الذريعة إلی حافظ الشریعة : شرح اصول الکافي جلد 1

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: مومن جیلاني، رفیع الدین محمدبن محمد، قرن11ق.

عنوان العقد: الکافی .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الذريعة إلی حافظ الشریعة : شرح اصول الکافي/ رفیع الدین محمد بن محمد مومن الجیلاني؛ تحقیق محمدحسین الدرایتي؛ [برای] مكتبة ومتحف ومركز التوثيق التابع للمجلس الإسلامي.

تفاصيل النشر: قم: موسسة دارالحدیث العلمیة والثقافیة، مرکز للطباعه والنشر، 1430ق -= 1388 -

مواصفات المظهر: ج2.

فروست : مرکز بحوث دارالحدیث؛ 198

شابک : دوره: 978-964-493-431-5 ؛ 65000 ریال: ج.2:978-964-493-430-8

الشروح والحواشی علی الکافی؛ 1

مجموعه آثار الموتمر الدولی الذکری الشیخ ثقه الاسلام الکلیني؛ 1

لسان : العربية.

ملحوظة : تم نشر هذا الكتاب من قبل ناشرين مختلفين في سنوات مختلفة.

موضوع : کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق. . الکافی -- نقد و تفسیر

موضوع : احادیث شیعه -- قرن 4ق.

معرف المضافة: درایتی، محمدحسین، 1343 -

معرف المضافة: دار الحدیث. مرکز چاپ و نشر

تصنيف الكونجرس: BP129/ک8ک2202175 1388

تصنيف ديوي: 297/212

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1 8 5 2 9 7 5

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تصدير

لا يزال الكافي يحتلّ الصدارة الاُولى من بين الكتب الحديثيّة عند الشيعة الإماميّة ، وهو المصدر الأساس الذي لا تنضب مناهله ولا يملّ منه طالبه ، وهو المرجع الذي لا يستغني عنه الفقيه ، ولا العالم ، ولا المعلّم ، ولا المتعلّم ، ولا الخطيب ، ولا الأديب . فقد جمع بين دفّتيه جميع الفنون والعلوم الإلهيّة ، واحتوى على الاُصول والفروع . فمنذ أحد عشر قرنا وإلى الآن اتّكأ الفقه الشيعي الإمامي على هذا المصدر؛ لما فيه من تراث أهل البيت عليهم السلام ، وهو أوّل كتاب جمعت فيه الأحاديث بهذه السعة والترتيب . وبعد ظهور الكافي اضمحلّت حاجة الشيعة إلى الاُصول الأربعمائة ، لوجود مادّتها مرتّبة مبوّبة في ذلك الكتاب .

ومن عناية الشيعة الإمامية بهذا الكتاب واهتمامهم به أنّهم شرحوه أكثر من عشرين مرّة ، وتركوا ثلاثين حاشية عليه ، ودرسوا بعض اُموره ، وترجموه إلى غير العربية ، ووضعوا لأحاديثه من الفهارس ما يزيد على عشرات الكتب ، وبلغت مخطوطاته في المكتبات ما يبلغ على ألف وخمسمائة نسخة خطّيّة ، وطبعوه ما يزيد على العشرين طبعة .

ومن المؤسف أنّ الكافي وشروحه وحواشيه لم تحقّق تحقيقا جامعا لائقا بها ، مبتنيا على اُسلوب التحقيق الجديد . على أنّ كثيرا من شروحه وحواشيه لم تطبع إلى الآن وبقيت مخطوطات على رفوف المكتبات العامّة والخاصّة ، بعيدة عن أيدي الباحثين والطالبين.

هذا ، وقد تصدّى قسم إحياء التراث في مركز بحوث دار الحديث تحقيق كتاب الكافي ، وأيضا تصدّى في جنبه تحقيق جميع شروحه وحواشيه - وفي مقدّمها ما لم يطبع - على نحو التسلسل.

ص: 5

ومنها الشرح الذي بين يديك، وهو شرح على اُصول الكافي لمؤلّفه المولى رفيع الدين محمّد بن مؤمن الجيلاني من أعلام القرن الحادي عشر، ومن تلامذة العلاّمة محمّد تقي المجلسي، والمولى محمّد محسن الفيض الكاشاني. وقد كان عالما فاضلاً، كما أنّه كأن أديبا شاعرا حيث أنشد أشعارا كثيرة بالعربية والفارسية وفي مجالات مختلفة حتى ترك آثارا مختصّة بالشعر، كما وترك مصنّفات اُخرى متعدّدة في العقائد والأخلاق وغيرها، وأحدها هذا الشرح، وقد كتبه في بداية الأمر بصورة تعليقات وتوضيحات على نسخة من نسخ الكافي ، ثمّ جمعها وأضاف إليها مطالب متعدّدة حتّى صارت كتابا مستقلاًّ.

وقد امتاز باُمور تجعل منه شرحا جذّابا، فإنّ المؤلّف لم يكتفِ فيه بالنسبة إلى أحاديث الكافي بالاعتماد على نسخة واحدة، بل اعتمد نسخ متعدّدة وأشار إلى الإختلافات الموجودة بينها. كما أنّه في شرحه لأحاديث الكافي استند إلى الأحاديث المشابهة لها في مواضع اُخرى من الكافي نفسه ومن سائر المصادر الروائيّة الاُخرى، ويقيس ما بينها، ويذكر موارد الاختلاف فيما بينها. وكان يظهر امتعاضه على التركيز والتدقيق في بعض الفروع الفقهيّة التي لا طائل تحتها، ويشحذ العقول على التعمّق في المسائل العقائديّة.

وكان يأخذ الحقّ ولو من ألسنة مخالفيه فكريا، كما كان يصنع ذلك مع الفلاسفة والصوفيّة بالرغم من مخالفته الشديدة لهم، وبهذا جاء هذا الشرح مفصّلاً مستوعبا قدحوى نكات ظريفة ومطالب منيفة.

واليوم يسرّ مركز بحوث دار الحديث أن يصدر هذا السفر القيّم والتراث الخالد، ويقدّمه هديّةً لمكتبة أهل البيت عليهم السلام . نسأل اللّه تعالى أن يجعل هذا الجهد ذخرا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون، إنّه سميع الدعاء.

قسم إحياء التراث

مركز بحوث دار الحديث

ص: 6

مقدّمة التحقيق

المؤلّف

هو المولى رفيع الدين محمّد بن مؤمن الجيلاني (أو الجيلي) من أعلام القرن 11ق ومن تلامذة العلاّمة محمّد تقي المجلسي رحمه الله .

وربما يشتبه هو بالمولى محمّد رفيع بن فرج الجيلاني المشهدي الشهير بملا رفيعا، فخلط بعض المفهرسين في ذكر مصنّافتهما.(1) والفرق بينهما أنّ محمّد بن مؤمن كان من تلامذة المجلسي الأوّل كما صرّح به المصنّف في هذا الأثر والمجلسي الثاني في بحار الأنوار عند نقل بعض مراثيه وسنذكره عن قريب. وأما محمّد رفيع بن فرج الجيلاني كان من تلامذة المجلسي الثاني والمجاز عنه، وذكرت إجازته في البحار.(2)

ولم يذكر في كتب التراجم والفهارس شيء من حياته العلمية أو أحوال اُسرته، وقد عثرنا على بعض أساتذته ومشايخه ضمن كلمات بعض المترجمين له، بل ومن كلمات نفس المصنّف الواردة في هذا الشرح، وهم كما يلي:

1. المولى محمّد تقيّ المجلسيّ (ت 1070ق) الشهير بالمجلسيّ الأوّل.

وقد صرّح به المجلسيّ الثاني في بحار الأنوار عند نقله بعض مراثي الشارح رحمه الله ذيل

ص: 7


1- اُنظر: الذريعة، ج 6، ص 29، الرقم 125؛ و ج 10، ص 215، الرقم 607؛ وج 11، ص 135، الرقم 841؛ وج 14، ص 27، الرقم 1588؛ وج 15، ص 71، الرقم 478؛ أعيان الشيعة، ج 10، ص 317؛ تلامذة المجلسي، ص 100.
2- بحار الأنوار، ج 102، ص 89. وانظر أيضا: تلامذة المجلسي، ص 100؛ تتميم أمل الآمل، ص 159 - 162؛ مرآة الكتب، ص 283.

قصيدة ابن حمّاد، حيث قال:

أقول: لبعض تلامذة والدي الماجد - نوّر اللّه ضريحه - وهو محمّد رفيع بن مؤمن الجيلي - تجاوز اللّه عن سيئاتهما وحشرهما مع ساداتهما - مراثي مبكية حسنة السبك... .(1)

وصرّح به نفس المصنّف أيضا في هذا الشرح (ج 1، ص 136)، حيث قال:

وكنت قد اُعطيتُ شرفَ لقاء من كان بهذه الصفات، ودرستُ اُصول الكافي وقدرا من التهذيب على حضرته، وكان متوجّها إليّ كلّ التوجّه، لكن لم أعرف قدر هذه النعمة حقّ المعرفة؛ إذ لم اُفوّض إليه أمري كلّ التفويض ليبلغ بي إلى ذروة العرفان، حتّى ارتحل إلى دار الجنان، وتركني يتيما منقطعا عن الأب الشفيق... وهو العالم العارف، الزاهد العابد، مُحيي آثار أهل البيت، التقيّ المتّقي، مولانا محمّد تقيّ المجلسي، قدّس اللّه روحه ونوّر ضريحه.

2. الشيخ محمّد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي (ت 1030ق) الشهير بالشيخ البهائي.

قال المحقّق الطهراني رحمه الله في كتاب الروضة النضرة عند ترجمة المصنّف رحمه الله : «وهو من تلاميذ البهائي حيث أنّه يعبّر عنه بشيخنا الأعظم».(2)

وقال نحوه في الذريعة عند تعريف شرح المصنّف رحمه الله على الكافي،(3) ونرى أيضا أثناء هذا الشرح تعبيره عنه بشيخنا الأعظم وما شابهه.

3. المولى محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري (ت 1090ق)، صاحب كتاب الذخيرة.

4. المولى محمّد محسن المشتهر بالفيض الكاشاني (ت 1091ق)، صاحب كتاب الوافي ويدلّ عليهما ما ذكره نفس المصنّف رحمه الله في هذا الشرح (ج 1، ص 137)، حيث قال:

وسمعت مشايخى - رضوان اللّه عليهم - مثل العالم العامل الزاهد [محمّد تقيّ8.

ص: 8


1- بحار الأنوار، ج 45، ص 266. وانظر: مستدركات علم رجال الحديث، ص 95، الرقم 13335؛ تراجم الرجال، ج 2، ص 563.
2- الروضة النضرة، ص 226.
3- الذريعة، ج 14، ص 28، الرقم 1588.

المجلسي رحمه الله ] الذي سبق ذكره، والمحقّق المدقّق مولانا محمّد باقر الخراساني، والعارف المحقّق الرّبانيّ مولانا محمّد محسن القاساني.

المؤلّف وتراثه الشعري:

كان للمصنّف رحمه الله ذوق شعريّ جيّد، وقد أنشد أشعارا كثيرة باللغة العربيّة والفارسيّة وفي مجالات مختلفة؛ بعضها في المراثي، وبعضها في المواعظ والحكم، وبعضها في تبيين بعض العقائد الاُصوليّة وغيرها.

ويبلغ تراثه الشعرىّ الأدبي إلى حدّ الديوان الكبير لو جمع وطبع على حدة، واستقبل أشعاره بعض الأعاظم والعلماء بالقبول ووصفها بأنّها جيّدة، وكان منهم العلاّمة المجلسي رحمه الله في كتابه بحار الأنوار، حيث نقل أربع مراثي عنه في مصائب سيّد الشهداء عليه السلام ، وسنأتي ببعض أبياتها بعيد هذا.

ويمكننا أن نصل إلى هذا التراث الأدبي بثلاثة طرق:

الطريق الأوّل: من كتبه المختصّة بالشعر والتي عرّفها المترجمون والمفهرسون، وهي أربعة كتب:

1. الذريعة إلى حافظ الشريعة (فى المراثي حول مصائب سيّد الشهداء عليه السلام )، وهو متحد اسما مع اسم كتابنا هذا.

2. شرح الثار في ذكر أحوال المختار.

3. مثنوي نان و پنير.

4. مثنوي نظّمه بتبع مثنوي «شير و شكر» للشيخ البهائي رحمه الله .

وسنذكر هذه الكتب بنحو من التفصيل عند ذكر مصنّفات المؤلّف رحمه الله .

الطريق الثاني: أشعاره التي ذكرها ضمن طيّات هذا الشرح، فهى وإن احتمل ورود أكثرها في أحد كتبه الشعرية الأربعة، إلاّ أنّه لمّا لم تكن تلك الكتب مطبوعة كان هذا الشرح الذي بين يديك أحد المصادر التي يمكن بواسطتها الوصول

ص: 9

إلى التراث الشعري للمؤلّف قدس سره .

الطريق الثالث: نقل العلاّمة المجلسي رحمه الله عنه أربع مراثى مبكية في بحار الأنوار في ذيل قصيدة ابن حمّاد، ونحن نذكر عشرة أبيات من كلّ واحد من هذه المراثي الأربعة عن لسان العلاّمة المجلسي رحمه الله في بحار الأنوار، وهي كالآتي:

أقول: لبعض تلامذة والدي الماجد - نوّر اللّه ضريحه - وهو محمّد رفيع بن مؤمن الجيلى - تجاوز اللّه عن سيّئاتهما، وحشرهما مع ساداتهما - مراثي مبكية حسنة السبك جزيلة الألفاظ، سألني إيرادها لتكون لسان صدق له في الآخرين، وهي هذه:

المرثية الاُولى:

كم لريب المنون من وَثَبات *** زعزعتني في رقدتي و ثباتي!

كيف لي و الحمام أغرق في النزع *** و لا يخطئ الذي في الحياة

نفسي المقتضي مسرّة نفسي *** في بلوغي منيتي خطواتي

كيف يلتذّ عاقل لحياة *** هي أمطى الرحال نحو المَمات

هل سليم المذاق يشهى و يستصفي *** اُجاجا في وهدة الكدرات

هذه دار رحلة غبّ حلّ *** كالتي في الطريق وسط الفلاة

لا مكان الثواء و الطمن و الأ *** من من الأخذ بغتة و البيات

بئست الدار إذ قد اجتمعت فيها *** صنوف الأكالب الضاريات

ذلّ فيها اُولو الشرافة و المجد *** و عزَّت أراذل العبلات

دور أهل الضلال فيها استجدَّت *** و رسوم الهدى عفت داثرات

......

المرثية الثانية له عفي عنه

أما الهموم فقد حلّت بوادينا *** واستوطنت إذ رأت حسن القِرى فينا

وهل ترى أحدا أحرى بصحبتها *** ممن حوى الفضل والآداب والدِّينا

أنى يكون لأهل الفضل من فرح *** وما صفى عيشهم من لوعة حينا

ألا ترى السادة النجب الكرام بني *** سليلة المصطفى الغُرّ الميامينا

ص: 10

أصابهم من بني حرب الخباث أذى *** له السماوات والأرضون يبكينا

لهفي على قول مولانا الحسين لصحبه *** وأعداوءه جاوءوا يناوونا

ألا دعوني ألا فامضوا لشأنكم *** إنّ البغاة إذن إياي يبغونا

لا يشتفي غلّهم إلاّ بسفك دمي *** إنّ كان ذا فبغيري لا يبالونا

فقال من هوءلاء الرهط طائفة *** كانوا نفوسهم للخلد شارينا

فداك آباوءنا يا ابن الرسول لقد *** كنّا على ما له صرنا مصرّينا

......

