، على طريق مكة - التنعيم - المدينة ، وبينه وبين مكة ثلاثة أميال أي حوالي ستة كيلومترات.

وفخّ - بفتح الفاء الموحدة فتشديد الخاء المعجمة - بئر معروف على نحو فرسخ من مكة كما قيل ، وفي القاموس : « موضع بمكّة دفن فيه ابن عمر ». وفي نهاية ابن الأثير : « موضع عند مكة ، وقيل : واد دفن فيه عبد اللّه بن عمر ». وفي السرائر لابن إدريس الحلّي : « أنّه موضع على رأس فرسخ من مكّة ، قتل فيه الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي أمير المؤمنين علیهماالسلام على ما حكاه صاحب كشف اللثام.

وعلى كلّ حال فإنَّ الموقع واضح ، وهذه المعرِّفات قد تكون كلها صحيحة ، فهو واد دفن فيه ابن عمر وفيه بئر ، وقد وقعت فيه معركة فخّ التي ذكروا بأنَّها من الشدّة بحيث لم تكن مصيبة بعد كربلاء أشد وأفجعَ من فخّ (1).

ص: 44


1- ومنطقة فخ الآن فيها حيّان من أحياء مكة هما : « حيّ الزاهر » و « حيّ الشهداء » نسبةً الى شهداء فخ الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وأنصاره رضوان اللّه عليهم ). و في فخ مقبرة معروفة تُعرف بمقبرة المهاجرين ، كان يدفن فيها كلّ مَنْ جاور مكة منهم، ولا تزال موجودة معروفة حتى الآن. أما موضع شهداء فخ فلا أثر له الآن، يقول السباعي في تاريخ مكة : 89: «في هذا المكان - يعني فخاً - تقرر مصير العلويين حيث قتل الحسين بن علي وهو محرم، بعد أن أبلى بلاء شديداً ، وقتل معه أكثر من مائة من أصحابه ، وكانت قبورهم معروفة هناك ، ويُشرف قبر زعيمهم الحسين على ربوة في الوادي. وجاء في معجم معالم الحجاز ، 7: 19 ما نصه : «حكى شاهد عيان أنه كان في أواخر الستينات من هذا القرن الرابع عشر الهجري حدث أثناء حفر أساس قصر بالشهداء أن بدت يد إنسانٍ طريّة عارية من تحت الأرض، فحفروا عنها فإذا هي مطبقة على صدر إنسان فجذبوها ، فإذا الدم يندفع من موضعها ، فتركوها ، فاذا هي ترتدّ بسرعة الى مكان النزيف فتوقفه ».

وفخّ قد اختلف فقهاء الإماميّة في كونها ميقاتاً للصبيان على قولين :

الأوّل : ذهب جمع من فقهاء الإماميّة ( رضوان اللّه عليهم ) الى كون فخ ميقاتاً للصبيان ، بمعنى جواز تأخير إحرامهم الى هذا المكان من دون تعيّن ذلك عليهم ، واستدلوا لذلك بصحيح أيوب بن الحر ، قال : « سُئل الإمام الصادق علیه السلام عن الصبيان من أين يجرّد الصبيان ؟ قال علیه السلام : كان أبي يجرّدهم من فخ » (1).

هذا إذا مرّوا من طريق المدينة ، أمّا إذا مرّوا من طريق آخر فيحرمون من الميقات الذي مرّوا عليه ، فقد ذكر جماعة : أن في الرواية كناية عن جواز إحرامهم من فخ. بل ربما نسب الى الأكثر ، بل في الروضة يظهر من آخر عدم الخلاف فيه.

الثاني : ذهب آخرون الى أن إحرام الصبيان من الميقات ، ولكن رُخّص لهم في لبس المخيط الى فخ ، فإذا وصلوا الى فخ جرّدوا منه ، استناداً الى ظاهر الصحيح المتقدم في حمله على الحقيقة ، وظاهر الروايات المقتضية لزوم الإحرام من الميقات.

وإذا كان إحرام الصبيان من الميقات مطلقاً في حجّ أو عمرة ، وكان مطلقا حتى لمن كان من أهل مكة وأراد العمرة المفردة - كما هو ظاهر إطلاقهم ذلك - فحينئذ على القول الثاني يكون إحرام المعتمر من التنعيم الحالي البالغ بعده ستة كيلومترات ، مع أن الصبي يحرم من الميقات ، ولكن يجرّد من فخّ الذي يبعد ستة كيلومترات أيضاً ، وهذا فيه بعدٌ عرفيّ واضح يكون الصبي في هذا الحكم أشد حالا من البالغ ، أمّا بالنسبة إلى القول الأول فإنّ الصبي والبالغ في هذا الحكم سيّان ، مع أن العرف يرى لابدّية أن يكون إحرام الصبي أسهلَ من البالغ إذا أردنا الإرفاق به (2).

ولنا في الجواب على هذا التشكيك عدّة مسالك نستعرضها إن شاء اللّه تعالى :

ص: 45


1- وسائل الشيعة : ج 8 ، باب 18 من المواقيت ، ح 1.
2- قد يقال : إنّ الرواية في تجريد الصبيان من فخّ ناظرة لمن أحرم من طريق المدينة فقط ، فلا اطلاق فيها لما نحن فيه.

1 - جواب التشكيك من الناحية الفقهية :

نقول : إنّ الأقوال المتقدمة في تقدير المسافة الى موضع الإحرام في التنعيم وإن كانت مختلفة اختلافاً غير يسير إلاّ أنّ هذا الاختلاف بين المؤرخين والجغرافيين لا يجيز لنا رفع اليد عن موضع الإحرام في التنعيم الحالي ؛ وذلك لعدم حجيّة هذه الأقوال في أنفسها ، إذ هي : إمّا أخبار آحاد غير معتبرة ، وإمّا متعارضة ، وحتى إذا كانت أقوال ذوي الخبرة فهي ساقطة بالتعارض ، فتبقى السيرة المتلقّاة من المسلمين في الإحرام من مسجد التنعيم الحالي الذي يبعد 6 كيلومترات عن المسجد أو حدود مكة القديمة ، وهذا خير دليل على بطلان التشكيك المتقدم ، فإنّ هذه السيرة المتلقاة يداً عن يد ممن يلتزم الشريعة الغرّاء نهجاً في حياته ، وفي زمن المعصومين علیهم السلام تفيد العلم في معرفة ميقات التنعيم الذي وقّته رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولو كان هناك أيّ تغيير في الميقات في أي زمان لنقل الينا بصورة واضحة ، إذ أنّ التغيير في العبادات وأماكنها التي حدَّدها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مما يوجب اعتراض المسلمين قاطبةً ونقل ذلك التغيير والاعتراض لغيرهم ، مع أنّنا لم نجد في الروايات التي بين أيدينا أيّ تغيير في ميقات التنعيم.

نعم ، نقل عن بعض المؤرخين المعاصرين « تغير موضع العمرة عندما اختل الأمنُ خوفاً على الحجّاج والمعتمرين » بقوله : ويقال.

وهذا الكلام لا يعتدّ به ؛ لأنه لم يعتقد به حتى هذا المؤرخ المعاصر كما تقدم ، فهو عبارة عن كلام غير معتبر تردّه السيرةُ القائمة على تعيين موضع الإحرام للعمرة من مسجد التنعيم الحالي من قبل كلّ المسلمين.

هذا وقد ذكر غيرُ واحد من الأصحاب (1) هنا الاكتفاء في معرفة هذه المواقيت بالشياع المفيد للظن الغالب ، ولعلّه لصحيح معاوية بن عمار عن الإمام الصادق علیه السلام :

ص: 46


1- راجع جواهر الكلام ، 18 : 107.

« يجزيك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والأعراب عن ذلك » (1).

ومعنى ذلك أن الشياع الموجود عند المسلمين هو المرجع في تحديد الميقات ، لا قول المؤرخ أو الجغرافي ، خصوصاً مع التعارض والاختلاف.

2 - جواب التشكيك من الناحية الرياضية :

إنّ الأقوال المتقدمة في تقدير المسافة الى موضع الإحرام في التنعيم تتمثل في المسافة التالية : « 3 ميل / 4 ميل / 6 ميل / 1 فرسخ / 2 فرسخ / 6 كم / 12 كم » تقريباً. فهل يمكن أن نرجع هذا الاختلاف في المسافة الى اختلاف أسباب العدّ مع كون الموضع الذي يحرم منه هو الموضع الحالي ؟

الجواب : نعم يمكننا ذلك ؛ لأن تقدير المسافة يختلف لأسباب متعددة ، منها :

الأول : الاختلاف في تقدير الذراع المستعمل في العدّ ، فإنّه على ثلاثة أوجه :

أ - ذراع اليد الذي هو مختلف بين عدّه ( 52 سم ) أو ( 50 سم ) أو ( 48 سم ) وذلك لأنَّ الذراع - كما ذكر أهل اللغة ، كمجمع البحرين - « من المرفق الى أطراف الأصابع ، والذراع ست قبضات ، والقبضة أربع أصابع » وبما أن الإصبع يختلف قدره من شخص الى شخص في الإنسان المتعارف فبذلك يختلف العدّ بين الأرقام الثلاثة المتقدّمة.

ب - الذراع الحديدي يساوي ( 58 سم تقريباً ).

ج - الذراع المعماري الذي يساوي ( 75 سم تقريباً ).

الثاني : الاختلاف في تقدير الميل بالذراع ، فقد قُدر الميل بالنسبة لذراع اليد بتقديرات مختلفة :

2000 ذراع يد.

3500 ذراع يد.

4000 ذراع يد.

ص: 47


1- وسائل الشيعة : ج 8 ، باب 5 من أبواب المواقيت ، ح 1.

6000 ذراع يد (1).

ولهذا الاختلاف في تقدير الميل بالذراع يفهم الاختلاف في تقدير المسافة بالأميال ، ومنه يفهم اختلاف تقدير المسافة بالفرسخ أو الكيلومتر.

الثالث : أضف الى ذلك الاختلاف في مبدأ العدّ ، فإنَّ مبدأ العدِّ قد يكون باب المسجد ، كما قد يكون سور مكة.

الرابع : الاختلاف في تقدير الطريق المعدود الذي يختلف باختلاف الانحناءات في أزمان مختلفة ، فقد يكون طريق فيه تعرجات كثيرة يستوجب كثرة المسافة المطوية في زمان ، وفي زمان آخر يتبدل الطريق بإزالة هذه التعرجات أو اختصارها بما يستوجب قلة المسافة.

3 - جواب التشكيك من ناحية تعيين موضع التنعيم بالوصف :

إنَّ الموضع الحالي للتنعيم هو بين مكة وسَرِف ( الذي فيه قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوجة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) ، وحينئذ يمكن أن تكون العبارات القائلة : بأنَّ التنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال متفقة مع الوصف الأولي ، إلاّ أنّ الوصف الأولي يكون للموضع لمن كان في مكة وأراد السير إلى الموضع.

أمّا الوصف الثاني فهو ناظر إلى الموضع لمن كان خارج مكّة أو بعيداً عنها ، فالموضع هو نفسه بين مكة والقبر لمن أراد الإتيان إليه من مكة ، وهو بعد القبر لمن أراد الوصول إليه وهو خارج مكة ، واللّه تعالى هو العالم بحقائق الاُمور.

ولعلّ مما يحسم الخلاف والتشكيك ما وجدته في خريطة مكة المكرمة - المرفقة بكتاب مكّة المكرمة في شذرات الذهب للغزاوي ، وهو دراسة وتحقيق لبعض المعالم الجغرافية - من وجود ثلاث مناطق للتنعيم :

الاُولى : منطقة العمرة التي هي شمال غربي جبل نعيم وغربي جبل ناعم ،

ص: 48


1- استندنا في ذكر هذه التقديرات الى كتاب هداية الناسكين للدكتور الفضلي : ص 93.

وهو مكان العمرة الحالي.

الثانية : التنعيم التي تقع شمال منطقة العمرة.

الثالثة : منطقة التنعيم التي تقع شمال جبل الواتد وجنوب منطقة الغزالة وجبل الغبير.

وحينئذ فإنَّ الخلاف في بُعد التنعيم عن المسجد الحرام أو مكة قد يكون منشؤه هذه المناطق الثلاث ، فالذي يصح منه الإحرام هو منطقة العمرة التي هي أقرب مناطق التنعيم للحرم.

هل يشكِّل الجمع بين حدود الحرم الحالية ومواقيت أدنى الحلّ مشكلة ؟

إنّ الشارع المقدّس قد حدّد الحرم المكّي كما في موثّق زرارة ، قال : سمعتُ الإمام الباقر علیه السلام يقول : « حرّم اللّه حرمه بريداً في بريد ... » (1) الذي هو عبارة عما يقارب ثلاثة وعشرين كيلومتراً.

فهل بإمكاننا أن نوفِّق بين هذا التحديد الإجمالي وما هو متلقّى من تعيين الحدود ومعرفتها بالعلامات والنصب الموجودة الآن ، المأخوذة يداً عن يد من زمن المعصومين علیهم السلام بحيث يكون التنعيم الحالي خارج حدود الحرم ، والى جنبه النصب الموجودة حاليّاً ؟

نقول : إنّنا إذا نظرنا الى الأدلة القائلة بأنّ المزدلفة هي من الحرم ؛ بقرينة جواز التقاط حصى الجمار منها ، وبأنّ الجعرانة والتنعيم والحديبية هي خارجة عن حدود الحرم ؛ لجواز الإحرام للعمرة المفردة منها ، للنصوص المتقدمة ، بل جواز الإحرام من أشباه الجعرانة والحديبية - كما في الصحيح المتقدم الذي يدلّ

ص: 49


1- وسائل الشيعة ، 9 : باب 87 من تروك الإحرام ، ح 4.

على جواز الإحرام من كلّ مكان خارج الحرم - ، فيلزمنا أن نفسّر حدود الحرم الواردة في الموثّق بما يكون بين هذه المواقيت ، بحيث تدخل المزدلفة فيه ، وبهذا فسوف يكون الحرم مختلفة أبعاده بالنسبة الى مكة ، فمن ناحية التنعيم ( الشمال الغربي ) يكون الحرم قبل مسجد التنعيم الحالي ، كما هي علامات الحرم بالنصب الموجودة حاليّاً ، وهي لا تبعد إلاّ ستة كيلومترات. وأما من ناحية الجنوب فقد ذكروا : أنّ إضاءة لبين ( لبن ) هي حدود الحرم من الناحية الجنوبية ، وهي لا تبعد أكثر من ( 18 كم ) وبهذا فسوف يكون البريد ما بين علمي التنعيم وعلمي إضاءة لبين ( لبن ) متحققاً.

أمّا الجعرانة ( التي هي ميقات للإحرام من ناحية الشمال الشرقي ) ، وعرنة ( وهي حدود الحرم من الناحية الشرقية ) ، والحديبية ( وهي ميقات من ناحية الغرب ) فهي خارجة عن الحرم وهي تبعد ما بين ( 20 - 23 كم ).

وحينئذ لا يمكن تطبيق البريد في البريد ما بين هذه الأماكن الثلاثة ، ولكن لنا أن نقول : إنّ الفقهاء قد ذكروا استحباب الإحرام من الجعرانة والحديبية ، وجوّزوا الإحرام من أدنى الحلّ ، فإذا عرفنا أدنى الحلّ بصورة قطعية - كما فيما بعد المزدلفة - جاز لنا الإحرام منه ، وإذا شككنا في حدود الحرم من جهة من الجهات فالاحتياط يقتضي أن نحرم من منطقة تبعد عن الحرم كما في الجعرانة والحديبية وأمثالهما.

وبهذا فسوف تكون حدود الحرم - التي هي بريد في بريد - ليست على نسق واحد في جميع الأطراف ، كما توجد إشارة الى ذلك في بعض الأخبار.

وعلى كلّ حال فإنَّ تحديد الحرم بكونه بريداً في بريد غير مثير للإشكال في موضع التنعيم الحالي ، فإنَّ ما ذكر من كونه ميقاتاً بفعل الرسول صلی اللّه علیه و آله - كالحديبية والجعرانة - إنّما هو على نحو الاستحباب ؛ للتأسّي بفعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولما فيه من البعد عن مكة ، وليست هي أقرب الأماكن إلى الحرم ، وحينئذ ما قطعنا من كونه من الحرم نطبّق عليه أحكام الحرم ، وما لم نقطع فيه أنّه من الحرم لا نطبق عليه أحكام الحرم ، ولكن يلزمنا - أيضاً - الإحرام من المكان الذي نقطع فيه بأنه خارج عن حدود الحرم ، واللّه سبحانه هو الموفّق.

ص: 50

البيع قبل القبض

اشارة

ص: 51

ص: 52

وردت أحاديث عديدة في النهي عن البيع قبل القبض ، وقد اختلفت الآراء حول تعميمها أو تخصيصها تبعاً لاختلاف الروايات في ذلك. وقد بادر مجمع الفقه الإسلامي في الهند بالدعوة إلى عقد الدورة التاسعة في الفترة ما بين 11 - 14 اكتوبر عام 1996 م في جامعة الهداية لبحث مواضيع فقهية عديدة ، منها « البيع قبل القبض » بفروعه ، التي أراد لها جواباً شرعياً ينسجم مع العقود المستجدّة التي يشتبه أن تكون داخلة تحت البيع قبل القبض.

وإجابةً لتلك الدعوة الكريمة رأينا أن نوضّح ما طلب ايضاحه في تلك الأسئلة.

1 - أحكام القبض والإقباض

اشارة

إنّ القبض الذي ورد في الروايات قد رتّب عليه أحكام عديدة ، منها :

أ - ارتفاع ضمان البائع عن المبيع عند تحقّق القبض ، كما في النص القائل : « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ».

ب - الوجوب التكليفي للقبض والإقباض في المعاملات ، كما في البيع الحالّ الذي يكون القبض والاقباض شرطاً ضمنيّاً ارتكازياً ، وكما في وجوب ردّ الأمانات إلى أهلها ، فإنَّ اللّه تعالى يقول : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) .

ص: 53

ج - الوجوب التكليفي للإقباض وإن لم يكن في معاملة ، كمافي وجوب ردّ مال الغير الذي اُخذ غصباً.

د - قد يكون القبض شرطاً في صحة بعض المعاملات ، كما في السلم والهبة والوقوف.

ه - القبض شرط في صحة المعاملة الثانية إذا اشترى سلعةً ولم يقبضها ، للأحاديث الناهية عن البيع قبل القبض. ولكنّ هذا مخصوص بالمكيل والموزون - كما سيتّضح ذلك - فلابدّ من قبضه وبيعه.

حقيقة القبض :

ليس للقبض حقيقة شرعية ولا اتفاق من قبل علماء اللغة ، إذن فلابدّ من الرجوع إلى العرف.

قال الشيخ الأنصاري قدس سره (1) : اتفق العلماء على أنَّ القبض في غير المنقول هو التخلية ، واختلفوا في معنى القبض في المنقول على أقوال ثمانية ، ثم ذكر بعدها : أن القبض هو فعل القابض ( المشتري ) وهو الأخذ ، والأخذ في الأموال هو الاستيلاء

ص: 54


1- راجع مكاسب الشيخ الأنصاري 2 : 309. «وأما اعتبار الكيل والوزن في القبض أو كفايته في قبض المكيل والموزون فانه تعبد محض لأجل النص ، قال في صحيحة معاوية بن وهب : «سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه ؟ فقال له : ما لم يكن كيل أو وزن فلا تبعه حتى تكيله أو تزنه». وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ح 11 ، وغيرها من الروايات. ولا بأس بالتنبيه إلى أن هذا البحث إنما هو لتصحيح البيع الثاني فيما إذا اشترى ولم يكل مثلاً ، لا لأجل ارتفاع الضمان عن البائع بالقبض . والظاهر : أنّ الكيل والوزن هو كناية عن القبض لا لمعرفة المقدار المبيع؛ وذلك : لأن معرفة المقدار لا يفرق فيه بين البيع مرابحة أو تولية ، الشرطية معرفة المقدار المبيع عند كل بيع ، وحينئذ عندما جوزت الروايات البيع تولية بغير القبض ومنعته مرابحه تبين أن المنع لم يكن لأجل اشتراط معرفة المقدار ، بل لأجل اشتراط القبض في صحة البيع الثاني تعبداً .

ووضع اليد مطلقاً ، بلا فرق بين المنقول وغيره ، غاية الأمر اختلاف المستولى عليه ، ففي غير المنقولات يكون الاستيلاء عبارة عن عدم وجود مانع بين الإنسان المالك وبين المال ، بحيث يكون قد تصرف فيه فعلا. وعلى هذا فإن التخلية من دون تصرف ليست قبضاً. وأمّا في المنقول ، يكون القبض هو الأخذ باليد ( الاستيلاء ) ثم الإقباض ، فهو فعل البائع ، وهو دائماً يكون عبارة عن التخلية.

وعلى هذا سيكون عندنا أمران :

الأمر الأول : القبض الذي هو فعل القابض ( المشتري مثلاً ).

الأمر الثاني : القبض الذي هو فعل المقبض ( البائع مثلاً ).

ولابدّ لنا من ملاحظة الخطابات الشرعية ، لنرى متعلق الحكم التكليفي أو موضوع الحكم الوضعي هل هو فعل القابض أو المقبض ؟ وهي على قسمين :

القسم الأول : إذا كان موضوع الخطاب في مورد هو فعل البائع والغاصب والراهن - وهو الإقباض - فيكون القبض هو التخلية ، وهذا ليس قبضاً حقيقياً حتى في غير المنقول.

القسم الثاني : وإذا كان موضوع الخطاب في مورد هو فعل المشتري - أي القابض - فيكون القبض هو الاستيلاء من قبل المشتري وتسلّطه على الشيء الذي يتحقّق به معنى اليد ، ويتصوّر فيه الغصب (1).

وحينئذ نقول : إنّ موضوعنا الذي نحن بصدده هو القسم الثاني ، لأن القبض

ص: 55


1- أي عندما أوجب الشارع على الغاصب ردّ المغصوب فقد أوجب عليه أن يوجد كل المقدّمات لوصول المال إلى صاحبه ، إذن يجب عليه أخذ المال إلى المغصوب منه وجعله أمامه ، أمّا الأخذ باليد من قبل المغصوب منه فهو غير واجب على الغاصب ، لخروجه عن القدرة وحينئذ يكون الإقباض الواجب على الغاصب هو التخلية. هذا الكلام نفسه يقال بالنسبة إلى البائع الذي أوجب الشارع عليه التخلية ، فإنَّ الإقباض الحقيقي وإن لم يصدق إلاّ باستيلاء الطرف الآخر على الشيء إلاّ أن التكليف بالإقباض على البائع والغاصب يكون تكليفاً بالتخلية فقط وإن لم يستولِ الطرف الآخر على الشيء.

الذي اشترطته الروايات في البيع الثاني هو فعل المشتري الذي يكون القبض فيه هو الاستيلاء على المبيع والسيطرة التي تمكّنه من بيعه للآخرين ، وعلى هذا فاذا أوجد البائع التخلية للمبيع ولم يستولِ المشتري عليه فلا يتمكّن من بيعه.

كما أنَّ اعتبار القبض في الهبة دلّ على حيازة المتَّهب للهبة ، وحينئذ لا تكفي التخلية التي هي فعل الواهب.

قال في المكاسب : « إنّ القبض للمبيع هو فعل القابض وهو المشتري ، ولا شك أنَّ الأحكام المترتبة على هذا الفعل لا تترتب على ما كان من فعل البائع من غير مدخل للمشتري فيه ، كما أنَّ الأحكام المترتبة على فعل البائع - كالوجوب على البائع والراهن في الجملة واشتراط القدرة على التسليم - لا يحتاج في ترتّبها إلى فعل من المشتري » (1).

2 - هل تختلف صور القبض في الأموال المنقولة عن غير المنقولة ؟

نقول : إن ما تقدّم منّا هو ظهور النهي عن البيع قبل القبض الحقيقي ، والقبض الحقيقي هو قبض المشتري ، وهو معنى واحد عبارة عن الاستيلاء على المال ، بحيث يكون الاختيار تحت يد المشتري ، وهذا هو المعنى العرفي للقبض الذي توافقه اللغة أيضاً ، إنّما الاختلاف في مصاديق القبض ، ففي مثل الدار يكون مصداق الاستيلاء والاستعلاء هو التخلية بين المالك وبين ملكه ، بحيث يتمكّن من التصرف فيه بإعطائه مفتاح الدار ، وفي مثل الاُمور المنقولة - كالجواهر - يكون مصداق الاستيلاء هو القبض باليد ، وفي مثل الحيوان والسيارة يكون مصداق القبض هو أخذ مقود السيارة أو الحيوان ( أو سوْق الحيوان أو السير بالسيارة ).

ص: 56


1- المكاسب ، للشيخ الأعظم الأنصاري 1 : ج 2 ، ص 309.

إذن تبيّن أن القبض له معنى عرفي واحد ، وهو الاستيلاء والتسلط على الشيء. نعم ، قد يقع الاختلاف في مصاديق القبض وصوره باختلاف الأموال.

3 - هل النهي عن البيع قبل القبض عام ، أو فيه استثناء ؟ وما هي آراء الأئمة وأدلّتهم ؟

إنّ مسألتنا هذه هي في صورة وقوع البيع على سلعة عند البائع ، ثم أراد المشتري بيعها قبل قبضها ، فهل البيع الثاني صحيح قبل قبض المشتري السلعة ؟

أقول : إنّ الأقوال المهمة في هذه المسألة أربعة ، هي :

القول الأول : يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً ، سواء كان المعقود عليه طعاماً أم غيره ، وسواء كان مكيلا أو موزوناً أو عقاراً أو منقولا ، وذهب إلى هذا القول الإمام الشافعي (1) وأكثر أصحابه والإمام أحمد في رواية (2) وجمع غفير من العلماء.

واحتجّوا بنهي النبي صلی اللّه علیه و آله عن بيع الطعام قبل قبضه ، وبما روى أبو داود : أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله نهى عن أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. وروى ابن ماجة : أن النبي صلی اللّه علیه و آله نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض. وروى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لمّا بعث اُسيد إلى مكّة قال : « إنهَهُم عن بيع ما لم يقبضوه ، وعن ربح ما لم يضمنوه » (3).

ص: 57


1- الام : ج 3 ، ص 60.
2- المغني لابن قدامة : ج 4 ، ص 121 - 123.
3- هذه الأحاديث ذكرت في المغني : ج 4 ، ص 221. أقول : الرواية المروية عن النبي صلی اللّه عليه وآله عن شراء الصدقات حتى تقبض قد رويت في مجالس الشيخ الطوسي : قال : «ابتعت طعاماً من طعام الصدقة، فاربحت فيه قبل أن أقبضه ، فسألت النبي صلی اللّه عليه وآله ؟ فقال : لا تبعه حتى تقبضه». راجع مكاسب الشيخ الأنصاري 2 : 317.

القول الثاني : يرى جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً. وذهب إلى هذا القول بعض ، كعطاء ابن أبي رباح والبتّي (1).

ولكن قال ابن عبد البرّ : « وهذا قول مردود بالسنّة والحجّة المجمعة على الطعام. وأظنّه لم يبلغه هذا الحديث ، ومثل هذا لا يلتفت إليه » (2).

أقول : إن هذا القول - الثاني - اختاره بعض علماء الامامية على كراهيته (3) وذلك للجمع بين الروايات المروية عن أهل البيت علیهم السلام التي تنهى عن بيع الطعام أو المكيل والموزون قبل قبضه. والروايات التي أجازت ذلك ، فحملت الروايات الناهية على الكراهية لقرينة الروايات المجوِّزة التي منها :

1 - رواية الكرخي : قلت للإمام الصادق علیه السلام : أشتري الطعام من الرجل ثم أبيعه من رجل آخر قبل أن أكتاله ، فأقول : ابعث وكيلك حتى يشهد كيله إذا قبضته ؟ قال علیه السلام : « لا بأس » (4).

ص: 58


1- المحلّى ، لابن حزم : ج 8 ، ص 597 ، والمغني : ج 4 ، ص 220.
2- المغني : ج 4 ، ص 220.
3- حكي هذا القول عن الشيخين ( الطوسي والمفيد ) في المقنعة والنهاية والقاضي ، وهو المشهور بين المتأخرين. راجع مكاسب الشيخ الأنصاري 2 : 3. وراجع المختصر النافع : ص 148.
4- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 3. أقول: أما رواية خالد بن الحجاج الكرخي فهي ضعيفة لعدم توثيق خالد ، وأيضاً لم يذكر سند الصدوق إليه مع أن الرواية يسندها الصدوق إليه . وأما رواية جميل بن دراج فهي ضعيفة لوجود علي بن حديد الذي ضعفه الشيخ الطوسي . نعم ، هناك روایتان صحيحتان قد يستدل بهما على حمل النهي الوارد في بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على الكراهية، وهما كما في وسائل الشيعة : 1- صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام قال : سألته عن الرجل يشتري الثمرة ثم يبيعها قبل أن يأخذها ؟ قال عليه السلام : «لا بأس، إن وجد ربحاً فليبع : ج 13، بل من أبواب بيع الثمار ، ح 2 . 2 - صحيحة محمد بن مسلم عن احدهما (الإمام الباقر أو الصادق عليهما السلام ) انه قال في رجل اشترى الثمرة ثم يبيعها قبل أن يقبضها ؟ قال عليه السلام : « لا بأس» . المصدر السابق : ح3. والصحيح (كما قال الشيخ الأنصاري) إنهما منصرفتان إلى بيع الثمرة على الشجرة بملاحظة الاخبار الواردة في بيع الثمار ، حيث يعبر عن بيع الثمرة على الشجرة ببيع الثمرة، وبما أن بيعها على الشجرة لا يعتبر فيهما الكيل أو الوزن فيصح أن تباع قبل القبض فتخرجان عن موردنا .

2 - ورواية جميل بن دراج عن الإمام الصادق علیه السلام : « في الرجل يشتري الطعام ثم يبيعه قبل أن يقبضه ؟ قال علیه السلام : لا بأس. ويوكل الرجل المشتري منه بقبضه وكيله ؟ قال : « لا بأس » (1).

أقول : سيأتي الكلام في عدم صحة هذا الجمع لو كانت الروايتان صحيحتين.

القول الثالث : تفصيل بين بيع الطعام قبل قبضه فلا يجوز ، وبين غيره فيجوز. وقد نقل هذا القول عن الإمام أحمد فقال : « إن المطعوم لا يجوز بيعه قبل قبضه ، سواء كان مكيلا أو موزوناً أو لم يكن ». ولعلّ دليله هو ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله انه : « نهى عن بيع الطعام قبل قبضه » فمفهومه إباحة بيع ما سواه قبل قبضه.

وروى ابن عمر فقال : « رأيت الذين يشترون الطعام مجازفةً يضربون على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم ». وهذا نصّ في بيع المعيّن.

وعموم قوله علیه السلام : « من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه » متفق عليه. ولمسلم عن ابن عمر قال : « كنّا نشتري الطعام من الركبان جزافاً ، فنهانا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ... » (2).

القول الرابع : تفصيل بين بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه فلا يجوز إلاّ تولية ، وبين غيره فيجوز. وقد ذهب إلى هذا القول مشهور علماء الإمامية قديماً وحديثاً.

ص: 59


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 6.
2- راجع المغني لابن قدامة : ج 4 ، ص 217 و 218.

ودليله هو الروايات المروية عن أئمة أهل البيت علیهم السلام التي تنقل وتفسِّر وتوضّح ما ورد عن النبي صلی اللّه علیه و آله من نهي ، منها :

1 - صحيحة ابن حازم عن الإمام الصادق علیه السلام : « إذا اشتريت متاعاً فيه كيْل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه إلاّ أن تولّيه ، فإن لم يكن فيه كيل أو وزن فبعه » (1).

2 - صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « في رجل يبتاع الطعام ثم يبيعه قبل أن يكتال ؟ قال علیه السلام : لا يصلح له ذلك » (2).

3 - صحيح الحلبي الآخر قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن قوم اشتروا بزاً ( البز : هو الثوب ، ومنه البزّاز ) فاشتركوا فيه جميعاً ولم يقتسموا ، أيصلح لأحد منهم بيع بزّه قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه ؟ قال علیه السلام : « لا بأس به ، وقال : إنّ هذا ليس بمنزلة الطعام ، لأنّ الطعام يكال » (3) بناء على أن المراد قبل أن يقبضه من البائع ( لا القبض من الشركاء ) كما هو الظاهر ، إذ لم يلتزم أحد بثبوت البأس في بيع أحد الشريكين حصته قبل قبضه من شريكه بعد قبضه من البائع ولو بتوكيل شريكه.

4 - صحيح منصور بن حازم ، قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن رجل اشترى بيعاً ليس فيه كيل ولا وزن ، أله أن يبيعه مرابحة قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه ؟ قال علیه السلام : لا بأس بذلك ما لم يكن كِيل أو وزِن ( كما لو بيع بالمشاهدة ) فإن هو قبضه كان أبرأ لنفسه » (4). وغيرها من الروايات الصحيحة.

وواضح من هذه الروايات أن الكيل أو الوزن هو كناية عن القبض ، بمعنى أنه لابدّ من قبضه ثم بيعه للآخرين.

وقد ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل السنّة أيضاً ، فقد روي عن عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد ابن أبي سليمان : أنّ كل ما بيع على الكيل أو الوزن لا يجوز بيعه قبل قبضه ، وما ليس بمكيل ولا بموزون يجوز بيعه

ص: 60


1- وسائل الشيعة 12 : ب 16 من أحكام العقود ح 1 و ح 5 و ح 10 و ح 18.
2- وسائل الشيعة 12 : ب 16 من أحكام العقود ح 1 و ح 5 و ح 10 و ح 18.
3- وسائل الشيعة 12 : ب 16 من أحكام العقود ح 1 و ح 5 و ح 10 و ح 18.
4- وسائل الشيعة 12 : ب 16 من أحكام العقود ح 1 و ح 5 و ح 10 و ح 18.

قبل قبضه (1).

وقد ذكرنا سابقاً : أنّ اعتبار الكيل أو الوزن قبل البيع الثاني ليس لإحراز مقدار البيع ليتم شرط معرفة مقدار المبيع في البيع الثاني ، إذ على هذا لم يكن فرقٌ بين التولية وغيرها ، بينما فرّقت الروايات بين التولية وغيرها ، فأجازت الأول دون الثاني ، ولهذا يتعيّن أن يكون الكيل أو الوزن لجهة القبض قبل البيع الثاني الذي اشترط في بيع المرابحة دون التولية.

هذه هي أهم الأقوال في المسألة.

أقول : أمّا القول الأول الذي يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً فهو قول باطل ، وذلك لأنّ أدلّته إن سلّمنا بصحتها (2) فهي مقيدة أو مفسَّرة في صورة كون المبيع طعاماً أو مكيلاً أو موزوناً ؛ للأدلة الكثيرة التي تقيّد النهي عن النبي صلی اللّه علیه و آله بهذه الصورة.

وأما القول الثاني الذي يرى جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً ، فأيضاً باطل وذلك للروايات المصرِّحة بالجواز في صورة عدم كون المبيع طعاماً أو مكيلا أو موزوناً.

نعم من قال من الإمامية بجواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً على كراهةٍ استند إلى الجمع بين الروايات المجوّزة والمانعة ، حيث حمل الروايات المانعة على الكراهة لقرينة الروايات المجوزة.

وهذا وجه غير وجيه بالنظر إلى الصناعة الاُصولية لو كانت الروايات المجوزة

ص: 61


1- المغني لابن قدامة : ج 4 ، ص 217.
2- ويكفي توهيناً للروايات المطلقة هو ما روي عن ابن عباس : أن النبي صلی اللّه علیه و آله « نهى عن بيع الطعام قبل قبضه » حيث قال ابن عباس : « ولا أحسبُ كل شيء إلاّ بمنزلة الطعام. أقول : لو كانت هناك روايات مطلقة في المنع عن بيع السلع قبل قبضها لذكرها ابن عباس واسند المنع اليها ، ولم يقل : ولا أحسبُ كل شيء إلا بمنزلة الطعام .

صحيحة ، وذلك لأن التعارض بالاطلاق والتقييد ، لأنّ الروايات المجوزة موضوعها مطلق لصورة كون البيع قبل القبض بنحو التولية أو غيرها ، فيرفع اليد عن اطلاقها بالروايات المانعة عن البيع مرابحة ، على أنَّ الروايات المجوزة ضعيفة كما تقدم.

نعم : حَملُ ظاهر النهي على الكراهة إذا كان هناك نصّ على الجواز إنما يُصار إليه لو لم يكن إطلاق وتقييد في البين ، كما إذا كان التعارض بين الدليلين بنحو الإطلاق أو بنحو التقييد. ولذا نرى الفقهاء يتصرفون في موضوع الدليل دون الحكم في دليل آخر عند تعارضهما بالإطلاق والتقييد ، كما في تعارض « لا تعتق رقبة كافرة » و « اعتق رقبة » ، وكذا في تعارض « لا تكرم زيداً العالم » و « أكرم العلماء » حيث يرفعون اليد عن عموم الموضوع ، لا عن ظهور النهي في الحرمة.

وحينئذ يكون دليل « لا يجوز بيع المكيل والموزون مرابحةً إلاّ بعد كيله أو وزنه » مقيّداً لدليل « لا بأس ببيع المكيل والموزون قبل قبضه » بغير صورة المرابحة. ولا نرى مانعاً من التعبير عن الدليل المفصِّل ( وهو عدم جواز بيع المكيل والموزون مرابحة إلاّ بعد قبضه ، وبين جواز بيعه تولية ) بأنّه مفسِّر للدليل المطلق عند العُرف.

إذن لم يبقَ إلاّ القول الثالث والرابع ، وكل منهما له دليله من الروايات المروية عن الشارع المقدّس. ولكن في روايات القول الرابع ما يفيد : أن علّة المنع من بيع الطعام قبل قبضه هو الكيل ، وهي صحيحة الحلبي ، قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن قوم اشتروا بزّاً ... أيصلح لأحد منهم بيع بزّه قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه ؟ قال علیه السلام : لا بأس به ، وقال : إن هذا ليس بمنزلة الطعام لأن الطعام يكال » (1).

وبهذا نعرف أن الروايات التي ذكرت الطعام ومنعت من بيعه قبل قبضه إنّما كان لعلّة كيله ، فلا خصوصية للطعام ، فيتعيّن أن يكون القول الرابع هو الصحيح

ص: 62


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 10.

من بين الأقوال.

ولنا أن نقول أيضاً : إنّ معنى الطعام ظاهراً هو الحنطة والشعير ، فقد جاء في لسان العرب : « وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البُرّ خاصّةً ... قال : وقال الخليل : العالي في كلام العرب أن الطعام هو البُرّ خاصة ». وهذا هو الذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية.

وحينئذ نقول : بما أن الحنطة والشعير مكيلان أو موزونان فلا يكون هناك قول ثالث ، لأنَّ أصحاب القول الرابع يكونون قد أخذوا بكلتا طائفتي الروايات القائلة بأن بيع المكيل والموزون - ومنه الطعام - لا يجوز قبل قبضه ، بمعنى أنَّ روايات القول الثالث صحيحة ، وهي تدل على حكم خاص ، وروايات القول الرابع صحيحة وهي تدلّ على حكم أعم من القول الثالث ، ولا تعارض بينهما ، إذ لم يعلم أن الحكم واحد ، فنأخذ بكلتا طائفتي الروايات.

4 - هل توجد علّة للنهي عن البيع قبل القبض ؟

وللجواب عن هذا السؤال لابدّ أن نستعرض ما يمكن أن يقال بعلّيّته للنهي عن البيع قبل القبض ، ثم نرى مدى صحته فنقول :

1 - قد يقال : إنّ العلة في نظر الشارع هي عدم جواز الربح بدون تحمّل الخسارة ، وما دامت السلعة المشتراة لم يقبضها المشتري فخسارتها بالمنظور الشرعي على البائع ، لقاعدة : « تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه » ، وحينئذ لا يجوز للمشتري أن يربح بدون تحمّل للخسارة إذا حصلت في سلعته. وكأنّ هذا هو الميزان العدل في المنظار الاقتصادي والشرعي القائل : « من كان له الغنم فعليه الغرم ». ويشهد لهذه العلّة جواز بيعها على شخص ثالث أو على بائعها توليةً بدون القبض.

أقول : ولكن رغم معقولية هذا القانون لم يدلّ عليه أيّ دليل شرعي ، بل

ص: 63

نراه غير مراعىً في موارد هي :

أ - فيما إذا كان المشترى ( غير مكيل أو موزون ) ثوباً أو داراً ، فإنّ المشتري يحقّ له أن يبيعه بربح قبل قبضه ، مع أن المشتري لا يخسر إذاتلف المبيع لأنه غير مقبوض.

ب - وكذا قد تخلّف هذا القانون في موارد اُخر ، كالثمار بعد بدو الصلاح ، فإنَّ المشتري له الحقّ في بيعها وهي على الشجر ، ولكن إذا أصابتها جائحة رجع على البائع.

ج - وكذا في منافع الإجارة ، فإنّ المستأجر له الحقّ في أن يؤجر ما استأجره بربح من نفس جنس الاُجرة إذا عمل فيه عملاً أو يُؤجرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا كان بغير جنس الاُجرة (1) ، ولكن إذا حدث تلف في المستأجَر فيرجع على المؤجِر بمقدار ما تلف.

د - وكذا قد تخلّف هذا القانون في بيع المكيل والموزون ( الكلي والشخصي ) قبل قبضه على بائعه - كما سيأتي - وذلك لأنَّ ظاهر الروايات المانعة من بيع المكيل والموزون بربح هو المنع من بيعها على شخص ثالث ، أمّا هنا فإن البيع على نفس البائع فلا تشمله الروايات.

ثم إننا حتى لو قلنا : إنّ روايات المنع مطلقة لكلّ بيع إلاّ أنَّ روايات بيع السلم قبل قبضه على بائعه تقول بجواز ذلك ، ففي صحيحة العيص بن القاسم عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن رجل أسلف رجلاً دراهم بحنطة حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دواباً ومتاعاً ورقيقاً ، يحل له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه ؟ قال علیه السلام : نعم يسمّي كذا وكذا بكذا وكذا صاعاً » (2).

ص: 64


1- وسائل الشيعة 13 : ب 21 من الاجارة ، أحاديث الباب.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 11 من السلف ، ح 6 ، وراجع بقية الروايات. وللتوسع يراجع ما كتبناه في بحث السلم وتطبيقاته المعاصرة.

نعم ، هناك تلازم بين الضمان والتلف ، فمن كان ضامناً يكون التلف عليه ، حسب القاعدة القائلة : « كل بيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ». ولكن هذا غير المنع من بيع المكيل والموزون قبل قبضه بربح.

2 - هل يمكن أن تكون العلّة في نظر الشارع القدرة على التسليم ؟

والجواب : بالعدم ، وذلك لأنّ القدرة على التسليم قد تكون موجودة حتى مع عدم قبض المشتري ، كما أنّها قد لا تكون موجودة حتى مع قبضه ، كما لو غصبت بعد القبض.

3 - هل يمكن أن تكون العلّة هي الوقوف ضد المعاملات الوهمية التي لا قصد إليها ، كما هو الواقع في أسواق البورصة العالمية التي يكون القصد فيها غالباً هو انتظار تقلّبات الأسعار للحصول على ربح ، وهو ما يسمى بالمضاربة الاقتصادية ؟

والجواب : أنّ كلامنا هو في صورة القصد الحقيقي إلى البيع ، وبذلك تخرج كل البيوع التي لا قصد فيها إلى تسلّم المثمن ، كما في أسواق البورصة التي لا يكون التسليم والتسلّم فيها إلاّ بمقدار 1 % بالإضافة إلى انتقاض هذا ببيع غير المكيل أو الموزون قبل قبضه ، كما جوّزت ذلك بعض الروايات - كما تقدم - وسيأتي وعليه جمع غفير من العلماء.

5 - هل البيع قبل القبض للمكيل أو الموزون مرابحةً باطلٌ أو محرّمٌ أو مكروهٌ ؟

اشارة

أقول : تقدّم الكلام منّا في بطلان كون هذا البيع مكروهاً فلا نُعيد.

وأمّا التحريم فقد عبّر بعض الفقهاء بحرمة هذا البيع ، كالشيخ الأنصاري حيث قال : « الأقوى - من حيث الجمع بين الروايات - حرمة بيع المكيل والموزون

ص: 65

قبل قبضه إلاّ تولية ... » (1).

كما عبّر بعض آخر بالمنع من هذا البيع في مقابل تعبيره بالجواز في البيع التوليتي ، والظاهر من المنع هو الحرمة.

قال في منهاج الصالحين : « من اشترى شيئاً ولم يقبضه : فإنْ كان ممّا لا يكال ولا يوزن جاز له بيعه قبل قبضه ، وكذا إذا كان ممّا يكال أو يوزن وكان البيع برأس المال ، أمّا لو كان بربح ففيه قولان أظهرهما المنع » (2).

ويؤيد هذا القول التعبير الوارد في بعض الروايات المروية على عهد النبي صلی اللّه علیه و آله ، حيث روى ابن عمر قال : « رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم » (3).

أقول : إنّ النهي عن المعاملة يكون على أنحاء :

1 - قد يكون النهي تكليفياً ، كما إذا وجدت قرينة عليه ، كما في النهي عن البيع وقت النداء الذي نعلم أن ترك البيع فيه للتحفّظ على صلاة الجمعة ، وهذا النهي التكليفي لا يقتضي الفساد ، كما قرر ذلك في الاُصول.

2 - قد يكون النهي تكليفياً ووضعياً ، كما إذا قامت قرينة على ذلك ، كما في لعن مشتري الخمر وبائعها ، وقوله علیه السلام : « ثمن الخمر سحت » وكما في المعاملات الربوية كما هو واضح من التشديد والوعيد عليها.

3 - أمّا النهي عن المعاملة إذا لم يكن فيه قرينة على الحرمة التكليفية فيكون ظهوره الأوّلي هو الإرشاد إلى عدم الإمضاء والحكم بالبطلان ، كما في نهي النبي صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر ، وحينئذ فيكون ظهور « إذا اشتريت متاعاً فيه كيل أو وزن

ص: 66


1- المكاسب : ج 2 ، ص 315.
2- منهاج الصالحين للإمام الخوئي : ج 2 ، ص 48 ، مسألة (188).
3- المغني لابن قدامة : ج 4 ، ص 218.

فلا تبعه حتى تقبضه » هو اشتراط القبض في صحة البيع الثاني ، فإن لم يحصل القبض قبل البيع الثاني يكون البيع الثاني باطلا.

أمّا إذا كان بيع المكيل أو الموزون قبل القبض تولية فلا يشترط فيه القبض قبل البيع ، ولا مانع من ذلك ، فإنَّ بيعاً قد يشترط فيه ما لا يشترط في بقية البيوع ، كما في بيع الصرف الذي قد اشترط فيه التقابض في المجلس قبل التفرق دون غيره من البيوع ، فهنا كذلك لأنَّ النهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل القبض خال عن قرينة تدلّ على الحرمة التكليفية ، أو قرينة تدلّ على ربوية المعاملة المحرمة تحريماً تكليفياً ، فلا مناص من القول بأنَّ النهي عن البيع قبل القبض مرابحةً إرشادٌ إلى شرطية القبض قبل البيع في خصوص المكيل أو الموزون إذا بيع مرابحة.

تنبيهات :

1 - إنّ الأدلّة المتقدمة - على القول الرابع - لا تفرّق بين الأشياء التي تباع بالكيل أو الوزن ، بين ما كان عند البائع قد حصل عليه بالزراعة أو قد وهب إليه أو اشتراه كلياً في الذمة أو في المعيّن ، أو مبيعاً شخصياً قد اشتراه بغير كيل أو وزن ، فإنّه في كل هذه الصور لابدّ من قبضه بالكيل أو الوزن إذا أراد بيعه للآخرين.

أمّا إذا كان البائع قد اشتراه ووزنه أو كاله فيكفي هذا الكيل أو الوزن في بيعه للآخرين ، أما الآخرون فلا يجوز لهم بيعه إلاّ بعد قبضه وحيازته إلى رحالهم.

2 - إنّ هذه الروايات هي بصدد بيان جواز البيع الثاني مرابحةً بعد قبض ما اشتري بالكيل أو الوزن ، وهذا البحث يختلف عن حقيقة القبض الذي تقدّم من أنّه قد يكون في بعض الاُمور التخلية التي يرتفع بها الضمان عن البائع.

وبعبارة اُخرى : أنّ القبض الذي يرتفع به الضمان عن البائع في المكيل والموزون هو التخلية ، ولكن صحة البيع الثاني لابدّ فيها من القبض من قبل المشتري التي تحصل بالكيل أو الوزن.

ص: 67

3 - قد أجازت هذه الروايات بيع المكيل والموزون قبل القبض إذا كان البيع تولية ، وهذا هو مفاد الروايات المتقدّمة عن أهل البيت علیهم السلام التي هي عن آبائهم عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فتكون حجّة.

وهنا نريد أن نقول بجواز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه إذا كان البيع على نحو الشركة في المبيع ، فقد دلّت عليه موثّقة سماعة قال : « سألته عن الرجل يبيع الطعام أو الثمرة ، وقد كان قد اشتراها ولم يقبضها ؟ قال علیه السلام : لا ، حتى يقبضها ، إلاّ أن يكون معه قوم يشاركهم فيخرجه بعضهم عن نصيبه من شركته بربح أو يولّيه بعضهم فلا بأس » (1).

وقد ذهب إلى هذه النتيجة الإمام مالك ، فقد جوّز البيع تولية والمشاركة فيه بربح في ما لم يقبض ، فقد جاء في المدوّنة : « قلت : أرأيت إن اشتريت سلعة من رجل ينقد فلم اقبضها حتى أشركت فيها رجلاً أو ولّيتها رجلاً أيجوز ذلك ؟

قال : لا بأس عند مالك.

قلت : وإن كان طعاماً اشتريته كيلا ونقدتُ الثمن فولّيته رجلاً أو أشركته فيه قبل أن أكتاله من الذي اشتريته ؟

قال : لا بأس بذلك ، وذلك الحلال إذا انتقد مثل ما نقد.

قلت : لِمَ جوّزه مالك ، وقد جاء في الحديث الذي يذكره مالك : أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله نهى عن الطعام قبل أن يُستوفى ؟

قال : قد جاء هذا ، وقد جاء عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه نهى عن بيع الطعام قبل أن يُستوفى إلاّ ما كان من شرك أو إقالة أو تولية.

قال سحنون : وأخبرني ابن القاسم ، عن سليمان بن بلال ، عن ربيعة ، عن أبي عبد الرحمان ، عن سعيد بن المسيب أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « من ابتاع طعاماً

ص: 68


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 15.

فلا يبعه حتى يستوفيه ، إلاّ ما كان من شرك أو إقالة أو تولية ».

قال مالك : اجتمع أهل العلم على أنّه لا بأس بالشرك والإقالة والتولية في الطعام قبل أن يُستوفى إذا انتقد الثمن ممّن يشركه أو يقيله أو يولّيه » (1).

4 - إن أصل المنع من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ( إلاّ تولية أو شركة ) هو على خلاف القاعدة الأوليّة القائلة بتسلّط الناس على أموالهم ، بمعنى أنّه إذا ملك إنسان شيئاً يتمكّن أن يبيعه - سواء كان قد قبضه أم لا - فإذا أضفنا إلى هذا عدم وجود علّة للنهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ، وإنّما هو تعبّد خاصّ ، فلابدّ من الرجوع إلى الأدلّة المانعة نفسها لنرى سعتها أو ضيقها فنتمسّك بها ، لأنّها هي الدليل على النهي وعلى خلاف القاعدة ، ولا علّة حتى تتبع.

وحينئذ فما لم يكن داخلا تحت النهي فهو جائز سواء دلّ عليه دليل خاص أو لا ، إذ يكون داخلا تحت قاعدة تسلّط الناس على أموالهم ، فيتمكّن من التصرّف فيه ببيعه ما لم يكن داخلا تحت عنوان منهيّ عنه. وعلى هذا نتمكّن أن نذكر عدّة اُمور جائزةً قد يشتبه في دخولها تحت عنوان البيع قبل القبض ، منها :

أ - إذا كان البيع غير مكيل أو غير موزون ( كالمعدود (2) والمذروع والمشاهد ) فيجوز بيعه قبل قبضه ( سلماً أو استصناعاً أو غيرهما ) طبقاً للقاعدة المتقدّمة ، مع ورود الرخصة في ذلك أيضاً. ففي ذيل صحيحتي منصور بن حازم المتقدّمتين : « فإن لم يكن فيه كيل ولا وزن فبعه ». وكذا في رواية أبي حمزة عن

ص: 69


1- المدوّنة : ج 4 ، ص 80 - 81.
2- ذكر ابن قدامة في المغني فقال : « كل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه ... إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود » : ج 2. ص 221. أقول : بالاضافة إلى عدم الارتباط بين ضمان المبيع إذا تلف قبل القبض وبين عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه فإنَّ لكلّ مسألة من المسألتين دليلها الخاص وموضوعها الخاص، فإنَّ عدم جواز بيع المعدود قبل قبضه لم يرد فيه أي نص .

الإمام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن رجل اشترى متاعاً ليس فيه كيل ولا وزن أيبيعه قبل أن يقبضه؟ قال علیه السلام : لا بأس » (1) وغيرها من الرويات.

ب - إنّ الحكم بعدم جواز بيع المكيل أو الموزون قبل القبض مختصّ بالبيع ، كما تقدّمت الروايات عن الفريقين تصرّ بأنّ المنع مختصّ به ، وعلى هذا فللمشتري أن يصالح على المكيل والموزون قبل القبض ، وله أن يؤجره قبل القبض إذا كانت له منفعة يستفاد منها مع بقاء العين ، لصحة الصلح والإجارة قبل القبض ، ومع الشك في صحتهما على المكيل والموزون قبل قبضه نتمسك بإطلاق أدلّة الإجارة وأدلة الصلح جائز بين المسلمين ، أو إطلاق (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) .

ج - إذا كان الثمن مكيلا أو موزوناً والمبيع عروضاً فيتمكّن البائع من بيع الثمن المكيل والموزون قبل قبضه طبقاً للقاعدة ، وعدم المانع ، لأنَّ الدليل اللفظي الدالّ على المنع مختص بالمثمن ، فتعديته إلى الثمن تحتاج إلى دليل لفظي عام أو مطلق ، أو اطمئنان بوحدة الملاك فيهما ، وبما أنّه لا يوجد إطلاق ولا عموم ولا اطمئنان بوحدة الملاك - لأنّ الحكم تعبّدي على خلاف القاعدة كما تقدّم - فنقتصر على مورد المنع ونتمسّك بدليل (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) لصحة بيع الثمن إذا كان مكيلا أو موزوناً قبل قبضه.

نعم ، من علّل عدم جواز بيع المبيع إذا كان مكيلا أو موزوناً قبل القبض بضعف ملكية المشتري ؛ لاحتمال أن يتلف الطعام فتنحلّ المعاملة ، فإنّ هذا الوجه الاستحساني موجود في الثمن الموزون أو المكيل قبل القبض.

ولكنّ هذا الوجه ضعيف ، إذ لا يكون الملك ضعيفاً قبل القبض ، ولأنّ هذا الوجه يقول بعدم جواز البيع حتى توليةً ولغير المكيل والموزون. ولا أحسب أن يقول بنتيجته أحد.

ص: 70


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 8.

د - إذا لم يقبض المشتري المكيل أو الموزون فيتمكّن أن يبيع بمقداره ونوعه في الذمّة ، وبعد تمامية البيع يوكّل المشتري في أخذ المبيع من البائع الذي اشترى بائعه منه ولم يقبضه بوكالة غير قابلة للعزل. وهذا ما يسمّى ب ( السلم الموازي ) أو ( الوكالة في القبض ) ، وهي طريقة لا تشملها الروايات المانعة ، لأنّها تمنع من العقد الثاني إذا جرى على ما جرى عليه العقد الأول : « لا تبعه حتى تكيله أو تزنه ». أمّا هنا فلم يبع ما جرى عليه العقد الأول ، بل وكّل دائنه في أخذ المبيع من مدينه ، فهو استيفاء ، وفائدته سقوط ما في ذمّته عنه (1).

ه - إذا كان المشتري لم يقبض المكيل والموزون لعدم حلول الأجل في المبيع ( كما في السلم ) وقد احتاج إلى المال فيتمكّن أن يبيع سلماً إلى ما بعد ذلك الأجل بقليل ، ثمّ يحوّل المشتري على البائع الذي باعه فيستلم المثمن في وقته ، وبما أنّ الحوالة ليست بيعاً ولا معاوضة ( كما هو التحقيق ) بل هي تعيين الدَّين الذي في ذمّة المديون بمال في ذمّة فرد آخر - وهي عقد مستقل - فلا يشملها النهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه.

ويمكن الاستدلال لجواز هذه الحوالة - مضافاً إلى اقتضاء القاعدة والعمومات ذلك - بموثّقة عبد الرحمان ابن أبي عبد اللّه ، قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن رجل عليه كرُّ من طعام ، فاشترى كرّاً من رجل آخر ، فقال للرجل : انطلق فاستوفِ كُرَّك ؟ قال علیه السلام : لا بأس » (2).

ص: 71


1- إنّ هذه الطريقة لا نقولها في مورد نفهم الملاك من المنع ، كما إذا حلف انسان أو نذر عدم بيع بيته ، وكان السبب في ذلك هو أن لا يبقى بدون مأوى هو وعائلته رغم الظروف التي يمرّ بها ، فلا يجوز أن يبيع بيتاً كليّاً في الذمة ثمّ يقول للمشتري : اُعطيك بيتي وفاءً لما في ذمتي ، لأنَّ العرف يرى أن عمله هذا ممنوع منه بواسطة حلفه أو نذره لوجود الملاك فيه. وكذا الأمر في النهي عن بيع اُمهات الأولاد في الشريعة الإسلامية.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 10 من السلف ، ح 2.

فالرواية شاملة لما إذا كان الكرّ في ذمّة الإنسان بالشراء أو القرض ، وشاملة لما إذا كان في ذمّة المحيل معوّض أو عوض ، وشاملة لكون المبيع كليّاً في الذمّة أو شخصياً ، فتكون دليلا لما نحن فيه.

و - إذا باع المشتري المكيل أو الموزون الذي لم يقبضه على بائعه فهو جائز ما لم يستلزم محذوراً آخر كالربا ، وذلك بأن يبيعه بجنس آخر أو يبيعه بنفس الجنس بلا زيادة ولا نقيصة. ودليل هذا هو : أنّ ظاهر الروايات المانعة هو المنع عن بيع ما لم يكن مكيلا أو موزوناً على شخص ثالث ، أمّا هنا فالمبيع على البائع نفسه فلا تشمله روايات المنع.

وحتى لو قلنا بأنّ روايات المنع مطلقة للبيع على شخص ثالث أو على البائع ، إلاّ أنّ الروايات التي جوّزت البيع على البائع قد أحلّت هذه الصورة ، فمن الروايات الصحيحة رواية العيص بن القاسم عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن رجل أسلف رجلاً دراهم بحنطة ، حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ، ووجد عنده دواباً ومتاعاً ورقيقاً يحلّ له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه ؟ قال علیه السلام : نعم ، يسمّي كذا وكذا بكذا وكذا صاعاً ... » (1).

ز - الإقالة : إذا اشترى إنسان مكيلا أو موزوناً ولم يقبضه فهو لا يتمكّن من بيعه على ثالث حسب ما تقدّم ، ولكن هل له أن يطلب الإقالة من البائع فيرجع إليه ثمنه قبل القبض ؟

الجواب : نعم ، يجوز ذلك ، لجواز الإقالة في كل بيع ، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « أيّما عبد أقال مسلماً في بيع أقال اللّه عثرته يوم القيامة » (2).

ص: 72


1- المصدر السابق : ب 11 من السلف ، ح 6 وغيرها من الروايات.
2- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 3 من أبواب آداب التجارة ، ح 2 وغيرها.

والإقالة في الحقيقة هي فسخ في حقّ المتعاقدين برضاهما وليست بيعاً ، وذلك لعدم قصد معنى البيع ولا غيره من المعاوضات الموجبة ملكاً جديداً ، بل هي تفيد ردّ الملك بفسخ العقد الذي ارتأى خلافه. ولهذا لا تجوز الإقالة بزيادة عن الثمن ، كما لا تجوز بنقصان ، لعدم ما يصلح مملِّكاً لما زاد عن الثمن أو نقص منه بعد فسخ العقد.

وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض أهل السنّة أيضاً ، فقد ذكر في المغني عن الإمام الخرقي : أنّ الإقالة فسخ ، وأيّد ذلك ابن قدامة وذكر : أن هذا هو اختيار أبي بكر وهو مذهب الشافعي ، خلافاً لمذهب الإمام مالك حيث اعتبرها بيعاً (1).

ر - الحطيطة : إذا اشترى إنسانٌ مكيلا أو موزوناً ولم يقبضه فهو لا يتمكّن من بيعه على ثالث حسب ما تقدّم ، ولكن هل له أن يبيعه على ثالث بحطيطة عن الثمن الذي اشتراه به ؟

قد يقال : إنّ الروايات لم تجوّز البيع قبل القبض إلاّ تولية أو شركة ، وحينئذ تكون الحطيطة ممنوعاً منها.

ولكن يمكن القول : إن الروايات المانعة من البيع إلاّ تولية كان المقصود منها هو القصر الإضافي بالنسبة إلى المرابحة ، فحينئذ يكون المعنى بأنّ البيع بنحو المرابحة قبل القبض لا يجوز ، بل يلزم أن يكون تولية ، وليس المقصود أنَّ الحطيطة لا تجوز. وعليه فيمكن الحكم بجواز الحطيطة تمسكاً بقاعدة (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) .

ويدلّ على هذا ظاهر التقابل بين المرابحة والتولية في الروايات ، فيجوز ما عدا المرابحة ، فقد ذكرت صحيحة علي بن جعفر عن الإمام الكاظم علیه السلام : « إذا ربح لم يصلح حتى يقبض ، وإن كان تولية فلا بأس » (2).

أقول : في الرواية المتقدّمة شرطيتان اختلف الجزاء فيهما بنحو التضاد أو التناقض ، وكل منهما بعض مفهوم الآخر ، وحينئذ يكون الظاهر الذي سيق لبيان

ص: 73


1- المغني : ج 4 ، ص 225.
2- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 9.

المفهوم هو الشرطية الاُولى فقط ، لا كلتاهما ، ولا خصوص الثانية ، بل الشرطية الثانية هي لصرف بيان بعض أفراد مفهوم الشرطية الاُولى ، وعلى هذا يرتفع توهّم التناقض بين الشرطيتين ، فيتّضح إناطة الحرمة بالمرابحة وجوداً وعدماً (1).

ويؤيّد هذا ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله انّه لما بعث اُسيد إلى مكّة قال : « إنهَهُم عن بيع ما لم يقبضوه ، وعن ربح ما لم يضمنوه » (2). وبما أنّ الحطيطة ليست ربحاً لما لا يضمن ، بل هي خسارة فلا يشملها النهي.

هذا ، ولكن توجد رواية أبي بصير القائلة : « لا بأس أن يولّيه كما اشتراه إذا لم يربح فيه أو يضع » (3).

فقيّدت عدم البأس في البيع قبل القبض بعدم الربح وعدم الوضع. ولكن الرواية ضعيفة بعلي ابن أبي حمزة البطائني.

أقول : ممّا تقدّم من هذه الاستثناءات يتّضح عدم صحّة ما ذكر من أن الشركة في المكيل والموزون قبل القبض والتولية والحوالة به كالبيع ، كما ذهب إلى ذلك ابو حنيفة والشافعي (4) ، لعدم دليل يعتدّ به على ذلك ، على أنّ الدليل خلافه.

6 - هل يقوم الضمان مقام القبض ؟

6 - هل يقوم الضمان مقام القبض ؟ (5)

إذا اشترى إنسان شيئاً مكيلا أو موزوناً وباعه قبل قبضه ، ولكن اشترط على

ص: 74


1- شرح الشهيدي على مكاسب الشيخ الأنصاري : ص 316.
2- المغني 4 : 221.
3- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 16.
4- المغني لابن قدامة : ج 4 ، ص 223.
5- ذكرنا في بحث السلم وتطبيقاته المعاصرة المقدّم لمجمع الفقه الإسلامي بجدّة في دورته التاسعة في « أبو ظبي » : عدم قيام قدرة البائع ( في بيع السلم على توفير السلعة عند المطالبة ) عن القبض ، وكذا ذكرنا عدم قيام التأمين على سلعة المسلم فيها عن القبض ، وعدم قيام وجودها في مخازن عمومية منظمة عن القبض أيضاً بنفس النكتة التي ذكرناها هنا.

نفسه فيما إذا تلف المبيع يكون ضمانه عليه ( لا على البائع الأول ولا على المشتري الثاني ) فهل يصحّ أن يقوم هذا الضمان مقام القبض الحسّي فتصحّ المعاملة الثانية ؟

أقول : إنّ القبض الذي يجعل البائع ضامناً للبضاعة إذا لم يحصل ويرتفع الضمان عنه إذا حصل ، هو غير القبض الذي يجوّز للمشتري بيع بضاعته بعده ، ولا يجوز له بيع بضاعته قبله ، إذ المراد من الأوّل التخلية ، فلو خلّى البائع بين المشتري وبين البضاعة المباعة فقد خرج عن الضمان وإن لم يحصل القبض الحسّي من قبل المشتري ، وحينئذ يكون البائع غير ضامن ، ومع ذلك لا يجوز للمشتري أن يبيع البضاعة قبل أن يقبضها قبضاً حسيّاً ويحوزها. وبهذا يفهم أنّ المراد من القبض في الثاني هو القبض الحسّي ، وعليه فإذا خرج البائع عن الضمان بالتخلية توجّه الضمان على المشتري ، ولكن إذا لم يحصل القبض الحسّي فلا يجوز له بيع البضاعة المكيلة أو الموزونة ، للأدلّة المتقدّمة المصرِّحة بلا بدّية القبض الحسّي في البيع الثاني.

ثم : إنّ بين ضمان المشتري للمبيع وقبضه تبايناً وتضادّاً ، وقد جعل الشارع القبض الحقيقي شرطاً لصحّة البيع الثاني إذا كان غير تولية.

وحينئذ نقول : لا يمكن أن يقوم مقامه ضمان المشتري للمبيع ، على أننا لم نعلم علّة لابدّية القبض في المكيل والموزون قبل البيع الثاني ، ومن يقول بقيام الضمان مقام القبض لابدّ له من أن يثبت أنّ علّة القبض في المبيع قبل البيع الثاني إنّما هي لضمان المشتري السلعة ، وهذا دونه خرط القتاد.

7 - شحن السلعة في السفن

في التجارة الدولية يكون شحن السلع في السفن مُخرِجاً للبائع عن الضمان فيما إذا تلفت السلع بعد ذلك ، ثم إنّ المشتري قد يقوم ببيعها وهي في البحر لشخص ثالث ، ويكون هذا البيع مُخرِجاً للمشتري الأول عن الضمان فيما إذا تلفت السلع بعد ذلك ،

ص: 75

ويتحمّل المشتري الثاني الخسارة في صورة التلف ، فهل تكون هذه المعاملة صحيحة ؟

أقول : هنا مشكلتان :

الاُولى : الضمان على المشتري قبل أن يقبض المبيع.

الثانية : بيع المبيع قبل قبضه.

ولأجل حلّ المشكلتين نقول : إذا كان الشرط في البيع هو التسليم على ظهر السفينة وكان البائع قد شحن السلعة في السفينة فيكون قد خلّى بين المشتري وسلعته ، وحينئذ فقد خرج عن الضمان وقد انحلّت المشكلة الاُولى.

ثم إذا كان ربّان السفينة يعدّ وكيلا عن المشتري فقد حصل القبض الحسّي بالوكالة الذي يجوّز للمشتري أن يبيع هذه السلعة وإن كانت مكيلة أو موزونة. أمّا إذا كانت البضاعة غير مكيلة أو موزونة فيجوز بيعها قبل قبضها ، كما تقدّم ذلك.

ونتمكّن أن نتصوّر وكالة ربّان السفينة فيما إذا كان أمرُ ما في السفينة بيد المشتري ، بحيث يتمكّن أن يأمرَ ربّانها بواسطة الاتصالات الحديثة بالتوجّه إلى غير بلد المشتري ، أو يأمره بتسليم البضاعة إلى شخص آخر ، وحينئذ يتمكّن أن يبيع هذه البضاعة إلى شخص ثالث ، لأنّها مقبوضة بالقبض الحسّي بالوكالة. وبهذا فقد انحلّت المشكلة الثانية.

ثم إذا كان أمر ما في السفينة بيد المشتري الثاني ، بحيث لا يكون للمشتري الأوّل الذي باع أيّ تسلّط بعد بيعه على البضاعة فقد خرج المشتري الأوّل عن الضمان ، لحصول التخلية بين البضاعة وبين المشتري الثاني. فإن عُدّ ربّان السفينة وكيلا عن المشتري الثاني في القبض والتسلّط بحيث كان يأتمر بأمر المشتري الثاني في التوجّه إلى أي مكان أراد فحينئذ تكون البضاعة مقبوضة بالقبض الحسّي للمشتري الثاني بالوكالة ، فيصحّ بيعها وإن كان مكيلة أو موزونة ... وهكذا.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره في كتاب المكاسب فقال : « لو باع داراً أو سفينة مشحونة بأمتعة البائع ومكّنه منها بحيث جعل له تحويلها من مكان إلى

ص: 76

مكان كان قبضاً ... » (1).

أمّا إذا كان الشحن في السفينة لا يعدّ تخلية كما إذا كان الشراء للسلعة قد اشترط فيها التسليم في بلد المشتري ففي هذه الصورة لا يكون الشَحن في السُفن تخليةً للسلعة ، كما لا يكون المشتري متسلّطاً عليها بحيث يتمكّن أن يأمر ربّانها بتسليمها إلى شخص ثالث أو التوجّه إلى غير بلد المشتري ، بل يكون أمر البضاعة بيد البائع ، وحينئذ إذا تلفت السلعة فيكون ضمانها على البائع ، لقاعدة « اذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه ». كما لا يمكن للمشتري بيعها على آخر إذا كانت مكيلة أو موزونة ، لعدم تسلّطه عليها بحيث يكون قابضاً. وعلى هذا فإنَّ اشترط الضمان على المشتري في هذه الصورة يكون الشرط مخالفاً للسنّة ، ولا يصحّ بيعها قبل قبضها للأدلّة المتقدّمة على ذلك إن كانت البضاعة مكيلة أو موزنة.

8 - بيع السمك في النهر أو البركة

قد يملك إنسانٌ نهراً أو بِركةً قد ربّى فيها السمك فهل يجوز له أن يعقد مقاولة مع آخرين على الانتفاع بهذه البركة أو النهر الذي فيه السمك ( أكلا أو بيعاً له بعد اصطياده ) مدّة معلومة بأجر معيّن ؟

والجواب : أنّ هذه المقاولة يمكن تصوّرها بثلاث صور :

1 - بيع السمك الموجود إذا كان معيناً ) وإجارة البركة مدّة معيّنة. وبما أنَّ السمك معلوم بالمشاهدة فالبيع صحيح. وبما أن المدّة معلومة لإجارة البركة والأجر معين أيضاً فالإجارة صحيحة.

2 - إذا لم يكن السمك معلوماً فيتمكّن أن يبيع كمية معلومة منه مع الباقي الذي

ص: 77


1- المكاسب : ج 2 ، ص 311.

يجهل مقداره ، ويدلّ على صحّة هذا البيع روايات الضميمة ، وهي على طوائف :

الطائفة الاُولى : تدلّ على جواز بيع اللبن في الضرع إذا ضمّ إليه شيء معلوم (1).

الطائفة الثانية : تدلّ على جواز بيع ما في بطون الأنعام مع الضميمة لا منفرداً (2).

الطائفة الثالثة : تدلّ على جواز بيع الآبق منضمّاً إليه شيء معلوم لا منفرداً (3).

الطائفة الرابعة : تدلّ على جواز شراء ما لم يدرك منضمّاً إليه ما أدرك (4).

الطائفة الخامسة : تدلّ على جواز بيع الثمار قبل خروج الطلع مع الضميمة (5).

فمن الطائفة الاُولى : موثقة سماعة قال : « سألته عن اللبن يشترى وهو في الضرع ؟ فقال : لا ، إلاّ أن يحلب لك منه اُسكرجّة فيقول : اشترِ منّي هذا اللبن في الاُسكرجة وما في ضروعها بثمن مسمّى ، فإن لم يكن في الضرع شيء كان ما في الاُسكرجة » (6).

ومن الطائفة الثالثة : صحيحة رفاعة النخّاس قال : « سألت الإمام الرضا علیه السلام قلت له : أيصلحلي أن أشتري من القوم الجارية الآبقة واُعطيهم الثمن وأطلبها أنا ؟ قال علیه السلام : لا يصلح شراؤها إلاّ أن تشتري منهم معها ثوباً أو متاعاً فتقول لهم أشتري منكم جاريتكم فلانة وهذا المتاع بكذا وكذا درهماً ،

ص: 78


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 8 من عقد البيع وشروطه.
2- المصدر السابق : ب 10 من عقد البيع وشروطه.
3- المصدر السابق : ب 10 من عقد البيع وشروطه.
4- المصدر السابق : ب 10 من عقد البيع وشروطه.
5- المصدر السابق : ب 10 من عقد البيع وشروطه.
6- الحديث الثاني من الطائفة الأولى.

فإنّ ذلك جائز » (1).

ومن الطائفة الخامسة : موثّقة سماعة عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها ؟ فقال علیه السلام : لا ، إلاّ أن يشتري معها شيئاً من غيرها رطبة أو بقلة فيقول : أشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر بكذا وكذا ، فإن لم تخرج الثمرة كان رأس مال المشتري في الرطبة والبقل » (2).

3 - كما يمكن تصوّر المقاولة بصورة الإجارة للبركة مدّة معلومة على أن ينتفع بها وبما فيها أكلا أو بيعاً بعد اصطياده ، وهذا نظير إجارة البقرة للانتفاع بها وبلبنها مدّة معلومة ، وإجارة المرأة للرضاع (3).

وهذا الحكم في الصور الثلاث لا يختلف فيما إذا جاء السمك إلى النهر أو البركة تلقائياً بواسطة الفيضانات ، فإنَّ المالك للنهر أو البركة يملك ما يدخل فيها ، وحينئذ إمّا أن يبيعه إذا كان معلوماً ويؤجر البركة لمدّة معينة. وإمّا أن يبيع شيئاً معلوماً منه مع ضميمة الموجود فيها الذي لا يُعلم مقداره. أو يؤجر البركة على أن ينتفع بما فيها لمدّة معلومة كإجارة المرأة للإرضاع.

كما أنّ هذا الحكم لا يختلف لو كانت الدولة مالكة للنهر أو البركة من باب ملكيتها للأنفال ، فتملك ما فيهما كذلك ، وتصحّ المعاملات المتقدّمة على هذا السمك الذي في البركة بصوره الثلاث بشرط أن تكون الدولة شرعية ، بمعنى قيمومتها الشرعية على المجتمع ، كأن يكون رئيس الدولة حاكماً شرعياً أو منصوباً من قبله بحيث تكون الأنفال ملكاً للمقام.

وكذا تصحّ هذه الصور الثلاث إذا كانت الملكية للمسلمين ، وكان المتوليّ

ص: 79


1- الحديث الأول من الطائفة الثالثة ، وأمّا الحديث الثاني فيها فهو موثّق.
2- الحديث الأوّل من الطائفة الخامسة.
3- وسائل الشيعة : ج 15 ، ب 71 من أبواب أحكام الأولاد ، أحاديث الباب.

عليهم حاكماً شرعياً يصرف حاصل ما باعه أو أجّره على المسلمين.

9 - بيع الحطب

قد تعمد الدولة لبيع أحطاب الأشجار التي تغرسها في أطراف الطرق ، أو تخرج تلقائياً في أرض الحكومة ، وهذه المعاملة أيضاً صحيحة إذا كان ما يغرس أو يخرج تلقائياً في أرض الدولة ( الأنفال ) أو الأراضي الميتة التي تكون للإمام علیه السلام أو في أرض المسلمين إذا قام بها الحاكم الشرعي أو وكيله.

أمّا إذا كانت الحكومة غير شرعية فالتصرّفات فيها على بيع الحطب أو المقاولة على السمك بصوره الثلاث المتقدّمة مشكلةٌ ، لأنّ الحكومة إمّا ليست بمالكة ، أو ليس لها ولاية على أموال المسلمين ، فتحتاج تصرّفاتها إلى إمضاء من الحاكم الشرعي ، فإن لم يمضِ الحاكم الشرعي تصرّفات الحكومة غير الشرعية في المقاولات على السمك أو بيعها له بصوره الصحيحة أو بيعها للحطب ، فيجب على المشتري لهذه الأسماك أو المؤجّر للبرك أو المشتري للحطب المراجعة والمصالحة مع الحاكم الشرعي ، لأخذ الثمن أو الإجارة منه وصرفها في مواردها المقررة من صرف موارد الانفال أو الصرف على مصالح المسلمين ، حتى يكون عمل المشتري صحيحاً. واللّه هو العالم بحقائق الاُمور.

هذا ما أردنا بيانه على الأسئلة الموجّهة من مجمع الفقه الإسلامي في الهند لدورته التاسعة. والحمد لله أولاً وآخراً.

* * *

ص: 80

العقود المستجدة

اشارة

ص: 81

ص: 82

مقدمة

إذا نظرنا إلى العنوان المطروح من قبل المجمع الموقّر (1) وكذا إلى عناصره ( من تعريف للعقود المجتمعة وتحرير المقصود من منع صفقتين في صفقة ... الخ ) وأثر المواعدة على العقود المجتمعة والنماذج للتطبيقات المعاصرة - عقود التوريد والمشاركة المتناقصة « المناقصات » - نجد أن المراد من البحث ليس هو عموم العقود المستجدة ، بل خصوص عقد التوريد الذي يبدو اعتباره من العقود المركبة ، وعقد المناقصات الذي يبدو اعتباره من العقود المجتمعة ( الجمع بين العقود ) (2).

والمراد بالمناقصات التي تقع في الخارج أو يمكن أن تقع :

1 - إمّا مقاولات ، وهي أعمال التنفيذ في المشروعات الكبيرة ، وتسمّى مناقصات عقد الإجارة.

2 - أو مناقصات البيع والشراء إذا كانت على سلعة خارجية تباع أو تشترى.

ص: 83


1- المقصود به مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
2- لم نجد فرقاً بين العقود المركبة والعقود المجتمعة ، إلاّ أن يكون التركيب عبارة عن عدة عقود من نوع واحد متدرجة في الزمان أو لا ، أمّا العقود المجتمعة فهي عدة عقود متنوعة اجتمعت لغاية واحدة. وإلاّ فكلاهما عقود مجتمعة.

3 - أو مناقصات الاستصناع إذا كانت المواد والعمل يحوَّلان بعد الأجل إلى المشتري.

4 - أو مناقصات السلم إذا كانت السلعة تحوّل بعد الأجل إلى المشتري.

5 - أو مناقصات الاستثمار ، كما إذا كانت المناقصة لإيجاد عقد مضاربة أو مزارعة أو مساقاة مثلاً.

ولهذا سوف نتعرض لبعض العقود المجتمعة بصورة اجمالية حسب عموم الموضوع ، ونركّز على عقد التوريد وعقد المناقصات حسب ما جاء في عناصر البحث.

ولكن قبل بدء البحث لابدّ من بيان أن العقود المعاملية التي أشار إليها القرآن بقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هل تختص بالعقود التي كانت موجودة في زمن الشارع المقدّس ، وحينئذ يكون كل عقد - غيرها - محكوماً بالبطلان ، أو أن المراد من قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) كل عقد كان موجوداً في زمن النص أو سيوجد فيما بعد مما ينطبق عليه عنوان العقد فهو محكوم بالصحة ويجب الوفاء به ؟

وبعبارة اُخرى : أنّ الآية القرآنية : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هل المراد منها العقود الخارجية أو المراد منها العقود الحقيقية ، وقد اُخذ العقد على نحو القضية الحقيقية ؟

والمعروف في الجواب على هذا التساؤل هو : أنّ خطابات الشارع لو خلّي وطبعها تكون قد اُخذت على نحو القضايا الحقيقية ، بمعنى أن الشارع اوجد حكمه على موضوع معين ، فمتى وجد هذا الموضوع وجد حكم الشارع ، فتكون خطابات الشارع ومنها (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) قد اُخذت على نحو القضية الحقيقية.

وعلى هذا فسوف يكون كل عقد عرفي - ولو كان جديداً لم يكن متعارفاً عند نزول النصّ - يجب الوفاء به إذا كان مشتملا على الشروط التي اشترطها الشارع في الثمنين أو المتعاقدين أو العقد ، ككون الثمنين معلومين ، وبلوغ وعقل المتعاقدين وأمثالهما.

ص: 84

وقد نجد في ثنايا الفقه الإمامي وغيره نتيجة هذه الاجابة ، فقد ذكر السيد اليزدي في العروة الوثقى فقال : « يمكن أن يقال بإمكان تحقيق الضمان منجزاً مع كون الوفاء معلقاً على عدم وفاء المضمون له ، لأنه يصدق أنه ضمن الدين على نحو الضمان في الأعيان المضمونة » (1).

وقد ذكر الإمام الخوئي رحمه اللّه في شرح مراد السيد اليزدي فقال : « ولعلّ مراده من كلامه هذا يرجع إلى ارادة معنى آخر غير المعنى المصطلح من الضمان ، اعني نقل ما في ذمة إلى اُخرى (2). وقد يكون هذا المعنى هو التعهد بالمال وكون مسؤوليته عليه من دون انتقاله - بالفعل - إلى ذمته ، كما هو الحال في موارد ضمان العارية مع الشرط ، أو كون العين المستأجرة ذهباً أو فضة فإن ضمانها ليس بالمعنى المصطلح جزماً ، إذ لا ينتقل شيء بالعارية إلى ذمة المستعير ، فإن العين لا تقبل الانتقال إلى الذمة وهو غير مشغول الذمة ببدلها قبل تلفها ، فليس ضمانها إلاّ بمعنى كون مسؤوليتها في عهدته بحيث يكون هو المتعهد بردّها ولو مثلاً أو قيمةً عند تلفها ... وكيف كان فإذا صحّ مثل هذا الضمان في الأعيان الخارجية كموارد اليد والعارية فليكن ثابتاً في الاُمور الثابتة في الذمة أيضاً ، فإنه لا يبعد دعوى كونه متعارفاً كثيراً في الخارج ، فإنَّ أصحاب الجاه والشأن يضمنون المجاهيل من الناس من دون أن يقصد بذلك انتقال المال بالفعل إلى ذممهم ، وإنّما يراد به تعهدهم به عند تخلّف المضمون عنه عن أداءه ».

ثم قال الإمام الخوئي : « والحاصل : أنّ الضمان في المقام غير مستعمل في معناه المصطلح ... وإنّما هو مستعمل في التعهد والمسؤولية عن المال ، وهو أمر متعارف عند العقلاء ، فتشمله العمومات والاطلاقات ، فإنَّه عقد يجب

ص: 85


1- العروة الوثقى : ج 2 من كتاب الضمان ، ص 588 طبعة 1410 ه - 1990 م.
2- إنّ المشهور في فقه الإمامية أن عقد الضمان هو نقل الدين من ذمة إلى اُخرى ، لا ضم ذمة إلى ذمة.

الوفاء به » (1).

وقد ذكر الشهيد الصدر - رضوان اللّه تعالى عليه - النتيجة نفسها التي انتهينا إليها سابقاً فقال : إنّ هناك معنىً للضمان غير المعنى المصطلح عند الإمامية وعند السُنَّة ، وهو معنى ثالث عبارة عن : « تعهد بالأداء لا تعهد بالمبلغ في عرض مسؤولية المدين ، وأنّ هذا التعهد ينتج ضمان قيمة المتعهد به إذا تلف بامتناع المدين عن الأداء ، ولكن حيث إنّ الأداء ليس له قيمة مالية إلاّ بلحاظ مالية مبلغ الدين فاستيفاء الدائن لقيمة الأداء من الضامن بنفسه استيفاء لقيمة الدين ، فيسقط الدين بذلك.

وهذا المعنى للضمان صحيح شرعاً بحكم الارتكاز العقلائي أولاً ، وللتمسك بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ثانياً ، إلاّ أنّ التمسك بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يتوقف على أن نثبت قبل ذلك بالارتكاز العقلائي - مثلاً - عقدية هذا النحو من التعهد والضمان ، أي كون ايجاده المعاملي متقوماً بالتزامين من الطرفين ، ليحصل بذلك معنى العقد بناء على تقوّم العقد بالربط بين التزامين بحيث يكون أحدهما معقوداً بالآخر » (2).

وعلى هذا فسوف تكون عندنا قاعدة أنَّ كل عقد عرفي قد ثبتت عقديته عرفاً بالارتكاز العقلائي إذا كان مشتملا على شروط صحة العقد الشرعية وخالياً عن موانع العقد يجب الوفاء به استناداً إلى قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

تعريف العقود المجتمعة

اشارة

لم أطّلع على تعريف ذكر للعقود المجتمعة ، ولكن يمكن أن يقال : « إنّها عبارة عن منظومة عقود لها صلة ببعضها تؤدي إلى هدف - عقد - واحد هو الأصل ».

ص: 86


1- مباني العروة الوثقى : كتاب المساقاة ص 114 - 116.
2- البنك اللاربوي في الإسلام للشهيد الصدر : ص 231 - 232.

ويمكن أن نمثّل للعقود المجتمعة بعقود المناقصات التي قد تكون لتوريد سلعة أو لإنشاء مشروع أو مناقصة بيع أو شراء أو استصناع أو سلم أو استثمار ، فإنَّ في جميع هذه العقود يوجد عقد واحد هو المقصود الأصلي من المناقصات ، ولكن تسبقه عدّة إجراءات وعقود مرتبطة ببعضها ، كبيع دفتر الشروط وتقديم الضمان الابتدائي والانتهائي وغيرهما - كما سيأتي ذلك فيما بعد - ممّا يكون دخيلا في العملية الأصلية ، ويعتبر العقد في النهاية عقداً واحداً وهو العقد الأصلي.

وسنتحدث عن العقود المجتمعة ضمن هذه الأمثلة :

1 - بيع العينة.

2 - الإجارة بشرط التمليك.

3 - بطاقة الائتمان.

4 - المشاركة المتناقصة.

5 - عقد التوريد.

6 - المناقصات.

ولا بأس بالتعرض لها اجمالاً لمعرفة حكمها.

1 - بيع العينة

وقد يُدعى بعقد المخاطرة ، وقد ورد في الفقه الإسلامي التعرض له.

وخلاصته : أن يبيع رجل من آخر سلعته التي قيمتها مئة دينار بمئة وعشرين ديناراً مؤجلة الى سنة ، ثم يبيع المشتري - الذي أصبح مالكاً للسلعة - السلعة نفسها على البائع نقداً بمئة دينار ، فيكون المشتري في النهاية قد حصل على مئة دينار نقداً بمئة وعشرين ديناراً مؤجلة إلى سنة. وهذا هو الربا المستور تحت البيع.

ص: 87

وقد يكون الأمر بالعكس بأن يبيع صاحب السلعة سلعته نقداً ثم يشتريها من المشتري نسيئةً بمقدار أكبر من قيمتها - وهذا هو الذي تنظر إليه روايات الإمامية - فيكون البائع في البيع الأول هو المشتري في البيع الثاني ، وبالعكس.

وقد تصوّر بصورة ثالثة : بأن يبيع صاحب السلعة سلعته نسيئة بالسعر السوقي ثم يشتريها منه بأقل من السعر السوقي نقداً.

وقد ذكرت معان اُخر للعينة إلاّ أنّها ليست معروفة نُعرض عنها (1).

أقول : إنّ ما تقدم من صور العينة قد يكون على أنحاء ثلاثة :

1 - أن يشترط البيع الثاني في البيع الأول صريحاً.

2 - أن يبنى البيع الثاني على البيع الأول بالاتفاق عليه قبل العقد ولكن من دون ذكر صريح له في العقد.

3 - أن يقع البيع الثاني بعد البيع الأول صدفةً ومن دون سبق اتفاق بين الطرفين.

أمّا الصورة الاُولى والثانية - والذي لا فرق بينهما إلاّ أن الأولى كان الشرط فيها صريحاً دون الثانية التي كان الشرط فيها ضمنيّاً وارتكازياً - فقد ذهب علماء أهل السُنَّة إلى البطلان فيهما ؛ لعدم قصد البيع واقعاً وقصد الربا حقيقة بهذه المعاملة.

أمّا عند علماء الإماميّة فقد نقل الشيخ الأنصاري قدس سره : إنّ المشهور بينهم عدم الجواز ، ولكن اختلفوا في تعليله على وجوه :

منها : عدم قصد البيع كما ذكر عند أهل السُنَّة.

ومنها : وجود النصوص الصحيحة في المقام الدالة على البطلان ، منها : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر ( الإمام الكاظم علیه السلام ) قال :

ص: 88


1- راجع الرابا فقهياً واقتصادياً للمؤلف : ص 245 وما بعدها.

« سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم إلى أجل ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد ، ؟ قال علیه السلام : إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس »(1).

ومعناها : إذا شرط ذلك فالبيع الأول غير صحيح ، كما هو الظاهر من كلمة « البأس » في المعاملات حيث إن السؤال عن حلّيّة البيع وشرائه.

وأمّا إذالم يشترط ذلك بأن كان البائع بالخيار إن شاء اشترى وان شاء لم يشترِ فلا بأس بهذه المعاملة ، وهذا هو حكم الصورة الثالثة ، بالاضافة إلى أنها لا تحتاج إلى نص ، إذ هي كما إذا بعتُ سلعتي بمئة دينار نقداً ، ثم اشتريت مثلها من شخص ثالث بمئة وعشرين مؤجلة إلى شهر ، أو مثل ما إذا اشتريت سلعة مؤجلة إلى شهر بمئة وعشرين ثم بعتها على غير البائع بمئة نقداً فهذه المعاملة صحيحة بلا إشكال بلا احتياج إلى نص ، لعدم وجود شرط في البين فهي كالصورة الثالثة.

ملاحظة : يمكننا القول في الصورة الاُولى والثانية : بأنَّ العرف يرى انطباق المعاملة القرضية عليها ، لأنّ القرض هو : تبديل المال الخارجي بمثله في الذمة. والنتيجة من المعاملتين المشروط فيها المعاملة الثانية في الاُولى هو حصول أحدهما على مائة دينار خارجية على أن تكون مضمونة عليه في ذمته ، فلا قصد إلى معاملتين أصلاً ، بل القصد إلى معاملة واحدة هي القرض ، وحينئذ لا يجوز الزيادة في القرض ، فإذا حصلت الزيادة بالشرط فهو ربا.

2 - الإجارة بشرط التمليك

اشارة

إنّ الإجارة بشرط التمليك هي إحدى وسائل التمويل عن طريق تمليك المنفعة أولاً ، ثم تمليك العين نفسها في آخر مدّة الاجارة. وقد وصفه فقهاء القانون

ص: 89


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 5 من أحكام العقود ، ح 6 وغيره.

بالبيع الايجاري وذلك في سنة 1846 م ، أو الايجار الساتر للبيع ، أو الايجار المملِّك. وله صور أهمّها :

أ - عقد واحد :

بأنْ يصاغ عقد الإجارة الذي ينتهي بتملك الشيء المؤجَر مقابل ثمن يتمثّل في المبالغ التي دفعت كأقساط إيجار لهذا الشيء المؤجَر خلال المدّة المحدودة ، فيصبح المستأجِر مالكاً للشيء المؤجَر تلقائياً بمجرد سدّ القسط الاخير دون حاجة إلى عقد تمليك جديد.

ب - عقدان مع وعد بينهما :

بأن يصاغ عقد الايجار لمدة محدودة على أن يكون للمستأجِر الحقّ في تملك العين المؤجَرة في نهاية المدّة مقابل دفع مبلغ سواء كان الثمن :

1 - رمزياً ، روعي فيه الاقساط الايجارية المرتفعة ارتفاعاً كبيراً عن ثمن المثل للاجرة المتعارفة لهذا الشيء التي تعادل مجموعها ثمن السلعة الحقيقي مع ما اُضيف إليه من ثمن رمزي.

2 - أو حقيقياً ، بحيث لا يكون للاقساط الايجارية أي تأثير في ثمن السلعة الحقيقي (1).

أقول : الصورة الأولى ليست من العقود المجتمعة ، بل هي عقد واحد فيه شرط نتيجة.

ص: 90


1- والهدف من هاتين الصورتين للاجارة المنتهية بالتمليك هو ضمان حقوق المؤجر التي يريدها من وراء البيع لهذه السلعة لمصلحة المستأجر بحيث لا يتلكأ المشتري من عدم السداد بعد عقد صفقة البيع ، أو يحجر على السلعة إذا لم يحصل المؤجر على كل ماله من الثمن ، فإذا حصل المؤجر على الثمن كاملا وتحقّق قصده فهو لا يمانع أن تكون السلعة ( البيت ) للمستأجر بثمن أو بلا ثمن.
ما هو شرط النتيجة ؟

أقول : إنّ الشرط الذي اشترط لم يكن فعلاً وإنّما هو أمر جعلي جعله المتعاقدان ، مثل أن يقول شخص لآخر : بعتك السيارة بألف بشرط أن يكون الكتاب ملكي.

ويختص شرط النتيجة الذي يحكم بصحته في العقود في تحصيل الغاية التي لا يشترط في ايجادها سبب خاص ( كالنكاح والطلاق الذي اشترط الشارع فيهما صيغة خاصة ) مثل الوصية والوكالة ، كما إذا زوجت المرأة نفسها للزوج بشرط أن تكون وكيلة أو مأذونة في طلاق نفسها مطلقاً ، أو في موارد خاصة كحبس الزوج مدة معينة ، فالمشروط هنا الوكالة نفسها. وكذا إذا اشترطت الزوجة أن تكون وصية للزوج بالنسبة لثلث ماله أو على أطفاله. وكذا إذا اشترط شخص في هبته سقوط الخيار في النكاح ، فهذه الشروط - التي هي شروط نتيجة - قد صحّحتها نصوص شرعية (1).

ولكن يكفينا « المؤمنون عند شروطهم » الذي يشمل الشرط إذا كان فعلاً يقوم به المشروط عليه ، أو كان الشرط نتيجة الفعل المترتب على الشرط ، كما إذا اشتريت بيتاً بشرط أن تكون الثلاجة لي ، « فالمسلمون عند شروطهم » يقول : ادفع الثلاجة إلى المشتري وهو معنى صحة شرط النتيجة.

« وعلى هذا فالمسلمون عند شروطهم يشمل المشروط الذي يكون حصوله وانشاؤه بغير الشرط صحيحاً ، وبالشرط لازماً » (2).

ص: 91


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 6 من الخيار ، ح 4 رواية الحلبي ، و ب 8 من الخيار ، ح 3 رواية معاوية بن ميسرة ، و ج 13 ، ب 30 من أحكام الاجارة ، ح 5 رواية موسى بن بكر ، و ب 29 من أحكام الإجارة ، ح 15 ، و ج 16 ، ب 11 من المكاتبة ، ح 1 رواية سليمان بن خالد.
2- (2) وقد يقال : إنّ هذا الاستدلال غير صحيح ، لأن حديث « المسلمون عند شروطهم » مقيّد بجملة « إلاّ شرطاً خالف كتاب اللّه أو إلاّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً ». وإذا شككنا في أن الملكية الحاصلة بالشرط من دون انشاء ولا عوض ولا مجاناً هل تكون مخالفة للكتاب والسنة أم لا ؟ فحينئذ يكون التمسك ب « المسلمون عند شروطهم » من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لعنوان المخصص. وقد أجاب الشيخ الأنصاري قدس سره عن هذا الاشكال بما خلاصته : أن الهبة بدون إنشاء ولا عوض ولا مجاناً كان جائزاً وغير مخالف للكتاب والسنة ولو قبل الكتاب والسنة ، والآن لا نعلم أنها مخالفة للكتاب والسنة أم لا ؟ فنستصحب عدم المخالفة . وحينئذٍ تكون الملكية بالشرط وجدانية وكونها غير مخالفة للكتاب والسنة بالأصل فيكون الموضوع محرزاً . أقول: إن كل شرط إذا لم يعلم مخالفته للكتاب والسنة يمكن التمسك لصحته بعمومات فوقانية ، مثل : «المسلمون عند شروطهم ...» أو موثقة إسحاق بن عمار القائلة: « من شرط لامرأته شرطاً فليفلها به ، فإنَّ المؤمنون عند شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً». وسائل الشيعة : ج 15 ، ب 40 من العقود. وقد أشكل على الشيخ الأنصاري : بأنَّ الاستصحاب غير صحيح، وذلك لأنَّ الحالة السابقة هي سالبة بانتفاء الموضوع ، بمعنى أن الشرط حينما كان غير مخالف للكتاب والسُنَّة لم يكن الشرط موجوداً ، ولكن موضوع وجوب الوفاء هو : سالبة بانتفاء المحمول (السالبة المحصلة) بمعنى وجود الشرط وعدم مخالفة الكتاب والسنة ، وهذه السالبة المحصلة ليست لها حالة سابقة، وحينئذ إذا أردنا استصحاب السالبة بانتفاء الموضوع لاثبات السالبة بانتفاء المحمول يكون أصلاً مثبتاً . وقد رد الشيخ النائيني قدس سره هذا الإشكال بما لا يسع المقام لذكره في مثل هذه الأبحاث، فنكتفي بهذا المقدار .

كما يمكن أن يستدل على صحة شرط النتيجة ب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) حيث إن البيع الذي شرط فيه ملكية الثلاجة المعينة معناه الالتزام باصل المعاملة والالتزام بالأمر الوضعي ، وبما أن الشرط قد دخل تحت عنوان العقد ، ف (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يقول : فِ بالعقد والشرط ، فيكون الشرط صحيحاً.

ولا نرى حاجة للتنبيه إلى أن وجوب الوفاء بالشرط لا يفرق فيه بين العقد اللازم والجائز ما دام العقد لم يُفسخ ، لأنّ الشرط مرتبط بالالتزام العقدي وهو موجود لم يلغ.

ص: 92

نعم ، إذا اُلغي الالتزام العقدي بالفسخ في العقد الجائز أو بالاقالة في العقد اللازم فلا يجب الوفاء بالشرط ؛ لزوال الالتزام العقدي.

الصورة الثانية (1) : وهي عبارة عن عقد اجارة ثم وعد أو عهد ببيع البيت ( عند انتهاء أمد الاجارة ) بثمن معين ، ثم بيع البيت بذلك الثمن آخر المدة.

وهذه عقود مجتمعة على مرّ الزمان مرتبطة فيما بينها تحقّق هدفاً - عقداً - واحداً هو الأصل.

ولا يوجد هنا عقد معلق على شرط أو أجل كما قيل (2) ، وإنّما عند انتهاء عقد الاجارة يحصل بيع البيت ( كما وعد المؤجر بذلك ) للمستأجر بثمن معين ، وهذا هو شرط فعل البيع في عقد الاجارة.

وبما أنّنا لا نرى أي إشكال في وجود شرط الفعل ( فعل البيع ) عند الاجارة أو أي شرط آخر إذا كان هذا الشرط لا يوجب تعليقاً في العقد ويحقّق مصلحة مشروعة لأي من المتعاقدين ، ولا ينافي المقصود الأصلي من العقد ولا يخالف كتاباً ولا سُنَّة ، ولا يوجب غرراً أو محذوراً آخر ، ولا يكون مستحيلا وذلك للحديث الصحيح الذي قبله الفريقان وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « المسلمون عند شروطهم إلاّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً أو إلاّ شرطاً خالف كتاب اللّه » (3).

ص: 93


1- تقدّمت الصورة الاُولى في ص90.
2- راجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، الدورة الخامسة ج 4 بحث الدكتور حسن علي الشاذلي « الايجار المنتهي بالتمليك ».
3- رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود وابن ماجة ، وصححه ابن حبان. وروي أيضاً في وسائل الشيعة : ج 3. ب 40 من المهور ، ح 4 والحديث موثّق ، وفي ب20 من المهور ح 4 والرواية صحيحة.

وأمّا ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله من انه : نهى عن شرطين في بيع ، فيما رواه عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يحلّ سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك ». وقد ورد هذا الحديث من طرق الامامية أيضاً ، فنقول : إنّ معناه ليس كما قاله بعضٌ ( الحنابلة ) من أن اشتراط شرطين فاسدين يبطل العقد ولا يبطل شرط فاسد واحد (1).

وليس معناه أيضاً : النهي عن اشتراط عقد في عقد ، كما لو باعه بيتاً بشرط أن يبيعه السيارة ، كما عن الزيدية والأباضية (2).

بل معناه - كما ورد في ذلك أثر - هو التردد بين النقد والنسيئة في صيغة واحدة ، فقد روى النوفلي عن السكوني عن جعفر ( الإمام الصادق علیه السلام ) عن أبيه ( الإمام الباقر علیه السلام ) عن آبائه علیهم السلام : « أن عليّاً علیه السلام قضى في رجل باع بيعاً واشترط شرطين بالنقد كذا وبالنسيئة كذا فاخذ المتاع على ذلك الشرط ، فقال علیه السلام : هو بأقلّ الثمنين وأبعد الأجلين » (3).

وأمّا الوعد - العهد - الذي تقدّم من المؤجر للمستأجر فسوف نرى فيما بعد أنه ملزم للمؤجر.

ص: 94


1- راجع بحث الدكتور حسن علي الشاذلي : « الايجار المنتهي بالتمليك » في مجلة مجمع الفقه الإسلامي في الدورة الخامسة : ج 4 ، عدد 5.
2- المصدر السابق.
3- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 2 من أحكام العقود ، ح 2. وهذا الأثر وإن لم يكن صحيحاً من الناحية السندية إلا أنه يفسِّر معنى الشرطين في العقد ، فإن السند إذا كان غير صحيح لا يمكن الاعتماد على الحكم الذي قال به الأثر ، أما الاستعمال والمعنى فلا يحتاج إلى صحة السند لمعرفته ، لكن توجد صحيحة محمد بن قيس البجلي وهو الحديث الأول في الباب نفسه تقول بنفس المضمون، وتوجيه الحكم فيها هو فيها إذا باعها حالاً بنقد وإذا أجل الثمن فيزيد فهو شرط حرام لأنه ربا حيث أجل المال في مقابل الزيادة.

3 - بطاقة الائتمان

إنّ بطاقة الائتمان التي يعطيها المصدِّر ( وهو البنك ) لشخص حقيقي أو حقوقي بناء على عقد بينهما يمكّن من بيع أو شراء السلع أو غيرها من الحصول على الخدمات أو تقديمها أو سحب النقود من بنك آخر على حساب المصدِّر هي عبارة عن عقدين :

الأول : عقد بين مصدِّر البطاقة وبين الحامل لها يتضمّن حدّاً أقصى للائتمان وشروط العلاقة بينهما ، فالبنك تعهد باعطاء ما يشتريه عميله بالبطاقة ( من حساب العميل إن وجد ومن حساب البنك المصدِّر إن لم يوجد للعميل رصيد كاف عند البنك ). وفي مقابل ذلك تعهّد حامل البطاقة بالسداد في وقت محدد إن لم يكن له رصيد كاف في البنك.

ونتمكّن أن نطلق على هذا العقد عقد ضمان بالمعنى الذي يقوله الإمامية ، وهو نقل الدين من ذمة إلى ذمة ( في صورة ما إذا لم يكن للعميل رصيد عند البنك ) ، وهذا العقد يمكن انشاؤه مستقلاً بعد كل معاملة قام بها العميل مع التاجر وكسب التاجر الموافقة على ضمان العميل من قبل البنك بالطرق الالكترونية الحديثة. وحينئذ ينتقل الدين من ذمة حامل البطاقة بعد الشراء إلى ذمة البنك ، على أن يسدد حامل البطاقة المال في مدّة محدّدة ، وهذا عقد صحيح يشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

الثاني : عقد بين مصدّر البطاقة وبين من يعتمدها من مؤسسات وشركات أو مصارف يتضمن شروط العلاقة بينهما. والعلاقة هي أن يقوم البنك باعطاء التاجر ثمن البطاقة أو الخدمة التي قدمها إلى حامل البطاقة ، محسوماً منها نسبة معينة هي أجر سمسرة - مثلاً - تؤخذ ممّن قدمت له الخدمة التي هي غير ضمان المال

ص: 95

الذي يقدمه البنك إلى التاجر من باب الضمان لقيمة شراء العميل مثلاً ، بل الخدمة هي ترويج التعامل مع المؤسسات التجارية التي هي خدمة للطرفين ( العميل والتاجر ).

4 - المشاركة المتناقصة

وهي عبارة عن عملية استثمارية جديدة يقوم بها البنك الحكومي مع عميله الذي يحتاج إلى التمويل في إنشاء مشروع ، أو بناء عقار بعيد عن القروض الربوية ؛ وذلك بتقديم البنك قسماً من رأس مال المشروع بصفته مشاركاً للعميل في مشروعه ويتعهد البنك مع الشريك على طريقة معينة لبيع حصة البنك في المشروع تدريجياً إلى الشريك (1).

وهذه العملية إذا كان عليها بعض الاشكالات ممن لا يرى أن البنك الحكومي الذي هو شخصية حقوقية مالك فيمكن تبديل هذا البنك ببنك أهلي حقيقي ، أو تبديل المثال بشخص حقيقي يكون شريكاً لصاحب المشروع.

ونلاحظ هنا رغم أن البنك الشريك لا يقصد البقاء والاستمرار في الشركة مع العميل عند العقد إلاّ أنّه لابُدَّ من قصده أصل الشركة كعقد بحيث يلتزم بجميع التزامات الشركة وتبعاتها وضماناتها وله حقوق الشريك كاملة.

وهذا العقد قد طبقته بنوك الجمهورية الإسلامية في ايران وعليه العمل خارجاً ، فبعد المشاركة في المشروع يتفق الطرفان على تنازل البنك عن حصته تدريجاً لشريكه مقابل سداده ثمنها شهرياً خلال فترة يتفق عليها ، وعند انتهاء عملية السداد يتم انتقال ملكية حصة البنك إلى الشريك.

ص: 96


1- ويجب على البنك أن يوجد البيع بعد ذلك باعتباره عملاً مستقلاً لا علاقة له بعقد الشركة.

وقد نلاحظ في هذه الصورة أنَّ البنك وان كان يأخذ من الشريك أكثر مما دفعه البنك إليه عندما صار شريكاً له ، إلاّ أنَّ هذا يمكن تخريجه فقهياً بصورتين :

الاُولى : أنّ البنك يتعهد ببيع حصته بنفس المبلغ الذي دفعه البنك إلى الشريك عند المشاركة حينما يتم وجود المبلغ عند البنك على شكل دفعات شهرية ، أما الزائد على ذلك المبلغ الذي اجتمع لدى البنك فهو اجارة لحصة البنك الشريك مع العميل في هذه الفترة.

وطبعاً يقوم البنك حالياً في الجمهورية الإسلامية في ايران بتخفيض الأجرة كلَّما سدّد الشريك قسماً من الثمن ؛ وذلك لأنَّ البنك إذا كان له 50 % من المشروع وسدد الشريك له ما يقابل 1 % من الثمن فقد نقصت حصة البنك إلى 49 % ولهذا تنقص اُجرته.

الثانية : بعد أن تتم المشاركة يتمكّن البنك أن يبيع حصته على شريكه بأقساط شهرية بأكثر من المبلغ الذي دخل فيه مشاركاً. وحينئذ يخرج البنك عن كونه مشاركاً يلزم بتبعاتها وله حقوقها ، ولكن لا يعترف البنك للشريك بملكية المشروع حتى يتم السداد ، وهذا عبارة عن توثيق للبنك على ثمن حصته التي باعها.