المرثية الثالثة له عفي عنه

ألا ليس من فقد الخليل هزالي *** ولا من مزاج السوء سوءة حالي

ولا نابني ضيق المعاش فعابني *** خليطي وأقراني بقلّة مالي

ولكن خيول الغمّ والكرب والنوى *** توالت على بالي وأيّ توالي

لما حلّ من أصناف بلوى ومحنة *** بآل رسول الله أكرم آل

فكم مشرب كأس الحتوف فبعضهم *** بدس وبعض موءذنا بقتال

ألم تسمع الملعونة الرجس إذ مضت *** توسوس للأخرى بوعد وصال

إلى أن قتلن المجتبى الحسن الذي *** له مع حسن الوجه حسن خصال

فيا ليت كبدي قطّعت حين شربه *** نقيع سموم خال كأس زلال

ويا ليت شمس اليوم كالليل سوّدت *** بما اخضرَّ وجه مشرق كلئالي

بنفسي إذ جاءته زينب اُخته *** وقد شاهدت حالاً وأيّة حال

......

المرثية الرابعة أيضا له عفي عنه

اطلبوا للضحك دوني وعلى الحزن دعوني *** حرم الضحك أخلاّئي عن أهل الشجون

حزني ليس لخلّ أو أنيس أو قرين *** أو لولد كنت أرجو منهمُ أن يخلفوني

إنما حزني وبثّي ورنيني وأنيني *** لشهيد الطفّ سبط المصطفى الهادي الأمين

ص: 11

لهف قلبي إذ ينادي قومه هل من معين *** ما لقومي لا يجيبوننّ إذ قد سمعوني

ألما في قلبهم منّي من داء دفين *** أم لهم بغض على الإسلام أم لم يعرفوني

هاأنا ابن المصطفى الآتي بقرآن مبين *** هاأنا ابن المرتضى الهادي إلى دين مبين

اُمّي الزهراء مخدومة جبرئيل الأمين *** مذهبي التوحيد والتقديس والإسلام ديني

هل على الأرض نظيري اليوم قومي أنصفوني *** فبما استحللتم هتك حريمي؟ أخبروني

ويلكم يوم ينادي المرء يا ربّ ارجعوني *** وأنا أشكو إلى جدي بالصوت الحزين

جدِّ يا جدِّ ترى قومي كيف استضعفوني *** ثم لم يرضوا بالاستضعاف حتى قتلوني

آه من جور عبيد الفاسق العلج الهجين *** آه من شمر وشبث يظهران الحقد دوني

آه من إدماء نحري آه من عفر جبيني *** آه من أجل صبايا هنّ من لحمي وطيني

آه من ذي ثفنات هو نفسي ووتيني *** آه إذ اُبرزت النسوان من حصن حصين

حاسرات ظامئات خافضات للأنين *** آه من جور يزيد بن اللعين بن اللّعين

رب عذِّبهم بتعذيب أليم ومهين *** واحشر الجيلي في زمرة أصحاب اليمين(1) .

ص: 12


1- بحار الأنوار، ج 45، ص 266 - 273.

مصنّفاته:

1. تعليقات على الكافي

وهي غير هذا الشرح الذي بين يديك، بل تعليقات مختصرة على حاشية بعض النسخ من الكافي يشتمل على تمام اُصول الكافي و معظم فروعه، وعرّفها العلاّمة الطهراني في الذريعة وقال:

شرح الكافي، من أوّل الاُصول إلى آخر كتاب الجهاد وقليل من كتاب المعيشة، للشيخ العالم الكامل العارف الأديب المولى رفيع الدين محمّد بن مؤمن الجيلاني... فكتب عليها التعليقات بخطّه وامضائه: محمّد رفيع الجيلاني، أو ابن مؤمن، أو ابن محمّد مؤمن كما في بعضها. وأحال في بعضها إلى مثنويّه الموسوم ب «نان و پنير» و أورد بعض أشعاره... رأيت نسخة الكافي هذا عند السيّد عليّ بن الحسن الفاني الإصفهاني نزيل النجف الأشرف، عليها بلاغات وليس فيها اسم الكاتب ولا تاريخ الكتابة.(1)

وتوجد منها مخطوطتان في مكتبة مركز إحياء التراث الإسلامي بقم، برقم 1580 والرقم 4032.(2)

2. الذريعة إلى حافظ الشريعة (في شرح اُصول الكافي).

وهو الشرح الذي بين يديك، وسيأتي الكلام في اتّحاده عنوانا مع رسالة اُخرى له في المراثي، وهي ما نذكره في الرقم الآتي.

3. الذريعة إلى حافظ الشريعة (في المراثي).

ذكره العلاّمة الطهراني في الذريعة وقال:

منثور ومنظوم في مصائب الحسين الشيهد عليه السلام ، كتبه المؤلّف بخطّه ضمن مجموعة التذكارات التي دوّنها المولى لطف اللّه الشهير بلطفا فيما بين (1075) و (1085) وممّن كتب فيها بخطّه، هو المحدّث الفيض الكاشاني.

أوّل الذريعة بعد البسملة «يا عين مالي أرادك باردة جمودا في مثل هذا الشهر الحرام». وآخره: «واشف به صدورنا وصدور قوم مؤمنين. تمّت المرثيّة الموسومة بالذريعة إلى

ص: 13


1- الذريعة، ج 14، ص 28، الرقم 1588.
2- اُنظر: الفهرس للمكتبة، ج 4، ص 435.

حافظ الشريعة - صلوات اللّه عليه وعلى آبائه الطاهرين - على يد مؤلّفها الجاني ابن محمّد مؤمن رفيع الدين محمّد الجيلاني - عفا اللّه عنهما بمنّه وجوده - والمرجّو من الإخوان أن يمنّوا عليّ بكتابتها ونشرها وسماعها وإسماعها؛ طلبا لمرضات اللّه، وتقرّبا إلى ابن رسوله، وقد كتبته تذكرة للأخ الأغرّ الصالح المعروف ب «لطفا»، رجاء أن لا ينساني بالتذكّر في الأماكن الشريفة. وأنا الفقير الحقير رفيع الدين محمّد، عفي عنه». والنسخة في مكتبة سلطان القرائي كما كتبه في فهرسها المرسل إلينا.(1)

وقال في كتابه الروضة النضرة أيضا:

كتب بخطّه رسالة نثرا ونظما في مراثي سيّد الشهداء سمّاها بالذريعة إلى حافظ الشريعة، ضمن مجموعة التذكارات التي دوّنها المولى لطف اللّه بين سنوات (1075 - 1085)، والنسخة في مكتبة جعفر سلطان القرائي بتبريز.(2)

أقول: هو متّحد اسما مع كتابنا هذا، ولعلّ المصنّف رحمه الله قد سمّى الاثنين باسم واحد، أو غيّر اسمها بعد التاريخ المذكور.

4. رسالة في إبطال الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين.

ذكرها المصنّف رحمه الله في هذا الشرح (ج 1، ص 349)، عند شرح الحديث الرابع من باب الإرادة وأنّها من صفات الفعل، حيث قال:

وأنا أقول: حلّ الشبهة الموردة في مسبوقيّة أفعال العباد بإرادتهم إنّما هو بأن يبيّن معنى كون إرادتهم مخلوقة بنفسها، وقد بيّنّاه في رسالتنا في إبطال الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين.

(5) شواهد الإسلام.

إنّ المترجمين والمفهرسين ذهبوا مذاهب مختلفة في تعريف هذا الأثر، فيفهم من أقوال بعضهم أنّه متّحد مع هذا الشرح الذي بين يديك،(3) ونسبه بعضهم إلى محمّد رفيع بن فرج الگيلاني (المشهور بملاّ رفيعا) فاشتبهوا بين هذا الكتاب وشرح ملاّ1.

ص: 14


1- الذريعة، ج 10، ص 27، الرقم 131.
2- الروضة النضرة، ص 226.
3- اُنظر: الكليني والكافي للشيخ عبد الرسول الغفّار، ص 451.

رفيعا على الكافي(1) وكذا اشتبه صاحب الذريعة في موضع من كتابه بين الكتاب و حاشية الكافي للمولى رفيع الدين محمّد بن حيدر الحسني النائيني (ت 1082ق).(2)

لكنّ التحقيق أوّلاً: أنّ هذا الأثر ليس شرحا على الكافي أصلاً، ودليل هذا المدّعى أنّ نسخة من هذا الكتاب موجودة في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي بطهران (برقم 7991)، ويلاحظ فيها شرح المؤلّف على بعض الأحاديث التي أوردها بعنوان شواهد مذهب الإسلام، وهي:

1. شرح توحيد المفضّل.

2. شرح رسالة الإهليلجة.

3. شرح وصيّة موسى بن جعفر عليه السلام لهشام بن الحكم.

4. شرح قنوت الإمام الكاظم والجواد والهادي عليهم السلام .

(5) شرح زيارة الجامعة وحقيقة وجود صاحب الأمر عليه السلام .

ثمّ أورد في خاتمة الكتاب ترجمة بعض مشايخ الشيعة من صدر الإسلام وبعده، وقد أكثر النقل فيه من كتاب مجالس المؤمنين لقاضي نور اللّه التستري، ثمّ أورد أسامي جماعة من علماء معاصريه.(3)

وثانيا: أنّه تأليف صاحب الشرح الذي بين يديك؛ ودليله أنّ المؤلّف في مواضع من كتابه هذا نقل عن شواهد الإسلام ونسبه إلى نفسه، منها: عند شرحه على رسالة الإهليلجة (ج 1، ص 197)، حيث قال:

هذه الرسالة الشريفة من جملة بديع آثار أهل البيت عليهم السلام ، التي أودعتُها [في] كتاب شواهد الإسلام، وشرحتها بالفارسيّة والعربيّة، وأنا أذكر هنا ما ذكرت في شرح8.

ص: 15


1- اُنظر: رياض العلماء، ج 7، ص 106 - 107؛ الفيض القدسي، ص 257؛ إجازات الحديث، ص 129؛ تراجم الرجال، ج 2، ص 606؛ تلامذة المجلسي، ص 101؛ الفهرس لمكتبة المرعشي، ج 4، ص 385؛ و ج 9، ص 258؛ الفهرس لمكتبة مجلس الشورى الإسلامي، ج 5، ص 371؛ الفهرس لمكتبة مدرسة الفيضية، ج 1، ص 172؛ آشنايى با يك صد و شصت نسخه خطى، ص 25.
2- اُنظر: الذريعة، ج 14، ص 242.
3- فهرست مجلس شوراى اسلامى، ج 26، ص 476 - 478.

قوله عليه السلام : «تفرّقه الرياح...».

ونقل عنه في موضع آخر (ج 1، ص 268)، حيث قال:

وقد فصّلت ما شاهدت من أحواله [أي القُمري] في شرح كتاب الإهليلجة للصادق عليه السلام ، وها أنا أورد هنا ما ذكرت هناك، وهو هذا... .

6. مثنويّ نان و پنير.

قال العلاّمة الطهراني في الذريعة:

نان وپنير؛ أي خبز وجبن. مثنويّ عرفاني في الدفاع عن الغنوص الشيعي ضدّ التقشّر الظاهري، للعارف الفاضل المولى رفيع بن محمّد مؤمن الگيلاني كما صرّح باسمه في خطبة النسخ الموجودة منها عند الشيخ هادي كاشف الغطاء، كتابتها 1107، فقال فيه:

«اين خرده ريزه ايست كه از خوان اِفادت اِخوان ريخته بود فراهم آورده، در سلك نظم منتظم ساخته، در ردّ فقها و متكلّمان عامى، كه مذمّت حكمت حقّه نموده اند.

اگر چه شيخنا بهاء الملّة والدين قدس سره به حسب صورت با ايشان موافقت دارد، امّا به حسب معنى في البين بعد المشرقين، كه غرض آنها ترويج مسائل كلاميّه مبنيّه بر مسلّمات ومشهورات بين معتزلة واشعريّة است، وقصد حضرت شيخ اعلا شأن، ترويج علم أهل ايقان است؛ أعني أصحاب أسرار أمير المؤمنين عليه السلام مثل سلمان و أبو ذر و مقداد و كميل و رشيد هجرى و ميثم تمّار.

وبالجملة غرض شيخ، ترجيح «علم حالى» است بر «علم مقالى» چنانكه در «شير وشكر» و «نان وحلوا» فرموده.

و اين مثنوى فقير، كه احتذا به مثنوى «نان وحلوا» ى شيخ شده، مسمّى شد به «نان وپنير» و مخاطب به آن، صاحب «تهافت الفلاسفة» و احزاب او است از فقيهان و متكلّمان أهل سنت... انتهى بغاية التلخيص.

أوّله:

اى كه روز شب زنى از علم لاف *** هيچ بر جهلت نيارى اعتراف

ادعاى اتباع دين وشرع *** شرع ودين مقصور دانسته به فرع

آن هم استحسان و رأى و اجتهاد *** نه خبر از مبدأ نه از معاد

ص: 16

ثمّ أورد قصّة ضعف عقل العابد، وفيها قوله:

كاش بودى رب ما را يك حمار *** تا چريدى اين علف ها در بهار

إلى آخر القصّة، ثمّ ذكر الجواب عنه، ثمّ الجواب عن الجواب، إلى قوله:

وضع عالم جمله بر حكمت نهاد *** هر كسى را آنچه مى بايست داد

والنسخة ناقصة الآخر، والموجود منه قرب الأربعمائة بيت في مجموعة تحتوى على عدّة رسائل حكميّة إشراقيّة بخطّ واحد، كتبها المولى محمّد عليّ بن يحيى بإصفهان (1107ق) ونسخة فخر الدين انتقلت إلى جامعة طهران (2/1941 - ف 8/559). ونسخة سپهسالار (3/7207) مقدّمتها أقلّ ممّا ذكر فوقا، وهي في 300 بيت تقريبا.

هذا، وقد أسقط المقدّمة المنثورة المصرّح فيها باسم الناظم لهذه المنظومة، وأنّه نظمه في قبال «نان وحلوا» للبهائي، وأسقط منها بعض الأشعار، ثمّ نسبت إلى البهائي مندرجا في كلّيّاته، وطبع ناقصا منسوبا إلى البهائي أيضا.(1)

وأوّله على ما في نسخة مكتبة جامعة طهران ومكتبة دائرة المعارف:

اين خورده ريزه ايست كه در بعضى از اسفار بدست آمد و چون طباع را بعد از استماع نان و حلواى حضرت شيخ قدس سره رغبت به شنيدن آن مى شود، مسمّى گرديد به نان وپنير. ومخاطب كسانى اند از معتقدين حكمت ومنكرين آن كه ورقى چند از كتب فلاسفه گردانيدند، آن را احاطه و تنقيح ناميدند و بر حقيقت يا بطلان آن حكم كرده به نظم درآورد. العبد محمّد رفيع بن محمّد الجيلانى:

اى كه روز و شب زنى از علم لاف *** هيچ بر جهلت نيارى اعتراف.

ولقد أكثر المصنّف رحمه الله النقل عنه في شرح هذا، أو أرجع إليه وصرّح بأنّه لنفسه؛ منها في (ج 1 ، ص 141) هكذا:

وقد بسطنا الكلام في شرح هذا الخبر في المثنويّ الذي سمّيته ب «نان وپنير» محتذيا بالمثنويّ الذي للشيخ الأعظم بهاء الملّة والدين العاملي - قدّس اللّه روحه - المسمّى ب «نان و حلوا»، وإذ كان مشتملاً على أسئلة وأجوبة لطيفة في سبك حسن، أحببت إيراده هاهنا... .1.

ص: 17


1- الذريعة، ج 24، ص 28 - 30، الرقم 141.

قال العلاّمة الطهراني:

طبع بمصر في آخر «پند أهل دانش وهوش به زبان گربه وموش» منسوبا إلى البهائي. والواقع أنّ هذا لعبيد الزاكاني و«نان وپنير» لميرزا رفيع بن مؤمن الجيلاني. وقد أسقط منه المقدّمة المصرّح فيها باسم الجيلاني وعدّة أبيات يظهر منها أنّه لغير البهائي، ثمّ أدرج في كلّيات الشيخ البهائي وطبع مستقلاًّ أيضا باسم البهائي.(1)

أقول: طبع باسم «مقالات شيخ» باستامبول في سنة 1282ق، واُخرى بطهران وبهذا الاسم في سنة 1332ق، وطبع في كشكول الشيخ البهائي طبع حاج نجم الدولة في سنة 1287 - 1296ق، وطبع أيضا في كلّيات اشعار وآثار شيخ بهائى مع مقدّمة سعيد نفيسى.

نسخها:

1. مكتبة جامعة طهران، برقم 2/1941، نسخ قرن 11. (الفهرس للمكتبة، ج 8، ص 559).

2. مكتبة دائرة المعارف، برقم 12/182 (66885) نسخ 1273ق (الفهرس للمكتبة، ج 1، ص 257).

3. مكتبة سپهسالار، برقم 3/7207 (الفهرس للمكتبة، ج 5، ص 702).

7. مثنويّ؛ نظمه بتبع المثنويّ «شير وشكر» للشيخ البهائي رحمه الله .

قال في فهرس مكتبة دائرة المعارف بعد ذكر «نان وپنير» هكذا:

سپس مثنويّى است با سربندهاى مناجات، با ديباچه اى به نثر، از همين ميرزا رفيعا، كه در آن آمده است: «اين را در تبع «شير وشكر» شيخ بهايى ساختم».(2)

(8) منظومة شرح الثار في ذكر أحوال المختار.

وهي بالفارسيّة، نظمها في شرح أحوال المختار الثقفي، وأورد منها أبيات في كتابه شواهد الإسلام.(3)1.

ص: 18


1- الذريعة، ج 24، ص 30.
2- اُنظر: الفهرس للمكتبة، ج 1، ص 257، (230 پ - 233ر).
3- اُنظر: فهرستگان نسخه هاى خطّى، ج 4، 478، الرقم 1981.

الذريعة إلى حافظ الشريعة (الكتاب الذي بين يديك)

سمّى المؤلف هذا الأثر بهذا العنوان في بداية شرحه هذا حيث قال:

وإذ لم أجد في ضميري - واللّه أعلم بي منّي - داعيا إلى هذا الجمع والتأليف سوى نشر علوم آل محمّد عليهم السلام تقرّبا إلى اللّه وحبّا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أرجو أن يتشرّف بنظر الإمام المنتظر وليّ الأمر وصاحب العصر ، عليه وعلى آبائه الكرام من الصلوات أفضلها ، ومن التحيّات أكملها ؛ ولذلك سمّيته ب- «الذريعة إلى حافظ الشريعة» ، ... .

كما ذكرنا سابقا عند ذكر آثار المولّف أنّه قدس سره في بداية الأمر كتب تعليقات وتوضيحات على نسخة من نسخ الكافي، وبعدها قام بجمع تلك التعليقات والايضاحات وأضاف إليها مطالب متعدّدة حتى أصبحت كتابا مستقلاًّ.

وبمراجعة سريعة لهذا الكتاب يمكن استفادة عدّة نكات تجلب النظر، وهي كالتالي:

1. لم يكتف المؤلّف في خصوص أحاديث الكافي بالاعتماد على نسخة واحدة من نسخ الكافي بل اعتمد عدّة نسخ، وأشار إلى الاختلاف الموجودة بينها حتّى نراه أحيانا يصرّح بخصوصيات نسخ الكافي التي اعتمدها، فمثلاً: نراه عند شرحه للرواية الاُولى من (باب في شأن إنّا أنزلناه في ليلة القدر وتفسيرها) وبعد نقله بعض الاختلافات (ج1 ، ص 545)، يقول:

ورأيت نسخة عتيقة من الكافي كان فيها خطّ شيخنا البهائي وخطّ مولانا محمّد تقيّ بن المجلسي وخطّ مولانا عبد اللّه التستري - قدّس اللّه أرواحهم - لم يكن فيها لفظتا «قال» و «أي» والنسخة عند الأخ في اللّه محمّد عليّ بن التوشمال باشي .

2. في شرحه لأحاديث الكافي استند على الأحاديث المشابهة لها والواردة في مواضع مختلفة من الكافي نفسه، وأحيانا وفي بعض الموارد نراه يشير إلى احتمال التصحيف في الكلمة مع ذكر الوجه الصحيح لها، فمثلاً: في (باب النوادر) في الحديث السابع عند شرحه لجملة: «والجهّال يحزنهم حفظ الرواية» (ج 1 ، ص230)، يقول:

لعلّ الصحيح «يعجبهم» بدل «يحزنهم». روى المصنّف قدس سره في كتاب الروضة عن أبي

ص: 19

جعفر عليه السلام أنّه قال في رسالته التي كتبها إلى سعد الخير : «وكلّ اُمّة قد رفَع اللّه عنهم علمَ الكتاب حين نبذوه ، وولاّهم [عدوَّهم] حين تولّوه ، وكان مِنْ نَبْذِهم الكتابَ أن حرّفوه وحرّفوا حدوده ، فهم يَروونَه ولا يَرْعَوْنَه ، والجهّالُ يُعجِبُهم حفظُهُم للرواية ، والعلماء يحزنهم تَرْكُهم للرعاية» .

3. لقد سعى في تصحيحه وشرحه لأحاديث الكافي أن يقيس بينها وبين الأحاديث المشابهة لها الواردة في سائر المصادر الروائية الاُخرى، ويذكر موارد الاختلاف فيما بينها، وكان يرى أنّ من أكبر وظائف علماء عصره تصحيح الأخبار والروايات وتخليصها من شوائب الموضوعات والمجعولات وغيرها، فمثلاً: في (ج 1، ص 307) وبعد مقايسته بين الحديث السادس من (باب إطلاق القول بأنّه شيء) مع ما في التوحيد للصدوق والاحتجاج للطبرسي، وإشارته إلى اختلاف ألفاظ هذين المصدرين مع ما في الكافي، قال:

ومن قاس ما في النسختين بما في الكافي أيقن أنّ أهمّ الشغل لأهل الدِّين في هذا الزمان مرمّة الأخبار بتصفّح الكتب ، والتوفيق من اللّه .

4. نراه في بعض الموارد وعند نقله لبعض الروايات الواردة في المصادر الروائية الاُخرى، يقوم بشرح وتفصيل تلك الروايات، ويبتعد عن شرح أحاديث الكافي، فمثلاً: في «شرح خطبة أبي الحسن الرضا عليه السلام في كتاب عيون الأخبار» يشرح هذا الحديث حتى يتّسع شرحه ويأخذ ما يقارب (60) صفحة من الكتاب، وكان في شرحه لذلك يعتمد كثيرا مّا على بيانات العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار.

5. كان قدس سره يعترض على التركيز والتدقيقات في بعض الفروع التي تكون فائدتها الفقهية قليلة أو نادرة، ويشتكي من غفلة الطلاّب عن التعمّق في المسائل الاعتقادية، ويكتب في (ج 1، ص 241) هكذا:

فإنّي أرى كثيرا منهم يصرفون جميع الأوقات في الفرعيّات ، ويتعمّقون فيما لا يكاد يحتاج إليه أحد طولَ عمره ، مثل الأقارير والوصايا المبهمة والحيل في البيوع وأمثال هذه ، ويتسمّون بالفقيه والمجتهد على الإطلاق ، والنائب العامّ ، والحاكم بالاستحقاق ،

ص: 20

فإذا سُئلوا عن الواجبات العقليّة من مسائل التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة لم يرتقوا عن درجة العوامّ ، وجعلوا النهي عن البحث والتفتيش جُنّةً عن سهام الإلزام ، ولم يعلموا أنّ الزمان زمان فترة ، وأهمّ الاُمور فيه تحصيل اليقين باُصول الدِّين، والعمل بما عُلم ليُفيض اللّه تعالى علم ما لم يُعلم... .

6. إنّه بالرغم من مخالفته الشديدة للفلاسفة والعرفاء والصوفية إلاّ أنّه كان يستفيد من أشعار المولوي والثنائي والعطار وبصورة واسعة وكان له علاقة شديدة بشعر اُولئك الشعراء، وكتب في (ج 1، ص136 - 137) في جواب هذه الشبهة قائلاً:

فإن قلت : إنّك وصفت الصوفيّة بما وصفت ، وأنت أوردت في هذا الكتاب أشعارا من السنائي والعطّار والمشهور بمولانا الرومي وهم صوفيّة أهل السنّة ؟!

قلت : ما أوردت منهم كلُّها حِكمٌ ومعارفُ، وما يتضمّن محبّة اللّه والشوق إلى لقائه والرِّضا والتسليم والتقديس والتحميد على وجه يطابق مخزونات أحاديث المعصومين عليهم السلام طباقا يحصل الظنّ القويّ بأنّهم صرفوا مُدَدَ أعمارهم في التدبّر فيها ، وكذا معارفُ غامضة لم تكن موافقة لعقائد أهل السنّة ، لا أشعريّهم ولا معتزليّهم ، مثل نفي الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين ، قال في المثنوي (نظم) :

شبهه جبر از قدر رسواترست زانكه جبرى حسّ خودرا منكرست

وستسمع من هذه الأبواب في الموضع المناسب لها ، وسمعت مشايخي - رضوان اللّه عليهم - مثل العالم العامل الزاهد الذي سبق ذكره، والمحقّق المدقّق مولانا محمّد باقر الخراساني، والعارف المحقّق الربّاني مولانا محمّد محسن القاساني، يذكرونهم على وجه التوقير والتعظيم ويقولون : إنّهم كانوا شيعة، ولكن مبتلين بالتقيّة من علماء العصر وسلاطينهم ؛ وذلك من أبين الأشياء لمن يتدبّر ما مدحوا به الخلفاء .

لكنّه بعد عدّة صفحات خطّأ نظرية وحدة الوجود التي ذكروها ويرى أنّها مجرّد هذيانات، ويقول: إذا أردنا أن نذكر شيئا عن هؤلاء فليس هو إلاّ الأشعار الحقّه التي ذكروها والتي تكون مطابقة لرواية الأئمّة عليهم السلام .

وهكذا في (ج 2، ص 382 - 395) نراه يتعرّض إلى هذه المسألة مرّة اُخرى وبصورة

ص: 21

واسعة، وكان يستدلّ بأشعار هؤلاء الشعراء لإثبات تشيّعهم، ويوجّه أشعارهم التي مدحوا بها الخلفاء، ويرى أنّها صدرت تقيّة.

7. إنّه في أحد الموارد وبعد نقله عبارة من كتاب كشف الغمّة أشار إلى حواشي الشيخ محمّد على كشف الغمّة ونقل مطلبا منها، والظاهر أنّه أراد من الشيخ محمّد هو: محمّد بن حسن بن زين الدين (م 1030ق) صاحب استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار.

فقد كتب في (ج 1، ص 600) في باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن موسى عليه السلام ، ح 14 في شرح كلمة «ابن النوبيّة» ما نصّه:

وفي كشف الغمّة: «ابن خيرة الإماء ابن النّوبية ، من ولده الطريد الشريد». فعلى هذا المراد بابن خيرة الإماء ابن النوبيّة محمّد الجواد عليه السلام ، والمراد بالطريد صاحب الزمان عليه السلام . كذا في حواشي الشيخ محمّد طاب ثراه .

(8) لقد استفاد من الأشعار الفارسيّة والعربيّة بصورة واسعة، وكان أحيانا عند شرحه للأخبار يعرّج في موارد متعددة إلى المسائل الأخلاقيّة والعرفانيّة والاعتقاديّة ويذكر بعض المحاذير المهمّة، وأحيانا يشير إلى مسائل ومشكلات عصره الفكريّة، كما وأنّه استفاد في بعض الموارد من بعض العبارات الفارسيّة في تبيين وشرح بعض المفاهيم. وكان يصرّح باستفادته من بعض الكتب الاُخرى، وكانا حرّا في استفادته واعتماده على الكلمات والاشعار الحكمية التي ذكرها الآخرون وإن كانوا يختلفون معه في الناصية الفكرية اختلافا شديدا، فكان لكلّ هذه الاُمور مجتمعة أثر كبير في إعطاء هذا الكتاب جذّابيّة خاصة تكسب قلوب الوالهين للاطّلاع على خفايا الاُمور وظواهرها.

النسخة المعتمدة:

لم نعثر لهذا الكتاب لحدّ الآن إلاّ على نسخة خطّيّة واحدة، وهي في مجموعة النسخ الخطّيّة لمكتبة محدّث الارموي محفوظة في مركز إحياء التراث

ص: 22

الإسلامي، برقم 2094.

وهي نسخة جيّدة مصحّحة، نسخت في عصر المؤلّف، ويُرى فيها حواشٍ بعنوان «منه مدّ ظلّه العالي». وفيها بلاغان بخطّين مختلفين. وفي حواشي بعض الصفحات إضافات كثيرة كلّها استدراك من حواشي المؤلّف على الكافي. وتقع في (415) صفحة في كلّ صفحة (26) سطرا.

فاعتمدنا في عملنا على هذه النسخة الوحيدة، وقمنا بتخريج الآيات والأحاديث والأقوال، ووضع العلائم والحركات ونحوها، كما وقابلنا ما نقله عن الكافي مع الكافي المطبوع بتحقيق الغفاري رحمه الله ، وذكرنا اختلافاتهما في الهامش، كما قابلنا بعضه مع الكافي المطبوع أخيرا بتحقيق مركز بحوث دار الحديث، وجعلنا أمام كلّ فقرة من أحاديث الكافي عددين بهذه الكيفيّة: [ح 16 / 2908]، يشير العدد الأوّل رقم الحديث في الكافي المطبوع بتحقيق المرحوم الغفاري، في حين يشير الرقم الثاني إلى تسلسل الحديث في الكافي الذي طبع بتحقيق مركز بحوث دار الحديث.

كلمة شكر وثناء:

وفي الختام نرى من الواجب علينا أن نقدّم جزيل الشكر والثناء إلى جميع الإخوة الذين أعانونا في تحقيق هذا الأثر القيّم، وفي مقدّمتهم فضيلة الاُستاذ آية اللّه الشيخ نعمة اللّه الجليلي رحمه الله لقيامه بهمّة مراجعة الكتاب، وكذلك الأخ الفاضل حميد الأحمدي لمساعدته في بعض مراحل العمل، وكذا سماحة الأخ المحقّق الشيخ علي الحميداوي لمساعدة في تعريب مقدّمة التحقيق وكذا الأخوة مجيد أميري رستكي لمساعدة في نضد الحروف، ومحمّدكريم صالحي لبذل جهوده في الإخراج الفني للكتاب.

كما أنّ الواجب يدعونا إلى تقديم جزيل الشكر إلى المحقّق الفاضل الشيخ مهدي

ص: 23

المهريزي مسؤول مركز بحوث دار الحديث وسماحة حجة الاسلام والمسلمين السيّد أحمد الحسيني الاشكورى مسؤول مركز إحياء التراث الإسلامي، نسأل اللّه تعالى أن يكتب لهم الأجر وأن يتقبّله بأحسن القبول.

محمد حسين الدرايتي

(8)بيع الثاني 1430ق

(15)روردين 1388ش.

ص: 24

صفحات تصاوير

ص: 25

ص: 26

ص: 27

ص: 28

ص: 29

ص: 30

ص: 31

ص: 32

ص: 33

ص: 34

الذريعة إلى حافظ الشريعة

ص: 35

ص: 36

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمدُ للّه الخفيّ الكافي ، العالم بالجليّ والخافي ، والصلاة على النبيّ الصفيّ الصافي ، والوليّ الوصيّ الوافي ، وآلهما المشهود بفضلهم وعظيم منزلتهم من اللّه ورسوله على رغم الجاحد النافي .

وبعد ، يقول العبد الأقلّ «محمّد رفيع بن مؤمن الجيلاني» غفر اللّه ذنوبهما وستر عيوبهما : إنّ الكافي - وهو من أعظم اُصول الإسلام - لعمري كتابٌ ساطعٌ تبيانه ، قاطعٌ برهانه ، ناطقٌ ببيّناتٍ وحجج ، منتظمٌ متناسق غير ذي عوج ، كنز ذخائره من هدايا جبرئيل ، بحر جواهره من معادن التنزيل ، ولقد تصدّى لشرحه فحول العلماء والأعيان، واستخرجوا من لآليه ما صار لذوي الأسماع حِليةَ الآذان .