وهذه العملية مفيدة لتمويل المنشآت الصناعية والمزارع واحداث المستشفيات وبناء دور السكن بعيداً عن الربا ، كما هي مفيدة للطرفين حيث تجعل احدهما قد حصل على ارباح شهرية والآخر قد حصل على تملّك المشروع أو الدار بصورة تدريجية.

والى هنا قد اتضح أنَّ هذه المشاركة المتناقصة هي عبارة عن عقدين :

الأول : عقد الشركة بين الطرفين لانشاء مشروع أو بناء عقار.

الثاني : بيع أحد الطرفين حصته من الشركة تدريجاً إلى شريكه ، أو إلى أي

ص: 97

طرف آخر بحيث يكون البائع حراً في بيعه والمشتري كذلك.

وقد يوجد ضمن هذين العقدين عقد اجارة لشخص ثالث أو لأحد الشريكين بحيث يدفع اُجرةً لشريكه الذي آجره حصته وجعلها تحت تصرف شريكه الآخر في صورة عدم بيع الحصة بأكملها بعد تمامية الشركة.

أقول : إن هذه العقود المركبة إذا نظرنا الى كل واحد منها لوحده فلا نجد مانعاً شرعياً من صحتها ، واذا نظرنا إليها مجتمعة في اتفاقية واحدة بحيث يوجد تعهد على الالتزام بها فأيضاً لا يوجد أي مانع يمنع من صحة هذه العقود من غَرر أو ضَرر أو ربا أو غير ذلك من الموانع لصحة العقود.

نعم : إذا كان البنك يقوم بهذه الاُمور والعقود من غير قصد إليها بحيث لا يكون مسؤولاً عن تبعات الشركة وضماناتها فيتبيّن أنَّ قصده الحقيقي هو الربا المستور تحت الشركة والبيع.

5 - عقد التوريد ( عقد مركب )

اشارة

هو عقد بين طرفين على توريد سلعة أو مواد محدّدة الأوصاف في تواريخ معينة لقاء ثمن معين يدفع على أقساط.

فالتوريد عقد جديد ليس بسلم ولا نسيئة ، لأنّ السلم - كما قال مشهور الفقهاء - يتقدم فيه الثمن ويتأجل المثمن ، والنسيئة يتقدم فيها المثمن ويتأخر الثمن ، أمّا هنا فالثمن والمثمن يتأجّلان.

والمهم هنا بيان حكم عقد التوريد المتداول الآن بين الدول والشركات ، بل أصبح ضرورةً من ضرورات المعاملات ، حيث إن الدولة المحتاجة إلى كمية من النفظ لفصل الشتاء وتشتري هذه الكمية لا تكون مستعدة لقبولها مرة واحدة ؛ حيث لا توجد عندها المخازن الكافية لحفظها ، كما أنَّ الدولة نفسها لا تملك تلك

ص: 98

الكمية الهائلة من الثمن لتقدّمه إلى الدولة المصدّرة. وكذا الأمر في الدولة المحتاجة إلى تأمين غذاء جيشها في حالة الحرب لمدة ستة أشهر ، فهي ليست بحاجة إلى الخبز الكثير مرة واحدة ، بل تحتاج إلى قسم منه كل يوم ، وليس لديها المال الكافي لتقديمه مرة واحدة ، بل يقدم الثمن على اقساط تشابه أقساط استلام الخبز مثلاً. وهكذا صار عقد التوريد حاجةً ماسّةً في هذا العالم.

وقد يجاب على التساؤل المتقدّم فيقال : إنّ المانع من صحة عقد التوريد هو صدق بيع الدَيْن بالدين - الكالي بالكالي - عليه ، وقد ورد النهي عن بيع الدين بالدين كما روى ذلك طلحة بن زيد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « قال رسول صلی اللّه علیه و آله : لا يباع الدين بالدين » (1).

وقد ذكرت أدلّة اُخرى لمنع هذه المعاملة ، هي :

أ - الإجماع على عدم جواز المعاملة إذا كانت نسيئة من الطرفين.

ب - ولأنّها من ابواب الربا.

ج - ولأنّها شغل لذمتين ( ذمة البائع وذمة المشتري ) من غير فائدة (2).

والجواب : أمّا الحديث الذي نقل عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في النهي عن بيع الدين بالدين فهو لم يصح سنداً من طريق الامامية ؛ لجهالة طلحة بن زيد في كتب الرجال (3).

وأمّا من طرق غيرهم فأيضاً لم يصح السند ، كما قال الإمام أحمد : « ليس في

ص: 99


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 15 من الدين والقرض ، ح 1.
2- راجع بحث مناقصات العقود الادارية ، د. رفيق المصري عن أحكام القرآن للجصاص : ج 2. ص 483. ونظرية العقد : ص 2. واعلام الموقعين : ج 1 ، ص 400 ، وحاشية الشرقاوي : ج 2 ، ص 30 وغيرها.
3- وقد ذكر كتاب المجروحين ج 1 في ترجمة طلحة بن زيد « أنّه منكر الحديث جداً ، يروي عن الثقات المقلوبات ، لا يحلّ الاحتجاج بحديثه ».

هذا حديث يصح » (1).

كما أنّ دلالة الحديث لا تشمل « لما صار دينا في العقد ، بل المراد منه ما كان ديناً قبله ، والمسلَم فيه ( أو المورَّد ) من الأول لا الثاني الذي هو كبيع ماله في ذمة زيد بمال آخر في ذمة عمرو ونحوه ممّا كان ديناً قبل العقد » (2).

وأمّا الإجماع فهو مدركي ، بمعنى أنّ إجماع العلماء على الحكم مدركه الرواية المروية عن الرسول صلی اللّه علیه و آله فلا اعتبار لهذا الإجماع ، وإنّما الاعتبار بالرواية ، وبما أنّ الرواية لم يذكر لها العلماء معنىً واحداً متفقاً عليه ، والقدر المتيقن منها ما كان ديناً قبل العقد ، أمّا ما صار ديناً بالعقد فلا تشمله الرواية ، وقد ذهب بعضٌ ( السبكي ) إلى أنَّ المجمع على تحريمه هو البيع المؤجل البدل الواحد ( السلم أو النسيئة ) إذا زيد في أجله لقاء الزيادة في بدله (3).

وأمّا الربا في بيع الدين بالدين فهو لا يدخل في الصورة التي نحن بصددها ، لاننا نتكلم عن مبادلة سلعة بنقد ، فالبدلان مختلفان.

وأما شغل الذمتين من غير فائدة فهو مصادرة ، إذ الفائدة في هذه الصورة - كما قدمنا - كبرى للطرفين.

إذن إذا بطلت كل الأدلة على عدم جواز هذه المعاملة يبقى عندنا عمومات القرآن الكريم مثل قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) و (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ، فما دام يصدق على هذه المعاملة انها عقد وتجارة وبيع فتشملها العمومات المتقدّمة وهي دليل الصحة.

ص: 100


1- راجع نيل الأوطار : ج 5 ، ص 177.
2- راجع جواهر الكلام : ج 24 ، ص 293.
3- راجع مقالة الدكتور رفيق المصري ، مناقصات العقود الادارية : ص 31 عن تكملة المجموع للسبكي : ج 10 ، ص 106 ، واعلام الموقعين : ج 2 ، ص 9 و 11 وغيرها.

يبقى : لماذا اُطلق في ورقة المجمع : أنّ التوريد من العقود المركبة ؟

أقول : لعلّ المراد أنَّ هذا العقد ينحل إلى عقود من نوع واحد بموجب النجوم التي اُعدَّت لاستلام قسم من الثمن والمثمن ، فإن كانت الاقسام اربعة فهو عبارة عن اربع عقود كل عقد يتمثّل في قسم من الثمن والمثمن ، فلهذا يسمى عقداً مركباً.

أقول : إنّ المعقود عليه في عقود التوريد هو مبيع واحد بثمن واحد ، وان اختلف موعد تسليم بعض الثمن وبعض المثمن فهو اشبه شيء بعقد الاستصناع الذي يتفق فيه العاقدان على تأجيل المبيع والثمن الى آجال معلومة.

تنبيهان :

الأول : هناك مجموعة عقود ترتبط بعقد التوريد فيما إذا أصدرته جهة عامة كالحكومة ، مثل : اعداد المعلومات في عقد التوريد ، وبيع دفتر الشروط ، وخطاب الضمان الابتدائي والانتهائي فيما إذا اُعدّت مناقصة لتوريد سلعة معينة ، وضمان البنك في مقابل أجر ، والشرط الجزائي. كل هذه العقود نتكلم عنها في عقد المناقصة على المقاولات ، كما سيأتي.

الثاني : أنّ عقد التوريد للسلع في الآجال المعلومة لا يدخل في بيع ما ليس عندك ، لأنّ الصحيح أنّ النهي عن بيع ما ليس عندك مخصص في صورة بيع المال الخارجي المملوك للغير بدون إذن الغير للبائع ، وذلك :

1 - لأنّ جمهور الفقهاء على جواز بيع السلم ، وهو يصح في صورة عدم ملك المال خارجاً حين العقد ، بل يكتفون أن يغلب على الظن أن تكون السلعة عامّة الوجود حين التسليم.

2 - كما أنَّ جمهور الفقهاء قالوا بصحة بيع الفضولي إذا أجاز المالك وكان البيع له ، فيخصّص الحديث فيما قلناه.

ص: 101

6 - المناقصات ( مثال للعقود المجتمعة )

والمراد بها بيع المناقصات ، وقد تقدّم الكلام عن المناقصة إذا كانت بيع توريد ، الذي افترض أنّه يختلف عن السلم ، فيبقى الكلام عن المناقصة فيما يأتي :

1 - إذا كانت المناقصة من الاشغال العامّة - المقاولات - فهنا لا إشكال في تأخير الأجر ، لأنَّ الأجر في عقد الاجارة يمكن تأجيله كما يمكن تعجيله ، وأمّا البدل المتمثّل في المنفعة فإنَّ طبيعة حال الاشغال العامّة أن لا تستوفى دفعة معجلة أو مؤجلة ، بل تستوفى بالتدريج.

2 - إذا كانت المناقصة عبارة عن بيع سلع جاهزة فلا إشكال فيها من ناحية تقديم الثمن أو تأخيره ، إذ في الصورة الاُولى يكون البيع نقداً ، وفي الصورة الثانية يكون البيع نسيئة.

3 - وإذا كانت المناقصة عقد استصناع بحيث يتأخر فيه الثمن والمثمن فتأتي مشكلة (1) بيع الدين بالدين والنهي الوارد من الرسول صلی اللّه علیه و آله فيه.

ولكن الجواب الذي تقدّم في بيع التوريد يأتي هنا بلا اختلاف.

4 - وأمّا إذا كانت المناقصة لأجل الاستثمار - كما في مناقصة لعقد المضاربة أو المزارعة أو المساقاة - فطبيعة هذه العقود لا يشترط فيها تقديم كل المال المموِّل للمشروع ؛ لأن مشروع المضاربة والمزارعة إذا كان البذر من صاحب المال والأرض ، والمساقاة يكون فيه كل الحاصل للمموِّل تبعاً لقانون الثبات في الملكية ، وللعامل نسبة من الربح أو الحاصل يتنازل عنها صاحبها إليه حسب الاتفاق

ص: 102


1- ولكنّ هذه المشكلة لا تأتي على مذهب الأحناف ، حيث أجازوا في عقد الاستصناع تأجيل الثمن إلى أجل معلوم.

بينهما. إذن لا مشكلة هنا أيضاً.

وكما قلنا سابقاً : إنّ عقد التوريد للسلع لا يدخل في بيع ما ليس عندك ، نقول : إنّ عقد المناقصة في الاستصناع كذلك لنفس البيان السابق.

يبقى أنّ عقد المناقصة يحتوي على مجموعة عقود ، هي :

1 - بيع وثائق المناقصة ، وهو يحتوي على عقدين :

الأول : عقد بين الداعي إلى المناقصة والأخصائيين الذين يتصدون لتهيئة المعلومات الكاملة لعرضها على المشتركين في المناقصة ، كتهيئة الخرائط أو صفة السلعة أو شروط الاجارة أو الاستصناع وما يرتبط بهذه الاُمور.

الثاني : عقد بين الداعي إلى المناقصة والمدعوّين إليها في بيع ما يسمى بدفتر الشروط.

2 - تقديم المتناقصين خطاب الضمان الذي هو عبارة عن كون البنك كفيلا وضامناً بقبول دفع مبلغ معين لدى المستفيد من ذلك الخطاب نيابةً عن طالب الضمان عند عدم قيام الطالب بالتزامات معينة قِبَل المستفيد ، بمعنى أداء البنك شرط المشترط في حالة عدم قيام المشترط عليه بأداء الشرط ، مثل ضمان الاعيان المغصوبة التي لا تكون الذمة مشغولة بها ما دامت العين موجودة (1).

ويتحقّق تلف الشرط على المشترط بامتناع المشروط عليه عن أداء الشرط الذي هو تلف للفعل على مستحقه ، وبذلك يتحوّل التعهد بأداء الشرط إلى إشغال ذمّة البنك بقيمة ذلك الفعل ( أداء الشرط ) لأنّه من اللوازم العقلائية لدخول ذلك الشرط في العهدة.

وخطاب الضمان هذا ينقسم إلى قسمين :

أ - خطاب ضمان ابتدائي.

ص: 103


1- راجع البنك اللاربوي في الإسلام : ص 128.

ب - خطاب ضمان انتهائي.

فالابتدائي : هو تعهد بنكي لضمان قيمة دفع مبلغ من العقود من قيمة العملية يطلبه مَنْ يتنافس على العملية إلى المستفيد الذي يدعو إلى المناقصة ، ويستحق المستفيد الدفع له عند عدم قيام الطالب باتخاذ ما يلزم من رسوّ العملية عليه.

والنهائي : هو تعهد بنكي أيضاً لضمان دفع مبلغ من النقود يعادل نسبة من قيمة العملية التي استقرت على عهدة العميل يطلبه مَنْ رست عليه العملية ونُفِّذ معه العقد لصالح المستفيد ، ولا يكون دفع المبلغ واجباً على البنك إلاّ عند تخلف العميل عن الوفاء بالتزاماته المنصوص عليها في العقد النهائي للعملية التي عقدت بين من طالب الضمان من البنك والمستفيد من خطاب الضمان.

والخطاب الأولي لفائدة التأكد من جديّة عرض الخدمات من كل الاشخاص المشتركين وإلزام المناقص بإبرام العقد إذا رَست عليه المناقصة.

والخطاب النهائي لفائدة إلزام المتعاقد بتنفيذ العقد وللتحفظ على عدم التورط في خسائر أو مضاعفات فيما إذا تخلف عن الوفاء بالتزاماته.

3 - عمولة يأخذها البنك على اصدار خطاب الضمان.

4 - ضمان الطالب من البنك ما يخسره البنك نتيجة لتعهده ، فيحق للبنك أن يطالب مطالبه بإصدار خطاب الضمان بقيمة ما دفعه إلى المستفيد.

5 - قد يوضع الشرط الجزائي في عقد المناقصات عند عدم التسليم للبضاعة والعمل في موعده المقرر الذي فيه ضرر على المستفيد.

وهذا قد يكون في عقد التوريد ، أو في عقد الاستصناع ، أو في عقد الاجارة ( المقاولة للعمل فقط ).

6 - إبرام العقد الأصلي مع مَنْ رستْ عليه المناقصة ( توريد ، أو بيع ، أو استصناع ، أو مقاولة ، أو استثمار ).

ص: 104

وأمّا حكم هذه العقود المجتمعة :

فاننا قد قدّمنا بحثنا عن المناقصات (1) في الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في ( أبو ظبي ) وذكرنا توجيهات مفصلة لحكم هذه العقود المجتمعة ، لذا سوف نقتصر هنا في ذكر حكم هذه العقود بصورة مختصرة ، ومن أراد التوسع فليرجع إلى بحثنا في المناقصات الذي عرض ونوقش في الدورة السابقة.

فنقول : إن العقود المجتمعة التي تكون بين الداعي إلى المناقصة والمناقصين هي :

1 - بيع دفتر الشروط على المشتركين في المناقصة ، وهو أمر جائز ؛ لأنّه بيع وعقد فيه منفعة للمشترِك في المناقصة فيشمله : (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

2 - خطاب الضمان الابتدائي : وهو عقد صحيح ، لأنّ المقاول - مثلاً - قد التزم وتعهد بدفع مبلغ من المال عند عدم القيام بالاجراءات اللازمة عند رسوّ العملية عليه ، فهو متعهد وملزم بذلك ، لما قلناه من أن هذا عقد برأسه ، حيث رتب عليه الطرف الآخر الأثر فيشمله أوفوا بالعقود الذي معناه : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، وقد وثق هذا الالتزام والشرط من قبل البنك بطلب من أحد طرفي العقد. ونتيجة ذلك هو الزام البنك بتعهده نتيجة طلب المقاول لصالح المستفيد إذا لم يقم المقاول بالاجراءات اللازمة عند رسوّ العملية عليه.

3 - خطاب الضمان النهائي : فهو صحيح ؛ لأن أقل ما يقال عنه أنّه شرط وقع في عقد اجارة أو توريد أو استصناع أو استثمار ، وقد وثق هذا الشرط من قبل البنك بطلب من أحد طرفي العقد.

على أنّه يمكن أن يكون عقد برأسه ، لأنَّ أحد طرفي العقد التزم وتعهد

ص: 105


1- وقد تقدم ذلك منّا في الجزء الأول من الكتاب.

بإعطاء نسبة من قيمة العملية في حالة التخلف وقَبِل الآخر ورتب عليه اثراً ، فيشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

كما يمكن تخريجه على أنَّه ضمان عرفي لوفاء المقاول بالشرط ، مثل ضمان البنك للكمبيالة.

4 - الشرط الجزائي (1) : فهو صحيح أيضاً إذا لم يحصل منه محذور الربا ، لأنَّه شرط في ضمن عقد ، ولكن في خصوص عقد التوريد وبيع السلَم والاستصناع. يؤول إلى الربا الجاهلي ، لأنّ المثمن يكون نسيئة في هذه العقود ، فالزيادة لتأخيره كزيادة الثمن لتأخيره ، فهو رباً جاهليّ محرّم ، فيكون الشرط الجزائي في هذه الصورة مخالفاً للكتاب والسنّة.

أمّا الشرط الجزائي في الاجارات - المقاولات - فهو صحيح إذا كان محدداً معيناً ، لما قلناه من أنّه شرط في ضمن عقد يجب الوفاء به لقاعدة « المؤمنون عند شروطهم » ولم يلزم منه محذور الربا ، بالاضافة إلى ما ورد في مشهور الفقه الإمامي في مسألة ما لو استأجره ليحمل له متاعاً إلى موضع معيّن بأجرة معينه ، واشترط عليه وصوله في وقت معين ، فإن قصّر عنه نقَّص عن اُجرته شيئاً معيناً جاز وفاقاً للاكثر نقلاً وتحصيلاً ، بل المشهور كذلك للأصل ، وقاعدة « المؤمنون عند شروطهم » والصحيح أو الموثق أو الخبر المنجبر بما عرفت عن محمد الحلبي قال : « كنت قاعداً عند قاض من القضاة وعنده أبو جعفر ( الإمام الباقر علیه السلام ) جالس ، فأتاه رجلان فقال أحدهما : إنّي تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعاً إلى بعض المعادن ، واشترطتُ عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا لأنَّها سوق

ص: 106


1- إن ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه نهى عن شرطين في بيع لا يشمل ما نحن فيه ، لاننا ذكرنا بأنَّ المراد منه في روايات الامامية هو « اشتراط شرطين بالنقد كذا وبالنسيئة كذا » ، راجع وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 2 من أحكام العقود ، ح 2.

أتخوّف أن يفوتني ، فإن احتبستُ عن ذلك حططتُ من الكرى لكلّ يوم احتبسته كذا وكذا ، وإنه حبسني عن ذلك الوقت كذا وكذا يوماً؟ فقال القاضي : هذا شرط فاسد ، وفِّهِ كراه.

فلما قام الرجل أقبل إليّ أبو جعفر ( الإمام الباقر علیه السلام ) فقال : شرط هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه » (1).

5 - وأمّا إبرام العقد الأصلي فهو لا يخلو من أن يكون عقد توريد أو بيع أو سلم أو استصناع أو استثمار ، وكل هذه البيوع صحيحة - بما فيها التوريد كما تقدّم من أنه عقد يشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) - إذا توفرت فيها أركانها ولم يوجد ما يبطلها كما هو المفروض.

تبقى هناك عقود وقعت بين الداعي إلى المناقصة وغير المناقص ، أو وقعت بين المناقص وغير الداعي إلى المناقصة.

أمّا العقد الواقع بين الداعي إلى المناقصة والخبراء الذين أعدوا دفتر الشروط وهيّأوا المعلومات اللازمة الكاملة عن المشروع فهو عقد جائز ؛ لأنّه إمّا عقد إجارة ، أو جعالة على من يُهيّ هذه المعلومات.

وأمّا العقود الواقعة بين المناقص والبنك فهي :

1 - العمولة التي يأخذها البنك على اصدار خطاب الضمان ، فقد قلنا : إنّه عمل غير جائز ، لأنّ نفس عملية الضمان ( كالفاظ معينة ) ليست ممّا تقابل بالمال ،

ص: 107


1- جواهر الكلام 27 : 230 ومصدر الرواية في وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 13 من الاجارة ، ح 2. وأما تعبير صاحب الجواهر (والصحيح أو الموثق أو الخبر ) فهو باعتبار أن للرواية ثلاثة أسناد : الأول سند الشيخ الكليني وفيه أحمد وهو مجهول ، فالرواية ضعيفة عبّر عنها بالخبر . والثاني سند الشيخ الطوسي وهو سند صحيح . والثالث سند الشيخ الصدوق وهو صحيح أيضاً . أقول : لا وجه للتعبير بالموثق إلا أن يكون محمد بن أحمد موثقاً عند البعض باعتبار أنه من مشايخ الكليني .

وإنما الذي يقابل بالمال هو نفس خسارة البنك عند عدم قيام المقاول بالتزاماته. وهذه مضمونة كما سيأتي.

2 - ضمان الطالب من البنك ( اصدار خطاب الضمان ) ما يخسره البنك نتيجة تعهده فهو أمر جائز بلا اشكال ، لأنّ ضمان البنك الابتدائي والنهائي لم يكن مجاناً ، بل بطلب من أحد طرفي العقد ، فإذا خسر ما ضمنه البنك فيرجع على الطالب للضمان - وهو المقاول - ليأخذ منه ما خسره بطلبه.

ما المقصود من صفقتين في صفقة ( أو بيعتين في بيعة ) ؟

ذكروا ورود النهي عن بيعتين في بيعة في أحاديث صحيحة عن النبي صلی اللّه علیه و آله ، وذكروا اتفاق الفقهاء على القول بموجبها ، فمنعوا أن يبيع الشخص بيعتين في بيعة (1). ولكنّهم اختلفوا في تفسير هذه الجملة - بمعنى اختلافهم في الصورة التي يطلق عليها هذا الإسم والمنع - على صور عديدة أهمّها :

الصورة الاُولى : ذهب بعض من علماء الإسلام إلى أن الاسم والمنع ينطبق على تضمن العقد الواحد بيعتين على أن تتم واحدة منهما ، كأن يقول البائع : بعتك هذه السلعة بمائة نقداً وبمائة وعشرين إلى شهرين ، فيقول المشتري : قبلتُ ، من دون أن يعيّن بأي الثمنين قد اشترى ، ويفترقان على أنّ البيع لزم المشتري بأحد الثمنين. أو المراد منه النهي عن ايجاب البيع في سلعة بثمنين مختلفين إلى أجلين ، وعليه يكون الحديث متعلقاً بصيغة العقد حيث لم ينعقد العقد ، لعدم تحديد ثمن معين وأجل معين عند العقد ، ومن شروط صحة الصيغة أن يصدر القبول على وفق الايجاب ، بينما الايجاب هنا ليس باتاً وإنّما هو متردد بين بيعتين ( صفقتين ) (2).

ص: 108


1- بداية المجتهد : ج 2 ، ص 153.
2- د. رفيق يونس المصري ، مناقصات العقود الادارية : ص 43. عن المغني : ج 6 ، ص 87 ، واعلام الموقعين : ج 3 ص 401 ، والبيان والتحصيل : ج 8 ، ص 438 ، والمدونة : ج 3 ، ص 389 ، والموسوعة الفقهية الكويتية : ج 1 ، ص 256. وقد ذكر بعضٌ أنّ علة المنع في الصورة الاُولى هو جهل الثمن فهو من بيوع الغرر التي نهي عنها. وذكر بعض أن علّة المنع هو سدّ الذريعة الموجبة للربا. راجع بحث العقود المستجدّه د. نزيه كمال حماد : ص 2.

نعم ، لو قال المشتري : قبلت في هذا السعر نقداً ، أو قبلت هذا السعر إلى هذا الأجل كان قبوله ايجاباً جديداً ، فإذا قبل البائع لزم البيع على هذه الصورة المعينة الباتَّة. وأمّا الصيغة الاُولى من البائع فهي باطلة (1).

الصورة الثانية : في صورة اجتماع عقدين في عقد على أمرين مختلفين ، كعقد الزواج مع البيع أو القرض ، أو كإجارة الدار شهراً وبيع الثوب بكذا. وقد اختلف علماء أهل السنة في انطباق بيعتين في بيعة على هذه الصورة ، فقد ذهب إلى بطلان هذه الصورة للعقد كل من الحنفية والشافعية والمالكية غير أشهب ، والحنابلة ، إلاّ أنّهم يجيزون اجتماع عقد البيع مع عقد الاجارة - أي اجتماعهما في عقد واحد - لتوافق أحكام البيع مع الاجارة غالباً ، ويرى أشهب - من علماء المالكية - جواز هذه الصورة للعقد (2).

الصورة الثالثة : عقد البيع مع عقد الاجارة : فقد اجازه كل من المالكية والشافعية والحنابلة ، ويوزع المسمى على قيمتهما من حيث الاُجرة والمبيع.

ولكن ذهب إلى البطلان بعضٌ بحجّة أن هذه الصورة قد تقتضي فسخ أحد

ص: 109


1- د. رفيق يونس المصري ، مناقصات العقود الادارية ص43 ( بتصرف ). و قد احتمل الصحة صاحب الجواهر قدس سره في صورة بقاء ايجاب البائع كما هو وكان القبول علی النقد أو النسيئة. جواهر الكلام 107:23. أمّا نحن فنقول بالصحة من باب أن القبول صادر إيجاباً والإيجاب قبولاً.
2- راجع بحث الايجار المنتهي بالتمليك ، د. حسن علي الشاذلي ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة الخامسة ، عدد 3. ج 4 عن الشرح الكبير للدسوقي : ج 4 ، ص 5 ، والشرح الصغير : ج 2 ، ص 235 وغيرهما.

العقدين ، فيحتاج إلى التوزيع ويلزم الجهل عند العقد بما يخصّ كلا منهما من العوض ، وهذا هو محذور الصحة.

وقد اُجيب بأنَّ هذا ليس محذوراً للصحة ، ويتّضح في صورة ما إذا بعنا أشياء معينة صفقة واحدة وتبيّن أنَّ بعضها مستحق للغير ، فيبطل البيع بالنسبة إليها ويصح في الباقي (1) فيحتاج إلى التوزيع بسبب بطلان أحدهما. الإمامية :

وقد تعرض الامامية لروايات (2) النهي عن بيعتين في بيعة ، أو صفقتين في صفقة ، والقدر المتيقن منها هو ما لو باع بثمن حالٍّ وبأزيد منه إلى أجل بأن قال : بعتك هذا نقداً بدرهم وبدرهمين إلى شهرين. وقد اختلفوا في بطلان أو صحة هذه المعاملة ( فيما إذا قبل المشتري على صفة الترديد ) على قولين :

القول الأول : بطلان المعاملة ، وذلك للغرر والجهالة. فيكون النهي الوارد في هذه الصورة ارشاداً إلى عدم تمامية المعاملة من جهة الغرر والجهالة. وذهب إلى هذا القول بعض القدماء وأكثر المتأخرين.

ولكن يمكن أن يناقش هذا القول بعدم وجود الغرر وعدم الجهالة بعد تعيين الثمن ، وأنّ الزيادة وقعت في مقابلة التأخير على جهة الشرطية فتفسد ، ولهذا تختلف هذه الصورة عن الاجارة ، حيث قال بصحة الاجارة غير واحد في صورة

ص: 110


1- المصدر السابق.
2- راجع الروايات في وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 2 من أحكام العقود ، ح 3 و 4 و 5 ، والرواية الثالثة موثّقة لأن محمد بن يحيى الخزّار ثقة وقد وثق مصدق بن صدقة ، ولسان الرواية هو : عن الإمام الصادق علیه السلام : أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث رجلاً إلى أهل مكّة وأمره أن ينهاهم عن شرطين في بيع.

ما لو قال : إن خطته اليوم فلك درهم وان خطته غداً فَلَكَ نصف درهم ، وإن خطته روميّاً فَلَكَ درهم ، وإن خطته فارسياً فَلَكَ نصف درهم ، مع أنَّ الاجارة والبيع مشتركان في اعتبار عدم الغرر والجهالة.

ولكن الحقّ : أنّه لا جهالة في صفة الثمن ، أمّا الجهالة فهي متحقّقة في أصل الثمنية ، بمعنى أن المشتري وكذا البائع بعد القبول على الترديد لم يعلما ما صار ثمناً في مقابل المبيع أصل الثمنية ، بمعنى أن المشتري وكذا البائع بعد القبول على الترديد لم يعلما ما صار ثمناً في مقابل المبيع.

ودعوى تعيينه باختيار المشتري فيما بعد ينافي سببية العقد المقتضية لترتب الأثر عليه بالفراغ منه.

وحينئذ لا فرق بين البيع والاجارة وغيرهما من عقود المعاوضات ( كالسَلَم ) (1). ولكن الذي يقف في وجه قبول هذا القول أمران :

الأول : أنّ النهي الوارد في هذه الصورة والاهتمام من قبل النبي صلی اللّه علیه و آله في ذلك يمنع من حمله على الارشاد (2) ، إذ أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله « بعث رجلاً إلى أهل مكّة وأمره أن ينهاهم عن شرطين في بيع » فهذا الاهتمام يدل على أن النهي لتحريم العمل لا لأجل الارشاد إلى وجود غرر أو جهالة.

الثاني : وجود رواية صحيحة تقول بصحة هذا البيع إذا قبله المشتري على صفة الترديد ، ويكون للبائع أقل الثمنين إلى أبعد الاجلين ، والرواية هي صحيحة

ص: 111


1- أي كما لا يصح أن يقال : بعته نقداً بدرهم وبدرهمين إلى شهر ، فكذا لا يصح أن يقال : إن خطته اليوم فلك درهم وان خطته غداً فلك نصف درهم ، وكذا لا يصح أن يقال : إن سلّمت المبيع السلمي بعد ثلاثة اشهر فلك الف وبعد ستة أشهر فلك ثمانمائة فقبل الآخر من دون أن يكون القبول على أحد الصورتين ، كل ذلك الغرر والجهالة في الثمن أو الاُجرة ، فان المتبايعين لم يعلما على أي ثمن أو اُجرة وقع البيع أو الاجارة وذلك مبطل للعقد.
2- وأيضاً يمنع من حمله على الكراهة ، حيث ذهب بعض إلى ذلك نتيجة وجود صحيحة محمد بن قيس الدالة على صحة البيع بثمن أقل للأجل الأبعد.

محمد بن قيس البجلي ، عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « قال أمير المؤمنين علیه السلام : من باع سلعة فقال : إنّ ثمنها كذا وكذا يداً بيد وثمنها كذا وكذا نظرة فخذها بأي ثمن شئت واجعل صفقتها واحدة ، فليس له إلاّ أقلهما وإن كانت نظرة ... » (1). وكذا رواية السكوني بهذا المضمون (2).

فالخلاصة : أنّنا إذا قلنا بالبطلان في هذه الصورة نتيجة الغرر والجهالة تكون هذه الصحيحة معارضة للروايات المرشدة إلى بطلان المعاملة (3).

القول الثاني : حرمة المعاملة لوجود الربا من دون بطلان ، إذ هذه المعاملة ترجع إلى بيع السلعة بنقد حالٍّ بشرط انه إذا أراد المشتري تأخير الثمن فيزيد فيه ، وهذا ربا محرم قد نهى عنه رسول اللّه ؛ لأنّه ربا مبطّن بصورة البيع. وحينئذ إن حصلت هذه المعاملة الربوية المبطّنة فالذي يبطل هو الشرط دون العقد ؛ لأنّ النهي متوجّه للشرط وقبوله ، لا للعقد.

وعلى هذا القول لا معارضة بين الروايات الناهية وبين الروايات التي تصحح المعاملة بأقل الثمنين إلى أبعد الاجلين. وقد ذهب إلى هذا القول جمع من القدماء وبعض المتأخرين.

ص: 112


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 2 من أبواب أحكام العقود ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 2.
3- هذا ، وقد ذهب الإمام الخوئي قدس سره إلى أن المعاملة هذه باطلة من ناحية التعليق في العقد الذي قام الإجماع على بطلانه في العقود ، وحينئذ تكون الروايات المجوزة لهذا البيع مخالفة لقاعدة تبعيّة العقود للقصود فتخصصها كما تخصص الإجماع بغير هذه الصورة ؛ لوجود الدليل على صحة المعاملة مع مخالفتها للقواعد وللاجماع ، وحينئذ تحمل الروايات الناهية على الكراهة. راجع مصباح الفقاهة : ج 3. ص 558 - 563 ، ولكن الإمام الخوئي في ص 299 و ص 300 في الكتاب نفسه ذكر : أن التعليق المضرّ في العقود هو أن يكون على أمر استقبالي غير حاضر ، أمّا إذا كان أصل الالتزام مربوطاً بشيء آخر بمعنى أنّه لا يبيع مع عدم هذا الالتزام من المشتري فلا يضر التعليق هنا ؛ لكونه واقعاً على أمر حاصل وهو الالتزام ، كما في قولنا : بعتُ السيارة بشرط أن تبيعها إلى زيد.

فقد ذكر صاحب الجواهر عن المختلف أو الدروس فقال : « والاقرب الصحة ولزوم الأقل ... فالزيادة ربا ؛ ولأجلها ورد النهي ، وهو غير مانع من صحة البيع » (1).

وهذا القول هو الذي احتمله الفاضل في المختلف ، إذ قال : « ويمكن أن يقال انه رضي بالأقل فليس له الأكثر في البعيد وإلاّ لزم الربا ، إذ تبقى الزيادة في مقابلة تأخير الثمن لا غير ... » (2).

وعلى هذا القول يمكن أن يختلف الحكم في البيع عن الاجارة ، بأن تكون هذه الصورة في البيع محرمة لوجود الربا ، وغير محرمة في الاجارة لعدم وجود الربا ، ولكنّها صحيحة في الصورتين إذا تمكّنا من إزالة اشكال الجهالة في أصل الثمنية والاُجرة. بقولنا : إنّها لا تضر لأن العلم بأحد البيعين معلوم بعد العقد مباشرة ، أو نقول : بأنّ هذه الجهالة وان كانت موجودة لكنّها لا تضر بصحة العقد لأنّها لا تجرّ إلى التنازع ، فتكون الجهالة والضرر المبطل للبيع أو الاجارة هو في خصوص ما إذا كانت الجهالة بطبعها تؤدي إلى التنازع.

على أننا لو اخترنا القول الأول القائل ببطلان المعاملة فيما إذا قال : بعته نقداً بكذا وبنسيئة بأكثر منه للجهالة والغرر فيمكننا أن نقول بصحة الاجارة فيما إذا قال : إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم ، وذلك لإمكان أن يكون الدرهم ونصف الدرهم على الخياطة اليوم أو غداً جعالة لا اجارة ، والجعل لا يعتبر فيه المعلومية ، أو نقول بالفرق بين الاجارة والبيع بأنّ العمل الذي يستحقّ به الاُجرة لا يمكن وقوعه إلاّ على أحد الصفقتين فتتعيّن الأجرة المسماة عوضاً له ، فلا يقتضي التنازع ، بخلاف البيع الذي يمكن أن يقبل المشتري في نيّته

ص: 113


1- جواهر الكلام : ج 23 ، ص 104.
2- المصدر السابق.

النقد ويتلكّأ في توفير المبلغ حتى يمضي الأجل فيقع التنازع بينهما في الثمن. وعلى هذا فلا يصح ما قيل : « إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم » (1).

فعن أحمد روايتان : أحداهما : لا يصح ، وله أجر المثل. نقلها أبو الحارث عن أحمد ، وهذا مذهب مالك والثوري والشافعي واسحاق وأبي ثور ، لأنّه عقد واحد اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير فلم يصح كما لو قال : بعتك نقداً بدرهم أو بدرهمين نسيئة (2).

إذا قبل المشتري أحد الثمنين :

أمّا إذا قبل المشتري أحد الثمنين كما لو قال : قبلته نسيئة أو قبلته نقداً فهذه الصورة خارجة عن محلّ النزاع والروايات ، ويكون البيع صحيحاً إذا رضي البائع بعد ذلك ، إذ يكون القبول بنقد - مثلاً - إيجاباً ، والقبول من البائع قبولا للايجاب ، أمّا الايجاب الأولي من البائع فهو استدعاء للبيع. وقد اجاز هذه الصورة - بالاضافة إلى الامامية - جماعة من أهل السنة أيضاً (3).

ص: 114


1- لا بأس بالتنبيه إلى أن هذا الفرض ( جعل اُجرتين على تقديرين ) يختلف عن الشرط الجزائي في الاجارة ، وهو ما إذا قال : آجرتك على أن توصلني إلى السوق يوم كذا وكذا بكذا وكذا درهماً ، فإن أوصلتني بعد ذلك بيوم فيسقط من الاُجرة درهم ، فإن أوصلتني بعد يومين فيسقط من الاُجرة درهمان ، فإنّ هذا شرط صحيح ما لم يحط بجميع الكراء ، حيث إن عقد الاجارة كان باتاً على أجر معين وزمن معين ، فإن أخلَّ بالشرط ووصل بعد ذلك بيوم فيسقط من الاُجرة شيء ، وهذا شرط نتيجة يكون صحيحاً من دون خلل في الاُجرة ، وقد ورد بهذا الشرط الجزائي نصّ موثّق عن الإمام الباقر علیه السلام في الاجارة.
2- راجع بحث مناقصات العقود الادارية ، د. رفيق المصري ص 2. عن المغني : ص 6 ، ص 87 ، واعلام الموقعين : ج 3 ، ص 401 ، والمدونة : ج 3 ، ص 389 ، والموسوعة الفقهية الكويتية : ج 1 ، ص 256.
3- المصدر السابق.

أقول : النتيجة التي انتهينا إليها : أنّ روايات نهي النبي صلی اللّه علیه و آله عن صفقتين في صفقة لا علاقة لها بالعقود المركبة التي تكلمنا عنها سابقاً.

أثر المواعدة ( التفاهم ) السابقة على العقود المجتمعة :

إنّ العقود المجتمعة يسبقها عادةً اتفاق عام حول إيجادها ، وهو ما يسمى ب ( إطار التعامل ). فالمناقصة في المقاولات أو البيوع سواء كانت لسلع جاهزة أو لتوريد سلع (1) يسبقها تفاهم واتفاق بين الأطراف حول إيجادها ، فهل يكون هذا الاتفاق العام ملزماً للاطراف ؟

أقول : إنّ المواعدة والتفاهم العام بين الأطراف قد يكون شرطاً ابتدائياً ، وقد يكون وعداً أكيداً رَتَّب الطرفُ الآخر عليه أثراً ، وحينئذ لابد من الكلام حول الوعد الأكيد وحول الشرط الابتدائي.

فنقول : الوعد (2) : إذا رجعنا إلى معنى المواعدة التي تكون بين اثنين المشتقة

ص: 115


1- وكذا الأمر في « المرابحة للآمر بالشراء » كأن يقول شخص للبنك : اشترِ لي هذه السلعة وأنا اُربحك كذا ، وأقدم البنك على الشراء بقصد بيعها لمن أمره.
2- الكلام في الشرط كالكلام في الوعد بلا أي اختلاف من حيث دلالة الشرط الذي هو معنى حدثي على الالتزام بالعمل أو بثبوت الحقّ للغير ويحصل منه الزام بالعمل أو بثبوت الحقّ للغير ، فان المراد من الشرط هنا هو المعنى الحدثي الذي يشتق منه ، لا المعنى الذي هو « ما يلزم من عدمه عدم الشيء » أو المعنى الأدبي الذي يقع بعد أداة الشرط ، أو المعنى الاصطلاحي للشرط في مقابل المقتضي والمانع. فإنَّ هذه المعاني الثلاثة ليست مرادةً عرفاً من الشرط الذي يقع في إطار العقود. ولا بأس بالتنبيه : إلى أن المراد من الوعد والشرط في كلامنا هذا : هو في خصوص ما يكون قد دخل الآخر (الموعود أو المشروط له) في عمل نتيجة الشرط أو الوعد بحيث صار هناك التزام من الطرفين فحصل معنى العقد بناء على تقوم العقد بالربط بين التزامين، وحينئذٍ فيشمله قوله تعالى: «أوفوا بالعقود » والصحيحة الواردة عند الفريقين: «المسلمون عند شروطهم» وقد طبق الإمام عليه السلام هذا القانون الوارد في الصحيحة على موارد متعددة ، فمن ذلك ما رواه سليمان بن خالد عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن رجل كان له أبٌ مملوك وكانت لأبيه امرأة مكاتبة قد أدّت بعض ما عليها ، فقال لها ابن العبد : هل لك أن أعينك في مكاتبتك حتى تؤدي ما عليك بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي إذا أنت ملكت نفسك ؟ قالت : نعم ، فاعطاها في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار عليه بعد ذلك. قال الإمام عليه السلام: لا يكون لها الخيار«المسلمون عند شروطهم»، وسائل الشيعة: ج16، ب11 من كتاب المكاتبة، ح1.

من الوعد الصادر من واحد لرأينا أنّ الوعد في اللغة جاء بمعنى العهد كما جاء بمعنى الخبر ، فقد ذكر في مجمع البحرين من معاني العهد : الوعد والخبر قوله : (أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا) (1) أي خبراً ووعداً بما تزعمون. وجاء في المنجد : واعد مواعدة : وعد كل منهما الآخر ... عاهده على أن يوافيه في موضع أو وقت معين.

وقال في لسان العرب : إنّ الوعد هو العهد ، فقد قال تعالى : ( مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ) (2) ، فقال مجاهد : الموعد : العهد ، وكذلك قوله تعالى : ( فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ) قال : عهدي.

ثم إنّ من الواضح أنّ العهد لغةً : هو الالتزام ، فقد استعمل العهد مع مشتقاته في القرآن الكريم في أكثر من مائة وخمسين موضعاً ، وفي كل هذه المواضع دلّ على إلزامية العهد. وممّا ذكرته كتب اللغة عن معنى العهد هو « ما التزمه المكلف من الأعمال مع اللّه تعالى ومع غيره » فقد ذكر في مجمع البحرين قوله : ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ) قيل : يدخل فيه النذر وكلما التزم المكلف من الأعمال مع اللّه تعالى ومع غيره ... والضمان ، ومنه قوله تعالى : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) (3) أي ( أوفوا بما ضمنتم أوفِ بما ضمنت لكم من الجنة ) ومثله ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ

ص: 116


1- البقرة : 80.
2- طه : 87.
3- البقرة : 40.

كَانَ مَسْئُولًا) (1)

وقد ذكر الخليل الفراهيدي في العين انَّ العهد : الموثِق ، وجمعه عهود.

كما ذكر في لسان العرب : « عهد : قال تعالى : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ) ... قال غير الزجاج : العهد كل ما عوهد اللّه عليه وكل ما بين العباد من المواثيق فهو عهد ... وفي حديث الدعاء : « وانا على عهدك ووعدك ما استطعت » ، أي أنا مقيم على ما عاهدتُك عليه من الإيمان بك والاقرار بوحدانيتك لا أزول عنه. واستثنى بقوله : « ما استطعت » موضعَ القدر السابق في أمره. أي إن كان قد جرى القضاء أن أنقض العهد يوماً ما فإني اُخلدُ عند ذلك إلى التنصل والاعتذار لعدم الاستطاعة في دفع ما قضيته عليَّ. أو قيل : معناه إني متمسك بما عهدته إليَّ من أمرك ونهيك ... والعهد : الموثق ».

والخلاصة : أنّ الوعد اللغوي الذي هو يأتي بمعنيين : الأول هو العهد ، والثاني خبر عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل.

فإذا كان بمعنى العهد فهل يلزم الوفاء به شرعاً ؟

الجواب : اتفق الفقهاء على أنَّ خلف الوعد منهي عنه ، ولكن اختلفوا في إلزاميته على نحو الوجوب بحيث يقاضى مَنْ لم يلتزم به أمام القضاء على أقوال أربعة :

1 - ذهب الجمهور من كل الطوائف إلى عدم لزومه وان كان المكلّف مأموراً بالوفاء به ديانة لأنّه تفضل واحسان ، ويقول اللّه تعالى : ( مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (2).

2 - الإلزام إذا دخل الموعود بسبب هذه العِدَة في شيء ، وهذا قول مالك

ص: 117


1- الإسراء : 34.
2- التوبة : 91.

وابن القاسم وقول سحنون ( وهذا هو المشهور عند المالكية ).

3 - الإلزام ، إذا كان الوعد على سبب وإن لم يدخل الموعود فيه فعلا. وهذا قول لمالك وأصبغ من علماء المالكية.

4 - الإلزام مطلقاً ، وإلى هذا ذهب ابن شبرمة فيما حُكي عنه (1).

والصحيح هو التفصيل بين أن يكون الوعد على مستوى العهد فيجب الوفاء به ، وبين أن يكون على مستوى الإخبار فلا يجب الوفاء به ، وتشخيص إرادة هذا دون ذاك أو العكس يتم من خلال القرائن.

وحينئذ نقول : إنّ الوعد الذي يسبق العقد أو العقود المجتمعة - ويكون في الاطار العام للتعامل ويبنى عليه العقد بمعنى دخول الموعود بسبب العدة في العقد - ويكون بمعنى العهد والالتزام - الذي يجب أن يفي به المكلف (2) - للقرائن التي اكتنفت هذا الوعد بالخصوص ، وعلى هذا فتعتبر المواعدة السابقة ( التفاهم ) على العقود المجتمعة مرتبطة بالعقود ، وجزءاً منها من حيث حكمها التكليفي والآثار المترتبة عليها.

وإليك بعض الأدلّة على وجوب الوفاء بالوعد إذا كان على مستوى العهد :

ص: 118


1- راجع المحلى لابن حزم : ج 8 ، ص 377.
2- نودّ أن نذكر هنا : أنّ مشهور الطائفة الإمامية على أنّ الوعد والعهد الذي بمعنى الالتزام إذا لم يكن في متن العقد فلا يجب الوفاء به ، فقد ذكر الشيخ الأنصاري في الشرط الثامن من صحة الشرط أن يكون في متن العقد : « فلو تواطيا عليه قبله لم يكف ذلك في التزام المشروط به على المشهور ، بل لم يعلم فيه خلاف عدا ما يتوهّم من ظاهر الخلاف والمختلف ... ». راجع مكاسب الشيخ الأنصاري : ج 2. ص 282. و نحن كلامنا في الشرط الابتدائي والوعد الذي يكون بين اثنين قد رتب الآخر عليه أثراً وعملاً، هذا وقد وجدت أن آية اللّه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قدس سره يذهب إلى ما ذهبنا إليه ويعده من متفرداته ، فيقول : « فلو قال رجل لآخر : بع هذا الشيء من فلان وإن لم يعطك الثمن أنا أدفعه لك ، فلو لم يعطه الثمن فان كان الوعد بنحو الإلزام والتعهد وجب أن يدفع له ، وإلا فلا ، وهذا من متفرداتنا ، أما ظاهر المشهور فعدم الوجوب مطلقاً ، فليتدبر » راجع تحرير المجلة : ج 1 ، ص 54 .

أ - الكتاب الكريم :

1 - قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (1) ، فقد وصفت الآية انَّ القول بما لا يفعله الإنسان ممقوت عند اللّه ، وهذا على قسمين :

الأول : يقول ما لا يفعل ، ولا يصدق عليه أنّه خدع وغش وخان.

الثاني : يقول ما لا يفعل ، ويصدق عليه أنّه خدع وغش وخان.

ولكن الأول خرج عن الحرمة بدليل عدم حرمة مخالفة الإخبار عن إنشاء معروف في المستقبل.

والثاني ممقوت بحدِّ الحرمة لصدق عنوان الخداع والغش والخيانة المحرمة.

والأول يصدق على الوعد الذي لا يدخل فيه الموعود بسبب العدة في عقد.

والثاني يصدق على الوعد الذي يدخل فيه الموعود بسبب العدّة في عقد بحيث يكون عدم الوفاء بالوعد خيانة وغشاً وضرراً على الموعود ، فيكون عدم الوفاء بالوعد محرّماً ، كما يلزم الواعد رفع الضرر الذي حصل نتيجة وعده وخيانته وخداعه (2).

2 - قال تعالى على لسان موسى علیه السلام : ( أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ

ص: 119


1- الصف : 2 - 3.
2- أقول : من المحتمل أن تكون الآية الشريفة ناظرة الى معنى آخر غير مسألة الوفاء بالوعد وهو المعنى الذي يشير إليه شاعر حيث يقول : لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم بأن يكون الناهي عن الخلق عازماً على فعل ما ينهى عنه ، ولكنّ عموم الآية يجعلها تشمل كل ما التزم به الإنسان أمام اللّه والآخرين ولا يعمل به ، سواء كان عازماً من الأول على عدم العمل أو طرأ له ذلك.

فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) (1) فقد بين النبي موسى علیه السلام أنّ في مخالفة موعده غضب اللّه ، ونحن نعلم أن الغضب لا يكون إلاّ على أمر محرم ، وهذه قرينة على أنّ المراد من موعده العهد والالتزام الذي قدم له ، بحيث تكون مخالفته موجبة للعقوبة الرادعة.

3 - قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2) وقد فسِّرت العقود بالعهود.

4 - قال تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (3).

فالمعاهدات التي كان يعملها المسلمون مع أعدائهم من المشركين قد أمر القرآن الكريم بالالتزام بها بما تقدّم ، وقد استثناها القرآن الكريم من البراءة من المشركين ، فقال تعالى : ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * ... كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) (4).

فالمشرك الذي عوهد من قِبل المسلمين ولم ينقض عهده ولم يظاهر على المسلمين - بمعنى أنّه استقام على عهده - يجب الوفاء له بالعهد ، وحينئذ تكون البراءة من المشركين الذين لم يكن بينهم وبين المسلمين عهد ، أو كان عهد ولم يستقيموا عليه بأن ظاهروا على المسلمين أو نقضوا من العهد الذي تعهدوه ، فيكون من حقّ المسلمين أن ينقضوا عهدهم وينبذوه إليهم ، لذا قال تعالى : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ

ص: 120


1- طه : 86.
2- المائدة : 1.
3- الاسراء : 34.
4- براءة : 4 - 7.

قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (1) ، والخوف هنا بمعنى اليقين بالنبذ من ظهور أماراته الكاشفة عنه مثل قوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) (2).

وما هذه المعاهدات التي تحصل بين الدول الإسلامية أو غيرها إلاّ كنموذج ومصداق للمعاهدات النبوية مع المشركين ، لذا فهي تقتضي عرفاً وقانوناً الالتزام بما نصّت عليه المعاهدة فيما إذا لم تكن مخالفة للقوانين الإسلامية وذلك لقاعدة « المسلمون عند شروطهم إلاّ شرطاً خالف كتاب اللّه تعالى أو إلاّ شرطاً حرم حلالا أو حلّل حراماً ».

ونحن لا نرى أي ملزم للمسلمين في عهد النبي صلی اللّه علیه و آله في الالتزام بالقرارات الواقعة بينهم إلاّ التعاهد ، وهذا هو معنى وجوب الوفاء بالوعد إذا كان بمعنى العهد.

وإذا كان معنى الوعد هو العهد بواسطة قرائن الأحوال فيجب الوفاء به كما تقدّم.

ولعلّه لهذا كان المشركون يتحرزون من قول : « لا إله إلاّ اللّه » حينما كان الرسول صلی اللّه علیه و آله يقول لهم : « قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا ». ب - السنّة :

لقد وردت النصوص (3) الشرعية الدالّة على إلزامية الوعد الذي بمعنى الالتزام والتعهد :

1 - روايات جعلت مخالفة العهد والوعد من خصال النفاق ، فقد قال

ص: 121


1- الأنفال : 58.
2- النساء : 34 ، وراجع تفسير القرطبي : ج 5 ، ص 170 ، وتفسير الميزان : ج 4 ، ص 345.
3- وبما أن هذه النصوص متواترة - ولو معنىً - فلا حاجة إلى البحث في سندها ، حيث إنّنا نقطع بصدورها من المشرِّع الأقدس فهي حجّة بمضمونها الضيّق.

النبي صلی اللّه علیه و آله : « أربع مَنْ كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر » (1).

2 - روايات جعلت الوعد ( العهد ) من قسم النذر الذي ليس فيه كفارة ، فقد روى هشام بن سالم في الصحيح قال : سمعت الإمام الصادق علیه السلام يقول : عدة المؤمن آخاه نذر لا كفارة له ، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ ولمقته تعرّض وذلك قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (2).

3 - روى علي بن عقبة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله ، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشّه ولا يعده عدةً فيخلِفه » (3).

4 - موثّق سماعة بن مهران عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « من عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته وكملت مروءته وظهر عدله ووجبت اُخوّته » (4).

وهذه النصوص المتقدّمة وان كانت مطلقة لمخالفة كل وعد حتى إذا لم يكن بمعنى العهد إلاّ أن معلومية عدم حرمة مخالفة الإخبار عن إنشاء معروف في المستقبل تخصّص حرمة المخالفة بالوعد الذي هو بمعنى العهد.

5 - صحيحة عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني قال : « حدثني أبو جعفر الثاني ( الإمام الجواد علیه السلام ) قال : سمعت أبي الإمام الرضا علیه السلام يقول : سمعت أبي

ص: 122


1- صحيح البخاري ، كتاب الايمان : ج 1 ، ص 89 ، صحيح مسلم ، كتاب الايمان : ج 1 ، ص 78.
2- وسائل الشيعة : ج 8 ، ب 109 من أحكام العشرة ، ح 3.
3- المصدر السابق : ب 122 من أحكام العشرة ، ح 6.
4- المصدر السابق : ب 152 من أحكام العشرة ، ح 2.

موسى بن جعفر الإمام الكاظم علیه السلام يقول : دخل عمرو بن عبيد على الإمام الصادق علیه السلام فلمّا سلّم وجلس وتلا هذه الآية ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ) ثم أمسك. فقال له الإمام الصادق علیه السلام : ما أسكتك ؟ قال : اُحب أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه عزّوجلّ. فقال : نعم يا عمرو ، أكبر الكبائر الشرك باللّه يقول اللّه تعالى : ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) ونقض العهد وقطيعة الرحم لأن اللّه عزّوجلّ يقول علیهم السلام ( لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ... ) » (1).

6 - وفي حديث الحسين بن مصعب الهمداني قال : سمعت الإمام الصادق علیه السلام يقول : « ثلاثة لا عذر لاحد فيها : أداء الأمانة إلى البرِّ والفاجر ، والوفاء بالعهد للبرِّ والفاجر ، وبرِّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين » (2).

ورويت الرواية المتقدّمة عن عنبسة بن مصعب أيضاً إلاّ أنّه قال : « لم يجعل اللّه لاحد من الناس فيهن رخصة ».

7 - ويؤيد ما ذكرنا في سيرة النبي صلی اللّه علیه و آله حيث يقول ابن القيّم :

أ - ثبت عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال لأبي رافع وقد أرسلته إليه قريش فأراد المقام عنده وأنّه لا يرجع إليهم فقال صلی اللّه علیه و آله : « إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البُرد ولكن ارجع إلى قومك ... » وثبت عنه صلی اللّه علیه و آله أنّه ردّ إليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم « أن يردّ إليهم مَنْ جاء منهم مسلماً » (3).

ولا يمكن أن يقال بأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله إنّما ردّ من أسلم إليهم لعمله بالراجح الذي هو الوفاء بالوعد.

ص: 123


1- وسائل الشيعة : ج 11 ، ب 46 من جهاد النفس ، ح 2 ، والآية القرآنية إشارة إلى قوله تعالى : ( والذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) الرعد : 25.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 2 من أحكام الوديعة ، ح 1.
3- زاد المعاد : ج 5 ، ص87 - 88.

ب - وقال صلی اللّه علیه و آله : « مَنْ كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلّن عقداً ولا يشدّنه حتى يمضي أمده أو ينبذ اليهم على سواء » قال الترمذي : حديث حسن صحيح (1).

ج - ولما أسَّرَتْ قريش حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكانوا خارجين إلى بدر ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « انصرفا نَفِي لهم بعهدهم ونستعين باللّه عليهم » (2).

وعلى هذا الذي تقدّم تبيّن لنا أنّ الوعد ( إذا كان بمعنى العهد ) الذي يعطيه إنسان لآخر في الحالات الاعتيادية ويقبل به الآخر ويرتب عليه أثراً يكون من العقود الواجبة الوفاء بها حسب الأدلّة المتقدّمة ، وإن نوقش في بعضها فإنّ في ما لا نقاش فيه كفاية.

أمّا الوعد الذي يكون بمعنى العهد الذي يعطيه إنسان لآخر ولم يقبله أو قبله ولم يرتب عليه أثراً - بمعنى أنّه لم يصل إلى حدّ العقد - فلا يسمى عقداً ولا عهداً ، فلا يجب الوفاء به ، بمعنى أن الموعد أو المعاهد يتمكّن أن يرجع عن عهده وعِدته.

الضمان والكفالة :

نتمكّن أن نقول : إنّ عقد الضمان العرفي الارتكازي القائل : « بأنّ المدين إذا لم يفِ بدينه إلى الدائن فأنا ملزم بالوفاء به » أو القائل : « إذا لم يفِ فلان بالشروط والالتزامات التي عليه والتي لها مالية عرفية عقلائية فأنا مسؤول عنها » أو القائل : « أطلقوا فلاناً من السجن وأنا مسؤول عن الاتيان به في الوقت المطلوب الذي يكون لاتيانه مالية عقلائية أو عرفية » نتمكّن أن نقول : إنّ هذه العقود المقبولة

ص: 124


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.

عرفاً وارتكازاً وقد افتى على وفقها علماء كبار هي مصاديق للوفاء بالعهد الذي ندّعي إلزاميته ولو كان ابتدائياً.

إذن فمن قال لزيد : « إذا اشتريت هذا البيت فأنا مستعد لاقراضك الف دينار من المال ، وقد أقدم زيد على الشراء مستنداً إلى الوعد الذي قدّم له من الموعِد » يجب عليه الوفاء والالتزام بما قال تكليفاً ، ويجب عليه وضعاً رفع الضرر عن الطرف الآخر فيما إذا لم يفِ له بما التزم وتعهد ، كل ذلك لوجود وعد بينهما وصل إلى مرحلة العقد الواجب الوفاء.

أما الشرط :

فله معان متعدّدة :

الأول : الشرط بالمعنى الحدثي الذي يشتق منه ، وهو الالتزام بالعمل أو بثبوت الحقّ للغير (1) ويحصل منه الزام بالعمل أو بثبوت الحقّ للغير.

الثاني : « ما يلزم من عدمه عدم الشيء » مثل أن يقال : إن الوضوء شرط للصلاة.

الثالث : « أن يقع بعد أداة الشرط مثل : إنّ جاء زيد فاكرمه » وهذا اصطلاح أدبي للشرط وهو مأخوذ من المعنى الثاني للشرط.

الرابع : « أحد أجزاء العلّة » وهو ما يكون به الأثر الذي يختلف عن السبب

ص: 125


1- أما تعريف صاحب القاموس للشرط بأنّه الزام والتزام في البيع ونحوه فهو لا مبرر له إذ اُطلق الشرط على الالتزام الابتدائي وان كان حكماً شرعياً كما في خبر بريرة حيث قال الرسول صلی اللّه علیه و آله عندما اشترت عائشة بريرة وأعتقتها وقد اشترط مواليها الولاء لهم قال صلی اللّه علیه و آله : « الولاء لمن اعتق وشرط اللّه اوثق » ، فقد اطلق الشرط على حكم اللّه كما اطلق على خيار الحيوان حيث قالت الروايات : الشرط في الحيوان ثلاثة أيام » ، كما اطلق الشرط على النذر والعهد والوعد في الأخبار ، راجع وسائل الشيعة : ج 15 ، ب 20 من المهور.

الذي يكون منه الأثر ، ويختلف عن المانع الذي يمنع الأثر. وهذا المعنى منقول من المعنى الثاني أيضاً (1).

أقول : الظاهر أن الشرط في جميع الموارد قد استعمل بمعنى الربط والاناطة وهذا الربط قد يكون تكوينياً ، وقد يكون تشريعياً ، وعلى كل حال فنحن نتكلم في الشرط بالمعنى الأول وان كانت كلمة « الشرط » إذا جاءت في لسان الشارع أو لسان العرف فلا يراد بها المعنى الأدبي للشرط ، ولا المعنى الفلسفي للشرط اللذان هما اصطلاحان لأهل الأدب والفلسفة ، إذ الشارع لا يخاطب العرف بلسان أهل الاختصاص ، وحينئذ إذا كانت هناك قرينة على إرادة المعنى الأوّل الذي نحن نتكلّم عنه أو كانت هناك قرينة على إرادة المعنى الثاني فهو ، وإلاّ أصبح الكلام مجملا من ناحية أن الربط تكويني أو شرعي.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره : أن الشرط قد اُطلق على حكم اللّه وعلى النذر ( أي اطلق على الالتزام الابتدائي ) كما اُطلق على الالتزام في البيع فيكون مشتركاً اشتراكاً معنوياً وهو مقدّم على المجاز. كما أنّ المتبادر من قول الإنسان : شرطتُ على نفسي كذا هو الالتزام (2) ، فيكون معنى الشرط العرفي هو الالتزام ولو كان ابتدائياً. بالاضافة إلى صحيحة منصور بن يونس بن برزج عن العبد الصالح ( موسى بن جعفر علیهماالسلام ) قال : قلت له : « إنّ رجلاً من مواليك تزوج امرأة ثم طلقها فبانت منه فأراد أن يراجعها فأبت عليه إلاّ أن يجعل لله عليه أن لا يطلقها ولا يتزوج عليها فأعطاها ذلك ثم بدا له في التزويج بعد ذلك كيف يصنع ؟ فقال علیه السلام : بئس ما صنع ، وما كان يدريه ما يقع في قلبه بالليل والنهار ؟ قل له فليف للمرأة بشرطها فإنَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : المؤمنون

ص: 126


1- مكاسب الشيخ الأنصاري : ج 2 ، ص 275 طبعة حجرية.
2- المصدر السابق.

عند شروطهم » (1).

وفي هذه الرواية فقد اُطلق الشرط على النذر وأوجب الوفاء به بقول الرسول صلی اللّه علیه و آله « المؤمنون عند شروطهم » (2).

ولنا أن نضيف موثّقة اسحاق بن عمار عن جعفر ( الإمام الصادق علیه السلام ) عن أبيه ( الإمام الباقر علیه السلام ) أن عليّ ابن أبي طالب علیه السلام كان يقول : « من شرط لامرأته شرطاً فليف لها به ، فإنَّ المسلمين عند شروطهم إلاّ شرطاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً » (3).

وقد ذكر الشيخ الأنصاري فقال : « وكيف كان فالظاهر عدم الخلاف بينهم في أن مقتضى عموم أدلّة الشرط ، الصحة في الكلّ ( أي صحة الشرط ووجوب الوفاء به في كل مورد سواء كان عقداً أوْ لا ) وإنّما الاخراج لمانع ، ولذا قال في الدروس بعد حكاية المنع من دخول خيار الشرط في الصرف عن الشيخ الطوسي قدس سره : « أنّه لم يعلم وجهه مع عموم صحيحة ابن سنان : المؤمنون عند شروطهم » (4).

إذن تبين أن الشرط معناه لغةً وشرعاً هو مطلق الالتزام ، سواء كان في ضمن معاملة أو ابتدائياً ، وتبيّن وجوب الوفاء به مطلقاً نتيجة عموم الأدلّة التي هي في خصوص ما إذا رَتَّب الآخر أثراً على هذا الالتزام.

وبهذا تبيّن أن ما ذهب إليه مشهور العلماء من عدم وجوب الوفاء بالوعد ( العهد ) وعدم وجوب الوفاء بالشرط الابتدائي ليس له دليل واضح إلاّ ادّعاء

ص: 127


1- وسائل الشيعة : ج 15 ، ب 20 من أبواب المهور ، ح 4.
2- مكاسب الشيخ الأنصاري : ج 2 ، ص 275.
3- وسائل الشيعة : ج 15 ، ب 40 من أبواب المهور ، ح 4 ، وإنّما قلنا : إنّها موثّقة لأن الشيخ وثّق غياث بن كلوب في العدّة.
4- مكاسب الشيخ الأنصاري : ج 2 ، ص 233.

الإجماع على عدم وجوب الوفاء بمطلق الوعد وبالشرط إذا لم يكن في ضمن العقد ، بل الأدلّة دالة على وجوب الوفاء بهما في صورة ما إذا رتّب الآخر على الوعد والشرط أثراً بحيث يكون عدم الوفاء بهما غشاً وخداعاً وخيانة محرمة. بالاضافة إلى أن هذا الوعد والشرط يكون عقداً عرفاً فيجب الوفاء به.

ونتمكّن أن نقول : بأنّ الإجماع المدّعى على عدم وجوب الوفاء بمطلق الوعد وبالشرط في غير متن العقد هو دليل لبّي على تقدير ثبوته ، فيقتصر فيه على صورة ما إذا كان الوعد أو الشرط لم يرتّب عليه الطرف الآخر شيئاً ولم يصدق عليه العهد والالتزام ، وبهذا يكون التفصيل هو المتّبع لثبوت دليل على كل شقّ منه. وينبني على هذا أن التفاهم السابق على العقود إذا ترتّب عليه مع العقود أمرٌ محظور كالجهالة والغرر والربا فانه يعدّ محظوراً شرعاً ، وإن لم يرتّب عليه أمرٌ محظور فيجب الوفاء به وفقاً لما تقدم من الأدلّة السابقة.

***

ص: 128

المرابحة للآمر بالشراء

اشارة

ص: 129

ص: 130

المقدّمة

اشارة

نتكلم في هذه المقدّمة عن أقسام البيع بالنسبة إلى الإخبار بالثمن وعدمه ثم نتكلم عن بيع المرابحة بالخصوص جوازاً وكراهةً وشرائط.

أقسام البيع بالنسبة إلى الإخبار بالثمن وعدمه :

اشارة

وقد عدّ الفقهاء هذه الأقسام الى خمسة ، وتوضيح ذلك : أنّ البائع إِمّا أن يخبر بالثمن أولاً ، فعلى الثاني يكون البيع مساومة ، وعلى الأول : فإمّا أن يبيع برأس المال ، أو بزيادة عليه ، أو بنقصان عنه ، والأول هو بيع التولية ، والثاني هو بيع المرابحة ، والثالث هو المراصعة ، وهنا قسم رابع وهو : ما إذا باع بالتشريك ( وهو اعطاء بعض المبيع برأس المال مع علمهما بقدر رأس المال ) كأن يقول : أشركتك بالنصف فحينئذ يلزمه نصف مثل الثمن ، وهذا في الحقيقة عبارة عن بيع الجزء المشاع برأس المال.

بيع المرابحة :

وموضوع بحثنا هو بيع المرابحة ، ومعناها - كما تقدّم - هو « البيع مع الإخبار

ص: 131

برأس المال مع الزيادة عليه » ، وهذا البيع جائز بين جميع أهل العلم وعليه الإجماع.

ومع هذا قد وردت الروايات الكثيرة على جواز بيع المرابحة ، منها : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر علیه السلام قال : « سألته عن الرجل يبيع السلعة ويشترط أنَّ له نصفها ، ثم يبيعها مرابحةً أيحل ذلك ؟ قال : لا بأس » (1).

ورواية علي بن سعيد قال : « سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن رجل يبتاع ثوباً فيطلب منّي مرابحة ، ترى ببيع المرابحة بأساً إذا صدق في المرابحة وسمّى ربحاً دانقين أو نصف درهم ؟ قال : لا بأس » (2).

كراهة المرابحة :

هذا وقد وردت الروايات دالّة على كراهة بيع المرابحة ، منها : موثّقة محمد بن مسلم قال : قال الصادق علیه السلام : « إنّي أكره بيع عشرة بإحدى عشرة ، ولكن أبيعك بكذا وكذا مساومة ، وقال : أتاني متاع من مصر فكرهت أن أبيعه كذلك وعظم عليّ ، فبعته مساومة » (3).

شروط بيع المرابحة :

ويشترط في بيع المرابحة شروط كثيرة ، راجعة الى تحقّق هذا البيع في الخارج على وجه الامانة والصدق في الإخبار ، وهذه الشروط التي تذكر هنا هي غير الشروط العامّة في كل البيع. والشروط الخاصة هي :

ص: 132


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 12 من أحكام العوقد ح 3.
2- المصدر السابق : ح 1.
3- المصدر السابق : ب 14 من أحكام العقود ح 4.

1 - علم المتبايعين بقدر الثمن وقدر الربح والغرامة ( كالضرائب الحكومية ) والمؤن ( وهي المصاريف التي تصرف على السلعة للاسترباح ) إن ضمها الى رأس المال.

2 - يجب على البائع أن يذكر ما طرأ من موجب النقص ( كما إذا عرض خلل أو عيب في المبيع بحيث أوجب النقص ).

3 - يجب على البائع أن يذكر الاجل إذا كان الثمن مؤجّلا ، لأنّ للأجل قسطاً من الثمن.

4 - إذا زاد المبيع بفعل البائع أخبر بالواقع بأن يقول : « اشتريته بكذا وعملتُ فيه عملاً يساوي كذا » ، وكذا الأمر لو عمل فيه متطوع يزيد في قيمته.

5 - إذا استأجر الكيّال أو الوزّان أو الحارس أو الصبّاغ أو الرفّاء أو القصّار أو الدلاّل وأشباه ذلك فيقول : تقوّم عليّ بكذا ، ولا يقول : اشتريتُ بكذا ، لأنّ الشراء لا يدخل فيه إلاّ الثمن ، بخلاف « تقوّم عليّ » ، فإنّه يدخل في الثمن وما يلحقه من الاُجرة.

6 - إذا أخذ البائع أرشاً بسبب البيع أسقطه من الثمن ، لأنّ الأرش جزء من الثمن ، فكأنّ البائع اشترى المبيع بما عدا الأرش (1). أمّا إذا كان الأرش بسبب جناية فهو لا يسقط من الثمن ، لأنّ الأرش هنا حقّ متجدّد لا يقتضيه العقد كنتاج الدابة ، وهذا بخلاف العيب وإن حدث بعد العقد ( حيث يضمن ) ، فإنّه كالموجود حالة العقد.

7 - إذا اشترى أشياء جملةً واحدةً فلا يجوز له أن يبيع بعضها ويخبر بما

ص: 133


1- ويوجد هنا قول آخر ( وهو الأصح ) يقول بأنّ الأرش ليس جزءاً من الثمن وإنّما هو غرامة شرعية ، وعلى هذا الأساس لا يسقط من الثمن ، ولكن بنظري لابدّ من أن يبيّن الحقيقة للمشتري.

يقتضيه التقسيط من الثمن وإن كانت الاجزاء متساوية ، لأنّ المبيع المقابَل بالثمن هو المجموع ، وليست الأفراد ، وإن كانت الافراد يقسّط عليها الثمن في بعض الموارد ، كما لو تلف بعضها أو ظهر مستحقاً للغير.

بالإضافة الى أنّ بيع جملة أشياء متساوية بثمن واحد قد يختلف عن بيع كل واحد من الأشياء لوحده منفرداً.

8 - لا يجوز أن يخبر بما اشتراه ممّن يرتبط به سبب أو نسب حيلةً ، كما لو اشترى الشيء من زوجته أو ولده بمائة وكانت قيمته في السوق ثمانين فإنّ هذا خديعة وتدليس فلا يجوز.

9 - لا يجوز أن يخبر بأنّ ثمن السلعة هو ما قوّمه عليه التاجر من غير عقد على أن يكون الزائد له ، لأنّ مجرد التقويم لا يوجب البيع.

10 - إذا اشترى دابةً حاملةً فولدت وأراد بيعها منفردةً عن الولد مرابحةً فلا يجوز ، نعم ، إذا أخبر بالواقع فيجوز.

وكل هذه الشروط تقتضيها الامانة التي هي مفروضة في هذا العقد بين الطرفين ، فكل شيء يخالف هذه الأمانة فهو لا يجوز ، وعلى هذا فإن ظهر كذب البائع أو تدليسه وخديعته بأيّ شكل من الأشكال فيكون آثماً ، ولكنّ البيع صحيح يتخيّز فيه المشتري إذا علم بذلك بين الردّ والأخذ بالثمن.

ولهذه الشروط الكثيرة وتوابعها كان بيع المساومة أفضل ، لأنّه خال من هذه الشروط فلا يوقع الإنسان في محذور مخالفة الأمانة ، إذ لا نأمن من هوى الإنسان وجشعه في الربح الذي يؤدّي به الى غلط أو تأويل.

إذا عرفنا بيع المرابحة فيما تقدّم فهنا نتساءل هل أنّ مسألتنا « المرابحة للآمر بالشراء » هي من هذا القبيل ، أو هي شيء آخر ؟ ثمّ نبحث عن حكم المسألة.

ص: 134

المرابحة للآمر بالشراء

الصورة الاُولى :

وهي المشهورة المعروفة ، بأن يتقدّم العميل إلى البنك طالباً منه شراء سلعة معينة بأوصاف معينة ، ويَعِدُ العميل البنك بشراء تلك السلعة مرابحةً مقسطة بنسبة يتّفق عليها مع البنك.

وبعبارة اُخرى : أنّ العملية تتكوّن من خمس مراحل هي :

1 - طلب العميل من البنك شراء سلعة معينة موصوفة.

2 - البنك يَعِدُ العميل بأنّه سوف يشتريها ويبيعها له.

3 - العميل يَعِدُ البنك بأنّه سوف يشتري السلعة مرابحةً بنسبة معينة بالأقساط.

4 - يشتري البنك السلعَة المعينة.

5 - يبيعها إلى العميل مرابحة.

وهذه الصورة المعروفة نتكلم عنها أولاً حسب القاعدة الأوليّة ، ثم ننظر في ما إذا كان هناك نص يُدّعى على حرمة هذه المعاملة.

أمّا القاعدة الأوليّة فهي تقتضي صحة هذه المعاملة إذا جرت ، وكان كلّ من البنك والعميل بالخيار في البيع والشراء وعدمهما بعد أن يشتري البنك السلعة. أمّا إذا أراد البنك أن يلزم العميل بالشراء ، أو أراد العميل أن يلزم البنك بالشراء فهل تكون المعاملة صحيحة أيضاً على القاعدة ؟

وبعبارة اُخرى : أنّ الإلزام والالتزام في المرحلة الثانية والثالثة إذا أوجدناه بصورة من الصور فهل تبطل المعاملة ؟

ص: 135

الجواب : أنّ أكثر المعاملات التي يكون المتعامل فيها حرّاً بالبيع والشراء قد يأتي فيها الإلزام ، ومع هذا تكون المعاملة صحيحة ، واليك بعض الأمثلة.

1 - إذا أردتُ أن أشتري منك سيارةً فأنا بالخيار في عقد صفقة الشراء وعدمه ، وأنت أيها البائع أيضاً كذلك بالخيار في عقد صفقة البيع وعدمه ، ولكن إذا أردنا أن نلتزم بإحداث صفقة بيع تقع فيما بعد بثمن معين فيمكننا أن نوجد معاملة ثانية غير معاملة السيارة ، كأن أبيعك ثلاجةً واشترط عليك في ضمن البيع أن تبيعني سيارتك بثمن معيّن ، فإن قبلت بيع الثلاجة أصبحت الثلاجة لك ، ولكنّك ملزم من ناحية شرعية ببيع سيارتك لي بثمن معيّن.

وهذه العملية ليس فيها بأس ، لأنّ البيع الثاني أصبح شرطاً في البيع الأول ، والحديث الشريف الصحيح يقول : « المسلمون عند شروطهم إلاّ شرطاً خالف كتاب اللّه عزّوجلّ فلا يجوز » (1) ، وبما أنّ القاعدة الأوليّة تقول : إنّ هذا الشرط ليس مخالفاً للكتاب فهو نافذ.

2 - قد يكون الإلزام - من قبل البنك بالبيع للعميل ، والالتزام من قبل العميل بالشراء - قد حدث بواسطة يمين من الطرفين بإحداث العقد ، وكذا الأمر في نذر كلّ واحد منهما هذا الأمر مع تحقّق متعلّق النذر.

وبهذه الاُمور الثلاثة يكون كلّ من البنك والعميل مُلزَماً من ناحية شرعية باجراء المعاملة. إذن قد اتّضح أنّ الإلزام الذي يأتي إلى البنك أو إلى المشتري بصورة من الصور المتقدّمة لا يغيّر من صحة المعاملة.

ولكن هنا نريد أن نبيّن أنّ مجرد المواعدة من قبل البنك للعميل ، أو من قبل العميل للبنك هل هي كافية في الإلزام ؟

ص: 136


1- صحيحة عبد اللّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام ، وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 6 من أبواب الخيار ، ح 2.

نقول : إنّ معنى الوعد على قسمين :

أ - وعد ابتدائي ، كما إذا وعدتُ شخصاً بأن أدفع له ديناراً غداً.

ب - الوعد الذي هو عبارة عن معنى التعهّد والالتزام ، كما إذا واعدت البنك بأنّ أشتري منه سلعةً معينةً إذا أقدم بشرائها ، وقد أقدم البنك على شرائها وجلبها إلى المكان الذي فيه يقيم الواعد بالشراء ، ففي مثل هذا الوعد - الذي هو بمعنى التعهد - يكون الوفاء به واجباً ، والدليل على ذلك هو :

1 - الفهم العرفي من التزام الواعد بأنّه ينجّز هذه المعاملة ، فإنّ العرف يفهم من هذا الالتزام معنى الوجوب ، لأنّ الوعد - في الكسب التجاري الذي هو تداول السلعة بالثمن والربح - يكون بمعنى الالتزام والتعهد ، وهذا يكون موضوعاً لوجوب العمل على وفقه. وهذا الوعد يختلف عن الوعد بالمعنى الأول الذي يكون سبيله الإرفاق ، فإنَّه بمعنى « إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل » ، وهذا هو الذي اختلف فيه الفقهاء بالوجوب وعدمه.

إذن الفهم العرفي لهذا الوعد - في الكسب التجاري - هو موضوع الحكم الشرعي ، وهذا الحكم الشرعي هو وجوب الوفاء بهذا الوعد الذي متعلقه هو « فعل ما التزم به وما واعد به » وليس معنى هذا الوجوب هو الحكم الوضعي « وهو ترتب أثر متعلّق الالتزام ».

وبهذا يتّضح سقوط مَن استدل على عدم وجوب الوفاء بهذا الوعد - كالجمهور - « بأنّ الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء » (1) ؛ حيث أن الموعود لا يضارب لأنّه ليس عنده شيء هنا ، وإنّما الواعد يجب عليه الوفاء بالتزامه ، وهذا شيء آخر غير استحقاق الموعود بمجرد وعد الواعد.

وكذلك اتّضح سقم الاستدلال - على عدم الوفاء بالوعد - بالاولوية من

ص: 137


1- المرابحة للآمر بالشراء ، د. بكر بن عبد اللّه أبو زيد : ص 6.

الهبة ، حيث قال الجمهور : إذا كانت الهبة لا تتمّ إلاّ بالقبض فكيف بالهبة لو وعده بها مجرد وعد ؟! (1).

والجواب : هو أنَّ الهبة حكم وضعي وقد رتّبها الشارع على القبض ، أمّا الالتزام بالهبة فهو حكم شرعي ، كما لو حلف على أن يهب فيجب عليه أن يوقع متعلق الحلف وهو الهبة ، إلاّ أنّ الهبة لا تقع ولا يترتب حكمها من الصحة إلاّ بعد القبض.

2 - الستدلال بالاية القرانية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (2). وهذه الآية مسوقة لتوبيخ المؤمنين على « مطلق تخلف الفعل عن القول وخلف الوعد ونقض العهد ».

ثم إذا نظرنا الى سياق الآيات التي منها : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ... ) (3) و ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... ) (4) فإنّه يفيد أنّ متعلق التوبيخ هو تخلف بعضهم عمّا عاهد النبي صلی اللّه علیه و آله من الثبات في القتال وعدم الانهزام والفرار ، ولكنهم لم يفوا بعهدهم فأوجب هذا العمل التوبيخ الذي أعقبه حكم عملهم هذا ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) ، وهذا الحكم الصارم يدل على أنَّ الوعد ( العهد ) الذي كان يصدر من المؤمنين يجب الوفاء به ، فعدم الوفاء به مقتٌ عند اللّه كبير ، وهذا كاف للدلالة على حرمة عدم الوفاء بالوعد الذي نحن بصدده ، فإنّ المقت هو البغض الشديد ، وليست الحرمة إلاّ هذا.

ص: 138


1- المصدر السابق.
2- الصف : 2 - 3.
3- الصف : 4.
4- الصف : 10 - 11.

وفي الحقيقة : أنّ هذا الوعد ( العهد ) عبارة عن عقد بين اثنين أحدهما يعطي والآخر يأخذ ، أو كل واحد يعطي ويأخذ ، وحينئذ تشمله ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) او ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ) (2).

ولا بأس بالتنبيه على أنّ هذين الدليلين يُلزمان الواعد بالوفاء بوعده ، وليسا ناظرَين الى تضرر الموعود نتيجة عدم الوفاء بالوعد ، وكيفية رفع ضرره ، فإنّ هذا شيء آخر لسنا الآن بصدده.

4 - أمّا الوعد الابتدائي المتقدّم فهو ينقسم الى قسمين :

أ - وعد ابتدائي لا يترتب عليه أثر.

ب - وعد ابتدائي يترتب تعليه أثر ، كما إذا كان الموعود يتضرر فيما لو لم يفِ الواعد بوعده فهنا يأتي « لا ضرر ولا ضرار » المتفق عليه بين أهل الإسلام ، يقول للواعد : يجب عليك الالتزام بوعدك الابتدائي ، لأنّك إن لم تلتزم بما وعدت به يقع أخاك في ضرر بسبب وعدك ، وعدم الوفاء به ، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

ولا يرد علينا القول بأنّ حديث « لا ضرر » يشمل الواعد ، ووجوب الوفاء بالوعد ينبغي أن لا يكون ضررياً بالنسبة إلى الواعد ، فإنّنا نقول بأنّ حديث لا ضرر لا يجري في حقّ الواعد ؛ لأنّه هو الذي أقدم على الوعد لغيره ، وهو الذي ضرّر نفسه لو كان في الوفاء بوعده ضرر عليه.

وقد يقال : صحيح أن القاعدة الأوليّة تقتضي صحّة هذه المعاملة ، وإن وجد فيها إلزام والتزام من الطرفين بإيقاعها إلاّ أن المانع هو الأدلّة الخاصة في المقام التي تقول بتحريم هذا الإلزام في هذه المعاملة بالخصوص. وقد اختلف علماء العامة (3)

ص: 139


1- المائدة : 1.
2- الاسراء : 34.
3- المرابحة للآمر بالشراء ، محمد أمين الضرير : ص 6.

ببيان هذا المانع ، توضيح ذلك :

1 - ذهب قسم منهم الى أنّ المانع من صحة المعاملة هو دخولها تحت عنوان بيع العينة المنهيّ عنه (1).

2 - وذهب قسم آخر الى أن المانع هو دخول المعاملة تحت عنوان « لا تبع ما ليس عندك » (2).

3 - وذهب قسم ثالث الى أن الالزام في هذه المعاملة يدخلها تحت النهي الوارد عن بيعتين في بيعة (3).

4 - وذهب قسم رابع الى أن الالزام يجعل المعاملة مخاطرة (4).

5 - وذهب قسم خامس الى أن الالزام يجعل المعاملة داخلة تحت عنوان « السلف والزيادة » (5).

والآن يجب علينا أن نفحص أنّ هذه الموانع التي ذكرت هل هي كافية في دخول معاملتنا التي نحن بصددها تحت أحد هذه الموانع ، أو لا ؟ فنقول :

أولاً : أنّ ما نحن فيه مغاير لبيع العينة ، التي معناها : هو أن تباع السلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها البائع من المشتري بثمن معجّل أقل ممّا باع به.

وهذه الصورة لبيع العينة هي المعروفة عند أبناء العامّة ، وقد تصور بصورة ثانية ، وهي : أن يبيع صاحب السلعة سلعته نقداً ، ثم يشتريها من المشتري نسيئةً بمقدار أكثر قيمة ، فيكون البائع في البيع الأوّل هو المشتري في البيع الثاني وبالعكس ، وهذه الصورة لبيع العينة هي التي ورد فيها أكثر روايات الإمامية.

ص: 140


1- ذهب الى هذا الباجي ، المنتقى : ج 5 ، ص 38 و 39.
2- ذهب الى هذا الشافعي والباجي.
3- ذهب الى هذا الباجي.
4- ذهب الى هذا الشافعي.
5- ذهب الى هذا الباجي.

وتوجد صورة ثالثة ، وهي : بأن يبيع صاحب السلعة سلعته نسيئةً بالسعر السوقي ، ثم يشتريها منه بأقل من السعر السوقي نقداً (1).

وقد قال بحرمة بيع العينة كل من مالك وأحمد ، لأنّها حيلة لربا النسيئة ، وقد احُتجَّ لهؤلاء بحديث عائشة « حينما أخبرتها اُمّ محبّة بأنّها كانت لها جارية ، فباعتها لزيد بن أرقم بثمانمائة درهم الى عطائه ، وأنّه أراد بيعها ، فابتاعتها منه بستمائة ، فقالت عائشة : بئسما شريت وبئسما اشتريت ، فأبلغي زيد أنّه قد بطل جهاده مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاّ أن يتوب. فقالت لها : أرأيت إن لم آخذ منه إلاّ رأسمالي ؟ فقالت : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف » (2).

ومن هنا يتّضح أن المانع من صحة البيع عند العامّة هو الربا المستور تحت البيع ، بتقريب أن المشتري قد حصل على مائة دينار - مثلاً - نقداً بمائة وعشرين ديناراً مؤجلة الى سنة ، وهذا إنّما يكون في صورة اشتراط البيع الثاني في البيع الأول صراحةً أو ضمناً ، كأن يكون البيع الثاني مبنيّاً على البيع الأول.

أمّا عند الإمامية فقد وردت النصوص ببطلان هذه المعاملة ، منها صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر علیه السلام ( الإمام الكاظم ) قال : « سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم الى أجل ، ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد أيحلّ ؟ قال : إذا لم يشترطاً ورضيا فلا بأس » (3). ومعنى ذلك أنّه إذا اشترط ذلك فالبيع الأول غير صحيح ، كما هو الظاهر من كلمة « البأس » في المعاملات.

وذهب قسم من علماء الإمامية إلى أنّ البطلان هنا للنصّ الخاصّ ، ولكن

ص: 141


1- راجع كتاب نظرية الربا المحرم ، ابراهيم زكي الدين بدوي : ص 203.
2- نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية : ص 203 ، عن القرطبي : ج 3 ، ص 359 وما بعدها.
3- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 5 من أحكام العقد ، ح 6.

ليس من البعيد - إن قبلنا الفكرة القائلة : إنّ وراء الالفاظ لُبّاً قد قصده المتعاقدان ، والاعتبار باللب - أن يكون البيعان روحهما هو القرض الربوي ، وقد توصّلا إليه بهذا الثوب من المعاملة ، إذ القرض هو تمليك مع الضمان ، وهو حاصل من المعاملتين فلا يجوز فيه الزيادة ، لأنّ أدلّة حرمة ربا القرض تشمله.

هذا كلّه راجع الى بيع العينة بالمعنى المتقدّم الذي حرّمته الروايات من الطرفين ، ولكن أي ارتباط بينه وبين ما نحن فيه ؟

نقول : لا يوجد أي ارتباط ، وذلك لأنّ بيع العينة - كما تقدّم - هو إرجاع سلعة الرجل الى نفسه ، وحصوله على نقد على أن يُرجع أكثر منه ، حيث ذكروا في تسمية عقد العينة ما حاصله (1) :

1 - إنّ المشتري يأخذ بدل سلعته عيناً ( أي عقداً حاضراً ).

2 - إنّ البائع يعود إليه عين ماله بعد أن باعه.

أمّا ما نحن فيه فليس كذلك ، لأنّ البنك يشتري السلعة من جهة معينة ثم يبيعها الى جهة ثالثة ، فليس عندنا عقدين بين اثنين ، وإنّما عندنا عقدان بين ثلاثة أطراف ، وهذا ليس له ارتباط بالقرض ولا بالربا.

نعم ، يوجد شيء مشترك بين المسألتين وهو : الزام البائع والمشتري بالبيع الثاني مرابحةً الذي يقع بين البنك والآمر بالشراء ، كما أن في بيع العينة يوجد الزام ببيع العين - التي وقعت في البيع الأول - إلى البائع ، لكنّ هذا الشيء المشترك لم يجعل المسألتين من باب واحد فانتبهوا أيّها المسلمون ، فلو أنّني بعت سيارتي الى شخص بشرط بيعها الى اخي إذا اراد المشتري بيعها فهنا يكون المشتري ملزماً ببيعها الى أخي فيما إذا أراد البيع ، إلاّ أنّ هذا الإلزام لم يجعل هذه المسألة من باب بيع العينة.

ص: 142


1- نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية ، إبراهيم زكي الدين بدوي : ص 203.

ثانياً : إنّ ما نحن فيه يختلف عن بيع ما لا يملك ، ومن يقول : إنّ ما نحن فيه داخل تحت النهي الوارد عن بيع ما ليس عندك فهو قول خاطئ ، وتوضيح ذلك :

إنّ مفروض المسألة هو أنّ عقد البيع بين البنك والعميل يقع بعد شراء البنك للسلعة ووضعها بين يدي العميل ، وإنّما الذي تقدم من البنك والعميل هو الوعد ( الالتزام ) بالبيع في وقته بعد حصول البنك على السلعة المطلوبة ، بينما النهي ورد عمّن باع ولم يملك ، وهنا لم يوجد بيع من دون ملك ، وإنّما وجد التزام بالبيع في وقته ، كما إذا التزمتُ ببيع داري الى صديقي عند إرادة بيعها ، وهذا لا يسمّى ببيع الدار إلى الصديق.

ومن العجيب عدم تفرقة البعض بين أن يقول شخص لآخر : « بعتك سلعة كذا بمبلغ كذا » والسلعة ليست عنده ، وبين أن يقول شخص لآخر : اشترِ سلعة كذا وأنا ملتزم بشرائها منك بمبلغ كذا (1) ، إذ أنّ في الصورة الاُولى قد وجد حكم وضعي ، وهو النقل والانتقال ، إلاّ أنّ الشارع لم يوافق على صحة هذا الحكم ، أمّا في الصورة الثانية فلم يوجد البيع ، وإنّما وجد التزام من قبل المشتري بالشراء بكذا ، وهذا موضوع لحكم تكليفيٍّ يتوجّه إلى المشتري ، فإن لم يشترِ فهو قد خالف الحكم التكليفي الذي التزمه على نفسه ، أمّا نفس الحكم الوضعي - وهو النقل والانتقال - فلم يحصل حتى يقال : إنّ الشارع قد نهى عنه.

إذن الالتزام بالشراء من البنك هو موضوع حكم تكليفيٍّ بوجوب الشراء ، فإن حصل البنك على السلعة وعرضها على المشتري فاشتراه فهو بيع لسلعة يملكها البنك ، وإن لم يشترها المشتري فقد فعل حراماً ، ولكنّه لم يشتر بعد.

ثمّ إنّ حديث « لا تبع ما ليس عندك » قد ذكر الفقهاء : أنّ المراد منه النهي عن بيع العبد الآبق أو الجمل الشارد وأمثالهما الذي لا يتمكّن المشتري فيه من

ص: 143


1- المرابحة للآمر بالشراء ، ملازم الصدّيق محمد الأمين الضرير : ص 2.

تسلّم المبيع ولا البائع من تسليمه ، فيحدث الغرر في البيع ؛ لأنّ البيع إنّما حصل على أن يكون التسليم حالا ، بينما البائع غير قادر على التسليم حالا ، ولا يعلم متى يتمكّن من التسليم ، لأنّ العبد غير معروف زمن رجوعه إن كانت عنده نيّة إلى الرجوع ، كما لم يعلم أيرجع الجمل الشارد الى صاحبه أم لا ؟ فيحصل الغرر من هذه المعاملة ، وليس المراد منه النهي عن « بيع الصفة في الذمّة » ، ولذا قد اُجيز بيع السلم إلى الأجل ، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال ، ولكن جوّزه الفقهاء بالاتفاق ، كما أنّه ليس المراد من « لا تبع ما ليس عندك » هو النهي عن « بيع غير الموجود التابع للموجود » مثل بيع الثمار بعد بدوِّ صلاحها ، إذ أن هذا جائز بالاتفاق أيضاً كما يجوز بيع المقاثي والمباطخ.

ثالثاً : وأمّا حديث النهي عن « بيعتين في بيعة » فقد وردت عدّة روايات تنهى عن بيعتين في بيعة ، أو عن شرطين في بيع ، أو صفقتين في صفقة ، ولكنّ الكلام في معنى هذه الروايات وشمولها لما نحن فيه.

وقد فسّر الشافعي البيعتين في بيعة على نحوين :

1 - أن يقول بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا.

2 - أن يقول : بعتك هذا العبد - مثلاً - بألف على أن تبيعني أو فلان يبيعني الدار بكذا ، أو يقول : أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا ، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري (1).

أمّا التفسير الأول فهو الصحيح ، لأنّ البيع يكون باطلاً ؛ لتردّد الثمن عند العقد ، بل لم يحصل قصد الى أحدهما بالخصوص.

وأمّا التفسير الثاني للشافعي فهو لا يبطل المعاملة ، لأنّه من قبيل الالتزام في الالتزام ، فيشمله قوله علیه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » الذي تقدم ذكره.

ص: 144


1- نهاية المحتاج الى شرح المنهاج ، للرملي : ج 3 ، ص 433 وما بعدها ، وفتح القدير : ج 5 ، ص 218.

ويوجد معنى آخر للبيعتين في بيعة ، وهو : أن يسلفه ديناراً في قفيز حنطة الى شهر ، فلمّا حلّ الأجل وطالبه بالحنطة قال : بعني القفيز الذي لك عليّ الى شهرين بقفيزين ، فصار ذلك بيعتين في بيعة ، لأنّ البيع الثاني قد دخل على الأوّل فيردّ إليه أوكسهما ، وهو الأول (1).

وهذا المعنى الأخير للأحاديث بهذا المثال المذكور آنفاً يوجب حرمة البيع الثاني ؛ لوجود الربا ، لأنّ المشتري قد باع قفيزاً واحداً بقفيزين من الحنطة فهو ربا ، إلاّ أنّ المثال إذا غيّرناه وأراد المشتري أن يبيع قفيزه من الحنطة بدراهم فهو بيع جائز رغم أنه بيع ما لم يقبض ، إلاّ أنّ النهي الوارد عن بيع ما لم يقبض مخصوص ببيعه على غير بائعه ، أمّا بيعه على بائعه فلا بأس به ، وقد وردت النصوص بصحة ذلك ، منها : صحيحة يعقوب بن شعيب ، قال : « سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل باع طعاماً بدراهم ، فلمّا بلغ ذلك الأجل تقاضاه ، فقال : ليس عندي دراهم ، خذ مني طعاماً ، قال علیه السلام : لا بأس إنّما له دراهمه يأخذ بها ما شاء » (2) وغيرها من الروايات.

نعم ، يحتمل أن يكون المعنى الذي ذكر أخيراً للبيعتين في بيعة ، عبارة عن بيع ما لم يقبض على شخص ثالث ( غير البائع ) ، كما إذا اشتريت كمية من الحنطة ولم أقبضها بعد ، وأردتُ بيعها الى ثالث فهنا توجد أدلّة تمنع من بيعها قبل القبض بزيادة أو نقيصة ، وهذا الحكم صحيح ، وقد يبنى على النظرية القائلة بأنّ الكسب من دون عمل غير صحيح.

وعلى كل حال - سواء اُريد بالبيعتين في بيعة ما ذكره الشافعي أو ما ذكر أخيراً من النهي عن البيع قبل القبض - فهل ما نحن فيه داخل تحت معنى الحديث ؟

ص: 145


1- نظرية الربا المحرم ، لإبراهيم بدوي : ص 214 هامش 3.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 19 من أبواب السلف ، ح 10 ، وهي مروية عن عبيد بن زرارة أيضاً.

نقول : لا يوجد أي ارتباط بين ما نحن فيه وبين الحديث ، وذلك :

أ - إنّ مفروض مسألتنا هو : يشتري البنك أولاً ويقبضها.

ب - وبعد ذلك يعرضها على المشتري ويبيعها له مرابحة.

فلا يوجد بيع قبل القبض ، كما لا يوجد بيع ( نقداً بكذا أو نسيئة بكذا الذي يبطل العقد نتيجة عدم معلومية الثمن ). نعم ، الذي وقع قبل القبض هو الالزام بالبيع عند التملك والقبض ، وهذا لا بأس به ؛ لعدم وجود نهي فيه ، وإنّما النهي عن البيع قبل القبض.

رابعاً : أما المخاطرة : التي تحدث عن الالزام كما يقول الشافعي : « إنّك إن اشتريته بكذا اُربحك فيه كذا » (1). فلا ندري ماذا يريد الشافعي من قوله هذا ، فهل يريد بيع العينة بالمعنى المتقدّم كما ورد أن بيع العينة يسمى ببيع المخاطرة ، فقد تقدّم أنّه يختلف عمّا نحن فيه فلا نعيد (2) ، أو يريد أن الالزام بالبيع الثاني فيه مخاطرة على المشتري أو البائع ؟

نقول : الصحيح أن عدم الالزام هو الذي فيه مخاطرة على البائع أو المشتري. وتوضيح ذلك : أنّ البنك إذا اشترى السلعة ولم تكن مرغوبة إلاّ للمشتري ثم امتنع المشتري من شرائها نتيجة عدم الزامه شرعاً فهذا فيه مخاطرة وضرر على البنك ، كما أن البنك إذا اشترى السلعة وقد انتظرها المشتري مدّة طويلة ، ولم يوظف أمواله في أي عمل بانتظار تلك السلعة المعينة ولكن البنك لسبب عدم الزامه يبيعها لمن أمره بالشراء ، أو لبذل سعر أكثر ممّا بذله الآمر بالشراء باعها البنك لغير الآمر المنتظر الموعود ببيعها له ، فهنا توجد مخاطرة وضرر على المشتري ، إذن جاءت

ص: 146


1- الاُم ، الشافعي : ج 3 ، ص 33.
2- نقول : لا يمكن للشافعي أن يريد بالمخاطرة هو بيع العينة بالمعنى المتقدّم ، لأنّه قال بجواز بيع العينة كما نقل عنه ، راجع نظرية الربا المحرم : ص 203.

المخاطرة من عدم الالزام ، لا أنّها جاءت من الالزام.

وأمّا إذا اراد الشافعي ورود النصوص بحرمة هذا ، وقد علّله بالمخاطرة فهذا سوف يأتي.

خامساً : أمّا ما ذكر من أن مسألتنا داخلة تحت النهي الوارد « عن سلف وزيادة » كما قال الباجي : « لأنّه يبتاع له البعير بعشرة على أن يبيعه منه بعشرين الى أجل يتضمّن ذلك أنّه أسلفه عشرة في عشرين الى أجل » (1) فهو بعيد عمّا نحن فيه ، لأنّ البنك إنّما يشتري السلعة لنفسه ( كما هو مفروض الصورة الاُولى التي نحن بصددها ) بينما السلف والزيادة المنهيّ عنه - كما يقول الباجي - هو عبارة عن شراء السلعة للآمر بعشرة ، ثم يبيع المشتري العشرة بعشرين إلى أجل فهو رباً لا كلام لنا في حرمته.

إذن إذا كان شراء البنك السلعة لنفسه وبماله ، ثم بعد ذلك يبيع السلعة إلى الآمر نسيئةً مرابحة فهو ممّا لا إشكال فيه ، وكثير من البيوع التي تحصل في الخارج تكون على هذا النسق من البيع مرابحة مع أن البائع قد اشتراها لنفسه بثمن أقل.

نعم ، هنا إلزام في البيع الثاني على البنك أن يبيع السلعة على المتعهد بالشراء ، كما يوجد الزام على المشتري أن يشتري السلعة التي اشتراها البنك بأمر الآمر ، وهذا الالزام حصل بتعهد الطرفين أو بحلفهما أو بنذرهما أو بشرط في عقد لازم فهل هذا الالزام يبطل البيع الثاني ؟

الجواب : قلنا فيما تقدّم إن القاعدة الأوليّة تقول بصحة العقد الثاني كما قالت بصحة العقد الذي أوجده البنك في شراء السلعة بأمر الآمر ، إذن لا إشكال في صحة هذا العقد الذي يحدث من قبل البنك الآمر بالشراء حتى مع الالزام للطرفين

ص: 147


1- المنتقى : ج 5 ، ص 38 و 39.

بالبيع للآمر وبالشراء من البنك.

سادساً : وقد ذكر البعض : أنّ الإمام محمد بن الحسن الشيباني ذكر حيلةً تقوم مقام الالزام ، فقد قيل له : « أرأيت رجلاً أمر رجلاً أن يشتري داراً بألف درهم وأخبره أنّه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم ، فأراد المأمور شراء الدار ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها ، فتبقى في يد المأمور ، كيف الحيلة في ذلك ؟ قال : يشتري المأمور الدار على أنّه بالخيار ثلاثة أيام ، ويقبضها ويجيء الآمر ويبدأ فيقول : قد أخذتُ منك هذه الدار بألف ومائة درهم ، فيقول المأمور : وهي لك بذلك ، فيكون ذلك للآمر لازماً ويكون استيجاباً من المأمور للمشتري ، وإن لم يرغب الآمر في شرائها تمكّن المأمور من ردّها بشرط الخيار فيدفع عنه الضرر بذلك » (1).

واستفاد هذا القائل من هذه الحيلة أن الالزام في المعاملة غير جائز ، بينما الصحيح هو أن الشيباني ذكر عملاً يدفع به البائع الضرر عن نفسه فيما إذا كان المشتري مختاراً في شرائه وعدمه ، وهذا لا يدل على أن الالزام غير جائز إذا حدث سببه ، وبواسطته يندفع الضرر على البائع ، إذ لو اهتدى الامام الشيباني الى عملية تؤدّي إلى الالزام فلعلّه يقول بصحتها ، إذ الطريق الذي قاله : إنّما كان لأجل دفع الضرر عن البائع في بعض الصور ، والالزام الذي يقوله أيضاً طريقة لدفع الضرر عن البائع ، فاهتداؤه إلى الطريق الأول ليس معناه حرمة الطريق الثاني.

على أنّ الأفضل للدارس أن يذكر دليلا على الحكم الشرعي ، لا أن يأتي بفتوىً لبعض الفقهاء.

سابعاً : قالوا : إنّ ما نحن فيه هو بيع نقد بنقد أكثر منه الى أجل ( بينهما سلعة

ص: 148


1- كتاب الحيل رواية السرخسي : ص 79 من بحث المرابحة للآمر بالشراء ، للاُستاذ الصدّيق محمد الأمين الضرير : ص 5.

محلّلة ) فغايته قرض بفائدة.

ويرد على هذا القول : أن كل بيع نسيئة أو بنقد هو معناه ( بيع نقد بنقد أكثر منه ، نقداً أو نسيئة بينهما سلعة محلّلة ) ، ولكن اللّه سبحانه أحلّ هذا حيث إنّ البائع حوّل نقده الى عمل مخزون ، وهذا العمل المخزون يستهلك بمرور الزمان ، فتذهب صفته ، والمشتري له الحقّ أن يبيع هذا العمل المخزون بعد قبضه بفائدة وربح ، فيكون ربحه مرتكزاً على عمل ، أمّا القرض بفائدة الذي حرّمه الشارع المقدّس فالمفروض فيه أن النقد الذي دفعته إلى المقترض يرجع بنفسه إليّ بعد الأجل من دون نقيصة في صفاته ، ومن دون استهلاك ، ومعنى هذا عدم جواز الفائدة ككسب يحصل عليه المقرِض ، لأنّه لم يقدم عملاً مباشراً إلى المقترض ولا مخزوناً بحيث يستهلك أو تذهب صفته بالاستعمال ، وحينئذ لا يحقّ له الاكتساب من هذا الطريق.

بالاضافة الى ورود النص بحرمة القرض بفائدة ، وعدم وروده إلى الآن فيما إذا اشترى سلعةً من زيد ، وأراد بيعها إلى عمرو مرابحة نسيئة وكان ملزماً ببيعها بسبب من أسباب الالزام.

ثامناً : الأصل اللفظي للمسألة : إذا تنزلنا عن الأدلّة السابقة الدالة على صحة المرابحة للآمر بالشراء كما في الصورة الاُولى التي عرضناها فغاية ما يقال : إنّنا نشك في صحة هذه المعاملة ، وحينئذ فإنّ إطلاق (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) تدل على صحة هذه المعاملة ، لأنّ معاملة البنك للعميل ممّا لا إشكال أنّها بيع عند العرف ، وهي عقد وتجارة فتشملها الآيات الثلاث الدالّة على صحة المعاملة ولزوم الوفاء بها ، وإن كان الالزام موجوداً لإيقاع هذه المعاملة.

نقول : هذا الذي تقدم كان على مقتضى القاعدة ، وعدم صحة ما ذكر من نصوص على البطلان عند فقهاء السنة.

ص: 149

هذا ، ولكنّ الإمامية تلتزم ببطلان هذه المعاملة إذا كانت على نحو الالزام للنصوص الكثيرة الواردة عن أئمة أهل البيت علیهم السلام الدالّة على بطلان هذه المعاملة إذا كانت على نحو الالزام ، وصحتها إذا كان البنك بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع ، وكذا إذا كان العميل بالخيار إذا شاء اشترى أو إذا شاء لم يشترِ.

والشيعة الإمامية يلتزمون بالبطلان ، لا لما تقدم ذكره عن فقهاء السنة ، وإنّما للنصوص الخاصة في المنع عن هذه المعاملة ، وقد ذكرت بعض الروايات على لسان الرواة : أن هذا قسم من أفراد بيع العينة ، ولكن الحجّة التي نستند إليها هي نهي الأئمة عن هكذا بيع ، سواء سمّاه الأفراد السائلون للأئمّة بيع عينة ، أم لا.

والروايات كثيرة ، منها :

1 - صحيحة معاوية بن عمار قال : قلت للصادق علیه السلام : « يجيئني الرجل فيطلب منّي بيع الحرير وليس عنده منه شيء ، فيقاولني عليه ، واُقاوله في الربح والأجل حتى نجتمع على شيء ، ثمّ أذهب فاشتري له الحرير فأدعوه إليه ، فقال : أرأيت إن وجد بيعاً هو أحبّ إليه ممّا عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك ؟ أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه ؟ قلت : نعم ، قال : فلا بأس » (1).

وهذه الرواية واضحة الدلالة على أن الالزام في هذه المعاملة الثانية يوجد فيها البأس وهو معنى البطلان ، وأمّا إذا كانت المعاملة الثانية خاليةً من الالزام للمشتري وللبائع فلا بأس بها.

2 - صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج قال : « سألت الصادق علیه السلام عن العينة فقلتُ : يأتيني الرجل فيقول : اشترِ المتاع واربح فيه كذا وكذا ، فاُراوضه على الشيء من الربح فنتراضى به ، ثم أنطلق فاشتري المتاع من أجله ، لولا مكانه

ص: 150


1- الوسائل : ج 12 ، ب 8 من أحكام العقود ، ح 7.

لم أرده ، ثم آتيه به فأبيعه ؟ فقال : ما أرى بهذا بأساً لو هلك منه المتاع قبل أن تبيعه إيّاه كان من مالك ، وهذا عليك بالخيار إن شاء اشتراه منك بعد ما تأتيه ، وإن شاء ردّه ، فلستُ أرى به بأساً » (1).

3 - صحيحة منصور بن حازم قال : « قلت للصادق علیه السلام : الرجل يريد أن يتعيّن من الرجل عينة ، فيقول له الرجل : أنا أبصرُ بحاجتي منك فأعطني حتّى اشتري ، فيأخذ الدراهم فيشتري حاجته ثمّ يجيء بها إلى الرجل الذي له المال فيدفعه اليه ، فقال : أليس إن شاء يشتري وان شاء ترك ، وإن شاء البائع باعه وإن شاء لم يبع ؟! قلت : نعم ، قال : لا بأس » (2).

4 - وعن منصور بن حازم أيضاً قال : « سألت الصادق علیه السلام عن رجل طلب من رجل ثوباً بعينة قال : ليس عندي ، هذه دراهم فخذها فاشترِ بها ، فأخذها فاشترى بها ثوباً كما يريد ، ثم جاء به أيشتريه منه؟ فقال : أليس إن ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم ؟ قلت بلى ، قال : إن شاء اشترى ، وإن شاء لم يشترِ ؟ قلت : نعم ، قال : لا بأس » (3).

5 - صحيحة اسماعيل بن عبد الخالق قال : « سألت أبا الحسن علیه السلام عن العينة ، وقلت : إنّ عامّة تجارنا اليوم يعطون العينة ، فأقصّ عليك كيف نعمل ؟ قال : هات ، قلت : يأتينا المساوم يريد المال فيساومنا وليس عندنا متاع ، فيقول : اُربحك ده يازده ، وأقول أنا : ده دوازده ، فلا نزال نتراوض حتى نتراوض على أمر فإذا فرغنا قال : قلت : أيّ متاع أحبّ إليك أن أشتري لك ؟ فيقول : الحرير لأنّه لا يجد شيئاً أقل وضيعةً منه ، فأذهب وقد قاولته من غير

ص: 151


1- وسائل الشيعة 12 : ب 8 من أحكام العقود ، ح 9.
2- المصدر السابق : ح 11.
3- المصدر السابق : ح 12.

مبايعة ، فقال : أليس إن شئت لم تعطه ، وإن شاء لم يأخذ منك ؟ قلتُ : بلى ، قال : فأذهب فاشتري له ذلك الحرير ، واُماكِس بقدر جهدي ، ثم أجيء به الى بيتي فاُبايعه ، فربما ازددتُ عليه القليل على المقاولة ، وربما أعطيته على ما قاولته ، وربما تعاسرنا فلم يكن شيء ، فإذا اشترى مني ... فقال : أليس إنّه لو شاء لم يفعل ولو شئت أنت لم تزد ؟ فقلتُ : بلى لو أنّه هلك فمن مالي قال : لا بأس بهذا إذا أنت لم تعد هذا فلا بأس به » (1).

6 - وعن خالد بن الحجاج قال : « قلت للإمام الصادق علیه السلام : الرجل يجيء فيقول : اشترِ هذا الثوب واُربحك كذا وكذا ، قال : أليس إن شاء ترك ، وإن شاء أخذ ؟! قلت : بلى ، قال : لا بأس به » (2).

وهذه الروايات كلها تفيدنا قاعدة عامّة هي : « لا يجوز مواجبة البيع قبل أن تستوجبه » أي لا يجوز أن نلزم أحداً بالبيع قبل أن نوجب البيع لنا ، وقد ذُكرت هذه القاعدة في رواية ، هي صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « قال أمير المؤمنين علیه السلام ومَنْ وجب له البيع قَبل أن يلزم صاحبه فليبع بعدما شاء » (3).

ولا بأس بالتنبيه الى وجود روايات تصحّح هذه العملية من دون تفصيل بين صورة وجود الالزام وعدمه ولكن بواسطة هذه الروايات المتقدّمة نقيّدها بصورة عدم وجود الالزام. فمن تلك الروايات المطلقة :

1 - عن ابن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس عندك تساومه ، ثم تشتري له نحو الذي طلب ، ثم توجبه على

ص: 152


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 8 من أحكام العقود ، ح 14.
2- المصدر السابق : ح 4.
3- المصدر السابق : ب 3 ، ح 2.

نفسك ، ثم تبيعه منه بعدُ » (1).

2 - وروى عبد الرحمن ابن أبي عبد اللّه قال : « سألت الصادق علیه السلام عن الرجل يأتيني يطلب منّي بيعاً وليس عندي ما يريد أن اُبايعه به إلى السنة أيصلح لي أن أعده حتى أشتري متاعاً فأبيعه منه ؟ قال : نعم » (2).

3 - صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن رجل أتاه رجل فقال : ابتع لي مقاعاً لعلّي أشتريه منك بنقد أو نسيئة ، فابتاعه الرجل من أجله ، قال : ليس به بأس ، إنّما يشتريه منه بعد ما يملكه » (3).

الخلاصة : هذه الروايات الكثيرة تجعلنا نرفع اليد عن القاعدة الأوليّة ، ونقول ببطلان المعاملة إذا كان هناك إلزام من أحد الطرفين للآخر بالنسبة للبيع الثاني الذي يحصل بعد تملّك الأول للسلعة.

وهذه النتيجة المستفادة من الروايات تشمل تعهّد البنك والعميل كلّ منهما للآخر ، وتشمل أيضاً الالزام الذي يأتي من قبل الشرط في ضمن العقد إذا كان الشرط قد أملاه أحدهما على الآخر ، لأنّ هذا الشرط الذي قد نهي عنه في هذه المعاملة يكون شرطاً قد حرّمه اللّه تعالى ، وكلّ شرط قد حرّمه اللّه تعالى لا يجوز اشتراطه في المعاملة ، كما قالت الرواية المتقدّمة : « المسلمون عند شروطهم إلاّ شرطاً خالف كتاب اللّه عزّوجلّ فلا يجوز ».

نعم ، الروايات لا تنظر الى ما إذا أوجب أحد الطرفين العقد الثاني على نفسه بواسطة « حلفٍ أو نذرٍ أو تعهّدٍ لله تعالى » إذا حصلت شروط انعقاد هذه العقود ، ولم تكن حيلة من قبل الطرف الآخر لإلزام الحالف أو الناذر أو

ص: 153


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 8 من أحكام العقود ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 5.
3- المصدر السابق : ح 8.

المتعهد لله تعالى ، بمعنى أن الروايات غير ناظرة إلى الإلزام الذي يأتي من قبل السماء ، وإنّما هي ناظرة إلى الإلزام الذي يأتي من قبل الآخر قبل أن يملك الطرف الآخر السلعة.

الصورة الثانية للمرابحة للآمر بالشراء :

الصورة الثانية (1) للمرابحة للآمر بالشراء :

كما إذا قال العميل للبنك : « اشترِ لي سلعةً كذا بعشرة دراهم نقداً وأنا اشتريها منك بإثني عشر درهماً الى أجل ».

وهذه المعاملة باطلة ؛ لوجود نص صحيح على بطلانها ، وهو صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر علیه السلام ( الإمام الباقر علیه السلام ) قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل أمره نفر ليبتاع لهم بعيراً بنقد ، ويزيدونه فوق ذلك نظرة ، فابتاع لهم بعيراً ومعه بعضهم ، فمنعه أن يأخذ منهم فوق ورقه نظرة » (2).

ومعنى الحديث واضح ، إذ أنّ المشتري كان مأموراً ووكيلا عن جماعة ، فاشترى لهم وعندما يدفع الثمن ، فإنّه يدفع الثمن أيضاً بوكالته عنهم ، وعلى هذا يكون البعير ملكاً للجماعة بذلك النقد ، فإذا دفع الجماعة أكثر من النقد نظرةً فمعناه أنّهم دفعوا للمشتري ( الوكيل ) ثمناً على انتظاره « على قبض ما دفع » وهو الربا.

الصورة الثالثة :

كما إذا قال العميل للبنك : « اشترِ لي سلعةً كذا باثني عشر الى أجل ، وأنا اشتريها منك بعشرة نقداً ».

ص: 154


1- وقد تقدّمت الصورة الاُولى في ص 135.
2- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 3 من أحكام العقود ، ح 1.

وهذه المعاملة حرام أيضاً وإن لم يوجد فيها نص بالخصوص ، لأنّ البنك كان وكيلاً عن العميل في شراء السلعة ، وحينئذ يكون المدين في الحقيقة هو العميل ، ولكنّ العميل دفع عشرةً نقداً إلى البنك في سبيل أن يدفع البنك اثني عشر مؤجلة ، وهذه العملية معناها أن البنك أخذ عشرة من العميل نقداً ورضي أن يسدّد عنه اثنى عشر بعد مدّة ، وهذه هي الزيادة في مقابل الأجل وهي ربا حرام (1).

ونستطيع أن نقول : إنّ الروايات المتقدّمة شاملة للصورة الثانية والثالثة ، إذ أنّ قول العميل للبنك : اشترِ لي هذه السلعة ، بمعنى اشترِ لأجلي هذه السلعة ثم بعها لي بكذا وكذا ، وحينئذ لا يكون أي فرق بين الصورة الاُولى والثانية والثالثة في الروح وإن كان هناك فرق في اُمور اُخر لا تضرّ بالحكم.

الصورة الرابعة :

كما إذا قال العميل للبنك : « اشترِ لي هذه السلعة بكذا وكذا درهم ، وأنا اُقدم لك أجرأ على عملك كذا نقداً » - نتيجة قدرات البنك على جلب السلعة من خارج البلاد - ففي هذه الصورة يكون البنك أجيراً للعميل ، ويكون الشراء للعميل ، والبنك أجيراً عنه ووكيلا ، وبهذا يستحق البنك الاُجرة التي حدّدها العميل ، سواء كانت نقداً أو نسيئة ، وهذه معاملة صحيحة لا إشكال فيها.

الخلاصة :

انتهينا الى بطلان الصورة الاُولى والثانية والثالثة إذا كان البيع الثاني على نحو الإلزام الصادر من الطرف الآخر.

أمّا إذا كان البيع الثاني من غير إلزام على العميل وعلى البنك فهو معاملة

ص: 155


1- كتاب الربا فقهياً واقتصادياً ، للمؤلف.

صحيحة ، وكذا يصحّ البيع الثاني مع الإلزام إذا كان الإلزام سببه حلفاً أو نذراً أو تعهّداً لله تعالى ، من دون أن يكون حيلةً لإلزامه من قبل صاحبه.

أمّا الصورة الرابعة فهي صحيحة ؛ لأنّ البنك أجير في إجراء المعاملة ويأخذ على عمله أجراً ، ولكن لا بأس بالتنبيه الى أنّ السلعة إذا تلفت من دون تفريط في الصورة الرابعة فهي تكون قد تلفت على المشتري الموكَّل ، لأنّ الوكيل أمين لا يضمن من دون تعدٍّ أو تفريط.

هذا ما انتهى إليه البحث ، والحمد لله أولاً وآخراً.

* * *

ص: 156

مشاكل البنوك الاسلامية وأدوات حلّها

اشارة

ص: 157

ص: 158

إنّ البنوك الإسلامية التي تعمل في نطاق بعض الدول الإسلامية - وقد جذبت بعض أموال المسلمين وأدخلتها عملية الاستثمار المفيد للبلد ولصاحب المال والعامل - لا زالت بطيئة السير في اتجاهها الهادف للوصول إلى سوق إسلامية لها أدواتها الشرعية التي تخدم جميع الاطراف المشاركة في العمل والاستثمار ، كما تخدم المجتمع الذي يعيش في ظلها ، فأدواتها الشرعية قليلة ، والربح الذي يحصل عليه من يرتبط بهذه البنوك غير مغر وغير مضمون لأصحاب الأموال ، بخلاف البنوك الربوية التي يكون ربحها مضموناً بالاضافة الى إغرائها صاحب المال ، لذا نجد - كما قالوا - أنّ الاستثمارات العربية الخليجية في الغرب والبنوك الربوية تقدّر بأكثر من سبعمئة مليار دولار ، وهو رقم ضخم إذا قيس بالأموال الاستثمارية في البنوك الإسلامية ، وما ذاك إلاّ لأنّ البنوك الإسلامية لم توفر الأدوات المشروعة الفعّالة بحيث تكوّن لها ما يسمى بسوق « البورصة » التي يدخلها رأس المال الإسلامي ليكون في خدمة الأهداف التنموية ، التي منها تحقّق التوازن في المجتمع الإسلامي.

لذا سوف نبحث في هذا النطاق ، مبينين بعض الأدوات التي يمكن للبنك أن يستخدمها في أعماله الاستثمارية ، مستندين الى نصوص الشريعة الإسلامية ، كما سننبه الى بعض ما اُقرّ في مجمع الفقه الإسلامي وضرورة إعادة النظر فيه ، لوجود الرُخَص التي تبرِّر لنا أن نتبعها أو يتبعها البنك الإسلامي للوصول الى

ص: 159

هدفه المنشود.

وبصورة مجملة فان النظام الإسلامي قد جعل كلاًّ من العمل ، وأدوات الإنتاج ، ورأس المال النقدي ، والأرض ؛ موارد للكسب ولتنمية الثروة ، ولكن لكلّ واحد من هذه الاُمور الأربعة شرطه الخاص في دخوله عملية الاستثمار الشرعية ، فقد جعل العمل حينما يمارس على مادّة غير مملوكة بصورة مسبقة لشخص آخر سبباً في تملّك العامل كل الثروة التي حصل عليها ، ولا تشترك معه في هذه الثروة العناصر الماديّة التي استعملها في عمله ، وهي ملك لغيره ، حيث أن العناصر المادّية هي قوى تخدم الإنسان المنتج ، فقد جُعِلَ لها الاُجرة فقط ، وجعل العمل حينما يمارس على مادّة مملوكة لفرد آخر سبباً في استحقاق الاُجرة أو نسبة من الربح ، وطبعاً تختلف الاُجرة عن النسبة من الربح ، حيث تكون الأجرة محدّدة نوعاً وكمّاً فهي مضمونة بقطع النظر عن نتائج العمل المربحة أو غيرها.

أمّا النسبة من الربح فهي عبارة عن ربط العامل بنتيجة العملية التي يمارسها ، وبهذا يفقد عنصر الضمان على هذه النسبة من الربح حيث لا تكون العملية مربحة ، كما أنّه قد يحصل على نسبة من الربح تفوق الأجر المحدّد بكثير.

وأمّا ادوات الانتاج فهي التي تستعمل خلال عملية الانتاج ، وبواسطتها يستحق صاحبها الأجر فقط.

وأمّا رأس المال التجاري ( النقدي ) الذي منع من ضمانه مع تقاضي الأجر عليه بحيث لا يرتبط بنتائج العملية الاستثمارية ، يتمكن أن يدخل العملية الاستثمارية بنسبة من الربح ويتحمّل الخسارة إن وجدت كما في عقد المضاربة. كما أن صاحب السلع يتمكّن من أن يدخل العملية التجارية بسلعه هذه فيحصل على نسبة من الربح إن وجدت ويتحمّل الخسارة.

أمّا العامل في هذه العملية فهو يتحمّل خسارة عمله إن وجدت. كما أن عقد المزارعة أو المساقاة يمكن إدراجه في السلع التي تدخل عملية المضاربة ولكن إذا

ص: 160

كانت السلعة هي الأرض أو الأرض والبذر - على قول والعمل من الآخر فهي المزارعة ، وإن كانت السلع عبارة عن الاشجار والنخل والعمل من الآخر فهي المساقاة.

أمّا الأرض لوحدها فتتمكن أن تدخل عملية الكسب على أساس الاُجور إذا كانت محياةً وقلنا إنّ المزارعة هي عبارة عن تقديم الأرض مع البذر أو الآلات.

وهناك المشاركة في المال من الجانبين وكذا العمل منهما فتحصل الشركة في الربح بنسبة المال والعمل ، والخسارة أيضاً بنفس النسبة.

ونحن هنا إذ ننتظر من البنوك الإسلامية أن لا تحدد سيرها الاستثماري على النقد وتداوله ، بل ننتظر منها ومن الشركات الإسلامية أن تدخل مجال الاستثمارات بكافة جوانبها ، وتفتح لها شُعباً خاصة تتولّى عمليات الاستثمار الذي يكون بواسطة العمل أو استخدام ادوات الانتاج أو النقد ، أو الأرض ، وحتى المشاركة مع الآخرين بقسط من الثمن والعمل ؛ حتى تكون بعض أعمالها المربحة معينةً لها ، إذا حصل كساد أو خسارة في جانب آخر وأن تصل الى هدفها من خدمة المجتمع الإسلامي بأعمالها الاستثمارية التي يحتاجها المجتمع.

ولهذا فسوف نبحث الأدوات التي يمكن للبنك الإسلامي أو للشركة التابعة له أو المستقلة أن تسلكها فتستثمر المال الفائض لدى الأفراد أو الأدوات أو العمل أو الأرض فتنتفع وتنفع أصحاب المال وتفيد المجتمع الإسلامي الذي يكون بحاجة الى تطوره ورفاهه وأنْ تقطع أيادي المستثمرين والمرابين الذين يضرّون المجتمع الإسلامي على حساب نفعهم الربوي اللاشرعي.

1 - المضاربة الشرعية

اشارة

وهي عملية إشراك المال والعمل في الانتاج ونسبة من الربح لكل منهما.

ص: 161

ولكي تكون المضاربة بدلا عن الربا يحتاج صاحب المال الى ضمان ماله من الضياع والخسارة ، فهل هناك طريق لضمان المال لصاحبه ؟

ضمان ودائع الاستثمار بطرق تتلائم مع أحكام المضاربة الشرعية :

قد يحتاج أصحاب الودائع التي توضع في البنوك الإسلامية على أساس المضاربة الشرعية الى عنصر الاطمئنان على أموالهم من الضياع ، ليكون عاملا مشجِّعاً للركون إلى المضاربة وترك الربا الذي يكون رأس المال فيه مضموناً لدى البنوك الربوية ، فهل هناك طريقة لاطمئنانهم على أموالهم في حالة الخسارة ؟

الجواب : أنّ عملية المضاربة في البنوك الإسلامية تكون على أقسام :

القسم الأول : أن يكون المضارَب هو نفس البنك.

القسم الثاني : أن يكون المضارَب هو جماعة من التجار يكون البنك وسيطاً بينهم وبين أصحاب الأموال.

القسم الثالث : أن يكون المضارَب هو جماعة من التجار بما فيهم البنك.

ففي القسم الأول يكون مقتضى القاعدة الأولية جواز جعل المال على عهدة البنك بعقد مستقل ، أو بشرط في ضمن عقد بنحو ( شرط النتيجة ) (1)قد يقال: إنّ هذا الاستدلال غير صحيح، لأن حديث المسلمون عند شروطهم مقيد بجملة «إلا شرطاً خالف كتاب اللّه، أو إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» وعلى هذا فالشرط الذي هو عبارة عن تحصيل الغاية كالهبة والملكية من دون إنشاء أو أن الغاية إذا كانت عبارة عن الملكية بدون عوض ولا مجاناً وانما بالشرط فهل يكون هذا مخالفاً للكتاب والسنة أم لا؟ وعلى هذا فلا يمكن التمسك ب- «المسلمون عند شروطهم»، لأنه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لعنوان المخصص. وقد أجاب الشيخ الأنصاري قدس سره عن هذا الاشكال وخلاصته امكان اخراج المشكوك عن عنوان المخصص بواسطة الاصل العملي، وتقريب ذلك: أنّ الهبة والملكية بدون انشاء - مثلاً - كان غير مخالف للكتاب والسنة ولو قبل الكتاب والسنة ، والآن لا نعلم أنّه مخالف للكتاب والسنة ام لا ، فنستصحب عدم المخالفة ، فالشرط في ضمن العقد « وهو أن يكون هذا ملكي بدون انشاء في عقد ما مثلاً » وجداني ، وكونه غير مخالف بالأصل ، فالموضوع محرز.

وقد أشكل جماعة على الشيخ الأنصاري : بأن الاستصحاب غير صحيح؛ وذلك لأن الحالة السابقة هي سالبة بانتفاء الموضوع، بمعنى أن الشرط حينما كان غير مخالف للكتاب والسنة لم يكن الشرط موجوداً، ولكن موضوع وجوب الوفاء هو سالبة بانتفاء المحمول (السالبة المحصلة) بمعنى وجود الشرط وعدم مخالفته للكتاب والسنة، وهذه السالبة المحصلة ليست لها حالة سابقة، وحينئذ إذا أردنا استصحاب السالبة بانتفاء الموضوع لاثبات السالبة بانتفاء المحمول يكون أصلاً مثبتاً.

وقد ردّ الشيخ النائيني قدس سره هذا الاشكال بما لا يسع المقام لذكره في مثل هذه الإبحاث، فنكتفي بهذا.(2) او شرط

ص: 162


1- (1) المراد من شرط النتيجة هنا الذي يحكم بصحته هو تحصيل الغاية التي لا يشترط في ايجادها سبب خاص - كالنكاح والطلاق الذي اشترط الشارع فيهما صيغة خاصة - مثل الوصية والوكالة ، كما إذا زوجت المرأة نفسها للزوج بشرط أن تكون وكيلة ومأذونة في طلاق نفسها مطلقاً أو في موارد خاصة كحبس الزوج مدّة معينة ، فالمشروط هنا هو نفس الوكالة ، وكذا إذا اشترطت أن تكون وصية الزوج بالنسبة لثلث ماله أو على اطفاله وكذا إذا اشترط شخص في هبته سقوط الخيار في النكاح ، فهذه الشروط التي هي « شروط نتيجة » هي شروط صحيحة ووردت فيها نصوص شرعية : 1- رواية الحلبي في الباب 6 من الخيار حديث 4، ج 12 من الوسائل ص 353. ورواية موسى بن بكر الباب 30 من أبواب احكام الاجارة : ج 13، ص 277 من الوسائل، ح 5. 2 - رواية معاوية بن ميسرة باب 8 من الخيار حديث 3، ج 12 من الوسائل: ص 355، ورواية يعقوب بن شعيب باب 29 من أحكام الاجارة حديث 15، ج 13، ص 275. 3 - صحيحة سليمان بن خالد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «سألته عن رجل كان له أب مملوك وكانت لابيه امرأة مكاتبة قد أدت بعض ما عليها فقال لها ابن العبد: هل لك أن أعينك في مكاتبتك حتى تؤدي ما عليك بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي إذا أنت ملكت نفسك؟ قالت: نعم، فأعطاها في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار عليه بعد ذلك، قال: لا يكون لها الخيار، المسلمون عند شروطهم». وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 11 من المكابتة ، ح 1. ولكن هذه الأدلّة قد يقال: إنها مختصة بهذه الامثلة التي جاء الدليل الخاص على عدم احتياجها الى سبب خاص، وحينئذ تبقى عندنا غايات نشك في اعتبار سبب خاص لها شرعاً، فهل تصح إذا اشترطت على نحو شرط النتيجة؟ الجواب: قد يستدل لصحة شرط النتيجة بالمعتبرة «المسلمون عند شروطهم» لأنها تشمل الشرط إذا كان فعلاً أو كان الفعل مترتباً على الشرط، كما إذا اشتريت بيتاً بشرط أن تكون الثلاجة المعينة هبة لي. فالمسلمون عند شروطهم يقول: ادفع الثلاجة الى فلان، وهو معنى صحة شرط النتيجة
2- ، وعلى هذا فالمسلمون عند شروطهم يشمل المشروط الذي يكون حصوله وإنشاؤه بغير الشرط صحيحاً، وبالشرط لازماً. كما قد يستدل على صحة شرط النتيجة ب- «أوفوا بالعقود» لأن البيع الذي شرط فيه ملكية الثلاجة المعينة معناه الالتزام بأصل المعاملة والالتزام بالأمر الوضعي، وبما أن الشرط قد دخل تحت عنوان العقد فاوفوا بالعقود يقول: في بالعقد والشرط، فيكون الشرط صحيحاً. (*)

ص: 163

الفعل ، لما دلّ على نفوذ الشرط والوفاء بالعقد.

ولكن دلّ الدليل في عقد المضاربة بالخصوص على أنَّ الضمان إذا فرض على عامل المضاربة ( البنك أو الشركة ) فهو يستوجب حرمان المالك من الربح ، وتتحوّل العملية من مضاربة الى عقد قرض من صاحب المال إلى البنك أو الشركة ، والدليل هو الروايات ، ففي صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « إنّ أمير المؤمنين علیه السلام قال : من اتجر مالاً واشترط نصف الربح فليس عليه الضمان ... ، وقال : مَنْ ضمن تاجراً فليس له إلاّ رأس ماله وليس له من الربح شيء » (1).

ومن هذه الرواية نفهم أن ضمان المال عرفاً لا يجتمع مع استحقاق المالك لشيء من الربح شرعاً ، فالضمان يكون سبباً شرعياً لعدم استحقاق المالك لشيء من الربح ، واستحقاق المالك للربح يكون سبباً لعدم الضمان على العامل في صورة الخسارة ، وهذا معناه التنافي بين الأمرين شرعاً بالنظر العرفي.

ولكن لأجل اعطاء الضمان لأصحاب الأموال كأمر ضروري لسحب الأموال من البنوك الربوية إلى الإسلامية يتمكن البنك أنْ يطلب من بنك آخر

ص: 164


1- وسائل الشيعة: ج13 ، ب3 من المضاربة ، ح2 و ب4 من المضاربة ح1 و ح2.

ضمان أموال التجار الذين يتعاملون معه في صورة الخسارة ، لقاء ضمانه هو عمليات المضاربة التي يقوم بها البنك الآخر المساويه لعمليات مضاربته ، وهذا البنك الثاني ليس طرفاً في عملية المضاربة ، وممّا لا اشكال فيه أنَّ غير الطرفين في عقد المضاربة يصح له أن يضمن خسارة أصحاب المال بعقد مستقل أو بنحو شرط النتيجة أو شرط الفعل في عقد آخر. وهناك طريقة أيسر من هذه وهي اشتراط تعويض البنك من أمواله الخاصة ما يعادل مقدار الخسارة ، وهو أمر آخر غير تضمين العامل ، وقد أفتى الإمام الخوئي بجواز ذلك (1).

وبهذا التكييف أيضاً يصح ضمان أموال المستثمرين في القسم الثالث الذي يكون البنك واحداً منهم.

أمّا القسم الثاني - الذي يكون البنك فيه وسيطاً بين التجار وأصحاب الأموال - فقد اتّضح امكان أن يقوم الطرف الثالث ( البنك أو الشركة الاستثمارية ) في ضمان أموال المودعين بعقد مستقل أو بنحو شرط النتيجة أو الفعل ، ولا دليل على بطلان ذلك ، لأنّ ما لا يجوز : عبارة عن ضمان العامل رأس المال ، وما هو ضامن هنا ليس هو العامل ، بل هو طرف وسيط بين المودعين والعمال المستثمرين وهو البنك.

وفي هذا القسم الثاني - الذي يكون البنك فيه وسيطاً - يتوجّه اشكال حاصله :

إذا قبلنا أنَّ البنك هو طرف اجنبي عن المضاربة حتى يتمكن أن يضمن مال المستثمرين ، فبماذا نكيّف النسبة التي يأخذها البنك من المضاربة مع أنّه ليس مضارباً مع المستثمرين ؟

الجواب : قد يقال : إنّ النسبة من الربح التي يأخذها البنك كوسيط هي اُجرة

ص: 165


1- راجع منهاج الصالحين : ج 2 ، 125 ، مسألة (568).

من قبل المودعين على عمله الذي هو عبارة عن إنجاز المضاربة والإشراف عليها ، ولكن يقف في وجه هذا التكييف أمران :

الأمر الأول : أنّ هذه الاُجرة مجهولة من حيث القدر ، وقد لا تحصل في وقت ما ، وقد اشترط الفقهاء في الاُجرة أن تكون معلومة.

الثاني : أنّ الاُجرة يملكها الأجير بنفس عقد الاجارة ، أمّا في المقام فالنسبة المئويّة من الربح المفترض هو شيء سوف يملكه في المستقبل ، وهو يتنافى مع الاُجرة.

والصحيح ما ذكره الشهيد الصدر قدس سره بأنّ هذه النسبة يمكن أن تكون جعالة ، يجعلها المستثمر للبنك إذا أنجز المعاملة وواصل الإشراف عليها الى حين انتهائها ، وهذه الجعالة وإن كانت مجهولةً فهي لا تضرّ بالجعالة ، والجُعْل المقرر في باب الجعالة لا يكون مملوكاً حين إنشاء الجعالة ، بل بعد إنجاز العمل المفروض ، وقد افترضنا في الجعالة أنّ البنك يملك النسبة من الربح إذا انجز المعاملة وأشرف عليها الى نهايتها (1).

وقد وردت روايات تصحح أن يكون الجعل جزءاً من الثمن على تقدير زيادة الثمن على حدٍّ معين ، وهذه الزيادة مجهولة ، وهي غير مملوكة حين الجعل ، وإنّما تكون مملوكة في ظرف انجاز المعاملة ، فمن هذه الروايات :

1 - عن محمد بن مسلم عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال في رجل قال لرجل : « بع ثوبي هذا بعشرة دراهم فما فضل فهو لك قال علیه السلام : ليس به بأس » (2).

2 - عن زرارة قال : قلت للإمام الصادق علیه السلام : « ما تقول في رجل يعطي المتاع فيقول : ما ازددت على كذا وكذا فهو لك ؟ قال علیه السلام : لا بأس » (3).

ص: 166


1- البنك اللاربوي في الإسلام : ص 206.
2- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 10 من أبواب أحكام العقود ، ح 1.
3- المصدر السابق : ح 2.

وهاتان الروايتان تجوّزان الحصّة التي يجعلها المستثمر للبنك « وإن كانت مجهولة وغير مملوكة حين الجعل » بشرط انجاز عملية المضاربة والاشراف عليها الى نهايتها.

وقد ذكر الفقهاء تخريجين آخرين :

أحدهما : إمكان أن تكون هذه النسبة من قبل المستثمر للبنك على أساس ( شرط النتيجة ) في عقد ما ، بأن يشترط البنك على المودِع والعامل أن يكونا مالكَيْن لحصة معينة من الربح على تقدير ظهوره.

وقد يستشكل على هذا التكييف بإشكالين :

الأول : أنّ هذا تمليك للبنك معلّق على ظهور الربح.

الثاني : أنّ المودِع والعامل المملِّكين غير مالكين بالفعل للربح ، فكيف ينفذ تمليكهما لغيرهما ؟

ولكن يجاب عن الإشكال الأول بعدم المانع من تمليك البنك حصّةً من الربح على تقدير ظهوره ودخوله في ملك المملِّك ، فإنّ التمليك أمر اعتباري يُنشأ ويقصد.

وقد تقدّمت الروايات التي جوّزت تمليك صاحب السلعة ما زاد عن قدر معين إن باعها بأكثر.

ويجاب عن الاشكال الثاني : بأنّ المعتبر في نفوذ التمليك من فرد لآخر أن يكون مالكاً لما يملِّكه في ظرف التمليك المجعول ، لا ظرف الجعل والانشاء للملكية.

ثانيهما : يمكن أن نتصور أن البنك يشترط على أطراف عقد المضاربة أن يملِّكوه نسبةً من الربح على تقدير ظهوره ، وهذا ما يسمى بشرط الفعل ، وهو لا إشكال فيه.

هل يتمكّن المضارِب من تداول سهمه في عملية المضاربة ؟

إنّ سهم المضارب الذي يمثّل ملكيةً مشاعةً من الربح في مشروع المضاربة

ص: 167

مع أصل المال الذي تحوّل في هذه العملية الى اعيان وسلع ، أو بعض أصل المال. إذا كان المشروع فيه عدّة مستثمرين - هل يتمكن صاحب هذا السهم أن يربح من ماله الذي قدّمه الى عملية المضاربة بتداوله بالبيع والرهن والهبة والصدقة والاجارة ( إذا كان المشروع دائمياً ) والوقف وما الى ذلك من عقود صحيحة شرعية ؟

الجواب : أنّ هذا التداول على السهم المشاع جائز بشرط أن يكون البائع والمشتري والمستأجر مطَّلِعِين على معلومية رأس المال وتوزيع الربح وكمية العمل الذي حصل في المشروع والنهاية التي تحدّد له ، وكل شيء له دخل في المشروع المضارَب فيه.

وعلى هذا نتمكن أن نصدِّر سهاماً متساويةً للمضاربين المشتركين في عملية المضاربة ، وهذه السهام تحكي عن شركة كل واحد في أعيان الشركة بنسبة معينة ، ولها حصة من الربح إن ظهر. ويمكن تداول هذه السهام بالبيع والشراء والاجارة بعد أن تبدَّل السهام من نقود الى سلع خارجية ، ولا يمكن أن تعامل هذه السهام معاملة النقد ، لأنّها في حقيقتها بعد عمل الشركة قد تحوّلت الى سلع خارجية مشتركة بين المستثمرين على سبيل الإشاعة.

أمّا إذا كانت السهام عبارةً عن أوراق نقدية غير محوّلة الى أعيان فيجوز بيعها بنقد آخر نقداً أو نسيئةً ؛ لأنّنا لا نعتبر وجوب التقابض في صرف الأوراق النقدية ، لعدم الدليل على ذلك ، كما بيّنا ذلك في بحث « تعلّق الزكاة بالأوراق المالية ».

وأمّا بيعها بنفس النقد فيشترط فيه التساوي ؛ لأنّنا ننظر الى هذه العملية على أساس أنّها قرض بالنظر العرفي.

وأمّا العامل فهو - أيضاً - يتمكّن من أن يبيع حصّته من شركة المضاربة بعد أن عمل في المشروع شيئاً ما وربح فيه ، لأنَّ حصّة العامل تكون مشاعةً في الأعيان والأوراق النقدية الموجودة والديون التي على المشروع ، فحينئذ يتمكن من بيع

ص: 168

هذه الحصّة بعد معرفة المشتري ما عمله العامل وما تبقّى من العمل عليه حتى يتكفله المشتري إذا اشترى حصة العامل التي يستحقها. ولكنّ هذا الجواز مشروط بعدم كون عامل المضاربة قد اشتُرط عليه أن يكمل العمل الى نهايته بنفسه اشرة.

سحب المضارِب لما أودعه في عملية الاستثمار :

هل يتمكن المضارب من سحب ما أودعه في عملية الاستثمار أثناء العملية الاستثمارية إذا تعرّض لظروف صعبة جعلته محتاجاً إلى المال ؟

الجواب : يمكن للبنك أن يعلن من الأول عن مشروع مضاربة قد تمّ إنجازه وبدأ العمل به ، وعن استعداده لاستقبال مساهمين جدد على الاحتياط ، يتم ادخال السابق منهم في عملية المضاربة إذا أراد أحد المساهمين أن يخرج من هذه العملية بسحب ما أودعه في العملية الاستثمارية.

وبهذا يتمكن البنك من تنفيذ رغبات مودعيه في أي وقت أرادوا ، بشرط وجود المستثمر الاحتياطي ورغبته في المشاركة بعد أن تمّ المشروع وبدأ العمل به.

كما يمكن للبنك أن يتقدّم هو فيدفع من احتياطيّه السائل الى من يرغب في ردّ ما أودعه ، فيكون البنك هو المساهم الجديد بدل المساهم القديم.

كما يمكن للبنك أن يعلن أيضاً عن استعداده لردّ بعض ما استودِع في عملية الاستثمار بشرط أن يحسب الربح للمودِع على الموجود عنده في الوديعة الاستثمارية الى نهاية العمل ، وبهذا يكون ما سحبه المودِع قد اشتراه البنك ، فيكون ربحه للبنك ، وهو عمل جائز حيث يكيّف على أساس أن صاحب السهم إذا احتاج الى نصف وديعته الأوليّة فالبنك يشتري نصف سهمه الذي تحول الى سلع في العملية بنصف ما أودعه أولاً ، وبهذا سوف يستحق المستثمر نصف سهم مع نصف ربح السهم ، وهذا ما درجت عليه البنوك في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الودائع الاستثمارية.

ص: 169

هل بامكان البنك أن يضمن للمودِع نسبةً معيّنةً من الربح ؟

واجهنا فيما سبق مشكلة أن المودِع يحتاج الى من يضمن رأس ماله من الخسارة ، ولكن هنا نريد أن نوجد وجهاً لضمان نسبة معينة من الربح للمودِع حتى يطمئن على ربحه ، كما كان يطمئن عندما يضع أمواله في البنوك الربوية ، فهل هنا وجه فقهيّ لهذا الضمان ؟

الجواب : أنّ البنك بما أنّه وسيط في عملية المضاربة وله إشراف عليها يتمكن بواسطة إشرافه أن يقيّد المعاملات التي يقوم بها التجار المستثمرون بقيود بحيث يطمئن بحصول كمية معيّنة من الربح على أقل تقدير ، ولِهذا سوف يقدّم على أساس ذلك بضمان هذا المقدار المعيّن الى أصحاب الدوائع.

وتوضيح ذلك : أنّ البنك يتمكن - بما أنّه واسطة - أن يجعل تعامل التجار مع الدولة أو بعض الشركات العامّة بصورة بيع مرابحة ، ولهذا فسوف يكون الربح محدّداً من الأول وبصورة واضحة ، بمعنى أنّه يبحث عن مُشترين لما يقوم به من عمليات تجارية ويتواعد معهم وعداً ملزماً بالشراء من التجار بصورة بيع المرابحة ، ولا يكون هذا من قبيل بيع ما لا يملك ، بل هو الزام للطرف الآخر بالشراء من أشخاص معينين مرابحة ، فهو تكليف شرعي بالشراء من الملاّك الحقيقيين للمال نشأ من الشرط الملِزم في عقد آخر أو من التعهد الذي قام به الطرف مع البنك.

وكذا يمكن أن تبيع الشركة أو البنك سلعها بيعاً آجلا بربح معين مضمون وتتفق مع المشترين لتلزمهم بذلك في عقد آخر أو على نحو شرط النتيجة أو الفعل.

وعلى هذا يتمكن البنك أن يقدم على ضمان ربح معين إلى المودِع ، ويسلمه إياه في أيّ وقت أراد بعد انتهاء عقد شركة المضاربة ، ثم ينظر البنك الى نتيجة عملية المضاربة ، فإن كانت قد حصلت على أقلّ نسبة من الربح فهو ، وإذا كانت النسبة الربحية أكثر من ذلك فيقوم البنك بإبلاغ المودِع بحصول ربح أكثر من الّذي ضمنه البنك وسلّمه له ، وهذا هو الذي درجت عليه بنوك الجمهورية الإسلامية في إيران بعد

ص: 170

نجاح الثورة الإسلامية وتحويل البنوك من كونها ربوية الى بنوك بعيدة عن الربا.

2 - الوساطة في الإجارة والضمان

اشارة

وإذا انتهينا الى أن البنك يتمكّن من أن يحصل على نسبة من الربح في عقد المضاربة بين المودعين والمستثمرين على أساس أنّه وسيط بينهما لإجراء المضاربة والاشراف عليها ، فهل له حقّ في أن يكون وسيطاً في عقد اجارة أو وسيطاً في عقد ضمان كمية من المال لآخر ويأخذ نسبة من المال على هذه الوساطة ؟

الجواب : أمّا بالنسبة للوساطة في الاجارة فلا إشكال في جوازها وأخذ نسبته من كميّة الايجار بعنوان الأجر على عمل إذا قام البنك في هذه الوساطة التي تستتبع عملاً للتقريب بين الملاّك والمستأجرين ، وهذا هو ما يقوم به الوسطاء والسماسرة بين المتبايعين وأصحاب الملك والمستأجرين ، ولا مانع من أن تكون هذه الاُجرة نسبةً من الكمية المعينة في متن العقد ؛ لأنّها معلومة وتملك في نفس إنشاء الإيجار.

وأمّا بالنسبة للوساطة في الضمان : فإن كان معناها قيام البنك باجراء عدّة عمليات لتوثيق الضمان الذي يقوم به فرد لآخر أو يقوم به هو لآخر وجعله من الناحية القانونية صحيحاً ونافذاً فلا بأس بأخذ الاُجرة أو الجعالة على هذه الوساطة التي استتبعت عملاً. وإن كان معنى الوساطة في الضمان هو أن يقوم البنك بضمان ما في ذمّة فرد آخر بحيث ينتقل المال من ذمّة الفرد الآخر الى ذمّة البنك أو بمعنى أن تضم ذمة البنك الى ذمة المدين أو بمعنى أن يتعهد البنك بالتسديد إلى الدائن عند تعذر تسديد الثمن إليه من قبل المدين فإن هذه العملية عبارة عن إقراض المضمون والدفع إلى المضمون له إمّا مطلقاً أو في حالة عدم الدفع ، وهذا العمل من البنك ليست له ماليةً غير مالية نفس المال المعطى إلى المضمون له أو المتعهد به ، وهذا المال المعطى أو المتعهد به هو مضمون على المضمون عنه ، فلا يتمكن الضامن

ص: 171

أن يأخذ أجراً على هذا الفعل الذي هو إنشاء الضمان ، لأنّ هذا ليس عملاً ( يمكن أن تكون في مقابله اُجرة أو جعل ) عرفاً وارتكازاً لأن العرف والارتكاز العقلائي يقول بأن الأجر أو الجعل إنّما يكون على عمل يستحقّ أجراً أو جعلا ، كالحلاقة والخياطة والتجارة ... ، أمّا هنا فإنّ هذا العمل مجرد انشاء عقد الضمان بحكم الارتكاز العقلائي ليس له أجر بحيث يصح جعل الاُجرة أو الجعالة في مقابله (1).

نعم ، هناك مالية لنفس المال المضمون ، وهذا المال المضمون يجب دفعه إلى البنك إذا قام هو بعملية الضمان ( ضمان الغرامة ) وحينئذ لا يستحق شيئاً زائداً على هذا المال الذي ضمنه ودفعه إلى المضمون له بحجة أنّه قام بعملية الضمان.

3 - المزارعة

إنّ من أدوات البنوك الإسلامية المربحة والنافعة للمجتمع الإسلامي : عقد المزارعة التي شرّعها الإسلام كأسلوب لتنظيم شركة معيّنة بين صاحب الأرض والزارع يتعهد بموجبه الزارع بزرع الأرض ويقاسم صاحب الأرض الناتج الذي يسفر عنه العمل ويحدد نصيب كل منهما بنسبة مئويّة من مجموع الناتج ، ونحن بدورنا نحث البنوك والشركات الإسلامية إلى دخول هذا المجال الاستثماري إمّا بتهيئة الأرض واحيائها ودفعها إلى الزارع بعقد المزارعة ، وإمّا باستلام الأرض المحياة ومباشرة مزارعتها بعهدة البنك الذي يستأجر من يقوم بالعملية الى نهايتها باشراف من البنك أو شعبة منه ، وندين البنوك الإسلامية التي تتوقف اعمالها على مزاولة النقد أخذاً وعطاءً وتطالب بادوات شرعية لها بحيث تحصل على الربح من دون مباشرة عمل استثماري حقيقي للمال ينتفع به العامل والمجتمع وصاحب المال ،

ص: 172


1- نعم ، إذا صاحبَ هذا الإنشاء عمل يقوم به الضامن ( كذهاب إلى البنك وحضور في مكان معين مدة من الزمن وسلوك طريق وأمثال هذه الأمور ) فيتمكن أن يأخذ أجراً على العمل المصاحب لإنشاء الضمان.

فإن الإسلام كنظام للحياة شرّع للنقد مجالا استثمارياً محدّداً وشرع للعمل مع المال مجالا آخر ، كما شرع للعمل لوحده مجاله الاستثماري ، كما شرّع لأدوات الانتاج مجالها في دخول الاستثمار ، فكيف نطالب الإسلام كمنظم للحياة البشرية بايجاد أدوات ربحية تنتج من مزاولة النقد فقط ، وننسى جوانب الإسلام التي شرعها لتنظيم حياة المجتمع والفرد ؟!

نعود إلى شركة المزارعة ، فقد قال الشيخ الطوسي قدس سره في كتاب الخلاف : « لا يجوز أن يعطي - صاحب الأرض - الأرض غيره ببعض ما يخرج منها ، بأن يكون منه الأرض والبذر ومن المتقبّل ( العامل ) القيام بها بالزراعة والسقي ومراعاتها » (1).

وقال ابن قدامة يقول : « ظاهر المذهب أن المزارعة إنّما تقع إذا كان البذر من رب الأرض والعمل من العامل ، نصّ عليه أحمد في رواية جماعة ، واختاره عامّة الأصحاب ، وهو مذهب ابن سيرين والشافعي واسحاق » (2).

ومن هذين النصين لفقيهين من فقهاء الإسلام يفهم أنَّ من غير المشروع إنجاز عقد المزارعة بمجرّد تقديم صاحب الأرض لأرضه وتكليف العامل بالعمل والبذر معاً ، لأنّ مساهمة صاحب الأرض بالبذر اُخذت شرطاً أساسياً لتحقّق المزارعة في النص السابق.

ولم تعدم النصوص من من تأييد هذين النصين ، فقد ورد في صحيحة الحسن

ص: 173


1- الخلاف : ج 1 ، ص 705 ، وهناك قول آخر في المزارعة ، يجوّزها أيضاً في صورة كون الأرض فقط من أحدهما والعمل والبذر والعوامل من الآخر كما هو مروي عن النبي صلی اللّه علیه و آله حينماعامل أهل خيبر ( الزرع والنخل ) فلم ينقل في النصوص أن النبي صلی اللّه علیه و آله قدم لهم بذراً ، وكذا تظهر هذه الصورة من النصوص التي سنذكرها فيما بعد ، راجع الوسائل : ج 13 ، ب 8 من المزارعة والمساقاة ، الأحاديث ، وأكثرها صحيحة السند.
2- المغني : ج 5 ، ص 348.

بن محبوب عن ابراهيم الكرخي قال : « قلت للصادق علیه السلام : اُشارك العلج ( المشرك ) فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر ويكون على العلج القيام والسقي ( السعي ) والعمل في الزرع حتى يصير حنطة أو شعيراً ، وتكون القسمة ، فيأخذ السلطان حقّه ويبقى ما بقي على أنّ للعلج منه الثلث ولي الباقي ، قال : لا بأس بذلك ، قلت : فلي عليه أن يردّ عليّ ممّا أخرجت الأرض البذر ويقسّم ما بقي؟ قال : إنّما شاركته على أنّ البذر من عندك وعليه السقي والقيام » (1).

وبعد أن عرفنا مشروعية المزارعة وشرطها الأساسي نأتي إلى البحث عن عملية إمكان أن يُزارع المزارع غيره بحصّة أعلى من الحصة التي كانت عليه لمالك الأرض ، فهل بالإمكان ذلك ؟

نقول : نعم ، لقد وردت النصوص الشرعية في جواز هذه العملية ، منها : رواية الحلبي قال : « قلت للصادق علیه السلام أتقبّل الأرض بالثلث أو الربع ، فأقبلها بالنصف ؟ قال علیه السلام : لا بأس. قلت : فاتقبلها بألف درهم ، واقبلها بالفين ؟ قال : لا يجوز. قلت : لِمَ. قال : لأنّ هذا مضمون وذاك غير مضمون » (2).

وهذا النصّ يبيّن أنّ العامل في المزارعة يجوز له أن يعطي الأرض لعامل آخر يباشر زراعتها على أن يدفع له أقل من النسبة التي يستحقّها بمزارعته مع مالك الأرض ، وحينئذ يحتفظ العامل الأول بالفرق بين النسبتين بخلاف الاجارة ، فإنّ هذا العمل لا يجوز إلاّ أن يعمل عملاً في العين المستأجرة وإن كان أرضاً بحيث تكون الزيادة في مقابل عمله.

وهذا الفرق بين العمليتين قد علّله النص بقوله : « إنّ هذا مضمون وذاك غير مضمون » بمعنى أن الاُجرة في عقد الإجارة مضمونة لصاحب الأرض ، فإن أراد المستأجر أن يؤجرها بأكثر ممّا استأجرها فقد ضمنت له الأجرة أيضاً بنفس العقد

ص: 174


1- وسائل الشعية : ج 13 ، ب 10 من المزارعة ، ح 1.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 21 من الاجارة ، ح 1.

وحصل على الفارق بين الاُجرتين بنفس العقدين من دون عمل يبرر هذه الزيادة في الشريعة الإسلامية ، وهي لا تقرّ كسباً مضموناً بدون عمل.

أمّا في المزارعة فإنّ العامل ومالك الأرض لا يملك الحصّة بنفس العقد ، فإذا أراد العامل أن يزارع الأرض لعامل آخر فهو أيضاً لا يملك الحصة التي اتّفق عليها مع المزارع الثاني ، وما دام لا يملك حصته حين العقد فلا ضرورة في وجود عمل يسبق العقد الثاني.

وعلى هذا الذي تقدم يتمكن البنك الإسلامي أن يقدّم أرضاً محياة مع بذر الى عدّة عمال بحصة من الحاصل ، وكذا يتمكن أن يدخل في عملية المزارعة على أن يكون العمل منه ، فيتكفل به ويشرف عليه ويرعاه ويحصل على النسبة ويستأجر عمالاً للقيام بالعمل ، فإنّ في هذا العمل نفعاً عاماً حيث يستفيد العامل بحصوله على الاجرة ويستفيد المجتمع من الزرع الذي إذا كثر حصل الرخاء للجميع كما يستفيد صاحب الأرض الذي قدّم البذر. كما يمكن للبنك أن يكون هو مع مجموعة من العمال هم طرف في المزارعة لتكون الحصة لهم يقسمونها حسب رأيهم ، وبهذا يتخلّص البنك من احتمال خسارته نقداً بالاضافة الى عمله ( اشرافه على عملية المزارعة ورعايته لها وتوجيهها ) بواسطة وكلائه أو عماله.

4 - المساقاة

وهو عقد يشبه المزارعة إذ هو اتفاق بين طرفين أحدهما يكون منه البستان وما يحتاج اليه ممّا يرجع الى تحسين الثمر كالتسميد ، ويكون من الآخر ممارسة العمل الذي يؤتي بالثمار بنسبة معلومة فيها. وقد دلّ على هذا العقد جملة من النصوص منها صحيحة الحلبي قال : « اخبرني الإمام الصادق علیه السلام أنَّ أباه علیه السلام حدثه أنَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعطى خيبر بالنصف أرضها ونخلها » وغيرها من

ص: 175

الروايات الصحيحة.

وهذه أداة من أدوات البنك الإسلامي والشركات الإسلامية التي تريد الابتعاد عن الربا والاهتمام بالاستثمار الشرعي للمال الذي يخدم الأمة الإسلامية ، فهي عملية اشتراك العمل المباشر من العامل مع العمل المخزون على شكل بستان فيه شجر ونخل للوصول الى ربح مشروع ينتفع به كل من العامل وصاحب العمل المختزن والمجتمع الإسلامي الذي ينشد الرفاه في ظل النظام الإسلامي ، وهنا البنك أو الشركة تتمكن أن تكون هي صاحبة البستان فتساقي العمال على حصة من الحاصل ، كما تتمكن أن تهيء العمال اللذين يكون البنك مشرفاً عليهم ومرشداً لهم وعاملا معهم على أن يكون البستان من غيرهم.

ونحن إذ نشجع البنوك على دخول هذه الاستثمارات التي تنفع المجتمع وتحرك عجلة الاقتصاد في نفع العمال وتوفير ما يلزم من رفاه للجميع ، ندين الوقوف على عمليات شرعية صورية لا يكون الطرفان لهما قصد حقيقي لما يجري على الورق من بيع أو شراء أو مشاركة أو مبادلة ، بل القصد الحقيقي لهم هو أخذ مال ( ورق نقدي ) ودفع أكثر منه ، فإنَّ في هذه العمليات الصورية - كما يجري في بيع المرابحة لدى البنك - يكشف الوجه الحقيقي لأصحاب البنوك من الحصول على ربح لعملائهم من دون نظر الى حصول الرفاه للمجتمع الذي هو بحاجة الى اشراك العمل في توفير ما يحتاجه المجتمع ليسد حاجة الأمة وتعتمد الأمة على نفسها في ذلك بدلا من الاعتماد على الاستيراد في أكثر ما يحتاج إليه من الفواكه والخضر والحبوبات.

5 - إعادة التأجير لمالك العين المستأجرة أو لغيره وإجارة خدمات الأشخاص وإعادة تأجيرها

ممّا لا اشكال فيه بين الفقهاء جواز أن يستأجر أحدٌ أحد أدوات الانتاج أو

ص: 176

الاعيان التي فيها نفع للمستأجر من غيره ، يستخدمها فيما فيه نفع له ، وقد جوّز أكثر الفقهاء استئجار الأرض بأجرة معيّنة من صاحبها الذي يملكها أو له حقّ فيها ، خلافاً لبعض الصحابة ومن تبعهم الذين انكروا جواز اجارة الأرض.

كما يجوز أن نستأجر عاملا للبناء أو للخياطة أو للبيع ... فإذا أنجز الأجير مهمته وجب على من استأجره دفع الأجرة المحددة له ، وهذا واضح.

ولكن إذا ملك المستأجر منفعة الآلة أو منفعة الأرض أو الدار أو منفعة عمل العامل ، فهل يتمكن أن يؤجر هذه المنفعة للمالك أو غيره ؟

الجواب : إنَّ ايجار الآلة أو الدار أو الأرض أو العمل يتصور على انحاء :

1 - الايجار بنفس الأجرة السابقة.

2 - الايجار بأنقص من الأجرة السابقة.

3 - الايجار بأزيد من الأجرة السابقة مع عمل للمستأجر الأول في الآلة ( كإصلاحها ) أو الدار ( كترميمها ) أو الأرض بحرثها أو تسميدها ، أو عمل المستأجر الأول في الثوب بتفصيله مثلاً.

4 - الايجار بأزيد من الأجرة السابقة بدون أي عمل في العين المستأجرة.

وقد ذهب جمع من كبار الفقهاء الى منع الصورة الرابعة فقط وتجويز الصور الاُخرى ، لأنَّ الصورة الرابعة لا تبرر حصول المستأجر الأول على الزيادة التي حصل عليها من الفرق بين الاجارتين ، وقد ثبت في الشريعة الإسلامية أنَّ الكسب المضمون لا يقوم إلاّ على أساس انفاق عمل خلال المشروع سواءٌ كان عملاً مباشراً أو مخزوناً كالآلة التي هي عبارة عن عمل مخزون يتفتت خلال الاستعمال ، وكالدار والأرض اللّتان هما أيضاً عمل مختزن لعمل سابق من احياء الأرض أو بناء الدار. والغاء الكسب المضمون الذي لا يقوم على أساس انفاق عمل في المشروع.

أمّا الصورة الاُولى والثانية فليس فيها كسبٌ حتى يبرر ويحتاج الى عمل في مقابله ، وقد ذهب الى هذا قول - كما قلنا - جماعة من الفقهاء كالسيد المرتضى

ص: 177

والحلبي والصدوق وابن البرّاج والشيخ المفيد والشيخ الطوسي (1).

والأساس في هذه القاعدة تمدّه نصوص شرعية : منها :

1 - صحيحة سليمان بن خالد عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « إني لاكره أن استأجر الرحى وحدها ثم اُواجرها بأكثر ممّا استأجرتها إلاّ أن اُحدث فيها حدثاً أو اُغرم فيها غرماً » (2) وقد روي موثّقاً عن أبي بصير.

2 - حديث الحلبي قال : « قلت للإمام الصادق علیه السلام أتقبل الأرض بالثلث أو الربع ، فأقبلها بالنصف قال : لا بأس. قلت : فأتقبلها بألف درهم وأقبلها بألفين ؟ قال : لا يجوز. قلت : لِمَ ؟ قال : لأنّ هذا مضمون وذاك غير مضمون » (3).

فهذا النصّ فرّق بين صورتي المزارعة والاجارة ، ففي المزارعة تكون الحصة غير مضمونة عند عقد المزارعة للمالك.

أمّا في الاجارة ، فعندما يستأجر الأرض فالعامل يضمن القيمة للمالك ، والمستأجر الثاني يضمن القيمة للمستأجر الأول في نفس عقد الاجارة ، وهذا الفرق المضمون لابدّ أن يسبقه عمل يبرره.

أمّا المزارع الثاني إذا كان يعطي نسبة أكبر من نسبة المزارع الأول لصاحب الأرض ، فهو فرق غير مضمون بنفس عقد المزارعة ، فلا يجب أن يسبقه عمل من المزارع الأول للثاني يبرر هذا الكسب غير المضمون.

3 - موثّق اسحاق بن عمار عن الإمام الصادق علیه السلام إنَّه قال : « إذا تقبّلتَ أرضاً بذهب أو فضة فلا تقبلها بأكثر من ذلك ، وإن تقبلتها بالنصف والثلث ، فلك أن تقبلها بأكثر ممّا تقبلتها به ، لأنّ الذهب والفضة مضمونان » (4).

ص: 178


1- المبسوط للطوسي : ج 3 ، ص 226.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 20 من احكام الاجارة ، ح 1 ، وب 22 من احكام الاجارة ، ح 5.
3- المصدر السابق : ج 13 ، ب 21 من أحكام الاجارة ، ح 1.
4- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 21 من احكام الاجارة ، ح 2.

ومثلها موثّقة أبي بصير عن الإمام الصادق علیه السلام (1).

4 - صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « في الرجل يستأجر الدار ثم يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به ؟ قال علیه السلام : لا يصلح ذلك إلاّ أن يحدث فيها شيئاً » (2).

5 - حسنة اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه ( الإمام الباقر علیه السلام ) « كان يقول : لا بأس أن يستأر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثم يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا أصلح فيها شيئاً » (3).

6 - موثّقة سماعة قال : « سألته ( أي الإمام علیه السلام لأنَّ سماعة لا يسأل من غير الإمام علیه السلام لجلالة قدره وعلوّ منزلته ) عن رجل اشترى مرعى يرعى فيه بخمسين درهماً أو أقل أو أكثر ، فأراد أن يدخل معه ، مَنْ يرعى معه قبل أن يدخله منهم الثمن ؟ قال : فليدخل من شاء ببعض ما اعطى ، وإن أدخل معه بتسعة واربعين وكانت غنمه بدرهم فلا بأس وإن هو رعى فيه قبل أن يدخله بشهر أو شهرين أو أكثر من ذلك بعد أن يبيّن لهم فلا بأس ، وليس له أن يبيعه بخمسين درهماً ويرعى معهم ، ولا بأكثر من خمسين درهماً ولا يرعى معهم ، إلاّ أن يكون قد عمل في المرعى عملاً ، حفر بئراً أو شقَّ نهراً ، تعنّى فيه برضا أصحاب المرعى ، فلا بأس ببيعه بأكثر ممّا اشتراه لأنّه قد عمل فيه عملاً ، فبذلك يصلح له » (4).

والظاهر أنَّ المراد بالشراء والبيع هنا الاجارة كما فهمه الكليني رحمه اللّه بقرينة

ص: 179


1- المصدر السابق : ب 21 من احكام الاجارة ، ح 6.
2- المصدر السابق : ب 22 ، ح 4.
3- المصدر السابق : ح 2.
4- وسائل الشيعة : ب 22 ، ح 6.

قوله « إلاّ أن يكون قد عمل في المرعى ... برضا أصحاب المرعى » ، وهذا يدل على أنَّ للمرعى أصحابه ، فيكون المقصود من البيع هو بيع المنفعة.

وهذا الموقف الذي رأيناه عند علماء الإمامية تبعاً للنصوص الشرعية ، قد أخذ به الاحناف أيضاً فقد نقل الجزيري عن الفقهاء الاحناف أن الشخص إذا استأجر داراً أو دكاناً بمبلغ معين كجنيه في الشهر فلا يحلّ له أن يؤجرها لغيره بزيادة (1) وذكر السرخسي الحنفي في مبسوطه عن الشعبي في رجل استأجر بيتاً وآجره بأكثر ممّا استأجره به انه لا بأس بذلك إذا كان يفتح بابه ويغلقه ويخرج متاعه فلا بأس بالفضل. وعلَّق السرخسي على ذلك بقوله : بيّن انه إنّما يجوز له أن يستفضل إذا كان يعمل فيه عملاً نحو فتح الباب وإخراج المتاع فيكون الفضل له بإزاء عمله وهذا فضل اختلف فيه السلف ... وكان إبراهيم يكره الفضل إلاّ أن يزيد فيه شيئاً فإنّ زاد فيه شيئاً طاب له الفضل وأخذنا بقول إبراهيم (2).

7 - صحيحة محمد بن مسلم عن ( الإمام الباقر أو الصادق علیهماالسلام ) انه : « سأل عن الرجل يتقبل العمل فلا يعمل به ، ويدفعه الى آخر فيربح فيه ؟ قال علیه السلام : لا ، إلاّ أن يكون قد عمل شيئاً » (3).

8 - صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام ( الباقر أو الصادق علیهماالسلام ) قال : « سألته عن الرجل الخياط يتقبل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل ؟ قال الإمام علیه السلام : لا بأس قد عمل فيه » (4).

9 - وفي حديث على الصائغ قال قلت للإمام الصادق علیه السلام : « أتقبل العمل ثم اقبله من غلمان يعملون معي بالثلثين ؟ فأجاب الإمام علیه السلام : إنَّ ذلك لا يصلح إلاّ

ص: 180


1- الفقه على المذاهب الأربعة : ج 3 ، ص 117.
2- المبسوط ، للسرخسي : ج 15 ، ص 78.
3- وسائل الشيعة 13 : ب 23 من الاجارة ح 1.
4- المصدر السابق : ب 23 من الاجارة ، ح 5.

بأن تعالج معهم فيه ، قال : قلت فإنّي اُذيبه لهم فقال : وذلك عمل فلا بأس » (1).

ومن هذه الروايات المتقدّمة ، فإن النتيجة التي نستفيدها هنا هي : يجوز للبنك الإسلامي أو للشركة أو لأي فرد أن يستأجر أرضاً أو أداةً أو معملا أو خدمات اشخاص ، ويؤجرها بأكثر مما استأجرها بشرط أن يعمل عملاً في الأرض أو الأداة أو المعمل ، أو يعمل عملاً مع عمل الآخرين ، وحينئذ يكون الكسب في مقابل ما عمله من عمل.

وبهذا ينفتح الباب أمام الاستثمار فتؤجّر الطائرات والقطارات والسفن وما الى ذلك ويعمل فيها عملاً يجوّز للمستأجرين تأجيرها بأكثر من الاجارة الاُولى ويكون الفرق بين الاجارتين في مقابل العمل الذي بذل فيها. ولا يُفرق بين هذا وبين تأجير خدمات الأشخاص وإعادة تأجيرها ، فإنه لا يجوز بزيادة إذا لم يكن معهم عمل اضافي يبرّر أخذ الربح ، وعلى هذا فيمكن أن تستأجر الشركة خدمات اشخاص ثم تؤجرها لشركة اُخرى بزيادة على الأجر الأول بشرط أن تعمل الشركة معهم بواسطة اعضائها ووكلائها ، فيكون الربح في مقابل هذه الخدمة من قبل الشركة.

6 - شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها

اشارة

لقد استشكل بعض علماء المسلمين في صورة شراء عين نسيئة بشرط بيعها نقداً بأقل من الثمن الأولي للبائع بعد ذلك ، أو بيع عين نقداً بشرط شرائها نسيئة للبائع بأكثر ممّا باعها عليه ، وكذا استشكلوا في صورة ما إذا كان من نيّتهما ذلك وان لم يذكروا ذلك كشرط في متن العقد ، إذ يكون شرطاً ارتكازياً. وهذا الاشكال قد

ص: 181


1- المصدر السابق : ب 23 من الاجارة ، ح 7.

يكون هو الحيلة للوصول الى ربا النسيئة كما عن الإمام مالك وأحمد ، وقد يكون نتيجة النص الخاص الوارد في صحيحة علي بن جعفر عن الإمام موسى بن جعفر علیه السلام حيث قال علي بن جعفر : « سألته ( أي الإمام موسى بن جعفر ) عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم الى أجل ، ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد أيحل ؟ قال علیه السلام : إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس » (1). ومعناها وجود البأس في البيع الأول إذا اشترطا.

أمّا هنا فنريد أن نتكلم عن شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها ، فهل يوجد منع عن هذه المعاملة ؟

الجواب : انَّ مقتضى البيع الذي يحصل بين البائع والمشتري هو ملكية المشتري لمنافع العين ، وملكية البائع للثمن ، ولكن المشتري هنا يشترط في تمليك الثمن للبائع أن يستأجر العين التي ملكها المشتري بالشراء الأول ، فهذا الشرط هو عبارة عن تقييد البائع ، بالتزامه استئجار العين ، كما لو شرطت عليه في عقد آخر أن يستأجر عيناً بثمن معين ، فهو شرط صحيح لم يخالف كتاباً ولا سُنَّة فيشمله الحديث الصحيح « المسلمون عند شروطهم ».

وقد يستشكل في صحة هذا البيع بشرط الاستئجار ، بلزوم الدور وذلك حيث يقال : إنَّ صحة البيع الأول متوقفة على استئجار الدار من قبل البائع ، واستئجار الدار متوقف على صحة البيع الأول ، فتوقف صحة البيع الأول على

ص: 182


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 5 من أحكام العقد ، ح 6 ، وهذه الصحيحة لها سندان أحدهما صحيح لأنّ الرواية رواها علي بن جعفر في كتابه عن اخيه موسى بن جعفر علیه السلام وبما أن الرواية في كتاب الوسائل وسند صاحب الوسائل الى كتاب علي بن جعفر صحيح باعتبار أنَّ صاحب الوسائل وإن لم يكن له طريق مباشر الى كتاب علي بن جعفر ولكن للشيخ الطوسي طريق معتبر إليه وصاحب الوسائل له طريق معتبر إلى الشيخ الطوسي وبضم هذا الى ذاك يثبت طريق معتبر لصاحب الوسائل الى كتاب علي بن جعفر فتكون الرواية صحيحة.

صحة البيع الأول.

وقد ينقض على هذا الاشكال :

أولاً : في مثل ما إذا اشترط البائع ايجار الدار على شخص ثالث فهو شرط صحيح مع أن شبهة الدور موجودة.

وثانياً : إذا باع الدار بألف بشرط أن توقف الدار على البائع وأولاده وقفاً خاصاً.

وثالثاً : اذا باع شخص داره على آخر نسيئة بشرط أن يرهنه عند البائع على الثمن ، فالشروط هنا صحيحة بلا اشكال مع أنَّ شبهة الدور واردة فيها ، بل هذه النقوص آتية في كل شرط.

وحلّ الاشكال : هو أنَّ الشرط الذي يؤدّي إلى الدور المستحيل هو الشرط الفلسفي الذي هو من أجزاء العلة التامة ، أمّا الشرط هنا فهو شرط معاملي ، وهذا الشرط المعاملي إن كان بمعنى التعليق في العقد على أمر مجهول التحقّق في المستقبل أو معلوم ، فهو باطل كما عن المشهور من عدم امكان الانشاء التعليقي ، وإنّ كان بمعنى الالتزام في ضمن العقد - كما هو الصحيح لغة وعرفاً - فهو صحيح ، لأنّ الالتزام موجود حين العقد من قبل المشروط عليه ، وبما أن كلامنا هو ( اشتراط التزام ايجار العين في البيع الأول ) فيكون البيع صحيحاً ويجب على المشروط عليه ايجار العين بحيث لو لم يؤجرهَا يكون قد فعل حراماً وبرّر للمشتري فسخ البيع. وبعبارة اُخرى : أنَّ صحة البيع ليست موقوفة على الوفاء بالشرط ، بل يصح البيع حتى مع عدم الوفاء وإنما يترتب على عدم الوفاء بالشرط ثبوت الخيار لافساد البيع.

صيانة العين المستأجرة :

إذا صحَّ ايجار العين أو حمل المتاع الى مكان معين ، فهل يصح لمالك العين أن يشترط على المستأجر صيانة العين من العيوب أو النقص الذي يحصل حين

ص: 183

استعمالها أو حملها ؟ وبعبارة اُخرى هل يجوز أن يضمن الأجير على حمل المتاع أو المستفيد من العين ما يحصل من تلف في العين على أساس ضمان الغرامة ؟

الجواب : لقد ذهب المشهور الى عدم صحة شرط الضمان على المستأجر والأجير ولعلّ أهم دليل على ذلك هو أنّ شرط الضمان على المستأجر هو من الشرط المخالف للسنة القائلة بعدم ضمان الأجير والمستأجر ، ففي صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « قال أمير المؤمنين علیه السلام في حديث : ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة » (1).

وصحيحة الحلبي : « قال سألت الإمام الصادق علیه السلام عن رجل تكارى دابة الى مكان معلوم فنفقت الدابة ؟ فقال : إنّ كان جاز الشرط فهو ضامن لأنَّه لم يستوثق منها » (2) ، وغيرها من الروايات.

وواضح من هذه الروايات : أنَّ الضمان إنّما يكون على المتعدي أو المفرّط ، وفي غير هاتين الصورتين لا ضمان ، فيكون اشتراط الضمان خلاف السُنّة ، وقد يستدل - أيضاً - على أنَّ اشتراط الضمان على الأجير مخالف للكتاب والسُنَّة بروايات عدم الضمان على الأجير ، فقد روى خالد بن الحجاج قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن الملاّح أحمله الطعام ثم أقبضه منه فينقص ؟ قال علیه السلام : إنّ كان مأموناً فلا تُضْمِنه » (3).

والتحقيق : أنَّ ظاهر هذه الروايات التي ترفع الضمان على المستأجر أو الأمين إنّما ترفعه في صورة عدم اشتراط الضمان ، فهي تريد أن ترفع القاعدة المركوزة عند العقلاء ، وهي قاعدة : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي » الموجبة للضمان ، فتقول هذه الروايات : إن الأمين إذا ائتمنته على شيء فلا تنطبق قاعدة اليد الارتكازية في

ص: 184


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 23 من احكام الاجارة ، ح 1.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 23 من احكام الاجارة ، ح2 .
3- المصدر السابق : ب 30 من أحكام الاجارة ، ح 3.

صورة التلف ، وكذا المستأجر العامل أو المستأجر للعين ، ولذا لو قلنا بالضمان في هذه الصورة كان خلافاً للروايات ولكن ما نريد أن نتكلم عنه هو شيءٌ آخر. ويمكن توضيحه ببيانين :

أ - إن صاحب العين لا يشترط على المستأجر الضمان واشتغال ذمته ، كي يقال : إن الأمين لا يضمن ، وإنّما يشترط عليه تحمل الخسارة ، ودفع ما يساوي قيمة المقدار التالف. فيقول له هكذا : عند تلف شيء من العين يساوي مئة دينار فاللازم عليك دفع المقدار المذكور من دون أن تكون ذمتك مشغولة به. فالشرط شرط للفعل وليس شرطاً للنتيجة ، فان صاحب العين يشترط تسديد قيمة التالف وما يعادله ، وهذا شرط للفعل وبمثابة الأمر التكليفي ، ولا يشترط الضمان واشتغال الذمّة الذي هو شرط للنتيجة وحكم وضعي.

ب - إنَّ أدلة نفي الضمان عن المستأجر ناظرة الى نفي الضمان في حالات عدم اشتراط الضمان ، وإنَّ عقد الإجارة لو خلي ونفسه فهو لا يقتضي الضمان ، وهذا لا ينافي تحقّق الضمان من خلال الاشتراط.

وكلمة اُخرى أنَّ انطباق عنوان الأمين على المستأجر إنما جاء بلحاظ إذن صاحب العين للمستأجر في التصرف فيها ووضع اليد عليها ، فيكون عنوان الأمين منتزعاً من الإذن في التصرف ، وحينئذ إذا كان الإذن في التصرف مقيّداً بالضمان ، فمعنى ذلك أن المستأجر أمين يقبل قوله فيما يدعيه ويصدّق ولكن يضمن إذا حصل تلف سماوي بدون تعدي ولا تفريط حسب الشرط الذي قيّد وضع اليد على المال على أن يكون على وجه الضمان ، وحينئذ يرجع المعنى الارتكازي القائل على اليد ما أخذت حتى تؤدي.

ونحن لا نرى تنافياً بين أن يكون الأجير أو المستأجر مأموناً وبين تضمينه بالشرط في صورة حصول التلف السماوي ، لأدلة نفوذ الشرط ، كصحيحة : « المسلمون عند شروطهم ».

ص: 185

ولكن قد يقال : إنَّ ادلّة نفوذ الشرط غير صالحة لمشروعية الضمان على الأجير الحامل للمتاع أو المستأجر للسلعة ، بل إنَّها تقول إنَّ : « المسلمون عند شروطهم » إنّما يُلزم بالنتائج المشروعة ، وحينئذ نحتاج أولاً الى اثبات مشروعية ضمان الأجير للمال الخارجي ، فإذا ثبت ذلك صحّ تضمينه بصحيحة « المسلمون عند شروطهم ».

والجواب : توجد روايات تدل على صحة شرط الضمان على الأجير ، وهي بنفسها تكون دليلا على صحة شرط الضمان بلا حاجة الى روايات « المسلمون عند شروطهم » ومن هذه الروايات :

1 - الروايات الدالة على صحة شرط الضمان على المستعير الأمين ، وإذا صح هذا فلا فرق بينه وبين شرط الضمان على المستأجِر الأمين ، ففي صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام في حديث قال : « إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنه إلاّ أن يكون اشترط عليه » (1).

وفي حديث أبان عن سلمة عن الإمام الصادق علیه السلام عن أبيه علیه السلام قال : « جاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى صفوان بن اُمية ، فسأله سلاحاً ثمانين درعاً ، فقال له صفوان : عاريةً مضمونةً أو غصباً ؟ فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : بل عارية مضمونة » (2).

2 - صحيحة يعقوب بن شعيب قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن الرجل يبيع للقوم بالأجر وعليه ضمان مالهم ؟ قال علیه السلام : إنّما أكره ذلك من أجل أني أخشى أن يغرموه أكثر ممّا يصيب عليهم ، فإذا طابت نفسه فلا بأس » (3).

وهذه الرواية تنظر الى عمل الدلال الذي يبيع كتب الغير مثلاً ويضمن لهم

ص: 186


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 1 من كتاب العارية ، ح 1.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 1 من كتاب العارية ، ح 5.
3- نفس المصدر السابق : ب 29 من الاجارة ح 15.

هذه الكتب في صورة التلف ، وقد أقرّه الإمام علیه السلام على هذا الضمان إذا طابت نفسه.

3 - رواية موسى بن بكر عن العبد الصالح ( الإمام موسى بن جعفر علیه السلام ) قال : « سألته عن رجل استأجر ملاّحاً وحمّله طعاماً في سفينته واشترط عليه إن نقص فعليه ؟ قال علیه السلام : إن نقص فعليه » (1).

والنتيجة المتوخّاة من هذا هو صحة أن يؤجر البنك أو الشركة أدواته وسلعه وما تحت يده من عقار بشرط صيانة العين ، وبذلك يطمئن الى أنّ العين مصانة وقد حصل على ربح منها.

7 - التأمين على الديون

إنّ من وظائف البنك اعطاء تسهيلات للعملاء ، ومن هذه التسهيلات القروض التي يقدّمها البنك لعملائه ، وهذه القروض - حسب الاحصاءات الاقتصادية - سوف يبقى بعضها بدون وفاء ، لذا فإنَّ البنوك الربوية تبرّر أخذ الفائدة كتعويض عن هذه « الديون الميتة » كما تبرر أخذ الفائدة بالنفقات التي تستهلكها البنوك من اُجور الموظفين إضافةً إلى الربح الخالص لرأس المال.

وهنا نريد أن نتساءل عن امكانية أن يتخلص البنك الإسلامي من مشكلة « الديون الميتة » بالتأمين على الأموال التي تقترض منه في السنة - مثلاً - المقدَّرة بحدٍّ معين. وكذا نتساءل عن امكانية أن يأخذ البنك أجراً على نفقاته التي يبذلها في سبيل انجاز ديون العملاء.

أمّا بالنسبة للربح الخالص لرأس المال فهو الربا المحرم الذي لا يمكن التساؤل عن جوازه.

الجواب : هو امكانية أن يؤمِّن البنك على هذه الديون التي يدفعها الى

ص: 187


1- المصدر السابق : ب 27 من الاجارة ، ح 1.

عملائه خلال عام - مثلاً - بكلفة محددة ، وهذه القروض قد تكون محددة بحدٍّ معين ، وقد تكون محددة بين سطح أعلى أو سطح ادنى ، ولا تضرّ هذه الجهالة في التأمين على هذه القروض ما لم يؤدِّ إلى الخطر ، وقد سبق منّا تحقيق أن التأمين على خطر الموت عقد مستقل يشمله أوفوا بالعقود.

وبالجملة : فإنَّ أنواع التأمين - كالتأمين على الحياة ، وعلى المال ، وعلى الحريق ، وعلى الغرق ، وعلى السيارة ، وعلى الطائرة ، وعلى السفينة ، وما شاكل هذه الاُمور التي لا يختلف فيها الحكم الشرعي - كلّها جائزة لأنَّ التأمين هو اتفاق بين الشركة وبين المؤمَّن له ( سواء كان شخصاً أو أشخاص ، حقيقي أو اعتباري ) على أن يدفع المؤمَّن له مبلغاً معيناً من المال شهرياً لقاء قيام المؤمِّن بتدارك الخسارة التي تحدث في المؤمَّن عليه على تقدير حدوثها.

وبما أن هذا الاتفاق يشتمل على أركان العقد الأربعة التي هي :

1 - الإيجاب من المؤمَّن له.

2 - القبول من المؤمِّن.

3 - المؤمَّن عليه ( الحياة ، الأموال ، الديون ، الحوادث وغيرها ).

4 - قسط التأمين الشهري.

فيمكن تنزيله - كما قلنا سابقاً في بحث بطاقات الائتمان - منزلة الهبة المعوضة ، لأنَّ المؤمَّن له يهب مبلغاً من المال في كل قسط إلى المؤمِّن ويشترط عليه ضمن العقد أنَّه يقوم بتدارك الخسارة الناجمة عند حدوث حادثة معينة نصّ عليها في الاتفاق ، وعلى هذا يجب على المؤمِّن الوفاء بهذا الشرط ، ولا مانع أن تكون الهبة المشروطة في النتيجة مجانيةً إذا لم يحصل الشرط ، وإذا حصل الشرط فهي هبة معوضة ، كما إذا قال انسان لآخر : أهبُك هذا المال بشرط إن وصلت إلى المدينة المنوّرة ، فتزور النبي صلی اللّه علیه و آله نيابة عني. وهذا معناه أنَّ الموهوب له إن وصل إلى المدينة ولم يكن هناك مانع في طريقه فيجب عليه أن يزور للواهب ، فتكون الهبة معوضة ،

ص: 188

وإن حصل مانع من الوصول إلى المدينة المنورة فتكون الهبة مجانية. وليس من الصحيح القول بأنّ الهبة المعوضة هي بيع فلابدّ فيها من شروطه ، إذ الهبة المعوضة عقد مستقل.

كما يمكن أن يكون هذا العقد عقداً مستقلاً عقلائياً فيشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) . لأنَّه لا يخرج عن كونه التزاماً في مقابل التزام.

وأمّا من ناحية الشك في حرمة هذا العمل فتجري اصالة الإباحة ( عدم الحرمة ).

وطبعاً إنّما يقدم البنك على أن يؤمِّن على قروضه التي يقرضها لعملائه فيما إذا رأى أن عملية الاقراض بالنسبة له مهمّة وضرورية ، كما أن تحصيل الدين منهم كذلك. والتأمين على الديون أقل كلفة من تلف بعض الديون وبقائها بدون تسديد.

ما يمكن للبنك أن يطلب من عملائه الذين يرغبون في الاقتراض منه أن يؤمِّنوا على هذه القروض عند شركة التأمين ، ويكون طلب البنك من عميله هذا بمثابة كفيل معين لسداد القرض في صورة تخلف المقترض ، وهنا يكون المؤمَّن المقترِض هو الذي يدفع اُجور التأمين لمصلحة البنك ، وبهذا تكون اجرة التأمين من المقترض لشركة التأمين رأساً أو تدفع إلى البنك ليوصلها الى شركة التأمين كوكيل عن المقترض ، وبهذا لا يكون البنك قد اشترط على المقترض مالاً لنفسه غير المال المقترض ، وتخلّص من مشكلة الديون الميتة ، فلا يحتاج الى أخذ الربا كما يفعل البنك الربوي في مقابل تلك الديون.

وقد يُستشكل في هذه العملية لشمول نص الرواية القائلة : « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » لما نحن فيه لأنَّ هذا القرض مع شرط التأمين على الدين لمصلحة البنك يكون قد جرّ نفعاً لشركة التأمين فهو ربا.

والجواب : أنَّ النص القائل « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » ينظر إلى النفع

ص: 189

الذي يحصل عليه من نفس عملية الاقراض للمقرض أو لشخص آخر ، أو يحصل من عملية تأجيل القرض ، أمّا ما نحن فيه فعقد التأمين الذي يطلبه البنك لمصلحته هو الذي نفع الشركة ، فهذا النفع للشركة لم يحصل من عملية الاقراض ، وإنّما حصل من عقد التأمين الذي هو ضمان معاملي وعقدي تقوم به الشركة وتتعهد بوفاء المقترض للمقرِض مباشرة أو بوفائها للقرض في حالة عدم وفاء المقترض ، وليس هذا شرطاً ربوياً لأنّ مرجعه إلى الاستيثاق في وفاء الدين ، كما أنَّه ليس أجراً على إنشاء الضمان والدفع في حالة معينة ، بل إنّ الشركة تتعهد بأنّها تقوم بعمليات معينة لأجل أن يفي المقترض بالتزامه ، من قبيل ملاحقته ومطالبته والضغط عليه أو ترغيبه ونصحه وإرشاده الى حسن الوفاء بالعهد والقرض وما الى ذلك من اُمور تؤدّي في النهاية الى تسديد القرض ، وأمّا عملية إنشاء الضمان والتعهد بالمال فهو عمل لا يقابل بالمال ؛ لأنّه لا يبذل في مقابله أجر ، وإنّما الأجر يكون على قيام الشركة بعمليات معينة لتسديد القرض من قبل صاحبه. وإذا تعذر علينا قبول هذه التكييفات للتأمين على الديون فيتمكن البنك للتأمين على ديونه من أخذ ضامن معتبر على السداد في الوقت المحدد - بواسطة الشيك الموقّع من قبل الضامن - إن لم يقم المدين بالتسديد ، كما يمكن للبنك أن يأخذ أكثر من ضامن لهذا الأمر. كما أن الكمبيالات التي يشتريها الضامن أو المقترض لأجل أن يوقّع عليها الضامن - بمعنى تعهده بالسداد إن لم يسدد المدين - هي عبارة عن نفس عقد التأمين الذي يحصل فيه المؤمِّن على ربح بواسطة عقد التأمين ، فإن لم نستشكل في النفع الحاصل لبائع الكمبيالة لأجل توثيق الدين فكذلك ينبغي أن لا نستشكل في عقد التأمين الذي فيه نفع للمؤمِّن والذي كان لأجل توثيق الدين.

ثم إنّ من نافلة القول التأكيد على أن البنك يتمكن أن يأخذ أجراً على نفقات إنجاز الديون إلى العملاء لأنَّ هذا الانجاز للديون فيه جملة من العمليات التي تستوجب كتابةً وعملا محترماً يقابل بأجر.

ص: 190

8 - إقتراض مبلغ لشخص بشرط التعامل به مع البنك عموماً أو في نشاط محدود

قد يقوم البنك بإقراض بعض عملائه أو غيرهم مقداراً من المال بشرط أن يتعامل معه في صفقاته التجارية ، فهل في هذا الشرط حرمة ربوية ؟

الجواب : اننا بلا شك نرى أنَّ هذه العملية القرضية إنّما يقصد بها البنك جرّ النفع له ، فهل تشمله الرواية القائلة « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » ؟

ويمكن أن يقال : إنّ النفع الذي هو حرام في عملية القرض بواسطة الشرط هو النفع الذي يوجد من عملية الاقراض أو في مقابل الأجل - كما تقدّم ذلك - أمّا هذا النفع الذي يذكر في المقام فهو نفع قد حصل في مقابل عقد قام به البنك مع المقترض ، كأن يبيعه سيارة بمبلغ معين (1) كما يحصل البنك على نفس هذا النفع من عملاء آخرين قد تعاملوا معه بدون هذه العملية ، ولهذا يمكن ادّعاء إنصراف كل قرض جرّ نفعاً عن هذه الانتفاعات التي في مقابلها عقد تجاري.

ولم يعدم الفقه الإسلامي من أمثلة لمثل هذه الشروط التي جوّزت هذه العملية ، فمن تلك النصوص حسنة جميل ، قال : « قلت للإمام الصادق علیه السلام أصلحك اللّه اننا نخالط نفراً من أهل السواد فنقرضهم القرض ويصرفون الينا غلاتهم فنبيعها لهم بأجر ، ولنا في ذلك منفعة ؟ قال : لا بأس. ولا أعلمه إلاّ قال : ولولا

ص: 191


1- أمّا إذا كان تعامل البنك مع عملية المقترض الذي اشترط عليه التعامل معه يختلف عن العميل الذي لم يقترض منه ولم يوجد بينهما هذا الشرط ، فيكون الربح في الصورة الاُولى عشرين بالمئة وفي الصورة الثانية عشرة بالمئة فهذه العملية من البنك مع شرط التعامل تكون ربا لأنّها دخلت تحت الرواية القائلة « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » إذ يكون ما انتفع به البنك في العقد عشرة بالمئة والعشرة الثانية من عملية القرض أو في مقابل الأجل.

ما يصرفون إلينا من غلاتهم لم نقرضهم ، قال : لا بأس » (1) بناءً على أنَّ جملة ولولا ما يصرفون إلينا من غلاتهم لم نقرضهم هي عبارة عن شرط صريح في ضمن عقد القرض أو شرط ارتكازي قام عليه عقد القرض.

وبعبارة اُخرى : الروايات تحرم أن يكون القرض هو الذي جرّ النفع مباشرة بواسطة الشرط ، ونحن وإن قبلنا أن « جارَّ الجار جارٌّ » فإذا جر القرض بيعاً والبيع جرّ نفعاً فهو داخل عقلاً في جرّ القرض للنفع ، إلاّ أن هذا منصرف عن الروايات التي معناها العرفي هو أن يكون القرض هو الجارّ للنفع مباشرة ، ولهذا ينبغي يكون معنى القرض الذي يجرّ منفعة الذي نَصِفُه بالربا هو ما كانت المنفعة مشترطة فيه ولم تكن في مقابل عمل يبذله المقرض.

ثم إذا حكَّمنا الأصل العملي عند الشك ، فالجواز بمعنى عدم الحرمة هو الجاري في المقام ، وترتب الأثر على هذا العقد يكون بالتمسّك بإطلاق (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

9 - بيع الدين ( خصم الكمبيالات أو الشيكات )

لقد تقدّم منا في بحث « بيع التقسيط » (2) جواز بيع الدين بأقل منه حالا ، وبما أنَّ الكمبيالة الحقيقية أو الشيك الحقيقي الذي يعبّر عن وجود قرض واقعي قد استلمه موقّع الشيك أو موقّع الكمبيالة ، فيكون الدائن هو من كتبت باسمه هذه الوثيقة ( السند ) لإثبات أنَّ المبلغ الذي تتضمّنه دين في ذمة موقِّعها لمن كتبت باسمه.

ص: 192


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 19 من الدين ، ح 12 وإنّما عبّرنا عنها بالحسنة لأنّ طريق الشيخ الطوسي الس محمد بن أبي عمير حسن ، وقد عبّر عنها بالمرسلة لوجود طريق الصدوق بإسناده عن جميل بن دراج عن رجل. اذن الرواية لها طريقان أولهما حسن ، فهي حجّة عند مَنْ يعتبر الحَسَن.
2- البحث المقدّم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة المنعقدة بجدة سنة 1413 ه ق.

وهذه السندات لم تعتبر لها مالية كالأوراق النقدية ، بل هي مجرد سند إثبات ، فالمشتري عندما يشتري سلعة ويدفع الشيك أو الكمبيالة فهو لم يدفع ثمن البضاعة ، بخلاف ما إذا دفع ورقة نقدية.

ولذا لو ضاعت الكمبيالة أو ضاع الشيك أو احترق عند البائع لم تفرغ ذمة المشتري ، بخلاف ما إذا احترق الورق النقدي الذي دفعه المشتري إلى البائع أو سُرِق أو ضاع.

وعلى هذا يتبيّن أنَّ الشيك أو الكمبيالة هي : عبارة عن سند يثبت أن ذمّة الموقّع عليه مدينة بقدر المبلغ لمن صدر السند بأسمه. وعلى هذا فلا يوجد مانع من صحة بيع هذا الدين الكلي في ذمّة المصدِّر بأقل منه حالا للمصدِّر أو لغيره ، وقد قلنا فيما سبق إنّ هذا عقد يشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أمّا إذا كان الثمن مؤجلا فهو لا يجوز ، بناءً على صدق بيع الدين بالدين هنا المنهي عنه.

ولا بأس بالتنبيه الى أن صحة هذا العقد مشروطة بشروط :

1 - أنْ لا يكون الدين من الذهب أو الفضة أو كل مكيل أو موزون ، لثبوت النهي عن بيع المكيل والموزون بأقل منه أو بأكثر.

2 - أنْ لا يكون البيع نسيئة.

وبما أن بيع الكمبيالة التي هي عبارة عن دين على ذمّة شخص ، بأوراق نقدية والبيع حالا فهو أمر جائز لا يشمله المنع ويشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) والروايات المؤيّدة لصحة هذا البيع ، ولكن ننبه الى أنَّ عملية بيع الدين بأقل منه تقترن بها مسؤولية المستفيد من البيع عن وفاء المدين للدين ، وعن وفاء المستفيد للبنك عند عدم وفاء محرِّر الكمبيالة أو الشيك ، ولذا نحتاج الى تخريج لهذه المسؤولية ، ولهذا نقول : يمكن تخريجها على أساس أن المستفيد ( البائع ) تعهد أمام البنك أو أمام المشتري بوفاء المدين للدين ، ووفائه هو عند عدم وفاء المحرر ، فيقبل المشتري ، ويكفي أنْ يصدق العقد على هذا التعهد وهذا القبول لأنّه يعتبر عقلائياً تحت

ص: 193

سلطانهما معاً ، كما في الهبة التي اعتبرناها عقداً مع أنَّها مشتملة على تصرف الواهب مع قبول الموهوب له.

فتبين أن عملية بيع الدين بأقل منه هي عبارة عن عقدين :

الأول : بيع المستفيد من الشيك أو الكمبيالة التي تعبّر عن دين حقيقي في ذمّة مصدِّرها للمشتري بثمن أقل من الدين حالاً.

والثاني : تعهد وعقد من المستفيد بأداء المدين للمبلغ إلى المشتري ، وأداؤه هو عند عدم وفاء محرّر الكمبيالة.

وهذا التعهد من المستفيد عقد ضمان صحيح شرعي ، دليله الارتكاز العقلائي مع (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، وهو يختلف عن الضمان الذي هو ضم مسؤولية إلى مسؤولية ، أو نقل الدين من ذمّة الى ذمّة ، بل هو شيء آخر ينتهي الى استحقاق المشتري للمطالبة من الضامن فيما إذا امتنع المدين عن الوفاء لأنَّ هذا الامتناع معناه : أنَّ ما تعهد به الضامن - وهو اداء الدين للمشتري - لم يتحقّق ، بل تلف على المشتري ، وحينئذ يكون مضموناً على من تعهد به.

والجدير بالاضافة هنا هو : أن مجمع الفقه الإسلامي قد قرر في دورته الثامنة جواز الأخذ برخص المذاهب فيما إذا كانت هناك حاجة الى هذا الأخذ لا لمجرد التلهي ، وهذه الرخصة قال بها الإمامية ، فيمكن للبنك أو للمشتري لهذه السندات التي تمثّل ديناً حقيقياً في ذمة موقّعها من شراء هذه الديون الحقيقية بثمن أقل حالاً. وبهذا يكون للبنك الإسلامي أداة من أدوات الربح الشرعي والابتعاد عن الربا ، فيتمكن من شراء الديون التي في ذمّة الآخرين بأقل من قيمتها حالا ، كما يتمكن من بيع دينه على ذمّة الآخرين بالأقل إذا احتاج إلى السيولة النقدية.

أمّا إذا كان السند الذي وقَّعه شخص لآخر ( شيكاً أو كمبيالة ) صورياً ولا يحكي عن وجود دين في ذمّة الموقع - وهو المسمى بالسند الصوري وكمبيالة المجاملة - وتقدم المستفيد لخصم قيمته من البنك أو من فرد آخر ، فحقيقته هو

ص: 194

اقراض من البنك للمستفيد ، وتحويل المستفيد البنك الدائن على الموقع ، وهذا من الحوالة على البريء ، وعلى هذا فسوف يكون اقتطاع البنك شيئاً من قيمة الكمبيالة لقاء المدة الباقية محرَّم لأنّه ربا.

10 - الأوراق المالية : « اجرتها ، اقراضها ، رهنها »

الأوراق المالية المقصودة هنا بالبحث هي الأسهم والسندات :

1 - السهم : ونقصد به الصك الذي يمثل جزءاً من رأس مال الشركة المساهمة يزيد وينقص تبعاً لرواجها وعدمه ، وقد يسمى عند الاقتصاديين نصيباً أيضاً ، ولذا يعرّف بأنّه : نصيب المساهم في شركة من شركات الأموال ، أو الجزء الذي ينقسم على قيمته مجموع رأس مال الشركة ، وكلامنا هنا يدور حول الأسهم العادية المتساوية القيمة والحقوق والواجبات وكانت تدور في نطاق المباحات.

2 - السند : وهو صك يمثل جزءاً من قروض الحكومة أو الهيئات الرسمية أو غير الرسمية ، فيصدر الصك بقيمة ألف دينار الى أجل محدَّد ولكنه يباع بتسعمائة دينار نقداً ، وحينئذ يكون السند في حقيقته وثيقة بدين مع التزام المصدِّر بدفع نصيب من الفائدة في تاريخ محدد.

ثم إنّ هذه الأوراق ( السهم والسند ) تصدر بقيمة محددة ، ولكنَّ اسعارها تتغيّر بعد ذلك كبقية السلع ، مثلاً السهم له ثلاث قيم :

1 - القيمة الأسمية : وهي التي تحدد للسهم عند انشاء الشركة ، فيكون مجموع القيم الاسمية يساوي رأس مال الشركة عند انشائها.

2 - القيمة الحقيقية : وهي عبارة عن نصيب السهم من صافي اُصول الشركة بعد اعادة تقديرها وفقاً للاسعار الجارية بعد ملاحظة الارباح والديون.

3 - القيمة السوقية : وهي عبارة عن القيمة التي يباع بها السهم ، وهذه القيمة

ص: 195

مرتبطة بنجاح الشركة أو فشلها وبحسب رأس مالها الاحتياطي والظروف والأزمات المالية والسياسية والرغبة والدعاية وغير هذه الأمور ممّا هو دخيل في قيمة السهم السوقية.

وهكذا الأمر بالنسبة للسندات ، فإنّ اسعارها تتغيّر بعد ذلك ، فيكون لها قيمة سوقية غير قيمتها الاسمية التي اشتريت بها (1).

ولهذا السبب فإنَّ الناس - بما فيهم البنك أو الشركات - يقبلون على شرائها لغرض الربح الذي ينتج من الفرق بين قيمة الشراء والبيع ، كما أن الاحتفاظ بها يكون عبارة عن سيولة ، حيث يمكن تحويلها الى نقد بسرعة ، فهل هذا العمل صحيح شرعاً ؟

الجواب : يوجد فرق بين السهم والسند ، فالسهم الذي يمثّل جزءاً من رأس مال الشركة المساهمة يكون بيعه وشراؤه جائزاً إذا كانت هذه الشركة تدور اعمالها في نطاق المباحات ، لأنَّ هذا السهم يمثل جزءاً من أعيان الشركة يجوز بيعه بأيّ ثمن أراد البائع بيعه.

أمّا بالنسبة إلى السندات ففي واقعها هي ربا محرّم يمنع من التعامل به إلاّ في حدود خاصة وهي :

ص: 196


1- (1) هناك اشتراك بين الأسهم والسندات في تساوي القيمة الأسمية لكل فئة ، وقابليتها للتداول وعدم قابليتها للتجزء ، ومع هذا يوجد فرق بين السند والسهم يتلخّص في هذه الأمور : أ - السند يعتبر شهادة دين على الشركة بينا السهم هو جزء من رأس المال. ب - السند يحصل صاحبه على الربا من دون أن يرتبط بربح الشركة أو خسارتها بخلاف السهم. ج - صاحب السند لا يشارك في إدارة الشركة بخلاف صاحب السهم. د - يحصل صاحب السند على قيمة سهمه وفوائده في الوقت المحدّد بخلاف صاحب السهم الذي ينتظر عادة تصفية الشركة للحصول على سائر أمواله. ه- - صاحب السند له ضمان على موجودات الشركة فيحصل على حقه في حالات التصفية مقدماً على صاحب السهم.

1 - شراء سندات صدرت من أشخاص لا يؤمنون بالإسلام.

2 - شراء سندات صدرت من بنوك حكومات لا تؤمن بالإسلام.

والسبب في هذا المخرج هو ما ورد من الفتاوى والنصوص (1) التي تجوِّز التعامل بالربا مع الكافرين ( الذمي بشرط أن نأخذ منه الزيادة ) وهذه النصوص وإن كانت ضعيفة السند ولكن أخذ بها كل علماء الإمامية الذين يرون الشهرة الفتوائية جابرة لضعف السند (2). وذهب الى هذا القول بعض علماء المسلمين من غير الإمامية كالامام الحنفي. وأرى أنَّه على وفق القاعدة إذا نظرنا الى حكم الكافر غير الذمّي ( الحربي ) الذي جوّز لنا الشارع قتله ، فكيف بأخذ المال منه بطريقة سلمية وباختياره !!

وعلى كل حال فإنْ كان بيع هذه الأوراق صحيحاً بالقيود التي ذكرت له ، فهل يمكن للبنك أن يقوم بالتوسط لبيعها أو شرائها ؟

ص: 197


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 7 من أبواب الربا ، ح 2 و ح 3 و ح 5.
2- أمّا الإمام الخوئي ; الذي لا يقول بأنّ عمل المشهور الفتوائي جابر لضعف سند الرواية ( حسب ما حقّقه في الاُصول ) فقد ذكر « جواز أخذ الربا من الكافر الحربي بعد وقوع المعاملة من باب الاستنقاذ » في رسالته العملية « منهاج الصالحين : ج 2 ، ص 61 مسألة 218 » فكأنّه يفرق بين الحكم الوضعي والتكليفي فقال بجواز أخذ الربا وضعاً بعد تمامية المعاملة ، أمّا نفس المعاملة الربوية مع الكافر الحربي فهي محرمة لأنّه تمسك بإطلاق « حَرَّم الربا ». ولكن الصحيح أن «حَرَّم الربا» غير شامل للحربي، حيث أن الحرمة إنما تكون لمن كان لماله حرمة بحيث لا يجوز التصرف فيه، وأمّا الحربي الذي حكمه القتل فهو مهدور الدم فلا حرمة لدمه فضلاً عن ماله فلا تشمله «حَرَّم الربا» فتكون منصرفة عنه، وبهذا يكون أخذ الزيادة منه جائزاً بلا حاجة الى نص خاص وقد يقال: إنَّ دعوى الانصراف توجب الالتزام بجواز احراق أموال الكافر أو القائها في البحر باعتبار عدم حرمتها، ولكن هذا لا يجوز لأنه تبذير، وحرمة التبذير لا تتأثر بعدم حرمة المال. والجواب: ان الانصراف المدعى هو لعدم حرمتها بحيث لا يجوز التصرف فيها، أما التصرف بنحو تكون حراماً من ناحية ثانية فهو أمر آخر.

والجواب : أنَّ عملاء البنوك عندما يأمرون البنوك بشراء كمية من هذه الأوراق أو بيعها لهم ، يقوم البنك - بعد التأكّد من سلامة هذه الطلبات - بالاتصال بالبورصة مباشرة عن طريق ممثله أو بواسطة سماسرة الأوراق المالية ، لأجل الوقوف على سعر الأوراق لإنجاز عملية البيع أو الشراء بالسعر المتفق عليه ، والبنك من حقه أن يطلب أجراً أو جعلا على هذه العملية المشروعة.

ولا بأس بالتنبيه على أن بيع أو شراء هذه الأسهم إنّما يكون بعد تكوّن الشركة كلها أو أغلبها من العينيات ( السلع والعروض ) وإن كان اساسها من النقد ، بناءً على أنَّ العبرة بالغالب لا بالقليل والتابع.

وأمّا إذا كانت هذه الشركة تتعامل بالأوراق النقديّة فقط أو كان غالب عملها هو هذا ، فهل يجوز بيع السهم وشراؤه ؟ الجواب : نعم يصح إذا باع سهمه الذي هو من الأوراق النقدية المختلفة بورق نقدي واحد نقداً أو نسيئة ، حيث لا نشترط التقابض هنا ، كما ذهب الى ذلك المشهور - كما سيتّضح عند بحثنا للأوراق النقدية.

أمّا بيع ورقة ونقده بنفس الورق فالارتكاز العرفي يقول : بأنَّه قرض لا يجوز الزيادة في رده ولو نسيئة.

وهنا قد يطرح سؤال آخر - وهو المقصود بالبحث - وهو :

هل يجوز تأجير الأسهم ؟ وهل يجوز اقراضها ؟ وهل يجوز رهنها وإعارتها ؟

أمّا بالنسبة لتأجير السهم ، الذي هو : عبارة عن حصة من الشركة مشاعة ، فقد ذكر الفقهاء : « أن كل ما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه ، تصح إعارته وإجارته ، وينعكس في الاجارة كلياً دون الاعارة ، لجواز إعارة المنحة (1) مع أن المقصود منها هو اللبن ، ولا تبقى عينه ، ولا تصح اجارتها لذلك » (2) بعد أن كان ذلك بدليل ،

ص: 198


1- المنحة : هي الناقة التي تستعار للبنها.
2- شرح اللمعة الدمشقية ، للشهيد الثاني : ج 4 ، ص 331 ( كتاب الاجارة ).

ولا يفرق فقهاء الإمامية بين الملك الخاص المتميز والمشاع حيث يمكن استيفاء المنفعة من الملك المشاع بموافقة الشريك ، فيدخل تحت قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وتشمله - أيضاً - خصوص اطلاقات الاجارة.

نعم لا تسلّم العين إلى المستأجر إلاّ بإذن الشريك ، ولو أبى الشريك الإذن ، رفع المالك أمره إلى الحاكم الشرعي ليجبره على الإذن أو يأذن الحاكم الشرعي في التصرف إذا عاند الشريك.

نقول : إنَّ كلامنا في تأجير السهم الذي هو حصة مشاعة من الشركة التي تعمل وفق إدارة لها ، وبما أن المستأجِر للسهم لا يريد استلام العين التي استأجرها ، بل يريد أن ينتفع بحاصلها الذي يُعلم في ضمن سنة مثلاً ، فقد انتفى مشكل تسليم العين إلى المستأجر إذا لم يوافق الشريك ، وقد عرفنا أنَّه لا يمنع من صحة الاجارة للمشاع.

ولكن لا يتمكن هذا المستأجر لهذه الحصة أن يؤجرها الى غيره بأكثر مما استأجرها ، ليأخذ الفارق بين الأجرتين بدون عمل يبرر هذا الأخذ ، وهذا يختلف عن حصول المستأجر على ربح السهم المشاع إذا سُلِّم إليه وكان أكثر من مال الاجارة ، إذ أنَّ المستأجر قد استحق حصة السهم المشاع من الربح المتلبس بالأعيان ، وقد قُدِّرت هذه بالنقد الورقي ، فكأنَّ المستأجر حينما يستلم النقد الورقي قد باع ربح السهم المشاع الذي استأجره ، والمتلبس بالأعيان بالنقد الورقي أو بادله بذلك فلا ينطبق عليه أنَّه ربح بدون عمل ، بل انَّ أمواله النقدية قد حوّلها الى منافع السهم المشاع ، وقد حصلت وبادلها بالنقد ، فيكون كالمشتري للدار التي يربح من بيعها ولو لم يعمل فيها عملاً.

وأمّا بالنسبة لرهن السهم : فكذلك لا يوجد اشكال في ذلك ، لأنّ رهن السهم عبارة عن رهن الحصة المشاعة من الشركة عند آخر لأجل التوثيق للدين ، ورهن السهم هنا لا يحتاج إلى تسليمه إلى المرهون عنده حتى نحتاج الى رضا

ص: 199

الشركاء ، بل معناه تسجيل الحصّة في قائمة الحصص الممنوعة من البيع والاجارة والهبة والأرث إلاّ بعد سداد الدين للمرتهن الذي رهنت الحصة عنده. وان لم يدفع الراهن ما عليه عند تمامية مدة الدين يكون الحق للمرتهن من بيع هذه الحصة المشاعة وسداد مقدار دينه وارجاع الباقي إلى الراهن ، وهذا شيء صحيح يجري في كلّ عين مرهونة سواءٌ كانت محددة ومشخّصة أو مشاعة ، وقد ذكر الفقهاء في شرط الرهن : « أن يكون عيناً مملوكة يمكن قبضها ويصح بيعها » (1).

وعلى هذا فهل يمكن قبض الحصة المشاعة ؟

الجواب : نعم يصح قبضها بإذن الشريك ، فيقبض المرتهن الحصة المشاعة ويمنع الراهن من التصرف فيها الى سداد الدين وفك الرهن.

أمّا بالنسبة لاقراض هذه الأسهم للغير ، فلا تخرج عن كونها إمّا أن تحسب من الأعيان المثلية أو القيمية ، والقاعدة هي جواز اقراضها للغير وهو معنى تمليكها مع الضمان ، ونطبق عليها قواعد القرض ، فإنْ كانت مثلية فيجب عليه إرجاع مثلها ، وإن كانت قيمية فيجب عليه ارجاع قيمتها حين اقترضها كما هي القاعدة في باب القرض.

والخلاصة : أنّ السهم الذي هو عبارة عن حصَّة مشاعة في الشركة يترتب عليه جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعاً للمالك ، من بيع وهبة وإعارة وإرث وإجارة وغيرها. ولا نحتاج لأجل إحكام العقد الذي حصل بين المالك والمشتري والواهب والمستأجر مثلاً من قبول الجهة المصدِّرة للسهم البائعة له بعد أن كان السهم ملكاً لغير هذه الجهة إلاّ إذا اشترطت الجهة المصدِّرة والبائعة له أن يكون الانتقال بإذنها ، فإنَّ « المسلمون عند شروطهم » يوجب أخذ الإذن من الشركة في كل هذه التصرفات إلاّ الارث الذي هو حكم شرعي نافذ ولو بدون رضا المصدِّر

ص: 200


1- المصدر السابق : ص 65 كتاب الرهن.

للسهام ، حيث يكون شرطه هنا مخالفاً للكتاب والسُنَّة فيكون باطلاً.

11 - إذا كانت معاملات الشركة المساهمة ربوية ، فهل يجوز شراء هذه السهام ؟

نقول : إنَّ شراء هذه السهام مع بقاء الشركة ربوية معناه أنَّ المشتري دخل في المعاملات الربوية بعد شرائه لسهم أو أكثر منها ، وهو عبارة عن الربا المحرَّم الذي نهت عنه الشريعة بصورة شديدة.

ولا يقال بأنّنا نحكم بأنَّ أصل الشراء صحيح ، وإنّما المحرم هو التعامل الربوي الحاصل بعد ذلك ، إذ أنَّ أصل الشراء هو عبارة عن الدخول في المعاملات الربوية عرفاً فيكون محرماً.