ومن ذخوره وغزارته أنّك إذا نظرت إلى شرح أحدهم، قلت إنّه استوفى البيان، وأخرج جميع مكنوناته إلى المشاهدة والعيان ؛ ثمّ إذا نظرت إلى شرحٍ آخَرَ ، ظفرتَ بحقائقَ ودقائق استُنبطت منه لم تكن لك في الحسبان : «كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَٰذَاالَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَ أُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا»(1) .

وقد وقع في خَلَدي يوما أنّ هذه الشروحَ لكثرتها وإن كانت داعيةً إلى الاكتفاء بها ، إلاّ أنّك إن حملت وَكْدَك وَكَدّك على الغور والتأمّل في هذا الأصل الأصيل، عسى أن تطّلع على خفايا بقيتْ بعدُ في زوايا ؛ فجمعتُ هذه الأوراق رجاءَ أن أنتظم في سلك .

ص: 37


1- البقرة (2) : 25 .

الشارحين، ويكونَ لسان صدقٍ لي في الآخرين ، فجاء بحمد اللّه تعالى ذا فوائدَ كثيرةٍ :

منها : تصحيح متون الأخبار بالرجوع إلى كتب القدماء ، والتقييد بأنّ هذا الخبر في ذلك الكتاب كذا وكذا ، وهذا لعمري فائدة جليلة ؛ لما بها من الاستغناء عن ارتكاب التكلّفات البعيدة في حلّ إشكال بعض الأخبار الذي تطرّق إليه من جهة بعض الرواة أو الكتّاب تصحيفٌ أو إسقاط، كما ستقف عليه إن شاء اللّه تعالى .

وسمعتُ من بعض تلامذة السيّد النجيب الأقدم الأفضل ميرزا رفيعا أنّه - قدّس اللّه روحه - كتب في حلّ خبر هشام الآتي حاشيةً طويلة، ثمّ وجده في كتاب التوحيد وعيون الأخبار بزيادةِ عدّةِ كلماتٍ استغنى الخبر بها عن الحلّ والبيان ، فمحا ما كتب، واقتصر على الإشارة إلى ما سقط .

ومن فوائده أيضا رفع إجمال كثير من الأحاديث وإشكالاتها بأحاديثَ اُخرى ؛ وبالجملة : شرح الحديث بالحديث بقدر الإمكان .

ومنها : اشتماله على نخبة إفادات الشارحين وما في كتب العلماء الأعلام من المؤيّدات والمناسبات .

ومنها : بيان اللغات الغريبة مع إسناد كلٍّ إلى مأخذه ، وعدم الاكتفاء في الاستكشاف بالقاموس كما يفعله مَنْ ظنَّ أنّه مغنٍ عن سائر كتب اللغة ؛ وذلك لأنّه وإن فاق غيره باجتماع لغات كثيرة فيه إلاّ أنّ به إجمالاتٍ وإيجازاتٍ فُصّلت في الكتب المدوّنة قبله ، كأساس الزمخشري وفائقه، ونهاية ابن الأثير وجامعه، ومغرب المطرزي ومعربه ، بل صحاح الجوهري . وفي الاكتفاء يعرض زلاّت كثيرة، كما لايخفى على المتدرِّب البصير، والناقد الخبير ، وقد يسّر اللّه - وله الحمد - جمْعَ جميع الكتب المشهورة التي في اللغات ، وتبيّن لي بكثرة المراجعات عدمُ إغناء بعض منها عن بعض حتّى القاموس عن الصِّحاح .

ومن فوائد هذا الشرح: اشتماله على معانٍ لطيفة دقيقة غامضة كُشف عن وجهها النِّقاب بأيدي الاُصول العقليّة اليقينيّة ، المشهود لها بالشواهد النقليّة الموثوق بها ، إلى غير ذلك من الفوائد .

ص: 38

وإذ لم أجد في ضميري - واللّه أعلم بي منّي - داعيا إلى هذا الجمع والتأليف سوى نشر علوم آل محمّد عليهم السلام تقرّبا إلى اللّه وحبّا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أرجو أن يتشرّف بنظر الإمام المنتظر وليّ الأمر وصاحب العصر ، عليه وعلى آبائه الكرام من الصلوات أفضلها ، ومن التحيّات أكملها ؛ ولذلك سمّيته ب- «الذريعة إلى حافظ الشريعة» ، وقبل أن أبتدأ بالمرام أختتم الكلام بدعاءٍ دعوتُ به في بعض مراثيهم عليهم السلام :

إلهي أنا الجيلي عبدُك مذعنا *** بما كان منّي من ذميم فِعالي

ولكنّني راثي الحسين وناشرٌ *** مدائحَ ساداتي بلحن مقالي

محبّة أولاد الرسول تعرّقت *** ببالي فلا بالموت بعدُ اُبالي

ولم أتّخذ دون الوصيّ وليجة *** وهذا عطاءٌ منك قبل سؤالي

وأنت عليمٌ من ضميري بأنّني *** بغيضٌ لأعداء الوصيّ وقالي

فلا تُبعدَنّي عنه حيّا وميّتا *** وعمّم بهذا الفضل كلّ مُوالي(1)

ثمّ اعلم أنّي وجدت عبارات الخطبة أكثرها مقتبسة من الخطب والروايات المودَعة في هذا الكتاب بلا تفاوت ، فرأيت أن أقتصر هاهنا على الإشارة إلى مآخذها ، وأشرح كلّ مقتبسٍ عند شرح المقتبس منه ، فأقول :

قال المصنّف : - طيّب اللّه ثراه ، وجعل الجنّة مثواه - :

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، الحمدُ للّه ِ المحمودِ لنعمته ، المعبودِ لقدرته ، المُطاعِ في سلطانه ، المرهوبِ لجلاله ، المرغوبِ إليه فيما عنده ، النافذِ أمرُه في جميع خَلْقِه .

يحتمل أن يكون الحمد هنا مصدرا كما هو أصله ، والرفع للتوأم والثبات .

قال البيضاوي - وهو ممّن له قدم في الفنون الأدبيّة - :

هو من المصادر التي تُنصَب بأفعال مضمرة لاتكاد تُستعمل معها . والتعريف فيها للجنس ، ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كلّ أحد أنّ الحمد ما هو ؛ أو هو للاستغراق ، إذ الحمد في الحقيقة كلّه له(2) . انتهى . .

ص: 39


1- نقل العلاّمة المجلسي رحمه الله في البحار أربع مراثي مبكية عن المصنّف ، وهذه الأبيات قد جاءت في انتهاء المرثية الثالثة منها . بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 266 - 274 .
2- أنوار التنزيل ، ج 1 ، ص 46 .

ويُحتمل أن يُراد بالحمد ما يُحمد به، وهي الأسماء الحسنى . وكيف كان ينبغي أن يعمّم مورد الحمد بأن يكون باللِّسان المقالي أو الحالي ليشمل حمدَ كافّة الأشياء، كما عمّم في قوله عزَّ من قائل : «وَ إِن مِّن شَىْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ»(1) ، فالمعنى أنّ فعل الحمد من كلّ أحد - أي عدّ المحاسن الذاتيّة والفعليّة العائدة عائدتها إلى الحامد ، وغير الحامد ، أو ما يُحمد به كلّها من حيث الاستحقاق الذاتي - مختصٌّ باللّه ، على أنّ اللام للاختصاص ، ولا ريب فيه ؛ لأنّ المحاسن الذاتيّة من الحُسن والبهاء والعظمة والكبرياء ، والفعليّة من الجود والإعطاء والإفضال بصنوف الآلاء والنعماء على الحقيقة وأوّلاً وبالذات له تعالى ، وما لغيره فإنّما هو ظلال وعكوس وعلى سبيل المجاز ؛ كما يكشف عن ذلك الحصر الذي في كلام المعصومين العارفين باللّه الهادين إليه صلوات اللّه عليهم أجمعين ، حيث قالوا في تحميداتهم وتمجيداتهم : «لك الأسماء الحسنى والكبرياء والآلاء»(2) .

هذا هو الكلام في المحمود به ، وسيجيء الكلام في المحمود عليه .

وأمّا الجلالة ، فقد اختُلف فيها ؛ فقيل : إنّها عَلَم . وقيل : بل مشتقّة . وقد بُسط الكلام من الطرفين في حواشي السيِّد الشريف والتفتازاني على الكشّاف(3) .

وقال البيضاوي :

الحقّ أنّه وصف في أصله ، لكنّه غلب عليه تعالى بحيث لا يستعمل في غيره ، فصار كالعَلَم ، مثل الثريّا والصعق ، أجرى مجراه في إجراء الأوصاف عليه وامتناع الوصف به، وعدم تطرّق احتمال الشركة إليه ؛ لأنّ ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخَرَ - حقيقي أو غير حقيقي - غيرُ معقول للبشر ، فلا يمكن أن يُدلّ عليه بلفظ(4) . إلى آخر ما قال . .

ص: 40


1- الإسراء (17) : 44 .
2- الكافي ، ج 4 ، ص 160 ، باب الدعاء في العشر الأواخر من شهر رمضان ، ح 2 ؛ الفقيه ، ج 2 ، ص 161 ، ح 2032 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 3 ، ص 101 ، ح 263 ؛ مصباح المتهجّد ، ص 614 ، 628 و ... ؛ جمال الاُسبوع ، ص 79 ؛ المصباح للكفعمي ، ص 636 ؛ البلد الأمين ، ص 225 .
3- الحاشية على الكشّاف للسيّد الشريف، ص 35 - 40.
4- أنوار التنزيل ، ج 1 ، ص 34 و 35 .

وهذا هو الحقّ عندي ، وستقف في باب المعبود على ما يشهد به .

وقال شيخنا البهائي قدس سره في حواشيه :

هذا الوجه مبنيّ على ما هو الظاهر من تعريف العَلَم بما وضع للذات مع جميع المشخّصات ، واعترض عليه بعض الأعلام بأنّه إنّما يدلّ على عدم تمكّن البشر من وضع العَلَم له تعالى ؛ لعدم اطّلاعهم على جميع مشخّصاته ، فيجوز أن يضع هو لذاته علما . نعم ، نحن معاشر الممكنات لا يمكننا ذلك ، وليس النزاع فيه .

أقول في الجواب : إنّ غرض المؤلّف هو أنّ وضع العَلَم لخصوصيّة الذات لايليق بالحكمة ؛ لجريانه مجرى العبث ؛ لأنّ الدلالة على تلك الذات بالعَلَم بحيث يفهم منه المعنى العَلَمي غير ممكنة ؛ لكونها غير معقولة للبشر ، والغرض من وضع العلم التفهيم والتفاهم والدلالة على المسمّى ليخطر بشخصه ببال السامع عند إطلاق اللفظ الموضوع له ، وعلمه تعالى بخصوصيّة ذاته معلوم ، ولكن نحن معاشر الممكنات من المادّيات والمجرّدات لا يخطر ببالنا عند سماع العَلَم نفس الموضوع له قطعا ؛ لتقدّسه عن التلوّث بالحضور بعينه لأذهاننا ، فلايمكن دلالتنا على المعنى العَلَمي ، بل لا يمكننا تعقّل الذات المقدّسة إلاّ بصفات وسلوب وإضافات يمكننا فهم معانيها ، فلا يكون اللّه عَلَما ، وفي قوله : «فلا يمكن أن يدلّ عليه بلفظٍ» إيماءٌ إلى ما قلنا .

هذا ، والحقّ أنّه يكفي في وضع العَلَم لذاتٍ تعقّلها بوجه يمتاز به عمّن عداها ، ولايشترط علم الواضع بجميع المشخّصات وملاحظتها عند الوضع .(1) انتهى .

أقول في مقام الانتصار له : لو تصوّرنا مفهوما بوجه أنّه لا يُشترك في ماهيّته بوجه - كما هو الواقع في الواجب تعالى - فهذا المتصوّر ممتاز عن جميع المتصوّرات ، وبعد أن يُثبت البرهانُ وجودَه يحصل العلم بشخصٍ غير منتشر ، أمّا الشخصيّة فمن جهة الوجود ، وأمّا عدم الانتشار فمن جهة المفهوم ، وذلك واضح ؛ فإذا وضعنا للشخص لفظا ، كان عَلَما له لا محالة ، مع أنّا لم نعلم مشخّصاتٍ .

ولو قيل : لايخطر بالبال عند سماع ذلك الاسم بَحْتُ الذات الشخصيّة بخلافه عند .

ص: 41


1- حواشي الشيخ البهائي على تفسير البيضاوي مخطوط ، وسيطبع مع سائر آثاره التفسيريّة في مجلّد مستقلّ إن شاء اللّه تعالى .

سماع زيد ، بل ذاتٌ مّا تكون صفته أن لا يُشترك في ماهيّته ، فإن عمّم العَلَم بحيث يتناول هذا أيضا ، فذاك اصطلاح جديد ، ولا مشاحَّةَ في الاصطلاح .

قلت : إن اُريد بالذات الشخصيّة الذاتُ المأخوذ معها مشخّصُها - الذي لها في نفس الأمر وبه هي متعيّنة ولو كان عين الذات - فمسلّم أنّها لاتخطر بالبال على ذلك الفرض ، لكن لا نسلّم وجوب أخذ ذلك المتشخّص في العَلَم ، بل الذي يجب - كما يُكشف عند الفحص عن حال الأعلام - أن يتوهّم الواضع ما يريد أن يضع له لفظا على وجه جزئي ممتاز عنده عمّا عداه ؛ إمّا من جهة مشاهدة شخصه ، أو من جهة اعتبار أوصاف له حقيقيّةٍ وإضافيّةٍ انحصرت فيه ولو كان باعتقاده ، مثلاً تواتَرَ عندنا أنّ ملك الهند في هذا العصر المدعوّ «أورنك زيب» وهو ابن الملك المشهور بحزم ، فبذلك حصل في وهمنا شخص ممتاز عمّا عداه ، ومعلوم أنّ له في نفس الأمر مشخّصا به صار شخصا في حدّ ذاته، ونحن لا نعرفه ، فلو وضعنا له لفظا وأخبرنا أصحابنا أنّ الموضوع له ما هو صاحب الوصف المذكور ، ينتقل ذهنهم إليه بخصوصه عند إطلاقنا اللفظ بلا ريب ، وهذه هي خاصّيّة العَلَم ، وكذا إذا خرجت من دارك ظهر يوم الجمعة وكانت امرأتك في وجع الطَّلْق ، فأتاك ابنك محمّد بعد ساعة ، وأخبرك أنّ اُمّي ولدت ذكرا في هذه الساعة مشقوق الشفة العليا ، فسمّيته مشقوقا بحضرة جمع من أقربائك ، وحالَ القضاء بينك وبين رؤيته بعروض سفر بعيد ، فإذا كتبت إليهم أنّ الضيعة التي لي في قرية كذا وهبتها لابني محمّد ومشقوق ، فهل يفرّقون بين الاسمين ؟ وهل يقولون إنّ أحدهما عَلَم، والآخر غير علم ؟ وهل هذا إلاّ باعتبار تشخّص المشقوق عندك حين التسمية من جهة الوصف ، مع أنّك لم ترَ شخصه الذي به كان متعيّنا في حدّ ذاته .

فظهر أنّ التشخّص المعتبر في العَلَم التشخّص في نظر الواضع ، بمعنى كون المسمّى حين الوضع بحيث يكون ممتازا عن جميع ما عداه ، إمّا بمشاهدة ذاته ، أو العلم بأوصافه الحقيقيّة والإضافيّة التي بزعمه أنّها منحصرة فيه ، وبقيام البرهان على وجود مفهوم ذي صفة جعلته متميّزا عن سائر الموجودات، ككونه مبدء كلّ شيء ، وهذا هو المعنيُّ

ص: 42

بالتشخّص في نظر الواضع ، وهو مناط العَلَميّة ، لا التشخّص الذي للشيء في حدّ ذاته .