وهناك صورة ذكرها بعضٌ لتجويز شراء سهام هذه الشركات الربوية ، خلاصتها : أنَّ تجويز شراء هذه السهام من قبل الأفراد المسلمين سوف يجرّ في نهاية المطاف الى استملاك الشركة وتغيير قانونها الأساسي إلى المنع من العمليات الربوية ، فالغاية المتوخاة من تجويز شراء السهام في الشركة الربوية غاية شريفة يجعل شراء السهام والدخول في المعاملات الربوية أمراً جائزاً.

ولكن هذا التوجيه يرجع إلى القول المعروف بأنّ الغاية الشريفة تبرر الواسطة حتى المحرّمة ، وهو أمر غير مقبول شرعاً لأنَّ اللّه سبحانه وتعالى لا يطاع من حيث يعصى ، فإذا أردنا أن نغيّر الشركة الربوية بمنعها من الربا بواسطة دخولنا معهم فترة من الزمن في التعامل بالربا فهو عبارة عن تحليل الربا لفترة من الزمن لأجل الحدّ منه في الزمن الآتي ، وهو أمر لا يجوز.

نعم ، ذكر الإمام الخوئي رحمه اللّه فتوى هي : « يجوز بيع هذه السهام والسندات وكذا شراؤها ، نعم إذا كانت معاملات الشركة المساهمة ربوية فلا يجوز شراؤها

ص: 201

بغرض الدخول في تلك المعاملات فإنَّه غير جائز وإنْ كان بنحو الشركة » (1).

وواضح أنَّ الإمام الخوئي حرّم الشراء بغرض الدخول في تلك المعاملات ، فهو ينظر إلى شراء لا بغرض الدخول في المعاملات الربوية وهو ينحصر في صورة شراء كل سهام الشركة المساهمة الربوية دفعة واحدة بحيث يخرج السهام كلها من الربا أو يُخرج سهمه الذي كان موجوداً سابقاً مع السهام الربوية ، فإنّ هذه الصورة جائزة بلا شبهة لأنَّ شراءه للسهام لم يكن بغرض الدخول في تلك المعاملات الربوية :

فالنتيجة : هي صحة شراء السهام في الشركة الربوية إذا كان الشراء يؤدّي الى منع الربا فوراً وبصورة دفعيّة لا بصورة تدريجية.

12 - ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بمستوى الاسعار

من الحقوق والالتزامات : اُجرة العامل التي يجب أن يدفعها المؤجر إلى الأجير ، وأداء الدين الذي يجب على المدين اداؤه في الوقت المحدَّد ، وعندما يكون عقد العمل لفترة زمنية طويلة نسبياً ( شهوراً أو أعواماً ) وكذا عندما يكون أجل أداء الدين كذلك ، كالمهور الآجلة التي يجب على الزوج اداؤها بعد فترة طويلة قد تكون عشرين سنة أو أكثر ، وتكون هناك زيادة مطَّردة في تكاليف المعيشة سوف تحدث مشكلة قد طرقت في عدّة مجالس علمية وهي : هل يجب على المدين أداء تلك الكمية من الدين التي اصبحت الآن نتيجة التضخم الحالي تساوي كمية قليلة من السلع ، بينما كانت فيما سبق تساوي كمية كبيرة منها ؟ وهل يجب على صاحب العمل أن يدفع نفس الكمية من الأجر المتّفق عليه سابقاً وإن اصبحت هذه الكمية نتيجة التضخم غير قادرة على سدِّ احتياجات العامل الضرورية ، بخلافها

ص: 202


1- منهاج الصالحين : ج 1 ، ص 411 الطبة الثامنة والعشرون سنة 1410 ه.

وقت عقد العقد حيث كانت تفي بذلك وربما تزيد عليها شيئاً ما ؟

وطبعاً يكون الجواب الفقهي : إذا كان عقد العمل قد حدد الأجر بالنقد ، وكان عقد الدين قد نص عليه بوجوب دفع مقدار الدين هو أداء نفس الكمية المتّفق عليها في عقد الايجار وعقد الدين.

ولكن في هذا البحث نريد أن يتّفق العامل مع صاحب العمل على صيغة اُخرى للايجار مفادها ربط الأجر بالمستوى العام للاسعار الذي يعلن من قبل الاقتصاديين المتخصّصين الفنيين ، وكذلك ربط الديون بالمستوى العام للاسعار ، فهل يجوز هذا العقد من الناحية الشرعية ؟

ولأجل توضيح الفكرة أكثر نضرب المثال التالي لبيان ربط الأجر أو الدين بالمستوى العام للاسعار :

إذا كان عقد العمل يستمر لمدّة خمس سنوات على أن يدفع في كل سنة ألف ومائتين ديناراً ، أو كان القرض بهذا المقدار يُدفع في كل شهر مئة دينار ، ففي الشهر الثاني إذا زادت الاسعار بمقدار 10 % فيجب على المؤجر أن يدفع مئة وعشرة دنانير ، وكذا المقترض ، فإن ارتفعت الاسعار في الشهر السادس بمقدار 30 % فيجب أن يدفع مئة وثلاثين ديناراً وهكذا ، ومعنى هذا : أنَّ في الشهر الواحد يدفع المؤجر أو المدين مئة دينار بالاضافة الى نسبة ارتفاع الاسعار.

والجواب : أنّ هذا العقد بالنسبة للاُجرة إذا كان بصيغة الاتفاق منذ بداية العقد على أن يزداد الأجر النقدي الأساسي في كل سنة - أو كل شهر إذا كان التضخم سريعاً - لاحقة بنسبة الزيادة العامّة في الاسعار الذي يقاس من قبل المتخصّصين المستقلين عن طرفي العقد ، فيكون معنى ذلك : أنَّ الأجر هو نقد معين بإضافة زياد نسبة التضخم ، فيكون العقد صحيحاً إذا قلنا إنَّ جهالة نسبة التضخّم غير مضرّة بهذا العقد. وليس من البعيد أنَّ مثل هذه الجهالة غير مضرّة في العقود ، كما نرى أمثلة كثيرة للعقد الصحيح الذي فيه نوع من الجهالة ، مثل إجارة العامل

ص: 203

على أن يشتغل ثمان ساعات في اليوم ، فكم ينتج هذا العامل في عمله ؟ وكم يحتاج من الوقت للذهاب إلى المرافق وشرب السجائر والصلاة وحضور الجمعة أو الجماعة ؟ كل هذا جهالة ، إلاّ أنّها لا تفسد العقد لأنها لا تؤدّي الى نزاع ، وقد رأينا أن في الروايات كثيراً من الأحكام التي تنهى عن الجهالة إذا أدّت الى نزاع بين المتعاملين ، وتجيز الجهالة إذا كانت لا تؤدّي الى نزاع بين المتعاملين ، ففي بيع الحليب في الاسكرجة مع ما في الضرع توجد جهالة إلاّ أن الشرع قد أجاز هذا البيع ، وكذا في بيع العبد الآبق مع الضميمة ، إذ توجد جهالة الحصول على العبد الآبق ، ولكن بما أنَّ هذه الجهالة لم تؤدِّ الى نزاع بين المتعاملين حيث يكون الثمن كلّه في مقابل الضميمة - كما قالت النصوص - كان العقد صحيحاً ، وكذا في صحة بيع الثمار لسنتين إذا ظهرت الثمرة ، وغيرها من الأمثلة الكثيرة التي جوَّز الفقهاء فيها العقد مع وجود جهالة غير مفضية الى نزاع. كما قد يدعى أنَّ هذه الجهالة معلومة للطرفين على وجه الترتيب.

وقد فسّر الغرر - الذي جاء عن النبي النهي عنه - بالخطر الذي يقدم عليه الإنسان لا مطلق الجهالة.

وقد يرى بعضٌ أنَّ الغرر المنهي عنه في الشريعة الإسلامية هو لأجل حفظ العدل بين طرفي العقد ، لأنَّ الخطر الذي يقدم عليه الإنسان في العقد إذا كان بحدّ يؤدّي إلى الحاق ظلم بأحد الطرفين لم يرضَ به لو علم الحقيقة قبل العقد ، أمّا الجهالة هنا فحتى لو قلنا أنّها خطر فهي لا تؤدّي الى ظلم بأحد الطرفين ، بل على العكس هي تؤدّي الى تحقيق العدل بينهما في ظلّ ارتفاع الأسعار وذلك : لأنّ زيادة نسبة الاسعار معناه تخفيض القوة الشرائية للاجور ، وهذا الأمر يجعل المؤجر ( صاحب العمل ) قد حصل على أرباح من زيادة الأجور يوازي التضخم ، فإنْ اقتطعنا منه جزءاً من هذه الارباح نتيجة زيادة الاسعار وقدمناه للعامل كان هذا اقرب إلى العدل ، ومن الواضح ان هذا العقد لا يؤدّي في بعض الضروف الى نقيصة

ص: 204

الأجر الذي عُيّن للعامل حتى إذا تحسن وضع النقد ، لأنَّ الأجر محدد بإضافة نسبة ارتفاع الأسعار ، فان لم يكن ارتفاع في الاسعار بل انخفضت في ضروف معينة فلا يقل الأجر الذي حدّد للعامل.

على أنّه يمكن من الأول أن يتّفق العامل مع صاحب العمل على أن يكون اجرة ما يسمى بسلة السلع ، وهي عبارة عن مجموعة من سلع مختلفة محددة وخدمات موصوفة ، أو ما يقابلها من النقد الورقي على أن يكون الخيار في اختيار احدهما إلى العامل. وليس هذا من قبيل التردد في الأجرة ، لأنَّها معينة وهي مجموعة السلع والخدمات ولكن للعامل الحقّ في أخذ قيمتها نقداً.

وهذا التكييف الثاني يختلف عن الأول من ناحية أنَّ وضع النقد الورقي إذا تحسن ، فمعنى ذلك امكان شراء سلة السلع والخدمات بنقد أقل ، وبهذا سوف يقل أجر العامل الذي ربط نفسه بسلة السلع والخدمات عن العامل الذي كان أجره محدداً من الأول بالنقد ، فمثلاً العامل الذي ربط نفسه بسلة السلع والخدمات إذا كانت قيمتها ألف دينار ، وقد هبطت السلع وتحسن النقد فصارت هذه السلع والخدمات توفر بخمسمئة دينار ، فلا يستحق العامل إلاّ نفس السلع أو الخمسمئة دينار ، بخلاف العامل الذي عُيّن أجره من الأول بألف دينار ، ففي حالة تحسن النقد وازدياد القوة الشرائية له لا ينخفظ أجره الى أقل من ألف دينار التي حددت في العقد.

13 - هل يمكن ربط الدين وغيره بمستوى الاسعار ؟

اشارة

ونحن في هذا البحث لا نتكلم عن الدين لوحده وربطه بالمستوى العام للاسعار ، بل لابدّ من الكلام بنحو عام عن كل عقد يتم بين طرفين ، كالإعارة ، ومال المضاربة ، والمال المبيع إذا انخفضت قيمته السوقية نتيجة ارتفاع الأسعار ، فلو

ص: 205

استعرتُ بيتاً وقد اشترط عليّ المالك ارجاع البيت مع نسبة التضخم الذي حصل في ارتفاع قيمة البيوت ، وكذا إذا اعطيت مال المضاربة واشترطت ارجاع هذا المال مع نسبة التضخم عند التصفية ، وكذا إذا اشتريت مالاً ولم يسلمه البائع ولكن اشترطت عليه أن يسلمني المال المبيع بإضافة نسبة التضخم التي حصلت نتيجة تأخيره في الدفع ، وكذا اذا استقرضت مالاً واشترط عليّ المقرض أن اُرجع هذا المال مع نسبة التضخم عند الأداء ، فهل يصح هذا الربط لهذه الاُمور بالمستوى العام للاسعار بحيث ترجع السلعة أو النقد مع نسبة التضخم التي نشأت من ارتفاع الاسعار ؟

وهذا معناه في الحقيقة اشتراط ضمان القيمة الشرائية إذا تنزلت في النقد وفي السلعة المعارة أو حتى السلعة المستأجرة ، فهل هذا الشرط صحيحاً ؟

والجواب : لا بأس بالاشارة الى أقسام الضمان هنا بعد معرفة معناه ، فلا نقصد من الضمان إلاّ : جعل الشيء بعهدة الغير بحيث لو تلف كان مسؤولاً عنه. فالمال لمالكه وخسارته عليه ولكن يتداركها الضامن بالشرط أو العقد. وهذا ضمان عقلائي يختلف عن الضمان الاصطلاحي ويتصور في الديون والأعيان.

أقسام الضمان :

1 - تضمين المال على تقدير تلفه أو نقصه « فهو مثل ضمان الغرامة ».

2 - تضمين قيمة المال ، بمعنى أنَّ المال الذي يكون تحت يدي وقد اشتريته بثمن معين لو انخفضت قيمته السوقية نتيجة لتقلبات الأسعار في السوق فيجب على الضامن تدارك قيمته ، كما إذا اشتركتُ معك بالنصف في شراء بيت قيمته مليون تومان ثم ضمنت لك قيمة البيت ، فلو نزلت قيمته السوقية الى نصف مليون تومان كانت الخسارة علينا معاً بقانون الشركة ، ولكن الضمان الذي قمتُ به يجعلني ادفع لك قيمة ما دفعته لي وهو نصف مليون تومان.

ص: 206

3 - تضمين تنزل المنفعة الاستعمالية للسلعة.

4 - تضمين تنزل القيمة الشرائية للنقد ، بمعنى أنَّ المقترض يشترط ارجاع العين مع نسبة تنزل القيمة الشرائية إن حصلت نتيجة التضخم.

أمّا القسم الأول من الضمان : فو ضمان صحيح حتى على الأمين غير المحسن مع الشرط ، أمّا الأمين المحسن فهو كالودعي الذي استؤمن لحفظ المال فلا يمكن أن يقال بتضمينه ، للتنافي بين إحسانه وتضمينه عرفاً في صورة التلف السماوي وقد قال تعالى ( ومَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) .

وأمّا الأمين غير المحسن وهو الذي نشأت أمانته من الإذن له في كون المال تحت يده كالمستأجر الذي بيده الدار فيصح تضمينه المال في صورة التلف السماوي ، إذ لا منافاة بين وضع المال تحت يده وتضمينه في صورة التلف ، وما ورد من الأدلّة على عدم تضمين الأجير مثلاً أو أي أمين آخر فهو في صورة كون العقد مطلقاً ( غير مقيّد بالضمان ) فكأنّ هذه الروايات أرادت أن تقول إنَّ ارتكازية ضمان على اليد ما أخذت حتى تؤدي مرتفعة في الأمين الذي سُلّط على العين ، فلا نحكم بضمانه إلاّ في صورة التعدي أو التفريط ، أمّا إذا كان العقد مقيداً بالضمان في صورة كون التلف سماوياً أو من قبل شخص آخر فهو ضمان قد جاء من قبل الشرط ولا مبرر لعدم نفوذه كما لا مبرر لعدم نفوذ عقد الضمان إذا حدث حتى بالنسبة للوديعة ، فإنَّه ضمان بواسطة العقد لما تحدثه السماء ، وبه يخرج المودع عن كونه محسناً لمقابلة تضمينه هنا للمنفعة التي يستلمها عوض الضمان العقدي. ولعل هذا هو المقصود من قول العلماء : « إنَّ عدم الضمان على المستأجر وأمثاله هو بالإطلاق ، فلا ينافي اشتراط الضمان عليه بالشرط أو العقد ».

وقد تقدّمت الأدلّة من الروايات على صحة شرط الضمان على الأمين الذي وضعت السلعة تحت يده في مبحث « صيانة العين المستأجرة » فلا نعيد.

أمّا القسم الثاني من الضمان : بمعنى جعل مالية المال وقيمته في عهدة

ص: 207

شخص آخر ، أي أن القيمة مضمونة بحيث لو نزلت قيمة المال يكون الشخص الضامن مسؤولاً عن هذا النزول ولو كانت العين باقية ، وهو ما يسمى باشتراط عدم الخسران من الناحية التجارية ، وهو عبارة عن جبران تنزل القيمة السوقية على الغير رغم أن العين هي ملك لشخص آخر.

وهذا الضمان مشروع دلّت عليه الروايات ، منها :

1 - صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام « في رجلين اشتركا في مال فربحا فيه ، وكان من المال دين ، وعليهما دين ، فقال احدهما لصاحبه : أعطني رأس المال ولك الربح وعليك التوى ، فقال الإمام علیه السلام : لا بأس إذا اشترطا ، فإذا كان شرطاً يخالف كتاب اللّه فهو ردّ الى كتاب اللّه عزّوجلّ » (1).

وهذا يدل على مشروعية المضمون في نفسه وكونه قابلاً للاشتراط وقابلاً لانشائه في عقد مستقل ، وهذا المضمون هو عبارة عن تصدي أحد الشريكين لضمان قيمة المال الذي تشارك به أولاً ، مع كون الشركة باقية على ملكية الشريكين معاً.

2 - صحيحة رفاعة قال : « سألت أبا الحسن موسى علیه السلام عن رجل شارك رجلاً في جارية له وقال : إنّ ربحنا فيها فلك نصف الربح ، وإن كانت وضيعة فليس عليك شيء ، فقال علیه السلام : لا أرى بهذا بأساً إذا طابت نفس صاحب الجارية » (2). فمع كون الشركة باقية لغرض المناصفة في الربح قد ضمن أحدهما للآخر مالية شريكه بحيث لو خسر فتكون الخسارة في عهدته.

وهذا الضمان لمالية المال وقيمته (3) يتمشى في كل سلعة تكون لها قيمة ولا

ص: 208


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 4 من الصلح ، ح 1.
2- المصدر السابق : ب 1 من كتاب الشركة ، ح 8.
3- (3) المراد من القيمة هي المالية الخالصة للسلع المشتركة بين جميع الأموال ، سواء كانت تلك السلع مثلية أو قيمية ، من دون أن تلاحظ فيها أي خصوصية من الخصوصيات التي تتفاوت بها الرغبات ، فالسلع تكون مضمونة مع أوصافها الدخيلة في ماليتها ، كما أنَّها مضمونة بخصوصياتها النوعية والشخصية.

يشمل ( مالية النقود الورقية ) لأنَّ النقد الورقي ليس سلعةً ، بل هو قوّة شرائية متجسدة ، وهو محض القيمة فيختلف عن السلع التي دلّ الدليل الشرعي المتقدّم على ضمان ماليتها.

وعلى صحة هذا الضمان ، فإذا استعار شخص العين - كالسيارة - لمدّة معينة واشترطتُ عليه الضمان إن نزلت قيمتها السوقية ، فيجب عليه ضمان تنزل القيمة السوقية إن ارجعها وقد إنخفضت بسبب السوق. وكذا إذا كان الأجر على العمل الذي أملكه وقت ابرام العقد وكان عيناً مشخصة لها قيمة سوقية ، واشترطتُ على المالك أن يضمن لي قيمتها وماليتها إذا نزلت وقت الدفع ، وكذا في مهر الزوجة إذا كان عيناً مشخصة إذا اشترطت الزوجة مالية العين إذا نزلت القيمة السوقية وقت الدفع. وكذا المال المبيع إذا انخفضت القيمة السوقية وكان عيناً مشخصة وقد اشترط المشتري ضمان القيمة وقت الدفع مع التأخير من قبل البائع. كما ويشمل هذا الضمان غصب العين مع ارجاعها وقد انخفضت القيمة السوقية ، ولكن هذا الضمان قد يكون هنا من باب أنَّ الغاصب قد ضرّر المشتري ، فيجب عليه جبران ضرره ، وهو ما يقال من أن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال.

وقد نقول : يمكن الاستدلال على ضمان القيم ومالية الشيء بإدلة نفوذ الشرط « المسلمون عند شروطهم » لمن لم تثبت عنده الروايات المتقدّمة ، ولكن يقال : إنَّ صحة هذا الشرط ووجوب الوفاء به متوقّف على اثبات كونه ليس خلاف القرآن والسُنَّة فنحتاج الى دليل على جواز هذا الفعل ( وهو ضمان قيمة الشيء ) حتى يكون اشتراطه في العقد صحيحاً وملزماً ، فما هو الدليل على جواز هذا الضمان ؟

الجواب : أنَّ الدليل هو ما ثبت عند علماء المسلمين من ضمان قيمة الأشياء عند إقراضها للغير وهي قيمية ، فيكون المقترض مسؤولاً عن ارجاع القيمة ، لأنّ

ص: 209

القرض هو : عبارة عن تمليك للعين مع الضمان ، وبما أنَّ العين قد انتقلت الى ملك الغير فيكون المقترض مسؤولاً عن قيمتها فقط ، فلو فرضنا أنَّ القيمة للعين قد نزلت ، فيجب على المقترض ارجاع القيمة قبل نزولها ( أي حين الاقتراض ) وهذا يكفي لاثبات جواز ضمان قيمة الشيء ، فإذا جاز ، جاز اشتراطه ولا يكون مخالفاً للكتاب والسنة.

وأمّا القسم الثالث : وهو تضمين تنزل المنفعة الاستعمالية للسلعة ، بمعنى أنَّ الثوب الضخم الذي استعاره أحد ، ثم ارجعه وقد خفت ضخامته ( أي خفت وقايته من البرد ) نتيجة للاستعمال يكون لصاحب الثوب الحق في تضمين هذا التنزل للمنفعة الاستعمالية بالشرط. وكذا الدواء الذي استعاره أحد وأرجعه بعد أن خفّ تأثيره نتيجة لافتقاره لبعض الخواص التي كان موجودة فيه بسبب مرور الزمان.

ودليل هذا الضمان هو كل ما دلّ على أنَّ الاوصاف الذاتية للشيء هي مضمونة على آخذها لو تلفت مع شرط الضمان عليه ، كما تقدّمت الأدلّة في بحث صيانة العين المستأجرة فلا نعيد.

وبما أن تنزل المنفعة الاستعمالية بالمعنى الذي ذكرناه يعتبر نقصاً في السلعة وتغييراً في وصفها الذاتي فهي مضمونة على الآخذ لو شرط عليه المضان.

وأمّا القسم الرابع من الضمان وهو : تضمين القيمة الشرائية للنقد الورقي ، فقد يقال بصحة هذا الضمان بدون شرط ، بمعنى أنَّ النقد الورقي الذي يؤخذ من أحد بعنوان القرض أو الاعارة أو بأي عنوان آخر ، يكون على الآخذ إرجاع نفس القوة والقيمة الشرائية للنقد الورقي حين التسليم ، فإذا انخفضت القوة الشرائية له بإزدياد التورم ، كان على المستلم أن يرد نفس الشيء الذي أخذه مع زيادة تساوي قيمة التورم ، بحيث يكون هذان الأمران مساويين للنقد حين تسلمه أولاً.

ولكن الجواب : هو أنَّ العرف لا يرى في دفع النقد الورقي إلاّ مسؤولية ارجاعه بنفسه كما سُلّم ، لأنَّ الاعطاء كان بنفسه فالارجاع يكون كذلك ، وما ذاك

ص: 210

إلاّ لأنّ هذه الأوراق النقديّة هي أموال اعتبارية تحمل قيمة شرائية ونحن لم نأخذ منه إلاّ الأوراق الاعتبارية فيجب ارجاعها بنفسها ، وأما القوة الشرائية فهو أمر معنوي تحمله الأوراق النقدية فلا يجب ارجاعه لأنّه ليس قيمة حقيقية ، وبعبارة اُخرى أنَّ الأوراق النقدية أصبحت أموالاً بالاعتبار ، بمعنى أنَّ قيمتها متقومة به فهي كالسلع ولكنها تحمل قيمة اعتبارية لا حقيقية ، فلا يجب ارجاعٌ إلاّ النقد الورقي ، لا قيمته الشرائية.

على أن هذا التكييف مشترك بين زيادة التورم ونقيصته ، فيجب أن يلتزم من يقول به بدفع الأقل ممّا أخذه لو انخفض التورم ، ولا يلتزم بهذا أحد ، ممّا يكشف على أن القوة الشرائية ليست هي المنظورة حين تسلّم النقد الورقي.

ثم إن الضمان إذا كان للنقد الورقي عرفاً ، وليست القوة الشرائية مضمونة - لما قلناه - فيكون ارجاع القوة الشرائية على أنَّ الآخذ مسؤول عنها بالعقد من باب أكل المال بالباطل ، حيث لا يستحقها الطرف الآخر ، وعلى هذا سوف يكون اشتراطها بالعقد غير جائز أيضاً.

هذا وقد يقال : بأنّ صحة هذا الضمان يؤدّي الى حلية الربا القرضي ، ولكنه قول باطل حيث اننا إذا قلنا بصحة هذا الضمان فتقيد ادلّة حرمة الربا في صورة ارجاع العين مع الزيادة مع عدم تنزل القيمة السوقية أو مع ارتفاعها.

وجه آخر لضمان القوة الشرائية للنقد :

وخلاصته أنَّ النقد بأقسامه ( الذهب والفضة والاوراق النقدية ) هي أموال ( حقيقة أو اعتباراً ) وهذه الأموال مثلية ، وتكون قوتها الشرائية من صفات المثل ، فلابدّ من الاحتفاظ بها لدى الأداء ، ولذا يجب ارجاع مبلغ أكبر لدى ضعف القوة الشرائية في وقت الأداء بواسطة التورم.

وهذا الوجه يختلف عن سابقه الذي كيّف الزيادة عند شدة التورم والنقيصة

ص: 211

عند انخفاض التورم ، وحيث يكيّف هذا الوجه الزيادة عند شدة التورم فقط ، وذلك : لأنّ المستلم للنقد مسؤول عن كميته وعن قوته الشرائية التي فيه معاً ، فإذا انخفظت القوة الشرائية كان عيه ارجاع مقدار أكبر ، حفاظاً على القوة الشرائية التي هو مسؤول عنها ، وإذا ارتفعت القوة الشرائية كان عليه ارجاع نفس الكمية حفاظاً على الكمية.

ويرد على هذا الوجه :

1 - لا تعتبر القوة الشرائية من صفات المثل التي يجب الاحتفاظ بها من قبل الطرف الآخر في ما أخذه من النقد. وسوف نوضح هذا الأمر أكثر فيما يأتي.

2 - إنَّ اختلاف القوة الشرائية في النقد الذهبي والفضي كان أمراً مبتلى به في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله والأئمة علیهم السلام بسب تعرضهما للصعود والنزول ، ولم يرد أثر شرعي يشير الى أنَّ القوة الشرائية ينبغي أن ترجع فيما إذا انخفظت بالاضافة الى ارجاع نفس العين ، بل لم يكن يؤثر هذا في تحريم الزيادة عند الردّ واعتبارها رباً محرّماً لشمولها لقوله تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) ، فكيف يقال بضمان القيمة الشرائية للنقد الورقي الاعتباري ؟!

ثم أنَّ تكييف ضمان القيمة الشرائية إذا تنزل النقد الورقي كان مبتنياً على أنَّ القوة الشرائية من أوصاف المثل ، فلابدّ لنا من تحقيق في معرفة اوصاف المثل التي تضمن وتفريقها عن الاوصاف التي لا تضمن ، فنقول :

إن الشارع المقدّس لم يرد منه نص على تحديد مثلية المثل ، فلابدّ من الرجوع إلى النظر العرفي ، والعرف يرى أنَّ الاوصاف الدخيلة في مثلية المثل وتكون مضمونة إذا زالت هي الاوصاف الذاتية ، ونقصد بها الاوصاف التي تكون ثابتة للشي ومطلوبة بحدِّ ذاتها بغضّ النظر عن نسبتها الى حاجة الإنسان أو سائر الأموال ، كالطعم في البطيخ واللون في القماش ، والسُمك في الثوب لوقايته من البرد ، وخواص الدواء المؤثرة في الشفاء ، وكمية الخبز المؤثرة في الشبع.

ص: 212

أمّا الاوصاف في الشيء الراجعة الى قياس حاجات الإنسان كالثوب السميك الذي يُستعار في الشتاء ويُرجع في الصيف ، والدواء الذي يُستعار مثلاً في حالة كثرة الأمراض وقلة الدواء ويُرجع في حالة شيوع السلامة أو كثرة الدواء ، والخبز الذي يقترض - مثلاً - أو يستعار في حالة جوع المالك ويُرجِع إليه حالة شبعه ، كل هذه الاوصاف لا تعتبر تغييراً في الوصف الذاتي للسلعة ، فلا يقال عن هذا أنَّه تصرّفٌ في السلعة وتقليل من المنفعة الاستعمالية.

وكذا الاوصاف الراجعة الى مقايسة الشيء مع باقي السلع في الرخص أو الغلاء ، كالقيمة أو القوة الشرائية للنقد ، فهي ليست أوصافاً ذاتية للنقد ، فلو نقصت القوة الشرائية للنقد المقترض أو المأخوذ بإذن حين ارجاعه فلا يُعتبر هذا تغييراً في النقد الورقي وتصرفاً فيه يتبعه تقليل المنفعة الاستعمالية عرفاً.

وقد يقال : إنّ إرجاع المثل والصفات الذاتية للنقد مع قلّة المنفعة الاستعمالية ( قلّة القوة الشرائية ) بالقياس الى حاجات الإنسان يوجب ضماناً عند الفقهاء ، وذلك في مثل مَنْ غصب ثلجاً في شدّة الحرّ ثم أرجع نفس المقدار الى مالكه في الشتاء الشديد البرد ، فقد يقال : إنّ المنفعة الاستعمالية التي انتفت ببرد الهواء توجب ضماناً وإن لم تكن من أوصاف المثل ، فيجب على الغاصب الفرق بين ثلج الشتاء وثلج الصيف.

والجواب : أنّ الضمان الذي أوجبه الفقهاء هنا ليس ناشئاً من انتفاء المنفعة الاستعمالية بواسطة برد الهواء ، والدليل على ذلك هو عدم الحكم بالضمان في صورة ما إذا اقترضتُ ثلجاً في الصيف أو استعرته على أن اُرجعه في الشتاء ، وارجعته في شدة البرد ، مع أنَّ القيمة الاستعمالية قد انتفت في المثالين ، فلابدّ لنا من الفحص عن سبب الضمان في مثال الغصب فنقول :

1 - إنّ الغاصب قد أرجع المثل حقيقة فلا وجه لتضمينه من هذه الناحية.

2 - لقد تضرر المالك بتفويت المنفعة الاستعمالية ، ولكن تفويتها لا يوجب ضماناً كما تقدّم في مثال القرض والاستعارة.

ص: 213

نعم ، إنّ تضمين المنفعة الاستعمالية في مثال الغصب كان له سبب خاص وهو الحيلولة بين المالك وبين ما كان يقدر عليه من الانتفاع بثلجه في الصيف ، وهو ما يسمى بالاضرار بمالك الثلج ، بينما هذا الاضرار ( الحيلولة ) لم يوجد في مثال اقدام المالك على الإقراض على أن يُرجع في الشتاء ، لأنَّ الاضرار هو المنع عن الانتفاع بالشيء رغم الحاجة إليه. اذن نتمكن من التفصيل بين مَنْ غصب سلعة أو مالاً (1) وأرجعه بعد مدّة الى صاحبه وقد تنزلت قوته الشرائية والتبادلية نتيجة لزيادة التضخم ، وبين استعارة السلعة أو المال أو الاقراض أو الاجارة ، وقد اُرجعت السلعة أو اُرجع المال ( الورق النقدي ) وقد تنزلت القيمة السوقية أو الشرائية نتيجة لزيادة التضخم ، ففي الصورة الأولى يجب على الغاصب ارجاع ما يناسب التورم بالاضافة الى ارجاع نفس العين ، وذلك لأنّه منع المالك من الانتفاع بعينه رغم حاجته إليه ، فقد اضرّه ضرراً يحكم الارتكاز العقلائي بتداركه ، بالاضافة الى قاعدة نفي الضرر.

أمّا في الصورة الثانية فلا يجب إلاّ ارجاع نفس العين التي دخلت في الضمان وأوصافها الذاتية الدخيلة في المثلية.

أمّا القوة الشرائية والتبادلية فهي ليست مضمونة هنا لأنّها ليست اوصافاً ذاتية دخيلة في المثلية ، ولم يكن هنا أي اضرار بالمالك حتى نقول بوجوب التدارك بالارتكاز العقلائي أو بقاعدة نفي الضرر.

هل حكم السلطة المزيدة للورق النقدي كالغاصب ؟

إنّ السلطة المعتبِرة للاوراق النقدية إذا أدخلت من نقدها مبلغاً كبيراً الى

ص: 214


1- ان هذا التفصيل لا يفرق فيه بين السلع والأوراق المالية الاعتبارية لأنَّ منفعته السوقية هي المنفعة الاستعمالية عرفاً.

السوق ، فانخفضت القوة الشرائية ، وبما أنَّ القوة الشرائية للورق النقدي هي القوة الاستعمالية ، فهل تضمن الدولة - كالغاصب - ما نقص من القوة الشرائية للنقد الورقي ؟

والجواب : بوجود فرق بين الدولة والغاصب ، لأنَّ الدولة هي التي أعطت الاعتبار للاوراق النقدية وهو حقّ لها ، فالقوة الشرائية من أساسها مستمدة من الدولة والسلطة ، وحينئذ يكون من حقّ الدولة إضافة هذه الأوراق النقدية ، لأنّها لم تعمل إلاّ ما كان من حقّها ، وحينئذ لا يحكم عقلائياً بوجود ضمان على الدولة التي أعملت حقها ، بخلاف الغاصب الذي ليس له أي حقّ في الغصب.

ونتمكن أن نُشبّه ما نحن فيه بعصر النقد الذهبي والفضي ، فمن حقّ أي انسان أن يكتشف منجماً للذهب أو الفضة رغم أدائه الى نزول القوة الشرائية للنقد الذهبي والفضي عند الناس ، ولا يقول أحد بالضمان على المكتشِف ، كما أنَّ من حقّ أي انسان أن يزرع حنطة أو شعيراً أو غيرهما رغم أدائه الى تنزل القيمة التبادلية لهذه الأشياء عند كثرة السلعة خارجاً ، ولا يقول أحد بضمان الزارع لأنّه تسبب في انخفاض القوة التبادلية للسلع.

14 - هل تتعلّق الزكاة بالنقود الورقية ؟

كان يصح في زمان سابق القول بأنّ الأوراق المالية هي نائبة عن رصيدها من الذهب أو الفضة المحتفظ به في خزانة مصدِّر الأوراق ( الدولة ) ، فهي حاكية عن تلك الارصدة ، كما كان يصح سابقاً القول بتبدل الاحتفاظ بالذهب والفضة إلى التعهد بدفع الرصيد لمن جاء بالورقة النقدية الى مصدِّرها. ومعنى هذا أنّ مصدِّر الورقة تعهد تعهداً مستقلاً بإعطاء الرصيد عوضاً عن الورقة التي تقدّم له.

أمّا في هذه المرحلة التي نعيش فيها ، فلا يصح شيء ممّا تقدّم ، بل إنّ المعروف.

ص: 215

عالمياً هو إلغاء التعهد بدفع الرصيد ( الذهب والفضة ) من قبل المصدِّر للورقة النقدية نهائياً ، وأصبح المفهوم من الرصيد الورقي في الوضع العالمي اليوم لكل دولة هو : عبارة عن مجموع ما تمتلكه الدولة من سلع أو أعمال ( القوة الاقتصادية ) بمعنى أن هذه الأوراق النقدية تمكّن صاحبها من امتلاك قدر من السلع أو الأعمال مختلف المقدار وفقاً للوضع الاقتصادي للدولة وقاعدة العرض والطلب ، فإذا ازدهر وضع الدولة اقتصادياً تقوّت الأوراق النقدية وكان ما يناسبها شيئاً مهماً من السلع والخدمات ، وإذا تدهور الوضع الاقتصادي ضعفت هذه الأوراق وكان ما يناسبها شيئاً غير مهم من السلع والخدمات ، ولهذا خرجت هذه الأوراق النقدية عن كونها سنداً ، لأنّ السند إذا كان يحكي عن شيء في ذمة الدولة أو مصدِّر الأوراق فليس من المعقول نزوله أو صعوده أحياناً.

هذا هو معنى هذه الأوراق النقدية في هذا الزمان ، وهذا هو معنى الرصيد الذي يُذكر لها ، ولذا نرى أنَّ القوة الاقتصادية للبلد ( سلع ، اعمال ) توزّع على مجموع النقود التي أصدرتها الدولة ، فلو طبعت الدولة مبلغاً أكثر من النقد انخفضت قوة هذا النقد ، وإذا ألغت الدولة قسماً من الأوراق بدون بدل لها إرتفعت قوة النقد.

وبهذا يتّضح أنَّ الأوراق النقدية في هذا الزمان تعتبر أموالاً بسبب تعهد الجهة المصدِّرة لدفع كمية من السلع أو الأعمال لمن يبرز هذه الأوراق وفقاً لوضعها الاقتصادي ، فإنَّ هذا التعهد يمنح الورقة النقدية اعتباراً أو قيمةً لدى الناس باعتبار ثقتهم بالجهة المصدِّرة.

وعلى هذا تأتي الشبهة القائلة : بتعلق الزكاة بهذه الأوراق ، لأنَّ الأدلّة دلّت على أنّ الزكاة إنّما تكون في اُمور منها ( الذهب والفضة ) ، ولا خصوصية للذهب والفضة إلاّ لكونهما نقدين رائجين ، كما يشهد له اشتراط كونها مسكوكين ، والأوراق النقدية في هذا الزمان هي نقد رائج ، اذن يتعدى العرف من الذهب والفضة إلى هذه الأوراق النقدية ، فهل نجزم بالتعدي أو نقول بوجود فرق بين النقد

ص: 216

الذهبي والفضي والأوراق النقدية فلا يكون الحكم واحداً لهما ؟

الجواب : أنّ احتمال الفرق بين الأوراق النقدية والنقد الذهبي والفضي موجود ، ومع هذا الاحتمال لا نعدّي حكم الزكاة إلى الأوراق النقدية ، وتوضيح ذلك :

إنّ الشريعة الإسلامية قد فرضت ضرائب على أصحاب الأموال وجعلتها للدولة وللمحتاجين من أتباع الدولة وللمصارف العامة الاُخرى ، وهذا شيء واضح ، ومن البديهي أيضاً أنَّ مِلاك هذه الضرائب هو سدّ حاجات الدولة أو المحتاجين أو سدّ الحاجات الاجتماعية العامّة كما اشارت الى ذلك آية الفيء ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) فعلى هذا لو جزمنا بأنَّ المِلاك من زكاة النقدين منحصرٌ في سدّ الحاجات ، فيكون هذا الملاك مشتركاً بين النقدين والأوراق المالية ، ولكن من المحتمل أنَّ هذا المِلاك المتقدّم هو أهم ملاكات زكاة النقدين ، وهناك ملاك آخر يشترك معه وهو « المنع من الكنز وركود مبلغ من النقد السابق » الذي يسبب اختلالاً في الوضع الاقتصادي القائم نقده على الذهب والفضة (1).

وإذا جاء هذا الاحتمال وعرفنا أنَّ مقاييس تحسين الاقتصاد القائم على النقد الذهبي والفضي المحدود تختلف عن مقاييس تحسين الاقتصاد القائم على أساس النقد الورقي غير المحدود ، القائم على أساس الجعل والاعتبار وثقة الناس بالجهة المعتبرة ( سواءٌ لم يكن لها رصيداً وكان لها رصيد من السلع أو الخدمات التي تعينها الدولة ، كأن يكون ذهباً أونفطاً أو معدناً آخر أو غير ذلك ) فيكون بالإمكان الاحتفاظ بسيولة الأوراق النقدية رغم كنز بعضها ، ولا يضرّ هذا بالاقتصاد الحالي للبلد ، فلا حاجة الى وضع الزكاة عليه ، بينما كان الاحتفاظ بسيولة الذهب والفضة مضرّاً بالاقتصاد القديم لمحدودية النقد ، فقد وضع الإسلام ضريبة

ص: 217


1- وممّا يؤيّد هذا الملاك تعلق الزكاة بالنقدين بشرط كونهما مسكوكين ، أمّا إذا كانا حُليّاً ( أي ليسا نقدين ) فلا يكون كنزهما مضرّاً بالوضع الاقتصادي لخروجهما عن كونهما نقداً مربحاً.

على كنزه.

وبهذا نصل الى نتيجة عدم إلحاق الأوراق النقدية بالنقدين ( الذهبي والفضي ) في الزكاة ، لاحتمال أنَّ ما هو دخيل في ملاك تعلق الزكاة هو اكتنازهما مع كونهما محدودين ، فيضران بالوضع الاقتصادي القديم.

أمّا الأوراق النقدية فبما أنّها ليست محدودة فلا يكون اكتنازها مضرّاً بالاقتصاد الحديث ، فلا داعي لسريان حكم الزكاة على النقدين للأوراق النقدية.

ثم إنّ مَنْ يقول بإلغاء خصوصية الذهب والفضة ويجعل الحكم دائراً مدار النقدية فيعدّيه عرفاً الى هذه الأوراق النقدية - كما جاء عن مجمع الفقه الإسلامي المؤتمر التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي - يواجه مشكلة وهي : كيف يعين النصاب ؟ وهل تقاس قيمة الأوراق النقدية بقيمة الذهب أو الفضة ؟ فالذهب الذي نصابه عشرون ديناراً ، وكل دينار عبارة عن ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي يساوي في هذا اليوم من النقد الورقي ما يقارب سبعمئة وخمسين دولاراً أمريكياً ، بينما الفضة التي نصابها عبارة عن مائتين درهماً والتي تساوي في الأوراق النقدية خمسة وسبعين دولاراً أمريكياً ، فهل يكون النصاب على الأوراق النقدية هو الأول أو الثاني ، أو بالتخيير ؟ وبأيِّ دليل ؟

وعلى هذا ، فبناءً على شرط القبض في مبادلة الذهب والفضة - كما هو المشهور - فهل نتعدى من ذلك إلى الأوراق الاعتبارية إذا كانت من عملتين ؟

والجواب : إنّ التعدي مشكل لأنَّ الحكم في النقدين تعبدي لا نعرف له ملاكاً ، خصوصاً مع عدم اختصاص شرط القبض بالذهب والفضة المسكوكين حتى نحمله على مطلق النقد الرائج ، بل انّ الحكم مطلق يشمل حتى الذهب والفضة غير المسكوك.

والنتيجة : إننا ندعو مجمع الفقه الإسلامي الموقّر باعادة النظر في الحاق الأوراق النقدية بالنقدين في وجوب التقابض وفي وجوب الزكاة.

ص: 218

15 - الزكاة في البنوك الإسلامية لأموالها وودائعها

انتهينا في البحث السابق الى عدم وجوب الزكاة على الأوراق النقدية الرائجة في هذا الزمان خلافاً لمن ذهب الى قياسها على النقدين ( الذهب والفضة ).

والآن نتكلم على فرض أنَّ الزكاة واجبة على الأوراق النقدية فنقول :

هل تجب الزكاة في الأوراق النقدية التي تملكها البنوك الإسلامية باعتبارها أموال لها اودعت من قبل العملاء ، فصارت ملكاً للبنك ، لأنَّ الوديعة هي قرض للبنك مع الضمان ؟

والجواب : أنَّ هذه البنوك الإسلامية إذا كان لها اشخاص حقيقيون يملكونها حسب سهامهم ، فتكون هذه الأوراق النقدية ملكاً لهم بما أنَّ كل واحد منهم يملك شخصية حقيقية ، وحينئذ يجب على كل واحد منهم الزكاة بمقدار حصته التي يملكها من البنك بشروط وجوب الزكاة.

أمّا إذا كان البنك تابعاً للدولة ( الحكومة ) أو لأي جهة من الجهات كوزارة معينة ، أو للمستضعفين أو غيرهما من الأشخاص غير الحقيقيين ، فهل يجب في الأوراق النقدية التابعة لها زكاة ؟

الجواب : لابدّ لنا أن نرى إمكان تصور الملكية للشخصية المعنوية أولاً وتحقّقها في الخارج من ناحية الشرع ، وهل أن ثبوت الضرائب الشرعية هو على الأشخاص الحقيقيين فقط أو يشمل الشخصية المعنوية أيضاً ؟

والجواب عن التساؤل الأول : هو إمكان التصور لملكية الجهة بل وقيام الدليل عليها في الخارج كملكية الزكاة للجهة التي منها الفقراء ، وكملكية حقّ الامام لمنصب الامامة وكملكية حقّ السادات - كرمهم اللّه تعالى - لهم ، وكملكية المسلمين للأراضي الخراجية والوقف على حسب ما يوقفه أهله ، وبعدم الفرق بين

ص: 219

تملك هذه الجهات وجهة البنك أو الوزارة أو النقابة أو المؤسسة يتم القول بملكية البنك للنقد الورقي.

والجواب : عن التساؤل الثاني : هو ثبوت جعل الضرائب في الشريعة المقدّسة على الاشخاص الحقيقيين ، أمّا الشخصية المعنوية وان ملكت إلاّ أن ثبوت الضرائب عليها غير ثابت ، فإنّ حقّ الإمام علیه السلام وحقّ الفقراء والصدقات ( الزكاة ) وأموال المسلمين التي كانت في زمن الأئمة علیهم السلام لم يرد فيها نص على خضوعها لقانون الضرائب على طول خط الأئمة علیهم السلام وحياة النبي صلی اللّه علیه و آله . وهذا دليل على أنَّ الشخصية المعنوية غير خاضعة للضرائب.

* * *

ص: 220

التذكية الشرعية وطرقها الحديثة

اشارة

ص: 221

ص: 222

المقدمة :

اشارة

إنّ من الموضوعات المهمّة التي طرحها مجمع الفقه الإسلامي - بجدة في دورته العاشرة - هو التذكية الشرعية وطرقها الحديثة ، الذي سوف نتعرض فيه إلى معنى التذكية وشروطها الشرعية ، لنخلص إلى أنّ الذبح بالمكائن الحديثة هل يطلق عليه ، أو يمكن أن يطلق عليه التذكية الشرعية إذا روعيت فيه شروط التذكية الشرعية ؟

كما أننا سوف نتعرض ثانياً إلى حكم ما جهل إسلام ذابحه ممّا حلّ أكل لحمه ، أو بالأحرى نتعرض إلى حكم ما جهل تحقّق أحد شروط التذكية الشرعية ممّا حلّ أكل لحمه ، ليكون البحث أكثر نفعاً وأعمّ ممّا طرح في موضوع الذبائح.

كما أنّنا سوف نتعرض لحكم اللحوم المستوردة التي ابتلي بها المسلمون في هذه الأيام وغزت الدول الإسلامية. وطبيعي سوف يقتصر كلامنا على تذكية البهائم والطيور التي تقع عليها الذكاة مع القدرة عليها.

التذكية لغةً :

التذكية هي الذبح ، وذكّيتم أي ذبحتم ، والذبح - بالفتح - هو قطع الحلقوم من

ص: 223

باطنٍ عند النصيل ، وهو موضع الذبح من الحلق ، وأصل الذبح هو الشق ، وهو مصدر قولك : ذبحتُ الحيوان فهو ذبيح ومذبوح (1).

التذكية شرعاً :

وأمّا التذكية الشرعية فقد وقع الاختلاف في معناها عند الفقهاء ، فقد ذكر مشهور علماء الإمامية : أنّ التذكية عبارة عن قطع الأعضاء الأربعة التي هي :

المريء : وهو مجرى الطعام.

والحلقوم : وهو الحلق ومجرى النفس.

والودجان : وهما عرقان محيطان بالحلقوم.

هذا ، وذكر صاحب نهاية الكرام ومحكي المهذب الإجماع عليه (2).

ولكن ذهب الأسكافي إلى أنّ التذكية عبارة عن قطع الحلقوم وخروج الدم ، وقد ذكر في الدروس أنّه يظهر من الخلاف ، ومال إليه الفاضل ، وربما مال إليه في المسالك (3).

ولعلّ دليل المشهور هو صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج قال : « سألت الإمام أبا إبراهيم ( الإمام الكاظم علیه السلام ) ... فقال : إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك » (4).

فإنّ مفهومها ثبوت البأس إذا لم تفر ( تقطع ) الأوداج.

وأمّا دليل المخالف للمشهور فقد ذكرت صحيحة زيد الشحّام عن الإمام

ص: 224


1- مجمع البحرين ، مادة ذكى وذبح ، ولسان العرب مادّة ذبح.
2- راجع جواهر الكلام : ج 36 ، ص 105.
3- المصدر السابق.
4- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 1.

الصادق علیه السلام أنّه قال : « ... إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس » (1).

وبما أنّ النسبة بين صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج وصحيحة زيد الشحّام العموم من وجه ، حيث يجتمعان في صورة ما إذا قطع الحلقوم والأوداج الثلاثة ، ويفترقان في صورة قطع الحلقوم بدون الأوداج ، أو قطع الأوداج الثلاثة بدون الحلقوم ، فيقع التعارض بينهما في صورة قطع الحلقوم فقط ، خصوصاً إذا نظرنا إلى أن التذكية حكم شرعي يحتاج إلى التوقيف.

وقد نقل صاحب الجواهر قدس سره إمكان أن لا تكون معارضة بين صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج وصحيحة زيد الشحّام ، بناءً على ما ذكره المقداد « من أنّ الأوداج الأربعة متصلة بعضها مع بعض ، فإذا قطع الحلقوم أو الودجان فلابدّ أن ينقطع الباقي معه ، ولعلّه كذلك في الذبح المتعارف المسؤول عنه في النصوص ، لا ما إذا قصد الاقتصار على أحدها ... وحينئذ فالانتهاء بالذبح المتعارف إلى منتهى الحلقوم يستلزم قطع الجميع ، لأنّها مع اتصالها به على وجه الإحاطة ونحوها لا يزيد عرضها على عرضه ... » (2).

ومع تحكيم المعارضة فإذا شككنا في حصول التذكية الشرعية بقطع الحلقوم وجريان الدم فالأصل عدمها ، كما أنّ التقديم يكون ما ذكره المشهور - من معنى التذكية الشرعية - على ما ذكره غيره كما هو واضح.

وقد وقع الخلاف أيضاً في معنى التذكية الشرعية عند أهل السُنَّة ، فقال بعض : « يعتبر قطع الحلقوم والمريء ، وبهذا قال الشافعي. وعن أحمد رواية اُخرى : أنّه يعتبر مع هذا قطع الودجين ، وبه قال مالك وأبو يوسف ، لما روى أبو هريرة قال : نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن شريطة الشيطان ، وهي التي تذبح فتقطع الجلد

ص: 225


1- المصدر السابق ح 3.
2- جواهر الكلام : ج 36 ، ص 106 - 107.

ولا تفري الأوداج ، ثم تترك حتى تموت. رواه أبو داود. وقال أبو حنيفة : يعتبر قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين » (1).

ولكن اتّفق علماء السنة على أنّ الأكمل في التذكية هو قطع الأوداج الأربعة (2).

الشروط الشرعية للتذكية

اشارة

لقد ذكر الفقهاء شروطاً في الذبح ، وهي :

أولاً : اسلام الذابح :

وهذا شرط ذهب إليه مشهور الإمامية ، ودلّت عليه روايات كثيرة ، منها :

صحيحة سليمان بن خالد قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن ذبيحة الغلام والمرأة هل تؤكل ؟ فقال علیه السلام : إذا كانت المرأة مسلمة فذكرت اسم اللّه على ذبيحتها حلّت ذبيحتها ، وكذلك الغلام إذا قوي على الذبيحة فذكر اسم اللّه ... » (3). وبما أنّ الأحكام يشترك فيها الرجل والمرأة فتدل على المطلوب.

أمّا ذبيحة الكافر فإنّ كان وثنيّاً أو ملحداً أو مرتداً أو مغالياً أو ناصبيّاً (4)

ص: 226


1- المغني لابن قدامة : ج 11 ، ص 44 - 45 ، الشرح الكبير : ج 11 ، ص 51.
2- المصادر المتقدّمة نفسها.
3- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 23 من الذبائح ، ح 7 وغيره.
4- حدث لآية اللّه الشيخ محمد المؤمن « حفظه اللّه تعالى » حدث في الدورة الثامنة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في بروناي « دار السلام » حيث قدم بحثه المعنون ببطاقة الائتمان ، وكان يصدره بالسلام على النبي وآله ولعن أعدائهم. فأثارت كلمة « لعن اعداء أهل البيت علیهم السلام » بعض الحضّار حيث طبق عنوان الاعداء على نفسه ومن وافقه ، واعتبر هذا من اللعن المبطّن لهم ولبعض الصحابة. ثم طلب الرئيس رفع البحث من طاولة الاجتماع وهكذا كان. أقول: للتوضيح ان كلمة: أعداء أهل البيت تختلف عن كلمة المخالفين لأهل البيت. وأهل السنة (باستثناء النواصب) يعتبرون عند الإمامية من المخالفين لا أعداء لأن العدو وهو الناصبي يُعتبر منكراً لضرورة قرآنية وهي «محبة أهل البيت» فيكون كافراً. بينما المخالف لا يحكم بكفره لانه ليس عدواً لأهل البيت وان كان قد خالف طريقتهم باعتقاد الامامية فالمخالف ليس منكراً لمحبة أهل البيت، بل قد يفتخرون بمحبتهم ويطلبون الشفاعة منهم استناداً إلى تعاليم القرآن التي أمرت بمحبتهم. ولكن وللأسف طبق بعض على نفسه العداء لأهل البيت واعتبر نفسه هو الملعون. وهذا التطبيق الذي حصل لا يرتضيه حضار المجمع بالتأكيد، إذ فيه من اللوازم ما لا يقبله المسلم فكان الأنسب لرئيس المجمع ان لا يتخذ قراراً برفع البحث عن طاولة المؤتمر وينسبه إلى المجتمعين ولكن الذي حصل خلاف ذلك وهو نقطة غير مضيئة في تاريخ هذا المجمع. غفر اللّه للجميع. ومن الطريف ما حدث في الدورة العاشرة للمجمع حيث زفّ الأمين العام للمجمع «الدكتور محمد الحبيب بن الخوجه» بشرى طبع المجمع كتاب «المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب» لرئيس المجمع الدكتور «بكر بن عبد اللّه أبو زيد». وحينما تصفحت الجزء الأول منه تذكرت هذه الحادثة السابقة حيث وجدت السب واللعن لمن لم يرتأي رأي صاحب الكتاب ومسلكه وهو كثير جداً. اللّهم نسألك العفو والارتفاع عما لا يرضي اللّه سبحانه وتعالى والحمد لله أولاً وآخراً ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.

ونحوهم فذبيحته محرَّمة عند الإمامية « بل في المسالك وغيرها : أنّه مجمع عليه بين المسلمين » (1).

وإنّ كان الكافر كتابيّاً فالأقوال ثلاثة عند الإمامية ، ثالثها التفصيل بالحلّية مع سماع لتسميتهم ، والحرمة مع عدمها.

ولكن المشهور شهرة عظيمة - عند الإمامية - حرمة ذبيحته ، « بل استقرّ الإجماع في جملةٍ من الأعصار المتأخرة عن زمن الصدوقين على ذلك ، بل والمتقدّمة كما حكاه المرتضى أو الشيخ بعد اعترافهما بأنّهُ من منفردات الإمامية ، بل

ص: 227


1- جواهر الكلام 36 : 79 - 80.

كاد يكون من ضروريات المذهب في زماننا ، مضافاً إلى النصوص المستفيضة التي إن لم تكن متواترة بالمعنى المصطلح فمضمونها مقطوع به ... » (1).

نعم ، هناك روايات وردت عن أئمة أهل البيت علیهم السلام تجوّز أكل ذبائحهم ، إلاّ أنّ هذه الروايات المجوّزة مطلقاً أو المفصّلة قد بلغت من الاختلاف الشديد ( حتى عدّ صاحب الجواهر اثني عشر وجهاً من هذه الروايات ) ما يوجب القطع بأنّها لم تصدر لبيان الحكم الواقعي (2).

أقول : إنّ الأدلّة الدالة على إسلام الذابح ، والروايات القائلة بعدم أكل ذبائح أهل الكتاب والناهية عن ذبحهم إن كانت مرشدةً إلى ميتة المذبوح فهي تعارض الروايات المجوّزة لأكل ذبائح أهل الكتاب ، وحينئذ نأخذ بروايات التحريم ، للترجيح. ومع تحكّم المعارضة فإنّ الشك في حلية الذبيحة يؤدي إلى جريان أصل عدم التذكية الشرعية ، خصوصاً إذا علمنا أنّ التذكية حكم شرعي يحتاج إلى التوقيف (3).

أمّا علماء أهل السنة فقد اتّفقوا على حلّيّة ذبيحة الكتابي ، مستندين إلى قوله تعالى : (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) حيث فُسِّر الطعام بالذبائح ، لما رواه البخاري عن ابن عباس ومجاهد وقتادة من أنّ طعامهم يعني ذبائحهم.

وقد اختلفوا في ذبائح العرب من أهل الكتاب ، وذبائح نصارى بني تغلب ، ومن كان أحد أبويه غير كتابي ممّا لا يحلّ ذبيحته. وقد استدلّوا لحلّيّة ذبائحهم أيضاً بعموم الآية القرآنية (4). كما قد اختلفوا فيما يذبحه الكتابي لكنيسته وأعياده ،

ص: 228


1- جواهر الكلام : ج 36 ، ص 79 - 80.
2- راجع جواهر الكلام : ج 36 ، ص 81 - 85.
3- التذكية أمر وجودي سواء كان عبارة عن الأفعال المخصوصة التي اشترطها الشارع أو شيئاً بسيطاً حاصلاً منهما.
4- راجع الشرح الكبير : ج 11 ، ص 46 - 47 ، المغني : ج 11 ، ص 35.

فحرَّمه بعض لأنّه اُهلّ به لغير اللّه ، وأحلّه بعض استناداً إلى عموم آية (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (1).

أقول : جاء في لسان العرب : « وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البُرّ خاصة ... قال : وقال الخليل : العالي في كلام العرب أنّ الطعام هو البُرّ خاصة » (2) وهذا هو الذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية.

ثم إنّ الروايات المروية عن أهل البيت علیهم السلام (3) تؤكّد أنّ المراد من الطعام في الآية هو البُرّ وسائر الحبوب ، فكأنّ الروايات عن أهل البيت تقول : إنّ الآية نزلت على لغة أهل الحجاز.

فعلى هذا لا يشمل هذا الحلّ لحوم أهل الكتاب.

على أنّ حلية ذبائح أهل الكتاب من دون توفر شروط حلية الذبيحة التي منها التسمية يؤدّي إلى نتيجة قد لا يلتزم بها أحد من المسلمين ، وهي كون أهل الكتاب أحسن حالا من المسلمين عند اللّه تعالى ، لأنّ المسلم إذا ذبح من دون تسمية عمداً حرمت ذبيحته ، أمّا الكتابي الذي يذبح من دون تسمية تحلّ ذبيحته للمسلمين ، على أنّ التمسّك بحلية كل (4) طعامهم يلزم أنّ تحلل الخمر والخنزير ، فهل يمكن الالتزام بهذه النتائج ؟!

ولهذه النتيجة التي لا يلتزم بها مسلم ذهب الإمامية إلى أنّ حليّة الحبوب أيضاً جهتية ، بمعنى عدم المانع من طعامهم من ناحية كونهم أهل كتاب لا من الجهات الاُخرى.

ص: 229


1- المغني : ج 11 ، ص 37.
2- لسان العرب : ج 12 ، باب طعم.
3- راجع وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 26 من الذبائح وب 27.
4- لأنّ كلمة طعام عامّة تشمل كل طعام لهم.

ثانياً : التسمية من الذابح :

وهذا الشرط لا خلاف فيه عند الإمامية في حلّ الأكل ، قال تعالى : (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (1). وقد خصّصت الروايات هذا الشرط في صورة التذكّر ، ففي صحيح الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام « أنّه سأله عن الرجل يذبح فينسى أن يُسمّ أتؤكل ذبيحته ؟ فقال علیه السلام : نعم ، إذا كان لا يتّهم » (2) بمعنى تصديقه بدعوى النسيان إذا كان مسلماً يرى وجوب التسمية. وعلى هذا فسيكون الجاهل بالتسمية كذلك إذا كان لا يتّهم ، بمعنى تصديقه بدعوى جهله بوجوب التسمية ، وإن كان هناك من يذهب إلى حرمة ذبيحة الجاهل ؛ لعدم النص على حلية ذبيحته ، فيدخل تحت إطلاقات حرمة مالم يذكر اسم اللّه عليه.

والتسمية عبارة عن ذكر اسم اللّه تعالى مع التعظيم ، كقوله : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أو بسم اللّه واللّه أكبر ، ونحوهما ، كما يفهم ذلك العرف من ذكر اسم اللّه تعالى. أمّا ذكر كلمة اللّه لوحدها فيشك في تحليلها للأكل فتجري أصالة عدم التذكية.

هذا ، وقد ذكر مشهور علماء أهل السنّة شرطها في حال الذكر أيضاً ، وتسقط بالسهو ، ولكن ذهب الإمام أحمد في أحد قوليه إلى استحبابها ، وبه قال الشافعي (3).

ثالثاً : أن يستقبل بالذبيحة القبلة :

وقد ذهب إلى اشتراطه الإمامية وبعض من غيرهم كما سيأتي ، ففي حسنة

ص: 230


1- الأنعام : 121.
2- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 15 من الذبائح ، ح 3.
3- راجع المغني لابن قدامة : ج 1 ، ص 32 - 33.

محمد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن الذبيحة ؟ فقال علیه السلام : استقبل بذبيحتك القبلة » (1).

وصحيح الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام وقد سئل عن الذبيحة تذبح لغير القبلة ؟ فقال علیه السلام : « لا بأس إذا لم يتعمد » (2) ، ومفهومها ثبوت البأس مع التعمد للذبح لغير القبلة ، وحينئذ تكون الذبيحة حلالا في صورة النسيان والجهل بجهة القبلة.

ولا ريب أنّ هذا الشرط إنّما يشترط الاستقبال بمقاديم الذبيحة التي منها مذبحها ، ولا يشترط استقبال الذابح معها ، خصوصاً بملاحظة النصّ القائل : « استقبل بذبيحتك القبلة ».

أمّا مشهور علماء أهل السُنّة فقد جعلوا الاستقبال سُنّة ، ولكن قد اشترط الاستقبال ابن حبيب ، فقد جاء في الجواهر الثمينة قوله : « وأمّا الذبح فقال محمد : السُنَّة أن تضجع الذبيحة برفق على الجانب الأيسر مستقبلة القبلة ، ورأسها مشرف ... فإن لم يستقبل القبلة ساهياً أو لعذر اُكلت ، ولو تعمد الترك اُكلت أيضاً على المشهور. وقال ابن حبيب : لا تؤكل » (3).

رابعاً : أنّ تكون الآلة من حديد :

لقد ذكر الفقهاء من الإمامية عدم صحة التذكية إلاّ بالحديد مع القدرة عليه ، وقد دلّت على ذلك الروايات :

منها : صحيحة محمد بن مسلم قال : « سألت الإمام الباقر علیه السلام عن الذبيحة

ص: 231


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 14 من الذبائح ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 4.
3- الجواهر الثمينة : ج 1 ، ص 589 ، وراجع المغني : ج 11 ، ص 46 ، الشرح الصغير : ج 2 ، ص 172.

بالليطة وبالمروة ؟ فقال علیه السلام : لا ذكاة إلاّ بحديد » (1).

ومنها : صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن ذبيحة العود والحجر والقصبة ؟ فقال علیه السلام : قال علي علیه السلام : لا يصلح إلاّ بالحديدة » (2).

ومنها : صحيحة زيد الشحّام عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « اذبح بالحجر وبالعظم وبالقصبة والعود إذا لم تصب الحديدة ... » (3).

ومن هذه الروايات يفهم أنّ الإمام علیه السلام نفى أن يكون الذبح مع القدرة على الحديد بالعود والحجر والقصبة. وهذا واضح ولكن ما المراد من الحديد أو الحديدة ؟

الجواب : لقد ذكرت كتب اللغة للحديد معاني منها :

1 - الحادّ ، ومنه قوله تعالى : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي حاد ( أو نافذ ) وصيغ للمبالغة. فحديد فعيل بمعنى فاعل ( أي حاد ) وحديد صيغ مبالغةً من الحادّ.

2 - القطعة من الحديد وهو الفلز المعروف في مقابل بقية الفلزات ، ومنه « خاتم حديد » ، واسم الصناعة : الحدادة ، والحدّاد معالج الحديد (4).

وحينئذ فهل المراد من الحديد :

المعنى الأول الاشتقاقي وهو الحادّ ومؤنثه حديدة ، أي القطعة الحادّة القاطعة بحدتها التي شاع استعمالها في السلاح ( آلة الذبح والقتل والقطع ) وهي ما

ص: 232


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 1 من الذبائح ، ح 1. والليطة : بفتح اللام وهي القشر الظاهر من القصبة . والمروة : وهي الحجر الذي يقدح النار . قال في لسان العرب المرو: حجارة بيض برّاقة تكون منها النار ويقدح منها النار ، واحدتها مرو . (مادة مرا) .
2- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 1 من الذبائح ، ح 2.
3- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 3.
4- مجمع البحرين ج 3 ، ولسان العرب ج 3 مادّة ( حديد ).

يعدّ ويصنع من المعادن الصُلبة على شكل سكين أو سيف أو مدية أو شفرة في الزمن القديم وعلى شكل آخر في الوقت الحاضر لأجل القتل والجرح ؟

أو المعنى الثاني وهو المعدن الخاص المعروف وهو معنى جامد ومؤنثه حديدة أيضاً ؟

والجواب : لقد ذهب مشهور علماء الإمامية إلى المعنى الثاني ، بل ادّعي عليه الاتفاق والإجماع ، كما سيأتي عن صاحب الجواهر قدس سره .

ولكن نقول (1) : إنّ المراد من الحديد هو المعنى الأول وهو الحاد ، وذلك لعدّة قرائن هي :

1 - إنّ مقتضى المقابلة بين الحديد وبين العود والحجر والقصبة في الروايات يعني النظر إلى حيثية المحدّدية ، أمّا لو كان النظر إلى حيثية الفلز الخاص لكانت المقابلة بين الحديد وبين بقية الفلزات من الرصاص والنحاس وغيرهما.

2 - إنّ بعض الروايات ذكرت السكين بدلا من الحديدة في سؤال السائل ، ممّا يدلّ على أنّ الحديد في تلك العصور يطلق على الحاد القاطع بصورة واضحة ، وهو المراد من الحديد في بقية الروايات.

ففي صحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال : « سألت أبا إبراهيم ( الإمام الكاظم علیه السلام ) عن المروة والقصبة والعود يذبح بهن الإنسان إذا لم يجد سكيناً ؟ فقال علیه السلام : إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك » (2). وكذلك صحيحة زيد الشحّام قال : « سألتُ الإمام الصادق علیه السلام عن رجل لم يكن بحضرته سكين أيذبح

ص: 233


1- إنّ هذا الرأي الذي انتهينا إليه - وهو أنّ المراد من الحديد الحاد القاطع - لم يكن هو الرأي المتبنى عند علماء الإمامية ، ولكن ساقنا إليه الدليل ، وقد تبنّاه آية اللّه السيد محمود الهاشمي حسب ما جاء في مقالته المنشورة في مجلة فقه أهل البيت : العدد 1 / ص 29 - 76.
2- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 1 ، وفي الخبر : « مَنْ وُلِّيَ قاضياً فقد ذبح نفسه بغير سكين » مجمع البحرين : مادّة ذبح.

بقصبة ؟ فقال علیه السلام : اذبح بالحجر والعظم وبالقصبة والعود إذا لم تصب الحديدة » (1).

وهاتان الروايتان وإن وردتا في مقام عدم القدرة على السكين ( الحديد ) إلاّ أنّهما توضّحان المراد من الحديد الوارد في الروايات الاُخر ، بأنّ المراد منه السكين القاطع ( الحاد ) لا الفلز الخاص ، حيث كان سؤال الراوي في صورة عدم وجود السكّين ، وكان الجواب مبنيّاً على عدم وجود الحديد ، فيفهم أنّ الحديد هو السكّين الذي سأل السائل عن عدم وجوده.

3 - لا يمكن أن يكون المراد من الحديد هو الفلز الخاص المعروف وإن لم يكن محدّداً ، إذ لو كان الفلز المخصوص على شكل عصا فلا يصلح الذكاة به اتفاقاً ، وما ذلك إلاّ لأنّها ليست حديدة بالمعنى الأول ( الحاد ). وبهذا يفهم أنّ الحديد الوارد في الروايات قد اُخذ فيه معنى المحدّدية.

4 - إنّ روايات أهل السنّة في هذا الشرط المنقولة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يرد فيها التعبير بالحديد ، بل ورد الذبح بمحدد يقطع أو يخرق ، فقد ذكر علماء السُنّة أنّه يشترط في آلة الذبح شرطان (2) :

أ - أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدّها لا بثقلها.

ب - أن لا تكون سنّاً أو ظفراً.

وهذه الروايات تلقي الضوء على المراد من الحديد في رواياتنا ، فتكون قرينة على أن الحديد الوارد في رواياتنا هو الحادّ القاطع لا الفلزّ الخاص.

ص: 234


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 3.
2- راجع عقد الجواهر الثمينة : ج 1 ، ص 586 ، والمغني لابن قدامة : ج 11 ، ص 43 ، والشرح الصغير : ج 2 ، ص 155.

5 - قد وردت روايات عن النبي صلی اللّه علیه و آله مؤكّدة على لزوم تحديد الشفرة ( السكين الحاد ) وإراحة الذبيحة عند الذبح ، ممّا يؤيّد أنّ المراد من الحديد هو الحاد ، سواء كان من جنس الحديد أو بقية الفلزات.

فقد روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّ اللّه تعالى شأنه كتب عليكم الإحسان في كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » وفي حديث نبوي آخر أنّه صلی اللّه علیه و آله أمر أن تحدّ الشفار ، وأن توارى عن البهائم (1).

وقد ذكر في المسالك : من وظائف الذبح تحديد الشفرة وسرعة القطع ناسباً لها إلى النص (2).

6 - معتبرة الحسين بن علوان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي علیه السلام أنّه كان يقول : « لا بأس بذبيحة المروة والعود وأشباههما ، ما خلا السِنّ والعظم » (3). إشكال :

هل اُخذت خصوصية الحادّ والفلز المخصوص في آلة الذبح ؟

بمعنى أنّ الروايات التي ذكرت أنّه لا ذكاة إلاّ بحديد أو حديدة قد نظرت إلى كون الآلة من الفلز الخاص المعروف وأن يكون محدداً ، وبهذا لا يجوز الذبح بغير الحاد من الفلز الخاص ، كالسكين من الذهب أو الرصاص أو غيرهما.

ص: 235


1- سنن البيهقي : ج 9 ، ص 280.
2- جواهر الكلام : ج 36 ، ص 133.
3- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 5. أقول : مقتضى الصناعة يدلّ على أن الجمع بين : « لا ذكاة إلا بجديد » و « لا بأس بذبيحة المروة والعود واشباههما » هو أن الأفضل أن يكون الذبح بآلة محددة كما سيأتي ذلك .

الجواب : أنّ بين معنى الحديد بمعنى الحاد ، ومعنى الحديد بمعنى الفلز الخاص تبايناً ، كما أنّهما قد يجتمعان في مصداق واحد وقد يفترقان ، وحينئذ إذا كان المراد من الحديد كلتا الخصوصيتين المتباينتين في المعنى فهو استعمال لمادّة الحديد في كلا المعنيين ، وهو غير جائز كما بيِّن ذلك في الاُصول.

وحينئذ إمّا أنّ يكون المراد من الحديد الحادّ كما هو ظاهر المقابلة بين الحديد والحجر والقصبة ، أو يكون المراد من الحديد الفلز المعروف.

وبما أنّنا قد ذكرنا عدّة قرائن لإرادة الحادّ من الحديد فيتعين ارادته من الحديد.

وبهذا نخلص إلى أنّ آلة الذبح في الحالات الاعتيادية لابدّ أن تكون حادة قاطعة نافذة ، في قبال الحجر والقصب والعصا واشباه ذلك ممّا لم يكن حاداً بطبعه.

الإجماع على لا بدّية الفلزّ الخاص ( الحديد ) :

قد يدّعى الاجماع عند الإمامية على خصوصية الفلزّ الخاص في الذبح ، بالاضافة إلى فتوى الفقهاء بذلك ، وهذا يجعلنا نشك في النتيجة التي توصلنا إليها من عدم الخصوصية للحديد ( الفلز الخاص ) في الذبح وإمكان الذبح بكلّ فلزٍّ حاد ، سواء كان حديداً أو نحاساً أو غيرهما ، فهل هذا الاجماع حجّة يمنعنا من التمسّك بالنتيجة السابقة ؟

الجواب : لقد نقل صاحب الجواهر قدس سره الاجماع فقال : « وأمّا الآلة فلا تصح التذكية ذبحاً أو نحراً إلاّ بالحديد مع القدرة عليه ، وإن كان من المعادن المنطبعة كالنحاس والصفر والرصاص والذهب وغيرهما بلا خلاف فيه بيننا ، كما في الرياض ، بل في المسالك ( عندنا ) مشعراً بدعوى الاجماع عليه كما عن غيره ، بل في كشف اللثام اتفاقاً كما يظهر لأنّه المتعارف في التذكية على وجه يشك في تناول

ص: 236

الاطلاق لغيره من القدرة عليه ، فيبقى على أصالة العدم » (1).

ولكنّ عبارة الجواهر « النافية للخلاف في الرياض والمثبتة للاتفاق في كشف اللثام ونقله لعبارة المسالك ( عندنا ) المشعرة بدعوى الاجماع » نفسها تدلّ على عدم وجود اجماع ولا ادعاء اجماع عند المتقدّمين ، بل والمتأخرين ، وذلك لأنّ زمان صاحب الرياض وكشف اللثام يعدّ - بالاصطلاح - من زمن متأخري المتأخرين ، فيكفي في عبارة الجواهر المحيط بآراء القدماء والمتأخرين عدم نقل الاجماع عنهم.

وأمّا فتاوى العلماء المتقدّمين والمتأخرين فهي تابعة لتعبير الروايات ، فالمهم في الأمر هو معنى الروايات القائلة : « لا ذكاة إلاّ بحديد » وقد تقدّم أنّ الظاهر منها ما يكون حاداً في طبعه ، في مقابل الحجر والليطة وامثالهما ممّا لا حادّية له بطبعه.

هل توجد خصوصية للحديد ؟

أقول : ذكر المشهور وجود خصوصية للحديد ( الفلز الخاص ) في مقابل الحجر والقصبة والصفر والنحاس وأمثالها ، ولابدّ أن يكون الذبح بالحديد إذا وجدت القدرة عليه ، أمّا مع عدم القدرة عليه فيجوز الذبح بالحجارة والمروة والصفر والرصاص إذا فريت الأوداج وسال الدم بصورة متعارفة.

ولكن تقدّم منّا عدم الخصوصية للحديد ( الفلز الخاص ) ، بل يجوز الذبح بكل فلزٍّ حاد ، سواء كان حديداً أو نحاساً أو غيرهما من الفلزات.

أمّا الآن فنريد أن نقول بعدم وجود الخصوصية للفلز مطلقاً وإنّما العبرة بما يفري الأوداج من الأمور الحادّة ، سواء كانت فلزاً أو لا. والدليل على ذلك : أنّ

ص: 237


1- جواهر الكلام : ج 36 ، ص 99 - 100.

المستفاد من بعض الروايات ضابطة كلية في الذبح هي قطع الأوداج أو الحلقوم وخروج الدم المتعارف ، والروايات هي :

1 - صحيحة زيد الشحّام ، قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن رجل لم يكن بحضرته سكين أيذبح بقصبة ؟ فقال علیه السلام : اذبح بالحجر وبالعظم وبالقصبة والعود إذا لم تصب الحديدة ، إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس به » (1).

فجملة : « إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس به » بمثابة قاعدة في حليّة الذبح ، ولكن هذه القاعدة واضحة وجلية في الذبح بالسكين والحديد ، ويخشى من الذبح بغيرها من الحجر والعود والقصب عدم تحقّقها ، فحصل السؤال وجاء الجواب.

2 - صحيح عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : « سألت أبا ابراهيم ( الإمام الكاظم علیه السلام ) عن المروة والقصبة والعود يذبح بهنّ الإنسان إذا لم يجد سكيناً ؟ فقال علیه السلام : إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك » (2).

والفهم العرفي من هذه الرواية هو أنّ السائل إنّما سأل عن الذبح بالقصبة إذا لم يجد سكيناً إنّما هو للخشية من عدم تحقّق الذبح الصحيح من قطع الأوداج وخروج الدم المتعارف ، وهذه الخشية تحصل عادة في صورة عدم وجود الشيء الحادّ بطبعه كالسكين ، وقد جاء الجواب من الإمام علیه السلام بأنّ اللازم هو قطع الأوداج وخروج الدم المتعارف ، وإن حصل من الليطة والحجر. وبهذا الفهم لا يكون عدم القدرة على الحديد قيداً في الذبح الصحيح كما ذكر المشهور ، بل هو سبب لحصول الشك في التذكية الشرعية بشيء لم يكن بطبعه حادّاً قاطعاً ، فحصل السؤال وجاء الجواب

ص: 238


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 3.
2- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 1.

مقيِّداً جواز التذكية بما هو قاطع للحلقوم وخروج الدم بصورة متعارفة ، وهو القاعدة المتقدّمة لحلّ الحيوان. ولا نرى معارضاً لهذا الفهم من الروايات ، وذلك لأنّ الروايات المعتبرة على قسمين :

القسم الأول : الروايات الناهية عن الذكاة إلاّ بالحديد ، ففي صحيح محمد بن مسلم ، قال : « سألت الإمام الباقر علیه السلام عن الذبيحة بالليطة والمروة ؟ فقال : لا ذكاة إلاّ بحديدة » (1).

وهذه الرواية لم تنة عن الذبح بالليطة والمروة ، بل قرّرت أنّ التذكية لابدّ أن تكون بشيء حاد ، وبما أنّ الليطة والمروة على قسمين : منه ما يكون حاداً ومنه غير ذلك فهي قد جوّزت الذبح بالمروة والليطة الحادتين ، فكأنّها قالت : لا ذبح إلاّ بالحاد.

القسم الثاني : الروايات المجوّزة للذبح بالعود والمروة وأشباههما ما عدا السنّ والعظم ، ففي معتبرة الحسين بن علوان عن الإمام الصادق علیه السلام عن أبيه ، عن علي علیه السلام أنّه كان يقول : « لا بأس بذبيحة المروة والعود واشباههما ما خلا السنّ والعظم » (2).

وبما أنّ الذبح معناه القطع فيكون المعنى : لا بأس بقطع المروة والعود للأوداج إذا خرج الدم. وهذه الرواية لم تكن في صورة عدم وجدان السكين أو الحديد ، بل هي مطلقة ، ولا حاجة لحمل المطلق على المقيّد لعدم العلم بأنّ الحكم واحد ، إذ يجوز أن يكون الحكم هو جواز التذكية بالحديد والسكين وبالمروة الحادة والليطة

ص: 239


1- المصدر السابق : ب 1 من الذبائح ، ح 1.
2- المصدر السابق : ب 2 من الذبائح ، ح 5. أقول : إن صحيحة زيد الشحّام المتقدّمة قد جوّزت الذبح بالعظم، ولذا فإنّ أقوال فقهائنا استثنت السن والظفر ، كما عليه الرواية المروية عن النبي صلی اللّه عليه وآله وسلم « ما أنهر الدم وذكر اسم اللّه عليه فكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً » سنن البيهقي 9 : 246 .

الحادة أيضاً.

وهاتان الطائفتان من الروايات لا تعارض الروايات المتقدّمة التي فهم منها أنّ كل ما قطع الحلقوم أو الأوداج وخرج الدم فلا بأس به.

ويؤيّد هذا الفهم ما أفتى به القاضي في مهذبه حيث قال : « والذباحة لا تجوز إلاّ بالحديد ، فمن خاف من موت الذبيحة ولم يقدر على الحديد جاز أن يذبح بشيء له حدّة ، مثل الزجاجة والحجر الحاد أو القصب ، والحديد أفضل وأولى من جميع ذلك » (1).

ولكن أقول : إنّ هذا الاستظهار وإن كان يتّفق مع الفهم العرفي القائل بأنّ السكين إن وجدت وهي حادة وقاطعة بطبعها فالذبح إنّما يكون بها لتسهيل عملية الذبح وإجادته وإراحة الذبيحة ، وعندما لم توجد السكين فيجوز الذبح بكل آلة قاطعة من الحجر أو الليطة واشباههما ، إذ العرف لا يفهم بأنّ عدم وجود السكين يكون قيداً في صحة التذكية بالحجر الحاد والليطة الحادة. ولكن عندما نرجع إلى الروايات التي يُسأل فيها الإمام علیه السلام عن الذبح بالليطة والمروة فيأتي الجواب بصيغة : « لا ذكاة إلاّ بحديدة » أو « لا يصلح إلاّ بالحديدة » أو « اذبح بالحجر والعظم والقصبة إذا لم تصب الحديدة ... » نرى أنّ هذه الروايات كأنّها تقيّد جواز الذبح بالحجر الحاد إذا لم توجد الحديدة كما فهم المشهور.

ولكن أقول : إنّ الروايات التي استفيد منها القاعدة الكلية هي روايات صحيحة أكّدت أن قطع الحلقوم أو الأوداج وخروج الدم كاف في التذكية ، وهذه الروايات تكون قرينة على أن المراد ب « لا ذكاة إلاّ بحديدة » هو لا ذكاة مريحة ومطمأنّ بها إلاّ بحديدة ، وإلاّ فإنّ الذكاة بغير الحديدة قد جوّزتها الروايات المتقدّمة ، وهذا مثل « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد ».

ص: 240


1- الينابيع الفقهية : ج 21 ، ص 98 عن المهذب ، كتاب الصيد والذباحة.

إذن لم يبق عندنا إلاّ مخالفة فهم المشهور فقط ، ولا بأس به مع مساعدة الدليل عليه.

وأمّا أهل السنّة : فقد اشترطوا في آلة الذبح أن تكون محدّدةً بحيث تنهر الدم إذا فري الأوداج بها ( سواء كانت من الحديد أو غيره حتى الليطة أو الحجر المحدد بشرط أن لا تكون سنّاً أو ظفراً ) على خلاف في السنّ والظفر على ثلاثة أقوال.

ودليلهم : هو ما رواه رافع بن خديج عن النبي صلی اللّه علیه و آله حيث قال : « ما أنهر الدم وذكر اسم اللّه عليه فكلوا ما لم يكن سنّاً أو ظفراً » (1).

التذكية بالمكائن الحديثة

اشارة

وبعد هذه المقدّمة في معنى التذكية وبيان شروطها الشرعية فهل يطلق على الذبح بالمكائن الحديثة الذكاة الشرعية ، أو لا يمكن أن يطلق عليها ذلك ؟

والجواب : يمكن أن تطرح عدّة إشكالات ليستنتج منها عدم تحقّق التذكية أو عدم تحقّق الشروط المعتبرة فيها ، والاشكالات هي (2) :

الإشكال الأول : انتساب الذبح للآلة :

من حيث إنّ الذبح إذا تمّ بالماكنة الحديثة يكون الانتساب إلى الآلة قهرياً ، بينما ذكرت الآية القرآنية في حلية الأكل من الذبيحة أن يكون انتساب التذكية إلى الإنسان ، فقد قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ

ص: 241


1- راجع المغني : ج 11 ، ص 43 ، وعقد الجواهر الثمينة : ج 1 ، ص 586 - 587.
2- ذكر أكثر هذه الإشكالات آية اللّه السيد محمود الهاشمي في مقالته حول الذبح بالمكائن الحديثة المنشورة في مجلة فقه أهل البيت : العدد الأول.

بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ... ) (1).

هذا ، بالاضافة إلى أن التذكية هي فعل الإنسان فلا تصدق بفعل غيره ، وقد دلّت على ذلك الروايات الدّالة على أنّه لا يكفي في الحلية زهاق روح الحيوان من قبل نفسه أو بفعل حيوان آخر ولو بقطع مذبحه وأوداجه ما لم يدركه الإنسان فيذكيه ، فعن أبي بصير عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « لا تأكل من فريسة السبع ولا الموقوذة ولا المتردّية إلاّ أن تدركها حية فتذكيه » (2).

الإشكال الثاني : عدم تحقّق التسمية :

وذلك لوجود الفاصل الزمني بين ذبح الحيوان وبين زمان تشغيل الآلة ، أو ربط الحيوان بها إذا صدرت التسمية من الذابح حين تشغيل الآلة أو ربط الحيوان بها لأجل الذبح ، إذ يكون الذبح بلا تسمية حين صدوره.

الإشكال الثالث : عدم تحقّق الاستقبال :

وهذا الاشكال مبني على اشتراط الاستقبال في حليّة الذبيحة ، إذ لا يحصل عند الذبح بالماكنة توجيه مقاديم الذبيحة إلى القبلة ، أو وضعها على الجهة اليسرى متوجّهة للقبلة.

الإشكال الرابع : الذبح بغير الحديد :

وهذا الاشكال هو في صورة كون الذبح بالماكنة المشتملة على آلة الذبح بغير الفلزّ المعروف.

ص: 242


1- المائدة : 3.
2- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 19 من الذبيحة ، ح 5 وغيره.

الإشكال الخامس : وهو قطع المنحر :

وهذا الإشكال نتيجة وجود الروايات الناهية عن قطع المنحر ، فتكون الذبيحة محرمة لذلك.

الاجابة عن الإشكالات الخمسة :

أما الاشكال الأول - وهو انتساب الذبح للآلة لا للانسان - فلا أرى له وجهاً بعد صدق عنوان الذبح بالماكنة ، إذ أنّ الانتساب إلى الفاعل عرفاً يكفي فيه أن يحصل الذبح بفعل الإنسان ويترتّب عليه ترتّباً طبيعياً ، ولذا يصدق القتل وينسب إلى الإنسان إذا سدّد رصاصته من بندقيته ، فحكم الماكنة التي يشغّلها الإنسان لأجل الذبح هو حكم البندقية والسكينة التي تفعل القتل أو الذبح ، فيصدق عنوان القاتل أو الذابح على الإنسان إذا حصلت النتيجة بفعله من دون تخلل شيء بين عمله وبين حصول النتيجة ، وكانت النتيجة قهرية لعمله.

وأمّا الاشكال الثاني - وهو عدم تحقّق التسمية من الذابح - فجوابه : أنّ الظاهر من أدلّة اشتراط التسمية هو حصولها حين الشروع في الذبح الذي هو عمل اختياري للفاعل ، وإن تحقّق الذبح في الحيوان متأخّراً عن ذلك زماناً. وبما أنّ الذبح في الماكنة يكون الشروع فيه عند تشغيلها أو عند تعليق الحيوان على الشريط السيّار المؤدي إلى الذبح فإنّ التسمية في هذا الحين تكون تسمية عند الشروع في الذبح ، فيصدق أنّه سمّى حين الشروع في الذبح.

ومثل هذا ما ورد في الصيد الذي اشترطت التسمية فيه حين رمي السهم أو إرسال الكلب المعلَّم ، مع أنّ الإصابة متأخرة زماناً عن ذلك ، على أنّ الفاصل الزمني إذا كان قصيراً فيعدّه العرف بحكم المتصل بزمان الذبح ، فيشمله اطلاق ذكر اسم اللّه عليه.

ص: 243

ويمكن أيضاً التخلص من هذا الاشكال بتكرار الذابح للتسمية إلى حين حصول الذبح بالماكنة.

تنبيهان :

الأول : بما أنّ الذبح بالماكنة يستوجب تشغيل عمال عديدين لأجل انجاز العمل ، وأنّ التسمية لابدّ أن تكون من الذابح فمن هو الذابح الذي يجب عليه التسمية لأجل حليّة الذبيحة ؟

الجواب : أنّ تعيين الذابح في الماكنة يكون بتعيين الشخص الذي يتحقّق على يده الجزء الأخير من سبب الذبح ، فلو فرضنا أنّ شخصاً معيناً شغّل الماكنة وجاء آخر وأخذ بتعليق الذبائح على الشريط المتحرك لأجل الذبح فإنّ هذا الشخص الأخير يعدّ هو الذابح الذي يتحقّق الذبح بعد عمله ، فيجب عليه التسمية ، كما أنّنا فرضنا أنّ شخصاً أخذ بتعليق الذبائح والشريط ساكن ، ثم جاء آخر وشغّل الماكنة لأجل الذبح ، فإنّ هذا الشخص الأخير المحرك للماكنة يعدّ هو الذابح الذي يتحقّق الذبح بعد عمله ويترتّب عليه ترتّباً طبيعياً.

إذن يجب التسمية على مَنْ يحقّق الجزء الأخير الذي يحصل الذبح بعده (1).

الثاني : إذا كانت الذبائح المعلّقة على الشريط الدائري للذبح كثيرة فهل يكفي تسمية واحدة عليها جميعاً ، أو لابدّ من تعدد التسمية بتعدد الذبائح ؟

والجواب على هذا التساؤل يختلف باختلاف الماكنات المعدّة للذبح ، فإن كانت الماكنة المعدّة للذبح تذبح أعداداً كبيرة مرّة واحدة فيكفي للحلّ تسمية واحدة لصدق اسم اللّه عليها.

ص: 244


1- وهذا شيء عرفي يمكن تشبيهه بالمدفع الذي يكون وضع القذيفة فيه موجبة لاطلاقه ، فإنّ المطلق للقذيفة هو الواضع لها. أمّا المدفع الذي يكون وضع القذيفة فيه غير كافية لاطلاقها ، بل لابدّ من سحب آلة معينة لاطلاق القذيفة ، فإنّ المطلق للقذيفة هو الساحب للآلة المعيّنة التي يحصل الاطلاق بعدها.

أمّا إذا كانت الماكنة المعدّة للذبح تذبح أعداداً كبيرة بالتدريج ، فلا يكفي للحِلِّ تسمية واحدة ، لأنّه لا يصدق عليها حين الذبح أنّها ممّا ذكر اسم اللّه عليها. نعم ، يصدق عليها ذكر اسم اللّه تعالى قبل الذبح ، وهو غير كاف في حلّية الذبيحة ، وحينئذ لابدّ من تكرار الذابح للتسمية على كل ذبيحة حين الشروع في ذبحها.

وأمّا الإشكال الثالث - وهو عدم تحقّق الاستقبال للقبلة في الذبيحة حين ذبحها - فجوابه : إمّا بناءً على اشتراط الاستقبال ( كما ذهب إليه الإمامية وبعض من غيرهم كما تقدّم ) فيكفي فيه أنّ تكون مقاديم الذبيحة حين الذبح أو يكون منحرها مواجهاً للقبلة ، فإنّه يصدق عليه أنّه ذبح لجهة القبلة. وإمّا أن يكون مضجع الذبيحة حين الذبح على شمالها أو يمينها فهذا ليس عليه أي دليل.

وعلى هذا فيكفي في صدق استقبال القبلة بالذبيحة أن يكون الذبح بشكل عمودي على أن توجّه المقاديم أو المنحر إلى القبلة.

وإمّا بناء على عدم اشتراط الاستقبال في حليّة الذبيحة ، بل هو سنّة باعتبار أنّ جهة القبلة أفضل الجهات ، فلا إشكال في أصل عدم استقبال الذبيحة القبلة أيضاً.

وأمّا الإشكال الرابع - وهو أنّ الذبح بالماكنة يكون بغير الحديد من الفلزات الاُخرى ، وقد ورد أنّ الذبح لا يكون إلاّ بالحديد - فجوابه ما تقدّم من أنّ المراد بالحديد هو الحادّ في مقابل الذبح بشيء ليس بحادّ ، كالقصبة أو الحجارة أو غيرهما ممّا لا يكون حاداً في ذلك الزمان ، ولذا نجد الروايات - والفقهاء تبعاً لها - قد جعلت الحديد في مقابل الزجاج والحجر والقصب ، ولم تجعله في مقابل بقية الفلزات ، حتى يفهم من الفلز الخاص المعروف (1).

ص: 245


1- راجع عبارة المبسوط : ج 6 ، ص 263 ، وموسوعة الينابيع الفقهية : ج 21 ، ص 98 - 290 من كتاب المهذب والغنية والوسيلة والشرائع والمختصر النافع والجامع للشرائع والقواعد واللمعة وغيرها.

وأمّا بناءً على ما ذهب إليه مشهور علماء الإمامية فلا يرتفع الاشكال إلاّ بأنّ تكون الآلة الذابحة من جنس الحديد ( الفلز الخاص ) ، فإذا حصل هذا فلا اشكال من ناحية الذبح بالآلة عند الفريقين.

وأمّا الإشكال الخامس - وهو أنّ الذبح بالماكنة يؤدّي إلى قطع الرأس عمداً وقد نهي عنه ، فتكون الذبيحة محرّمة - فجوابه : أنّ النهي الوارد في إبانة الرأس عمداً في صحيحة محمد بن مسلم (1) عن الإمام الباقر علیه السلام إذ قال : « لا تقطع الرقبة بعدما تذبح » قد اختلف الفقهاء في افادته للحرمة ، فذهب جمع إلى الكراهة ، وذهب بعض إلى الحرمة.

ولكنّ الصحيح على كلا التقديرين عدم حرمة الذبيحة بهذا الفعل. فقد ذكر الشهيد الثاني في الروضة البهية فقال : « ويكره إبانة الرأس عمداً حالة الذبح ، للنهي عنه في صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام : « لا تنخع ولا تقطع الرقبة بعدما تذبح » وقيل - والقائل الشيخ في النهاية وجماعة - بالتحريم لاقتضاء النهي له مع صحّة الخبر وهو الأقوى. وعليه هل تحرم الذبيحة ؟

قيل : نعم ، لأنّ الزائد عن قطع الاعضاء يخرجه عن كونه ذبحاً شرعياً فلا يكون مبيحاً ، ويضعّف بأنّ المعتبر في الذبح قد حصل ، فلا اعتبار بالزائد ، وقد روى الحلبي في الصحيح عن الإمام الصادق علیه السلام حيث سئل عن ذبح طير قطع رأسه أيؤكل منه ؟ قال : « نعم ، لكن لا يتعمّد قطع رأسه » وهو نصّ ، ولعموم قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) فالمتجه تحريم الفعل دون الذبيحة (2).

وقد ذهب مشهور أهل السُنَّة إلى حلّية الذبيحة بهذا الفعل ، فقد ذكر في

ص: 246


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 15 من الذباحة ، ح 2.
2- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية : ج 7 ، ص 234 ، جواهر الكلام : ج 36 ، ص 120 - 123.

المغني قائلاً : « ولو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلّت بذلك. نصّ عليه أحمد فقال : لو أنّ رجلاً ضرب رأس بطة أو شاة بالسيف يريد بذلك الذبيحة كان له أن يأكله. روي عن عليٍّ رضی اللّه عنه أنّه قال : « تلك ذكاة وحية ». وأفتى بأكلها عمران بن حصين ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري. وقال أبو بكر : لأبي عبد اللّه فيها قولان ، والصحيح أنّها مباحة ، لأنّه اجتمع قطع ما تبقى الحياة معه مع الذبح فاُبيح كما ذكرنا ، مع قول من ذكرنا قوله من الصحابة من غير مخالف » (1).

النتيجة : وبما تقدّم من ردّ الاشكالات الخمسة على طريقة الذبح بالمكائن الحديثة يتّضح أنّه لا اشكال في الذبح بالماكنة إذا حصلت التسمية من الذابح مع توجيه مقاديم بدن الذبيحة إلى القبلة إذا كان الذابح مسلماً على رأي مشهور الإمامية ، وحتى لو كان كتابياً على رأي مشهور أهل السُنَّة ، وكانت الشفرة ( السكين ) من جنس الحديد على رأي مشهور الإمامية ، أو من غير جنس الحديد على ما ذكرنا ، وذلك لتوفّر شروط حليّة الذبيحة.

نعم هناك إشكالات اُخر ، هي :

1 - إنّ الغالب في هذه الطريقة أن يجتمع معها الصعق بالكهرباء قبل وصول الحيوان إلى الآلة الذابحة بوقت قصير ؛ لغرض أن يكون الحيوان مشلولاً ومنعدم الحركة ، فإذا اضفنا إلى ذلك قول المتخصّصين بأنّ بعض الحيوانات يموت بهذا الصعق فحينئذ يحصل عندنا علم اجمالي بموت بعض الحيوانات قبل إجراء التذكية لها ، وبهذا لا يمكن الحكم بحلّ اي ذبيحة من هذه الحيوانات التي نعلم بحصول ميتة فيها وهي شبهة محصورة.

2 - إنّ الذبيحة المعلّقة على الشريط الدوّار ليست كلّها على نسق واحد من

ص: 247


1- المغني لابن قدامة : ج 11 ، ص 50.

ناحية الطول ، وحينئذ فقد تضرب الآلة الحادّة موضع الذبح وقد تضرب الرأس نفسه أو الصدر ، وحينئذ لا تكون كل الحيوانات مذكاة لحصول علم اجمالي بقتل بعضه بما ليس ذبحاً شرعياً.

وحينئذ لا يمكن الحكم بحل هذه الطريقة إلاّ إذا تأكّدنا من أنّ الحيوان الذي صعق بالكهرباء لم يمت وقد ذبحته الآلة الحادة في موضع التذكية.

طرق اُخرى للتذكية:

طرق اُخرى للتذكية (1) :

هناك طرق اُخرى قديمة وحديثة متداولة لازهاق الروح ، لابدّ من تسليط الضوء عليها لمعرفة أنّها هل تعتبر تذكية شرعية يمكن الحكم بحلية الحيوان الذي وقعت عليه أم لا ؟

وقبل البدء في تعداد هذه الطرق بصورة مختصرة نذكر بأنّ التذكية الشرعية وشروطها التي تقدّمت هي عبارة عن قطع الأوداج الأربعة من قبل مسلم بآلة حادة مستقبلا للقبلة مع التسمية ( ذكر اسم اللّه على الذبيحة ) ، وقد ذكر الاطباء فوائد مهمّة صحّيّة لهذه العملية التي هي في العرف الطبي عبارة عن صدمة نزيفية تجتذب كل الدم السائل إلى الدورة الدموية واخراجه من خلال العروق المقطوعة حتى يتوقّف القلب وينقطع النفس.

أمّا ما هي الطرق الاُخرى للتذكية ؟ فالجواب :

1 - تدويخ الحيوان قبل الذبح :

وهي على صور :

أ - تدويخ الحيوانات الكبيرة كالماشية والخيول ؛ وذلك بضرب العظم

ص: 248


1- هذه الطرق اعتمدنا في توضيحها على بحث « الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاة » للدكتور محمد الهوادي الاستاذ بجامعات المانيا من ص 21 - 25.

الجبهي للحيوان بمطرقة ضخمة تحدث ألماً شديداً للحيوان وتفقده الوعي وينهار مباشرةً ثم يتم تذكيته باليد.

وهذه الطريقة قديمة قد تخلّت عنها المجازر الحديثة واستبدلتها بطرق حديثة للتدويخ سنشير إليها.

ب - تدويخ الحيوان بواسطة المسدس الواقذ (1) الذي يحدث ثقباً في جوف الجمجمة ( دماغ الحيوان ) يؤدّي إلى فقدان الوعي بشكل فوري نتيجة لتخريب جزء من البنية الحيّة من الدماغ وهذا هو المسدس الواقذ الابري. وهناك قسم من المسدسات تحدث انهداماً في العظم الجبهي يفضي إلى فقدان الوعي ، وهذا هو المسدس الواقذ الكروي.

ج - التدويخ بالصدمة الكهربائية : وهي طريقة حديثة نصّ عليها القانون البرطاني ( سنة 1958 م ) تستعمل في بعض الحيوانات كصغار العُجول والشياة والأرانب ، وخلاصتها : إمرار تيار كهربائي ذي شدة معينة ولمدّة ثابتة إلى صدغي الحيوان يحدث فقدان الوعي مباشرة ، ثم يحدث طور من التقلص العضلي المزمن قبل الارتخاء التام (2).

وقد نقل أن في نهاية الثمانينات من القرن العشرين تستخدم المجازر النيوزيلندية الصدمة الكهربائية لتدويخ الماشية ؛ وذلك باستعمال تيار كهربائي شدته ( 5 / 2 أمبير ) يؤدّي إلى توقف القلب.

د - التدويخ بغاز ثاني اوكسيد الكاربون : وهي طريقة قد يلجأ إليها لتدويخ

ص: 249


1- هناك نوعان من المسدسات الواقذة : النوع الأول مسدس واقذ إبري ، بمعنى أن يكون المتفجر الناري يدفع سهاماً تصادمية تنتهي برأس ابري. والنوع الثاني : مسدس واقذ كروي ، بمعنى أن يكون رأسه التصادميّ ينتهي بكتلة نصف كروية.
2- لقد عدّل استخدام هذه الطريقة في الطيور والدواجن سنة 1970 م بامرارها في حمام مائي مكهرب ليجمع لها الغرق والصعق.

الشياه والماشية ، استعملت في احدى المصانع المحلية بأمريكا سنة 1950 م ثم انتقلت إلى الدانمارك ثم شملت معظم الدول الأوروپية ، وخلاصتها : حبس الحيوان في بيئة هوائية تحتوي على 70 % من غاز ثاني اوكسيد الكاربون فيبقى الحيوان محتفظاً بوعيه خلال عشرين ثانية ، ثم يحدث فقدان الوعي مباشرة ، وتتبعه منعكسات حركية تستمر لمدّة عشر ثوان ، ثم تحدث حالة الارتخاء العضلي إذا حصلت حالة التخدير العميق ، وتستمر هذه الحالة عادة من دقيقتين إلى ثلاث دقائق ، ولا يؤدّي هذا التخدير العميق بواسطة غاز ثاني اوكسيد الكاربون توقّف القلب إلاّ في حالات نادرة.

وفي حالة التدويخ يلاحظ أنّ زمن النزف للدم أطول من الوقت المعتاد بدون تدويخ.

ه - التخدير قبل الذبح بواسطة مادّة مخدرة كالبنج بشكل حقن أو بتقديم طعام فيه مادّة البنج.

2 - الخنق بالطريقة الانجليزية :

وهي طريقة تعتمد على خرق جدار الصدر بين الضلعين الرابع والخامس ، ومن خلال هذا الخرق ينفخ بمنفاخ فيختنق الحيوان نتيجة لضغط هواء المنفاخ على رئتي الحيوان ، وهذا الاختناق يحول دون نزيف الدم وإنهاره (1).

ص: 250


1- اقول : إنّ ما تقدّم من العمليات التدويخية التي تسبق عملية الذبح إنّما هو لأجل أن لا يشعر الحيوان بالألم والضيق اثناء الذبح ، فهم يعتبرون أن تدويخه بالصور المتقدّمة أو خنقه بالطريقة الانجليزية ليس فيها أي ألم أو ضيق على الحيوان ، إلاّ أنّ هذا الرأي مخالف لرأي كثير من العلماء الذين يعتقدون بأنّ هذه العمليات حتى التدويخية المتطوّرة فيها ضيق شديد وألم على الحيوان. ولعلّي أقطع بأنّ اتباع الأداب الشرعية في الذبح أسهل على الحيوان من هذه العمليات التدويخية أو الخنقية أو الغرقية. على أن القوانين الغربية التي لا تُجيز تسويق لحوم الحيوانات الميتة لا تشترط بوضوح في طريقة التدويخ أن لا يؤدّي إلى موت الحيوان قبل الذبح ، وطريقة الخنق الانجليزية شاهد على ذلك.

وإلى هنا انتهينا من ذكر الطرق الحديثة والقديمة للتذكية ، فما هو الحكم الشرعي اتجاهها ؟

والجواب :

1 - بالنسبة للخنق بالطريقة الانجليزية حيث تؤدّي إلى موت الحيوان بالاختناق - فالحكم بالتحريم واضح ، إذ المنخنقة محرّم أكلها بالنص القرآني ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ... ) (1).

وكذا الحكم جار في كل خنق يؤدّي إلى ازهاق الروح ، كاطلاق غاز ثاني اوكسيد الكاربون في غرف مقفلة ، يؤدي إلى ازهاق الروح.

2 - وأمّا بالنسبة إلى التدويخ - بصوره المتقدّمة - فتارة نفترض أنّ هذا التدويخ قد ادّى إلى وقف قلب الحيوان وموته - كما قد يحدث بصورة نادرة - قبل إجراء عملية الذبح عليه ، ففي هذه الحالة يكون الحيوان ميتة ولا ينفعه الذبح بعد الموت.

وتارة نفترض أنّ هذا التدويخ قد ادّى إلى جعل الحيوان فاقد الوعي ( كما هو الفرض ) وسيعود الوعي إليه بعد مدّة معينة ، ففي هذه الحالة يكفي إجراء التذكية على الحيوان لحلِّها فيكفي خروج الدم المتعارف في أمثال هذه الحيوانات المدوّخة وان كان زمن النزف فيه أطول من الوقت المعتاد بدون التدويخ.

وأمّا إذا شككنا في حياة الحيوان بعد التدويخ فيكفي للحكم بالحياة حركته بعد التذكية ( كحركة الذنب والاُذن ) وذلك للروايات الصحيحة : منها صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام المصرِّحة باعتبار الحركة بعد الذبح ، قال : « سألته

ص: 251


1- المائدة : 3.

عن الذبيحة ؟ قال : إذا تحرك الذنب والطرف أو الاُذن فهو ذكي » (1).

ومنها : صحيحة زرارة عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « ... فإن ادركت شيئاً منها وعين تطرف أو قائمة تركض أو ذنب يمصع فقد ادركت ذكاته فكله » (2).

نعم ، هناك رواية الحسين بن مسلم (3) التي اكتفت بخروج الدم المعتدل ( الخارج بدفع لا بتثاقل ) ، لكن سندها غير تام ، ومن اعتمدها من الفقهاء جعل أحد الأمرين كافياً في حليّة الذبيحة ، وبعض اعتبر اجتماعهما شرط لحلية الذبيحة ، لكن الأقوى هو الاكتفاء بحليّة الذبيحة بالحركة بعد التذكية لصحة دليله وضعف غيره.

وعلى هذا فمن الطبيعي حرمة الحيوان المشكوك حياته إذا اُجريت عليه التذكية ولم يتحرك منه شيء ، وهذا هو مفهوم صحيحتي الحلبي وزرارة المتقدّمتين ، أو لم يتحرك منه شيء ولم يخرج الدم بصورة معتدلة على الرأي الآخر.

تنبيه :

إنّ التدويخ إذا اُجري على عشرين رأس من الغنم ، وحصل لنا قطع بوقف قلب بعضها من هذا التدويخ وحصل الذبح للجميع ولم نعلم على وجه التعيين ذلك البعض الذي وقف قلبه نتيجة التدويخ فالحكم هنا يكون بحرمة أكل جميع العشرين من الغنم ؛ وذلك لحصول العلم الاجمالي بحرمة بعضها في الشبهة المحصورة ، فيحرم الجميع لهذه الشبهة الموضوعية والعلم الاجمالي الذي حصل فيها.

ص: 252


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 11 من الذباحة ، ح 3.
2- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 12 من الذباحة ، ح 1.
3- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 12 من الذباحة ، ح 2.

الآداب الشرعية في التذكية :

روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّ اللّه كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحدّ أحدُكم شفرته وليُرح ذبيحته » (1).

وقد قال النبي صلی اللّه علیه و آله لمن حدّ شفرته أمام الشاة : « أتريد أن تميتها ميتتين ، هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟ ».

وقال الإمام علي ابن أبي طالب علیه السلام : « لا تذبح الشاة عند الشاة ، ولا الجزور عند الجزور وهو ينظر إليه » (2).

ومن هذه النصوص المتقدّمة نفهم أن الإسلام أراد إراحة الحيوان عند الذبح ، ولكن كيف لنا إراحة الحيوان عند الذبح ؟

ذهب بعضٌ (3) إلى أن إراحة الحيوان بصورة موضوعية تكون من خلال علامات رئيسية هي الألم والكرب (4) والوعي ، فالألم يسبب الكرب ، والكرب قد يحدث لأسباب عديدة احدها الإحساس بالألم ، وحينئذ إذا أفقدنا وعي الحيوان فيزول الكرب والإحساس بالألم.

أقول : لابدّ لإراحة الحيوان من غياب الألم أو إنقاصه إلى الحدّ الأدنى عند الذبح الذي هو العنصر الرئيسي في اراحة الحيوان ، وهذا يتوقّف على أن تكون آلة

ص: 253


1- اخرجه مسلم في باب الأمر بالاحسان بالذبح.
2- الكافي : ج 6 ، ص 230.
3- نقل هذا الرأي الدكتور محمد الهواري في مقالته حول الذبائح والطرق الشرعية في انجاز الذكاة عن دراسة مقتبسة من رسالة جامعية لذيل شهادة الدكتوراه من اعداد « إن كاترين فيرمو » بعنوان الذبح الشرعي الديني الحلال والشيخيتا عام 1994 - 1995 م.
4- الكرب هو الخوف.

الذبح حادّة جداً ، ولكن حدّها ينبغي أن لا يكون أمام الحيوان الذي يتولد له خوف وكرب من هذه الحالة.

وعلى هذا فينبغي أن نتجنّب أيّ عملية تخيف الحيوان عند الذبح مثل الضجيج الذي يحدث عند الذبح ، ورائحة الدم الذي يخرج من حيوان نتيجة ألم وخوف ، حيث ثبت أن الدم الذي يخرج على الصفة المتقدّمة يؤدّي إلى كرب الحيوانات الاُخرى ، بخلاف الدم الذي يخرج من حيوان هادئ حيث لا يسبب أي خوف للحيوانات الاُخرى ، بل تقوم الحيوانات الاُخرى بلعق هذا الدم الذي خرج بهدوء.

أمّا فقد الوعي في الحيوان بواسطة مسدس واقذ أو بواسطة الصعقة الكهربائية أو بغاز ثاني اوكسيد الكاربون ، فإنّ ثبت أنّ هذه الأمور لا توجد أي أذىً او خوف عند الحيوان ولا توجب توقف قلبه وإماتته فلا بأس بها ، وتكون منسجمة مع النصوص الشرعية التي أمرت باراحة الذبيحة عند الذبح ومصاديق جديدة لها. وأمّا إذا كان فيها نوع أذىً وخوف للحيوان فتكون منافية للغرض الذي جاءت من أجله ، حيث أوجدت خوفاً أو أذىً للحيوان ، وقد تكون أكثر من خوفه وأذاه عند الذبح وهو واجد لوعيه تماماً ، ولهذا نرى أنّ فقدان الوعي في الحيوان إنّما يكون من الآداب الشرعية إذا خلا من الأذى والكرب للحيوان ، وإلاّ فلا يكون من آداب الذبح.

حكم ما جهل اسلام ذابحه ممّا حلّ أكل لحمه ( حكم ما جهل ذابحه ) :

وهذه المسألة قد عبرّ عنها علماء الإمامية ب ( الشبهة الموضوعية ) لأنّ الحكم واضح من حيث حلية الذبيحة إذا كان الذابح مسلماً ، وحرمتها إذا كان غير مسلم كما هو الصحيح. ولكن الاشكال في حلية الذبيحة قد جاء من الموضوع

ص: 254

الخارجي الذي حقّق الذبح ، هل هو مسلم أو غير مسلم ؟

وهذا البحث لا يكون علمياً إذا شككنا في اسلام الذابح أو كتابيته ، بناءً على ما ذهب إليه مشهور أهل السنة (1) وبعض من غيره من حلية ذبيحة الكتابي وذبح ما يستحلّه ، لأنّ الذبيحة حلال على كل حال إذا توفّرت بقية شروط الذبح.

نعم ، يكون هذا البحث مثمراً لأهل السنّة ومن يرتأي رأيهم في صورة كون الشك في اسلام الذابح أو كونه كافراً غير كتابي ، فتكون الشبهة موضوعية أيضاً ، بمعنى أنّها نشأت من الموضوع الخارجي مع معرفة الحكم في صورة كون الذابح مسلماً أو كونه كافراً غير كتابي.

وعلى كل حال فقد يعمّم موضوع البحث لما إذا شُكَّ في تحقّق شروط الذبيحة أو لم يسمّ عمداً ، أو شك في تركه في توجيه الذبيحة إلى القبلة عمداً أو سهواً ، أو نشك في فري الأوداج الأربعة بآلة حادة ، أو بالسكين بناءً على من يشترطها أو يشترك الفلزّ الخاص ، أو قطعها بيده ، وهكذا ممّا يرجع الشك إلى الموضوع الخارجي.

وأمّا حكم هذه المسألة فتوجد عندنا قاعدة واستثناء :

أمّا القاعدة فهي عامّة في كل حكم قد شرط (2) بأمر آخر ، فما لم يتحقّق ذلك الأمر لا يتحقّق الحكم خارجاً ، وحينئذ يكون الحكم في موردنا عدم جواز الأكل من الذبيحة للذي يشك في اسلام الذابح ، فلا يدري أنّه مسلم أو ملحد ، أو لا

ص: 255


1- راجع المغني لابن قدامة : ج 11 ، ص 54 وما بعدها ، والجواهر الثمينة : ج 1 ، ص 584 ، والشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك : ج 2 ، ص 154. هناك اختلاف شديد بين أهل السنة في حلية ذبيحة الكتابي مطلقاً ، أو في صورة سماع تسميته ، أو في ذبحه لنفسه ما يستحلّه ، أو ذبحه المسلم ، راجع في ذلك الجواهر الثمينة .
2- المراد من الشرط هنا هو « ما يلزم من عدمه عدم الشيء » كما يقال : إنّ الوضوء شرط الصلاة.

يدري أنّه مسلم أو غير مسلم بناء على الرأي الآخر. وقد طابق هذه القاعدة أيضاً أصل عدم التذكية ، لأنّ شرط الأكل هو التذكية الشرعية ، وهذا الأمر مشكوك في تحقّقه ، كما هو الفرض ، والأصل يقتضي عدم التذكية ، لأنّها أمر وجودي يشك في تحقّقه ، فتبقى حرمة الأكل على حالها.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الصلاة التي اشترط في صحتها أن يكون الملبوس غير ميتة ، فالقاعدة تقول بعدم جواز الأكل وعدم صحة الصلاة إلاّ بما علم أنّه مذكّى (1).

وقد اشار إلى هذا صاحب الجواهر إذ قال : « إنّ المشكوك فيه باعتبار عدم

ص: 256


1- وقد ذكر المشهور نجاسة الجلد أو اللحم ، بالاضافة إلى عدم جواز اكله وعدم جواز الصلاة فيه ، لأنّ المشهور قد جعل عدم التذكية ميتة ، فإذا كان أصل عدم التذكية جارياً ، فاللحم حرام أكله ، ولا يجوز الصلاة في جلده وهو نجس. راجع فوائد الاُصول ، تقريرات الميرزا النائيني قدس سره : ج 1. ص 384 ، إذ قال : « لا يمكن التفكيك بين الطهارة والحلية بحسب الاُصول العملية. هذا ولكن يظهر من بعض الأساطين التفصيل بين الطهارة والحلية في المثال المتقدّم ، فحكم عليه بالطهارة وحرمة لحمه ». وراجع مستمسك العروة الوثقى : ج 1، ص 328 حيث نقل عن الحدائق نجاسة الجلد المطروح - الذي لا يعلم أنه مذكى أم لا - إلى المشهور لأصالة عدم التذكية. وراجع المحكم في أصول الفقه للسيد محمد سعيد الحكيم : ج 4 ، ص 119 و 120 . بينما ذكر بعض - كصاحب الحدائق وغيره - أنّ الطهارة التي هي شرط في الصلاة يكفي فيها احتمال التذكية ، وحينئذ تجري قاعدة الطهارة في المقام، فيحصل التفكيك بين حرمة الأكل وطهارة الجلد واللحم ، باعتبار أن الأكل وكذا جواز الصلاة في الجلد) لابد فيهما من احراز التذكية ، وما لم تحرز التذكية لا يجوز أحدهما . بينما طهارة اللحم والجلد يكفي فيهما احتمال التذكية الذي هو موجود في المقام . وقد وافق صاحب الحدائق السيد الخوئي واللّه ولكنه خالفه في دليل طهارة اللحم والجلد فقال : إنّ الطهارة وجواز الانتفاع بمشكوك الحلّ أو الحرمة هو من باب أنّ النجاسة وحرمة الانتفاع إنما رتبا على موضوع الميتة، واستصحاب عدم التذكية أو إحالة عدم التذكية لا يثبتا الميتة إلا بالأصل المثبت (الذي ليس بحجة كما قرر في الأصول) فلا تترتب النجاسة ولا حرمة الانتفاع بالمشكوك ذكاته . فقه الشيعة : تقريرات الإمام الخوئي : ج 2، ص 393 - 396.

العلم بتذكيته وعدم أمارة شرعية تدلّ عليها محكوم بأنّه ميتة لأصالة عدم التذكية » (1).

والدليل على ذلك - بالاضافة إلى ما تقدّم من - النصوص الشرعية التي منها :

قول الإمام الصادق علیه السلام لزرارة في موثّق ابن بكير : « ... فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وشعره وبوله وروثه وألبانه وكل شيء منه جائزة إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكاه الذابح » (2) بناءً على أنّ التذكية شرط في حلية الأكل كما هي شرط في لباس المصلّي ، أو نستفيد ذلك من قوله علیه السلام : « وكل شيء منه جائزة إذا لم تكن راجعة إلى ألبانه ».

أمّا الاستثناء فهو في صورة ما إذا شككنا في إسلام الذابح ، أو شككنا في توفر شرائط الذبح ، ولكن كان المشكوك في يد المسلمين بأنّ كان في سوقهم أو أرضهم ، وكان عليه أثر الاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة ، فإنّه يجوز اكله والصلاة في جلده. وقد دلّ على هذا الاستثناء روايات صحيحة منها :

1 - صحيح الحلبي قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن الخفاف التي تباع في السوق فنشتريها فما ترى في الصلاة فيها ؟ فقال علیه السلام : اشترِ وصلِّ فيها حتى تعلم أنّه ميتة بعينه » (3).

2 - صحيح أحمد ابن أبي نصر عن الإمام الرضا علیه السلام « وقد سأله الخفّاف ياتي السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو ام لا ، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري أيصلي فيه ؟ قال علیه السلام : نعم أنا أشتري الخف من السوق ويصنع

ص: 257


1- جواهر الكلام : ج 8 ، ص 50.
2- وسائل الشيعة : ج 3 ، ب 2 من لباس المصلي ، ح 1.
3- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 50 من النجاسات ، ح 2.

لي واُصلّي فيه ، وليس عليكم المسألة » (1).

3 - وفي موثّق اسحاق بن عمار عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام. قلت له : وإنّ كان فيها غير أهل الإسلام ؟ قال علیه السلام : إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » (2).

وقد يقال هنا بجريان قاعدة اُخرى في خصوص ما إذا شككنا في شرائط الذبيحة بعد إحراز أنّ الذابح مسلمٌ ، وهي قاعدة حمل فعل المسلم على الصحة التي هي مقدّمة على أصالة عدم التذكية (3).

ولكن ذكر الشيخ النائيني قدس سره في فوائد الاُصول بأنّ أصالة الصحة إنّما تكون حاكمة على خصوص أصالة عدم النقل والانتقال وبقاء المال على ملك مالكه ، وأمّا إذا كان في مورد الشك أصل موضوعي آخر يقتضي الفساد كأصالة عدم بلوغ العاقد أو عدم قابلية المال للنقل والانتقال فلا تجري فيه اصالة الصحة (4).

تنبيهات :

1 - ما المراد من الاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة ؟

الجواب : إنّ المراد من الاستعمال في ما يشترط فيه الطهارة هو الاستعمال الاقتضائي أو الاستعدادي لا الفعلي من كل جهة ، فإذا كان الجلد الذي يعرض

ص: 258


1- المصدر السابق : ح 6.
2- المصدر السابق : ح 5.
3- جواهر الكلام : ج 8 ، ص 56 حيث أرجع قاعدة سوق المسلمين ويد المسلم إلى أصالة صحة فعل المسلم.
4- فوائد الاُصول : ج 4 ، ص 656.

للبيع يمكن أن يُجعل ظرفاً للماء ، كما يمكن أنّ يجعل ظرفاً للقاذورات ، وكان اللحم المعرّض في السوق للبيع يمكن أن يأكله الإنسان ، كما يمكن أنّ يقدّم غذاء للقطط ، فهذا كاف في صحة الاستعمال في ما يشترط فيه الطهارة (1).

كما أنّ الموجود في سوق المسلمين أو أرض الإسلام لا يكفي في الحلّية للأكل أو جواز الاستعمال في الصلاة إذا لم يعلم استعماله الاقتضائي أو الاستعدادي في ما يشترط فيه الطهارة ، كما إذا وجد في السوق مع احتمال إرادة احراقه أو اعطائه للحيوانات احتمالا معتدّاً به ، أو احتمل أن يكون فريسة سبع كذلك (2).

2 - ما المراد من السوق الوارد في الروايات ؟

الجواب : إنّ كلمة « السوق » في الروايات منصرفة إلى سوق المسلمين ؛ وذلك لعدم وجود سوق للكفار في بلاد المسلمين يتعاطون فيها ما يعتبر فيه التذكية من لحوم أو جلود أو شحوم. كما أن الروايات ذكرت عدم العبرة بسوق الكفار ، كصحيحة الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم أنّهم سألوا الإمام الباقر علیه السلام عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصّابون ؟ فقال علیه السلام : « كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه » (3).

3 - ما هو ميزان معرفة سوق المسلمين ؟

الجواب : إنّ الميزان في معرفة سوق المسلمين أو أرضهم من غيرهم هو الميزان الذي ذكره الإمام الصادق علیه السلام في جواب سؤال اسحاق بن عمار المتقدّم : « إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » وهذا الميزان غير مناف للعرف

ص: 259


1- راجع مهذب الاحكام للسيد السبزواري : ج 5 ، ص 277.
2- راجع جواهر الكلام : ج 8 ، ص 57.
3- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 29 من الذبائح ، ح 1.

أيضاً ، فيميّز سوق الإسلام بأغلبية المسلمين فيه ، سواء كان حاكمهم مسلماً أم لا ، وحكمهم نافذاً أم لا.

4 - لا موضوعية لسوق المسلمين أو أرضهم :

لقد ذكر الفقهاء أنّه لا موضوعية لسوق المسلمين أو أرضهم ، بمعنى أن سوق المسلمين أو أرضهم يكون كاشفاً نوعيّاً عن كون البائع مسلماً ، وإلاّ فلا دخل للبناء في السوق من غرف أو سقف. وعلى هذا فإنّ ما وجد في سوق المسلمين أو أرضهم هو عبارة عن أمارة يد المسلم إذا كان المسلم يستعمل ما في يده في ما يشترط فيه الطهارة ( كالصلاة مثلاً ) فلا اثنينية بين أمارة سوق المسلمين ويد المسلم في الحكم بتذكية المشكوك الذي نحن بصدده.

وبعبارة أدقّ : إنّما يكون المقصود أولاً وبالذات في أمارة التذكية هو يد المسلم وتصرفه في اللحم أو الجلد في ما يشترط فيه الطهارة ، ويكون السوق طريقاً إليها ، فلا تكون يد المسلم في قبال سوق المسلمين.

وهكذا نخلص إلى أنّ ما وجد في يد المسلم أو سوق المسلمين أو أرضهم ولا يعلم ذابحه قد حكم الشارع بحلية الذبيحة ( كما ذكرت الروايات ) وحَكَمَ الشارع على الذابح بأنّه مسلم ، ولذا عند موته يجب تغسيله ودفنه وغيرهما من احكام المسلمين (1).

وعلى ما تقدّم لا يجوز الشراء من معلوم الكفر ولو كان في سوق المسلمين ، لما ذكرنا من أن العبرة هي يد المسلم الذي يستعمل السلعة في ما يعتبر فيه الطهارة ، ولا خصوصية للسوق.

ومن نافلة القول أنّ نبيّن أن المفروض في كل مسلم معرفته بالأعمال المشترط فيها الطهارة ومقيّد بها غالباً.

ص: 260


1- جواهر الكلام : ج 8 ، ص 56.

5 - هل يستحب الاجتناب عن مشكوك الذابح ؟

بعد أن ذكرنا حلية أكل اللحم المشكوك ذابحه « أو المشكوك حلية أكله من ناحية الشبهة الموضوعية » فهل يوجد دليل على استحباب اجتنابه ؟

والجواب على ذلك : أنّ الشيخ الأنصاري قدس سره ذكر حسن الاحتياط بترك الأكل ، حيث إنّ الاحتياط حسن عقلاً وراجح شرعاً في كل موضع لا يلزم منه الحرام ، وما قيل من أنّ الاحتياط يلزم منه العسر والحرج واختلال النظام فإنّه في صورة وجوب الاحتياط ، لا في حسنه واستحبابه (1) ، وعليه فيستحب اجتناب اللحم المشكوك ذابحه بلا كلام.

هذا ، وقد ذكر صاحب الجواهر قدس سره : أنّ « ما يباع في أسواق المسلمين من الذبائح واللحوم والجلود يجوز شراؤه ، ولا يلزم الفحص عن حاله أنّه جامع لشرائط الحلّ أو لا ، بل لا يستحب ، بل لعلّه مكروه ؛ للنهي عنه في صحيحة الفضلاء (2) « سألوا الإمام الباقر علیه السلام عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون ؟ فقال علیه السلام : كُلْ إذا كان ذلك في أسواق المسلمين ولا تسأل عنه » (3). وعلى هذا فيكره السؤال عما وجد في أرض المسلمين يباع ويشترى ، وهذا لا ينافي استحباب الاجتناب ، كما هو واضح.

الأصل العملي :

إنّ ما تقدّم كان عبارة عن الأدلّة الدالة على حلية أكل لحم ما جهل اسلام ذابحه ممّا حلّ أكل لحمه. وأمّا هنا فنريد أن نثبت أنّ الأصل العملي - الذي يُلجأ

ص: 261


1- فرائد الاُصول ( رسائل الشيخ الأنصاري ) : ج 1 ، ص 376.
2- الفضلاء هم : « زرارة والفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم ».
3- جواهر الكلام 36 : 138 ، وصحيحة الفضلاء مصدرها الوسائل : ج 16 ، ب 29 من الذبائح ، ح 1.

إليه في حالة عدم قيام دليل في المسألة - يؤدّي إلى نفس نتيجة ما ادّى إليه الدليل ، حيث إنّ ادلة البراءة عن حرمة الأكل في ما نحن فيه جارية ، فيحلّ الأكل كما تجري قاعدة الطهارة أيضاً ، كما قرر ذلك في الشبهة الموضوعية (1).

إشكال : لقد قرّر المشهور من علماء الإمامية أنّ الشبهة الموضوعية المحكومة بالحلية والطهارة إنّما تجري فيما إذا لم يكن أصل موضوعي يقتضي الحرمة ، أمّا في موردنا فتوجد اصالة عدم التذكية التي تقتضي حرمة اللحم ونجاسته على المشهور ، فيحكم على أصالة الإباحة ويتقدّم عليه.

والجواب : لقد ذكر السيد السبزواري قدس سره في مهذب الأحكام فقال : « إنّ أصالة عدم التذكية لا تجري في المقام : إمّا للعلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة وهي عدم الذبح ، أو لما تقدّم من الأخبار في جواز الأكل » (2).

وإذا لم تجر اصالة عدم التذكية فتبقى اصالة البراءة تقتضي عدم حرمة الأكل فيما نحن فيه.

ولكن نقول : إذا استندنا إلى الأخبار في تكميل البراءة فلا حاجة إلى الأصل العملي حينئذ ، لعدم الشك في التذكية.

وأمّا إذا غضضنا النظر عن الأخبار ولم تجر اصالة عدم التذكية للعلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة - كما قرره السيد السبزواري - فتجزي اصالة الإباحة بلا مانع ، لعدم جريان اصالة عدم التذكية.

ولكن الصحيح والمشهور أنّ اصالة عدم التذكية تجري وتتقدّم على أصالة الإباحة ، وذلك لأنّ الشارع المقدّس حرّم علينا ( الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ) (3) ،

ص: 262


1- فرائد الاُصول : ج 1 ، ص 368 - 370.
2- مهذب الأحكام : ج 5 ، ص 276.
3- المائدة : 3.

وحينئذ يكون الأصل في الحيوان عدم التذكية ، إلاّ أنّ تثبت تذكيته بأمارة معتبرة ، لأنّ التذكية أمر وجودي ، سواء كانت عبارةً عن الأفعال المخصوصة (1) ، أو شيئاً بسيطاً حاصلاً منها ، فيستصحب عدمها عند الشك فيها ، وهو معنى اصالة عدم التذكية.

حكم اللحوم المستوردة :

لا حاجة للبحث عن حكم اللحوم المستورَدة من البلاد الإسلامية التي تكون لحومهم بأيديهم يتصرفون فيها ويستعملونها في ما يشترط فيه الطهارة ، حيث يكون الحكم هو حلية الأكل كما هو واضح. إنّما الكلام في اللحوم المستورَدة من بلاد الكفر ( الذي يكون كل أهلها أو أكثرهم كفاراً ) وهذا البحث يشمل حكم اللحوم التي تكون بيد الكفار أو أرضهم أيضاً.

أقول : إنّ الأصل الذي هو عدم التذكية - حيث إنّ التذكية أمر وجودي كما تقدّم فإذا شككنا في حصوله فالأصل عدمه - محكّمٌ هنا بلا إشكال ، وهو يقتضي بطلان المعاملة عليها إذا لم يكن لها منفعة محلّلة غير الأكل ، وحرمة أكلها واستعمالها ونجاستها على المشهور ، وبما أنّه لا توجد هنا أمارة تتقدّم على هذا الأصل - كيد المسلم مثلاً - فيبقى أصل عدم التذكية محكّماً ، وهو يقتضي حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة في الجلد المستورد ونجاستها على المشهور ، حيث نكون قد عرفنا الحرام من جهة الأصل.

بل توجد بعض الروايات التي يستفاد منها الحكم بعدم التذكية المعاضد للأصل مثل :

ص: 263


1- من فري الأوداج مع التسمية ، واسلام الذابح ، وخروج الدم بالصورة المتعارفة مع التوجّه بالذبيحة إلى القبلة ، وغيرها ممّا اشترطه الشارع المقدّس.

1 - موثق اسحاق بن عمار عن العبد الصالح ( الإمام الكاظم علیه السلام ) انّه قال : « لا بأس بالصلاة في الفِراء اليماني وفي ما صنع في أرض الإسلام. قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام ؟ قال علیه السلام : إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » (1).

ومفهومها وجود البأس في ما صنع في أرض الكفر ، بضميمة عدم الفرق في استعمال ما يصنع أو أكل ما يوجد عندهم ، أو بأن يكون الأكل من مصاديق الاستعمال الذي هو موجود في الرواية ، لأنّ الكلام عن الصلاة ، فاللباس في الصلاة هو استعمال للملبوس.

2 - رواية اسماعيل بن عيسى ، قال : « سألت الإمام الرضا علیه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف ؟ قال علیه السلام : عليكم انتم أن تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه » (2).

ومنطوق الرواية يقول : إذا رأينا المشركين يبيعون ذلك فعلينا أن نسأل ، ولا يفيد السؤال هنا إلاّ في صورة حصول العلم بالتذكية أو الحجّة الشرعية بها ، لعدم حجية خبر الكافر ، وحينئذ في صورة الشك في التذكية فالأصل عدمها.

ولنفس النكتة يحكم بعدم التذكية لما وجد في يد الكافر وإن كان في أرض المسلمين ، وكذا الحكم في اللحم المأخوذ من يد مجهول الحال في غير سوق

ص: 264


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 50 من النجاسات ، ح 5.
2- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 50 من النجاسات ، ح 7. الحديث: رواه الصدوق بسنده عن اسماعيل بن عيسی، والسند معتبر إلّا أن الكلام في نفس اسماعيل ابن عيسی لم يوثق.

المسلمين ، أو المطروح في أرض المسلمين إذا لم يكن عليه أثر الاستعمال.

وبالجملة : كل مشكوك الذبح إذا لم توجد قرينة يد المسلم الدالة على الحلّية يحكم فيه بأصالة عدم التذكية (1) ، ولا نرى ضرورةً للتنبيه على أنّ هذا الحكم ليس مختصاً باللحوم ، بل يجري في الشحوم والجلود أيضاً ، فيكون الحكم فيها جميعاً هو الحرمة وعدم جواز الصلاة في الجلود.

المأخوذ من يد المسلم إذا علم أنّه قد أخذه من يد الكافر :

إنّنا إذا علمنا أنّ تلك اللحوم التي في يد المسلم قد اخذها المسلم من يد الكافر - كما هو المتعارف في هذه الأيام في الدول الإسلامية - فهل تجري القرينة السابقة على التذكية وتقدّم على أصالة عدم التذكية ؟

والجواب : أنّ يد المسلم إذا كانت مسبوقة بيد الكافر تكون على أقسام :

القسم الأول : ما إذا علمنا اجمالاً باشتمال يد الكافر على المذكّى وغيره ، كما إذا كان في بلاد الكفر نسبة معتبرة من المسلمين ، وكان هذا الكافر يحصل على اللحوم والجلود من المسلمين وغيرهم ، أو كان هذا الكافر يستورد الجلود واللحوم من المسلمين وغيرهم ثم يصنّعها ويبعثها اليهم ، ففي هذه الصورة قد يقال بعدم جريان أصالة عدم التذكية ، وذلك لوجود العلم الاجمالي بوجود المذكى ، ولم يثبت كون يد الكافر أمارة على عدم التذكية ، إذن يكون المرجع في هذه الشبهة

ص: 265


1- قد يقال : إنّ خبر السفرة ينافي ذلك ، فقد روى النوفلي عن السكوني عن الإمام الصادق علیه السلام : « أنّ أمير المؤمنين علیه السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة ، كثير لحمها وخبزُها وجبنُها وبيضُها وفيها سكين ؟ فقال أمير المؤمنين علیه السلام : يقوّم ما فيها ثم يؤكل لأنّه يفسد وليس له بقاء ، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل له : يا أمير المؤمنين ، لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ ، فقال : هم في سعة حتى يعلموا ». وسائل الشيعة : ج 2 : ب 50 من النجاسات ، ح 11. أقول: إنّ هذه الرواية لا تعارض ما تقدّم من أن أمارة سوق المسلمين هي في خصوص ما كان في يد المسلم يتعامل معه معاملة الطاهر، حيث إنّها ضعيفة بالنوفلي.

الموضوعية أصالة الحلّ والطهارة (1).

أقول : ولكن هذا الكلام بإطلاقه خلاف التحقيق ، حيث تجري أصالة عدم التذكية في جميع أطراف الشبهة الموضوعية (2) وذلك لعدم حصول مخالفة عملية حتى تتحقّق المعصية أو يتحقّق القبح ، بل الذي يحصل من جريان اصالة عدم التذكية المخالفة الالتزامية ، ولم يثبت وجوب الالتزام بالحكم الواقعي الفرعي مع قطع النظر عن العمل (3).

لو تنزلنا عن ذلك والتزمنا بمسلك الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره القائل بأنَّ أصالة عدم التذكية لا تجري « للمناقضة بين الصدر والذيل في قوله : لا تنقض اليقين بالشك ، بل انقضه بيقين آخر » (4) فحينئذ تصل النوبة إلى أصالة الاباحة في أطراف الشبهة الموضوعية ، ولكنّها لا تجري في المقام ؛ لوجود العلم الاجمالي بوجود غير المذكى ، حيث يكون جريانها موجباً للمخالفة العملية التي هي معصية.

إذن يكون العلم الاجمالي بوجود غير المذكى موجباً لحرمة الاجتناب عن

ص: 266


1- راجع مهذّب الأحكام ، للسيد السبزواري ; : ج 5 ، ص 280.
2- ملاحظة : ليس كلامنا في وجود ميتة واحدة في اطراف عديدة غير محصورة حتى يقال : إنّ العلم الاجمالي غير منجز أو أن أطراف العلم الاجمالي ليس كلّها محلّ ابتلائنا ، إذ ما نحن فيه هو وجود كميّة كبيرة من اللحوم مذكاة ووجود كميّة كبيرة غير مذكاة ، وفي هذا الفرض وإن لم يكن أطراف العلم الاجمالي كلّها مورد ابتلاء ، إلاّ أن ما هو مورد ابتلائنا فيه علم اجمالي بوجود الميتة أيضاً.
3- راجع فرائد الاُصول للشيخ الأنصاري : ج 2 ، ص 744 طبعة جماعة المدرسين في قم ، ومصباح الاُصول ، تقريرات السيد الخوئي : ج 3 ، ص 257 - 258.
4- فإنَّ « لا تنقض اليقين بالشك » ، شامل للشك المقرون بالعلم الاجمالي وجريان الاستصحاب بعدم تذكية للاطراف ، ومقتضى اطلاق اليقين في قوله علیه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، هو شموله للعلم الاجمالي وعدم جريان الاستصحاب - أصالة عدم التذكية - في بعض الاطراف ، ولا يمكن الأخذ بكلا الاطلاقين.

الجميع ؛ تطبيقاً لقاعدة منجزية العمل الاجمالي ، أو جريان اصالة عدم التذكية في جميع الأطراف كما تقدّم.

وبهذا نعرف أن فتوى السيد السبزواري في جريان اصالة الحلّ والطهارة مبنية على جواز جريان اصالة الاباحة والطهارة في أطراف العلم الاجمالي ، وهو مسلك ضعيف.

القسم الثاني : إذا لم يعلم باشتمال يد الكافر على المذكى وغيره ولم يتفحّص المسلم عن المذكى - لأنّه لم يكن مبالياً بكون اللحم ميتة أو مذكى - ففي هذه الصورة تجري اصالة عدم التذكية ، فيحرم اللحم وينجس على المشهور ، ولا توجد أمارة حاكمة على هذا الأصل.

القسم الثالث : إذا كانت هنا أمارة على تفحّص المسلم حين شرائه بأن كان ملتزماً ملتفتاً إلى حرمة ذبائح الكفار ، متثبتاً في كل اُموره التجارية ففي هذه الصورة يجوز الاعتماد على قوله وتفحّصه حملا لفعله على الصحّة. ومثل هذا ما إذا كانت الدولة مطبقة للإسلام تتفحّص في شراء الذبائح المذكاة بإرسال هيئات للدول المصدِّرة للّحوم تشرف على كيفية ذبحها وتسويقها إلى الدول الإسلامية أو إلى بلادها ففي هذه الصورة يحلّ اللحم المستورد بواسطة الدولة المتثبتة في عملها هذا.

خلاصة البحث :

في التذكية الشرعية وطرقها الحديثة هناك عدّة نقاط :

1 - بعد بيان الذبح الشرعي وشروطه عند طائفتي الامامية وأهل السنّة رأينا أن لا اشكال في ما يذبح بالمكائن الحديثة من ناحية التسمية واستقبال القبلة إذا كان الذابح مسلماً على رأي مشهور الإمامية ، أو مسلماً أو كتابياً على رأي

ص: 267

أهل السُنَّة وبعض من الإمامية.

2 - كما لا اشكال أيضاً من ناحية الذبح بالآلات الحادة في المكائن الحديثة إذا كانت الآلة من جنس الحديد المعروف على رأي مشهور الإمامية ، أو حتى إذا لم تكن من جنس الحديد المعروف إذا كانت الآلة حادّة قاطعة على رأي آخر يوافق عليه كل أهل السُنَّة.

3 - كما لا اشكال في حلية الذبيحة إذا قطعت الرقبة بواسطة الذبح وإن كان هناك نهي عن قطع الرقبة حين الذبح ، لأنّ النهي وإن كان دالاً على حرمة الفعل إلاّ أنّ حلية اللحم مستندة إلى توفر شرائط التذكية المفروض توفرها عند الذبح.

ولكن الحلية في هذه الصور المتقدّمة مشروطة بعدم حصول علم اجمالي بموت بعض هذه الحيوانات قبل التذكية ، وأن لا يحصل علم اجمالي بموت بعضها نتيجة لضرب الآلة الحادة رأس الذبيحة أو صدرها.

4 - إنّ خنق الحيوان حتى الموت بالطريقة الانجليزية محرّم بنصّ القرآن الكريم ، وكذا كل خنق يؤدّي إلى الموت كالخنق بثاني اُوكسيد الكاربون.

5 - التدويخ بكل صوره إذا ادّى إلى توقّف القلب وموت الحيوان قبل التذكية فهو محرم الأكل لأنّه ميتة.

6 - التدويخ بكل صوره إذا جعل الحيوان فاقد الوعي - كما هو الفرض - وسيعود إليه وعيه بعد مدّة معينة ، ثم اجريت عليه التذكية الشرعية حال فقدان الوعي وخرج منه الدم المتعارف فهو حلال الأكل.

7 - إذا شككنا في حياة الحيوان بعد التدويخ فيكفي للحكم بحياته قبل الذبح حركته بعد الذبح كما صرحت بذلك الروايات عن أهل بيت العصمة سلام اللّه عليهم.

ص: 268

8 - إذا حصل من التدويخ علم اجمالي بموت البعض قبل إجراء التذكية فلا نحكم بحلية أي واحد من هذه الحيوانات التي جرت عليها التذكية ، وكان بعضها ميتاً قبل التذكية ، وذلك للعلم الاجمالي بحرمة بعضها في الشبهة المحصورة.

9 - إذا شككنا في حلية الذبيحة من ناحية جهلنا بإسلام الذابح ممّا حلّ أكل لحمه فالقاعدة تقتضي حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة في جلد هذه الذبيحة ، لوجود الروايات القائلة بأنّ جواز الأكل وجواز الصلاة في الجلد لا يكون إلاّ في ما علم بالتذكية.

10 - إذا شككنا في حلية الذبيحة من ناحية جهلنا بإسلام الذابح ، أو جهلنا بتوفر شروط الذكاة وكانت في يد المسلم يتعامل معها معاملة المذكى فالحكم هو حلية أكل اللحم وصحة الصلاة في جلد هذه الذبيحة ، للروايات القائلة بأنّ ما وجد في سوق المسلمين أو أرض الإسلام يتعامل معه معاملة المذكى إذا كان المسلم يتعامل معه كذلك.

11 - وأمّا اللحوم المستوردة من الدول الكافرة فالحكم فيها حرمة أكلها وعدم جواز استعمال جلودها في الصلاة ، ويحكم بنجاستها على المشهور ، وذلك لأصالة عدم التذكية التي لا توجد أمارة حاكمة عليها. كما يحكم بعدم صحة المعاملة عليها إذا لم يكن لها منفعة محلّلة غير الأكل. وكذا يحكم بحرمة أكل ما وجد في يد الكافر وإن كان في أرض الإسلام.

وكذا يحكم بحرمة أكل اللحم المأخوذ من يد مجهول الحال في غير سوق المسلمين ، أو المطروح في أرض المسلمين إذا لم يكن عليه أثر الاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة ، كل ذلك لأصالة عدم التذكية الموجب لذلك ولا حاكم عليها.

12 - أمّا المأخوذ من يد المسلم إذا علم أنّه قد أخذه من يد الكافر فيحلّ منه

ص: 269

ما إذا علم أنّ المسلم قد أخذه من الكافر بعد تفحّص عند الشراء بأنّ كان ملتزماً ملتفتاً إلى حرمة ذبائح الكفار ومتثبتاً في اُموره كلها ، وفي غير هذه الصورة يحكم بحرمة اللحم لأصالة عدم التذكية.

* * *

ص: 270

الاستتئام والاستنساخ

ص: 271

ص: 272

إنّ الثورة العلمية المعاصرة قد أتحفت البشر بما ليس في الحسبان في عالم النبات والحيوان ، وستفضي في المستقبل القريب أو البعيد بما تحمله من تقنية عالية إلى ثورة في المعرفة تقلب الموازين ، خصوصاً في عالم التكاثر البشري ، فالعلم والعقل لابدّ لهما من انطلاق ، ولا يجوز أن يحجر على العقل في التفكير وعلى العلم في المواصلة والارتقاء وتَقَصّي الاحتمالات للتوصّل إلى الممكن.

ولكن لابدّ من أن يحكم العلم نظام ويهيمن عليه دستور ليكون في صالح البشرية لا في ضررها وفنائها ، ولهذا احتجنا إلى الفقه أو القانون ؛ لأجل أن يصرّح بكلمته اتجاه هذه الثورة المعاصرة التي لابدّ لها من الاستمرار لصالح المجتمع ، فإن الدين قادر على مواجهة ومسايرة الحياة وانضباطها بالشكل الصالح للمجتمع.

ومن الطبيعي أن يعتمد الفقه أو القانون على أهل التخصّص بالعلوم الطبيعية في تشخيص الموضوع الموجود أو الذي يفترض أن يحدث ، لأنّ الحكم على شيء فرع تصوره.

وهذا الذي ذكرنا هو الطريق الأصلح للعلم الذي لابدّ أن لا يترك لوحده يمتطي طغيانه في عالم البشرية الكبير ، ولهذا سنعتمد على أهل التخصّص في تصوير الموضوع الذي حدث أو الذي يترقّب أن يحدث ، ثم نعرضه أمام الفقه ليقول كلمته من القرآن والسنة أو قواعد الشريعة المستلهمة منهما.

ص: 273

توطئة :

اشارة

إنّ عملية التكاثر في الكائنات الحيّة ( بدءاً بالأوليات ونهايةً بالإنسان ) على قسمين :

أ - التكاثر بالانقسام الثنائي : وهو يحصل في الأوليات ذات الخلية الواحدة مثل الأميبيا والبكتريا ، وفي بعض النباتات كالصفصاف والتين والتوت ، حيث نتمكّن أن نأخذ جزءاً منها لنزرعه فنحصل على نبات كامل كالأصل. وبعبارة اُخرى : يسمّى هذا التكاثر بالتكاثر اللاتزاوجي.

ب - التكاثر الجنسي : ويحدث هذا في النبات والحيوان والإنسان ، ولابدّ فيه من نكاح يتمّ بين الذكر والاُنثى.

وعلى ما تقدّم نفهم أنّ التكاثر اللاجنسي ( اللاتزاوجي ) كان موجوداً في الأوليات ذات الخلية الواحدة وبعض النباتات ، ولكن هناك فكرة بدأت بدافع التمييز البشري في المانيا في العقد الثالث من هذا القرن ( العشرين يوم قرر الحزب النازي بقيادة هتلر خلق عِرق بشريٍّ متميّز ) ، ولكنّ التقنية المتوافرة آنذاك قد خذلته.

ثم جاءت نقطة التحوّل عام ( 1960 م ) يوم استطاع العلماء استنساخ النباتات.

ثمّ في عام ( 1993 م ) حيث تمكّن ( چيري هال وروبرت ستلمان ) العالمان الأمريكيان من إنجاز علميٍّ كبير كشفا عنه خلال اجتماع جمعية الخصوبة الأمريكية بمدينة مونتريال بكندا في اُكتوبر ، وهذا الحدث قد تناول جنين الإنسان رأساً ، وقد حصل هذا الإنجاز العلميّ على جائزة أهمّ بحث في المؤتمر ، ثمّ أعقبته زوبعة من الاعتراضات.

وهذا الانجاز العلمي يطلق عليه اسم ( الاستتئام ) لأنّه يحاول إيجاد التوائم البشرية بطريقة علمية سيأتي شرحها.

ص: 274

ثمّ في عام ( 1995 م ) تمكّن علماء يابانيون من دمج خلية جنينية ( بيضة ) مع خلية جسدية عن طريق تيار كهربائيٍّ ليحصلوا لأول مرّة في تأريخ الإنسان على نسل لم يتمَّ بالمعاشرة الجنسية ( أي طريق تلقيح البويضة بالحيوانات المنوية ).

والخلاصة : في العشرة الأخيرة من القرن العشرين شهد العالم حدثين مهمّين :

الأول : ما حدث سنة ( 1993 م ) على يد العالمين الأمريكيّين ، وهو ( الاستتئام ).

والثاني : ما حصل سنة ( 1997 م ) من استنساخ النعجة ( دولي ) على يد البروفسور ( آيان ويلموت ) الاُسكتلندي مع خبراء من معهد روزلين في مدينة أدنبرة البريطانية ، وهذا يعتبر تعميقاً لما عمله العلماء اليابانيون من دمج خلية جنينية مع خلية جسدية عن طريق التيار الكهربائي.

والآن سنشرح كلا الحدثين المهمّين مع رأي الفقه الإسلامي فيهما.

أولاً : الاستتئام

اشارة

أولاً : الاستتئام (1)

وقبل البدء في بيان طريقة الاستتئام يحسن بنا أن نبيّن الولادة التي تتمّ عن طريق الخلايا الجنسية.

فنقول : الخلايا الجنسية : هي المنويات التي تفرزها الخصية ، والبيضات التي يفرزها المبيض.

وهذه الخلايا الجنسية تختلف عن بقية خلايا الجسم.

ص: 275


1- إنّ توضيح موضوع الاستتئام اعتمدنا فيه على بحث الاُستاذ الدكتور حسّان حتحوت في بحث له تحت عنوان استنساخ البشر. ولكن هناك معلومات اُخرى اُضيفت من علماء آخرين نشرت الصحف والمجلات العالمية تصريحات لهم.

وتوضيح ذلك : إنّ خلايا الجسم ( غير الجنسية ) كخلايا الأمعاء والجلد والعظم وغيرها تشتمل على نواة في داخل الخلية هي سرّ النشاط الحياتي فيها ، ويحيط بالنواة غشاء نووي ، وتحتوي النواة بداخلها على شبكة مكوّنة من ستّة وأربعين شريطاً تسمى بالأجسام الصبغيّة ( الكروموزومات ) ، أمّا باقي مساحة الخلية فيما بين النواة وبين جدار الخلية فمليء بسائل يعرف بالسائل الخلوي أو ( السيتوبلازم ).

والأجسام الصبغية ( الكروموزمات ) الستة والأربعون هي حوامل الصفات الوراثية تسمّى ( الجينات ) ، وهي التي تقرّر الصفات الوراثية للفرد.

وتتكاثر الخلية بالانقسام الذي بموجبه ينشقّ كلّ شريط من هذه الأجسام طولياً إلى نصفين يتمّم كلّ منهما نفسه إلى شريط كامل بالتقاط المواد اللازمة من السائل المحيط به ، وهكذا تتكوّن شبكتان صبغيتان تغلِّف كلّ منهما نفسها بغلاف نوويٍّ لتصبح هناك نواتان تقتسمان السائل الخلوي ، ويحيط بكلٍّ منهما غشاء خلوي وتصبح الخلية خليتين ، وهكذا أجيالا بعد أجيال من الخلايا المتماثلة. فالخلية الجلدية - مثلاً - تنجب أجيالا من الخلايا الجلدية ، وخلية الكبد تعطي أجيالا من خلايا الكبد ، وهكذا.

أمّا الخلية الجنسية فلها خاصيتها التي ليست لغيرها ؛ وذلك بأنّها في انقسامها الأخير الذي تتهيّأ به للقدرة على الإخصاب لا ينشطر الشريط الكروموزومي إلى نصفين يكمّل كلّ منهما نفسه ، بل تبقى الأجسام الصبغية سليمة ويذهب نصفها ليكون نواة خلية ، والنصف الآخر ليكون نواة خلية اُخرى ، وحينئذ تكون نواة الخلية الجديدة مشتملةً على ثلاثة وعشرين من الأجسام الصبغية ، لا على ثلاثة وعشرين زوجاً ، ولهذا يسمّى هذا الانقسام بالانقسام الاختزالي ، فكأنّ النواة فيما يختصّ بالحصيلة الإرثية نصف نواة (1).

ص: 276


1- (1) إنّ الآيات القرآنية تشير إلى هذه الحقيقة ، فقد قال تعالى : ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا الزمر : 1. وهذا خطاب لكلّ البشر ، حيث قال اللّه تعالى لهم : لقد خلقت هذا النوع من البشر وكثّرت أفراده من نفس واحدة ( الزوج ، أو آدم أبو البشر وزوجها الذي هو الاُنثى ) مثلاً ، فقد قال الراغب : الزوج يقال لكلّ واحد من الفريقين من الذكر والاُنثى من الحيوانات المتزاوجة. وقد قال تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) الروم : 21 أي خلق لأجلكم من جنسكم قرائن ؛ لأنّ كلّ واحد من الرجل والمرأة مجهّز بجهاز تناسليٍّ يتمّ فعله بمقارنة الآخر ، فكلّ واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر ، ويحصل من المجموع واحد تامّ له أن يلد وينسل. ولهذا النقص والافتقار يتحرّك الواحد منهما إلى الآخر ، حتى إذا اتّصل به سكن إليه. راجع تفسير الميزان للسيد الطباطبائي : ج 1. ص 166.

والقصد من ذلك : أنّه إذا أخصب منويّ ناضج بيضةً ناضجةً باختراق جدارها السميك تُمِّمت نواتاهما إلى نواة واحدة ذات ثلاثة وعشرين زوجاً لا فرداً ، أي صارت النواة مشتملة على (46) من الأجسام الصبغية كما هي سائر خلايا جسم الإنسان ، فكأنّ المنيّ مع البويضة نصفان التحما إلى خلية واحدة هي البيضة الملقّحة ، وهي أول مراحل الجنين.

خصوصية البيضة الملقّحة : وهناك خصوصية للبيضة الملقّحة تنفرد بها دون سائر خلايا الجسم. وسرّ هذه الخصوصية مركوز في السائل الخلوي ( السيتوبلازم ) الذي يحيط بالنواة ، إذ بينما تتكاثر خلايا الجسم إلى أجيال لا نهاية لها من الخلايا المتماثلة فإنّ البيضة الملقّحة تشرع في الانقسام إلى خلايا متماثلة لعدد محدود من الأجيال ، فما تكاد تفضي إلى كتلة من اثنين وثلاثين خليّة (1) حتى تتفرّع خلايا الأجيال التالية إلى اتّجاهات وتخصّصات شتّى ذات وظائف متباينة ، وتتخلّق إلى خلايا الجلد والأعصاب والأمعاء وغيرها ، أي ينحو إلى تكوين جنين ذي أنسجة وأعضاء مختلفة ومتباينة رغم أنّها لا زالت تشبه خلايا الاُمّ التي ينشق الشريط الكروموزومي إلى نصفين يكمل كلّ منهما نفسه ، ولكنّ طوائف من

ص: 277


1- ذكر بعض الأطباء المتخصّصين في علم الوراثة بأنّ البيضة الملقّحة تشرع في الانقسام إلى خلايا متماثلة حتى تبلغ (128) خلية ، ثمّ تتفرّع الخلايا إلى اتّجاهات وتخصّصات شتّى.

الجينات ( الكروموزومات ) تنطفئ ( بقدرة قادر ) فتبقى موجودةً ، لكنّها غير فعّالة في تمايز يتيح لكلّ مجموعة من الخلايا أن تفضي إلى نسيج أو عضو من أنسجة الجسم وأعضائه المتعدّدة.

هذا كلّه هو الطريق المألوف للولادة الذي يتمّ عن طريق التلاقح الجنسي.

أمّا الاستتئام :

فهو إنجاز علمي كشف عنه العالمان ( چيري هال وروبرت ستلمان ) خلال اجتماع جمعية الخصوبة الأمريكية بمدينة مونتريال بكندا في اُكتوبر عام ( 1993 م ) تناول جنين الإنسان رأساً ، وحصل هذا الإنجاز العلميّ على جائزة أهمّ بحث في المؤتمر.

وخلاصة هذا الإنجاز العلميّ هو : أنّ البيضة الناضجة التي تحتوي على (23) كروموزوم إذا اخترق جدارَها السميك منويّ ناضج يحتوي على (23) كروموزوم فسوف تلتحم النواتان في نواة تحمل الكروموزومات الستّة والأربعين ( 23 زوجاً ) وهي صفة خلايا الإنسان.

ثمّ يحدث انقسام النواة إلى جيل بكر من خليتين ، وإلى جيل حفيد من أربع خلايا ، وأجيال تالية من ثماني ، ثمّ أجيال من ستة عشرة ، ثم أجيال من اثنين وثلاثين ، ثمّ يحدث الشروع في التخصّص لتكوين أنسجة وأعضاء.

وبما أنّ الانقسام الأول للخليّة الاُمّ إلى خليتين يحتوي على تمزّق الجدار الخلويّ السميك فيكون عندنا خلية اُمّ أصلية واحدة يتمّ انقسامها لتكوين جنين واحد ، ولكن كشف العلماء أنّ الانقسام الأول إذا لم يمزّق الجدار السميك فإنّ كلاًّ من الخليتين الناتجتين عن الانقسام الأول تعتبر نفسها اُمّاً أصليةً من جديد ، وتشرع في الانقسام لتكوين جنين لوحدها ، وهذا ما يحدث في الطبيعة في حالات التوائم المتشابهة ( أي التي تنتمي إلى خلية اُمٍّ واحدة ).

ص: 278

وبما أنّ العلماء استطاعوا أن يركّبوا من بعض الحشائش البحرية مادةً صناعيةً تؤدّي وظيفة هذا الجدار الخلويّ السميك فيما إذا تمزّق بعد الانقسام الأول ، فإذا كُسيت به كلّ خلية من خلايا الجيل الأول ( الاثنتين ) أو الثاني ( الأربع ) أو حتّى الثالث ( الثماني ) فإنّها تعتبر نفسها خليّةً اُمّاً من جديد ، وتشرع في النموّ إلى جنين ، وحينئذ تكون تلك التوائم متطابقةً في مادّتها الوراثية ، فهي كالنُسخ المتشابهة تماماً.

وبهذه الطريقة استطاع العالمان ( هال وستلمان ) أن يفصلا خلايا الأجيال الاُولى ويكسواها بالجدار الخلويّ الاصطناعي ، فإذا هما يحصلان من سبعة

الصورة

ص: 279

الصورة

عشر جنيناً باكراً على ثمانية وأربعين جنيناً كلّ منهما نسخة من خليتها الاُمّ ( بواقع ثلاثة لكلّ جنين أصيل في المتوسّط ) ولكنّ العالمان لم يحاولا زرع تلك الأجنّة في أرحام النساء ، ولكن حسبهما أنهما أثبتا نجاح التجربة ( الاستتئام ) وسلامة المنهاج (1).

وحينئذ نقول : قد يتمكّن العلم من زرع هذه التوائم - المتشابهة المنتسبة أصلاً إلى بيضة واحدة ملقّحة - في أرحام النساء ، وقد تنجح هذه العملية بإيجاد (8) أو (16) أو (32) فرداً توأماً ، وعلى رأي آخر (128) فرداً توأماً ، فإنّ هذا عبارة عن استنساخ الأجنّة البشرية كما عبّر عنه ، وصحبته ضجة في الصحف وغيرها نعرض عنها الآن.

وجهة نظر العالِمَيْن في الاستتئام :

قالا : إنّهما قصدا به تحديداً فائدتين :

ص: 280


1- إنّ بعض العلماء الأمريكيين استنسخوا توأماً من القردة بواسطة خلية ( جنينية ) واحدة ، والقرد أقرب الحيوانات الثديية للإنسان.

الاُولى : أن يكون إسهاماً في علاج حالات العقم التي تحتاج إلى تقنية أطفال الأنابيب. وأطفال الأنابيب يكون المتَّبع فيها أن تعطى المرأة دواءً منشِّطاً للاباضة ، ثم تسحب من مبيضها البيضات الناضجة خلال منظار يخترق جدار البطن وإبرة شاخطة تشخط البيضات ثم يضاف إليها المني بغية تلقيح عدد منها ، ثم تودع البيضات الملقّحة رحم السيدة بغية أن تنغرس فتنمو إلى جنين.

ووجد أنّ أنسب عدد يودع الرحم هو ثلاث أو أربعة بيضات إن انغرست منها واحدة فخير ، وإن انغرس أكثر من واحدة فزيادة خير.

ولكن هناك من السيدات التي يُعاني مبيضها نوعاً من الفقر البُييضي فلا تنتج عنها إلاّ بيضة ملقحة واحدة ، وهذا يهبط بفرصة الحمل هبوطاً كبيراً ، وحينئذ يكون من الأفضل أن نفصل بيضها في بواكير انقسامها إلى جنينين لا واحد ، وهو الاستتئام ، ونفصل كلاّ إلى اثنين ، وهكذا حتى نوفر عدداً كافياً من الأجنة ، يودع في رحم السيدة منها أربعة ، ويحفظ ما زاد من الاجنة أي ( النسخ ) في التبريد العميق ؛ ليكون رصيداً احتياطياً يستعمل في مرّة قادمة ( أو مرات ) إذا لم تسفر الزرعة الاُولى عن حمل.

الثانية : والفائدة الثانية تكمن في مجال تشخيص مرض جنينيٍّ محتمل قبل أن يودع الجنين الباكر المكوّن من عدد صغير من الخلايا إلى الرحم لينغرس ، فقد جرى الأمر على فصل خلية من هذا الجنين لاجراء التشخيص عليها ، فإن كان الجنين معافى غُرس ، وإلاّ اُهدر. ولكنّ أخذ خلية من جنين باكر ذي عدد محدود من الخلايا فيه خطر على الجنين ، بينما لو فصلنا هذا الجنين إلى توأمين بطريقة الاستتئام هذه فاننا نستعمل واحداً للتشخيص ، والآخر للزرع كاملا غير منقوص.

هذا ما قاله العالِمَان عن الاستتئام.

ص: 281

الإشكال على ما قاله العالِمَان :

يرتكز الإشكال على علاج العقم ، فإنّ الطريقة التي وصل إليها العالمان تفضي إلى وجود أجنة فائضة ليس أمامها إلاّ طريقين :

الأول : الموت فيما إذا غرست الأجنة الاُولى ونمت إلى جنين.

الثاني : وأمّا إذا لم توكل إلى الموت فإنّها ستزرع في أرحام سيدات اُخر.

وعلى الطريق الأول نتج إنشاء حياة أسلماها إلى الموت. وعلى الطريق الثاني فمعناه أن سيدةً ستحمل جنيناً غريباً ليس من زوجها ولا منها ، وليس هو في نطاق عقد زواج.

وإذا علمنا أنّ بالإمكان حفظ الأجنة الفائضة في التبريد لآماد طويلة فربما تُشترى هذه الأجنة التي رُؤي توأمها مستقبلا بالاطلاع على صورته ( النسخ الأصل ) التي تكبره بسنوات.

فوائد الاستتئام :

وقد ذكر للاستتئام فوائد هي :

1 - إنّ من فوائد الاستتئام وحفظ الأجنة هو ما إذا حملت الاُم بطفل واختزنت منه نسخة تحفظ بالتبريد ، فإنَّ هذه النسخة قد تدعو الحاجة إليها إن مات الطفل وأراد والداه أن يعوّضاه بطفل مماثل له تماماً ، فإنَّ الجنين سوف يوضع في رحم اُمّه بعد إخراجه من التبريد وينمو ويحصل التوأم لهما.

2 - وقد يحتاج الطفل - الذي حُفظ توأمُه - في المستقبل إلى زرع عضو أو نسيج ، وتعوق ذلك مشكلة المناعة إن عزّ العثور على الزرعة الموائمة ، فحينئذ تزرع النسخة التوأم الاحتياطية وتنمو ليؤخذ منها العضو أو النسيج المطلوب ، ونظراً للتطابق بينهما فمن المؤكّد أن الزرعة سيقبلها الجسم المنقولة إليه دون احتمال

ص: 282

رفضها مناعياً.

وحينئذ يكون السؤال هنا - في حالة كون الطفل لا يعيش بدون العضو المأخوذ منه - عن جواز أن تُنشأ حياة ثم تهدر من أجل إنقاذ حياة اُخرى. وأمّا عن حالة ما إذا كان الطفل يعيش مع الآخر فقد حدثت منذ ثلاثة أعوام أن طفلة في ولاية كاليفورنيا مرضت بأحد سرطانات الدم ولم يمكن العثور على زرعة مناسبة من نخاع العظم ( وهي الوسيلة الوحيدة للعلاج المجدي ) ، فقرر والداها أن تحمل الاُم من جديد على أمل أنّ الوليد القادم سيكون نخاع عظمه ملائماً ... وفعلا أنجبا طفلة وجاء نخاعها ملائماً ، وبعد أشهر تم زرع نخاع منها لاختها المريضة فشفيت. وحينئذ تكون النسخة التوأمة ملائمة لأخذ نخاع العظم لتستفيد منه النسخة التوأمة المريضة ، ويعيش كلا الطفلين ، وهنا أيضاً قد يثور تساؤل عن جواز إنشاء حياة لا لذاتها ، بل لإنقاذ حياة اُخرى.

ثم هل يوجد بأس في أن تحمل السيدة بتوأمها إن فصل عنها في الدور الجنيني الباكر وبقي طيلة السنوات نسخة منها محفوظة في التبريد ؟

ثم هل يوجد مانع في إيجاد جنينين توأمين ( استتئام ) ، أو استنساخ جنينين يفصل بين عمريهما سنوات فيرى الصغير مستقبله فيما يعرض لتوأمه من أمراض وراثية يعلم أنّها له بالمرصاد ؟

وخلاصة الأسئلة المطروحة هنا التي تحتاج إلى جواب فقهي أو قانوني هي :

1 - هل يجوز عمل أجنة متعددة من لقيحة واحدة بالصورة المتقدّمة حتى إذا كانت تلك الاجنة قد وصلت إلى (32) جنيناً متشابهاً ، أو إلى (128) جنيناً على الرأي الآخر ؟

2 - وإذا حُفظت بعض الأجنة في التبريد العميق فهل يجوز قتلها في المستقبل إذا لم يحتج اليها في صورة نجاح الزرعة التي وضعت في رحم الاُمّ وكان المولود غير

ص: 283

محتاج إلى دواء موجود في توأمه ؟

3 - وهل يجوز إعطاء الأجنة المبرّدة إلى سيدة اُخرى لوضعها في رحمها أو بيعها لها ؟ ومن هو الأب والأم في هذه الحالة لو حصلت ؟

4 - وهل يجوز أن يستفاد من الأجنة المبرّدة لزرعها في رحم الاُم لأجل الاستفادة من الأعضاء التي يتمكّن الطفل الجديد من الحياة بدونها في حالة إعطائها إلى أجنة أو إلى أي كائن آخر يحتاج إليها ؟

5 - وفي صورة ما إذا كان العضو أو النسيج لا يمكن أن يعيش الطفل بدونه فإنّ الحكم واضح في عدم جواز إنشاء حياة لتهدر من أجل إنقاذ حياة اُخرى.

6 - وهل يوجد مانع في إيجاد جنينين توأمين يفصل بين عمريهما سنوات ، فيرى الصغير مستقبله فيما يعرض لتوأمه من أمراض وراثية يعلم أنّها له بالمرصاد ؟

وقد أجاب آية اللّه السيد كاظم الحائري ( حفظه اللّه ) عن هذه الأسئلة فقال :

1 - تقسيم اللقيحة إلى عدّة أجنة جائز بشرطين :

الأول : أن لا تكون في ذلك مخاطرة على حياة الجنين أو حياة ما سيُكسى جلداً ليصبح منشأً لطفل جديد أو على صحتهما.

والثاني : أن لا يستعمل ذلك بشكل يؤدي إلى اختلال النظام ، كما لو وزّعت اللقيحة إلى عدّة أجنة واستعملت في وقت واحد ضمن عدّة أرحام فأوجب ذلك عدم تشخيص الظالم من المظلوم والمحرم من غير المحرم ، وما إلى ذلك من المشاكل التي اُشير إليها في مسألة الاستنساخ (1) ، فمع انتفاء هذين المحذورين لا دليل على الحرمة.

ص: 284


1- ستأتي هذه المشاكل في بحث الاستنساخ الآتي.

2 - ما يحفظ في التبريد يجب أن يحفظ بلا جدار كي يجوز قتله بعد ذلك ، إذ بعد صنع الجدار له يكون حاله - احتياطاً - حال الجنين الأصلي الذي يحرم قتله ، أمّا قبل صنع الجدار له فحاله حال المني الذي يجوز اهداره بمثل العزل في وقت المقاربة ، أو قل : حال إسقاط منشأ النطفة قبل انعقاد النطفة.

3 - لا دليل على حرمة ذلك بعد سقوط اسم المني عن النطفة ، لأنّ إدخال ذلك في رحم المرأة لا يعني إدخال المني في رحم امرأة محرَّمة كي يشمله دليل حرمة ذلك ، وأبوه هو الذي ولده - أي صاحب المني - واُمّه هي التي ولدته أي صاحبة البيضة. وأمّا التي تضع رحمها بخدمة هذا الجنين فهي الاُم الحاضن وليست اُمّاً حقيقية. نعم ، لا يبعد الإفتاء بمحْرميتها له بالأولوية القطعية من الاُم المرضعة.

4 و 5 - إن كانت هذه الاستفادة لا تؤدي إلى موت الجنين الثاني أو الاضرار به جازت ، وإلاّ فلا.

6 - لا دليل على حرمة ذلك. انتهى ما أجاب به السيد الحائري حفظه اللّه.

أقول : ومن المناسب هنا أن نبيّن مدرك هذه الإجابة من الأدلّة الشرعية فنقول :

أمّا الجواب الأول فهو لِما ثبت من أن اللقيحة المكوّنة من منيّ الرجل وبويضة المرأة هي عبارة عن الجنين الذي هو مبدأ نشوء إنسان ، ومن الواضح فقهيّاً عدم جواز قتل الإنسان ، ولكن ورد - أيضاً - عدم جواز قتل مبدأ نشوء الإنسان ، ففي معتبرة إسحاق بن عمار قال : « قلت لأبي الحسن ( الإمام الكاظم علیه السلام ) : المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها ؟ قال : لا ، فقلت : إنّما هو نطفة ، فقال علیه السلام : إنّ أول ما يخلق نطفة » (1).

بالإضافة إلى إمكان استفادة الحرمة - أيضاً - من الروايات الكثيرة الواردة

ص: 285


1- وسائل الشيعة : ج 19 ، ب 7 من أبواب القصاص في النفس ، ح 1.

في وجوب الدية على من أسقط النطفة الملقّحة فمن تلك الروايات : صحيحة محمد بن مسلم ، قال : « سألت أبا جعفر ( الإمام الباقر علیه السلام ) عن الرجل يضرب المرأة فتطرح النطفة ؟ فقال علیه السلام : عليه عشرون ديناراً ، قلت : يضربها فتطرح العلقة ؟ فقال : عليه أربعون ديناراً ... » (1).

ولهذا الذي تقدّم من الروايات فقد اشترط في تقسيم اللقيحة إلى عدّة أجنة أن لا يكون في التقسيم مخاطرة على حياة الجنين أو حياة ما سيكسى جلداً ليصبح منشأً لطفل جديد.

وكذا إذا كان هناك ضرر على حياة الجنين في التقسيم فهو أمر غير جائز ، لِمَا ثبت عن النبي صلی اللّه علیه و آله من طريق الفريقين أنّه قال : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » فإنَّ التقسيم إذا كان فيه ضرراً على حياة هذا الجنين فهو أمر غير جائز.

وأمّا إذا كان تقسيم اللقيحة - التي هي مبدأ نشوء الإنسان - ليس فيه مخاطرة على الجنين أو حياة ما سيكسا جلداً ليصبح منشأً لطفل جديد ، وليس هناك شيء يخاف منه على صحتهما فهو أمر جائز لكن بشرط أن لا نعمل عملية الاستتئام بصورة تؤدّي إلى اختلال النظام ، كما إذا قسِّمت اللقيحة إلى قسمين وكسيت كل واحدة منهما بالجدار الخلوي ثم قسما إلى أربعة وكسي الجدار الخلوي ، وهكذا إلى اثنتين وثلاثين خلية اُمّاً ، ففي هذه الصورة إذا كانت النُسخ متشابهة تماماً فهو أمر يؤدي إلى اختلال النظام ؛ لعدم تشخيص الظالم من المظلوم والمحَرْم من غيره ، وما إلى ذلك من المشاكل التي اُشير اليها - فيما يأتي في مسألة الاستنساخ - فإنّ الشارع المقدّس جرت حكمته على اختلاف الألسنة والألوان حفظاً للنظام ، كما صرح بذلك في قوله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) فيلزم من هذه الحكمة أن يحرم كل ما يؤدي إلى اختلال النظام ، ومنه ما إذا طبق الاستتئام بصورة واسعة

ص: 286


1- المصدر نفسه : ب 19 من أبواب ديات الاعضاء ، ح 4.

لزمت منه الاُمور المتقدّمة الفاسدة.

الخلاصة : أنّ تقسيم اللقيحة إلى عدّة خلايا تكون كل خلية اُمّاً لنشوء جنين مشروط بعدم المخاطرة على الجنين أو الأجنة ، ( حتى على صحة الأجنة ) ، فإن كان هناك أي حذر فهو أمر غير جائز ، وبشرط أن لا يؤدي الاستتئام إلى اختلال النظام.

وأمّا الجواب عن السؤال الثاني فإنّنا إذا احرزنا عدم اختلال النظام وعدم الضرر والمخاطرة لما يحصل من تقسيم اللقيحة فإنّه لا مانع من التقسيم كما تقدّم ، ولكن بالنسبة إلى حفظ بعض الأجنة في التبريد العميق فإذا لم يحتج إليها فسوف تقتل هذه الأجنة فيشملها دليل حرمة قتل مبدأ نشوء الإنسان ، ولهذا لا يجوز قتل هذه الأجنة بعد أن تصبح جنيناً ويكسى الجدار الخلوي بالمادة الصناعية (1). أمّا

ص: 287


1- أقول : لقد أفتى الإمام الخوئي ; بعدم حرمة قتل الأجنة خارج الرحم ، وتبعه على ذلك آية اللّه العظمى الميرزا جواد التبريزي ، لأنّهما رأيا حرمة قتل الجنين مختصة فيما إذا كان الجنين في الرحم. فقالا في جواب سؤال عن قتل الأجنة التي تلقّح خارج الرحم وتكون زائدة : « في الصورة المذكورة لا بأس بإتلاف تلك الأجنة ، فإن قتل الجنين المحرّم إنّما هو فيما إذا كان في الرحم ، أمّا في الخارج فلا دليل على حرمة إتلافه » راجع صراط النجاة : ج 1. مسألة (965) ، ص 351. ولعل دليلهما ما روي في تحديد النطفة ، كما في رواية سعيد بن المسيب ، قال : سألت الإمام زين العابدين عليه السلام عن رجل ضرب امرأة حاملاً برجله فطرحت ما في بطنها ميتاً ؟ فقال عليه السلام : « إن كان نطفة فإنّ عليه عشرين ديناراً . قلت فما حدّ النطفة ؟ فقال : هي التي إذا وقعت في الرحم فاستقرت فيه أربعين يوماً». راجع وسائل الشيعة : ج 19 ، ب 19 من أبواب ديات الاعضاء ، ح 8. أقول: إن السائل وإن سأل عن حدّ النطفة - التي هي مبدأ نشوء الإنسان الذي بسقوطها يتحمل المعتدي (الجاني) الدية - إلّا أنّ الجواب لم يكن تعريفاً منطقياً بحيث يكون كل ما عداه خارجاً عن حدّ النطفة التي هي مبدأ نشوء الإنسان وإنما كان الجواب عبارة عن التعريف بالمثال، ولا يعني الجواب أنّ غير هذا التحديد ليس بنطفة ، والدليل على ذلك : أنّ العرف إذا ألقيت إليه رواية سعيد بن المسيب لا يفهم خصوصية للرحم ، كما لا يعرف خصوصية للضرب بالرجل، بل يفهم أنّ الحرمة والدية هي لمبدأ نشوء الإنسان.

إذا تمكّن العلماء من تبريد اللقيحة المقسومة قبل أن يصنع لها الجدار الصناعي ويُقتصر على إكساء الجدار الخلوي للّقيحة المقسّمة التي يراد وضعها في الرحم ، أمّا الذي يراد تبريدها فإن لم تكسَ بالجدار الخلوي فلا تكون مبدأ نشوء الإنسان ، بل حالها حال المني لوحده الذي يحتوي على (23) شريطاً ، وحال البويضة لوحدها التي تحتوي على (23) شريطاً أيضاً. وهذا لا دليل على حرمة إهداره ، سواء كان منيّاً أو بيضة ، بل دلّ الدليل على جواز إهدار المني ، كما في عملية العزل عن المرأة ( إمّا برضاها أو مطلقاً ) ، كما يجوز إهدار بويضة المرأة فيما إذا استعملت دواءً للإسراع بإلقائها إلى خارج على شكل حيض.

وأمّا الجواب الثالث فهو قد ثبت عندنا حرمة ادخال النطفة في رحم يحرم على صاحب النطفة ، وهذا شيء غير حرمة الزنا ، فقد روي في المعتبرة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « إنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلاً أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه » (1).

وفي رواية اُخرى رواها الصدوق عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « لن يعمل ابن آدم عملاً أعظم عند اللّه عزّوجلّ من رجل قتل نبيّاً أو إماماً أو هدم الكعبة التي جعلها اللّه قبلة لعباده أو أفرغ ماءه في امرأة حراماً » (2).

ومعلوم إرادة المني من النطفة التي ذكرت في الحديث الأول لاضافتها إلى

ص: 288


1- وسائل الشيعة : ج 14 ، ب 4 من أبواب النكاح ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 2. يرى بعض الفقهاء أنّ المراد من الروايتين ( في حرمة ادخال النطفة في رحم يحرم على صاحب النطفة) هو كناية عن حرمة نفس عملية الزنا التي هي ملازمة عادة لالقاء المني في الرحم. ونحن وإن كنّا نخالف هذا الفهم لأننا نرى أنّ الرواية قد صرّحت بحرمة القاء النطفة في رحم يحرم عليه ، وهو معنى آخر غير حرمة الزنا الذي هو عبارة عن التقاء الختانين المحرم ، ولكن حتى على هذا المبنى الذي لا نقبله لا يحرم وضع اللقيحة في رحم امرأة أجنبية لأنه ليس من الزنا ، كما هو واضح .

الرجل بينما كان السؤال الثالث عن النطفة التي هي لقيحة مكوّنة من ماء الرجل وبويضة المرأة التي هي مبدأ نشوء إنسان ، ولهذا كان الجواب بجواز وضع هذه اللقيحة ( بحدِّ نفسها ) في رحم امرأة أجنبية لعدم شمول دليل الحرمة المتقدّم له. ولعلّ من المستحب أن تحضن هذه المرأة الأجنبية مبدأ نشوء الإنسان وعدم تركه للموت ، فإنّ الاُم الحاضن إذا لم يكن عملها للحمل بهذا الجنين ( اللقيحة ) مستحباً فلا أقلّ من جوازه.

وأمّا ما قيل من التهويل لهذه العملية « إنّ سيدة ستحمل جنيناً غريباً لا هو من زوجها ولا هو منها ولا هو في نطاق عقد زواج » (1) فهو لا ينفع في الحرمة ، إذ ما هو البأس أن تحضن سيدة ولداً ليس من زوجها ولا منها ولا هو في نطاق عقد الزواج ؟ فهل هو زناً أو دلّ الدليل على حرمته من السنة الشريفة أو قواعد الشريعة ؟ بل قد يقال : إنّ هذه السيدة - التي انقذت هذا الجنين ( اللقيحة التي هي مبدأ نشوء إنسان ) من الموت وحملتها وحضنتها حتى الولادة - قد أنقذت الجنين من الموت فتستحق الشكر.

وأمّا بالنسبة إلى الأب والاُم فهو واضح ، إذ الولد معناه ما تولّد منه الشيء ونشأ منه ، وقد تولّد هذا الولد من مني الرجل فهو أبوه ، ومن بويضة المرأة فهي اُمّه ، أمّا التي وضعت اللقيحة في رحمها فهي اُمّ حاضن وليست اُمّاً حقيقية ، فإنّ القرآن الكريم قال : (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) والولادة الحقيقية ليست هي الوضع وافراغ ما في البطن إلى الخارج كما هو معنى ذلك عند غير العرب ، بل الولد حقيقةً هو ما تولد من الشيء ونشأ منه ، وقد تولد هذا الولد ونشأ من مني الرجل وبويضة المرأة فهما الأبوان الحقيقيان له ، كما تتولد الشجرة من البذرة.

أمّا المغذية فهي ليست اُمّاً حقيقية ، ومع هذا فقد أفتى السيد الحائري

ص: 289


1- استنساخ البشر ، د. حسان حتحوت ص 8.

بمحرمية الاُم الحاضن ، لأنّه يرى الأولوية القطعية من الاُم المرضعة التي يحرم عليها الولد الذي اشتد عظمه ونما لحمه من حليب الاُم بواسطة الرضاع ، حيث إنّ هذا الولد قد كبر بواسطة الاُم الحاضن وإنّ كان قد تولد من غيرها.

ولكن أرى في هذه الأولوية القطعية تأمّلا ، حيث إنّ موضوع حرمة الرضاع هو شيء يختلف عن مجرد ترعرع الجنين من الاُم.

أمّا بالنسبة إلى الجواب الرابع والخامس فإنّ الاستفادة من هذا الجنين التوأم إنّما تكون جائزة بشرط أن لا تكون مؤدّية إلى موته أو الاضرار به ، فإنّ من الواضحات عدم جواز إماتته لأجل إنقاذ حياة اُخرى ، وعدم جواز الإضرار به من قبل الغير لأجل أن يستفيد منه شخص آخر.

أمّا إذا كانت الاستفادة منه للآخرين ليس فيها أي ضرر عليه فهو أمر جائز يقوم به وليّه أو نفسه إن كان قد وصل إلى مرحلة البلوغ والرشد ، وهذا الحكم واضح من الشريعة الإسلامية الغراء التي حرّمت قتل مبدأ نشوء الإنسان وحرّمت الضرر على الكائن الحي بقوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ».

أمّا الجواب السادس فلا دليل على حرمة أن يرى الصغير مستقبله فيما يعرض لتوأمه من أمراض وراثية يعلم أنّها له بالمرصاد ، فكم من الاُسر المبتلية بأمراض السكّر أو السمنة أو ضغط الدم أو غيرها من الأمراض الوراثية ولا أحد يقول بحرمة إيجاد طفل لهذه الاُسر ، لأنّ الطفل سوف يُبتلى بتلك الأمراض الوراثية.

نعم ، قد يحكم بعدم جواز إعلام الصغير أو حتى الكبير فيما يعرض له من الأمراض ، لأنّه أذىً له وقد نهت الشريعة عن أذى المسلم ، إلاّ أن هذا غير حرمة إيجاد طفل يُعلم أنّه سيبتلى بأمراض وراثية.

هذا خلاصة ما أردنا بيانه في بحث الاستتئام.

ص: 290

ثانياً : الاستنساخ

اشارة

فهو عبارة عن الحصول على النُسخ طبق الأصل ( في النبات أو الحيوان أو الإنسان ) بدون حاجة إلى تلاقح خلايا جنسية ذكرية واُنثوية ، والنسخة التي تكون طبق الأصل هي التي تحتوي على التراث الإرثي الكامل الموجود في خلايا صاحب الزريعة ، فيكون المخلوق الناتج صورة منه تماماً كالكتاب الذي نطبع منه آلاف النسخ فتجيء متشابهة تمام الشبه.

وحينئذ فلو جئنا بنواة خلية من أي خلايا الجسم - كالجلد مثلاً - وهي تحتوي على الكروموزومات الستة والأربعين شريطاً ثم أودعناها داخل بيضة ناضجة تمّ إخلاؤها من نواتها التي تحمل (23) شريطاً فإن النواة الضيفة تشرع في انقسام ليس في اتجاه تكوين خلايا جلدية ، بل في تكوين جنين سيكون صورة طبق الأصل عمن أخذنا منه نواة الخلية ، لأنّ الذي يحدد جهة الانقسام هو السيتوبلازم ، وبما أن السيتوبلازم هنا هو لبيضة ناضجة ، فإن الانقسام للخلية سيكون باتجاه تكوين جنين ، وبما أن الكروموزومات في الخلية كاملة فمعنى ذلك أنّ الصفات الوراثية للجنين ستكون مطابقة تماماً لصاحب النواة ، إذ ليس عندنا (23) فرداً من الصفات الوراثية من الزوج و (23) فرداً من الصفات الوراثية للاُنثى حتى يكون الجنين حاملا لصفات الاثنين معاً.

وبتكرار هذا العمل نستطيع أن نحصل على أي عدد شئنا من النسخ التي تطابق صاحب النواة في التكوين الوراثي.

ولقد اُنجز هذا العمل - فعلاً - في عدد محدود من الأحياء الدنيا ، كالضفدعة (1) واُنجز - أيضاً - في النعجة دولّي في انجلترا التيولدت في يوليو ( 1996 م ) وبقيت سرّاً

ص: 291


1- لخّص هذا من بحث استنساخ البشر للاُستاذ الدكتور حسّان حتحوت وأبحاث اُخرى لعلماء آخرين ذكرتهم الصحف والمجلات العالمية ، منهم العالم الاسكوتلندي الذي أنتج النعجة دولّي « آيان ويلمون ».

لا يعرفه أحد حتى اُعلن عنها في فبراير ( 1997 م ) والنعجة هي من الحيوانات الثديية ( ترضع الثدي ) ، فقد اُخذت من نعجة خليّة ( ثديية ) عزلت نواتها التي تحمل المعلومات الوراثية وزرعت تلك النواة في بيضة (1) اُنثى بعد أن سُحبت نواتها التي تحمل المعلومات الوراثية ، ثم وضعت البيضة الملقحة في رحم النعجة ، فتولد جنين طبق الأصل عن صاحب النواة.

الصورة

ص: 292


1- إنّ الخلية الثديية هي متخصّصة لإنتاج الحليب ومكوّناته ، وأمّا المورّثات ( الجينات ) في هذه الخلية فهي في حالة سكون وعاطلة عن العمل ، ولكنّها بمجرد وضعها في سيتوبلازم البيضة ثارت شجون هذه العوامل الوراثية الساكنة وبدأ في العمل ، فالسيتوبلازم الذي في البيضة له دخل في العملية.

وإذا كان هذا ممكناً - ولو بصورة نادرة الآن - حيث زرعت (277) نواة في (277) بيضة ناضجة تم اخلاؤها من نواتها فنجحت حالة واحدة ، ولكن التقنية العلمية العالية قد تتمكّن من زيادة نسبة النجاح في المستقبل.

وإذا أمكن هذا في النعجة - وهي من الحيوانات الثديية - فهو ممكن في الإنسان ، لأن المرأة لها ثدي ترضع به ولدها.

وقد أحدث هذا الحدث ( للنعجة دولّي ) ضجة في العالم ، وسبب الضجة هو التخوّف من استخدام نفس الاُسلوب لإنتاج بشر متشابِهِين في الشكل والمظهر (1) حسب الطلب ، وهو الموضوع الذي كان يحلم به هتلر وأشباهه في هذا الزمان. فقد يفاجئنا العلم بإنجاز نسخ للإنسان فتؤخَذ خلية من الإنسان من أي مكان أريد ( بشرط أن لا تكون جنسية ) وتعزل نواتها التي تحمل الصفات الوراثية ، وتزرع تلك النواة في بيضة امرأة بعد أن تسحب من البيضة الصفات الوراثية التي فيها ، ثم توضع اللقيحة في رحم المرأة فيتولد جنين طبق الأصل عن صاحب النواة.

وحينئذ بما أنّ الدين لابدّ له من أن يقول كلمته في كل مورد من

ص: 293


1- إنّ الفرق بين النسخة الأصل والتابعة موجود بحكم الفرق الزماني والتطور الثقافي والعلمي ويمكن باختلاف البيئة والتربية ، وهذا الاختلاف يمكن أن يكون بين النسخ المتطابقة في الزمن الواحد ، فإن البيئة إذا اختلفت واختلف التعليم والتربية فسوف يكون اختلاف السلوك واضحاً ، كما نشاهد الاختلاف بين التوأمين اللذَين نشآ في بيت واحد من أب واُم ، ولكنّ التشابه التام يكون في الشكل والمظهر كما قلنا. ثم إنّه لحدّ الآن بالنسبة لاستنساخ الحيوان لا يعلم مقدار عمرُ خلايا النسخة ، ففي النعجة دولّي لا يدرى هل عُمر خلاياها عندما ولدت هي نفس عُمر خلايا صاحبة الخلية ، أم عمرها جديد كعمر الحمل حين يولد في حَمل جنسي ؟ فإن كان الأول فمعنى ذلك أن النسخة ضحية لأعراض شيخوخة مبكرة. ولا يعُلم أيضاً هل ستكون هذه النسخة قادرة على التناسل كغيرها من الحيوانات أم انها ستكون عقيمة لا تلد ؟

الموارد العلمية لقدرته على مواجهة ومسايرة الحياة فحينئذ نسأل عن عدّة اُمور :

أولاً : هل توجد حرمة شرعية لهذا العمل بحدِّ نفسه ؟

ثانياً : هل هذا الكائن الحي إذا وجد هو ولد شرعي ؟

ثالثاً : إذا كان ولداً شرعياً فمن هو أبوه ومن هي اُمه ؟

رابعاً : هل في هذا العمل خطر على البشرية ؟

وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة لابدّ أن نستبعد أولاً ما قيل من أنّ الاستنساخ عبارة عن تغيير لخلق اللّه تعالى ، وتغيير خلق اللّه تعالى يحرم بقوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا. لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ... ) (1).

فتغيير خلق اللّه تعالى محرّم ؛ لأنّه ممّا يأمر به الشيطان ؛ وهو لا يأمر إلاّ بالفحش والمعاصي (2).

وواضح أنّ استبعاد هذا الكلام من حيث إنّ الاستنساخ لم يكن تغييراً لخلق اللّه تعالى ، بل هو كشف سرٍّ من أسرار خلق اللّه في الحيوان ، قد ينجح في الإنسان ، فإن هذا السِّر لم يكن مكشوفاً فتوصل إليه الإنسان ، فلم يخلق العلماء قانوناً ولم يوجدوا سرِّاً في جسد الإنسان والحيوان ، على أنّ المراد بتغيير خلق اللّه في الآية هو الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف ؛ وذلك بتحريم الحلال وتحليل الحرام ، حيث يقول اللّه تعالى في مكان آخر من كتابه الشريف : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ

ص: 294


1- النساء : 117 - 119.
2- ذكر ذلك الإمام محمد مهدي شمس الدين في مجلة الشراع ، وراجع الاستنساخ لمحمد الأشقر : ص 16.

ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (1).

فإذا أردنا تفسير القرآن بالقرآن - والقرآن أطلق خلق اللّه على حكم الفطرة وهو التديّن بدين - فيكون تغيير خلق اللّه هو الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين والارتباط بالطبيعة من دون خضوع للسماء في نتائج ما تصل إليه العلوم الطبيعية.

وكذا لابدّ أن نستبعد الحجج غير العلمية للتحريم ، فقد ذكرت الأكاديمية الفرنسية للعلوم الأخلاقية والسياسية عندما أعلنت موقفها ضدّ الإخصاب :

« إنّ الإخصاب الصناعي جريمة ضد قاعدة الزواج والاُسرة والمجتمع » فإن هذه ليست حجّة علمية ، حيث إنّ الإخصاب قد يكون في زواج واُسرة ولكن يوجد مانع منه بصورة طبيعية فيصار إليه بصورة صناعيّة ، وهذا مما ينمّي الأسرة والزواج ، لا أنّه جريمة ضدهما كما هو الحال في أطفال الأنابيب الذي هو علاج لحالة العُقم.

وكذا لابدّ أن نستبعد ما يُظن « من أنّ الاستنساخ هو محاولة من البشر أن يخلقوا مثل خلق اللّه تعالى ، ومحاولة مثل ذلك ظلمٌ ، وأيُ ظلم ؟! لإنّها لا تقع إلاّ ممن لا يقدّر اللّه تعالى حقّ قدره ، فيضل تحت قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « قال اللّه تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة ». أخرجه البخاري (2).

وقد رُدّ هذا بالقول : بإنّ الاستنساخ ليس من جنس الخلق الذي تفرّد اللّه به ( وهو الخلق من العدم ) ، بل الاستنساخ هو من نوع التركيب يوضع بنواة الخلية التي خلقها اللّه تعالى في بيضة منزوعة النواة ، وسرّ الخلق والحياة موجود في

ص: 295


1- الروم : 30.
2- الاستنساخ في ميزان الشريعة الإسلامية ، د. محمد سليمان الأشقر : ص 17 و 18.

النواة وسيتوبلازم البيضة ، فالاستنساخ هو مخلوق اللّه تعالى ، وهو أيضاً من ذكر واُنثى ؛ لأنّ الخلية المأخوذة من الأصل ناشئة في الأصل من تزاوج ذكر واُنثى عندما كان ذلك الأصل خلية واحدة ، ثم تكاثرت خلاياه بالانقسام إلى أن صارت كثيرة وكل منهما يحتوي على (46) كروموزوم ، نصفها من الذكر ونصفها من الاُنثى.

وبعد أن استعبدنا هذه الاجابات المحرمة للاستنساخ نعود لنرى رأي علماء الإمامية ( رضوان اللّه تعالى عليهم ) في عملية الاستنساخ.

وقد أجاب على مجمل هذه الأسئلة آية اللّه العظمى الشيخ ميرزا جواد التبريزي ( حفظه اللّه ) فقال :

« لا يجوز الاستنساخ البشري ؛ لأنّ التمايز والاختلاف بين أبناء البشر ضرورة للمجتمعات الانسانية اقتضتها حكمة اللّه سبحانه ، قال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ) وقال : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) وذلك لتوقف النظام العام عليه. بينما الاستنساخ البشري - إضافة إلى استلزامه محرمات اُخرى كمباشرة غير المماثل والنظر إلى العورة - يوجب اختلال النظام وحصول الهرج والفوضى ... ففي النكاح يختلط الأمر بين الزوجة والأجنبية وبين المحَرْم وغيره ، وفي المعاملات كافة لا يمكن تمييز طرفيها فلا يعرف الموجب والقابل. وفي القضاء والشهادات لا يمكن تمييز المدّعي عن المدّعى عليه وهما عن الشهود ، والملاّك عن غيرهم ، وفي المدارس والمشاغل والإدارات والامتحانات حيث يسهل إرسال ( النسخة ) بدل الأصل فتذهب الحقوق ، وفي الأنساب والمواريث حيث لا يتميّز الولد عن الأجنبي - إضافة إلى كون ( النسخة ) لا يعدّ ولداً شرعياً لوالده « صاحب الخلية » - فتضيع الأنساب والمواريث ... وهذا غيض من فيض ، وعليه فقس سائر الاُمور حيث لا يبقى نظام أو مجتمع ... واللّه العالم ».

ص: 296

أقول : إنّ هذه الفتوى المتقدّمة قد نظرت إلى العنوان الثانوي اللازم لنفس العملية - وهو اختلال النظام - ولم تنظر إلى نفس العملية بعنوانها الأولي ، وهو أمر صحيح إذا طُبّق هذا الاستنساخ بصورة واسعة أدّت إلى اختلال النظام ، أمّا إذا طبق بصورة ضيقة بحيث لا يلزم منه المحاذير التي ذكرت فلم تتعرض الفتوى له.

ولكنّ الأمر الذي يجب أن نتوقف عنده هو التصريح بعدم عدّ الولد ولداً شرعياً لوالده صاحب الخلية ، حيث إنّ الولد لغة وشرعاً ما تولّد من الشيء ، وقد تولد هذا الولد - حسب الفرض - من الخلية والبيضة ، فهو ولد شرعي وعرفي إذ لا نهي عن لحوقه بأبيه صاحب الخلية ، أو باُمه صاحبة البيضة ، كما ورد النهي في الزاني حيث قال الحديث الشريف : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ».

وقد أجاب آية اللّه السيد كاظم الحائري على هذه الأسئلة بصورة مفصلة ، فقال :

« إنّ نفس عملية الاستنساخ البشري بعنوانها الأولي لو نجحت لا بأس بها إن لم تقارن محرماً.

وأمّا مسألة الاُبوة والاُمومة فمتعينة من باب أنّ الفهم العرفي للأب هو صاحب الخلية (1) ، والأم هي صاحبة البيضة ، لأن الولادة الحقيقية تنصرف البيضة

ص: 297


1- فيما إذا كان صاحب الخلية ذكراً. أما إذا كان صاحب الخلية اُنثى فتتصور على نحوين : أ - صاحب الخلية أنثى وهي غير صاحبة البيضة . ب - صاحب الخلية أنثى وهي نفس صاحبة البيضة. ففي هذين النحوين لا يوجد عنصر ذكري، فالعرف وكذا الشرع لا يقول بوجود أب لهذا الولد. نعم ، له أم وهي صاحبة البيضة. أما صاحبة الخلية فهل هي أم ؟ نعم لا يبعد أن تكون أماً لأنه نشأ منها أيضاً .

والخلية اللتين ولدتا الولد.

ولكن نفهم من الآية الشريفة في قوله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ) أنّ حكمة اللّه البالغة جرت على اختلاف الألسنة والألوان حفظاً للنظام ، وبما أن هذا الاستنساخ يؤدي حتماً إلى اختلال النظام لو طبق بصورة شاملة وواسعة « لعدم معرفة البائع من المشتري والمدّعي من المدّعى عليه ومن الشهود وعدم معرفة الظالم من المظلوم وامثال هذه الاُمور في العقود والإيقاعات والجنايات وغيرها » فيلزم تحريم هذه العملية في صورتها الواسعة لهذا اللازم الباطل حتماً.

وهذا الجواب - كما هو واضح - قد تعرّض بصورة مفصلة لحكم المسألة في عنوانها الأولي والثانوي ، وقد تعرض لمسألة الاُبوة والاُمومة لهذا الكائن لو وجد ، وهو جواب متين ومقبول عرفاً ؛ لأنّ الولد قد نشأ من الخلية والبيضة ، ولولاهما لما نشأ الولد ، بما أن معنى الولد والتولّد الحقيقي هو تولد الشيء من الشيء ، وقد تولد هذا الولد من طرفين ( خلية + بيضة ) كما هو المفروض ، ونشأ منهما فان العرف ينسب هذا الولد إلى صاحب الطرفين وهما صاحب الخلية وصاحبة البيضة (1). وقد ذكر في مجمع البحرين : أنّ التفسير المفهوم من الوالدية هو أن يتصوّر من بعض أجزائه حيّ آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء. وهذا الولد قد تصوّر وتكوّن من الخلية والبيضة.

وعلى هذا فلو وضعنا هذه اللقيحة في رحم طرف ثالث ( امرأة أجنبية عن صاحبة البيضة ) فإنّ الاُم تبقى هي صاحبة البيضة والأب هو صاحب الخلية ؛ لأن التولّد غير التغذّي ، فإنَّ هذا الولد قد نشأ ووجد من طرفين ( خلية وبيضة ) فلو وضع في رحم حاضن فهو قد تغذى على طرف ثالث والمغذية ليست هي الاُم

ص: 298


1- قد يقال أنَّ الفهم العرفي للأب هو صاحب المني.

الحقيقية ( كما أنّ المغذية للطفل بلبنها - وهي المرضعة - ليست أمّاً حقيقية ، بل هي اُم مرضع ومجازية ).

نعم ، قد يحكم بمحرمية هذه الاُم الحاضن للطفل للأولوية من الاُم المرضع الذي ترعرع الطفل على لبنها.

وحتى لو تكوّن النسيخ من خلية المرأة وبيضتها - كما في النعجة دولّي حيث كانت الخلية من نعجة حامل - فإن الولد ينسب إليها لأنّها هي ولدته.

تحريم ولي الأمر :

إنّ نفس عملية الاستنساخ البشري بعنوانها الأولي التي قيل بحليتها لو نجحت في الإنسان إن لم تقارن محرماً آخر يمكن لولي الأمر تحريمها بالحكم الولائي ( الحكومي ) ؛ وذلك إذا أخذنا بنطر الاعتبار أنّ الدول الغربية التي تجري فيها أبحاث الاستنساخ على أقسام :

فمنها : من منعت أبحاث الاستنساخ البشري.

ومنها : من حَرَمتها من معونة ميزانية الدولة.

ومنها من جمّدتها سنوات حتى تبحثها اللجان المتخصصة ثم ينظر في أمرها من جديد ، لهذا فقد يرى ولي الأمر تحريم ذلك لئلاّ يسعى رأس المال الخاصّ وشركات الأدوية إلى تخطّي هذا الخطر بتهيئة الأموال واستمرار الأبحاث في دول العالم الثالث واستغلالها حقلا للتجارب البشرية كما كان ديدنها في كثير من السوابق ، ولكن مع ذلك نقول : إنّ هذا التحريم ليس حكماً شرعياً لا يتبدل ، بل هو حكم ولائي حكومي قد يتبدل في زمان ما أو مكان ما.

ص: 299

تحفظ من القول بالاباحة بالعنوان الأولي :

إنّ الفتوى المتقدّمة بحلّية عملية الاستتئام والاستنساخ بالصورة المتقدّمة لابدّ من تقييدها بعدم الضرر ، كما هي مقيّدة في صورة الاستتئام ، ولكن لما كانت بعض المضار لا تظهر قبل مرور وقت طويل فلابدّ من عدم التسرع قبل التثبت والتأكد قدر الاستطاعة من عدم الضرر عند العامل لعملية الاستتئام والاستنساخ البشري ، ولهذا قد نرى الارشاد لإجراء التجارب على الحيوان لاستنساخه أو استتئامه ، فإن سلِم من التبعات والأضرار وتأكّدنا من عدم الإضرار لو طبِّق على الإنسان فنجيز ذلك بصورة لا تؤدّي إلى الإخلال بالنظام « ولا ينبغي أن تنسى الانسانية درسها الكبير بالأمس القريب في مجال انشطار الذرة ، إذ ظهر لها بعد حين من الأضرار الجسيمة ما لم يكن معلوماً ومتوقعاً » إذن لابدّ من أن يستمر ترصد نتائج التجارب النباتية والحيوانية لزمن طويل لنأمن من الاضرار والتبعات ، فإن حصل لنا قطع بعدم الاضرار بتطبيقها على الإنسان فنسمح بذلك بصورة لا تؤدي إلى الاخلال بالنظام ، واللّه العالم.

هل تنجح عملية الاستنساخ ؟

إن اللّه تعالى صرّح في كتابه الكريم بأنّه بدأ خلق الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعل نسله من ماء مهين ( وهي الحيامن الذكرية ) فقال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (1).

أقول : إذا كان مراد هذه الآية وأمثالها - التي هي في صدد خلقة الإنسان

ص: 300


1- المؤمنون : 12 - 14.

الأول وخلقة نسله - الحصر ، وقلنا : إنّ الخليّة التي تؤخذ من الذكر ( غير الخلية الجنسية ) لن تتحوّل إلى مني حين صعقها وتلقيحها ببويضة المرأة - كما هو الفرض - فسوف لن تنجح طريقة الاستنساخ الآنفة الذكر في الإنسان.

أمّا إذا لم يكن الحصر مراداً من الآية أو افترضنا أنّ الصعق الكهربائي ( أو التلقيح الذي يحدث ) يستخرج من الخلية حيمناً ، أو قلنا : إنّ المراد من الماء المهين هو ماء المرأة ( البويضة ) فتكون عملية الاستنساخ المفروضة غير منافية للآيات القرآنية ، ويحتمل أن تقع في الخارج (1).

ص: 301


1- (1) هناك فروض واحتمالات على مصطلح ( الأرأيتيون ) لابدّ من طرحها لنرى إجابة الشارع المقدّس حولها ، منها : أ - لو تم الاستنساخ بين امرأة وأخرى وغيب العنصر الذكري فما هو حكم الشارع في هذه العملية ؟ لو أصبح هذا الأمر ممكناً - كما لو كانت الآيات القرآنية التي هي في صدد أصل الخلقة لم تكن للحصر ، وكان المراد من الماء المهين هو بويضة المرأة - فلابد من معرفة الحكم من الناحية الشرعية . ب - إمكان تنوع الاستنساخ الواحد ليصبح نصفه من الإنسان ونصفه من الحيوان ، كما لو أخذنا نواة خلية من إنسان وزرعناها في بويضة (غزال أو فيل أو ذئب أو أسد أو طائر) منزوعة النواة فما حكم الناتج الذي قد يكون انساناً بسرعة غزال أو قوة فيل أو أنياب ذئب أو أسد أو أجنحة طائر ؟ أقول: إنّ هذين الفرضين إن أمكنا فإنّ الفقه لا يتوقف في حكم ما أنتج ، حيث إن أحكام اللّه تعالى تابعة لما يص-دق عليه هذا الموجود عرفاً من كونه أنثى أو إنساناً ذك--راً في الشك--ل والمظهر، وبما أن المولود سيكون نسخة طبق الأصل عن صاحب النواة فإن حكمه واضح وإن كانت له سرعة الغزال أو انياب الفيل، وإن كنا قد نتوقف في صحة فرض أن يأخذ المولود من صاحب البيضة إذا كانت الصفات الوراثية هي لصاحب النواة . ح - عذراء صنعت نسخة لها ثم أودعت الزريعة رحمها لتنمو حتى الميلاد فهل هذا الحمل شرعي وهي لا زواج لها ، وهل هي بنتها أو توأمها ؟ د - لو أخذت خلية مني بقصد اصدار نسخة وراثية طبق الأصل مع بويضة امرأتي وحفظت في التبريد حتى مات الزوجان ثم وضعت في رحم وصارت ولداً فهل يستحق ارثاً مع بقية الورثة حتى إذا كان الإرث قد قسم وانتهى ؟
خلاصة البحث :

بالنسبة إلى الاستتئام : عبارة عن عدّة نقاط :

أولاً : أنّ عمل الأجنة المتعددين من لقيحة واحدة ، أو قل عمل عدّة توائم جائز بشرطين :

أ - أن لا يكون في ذلك العمل مخاطرة على حياة الجنين أو حياة ما سيكسى جلداً خلوياً ليكون منشأً لحياة جنين ، وأن لا يكون خطر على صحتهما.

ب - أن لا يكون عمل التوائم بصورة واسعة بحيث يؤدي إلى اختلال النظام لعدم التمييز بينهم.

ثانياً : إذا عملنا أجنة متعددين بإيجاد الجدار الخلوي الاصطناعي للخلايا المقسَّمة بحيث تكون كل خلية هي خلية اُمّ ففي هذه الصورة لا يجوز قتل هذه الأجنة ولو كانت فائضة ؛ لأنّها مبدأ نشوء إنسان ولا يجوز قتل مبدأ نشوء الإنسان. نعم ، إذا حفظنا الخلية المقسمة في التبريد العميق قبل أن نعمل لها جداراً خلوياً ونلئم ما تمزّق من الجدار ، فإنّ قتل هذه الخلية لا بأس به ؛ لأنّ حال هذه الخلية حال المني الذي يجوز اهداره بمثل العزل ، أو قل لأنّه ليس مبدأ نشوء إنسان حتى يحرم قتله.

ثالثاً : يجوز اعطاء الأجنة المبرّدة إلى سيدة اُخرى لوضعها في رحمها ، بل لعلّ هذا العمل مستحب لما فيه من المحافظة على الجنين ورعايته إلى حين الولادة. نعم ، ثبت حرمة أن يفرغ الرجل ماءه في رحم يحرم عليه ، ولكنّ وضع اللقيحة ليست ماءً للرجل ، إذ بعد التقليح لا يطلق على اللقيحة إنّها ماءٌ للرجل.

ص: 302

رابعاً : أنّ الأب هو صاحب المني ، والاُم صاحبة البيضة وإن وضع الجنين في رحم غير صاحبة البيضة ، لأنّ القرآن الكريم يقول : (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) والولد الحقيقي والولادة الحقيقية هي ما تولد منه الشيء ، ونحن نعلم بأنّ الولد قد تولد من المني والبيضة حقيقية.

خامساً : لا يبعد أن تكون الاُم الحاضن محرَماً على الجنين الذي سيولد ، من باب أولويته من الاُم المرضعة عرفاً ، فيتعدى من المحرمية الرضاعية إلى محرمية الجنين على اُمّه إذا حضنته في رحمها حتى الولادة.

سادساً : أنّ الاستفادة من الجنين الثاني ( الطفل الثاني التوأم ) للطفل الأول إنّما تكون جائزة بشرط أن لا تؤدّي إلى موت الطفل الثاني ولا إلى الاضرار به ، وأمّا إذا أدّت إلى موته أو الاضرار به فهي غير جائزة.

سابعاً : لا حرمة في أن يرى الطفل الثاني الذي يفصل بينه وبين أخيه المشابه له عدّة سنين مستقبله وما يعرض لأخيه من أمراض هي له بالمرصاد.

ثامناً : لا يجوز اذى الطفل الثاني أو الولد الثاني بإعلامه بمصيره الذي سوف ينتهي إليه فيما إذا علمنا بذلك نتيجة ابتلاء الولد الأول به.

أمّا بالنسبة إلى الاستنساخ فخلاصته عدة نقاط أيضاً :

أولاً : أنّ عملية الاستنساخ في البشر بعنوانها الأوّليّ - لو نجحت - لا بأس بها إن لم تقارن محرّماً آخر ، من قبيل كشف العورة أمام الأجنبي.

ثانياً : أنّ الأب في عملية الاستنساخ هو صاحب الخلية ، والاُم هي صاحبة البيضة ، فبالإضافة إلى أنّ مفهوم الولد هو ما تولّد من الشيء وهذا الولد تولّد منهما يفهم العرف أن صاحب الخلية هو الأب ، إذ لا يفهم العرف أنّ هذا الولد نشأ من غير أب ، كعيسى علیه السلام .

ثالثاً : إذا ادّى الاستنساخ البشري إلى اختلال النظام - كما لو طبق بصورة

ص: 303

واسعة - فهو أمرٌ محرّم ؛ لأنّ الشارع المقدّس جرت حكمته على حفظ النظام باختلاف الألسنة والألوان.

وبهذا الّذي تقدّم يتبيّن لنا : أنّ العلماء الذين قاموا بالاستنساخ أو الاستتئام لو اداموا عملهم هذا ونجحوا فيه في الإنسان فإنّ عملهم هذا سيكون عبارةً عن اكتشاف سرٍّ من أسرار الخلق التي خلقها اللّه سبحانه وتعالى في الجسد ، فلم يكن لأحد الحقّ في القول بأنّهم قد خلقوا قانوناً أو أوجدوا سرّاً في جسد الإنسان أو الحيوان ، بل هم كشفوا هذا السرّ الذي أودعه اللّه في الجسد فلم يأتوا بشيء جديد غير الاكتشاف.

إذن ليس في هذين العنوانين أيّ تحدٍّ لله ، كما يحبّ البعض أن يسمّيه اهتزاراً بين العِلم والدين.

* * *

ص: 304

اخلاقيات الطبيب (1)

اشارة

ص: 305

ص: 306

ما المقصود بسرِّ المهنة ؟

اشارة

ويقصد به : السرّ الطبي الذي هو عبارة عن كتمان ما اطّلع عليه الطبيب من أحوال مريضه ، وهذا الكتمان هو عبارة عن اتفاق مكتوم بين الطبيب ومريضه وخلاصته هو عبارة عن المبدأ الذي يقضي على الطبيب أن يكون دائماً هو المدافع عن مصالح مريضه ليمنع عنه الضرر وهذا المبدأ مقيد بقيد ارتكازي عقلائي هو أن لا يكون كتمان السرّ سبباً في نشر مرض أو تولّد ضرر عند الآخرين.

فإن المريض عند مراجعته الطبيب يذكر له أسراره مضطرّاً بسبب المرض الذي ألمّ به وعطله عن عمله اليومي كليّاً أو جزئيّاً ، وهذا السرّ الذي يبوح به المريض إلى طبيبه قد يكون حاجة ملحّة في الاستشارة الطبية ، وقد يتوقّف على نتائجها تشخيص المرض ووصف الدواء الضامن للشفاء وربما المنقذ للحياة ، ولذا وردت الروايات في ذم كتمان سرّ الداء كما عن علي علیه السلام « من كتم مكنون دائه عجز طبيبه عن شفائه » (1) « ومن كتم الأطباء مرضه خان بدنه » (2).

وهذا السرّ الطبي يختلف عن الاسرار الاُخرى التي نطّلع عليها صدفةً عن

ص: 307


1- غرر الحكم : ج 2 ، ص 668.
2- غرر الحكم : ج 2 ، ص 663.

اُناس آخرين ، إذ المطلوب ممّن اطلع على سرّ اخيه في غير حالة العلاج الطبي هو نسيانه ، أمّا السرّ الطبي الذي اطّلع عليه الطبيب من مريضه يوجب عليه أن يتمسّك به ولا ينساه وأن يتذكره كلّما راجعه المريض أو أحد اقربائه كولده - مثلاً - أو اخيه إذا راجعه في سنيّ حياته المقبلة ، إذ قد يكون هذا السرّ هو مفتاح حياة المريض أو اُسرته ، كما هو الحال في الأمراض التي تنتقل بالوراثة إلى الفروع.

وعلى كل حال فنحن نريد أن نعرف الحكم الشرعي في إفشاء هذا السرّ خصوصاً إذا كان المريض لا يرغب أو يمانع اطلاع غير طبيبه على هذا السرّ من ناحية كونه عيباً عرفياً في بدنه أو يوجب الاطلاع عليه هتكه وتعييره في بعض الأحيان.

والجواب : أنّ الشريعة الإسلامية قد اوجبت كتمان كل سرٍّ من اسرار الإنسان المسلم بالعنوان الأولي ، فقد ورد الحث في الشريعة الإسلامية على كتمان سرّ المؤمن ، ووعد اللّه سبحانه أن يجعل لمن يكتم سرّ أخيه المؤمن الاستظلال بظل العرش يوم القيامة حيث لا ظلّ إلاّ ظلّ اللّه (1).

وعلى هذا يكون حفظ السرّ الطبي من ناحية حكمه الأولي واجباً ، فلا يجوز البوح به - إذا لم ينطبق عليه غير عنوان كشف السرّ - من ناحية الأطباء والجراحين ورجال الصحة والقوابل وكل من يتلقى الأسرار الطبية كالطلبة والمساعدين في الكليات والمستشفيات.

ولا حاجة إلى أن نستدل على حرمة كشف السرّ الطبي - إذا لم ينطبق عليه غير عنوان كشف السرّ - بعد معرفة حرمة أذيّة الإنسان (2) بإفشاء عيبه وتعييره

ص: 308


1- وسائل الشيعة : ج 14 ، ب 12 مقدمات النكاح ، ح 3.
2- وقد دلّت الروايات المتواترة على حرمة إيذاء المؤمن وإهانته وسبّه وتعييره حتى في صدور المعصية منه ، راجع وسائل الشيعة : ج 8 ، أبواب العشرة من الحج. كما دلّت الروايات الكثيرة على حرمة كشف عيب المؤمن للآخرين وهو ما يسمى بغيبة المؤمن ، وبما أن كشف سرّه إذا كان عيباً في جسمه فيكون مشمولاً لها ، وقد قال تعالى : ( ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ) . الحجرات : 12.

وانتقاصه وهتكه بدون مبرر شرعي ، فإنّ كشف السرّ هو من مصداق أذيّته وسبب تعييره وانتقاصه واشعاره بالذم ، وهو أمر غير جائز شرعاً ، فقد ورد في صحيحة عبد اللّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام انه قال : « قلت للإمام الصادق علیه السلام : عورة المؤمن على المؤمن حرام ؟ قال : نعم ، قلت : سفلتيه ؟ قال : ليس حيث تذهب إنّما هو إذاعة سرّه » (1).

والخلاصة : أنّ مقتضى القاعدة هو تحريم كشف سرّ المريض الذي نحن بصدده بالعنوان الأولي حتى إذا رضي صاحب المرض بكشفه وكان عليه فيه مهانة ، لأنّ هذا هو حكم شرعي لا يسقط بالاسقاط ، وعدم جواز إذلال الإنسان لنفسه من الاُمور التي أكّد عليها الشارع المقدّس ، وقد ورد في الحديث : « إذا رضي الإنسان بالذل طائعاً فليس منّا أهل البيت ».

كما لا يجوز لمن ليس له علاقة بمرض المريض من الموظفين والأطباء الآخرين الاطلاع على الأسرار التي يكشفها المريض لطبيبه وتثبت في الملفّ الخاص بالمريض ، لما ذكرناه سابقاً.