ومن علم ما كان تشخّصا في نظر الواضع - ولو كان وصفا كلّيا منحصرا في الموضوع له بزعم الواضع - انتقل ذهنه إلى المقصود عند السماع قطعا ؛ ألا ترى أنّه لو كان جماعة من الشيعة في بلاد السنّة، وتواطؤوا على وضع لفظ لمن تصدّى للخلافة عقيب رحلة النبيّ صلى الله عليه و آله تغلّبا ومكرا، ليتيسّر لهم ذكره جهرا بلا خوف من أهل البلد، وإفهام بعضهم بعضا في مواضع الحاجة ، يحصل لمن سمع منهم ذلك اللفظ الانتقال بلا شبهة انتقالَ من سمع لفظ «فلان» مع القرائن الرافعة للجهالة من جهة اشتراك الاسم بلا تفاوت ، ومن هذا الباب لفظ «خدا» في الفارسيّة و«تارى» في التركيّة .

وليعلم أنّ الغرض جواز كون الجلالة عَلَما ، لا أنّه عَلَم ابتدائي البتّة ، وليس من الأعلام المقاليّة التي هي في الأصل مشتقّات ، وسيجيء الكلام في ذلك في حديث هشام وقوله : «اللّه ممّا هو مشتقّ» .

هذا ، وقال المحقّق الشريف عند تعريف الفاضل التفتازاني في المطوّل للعَلَم بأنّه ما وضع لشيء مع جميع مشخّصاته : إنّه يخرج عن هذا التعريف الأعلامُ الجنسيّة ، ولا يجاب بأنّها موضوعة للمهيّة مع جميع مشخّصاته الذهنيّة ؛ لاستلزامه امتناع إطلاقها على الأفراد الخارجيّة ، بل بأنّ عَلَميّتها تقديريّة لضرورة الأحكام ، والمقصود تعريف الأعلام الحقيقيّة .(1)

قوله : (المحمودِ لنعمته) .

المقصود أنّ اللّه تعالى مالك لصفة المحموديّة ومستحقٌّ لها ، حَمِدَه العباد أوّلاً،وذلك لفشوّ نعمته في كلّ ذرّة من ذرّات العالم ، إن لم يحمده لسان مقال بعضٍ كفرانا للنِّعمة أو فقدانا للآلة ، فهم حامدون بلسان الحال في جميع الأحوال ، وما أحسن ما قال (نظم) :

بذكرش هر چه بينى در خروش است *** دلى داند ازين معنى كه گوش است 1.

ص: 43


1- المطوّل بحاشية الشريف، ص 71.

نه تنها بلبلش تسبيح خوانيست *** كه هر خارى بتسبيحش زبانيست

«وَ إِن مِّن شَىْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ»(1) .

وليعلم أنّ الحمد الذي منّا معاشرَ الممكنات إنّما هو على حسب طوقنا ، وأمّا إنّه يليق بحضرته فكلاّ ، بل الحامد لنفسه على الوجه اللائق به هو نفسه ، وجميع الموجودات محامده ؛ لأنّها شرح حسنه وكماله ، وهو المظهِر لها من كتم العدم، وليس فعل الحمد إلاّ إظهار كمالات المحمود ؛ سُبحانك لا اُحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك .

واختلفوا في المحمود عليه ، فظاهر الكشّاف أنّه الجميل مطلقا.(2) وقال السيّد الشريف في حواشيه : «أراد بالجميل الفعل الجميل» ثمّ قال : «وإذا خصّ بالأفعال الاختياريّة لزم أن لا يُحمد اللّه تعالى على صفاته الذاتيّة كالعلم والقدرة والإرادة ، سواءً جعلت عين ذاته أو زائدة عليها ، بل على إنعاماته الصادرة عنه باختياره».(3)

أقول : ربّما يستدلّ على أنّ الصفات الذاتيّة غير داخلة في المحمود عليه بقول سيِّد الساجدين عليّ بن الحسين عليهماالسلام حيث قال في دعاء الحمد :

«والحمدُ للّه بكلّ ما حَمِدَه به أدنى ملائكتِهِ إليه ، وأكْرَمُ خَليقَتِهِ عليه ، وأرضى حامِديه لَدَيْه ، حمدا يَفْضُلُ سائرَ الحَمْدِ كَفَضْلِ ربِّنا على جميع خَلْقِه ، ثمّ له الحمدُ مكانَ كُلِّ نعمةٍ له علينا وعلى جميعِ عِبادِهِ الماضينَ والباقينَ، عَدَدَ ما أحاطَ به عِلْمُه من جميع الأشياء ، ومكانَ كُلِّ واحدةٍ منها عَدَدُها أضعافا مضاعفةً أبدا سرمدا إلى يوم القيامة» .(4)

وجه الاستدلال : أنّه عليه السلام اقتصر في ذكر المحمود عليه على كلّ نعمةٍ له تعالى علينا وعلى جميع عباده الماضين والباقين ، ولم يتعرّض لأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، والحال أنّ المقام مقام الإغراق والاستغراق . .

ص: 44


1- الإسراء (17) : 44 .
2- الكشّاف ، ج 1 ، ص 45 .
3- الحاشية على الكشّاف للشريف الجرجاني ، ص 46 .
4- الصحيفة السجّاديّة ، ص 28 ، الدعاء 1 .

اللّهمَّ إلاّ أن يُقال : إنّ الحمد على الصفات الذاتيّة مدرجٌ في قوله عليه السلام : «بكلّ ما حمده به أدنى ملائكته إليه ...» إلى آخره .

والغرض فيما بعدَ ثمّ استغراقُ النِّعم المحمود عليها - سواءً كانت واصلةً إلى الحامد أو غير الحامد - لا استغراق مطلق المحمود عليه .

وليعلم أنّ كلّ فعلٍ منه تعالى محمودٌ عليه ؛ لأنّ أصل الإيجاد الذي هو بحرٌ فراتٌ سائغٌ شرابه نعمةٌ جليلة، تشعّبت منها عامّة أنهار النِّعم والآلام وإن كانت في عداد الضرر ، إلاّ أنّها على المؤمن ممّا يرفع اللّه به شأنه ، أو يدفع به ما شانَه ، كسقي الطبيب الشفيق الأدوية المرّة البَشِعَة(1) لحفظ الصحّة أو إزالة المرض ؛ فهي إذَن نعمة.

وأمّا آلآم الكفّار فهي تفريح للمؤمن وشفاء لغيظه ؛ ولذا قال قدوة العارفين أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة من خطب نهج البلاغة : «نَحْمَدُه على ما أخَذَ وأعطى ، وعلى ما أبْلى وابْتَلى»(2) .

وفي خطبةٍ اُخرى : «أحْمَدُ اللّه َ على ما قَضى من أمْرٍ ، وقَدَّرَ من فِعْلٍ ، وعلى ابتلائي بكم»(3).

وقال تعالى : «قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ»(4) .

وقد جرى على لساني من بركات علومهم عليهم السلام ما في القصيدة اللاميّة التي قلت فيهم (شعر) :

أتحسب الضُرّ ليست فيه منفعةٌ *** حاشاه حاشاه ما هذا بمحتمل

هذا اُجاجٌ ولكن عند ذي سقمٍ *** من صحّ كان له أحلى من العسل

صحّح مزاجك إن شئت التلذّذ من *** طعم النوائب والأسقام والعلل

مزاج نفسك لا النفس التي اشتركت *** فيها البهائم ذات النهق والصهل

ص: 45


1- البَشِع : الخشن من الطعام وكريه الطعم منه . لسان العرب ، ج 8 ، ص 11 (بشع) .
2- نهج البلاغة ، ص 190 ، الخطبة 132 .
3- نهج البلاغة ، ص 258 ، الخطبة 180 .
4- التوبة (9) : 14 و 15 .

لو لم تكن لذّةٌ في النائبات لما *** صبّت على أنبياء اللّه والرُّسل

ولا على الأوصياء المصطفين ذوي *** جلالة الشأن عند اللّه ذي الجلل

اُنظر إلى سيِّد الكونين وابنته *** ثمّ الإمام أمير المؤمنين عليّ

ثمّ الإمام الزكيّ المجتبى حسنٍ *** سبط النبيّ النبيه السيّد النَبَل

ثمّ الحسين الإمام ابن الإمام أبي *** الأئمّة التسعة الهادين للسُّبلِ

قد ابتلوا بصنوف الموجعات وهم *** في عصمة اللّه مُذ كانوا من الزلل

وبكلامهم عليهم السلام احتذى من قال ، وما أحسن ما قال :

ناخوش او خوش بود بر(1) جان من *** جان فداى يار تن(2) رنجان من(3)

عاشقم بر لطف و بر قهرش بجد *** اى عجب ، من عاشقِ اين هر دو ضد(4)

قوله : (المعبودِ لقدرته).

تنقيح المقام بذكر ما قاله المفسِّرون في تفسير العبادة ، ونقل قدر من الآيات التي استعملت العبادة وما اشتقّ منها فيها ، وبيان أنّها لم تفسّر في كتب اللغة المتداولة ، وبذلك يتّضح معنى معبوديّته تعالى لقدرته ، فنقول :

في تفسير الكواشي(5) : «العبوديّة : التذلّل ، والعبادة أبلغ منها ؛ لأنّها غاية التذلّل ، فلايستحقّها إلاّ من هو في غاية الإفضال». ومثله في تفسير الراغب .(6)

وقال البيضاوي : «العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل ، ومنه : طريقٌ معبّد ، أي مذلّل . وثوب ذو عبدة : إذا كان في غاية الصفاقة ، ولذلك لا يستعمل إلاّ في الخضوع للّه تعالى».(7) .

ص: 46


1- في المصدر : «در» .
2- في المصدر : «دل» .
3- مثنوى معنوى ، ص 85 ، دفتر اوّل، ش 1778 .
4- مثنوى معنوى ، ص 75، دفتر اوّل، ش 1571، مع اختلاف يسير .
5- هو أبو العبّاس الكواشي أحمد بن يوسف بن الحسن بن رافع بن الحسين بن سويدان الشيباني الموصلي ، المتوفّى سنة 680 ه . وله تفسيران : تفسير كبير سمّاه بتبصرة المتذكّر ، وصغير سمّاه بالتلخيص (مخطوطان). اُنظر : كشف الظنون ، ج 1 ، ص 457 و 480 ؛ هدية العارفين ، ج 1 ، ص 98 ؛ الأعلام للزركلي ، ج 1 ، ص 274 .
6- المفردات للراغب ، ص 542 (عبد) .
7- أنوار التنزيل ، ج 1 ، ص 66 .

ومثله في الكشّاف ، وزيد فيه : «لأنّه مُولى أعظم النِّعم ، فكان حقيقا بأقصى غاية الخضوع».(1)

أقول : لا شكّ في أنّه تعالى مُولى أعظم النِّعم ، وأنّه حقيقٌ بأقصى غاية الخضوع ، ولكنّ الكلام في أنّه هل هو معنى العبادة ومناط تحقّقها ، أم معناها أعمّ من ذلك ؟ ولم يذكر أهل اللغة - الذين كتبهم متداولة - لها معنى ، والشارع استعمل ما اشتقّ منها مرّة في تعظيم المشركين لأصنامهم وتقريب القربان لأجلها ، ومرّة في اتّباع الهوى والشيطان ، وعهِدَ سبحانه إلى العباد بوساطة السفراء والأنبياء أن لا يعبدوا الشيطان ، وأمر بقصر العبادة له تعالى ، ونهى عن اتّخاذ معبود سواه ، كقوله تعالى : «إِيَّاكَ نَعْبُدُ»،(2) وقوله تعالى : «أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا»(3) ، وقوله تعالى : «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِى هٰذَا صِرَ طٌ مُّسْتَقِيمٌ »(4) ، وقوله تعالى : «وَ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَ لاَ يَنفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ»(5) ، وقوله تعالى حكايةً عن عَبَدة الأوثان : «لَوْ شَآءَ الرَّحْمٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم»(6) ، وقوله تعالى : «أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ»(7) إلى غير ذلك .

ومقتضى كلام هؤلاء الأعلام أنّ أقصى غاية الخضوع هو المناط في تحقّقها ، وهو المختصّ باللّه تعالى ، وأنّ التوبيخات التي وردت على الإطاعة والاتّباع للشيطان والهوى إنّما هي إذا كان اتّباعا على ذلك الحدّ من الخضوع ، ولو كان دون الأقصى فليس بعبادة وإن كان مذموما على بعض الوجوه .

وهذا المعنى ليس في كتب اللغة المتداولة ، ولا هو منقولاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله وأهل بيته المعصومين عليهم السلام ، ولعلّ الدليل على ذلك - كما يومي إليه كلامهم - حكم العقل باختصاص أقصى غاية الخضوع باللّه ، وعدم جريان حكم الإشراك على إيقاع ما عداه5.

ص: 47


1- الكشّاف ، ج 1 ، ص 62 .
2- الفاتحة (1) : 5 .
3- آل عمران (3) : 64 .
4- يآس (36) : 60 - 61 .
5- يونس (10) : 18 .
6- الزخرف (43) : 20 .
7- الصافّات (37) : 95.

من التذلّلات لغير اللّه ، بل عدم مذموميّة بعضها أصلاً ، ويتوجّه عليهم أنّه لا يجوز أن تكون العبادة ذات أصناف يجمعها مطلق الخضوع ، ولكلّ صنف حكما خاصّا إذا اُوقع لغير اللّه - مثل أنّه من خضع للغير أقصى غاية الخضوع - وجب الاجتناب عنه رطبا ، ومن تواضع غنيّا لغناه ذهب ثلثا دينه(1) ، ومَنْ أصغى إلى ناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان(2)، كما ورد في الحديث .

فإن قلت : إنّ إطلاق العبادة على غير أقصى غاية الخضوع مجاز .

قلت : وما يدريك لعلّ ذلك اللفظ من الألفاظ المشكّكة ، والتشكيك لا يأبى عن اختلاف الأحكام .

وكون صنف منها وهو أقصى غاية الخضوع عبادةً ، لا يقتضي عدم كون ما دون الأقصى عبادةً ، والتذلّل لغير اللّه إن كان بأمر اللّه وإذنه - كما يُفعل للحجر الأسود والأنبياء والأوصياء والعلماء والصلحاء - فهو تذلّل للّه وعبادة له ، وكذا التذلّل للجبابرة تقيّةً ؛ وإن لم يكن بأمر اللّه وإذنه، فهو عبادة مذمومة على حسب التشديد في المنع الشرعي والعقلي ، وقد ورد في الحديث : «أنّ من تواضع غنيّا لغناه ذهب ثلثا دينه»(3) .

والتذلّل والإطاعة لغير اللّه بدون إذنه تعالى يعبّر عنه عند العلماء اللبّ بالشرك الخفيّ .

وفي كتاب الحجّة في باب الردّ إلى الإمام عن أبي عبداللّه عليه السلام : «هيهات هيهات ، فات قوم وماتوا قبل أن يهتدوا ، وظنّوا أنّهم آمنوا ، وأشركوا من حيث لا يعلمون».(4)

وفي كتاب الإيمان والكفر في باب حبّ الدنيا، في حكاية بلوغ عيسى عليه السلام قريةً مات أهلها وسؤاله إيّاهم عن سبب هلاكهم أنّه أجابه منهم مُجيبٌ، وقال : «عبادة الطاغوت وحبّ الدُّنيا» وسيق الكلام إلى أن قال عليه السلام : «وكيف كان عبادتكم للطاغوت ؟ قال : .

ص: 48


1- نهج البلاغة ، ص 508 ، ضمن الحكمة 228 ؛ بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 170 ، ذيل ح 7 .
2- الكافي ، ج 6 ، ص 434 ، باب الغناء ، ح 24 ؛ عيون أخبار الرضا ، ج 1 ، ص 303 ، ح 63 ؛ وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 317 ، ح 22654 .
3- تقدّم تخريجة قبيل هذا .
4- الكافي ، ج 1 ، ص 181 ، ضمن ح 6 .

الطاعة لأهل المعاصي» الحديث .(1)

وعن أبي مسروق قال : سألني أبو عبداللّه عليه السلام عن أهل البصرة ، فقال لي : «ما هم ؟» قلت : مرجئة وقدريّة وحروريّة ، فقال : «لعن اللّه تلك الملل الكافرة المشركة التي لاتعبد اللّه على شيء»(2) .

قال ابن الأثير في النهاية :

الإرجاء: التأخير ، وهذا مهموز ، ومنه حديث ذكر المرجئة [و] هم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنّه لا يضرّ مع الإيمان معصية ، كما لاينفع مع الكفر طاعة .(3)

أقول : سيجيء في باب التقليد عن محمّد بن عبيدة قال : قال لي أبو الحسن عليه السلام : «يا محمّد ، أنتم أشدّ تقليدا أم المرجئة ؟» قال : قلت : قَلَّدْنا وقَلَّدوا . إلى أن قال عليه السلام : «إنّ المرجئة نصبَتْ رجلاً لم تَفْرِضْ طاعتَه وقلّدوه ، وأنتم نصبتم رجلاً وفرضتم طاعته ثمّ لم تقلّدوه ، فهم أشدّ منكم تقليدا» .(4)

ويظهر من هذا الحديث أنّ المرجئة كانت تطلق أيضا على أصحاب السقيفة ومن اقتفى أثرهم ، فلعلّهم سمّوا بها لتأخيرهم أمير المؤمنين عليه السلام .

وفي باب الشرك من كتاب الإيمان والكفر عن أبي بصير وإسحاق بن عمّار عن أبي عبداللّه عليه السلام في قول اللّه عزّوجلّ : «وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُم مُّشْرِكُونَ»(5) قال : «يُطيع الشيطانَ من حيث لا يعلم، فيُشرك ».(6)

وفيه عن أبي عبداللّه عليه السلام : «مَنْ أطاع رجلاً في معصيةٍ فقد عَبَدَه» .(7)

وفيه عن أبي بصير قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ : «اتَّخَذُوآاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ»(8) فقال : «أما واللّه ، ما دَعَوْهُم إلى عبادة أنفسهم ، ولو .

ص: 49


1- الكافي ، ج 2 ، ص 318 ، ح 11.
2- الكافي ، ج 2 ، ص 387 ، باب الكفر ، ح 13 ؛ و ص 409 ، باب في صنوف أهل الخلاف و ... ، ح 2 .
3- النهاية ، ج 2 ، ص 206 (رجا) .
4- الكافي ، ج 1 ، ص 53 ، ح 2 .
5- يوسف (12) : 106 .
6- الكافي ، ج 2 ، ص 397، ح 3.
7- المصدر ، ص 398 ، ح 8 .
8- التوبة (9) : 31 .

دَعَوْهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوا ، ولكن أحلّوا لهم حراما، وحرّموا عليهم حلالاً ، فَعَبَدُوهم من حيث لا يشعرون» .(1)

فتلخّص من هذا المجموع أنّ التذلّل والخضوع والإطاعة التي هي تابعة لهما عبادةٌ ، فإن كانت للّه فهي عبادة اللّه ، وكذا إن كانت لغير اللّه ولكن بأمر اللّه وإذنه ؛ إذ الخضوع والإطاعة من العبد لأحد بأمر السيّد وإذنه للسيّد أوّلاً وبالذات ، وإلاّ فهي عبادة لغير اللّه وإشراك ؛ إمّا شركا جليّا - وهو ما يفعله عبدة الأوثان وعبدة الكواكب وعبدة النيران ، والقائلون بأنّ عزير ابن اللّه ، والقائلون بأنّ المسيح ابن اللّه ، وسائر فرق الكفر الظاهر - وإمّا شركا خفيّا كالخضوع والإطاعة لغير اللّه إطاعةَ مخالفةٍ لحكم اللّه ، مجاوزةٍ لإذن اللّه الشرعي والعقلي ، وإن كانت على أصناف، واستحقّ صاحبها بكلّ صنف نوعا من الذمّ والإهانة الدنيويّة أو الاُخرويّة .

وما ينكر أن يجري الشارع على كلّ صنف من أصناف نوعٍ حكما خاصّا وإن كان الكلّ مشتركا في حكم عامّ ، والعقل الصحيح أيضا يحكم بأنّ العبادة بمعنى التذلّل والإطاعة لا ينبغي أن يكون إلاّ للّه ؛ لأنّها إمّا لجلب النفع كما هو شأن الاُجراء، أو لخوف الضرر كما هو شأن العبيد ، أو للأهليّة الذاتيّة كما هو شأن الصدِّيقين ، واللّه تعالى هو وليّ كلّ نعمة كما ورد في تلبية الحجّ : «إنّ الحمد والنِّعمة لك والمُلك ، لا شريك لك» .(2)

وفي بعض الأدعية الجليلة : «ما يكون من نعمة فمن اللّه»(3) وهو المقتدر على كلّ نقمة ، كما قال تعالى : «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ» (4) ، فلا ضارّ ولا نافع إلاّ اللّه كما ورد في الأدعية الجليلة ، وقال عزّ من قائل تعليما لنبيّه صلى الله عليه و آله : «قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا»(5) . .

ص: 50


1- المصدر ، ح 7 .
2- الكافي ، ج 4 ، ص 249 ، باب حجّ النبيّ صلى الله عليه و آله ، ح 7 ؛ و ص 335 ، باب التلبية ، ح 3 . وهو متواتر في المصادر الروائيّة .
3- تفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام ، ص 19 ؛ مصباح المتهجّد ، ص 156 ؛ المصباح للكفعمي ، ص 96 .
4- الأنعام (6) : 18 .
5- التوبة (9) : 51 .

وثبوت الأهليّة الذاتيّة للّه تعالى أمرٌ مستغنٍ عن البيان ، فلا يستحقّ التذلّل والخضوع والإطاعة والانقياد بالذات إلاّ للّه .

ثمّ إنّ نظرنا في هذا المقام إلى ما يقع من العباد بحسب مشيئة اللّه العزميّة التي فيها يُطاع ويُعصى ، وأمّا بحسب مشيئته الحتميّة فجميع أجزاء العالم بقَضّها وقضيضها(1) متذلّلٌ خاضعٌ له ، مطيعٌ لأمره ، وَ لِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ اْلأَرْضِ، لا إِلهَ إِلاّ هُوَ .(2)

وفي خطبة من خطب مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : «خضعت له الأشياء ، وذلّت مستكينةً لعظمته» .(3)

وفي دعاءٍ احترز به الصادق عليه السلام عن المنصور اللَّعين ، ونقله الكفعمي في كتاب البلد الأمين : «أزمّة الاُمور كلّها بيدك ، صادرةً عن قضائك ، مذعنةً بالخضوع لقدرتك» الدعاء .(4)

ولو قُصد بالعبادة في «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» الخضوع الذاتي والتذلّل الطبيعي الذي يعبد اللّه به كلّ شيء - كما ورد في القنوت : «سبحان من دانت له السماوات والأرض بالعبوديّة»(5) - كان الغرض في ذكره الإذعانَ بخضوع الأشياء كلّها لقدرته ، كما اُشير إليه قبلُ في حديث الصادق عليه السلام ، فكان كلّ مصلّ صادقا في ادّعاء قصر عبادته وعبادة عامّة مشاركيه في الوجود .

وإن كان المقصود بها المأمورَ به بالأمر التشريعي ، فينبغي أن يكون غرض المصلّي إظهار الإيمان بوجوب القصر والتبرّي من الشرك ، كما قال سبحانه : «وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّه َ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»(6) ، وعلى هذا فتفاضل المصلّين على حسب التخلّي من الشرك الخفيّ ؛ وفّقنا اللّه له بلطفه الجليّ والخفيّ .

وإذا أحطت بما تلونا عليك ، عرفت معنى قول المصنّف قدّس اللّه روحه ، كأنّه .

ص: 51


1- أي بالكبير والصغير . والقضّ : الحصى الصغار ، والقضيض : الحصى الصغار . اُنظر: لسان العرب ، ج 7 ، ص 222 (قضض) .
2- اقتباس من الآية 13 من سورة الرعد (13) والآية 163 من سورة البقرة وغيرها .
3- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 168 . وفيه : «خضعت الأشياء له» .
4- البلد الأمين ، ص 385 ؛ مهج الدعوات ، ص 181 ؛ مفتاح الفلاح ، ص 100 .
5- الفقيه ، ج 1 ، ص 315 .
6- البيّنة (98) : 5 .

يقول : إنّ قدرته الكاملة الدالّة على كمال العظمة والجلال ، المصحّحة لأن يطمع فيه تعالى جلائل النِّعم وعظيم الأفضال ، المخوّفة على شديد البطش(1) وأليم النكال - جعلت الأشياء كلّها دائنةً له تعالى بالعبوديّة الذاتيّة ، أي الخضوع والتذلّل بلسان الحال ؛ أو حملت المؤمنين العارفين وغيرهم على أن يعبدوا اللّه تعالى هيبةً وإجلالاً ، خوفا ورجاءً ، طوعا وكرها ، فهو تعالى معبودٌ لقدرته التي هي عين ذاته : «لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُوءْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللّه ِ عَمّا يُشْرِكُونَ»(2) .

وفي دعاء السحر لسيِّد الساجدين عليّ بن الحسين زين العابدين عليهماالسلام : «يا من وضعت له الملوك نيرَ المذلّة على أعناقهم ، فهم من سطواته خائفون» .(3)

قوله : (المُطاعِ في سلطانه).

لمّا ذكر معبوديّته الذاتيّة أرْدَفَها بالمطاعيّة الذاتيّة التي هي من لوازم المعبوديّة الذاتيّة كما سبقت الإشارة إليه ، وستعلم في كتاب التوحيد علما يقينيّا خالصا عن شوائب الريب أنّ ما وقع من العصيان والمخالفة إنّما هو بالنظر إلى المشيّة العزميّة التي سيجيء تفسيرها . وأمّا بالنظر إلى المشيّة الحتميّة فمحال أن يعصي اللّه أحد ويخالفه ، وهذا القدر من الإشارة كافية هاهنا .

قوله : (المَرهوبِ لجَلاله [ المرغوبِ إليه فيما عنده])

في بعض النسخ بالباء ، وأكثر أرباب اللغة كصاحب القاموس والجوهري والمطرزي والزمخشري على أنّ الرهبة تتعدّى بنفسه ، والرغبةَ تتعدّى بإلى ؛ يقال : رهبه ورغب إليه .(4) .

ص: 52


1- البطش والبطشة : «الأخذ بسرعة و الأخذ بعنف وسطوة» . اُنظر: لسان العرب ، ج 6 ، ص 267 ؛ مجمع البحرين ، ج 4 ، ص 130 (بطش) .
2- الحشر (59) : 23 .
3- الصحيفة السجّاديّة ، ص 250 ، الدعاء 51 . وفيه «أعناقها» بدل «أعناقهم» .
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 176 ؛ الصحاح ، ج 1 ، ص 140 ؛ المغرب ، ص 192 و 202 ؛ الفائق في غريب الحديث ، ج 2 ، ص 70 (رغب - رهب) .

وقال ابن الأثير : «وفي حديث الدّعاء : «رغبةً ورهبةً إليك» أعمل لفظ الرغبة وحدها ، ولو أعملهما[معا] لقال : رغبةً إليك ورهبةً منك »انتهى .(1)

ورجّح السيّد الداماد - قدّس اللّه سرّه - في الرواشح قول ابن الأثير، ولم يستشهد له بحديثٍ أو غيره ، بل ذكر مخالفه، ثمّ أوّله بالحذف والإيصال(2) .

وهو دعوى بلا بيّنة .

وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام :

أيّ يوميَّ من الموت أفرّ *** يوم ما قدّر أم يوم قدر

يوم ما قدّر لا ترهبه *** فإذا قدّر لا ينجو الحذر(3)

قوله : (النافِذِ أمرُه في جميع خَلْقه) .

في خطبة من خطب نهج البلاغة : «أمره قضاءٌ وحكمةٌ ، ورضاه أمانٌ ورحمة» .(4)

قوله : (عَلا فَاستَعْلى، ودَنا فتعالى ، وَارْتَفَعَ فوقَ كُلِّ مَنْظَرٍ) .

هذه الفقرات الشريفة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في خطبةٍ نقلها المصنّف في أوائل كتاب الروضة قبل حديث عرض الخيل(5) ، ونقل صاحب كتاب الاحتجاج في حديث عليّ بن الحسين عليهماالسلام أنّه قال حين احتجّ على يزيد بن معاوية لعنهما اللّه : «أنا ابن محمّدٍ المصطفى ، أنا ابن من لا يخفى ، أنا ابن من علا فاستعلى ، فجاز سدرة المنتهى» .(6)

ونقل أيضا عن أمير المؤمنين عليه السلام في رسالته إلى أبي بكر حين بلغه عنه كلام في منع فاطمة عليهاالسلام فدكا : «فما مَثَل دنياكم عندي إلاّ كمثل غَيم علا فاستعلى ، ثمّ استغلظ فاستوى ، ثمّ تمزّق فانجلى» .(7) .

ص: 53


1- النهاية ، ج 2 ، ص 237 (رغب) .
2- الرواشح السماويّة ، ص 7 - 9 .
3- التوحيد ، ص 375 ، ح 19 ؛ وقعة صفّين ، ص 395 ؛ المناقب ، ج 3 ، ص 298 ؛ ديوان المنسوب إلى أميرالمؤمنين عليه السلام ، ص 193 ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 5 ، ص 132 ؛ و ج 8 ، ص 55 .
4- نهج البلاغة ، ص 224 ، الخطبة 160 .
5- الكافي ، ج 8 ، ص 67 ، ح 23 .
6- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 310 ؛ المناقب ، ج 4 ، ص 168 .
7- الاحتجاج ، ج 1 ، ص 95 .

ومن سياق هذين الحديثين يستفاد أنّ ذكر «فاستعلى» بعد «علا» لبيان كمال العلوّ ، فيكون مبنيّا على أنّ زيادة المباني لزيادة المعاني ، والفاء للتعقيب ، كأنّه قيل: «ارتفع»، ثمّ بالغ في الارتفاع .

ويؤيّد ذلك كلام صاحب القاموس حيث قال : «علا النهار : ارتفع ، كاعتلى واستعلى» .(1)

قوله : (الذي لا بَدْءَ لأوّليّته - إلى قوله - : وبحكمته أظْهَرَ حُجَجَه على خَلْقِه) .

البدء - بالهمزة وفتح الباء وسكون الدال - مصدر بدأت به، كما في الصحاح(2) ، والمراد هنا الحاصل بالمصدر ، وكلّ موجود ليس موجودا بذاته لذاته فهو موجود بغيرٍ ليس هو في مرتبة ذلك الغير ، فهو إذن حادث ؛ إذ وجوده بعد تلك المرتبة، ومسبوق بعدمه في المرتبة ،فإذا اُطلق على هذا الموجود بالغير «أوّلٌ» فإنّما أوّليّته بالقياس إلى ما بعده ، لا على الإطلاق ، وأوّليّة ذلك الغير قبل أوّليّته ، بخلاف الموجود لذاته ، فإنّ أوّليّته لابدء لها .

قوله : (ولا غايةَ لأزليّته) .

الأزل في الأوهام العاميّة هو أقاصي الامتداد الزماني في جانب الماضي ، ولا محيص له من علّة ، فله غاية بَتَّةَ ، والمقصود أنّ أزليّته ليست بالمعنى المفهوم للعامّة ؛ ولذلك انتفى عنها لازمه .

وفي كتاب عيون الأخبار في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام في أمر التوحيد عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة طويلة : «تحيّرت العقول عن إحاطة ذكر أزليّته» .(3)

وفي توحيد الصدوق رضى الله عنه في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام : «إن قيل : كان ، فعلى تأويل أزليّة الوجود ، وإن قيل : لم يزل ، فعلى تأويل نفي العدم» .(4) .

ص: 54


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 1722 (علو).
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 35 (بدأ).
3- عيون أخبار الرضا، ج 1 ، ص 121 ، ح 15 ؛ التوحيد للصدوق ، ص 69 ، ح 26 ، وفيهما : «تحيّرت الأوهام» بدل «تحيّرت العقول» .
4- التوحيد للصدوق ، ص 72 ، ح 27 . وهو في الكافي ، ج 8 ، ص 18 ، ح 4 .