متى يستثنى من وجوب كتمان السرّ ؟

إنّ ما تقدم من وجوب كتمان سرّ المريض أو حرمة افشاء سرّه إنّما كان لأجل احترام المؤمن ، وبما أنَّ كشف السرّ فيه أذى للمريض أو هتكاً له أو بياناً لعيبه الذي لا يحب نشره وامثال هذه العناوين ، فهو ينافي وجوب احترام المؤمن فيكون حراماً أولاً وبالذات. أمّا إذا كان كشف سرّ المريض لغرض صحيح ( راجع إلى

ص: 309


1- وسائل الشيعة : ج 8 ، ب 157 من أحكام العشرة ، ح 1.

المريض نفسه أو الطبيب أو إلى شخص ثالث ) بحيث يكون هذا الغرض الصحيح أعظم مصلحةً من احترام المؤمن فهنا يجب العمل على طبق أقوى المصلحتين أو أهم الأمرين ، وعلى هذا المنهج جميع موارد التزاحم في الواجبات والمحرمات ، سواء كانت من حقوق اللّه أو حقوق الناس (1).

وبعبارة اُخرى : إذا امتنع الجمع بين أمرين الزاميين في مقام الامتثال مع عدم التكاذب في مقام التشريع فلابدّ من تقديم الأهم عند الشارع. وهنا نذكر بعض الأمثلة كمصاديق لهذه القاعدة :

1 - إذا كان كتمان سرّ المريض يؤدّي بالمريض إلى ضرر أكبر من ضرر إفشائه ، كما إذا كان المريض بحاجة إلى كشف مرضه أمام عائلته ( لأجل العناية به بصورة دقيقة ، وكوقاية من استفحال المرض في صورة عدم الاعتناء بالمريض ، وكحجره في صورة اللزوم لمعالجته ) حتى يقضى على ذلك المرض في مهده ولا يكون مهدداً لنفس المريض ، ففي هذه الحالة يكون في كشف السرّ مصلحة أهم من كتمانه ، فيجوز في هذه الحالة الكشف لمصلحة المريض ، ولكن الكشف في هذه الحالة ينبغي أن يقتصر فيه على حدود رفع الضرر على المريض ولا يجوز تجاوزه كما هو واضح.

2 - إذا كان في كتمان سرّ المريض مفسدة كبيرة تؤدي إلى إصابة شريحة كبيرة من المجتمع بذلك المرض المسري كعائلته وأهله وجيرانه بل أهل بلدته ، وبعبارة اُخرى : يكون في إفشاء سرّ المريض مصلحة عامّة تكمن في الوقاية من هذا المرض

ص: 310


1- إذا كان هناك حكمان الزاميان ليس في كل منهما دلالة التزامية على نفي الحكم الآخر ولم يمكن امتثالهما معاً ، بل دار الأمر بين أن يمتثل هذا او ذاك ، فيسمى هذا بالتزاحم بين الحكمين ، ومرجحات التزاحم التي ذكرت في الاُصول كلّها ترجع إلى أهمية أحد الحكمين عند الشارع ، فالأهم عند الشارع هو الأرجح في التقديم ويكفي للتقديم احتمال الأهمية أو قوة احتمال الأهمية.

بصورة تحدّ من انتشاره ، ففي هذه الحالة تكون المصلحة العامّة مقدّمةً على المصلحة الخاصة الفردية في عدم كشف سرّه. وايضاً يقيّد هذا الكشف بحدود اطلاع السلطات المكلّفة بوقاية الأمراض والسهر على الصحة العامة.

3 - إذا استشير الطبيب الذي يعرف سرّ المريض في أهلية المريض من الناحية الصحية للزواج ، بأنّه هل لديه أمراض معدية أو جنسية تنتقل إلى الذرية أو الزوجة ؟ ففي هذه الحالة لا يجوز للطبيب أن يخون المستشير ، بل يجب إصداقه الأمر وكشف السرّ إذا كان ترك الكشف موجباً لمفسدة كبيرة أهم من مفسدة كشف السرّ.

4 - إذا استدعي الطبيب من القضاء للإشهاد حول مريض معين ( كما إذا كان افشاء السرّ قد نجم عن حادث جنائي ) فإذا كان في شهادة الطبيب افشاء سرّ المريض فهو جائز بل واجب لوجوب الادلاء بالشهادة شرعاً ، وهو مبرر شرعي للبوح بهذا السرّ ، إذ يكون حاكماً على حرمة كشف السرّ.

5 - إذا كان كشف السرّ لدفع الاتهام المتوجّه إلى الطبيب من المريض أو ذويه يتعلق بتقصيره في مهنته ومعالجته ، فهذا أيضاً كسابقه مبرر شرعي للكشف عن السرّ فيكون حاكماً على حرمة كشف السرّ.

6 - إذاكان إفشاء سرّ المريض يحول دون ارتكاب جريمة ، كما إذا كان المريض مصاباً بمرض عصبي ( عقلي ) يكون في كشفه منعاً لارتكاب جريمة في حق الآخرين.

وهكذا بقية الموارد التي يكون هناك مبرر شرعي الزامي للكشف عن السرّ الذي يقدم على حرمة كشفه ولكن في كل هذه الموارد وامثالها إنّما يتحدّد كشف السرّ امام الآخرين بالقدر الواجب لا أكثر.

الاسرار المتعلقة بالأدوية القاتلة أو الضارّة :

أرى من اللازم عليَّ أن اُبيِّن هذا الموضوع وحكمه الشرعي وإن لم يذكر عادة تحت عنوان السرّ الطبي ، ولكن ارى من اللازم أن نقسّم السرّ الطبي إلى قسمين :

ص: 311

1 - السرّ المتعلّق بالمريض وما يكشفه لطبيبه ، وهذا تقدّم الكلام عنه.

2 - السرّ المتعلّق بالأدوية القاتلة أو السامّة أو الضارة.

وهذا الأمر الثاني واجب كما يجب كتم اسرار المريض ، فيجب على الطبيب أن لا يكشف عن الأدوية القاتلة أو السامّة أو الضارة لمن يسي استعمالها مطلقاً.

والسرّ في هذا الوجوب هو : أنّ الطبَّ الذي أوجب اللّه سبحانه وتعالى على العباد تعلّمه وجوباً كفائياً ، وقد يكون عينياً في بعض الحالات إنّما هو لأجل خدمة الإنسانية ولتخفيف آلامها ، فإذا عرفنا أن التعريف ببعض الأدوية القاتلة أو الضارة يؤدّي إلى إسائة استعمالها فيكون الطب حينئذ وبالا على الإنسانية وضرراً كبيراً قد يؤدّي إلى قتل النفوس واشاعة المرض ، لذا لا ترضى الشريعة بكشف اسرار الدواء لمن يسيء استعماله حتى لا يكون الطبيب الذي اُريد له أن يكون عامل رخاء في المجتمع مساعداً لزيادة آلام البشر بإعطاء هذا السرّ لمن يسيء استعماله. وقد ورد عن الإمام علي علیه السلام قوله : « ثلاثة لا يُستحى من الكتم عليها : المال لنفي التهمة ، والجوهر لنفاسته ، الدواء للاحتياط من العدو » (1) والمراد بالعدو هنا من يسيء استعمال الدواء.

ما هي العقوبات التي تقع على من كشف سرّ مريضه في حالة المنع ؟

قد يقال : إنّ العقوبة في هذه الصورة منوطة بنظر الحاكم الشرعي في تعزير وتأديب الطبيب ، وقد يكون التأديب بالتأنيب أو عدم مزاولة مهنته لمدّة معينة ، أو الحبس أو الضرب كبقية المحرمات التي تصدر من الفرد المخالف للشرع. وقد تكون الطلب بتعويض عما اُلحق بالمريض وسمعته من جرّاء الاباحة بسرّ مرضه.

ص: 312


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي : ج 2 ، ص 289.

اخلاقيات الطبيب (2)

اشارة

ص: 313

ص: 314

مسؤولية الطبيب

اشارة

إنّ اللّه سبحانه قد أمر المريض بمراجعة الطبيب عند حدوث علامات المرض فيه ، إذ الطبيب هو الذي يستطيع أن يقدّم للمريض المعونة بتخفيف آلامه أو انقاذ حياته ، لهذا فإن الطبيب يتحمل اعظم مسؤولية في هذا المجال ، سواءً على صعيد تقديم الدواء والعلاج أو على صعيد المعونة النفسية للمريض ببعث الأمل واعادة الثقة في النفس ، لهذا نرى أن مسؤوليات الطبيب بالنسبة لنفسه وبالنسبة لمن يفترض أن يعالجه هي كثيرة ومتنوعة من ناحية التشريع الإسلامي ، ونحن نجمل هنا ما أمكن منها :

1 - المبادرة إلى علاج المريض :

فلا يجوز له التعلّل بعدم الأجر أو قلته ، إذ يؤدّي هذا إلى فسح المجال للمرض بالفتك بصاحبه إذا ضعفت قدرات المريض ومناعاته. وهذا الوجوب يختص بحالة الطوارئ التي لا مجال لتأخير العلاج إلى وقت لاحق ، أمّا إذا كان العلاج قابلاً لتأخيره إلى وقت لاحق فمن حقّ الطبيب أن يؤخره لسبب أو لآخر.

ص: 315

2 - عدم التمييز بين الغني والفقير :

إنّ الواجب الشرعي الكفائي أو العيني يوجب على الطبيب العمل على تخفيف آلام البشر أو انقاذهم من الموت ، وهذا أمر لا يفرق فيه بين الغني والفقير ، وقد عرفنا أنّ الإسلام يفضّل بين البشر بالعمل الصالح والتقوى ، إلاّ أن هذه الأفضلية لا تكون موجبة للتمييز في الحقوق والواجبات ، بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس فضلا عن الوضع الاجتماعي ( الغنى والفقر ). وقد ورد عن الإمام الرضا علیه السلام قوله : « من لقي فقيراً مسلماً فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني لقي اللّه عزّوجلّ يوم القيامة وهو عليه غضبان » (1).

3 - إقدام الطبيب على ما تخصّص به ( ما يعرف به ) :

ومن الواضح أن الطبيب لا يجوز له أن يتصدّى لمعالجة أمراض لا يعرف عنها شيئاً ، إذ يكون في هذه الحالة كالجاهل الذي يقدم على المعالجة ، وحينئذ يجوز للإمام ( الحاكم الشرعي المتصدّي لقيادة الاُمة المتمثّل بوزارة الصحة مثلاً ) محاسبته.

4 - بذل الجهد :

وممّا يجب على الطبيب بذل الجهد في معالجة المريض ، من حذاقته وامانته وتقواه ونصحه للمريض وقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام : « كل ذي صناعة مضطر إلى ثلاث خصال يجتلب بها المكسب ، وهو : أن يكون حاذقاً بعمله ، مؤدّياً للأمانة فيه ، مستميلاً لمن استعمله » (2).

وقد قيل : إنّ معنى الطب هو الحذق بالأشياء وإن كان في غير علاج المريض ،

ص: 316


1- وسائل الشيعة : ج 8 ، ب 36 من أحكام العشرة من الحجّ ، ح 1.
2- البحار : ج 78 ، ص 236.

ورجل طبيب أي حاذق ، سمي بذلك لحذقه (1).

وقد ورد عن الإمام علي علیه السلام أنّه قال : « من تطبب فليتَّقِ اللّه ولينصح وليجتهد » (2).

وبهذه المسؤولية يكون الطبيب أداةَ خير للإنسان كما أراده الإسلام ، فيندفع للقيام بواجباته الشرعية والإنسانية على النحو الأكمل.

5 - الرفق بالمريض ورفع معنوياته :

وقد ورد في بعض النصوص التعبير عن الطبيب « بالرفيق » فعن الإمام علي علیه السلام : أنّه قال : « كن كالطبيب الرفيق الذي يدع الدواء بحيث ينفع » (3).

وفي رواية عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه قال : « سمعت موسى بن جعفر علیه السلام وقد اشتكى فجاء المترفقون بالأدوية ، يعني الأطباء » (4).

وفي بعض النصوص : « أنّ اللّه عزّوجلّ الطبيب ولكنّك رجل رفيق ». وفي نصٍّ آخر : « أنت الرفيق واللّه الطبيب » (5).

ومن الواضح أن المريض بما أنّه لم يتمكّن من التغلب على مرضه فهو ضعيف بسبب شعوره بالألم والمتاعب ، فإذا انهارت نفسه تبعها الانهيار الجسدي لا محالة ، ولذا فقد اهتمت الشريعة برفع معنويات المريض وربط أمله باللّه وتسهيل أمر مرضه وفتح الأمل أمام مريضه ، وبهذا يكون العلاج الجسدي أمراً ثانوياً.

ص: 317


1- الطب النبوي لابن القيم : ص 107 - 108.
2- البحار : ج 62 ، ص 65.
3- البحار : ج 2 ، ص 53.
4- الفصول المهمّة : ص 415.
5- كنز العمال : ج 10 ، ص 1 و 8.

6 - غض البصر عن المحارم :

فقد عرفنا من الشريعة أنَّها اوجبت غض البصر عن المحارم إلاّ في صورة الضرورة إلى ذلك فيقتصر عليها ، وإذا تمكّن للطبيب علاج مريضه بدون نظر ، بل يكتفي بما يسمعه من كلام مريضه فيقتصر عليه ، وإذا حكمت الضرورة للنظر المحارم فلا يجوز اللمس ، وإذا اضطر إلى اللمس القليل فلا يجوز له اللمس الكثير.

7 - العلاج بغير دواء ، أو بالدواء القليل :

إنّ الروايات الكثيرة التي تؤكّد على عدم تناول الدواء ما احتمل البدن الداء أو مع عدم الحاجة إلى الدواء (1) هي كافية في الاستدلال على هذا الأمر. وقد ورد عن الإمام الكاظم علیه السلام قوله : « ادفعوا معالجة الأطباء ما اندفع الداء عنكم فإنّه بمنزلة البناء قليله يجرّ إلى كثيره » (2). وقد ورد في بعض النصوص : « ليس فيما أصلح البدن اسراف ، إنّما الاسراف فيما أتلف المال وأضرّ البدن » (3) (4).

والخلاصة : أنّ المسؤولية التي تجب على الطبيب هي عبارة عن مزاولة عمله بصورة جيدة ، ومخالفة هذه المسؤولية يكون عند تحقّق شرطين :

أحدهما : وجود الأذى والضرر بالمريض.

وثانيهما : وجود صلة بين الضرر الحاصل والخطأ الذي وقع فيه الطبيب ، ولم يكن له حقّ للوقوع بهذا الخطأ.

ص: 318


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 4 من الاحتضار ، أحاديث الباب.
2- البحار : ج 81 ، ص 207.
3- الكافي : ج 6 ، ص 499 ، الوسائل : ج 1 ، ص 397 و 398 وغيرهما.
4- لخّصنا بحث « مسؤولية الطبيب » مع تصرفات فيه من كتاب الآداب الطبية في الإسلام ، للسيد جعفر مرتضى العاملي من ص 110 - 122.

مداواة غير المسلم للمسلم ( استطباب غير المسلم )

إنّ الاستطباب كعمل فرديٍّ يقوم به الإنسان قد يُحتاج فيه إلى مراجعة غير المسلم من يهود أو نصارى أو ملحدين ، فهل هناك منع من هذا الاستطباب شرعاً ؟

الجواب : لا يمنع الإسلام من مداواة غير المسلم للمسلم ، بل وردت الروايات التي تجعل هذا الأمر جائزاً.

فقد ورد عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن الرجل يداويه النصراني واليهودي ويتّخذ له الأدوية ؟ فقال 7 : لا بأس بذلك إنّما الشفاء بيد اللّه » (1).

وعن عبد الرحمان بن الحجاج قال : « قلت للإمام موسى بن جعفر علیه السلام : إنّي احتجت إلى طبيب نصرانيٍّ ( اُسلّم عليه وادعو له ) قال : نعم ، إنّه لا ينفعه دعاؤك » (2).

وواضح في هذه الرواية مفروغية جواز التطبيب عند النصراني ، إنّما كان السؤال عن السلام عليه والدعاء له ، وقد أقرّ الإمام علیه السلام التطبيب ، وذكر أن الدعاء لا ينفعه.

وقد حدثت ممارسات عملية لمداواة المسلمين من قبل غيرهم في زمان الرسول صلی اللّه علیه و آله كما نقل ذلك التاريخ.

على أنّه يكفينا عدم وجود الردع من قبل الشارع المقدّس لهذا التطبيب ، فعند الشك نحكّم البراءة والجواز. وعلى هذا فيكون الإسلام قد اهتم بالكفاءات في العلوم.

ص: 319


1- وسائل الشيعة : ج 17 ، ب 136 من الأطعمة المباحة ، ح 7.
2- وسائل الشيعة : ج 8 ، ب 53 من احكام العشرة ، ح 1.

ولكن لا ننسى أن هذا الجواز - الذي هو عبارة عن عدم الاقتضاء للمنع - قد يؤدّي في حالات معينة إلى التأثير في عقيدة المسلم أو سلوكه ، أو يوجب مودّة للكافرين ، وقد أمر اللّه تعالى بمودّة المؤمنين دون الكافرين ، قال تعالى : (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (1).

فإذا حصلت هذه الحالة - وهي مودّة الكافرين من هذه المعالجة - فيقدم المنع على الجواز ؛ لأنّ المنع اقتضائي والجواز لا اقتضائي.

نعم ، إذا اضطر الإنسان إلى المعالجة عند غير المسلم وكان مع هذه المعالجة مودّة لهم ، فنحكّم قانون التزاحم هنا فنقدم أهم الأمرين.

هل يمكن أن تقوم نقابة الأطبّاء أو شركة التأمين بدور العاقلة ؟

ممّا لا إشكال فيه أنّ الذي أقدم على جناية خطئيّة محضة عليه الدية والكفارة ، كما ذكرت ذلك الآية القرآنية (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ... ) (2).

ولكن جاءت الروايات الكثيرة والصحيحة تذكر لنا حكماً تكليفياً محضاً ، مفاده : أن العاقلة يجب عليها في هذه الصورة تحمّل الدية.

نقول : إنّ هذا التكليف في دفع الدية على العاقلة هو نوع تكليف شرعي

ص: 320


1- المجادلة : 22.
2- النساء : 92.

محض لأداء حق المجنيّ عليه ، وليس فيه أي عقوبة ، لأنّ المفروض أنَّ الجناية خطئيّة محضة ، ومن هنا نفهم أنَّ هذا الحقّ هو حقّ مالي محض للوارث لا عقوبة فيه على القاتل ، وحينئذ يتمكّن أي إنسان أن يتبرّع به بدلا عن العاقلة ، وذلك للارتكاز العقلائي القائل : إنّ التكاليف المالية المحضة يجوز قيام الغير بها عوضاً عن المكلف بها ، بخلاف التكاليف المالية التي فيها نوع عقوبة كالفدية والكفارة ، فإنّها لا تصح من المتبرع لأنّها تُعتبر نوع عقوبة على المباشر ، فلابدّ من صدورها منه لتتحقّق العقوبة.

إذا عرفنا هذا فنقول : إنّ دليل اطلاق وجوب الدية على العاقلة لا يشمل شركة التأمين أو نقابة الأطباء ؛ للمباينة بين العاقلة وبينهما.

ولكن نقول : تتمكّن الشركة أو النقابة أن تقوم بدور العاقلة بعدّة طرق :

1 - أن تدفع عوضاً عن العاقلة وتقوم مقامها تبرّعاً ما دام هذا التكليف المتوجّه إلى العاقلة هو تكليف مالي محض ، وهو حقّ للورثة ، وهذه التكاليف المالية يصح فيها قيام الغير بها تبرعاً.

2 - وإذا صح هذا العمل من النقابة أو الشركة فيمكن أن يكون هناك عقد بين الجاني خطأً وبين أحدهما مفاده : « تعهد النقابة أو الشركة بدفع الدية كاملة لورثة المقتول خطأ في هذه السنة - مثلاً - مقابل دفع الطبيب مبلغاً شهرياًالشركة أو النقابة » وهذا عقد يشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فيجب الالتزام به.

3 - وكذا يمكن أن يكون هناك شرط في ضمن عقد لازم مفاده : تعهد النقابة أو الشركة بدفع الدية كاملة لورثة المقتول خطأً في هذه السنة ، وذلك للقاعدة القائلة بوجوب التزام المسلمين بشروطهم.

4 - ومن نافلة القول بإمكان أن تدفع الشركة أو النقابة الدية إلى القاتل خطأ أو إلى العاقلة تبرّعاً ، فتدفعها هي من قبل نفسها ، ولكنّ كلامنا ليس في هذا لجواز

ص: 321

هذا الأمر حتى إذا حصل القتل الشبيه بالعمد ، بل حتى القتل العمدي ، وهذا معناه أن القاتل هو الذي دفع الدية بعد قبول التبرع.

إشكال : ولكن قد يقال : إنَّ الطريق الأوّل والرابع لا يلزم نقابة الأطباء ولا شركة التأمين على القيام بهذا العمل ، بل يبقى هذا العمل من قبلهما تبرعياً ، وعلى هذا لا يمكن أن يتخلّص الطبيب من مشكلة دية الخطأ إن حصل. وأمّا الطريق الثاني والثالث فيأتي عليهما اشكال جهالة العقد والشرط ( حيث لا يُعلم كم عدد الموارد التي يقع بها الطبيب في القتل الخطئي ، وقد لا يقع أصلاً ) والجهالة تضرّ بصحة العقد لأنّه يكون غررياً ، وقد أبطل المشهور العقد الغرري.

ولا يمكن الجواب على هذا الاشكال إلاّ بأنّ نقول : إن الغرر في اللغة ليس هو الجهالة بل بمعنى الخطر « وهو المتيقن من معناه ، وإن كان مادّته بمعنى الغفلة والخديعة أيضاً » ، وحينئذ لا تكون الجهالة المذكورة في العقد أو الشرط مبطلة للعقد. ولنأمن الأمثلة المتعدّدة في الفقه الإسلامي ( التي تدل على صحة بيع ما فيه جهالة ) الشيء الكثير ، مثل بيع العبد الآبق مع الضميمة ، وصحة بيع اللبن الذي في الاُسكرجّة مع ما في الضرع ، وصحة بيع الثمرة بعد ظهورها وانعقادها سنةً أو سنتين مثلاً.

* * *

ص: 322

العلاج الطبي

اشارة

ص: 323

ص: 324

البحث عن التداوي

إنّ الإنسان بفطرته يسعى لازالة آلامه واسقامه ، وقد حثّ الإسلام على التداوي ، حيث ذكرت كتب الطب النبوي الأحاديث الشريفة المتواترة - التي منها الصحيح والحسن والموثّق والضعيف - التي تحثّ على التداوي بصورة عامة أو خاصة ، حتى استخدام الحجامة والحبة السوداء والكمأة والحنّاء ومداواة المبطون والمطعون والرمد والحمّى ، فمن تلك الروايات :

1 - عن محمد بن مسلم قال : « سألت الإمام الباقر علیه السلام هل يعالج بالكّي ؟ فقال : نعم ، إن اللّه جعل في الدواء بركة وشفاء وخيراً كثيراً و ... و ... » (1).

2 - عن يونس بن يعقوب قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن الرجل يشرب الدواء وربما قتل ، وربّما سلم منه ، وما يسلم منه أكثر ؟ قال : فقال علیه السلام انزل اللّه الدواء وانزل الشفاء وما خلق اللّه داءً إلاّ جعل له دواء ، فاشرب وسمّ اللّه تعالى » (2).

ص: 325


1- وسائل الشيعة : ج 17 ، ب 134 من الأطعمة المباحة ، ح 8.
2- المصدر السابق : ح 9.

3 - وعن جابر قال : « قيل لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أتتداوى ؟ قال : نعم ، فتداووا فإنَّ اللّه لم ينزل داءً إلاّ وقد انزل له دواء ، وعليكم بألبان البقر فإنّها ترعى من كل الشجر » (1).

وقد اخرج ابو داود والترمذي والحاكم وصححاه ، والنسائي وابن ماجة وابن السني وابو نعيم واحمد كما حكى عنهم اسامة بن شريك قال : « كنت عند النبي صلی اللّه علیه و آله وجاءت الأعراب ، فقالوا : يا رسول اللّه انتداوى؟ فقال : نعم : يا عباد اللّه ، تداووا فإن اللّه عزّوجلّ لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاء ، غير داء واحد ، قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم ».

ومن الواضح أنّ التداوي الذي تفزع اليه النفوس البشرية لا ينافي التوكّل على اللّه سبحانه لأنّه سبحانه قد جعل مباشرة الاسباب مقتضيات لمسبباتها ، فإنّ معنى التوكّل هو اعتماد القلب على اللّه سبحانه في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، وقد جعل اللّه سبحانه قانونه الحكيم في الوصول إلى ما ينفع ، ودفع ما يضر إلى سلوك الأسباب لذلك ، فالتداوي لرفع الداء هو مثل دفع الجوع والعطش والحر والبرد باضدادها ، وكرد العدو بالجهاد.

4 - وقد ورد في مسند احمد والسنن ، واخرجه الحاكم عن أبي خزامة قال : « قلت يا رسول اللّه أرأيت رقىً نسترقيها ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل تردّ من قدر اللّه شيئاً ؟ قال : هي من قدر اللّه ».

ولهذا نقول إنّ المتوكّل يجب عليه أن يعمل ما ينبغي ويتوكّل على اللّه في نجاحه ، فالفلاّح يحرث ويبذر ثم يتوكّل على اللّه في نزول المطر والنماء ، وقد ورد في القرآن الكريم (خُذُوا حِذْرَكُمْ) ، وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لصاحب الناقة : « اعقلها وتوكّل ».

ص: 326


1- المصدر السابق : ح 10.

أقسام التداوي من ناحية الحكم الشرعي

اشارة

وينقسم التداوي من ناحية الحكم الشرعي إلى الأقسام الخمسة :

أ - الجواز.

ب - الوجوب.

ج - الندب.

د - المكروه.

ه - المحرم.

أ - جواز التداوي :

أمّا جواز التداوي فهو مستفاد من الروايات الكثيرة القائلة : « إنّ الذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء » ، ومن الاجماع المنقول في عدم وجوبه كما في مرض الموت أو كان التداوي موهوماً مضنوناً أو كان المرض مزمناً ، أو لا دواء له حسب قول الطبيب ، أو كان له دواء وكان فيه مخاطر كبيرة وفائدته مظنونة أو موهومة ، مثل أمراض السرطان أو الأورام الخبيثة التي يخاف انتشارها في الجسم ، وكذلك في الأمراض التي لا تضر إلاّ صاحبها ضرراً يتحمّله مثل حساسية الأنف.

ب - الوجوب :

ووجوب التداوي له موارد متعدّدة ، منها :

1 - إذا كان بدن الإنسان لا يتحمّل الألم الذي هو فيه ، فقد ورد في كتاب « مكارم الأخلاق » قال : « قال علیه السلام : تجنب الدواء ما احتمل بدنك الداء ، فإذا لم

ص: 327

يحتمل الداء فالدواء » (1).

2 - الأمراض التي تنتقل إلى الآخرين بالعدوى ، مثل مرض السل والجذام ، والخناق والكُزاز ، والهيضة ( الكوليرا ) والأمراض الجنسيّة ، وأنواع الحميات مثل : الحمى الشوكية والملاريا ... الخ. فإنّ هذه الأمراض إن لم يتداوى المصاب بها فإنّها تجر المرض إلى الآخرين ، ويحصل التضرر بسبب عدم المعالجة والقضاء عليها ، وقد نهى النبي صلی اللّه علیه و آله عن الضرر والضرار في الإسلام ، فكل ما يأتي منه الضرر من أفعال المكلّفين فهو منهي عنه في الإسلام ، والنهي يساوق الحرمة ، وإذا صار عدم التداوي حراماً فلازمه وجوب التداوي إذا كان للمرض علاجاً ، وأمّا إذا لم يكن للمرض علاج ودواء فيمكن استخدام وسائل الوقاية والتطعيم لمنع انتشارها ، كما أن عمليات الحجر الصحي وتقييد حرية المصاب على الأقل يؤدّي الى حصر الوباء في مكان معين.

ثم إنّ عدم التداوي في الأمراض التي لها علاج طبّي يؤدّي إلى الهلاك غالباً ، وقد نهانا اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بعدم القاء النفس في التهلكة حين قال : (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، وهذا النهي يشمل القاء النفس بالتهلكة مباشرة أو تسبيباً بترك المعالجة أو انتشار المرض المعدي.

ثم إنّ وجوب التداوي ينقسم إلى قسمين :

أولاً : وجوب فردي يتوجّه فيه التكليف إلى الفرد المصاب ، وهذا قد تقدّم.

ثانياً : وجوب إلى المجتمع المهدد بالخطر ( المرض ) ، وهذا الوجوب المتوجّه الى المجتمع يحدّده ولي الأمر ، كما في حالات ظهور امارات الوباء ، فإنّ الولي - متمثّلا بوزارة الصحة - يصدر أمراً إلى المجتمع بوجوب مباشرة دواء معين أو زرقة

ص: 328


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 4 من الاحتضار ، ح 5.

من علاج وقائي. وقد تكون الوقاية حجراً صحياً على بلدة كاملة لمنع خروج أفرادها ، أو دخول أحد إليهم ، وهذا كلّه يدخل في نطاق العلاج الواجب.

ج - الندب :

وهو مستفاد من الروايات الكثيرة المتقدّمة التي تحثّ على التداوي ، ولما في التداوي من فضل العافية وعدم التعرّض للبلاء ومقدّماته.

د - المكروه :

وكراهة التداوي إنّما تكون في صورة إمكان إزالة المرض وذهابه بدون مراجعة الطبيب واستعمال الدواء ، كالأمراض الناشئة من عوارض البرد ، فإنّها تزول بالاستراحة والحمية ، وكذا كل مرض يزول بالامساك عن الغذاء إلاّ فيما يحتاج إليه ، فقد وردت الروايات ايضاً بذلك ، ففي رواية عثمان الأحول عن الإمام أبي الحسن ( الرضا علیه السلام أو الإمام موسى بن جعفر علیه السلام ) قال : « ليس من دواء إلاّ ويهيّج داءً ، وليس شيء انفع في البدن من إمساك البدن إلاّ ممّا يحتاج إليه » (1).

وما ورد في كتاب الخصال ( للصدوق ) بسند عن الإمام الصادق علیه السلام انه قال : « من ظهرت صحته على سقمه فيعالج نفسه بشيء فمات فأنا إلى اللّه منه بريء » (2).

بضميمة وضوح عدم حرمة المعالجة لمن ظهرت صحته على سقمه.

وكذا يكره التداوي في الأمراض التي ليس لها دواء أو مرض الموت.

ص: 329


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 4 من الاحتضار ، ح 5.
2- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 4 من الاحتضار ، ح 5.

ه - المحرّم :

اشارة

وقد يكون التداوي محرّماً على المريض فيما إذا كان الدواء الذي يريد استعماله محرماً وله بديل آخر يمكنه الحصول عليه ، وقد يكون الدواء نجساً وله بديل يمكنه الحصول عليه ايضاً. وقد يكون تداوي الإنسان الذي فيه المرض بقتل الجنين الذي في بطن اُمّه مع عدم الخطر الجدي على الاُمّ كما في حالات « الارحام » التي قد تبتلى بها بعض النساء ، فإن إزالة هذه الأرحام الشديدة قد يكون بواسطة اجهاض المراة لطفلها ، وهو محرم ، فالتداوي به محرم ايضاً.

هذه بعض المصاديق للتداوي بالمحرم.

ولا بأس بالتعرض هنا إلى بحث أقسام من التداوي قد يقال بحرمتها ، منها :

القسم الأول : هل يجوز التداوي بعين النجس ؟

نقول : ممّا لا اشكال فيه أن النجس - كالدم والخمر والميتة وما شاكلها - يحرم استعماله بالأكل والشرب ، وكذا إذا كان الشيء محرماً شربه واكله وان لم يكن نجساً كلحوم السباع المذكّاة والخمر بناءً على القول بطهارته ، فإنّ عدم وجود ضرورة إلى الأكل والشرب وعدم وجود انطباق عنوان آخر عليها يجعلها في حيّز المنع من الاستعمال في الأكل والشرب ، وهذا واضح من الأدلّة الصريحة عند كل المسلمين.

ولكنّ الكلام فيما إذا انطبق على هذه المحرمات الأكل والشرب عنوان الدواء ، كما إذا استُحضر الدواء من أحد هذه الاُمور أو ركّب من بعضها ، أو انطبق عنوان الانقاذ من الموت عليها فهل يجوز استعمالها في الأكل والشرب ؟

وللجواب على هذا السؤال نقول :

1 - أمّا في حالة توقّف حياة الإنسان على استعمال الميتة أو الدم أو البول فقد أفتى الفقهاء بجواز استعمالها وذلك للتزاحم الموجود بين وجوب حفظ النفس

ص: 330

وحرمة استعمال النجس ، وبما أنّ وجوب حفظ النفس أهم من حرمة استعمال النجس فقد جُوِّز استعمال النجس لأجل حفظ النفس من الموت طبقاً لقانون تقديم الأهم على المهم عند التزاحم ، أو طبقاً لقانون الضرورات تبيح المحظورات ، وليس هناك ضرورة أهمّ من حفظ النفس.

2 - أمّا في حالة انطباق عنوان الدواء على بعض هذه النجاسات ، وافترضنا أنَّ المرض الذي فيه هذا الإنسان لا يؤدّي إلى هلاكه فهل يجوز استعمال الدواء المحرم بالأكل والشرب ؟

الجواب : هنا صورتان :

الاُولى : أنّ الدواء ليس منحصراً في النجس ، بل يوجد فيه وفي غيره.

الثانية : أنّ الدواء منحصر في النجس.

أمّا في الصورة الاُولى فلا يجوز استعمال النجس للشفاء ، لعدم التزاحم بين حرمة النجس ووجوب الشفاء من المرض ، حيث يمكن الشفاء عن طريق الحلال ، وبهذا يجوز استعمال النجس ، ومثال ذلك : أنّ مريضاً يرقد في المستشفى بحاجة إلى دواء معين كالدم النجس ، ويمكن تهيئة ذلك عن طريق استعمال الدواء المستحضر من مادة طاهرة العين ، كالكبد الطاهر ، أو المقويات المزيدة للدم ، ففي هذه الحالة لا يجوز شرب الدواء الذي فيه نجاسة عينية.

وأمّا الصورة الثانية فقد يقال بعدم جواز استعمال النجس ، وذلك لعدم التزاحم بين حرمة استعمال النجس والشفاء من المرض ، لأنّ الشفاء من المرض ليس بواجب.

ولكن الصحيح أنّ السعي إلى الشفاء من المرض واجب أيضاً ، لما فيه من مصلحة الفرد الكبرى التي يتوقّف عليها سعيه في الأرض وكونه فرداً صالحاً ، ولما فيه أيضاً من مصلحة مجتمعه الذي يعيش فيه فإن المرض الذي يوجد في المجتمعات

ص: 331

إن لم يسع إلى التخلّص منه فإنّ البشرية جمعاء تبتلى بالمفاسد الكبرى التي تهلك الجماعات والأفراد ، لذا فإن التزاحم الذي ذكر سابقاً يجري هنا بين وجوب السعي للشفاء من المرض وبين حرمة استعمال المحرّم وحينئذ إذا كان وجوب السعي للشفاء من المرض أهم من استعمال المحرم فيجوز حينئذ استعمال المحرّم لأجل الشفاء من المرض إذا كان الشفاء منحصراً في استعمال المحرّم.

ومن الأمثلة على ذلك : أنّ مريضاً يرقد في المستشفى يحتاج إلى دواء ولا طريق إلى ذلك إلاّ استعماله للنجس أكلا أو شرباً قبل أن يطغى مرضه ويستفحل ، فإذا كان القضاء على المرض في استعمال الدواء أهم من حرمة استعمال النجس جاز استعمال النجس كما تقدّم ، هذا كله بحسب القاعدة الأوليّة.

أمّا بالنسبة للروايات فقد وردت الروايات الظاهرة بل الصريحة في حرمة استعمال النجس أكلا أو شرباً حتى في صورة انحصار الدواء به كالضرورة ، واليك بعضها :

1 - صحيحة عمر بن اذينة ، قال : « كتبت إلى الإمام الصادق علیه السلام أسأله عن الرجل ينعت له الدواء من ريح البواسير ، فيشربه بقدر اسكرجة من نبيذ ، ليس يريد به اللذة ، إنّما يريد به الدواء ؟ فقال علیه السلام : لا ولا جرعة ، ثم قال : إنّ اللّه عزّوجلّ لم يجعل في شيء ممّا حرم دواءً ولا شفاءً » (1).

2 - صحيحة الحلبي قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن دواء عجن بالخمر ؟ فقال : لا واللّه ما اُحبّ أن أنظر إليه ، فكيف أتداوى به ؟ إنّه بمنزلة شحم الخنزير أو لحم الخنزير وترون اُناساً يتداوون به » (2).

ص: 332


1- وسائل الشيعة : ج 17 ، ب 20 من الأشربة المحرّمة ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 4.

3 - صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه ( الإمام موسى بن جعفر علیه السلام ) قال : « سألته عن الدواء هل يصلح بالنبيذ ؟ قال : لا ... إلى أن قال : وسألته عن الكحل يصلح أن يعجن بالنبيذ ؟ قال : لا » (1).

وهذه الروايات وإن كانت واردةً في الخمر إلاّ أنّ ظاهرها النهي عن التداوي بالحرام ، وهي مطلقة لصورة الضرورة وانحصار الدواء بالحرام وعدمها ، إلاّ الرواية الاُولى فهي تقنن قاعدة « إنّ اللّه لم يجعل في شيء ممّا حرّم دواءً ولا شفاءً » فهي تشير إلى عدم وجود انحصار الدواء في المحرم ، بل تقرّر أنّ المحرّم لا يمكن أن يجيء منه الشفاء والدواء ، وبهذا يبطل الفرض الذي نحن فيه ، هو انحصار رفع الداء بالحرام أو ارتفاع الداء بالحرام.

هذا ولكن إذا أثبت العلم بما لا شك فيه ولا ريب أنّ بعض المحرمات والنجاسات يمكن استفادة الدواء منها ، وقد ينحصر الدواء فيها في بعض الحالات فحينئذ تطرح هذه الروايات للخلل في متنها الذي يكون مخالفاً للواقع الخارجي ، ويعود الفرض ويحكّم قانون التزاحم.

ويمكن أن يقال : إنّ هذه الروايات المانعة من وجود الدواء في الحرام هي ناظرة إلى الواقع الخارجي الذي كان في وقت صدور الروايات فكان الدواء غير موجود فيما هو محرّم ، أمّا في زمان آخر كزماننا إذا تمكّن العلم بأدواته الدقيقة وعمقه الكبير أن يوجد دواءً من النجاسات أو المحرّمات ، وانحصر الدواء به فنرجع إلى القاعدة ، حتى لو لم يكن المتن الروائي مخالفاً للواقع الخارجي وقت صدورها.

بل يمكن أن يقال : إنّ هذه الروايات مختصة بصورة الخمر وشرابه على هيأته الخمرية ، بينما كلامنا في صورة استخراج الدواء من المحرم بحيث تزول صفة الخمرية أو صفة الحرام ويتّصف بصفة اُخرى هي صفة الدواء ولكن عيبه هو

ص: 333


1- المصدر السابق : ح 15.

النجاسة أو الحرمة ، فتكون الروايات منصرفة عمّا نحن بصدده من انحصار الدواء في ما يستخرج من المحرّم أو النجس ، وهذا سيأتي في القسم الثالث. وبهذا الذي تقدّم يرجع البحث السابق ، ونحكّم قانون التزاحم.

ولكن نقول : إنّ هذه الروايات قد تكون معارضةً - إذا قلنا بحرمة شرب الأبوال الطاهرة ، كما هو الصحيح - بالروايات التي خصّت في التداوي فقط بأبوال الأبل والبقر والغنم في صورة الدواء فقط ، ومن تلك الروايات :

1 - موثّقة عمار بن موسى الساباطي ، عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سئل عن بول البقر يشربه الرجل ؟ قال علیه السلام : إن كان محتاجاً إليه يتداوى به يشربه ، وكذلك أبوال الإبل والغنم » (1).

2 - موثّقة المفضل بن عمر ، عن الإمام الصادق علیه السلام « أنّه شكا إليه الربو الشديد ، فقال له علیه السلام : اشرب أبوال اللقاح ، فشربت ذلك فمسح اللّه دائي » (2).

3 - وعن أنس : « أنّ رهطاً من عرينة أتو النبي صلی اللّه علیه و آله ، فقالوا : إنا اجتوينا المدينة وعظمت بطوننا وارتهست اعضاؤنا ، فأمرهم النبي صلی اللّه علیه و آله : أن يلحقوا برّاً الإبل ، فيشربوا من ألبانها وأبوالها ، فلحقوا براعى الابل ، فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صلحت بطونهم وأبدانهم ، ثم قتلوا الراعي وساقوا الابل » (3).

وفي القاموس : جوى : كره ، وأرض جويه : غير موافقة وفيه ، ارتهس الوادي : امتلأ.

ص: 334


1- وسائل الشيعة : ج 17 ، ب 59 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح 1.
2- وسائل الشيعة : ج 17 ، ب 59 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح 8.
3- السنن الكبرى للبيهقي : ج 10 ، ص 4 ، ورواه البخاري في الصحيح : ج 1 ، باب الأبوال ص 67 بأدنى تفاوت.

4 - وعن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ في أبوال الإبل وألبانها شفاء للذربة بطونهم » (1).

وفي القاموس : الذربة محركة : فساد المعدة.

والصحيح أنّ هذه الروايات لا تكون معارضة لما تقدّم حيث انها اخص منها فتقيد الحرمة بغير شرب الأبوال الطاهرة للدواء. نعم ، هناك روايات تجوِّز شرب أبوال مأكول اللحم على وجه الاطلاق ، إلاّ أنّها ضعيفة السند ولابدّ من تقييدها بالتداوي وحتى لو كانت صحيحة السند فلابُدَّ من تقييدها بالتداوي لموثّقة عمار المتقدّمة.

القسم الثاني : التداوي بالنجس أو الحرام بغير الأكل والشرب :

نقول : إنّ لفظ « التداوي بالحرام » يشمل غير الأكل والشرب أيضاً ، كالتدهين والتزريق والتكحيل ووضع عضو من جسم الخنزير في جسم الإنسان واشباهها ، ولكن الروايات المتقدّمة وان كان مطلقة إلاّ أنّها منصرفة إلى المحرم الذي حرم أكله أو شربه ، لكثرة استعمال الحرمة وارادة خصوص الأكل والشرب منها ، كما إذا قال شخص لآخر : « حرم الشارع علينا الميتة » فإنّ المنصرف منها هو حرمة الأكل وإن كان اللفظ يشمل حرمة الحمل واللمس والنظر. وكذا كل رواية فيها لفظ « الخمر » ، فإنّ المحرم شربه ومقدماته ومؤخرته التي تتعلق بالشرب ، وعلى هذا تبقى موارد بقية الاستعمالات مثل التزريق - إذا لم يكن فيه ذهاب العقل - والتدهين والتكحيل ووضع مادة من جسم حيوان في جسم الإنسان واشباهها غير محرمة ، وذلك لعدم التزاحم بين الواجب والحرام.

نعم ، نخرج التكحيل الذي فيه خمر عن دائرة الجواز ، لوجود روايات تحرمه ،

ص: 335


1- مسند أحمد : ج 1 ، ص 293.

مثل الرواية الثالثة المتقدّمة ( صحيحة علي بن جعفر ) وغيرها ، إلاّ أن روايات « ليس شيء ممّا حرمه اللّه تعالى إلاّ وقد أحله لمن اضطر إليه » تجوِّز ذلك إذا كان ضرورة ، ولا يمكن الدواء إلاّ به.

ولا تأتي هنا قاعدة « إنّ اللّه لم يجعل في شيء ممّا حرم دواءً ولا شفاءً » لأنّها منصرفة إلى خصوص الأكل والشرب.

إذن النتيجة : هو جواز التداوي بعين النجس إذا لم يكن أكلا أو شراباً ، ولو لم تكن ضرورة إلى ذلك.

القسم الثالث : هل يجوز التداوي بالنجس إذا استهلك في شيء آخر ؟

أقول : هذه هي الصورة الواسعة المنتشرة في الدواء ، حيث يوضع النجس مع مواد اُخرى بحيث يستهلك فيها ولا ينعدم ، فهل يجوز استعمال الدواء في هذه الصورة وإن كان هناك دواء غيره ، أو يجوز في صورة انحصار الدواء بالنجس المستهلك ؟

الجواب : مرةً نتكلّم عن صورة كون الدواء هو عبارة عن الأكل والشرب.

ومرة نتكلّم عن صورة كون الدواء ممّا ينتفع به بغير الأكل والشرب.

أمّا في الصورة الاُولى فإنّ الاستهلاك الذي حصل للنجس في ضمن غيره لا يجعله طاهراً ، فيبقى الدواء الذي فيه النجس على حكم عدم جواز اكله أو شربه ، سواء كان مائعاً أو لا ، وذلك لأنّ الشبهة هي وجود النجس في المادة ، ولا يجوز تناول المادة التي فيها النجس ، وعلى هذا فإذا كان هذا الدواء غير منحصر لذلك الداء فلا يجوز استعماله ، وذلك لعدم التزاحم بين حرمة أكل النجس أو شربه ، وبين وجوب السعي في الشفاء من الداء لوجود الدواء الطاهر ، أمّا إذا كان هذا الدواء قد انحصر فيه الاستشفاء فهل يجوز شربه أو أكله أم لا ؟

ص: 336

الجواب : يقع التزاحم بين حرمة أكله أو شربه ووجوب السعي للاستشفاء ، فإن كان الوجوب أهمّ من حرمة استعمال النجس جاز استعماله للاستشفاء ، وهنا لا تأتي قاعدة « إنّ اللّه عزّوجلّ لم يجعل في شيء ممّا حرم دواءً ولا شفاءً » لأنّها واردة في عين النجس ، أو منصرفة إليه ، أمّا هنا فإنّ عين النجس مستهلكة مع اشياء اُخر ، فتأتي قاعدة « ليس شيء ممّا حرمه اللّه تعالى إلاّ وقد أحله لمن اضطر إليه ».

وأمّا الصورة الثانية فهو أمر جائز بلا كلام ، كالتدهين والتزريق والتكحيل فإنّ هذه الأمور لا مانع من استعمال النجس فيها فضلا عن استهلاكه مع غيره ؛ لأنّها جائزة بالأصل ولا دليل على الحرمة ، فلا تزاحم أصلاً بين الوجوب والحرمة. دفع توهّم :

إنّ ما ذهبنا إليه من حرمة استعمال أبوال مأكول اللحم ليس من ناحية الاستدلال بآية (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) ، فإنّ معنى الخبائث في الآية هو كل ما فيه مفسدة ولو كان من الأفعال ، فإنّ لفظ « الخبيث » يطلق على العمل الخبيث كما في قوله تعالى : (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ) وبما أن أبوال ما يؤكل لحمه فيه مصلحة للمريض فهي ليست من الخبائث وإن تنفّر منها الطبع ، وإنّما دليلنا هو الروايات المتقدّمة التي أحلّت شرب البول لأجل الدواء.

هل يجوز تعطيل عضو من اعضاء الإنسان بواسطة الطبيب ؟

قد يطلب الفرد اختياراً تعطيل عضو من اعضائه التناسلية - مثلاً - أو غيرها ، كرضّ الخصيتين ، أو منع المني من عملية الاخصاب ، كما قد تطلب المرأة من الطبيب قلع الرحم أو سد الانابيب التي تخصب ، أو يطلب شخص رفع كليته واشباه ذلك ، فهل يجوز هذا العمل ؟

وقد يصوّر هذا البحث بصورة ثانية ، وهي : هل يجوز للطبيب أن يعمل هذا

ص: 337

العمل بدون رضا الفرد ؟ (1)

وبحثنا الآن في صورة العمل الاختياري الذي يقوم به الفرد والطبيب ، فهل هذا جائز ؟

الجواب : قد يقال : إنّه عمل محرم في صورة يعدّ الجسم المأخوذ منه العضو ناقصاً ، لأنّه يدخل تحت اطلاق « لا ضرر ولا ضرار » التي تشمل الأحكام الشرعية التي يحدث منها الضرر والأفعال الضررية ، فإنّها كلها قد نهى عنها النبي صلی اللّه علیه و آله بقوله : « لا ضرر ولا ضرار » ، ومن الأفعال الضررية : ضرر الإنسان لنفسه وجعل جسمه ناقصاً عرفاً ، وهو ضرر كبير لا يمكن أن يقال بجواز اقدام الإنسان عليه.

نعم ، يُستثنى من الحرمة ما لو كانت المرأة في حالة يضرها الحبل بصورة قد يؤدّي إلى فقدان الاُم حياتها ، ففي هذه الحالة تكون حياة الاُم مقدّمة على حرمة نقص العضو ، كسد الأنابيب المخصبة للحمل عند المرأة. كما تستثنى حالة ما إذا توقف على نقص العضو عند فرد نجاة إنسان آخر من الموت ، كما إذا كان هناك شخص يعاني من توقف كليتيه ، وقد أراد آخر أن يتبرّع له بإحدى كليتيه لينقذه من الموت ، ففي هذه الحالة ترتفع الحرمة التي تقدّم الكلام عنها ، وذلك لأنّ دليل حرمة أن ينقص الإنسان عضواً من أعضائه هو في صورة ما إذا كان التنقيص

ص: 338


1- وقد ذكر لنا أن الصين قامت بعقم أكثر من مائة مليون شخص في عهد ماوتسي تونغ بالاكراه ، كما قامت انديرا غاندي ( رئيسة وزراء الهند ) في بداية السبعينات من هذا القرن بعقم احد عشر مليوناً من الرجال والنساء قسراً ، وطبعاً أنّ هذا العمل محرم لما فيه من انتهاك لحرية الإنسان - التي اعطاها اللّه سبحانه له - بدون مبرر ، كما أنّها انتهاك وتعدٍّ على جسم الإنسان وضرر عرفي متوجّه إليه. ومثل هذا ما يحدث في إجراء التجارب القاسية والخطيرة علی المسجونين بالاكراه.

لا يلازمه عنوان آخر مهم يعدّ معه التنقيص غير محرم ، كفرضنا الذي نحن فيه ، وهذا يتّضح من ملاحظة التزاحم الذي يذكر فيما إذا كان انجاء الغريق متوقفاً على أضرار الغير بإتلاف زرعه ، ففي هذه الحالة لا يكون الاتلاف محرماً حيث يُقدّم انقاذ الغريق على حرمة اتلاف زرع الغير ، فما نحن فيه كذلك وان لم يكن انقاذ حياة الفرد الآخر واجباً على المعطي ؛ لأنّنا نتكلم في التزاحم الأعم من الحكمي ، وهو التزاحم الملاكي (1) وان لم يكن أحد فرديه واجباً من قبل الشارع لمصلحة التسهيل على العباد إلاّ أنّه ذو مصلحة مهمّة جدّاً تجعل اضرار الفرد الآخر بنفسه وتنقيص عضو من أجل إنقاذ حياة الآخر ليست محرمة.

هذا كله بالنسبة إلى العضو إذا قلع من جسم الإنسان ، كالعين والكلية

ص: 339


1- التزاحم الملاكي : والمراد منه اعطاء الكِلية لفرد آخر إذا لم تكن واجبة ( رغم أهميّة ملاكها ) لوجود مانع من الوجوب كمصلحة التسهيل مثلاً فمع ذلك هو يزاحم حرمة اضرار الإنسان بنفسه. وهذا التزاحم يختلف عن التزاحم في الحكم الذي أشير إليه في الأصول من مصطلحات الآخوند (صاحب الكفاية) القائل بالتزاحم الملاكي، ومصطلحات الميرزا النائيني القائل بالتزاحم الخطابي في كيفية تصوّر التزاحم ، فيقصد الآخوند أن المولى ناظر إلى أقوى الملاكين، ويحكم وفقاً له. ويقصد الميرزا أن المولى خاطبنا خطابين قد تزاحما ، فإنّ في هذا التزاحم الأصولي يقصد وجود ملاكين كلُّ منهما بحد ذاته يؤدّي إلى الحكم ، فالآخوند يصور التزاحم في نفس الملاكين فبالتالي لا يوجد سوى حكم واحد ، والميرزا يصوره في الخطابين أي أن الملاكين أثرا ووصلا إلى حكمين وتزاحما . أما في التزاحم الذي نقصده في هذا البحث فهو اننا حتى إذا فرضنا أن الملاك لا يصل إلى الحكم فمع هذا لا يفهم العرف الاطلاق من الحكم الآخر ، ففي موردنا إذا قلنا بحرمة أن يضر الإنسان بنفسه ويقلع عضواً من اعضائه ففي صورة كون هذا العمل منقذاً لإنسان آخر وان لم يكن انقاذه واجباً يحصل تزاحم ملاكي بين الفعلين، فلا تكون حرمة الضرر مطلقة لصورة انقاذ إنسان آخر .

والنخاع. أمّا إذا كان المقلوع من الجسم غير الأعضاء ( كالجلد مثلاً ) الذي هوقابل للتجديد في الإنسان وكالدم فهو جائز بلا كلام ؛ لعدم عدّ ذلك نقصاً في جسم الإنسان بحيث يشمله حديث « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ».

وقد يقال في ردّ دليل « لا ضرر » : إنّ لا ضرر لا يشمل صورة اضرار الإنسان لنفسه ، وإنّما يقتصر على منع الضرر الذي يتوجّه إلى الغير من قبل الأخرين (1).

وقد يقال بعدم وجود الضرر كما في مثال العقم ، فعلى هذا المنبى هل يوجد دليل يحرم هذه الأعمال في صورة الاختيار ؟

نقول : إنّ أهم دليل يمكن أن يُستدل به للحرمة هو الآية القرآنية الواردة على لسان الشيطان ، وقد نقلها القرآن الكريم ولم يردّها ، فهي مقبولة عند اللّه تعالى وهي (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) (2).

فقد يقال : اننا نفهم من هذه الآية أن تغيير خلق اللّه تعالى من عمل الشيطان

ص: 340


1- هناك مبنى يقول : إن ضرر الإنسان بالغير قد منعه الشارع وفقاً لقانون ارتكازي عرفي يمنع اضرار الإنسان بغيره ، وهذا القانون مستمد من عدم جواز اضرار الإنسان بنفسه الذي هو ارتكازي ايضاً ، ولذا ورد في الحديث « الجار كالنفس غير مضار » فقد افترض أن الإنسان لا يضر نفسه ، فكذا لا يجوز له اضرار جاره كنفسه. ولكن لنا أن نقول : إن الحديث وارد في القضايا الأخلاقية لا الشرعية؛ حيث إنّ إقدام الإنسان على ضرر نفسه في المعاملات والأعمال جائز بلا كلام كما في اقدامه على الشراء الغبني مع علمه به ووقوفه تحت الشمس ساعات طويلة لأجل تحصيل رزق يومه مع امكانه صنع مضلة له ، وأمثال ذلك، على أن ارتكازية حرمة الضرر بالغير عرفاً ممنوعة ، فإنّ الشارع أراد بتأسيسه الحرمة إيجاد المجتمع الإسلامي الصالح، فشرع حرمة الاضرار بالغير، كما هو واضح لمن اطلع على حكاية سمرة بن جندب وجذع النخلة .
2- النساء : 119.

الذي يخسّر به الإنسان المتَّبع له.

وعيب هذا الدليل هو عدم إمكان الأخذ بظاهر الآية ؛ وذلك لأنّ كثيراً من الأشياء المتيقّن بجوازها هي عبارة عن تغيير خلق اللّه ، مثل قصر اللحى والختان وقص الاظفار والشعر ، وتغيير مجرى المياه وإزالة الجبال وشق الطرق وما إلى ذلك من اُمور كثيرة نقطع بجوازها وهي تغيير لخلق اللّه تعالى.

وقد يجاب على هذا الاشكال بتطبيق قانون التغيير ، فيقال : إنّ الآية مطلقة في حرمة تغيير خلق اللّه على انه من عمل الشيطان ، وقد خرج ما خرج بمخصص منفصل أو إجماع أو ضرورة فقهية أو بمخصص متصل ، وبقي ما بقي مثل نقص العضو في الإنسان الذي نحن بصدده.

ولكن نقول : إنّ الاشكال الذي نذكره هنا هو أحد شِقّين :

1 - إنّ وضوح خروج عدد مهمٍّ من الاُمور بصورة مرتكزة قد اكتنف بالآية القرآنية ، وهذا يغيّر المعنى ويزلزل أصل الظهور ، فيأتي الاجمال.

2 - أو نقول : إنّ هذا الخروج لكثير من الاُمور المهمّة بصورة مرتكزة المقارن للآية يكون قرينة على ارادة معنى آخر وهو : أنّ الشيطان بقوله : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) يريد به التهديد بتغيير فطرة التوحيد ، لا التغيير المادي.

ولكن ممّا يهدم الشق الثاني قوله تعالى : (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ) فإنّ تشقيق آذان الأنعام هو أمر مادّي ، فيكون المراد من تغيير خلق اللّه في الآية هو التغيير المادّي لا تغيير فطرة التوحيد.

ولكنّ هذا الهدم غير سليم ؛ وذلك لأنّ فرض ضلالية تشقيق الآذان ليس من باب تغيير خلق اللّه ، وإنّما توجد هناك عمليتان يشير إليهما ابليس ، وهما :

أ - فليبتِّكن آذان الأنعام ، فقد فسّر بأنّه اشارة إلى جرّ البشرية الخرافات ، وكانت هناك خرافة في العصر الوثني في أن الأنعام : إمّا أن تقص آذانها أو تشق ،

ص: 341

وحينئذ يحرم أكل لحمها ، والإسلام جاء لابطال هذه الخرافات.

ب - فليغيّرنّ خلق اللّه ، وقد فسّر بتفاسير ، وفي الروايات التي نقلتها كتب التفسير عن الإمام الباقر والصادق علیهماالسلام : أنّ المراد بتغيير خلق اللّه هو تغيير فطرة التوحيد ، ويستشهد على ذلك بآية (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (1).

إذن يبقى الاشكال على الآية بأنّها إمّا مجملة ، أولها معنىً آخر غير التغيير المادّي الذي نحن بصدده.

ج - وقد يستدل بدليل ثالث على حرمة بعض هذه الاُمور (2) ، كما إذا كان تنقيص العضو عند المرأة يستوجب إجراء عملية لها من قبل الرجل ، وهو حرام ، لحرمة النظر إلى المرأة الأجنبية ، أو كون تنقيص العضو - من قبيل سدّ الأنابيب - الذي يسمى بالعقم الدائم قد يستوجب النظر إلى العورة وهو أمر محرم ، بينما يكون سدّ الأنابيب أو تنقيض العضو أمراً اختيارياً للمرأة ، وحكمه الجواز ، ولكن لا يقدم الجواز على الأمر الحرام. وهنا لأجل البحث في هذا الموضوع المهم نقسّمه قسمين :

القسم الأول : ويبحث عن صورة التماثل بين المعالِج والمعالَج ، فالطبيب هو الذي يجري عملية العقم الدائمي على الرجل وينظر إلى خصيتيه مثلاً ، أو المرأة هي التي تنظر إلى عورة المرأة لأجل غلق الأنابيب ، أو قطع الكلية مثلاً.

القسم الثاني : ويبحث عن صورة الاختلاف ، بمعنى أن الطبيب هو الذي يجري عملية العقم الدائمي على المرأة ، أو قطع كليتها ، أو المرأة هي التي تجري عملية العقم الدائمي للرجل وتنظر إلى خصيتيه مثلاً أو تقطع كليته.

ص: 342


1- الروم : 30.
2- إنّ هذا الدليل يختص في صورة كون العملية فيها نظر إلى العورة ، أو فيها حرام آخر مثل النظرالأجنبية.

أمّا بالنسبة للقسم الأول فقد يقال : إنّ الحرمة التي اثبتها الشارع المقدّس على المرأة في النظر إلى عورة امرأة متماثلة لها ، أو وجوب ستر عورتها عن المماثل لها قد دلّت عليها الآية القرآنية (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ... ) (1). وكذا جملة من الروايات مثل صحيحة حريز عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه » (2).

وفي حديث المناهي عن الإمام الصادق علیه السلام عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « ومن تأمل في عورة أخيه المؤمن لعنه سبعون ألف ملك ، ونهى المرأة أن تنظر إلى عورة المرأة » (3).

ولكن لنا أن نتساءل هنا عن تقييد لهذا الاطلاق يجوّز لنا أن تنظر المرأة عورة المرأة ، فهل يوجد تقييد ؟

الجواب : هناك تقييد واضح في حالة الاضطرار إلى المعالجة ، أو كون عدم المعالجة فيه حرج على المرأة ، فنفس الضرورة والحرج يُجوِّزان للمرأة أن تعرض نفسها على المرأة لأجل النظر إلى العورة إذا احتاجت إلى ذلك ، وكذا يجوز للطبيبة النظر كذلك.

ولكنّنا حيث كنّا نتكلم في العقم غير الضروري ، بحيث لو بقيت المرأة من دون سدٍّ للأنابيب تتمكّن من عدم الإنجاب ، أو الإنجاب من غير أن توقع نفسها في حرج أو ضرر كبير ، فهل لنا تقييد آخر يجوّز لنا أن ينظر المماثل إلى المماثل ؟

ص: 343


1- النور : 30 - 31.
2- وسائل الشيعة : ج 1 ، ب 75 احكام الخلوة ، ح 1.
3- وسائل الشيعة : ج 1 ، ب 75 من أحكام الخلوة ، ح 2.

قد يقال (1) بأنّنا لا نفهم الاطلاق من حرمة النظر إلى المماثل ، لأنّ هذا الحكم الذي هو خال عن الشهوة إنّما وجد من أجل الاحترام والاحتشام ، ففي كل مورد يوجد هناك غرض عقلائي لكشف العورة لا يكون الكشف محرماً ؛ لأنّه ؛ لا يكون خلاف الاحتشام والوقار.

وبعبارة اُخرى : أنّ الاستظهار العرفي من الآية القرآنية المتقدّمة ومن رواية « لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه » وأمثالها لا يفهم منه الاطلاق بعد إحراز أنَّ

ص: 344


1- (1) ذهب إلى هذا الدليل آية اللّه السيد كاظم الحائري ، وهو متين إذا احرزنا أن الحرمة التي جعلها الشارع المقدّس في النظر إلى المماثل هي حرمة احترامية ، ونستطيع أن نثبت ذلك بعدّة روايات ، منها : 1 - صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار». وسائل الشيعة : ج 1 . ب 6 من أبواب آداب الحمام ، ح 1. 2 - ما روي عن السكوني عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وسلم : لا حرمة لنساء أهل الذمة أن ينظر إلى شعورهن وأيديهن». وسائل الشيعة : ج 14، ب 112 من مقدمات النكاح و آدابه، ح 1. 3 - ما روي عن عباد بن صهيب قال : سمعت الصادق عليه السلام يقول : « لا بأس بالنظر إلى رؤوس أهل تهامة والأعراب وأهل السواد والعلوج ، لأنهم إذا نهوا لا ينتهون ، قال : والمجنونة والمغلوبة على عقلها لا بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ما لم يتعمد ذلك» . المصدر السابق : ب 113، ح 1. 4 - صحيحة محمد بن مسلم قال : سمعت الإمام الباقر عليه السلام يقول: «ليس على الأمة قناع في الصلاة ولا على المدبرة، ولا على المكاتبة إذا اشترط عليها قناع في الصلاة وهي مملوكة حتى تؤدي جميع مكاتبتها ... » . المصدر السابق : ب 114 ، ح 2 . وهذه الروايات واضحة الدلالة على أنّ الحكم في الحجاب هو للاحترام، ولذا يسقط هذا الحكم في صورة زوال الاحترام والاحتشام. ولكن لا يمكن العمل باطلاق الرواية الأولى التي هي تشمل صورة نظر المماثل إلى المماثل ونظر المخالف إلى المخالف ؛ لوجود روايات تمنع من أن ينظر المخالف إلى المخالف إلا في صورة الاضطرار ، كما في صورة احتياج المرأة إلى الطبيب الذكر، فتبقى صورة المماثلة يجوز فيها النظر إذا لم يكن خلاف الاحترام، كما في صورة وجود غرض عقلائي من الكشف . قد يقال : إن الاحترام الذي يدور مداره الحكم الشرعي ليس بيد العرف ، لتربية الإسلام الخاصة لأتباعه ، ولهذا فقد ارتأى الإسلام أن الاحترام يرفع في صورة الاضطرار فقط .

الحرمة هنا احترامية ، بل يفهم أنَّ كل ما كان خلاف الاحتشام والوقار والاحترام يكون محرَّماً ، كما في كشف المرأة عورتها أمام المماثل بلا داع عقلائي ، أمّا إذا جاء الداعي العقلائي فلا يكون كشف العورة أمام المماثل محرّماً ؛ لأنّه لا يكون خلاف الاحترام والوقار. ويؤيده أن سعد بن معاذ لمّا حكم على قريضة « كان يكشف عورات المراهقين ، ومن انبت منهم قُتِل ، ومن لم ينبت جُعل في الذراري (1) مع إمكان معرفة البلوغ بغير الكشف.

وعلى هذا فلا يشمل اطلاق التحريم حالة العقم التي فيها هدف عقلائي ، بمعنى أن موضوع الحكم قد انتفى إذا وجد الهدف العقلائي لكشف العورة ، وهذا هو معنى : أنَّ العرف والارتكاز العقلائي لا يرى أن كشف العورة - أمام المماثل إذا كان هناك هدف عقلائي - خلاف الاحترام والاحتشام ، بنكتة الحكم والموضوع.

نعم ، إذا كان كشف العورة - حتى في صورة وجود الهدف العقلائي - خلاف الاحتشام فتشمله أدلّة الحرمة ، ولكنّ هذا غير صحيح عرفاً.

وأمّا بالنسبة لقطع كلية المرأة من قبل امرأة مماثلة فلا إشكال فيها من ناحية حرمة النظر ، كما هو واضح.

وأمّا بالنسبة للقسم الثاني - المعالجة عند الاختلاف - فإنّ الإشكال يتركّز في حرمة النظر إلى عورة المرأة أو جسمها لأجل عملية العقم الدائم من قبل الرجل ، في صورة وجود المرأة الطبيبة أو عدم وجودها ؛ لأنّنا نبحث في صورة كون تنقيص العضو أو العقم الدائم ليس بواجب ، ولكنّه ذو فائدة عقلائية للفرد ، فهل هناك طريق لتجويز هذا النظر المحرّم بالأصل ؟

الجواب : لا طريق لذلك إلاّ في حالة انطباق عنوان الضرورة من عدم وجود الطبيبة ، أو كان الطبيب الموجود لا يفيد لهذا الأمر ، وذلك لوجود الروايات المانعة

ص: 345


1- سنن البيهقي : ج 6 ، ص 58.

من النظر إلى العورة أو إلى جسم المرأة غير الوجه والكفين ، ومن الروايات الدالة على ذلك :

1 - صحيحة أبي حمزة الثمالي ، عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها إمّا كسر وإمّا جرح في مكان لا يصلح النظر إليه ، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء ، أيصلح له النظر إليها ؟ قال : إذا اضطرّت إليه فليعالجها إن شاءت » (1).

ومفهومها : أنّها إذا لم تضطرّ إليه ووجدت طبيبة تؤدّي نفس الغرض فلا يجوز.

ثمّ إنّ الاضطرار الذي أشارت إليه الرواية هو اضطرار عرفي ، قد يحصل بواسطة كون الطبيب ( اعلم واقدر ، مع أن مرضي يحتاج إليه ) ، أمّا إذا كان الطبيب أعلم وأقدر ولكن مرضي نوع مرض لا يحتاج إليه فلا يعدّ من الاضطرار العرفي.

ثم إنّ كلمة « إن شاءت » التي جاءت في آخر الرواية تشير إلى نكتة أنّ الطبيب لا يجوز له معالجة المرأة إلاّ برضاها ، رغم أنّ المرأة قد أجاز لها الشارع أن يعالجها الطبيب عند الضرورة.

2 - صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه ( الإمام موسى بن جعفر علیه السلام ) قال : « سألته عن الرجل يكون ببطن فخذه أو أليته الجرح هل يصلح للمرأة أن تنظر إليه وتداويه ؟ قال : إذا لم يكن عورة فلا بأس » (2).

وهذه الرواية جوّزت مداواة المرأة للرجل إذا لم يكن فيه كشف لعورته ، فيجوز لها أن تجري عملية جراحية لقطع كلية الرجل ولو لم تكن ضرورة

ص: 346


1- وسائل الشيعة : ج 14 ، ب 130 من أبواب مقدّمات النكاح ، ح 1.
2- وسائل الشيعة : ج 14 ، ب 130 من أبواب مقدّمات النكاح ، ح 4.

لذلك. أمّا الرجل فلا يجوز له أن يجري عملية جراحية للمرأة حتى الاستئصال كليتها إلاّ في صورة الضرورة. وبهذا اختلف الحكم بين مداواة الرجل للمرأة إذا استلزم النظر إلى جسمه - خلا العورة - تبعاً لاختلاف الروايات في ذلك.

هل يجوز نقل الأعضاء البشرية وزرعها ؟

بقي عندنا نفس نقل الأعضاء البشرية من إنسان لآخر التي ليس فيها حرمة مسبقة فهل هو جائز بلا كلام ، أو حرام بلا كلام ؟

قد يقال بعدم الجواز ، ودليله هو : أن الإنسان وإن كان متسلّطاً على نفسه إلاّ أنّه ليس له حقّ المثلة بجسمه ، وقطع الإنسان لعضو من اعضائه وإن كان بواسطة الطبيب ورضاه هو مثلة غير جائزة.

ولكن الجواب عن ذلك : أنّ العرف يرى أنّ المثلة تتحقّق عند التعدّي على الإنسان ، وفي صورة ما نحن فيه لا يكون أي تعدٍّ من إنسان على آخر ، بل جاء الإنسان الأول بطوع اختياره وإرادته وطلب من الطبيب نقل عضو من أعضائه إلى أخيه أو صديقه ، أفهل يصدق عرفاً على هذا العمل من الطبيب أنه مثلة ؟!

وقد يقال : « إن التبرع بنقل العضو البشري إنّما يكون فيما يملكه الإنسان ، وإن المالك الحقيقي لجسد الإنسان وروحه هو اللّه تعالى ، أمّا الإنسان فهو أمين على جسده فقط ومطلوب منه أن يحافظ عليه ممّا يهلكه أو يؤذيه استجابة لقوله تعالى : (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ولهذا كانت عقوبة الانتحار هو الخلود في النار ، ... وبناءً على ذلك فإنّ الإنسان الذي لا يملك ذاته ولا يملك أجزاء هذه الذات لا يمكن التبرع بأعضاء جسمه فهي هبة من اللّه للإنسان المؤتمن عليها ، ولا يحقّ له التصرف فيها » (1).

ص: 347


1- ذهب إلى هذا الرأي الشيخ محمد متولي الشعراوي في بحث كُتب في مجلة العالم الأسبوعية السنة التاسعة 6 شباط 1993 م 14 شعبان 1413 ه العدد (469) ص 33.

ولكن من حقّ إنسان أن يناقش فيما ذكر كدليل على عدم جواز نقل العضو من إنسان لآخر ، إذ دليل المتكلّم ينحلّ إلى شقّين :

الأول : لا يجوز للإنسان أن يلقي نفسه في التهلكة ، وهذا أمر لم يختلف فيه اثنان.

الثاني : لا يجوز للإنسان أن يقدم عضواً من اعضائه إلى غيره بدليل أن الإنسان لا يملك هذا العضو ، وأنّ المالك الحقيقي هو اللّه سبحانه وتعالى.

ونحن وإن قبلنا أنّ العضو الذي هو جزء من جسدي ليس ملكاً لي ، إلاّ أنّ قطعه وتقديمه للغير غير متوقّف على ملكيته لي ، بل لنا أن نقول : إنّ الإنسان له نوع ولاية على جسمه واعضائه وقد منع من القاء نفسه في التهلكة بواسطة آيتين قرآنيتين هما (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وآية (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وأمّا إعطاء عضو من الأعضاء إذا لم يكن قتلاً للنفس - كما هو المفروض - فهو جائز للولاية المعطاة للإنسان من قبل اللّه تعالى على أعضائه ، إذ من الواضح أن المتولّي يمكن أن يتصرّف فيما جُعل ولياً عليه وإن لم يكن مالكاً (1).

على أنّنا يمكننا القول - كما قال الإمام الخوئي رحمه اللّه - « بأنّ الاضافة الحاصلة بين المال ومالكه قد تكون اضافة تكوينية ، كالاضافة الكائنة بين الاشخاص وأعمالهم وأنفسهم وذممهم ، فإن أعمال كل شخص ونفسه وذمّته مملوكة له ملكية ذاتية وهو واجد لها فوق مرتبة الواجدية الاعتبارية ، ودون مرتبة الواجدية الحقيقية التي هي لله جلّ وعلا.

ص: 348


1- وقد ذهب إلى هذا الرأي شيخ الأزهر في مصر الشيخ جاد الحقّ علي جاد الحق بشرط « أن يصرّح طبيب مسلم ثقة بأنّ نقل هذا العضو من شخص إلى آخر لا يترتب عليه ضرر بليغ بالشخص المتبرّع ، وإنّما يترتب عليه انقاذ حياة الشخص المتبرّع له أو انقاذه من مرض خطير » وهذا الشرط مفروض في مسألتنا أيضاً.

والمراد من الذاتي هنا ما لا يحتاج تحقّقه إلى أمر خارجي تكويني ، أو اعتباري ، وليس المراد به الذاتي في باب البرهان ، أي ما ينتزع من مقام الذات ، ولا الذاتي في باب الكليات الخمس ، أعني به الجنس والفصل ، وهذا واضح لا ريب فيه.

والمراد من الملكية الذاتية ليس إلاّ سلطنة الشخص على التصرّف في نفسه وشؤونها ، بداهة أن الوجدان والضرورة والسيرة العقلائية كلّها حاكمة بأنّ كل أحد مسلط على عمله ونفسه ، وما في ذمته بأنّ يؤجر نفسه لغيره أو يبيع ما في ذمته ، ومن البيّن الذي لا ستار عليه أن الشارع المقدّس قد امضى هذه السلطنة ولم يمنع الناس عن التصرفات الراجعة إلى أنفسهم.

ليس المراد من الملكية هنا الملكية الاعتبارية لكي يتوهّم أن عمل الإنسان أو نفسه ليس مملوكاً له بالملكية الاعتبارية » (1).

ثمّ إنّنا يمكننا القول بأنّ العضو بعد فصله من جسم الإنسان تصدق عليه الملكية العرفية ، كملكية الدم بعد سحبه من الجسم ، فإنّ الاضافة هنا بعد فصل العضو بين العضو ونفس الإنسان هي اضافة حقيقية ، لأنّها مال على كل حال حيث يبذل في مقابلها المال وتدّخر لوقت الحاجة ويتنافس عليها العقلاء ، وعلاقتها بالإنسان كعلاقة الكتاب به.

ثم إذا نوقش في هذا الدليل المجوّز لنقل العضو من إنسان لآخر فيكفينا الأصل العملي في المقام القائل بجواز ذلك ، حيث نشكّ في أصل التكليف وفي الحرمة خصوصاً إذا علمنا أن العرف ينظر إلى هذه العملية أنّها إيثار وبرّ وعمل خير وإحسان.

ص: 349


1- مصباح الفقاهة في المعاملات ، تقرير بحث الإمام الخوئي ، بقلم محمد علي التوحيدي : ج 2 ، ص 4 - 5.

هل يتمكّن الوليّ ( للطفل والمجنون ) أن يتبرّع بأحد أعضاء المولَّى عليه الى فرد آخر ؟

والجواب عن ذلك : بعدم الجواز ، وذلك لما في هذا العمل من ضرر على المولّى عليه ، والوليّ إنّما يصحّ تصرّفه في خصوص مصلحة المولّى عليه ، وليس من مصلحته أن ينقص عضواً من جسمه.

نعم ، قد تحدث في حالة نادرة أنّ أخوين أحدهما قد عُطِّل عضوه ، ويكون بتقديم عضو أخيه له مصلحة مهمة جداً بحيث لو مات أحد الأخوين فإنّ الآخر يكون في طريق الموت ، ففي هذه الحالة الخاصّة يجوز للوليّ أن يقدّم أحد أعضاء المولّى عليه لأخيه الآخر ، ويكون هذا الضرر الذي قام به الوليّ على المولّى عليه لأجل دفع الضرر الأكبر ، وطبيعيّ يجوز دفع الضرر الأكبر بضرر أقلّ ، إلاّ أنّ هذه الحالة نادرة قد لا يكون لها موضوع في الواقع الخارجي.

هل يجوز بيع الأعضاء البشرية ؟

قد يقال بعدم الجواز من ناحية أن الإنسان لا يملك اعضائه ، فكيف يجوز له بيعها ؟ مع أن البيع متوقّف على المِلك كما قرّر ذلك الفقهاء.

ولكن لنا أن نقول : إنّ الولاية التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى للإنسان على نفسه وحقّه في الانتفاع بهذه الأعضاء واولويته تجعله قادراً على تنازله عن هذا الحقّ في مقابل المال إن كان نقل العضو جائزاً كما تقدّم ذلك ، وقد افتى جمعٌ منهم السيد الخوئي رحمه اللّه بجواز بيع الدم الذي يؤخذ من جسم إنسان لجسم آخر ، ولعلّه للتنازل عن هذا الحق في مقابل المال ، أو لصدق الملكية الاعتبارية عليه ، بل للملكية الذاتية كما تقدّم ذلك.

ص: 350

هل يجوز نقل العضو من الميت إلى الحي ؟

وإذا كنّا قد انتهينا إلى جواز نقل العضو من الحي إلى الحي - كما تقدّم - فهل يجوز نقل العضو من الميت إلى الحي ؟

والجواب : إذا قبلنا التزاحم الملاكي المتقدم القائل بأنّ قطع العضو من الميت وإن كان حراماً إلاّ أنّ أهميّة الانتفاع بعضو الميت للإنسان الحي وإن لم تكن واجبة إلاّ أنّها ترفع حرمة قطع العضو من الميت ، لأن الحرمة هي في صورة الاعتداء على الميت ، لا لفائدة ، فيكون العمل منافياً لوجوب احترام الميت ، أمّا مع هذه الفائدة الكبيرة فلا يكون قطعُ عضو الميّت مخالفاً لاحترامه ، خصوصاً إذا صرّح هذا الإنسان قبل موته بقطع أعضائه المفيدة للمرضى.

ولكن قد يقال : إنّ حرمة الميت التي ثبت أنّها كحرمة الحي معناها هو عدم جعل الميت العوبةً بيد غيره ، وحينئذ إذا كان هناك اجازة من نفس الميت لقلع عضو من اعضائه بعد الموت للاستفادة منها فلا يعدّ قلع العضو بعد الموت خلافاً لاحترامه حيث أجاز لنا شق جسمه للاستفادة من اعضائه ، أمّا مع عدم الاجازة والاذن منه فقد يصدق عدم الاحترام على أخذ العضو منه حتى وإن كانت مصلحة للغير ، إذ عدم احترامه وهتكه شيء عرفي يفهمه أهل العرف في صورة عدم إجازته. نعم ، إذا كانت مصلحة لنفس الميت كمعرفة قاتله فيجوز تشريحه وقلع الحنجرة والعين ، لعدم عدّ هذا هتكاً له في صورة عود النفع لنفسه.

ثمّ إنّ الطبيب : إذا كان يرى بنفسه أنّ هذا الإنسان قد مات فعلاً وإلى جانبه إنسان يحتاج إلى بعض اعضاء هذا الميت لينقذه من الموت أيضاً ، فيتوجّه إليه خطابان الأول بحرمة قطع اعضاء الميت ، والثاني وجوب انقاذ الآخر فيقع التزاحم ، فيقدّم الأهم على المهم ، ومن الواضح أن الأهمّ هو انقاذ حياة المريض

ص: 351

الثاني ولو كان بواسطة أخذ عضو من الميت لو قلنا بحرمته ، ومثل هذا شق بطن الاُمّ إذا ماتت لأجل انقاذ الجنين (1).

شبهة : قد يقال أنّ أدلّة وجوب دفن القطعة المبانة من الحي تأتي بعد قطع العضو من الجسم الحي أو الميت ، وحينئذٍ لا تصل النوبة ترقيعها في جسم آخر ليستفيد منها.

الجواب : أنّ أدلّة وجوب الدفن لا تأتي في الإبانة لأنّها إبانة بل تأتي في صورة القطع بموت العضو ، أمّا إذا كان العضو بعد قطعه لا يحسب ميتاً ، بل يمكن إلحاقه بجسم إنسان آخر فهو عضو حي ، فلا تشمله أدلّة وجوب الدفن ، ولهذا لو فرضنا أن إنساناً قد توقّف قلبه لمدّة قليلة ثم رجعت إليه الحياة فلا يقال بوجوب دفنه ، فما نحن فيه كذلك أو أولى ، لأنّ العضو الذي قطع : إمّا لا يصدق عليه أنّه ميت ، أو صدق عليه الموت مدّة قليلة ثم رجع إلى الحياة باتصاله بجسم آخر فلا تشمله أدلّة وجوب الدفن ، بل تنحصر أدلّة وجوب الدفن لما صدق عليه انّه ميت ولم ترجع إليه الحياة.

تعلّم الطب المتوقّف على محرم :

إنّ تعلم الطب والترقّي فيه إلى حيث حاجة المجتمعات المعاصرة قد يتوقّف على ارتكاب بعض المحرّمات في الشريعة الإسلامية المقدّسة ، فهل يجوز ارتكاب هذه المحرّمات لأجل الوصول إلى تعلم علم الطب ، أو نقول بعدم جواز التعلم وعدم ارتكاب المحرمات في الشريعة الإسلامية ؟

ص: 352


1- وقد افتى الإمام الخوئي رحمه اللّه بجواز أخذ عضو من الميت لزرعه للحي إذا اقتضت ضرورة الحياة ذلك ، وأفتى أيضاً بجواز أن يوصي الإنسان باستئصال بعض اجزاء جسده بعد موته لزرعها في جسم من يحتاج إليها وإن كان كافراً ، ولكن التعيين للفرد المسلم أفضل. راجع منية السائل : ص1. 222.

فمثلاً : أنّ طلاب كلية الطب يحتاج نموّهم وتدرّجهم في معرفة علوم الطب الى تشريح بعض الجثث الذي هو محرم بعنوانه الأولي ، أو قد يحتاج التعلم إلى النظر الى النساء المحرمات ، أو عورة الإنسان الذي هو محرّم من قبل الشارع المقدّس ، فهل نقول بعدم وجوب أو عدم حسن تعلم علم الطب ونفتي بحرمة تعلم الطب المتوقّف على المحرمات ، أو نقول بجواز تعلم علم الطب وجواز ارتكاب هذه المخالفات الشرعية ؟

وللجواب على هذا التساؤل ينبغي التنبيه على أنّ تعلم الطب إذا كان متوقّفاً على عمل محرم ، ويمكن أن يتوقّف على عمل محلّل ، فإنّ الحرام الذي حرمه الشارع لا يمكن أن يكون محللا ، وذلك لعدم وجود المبرّر لحلّيّة المحرم مع فرض أن تعلم الطب يمكن أن يكون عن طريق سلوك الطريق المحلل ، فمثلاً إذا كان للوصول تعلم الطب طريقان :

أحدهما : تشريح جسم حيوان كالارنب أو القرد أو ما شابه ذلك من الحيوانات المحللة تشريحها شرعاً.

والآخر : تشريح جثة إنسان مسلم ، وهو عمل محرم في الشريعة الإسلامية ، ففي هذه الحالة لا يجوز تعلم الطب عن طريق التشريح المحرم ، وهذا واضح ؛ لأنّ حرمة تشريح جسم الإنسان المسلم سواء كانت تعبديةً محضةً أو لأجل احترام المسلم حتى بعد موته لا يجوز مخالفتها إذا لم يكن هناك شيء يمكن أن يكون له مصلحة أهمّ من مفسدة عدم احترام الميت المسلم ، وقد افترضنا أنّ علم الطب يمكن تحصيله عن طريق محلل ( وهو تشريح جسم الحيوان كالأرنب ) فتبقى حرمة التشريح لجسم المسلم خاليةً عن مزاحم أهمّ.

تعلم الطب المتوقّف على محرّم إذا لم يمكن توفير الأسباب المحلّلة :

وهنا ننقل البحث إلى هذه الصورة ، وهي : فيما إذا توقّف تعلم الطب على شيء

ص: 353

محرم - كالنظر إلى المرأة المحرمة ، أو النظر إلى العورة ، أو تشريح جسم الإنسان المسلم لمعرفة سبب موته - ولم يمكن توفير سبب محلّل لتعلّم الطب ، فهل يجوز هذا ، أو لا يجوز ؟

الجواب :

أولاً : قد يجاب بجواب معروف وهو : أنّ علم الطب إذا كان واجباً وجوباً كفائياً ولم يوجد من به الكفاية من الأطباء لادارة اُمور مرضى المجتمع فيجوز تعلّم الطب حتى إذا توقّف على أمور محرّمة ؛ وذلك ، لأنّ تعلّم الطب واجب أهم من حرمة النظر إلى المرأة ، أو حرمة التشريح للمؤمن والنظر إلى عورة الإنسان (1).

ولكنّ هذا الجواب لا يلبي طلب المجتمع ، ولا يحل المشكلة ؛ وذلك :

1 - للشك في تشخيص الحاجة الوجوبية لتعلم الطب ، فإنّها حاجة اجتماعية ، وليست حاجة فردية ، فالإنسان في خصوص القضايا الفردية يمكنه أن يقطع بأن الشيء الفلاني هو ماء مثلاً ، أمّا بالنسبة للحاجات الاجتماعية فيصعب عليه التمييز بوجوبها.

ص: 354


1- (1) ولذا فقد افتى الإمام الخوئي رحمه اللّه بجواز فحص المرأة الأجنبية للرجل ، والرجل الأجنبي للمرأة حتى لمنطقة العورة ( القبل والدبر ) إذا توقّف حفظ النفوس المحترمة عليه ولو في المستقبل ، وهذا الجواز كما يكون للطبيب يكون للطالب الذي يدرس علم الطب ، فقد ورد في منية السائل ص 118 - 119 هذا السؤال والجواب : س : في كليات الطب يتحتم على الطالب أن يقوم بفحص المرأة الأجنبية ، والرجل الأجنبي وقد يصل الفحص إلى منطقة العورة (القبل والدبر) وهذا الأمر لابد من المرور به بالنسبة إلى طالب الطب أثناء دراسته العامة ولا مفر منه ، هل يجوز لطالب الطب اثناء دراسته أن يمارس هذا الأمر ؟ وهل يجري الحكم على الطبيب كما يجري على طالب الطب ؟ ج : العمل المذكور غير جائز في نفسه ، ولكن إذا توقف حفظ النفوس المحترمة على العمل المزبور ولو في المستقبل فهو جائز ، وكذلك الحكم بالنسبة إلى الطبيب .

2 - إنّ الوجوب الكفائي لتعلم الطب لو كان واضحاً عند الفرد فهناك شبهة اُخرى ، وهي : هل الوجوب الكفائي واجب لوجوب حفظ النفس فقط ، أو الوجوب الكفائي واجب لما يعمّ حفظ النفس ؟

من الواضح أن علم الطب ليس مختصّاً بحفظ النفس ، فقد يقال بأنّ تعلّم الطب واجب بالنسبة لحفظ النفس فقط ، أمّا ما لا يشمل حفظ النفس من الطب فهو ليس بواجب ، ولا يجوز تعلمه إذا توقّف على مقدّمة محرمة.

ثانياً : وقد يقال - كجواب على السؤال المتقدّم - بجواز تعلم الطب وإن توقف على مقدّمة محرمة ، وذلك لعلمنا بأنّ الشريعة الإسلامية لا ترضى بكون المجتمع الإسلامي متخلّفاً عن ركب العالم الحضاري ، فلأبدّ في كل فن وكمال من أن يتعلّم المجتمع الإسلامي ذلك.

وهذا الجواب صحيح ، ولكنّ التساؤل الذي يجب الجواب عليه هو : ما هي حدود ذلك الفن والكمال ؟ وهل يشمل الوجوب كل الكمالات أو بعضها ؟ وبهذا يرجع الاشكال الأول من أن ترجيح الأهم على المهم في هذا المجال الاجتماعي مشكل من ناحية الموضوع والحكم.

ثالثاً : قد يقال بالتمسّك بقاعدة الاشتغال ، فيقال مثلاً : إنّ تعلم الطب واجب بالوجوب الكفائي على المجتمع ، بمعنى أنّ الوجوب متوجّه إلى المجتمع الإسلامي وفي عهدته ، وما دمنا نشك الآن في وجود من به الكفاية من الأطباء فمعنى ذلك نشك في فراغ ذمّة المجتمع من الوجوب الكفائي ، فنتمسّك بقاعدة الاشتغال القائلة : إن الاشتغال بالتكليف اليقيني ( على المجتمع ) يستوجب الفراغ اليقيني عنه ، فما لم نعلم بوجود قدر الكفاية يبقى الوجوب الكفائي بحاله.

وبهذا أثبتنا الوجوب الكفائي في تعلم الطب على المجتمع ، وحينئذ إذا توقّف

ص: 355

هذا الوجوب على عمل محرّم - كالتشريح أو النظر إلى العورة أو الأجنبية - فيقدم الأهم على المهم.

ولكن تقف بوجه هذا الحلّ عدّة أمور :

أ - إنّ معنى الوجوب الكفائي ليس هو توجّه الوجوب إلى المجتمع وفي عهدته ، بل معناه : يجب على كل فرد تعلم الطب على تقدير ترك الآخر ، وعلى هذا المعنى فسوف يكون الشك شكاً في التكليف ، حيث إن من به الكفاية إذا كان موجوداً فلا وجوب على الفرد ، وإلاّ فالوجوب موجود على الفرد ، فإذا شككنا في وجود من به الكفاية فنشك في توجّه التكليف إلى الفرد ، فيكون مورداً لجريان أصالة البراءة ، لا قاعدة الاشتغال.

ب - وحتى لو فرضنا أن الواجب الكفائي قد يفسر بالوجوب المتوجّه المجتمع وفي عهدته فهل يكفي هذا لجريان قاعدة الاشتغال ؟

الجواب : قد يقال : إنّ الفرد يجري قاعدة البراءة بالنسبة إلى ذمّته ، وليس هو مسؤولاً عن المجتمع وذمته.

ج - ثمّ إنّنا إذا قلنا بأنّ الوجوب الذي على المجتمع هو على مستوى أصالة الاشتغال فحينئذ نقدم الأهم على المهم ، فنقدم تعلم الطب على حرمة النظر الأجنبية وحرمة التشريح ، ولكن ما هو مقدار الأهميّة الذي يقدم على حرمة مقدّمات تعلم الطب ؟

رابعاً : قد يتمسّك باستصحاب عدم كفاية الاطباء ، لأنّ الأطباء الموجودين في المجتمع سابقاً غير قادرين على سد الحاجة ، فالآن وقد كثر عدد الأطباء فهل حصلت الكفاية المرجوّة لسدّ حاجة المجتمع ؟

الجواب : نستصحب عدم الكفاية ، وبهذا يثبت موضوع عدم وجود كفاية من الأطباء في المجتمع ، فيتحقّق الوجوب الكفائي في هذا الزمان ، فنقدّم الأهم

ص: 356

على المهم.

ولكنّ الذي يقف في بوجه هذا الجواب : هو أن الحرمة بالنسبة للنظر العورة أو الأجنبية هي حرمة حقيقية نشأت من الأمارة ، بينما الوجوب الكفائي لتعلم الطب قد استند إلى الاستصحاب ، ولا يقدم الاستصحاب على الحرمة الحقيقية. بالاضافة إلى أن الحالة السابقة في بعض المناطق الإسلامية قد تكون هي الكفاية ، فينتج الاستصحاب عدم الوجوب الكفائي.

والخلاصة : إلى هنا لم تكن الحلول الفنية الفقهية كافيةً للقول بوجوب أو جواز تعلم الطب المتوقّف على محرم.

آراء جديدة في حلّ المشكلة :

اشارة

وهناك من الفقهاء (1) من تطرّق لحلّ هذه المشكلة بحلّين جديدين ، هما :

أ - التزاحم الاجتماعي بحاجة إلى حلٍّ اجتماعي :

أي : أنّ الفرد كفرد حينما يلاحظ المسألة ( تعلم الطب المتوقّف على مقدّمة محرمة ) قد لا يكون عنده التزاحم واضحاً ، فهو لا يدرك بصورة واضحة انه لو ترك تعلم الطب يكون قد ترك الواجب الأهم ، فيكون مخلا بالواجب الكفائي ، أمّا الولي الفقيه فهو عندما ينظر إلى القضية من الناحية الاجتماعية يحصل له علم اجمالي بأنّه إذا حصل تهاون في تعلم الطب فيتعذّر الأهم ويختل ، وبهذا يحصل لدى الولي الفقيه تزاحم ( غير التزاحم الذي يحصل عند الفرد ) فيحكم هذا الولي بوجوب تعلم الطب إلى حد معين ، وبهذا يحصل وجوب كفائي محدود.

وبهذا الحكم تحلّ المشكلة القائلة باحتمال وجود من به الكفاية ، أو عدم وجوب حفظ النظام بتعلم الطب ، أو المشكلة القائلة : ما هي حدود الواجب

ص: 357


1- هو آية اللّه السيد كاظم الحائري ( حفظه اللّه ).

الكفائي ، إذ أنّ الولي قد عيّن حدود الوجوب الكفائي ؟

وهذا الحلّ ليس له أي عيب ، سوى عدم وجود ولي أمر مبسوط اليد في بعض المناطق التي يعيش فيها المسلمون.

ب - لا إطلاق في حرمة التشريح والنظر إلى الأجنبية لما نحن فيه :

وخلاصة هذا الوجه هو : أنّ حرمة التشريح لجسم المسلم ، وحرمة النظر الى الأجنبية المؤمنة ، وحرمة النظر إلى العورة ( من غير شهوة وتلذذ ) - كما في صورة النظر إلى عورة المماثل - إنّما هي حرمات قائمة على أساس احترام المسلمين ، وعلى هذا فحتى لو لم يكن حفظ النفس واجباً ومن مقدّماته تعلم الطب ، إلاّ أن المحرمات في حد نفسها لا اطلاق لها ؛ لفرض ما إذا كان الهدف من النظر إلى العورة أو التشريح أو النظر إلى الأجنبية هو انقاذ المجتمع الإسلامي من المشاكل (1) ، وعلى هذا يكون التحريم غير شامل لفرضنا ، مثل حرمة الغيبة فإنّها لا تشمل ما إذا كانت هناك مصلحة إسلامية عالية من حصول الغيبة فإنّها لا تكون محرمة وإن لم يوجد تخصيص يستثني هذا المورد من الحرمة ، بل يوجد هنا ارتكاز يقول : إنّ المحرمات الاحترامية لا تأتي فيما إذا كانت مصلحة اسلامية مهمة تترتب على ارتكاب الحرام ، فيكون هذا الارتكاز العرفي في حكم المخصص المتصل.

وبعبارة اُخرى : إنّ الأحكام الاحترامية - كحرمة التشريح والنظر إلى

ص: 358


1- وهذا هو التزاحم الملاكي الذي تقدّم في قلع عضو الإنسان ، كالكلية وتقديمها لآخر من أجل انقاذ حياته. ليس هو النظر إلى أقوى الملاكين كما قال الآخوند ، وليس هو النظر إلى أقوى «الخطابين » الحكمين كما قال الميرزا ، بل هو في صورة فرضنا أن الملاك لم يصل إلى الحكم، فمع هذا لا يفهم العرف الاطلاق من الحكم الآخر . مثل اعطاء كلية إلى من تعطلت كليتاه، فهنا انقاذ المريض وإن لم يكن واجباً علي لكنه يزاحم حرمة ضرره.

العورة فيما إذا كانا غير راجعين إلى الشهوة - حينما تكون في النظر الاجتماعي مزاحمة لمصلحة اجتماعية مهمّة فالعرف لا يرى محلا لهذا الاحترام ، فيكون دليل الحرمة منصرفاً عن هذه الموارد.

ولنضرب لذلك امثلة حتى يتوضّح المقصود :

1 - لو ادّعي على بنت باكر انّها زانية ، وكان هناك شهود على هذه الدعوى ، ولكن البنت تنكر الزنا ففي هذه الصورة يكون عرضها على الطبيبة مزيلا للمشكلة ، إلاّ أن الفحص والنظر إلى العورة حرام ، وتحمّل الحدّ ليس حراماً ، فلو لم ننظر إلى ما قلناه ( في فرع ب ) فقد يقال : يجب عليها تحمّل الحدّ ، ويحرم النظر عورتها.

ولكنّ الفهم العرفيّ الاجتماعيّ لا يقبل ذلك ، حيث يفهم العرف أن حرمة النظر إلى عورتها من قبل الطبيب ليس إلاّ لاحترامها ، والعرف يرى أنّه لا محلّ لهذا الاحترام هنا حيث زوحم بأمر مهم جداً « رفع التهمة عنها » بواسطة النظر العورة.

ولهذا نقول : إنّ الحكم التحريمي الاحترامي يتخصّص بهذا الارتكاز العرفي ، فلا يكون شاملاً لما نحن فيه ، إذ العرف العقلائي يسفّه الحكم بعدم تعلم الطب ؛ لتوقفه على النظر المحرم أو التشريح المحرم ، والمفروض أنّ الحكم بحرمة النظر والتشريح ليست تعبدية محضة حتى يقال : لا مجال لنظر العرف فيها.

2 - إذا علمت المرأة انها إذا تزوجت فسوف تبتلى بنظر النساء إلى عورتها عند الولادة ، وبما أن أصل الزواج ليس واجباً فهل نحكم الزواج ، أو نقول : إنّ دليل الزواج وجوازه خصَّص دليل حرمة النظر إلى العورة بغير صورة الولادة ؟ (1)

الجواب : أنّنا لا نحكم بحرمة الزواج ، ولا نقول بأنّ دليل جواز الزواج

ص: 359


1- قد يقال هنا بأن الزواج في وقته جائز والنظر إلى العورة عند الولادة مضطرّ إليها في وقتها فتكون حكماً ثانوياً جائزاً لتغيّر الموضوع ، كالتيمم عند فقد الماء ، وكالقصر عند حدوث السفر.

خصص دليل حرمة النظر إلى العورة بغير صورة الولادة. بل يدّعى من الأول أن دليل حرمة النظر إلى العورة لا نظر له إلى فرض ابتلائها بالولادة ، وذلك لأنّ هذه الحرمة الاحترامية قد ابتليت بمصلحة مهمة جداً ، فحتى لو لم تكن المصلحة واجبة لا يمكن عرفاً الالتزام بالمحرم الاحترامي وترك هذه المصلحة المهمة وهي ( التزويج والولادة المتوقفة على النظر من المماثل ) ، وهذا ممّا يجعل أصل الحكم مقيداً بالارتكاز العرفي.

3 - وكذا إذا كانت المرأة في دور الحمل وقد نصحها الاطباء بمراجعة الطبيبة كل شهر مرة واحدة خوفاً من أن يتعرض الحمل أو الاُم إلى مضاعفات في دورة الحمل وكانت الطبيبة تجري الفحص الذي يستلزم النظر إلى العورة في بعض الأحيان فهل يقال بحرمة النظر والفحص لعدم وجوبه عليها ، أو يقال بجواز ذلك لما فيه المصلحة المهمة وان لم تكن واجبه ، ويكون دليل حرمة النظر إلى عورتها منصرفاً عن هذه الصور ؟

وكذا إذا اسقطت المرأة جنينها وسقط ما هو تابع للجنين ولكن فضّل الأطباء إجراء عملية « الكورتاج » لتنظيف الرحم ، فهل نقول هنا بحرمة إجراء العملية لحرمة النظر إلى العورة ، أو نقول بجواز ذلك للمصالح التي تترتب من تفضيل الأطباء إجراء العملية وان لم تكن واجبة ؟

وكذا إذا كانت المرأة لا تنجب الأطفال وكان من المحتمل قوياً الانجاب إذا راجعت المماثل من الأطباء ، وكان ذلك يستلزم إجراء الفحص أو التحليل أو الأشعة على موضع العورة والرحم فهل نقول بحرمة مراجعة الأطباء بسبب أن انجاب الأطفال ليس بواجب ، أو نقول بجواز تلك للمصلحة المهمة المترتبة من المراجعة وان لم يكن الانجاب واجباً ونخصّص دليل حرمة النظر الاحترامي بغير

ص: 360

هذه الصور ؟ وكذا إذا كانت المصلحة من تشريح هذا المسلم الذي مات ولم يعرف سبب موته ، مهمة جداً بحيث ستؤخذ الاحتياطات فيما يأتي لانقاذ كثير من البشر فيما بعد.

الظاهر : إن العرف يخصّص حرمة النظر والتشريح بغير هذه الموارد التي يكون النظر العرفي قائلاً بوجود المصلحة المهمة من مراجعة الطبيب أو فحصه أو تشريحه.

4 - وهناك أمثلة اُخرى في غير موردنا ، وهي : ما إذا توقف ردّ السلام على شخص ، وإجابته توجب منعي عن الزواج دائماً ، وعدم زواجي جائز ولكنّ ردّ السلام واجب ، فهل نقول بوجوب ردّ السلام ومنعي من الزواج ، أو نقول بأنّ وجوب ردّ السلام لا يشمل هذه الصورة ؟

ولعلّ من الأمثلة على ذلك : ما إذا علم الإنسان أنّه إذا ذهب إلى الحجّ الاستحبابيّ فسوف يبتلى في الطواف بلمس المرأة الأجنبية بدون شهوة ، واللمس محرّم ، والحجّ مستحبّ فهل يحرم عليه الذهاب إلى مكة ، أو نقول بأنّ حرمة لمس الأجنبية لا يشمل هذه الصورة ؟

مثلاً : إذا كسرت رجل امرأة وأعلمنا ولدها بالحال وأخبر بأنّه لا يتمكن من المجيء إلاّ بعد أربع ساعات لنقلها إلى المستشفى ولا يوجد مماثل ، ونحن قادرون على حملها ولمسها بدون شهوة فهل نبقي هذه المرأة في الشارع إلى أن يأتي ولدها لأنّ لمسها من دون شهوة حرام ، أو نقول أنّ الحرمة لا تشمل هذه الصورة الجائزة ، وهي نقلها إلى المستشفى من الشارع بسرعة ؟

الظاهر عدم الحرمة في هذه الصورة أيضاً.

5 - إذا توقف زواج أي انسان على فحص حيامنه للتأكد من أنها قادرة على تلقيح البويضة ، وهذه العملية قبل الزواج متوقفة على الاستمناء المحرم ، فهل نقول بحرمة العمل ومنعه من الزواج ، أو نقول : إنَّ الحرمة لا تشمل هذه

ص: 361

الصورة ؟

الجواب : أنّه لا إطلاق لحرمة الاستمناء لهذه الصورة.

تنبيهات :

1 - لو أنّ أحداً شك فيما قلناه فهل الشك في صالح حلية النظر والتشريح أو في حرمتهما ؟

والجواب : أنّ الشك هنا يكون شكاً في مخصّص متصل وهو ( الارتكاز العقلائي ) ، وعلى هذا يشك في وجود الاطلاق فلا تحريم في هذه الموارد.

2 - بالنسبة لخصوص التشريح فإنّه يمكن استيراد جثث من بلاد الكفر لاجراء الأبحاث العلمية للطلاب عليها ، ونحن نعرف أنَّ حرمة التشريح هي لخصوص جسم المسلم ، فهل يجب علينا استيراد الجثث للتشريح من بلاد الكفر ؟

الجواب : أنّ كلامنا المتقدّم في منع الاطلاق عرفاً لا يفرق فيه بين تشريح جسم المسلم والكافر ؛ لأنّ المصلحة المهمة الاجتماعية ( تعلم الطب وحلّ مشاكل الاُمّة ) وان افترضنا أنّها لم توصل الحكم إلى الوجوب لمصلحة التسهيل على العباد في جعل تعلم الطب ليس واجباً إلاّ أنّ هذه المصلحة الاجتماعية تجعل الحرمة الاحترامية غير شاملة لما نحن فيه ، ولكن في خصوص حرمة التشريح فليس عندنا إلاّ تكليف واحد وهو حرمة تشريح جسم المسلم ، أمّا الميت فلا تكليف عليه ، وحينئذ إذا أمكن للدولة الإسلامية استيراد جثث للأطباء يقيمون عليها تجاربهم فيصل المجتمع الإسلامي إلى هدفه من تطوير الطب مع عدم الوقوع حتى في المحرم الاحترامي للمسلم ، فهو ليس ببعيد عن الذوق الفقهي.

وطبيعيّ : أنّ هذا الكلام لا يشمل ما إذا مات المسلم الذي كان تحت اشراف الأطباء ولم يعرف سبب موته ، وبالتشريح يعرف السبب ، فإنّه يجوز تشريحه لما

ص: 362

قلناه سابقاً.

3 - امرأة مريضة وأمامها طبيب وطبيبة فهل يجوز لها أنّ تعرض نفسها على الطبيب مع وجود الطبيبة ؟

فعلى مسلك المشهور القائل بالتزاحم الحكمي بين وجوب العلاج وحرمة النظر لا يكون هنا تزاحم أصلاً إذ يحرم عليها أن تعرض نفسها للنظر ويجب عليها العلاج عند الطبيبة.

نعم ، إذا افترضنا أنه لا يوجد إلاّ الطبيب فهنا يأتي التزاحم الحكمي بين وجوب العلاج وحرمة النظر ، وقد يقال بوجوب تقديم العلاج على حرمة النظر إذا كان وجوب العلاج أهم ، وكذا الأمر إذا كان الطبيب أكثر حذاقةً وعلماً وتجربة من المرأة ، بحيث يصدق أنَّها مضطرة إليه ، كما ذكرت ذلك الروايات كما تقدم ذلك.

أقول : إنّ التزاحم بين المصلحة والمحرم غير موجود هنا ايضاً ، حيث يمكن احترام المرأة بعدم نظر الطبيب لها وعلاجها من قبل الطبيبة ، فلا يجوز في هذه الحالة عرض المرأة نفسها على الطبيب فيما إذا كان الطبيبان في مستوىً واحد من العلم وأمكن الوصول إلى أي واحد منهما ، بحيث لم يصدق عنوان الضرورة مراجعة الطبيب ، كما تقدّم ذلك (1).

ص: 363


1- هذا ولكن من العجب وجود فتوى نُسبت إلى السيد الخوئي رحمه اللّه ذكرت في كتاب منية السائل : ص 119 ظاهرها يُجوّز علاج المؤمنات من قبل الرجل وإن لم تكن ضرورة للمرأة إلى ذلك ، وإليك السؤال والجواب : س : بعض طلبة الطب الفيزيائي يتعلمون مادة التدليك والذي يؤدي إلى أن يمس جسد الأجنبية ولا يُرعى في الجامعة التي هو فيها مسألة الاعتبار الشرعي، بحيث لو رفض قد يؤدي ذلك إلى رسوبه في الامتحان مما يوجب ضرراً عليه، فهل يجوز له القيام بهذا العمل ؟ ج : إذا كان يعلم أو يطمئن بأنه ستؤول مهنته وتكون مصدر علاج المصابات المؤمنات وحفظ حياتهن فلا بأس بما لا يثير له. ( انتهى ) وحسب الظاهر لابدّ من تقييد هذه الفتوى بصورة ضرورة النساء إلى المعالجة عند الرجال ، أو ضرورة معالجة الرجل للمرأة.