قوله : (الدائم الذي به قوامُها) .

دوامه تعالى مرجعه الوجوب الذاتي وامتناعُ سبق العدم ولحوقه ، لا ما توهّم من استمرار الوجود في الزمان الموهوم ، فإنّه محض اختراع الوهم ، والداعي إليه إنّما هو الاعتياد بالزمانيّات . وفي الخطبة التي سبق نقلها من كتاب العيون : «واحد لا من عدد، ودائم لا بأمد» .

وفي توحيد الصدوق في خطبة الرضا عليه السلام حين قال له بنو هاشم : يا أبا الحسن، اصعد المنبر ، وانصب لنا علما نعبد اللّه عليه : «سبق الأوقاتِ كونُه ، والعدمَ وجوُده ، والابتداء أزله».(1)

والقوام - بالكسر - : نظام الأمر وعماده وملاكه ؛ كذا في القاموس .(2) وفيه : «مَلاك الأمر - ويكسر - : قوامه الذي يُملَكُ به» .(3)

وفي الأساس من المجاز : «هذا ملاك الأمر : قوامه وما يملك به ، والقلب ملاك الجسد » انتهى .(4)

وفي هذه الفقرة إشارة إلى ما ذهب إليه أهل الحقّ من أنّ العالَم وكلّ جزء منه محتاج إليه تعالى في قوام ذاته وما يتبعها من صفاته في كلّ آن ، وليس كالبناء الذي يقوم بنفسه في الظاهروإن فنى الباني ، كلاّ «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَ تِ وَ الاْءَرْضَ أَنْ تَزُولاَ»(5) بل نسبتها إليه سبحانه كنسبة المهيّة إلى الوجود في الاحتياج إلى الكون ، بل لا نسبة بين النسبتين لو كشف الغطاء من البين ، وما ذكروا من المثال تقريبٌ للأفهام ، وتعبيرٌ عن غاية الاحتياج ، ولقد أحسن من قال :

ارتباطى برتر از وهم وقياس هست ربّ الناس را با جان ناس

قوله : (لا يؤودُه حفظها) .

اقتباسٌ من قوله تعالى : «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ اْلأَرْضَ وَ لا يَوءُدُهُ حِفْظُهُما»(6) .

ص: 55


1- التوحيد للصدوق ، ص 34 ، ح 2 .
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 168 (قوم) .
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 320 (ملك) .
4- أساس البلاغة ، ص 604 (ملك).
5- فاطر (35) : 41 .
6- البقرة (2) : 255 .

في الأساس : «آده الحمل : أثقله ، ومن المجاز : آدني هذا الأمر : بلغ منّي المجهود والمشقة»(1) .

قوله : (تفرّد بالملكوت) .

في القاموس : «الملكوت، كرهبوت: العزّ والسلطان».(2) وفي الصحاح : «الملكوت من الملك ، كالرهبوت من الرهبة ؛ يُقال : له ملكوت العراق».(3) وفي الأساس: «للّه المُلك والملكوت».(4) وفي النهاية : «قد تكرّر في الحديث ذكر الملكوت ، وهو اسم من الملك، كالجبروت والرهبوت من الجبر والرهبة .»(5)

أقول : الصواب في تحصيل معاني أمثال هذه الكلمات - التي قلّ استعمالها في محاورات أهل اللّغة - الرجوع إلى استعمالات أهل الشرع وعدم الاقتصار على ما ذكره مؤلّفوا كتب اللغة ؛ لأنّ أكثر ما ذكروه بحسب فهمهم واستنباطهم من إطلاقات أهل الشرع والعرب كما يظهر من النهاية والفائق(6) ، ومعلوم قصور تتبّعهم لاستعمالات الشارع ؛ لاقتصارهم على تتبّع روايات العامّة ، والعرب قليل الاهتداء إلى مقاصد الشريعة .

والذي استفضته من شريعة الشريعة أنّ الملكوت كما يُطلق على الملك والسلطان على أشياء من ذوي العقول وغيرهم ، كذلك يُطلق على بدائع تلك الأشياء كما في قوله تعالى : «وَكَذَ لِكَ نُرِىآ إِبْرَ هِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَ تِ وَالاْءَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ»(7) ، وقوله تعالى : «أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَ تِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْ ءٍ»(8) .

وسيجيء في باب ثواب العالم والمتعلِّم عن الإمام أبي عبداللّه عليه السلام : «من تعلَّم العلمَ وعمِلَ به وعَلَّمَ للّه ، دُعي في ملكوت السماوات عظيما ، فقيل : تعلّم للّه ، وعَمِلَ للّه ، وعَلَّمَ للّه»(9) .6.

ص: 56


1- أساس البلاغة ، ص 24 (أود) .
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 320 (ملك) .
3- الصحاح ، ج 4 ، ص 161 (ملك) .
4- أساس اللغة ، ص 604 (ملك) .
5- النهاية ، ج 4 ، ص 359 (ملك) .
6- المصدر ؛ الفائق في غريب الحديث ، ص 93 .
7- الأنعام (6) : 75 .
8- الأعراف (7) : 185 .
9- الکافی،ج1، ص35، ح6.

وفي الفصل الثامن من إنجيل متّى وهو عندي بخطّ الإفرنج وترجمتهم :

فمن حمل إحدى هذه الوصايا الصغار، وعلّم الناس هكذا ، يدعى في ملكوت السماوات صغيرا ، والذي يعمل ويعلّم هذا ، يدعى عظيما في ملكوت السماوات .(1)

وفي الفصل الحادي والستّين قال لبعض تلامذته :

أقول لكم : إنّه يعسر على الغنيّ الدخول في ملكوت السماوات ، وأيضا أقول لكم : إنّ دخول الجمل في حوم الإبرة أسهل من غنيٍّ يدخل في ملكوت اللّه .(2)

قوله : (بحكمته أظهرَ حُججَه على خلقه) .

قال صدر المحقّقين :

المعنى أنّ حكمته تعالى اقتضت إظهار الحجج على الخلائق بإعطاء العقل وبعثة الأنبياء ونصب الأوصياء ليكمل الخلقة ويتمّ النِّعمة ؛ إذ بدون ذلك لا يتمشّى النظام ، ويقع الهَرْج والمَرْج والانثلام .(3)

قوله : (اخترع الأشياء إنشاءً) إلى قوله : (لا إله إلاّ اللّه الكبير المتعال) .

سيجيء في باب النهي عن الصورة، في خطبة أملاها الرضا عليه السلام على محمّد بن زيد : «الحمدُ للّه فاطرِ الأشياءِ إنشاءً ، ومُبتَدِعِها ابتداعا بقدرته وحكمته ، لا من شيء ...»(4) وباقي الفقرات عين ما ذكره المصنّف طاب ثراه . وهناك نذكر معاني الألفاظ وما يتعلّق بها .

قوله : (ضَلَّت الأوهامُ عن بلوغ كُنهه ، وذَهلت العقولُ أن تبلغَ غايةَ نهايتِهِ ، لا يبلُغه حدّ وَهْم ، ولا يُدركه نفاذُ بَصَرٍ ، وهو السميع العليم).

«ضلّت الأوهام عن بلوغ كنهه» أي لم يهتد إليه .

في الأساس : «ضلّ عن الطريق وعن القصد» انتهى(5) . وعدم اهتداء الوهم إلى بلوغ الكنه كنايةٌ عن عدم إمكان البلوغ ؛ وذلك لأنّ الوهم أشدّ نفوذا في الأشياء ، وأوسع .

ص: 57


1- الكتاب المقدّس (العهد الجديد) ص 8 ، مع اختلاف يسير في الألفاظ.
2- الكتاب المقدّس (العهد الجديد) ص 35 ، بتفاوت يسير.
3- شرح صدر المتألّهين ، ص 6 .
4- الكافي ، ج 1 ، ص 105 ، ح 3 .
5- أساس البلاغة ، ص 378 (ضلل) .

مجالاً ، وأقوى تصرّفا من جميع المدارك ، فهو بمنزلة فرس جموح ، غلب فارسَه ، وأخذ العنان من يده يعدو ما أطاق وما أمكنه ، ويقال له بالفارسيّة : «سرسخت»، وفي التركية : «باشى بَرك» فإذا لم يبلغ الوهم الذي هذا شأنه ، فغيره من المدارك بطريقٍ أولى ، وما ذل إلاّ لعدم إمكان البلوغ .

وليعلم أنّ استعمال «ضلّ» مع «عن» لم ينقل في شيءٍ من كتب اللغة عندنا إلاّ في الأساس .

قوله : «ذهلت العقول» إلى آخره ، يعني أنّه سبحانه في قدّوسيّته وارتفاع شأنه عن أن يُدرك ، بحيث لو حاولت العقول الصحيحة الكاملة إدراكَه ، حارت ودهشت ونسيت نفسها فضلاً عمّا عداها وشغلت عنها .

في القاموس : «ذهله ، وعنه - كمنع - ذهلاً وذهولاً : نسيه لشغل»(1) . وفي المجمل :« ذهلت عنه : إذا نسيته أو شُغلت عنه ».(2)

وفي سورة الحجّ : «يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَ تَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُمْ بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ»(3) .

وفي الكشّاف : «الذهول : الذهاب عن الأمر مع دهشة»(4) . وهكذا في تفسير البيضاوي .(5)

قوله : (لا يبلغه حَدُّ وَهْمٍ) .

المعنى المناسب للمقام من معاني الحدّ : المنتهى ؛ تشبيها للوهم بشيءٍ طويل كالعصى والرمح يتوسّل به إلى مماسّة شيء .

في الصحاح : «حدّ الشيء: منتهاه» .(6)

قوله : (وابتعَثَ الرُّسلَ) إلى قوله : (بعدما أضدّوه) من كلام النبيّ صلى الله عليه و آله في خطبةٍ رواها .

ص: 58


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 379 (ذهل) .
2- مجمل اللغة ، ج 2 ، ص 348 (ذهل) .
3- الحجّ (22) : 2 .
4- الكشّاف ، ج 3 ، ص 4 .
5- أنوار التنزيل ، ج 4 ، ص 113 .
6- الصحاح ، ج 2 ، ص 462 (حدد) .

الصدوق - طاب ثراه - في كتاب التوحيد في باب التوحيد ونفي التشبيه ، إلاّ أنّ أوّل تلك الخطبة هكذا : «بعث(1) الرُّسُل لتكون له الحجّة البالغة على خلقه ، وتكون رسله إليهم شهداء عليهم ، وابتعث فيهم النبيّين مبشِّرين ومنذرين...»(2) وباقي الفقرات مطابقة .

وفي خطبة من خطب نهج البلاغة : «فبعث(3) محمّدا صلى الله عليه و آله ليُخْرِجَ عبادَه من عبادة الأوثان إلى عبادته ، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته ، بقرآنٍ قد بَيَّنَه وأحْكَمَه ؛ ليَعْلَمَ العبادُ ربَّهم إذ جَهِلوه ، وليُقِرّوا له بعد أن(4) جَحَدوه، ولِيُثْبِتوه بعد أن(5) أنكروه» .(6)

قوله : (عن بيّنةٍ) .

أي بعد بيّنة ووضوح أمر . في القاموس : «عن - مخفّفةً - لها عشرة معانٍ ... : مرادفةُ «بعدَ»: «عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ»»(7) انتهى .(8)

قوله : (وليَعْقِلَ العبادُ عن ربّهم ما جهلوه ، فيعرفوه بربوبيّته [بعد ما أنكروه]) .

مقتضى الفاء أن يكون «عن» هاهنا بمعنى «من» وقد جاءت ، كما نصّ عليه صاحب القاموس، ومثّله بقوله تعالى : «وَ هُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ»(9) ، فيكون المعنى : بعثت الأنبياء ليعقل العباد بالحِكَم والبراهين التي ألقَوها إليهم من صفات ربّهم الذاتيّة والفعليّة ما جهلوه .

وقوله : «فيعرفوه بربوبيّته بعدما أنكروه ، ويوحّدوه بالإلهيّة بعدما أضدّوه» تفصيلٌ لما أجمل ؛ من باب قوله تعالى : «وَ نَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ» الآية(10) ، وقولك : توضّأت ، فغسلت وجهي ويدي ، ومسحت رأسي ورجلي .

وبهذا المعنى يطابق ما في خطبة من خطب نهج البلاغة : «فبعث محمّدا صلى الله عليه و آله » إلى .

ص: 59


1- في المصدر : + «إليهم» .
2- التوحيد للصدوق ، ص 44 ، ح 4 .
3- في المصدر : + «اللّه» .
4- 4 . في المصدر : «إذ» بدل «أن» .
5- نهج البلاغة ، ص 204 ، الخطبة 147 . وراجع: الكافي ، ج 8 ، ص 368 ، ح 586 .
6- المؤمنون(23) : 40 .
7- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 250 (عنن).
8- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 25 . والآية في سورة الشورى (42) : 25 .
9- هود (11) : 45 .

قوله عليه السلام : «ليَعْلَمَ العبادُ ربَّهم إذ جَهِلوه ، وليُقِرّوا له بعد أن جَحَدوُه ، ولِيُثْبِتُوه بعد أن أنكروه» .(1)

وبما ذكرنا تبيّن معنى ما سيجيء في رواية هشام : «ما بَعث اللّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن اللّه» . وفي موضع آخر من تلك الرواية : «إنّه لم يخف اللّه من لم يَعْقِلْ عن اللّه ، ومن لم يعقل عن اللّه لم يَعْقِدْ قلبَه على معرفةٍ ثابتةٍ يُبْصِرُها ، ويَجِدُ حقيقتَها في قلبه» .(2)

وفي باب فضل اليقين من كتاب الإيمان والكفر : «ينبغي لمن عَقَلَ عن اللّه أن لايَسْتَبْطِئَه في رزقه ، ولا يَتَّهِمُه في قضائه» .(3)

وفي نهج البلاغة بعد خطبة الطاووس : «لا تكونوا كجُفاة الجاهليّة؛ لا في الدِّين يتفقّهون ، ولا عن اللّه يعقلون».(4)

وقيل : معنى عقل عن اللّه : أخذ فروع الشريعة عن مهبط الوحي ، لا عن الرأي والقياس . ومع قطع النظر عن الأحاديث المذكورة بعضها صريح في ردّه .

قوله : (بعدما أضدّوه) .

في القاموس : «ضدَّه في الخصومة: غلبه . وأضدّ : غضب» .(5) ومثله في الصحاح .(6)

وفي تاج المصادر : «الإضداد : خشم گرفتن»(7) . ولم يذكر صاحب النهاية والفائق والمجمل والمغرب الإضداد أصلاً ، والمعنى الذي ذكره مَن ذكره غير مناسب للمقام ؛ إذ اجراء التفريع - وهو قوله : ويوحّدوه بالإلهيّة - يقتضي أن يكون المعنى جعل الضدّ للّه ، وعدم ظفر اللغويّين بهذا المعنى لحرمانهم تتبّعَ أحاديث أهل الذكر عليهم السلام .

قوله : (على حين فترة من الرسل) إلى قوله : (وامتحاق الدِّين) من كلام أميرو.

ص: 60


1- تقدّم تخريجه قبيل هذا .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 15 ، كتاب العقل والجهل ، ح 12 .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 61 ، باب الرضا بالقضاء ، ح 5 ؛ و مع اختلاف يسير في الكافي ، ج 2 ، ص 59 ، باب فضل اليقين ، ضمن ح 9 .
4- نهج البلاغة ، ص 240 ، الخطبة 166 .
5- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 309 (ضدد) .
6- الصحاح ، ج 2 ، ص 501 (ضدد).
7- تاج المصادر ، ص 227 ، ط لكنهو.

المؤمنين عليه السلام نقله المصنّف - طاب ثراه - في باب الردّ إلى الكتاب والسنّة(1) ، وفي نهج البلاغة : «أرسَلَه على حين فَترةٍ من الرُّسُل ، وطول هَجْعَةٍ من الاُمَم ، واعترامٍ(2) من الفِتَنِ»(3) .