التشريح :

اشارة

تقدّم الكلام في حرمة التشريح وحلّيته ، حيث قلنا : إنّه محرم إذا لم تكن هناك مصلحة مهمة للمجتمع ، كتعلم الطب الذي يحتاجه المسلمون ، أو إذا لم تكن هناك مصلحة مهمة للميت نفسه حيث كان مشكوك القتل ويعرف قاتله ، أو سبب موته بواسطة التشريح ففي غير هذه الحالات يكون التشريح محرّماً ؛ للأدلة التي دلت على احترام المسلم حتى بعد موته ، أمّا في هذه الحالات التي يكون في تشريحه فوائد مهمة جداً للمجتمع أوْ له فلا يكون تشريحه محرماً ، لانصراف الأدلّة الدالّة على التحريم في غير هذه الفوائد الجسيمة. وهذا كلّه تقدّم في مبحث تعلم الطب المتوقف على محرم.

أمّا الآن فنريد أن نعرف أنّ هذه الحرمة التي ارتفعت هل ترفع الدية التي أثبتتها الروايات للمشرّح لجسم المسلم الميت ؟

الجواب : أنّ الدية لا ترتفع بارتفاع الحرمة ، وذلك لأنّ الدية تثبت إذا ثبت الجرح لجسم الميت ، فإنّها تثبت لموضوعها وإن كان حلالا ، ولذلك رأينا أن نتعرّض - ولو اجمالاً - للدية التي تكون على المشرح لجسم الميت ، فنقول :

في قطع رأس الميت المسلم الحُر مائة دينار :

وهذا هو المشهور وهو عشر الدية ، وكذا الحكم لو قطعنا ما لو كان حياً لم يعش مثله ، والدليل على ذلك الروايات :

منها : صحيحة حسين بن خالد ، قال : « سألت أبا الحسن علیه السلام فقال : إنّا روينا عن أبي عبد اللّه ( الإمام الصادق علیه السلام ) احب أن اسمعه منك قال علیه السلام : وما

ص: 364

هو ؟ قلت : بلغني أنّه قال في رجل قطع رأس ميت قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ اللّه حرّم من المسلم ميتاً ما حرم منه حياً ، فمن فعل بميت ما يكون في ذلك اجتياح نفس الحي فعليه الدية ، فقال : صدق أبو عبد اللّه علیه السلام هكذا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . قلت : من قطع رأس رجل ميت أو شق بطنه أو فعل به ما يكون في ذلك الفعل اجتياح نفس الحي فعليه دية النفس كاملة ؟ فقال : لا ، ثم أشار اليَّ بإصبعهِ الخنصر فقال : أليس لهذا دية ؟ قلت : بلى فتراه دية نفس ؟ قلت : لا ، قال : صدقت. قلت : وما دية هذه إذا قطع رأسه وهو ميت ؟ قال : ديته دية الجنين في بطن اُمّه قبل أن ينشأ فيه الروح ، وذلك مائة دينار ، قال : فسكَتُّ وسرّني ما أجابني به. فقال علیه السلام : لم لا تستوف مسألتك ؟ فقلت : ما عندي فيها أكثر ممّا اجبتني به إلاّ أن يكون شيء لا أعرفه. فقال : دية الجنين إذا ضربت اُمّه فسقط من بطنها قبل أن تنشأ فيه الروح مائة دينار ، وهي لورثته ، وإنّ دية هذا إذا قطع رأسه أو شقَّ بطنه فليس هي لورثته ، إنّما هي له دون الورثة ، قلت : فما الفرق بينهما ؟ فقال علیه السلام : إنّ الجنين مستقبل مرجوّ نفعه ، وإنّ هذا قد مضى فذهبت منفعته ، فلمّا مثّل به بعد موته صارت ديته بتلك المثلة له لا لغيره ، يحجُّ بها عنه ، أو يفعل بها من أبواب الخير والبرّ من صدقة أو غيرها » (1).

وهذه الرواية الصحيحة المتقدّمة تفسّر الروايات الصحيحة القائلة : « لأنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً » (2) والقائلة : « إنّ عليه الدية ، لأنّ حرمته ميتاً كحرمته

ص: 365


1- التهذيب : ج 10 ، ص 273 - 274 ، والوسائل : ج 19 ، ب 24 من ديات الأعضاء ، ح 2.
2- المصدر السابق : ح 4.

حياً » (1) فإنّ لسان الصحيحة المتقدّمة هو لسان تفسير.

ومنها : مرسلة محمد بن الصباح - التي يمكن أن تكون مؤيدة لما تقدّم - عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « أتى الربيع أبا جعفر المنصور - وهو خليفة - في الطواف فقال : يا أمير المؤمنين ، مات فلان مولاك البارحة فقطع فلان مولاك رأسه بعد موته. فاستشاط وغضب ، قال : فقال لابن شبرمة وابن أبي ليلى وعدّة من القضاة والفقهاء : ما تقولون في هذا ؟

فكل قال : ما عندنا في هذا شيء ، فجعل يردّد المسألة ويقول : أقتله أم لا ؟

فقالوا : ما عندنا في هذا شيء.

قال : فقال له بعضهم : قد قدم رجل الساعة فإن كان عند أحد شيء فعنده الجواب في هذا ، وهو جعفر بن محمد علیهماالسلام ، وقد دخل المسعى.

فقال للربيع : اذهب إليه وقل له : لولا معرفتنا بشغل ما انت فيه لسألناك أن تأتينا ، ولكن أجبنا في كذا وكذا.

قال : فأتاه الربيع - وهو على المروة - فأبلغة الرسالة.

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : قد ترى شغل ما أنا فيه ، وقبلك الفقهاء والعلماء فأسألهم.

قال له : قد سألهم فلم يكن عندهم فيه شيء.

قال : فردّه إليه.

فقال : أسألك إلاّ أجبتنا ، فليس عند القوم في هذا شيء.

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : حتى أفرغ ممّا أنا فيه.

فلمّا فرغ جلس في جانب المسجد الحرام فقال للربيع : اذهب إليه فقل له : عليه مائة دينار.

ص: 366


1- المصدر السابق : ح 6.

قال : فأبلَغْه ذلك.

فقالوا له : فاسأله كيف صار عليه مائة دينار ؟

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : في النطفة عشرون ديناراً ، وفي العلقة عشرون ديناراً ، وفي المضغة عشرون ديناراً ، وفي العظم عشرون ديناراً ، وفي اللحم عشرون ديناراً ، ثم أنشاناه خلقاً آخر ، وهذا هو ميت بمنزلته قبل أن ينفخ فيه الروح في بطن اُمّه جنيناً.

قال : فرجع إليه فأخبره بالجواب فأعجبهم ذلك.

فقالوا : ارجع إليه وسله الدنانير لمن هي ؟ لورثته أو لا ؟

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : ليس لورثته فيها شيء ، إنّما هي شيء صار إليه في بدنه بعد موته ، يُحجُّ بها عنه ، ويُتصدّقُ بها عنه ، أو يصير في سبيل من سبل الخير » (1) الحديث.

قطع الجوارح :

إنّ تنزيل الميت منزلة الجنين يوجب الرجوع إلى دية الجنين وأخذ النسبة منها إذا قطعت جوارح الميت ، وتدل عليه أيضاً صحيحتا عبد اللّه بن سنان وعبد اللّه ابن مسكان المتقدّمتان ، إذ دلّتا على أن حال الميت حال الحي من حيث ثبوت الدية ، وعليه فكما أنّ في قطع يد الحي أو رجله ونحو ذلك من اعضائه دية وكذلك في قطع يد الميت أو رجله أو نحوهما من أعضائه ، وقد فسّرت هاتان الصحيحتان في صحيحة حسين بن خالد المتقدّمة القائلة : إنّ ديّة الميت هي دية الجنين قبل ولوج الروح ، وواضح ثبوت الدية في اعضاء الجنين وجوارحه (2) قبل ولوج الروح.

ص: 367


1- الكافي : ج 7 ، ص 347 - 348 ، والتهذيب : ج 10 ، ص 270 - 271.
2- ففي معتبرة ظريف عن أمير المؤمنين علیه السلام « ... وقضى في ديّة جراح الجنين من حساب المائة على ما يكون من جراح الذكر والاُنثى والرجل والمرأة كاملة » بتقريب : أنّ جعل الدية فيها من حساب المائة لا يكون إلاّ بعد ما كان الجنين تام الخلقة وله اعضاء متمايزة قبل ولوج الروح ، فإنّ ديته عندئذ مائة دينار ، وعليه فدية قطع اعضائه على نسبة مائة دينار. راجع وسائل الشيعة : ج 1. ب 19 من دية الأعضاء ، ح 1.

وأمّا ما ورد من أنّ حرمة الميت أعظم من حرمة الحي كما عن الإمام الصادق علیه السلام حينما سئل عن رجل كسر عظم ميت ، فقال « حرمته اعظم من حرمته وهو حي » فهو لا ينافي أن تكون ديته دية الجنين ؛ لأنّ هذه الرواية هي من الاعتبارات الأدبية لا القانونية ، فيراد منها : أنّ الإنسان لا يقدم على كسر عظم الميت ، بينما يقدم على كسر عظم الحي ، فهي اعتبار أدبي منفّر للعمل الإجرامي في كسر عظم الميت ، ونحن هنا نتكلم عن الدية التي هي اعتبار قانوني.

الجناية إذا لم تكن مقدّرة :

وإذا لم تكن الجناية مقدرة في الروايات فلابدّ من أخذ الأرش ، وكيفيته أن يأخذ نفس الأرش لو كان حياً وينسبه إلى الدية ، ويأخذ النسبة ويخرجها من المائة دينار.

الوارث لا يرث من هذه الدية :

وقد تقدّمت رواية حسين بن خالد الصحيحة ، وقد دلّت على أنّ هذه الدية التي كانت بسبب جرح جسم الميت لا تعطى إلى الورثة ، بل تصرف في وجوه القُرَب ، بل حتى لو كان الميت عبداً فلم يكن لسيده شيء من الدية ، وذلك لزوال ملكه عنه بالموت ، بل حتى إذا كان على الميت دين فلا يخرج منها ؛ لأنّ الدين يخرج من التركة ، وهذه ليست تركة ولذا فهي لا تورث.

ولكن الصحيح قضاء الدين منها إن كان ولم تكن تركة ، أو لم يفِ الوارث

ص: 368

عصياناً ؛ وذلك لبقاء خطاب الوضع في ديته وإن سقط خطاب التكليف.

العلاج التجميلي

اشارة

يمكننا أن نعدّ أمثلةً للعلاج التجميلي لتكون مصاديق لهذا العنوان العام حتى إذا ما حكمنا على هذا العنوان العام بحكم شرعي يكون سارياً في المصاديق التي ذكرناها والتي لم نذكرها ممّا ينطبق عليها العنوان العام. فمن أمثلة العلاج التجميلي :

1 - الوشم : وهو النقش الأخضر أو الأزرق على الجسم بواسطة الإبر ، فيتراءى بياض سائر البدن وصفاؤه أكثر ممّا كان يرى لولا هذا النقش.

2 - الوشر : وهو التحديد والتقصير ، فوشر الأسنان هو تحديدها وتقصيرها.

3 - التفلّج : وهو الانفراج ما بين الأسنان.

4 - ترقيق الحواجب.

5 - تطويل الشعر بواسطة وصل الشعر بالشعر ، أو وضع الشعر على الشعر ( الباروكة ).

6 - صبغ الشيب ، أو صبغ الشعر.

7 - النمص : وهو الحف للمرأة التي تقلع شعر وجهها بواسطة الآلة.

8 - إنبات الشعر على الرأس لازالة القرع ، أو إنبات الشعر على الجسم لازالة أثر الحرق.

والخلاصة : هو كل عمل في جسم الإنسان يُعدّ تجميلا له أو إزالة العيب عنه ، ولابدّ لنا من معرفة الحكم الشرعي للعلاج التجميلي ، وذلك بمعرفة القاعدة الأولية أولاً ، ثم نعقب على ذلك بما ورد من النصوص الشرعية التي يظنّ أنّها

ص: 369

واردة فيه.

القاعدة الأولية لعلاج التجميل :

إنّ علاج التجميل إذا لم يقترن بأمر محرم - مثل نظر الرجل إلى المرأة أو مسها - ولم يكن القصد منه غش الآخرين المحرم الذي يُظهر الأمة - مثلاً - أو المرأة التي يريد أن يخطبها الخاطب بمظهر الكمال عند شرائها أو خطبتها مع عدم وجود كمال فيها فهو حلال جائز ، وذلك أنّ غاية ما يحصل من العلاج التجميلي عند عدم اقترانه مع الحرام هو الزينة واظهار الكمال واخفاء العيب ، وهو أمر جائز ، بل مرغوب فيه.

وحينئذ يكون الألم في سبيل الوصول إلى هذه الغاية المطلوبة هو أمر جائز إذا لم يصل إلى حد التهلكة في النفس ، وما أكبر ما يحصل عليه الإنسان حينما يزيل الألم النفسي أو يجلب المتعة النفسية التي تحصل من بعض عمليات التجميل.

ومن أمثلة هذا العمل هو أن تفعل الزوجة هذه العلاجات لأجل زوجها ، أو الذهاب إلى حفل نسائي ، فهو وان انطبق عليه عنوان الغش إلاّ أنّه غش حلال كمن يخفي عيوب داره ويخلط السمن الجيد بالردئ لأجل غذائه الخاص.

وأمّا إذا اقترن علاج التجميل بأمر محرم - كنظر الرجل إلى المرأة المحرمة أو مسها أو كان القصد من العلاج هو غش الآخرين المحرم كمن يعمل هذه العلاجات في جاريته ليبيعها بثمن اكبر حيث يظهرها بمظهر الكمال مع عدم وجود الكمال فيها ، أو كانت تعمله المرأة الحرّة لأجل أن توقع الخاطِب في خطبتها - فهو أمر محرّم لحرمة النظر واللمس ، ولانطباق عنوان الغشّ المحرّم على هذه الأفعال ، وقد ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ليس منّا من غشّنا ».

ص: 370

ما ورد من النصوص الشرعية التي يظن أنّها تمنع من العلاج التجميلي :

نقول : إنّ ما ورد من الروايات في منع بعض مصاديق العلاج التجميلي مثل :

1 - لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « الواشمة والمستوشمة ، والواشرة والمستوشرة ».

2 - لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « المتفلّجات للحسن ، والمغيرات خلق اللّه ».

3 - لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « النامصة والمنتمصة ».

4 - لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « الواصلة والمستوصلة » (1).

تحمل كلّها على اقتران هذه العلاجات بأمر محرّم مثل الغش المحرم أو ما شابه ذلك.

ودليلنا على ذلك : أنّ اللعن الوارد في الروايات ظاهر في الحرمة وليس صريحاً فيها ، حيث إنّ اللعن لغةً من الإبعاد المطلق ، وحينئذ إذا دلّت الأدلّة على جواز أو استحباب تزيين المرأة لزوجها ، أو لأجل الذهاب إلى حفل نسائي مثلاً ، فيكون هذا قرينة على صرف الحرمة الظاهرة في الأحاديث إلى صورة الغش أو اقتران هذه الأعمال ببعض المحرّمات ، أو نقول بكراهة التزيين في غير الموارد التي دلّ الجواز على استحبابها.

والذي دعانا إلى هذا الكلام ولم نقل : « إنّ التزيين إذا كان جائزاً بصورة مطلقة وقد ورد التحريم في بعض أفراده ، فنخصّص الجواز بغير مورد التحريم » هو تذييل اللعن الوارد في المتفلّجات بقوله « المغيِّرات خلق اللّه » ونحن نعلم لما تقدّم : أنّ المراد من خلق اللّه في هذه الرواية هو دين اللّه ، كما جاء في آية النساء (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ

ص: 371


1- راجع وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 19 ممّا يكتسب به ، ح 7 وغيره.

يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) (1). وقال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (2).

إذن المراد بتغيير خلق اللّه هو الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف ، وذلك بتحليل الحرام الذي حرمه الشارع المقدّس ، وبما أن الحرام هو الغش وليس التزيين نفهم من الروايات المتقدّمة أن المراد بالمحرم هو الغش ، والمراد باللعن هو خصوص حصول المحرم من هذه الأعمال ، أمّا التزيين الذي يحصل من هذه الأعمال فهو ليس فيه تغيير لدين اللّه ، حيث يكون جائزاً بأدلّته الكثيرة ، فلا يكون مشمولاً للروايات اللاعنة ، كما أن الروايات اللاعنة لا تشمل التزيين.

ولو أصر إنسان على أن المراد من آية (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) هو حرمة تغيير ما خلق اللّه من اشياء ، فلازم ذلك أن نحرّم حلق الرأس والشعر من الجسم ، ونحرم فتح الجسور والطرقات وبناء الأسواق وشق الأنهار وما إلى ذلك ، ويلزمنا أن نفتي بحرمة تعديل الشارب ولبس الثياب ؛ لأنّه تغيير لخلق اللّه سبحانه ، وهذا ما لا يقول به أحد.

أضف إلى ذلك الروايات الواردة في تحسين الوجه وصبغ الشيب بالحنّاء والسواد ، والحثّ عليه ، وقد ورد « لا بأس على المرأة بما تزيّنت به لزوجها » ففي رواية سعد الأسكاف قال : « سئل أبو جعفر ( الإمام الباقر علیه السلام ) عن القرامل التي تضعها النساء في رؤوسهن يصلن شعورهن ؟ قال : لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها ، قال : فقلت بلغنا أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعن الواصلة والمستوصلة ، فقال : ليس هنالك ، إنّما لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الواصلة التي تزني

ص: 372


1- النساء : 119.
2- الروم : 30.

في شبابها ، فإذا كبرت قادت النساء إلى الرجال ، فتلك الواصلة والموصولة » (1).

ثم إنّ هذه الروايات الواردة في اللعن للواشمة والنامصة والواصلة والمفلّجة بين مرسل ومسند لم تثبت حجيته لضعف السند ، وحينئذ نبقى على أصالة الإباحة عند الشك في الحرمة ، وهي التي اقتضتها القاعدة الأوليّة.

أحكام الترقيع :

اشارة

قد يكون من العلاج التجميلي ترقيع جسم الإنسان الحي بجسم إنسان آخر حيٍّ أو ميّت ، وقد يكون العلاج بقطع جزء من جسم وإلحاقه بمكان آخر ، كما يكون بقطع جزء من جسم الحيوان ليرقع به جسم الإنسان ، وهذا الحيوان قد يكون نجس ، وقد يكون طاهر العين.

1 - الترقيع من جسم إنسان حيٍّ لجسم إنسانٍ آخر :

نقول : إنّ كان الجزء المقلوع من الأعضاء الرئيسية للبدن كالعين والكلية واليد والرجل أو ليس كذلك بل من قبيل قطعة جلد أو لحم فإنّ كل هذا هو أمر جائز إذا كان برضاً من صاحب الجسم المقلوع منه ، وأما الضرر المتوجّه إلى الجسم المقلوع منه فهو إنّما يكون حراماً في غير صورة الإضرار بالنفس ، أو في غير هذه الصورة التي فيها نفع لإنسان آخر قد يكون بمستوى انقاذ حياته في بعض الصور ، فيكون حديث « لا ضرر ولا ضرار » منصرفاً لغير هذه الصورة التي فيها ايثار للغير على نفسه.

كما أنّ العضو إذا كان مريضاً وقرّر الأطباء قلعه فيجوز ذلك بلا كلام ، ولا يشمله حديث لا ضرر فكذلك ما نحن فيه إذا كان القلع قد نضر فيه إلى إنقاذ حياة

ص: 373


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 19 من أبواب ما يكتسب به ، ح 3.

إنسان مسلم أو مساعدته في تدبير اُموره الحياتية مثلاً. ونفس الحكم فيما إذا قُلِعَ جزءٌ من جسمه ليوضع في مكان آخر لنفس الدليل المتقدّم.

وأمّا ما قيل من عدم الجواز لاستلزام أن يكون بجسم المرقع قطعة من الميتة إذا كانت ظاهرة فهي تمنع من صحة الوضوء أو الغسل فهو أمر ضعيف ، لأنّ قطعة الميتة إذا لصقت بجسم الإنسان المرقع فيه فهي تحسب جزءاً من جسمه ، ولا ينطبق عليها عنوان الميتة بعد ذلك.

2 - الترقيع من جسم إنسانٍ ميّتٍ لجسم إنسانٍ حي :

وهذا ينقسم إلى قسمين ، إذ أنّ الأموات مرّةً من المسلمين ومرّةً من غيرهم ، فأمّا الميت المسلم فلا يجوز أخذ قطعة من بدنه لإلحاقها ببدن الحي ، وذلك لأنّ اللّه سبحانه قد جعل للميت حرمة ، وجعل الاعتداء عليه حراماً وله دية ، وهذا الحكم باق حتى إذا انتفع فرد من هذا الاعتداء بالقلع أو القطع.

ولكن قد يقال : إنّ حكم حرمة الميت احترامية ، فإذا حصل من أخذ جزء من جسمه إنقاذ إنسان مسلم على وشك الموت فهل تنصرف أدلّة حرمة الميت عن هذه الحالة ؟

الجواب : ليس من البعيد اختصاص أدلّة حرمة جرح الميت وقطع رأسه وتشريحه بصورة المثلة والتهتك واشباهها ، فمع وجود نفع كبير جداً كإنقاذ نفس مسلمة من الهلاك بأخذ جزء من جسم الميت لا يكون ذلك حراماً ، استناداً التزاحم الملاكي الذي تقدّم ذكره ، وحتى لو كان هذا هو أمر حرام إلاّ أنّه إذا توقّف إنقاذ مسلم على ذلك فيتزاحم الواجب والحرام ، وطبعاً يتقدّم حفظ حياة المسلم على حرمة هتك الميت. ولكن ينبغي أن نلتزم بالدية على القاطع ؛ لعدم المنافاة بين جواز القطع والقلع ووجوب الدية.

وفي هذه الصورة أيضاً تكون العين أو ما شابهها بعد ذلك جزءاً من جسم

ص: 374

الحي.

ثم إنّ الميت يتمكّن أيضاً من أن يوصي بأخذ عينه بعد موته لإلحاقها ببدن الغير ، وفي هذه الصورة لا تثبت الدية على القاطع (1) ، ودليل ذلك هو : أنّ الميّت له حقّ في أن يسقط حقّه في احترامه حيّاً وميّتاً بشرط أن لا يصل إلى ذلّه ومهانته ، وعلى هذا يجوز له أن يوصي بهذه الوصايا التي ترجع عليه بالنفع والثواب.

ونفس الكلام نقوله فيما إذا كان الميت كافراً أو مشكوك الإسلام ، ولكن هنا لا توجد دية على قاطع الجزء منه ، لعدم الاحترام للكافر الميت.

3 - الترقيع بعضو من أعضاء بدن الحيوان :

سواء كان نجس العين أو طاهراً فإنّه جائز ، وتترتب عليه أحكام بدن الحي بعد ذلك لصيرورته جزءاً من بدن الحي. وجواز هذا العمل ينبع من عدم الاحترام للحيوان ، سواء كان نجس العين أو طاهرها ، فإذا ترتبت منفعة على الترقيع به فهو جائز.

العلاج بالرقى ( العلاج الروحي )

إنّ من المعلوم وجود أمراض نفسية يبتلى بها بعض الأفراد ، وهي بحاجة علاج نفسي ، لذا يمكننا أن نقسم الأمراض قسمين :

1 - مرض جسمي يبتلى به العضو نتيجة لعوارض خارجية ، كالميكروب ، أو التعرض للبرد وما شابه.

2 - مرض نفسي تبتلى به النفس الإنسانية ، وقد يؤثر هذا المرض النفسي

ص: 375


1- ذهب إلى ذلك الإمام الخوئي رحمه اللّه ، منهاج الصالحين : ج 1 ، ص 426 « أحكام الترقيع ».

على بعض اعضاء الإنسان فتمرض تبعاً للمرض النفسي الذي حلّ بها ، فهل يجوز في هذين القسمين العلاج بالرقى والتمائم ، أو بما يسمى بالعلاج الروحي والنفسي ؟

الجواب :

1 - إذا كانت الوقاية أو العلاج من الأمراض النفسية ومن الأرواح « الجن » أو من العين « الحسد » من طريق السحر والاُمور المحرمة الاُخرى فهي غير جائزة ؛ لما تقدّم من حرمة التداوي بالاُمور المحرمة إلاّ في صورة توقف العلاج عليها لنجاة نفس الإنسان من الهلاك والالآم الجسيمة.

2 - إذا كانت الوقاية أو العلاج من الأرواح الشريرة « كالجن » والعين « الحسد » أو من شر المؤذين ، أو كانت الاستعانة منها بقوى إلهية تفوق القوى الطبيعية بتدخل غيبي من الخالق المسيطر عن طريق الدعاء وقراءة القرآن فهو عمل صحيح ولا بأس به.

وتوضيح ذلك : أنّ الحسد والسحر أمران واقعيان موجودان في الخارج ، وقد صرّحت الآيات القرآنية بهما كما في سورة الفلق : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) . وقد دلّت هذه السورة القرآنية على استحباب أن يتعوّذ الإنسان برب الفلق ، وهو اللّه سبحانه من شر الخلق ومن شر الحسّاد ومن شرّ السحر (النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) ، وقد ورد عندنا أن العين حقّ « تُدخِل الرجلَ القبرَ والجمل القِدَر ».

كما أنّ الشياطين والجنّ موجودات واقعية ، ويجوز أن يتعوّذ الإنسان برب الناس من الشيطان الذي يوسوس في صدره ، وقد يكون هذا الشيطان من الجن كما يمكن أن يكون من الناس ، وقد صرّحت سورة الناس بذلك : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) .

ص: 376

ثمّ إنّ الجن على قسمين : الصالحون وغير الصالحين ، قال تعالى في سورة الجن : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) (1).

فإذا كان الإنسان يتعوذ - من الشيطان ومن الجن المفسدين ومن العين الحاسدة ومن السحر - باللّه تعالى وبالدعاء له ، وبقراءة القرآن كان ذلك أمراً جائزاً لا بأس به ، بل قد دلّت آيات الفلق والناس على استحبابه على الأقل ، وقد وردت الروايات على أن ذكر اللّه سبحانه وخصوصاً البسملة يدفع الشيطان عن الإنسان ويبعده.

ولماذا ننظر إلى الأمراض المادية التي تنشأ من التخمة والميكروب ولا ننظر الى الأمراض التي يصاب بها العقل والقلب في المبدأ والمعاد ، وما يتفرّع عليهما من اُصول ومعارف ، وهؤلاء المرضى هم الكافرون والمنافقون ، وبعض من آمن باللّه وبرسوله وشك في معاده ورجوعه إلى الحساب ، قال تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) (2) وقال تعالى : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) (3) فالمرض الذي ذكره القرآن هو نوع من الشك والريب الذي يوجب اضطراب النفس الباطنية والميل إلى الباطل واتباع الهوى.

ولهذا نقول : إنّ في قراءة القرآن والأدعية التي وردت عن المعصومين علیهم السلام تُزال أنواع الشكوك والشبهات المعترضة للحقائق والمعارف الحقيقية ، ففي القرآن من المواعظ الكافية الشافية والقصص والعبر والأمثال والوعد والوعيد والانذار والتبشير وما تنتهي إليه نتائج العلوم الصحيحة والأحكام الحقّة ما يدفع أمراض

ص: 377


1- الجن : 11.
2- الأحزاب : 60.
3- المدّثّر : 31.

القلوب ، وقد صرّح القرآن بنفسه عن ذلك فقال : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (1). وقال أيضاً : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) (2). وقد ورد في دعاء كميل الذي علمه إيّاه أمير المؤمنين علیه السلام « يا من اسمه دواء وذكره شفاء ».

بل إنّ الإنسان قد يتوسّل باللّه سبحانه لأن يتدخل بيده الغيبية لشفائه من المرض الجسماني ، وقد أكّد هذا الأمر البروفسور « الكسيس كارل » الحائز على جائزة نوبل في كتابه « الدعاء » الذي ترجمه الدكتور محمد كامل سليمان ، فقال : « إنّ نتائج الشفاء عن طريق الدعاء يستثير اهتمام الناس على مرّ العصور. وحتى يومنا الحاضر وفي الاوساط التي ما زالت تمارس الدعاء وتقوم بالصلاة ، ما زالوا يتحدّثون بإسهاب عن الأشخاص الذين تم شفاؤهم عن طريق التضرعات للباري عزّوجلّ أو لأوليائه الصالحين.

أمّا بالنسبة للأمراض القابلة للشفاء تلقائياً أو بمساعدة الأدوية والعقاقير العادية فإنّه من الصعب أن نعرف العامل الحقيقي الكامن وراء الشفاء.

إنّ المكتب الطبي التابع ل « لورد » أدّى خدمة كبيرة للعلم عندما برهن على أن حقيقة شفاء كثير من الأمراض المستعصية كان بفضل الدعاء وحده ... وهكذا فإنّ للدعوة قوةً سريعةً في الشفاء حتى يمكن تشبيهها بسرعة الانفجار.

هذا وأنّ كثيراً من المرضى تمّ لهم بفضل العاطفة الصادقة وعن طريق الدعاء تمّ لهم الشفاء من أمراض خطيرة مستعصية ، كمرض القِراض الجلديّ في الوجه ، وكالسرطان ، وتعفّن الطحال ، والقرحة ، والتدرّن الرئويّ أو السلّ العظمي ، أو السلّ في الحجاب الحاجز.

ص: 378


1- الأسراء : 82.
2- فصلت : 44.

إنّ ظاهرة الشفاء هذه كانت تحدث تقريباً دائماً بنفس الأسلوب يعاني المريض ألماً شديداً ، ثمّ يعقبه شعور بإمكان الشفاء ، وهكذا خلال بضع ثوان أو بضع ساعات على الأكثر تختفي علامات المرض ، والجروح التشريحية تلتئم لتتمّ معجزة الشفاء بعد ذلك بسرعة هائلة ، تختصر مراحل العلاج العادية بشكل مذهل ، ومن الجدير التنويه به هنا أن هذه السرعة المتناهية في مسيرة الشفاء لم يلاحظها أي أحد من الجرّاحين النطاسيين أو أخصائيي وظائف الأعضاء المشهورين خلال ما أجروا من عمليات لمرضاهم حتى أيامنا الحاضرة.

هذا ، ولكي تتم ظاهرة الشفاء بسبب الدعاء - كما سبق وأشرنا - ليس ضرورياً أن يكون الداعي هو المريض نفسه ، فإنّ هناك أطفالا صغاراً لا يستطيعون الكلام تمّت لهم معجزة الشفاء بالدعاء ، كما أنّ هناك أشخاصاً غير مؤمنين شُفُو من أمراضهم بسبب دعاء غيرهم لهم بالقرب منهم ، هذا وأنّ الدعاء للآخرين يكون دائماً أكثر نتيجةً من الشخص لنفسه (1).

إنّ نتيجة الشفاء بالدعاء وسرعة الاستجابة إنّما يتوقّفان على كثافة الدعاء أو مدى الصدق والإخلاص فيه ...

تلك هي آثار الدعاء في الشفاء التي يوجد عندي معرفة يقينية بها لانّني عايشتها عن كثب ... ولكن ينبغي أن لا يعزب عن بالنا حقيقة أنّ كلّ من يسعى لشيء لا جرم أن يصل إليه ، كما أن كل من طرق الباب يُفتح لاستقباله » (2).

فالنتيجة : أنّ قراءة القرآن والأدعية الواردة عن المعصومين سلام اللّه عليهم ،

ص: 379


1- ورد في الأخبار استحباب أن يدعو الإنسان لغيره في يوم عرفة ، فإنّ له أربعين ملكاً يؤمِّنون على دعائه ...
2- الدعاء ، تأليف البرفسور « الكسيس كارل » الحائز على جائزة نوبل ، ترجمة الدكتور محمد كامل سليمان ، ص 63 - 68.

وقراءتها والدعاء بها للغير تفيد في دفع الأمراض النفسية والجسمية ، كما أن التوسّل إلى اللّه تعالى لدفع الشر والحسد والشياطين والجن غير الصالحين يفيد في دفع المرض الذي ينشأ عن هذه الاُمور.

وحينئذ نقول : إنّ حمل الآيات القرآنية والأدعية على شكل تعويذات للتخلص من كثير من الأمراض أمر مفيد أيضاً ، كما وردت في ذلك الآثار الشرعية من قبل جميع المسلمين ، فممّا ورد في ذلك :

1 - صحيحة داود بن فرقد عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن التعويذ يعلق على الحائض ؟ قال علیه السلام : لا بأس : وقال : تقرأه وتكتبه ولا تصيبه يدها » (1).

2 - صحيحة منصور بن حازم عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن التعويذ يعلق على الحائض ؟ فقال : نعم إذا كان في جلد أو قصبة حديد » (2).

3 - وعن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام : « أنّ جبريل علیه السلام نزل على النبي صلی اللّه علیه و آله والنبي مصدَع فقال : يا محمد ، عوّذ صداعَك بهذه العوذة يخفّف اللّه عنك ، وقال : يا محمد ، من عوّذ بهذه العوذة سبع مرات على أي وجع يصيبه شفاه اللّه بإذنه ، تمسح بيدك على الموضع وتقول : بسم اللّه ربنا الذي في السماء ، تقدس ذكر ربنا الذي في السماء والأرض ، أمره نافذ ماض ، كما أنَّ أمره في السماء ، اجعل رحمتك في الأرض واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا يارب الطيبين الطاهرين ، انزل شفاء من شفائك ورحمةً من رحمتك على فلان بن فلانة وتسمي اسمه » (3).

4 - عن الإمام الباقر علیه السلام عن أبيه علیه السلام قال : « قيل لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رقى

ص: 380


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 37 من أبواب الحيض ح 1.
2- المصدر السابق : ح 3.
3- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 14 من الاحتضار ، ح 5.

نستشفى بها هل ترد قدراً من اللّه ؟ فقال : إنّها من قدر اللّه » (1).

5 - عن عبد اللّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن رقية العقرب والحية والنشرة ، ورقية المجنون والمسحور الذي يعذّب ؟ فقال : يا بن سنان ، لا بأس بالرقية والعوذة والنشرة إذا كانت من القرآن ، أوليس اللّه يقول : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ؟! أليس يقول اللّه جل ثناؤه : (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) ؟ وسلونا نعلمكم ونوقفكم على قوارع القرآن لكلِّ داء » (2).

6 - وعن محمد بن مسلم قال : « سألت أبا جعفر علیه السلام أنتعوذ بشيء من هذه الرقى ؟ قال : لا ، إلاّ من القرآن ، إنّ علياً علیه السلام كان يقول : إنّ كثيراً من الرقى والتمائم من الإشراك » (3).

7 - وقد ورد في مسند احمد والسنن ، وأخرجه الحاكم عن أبي خزامة قال : « قلت يا رسول اللّه ، أرأيت رقىً نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر اللّه شيئاً ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : هي من قدر اللّه » (4).

وغير هذه الروايات الكثيرة ، وواضح أنّ النهي عن التميمة والرقى هو في خصوص ما إذا لم ندرِ ماذا في وسط التميمة أو الرقية إذ لعلّ فيها شركاً وضلالاً ...

ص: 381


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 14 من الاحتضار ، ح 12. الرقى مفردها رقية، وهي أن يستعان بها للحصول على أمر بقوى تفوق القوى الطبيعية ، وهو معنى التدخل الغيبي في بعض الأمور الذي قد يحصل نتيجة دعاء أو توسل . التمائم مفردها تميمة، وهي خرزة أو ما يشبهها كان الأعراب يضعونها على أولادهم للوقاية من العين ودفع الأرواح الشريرة.
2- وسائل الشيعة : ج 4 ، ب 41 من قراءة القرآن ، ح 1.
3- وسائل الشيعة : ج 4 ، ب 41 من قراءة القرآن ، ح 3.
4- عن القضاء والقدر ، أبو الوفاء محمد درويش ، ص 50 طبعة ثانية 1952 م - 1371 ه.

كما هو الظاهر من تعليق المشركين لها.

من الذي يأذن بالتداوي ومن الذي لا يحتاج إلى الإذن ؟

اشارة

إنّ الإذن الذي نتكلم عنه هنا - سواء اُخذ من المريض نفسه أو اُخذ من وليه أو الحاكم الشرعي - إنّما نقصد به الموافقة على إجراء العملية والتخدير أو التداوي بصورة واعية ومدركة ، فيكون المريض على علم بآثار وأضرار ونتائج العمل الطبي والعلاج ، وذلك يحصل بشرح الطبيب للمريض شرحاً كافياً لذلك.

أمّا توقيع المريض على إجراء العملية من دون علمه بآثارها واضرارها ومدى نجاحها فهو أمر لا يجوز ، ولا يعتبر إذناً للعملية أو العلاج.

وهنا نتعرض في هذا البحث إلى معرفة الشخص الذي يعطي الإذن في التداوي. فنقول :

هناك حالات مختلفة يختلف فيها الفرد الذي يعطي الإذن في التداوي ، وهي :

1 - في الحالات المرضية التي يتعدّى ضررها إلى الآخرين ، مثل الأمراض المعدية والأمراض الجنسية والأمراض الجنونية التي تضر بالآخرين فإنَّ ولي الفقيه - المتمثّل في وزارة الصحة - هو الذي يؤخذ منه الإذن في المداواة والمتابعة وربما الحجر ، وهو الذي يحدد الواجب أو الاجبار في ذلك إنّ لم يطع الفرد الحكم الوجوبي.

2 - في بعض الحالات الجنونية التي يضرُّ المجنون بنفسه لعدم وعيه وادراكه فأيضاً تقوم وزارة الصحة باعطاء الإذن في المعالجة أو اجبار المريض عليها.

3 - في الحالات التي يقتصر فيها الضرر على نفس المريض فقط فلابدّ من

ص: 382

أخذ إذنه في جواز المعالجة بشرط أن يكون بالغاً عاقلا رشيداً واعياً ولا يحتاج حالة إسعاف أولية ، لعدم وجود الخطر المحدق به أو ببعض أعضائه.

4 - في حالة الطوارئ لانقاذ حياة المريض أو انقاذ عضو من اعضائه فيتمكن الطبيب في هذه الحالة من المباشرة والعلاج بدون إذن أحد ، وحتى لو هلك الإنسان أو تلف العضو فلا ضمان على الطبيب ، ولا عقاب إلاّ في صورة خطئه خطاً واضحاً بحيث يعد مفرطاً أو متعدّياً ، فإنّه في هاتين الحالتين يتحمّل الضمان والعقوبة.

5 - المغمى عليه - وقد يكون الاغماء مؤقتاً بدواء أو حادثة أو غير ذلك ، وقد يكون دائماً بسبب مرض معين - لا يحتاج إلى إذن منه ، بل الولي هو الذي يأذن في العلاج مراعياً مصلحة المريض.

6 - المجنون - سواء كان جنونه دائمياً أو أدوارياً حال جنونه - يسقط اذنه في العلاج ويكون الولي هو الذي يؤخَذُ منه الإذن.

7 - القاصر : سواء كان قصره بعدم بلوغه أو عدم رشده ، ومعلوم أن البلوغ الشرعي اكمال خمس عشرة سنةً هلالية ، أو خروج المني من الرجل ، أو الانبات للشعر الخشن على العارضين أو العانة ، وأمّا البلوغ في المرأة فهو إكمال تسع سنين هلالية ، وعادةً ما يكون الإنسان البالغ غير رشيد ، فحينئذ لا اعتبار بإذنه حتى يحصل له الرشد وهو ( معرفة ما ينفعه ممّا يضره في أمور حياته ) ، وعلى كل حال فإنَّ الإذن يؤخذ من الولي.

والدليل على الأمر الرابع : هو وجود وجوب شرعي على الطبيب لانقاذ حياة الإنسان من الهلاك ، كما أن هناك وجوب على الطبيب لانقاذ أي عضو من اعضاء الإنسان عن التعطيل إذا كان على وشك التعطيل والضياع.

وأمّا المغمى عليه والمجنون والقاصر : فقد اتفقت كلمات علماء الإسلام على

ص: 383

أنّهم لا أهلية لهم حتى يُستأذنوا في شيء ممّا يرجع إلى مصلحة أنفسهم ، بل الذي يُستأذن هو الولي. والاذن من الولي يكون معتبراً ولازماً إلاّ في حالة ما إذا علمنا أن الولي يعمل بضرر المغمى عليه أو المجنون أو القاصر ، بحيث يكون عمله هذا مؤدّياً إلى هلاك الفرد ، فهنا يسقط إذن الولي وتصبح الحالة من حالات الطوارئ التي لا تحتاج إلى إذن من أحد.

8 - ولي أمر المرأة عند ولادتها : فقد تدخل المرأة إلى المستشفى لأجل وضع الحمل ، ولكن قد تصاب بعسر الولادة ( حرج الجنين ) ، وهذا الأمر يستدعي إجراء عملية جراحية لانقاذ حياة الطفل ، فهنا هل يعتبر رضا المرأة والزوج مع العلم أن العملية هي لانقاذ الطفل فقط ، وأمّا المرأة فلا خوف عليها ، إذ يمكنها أن تلد طفلا ميتاً أو مصاباً نتيجة تأخره في الرحم ؟

الجواب : أنّ الاطباء إذا شخّصوا أن الطفل على وشك الهلاك إذا لم يسعف باجراءات لإنقاذه فيمكن هنا تطبيق حالة الطوارئ عليه ، وبما أنَّ المرأة لا تهلك بفتح بطنها ولا يمكن انقاذ الطفل إلاّ بذلك فيقع التزاحم بين حفظ الطفل الواجب ، وحرمة شق بطن الاُم إذا مانعت أو مانع زوجها ( الولي ) ، وبما أنَّ وجوب حفظ حياة الطفل أولى من حرمة إجراء عملية للمرأة بدون رضاها فيمكن للطبيب أن يجري العملية لانقاذ حياة الطفل بدون رضا المرأة أو زوجها أو بدون رضاهما معاً.

وقد تحتاج الزوجة إلى إجراء عملية مستعجلة ، ولا يوجد إلاّ طبيب رجل ، فهل من حقّ الزوج أن يرفض إجراء الطبيب الرجل للعملية بحجّة كشف العورة أمام الرجل أو لاي حجّة اُخرى ؟

الجواب : أنّ الضرورة إذا حصلت عرفاً فتجوز للمرأة أن تعرض نفسها أمام الرجل ، ولكن لا يجوز للرجل أن يجري العملية إلاّ برضا المرأة ، وتدل عليه صحيحة أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن المرأة المسلمة

ص: 384

يصيبها البلاء في جسدها إمّا كسر وإمّا جرح في مكان لا يصلح النظر إليه يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء أيصلح له النظر إليها ؟ قال علیه السلام أمّا إذا اضطرت إليه فليعالجها إن شاءت » (1).

ولكن لا بأس بالاشارة إلى أن رضا المرأة معتبر في إجراء العملية لها ما لم يصل الأمر إلى تطبيق حالة الطوارئ ، لكون الجنين أو اُمّه على وشك الهلاك.

علاج الحالات الميؤوس منها :

إنّ تشخيص حالات اليأس من العلاج قد تصدر من نفس المريض الكامل الأهلية ، كما قد تحصل لدى الولي ، كما قد تطمئن قلوب الأطباء من عدم فائدة العلاج لهذا الإنسان الذي يعيش ساعاته الأخيرة ، فهل يحقّ :

1 - للرشيد أن يفهم الحاضرين بأنّه لا يريد إجراء أي نوع معين من التداوي بعد أن يتيقن عدم فائدة العلاج له ؟

2 - وهل يحقّ للمولى أن يقرر ترك التداوي للمولّى عليه ( وهو فاقد الأهلية كالطفل والمجنون والصغير وغير الرشيد ) بحجّة انه قد قطع بعدم فائدة العلاج ؟

3 - وهل يحقّ للأطباء في المستشفيات وغيرها أن يقرروا ترك التداوي بحجّة أنّها حالة ميؤوس منها ؟

ولنعرض هنا بعض الحالات التي قد تكون ميؤوساً منها :

1 - لو فرضنا أن رجلاً كبير السن قد اصيب بانواع من الشلل وجلطة القلب وتعطّلت الكلى عن العمل ، ولا أمل في تحسّن حاله ، فإذا اصيب مثل هذا الشخص بتوقف مفاجئ لضربان قلبه فهل يجوز عدم اسعافه ليلاقي حتفه ، أم لابدّ من استخدام اجهزة القلب أو التنفس الاصطناعي لاعادة عمل القلب مرّةً ثانيةً مع

ص: 385


1- وسائل الشيعة : ج 14 ، ب 130 من مقدّمات النكاح ، ح 1.

القطع بعدم تحسّنه أصلا ؟

2 - رجل فقد وعيه بسبب من الأسباب ، وهو يعيش عن طريق التغدية الانبوبية عبر المعدة ، ويفرز بوله بواسطة الانابيب ، ومصاب بالتهاب رئويٍّ حادٍّ وجلطة في القلب ، ولا أمل في تحسن حاله في استعادته الوعي ، فإذا حدث له توقف في جهاز القلب فهل يترك من دون اسعاف أو لابدّ من اسعافه لاعادة حالة ضربان القلب ويبقى على الحالة الاُولى ؟

والجواب عن هذه الأسئلة : أنّنا نفرّق بين حالات ثلاثة :

1 - ترك علاجه وهو على قيد الحياة بحجّة أنَّ حالته ميؤوس منها.

2 - ترك الاسعافات الأولية بعد توقف قلبه عن الحركة ، بحجة أن حالته ميؤوس منها.

3 - اعطاء المريض الذي يدّعى أنّ حالته ميؤوس منها بعض الأدوية التي تؤدّي إلى توقف قلبه عن العمل.

أمّا الصورة الاُولى فينطبق عليها عنوان التفريط في حفظ حياة المريض ، وهو أمر محرم حتى إذا طلبه الرشيد الواعي ، بل يعتبر من الاعانة على القتل العمدي والظلم لنفس المريض.

وكذا الصورة الثالثة ، فإنّها عبارة عن قتل عمدي للمريض ، وهو ما يسمّى بقتل الرحمة الايجابي ، وهو أمر محرّم حتى إذا طلبه الرشيد الواعي.

أمّا بالنسبة للصورة الثانية فهو ما يسمّى بقتل الرحمة السلبي ، فهو لا ينطبق عليه الاعانة على القتل لاننا حسب الفرض قمنا بالعلاج حينما كان على قيد الحياة ، ولم نقم بعمل ايجابي يؤدّي إلى قتله وتوقف قلبه ، وإنّما توقف قلبه فجأةً فحصل الموت إلاّ اننا لم نقم بالاسعافات اللازمة لاحتمال عودته إلى الحياة بإرجاع دقات القلب ، فإن كان الأطباء قد قرروا اليأس من العلاج بعد الموت فهو أمر جائز ولا

ص: 386

دليل على حرمته ، وكذا إذا كان الولي أو المريض يعدّ قوله من أهل الخبرة والاختصاص فإنّه لا حرمة في قراره بترك المعالجة إذا توقّف القلب عن الحركة فجأةً لتيقّنه بأنّ العلاج غير مفيد مع كونه من أهل الخبرة.

التزاحم في العلاج

هل يجوز للطبيب أو أي مسؤول في المستشفى أن يرجّح مريضاً على غيره في الاستفادة من الآلات المعدّة للمرضى بحجّة أنّ هذا المريض شاب في مقتبل العمر وأنَّ ذاك شيخ كبير لا يقين بشفائه بخلاف الشاب المريض ؟ أي إذا كانت اجهزة العلاج كأجهزة القلب والتنفس الاصطناعي محدودة يحتاج إليها من ليست حالته مؤدّية إلى اليأس من البرء ، أو يحتاج إليها الشاب والشابة مع الشيخ والشيخة ، كما يحتاج إليها العالم والسياسي والغني مع غير العالم وغير السياسي وغير الغني ، فهل في هذه الحالة نقدّم من كانت حالته غير مؤدّية إلى اليأس من البرء ، أو نقدّم الشاب والشابة ، أو نقدّم العالم والسياسي والغني ونترك من كانت حالته ميؤوس منها أو كان شيخاً أو شيخة أو غير عالم وغير سياسي وغير غني مع تقدمهم في الدخول الى المستشفى واستخدام أجهزة العلاج ؟

الجواب : أنّ هذا أمر غير جائز شرعاً ؛ لما روى عن الإمام الصادق علیه السلام عن النبي صلی اللّه علیه و آله صحيحاً انّه خطب الناس في مسجد الخيف فقال : « نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها ... إلى أن قال : المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم ادناهم » (1). وبهذا المعنى روايات اُخر متعدّدة ، وقد روي هذا المعنى من طريق أهل السنة أيضاً.

ص: 387


1- وسائل الشيعة : ج 19 ، ب 31 من قصاص النفس ، ح 2.

ولو قيل : إنّ هذا الحديث الصحيح المتقدّم لا ينظر إلى هذه الحالة ، بل هو بصدد أن يقول : إنّ شخصاً مهمّاً إذا قتل شخصاً غير مهم فإنّه يقتص منه لأنّ الدماء متكافئة ، فإنّنا نقول كدليل على عدم جواز تقديم الأهم من الرجال على غيرهم : إنّه لا يوجد تزاحم أصلاً ؛ وذلك لأنّ الأسبق إلى المستشفى عندما استعمل جهاز العلاج - والمفروض عدم وجود غيره ، وقد جاء الآخر الأهم - فهنا لا يتوجّه وجوب انقاذه على المسؤول مع عدم وجود جهاز يمكن للمريض الجديد استعماله ، لأنّ الوجوب الجديد إنّما يتوجّه إلى المسؤول إذا كان قادراً على انقاذه من دون أن يؤدّي إلى هلاك شخص آخر ، وهنا المفروض لا قدرة على انقاذه بهذه الصورة فلا تكليف على المسؤول اصلاً.

فإن قيل : إنّ ترك المريض الجديد بهذه الحالة حتى يموت هو قتل له وهو غير جائز.

قلنا : إنّ الأمر يدور بين ترك هذا المريض على حالته حتى يموت - وهو ما يسمّى بالقتل السلبي - وبين أن نأخذ الجهاز من المريض القديم وننقذ حياة المريض الجديد ، فيموت المريض القديم ، وهو ما يسمّى بالقتل الايجابي المستند الى فعل المسؤول الذي سحب الجهاز من المريض القديم ، وهو أكبر جرماً من الأول ، بل نقول : إنّ ترك المريض الجديد من دون جهاز حتى يموت لا يسمى قتلاً ، ولا يستند إلى المسؤول غير القادر على اسعاف المريض.

فعلى هذا أنّ من سبق إلى المستشفى واستعمل ادوات العلاج يكون هو الأولى بها وان كان فقيراً أو غير عالم أو غير ذي منصب حكومي أو كان شيخاً أو غير ذلك ، ولا يجوز تقديم غيره عليه إذا جاء متأخراً بحيث يؤدّي الى عدم علاج الأوّل فيموت ، فإنّ هذا يعتبر من القتل العمدي الذي هو حرام شرعاً.

ص: 388

نعم ، هناك أفراد قلائل يقوم عليهم النظام الاجتماعي ، ويعتبرون المنقذين للاُمّة من خطر الجهل والاستعمار والتخلّف ، فلهم على مجتمعهم الفضل الكبير والعميم بحيث يكون فقدانهم خسارة كبيرة للاُمّة الإسلامية جمعاء ، إنّ مثل هؤلاء لا يبعد جواز تقديمهم على غيرهم عند المزاحمة بالعنوان الثانوي ، فإنّ الأمر حينما يدور بين انقاذ حياة هذا الإنسان العظيم وذلك الشخص البسيط فإنّ الأمر يدور حقيقةً بين تلف شخص واحد أو تلف اُمة بتلف قائدها ، ولا يبعد أن لا يشمل الحديث المتقدّم تكافأ هذين الدمَّين ، بل إنّ أحد الدمَّين يكون دماء متعدّدة بخلاف الدم الآخر فإنّه دم واحد.

ضمان الطبيب

هل يضمن الطبيب ما إذا أتلف المريض أو أتلف العضو الذي عالجه أم لا ؟

والجواب : هو التفصيل باختلاف حالات الطبيب :

الحالة الاُولى : قد يكون الطبيب قاصراً في عمله من حيث عدم تمكّنه من العلاج مطلقاً أو لهذه الحالة المستعصية ، وأقدم على العلاج ، ففي هذه الحالة يكون ضامناً لما يتلف بواسطة علاجه ، إذ يكون في هذه الحالة كالجاهل الذي يقدم على معالجة المرضى ، فهو بالاضافة إلى ضمانه يكون عمله محرماً أيضاً ( أي مستحقاً العقوبة الجزائية والعقوبة في الآخرة ). ودليل الضمان على الطبيب في هذه الصورة هو شمول قاعدة الضمان لكلّ متلف بغير حقّ وإذن ، خصوصاً فيما نحن فيه ( الدماء ) الذي ورد فيها « انه لا يبطل دم امرئ مسلم » (1). والضمان هنا لا فرق فيه بين الإذن من المريض في المعالجة وعدمه ، أَخَذَ الطبيب البراءة من المريض أم لا ، وذلك

ص: 389


1- وسائل الشيعة : ج 19 ، ب 46 من أبواب القصاص ، ح 2 ، وب 10 دعوى القتل وما يثبت به ، ح 5.

لأنّ في هذه الحالة يوجد نهي شرعي عن الاقدام على التطبيب ، فإذا خالف الطبيب النهي الشرعي يأتي الضمان المستند إلى اتلافه عرفاً وتأتي الحرمة ، لكن الضمان هنا بشرط جهل المريض بقصور الطبيب ، ولا يفرق هنا بين حالة الطوارئ وعدمها في الضمان والحرمة.

نعم ، إذا أذن المريض للطبيب الجاهل القاصر في عمله مع علم المريض بجهله وقصوره يسقط الضمان هنا ، إذ ينسب تلف النفس أو العضو الى نفس المريض ، وهو أقوى من المباشر ، ولكن تبقى الحرمة على الطبيب فيستحق العقوبة من قبل ولي الأمر وفي الآخرة حيث خالف النهي الشرعي عن مزاولة العمل.

الحالة الثانية : وقد يكون الطبيب حاذقاً ، لكنه عالج طفلا أو مجنوناً بغير إذن الولي وكانت الحالة غير محسوبة من الطوارئ الذي يسقط فيها الإذن ، فهذا الطبيب حتى لو لم يكن قاصراً يكون ضامناً لما يحدث من ضرر على هذا الطفل أو المجنون ؛ وذلك لأنّ الولاية لما لم تكن موجودة للطبيب ، ولم يأت الإذن من الولي فيكون تصرف الطبيب فيما لم يكن له التصرف تعدّياً ، وقد تولّد التلف من هذا التعدي ، فهو ضامن لقاعدة الضمان على كل متلف ، وكذا الحكم لو عالج الطبيب مملوكاً بدون إذن مالكه أو مع ممانعته.

ولا داعي للتنبيه على عقوبة هذا الطبيب ، سواء أصاب في عمله أو أخطأ ، لأنّه غير مأذون في العمل شرعاً ، إلاّ في حالات الطوارئ فإنّ الطبيب إذا كان حاذقاً فهو مأذون شرعاً في المعالجة وإن لم يكن إذن من المريض أو وليه ، فإن حصل في هذه الحالة تلف من دون تعدٍّ أو تفريط فهو غير ضامن أيضاً ، وطبعاً أنّ الذي يقرر أنّ هذا التلف هو بتعدٍّ أو تفريط أو ليس كذلك هو لجنة من الأطباء.

ص: 390

الحالة الثالثة : وقد يكون الطبيب حاذقاً ، لكنّه قد عالج البالغ العاقل الرشيد من دون إذنه ، أو مع ممانعته ولم تكن حالته محسوبة من الطوارئ ، فالطبيب في هذه الحالة يكون متعدّياً بعمله فيكون ضامناً ، لأنّه من الواضح جداً أن الإنسان أولى بنفسه من غيره ، فقيام الطبيب بعمل على جسم المريض من دون إذنه يكون تعدّياً وظلماً ، فيكون الطبيب ضامناً لما يحدث من ضرر أو تلف ، وحتى مع عدم صورة الضرر والتلف يكون هذا الطبيب مستحقّاً للعقوبة الجزائية وللعقوبة في الآخرة.

الحالة الرابعة : وقد يكون الطبيب حاذقاً ، لكنّه يقصّر في عمله ، فيكون ضامناً لتقصيره الذي يؤول إلى التفريط في العمل ، وكل إنسان أضر غيره بتقصيره بعد أن تعهّد بطبابته فهو ضامن ، حيث ينسب التلف إليه ، وهذا لا ينافي ما سيأتي من تجويزنا للطبيب الحاذق المباشرة للمريض حتى بدون إذن كما في حالة الطوارئ ، فإنّه إحسان محض قد يجب من باب المقدّمة لحفظ النفس المحترمة ، كما في خبر ابان بن تغلب عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « كان المسيح علیه السلام يقول : إنّ التارك شفاء المجروح من جرحه شريك لجارحه لا محالة ؛ وذلك أنّ الجارح أراد فساد المجروح والتارك لإشفائه لم يشأ صلاحه ، فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطراراً ، فكذلك لا تحدّثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا ، ولا تمنوها أهلها فتأثموا ، وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعاً لدوائه وإلاّ أمسك » (1).

فهذه الرواية لا تنافي الضمان الذي كان منشؤه هنا هو التقصير ( التفريط ) من الطبيب الذي هو من باب الاسباب ، والمُسَبَّب - وهو الضمان - يتبع سببه كما في تأديب الزوجة والصبي ونحوهما ، بل هنا أولى لوجود التفريط.

ص: 391


1- الكافي : ج 8 ، ح 545.

الحالة الخامسة : وقد يكون الطبيب عارفاً ( حاذقاً ) وقد اذن له المريض في العلاج ولم يقصّر الطبيب في علاجه ، ولكن آل العلاج إلى التلف في النفس أو الطرف ، فهل يضمن الطبيب ؟ يوجد خلاف في هذه الحالة ، قال ابن ادريس : لا يضمن ، حيث نشك في الضمان فالأصل عدمه ، ولأنّ التطبيب صاراً سائغاً فهو لا يستتبع ضماناً.

وقال آخرون بالضمان ، لقاعدة مباشرة الاتلاف ( الضمان على المتلف ) وأمّا الإذن في العلاج فهو ليس إذناً في الإتلاف ، والإذن في العلاج جاء بالجواز الشرعي ، والجواز الشرعي لا ينافي الضمان كما في ضرب الطفل للتأديب ، فإنّه جائز ، ولكن إذا حدث تلف فالضمان موجود على الضارب.

وقد يقال : إنّ الطبيب لم يتلف العضو عمداً ، وهذا صحيح ، إلاّ أنّه يرفع عن الطبيب القصاص فقط مع الحرمة.

وقد وردت بعض الأخبار تؤيّد الضمان ، منها : ما رواه السكوني عن الإمام الصادق علیه السلام قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام : « من تطبب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليه ، وإلاّ فهو ضامن » (1).

بتقريب : أنّ المراد من الولي من له الولاية ، وهو يشمل نفس الأمر أيضاً.

ومنها : ما ورد في تضمين الختّان القاطع لحشفة الغلام ، فقد روى السكوني أيضاً عن جعفر عن أبيه أن علياً علیه السلام : « ضمن ختّاناً قطع حشفة غلام » (2). وهذا داخل في الجرح الشبيه بالعمد ، فيكون الضمان من مال الطبيب ، لقصد الطبيب الفعل دون القتل ، وواضح أنَّ الدية فيه على الجاني.

ص: 392


1- وسائل الشيعة : ج 19 ، ب 24 من موجبات الضمان ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 2.

الحالة السادسة : وقد يكون الطبيب عارفاً ، وقد اُذِنَ له في العلاج من قبل المريض أو وليه ولم يقصّر في علاجه ، وقد أخذ الابراء من التلف قبل العلاج فهل يضمن الطبيب ؟ هنا خلاف على قولين :

الأول : القول بالبراءة من الضمان عند التلف ، ونسب هذا إلى المشهور لرواية السكوني عن الإمام الصادق علیه السلام المتقدّمة ، قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام : « من تطبب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليه ، وإلاّ فهو ضامن ».

وهذه الرواية تشير إلى أن عدم الضمان هو من أجل البراءة الذي يوجب سقوط الفعل عن اقتضاء الدية ، وليس معناه اسقاط الدية ليقال : إنّه إسقاط ما لم يجب. فالنتيجة عدم ثبوت الدية في صورة أخذ البراءة ، وثبوتها في صورة عدم أخذ البراءة لأنّ القتل أو التلف مستند إليه ، والإذن هو في الفعل لا في التلف أو القتل ، فلا موجب لسقوط الضمان.

ثمّ إنّ هناك دليلا آخر على عدم الضمان في هذه الحالة ، وهو : أنّ العلاج ممّا تمسّ الحاجة إليه ، فلو لم يشرع الابراء تعذر العلاج ، وإذا شرع الابراء فلا ضمان. مضافاً إلى شمول المعتبرة القائلة : « المسلمون عن شروطهم » لما نحن فيه ، حيث إنّ الطبيب قد اشترط عدم ضمانه إذا حصل التلف.

الثاني : هناك قول ضعيف بعدم براءة الطبيب من الضمان حتى إذا تبرّأ منه ، وذلك لأنّه اسقاط للحقّ قبل ثبوته. وهذا القول باطل ؛ لما تقدّم في القول الأول من أنّ البراءة من الضمان ليس معناه إسقاط الدية حتى يقال : إنّه اسقاط لما لم يجب ، بل معناه أنّ فعل الطبيب يسقط عن اقتضائه للدية.

الحالة السابعة : وقد لا يتولّى الطبيب العلاج بنفسه ، بل يقول : أظنّ أنّ هذا الدواء نافع لهذا الداء ، أو يقول : لو كنت أنا لفلعت كذا ، ونحو ذلك ممّا لم تكن فيه مباشرة منه ، وقد فعل المريض العاقل المختار أو وليه ذلك اعتماداً على القول

ص: 393

المتقدّم ، فالمتّجه هنا عدم الضمان ؛ وذلك لأنّنا نشك في الضمان في هذه الحالة والأصل عدم الضمان ( البراءة ) ، ولأنّنا نحتمل أنّ الموت أو التلف الذي حصل قد حصل بغير العلاج ، وبغير الأخذ بقول الطبيب.

* * *

ص: 394

مرض الإيدز وما يترتب عليه من أحكام فقهية

اشارة

ص: 395

ص: 396

أسباب مرض الإيدز وانتقاله في العالم

اشارة

إنّ سبب المرض وانتقاله في بعض نقاط العالم يختلف عن سببه وانتقاله في نقاط اُخرى منه ؛ وتوضيح ذلك :

أ - في الغرب كان سبب مرض الايدز هو اللواط بنسبة 70 %.

ب - في ألمانيا وفرنسا كان سبب المرض هو نقل الدم بعد فحصه.

ج - في أفريقيا وشرق آسيا كان سبب المرض هو الزنا ، كما اكتُشف في بيوت الدعارة.

د - سبب المرض في الجنين هو انتقال المرض من الحامل الى الجنين بنسبة 10 % في آخر مدة الحمل.

ه - في البلدان الاسلامية ، تقول التقارير والابحاث : إنّ المرض جاء من نقل الدم الذي استورد من بريطانيا وأميركا والدول الغربية ، ثم بعد الاتصال الجنسي بين الزوجين ينتقل المرض الى الآخرين.

و - قد يكون سبب المرض هو تبادل الحقن الملوثة بين الافراد ، وحتى حقن الوشم والحجامة (1).

ص: 397


1- (1) من خصائص فيروس الإيدز : 1 - ضعيف جداً . 2 - لا يقاوم الجفاف . 3 - لا يقاوم ارتفاع درجة الحرارة. 4 - إذا أصيب به انسان فلن يفارقه حتى يدخله القبر . 5 - لم يثبت الفيروس على شكل أو صورة معينة ، فهو يتطور تطوراً سريعاً؛ ولذلك لم يتوصل العلماء الى علاج لهذا المرض. 6 - إذا دخل هذا الفيروس الى البدن فإنه يختفي بسرعة داخل بعض الخلايا (وهذه هي مرحلة الكمون) ويأخذ في التكاثر تدريجاً وفي تدمير هذه الخلايا، فينقص عددها شيئاً فشيئاً، حتى يصل المصاب الى مرحلة لا يتمكن من مقاومة الجراثيم أو الخلايا الضارة (كالخلايا السرطانية) وحينئذ يحدث ما هو معروف من مرض نقص المناعة المكتسب . 7 - إن المرحلة التي يدخل فيها الفيروس الى البدن وحتى ظهور الاعراض المميزة لمرض الايدز تختلف من إنسان لآخر ، ففي الاطفال تكون قصيرة نسبياً (أقل من سنتين)، وفي البالغين تتراوح ما بين (107) سنوات، وهذه المدة تقصر إذا حدثت أمراض أخرى ، أو كانت التغذية سيئة ، أو حصل حمل لدى المرأة ؛ ولذا يكون متوسط المدة في أفريقيا خمس سنوات لما فيها من سوء التغذية وأمراض أخرى كالملاريا) في حين يكون متوسط المدة في الدول المتقدمة عشر سنوات بفضل التغذية الجيدة والعلاج للامراض المرافقة). 8 - يكون الشخص المصاب معدياً طوال هذه المدة التي دخل فيها الفيروس الى البدن . 9 - إنّ هذا الفيروس يموت فوراً اذا تعرض للشمس أو للهواء أو للمطهرات ( كالديتول) وحتى الصابون ، ولكن اذا بقي في الدم وفي بعض الافرازات فيمكن ان يبقى مدة طويلة ، فاذا بقي في مكان مثلج ( تجميد المني مثلاً) فانه يعود ولو بعد عشر سنوات. 10 - وجدت حالة غريبة في اميركا خلاصتها : أنّ طفلةٌ حملت الفيروس من أمها وتُؤكّد من ذلك، وفي السنة الثالثة اختفى الفيروس من دمها تماماً ، وأجري الفحص عدة مرات - وفي أفضل المراكز الطبية - ولكنهم لم يجدوا للفيروس أثراً ، هذه الحالة حيرت الاطباء في كيفية القضاء عليه . ( من مقالة للدكتور محمد علي البار في مجمع الفقه الاسلامي في دورته التاسعة).

طرق حصر العدوى :

لقد حصر العلماء طرق العدوى في ثلاثة اُمور :

أ - طريق الاتصال الجنسي بين افراد الجنس الواحد أو الجنسين ، وهذا يمثِّل

ص: 398

أخطر الطرق وأكثرها شيوعاً ، وتصل نسبة الاصابة عن هذا الطريق الى 80 %.

ب - الدخول الى الدم ، سواء كان بنقله أو بالحقن بالإبر ، وبخاصة المخدرات ، أو الجروح النافذة وزراعة الاعضاء ، وحتى العمليات الجراحية اذا لم تكن الادوات معقمة تعقيماً جيداً.

ج - عن طريق الاُم المصابة الى جنينها ( أمّا أثناء الحمل أو أثناء الولادة ) (1).

ومن حسن الحظ أنّ الطريقين الأخيرين أمكن السيطرة عليهما بعد التعرف على أساليب الكشف عن الفيروس بالطرق السريعة والحديثة. مميزات اُخرى للمرض ومخاطره :

1 - يعتبر مرض الايدز من أخطر الامراض التي أصابت البشرية ، وقد نُعت في بعض التعبيرات بأنّه طاعون القرن العشرين ، وقد اُصيب به أكثر من سبعة عشر مليوناً ، ويتوقع في السنوات الستّ الآتية أن يتصاعد الرقم الى

ص: 399


1- ذكر هذه الطرق الدكتور احمد رجائي الجندي في مقالة ( رؤية إسلامية للمشاكل الاجتماعية لمرض الايدز ) ولكن الدكتور محمد علي البار عندما قرر هذا البحث في الدورة التاسعة لمجمع الفقه الاسلامي المنعقد في ( ابو ظبي ) - ما بين 1 - 6 من ذي القعدة لسنة 1415 ه.ق - ذكر شيئاً خطيراً إذ قال : لقد ثبت أن انتقال العدوى قد يكون بسوائل الجسم كالعرق ، فالفيروس موجود في جميع الافرازات حتى اللعاب ، وفي سائل النخاع الشوكي ، وفي لبن الاُمّ ، وحتى في الميت عندما يغسّل وهو مصاب بمرض الايدز فتخرج منه افرازات يحتمل انتقال الفيروس منها الى المغسِّل. والذي يحل المسألة هو ما جاء في توصيات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت - ما بين 23-25 من جمادى الآخرة لسنة 1414ه.ق الموافق 6 - 8 كانون الاول 1993 م - وقد جاء فيها : «انما تنتقل العدوى بصورة رئيسة باحدى الطرق التالية » ( وذكر الطرق المتقدمة). وعلى هذا فان القول الصحيح هو عدم حصر طرق العدوى فيما تقدم من الصور ، بل تكون تلك الصور صوراً رئيسة لنقل العدوى ، اما غيرها فكثير ، فقد نقل الدكتور محمد علي البار انتقال المرض من طفل صغير الى أخيه ولا يعرف سبب الانتقال بالضبط .

أربعين مليوناً.

2 - إنّ جميع دول العالم فيها إصابات ، ولا يوجد شعب محصّن ضد هذا المرض.

3 - إنّ أعداد المصابين بهذا المرض في زيادة مستمرة ، ومعظم الحالات هي بين الذكور ، اذ تصل الى نحو 75 %.

4 - إنّ عمر المصابين يتراوح بين 15 - 49 سنة ، وهو عمر الانتاج والعمل.

5 - إنّ هذا المرض أكثر انتشاراً في أفريقيا « التي فيها من الاصابات ما يربو على تسع ملايين إصابة ، توفّي منهم مليونان » وجنوب شرق آسيا « التي فيها من الاصابات نحو مليوني إصابة » والهند حيث يكثر الفقر ويقلّ الوازع الديني ، وتكون الدعارة مصدراً للرزق أو تجارةً يقوم بها تجار الموت.

6 - من مضاعفات الإصابة بمرض الإيدز : انتشار كثير من الامراض التي كان العالم على وشك اعلان التخلّص منها ، مثل حالات السلّ الرئوي.

المشاكل الاجتماعية لمرض الإيدز

اشارة

كان ما تقدم توطئةً لهذ البحث ، وسنتعرّض الى تساؤلات نشأت عند الفرد والمجتمع يطلب فيها تحديد حكمها الشرعي ، ويمكن تلخيصها بما يأتي :

أولاً : ما هو حكم عزل المصاب بالإيدز ؟

ثانياً : ما هو حكم تعمّد نقل العدوى ؟

ثالثاً : ما هي حقوق المصاب وواجباته ؟

رابعاً : ما حكم زواج حاملي فيروس الايدز ؟

خامساً : ما حكم المعاشرة الجنسية بالنسبة للمصاب بمرض الايدز ؟

سادساً : ما حكم حق السليم من الزوجين في طلب الفرقة ؟

ص: 400

سابعاً : ما حكم طلب الطلاق من المرأة اذا كان الزوج مصاباً بمرض الايدز ؟

ثامناً : ما حكم اجهاض الحامل المصابة بمرض الايدز ؟

تاسعاً : ما حكم حضانة الاُم المصابة لوليدها السليم وإرضاعه ( اللباء وغيره ) ؟

عاشراً : ما حكم اعتبار مرض الايدز مرض موت (1) ؟

حادي عشر : وقبل هذه المسائل هناك مسألة متقدمة عليها تتلخص في حكم إعلان الطبيب عن الإصابة بمرض الايدز لمن يهمهم أمر المريض ، وخصوصاً زوجته ، فهل يجوز للطبيب أو يجب عليه ان يخبر الزوجات عن أزواجهن أو العكس ، أو لا يجوز ذلك(2) ؟

فقد يقال بعدم جواز إفشاء المرض ، وذلك :

1 - لما قُرر من أنّ الطبيب هو الحافظ لسرّ المريض.

2 - ولمّا كان مرض الايدز قد يحدث غالباً عن طريق المعاشرة الجنسية غير الشرعية فالإعلان عن الإصابة معناه هتك لاعتبار المريض لاتّهامه بمرض يسيء اليه.

ثم إنّ إطلاع الزوجة قد يجرّ الى إطلاع الأقارب والذين يشتغلون مع الفرد المصاب ، وهذا يجرهم الى اجتنابه مما يؤدي الى طرده من المجتمع بصورة غير معلنة. واذا حصل ذلك فقد تحصل للمريض حالات عصبية تجرّه الى الانتقام من المجتمع فيعمد الى نقل المرض الى غيره ( كما حدث ذلك في بعض دول العالم ).

ص: 401


1- إنّ هذه الأسئلة تدور حول المريض الذي اكتشف مرضه ، ولكن لم تظهر عليه أعراض المرض. أمّا الذي ظهرت عليه اعراض المرض فكأنّما حُسب امره مفروغاً عنه.
2- وهذا التساؤل يصح عند طلب المريض من طبيبه أن لا يذيع إصابته بالمرض.

3 - اذا اُذيعت إصابة فرد بمرض الايدز ، وقلنا بوجوب ذلك أو جوازه فإنّ هذا قد يؤدي الى عدم كسب أي معلومات عن المرض ؛ لعدم مراجعة المرضى الى الاطباء خوفاً من إذاعة إصابتهم. وعدم كسب المعلومات عن المرض والمرضى لأخذ الحيطة من المرض يؤدي الى انتشار الفيروس في المجتمع.

4 - يمكن للطبيب أن ينصح المريض باستعمال العازل عند المجامعة مع الزوجة ، وهذا يؤدي الى عدم انتقال المرض اليها ، وهو يدل على عدم ضرورة إطلاع الزوجة على مرض زوجها.

ولكن قد يقال ( في مقابل القول الاول ) بجواز إعلان المرض الى الزوجة أو الى من يهمّهم أمر المريض ، أو وجوبه ؛ وذلك :

أ - لأنّنا وإنْ آمنّا بأنّ الطبيب هو حافظ سرّ المريض الذي يراجعه إلاّ أنّ ذلك الأمر ليس بصورة مطلقة وغير قابلة للتغيير ، بل يمكن ان يقيّد بعدم كون كتمان سرّ المريض يؤدي الى الإضرار بالآخرين ، ذلك الاضرار الذي يوصل الى الموت ، أمّا اذا كان الكتمان يؤدي الى ضرر بالزوجة يصل الى حد الموت فلا يجب كتمان سرّ المريض.

ب - إنّ هتك اعتبار المريض المصاب بالايدز ( إذا اُذيع خبر مرضه ) منوط بالوضع الثقافي والاجتماعي لاُسرة المريض ، وعلى هذا فلا يكون إعلان الإصابة بالمرض للزوجة موجباً لإذهاب اعتبار المريض وهتكه ، خصوصاً اذا اُعلن أنّ هذا المرض قد ينتقل عن طريق نقل الدم أو استعمال الإبر الحاقنة أو غير ذلك. وبهذا لم يكن المصاب ( عند إعلان إصابته لزوجته مثلاً ) قد طُرد من المجتمع بحيث يقرر الانتقام منه.

ج - ويتفرع على ما تقدم عدم امتناع المريض بمرض الايدز من مراجعة الطبيب لأخذ العلاج مثلاً.

د - إنّ استعمال العازل في الجماع ليس وقاية كاملة من انتقال المرض ، فلا

ص: 402

يمكن أن يكون دليلاً لعدم جواز إذاعة المرض مطلقاً.

ه - إنّ حق السليم من الزوجين في الامتناع عن المعاشرة الجنسية حتى لا ينتقل اليه المرض هو حق مشروع ؛ ويجب على الطبيب ( من باب وجوب حفظ نفوس الآخرين من المرض المهلك ) الاعلام حتى لا يقع الصحيح في المرض المميت.

والآن : ما هو الحكم الشرعي في هذه المشكلة الاجتماعية ؟

الجواب : بما أنّ حفظ نفوس العباد من المرض المهلك المميت واجب فيجب على الطبيب إعلان المرض للزوجة - مثلاً - بحيث تحفظ نفسها من الابتلاء بالمرض ، ولكن يجب أن يكون الإعلان بصورة تُحفظ معها كرامة المصاب ، بحيث لا تخدش منزلته الاجتماعية (1).

ويمكن تصوير إعلان المرض للزوجة مع حفظ كرامة المصاب بأنْ يُقرن الاعلان بتصريح من الطبيب : بأنَّ المرض لا يدل على ارتكاب المريض فاحشةً وفجوراً ، أو يؤكد الطبيب أنّ الانتقال قد حصل عن طريق نقل الدم أو استعمال الإبر الملوثة ، بحيث لا يكون الاعلان مؤدياً الى الانتقاص من شخصية المريض.

ومن الطبيعيّ أن نترك للطبيب تشخيص وضع المجتمع وتقبّله بأنّ المرض قد نشأ من غير طريق المعاشرات الجنسية ، وتشخيص الوضع العائلي للمريض وتفهّمهم لحاله وكيفية الاهتمام به بحيث لا يكون الاعلان موجباً لهتك اعتبار المريض وطرده من المجتمع.

ولنرجع الى بيان حكم المسائل العشر التي ذكرناها سابقاً فنقول :

ص: 403


1- كما لو كان المجتمع قد عرف أنّ هذا المرض أخذ ينتشر بغير طريق المعاشرة الجنسية ، وكان المجتمع يهتم بالمريض بحيث لا يُطرد من المجتمع.

أولاً : ما هو حكم عزل المصاب بالايدز ؟

إن عزل المريض فيه نفع للمجتمع وللمريض معاً. أمّا للمجتمع فيتصور في الوقاية من انتشار المرض ، وأمّا للمريض فيتصور في حفظ المريض من أنْ تسري إليه العدوى بأمراض الآخرين وهو في حالة منهكة ، وتقديم الرعاية المركّزة له.

وبناءً على ما ذكره المتخصّصون من الأطباء في أنّ العدوى بمرض الايدز تنتقل أساساً بثلاث طرق :

1 - الاتصالات الجنسية.

2 - الدم ومشتقاته ( سواء بنقل الدم العلاجي او باستخدام الإبر والمحاقن الملوثة بالفيروس ، ولا سيما في حالة تعاطي المخدرات حقناً ).

ولكن من حسن الحظ قلّت خطورة العدوى بنقل الدم العلاجي بعد التأكد من خلو الدم من الفيروس بوسائل متطوّرة. أمّا انتقاله في حالة تعاطي المخدرات حقناً فلا تزال له خطورة كبيرة.

3 - انتقال العدوى من الام لجنينها وهو في الرحم ، وهذا الانتقال يحصل بنسبة ضئيلة.

وعلى هذا فلا مسوّغ لعزل المريض بالايدز من المجتمع في مصحّات خاصة ، لعدم وجود أي احتمال أساسي لانتقال المرض عن طريق الطعام أو الشراب أو المرافق الصحية أو المسابح أو التنفس أو المقاعد أو أدوات الطعام أو الملابس أو اللمس.

ولكن هنا أمرٌ يتوجه الى المريض نفسه ، وهو : أن يتجنب طرق العدوى للآخرين (1) ممن هو محترم النفس ، لما ثبت من نصوص الشرع الحنيف

ص: 404


1- هناك روايات عن النبي صلی اللّه علیه و آله مضمونها : أن لا عدوى في الاسلام. كما أنّ هناك رواياتٍ - كما ستأتي توجب عدم ورود الممرَض على المصحّ فهل هناك تعارض بينهما ؟ والجواب : أنّ العرب في الجاهلية كانت تزعم وتعتقد أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل اللّه تعالى، فجاء الحديث يردّ هذه المزاعم ، فقال : « لا عدوى » اي لا عدوى بطبعها من دون إذن اللّه تعالى. وأما حديث لا يورد ممرض على مصح فهو إرشاد الى حكم عقلي يبعد الإنسان عن ضرر الآخرين عادةً بفعل اللّه تعالى وقدره، ويحذر الصحيح من الضرر الذي يحصل بفعل اللّه سبحانه وإرادته وقدره.

من حرمة الاضرار وإلقاء الأنفس في التهلكة ؛ لأنّ مصير المريض بالايدز القبر لا محالة.

وإليك النصوص :

1 - « لا ضرر ولا ضرار في الاسلام » (1) حسب الحديث المشهور بين المسلمين.

2 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يوردُ ممرضٌ على مُصِحّ » (2).

3 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الطاعون رجز أو عذاب اُرسل على بني إسرائيل أو على مَن قبلكم ، فاذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، واذا وقع بأرض وانتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه » (3).

فالنهي قد توجه الى الفرد الذي كان في ارض الطاعون ، وليس إلاّ لأجل احتمال إصابته وعدواه للآخرين ، فينتشر المرض في مساحة اكبر من الارض ، وفيه مفسدة للمجتمع أوجبت ذلك النهي (4).

ص: 405


1- تراجع مصادر الحديث في رسالة ( لا ضرر ولا ضرار ) لشيخ الشريعة الاصفهاني ، تحقيق مؤسسة آل البيت : - قم المقدّسة.
2- صحيح مسلم بشرح النووي : ج 7 ، باب لا عدوى ، ح 2221 وما بعده.
3- المصدر السابق : ج 7 ، باب الطاعون والطيرة ، ح 2218.
4- إنّ الروايات الواردة في مرض الطاعون ( الوباء ) وجواز خروج من كان في أرض الطاعون على ثلاثة أقسام : الأول يقول: لا تخرج من أرض الطاعون مطلقاً. الثاني يقول : أخرج من أرض الطاعون مطلقاً . الثالث يقول : أخرج من أرض الطاعون اذا لم تكن في محل الاصابة ، ولا تخرج من ارض الطاعون اذا كنت في محل الاصابة . وهذا القسم هو شاهد جمع بين القسمين الأوّلين ، فما روي في كتاب (معاني الأخبار) عن علي بن جعفر قال : سألت أخي موسى بن جعفر (الامام الكاظم) عليه السلام عن الوباء يقع في ارض هل يصلح للرجل أن يهرب منه ؟ قال عليه السلام : « يهرب منه ما لم يقع في (أهل) مسجده الذي يصلي فيه ، فاذا وقع في اهل مسجده الذي يصلي فيه فلا يصلح الهرب منه » . بحار الأنوار: ج 6 ، ص 122.

وحينئذ نقول بذلك فيما نحن فيه ( مرض الايدز ) بالأولوية ، لأنّ كلامنا في من اُصيب بمرض الايدز قطعاً ، فيجب عليه التحرّز من عدوى الآخرين ، وهذه الأولوية هنا قطعية.

4 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد » (1).

واذا أوجب الشارع الفرار من المجذوم فهل يمكن أن يجوّز للمجذوم أن يعدي الآخرين عن قصد وعمد ؟

والجواب بالنفي ؛ للمنافرة بين افراد الصحيح من المجذوم وجواز عدوى المجذوم لغيره عن عمد وقصد.

وقد يقال في بطلان الاستدلال المتقدم على عدم جواز عدوى المريض للصحيح : بأنّ الروايات المتقدمة - باستثناء الاُولى - غير إلزامية ، بل هي إرشادية الى ما ينبغي أن يفعله المريض أو الصحيح.

والجواب أولاً : أنّنا لا طريق لنا بالقطع بأنّ هذه الأوامر والنواهي غير إلزامية ، بل الآية القرآنية ( ... مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ... ) (2) تقول بإلزامية أوامر النبي صلی اللّه علیه و آله ونواهيه في مورد الشك في كونها إلزاميةً أو إرشادية.

ثانياً : اذا لم تكن الادلة المتقدمة إلزامية إلهية فهي من صلاحيات الحاكم

ص: 406


1- صحيح البخاري بحاشية السَنَدي : ج 4 ، باب الجذام ص 12 ، ط دار بيروت. من لا يحضره الفقيه : ج 1. ص 357 ، ط طهران.
2- الحشر : 7.

( على أقل تقدير ) فيجب ان يتجنب المريض بالايدز طرق عدوى الآخرين.

ثالثاً : يكفينا للاستدلال على الحكم الشرعي الإلهي حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) الذي يوجب على المريض عدم الاضرار بالآخرين ، ذلك الإضرار الذي يؤدي الى الموت.

وقد يقال أيضاً : إنّ تجنب المريض طرق العدوى قد يكون واجباً وجوباً الهياً ، ولكن فيما اذا كان احتمال العدوى كبيراً جداً فإنّ المتخصّصين قد ذكروا : « أنّ درجة شدة سراية المرض أو احتمالات العدوى من جماع واحد لا تتعدّى نصفاً بالمائة ( أي مرّةً في كلّ مائتي مرة ) الا اذا كان احد الطرفين مصاباً بمرض تناسلي آخر فتصل نسبة احتمال العدوى الى اثنين بالمائة » (1).

وهذه النسبة لا توجِد وجوباً على المصاب في تجنب المواقعة الجنسية ، لأنّ كلّ مواقعة جنسية يشكّ المصاب في حرمتها عليه لضآلة احتمال الاصابة فتكون العملية بالنسبة له محلّلة.

أقول : صحيح أنّ احتمال الاصابة وإن كان ضئيلاً إلاّ أنّ المصاب يعلم من الاول بتعدد المقاربات الجنسية ، وهذا التعدد يقوّي احتمال الاصابة لا محالة ، فمثلاً اذا قارب هذا المصاب زوجته مائتين مرة في السنة فهناك احتمالات كثيرة :

أولها : أنّ الاصابة وقعت في واحد من المائتين.

وثانيها : أنّها وقعت في اثنين من المائتين ... الى وقوع الاصابة في جميع المائتين ، كما يبقى احتمال أنّ الإصابة لا تقع أصلاً (2).

ونحن يهمنا نفي الاحتمال الأخير حتى تكون الاصابة متيقّنةً من الاتصالات

ص: 407


1- رؤية إسلامية للمشاكل الاجتماعية لمرض الايدز : 17 ، د. احمد رجائي الجندي.
2- وأمّا ما هو اكبر الاحتمالات ؟ فالجواب : أنّ أكبر الاحتمالات هو ما كانت له صور متعددة ممكنة ؛ ولمعرفة ذلك لابدّ من مراجعة نظرية التوزيع ل ( برنولي ) لمعرفة أقوى الاحتمالات ، واذا عرفنا أقوى الاحتمالات فإنّ هذا لا يجعل الاحتمالات الاُخرى صغيرةً بدرجة يمكن إهمالها.

الجنسية المتعددة وإن كان احتمال الاصابة في المرة الاُولى أو في غيرها ضعيفاً.

واذا نفي الاحتمال الأخير - ولو بأن نفرض أنّ المقاربات ستمائة مرّةً في ثلاث سنين - فهل يكفي هذا للقول بحرمة اتصال المريض بزوجته اذا كان يعلم أنّه يقاربها بالقدر المتقدم من المقاربات ، أو يبقى جواز ذلك ، لأنّه في كل مرّة يبقى عنده احتمال الإصابة احتمالاً ضعيفاً لا يعتدّ به ؟

الجواب : اذا نفي الاحتمال الاخير أو أصبح غير عرفي فلابد من القول بحرمة الاتصالات الجنسية ، لأنَّه إلقاء للنفس في التهلكة (1).

وأمّا اذا كان احتمال الإصابة قد قوي بصورة عرفية ، بحيث يكون العرف مهتماً بهذا الاحتمال ( ولم ينتف الاحتمال الاخير ) وكان المحتمل مهماً جداً - كالموت كما في فرضنا - فلا يبعد ان تكون القاعدة هي منع المريض من الاتصال بزوجته ( قبل ان يخبرها بالواقع ) وذلك :

أ - لأنّ أدلة حرمة الاضرار تشكل هذه الصورة عرفاً.

ب - كما أنّ الرواية المروية عن الرسول الاعظم صلی اللّه علیه و آله القائلة : « اذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها ، واذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها » تشمل ما نحن فيه ؛ حيث إنّ وقوع الطاعون بأرض وأنا فيها ليس معناه أنّني مصاب بالطاعون قطعاً ، وليس معناه أنّني سوف أنقل مرضي - على تقدير وجوده - للآخرين ، بل يحتمل أن أكون مصاباً ، ويحتمل أن أنقل المرض للآخرين ، وهذا الاحتمال عقلائي ، فَمنَعَ الشارع الشخص الموجود في أرض الطاعون من خروجه منها ، وما نحن فيه أيضاً كذلك ؛ لأنّ احتمال الإصابة اذا كان معتدّاً به فللشارع المقدّس أن يمنع من إيجاد طرق العدوى.

فاذا قلنا : إنّ الطاعون قد ذكر في الرواية كمثال فيكون ما نحن فيه مشمولاً

ص: 408


1- بناءً على منجزية العلم الإجمالي التدريجي.

للمنع ، كما أنّ رواية « لا يورد ممرض على مصحّ » تفيد نفس المعنى المتقدم.

وبعبارة اُخرى : أنّ الشارع قد اهتم بنفسه لسدّ طرق العدوى المحتملة احتمالاً عقلائياً ، فاذا كانت طرق العدوى من الاتصال الجنسي بين الزوج وزوجته محتملةً احتمالاً عقلائياً ، ومع عدم الفرق بين الطاعون ومرض الايدز فالمنع حسب النص هو الصحيح.

كما أنّ أهل الخبرة في الطب قد أمروا بالتحرز من مصاحبة أهل الأمراض المعدية ، ومن طرق نقل العدوى ، وكما يرجع اليهم في تشخيص الدواء فكذلك يرجع اليهم في هذا وأشباهه.

ثانياً : ما هو حكم تعمّد نقل العدوى ؟

إنّ تعمّد نقل العدوى الى الآخرين عمل محرم ؛ لارتكازية حرمة الإضرار بالآخرين ؛ وبخاصة الأضرار المؤدية الى الموت.

ثمّ إنّ القتل بالاسباب الخفية يوجب القصاص اذا استند القتل اليها ، كالقتل بالاسباب الظاهرة بلا فرق بينهما ؛ وذلك لما دلّ على أنّ إسناد القتل الى شخص مع سبق النية عليه يوجب القصاص ، وبما أنّ العدوى لمرض الايدز مع الاصرار عليها توجب اسناد القتل الى المعدِي - حامل الفيروس - فهي توجب القصاص. واليك التفصيل :

أ - اذا كان قصد المعدي هو قتل مَن يَنقل اليه المرض ، وقد تحقق القتل قبل أن يموت المعدِي فيثبت على المعدِي القود ( القصاص ).

ب - اذا كان قصد المعدي هو قتل المعدى ، وقد تحقق القتل بعد أن مات المعدي فالحكم هو ثبوت الدية في ما تركه المعدي ، وذلك لعدم إمكان القصاص فنتنزّل الى الدية.

ج - اذا كان قصد ناقل المرض هو قتل من ينقل اليه المرض وقد حصلت

ص: 409

العدوى فقط فهنا لا يجوز قتل الناقل ( المصاب ) ؛ وذلك لعدم جواز القصاص قبل وقوع الجناية ( القتل ).

ولا ينطبق على قتل الناقل عنوان الدفاع عن النفس ، ولكن يستحق الناقل للمرض التعزير من قبل الحاكم الشرعي حسب ما يراه مناسباً.

د - إذا كان قصد الناقل للمرض ( أي حامل الفيروس ) هو قتل الآخر ( المنقول اليه المرض ) ولم تحصل الاصابة بالمرض فان توقف الدفاع عن النفس والممانعة عن العدوى على قتله جاز قتله دفاعاً عن النفس ، كما اذا أجبر ( حامل الفيروس ) الآخر السليم على المواقعة الجنسية بقصد تلويثه بالمرض ، أو أجبره على ثقب جسمه بإبرة ملوثة ، أو أراد نقل الدم من بدنه الى بدن السليم بقصد العدوى.

واذا رُفعت دعوى ( قصد المعدي عمداً ) الى الحاكم الشرعي عند عدم حصول العدوى وأقرّ التاقل بها فيستحق التعزير أيضاً.

ه - إذا كان قصد ( حامل الفيروس ) نقل المرض الى المجتمع ( لإشاعة الفساد ) وصرح بذلك ، وتوقف التحفظ عن سراية مرضه الى المجتمع على قتله جاز قتله ، بل وجب ، وذلك دفاعاً عن النفوس التي يجب حفظها عن المرض المهلك.

وأمّا إذا لم يتوقف التحفظ منه على قتله ، كما اذا أمكن سجنه بصورة انفرادية فلا يجوز قتله ، بل يعزّر بالسجن طيلة عمره ، لأنَّ المرض ملازم له حتى الموت حسب قول المتخصصين في هذا الوقت.

و - إذا كان قصد حامل الفيروس نقل المرض لفرد معين واعترف بذلك ولم تحصل الاصابة فينطبق عليه عنوان التجري وحكمه فلا يبعد استحقاقه التعزير بسبب قصده الإيذاء وإيقاع الفساد.

ز - وإذا لم يكن قصد المصاب العدوى - وقد حصلت في الخارج - فيكون

ص: 410

عمله خطأً ، فاذا مات المنقول اليه المرض بسبب العدوى فقد حصل القتل الخطأ فتثبت الدية على العاقلة.

وإذا كانت طريقة نقل المرض محرّمةً بالأصل ( كالزنا واللواط ) وقد استخدمها المعدي بقصد نقل العدوى الى الآخرين فقد تقدم حكمها بتفاصيلها المتقدمة. ولكن لا يخفى أنّ الفعل المحرّم الذي قُصد نقل المرض بسببه له حكمه المستقل من الحدّ أو التعزير.

ثالثاً : ما هي حقوق المصاب وواجباته ؟

هل يجوز للمصاب بالايدز أن يتزوج من السليم ؟

والجواب : هناك صورتان :

إحداهما : أن يكون غرض الزوج المريض من الزواج هو إنجاب الاطفال والمعاشرة الجنسية بالصورة الطبيعية والمتعارفة ، مع عدم إعلام الزوجة بواقع الحال ، ففي هذه الصورة لا يكون الزواج جائزاً ، لانه من مصاديق إيقاع النفس المحرّمة في التهلكة والاضرار بها ؛ لأنّ المواقعة الجنسية هي الطريق الأكثر شيوعاً في انتقال المرض كما تقدم. إضافة الى أ نّه تدليس وغش ، وقد شاع قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « مَن غشّنا ليس منّا ».

واذا حصل هذا الزواج المحرّم فيكون باطلاً ، وحينئذ :

أ - فان كان الرجل هو المدلِّس فيجب عليه المهر مع الدخول ، وأما قبله فلا ، ويجوز للمرأة الفسخ اذا علمت بذلك.

ب - وإن كان المدلِّس هو الزوجة وعلم الزوج بذلك فيجوز الفسخ للزوج ، ولا تستحق المرأة مهراً حتى بالدخول ، لأنَّ الفسخ قد حصل بسبب تدليسها.

ج - وإن كان المدلِّس شخصاً ثالثاً ولم يكن التدليس بطلب من الزوجة فهو الذي يتحمل استقرار الخسارة اذا دفع الزوج المهر الى زوجته المريضة

ص: 411

بهذا المرض.

د - وإن كان المدلِّس شخصاً ثالثاً وكان التدليس بطلب من الزوجة فخسارة المهر الذي دفعه الزوج تكون عليه ، ثم هو يرجع على الزوجة التي طلبت منه التدليس.

والاُخرى : أن يكون غرض الزوج المريض هو المعاشرة الجنسية فقط مع استعمال الواقي والعازل ، وأخبر الآخر بذلك وحصلت الموافقة فلا دليل على تحريم هذا الزواج ، لعدم تحقق إيقاع النفس المحترمة في التهلكة والإضرار بها رغم وجود احتمال ضئيل جداً بالعدوى ؛ لأنَّه احتمال غير عقلائي.

رابعاً : ما حكم زواج حاملي فيروس الايدز ؟

اذا كان الرجل والمرأة مصابَين بمرض الايدز فهل يجوز لهما الزواج ؟

والجواب بالايجاب ، سواء اتفقا على الامتناع عن الانجاب - كما في حالة استعمال العازل والواقي من اختلاط السوائل الجنسية - أو لم يمتنعا عن ذلك ، لأنَّ المرض قد حلّ بهما قبل الزواج ، والزواج لا يؤدي إلاّ الى المرض على احتمال معتدٍّ به ، وهو موجود قبل ذلك ، فلا دليل على منعهما منه.

وقد يقال : بأنَّ المرأة والرجل اذا لم يمتنعا عن الانجاب فلا يجوز زواجهما ؛ لأنَّ إصابة الجنين بالمرض تحدث في نسبة غير قليلة.

أقول : إنّ هذا كلام لا دليل عليه ، لأنّ الحمل بعد لم يوجد ، فاذا وجد وهو في بطن اُمه فليست الاُم مسؤولةً عن حياته (1) ، وليست هي المسببة لاصابته إذا اُصيب ، ولم تكن متعمدة لاصابته ، ولهذا فقد يقال بجواز الحمل ، فان ولد سليماً

ص: 412


1- بل هي مكلفة بعدم اسقاطه وعدم التعدي عليه ، وحينئذ فاذا اُصيب مع عدم ارادة الاصابة بل مع التحفظ عن الاصابة لا تكون الاُم هنا متعدية.

فهو ، وان ولد مصاباً فهو كمن ولد معلولاً ومشوّهاً نتيجة معلولية الزوجين أو تشويههما فلا يجوز قتله.

خامساً : ما حكم المعاشرة الجنسية بالنسبة للمصاب بمرض الايدز ؟

اذا كان أحد الزوجين مصاباً بمرض الايدز فهل لغير المصاب أن يمتنع عن المعاشرة الجنسية ، لأنَّها هي الطريق الرئيس للعدوى ؟

قد يكون الجواب بالايجاب ، لأنَّه يدخل تحت عنوان الدفاع عن النفس من الإصابة بمرض مهلك.

ولكن يوجد لنا طريق للجمع بين حق المصاب والسليم معاً ، وهو : استعمال العازل والواقي من اجتماع السوائل الجنسية ، وبذلك تحصل المعاشرة مع عدم العدوى.

وبما أنّ المعاشرة الجنسية مع الواطئ يُطمئنّ معها بعدم الاصابة فهي طريق الجمع بين الحقّين. فاذا رضي الزوجان بهذه الطريقة فلا تصل النوبة الى امتناع السليم عن حق المعاشرة الزوجية التي اوجبها اللّه تعالى وجعل الممتنع عنها اذا كانت هي الزوجة ناشزاً ، والزوج اذا كان امتناعه اكثر من اربعة أشهر بحلف وقد آلى (1) من زوجته فله احكامه الخاصة ، وبغير حلف يعدّ عاصياً.

سادساً : ما حكم السليم من الزوجين في طلب الفرقة ( فسخ عقدالنكاح ) ؟

اذا كان أحد الزوجين سليماً فهل له الحق في فسخ عقد النكاح ؟

أقول : إذا كان جواز الفسخ قد ورد به النص في جذام أحد الزوجين أو

ص: 413


1- الايلاء : هو الحلف على عدم وطئ الزوجة اكثر من أربعة أشهر ، وله أحكام خاصة ، منها : وجوب الوطئ مع الكفارة أو الطلاق اذا رفعت المرأة امرها الى الحاكم وعيّن لها مدة لهذا الحكم.

برصهما ، وكانت العلّة في جواز الفسخ هي العدوى بهذين المرضين غير المميتين فيكون جواز الفسخ في هذا المرض المعدي المميت أولى. ولكن بما أنّ الأمراض المعدية التي توجب الفسخ قد نصّت عليها الروايات وهي محدودة ( كالجذام والبرص والعمى ... ) ، ومرض الايدز ليس منها ، وقد تنفى الأولوية لاحتمال أن العلة هي العدوى والشكل القبيح الحاصل من الجذام والبرص لذا سوف يكون الافتراق بواسطة الطلاق هو المتَّبع والموافق للاحتياط ، فيما اذا كانت الاصابة في الزوجة ، اما اذا كانت الاصابة في الرجل ولم يوافق على طلاقها ، فان كان الايدز أولى من مرض الجذام لكونه مميتاً قطعاً فليس من البعيد أن يكون حق الفسخ ثابتاً للزوجة للفرار من الخطر المهلك.

سابعاً : ما حكم المرأة في طلب الطلاق اذا كان الزوج مصاباً بمرض الايدز ؟

اشارة

اذا كانت الزوجة سليمةً والزوج مصاباً وتوقّف التحفّظ عن العدوى على أخذ طلاقها من زوجها ( كما اذا حلفت على عدم الفسخ لو حدث مرض يوجب الفسخ ) أو كان الفسخ غير ممكن لها ، لعدم تمكنها من إعطاء المهر الى الزوج قبل الدخول أو بعده ، وكان أكثر من مهر المثل جاز لها إجبار الزوج على الطلاق بواسطة الحاكم الشرعي ، أو يطلقها الحاكم الشرعي اذا امتنع الزوج المريض.

كل ذلك للادلة المتقدمة التي توجب على المريض أن يتحفظ من نقل المرض الى الآخرين ، بل سوّغت لغير المريض أنْ يفرّ من المريض بهذا المرض المعدي.

نعم ، اذا رضي الزوج على أن تكون طريقة المجامعة الجنسية بينهما بواسطة العازل من اختلاط السوائل الجنسية ، وتحفظ من الطرق الاخرى التي تسبب نقل المرض فعند ذلك لا يكون للزوجة الحق في إجبار الزوج على الطلاق ؛ لعدم تمامية الأدلة المتقدمة في هذه الحالة.

ص: 414

وجوب الفحص على الزوجين :

إنّ خطر مرض الايدز قد يدعو الحكومات لأخذ الحيطة من انتشاره بين أفرادها ، ومن جملة الاحتياطات أن تفرض الحكومة على كلا الزوجين إجراء الفحوصات للتأكد من خلوهما من مرض الايدز ، ولكلٍّ من الزوجين طلب الفحص من الآخر.

ولكن اذا توقف الفحص على أخذ السوائل المنوية من الرجل وسوائل رحم المرأة فهل يكون إخراج السائل المنوي من الرجل في هذه الحالة بواسطة العادة السرية جائزاً ؟ وهل يجوز سحب السائل من داخل رحم المرأة ؟

فقد يقال : إنَّ الزواج إذا لم يمكن بطريقة اُخرى غير الطريقة المتقدمة ، وكان ترك الزواج حرجياً على الفرد فلا بأس بما يتوقف عليه الزواج من الطرفين ، وذلك لأدلة نفي الحرج في الشريعة المقدسة.

ولكن لنا الحق في التساؤل عن أدلة حرمة إخراج المني ، أو أدلة حرمة إخراج السائل من رحم المرأة هل هي مطلقة لشمول هذه الحالة العقلائية التي فيها غرض مهم يعود للزوجين ؟

أقول : قد ندّعي عدم الإطلاق في أدلة الحرمة لهذه الأغراض المهمة.

ثامناً : ما حكم إجهاض الحامل المصابة بمرض الايدز ؟

ذكروا : أنّ نسبة انتقال المرض الى الجنين أثناء الحمل ضئيلة لا تتجاوز 10 % ، وحينئذ إذا توصل العلم الى تشخيص إصابة الجنين مبكّراً بهذا المرض فهل يكون هذا مسوِّغاً لإجهاضه إذا لم يوجد علاج لهذا المرض ؟

والجواب : هو عدم جواز قتل الجنين أو إجهاضه ، للعمومات (1) الدالة على

ص: 415


1- ( ... مَن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً ... ) . المائدة : 32.

حرمة قتل الانسان الذي يصدق على ما في البطن بعد ولوج الروح ، وخصوص الروايات الدالة على وجوب دية الجنين على مَن أسقط جنيناً في بدايات وجوده ( ولو بعد العلوق ) ، ولما ورد من أن « أول ما يُخلق نطفة » (1).

أمّا حرمة إسقاطه اذا تعلّقت به الروح ( اي بعد مائة وعشرين يوماً ) فقد أجمع عليها علماء الاسلام ، إضافةً الى نصّ القرآن القائل : ( ... ومَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ... ) .

وأمّا حرمة إسقاط الجنين قبل ذلك - أي بمجرد العلوق - فقد ذهب اليه جمع من علماء الاسلام ، مثل الإمام الغزالي حيث قال : « ... لأنّ الوجود له مراتب : أولها أنْ تقع النطفة في الرحم وتستعد لقبول الحياة ، فإفساد ذلك جناية ، فاذا صارت مضغةً وعلقة ( علقةً ومضغةً ) كانت الجناية أفحش ، وإن نفخ فيه الروح ازدادت الجناية تفاحشاً » (2) ، وذهب الى ما تقدم بعض الأحناف والمالكية.

نعم ، إذا زاحم وجودُ الجنين وجودَ الاُم ، فعندئذ يجوز قتل الجنين ؛ للمحافظة على حياة الاُم ، سواء كان مصاباً بمرض الايدز أو لا ، ودليله هو التزاحم بين حياة الأصل والفرع ، وبما أنّ الأصل أهمّ من الفرع فجوّزوا قتل الجنين للمحافظة على الاُمّ.

ولكن هناك حالة اُخرى ، وهي : ما اذا لم تتعرض حياة الاُم للخطر من وجود الجنين المصاب بالمرض ، ولكنّ الحمل في بطن الام سيقصِّر مدة كمون المرض في المرأة ويُسرّع في قتلها فهل يجوز في هذه الحالة إسقاط الجنين ؟

والجواب : أنّ القطع بالفرض المتقدم ليس عملياً ، لأننا اذا أحسنّا رعاية

ص: 416


1- يراجع وسائل الشيعة : ج 19 ، باب 19 من ابواب ديات الاعضاء ، الأحاديث ، وباب 7 من قصاص النفس ، ح 1 موثقة اسحاق بن عمار « قال قلت لأبي الحسن علیه السلام : المرأة تخاف الحَبَل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها ؟ قال : لا. فقلت : إنّما هو نطفة ، فقال علیه السلام : إنّ أوّل ما يُخلق نطفة ».
2- تحديد النسل للسيوطي نقلاً عن القوانين الفقهية لابن جزي : ص 235.

الاُم من الناحية الصحية فلا نقطع بأنّ الحمل سيكون هو السبب في قصر مدة كمون المرض ، وحتى لو ظهر المرض مبكّراً فلا دخل له في قصر أجل الاُم ، أو - على الأقلّ - لا يكون لنا علم في تأثيره. وعلى هذا فلا يجوز إسقاط الجنين في هذه الصورة الثالثة.

تاسعاً : ما حكم حضانة الاُم المصابة لوليدها السليم وإرضاعه ؟

أمّا بالنسبة الى الرضاع : فاذا كانت الاُم مصابةً بمرض الايدز واحتمل أن يُصاب الوليد السليم بسبب ارتضاعه من ثديها احتمالاً ضعيفاً جداً ، فهل يسقط وجوب الإرضاع من ثديها ( اللباء ) وغيره ؟

قد يقال في الجواب على ذلك : اذا خيف العذر على الطفل من الإرضاع ، ووجد بديل لإرضاعه لبن اُمّه المصابة فعلى الاُم الامتناع عن إرضاعه.

أقول : ولكن اذا نظرنا الى نقطتين :

أحداهما : أنّ احتمال الإصابة ضعيف جداً ، حيث لم يذكر انتقال فيروس الايدز بواسطة لبن الاُم إلاّ في حالات محدودة جداً في العالم كله حتى الآن ، كما يظن أنّ حدوث تشققات في حلمة الثدي مما يتسبب عنه خروج دم مع اللبن هي التي أوجبت احتمال عدوى الرضيع ، لا الارتضاع من اللبن لوحده.

والاُخرى : أنّ إرضاع الاُم المصابة وليدها اللباء واجب وتمام مدة الإرضاع مستحب أو واجب على الخلاف.

اقول : اذا نظرنا الى النقطتين المتقدمتين أمكننا أن نقول : لا يجوز حرمان الرضيع من حقه لمجرد احتمال ضعيف لضرر يمكن الاحتراز منه اذا حرصت المرضع على تنفيذ وصاية الاطباء بأن تتجنب الارضاع المباشر عند وجود تشققات بحلمة الثدي.

أمّا بالنسبة الى الحضانة فإنّه لم يثبت انتقال العدوى في الاُسر إلاّ بين الزوج

ص: 417

والزوجة ، وعلى هذا فتجوز حضانة الاُم لولدها اذا تحقّق أمران :

الاول : قد قلنا سابقاً : إنّ مرض الايدز ينتقل عن طريق السوائل الجنسية ، ونقل الدم ، والثقب بالإبر المشتركة بصورة رئيسة ، فاذا راعت الاُم عدم ملامسة الاغشية المخاطية للطفل عند اصابتها بجروح أو تلوثت يدها بالسائل الجنسي أو دم الحيض ، ولم تستعمل الابر الثاقبة المشتركة فلن تكون مصدر خطر على الطفل.

الثاني : أنّ حق حضانة الاُم للطفل فيه جهتان :

جهة للطفل من حيث تطوره النفسي ونشأته الطبيعية.

وجهة للاُم كحقٍّ جعله اللّه لها في حضانة الولد من اُنس لها. وعلى كلا الحقين : فلا يجوز أن تُحرم الحاضنة من حقها والطفل من الرعاية الافضل من اجل احتمال ضعيف لضرر يمكن الاحتراز عنه اذا حرصت الاُم على تنفيذ الأمر الاول.

عاشراً : ما حكم اعتبار مرض الايدز مرض موت ؟

اشارة

إنّ مرض الموت عُرفاً هو : المرض الذي يستشعر فيه الإنسان بدنوّ أجله ، وقد حكم الشارع المقدّس في هذه الحالة بالحجر على تصرفات المريض التي تضرّ بحقوق الدائنين والورثة.

وبما أنَّ مرض الايدز - على ما ذكره الأطباء - يكمن في الجسم - من حين حدوثه الى ان تظهر أعراض المرض المميّزة له - عدة سنوات قد تبلغ عشر سنين أو اكثر يكون فيها المصاب بالمرض عادياً في كل تصرفاته في اكثر هذه المدة ، إذن لا يمكن أن يحكم على المريض بمرض الايدز أنه في حالة مرض الموت.

نعم ، في المراحل المتأخرة من العدوى التي يستفحل فيها المرض وتصاحب المريض تغييرات سلوكية مصحوبة بالخرف ، وتقعده عن ممارسة الحياة اليومية ، وتتصل هذه التغييرات بالموت ففي هذه المراحل يحكم على

ص: 418

المريض بأنّ مرضه مرض الموت ؛ لأنّه في هذه الحالة الشديدة يستشعر بدنوّ أجله ، وبهذا ينطبق عليه عنوان ( مرض الموت ) فتتقيّد تصرفاته المضرّة بحقوق الدُيّان والورثة.

الوقاية من المرض :

بعد أن سُيطر على طريق انتقال العدوى ( بانتقال الدم الملوّث والإبر المشتركة ) بواسطة الكشف السريع والحديث للفيروس منع استعمال الإبر المشتركة بعد أن بيِّن خطرها للافراد ، وبعد أن كان انتقال المرض عن طريق الاُم الى طفلها أثناء الحمل أو الولادة يوجد بنسبة ضعيفة جداً لم يبق أمامنا من طرق العدوى الرئيسة الاّ الجنس ، فهل هناك طرق واقية من هذا المرض المعدي بطريقة الاتصال الجنسي ؟

أقول : إنّ طرق الوقاية من مرض الايدز تتلخّص باتّباع الوسائل الآتية :

1 - يجب توعية أفراد المجتمع بخطورة مرض الايدز ، وكيفية انتقال عدواه وسبل الوقاية منه ، وبهذا يتجنب الفرد الطرق التي من شأنها نقل العدوى اليه.

2 - ينبغي أن يشجّع الشباب على الزواج المبكّر ، كما قال تعالى في حثّهم على الزواج : ( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (1).

وقد كان بعض الصحابة ( رضوان اللّه عليهم ) يقول : « من أراد الغنى فليتزوَّج » إشارة الى الآية الكريمة ، ولعلّ الآية قد جعلت الزواج واجباً اجتماعياً تنهض به الدولة أو المجتمع اذا لم يستطع الفرد أن يقوم به (2).

ص: 419


1- النور : 32.
2- ولكن الصحيح : أنّ الأمر هنا قد توجّه الى المجتمع ، وهو ينحلّ الى واجبات متعدّدة بعدد الأفراد.

وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس منّي » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « من تزوَّج فقد أحرز نصف دينه ، فليتق اللّه في النصف الآخر » (2).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « اذا جاءكم مَنْ ترضون خُلُقه ودينه فزوّجوه إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير » (3).

وبهذا الطريق يقضى على طريق الرذيلة والفساد.

3 - يجب توعية المسلمين وغيرهم ، وحتى إجبارهم على سدّ جميع الطرق التي حرمها الشارع المقدس التي تجرّ الانسان الى الرذيلة ، وعدم الالتزام بالفضائل التي أوجبها الشارع المقدس ، مثل :

أ - تحريم النظر الى ما حرّمه اللّه تعالى : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) (4). ( قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ... ) (5).

ب - حرمة إبداء زينة النساء إلاّ ما ظهر منها ، فقد قال تعالى : ( ... وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ... ) (6). (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ... ) (7).

ص: 420


1- وسائل الشيعة : ج 14 ، باب 1 ، من مقدمات النكاح ح 14 ، وباب 2 ، ح 9.
2- المصدر السابق : ح 11 و 12 ، وتراجع سنن الترمذي وابن ماجة باب النكاح.
3- الوسائل : ج 14 ، باب 28 ، ح 2 ، وراجع أيضاً سنن الترمذي وابن ماجة باب النكاح.
4- النور : 30.
5- النور : 31.
6- النور : 31.
7- الأحزاب : 33.

ج - بل حرّم الشارع كل ما يثير الشهوات ، فقد قال تعالى : ( ... وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (1) ، فيعلم منه حرمة حتى صوت الخلخال وحتى التكسّر في المشية مما يوجب لفت نظر الرجال وتحريك شهواتهم.

د - تحريم الخلوة بالأجنبية ، فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يخلونّ رجل بامرأة إلاّ كان ثالثهما الشيطان » (2).

ه - تحريم الغناء الذي فسِّر به لهو الحديث الوارد في الآية القرآنية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (3).

4 - توعية المجتمع على نوع العقوبة الرادعة عن الفحشاء في الدنيا ، وبيان أنّ عذاب اللّه أشدّ في الآخرة ، وتطبيق هذه العقوبة أمام المؤمنين اذا وقعت الفحشاء في المجتمع ؛ ليرتدع الناس عن هذا الإثم ، كما ذكر ذلك القرآن الكريم. فيبيّن للناس حدّ الجلد والرجم والقتل والإلقاء من شاهق والإحراق بالنار ، وما الى ذلك من عقوبات ذكرها المشرّع الحكيم في القرآن والسنة. فمثلاً :

أ - حكم الزاني أو الزانية ( اذا لم يكونا محصنين ) هو الجلد مائة جلدة ، قال تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (4).

ب - حكم الزاني أو الزانية ( اذا كانا محصنين ) هو الرجم.

ص: 421


1- النور : 31.
2- أخرجه الترمذي وأحمد في مسنده : ج 3 ، ص 339.
3- لقمان : 6.
4- النور : 2.

ج - حكم اللائط والملوط به ( سواء كانا محصنين أو غير محصنين ) هو القتل للفاعل والمفعول به ، وطريقة القتل مخيّرة ( كما في الروايات ) بين القتل بالسيف أو الالقاء من شاهق أو الإحراق بالنار.

وبهذه التدابير (1) نكون قد صُنّا الإنسان من الوقوع في الحرام ، واذا وقع في الحرام فقد سددنا الطريق على العدوى بمرض الإيدز.

* * *

ص: 422


1- أنّ التلفاز وما تقوم به فِرَقُه يؤثّر أثراً مهماً ورئيساً في توعية الشعب ، فعلى عاتق المسؤولين عنه تقع هذه المسؤولية الكبيرة أولاً وبالذات.

موجبات الافطار في مجالي التداوي والحالات المرضية

اشارة

ص: 423

ص: 424

قبل الدخول في محوري البحث لابدّ من معرفة ضابط المفطِّر ليكون ميزاننا في معرفة المفطِّرات في مجال التداوي أو الحالات المرضية ، ولهذا نرى أن نذكر مقدّمة لبحثينا وهي ضابط المفطِّرات.

ضابط المفطِّرات

اشارة

إنّ أول مفطِّر أوجب القرآن الكريم الامساك عنه وكذا الروايات هو : ما يصدق عليه عنوان الأكل والشرب ، فقد ذكر القرآن الكريم ذلك بالمفهوم فقال : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (1).

فقد أجاز القرآن الكريم الأكل والشرب حتى يطلع الفجر ، ومعناه يحرم جواز الأكل والشرب في النهار الى الليل. وكذا ذكرت الروايات ذلك ، كما في صحيحة محمد بن مسلم قال : « سمعت الإمام الباقر علیه السلام يقول : لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث ( أو أربع ) خصال : الطعام والشراب والنساء والارتماس

ص: 425


1- البقرة : 187.

في الماء » (1).

وقد ذكروا : أنَّ اجتناب الطعام والشراب يراد بهما اجتناب أكل الطعام واجتناب شرب الشراب الذي ذكر في الآية القرآنية ، وهذا الأمر من الوضوح بحيث انعقد عليه اجماع المسلمين (2) وضرورتهم.

إنّما الكلام في اُمور اُخر منها :

1 - ما هو الأكل والشرب ؟

إنّ أكثر اللغويين أوكلوا أمر الأكل والشرب إلى وضوحه ، فقال الراغب (3) في المفردات : الأكل تناول المطعم ، وقال الخليل (4) : الأكل معروف ، وكذا قال الفيومي (5) في المصباح المنير.

نعم ، ذكر الزبيدي في تاج العروس (6) فقال : الأكل إيصال ما يمضغ الى الجوف ممضوغاً ...

وقال الرمّاني : الأكل حقيقة بلع الطعام بعد مضغه. قال : فبلعُ الحصاة ليس بأكل حقيقة.

أما الشرب : فقال في مفردات الراغب (7) : تناول كل مائع ماءً كان أو غيره.

وأرى أن الأكل في العرف يشترط فيه أن يكون للمأكول مضغ ويصل الى

ص: 426


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 1 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 1.
2- راجع الشرح الكبير في هامش المغني : ج 3 ، ص 36.
3- مفردات الراغب : ص 20.
4- معجم مقاييس اللغة : ج 1 ، ص 122.
5- المصباح المنير : ج 1 ، ص 10.
6- تاج العروس : ج 1 ، ص 19.
7- مفردات الراغب : ص 257.

الجوف عن طريق الحلق. أمّا الشرب فهو أيضاً إيصال ما يشرب الى الجوف عن طريق الحلق.

2 - هل الأكل والشرب الذي يكون مفطراً ينحصر في الطريق العادي المتعارف - وهو طريق الفم - أو يشمل ما يكون من غير الطريق العادي ؟

فمثلاً : إذا شرب إنسان الماء من أنفه أو أدخل الطعام الى المعدة من أنفه فهل يكون مفطراً ؟

الجواب : أنّ الأكل والشرب متى صدق صدق عنوان المفطرية ، ولا خصوصية لكون الأكل والشرب من الطريق المتعارف بعد اطلاق الدليل ، وعلى هذا فلا دخل للفم في صدق عنوان الأكل أو الشرب إذا كان دخول الطعام أو الشراب الجوف عن طريق الحلق ، ولذلك لا يحتمل أيّ فقيه جواز شرب الخمر المحرّم من طريق الأنف بدعوى أنّ النهي عن شربه منصرف الى ما كان شربه عن طريق الفم.

3 - هل يكون الأكل والشرب مفطراً إذا كان معتاداً ؟

أمّا إذا كان غير معتاد كالدواء غير المعدِّ للأكل والشرب وكعصارة الأشجار وبعض المساحيق الشبيهة بالتراب والطين فهل يكون مفطراً ؟

والجواب : قد ذكر الإمام الخوئي قدس سره : « أن المرتكز في اذهان عامّة الناس أنّه لا فرق في المأكول والمشروب بين المعتاد منهما كالخبز والماء ، وغير المعتاد كالحصى (1) والتراب والطين ومياه الأنهار وعصارة الأشجار ونحو ذلك ممّا لم يكن

ص: 427


1- أقول : يمكن التشكيك في صدق الأكل على الحصى ، من حيث عدم امكان مضغها ، ولم تمضع وحينئذ يصدق عليها عنوان البلع وحينئذ فإن كان هناك دليل خاص يدلّ على مفطرية بلع الحصى ( كالاجماع من المسلمين ) فهو ، وإلاّ فلا يحصل به الافطار ( إذا قلنا : إنّ الافطار يحصل بالأكل والشرب لا بعنوان أعمّ منهما ) لعدم صدق الأكل العرفي على بلع الحصاة ، وقد تقدّم عن الرماني : بأن بلع الحصاة ليس بأكل حقيقي.

معدّاً للأكل والشرب ، ولم ينسب الخلاف حتى الى المخالفين ما عدا اثنين منهم ، وهما الحسن بن صالح وأبو طلحة الأنصاري » (1).

أقول : وقد ذكر في المغني والشرح الكبير : عدم ثبوت ما نقل عن أبي طلحة الأنصاري (2).

والدليل على هذا الارتكاز عند المسلمين هو اطلاق الآية القرآنية والروايات المفسِّرة لها ، فإنّ المفهوم منهما هو المنع من الأكل والشرب من غير ذكر للمتعلق ، ومن المعلوم - في علم الاُصول - أنّ حذف المتعلق يدلّ على العموم بعد صدق الأكل والشرب ، فلا فرق أصلاً بين الأكل والشرب في المعتاد ، كأن يقول : أكل محمد الخبز وشرب محمد الماء ، أو غير العتاد كأن يقول : أكل محمد الدواء أو التراب أو الطين ، أو شرب محمد الدواء أو السمّ أو عصارة الشجر.

وممّا يؤيّد هذا ما ذكر في مفطرية الغبار الداخل الى الحلق - كما ذكر ذلك النص - مع عدم كون الأكل للغبار متعارفاً.

إذن عُلم من ذلك أن الاعتبار في المنع بالدخول الى الجوف من طريق الحلق سواء كان متعارفاً أم لا إذا صدق عليه عنوان الأكل والشرب.

وما قيل من عدم صدق الطعام والشراب - الوارد في صحيحة محمد بن مسلم (3) عن الإمام الباقر المتقدّمة ) على الدواء وما يدخل الى الجوف إذا كان غير

ص: 428


1- مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 92.
2- المغني : ج 3 ، ص 36 ، وهامش المغني ( الشرح الكبير ) : ج 3 ، ص 37.
3- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 1 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 1.

معتاد فيكون الطعام والشراب حينئذ مختصاً بالمتعارف منهما - يُبطله أنَّ الصحيحة في صدد بيان أن الطعام والشراب مضرٌّ بالصوم بخلاف الأفعال الخارجية من النوم والمشي والعمل وما شابه ذلك ، وأمّا ما هو المراد من الطعام والشراب هل هو مطلق المأكول والمشروب أو خصوص المعتاد منهما ؟ فليست الصحيحة بصدد بيانه حتى تدلّ على حصر المفطر في الطعام والشراب العاديين.

4 - هل العبرة بوصول الطعام أو الشراب الى الجوف أو بدخوله عن طريق الحلق ؟

اقول : تقدم سابقاً أن ما يؤكل ويشرب لو وصل من طريق الأنف وهو طريق غير عادي للوصول الى الجوف ، وقد قلنا : إنّه مضرٌّ بصحة الصوم ، وعليه فلو فرضنا ثقباً تحت الذقن - مثلاً - بحيث يصل المطعوم أو المشروب الى الجوف من طريق الحلق فيكون مضرّاً بصحة الصوم.

ولكن هنا يكون التساؤل عن أمر آخر ، وهو ما إذا فتحنا ثقباً تحت الحلق أو في الصدر لأجل ايصال ما يؤكل أو يشرب الى الجوف فهل يضرّ هذا في صحة الصوم ؟

وقد اجاب على هذا الإمام الخوئي رحمه اللّه فقال : « وعلى أي حال فالمدار على الدخول في الحلق كيفما اتفق ، ومنه نعرف عدم البأس بالدخول في الجوف من غير هذا الطريق إلاّ أن يقوم عليه دليل بالخصوص ، فيقتصر على مورده كما في الاحتقان بالمائع. وأمّا ما عدا ذلك فلا ضير فيه لعدم كونه من الأكل والشرب في شيء كما لو صبَّ دواءً في جرحه أو شيئاً في اُذنه أو إحليله فوصل الى جوفه ... » (1).

ص: 429


1- مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 108.

واستدلَّ رحمه اللّه بصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر علیه السلام قال : « سألته عن الصائم هل يصلح له أن يصب في اُذنه الدهن ؟ قال علیه السلام : إذا لم يدخل حلقه فلا بأس » (1). وقال في موضع آخر : « فإن العبرة في صدق ذلك ( المفطرية ) بدخول المأكول أو المشروب في الجوف من طريق الحلق » (2).

وقال في موضع آخر : « فحقيقة الأكل والشرب ليس إلاّ ادخال شيء في الجوف من طريق الحلق ... » (3) (4).

ولكن نقول :

1 - إنّ صدق الأكل والشرب وإن كان متوقفاً على مرور المأكول والمشروب عن طريق الحلق - وهو المعنى العرفي لهما - إلاّ أنَّ الآية القرآنية التي منعت بمفهومها عن الأكل والشرب لم تمنع عنهما بما أنّهما فعل من الافعال ، بل منعت عنهما بما أنّهما فعلان يوجبان وصول المأكول والمشروب الى الجوف ، فالمهم هو المنع من وصول الطعام والشراب الى الجوف الذي يكون عادةً بواسطة الأكل ، وعلى هذا فسيكون الأكل والشرب طريقاً مرآتياً لما يصل الى الجوف من الطعام أو الشراب (5) ، ولهذا ذكرت صحيحة محمد بن مسلم المتقدّمة اجتناب الطعام والشراب.

ص: 430


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 24 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 5.
2- مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 91.
3- مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 93.
4- لا بأس بالتنبيه إلى أن كلام الإمام الخوئي ; هنا يختلف عن فتواه في رسالته العملية ، فإنّه قد استشكل في صحة الصوم حتى فيما إذا وصِلَ المغذّي بالوريد مع عدم صدق الأكل والشرب قطعاً فكيف فيما إذا دخل الطعام الى المعدة لا عن طريق الحلق ؟ فهو أولى بالبطلان عنده من ناحية الاحتياط الوجوبي.
5- أقول : هذا الرأي ليس هو المشهور بين علماء الإمامية ، وليس هو الذي عليه الفتوى الآن وإن وجد مَن يقول به منهم من قدماء الأصحاب.

وعلى هذا فإذا وصل المأكول والمشروب الى الجوف بلا أكل ولا شرب فيصدق عليه أنّه غير مجتنب للطعام والشراب ، وأنّه غير ممسك عنهما حتى يصح منه الصوم الذي هو عبارة عن الامساك عن اشياء أهمّها المأكول والمشروب.

2 - أمّا الرواية التي استدل بها الإمام الخوئي رحمه اللّه فهي بصدد بيان أنَّ الدواء الذي صُبّ في الاُذن ما لم يدخل الى الحلق فهو لا يصل الى الجوف الذي يكون مقرّاً للطعام والشراب ، أو يكون الأكل والشرب مقدمة للوصول إليه ، بل يكون الدواء في الاُذن فلا يصدق عليه الأكل والشرب وهذا متين جداً ، لا بمعنى أن المفطِّر هو مختص بما دخل الطعام أو الشراب عن طريق الحلق.

3 - إنّ الروايات ذكرت صدق الصوم بالاجتناب عن أشياء ، منها الطعام والشراب وحينئذ إذا لم يصدق على الإنسان أنّه اجتنب الطعام والشراب فهو مضرٌّ بالصوم وإن لم يصدق عليه أنّه أكل أو شرب.

توضيح وتتميم :

أنّ الذي يفهم من الروايات في الإضرار بصحة الصوم هو عبارة عمّا يدخل الى الجوف ممّا يكون الأكل والشرب مقدمة له ويصدق عليه أنّه لم يجتنب الطعام والشراب ، وحينئذ يكون الصوم الصحيح بالنسبة لهذا الأمر هو عدم وصول شيء خارجي الى هذا الجوف المعين ، ولا عبرة بخصوصية الأكل والشرب بما أنّه فعل من الأفعال ، ولهذا عدة قرائن هي :

1 - ما رواه سليمان بن حفصَ المروزي قال : « سمعته يقول : إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان أو استنشق متعمداً أو شمّ رائحةً غليظةً أو كنس بيتاً فدخل في أنفه وحلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين ، فإنّ ذلك مفطِّر مثل الأكل والشرب والنكاح » (1). ومثلية دخول التراب أو ماء المضمضة أو

ص: 431


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 22 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 1.

الاستنشاق أو الرائحة الغليظة الحاملة لأجزاء المشموم الى حلقه أو أنفه للأكل هي في صورة الدخول الى الجوف وإن لم تكن أكلا.

2 - صحيحة حماد عن الإمام الصادق علیه السلام : « في الصائم يتوضأ للصلاة فيدخل الماء حلقه ؟ فقال علیه السلام : إن كان وضوؤه لصلاة فريضة فليس عليه شيء ، وإن كان وضوؤه لصلاة نافلة فعليه القضاء »(1).

وواضح أنّ دخول ماء الوضوء الى الحلق لا يسمى شرباً(2) ، وإنّما هو عبارة عن دخول قطرة أو أكثر من الماء الى الجوف.

3 - صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر ( الإمام الكاظم علیه السلام ) قال : « سألته عن الصائم هل يصلح له أن يصبّ في اُذنه الدهن ؟ قال علیه السلام : إذا لم يدخل الى حلقه فلا بأس »(3).

4 - موثّقة سماعة بن مهران قال : « سألته عن الكحل للصائم ؟ فقال علیه السلام : إذا كان كحلاً ليس فيه مسك وليس له طعم في الحلق فلا بأس »(4).

وواضح من هاتين الروايتين أن المانع من الصوم هو دخول الدواء الحلق وصول طعم الكحل الى الحلق ، وهو ممّا لا يسمى أكلا ولا شرباً.

5 - صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما ( الإمام الصادق أو الباقر علیهماالسلام ) أنّه سئل عن المرأة تكتحل وهي صائمة ؟ فقال علیه السلام : « إذا لم يكن كحلاً تجد له طعماً في حلقها فلا بأس »(5).

وواضح أنَّ الطعم في الحلق هو أول الدخول الى الجوف فلا خصوصية

ص: 432


1- المصدر السابق : ب 23 ، ح 1.
2- الشرب : الكرع بالأفواه ، فشربوا منه أي كرعوا بأفواههم ، مجمع البحرين.
3- الوسائل : ج 7 ، ب 24 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 5.
4- المصدر السابق : ب 25 ، ح 2.
5- المصدر السابق : ب 25 ، ح 5.

للأكل أو الشرب.

6 - ما رواه الصدوق رحمه اللّه بسنده عن منصور بن حازم أنّه قال : « قلت للإمام الصادق علیه السلام الرجل يجعل النواة في فيه وهو صائم ؟ قال : لا. قلت : فيجعل الخاتم ؟ قال علیه السلام : نعم » (1).

وهذه الرواية كالصريحة في أنّ ما يضرّ بالصوم هو وصول شيء الى الجوف وإن لم يصدق عليه أنّه أكل أو شرب.

والخلاصة : أنّ الأدلّة القائمة على المفطِّرية بالنسبة لما يؤكل أو يشرب على قسمين :

1 - أدلّة خاصة تدلّ على اجتناب الأكل والشرب في الصوم ، كما إذا فهمنا من الآية القرآنية المجوّزة للأكل والشرب في الليل المنع منهما في النهار ، وهنا لا مانع من أن يكون الأكل والشرب مختّصاً بوصول الشيء الى الحلق.

2 - أدلّة عامّة دلّت على وجوب اجتناب الطعام والشراب ، وهذا لا يتوقف على أن يكون اجتنابهما عن طريق الحلق ، بل يجب اجتنابهما مطلقاً ، لكن لا بمعنى أن لا ينظر إليهما ولا يمسّهما ولا يبيعهما ونحو ذلك ، بل يجتنبهما بحيث لا يصلا الى مستقرهما - وهو جوف الإنسان ( المعدة ) الذي يكون الطريق المتعارف له هو الحلق - وإن لم يصدق عنوان الأكل والشرب.

وأمّا الحلق الذي اُكِّد عليه في عدم وصول المأكول والمشروب إليه فهو باعتبار أنّه مبدأ الجوف ، ومنتهى العمل الاختياري للإنسان ، وما بعده يحصل بالاضطرار ولا يمكن وقفه أو منعه ، وحينئذ يكون المضرّ هو وصول الطعام والشراب الى الجوف بالاختيار ولا خصوصية للحلق الذي وهو مدخل لجوف

ص: 433


1- المصدر السابق : ب 40 ، ح 3 ، وسند الصدوق الى منصور بن حازم فيه محمد بن علي ماجيلويه ، أمّا منصور فهو ثقة ثبت.

الطعام والشراب ، خصوصاً إذا نظرنا الى الصوم الذي معناه الإمساك والذي يكون دخول الطعام الى مستقرّه بغير الحلق مضراً بصحته عرفاً. ولنا أن نعتبر في المولى الذي يمنع من دخول زيد الى الدار ، وقال : إياكم أن يصل زيد الى باب الدار فهل يكون دخول زيد الى الدار من غير الباب مفوِّتاً لغرض المولى ؟ وبالتأكيد يكون الجواب : نعم ، إنّه مفوّت لغرض المولى.

وحينئذ فما لم يصدق على المكلف أنَّه مجتنب للطعام والشراب فهو غير صائم ، كما إذا فتح له ثقباً الى المعدة بعد الحلق ليصل الطعام والشراب منه إليها ، وكذا إذا دخل الى جوفه الطين والكحل والدواء والدهن ، فإنّ كلّ هذه إذا حصلت لم يصدق عليها عنوان الأكل والشرب ، ولكن يصدق على صاحبها أنّه لم يمتنع من الطعام والشراب فهو مضرّ بصحة الصوم.

ويؤيّد هذا ما ذكره العلماء : « لو بلّ الخيّاط الخيط بريقه أو غيره ثم ردّه الى الفم وابتلع ما عليه من الرطوبة بطل صومه ( عند الإمامية وهو قول أكثر الشافعية ) ، إلاّ إذا استُهلك ما كان عليه من الرطوبة بريقه على وجه لا يصدق عليه الرطوبة الخارجية ، وكذا لو استاك وأخرج السواك من فمه وكان عليه رطوبه ثم ردّه الى الفم فإنَّه لو ابتلع ما عليه بطل صومه ، إلاّ مع الاستهلاك على الوجه المذكور » (1).

يبقى شرب السجائر : الذي يكون له طعم في الحلق ويصل الى الجوف فتكون مضرّة في صحة الصوم ، لا من ناحية ادخال الهواء الى الرئتين الذي لا يصدق عليه الشرب الحقيقي ، لأنّ الشرب الحقيقي هو ما يشرب من المائعات ويكون مقرّه المعدة ، ولكنّ الإشكال من ناحية عدم صدق اجتناب الأكل للأجزاء

ص: 434


1- راجع العروة الوثقى للسيد الكاظم الطباطبائي ، كتاب الصوم ، ومستمسك العروة الوثقى : ج 8 ، ص 253.

المتكوّنة من الدخان المسحوب الى الحلق وما بعده التي تمنع من صدق اجتناب الطعام.

ولعلّه لما تقدم فقد استشكل الإمام الحكيم قدس سره على من قال بأنّ المدار صدق الأكل والشرب ، فقال :

« بأنّ الأدلّة لم تختص بالمنع عن الأكل والشرب ، بل مثل الصحيح السابق - المتضمن لوجوب الاجتناب عن الأربع وغيره - دالّ على المنع عمّا هو أعم من الأكل والشرب ... ، مضافاً الى أنّه يستفاد ممّا ورد في المنع عن الاحتقان بالمائع وصبّ الدهن في الاُذن إذا كان يصل الى الحلق ، وما ورد في الاستنشاق إذا كان كذلك ، وما ورد في مفطرية الغبار - أنّ المعتبر في الصوم عدم الايصال الى الجوف مطلقاً ، وحينئذ يشكل صبّ الدواء في الجرح إذا كان يصل الى الجوف ، بل في المختلف استقرب فيه الافطار مستظهراً له من المبسوط ، وكذا تقطير المائع في الاُذن ، وعن أبي الصلاح الجزم بمفطِّريته ... » (1) (2).

وممّا يتفرّع على المفطِّرات في مجال التداوي اُمور :

1 - الحقن بواسطة المستقيم أو الإحليل :

ولا ضرورة لحصر البحث فيهما ، بل لابدّ من البحث فيما يدخل من أحد السبيلين ( القبل والدبر ) كتنظيف الرحم والتحاميل والحقن الشرجية وما شابه ذلك ومما يحتاج الى العلاج والدواء لرفع المرض ، فهل يكون هذا منافياً لصحة الصوم ؟

ص: 435


1- مستمسك العروة الوثقى : ج 8 ، ص 238.
2- أقول : نحن لم نقل بقاعدة المنع ممّا يصل الى الجوف مطلقاً ، ولكن قلنا بالمنع ممّا يصل الى الجوف الذي يكون الأكل والشرب طريقاً عاديّاً إليه ولم يصدق على فاعله اجتناب الطعام والشراب وإن لم يصدق عنوان الأكل والشرب.

الجواب : وردت صحيحة علي بن جعفر عن الإمام موسى بن جعفر علیه السلام مصرّحةً بالجواز فقال : « سألته عن الرجل والمرأة هل يصلح لهما أن يستدخلا الدواء وهما صائمان ؟ قال : لا بأس » (1).

أقول : هذه الرواية جوّزت إدخال الدواء للصائم ، وبما أنَّ ادخال الدواء على نحوين : الأول : ادخال الدواء الجامد في القبل والدبر ، والثاني : ادخال الدواء المائع كذلك فقد يتوهّم بأنّها جوّزت الصور كلها ، ولكن بما أنّه قد وردت الروايات المعتبرة التي تنهى الصائم عن الاحتقان بالمائع ، بل وتجوّز الاحتقان بالجامد ، فقد ذهب جمع من الفقهاء الى التفصيل في أن المنهيّ عنه هو ادخال الدواء المائع في الجسم ، وهو ما يسمى بالاحتقان الذي عُبّر عنه في مجمع البحرين « إيصال الدواء الى باطنه من مخرجه بالمحقنة ».

وبهذا نعرف أنّ المنهيّ عنه في الصوم هو فقط إيصال الدواء المائع الى الباطن من طريق المخرج.

أمّا الحقن بالجامد وهو ما يسمّى التحاميل فلا بأس به في الصوم ، سواء كانت في القبل أو الدبر.

فمن الروايات : صحيحة ابن أبي نصر عن أبي الحسن ( الإمام الرضا علیه السلام ) « انه سأله عن الرجل يحتقن تكون به العلّة في شهر رمضان ؟ فقال علیه السلام : الصائم لا يجوز له أن يحتقن » (2).

بناءً على أنّ معنى الاحتقان منصرف الى ادخال الدواء المائع ، وعلى تقدير الاطلاق وشمول الاحتقان للجامد فهو مقيّد بموثّقة الحسن بن فضال ، قال : « كتبتُ الى الإمام الرضا علیه السلام ما تقول في اللطف يستدخله الإنسان وهو صائم ؟

ص: 436


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 5 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 1.
2- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 5 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 4.

فكتب علیه السلام : لا بأس بالجامد » (1) (2).

ثمّ إنّ هذا المنع للحقن بالمائع هل معناه وجود الحرمة التكليفية للصائم إذا أوجدها من دون عذر ، وعدم الحرمة إذا كانت بعذر ، أو أنّها تبطل الصوم أيضاً ؟

أقول : اختلف الفقهاء على قولين ، ولكنّ الصحيح هو القول الثاني ؛ وذلك لظهور النهي الوارد في باب المركبات الارتباطية في الارشاد الى المانعية ( كما أنَّ الأمر في المركبات ظاهر في الارشاد الى الجزئية أو الشرطية ) فإنّ النهي الذي هو ظاهر في الحرمة ينقلب في باب المركبات الى ظهور ثانوي وهو البطلان والفساد نظير النهي عن لبس جلد ما لا يؤكل لحمه في الصلاة (3).

وعلى هذا فلا فرق في مفطرية الحقنة بين الاختيار والاضطرار لمعالجة مرض ، لاطلاق الدليل ، بل الظاهر من النصّ هو الثاني كما لا يخفى.

وبهذا يعرف حكم ما لو احتقن المريض عن طريق الإحليل ، فانه لا يضرّ بالصوم.

وكذا لا يضرّ بالصوم ادخال الطبيب يده للفحص أو لتنظيف الرحم وما شابه ذلك ، سواء كان ذلك مصاحباً لمائع أم لا ، لعدم صدق الاحتقان الذي يبطل الصوم.

ص: 437


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 5 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 2. وهذا الحديث له سند آخر ينقله الشيخ الطوسي قدس سره تكون عبارته أصرح في جواز الجامد إذ قال بدل « اللطف » التلطف من الاشياف.
2- ذهب الأطباء المختصون ( الدكتور محمد علي البار والدكتور حسّان شمسي پاشا ) : الى « أن حقن السوائل الى داخل الامعاء حيث يتم الامتصاص يؤدّي الى الافطار وافساد الصوم » هذا القول ليس مبنياً على ما ذكرناه من الأدلّة الشرعية ، بل انهما يرون أن الجوف هو من الحلق الى الشرج وهذا ماء دخل الجوف فيكون مفطراً.
3- على أن قوله علیه السلام في صحيحة ابن أبي نصر : « الصائم لا يجوز له أن يحتقن » ولا يحتمل فيه حرمة الاحتقان في الصوم المندوب ، لجواز أن يبطله الإنسان بالأكل وغيره من المفطرات إذن لا مناص من دلالة عدم الجواز في الصحيحة على البطلان دون الحرمة التكليفية.

نعم ، وردت موثقّة حنان بن سدير أنّه سأل الإمام الصادق علیه السلام عن الصائم يستنقع في الماء ؟ قال : « لا بأس ، لكن لا ينغمس. والمرأة لا تستنقع في الماء لأنّها تحمل الماء بقبلها » (1).

ولكن بما أن التعليل لم يقل أحد من علماء الإمامية بكونه مفطراً ولم يفهم مشهور الفقهاء من النهي الحرمة أيضاً فيحمل النهي على الكراهة.

حكم الاحتقان عند أهل السنة في المستقيم أو الاحليل :

قد ذكر مشهور السنة قاعدة يدخل تحتها الحقن في المستقيم والإحليل ويدخل غيرهما من السوائل الى داخل الجسم ، وهي : « أنّ كل ما دخل الى جوف الإنسان أو تجوّف فيه - كمداواة الجائفة أو المأمومة - فهو مفطّر » وقد استدلّوا على ذلك بقولهم : « لأنّه واصل الى الجوف باختياره فأشبه الأكل ». « ولأن الدماغ جوف والواصل إليه يغذيه فيفطره كجوف الإنسان » (2).

نعم ، ذهب الإمام مالك الى عدم كون ما يدخل الى الجوف مفطراً إلاّ أن يصل الى الحلق ولا يفطر إذا داوى الجائفة أو المأمومة ، واختلف عنه في الحقنة (3).

أقول : لنا أن نتسائل عن دليل القاعدة التي ذكرها مشهور علماء أهل السنّة ، فإنّ كان ما ذكر « من أن كل ما وصل الى الجوف باختياره يكون شبيهاً بالأكل فيكون مفطّراً » فقد نوقش هذا الدليل بأنّ هذه القاعدة هي من تدقيق الفقهاء التي لا يدلّ عليها كتاب ولا سنة ولا قياس.

وإن كان دليل القاعدة هو ما ذكر « من أنَّ الدماغ جوف والواصل إليه يغذيه فيفطره كجوف البدن » فقد نوقش أيضاً بعدم صحة هذا الكلام ، فإنّ الواصل الى

ص: 438


1- الكافي : ج 4 ، باب كراهية الارتماس في الماء للصائم ، ح 5.
2- المغني : ج 3 ، ص 37 ، وراجع الشرح الكبير في هامش المغني.
3- المصدر السابق.

الدماغ لا يغذيه ، على أنّ قاعدتهم تعمّ المغذّي وغيره من دخول سلاح الى الجائفة أو المأمومة ممّا لا يعدّ طعاماً ولا شراباً ، ولا ما في معناهما حتى يقاس عليهما (1).

2 - الدهان التي تستطعم في الحلق بواسطة المسام الجلدية :

وقبل التكلّم في هذه الصورة هناك تساؤلات حول ما قد يصل الى الجسم عبر الجلد - سواء طُعِم في الحلق أم لا - كالحقن في الجلد وفي العضلة وما يوضع من الأدوية التي يمتصها الجسم عبر الجلد ، فهل تكون مضرّة بصحة الصوم ؟

والجواب عن ذلك : أنّ الروايات المتقدّمة حاصرة لصحة الصوم باجتناب الأكل والشرب والنساء والارتماس في الماء ، واضيف إليها ما ثبت إضراره بالصوم كالاحتقان بالمائع كما تقدّم وغيره كالكذب على اللّه ورسوله الذي لم نتعرض له هنا لعدم مناسبته البحث ، أمّا هذه العناوين المتقدّمة فلم يرد فيها ما يدلّ على إضراره بالصوم وحرمته ، ولذا لا يمكن الحكم ببطلان الصوم لذلك. على أن التدهين الذي كان مستعملا في السابق للاوجاع والرضوض التي تحصل للإنسان لم يأت فيه أيّ دليل على كونه مضرّاً بالصوم. كما أنّ الاستنقاع بالماء للرجل الذي يوجب امتصاص الجلد شيئاً من الماء قد ورد فيه النص بالجواز ، ولكن منع من رمس الرأس ، فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام كما في صحيحة الحلبي قال : « الصائم يستنقع في الماء ولا يرمس رأسه » (2).

وهناك روايات دلّت على جواز دخول الرجل الحمام على كراهية فيه للضعف الذي ينشأ من ذلك ، ونحن نعلم أن دخول الحمام يوجب امتصاص الجسم شيئاً من الماء لا محالة. فقد ورد في صحيح محمد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام : « أنّه سأل عن الرجل يدخل الحمام وهو صائم ؟ فقال علیه السلام : لا بأس

ص: 439


1- راجع هامش المغني : ج 3 ، ص 38.
2- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 3 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 7.

ما لم يخش ضعفاً » (1).

ثمّ إنّ بعض الأدهان - كما قيل - تستطعم في الحلق بواسطة المسام الجلدية ، فهل تكون مضرّةً بالصوم ؟

الجواب : أنّنا إذا فرضنا التعبد بما ورد في الشرع واتّباعه من دون أن يكون لنا دخل في الزيادة أو النقيصة في التشريع فنقول : لم يرد نصّ على أن كل ما طعم في الحلق ولو بواسطة المسام الجلدية فهو مفطّر ، نعم ، ورد مفطّرية الأكل والشرب ممّا وصل طعمه الى الحلق بواسطة وصول الطعام الى الحلق مباشرةً (2).

وأمّا غير ذلك فلا يمكن الحكم بمفطريته للفرق الواسع بين الأكل والشرب وبين ما وصل طعمه الى الحلق بواسطة المسام الجلدية ، إلاّ إذا قلنا : إنّ ملاك إفطار الأكل والشرب هو التغذي وصول طعم الشيء الى الحلق ولو عن طريق المسام الجلدية يكون مغذّياً ، فيكون مفطراً ، إلاّ أنّ هذا بعيد غاية البعد وفي إثباته خرط القتاد.

3 - التطعيم بواسطة الأوعية الدموية أو العضل مما يصل طعمه الى الحلق :

وقبل أن نتكلم في هذه الصورة هناك تساؤل حول ما يصل الى الجسم بواسطة الأوعية الدموية أو العضل ولم يصل طعمه الى الحلق ، فإنّ هذه الصورة لا يصدق عليها عنوان المفطِّر لعدم صدق الأكل والشرب ، ولم يدلّ دليل على مفطريتها عند الإمامية. نعم ، تقدم عند مشهور أهل السُنَّة أنَّ هذا يشبه الأكل ، فيكون مفطّراً عندهم ، ولكن تقدم مناقشة ذلك وانه لم يرد فيه قرآن ولا سنة ولا قياس.

ص: 440


1- المصدر السابق : ج 7 ، ب 27 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 1.
2- وعلى ما ذكرنا يكون وصول الطعام والشراب الى الجوف ( المعدة ) مضرّاً بصحة الصوم وإن لم يكن عن طريق الحلق ؛ لعدم صدق الاجتناب عن الطعام والشراب التي ذكرته صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة.

وأمّا صورة التطعيم بالأوعية الدموية أو العضل ممّا يصل طعمه الى الحلق - كما نقل - فيتضح حكمه ممّا تقدّم في الادهان ، حيث قلنا : إنّه لم يرد دليل على كون وصول الطعم الى الحلق بدون إطعام مباشرة مضرّاً بالصوم على أنَّ المتخصّصين قد ذكروا بأنَّ الذوق ( الطعم ) إنّما يكون في مؤخرة اللسان لوجود الحليمات الذوقية فيه (1). نعم ، إذا كان ملاك مفطرية الأكل والشرب هو التغذية وكان التطعيم في الأوعية يعدّ غذاءً فهو ممّا يضرّ بالصوم ، إلاّ أنّنا قلنا : أن إثبات ذلك غير ممكن.

وقد يتوهّم أنّ إدخال الدواء أو الدم الى الجسم بواسطة ما يسمى بالحقن يكون مشمولاً لمفطرية الحقنة بالمائع الذي تقدّم دليلها سابقاً.

ولكن نقول : ان معنى الحقنة - كما تقدّم عن أهل اللغة - هو إيصال الدواء الى باطن مخرجه. وأما الحقن الطبي الذي يُطلق على إدخال الدواء في الأوعية الدموية فهو اصطلاح مستحدث ، فهو لا يفيد في توسعه معنى الحقنة تمسكاً بالإطلاق ، على أن الحقنة المانعة للصوم هي ادخال الدواء الى الباطن من الشرج ( المخرج ).

4 - ما يضخ في اللّهوات تسهيلاً للتنفس على المصابين بالربو :

إنّ ما يضخّ في اللّهوات تسهيلا للتنفس وكل ما يمرّ بالحلق الى الجوف يكون على أنحاء ثلاثة :

1 - ما يكون فيه جرم لا يُستهلك حتى يصل الى الحلق ويتعداه الى الجوف (2).

2 - ما يكون فيه جرم يُستهلك قبل الوصول الى الحلق والجوف.

3 - ما لا يكون فيه جرم عرفاً ، كالهواء الذي يحمل ذرّات من الغبار العاديّة.

ص: 441


1- راجع بحث التداوي والمفطّرات للدكتور حسّان شمسي باشا : ص 8.
2- إنّ ما يوضع في اللّهوات قد يصل الى البلعوم الفمي ثم الى المريء ، وكذا الأمر في التبغ فإنّ المواد العالقة تصل الى البلعوم الانفي والفمي والحنجري ثم يصل شيء منها الى المريء.

أمّا النحو الأول كالبخّاخ للربو والغبار الغليظ ودخان السجائر للشارب لها وأمثال ذلك فلا ينبغي الاشكال في كونه مفطّراً ؛ وذلك :

أ - لأنّنا استدللنا سابقاً على أنّ كلّ ما يدخل الجوف ممّا يسمّى أكلا أو شرباً أو يكون الأكل والشرب مقدّمةً له يكون مفطراً ؛ ولا يفرّق فيه بين القليل والكثير ، وذلك للإطلاقات الدالة على وجوب اجتناب الطعام والشراب أو الأكل والشرب ممّا يكون مقدمةً لوصول ما يشرب وما يؤكل الى الجوف.

وما دام الغبار الغليظ هو عبارة عن أجزاء من التراب أو غيره منتشرة في الهواء تدخل جوف الإنسان عن طريق الحلق فيصدق عليها عنوان دخول ما يطعم الى الجوف ممّا يكون الأكل مقدّمةً له ، وكذا البخّاخ الذي يسهّل التنفس على المصابين بالربو إذا كان عبارة عن أجزاء من سائل معيّن فيه ماء ومواد كيميائية عالقة تدخل جوف الإنسان فيصدق عليها عنوان دخول الطعام أو الشراب الى الجوف عن طريق الحلق ممّا يكون الأكل والشرب مقدّمة له ، وهكذا الكلام أيضاً في السجائر لمن يشربها حيث يكون الدخان قد حمل معه أجزاءً من النيكوتين وغيره قد دخلت الى الجوف عن طريق الحلق ممّا يصدق عليه أنّه لم يجتنب الطعام والشراب فيكون مفطراً.

ب - بالإضافة الى وجود الروايات الواردة في المضمضة (1) والاستنشاق القائلة : إنّ ما دخل منها الجوف ولو اتفاقاً يفطر - فيما عدا وضوء الفريضة - فإنّ من المعلوم أنّ الداخل منها قليل جداً. وما ورد من جواز مصّ الخاتم والنهي عن مصّ النواة (2) ونحو ذلك التي يتّضح منها عدم الفرق بين القليل والكثير فيما إذا صدق عليه عنوان الدخول الى الجوف ممّا يكون الأكل والشرب مقدّمةً له وإن لم يصدق

ص: 442


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 23 ممّا يمسك عنه الصائم ، أحاديث الباب.
2- المصدر السابق : ب 40 ، الأحاديث.

عنوانهما.

ج - الارتكاز الحاصل عند المتشرّعة الذي يفهم من كون الداخل الى الجوف من اجزاء ما يشرب أو يؤكل مضرٌّ بالصوم وأنّه من المسلّمات عندهم.

د - الروايات الخاصة : فقد روى سليمان بن جعفر المروزي ، قال : « سمعته يقول : إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان ، أو استنشق متعمّداً ، أو شمّ رائحةً غليظةً ، أو كنس بيتاً فدخل في انفه أو حلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين ، فإنّ ذلك مفطّر مثل الأكل والشرب والنكاح » (1).

وهذه الرواية لا يضرّ إضمارها بعد أن نقلها الشيخ الطوسيّ من كتاب الصفّار لتصريحه في آخر كتاب التهذيب بأنّ كل ما يرويه من رواية فهي منقولة عن كتاب من بدأَ سندها به ، ولا يحتمل أنّ مثل محمد بن الحسن الصفّار يورد في كتابه الموضوع للأحاديث الشريفة حديثاً عن غير المعصوم مضمِراً إياه (2).

ومعنى الرواية - كما نفهم - أنّ الغبار الحاصل من كنس البيت إذا دخل الأنف أو الحلق فيكون مثل الأكل متعمّداً ، لأنّ الأكل متعمّداً غاية ما يوجد إدخال الشيء الذي يؤكل الى الحلق والجوف ، فالغبار الذي يتصاعد من الكنس إذا وصل الى الحلق والجوف فلم يصدق على المكلف الصائم بأنّه اجتنب عن الطعام وإن اجتنب عن الأكل ، ولكن قد قلنا : إنّ الأكل لم يقصد بنفسه ، بل ذكر بما أنّه مقدمة لإيصال المطعوم الى الجوف.

وكذا بالنسبة للتمضمض والاستنشاق تعمّداً وشمّ الرائحة الغليظة فإنَّ هذه الاُمور - بقرينة سائر الأخبار وبمناسبة الحكم والموضوع - إذا استوجبت أن يصل الماء الى الحلق ويتجاوزه أو كانت الرائحة الغليظة بحدٍّ تستوجب أن تصل أجزاء

ص: 443


1- المصدر السابق : ب 22 ، ح 1.
2- راجع ما ذكره السيد الخوئي رحمه اللّه في مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 146.

من المشموم الى الحلق ويتجاوزه كما يصل في شم الرائحة الغليظة من القدر المغلي المستوجبة لدخول أجزاء من المشموم الى الجوف فهو مثل الأكل والشرب والنكاح في المفطّرية.

وأمّا النحو الثاني الذي يكون فيه جرم ويستهلك قبل الوصول الى الحلق والجوف - كما في الغبار الذي يتفق كثيراً من إثارة الهواء في فصل الربيع في بعض البلاد ، ويدخل فضاء الفم ويستهلك مع البصاق ، أو الرائحة القليلة أو الماء الذي يصل الى فضاء الفم ويستهلك فيه بحيث لا يعدّ شيئاً خارجياً - فلا يحسب أكلا أو شرباً ، ويعدّ معه الإنسان مجتنباً للطعام أو الشراب ، ولهذا فلا يحسب مفطّراً. ومن هذا القبيل قرص « النيتروغليسيرين » ونحوه الذي يوضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية إذ لا يصل منه شيء مع الريق الى البلعوم كما اتفق الأطباء على ذلك.

وقد يستشكل « في صورة الاتحاد في الجنس » فيقال : بمنع تحققّ الاستهلاك لأنّ الاستهلاك إنّما يتصور في غير المتجانسين كالغبار والماء بحيث يكون الاستهلاك موجباً لانعدام الغبار وزواله ، أمّا المزج الحاصل بين المتجانسين كالماء الخارجي مع الماء في داخل الفم فهو موجب لزيادة الكميّة والاضافة بواسطة المزج فلا يتصوّر الاستهلاك.

والجواب : أننا إذا لاحظنا نفس الممتزجَين المتّحدين في الجنس والذات - ماء خارجي وماء داخل الفم - فإنّهما من طبيعة واحدة أزاد أحدهما الآخر ، أما إذا نظرنا إلى الوصف الذي يتّصف به احدهُما دون الآخر فلابدّ من الالتزام بالاستهلاك فيه ، كما إذا فرضنا أنّ ماءً معيناً مغصوباً لا يجوز التوضّؤ به ، أخذنا منه قطرةً وألقيناها في حوض ماء غير مغصوب فهنا لا استهلاك بالنسبة الى ذات الماء ، أمّا بالنسبة الى خصوص المغصوب فقد استُهلكت ؛ لأنّها غير باقية بعد الامتزاج إذا كان قطرةً واحدة ، فلا يطلق على ماء الحوض المملوك أنّ فيه ماءً مغصوباً ،

ص: 444

فالماء بما هو ماء ليس مستهلكاً ، ولكن بما هو قطرة مغصوبة فقد استُهلك في ماء الحوض المملوك. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنَّ البلل الخارجي الموجود في الفم نتيجة المضمضة أو الاستنشاق أو شم الرائحة الغليظة التي فيها اجزاء من المشموم إذا استُهلكت مع بصاق الفم على وجه لا يصدق عليها الرطوبة الخارجية فيجوز ابتلاعها ؛ وذلك لانعدام الموضوع الخاصّ إذا كان قليلا بحيث يستهلك مع بصاق الفم.

وتدلّ على ذلك الروايات الواردة في جواز السواك بالمسواك الرطب (1) ، وفي بعضها جواز بلّ المسواك بالماء والسواك به بعد النفض ، إذ من المعلوم أنّه لا ييبس مهما نفض ، بل يبقى عليه شيء من الرطوبة ، ومع ذلك حكم علیه السلام بجواز السواك به ، وليس ذلك إلاّ من أجل استهلاك تلك الرطوبة في ريق الفم.

وقد ورد أيضاً جواز المضمضة (2) والاستياك بنفس الماء على أن يفرغ الماء من فمه ولا شيء عليه ، فإنّه في هذه الصورة تبقى لا محالة أجزاء من الرطوبة المائية في الفم ، إلاّ أنّه من جهة استهلاكها مع الريق لا مانع من ابتلاعها.

وعلى هذه الصورة تحمل موثّقة عمرو بن سعيد عن الإمام الرضا علیه السلام قال : « سألته عن الصائم يتدخّن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه ؟ فقال علیه السلام : لا بأس به. قال : وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال علیه السلام : لا بأس به » (3).

لأنّ هذه الرواية وإن كانت مطلقةً حتى الصورة كون الدخنة أو الغبار غليظاً ويصل الى الجوف بأجزائه ، إلاّ أنّ هذه الصورة قد تقدم حكم مفطّريتها ،

ص: 445


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 28 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 3 و ح 11.
2- المصدر السابق : ب 28 ، ح 16 ، وب 31 ، ح 1.
3- المصدر السابق : ب 22 ، ح 2.

فلابدّ أن نقيّد هذه الموثّقة بما تقدّم فتختص بصورة الاستهلاك ، كما لو كان الدخان الذي يمرّ أمام وجه الإنسان ويستنشق منه اليسير ، فيُستهلك مع ما في الفم من بصاق.

والظاهر أنّ البخار الذي يكون في الحمامات وإن كان كثيراً إلاّ أنّه لا يدخل إلى الجوف وهو كثير ، بل يُستهلك على بصاق الفم ويدخل الى الجوف ، ولذا لم يقل أحد بمفطريته ولم يتحرز منه أحد ، وهذا يختلف عن استنشاق دخان السجائر والبخّاخ الذي يكون الداخل منه الى الجوف كثيراً ويحمل أجزاءً خارجيةً يصدق معها أنّ الصائم لم يجتنب الطعام أو الشراب.

أمّا النحو الثالث - وهو ما إذا كان الداخل الى الجوف ليس فيه جرم عرفاً كالهواء الذي يحمل ذرات عادية من الغبار - فلا اشكال في عدم كونه مضرّاً بصحة الصوم ، وكذا الاُوكسجين الذي يعطى البعض المرضى.

5 - ما تعالج به الطعَنات الجوائف مما يصل الى مستقر الغذاء :

إنّ الجواب عن هذه الحالة يختلف باختلاف مباني العلماء :

فمن قال بأنَّ المفطِّر هو عنوان الأكل والشرب وأنّه لا يتحقّق إلاّ بأن يمرّ المأكول والمشروب عن طريق الحلق فيرى أنَّ معالجة الطعَنات الجوائف ممّا يصل الى مستقر الغذاء لا يضرّ بالصوم ؛ لعدم تحقّق الأكل والشرب.

أمّا من يرتأي بأنَّ الأكل والشرب قد اُخذ على نحو الطريقية لما يصل الى الجوف ( وهو مستقر الغذاء على الأقل ) وأنّ رواية « لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع » ترى مانعية كلّ ما يصل الى الجوف ممّا يؤكل أو يشرب وإن كان دواءً أو غير مألوف يرى أنّ ما يصل الى الجوف يكون مضراً بالصوم ؛ لأنّه لا يصدق على فاعله الاختياري بأنّه قد اجتنب الطعام أو الشراب ما دام قد وصل الى جوفه بالاختيار.

ص: 446

6 - الحجامة وفصد الدم وسحبه هل يضرّ بالصوم ؟

والذي ينبغي أن يقال : إنّ هذه العناوين الثلاثة لا تضرُّ بالصوم ، لعدم صدق أي عنوان من العناوين المفطِّرة عليها ، لأنّ هذه العناوين ليست أكلا ولا شرباً ولا يلزم منها ادخال شيء الى الجوف الذي يصل الى مستقر الطعام أو الشراب.

نعم ، قد ينطبق عليها مفهوم ( الضعف ) ، وقد ورد النهي عن تضعيف الصائم نفسه واخراج كلّ دم مضعّف كنزع الضرس ونحوه والحجامة ، فقد ورد في صحيحة الحلبي ، عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن الصائم أيحتجم ؟ فقال : إني أتخوّف عليه ، أما يتخوّف ( به ) على نفسه ؟ قلت : ماذا يتخوّف عليه ؟

قال : الغشيان ، أو لأن ثثور به مُرَّة (1). قلت : أرأيت إن قوي على ذلك ولم يخشَ شيئاً؟ قال : نعم ، إن شاء » (2). وغيرها من الروايات.

وقد ورد عن الإمام الرضا علیه السلام عن أبيه عن آبائه عن عليٍّ علیه السلام « أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله احتجم وهو صائم محرم » (3).

وقد روى البخاري عن ابن عباس أنَّ النبي احتجم وهو صائم (4).

وقد فسّرت بعض الروايات ما نقل عن النبي صلی اللّه علیه و آله من قوله : « أفطر الحاجم والمحجوم » الذي لا يمكن حمله على الإفطار بسبب الحجامة ، إذ المحجوم إذا كان قد افطر نتيجة اخراج الدم منه ، فما بال الحاجم الذي لم يخرج الدم منه ؟

فقد ذكر في كتاب معاني الأخبار بسنده ، عن عباية بن ربعي - في حديث - قال : « سألت ابن عباس عن الصائم يجوز له أن يحتجم ؟ قال : نعم ، ما لم

ص: 447


1- المُرَّة : خلط من أخلاط البدن غير الدم والجمع مِرارٌ بالكسر ، مجمع البحرين ( مادة مرر ).
2- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 26 ممّا يمسك عنه الصائم ح 1.
3- المصدر السابق : ج 7 ، ب 26 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 8.
4- المغني لابن قدامة : ج 3 ، ص 36.

يحسّ ضعفاً على نفسه. قلت : فهل تنقض الحجامة صومه ؟ فقال : لا. قلت : ما معنى قول النبي صلی اللّه علیه و آله حين رأى من يحتجم في شهر رمضان : أفطر الحاجم والمحجوم ؟ فقال علیه السلام : إنّما أفطرا لأنّهما تسابّا وكذبا في سبّهما على النبي صلی اللّه علیه و آله لا للحجامة » (1).

وهكذا نفهم أنّ الحجامة بما هي ليست من المفطرات ، ولكن إذا خاف الإنسان منها على نفسه - للضعف الذي ينتابه منها فيغشى عليه - تكون مكروهة ، وكذا سحب الدم منه أو إخراجه أو الفصد ، لنفس الملاك. وكذا الكلام في نقل الدم لإسعاف المريض فإنّه لا يوجب الإفطار ؛ لعدم دليل على ذلك.

ولأهل السنّة في الحجامة أقوال ثلاثة هي :

1 - قول بالمفطّرية : ذهب جماعة منهم محمد بن المنذر ومحمد بن اسحاق واسحاق وعطاء وعبد الرحمن بن مهدي.

2 - قول بالاباحة : ذهب إليه جماعة منهم الإمام مالك والشافعي والثوري ، وكذا ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وأصحابه.

3 - قول بالكراهة : ذهب إليه الحكم ، حيث قال : احتجم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو صائم فضعف ثم كرهت الحجامة للصائم (2).

7 - التقطير في العين والأنف والاُذن :

أقول : لقد وردت الروايات المجوّزة لاستعمال الدواء في الاُذن أو العين بشرط عدم وصوله الى الحلق أو الجوف الذي يضرّ بصدق الصوم ، فالميزان إذن في الإضرار بالصوم هو وصول نفس الدواء الى الحلق الذي يكون مصداقاً للأكل

ص: 448


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 26 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 9. وقال الصدوق : فقد قيل في معنى قوله : ( افطر الحاجم والمحجوم ) : أي دخلا في فطرتي وسنتي ؛ لأنّ الحجامة ممّا أمر به صلی اللّه علیه و آله واستعمله.
2- المغني لابن قدامة : ج 3 ، ص 36 و 37.

أو الشرب ، أو عدم صدق الاجتناب عن الطعام أو الشراب ، فما دام لم يصل الدواء الى الحلق أو الجوف الذي هو مستقر الطعام فلا يضرّ بصدق الصوم. وإليك الروايات :

1 - صحيحة حماد قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن الصائم يصبّ في اُذُنه الدهن ؟ قال علیه السلام : لا بأس به » (1).

2 - صحيحة علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر علیه السلام قال : « سألته عن الصائم هل يصلح له أن يصبّ في اُذُنه الدهن ؟ قال : إذا لم يدخل حلقه فلا بأس » (2).

3 - صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر أو الصادق علیه السلام : « أنّه سئل عن المرأة تكتحل وهي صائمة ؟ فقال علیه السلام : إذا لم يكن كحلا تجد له طعماً في حلقها فلا بأس » (3).

4 - رواية محمد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام : « في الصائم يكتحل ؟ قال علیه السلام : لا بأس به ، ليس بطعام ولا شراب » (4).

وهذه الروايات مؤكّدة للروايات القائلة بعدم إضرار الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع ( الأكل والشرب والجماع والارتماس ) وما دلّ على مفطّريته بدليل خاص ، وبما أنّ الدواء في الاُذن والعين بصورة عامّة ليس ممّا يصدق عليه شيء ممّا تقدّم فهو لا يضرّ بالصوم. نعم ، إذا كان بصورة بحيث يدخل الدواء الى الحلق أو يصل طعمه الذي هو عبارة عن وصول اجزاء منه الى الحلق - لا الى اللسان - فهو عبارة عن الأكل والشرب أو الدخول الى الجوف ، فيضرّ بصحة الصوم ، كما ذكرت

ص: 449


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 24 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 2.
2- المصدر السابق : ج 7 ، ب 24 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 5.
3- المصدر السابق : ب 25 ، ح 5.
4- المصدر السابق : ب 25 ، ح 1.

ذلك النصوص المتقدّمة.

وممّا يؤيد ما ذهبنا إليه ما ذكره الأطباء المتخصصون في مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته المنقعدة 23 - 28 صفر 1418 ه حيث أكّدوا وجود منفذ وقناة من العين الى الجوف ، وهي القناة الدمعية ، إلاّ أنّهم اختلفوا في وصول شيء منها الى الجوف ، فقال بعض بوصول جزء قليل منها الى الجوف وقال بعض آخر بأنّها تمتصّ ولا تذهب الى الحلقوم ولكنّها تذاق في اللسان. وكذا الكلام في الاُذن فقد يصل ما يوضع فيها إذا خرقت الطبلة.

وأمّا الدواء في الأنف فهو لا يختلف عن الاُذن والعين في كل ما تقدّم.

8 - المغذّي في حالة الإسعاف والتداوي :

والمغذّي الذي يوصل بجسم الإنسان عن طريق الدم هل يكون مضرّاً بصحة الصوم ؟

قلنا سابقاً : إنّ الأدلّة الشرعية دلَّت على مفطرية كل من الأكل والشرب ، وتوسعنا في ذلك الى كل طعام وشراب يدخل الى الجسم فيصل الى الجوف وإن لم يكن عن طريق الحلق لعدم صدق الاجتناب عن الطعام والشراب التي ذكرت الرواية عدم الاضرار بالصوم لو صدق الاجتناب عنهما.

أمّا هذه الحالة وهي وصول ما يسمى بالمغذّي الى الجسم بواسطة الدم فهي ليست أكلا وشرباً وهي ليست طعاماً وشراباً يصل الى الجوف وهو مستقر الطعام والشراب وعليه فلا يكون مضرّاً بصحة الصوم.

ولكن من المحتمل أنّ المضرّ بالصوم هو كل ما يتقوى به الجسم ويكون الأكل والشرب مقدمة له ، فيكون المغذّي ممّا يتغذّى به الجسم بواسطة دخوله الى الدم فيكون مضرّاً بالصوم ، وعليه فلابدّ من الاحتياط في هذه الصورة ، كما لابدّ من الاحتياط في ادخال الدم إذا كان يقوم بتغذية الجسم ، فإنّ ملاك المفطرية - على

ص: 450

وجه الاحتمال - موجود فيها ، خصوصاً في المغذّي الذي يصدق عليه أنّه طعام لمن يحتاج إليه (1).

وقد يقال : إنّ الحكم بمفطرية الأكل والشرب ( أو الطعام والشراب ) يعمّ ما كان حقيقةً وحكماً. كما أنّ الزيادة في الفرض المحرّمة تشمل الزيادة الحقيقية والحكمية ، فلاحظ وتأمل.

9 - ما يكون محلّه البطن كادخال المناظير للجوف وأخذ عيّنة من الكبد وغيره :

اشارة

أقول : إنّ ادخال الناظور الى داخل البطن للتشخيص أو لإجراء عملية جراحية ، أو أخذ عينة من الكبد أو غيره ممّا لا يصدق عليه ما تقدّم من المفطرات فلا يكون مضرّاً بالصوم بحدّ ذاته ، لعدم الدليل من القرآن والسُنَّة. ولا يصدق عليه وصول الأكل والشرب الى الجوف المقصود ها هنا وهو الحلق الى المعدة. وإذا حصل الشك في كون ذلك مضرّاً بالصوم فنتمسك بالبراءة من حرمة العمل استناداً الى قبح العقاب بلا بيان ، أو « رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون ».

أمّا صحة الصوم فنستصحبها ، وبهذا يتمّ القول بعدم حرمة العمل وعدم كونه مفطّراً.

ثمّ إنّ إدخال الناظور الى المعدة للتشخيص أو العلاج أيضاً لا يصدق عليه أنّه أكل أو شرب وإن صدق عليه إدخال الناظور الى الجوف. كما لا يصدق على من ضُرب سكيناً في بطنه ووصلت الى معدته أنّه أكل أو شرب ، وحينئذ لا يكون مفطراً.

ص: 451


1- إنّ ميزان الاحتياط الوجوبي هو عدم ترجيح احتمال كون المفطر هو ما يدخل الى المعدة ممّا يؤكل أو يشرب على ما يغذّي الجسم وإن لم يدخل الى المعدة مع إمكانه ، ولعلّ الصواب هو عدم تغذية الجسم وصدق الإمساك.
تنبيه :

1 - إذا كانت هذه العمليات المتقدّمة التي توجب إدخال المناظير أو أخذ العيّنات من الجوف تتمّ بدون مقدمات لها توجب ادخال ماء أو جسم آخر الى المعدة عن طريق الحلق بحيث يصدق عليه الأكل والشرب فالحكم ما تقدم.

أمّا إذا كانت هذه العمليات توجب إدخال شيء من الماء أو أي شيء آخر بحيث يصدق عليه الأكل والشرب ( أو الطعام والشراب ) فالحكم يختلف ويبطل بذلك الصوم استناداً الى عدم اجتناب ما دلّ الدليل على اجتنابه. أمّا الحرمة فهي مرتبطة بعدم كون هذه الأعمال لازمةً في نهار رمضان.

2 - إنّ ما تقدم يكون صحيحاً إذا كان الإنسان لم يصدق عليه عنوان « المرض الذي يضرّه الصوم » ، أمّا إذا كان مصداقاً لذلك فلا يصح منه الصوم ؛ للأدلّة الدالّة على عدم صحّة صوم المريض الذي يضرّه الصوم.

3 - إنّ ما تقدم يكون صحيحاً إذا كانت العمليات المتقدّمة تتم بدون تخدير تامٍّ للإنسان ، وإلاّ فإنّ من يقول باشتراط الصوم بعدم الإغماء ( إستناداً الى أنّ الجنون لا يصح معه الصوم وقد اُلحق به الاغماء لأنّه يفقد الادراك ) يأتي هنا ، ويكون الصوم باطلاً لعدم الأمر به. إلاّ أن الدليل لم يتم ، للفرق بين الجنون والإغماء.

10 - ما يجعل في المهبل أو الرحم :

بما أنّه لا توجد أي علاقة بين المهبل والرحم وبين جوف الأكل والشرب فما يجعل من الدواء في الرحم أو المهبل وما يُدخل من منظار أو لولب الى الرحم لا يكون مفطّراً ، وكذا إدخال الأصبع من قبل الطبيب أو اليد للفحص أو العلاج ، وكذا إدخال التحاميل ، كل ذلك ليس له أي علاقة بموجب الافطار ؛ لعدم وجود أي ارتباط بالجوف الذي هو محلّ الطعام والشراب ، وعدم وجود دليل آخر يدلّ

ص: 452

على مفطّرية هذه الاُمور.

11 - ما يدخل الدماغ :

إذا حصلت شجة في الدماغ فما يدخل الدماغ من دواء لا يصل منه شيء الى البلعوم والمعدة ، وبهذا لا تكون مداواة المأمومة من جملة المفطّرات ، كما أن نفس المأمومة لا تكون مفطّرةً ؛ لعدم الدليل على ذلك.

نعم ، إذا كانت قاعدة الجمجمة قد كُسرت فقد يصل شيء من الدواء أو شيء من « السائل الدماغي الشوكي » الذي يسيل حول النخاع الشوكي الى البلعوم الفمي ومنه الى المريء ، وهذه الحالة تستدعي الافطار ، كما هو واضح ؛ لصدق الأكل والشرب ووصول المواد الى المعدة عن طريق الحلق الذي هو موجب للإفطار.

ولا بأس بالتنبيه الى عدم وجود إفرازات من الدماغ تصل الى المعدة أو المريء ، فقد اتّفق الأطباء على عدم وجود أي قناة بين الدماغ والمريء ، إلاّ إذا كسرت قاعدة الجمجمة ، وبهذا يتبيّن أنّ الإفرازات التي كان القدماء يظنون أنّها آتيةً من الدماغ ما هي إلاّ افرازات من الجيوب الأنفية ولا علاقة لها بالدماغ.

المفطرات في مجالات الحالات المرضية

الضرر من الصوم رافع لصحّته :

لقد ذكر فقهاء الإمامية شرطية عدم المرض لصحة الصوم ، وهذا أمر ضروري في الجملة قد نطق به القرآن الكريم ، حيث قال سبحانه وتعالى : (فَمَنْ

ص: 453

كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (1) بناءً على ظهور الأمر في الوجوب التعييني. ولا يفرق بين المرض الذي يشتدّ بالصوم أو يطول برؤه ، أو يشتد ألمه أو نحو ذلك.

وقد خصّص الفقهاء الآية القرآنية بالمرض المضرّ بالصوم ؛ لانصرافها إليه ، ولاستفادة ذلك من الروايات الكثيرة التي أحالت تشخيص المرض الذي يجب على صاحبه الافطار الى المكلف نفسه.

وقد أجاب الإمام بألسنة مختلفة مثل قوله علیه السلام في صحيحة محمد بن مسلم : « هو أعلم بنفسه ، إذا قوي فليصم » (2).

وقوله علیه السلام في موثّقة سماعة : « هو مؤتمن عليه مفوض إليه ، فإن وجد ضعفاً فليفطر وإن وجد قوّة فليصم كان المرض ما كان » (3).

وقوله علیه السلام في صحيحة عمر بن اُذينة : « الإنسان على نفسه بصيرة ، ذاك إليه هو أعلم بنفسه » (4).

وعلى ما تقدّم نفهم أنّه ليس كلُّ مرض مانعاً من صحة الصوم ، وإنّما خصوص المرض المضرِّ. أمّا إذا كان المرض لا يضرّه الصوم فيجب الصوم.

وبهذا نستنتج : أنّ العبرة في الإفطار ليست بالمرض بما هو بل بالضرر الذي يحصل من الصوم ، وإنّما ذكرت الآية المريض لأنّه الفرد الغالب ممّن يضرّه الصوم (5).

ص: 454


1- البقرة : 184.
2- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 20 محل يصح منه الصوم ، ح 3.
3- المصدر السابق : ح 4.
4- المصدر السابق : ح 5.
5- (5) هذا وقد ذهب في المغني الى نفس هذا الرأي فقال : « والمرض لا ضابط له ، فإنّ الأمراض تختلف ، منها ما يضرّ صاحبه ومنها ما لا أثر للصوم فيه ... فلم يصلح المرض ضابطاً وأمكن اعتبار الحكمة وهو ما يخاف منه الضرر ، فوجب اعتباره » المغني لابن قدامة : ج 1. ص 86.

فإن فرضنا أنّ فرداً يتضرّر من الصوم وهو ليس بمريض فيجب عليه الافطار ، كما ورد الافطار لمن به رمد في عينه أو صداع شديد في رأسه (1).

والخلاصة : أنّ بين المرض والضرر عموم من وجه ، فقد يكون مريضاً لا يفطر لعدم كون الصوم مضرّاً لمرضه ، وقد يكون الصوم مضراً للمكلف مع عدم كونه مريضاً ، وقد يكون مريضاً ويضره الصوم ، فالافطار يجب في الأخيرين فقط.

ما هو طريق إحراز الضرر ؟

ذهب الأكثر الى أن طريق إحراز الضرر يكون بالخوف الذي يتحقّق بالاحتمال العقلائي المعتدّ به.

وذهب آخرون الى اعتبار اليقين أو الظنّ وعدم كفاية الاحتمال.

والصحيح هو الأول ، وذلك :

1 - لأنّ الغالب عدم إمكان الإحراز.

2 - ولأنّ الخوف طريق عقلائي لإحراز الضرر.

3 - ولصحيحة حريز عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « الصائم إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر » (2).

فإذا ثبت الاكتفاء بالخوف في الرمَد - وهو عضو واحد في الجسد - ففي المرض المستوعب لتمام البدن يكون الخوف من الضرر أولى بالافطار.

ولموثّقة عمار عن الإمام الصادق علیه السلام في الرجل يصيبه العطاش حتى يخاف

ص: 455


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 20 ممّا يصحّ عنه الصوم.
2- المصدر السابق : ب 19 ، ح 1.

على نفسه ؟ قال علیه السلام : « يشرب بقدر ما يمسك رمقه ، ولا يشرب حتى يروى » (1).

ثم إنّ الخوف على نفسه الوارد في الرواية أعمّ من خوف الهلاك فما دونه مثل خوف المرض أو الإغماء ونحوه.

الخوف طريق عقلائي في باب الضرر :

لقد وردت الروايات التي تقرّر أنّ الخوف هو طريق عقلائي في باب الضرر في مقامات عديدة غير الصوم منها :

أ - إذا لزم طلب الماء والفحص عنه في الفلاة ، فقد ذكروا : أنّه يكفّ عن الفحص إذاخاف من اللصِّ أو السبع.

ب - ورد في باب الغسل : أنّه إذا خاف على نفسه من البرد يتيمّم.

والخوف هنا أيضاً أعمّ من خوف الهلاك أو المرض أو نحوهما.

هل المرض الفعلي ( الضرر الفعلي ) مانع من صحة الصوم ؟

لقد ذكر القرآن الكريم والسنة : أن موضوع الإفطار هو المريض ، وظاهره هو المريض الفعلي ( كما في المسافر ) ، فالمحكوم بالافطار هو من كان مريضاً أو مسافراً بالفعل ، وحينئذ هل يوجد دليل على جواز الافطار للصحيح الذي يخاف حدوث المرض لو صام ؟ نقول :

1 - ذكر الإمام الخوئي رحمه اللّه : أنّ الأخبار المتقدّمة التي جوّزت الافطار

ص: 456


1- المصدر السابق : ب 16 ، ح 1. أقول : المراد بالعطاش هنا الذي يخشى منه على نفسه هو من يصيبه العطش أثناء النهار لأمر عارض كشدة الحر ونحوه بحيث يخاف على نفسه فيضطر الى شرب الماء حذراً من الهلاك أو ما في حكمه ، ولذا كان الحكم هو الشرب بقدر الضرورة.

للمريض لم تجوزه لمرضه السابق ، ضرورة عدم تأثير المرض فيما مضى ، إذ لا علاقة ولا ارتباط للصوم أو الافطار الفعليين بالاضافة الى المرض السابق ، وإنّما هو من أجل سببية الصوم وإيجابه للمرض بقاءً بحسب الفهم العرفي ، ولا أثر له في رفع السابق كما هو ظاهر ، إذن لا فرق بين الوجود الثاني للمرض والوجود الأول ( حدوث المرض ) لوحدة المناط فيهما (1).

2 - إنّ صحيحة حريز المتقدّمة الواردة في الرمد تدلّ على عدم صحة الصوم للصحيح الذي يخاف حدوث المرض لو صام ، إذ أن الإمام يقول : « إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر » وحينئذ إذا كان الحكم في الرمد كذلك ففي غيره بالأولوية.

وبما أنّ المرض الذي ذكر في الآية القرآنية لم يكن له خصوصية بما هو مرض ، بل العبرة بالافطار هو الضرر الحاصل من الصوم - كما تقدّم - فحينئذ إذا أضرَّ الإنسان الصوم أفطر وإن لم يكن مريضاً ، كما إذا كان به صداع شديد - مثلاً - يخاف أن يضرَّه الصوم ، وكذا يُعمَّم الحكم لمن به جرح أو قرح يخاف أن يكون الصوم سبباً لعدم اندماله أو طول برئه.

اذن العبرة في الافطار بالضرر سواء كان فعلياً أو مستقبلياً كما إذا خاف من الصوم ضعفاً في عينيه يحصل بعد مدّة نتيجة الصوم فلا يصح منه الصوم. وطريق إحراز الضرر هو الخوف.

ما يوجب الإفطار :

يمكن أن نحصر ما يجب فيه الافطار في اُمور ثلاثة هي :

ص: 457


1- راجع مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 457 ، وقد ذكر في المغني لابن قدامة « أنّ الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادته في اباحة الفطر ؛ لأنّ المريض إنما اُبيح له الفطر خوفاً مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله ... » : ج 1. ص 86.

1 - أن يكون ضرر من الصوم في حالة مرض الإنسان يبلغ حدّ الحرمة الشرعية ، كالإلقاء في التهلكة ، بمعنى أن الصوم يؤدّي الى أن يكون مرضه مهلكاً لو صام ، وحينئذ لا شك في بطلان الصوم حيث يكون الصوم مصداقاً للحرام ، وطبيعي أنَّ الحرام لا يمكن أن يكون واجباً ، ولا يمكن أن يكون المبغوض مقرِّباً.

2 - أن يكون الضرر من الصوم في حالة المرض غير بالغ حدّ الحرمة ، كمن أحرز أنّه لو صام يتضرّر بحمّى يوم أو يومين ، أو يبتلى بصداع في رأسه ، أو ترمد عينه - بناءً على أن مطلق الاضرار بالنفس لا يكون محرماً - وحينئذ لو صام فالمتسالم عليه عند الإمامية بطلان الصوم أيضاً ، وذلك :

أ - لأنّ الخلوّ من المرض هو شرط في الصحة ، بالاضافة الى الوجوب المستفاد من الآية المباركة ( ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام اُخر ) بناءً على ظهور الأمر في الوجوب التعييني.

ب - وجملة من الأخبار ، كموثّقة سماعة التي يسأل فيها الراوي عن حدّ المرض الذي يجب على صاحبه الافطار ؟ فأجاب « فإن وجد ضعفاً فليفطر ، وإن وجد قوة فليصمه » (1).

حيث عبّر بالوجوب ، ونحن نعلم أنّ الضعف من الصوم بمعنى عدم القدرة على الصيام ليس مهلكاً بحيث يصل الى حدّ الحرمة.

3 - ويجب الافطار في كل مورد زاحم الصوم محذور آخر غير المرض ، وكان المحذور الآخر أهمّ من الصوم في نظر الشارع المقدّس ، فحينئذ يدخل ما نحن فيه في مورد التزاحم ، وبما أن المفروض أهميّة الواجب الآخر فيقدم على الصوم ، لأنّ الصوم - كبقية التكاليف - مشروط بالقدرة ، فإذا وجد واجب آخر أهمّ من

ص: 458


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 20 ممن يصح منه الصوم ، ح 4.

الصوم ولم يمكن الجمع بينهما فيتقدّم الأهم ( كما في قاعدة التزاحم ) ومع تقدم الأهم يسقط الأمر بالصوم للعجز عنه في هذا الحال.

ومثاله : كما لو ترتب على ترك الصوم حفظ عرضه أو عرض غيره من تجاوز المتجاوزين.

وكما لو ترتب على ترك الصوم حفظ مال محترم يجب حفظه كوديعة أو عارية.

وكما لو ترتب على ترك الصوم حفظ مال كثير جدّاً بحيث علمنا أن الشارع لا يرضى بتلفه ( فإنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه ).

وكما لو ترتب على ترك الصوم حفظه أو حفظ غيره من الغرق أو الحرق.

وكما لو ترتب على ترك الصوم إنقاذ جماعة من الحبس أو القتل وامثالهما.

وكذلك لو هدّده جائر بالقتل لو صام.

ففي كل هذه الصور لا إشكال في سقوط التكليف بالصوم.

الفرق بين الصور الثلاثة المتقدّمة :

إذا كان الصوم مضرّاً بالمكلف الى حدّ التهلكة ( الصورة الاُولى ).

وإذا كان الصوم مضرّاً بالمكلف لا الى حدّ التهلكة فلم يصل الى حدّ الحرمة ( الصورة الثانية ).

وكان احراز المكلف للأمرين صحيحاً ومطابقاً للواقع ، ومع ذلك فقد خالف وصام فهل يصح صومه ؟

والجواب : عدم صحة الصوم ؛ وذلك لعدم وجود أمر في هذين الفرضين ؛ لأنّ صحة الصوم مشروطة بعدم إحراز الضرر الذي يشمل إحراز التهلكة فما دونها.

وأمّا إذا صام مع وجود المزاحم الأهم ( الصورة الثالثة ) فهل يصحّ صومه ؟

ص: 459

والجواب : اختلف العلماء في ذلك :

فقد ذهب بعضهم الى أن عدم ابتلاء الصوم بالمزاحم الأهم هو من شرائط الصحة كعدم المرض والسفر ، ومعنى ذلك إنكار جريان الترتب (1).

وعلى هذا يحكم ببطلان الصوم لو ترك المكلف الأهم وصام ، لأنّه لا أمر بالصوم فلا يحرز الملاك والمصلحة فيكون الصوم باطلاً ، ولا نحتاج الى دعوى اقتضاء الأمر النهي عن ضده.

ولكن بناءً على التحقيق : ( المختار في الاُصول ) « من صحة الترتب وامكانه بل لزومه ووقوعه وأنّ تصوّره مساوق لتصديقه ... فلا مناص من الحكم بالصحة بمقتضى القاعدة » (2).

وبناءً على هذا التحقيق فلابدّ من القول بأنّ وجوب الصوم مشروط بعدم المزاحمة للأهم ، وليست الصحة مشروطة بذلك.

ما لا يبيح الإفطار من الأمراض ممّا لا يتأثر بالصوم أو يخفّ به :

قلنا فيما تقدّم : إنّ النسبة بين الضرر من الصوم والمرض هي عموم من وجه ، فقد يحصل الضرر من الصوم ولا مرض في البين ، كما في الصوم الذي يؤثر على ضعف العين في المستقبل مع عدم اتصاف المكلف بالمرض ، وقد يحصل المرض ولا ضرر في الصوم ، كما في الأمراض التي تحتاج الى إمساك عن الطعام

ص: 460


1- الترتّب : قاعدة تقول : إنّ المزاحمة بين خطاب صلِّ وخطاب احفظ الوديعة - مثلاً - إذا لم يكن الجمع بينهما هي بين الاطلاقين لا بين ذاتي الخطابين ، وعليه فلا مانع من تعلق الأمر بأحدهما ( وهو الأهم ) مطلقاً وتعلق الأمر بالآخر ( وهو المهم ) على تقدير عصيان الأمر بالأهم ، وحينئذ يكون الساقط هو اطلاق الأمر بالمهم ( وهو الصوم في مثالنا ) أمّا أصل الأمر بالصوم فهو باق على حاله ، والمعجِّز ليس هو نفس الأمر بالأهم ، بل امتثاله ، فما لم يمتثل الأهم لا يكون عاجزاً عن المهم وحينئذ يكون أمره باقياً.
2- راجع المستند في شرح العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 462 - 463.

والشراب (1) ، وقد يحصل ضرر من الصوم ومرض ، كما في غالب الأمراض التي يكون الصوم مضرّاً بها عادة.

ولكن قلنا سابقاً : إنّ العبرة بالضرر لا بالمرض ؛ لأن الآية الكريمة والروايات جعلت موضوع الافطار هو المرض لكن من حيث إنَّه مضرٌّ ، وحينئذ يكون موضوع الافطار هو الضرر المحرز ، فإذا أحرزنا وجود مرض لم يضرّه الصوم أو يخفّ بالصوم فلا يجوز الافطار معه ، إذ لا ضرر متصوّر في البين حتى يبطل معه الصوم ، وحينئذ يكون الأمر بالصوم من القرآن والسنّة على حاله.

وعلى ما تقدّم يتّضح عدم صحة ما يقال : « من جواز الافطار من الأمراض من غير ايجاب لكونه يزداد بالصوم أو يتأخر برؤه من غير هلاك أو شديد أذى » ؛ لأنّ المرض إذا كان يضره الصوم فلا يصح ؛ لعدم وجود أمر بالصوم ؛ لأنّ شرط صحة الصوم عدم الضرر ، وإذا كان لا يضره الصوم فيجب صومه.

ومن هنا يتّضح : أن الضعف (2) الذي يعتري الانسان الصائم بعد أن لم يتصف المكلف بالضرر الحالي نتيجة الصوم أو خوف الضرر في المستقبل لا يجوّز الافطار ولا يضرّ بالصوم بمقتضى إطلاق الأدلّة من الكتاب والسنّة.

نعم : إذا كان الضعف لا يتحمّل عادةً ، بأن بلغ حدّ الحرج على المكلف فلا إشكال في جواز الافطار معه ؛ وذلك لدليل رفع الحرج (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وهو المراد من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) فإنَّ الإطاقة هي إعمال القدرة في أقصى مرتبتها المساوق للحرج الذي يغلب حصوله في الشيخ أو الشيخة ، وهذا ما سنتكلّم عنه الآن.

ص: 461


1- كالتخمة ، وكالامراض التي لا أثر للصوم فيها ، كوجع الضرس ، وجرح في الإصبع والدمّل والجَرَب وأشباه ذلك.
2- الضعف قد يكون كلياً وقد يكون جزئياً خصوصاً إذا صادف شهر رمضان في أيام الصيف الذي يستمر فيه النهار سبع عشرة ساعة وفي بعض البلدان أكثر من عشرين ساعة.

ما يجوّز الإفطار :

وقد اختلف علماء الإمامية في وجود أمثلة لهذا العنوان ، فهناك موارد جوّز بعض العلماء فيها الافطار من غير إيجاب ، وهي :

1 - ما تقدّم قبل قليل من جواز إفطار الشيخ والشيخة اللذين يتمكنان من الصوم بمشقة شديدة تبلغ حدّ الحرج من الصوم. كما يجوز لهما الافطار في حال تعذر الصوم منهما ، وهذا واضح.

ودليله - بالاضافة الى دليل نص الحرج - الآية القرآنية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (1).

وليست الاطاقة في هذه الآية هي القدرة حتى يقال بأنَّ هذه الآية منسوخة بآية (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) باعتبار أن المتمكن من الصيام كان مخيّراً في صدر الاسلام بين الصوم والفداء ، بل الاطاقة هي التمكّن مع المشقّة الشديدة التي تتعقب بالعجز كما فَسّرها به في لسان العرب وغيره ، فالآية تشير الى أن مَنْ يتمكن من الصوم مع المشقة والحرج الشديد يجوز له الافطار مع إعطاء الفدية.

ولكن نقل عن مجمع البيان قوله : إنّ آية (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) من الافطار والفدية ، ولذا ذهب صاحب الحدائق قدس سره والسيد اليزدي في العروة الوثقى الى صحة الصوم أيضاً ، وعدم تعين الفداء ، وأنّ الحكم بالفدية والافطار ترخيصيّ لا إلزامي ، حيث أرجعوا (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) متمِّماً لقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) .

ولكن هناك جمع من فقهاء الإمامية لم يرتضوا أن يكون الحكم بالفدية والافطار للشيخ والشيخة ترخيصي ، بل هو إلزامي (2).

ص: 462


1- البقرة : 183.
2- راجع مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 2 ، ص 39 - 41.

2 - مَنْ به داء العطش : قد يقال : إنّ مَنْ به داء العطش يندرج تحت عنوان المريض الذي يجب عليه الافطار والمحكوم بوجوب القضاء بعد البرء ، كما إذا ارتفع داء العطش الناشئ من خلل في كبده بمعالجة أوبمجيء فصل الشتاء.

ولكن المريض الذي تقدّم وجوب افطاره ، وإذا ارتفع مرضه يجب عليه القضاء إنّما هو من يتضرّر بالصوم بحيث يكون الصوم موجباً لازدياد المرض أو طول برئه ، وحينئذ يكون ذو العطاش مخالفاً ؛ حيث إنّه لا يتضرّر من ناحية الصوم ، وإنّما يقع في مشقة شديدة وحرج عظيم فيختلف عن المرض موضوعاً ويشارك الشيخ والشيخة في اندراجه تحت قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ... ) . ولهذا فقد جعلت صحيحة محمد بن مسلم ذا العطاش في مقابل المريض ، ومرادفاً للشيخ والشيخة ، فقد « سئل الإمام الباقر علیه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) قال علیه السلام : الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش ، وسئل عن قوله عزّوجلّ : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) قال : من مرض أو عطاش » (1).

وعلى هذا فسيكون الكلام عن داء العطاش هو بعينه الكلام عن الشيخ والشيخة لوحدة المستند (2).

3 - الحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن : ذكر بعض الفقهاء (3) جواز الافطار للحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن ؛ لأنّهما لا تطيقان الصوم ، كما ذكرت ذلك صحيحة محمد بن مسلم قال : « سمعت الإمام الباقر علیه السلام يقول : الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان ؛

ص: 463


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 15 ممّن يصحّ منه الصوم ، ح 3.
2- للتوسع راجع هذا البحث في مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 2 ، ص 50 - 51.
3- مثل سلاّر وعلي بن بابويه رحمهما اللّه تعالى والمحقّق صاحب الشرائع وغيرهم.

لأنّهما لا تطيقان الصوم » (1).

وهذه الرواية تشعر بدخولهما تحت قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) ، فتكون الرواية قد جوّزت الافطار لهما في مقابل الفدية.

هذا ولكن هناك جمع آخر من علماء الطائفة الإمامية يذهب الى وجوب الافطار على الشيخ والشيخة وذي العطاش والحامل المقرب التي يضرّ الصوم بها أو بولدها ، والمرضع القليلة اللبن ؛ وذلك لأنّ الآية القرآنية قد قررت أن الذي يتمكن من الصوم بمشقة - وهو معنى الاطاقة - يفطر ويعطي الفدية ، وهذا واجب وعلى نحو العزيمة لا الرخصة ، وأمّا الآية ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) فهي ليست راجعةً الى ( عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ... ) بل هي راجعة الى أن من يجب عليه الصوم أو القضاء فهو خيرٌ لكم ونفعه لكم لا الى اللّه سبحانه الذي هو غني على الاطلاق.

وأمّا ذو العطاش فالكلام فيه هو الكلام في الشيخ والشيخة ؛ لأنّ الصوم إذا كان فيه مشقة له فيجب الافطار ، على أنّ قسماً من ذي العطاش الذي يكون مريضاً فله حكمه من الافطار والقضاء عند التمكن حسب الآية التي قالت : (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا...فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) .

وأمّا الحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن فإن كانتا تتمكّنان من الصوم بمشقة فحكمهما ما ذكرته الآية من وجوب الافطار مع الفدية ، وأمّا صحيحة محمد ابن مسلم الواردة في الحامل المقرب فهي أجنبية عن مقامنا ؛ لأنّها ذكرت أنّ الحامل المقرب لا تطيق الصوم ، أي لا تتمكن منه ، وهذا غير الاطاقة الذي معناه القدرة على الصوم مع المشقة.

والنتيجة : أنّ علماء الإمامية اختلفوا في هذه الموارد الخمسة ( الشيخ والشيخة ، وذو العطاش ، والحامل المقرب ، والمرضع القليلة اللبن ) وكل من تمكن

ص: 464


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 17 من أبواب ما يصح منه الصوم ، ح 1.

من الصوم بمشقة شديدة وحرج عظيم هل يجب عليه الافطار عزيمةً ، كما ذكر ذلك الشيخ صاحب الجواهر (1) وجماعة من الفقهاء ( منهم الإمام الخوئي ) (2) ، أو يجوز لهم الافطار رُخصة ، فإذا صاموا صحّ منهم ، كما ذهب الى هذا الرأي الثاني كل من عبّر بورود الرخصة في إفطار جماعة ، ومنهم المحدث صاحب الحدائق وصاحب العروة ؟ (3).

ملاحظة : لا إشكال في أنّ الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن إذا خافت من الصوم على نفسها أو على حملها فهي داخلة تحت عنوان المرض ؛ لأنّها تخاف الضرر من دون حاجة الى نصّ خاص ، وهو الميزان المريض الذي يجب عليه الافطار والقضاء بعد زوال العذر ( كما تقدّم ) ، وأمّا إذا خافت على طفلها فيجب عليها الافطار من باب مزاحمة حفظ النفس المحترمة وتقدمة على وجوب الصوم عند عدم التمكن من الجمع بينهما ، وهذا واضح.

ما هو دور الطبيب إذا قال بضرر الصوم :

إذا أخبرنا الطبيب العارف بوجود الضرر من الصوم فهل يكون قوله حجّةً يجب اتّباعه ؟

الجواب : أنّ الروايات المتقدّمة - التي جعلت المكلف مؤتمناً على الصوم وأنّه على بصيرة من نفسه ، فإذا رأى من نفسه القدرة على الصوم صام ، وإن وجد من نفسه عدم القدرة على الصوم أفطر ، وكذا الرواية القائلة : « إذا خاف على عينيه

ص: 465


1- جواهر الكلام : ج 17 ، ص 150 حيث قال : « ثم لا يخفى عليك أنّ الحكم في المقام ونظائره من العزائم لا الرخص ضرورة كون المدرك فيه نفي الحرج ونحوه مما يقضي برفع التكليف ».
2- مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 2 ، 37 - 38.
3- راجع مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 2 ، ص 39 ، وكتاب الحدائق الناظرة : ج 13 ، ص 421 ، والعروة الوثقى ، كتاب الصوم.

الرمد أفطر » - جعلت الميزان في الافطار : الضرر الذي يحسّه المكلّف أو خوف الضرر.

وحينئذ إذا أوجد تحذير الطبيب من الصوم عند الانسان خوفاً فيجب عليه الافطار ، وأمّا إذا لم يوجد خوفاً من الصوم - كما إذا اطمأن المكلف بخطأ الطبيب أو علم وجداناً بخطئه - فلا يكون لتحذير الطبيب أيّ أثر. كما أن الطبيب إذا أخبر بعدم الضرر من الصوم ولكن المكلّف أحسّ بالضرر أو خاف منه أو ظن به فيجب عليه ترك الصوم ، لأنّ صحة الصوم مشروطة بعدم خوف الضرر ( كما تقدّم ).

والنتيجة : هو عدم حجيّة قول الطبيب إلاّ إذا أوجد خوفاً عند المكلف من الصوم.

* * *

ص: 466

محتويات الكتاب

حدود : عرفات ، مزدلفة ، منى

أولاً : حدود عرفات... 7

شرح الألفاظ :... 9

1 - نَمِرَة :... 9

قرائن على أنّ نَمِرة من عَرَفَات :... 12

2 - عُرَنَة :... 15

إشكال في تعيين صُغرى عَرَفات :... 16

3 - ثَويَّة :... 17

4 - ذو المجاز :... 19

5 - الأراك :... 19

وجوه الجبال المحيطة بعَرَفَات داخلة في الموقف :... 21

ثانياً : حدود المزدلفة... 22

شرح الحدود :... 24

ص: 467

ثالثاً : حدود مِنى... 26

العقبة هل هي من مِنى ؟... 28

مشكلة الذبح :... 28

خلاصة لكلّ البحث :... 29

أدنى الحِلِّ

1 - الحديبية... 37

ضبط الكلمة :... 37

2 - الجعرانة... 38

الجعرانة وموقعها الجغرافي :... 39

3 - التنعيم... 40

التشكيك في ميقات التنعيم الحالي :... 41

موقع فخ :... 44

1 - جواب التشكيك من الناحية الفقهية :... 46

2 - جواب التشكيك من الناحية الرياضية :... 47

3 - جواب التشكيك من ناحية تعيين موضع التنعيم بالوصف :... 48

هل يشكِّل الجمع بين حدود الحرم الحالية ومواقيت أدنى الحلّ مشكلة ؟... 49

البيع قبل القبض

1 - أحكام القبض والإقباض... 53

ص: 468

حقيقة القبض :... 54

2 - هل تختلف صور القبض في الأموال المنقولة عن غير المنقولة ؟... 56

3 - هل النهي عن البيع قبل القبض عام ، أو فيه استثناء؟ وما هي آراء الأئمة وأدلّتهم ؟ 57

4 - هل توجد علّة للنهي عن البيع قبل القبض ؟... 63

5 - هل البيع قبل القبض للمكيل أو الموزون مرابحةً باطلٌ أو محرّمٌ أو مكروهٌ ؟... 65

تنبيهات :... 67

6 - هل يقوم الضمان مقام القبض ؟... 74

7 - شحن السلعة في السفن... 75

8 - بيع السمك في النهر أو البركة... 77

9 - بيع الحطب... 80

العقود المستجدة

مقدمة... 83

تعريف العقود المجتمعة... 86

1 - بيع العينة... 87

2 - الإجارة بشرط التمليك... 89

أ - عقد واحد :... 90

ب - عقدان مع وعد بينهما :... 90

ما هو شرط النتيجة ؟... 91

ص: 469

3 - بطاقة الائتمان... 95

4 - المشاركة المتناقصة... 96

5 - عقد التوريد ( عقد مركب )... 98

تنبيهان :... 101

6 - المناقصات ( مثال للعقود المجتمعة )... 102

وأمّا حكم هذه العقود المجتمعة :... 105

ما المقصود من صفقتين في صفقة ( أو بيعتين في بيعة ) ؟... 108

الإمامية :... 110

إذا قبل المشتري أحد الثمنين :... 114

أثر المواعدة ( التفاهم ) السابقة على العقود المجتمعة :... 115

أ - الكتاب الكريم :... 119

ب - السنّة :... 122

الضمان والكفالة :... 125

أما الشرط... 126

المرابحة للآمر بالشراء

المقدّمة... 131

أقسام البيع بالنسبة إلى الإخبار بالثمن وعدمه :... 131

بيع المرابحة :... 131

كراهة المرابحة :... 132

شروط بيع المرابحة :... 132

ص: 470

المرابحة للآمر بالشراء... 135

الصورة الاُولى :... 135

الصورة الثانية للمرابحة للآمر بالشراء :... 154

الصورة الثالثة :... 154

الصورة الرابعة :... 155

الخلاصة :... 155

مشاكل البنوك الاسلامية وادوات حّلها

1 - المضاربة الشرعية... 161

ضمان ودائع الاستثمار بطرق تتلائم مع أحكام المضاربة الشرعية :... 162

هل يتمكّن المضارِب من تداول سهمه في عملية المضاربة ؟... 167

سحب المضارِب لما أودعه في عملية الاستثمار :... 169

هل بامكان البنك أن يضمن للمودِع نسبةً معيّنةً من الربح ؟... 170

2 - الوساطة في الإجارة والضمان... 171

3 - المزارعة... 172

4 - المساقاة... 175

5 - إعادة التأجير لمالك العين المستأجرة أو لغيره وإجارة... 176

خدمات الأشخاص وإعادة تأجيرها... 176

6 - شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها... 181

صيانة العين المستأجرة :... 183

7 - التأمين على الديون... 187

ص: 471

8 - إقتراض مبلغ لشخص بشرط التعامل به مع البنك عموماً أو في نشاط محدود 191

9 - بيع الدين ( خصم الكمبيالات أو الشيكات )... 192

10 - الأوراق المالية : « اجرتها ، اقراضها ، رهنها »... 195

11 - إذا كانت معاملات الشركة المساهمة ربوية ، فهل يجوز شراء هذه السهام ؟ 201

12 - ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بمستوى الاسعار... 202

13 - هل يمكن ربط الدين وغيره بمستوى الاسعار ؟... 205

أقسام الضمان :... 206

وجه آخر لضمان القوة الشرائية للنقد :... 211

هل حكم السلطة المزيدة للورق النقدي كالغاصب ؟... 214

14 - هل تتعلّق الزكاة بالنقود الورقية ؟... 215

15 - الزكاة في البنوك الإسلامية لأموالها وودائعها... 219

التذكية الشرعية وطرقها الحديث

المقدمة... 223

التذكية لغةً :... 223

التذكية شرعاً :... 224

الشروط الشرعية للتذكية... 226

أولاً : اسلام الذابح :... 226

ثانياً : التسمية من الذابح :... 230

ص: 472

ثالثاً : أن يستقبل بالذبيحة القبلة :... 230

رابعاً : أنّ تكون الآلة من حديد :... 231

إشكال :... 235

الإجماع على لا بدّية الفلزّ الخاص ( الحديد ) :... 236

هل توجد خصوصية للحديد ؟... 237

التذكية بالمكائن الحديثة... 241

الإشكال الأول : انتساب الذبح للآلة :... 241

الإشكال الثاني : عدم تحقّق التسمية :... 242

الإشكال الثالث : عدم تحقّق الاستقبال :... 242

الإشكال الرابع : الذبح بغير الحديد :... 242

الإشكال الخامس : وهو قطع المنحر :... 243

الاجابة عن الإشكالات الخمسة :... 243

تنبيهان :... 244

طرق اُخرى للتذكية :... 248

1 - تدويخ الحيوان قبل الذبح :... 248

2 - الخنق بالطريقة الانجليزية :... 250

تنبيه :... 252

الآداب الشرعية في التذكية :... 253

حكم ما جهل اسلام ذابحه ممّا حلّ أكل لحمه ( حكم ما جهل ذابحه ) :... 254

تنبيهات :... 258

الأصل العملي :... 261

ص: 473

حكم اللحوم المستوردة :... 263

المأخوذ من يد المسلم إذا علم أنّه قد أخذه من يد الكافر :... 265

خلاصة الب حث :... 267

الاستتئام والاستنساخ

توطئة :... 274

أولاً : الاستتئام... 275

أمّا الاستتئام :... 278

وجهة نظر العالِمَيْن في الاستتئام :... 280

الإشكال على ما قاله العالِمَان :... 282

فوائد الاستتئام :... 282

ثانياً : الاستنساخ... 291

تحريم ولي الأمر :... 299

تحفظ من القول بالاباحة بالعنوان الأولي :... 300

هل تنجح عملية الاستنساخ ؟... 300

خلاصة البحث :... 302

اخلاقيات الطبيب (1)

ما المقصود بسرِّ المهنة ؟... 307

متى يستثنى من وجوب كتمان السرّ ؟... 309

الاسرار المتعلقة بالأدوية القاتلة أو الضارّة :... 311

ص: 474

ما هي العقوبات التي تقع على من كشف سرّ مريضه في حالة المنع ؟... 312

اخلاقيات الطبيب (2)

مسؤولية الطبيب... 315

1 - المبادرة إلى علاج المريض :... 315

2 - عدم التمييز بين الغني والفقير :... 316

3 - إقدام الطبيب على ما تخصّص به ( ما يعرف به ) :... 316

4 - بذل الجهد :... 316

5 - الرفق بالمريض ورفع معنوياته :... 317

6 - غض البصر عن المحارم :... 318

7 - العلاج بغير دواء ، أو بالدواء القليل :... 318

مداواة غير المسلم للمسلم ( استطباب غير المسلم )... 319

هل يمكن أن تقوم نقابة الأطبّاء أو شركة التأمين بدور العاقلة ؟... 320

العلاج الطبي

البحث عن التداوي... 325

أقسام التداوي من ناحية الحكم الشرعي... 327

أ - جواز التداوي :... 327

ب - الوجوب :... 327

ج - الندب :... 329

د - المكروه :... 329

ص: 475

ه - المحرّم :... 330

القسم الأول : هل يجوز التداوي بعين النجس ؟... 330

القسم الثاني : التداوي بالنجس أو الحرام بغير الأكل والشرب : ... 335

القسم الثالث : هل يجوز التداوي بالنجس إذا استهلك في شيء آخر ؟... 336

دفع توهّم :... 337

هل يجوز تعطيل عضو من اعضاء الإنسان بواسطة الطبيب ؟... 337

هل يجوز نقل الأعضاء البشرية وزرعها ؟... 347

هل يتمكّن الوليّ ( للطفل والمجنون ) أن يتبرّع بأحد أعضاء المولَّى عليه الى فرد آخر ؟... 350

هل يجوز بيع الأعضاء البشرية ؟... 350

هل يجوز نقل العضو من الميت إلى الحي ؟... 351

تعلّم الطب المتوقّف على محرم :... 352

تعلم الطب المتوقّف على محرّم إذا لم يمكن توفير الأسباب المحلّلة :... 353

آراء جديدة في حلّ المشكلة :... 357

ب - لا إطلاق في حرمة التشريح والنظر إلى الأجنبية لما نحن فيه :... 358

تنبيهات :... 362

التشريح :... 364

في قطع رأس الميت المسلم الحُر مائة دينار :... 364

الجناية إذا لم تكن مقدّرة :... 368

ص: 476

الوارث لا يرث من هذه الدية :... 368

العلاج التجميلي... 369

القاعدة الأولية لعلاج التجميل :... 370

ما ورد من النصوص الشرعية التي يظن أنّها تمنع من العلاج التجميلي :... 371

أحكام الترقيع :... 373

1 - الترقيع من جسم إنسان حيٍّ لجسم إنسان آخر :... 373

2 - الترقيع من جسم إنسان ميّت لجسم إنسان حي :... 374

3 - الترقيع بعضو من أعضاء بدن الحيوان :... 375

العلاج بالرقى ( العلاج الروحي )... 375

من الذي يأذن بالتداوي ومن الذي لا يحتاج إلى الإذن ؟... 382

علاج الحالات الميؤوس منها :... 385

التزاحم في العلاج... 387

ضمان الطبيب... 389

مرض الإيدز وما يترتّب عليه من أحكام فقهية

أسباب مرض الإيدز وانتقاله في العالم... 397

طرق حصر العدوى :... 398

مميزات اُخرى للمرض ومخاطره :... 399

المشاكل الاجتماعية لمرض الإيدز... 400

أولاً : ما هو حكم عزل المصاب بالايدز ؟... 404

ص: 477

ثانياً : ما هو حكم تعمّد نقل العدوى ؟... 409

ثالثاً : ما هي حقوق المصاب وواجباته ؟... 411

رابعاً : ما حكم زواج حاملي فيروس الايدز ؟... 412

خامساً : ما حكم المعاشرة الجنسية بالنسبة للمصاب بمرض الايدز ؟... 413

سادساً : ما حكم السليم من الزوجين في طلب الفرقة ( فسخ عقدالنكاح ) ؟... 413

سابعاً : ما حكم المرأة في طلب الطلاق اذا كان الزوج مصاباً بمرض الايدز ؟... 414

وجوب الفحص على الزوجين :... 415

ثامناً : ما حكم إجهاض الحامل المصابة بمرض الايدز ؟... 415

تاسعاً : ما حكم حضانة الاُم المصابة لوليدها السليم وإرضاعه ؟... 417

عاشراً : ما حكم اعتبار مرض الايدز مرض موت ؟... 418

الوقاية من المرض :... 419

موجبات الافطار في مجالي التداوي والحالات المرضية

ضابط المفطِّرات... 425

1 - ما هو الأكل والشرب ؟... 426

2 - هل الأكل والشرب الذي يكون مفطراً ينحصر في الطريق العادي المتعارف - وهو طريق الفم - أو يشمل ما يكون من غير الطريق العادي ؟... 427

3 - هل يكون الأكل والشرب مفطراً إذا كان معتاداً ؟... 427

ص: 478

4 - هل العبرة بوصول الطعام أو الشراب الى الجوف أو بدخوله عن طريق الحلق ؟ 429

توضيح وتتميم :... 431

1 - الحقن بواسطة المستقيم أو الإحليل :... 435

حكم الاحتقان عند أهل السنة في المستقيم أو الاحليل :... 438

2 - الدهان التي تستطعم في الحلق بواسطة المسام الجلدية :... 439

3 - التطعيم بواسطة الأوعية الدموية أو العضل مما يصل طعمه الى الحلق :... 440

4 - ما يضخ في اللّهوات تسهيلا للتنفس على المصابين بالربو :... 441

5 - ما تعالج به الطعَنات الجوائف مما يصل الى مستقر الغذاء :... 446

6 - الحجامة وفصد الدم وسحبه هل يضرّ بالصوم ؟... 447

7 - التقطير في العين والأنف والاُذن :... 448

8 - المغذّي في حالة الإسعاف والتداوي :... 450

9 - ما يكون محلّه البطن كادخال المناظير للجوف وأخذ عيّنة من الكبد وغيره : 451

تنبيه :... 452

10 - ما يجعل في المهبل أو الرحم :... 452

11 - ما يدخل الدماغ :... 453

المفطرات في مجالات الحالات المرضية... 453

الضرر من الصوم رافع لصحّته :... 453

ما هو طريق إحراز الضرر ؟... 455

ص: 479

الخوف طريق عقلائي في باب الضرر :... 456

هل المرض الفعلي ( الضرر الفعلي ) مانع من صحة الصوم ؟... 456

ما يوجب الإفطار :... 457

الفرق بين الصور الثلاثة المتقدّمة :... 459

ما لا يبيح الإفطار من الأمراض ممّا لا يتأثر بالصوم أو يخفّ به :... 460

ما يجوّز الإفطار :... 462

ما هو دور الطبيب إذا قال بضرر الصوم :... 465

ص: 480

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.