وفي خطبة اُخرى : «أرسَلَه على حين فَترةٍ من الرُّسُل ، وطولِ هَجْعَةٍ من الاُمَم ، وانتقاضٍ من المُبْرَم» .(4)

وسيأتي شرح الألفاظ في موضعه إن شاء اللّه .

قوله : (وأنزل إليه الكتاب) إلى قوله : (رؤوفا رحيما) من كلام أبي عبداللّه عليه السلام في خطبة يذكر فيها حال النبيّ صلى الله عليه و آله ، نقله المصنّف في باب تاريخ مولد النبيّ صلى الله عليه و آله .(5)

قوله : (فأوضح اللّه) إلى قوله : (ينابيع علمه) من كلام أبي عبداللّه عليه السلام في خطبة يذكر فيها حال الأئمّة عليهم السلام ، نقله المصنّف رحمه الله في باب نادر جامع في الإمام ، والمذكور هناك : «إنّ اللّه عزّوجلّ أوضح بأئمّة الهدى» والباقي موافق إلاّ قوله : «وفتح بهم» فإنّ المذكورهناك : «ومنح بهم» .(6)

قوله : (كلّما مضى منهم إمام) إلى قوله : (دعائم الإسلام) من كلام أبي عبداللّه عليه السلام في خطبة يذكر فيها حال الأئمّة عليهم السلام ، نقلها المصنّف في الباب النادر الذي سبق ذكره .(7)

قوله : (وجعل نظام طاعته) إلى قوله : (وطهّرهم تطهيرا).

في النهاية:

في أشراط الساعة وآيات تتابع، كنظام [بال] قُطِعَ سِلكُه . النظام : العقد من الجوهر والخرز ونحوهما . وسلكه : خيطه .(8) .

ص: 61


1- الكافي ، ج 1 ، ص 60 ، ح 7 .
2- في المصدر : «واعتزام» بالمعجمة . والاعتزام من العزم كأنّ الفتنة مصمّمة للهرج والفساد . وقال العلاّمة المجلسي في البحار ، ج 18 ، ص 219 : «وفي بعض النسخ بالراء المهملة ، أي كثرة وشدّة» .
3- نهج البلاغة ، ص 121 ، الخطبة 89 .
4- نهج البلاغة ، ص 223 ، الخطبة 158 .
5- الكافي ، ج 1 ، ص 444 ، باب مولد النّبي صلى الله عليه و آله ووفاته ، ح 17 .
6- الكافي ، ج 1 ، ص 203 ، باب نادر في فضل الإمام وصفاته ، ح 2 .
7- المصدر .
8- النهاية ، ج 5 ، ص 79 (نظم) .

وفي الصحاح : «النظام : الخيط الذي ينظم به اللؤلؤ، ونظمٌ من لؤلؤ ، وهو في الأصل مصدر» .(1)

وفي القاموس : «نظم اللؤلؤ ينظمه نظما ونظاما . والنظام : كلّ خيط ينظم به لؤلؤ ونحوه» .(2)

أقول : النون على ما اُعرب في الصحاح العتيق مكسورة . وفيه : «هجم عليه هجوما : انتهى إليه بغتةً» .(3) ولعلّ نقل المصنّف إلى باب التفعّل لإفادة التكلّف .

وقوله : (ما يجهلون) متعلّقٌ بالقول .

وقوله : (لِما أراد) بكسر اللام وتخفيف الميم ؛ على أنّ «ما» موصولة، وعائدها مفعول «أراد» ، و «من استنقاذ» بيان «لما». وقرأ بعض: «لَمّا أراد» بفتح اللام وتشديد الميم ، وهو سهو ؛ لأنّ «من» لا تزاد في الإثبات .

ثمّ إنّ المستفاد من قوله سبحانه : «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأََّسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ»(4) أنّ الأخيار والأشرار ممتازون بحسب الذات في العلم الأزلي، وليسوا في حدّ ذواتهم - أي مع قطع النظر عن العوارض المفارقة التي لا مدخل لها في هويّتهم العلميّة - متساوين ، ثمّ حصل امتيازهم باختيار الإيمان واختيار الكفر ؛ لامتناع الترجيح بلا مرجّح ، بل للزوم الترجّح بلا مرجّح ؛ إذ ترجيح أحد الاختيارين على الآخر بالاختيار غير معقول ، بل الاختيار تابع للذات مكنون فيها ، يبرز عند مصادفة ما هو شرط لهيجانه؛ إن خيّرا فإيمانا ، وإن شريرا فكفرا ، وإيراد اللّه الشروط عليهم سلوكٌ بهم طريق إرادته ، وبعثٌ لهم في سبيل محبّته ، لا يملكون تأخّرا عمّا قدّمهم إليه ، ولا يستطيعون تقدّما إلى ما أخّرهم عنه .

ومن جملة تلك الشروط الأوامر والنواهي العقليّة والشرعيّة ، وهي وسائر المهيّجات تأديب للذوات الخيّرة بآداب اللّه ، ومعالجة لهم في حفظ صحّتهم ، وإزالة .

ص: 62


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 2041 (نظم) .
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 181 (نظم) .
3- القاموس المحيط ،ج 4 ، ص 188 (هجم).
4- الأنفال (8) : 23 .

الأمراض العارضة لهم ، قال اللّه تعالى : «وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ»(1) وإلى هذا أشار المصنّف قدس سره بقوله : «لمّا أراد تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خلقه» إلى آخره ، فتأمّل في إضافة الاستنقاذ إلى «من شاء» وعدم الإطلاق ، تستبصر .

وأمّا الأشرار فتكليفهم وإيراد المهيّجات عليهم قطعٌ لعذرهم ببيان ما أحبّ وأبغض ؛ لئلاّ يقولوا يوم القيامة: «إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ»(2)المؤمنون (23) : 106 .(3) ، وإبرازٌ لمكنونات ذواتهم من الأدواء والموادّ الخبيثة ؛ ليجري عليهم المَثَل السائر : «از كوزه همان برون طراود كه دروست» فيقولوا إذا سألتهم خَزنتها : «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ» : «بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَ قُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْ ءٍ»(4) ، وإذا قيل لهم : «مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ »(5) ، «فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لاِّءَصْحَابِ السَّعِيرِ»(6) .

ويقول أهل الجنّة : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ»(7) ، ويقول أهل النار : «غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا»(7) .

ويظهر سرّ قوله تعالى : «لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأََّسْمَعَهُمْ»(8) وإلى الطهارة والخباثة الذاتيّة اُشير في المثنوي :

آن بَدِ عاريّتى باشد كه او *** آرد اقرار و شود خوش توبه جُو

چونكه آدم زلّتش عاريّه بود *** لا جرم اندر زمان توبه نمود

چونكه اصلى بود جُرمِ آن بليس *** ره نبودش جانب توبه نفيس(9)

* * *

گفت «أنظرني إلى يَومِ الجزا» *** كاش مى گفتى كه «تُبْنا ربّنا» .

ص: 63


1- الذاريات (51) : 55 .
2- الأعراف
3- : 172 .
4- الملك (67) : 8 - 9 .
5- المدّثر (74) : 42-45 .
6- الملك (67) : 11 .
7- الأعراف(7) : 43 .
8- الأنفال (8) : 23 .
9- مثنوى معنوى ، ص 731، دفتر چهارم، ش 3415 - 3417 .

آن مزوّر(1) از خداى پاكِ فرد *** تا قيامت عمرِ تن درخواست كرد

زندگى بى دوست جان فرسودنست *** مرگ حاضر غايب از حق بودنست

عمر و مرگ، اين هر دو با حق خوش بُوَد *** بى خدا آبِ حيات، آتش بُوَد(2)

* * *

هر دلى را توبه(3) هم دستور نيست *** مزدِ رحمت قسمِ هر مزدور نيست .(4)

وناهيك من حجّةٍ قاطعة في هذا الباب قوله تعالى : «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا»(5)القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 370 (غشي) .(6) .

وليس علينا أن نتصدّى لبيان منشأ تمايز الأخيار والأشرار في العلم الأزلي بعد ما دلّ عليه نصّ الكتاب والسنّة ، على أنّا نحقّقه بعدّة وجوه في أبواب الإرادة والقضاء والقدر إن شاء اللّه تعالى .

وفي الأساس: «ألمَّ به: نزل. ومن المجاز: أصابته ملمّة من ملمّات الدهر: نازلة من نوازله».(7)

وفي القاموس : «غشّى اللّه على بصره تغشيةً ، وأغشيته إيّاه»(7) .

والإضافة في كليهما إضافة الصفة إلى الموصوف .

قوله : (وصلّى اللّه ) إلى آخره . الجملة إنشائيّة دعائيّة ، عَطفٌ على «الحمد للّه» وهي خبريّة ، فلابدّ من جامع بينهما، ليصحّ العطف، كما بيّن في مباحث الفصل والوصل ، وهو اندراج نعت النبيّ والأئمّة عليهم السلام في حمد اللّه تعالى لقربهم لديه وخلافتهم عنه . كذا استُفيد من كلام صدر المحقّقين قدّس اللّه روحه(8) . .

ص: 64


1- فى المصدر : «همچو ابليس».
2- مثنوى معنوى، ص 793، دفتر پنجم، ش 768 - 770 .
3- في المصدر : «سجده» .
4- مثنوى معنوى ، ص 258، دفتر دوّم، ش 1651 .
5- الأعراف
6- : 58 . والنكد - بفتح الكاف و كسره - : اللؤم، والشؤم، وكلّ شيء جرّ على صاحبه بشرا . وقال الراغب : «النكد: كلّ شيء خرج إلى طالبه بتعسّر» . العين ، ج 5 ، ص 331 ؛ المفردات ، ص 823 ؛ لسان العرب ، ج 3 ، ص 427 (نكد) .
7- أساس البلاغة ، ص 574 (لمم) .
8- شرح صدر المتألّهين ، ص 9 .

والأظهر أنّ «الحمد للّه» أيضا إنشائيّة ، والمقصود إنشاء الحمدِ للّه .

قوله : (وتوازُرِهم وسعيِهم في عِمارة طُرُقِها ومُبايَنَتِهم العلمَ وأهلَه حتّى كاد العلمُ معهم أن يَأرِزَ(1) كلُّه وتَنْقَطِعَ موادُّه) .

التوازر : التعاون .

في الأساس في الهمزة والزاي : «أردت كذا فآزرني عليه فلان : إذا ظاهرك وعاونك» .(2)وفي الواو مع الزاي : «هو وزير الملك : الذي يوازر أعباء الملك ، أي يحامله ؛ وليس من المؤازرة المعاونة ؛ لأنّ واوها عن همزة» . انتهى .(3)

وفي كلام أبي عبداللّه عليه السلام لأبان بن تغلب : «كيف أنت إذا وقعت البطشة بين المسجدين ، فيأزر العلم كما تأزر الحيّة في جُحْرها» .(4)

قال الجوهري في باب الزاي : «في الحديث : إنّ الإسلام ليأرز إلى المدينة كما يأرز الحيّة إلى جُحْرها؛ أي ينضمّ إليها، ويجتمع بعضه إلى بعض فيها . والمأرز : الملجأ» انتهى .(5)

وإنّما قال المصنّف : «كان العلم أن يأرز كلّه» لما قال أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليه - في كلام له : «ولهذا يأرِزُ العلمُ إذا لم يوجد له حَمَلةٌ يحفظونه ويروونه كما سمعوه من العلماء ، ويصدقون عليهم فيه ؛ اللّهمَّ فإنّي لاَءعْلَمُ أنّ العلمَ لا يأرِزُ كلُّه ، ولا ينقطعُ موادّهُ ، وأنّك لا تُخلي أرضَك من حجّةٍ لك على خلقك ظاهرٍ ليس بالمطاع ، أو خائفٍ مغمورٍ لكيلا تَبطُلَ حججك ، ولا يضلّ أولياؤك بعد إذ هديتهم » الحديث .(6)

ص: 65


1- في الكافي المطبوع : «يأزر» بمعنى يضعف . ولكن في أكثر نسخ الكافي: «يأرز» بتقديم المهملة . واستظهر العلاّمة المجلسي تقديم المهملة على المعجمة ، وهو مختار السيّد الداماد والصدر الشيرازي . وقال المازندراني : «أن يأرز كلّه - بتقديم الراء المهملة على المنقوطة - أي يجتمع كلّه في زاوية النسيان ؛ من أرزت الحيّة إلى حجرها : إذا انضمّت إليها واجتمع بعضها إلى بعض فيها» . اُنظر : التعليقة للداماد ، ص 10 ؛ شرح صدر المتألّهين ، ص 9 ؛ شرح المازندراني ، ج 1 ، ص 37 ؛ مرآة العقول ، ج 1 ، ص 15 .
2- أساس البلاغة ، ص 15 (أزر) .
3- أساس البلاغة ، ص 673 (وزر) .
4- الكافي ، ج 1 ، ص 340 ، باب في الغيبة ، ح 17 ؛ الغيبة للنعماني ، ص 159 ، ح 7 .
5- الصحاح ، ج 3 ،ص 864 (أرز).
6- الكافي ، ج 1 ، ص 339 ، باب في الغيبة ، ح 13 ؛ الغيبة للنعماني ، ص 136 ، ح 12 . وفيهما «حجّتك» بدل «حججك» .

وهو مع الحديث السابق المنقول عن الصادق عليه السلام مذكور في كتاب الحجّة في باب نادر في حال الغيبة والباب الذي يليه .

قوله : (وهل يَسَعُ الناسَ [المقامُ على الجَهالةِ]) .

في القاموس : «وَسِعَه [الشيءُ] بالكسر ، يَسَعُه - كَيَضَعُهُ - سِعَةً كدَعَةٍ وزِنَةٍ»(1) .

وفي الأساس : «ومن المجاز : لا يسعك أن تفعل كذا» .(2)

فالمقام - بالفتح على أنّه مصدر «قام» أو بالضمّ على أنّه مصدر «أقام» - مرفوعٌ على أنّه فاعل «يسع» .

قوله : (داخلينَ في الدِّينِ) .

أي دخولاً ظاهريّا ، أو في الدِّين الظاهر .

قوله : (على جِهَةِ الاستحسانِ والسبقِ عليه) .

في بعض النسخ : «والنشو عليه» ولعلّ الأوّل تصحيف .

قوله : (في الفِطَنِ(3) والعقولِ المُرَكَّبةِ فيهم) .

في الأساس : «ركّب الفصّ في الخاتم ، والسنان في القناة ».(4)

قوله : (أهلَ الضررِ والزَّمانة) .

في القاموس : «الزمانة: العاهة»(5) . ومقتضى عدم التقييد فتح الزاي ، وبه أعرب في الصحاح(6) .

قوله : (خِلْقَةً ... محتملةً للأمر والنهي) .

أي باعتبار العقل التكليفي مع قطع النظر عن صحّة الآلات والجوارح وعدم .

ص: 66


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 93 (وسع) .
2- أساس البلاغة ، ص 675 (وسع) .
3- في بعض نسخ الكافي : «في الفِطَر» . وجعلها صدر المتألّهين أولى ممّا في المتن ؛ حيث قال في شرحه : «وفي بعضها - أي النسخ - : الفطر - بالراء - جمع الفطرة ، وهذا أولى ؛ لأنّ الكلام في أصل الخلقة ، والفطنة والفطانة من الاُمور العارضة ، ولأنّها أنسب بقوله : كلّ مولد يولد على الفطرة ...» ثمّ قال : «والظاهر أنّ الصورة الاُولى - أي الفطن - من تصرّف الكُتّاب» . راجع : شرح صدر المتألّهين ، ص 10 .
4- أساس البلاغة ، ص 248 (ركب) .
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 232 (زمن) .
6- الصحاح ، ج 5 ، ص 2131 (زمن) .

صحّتها ، والمراد احتمال النوع ؛ إذ بذلك ينفصل عن البهائم .

قوله : (ووَضَعَ التكليفَ عن أهل الضررِ والزَّمَانَةِ) .

أي وضع التكليف عنهم على حسب ضررهم .

قوله : (وجَعَلَ عزّوجلّ سببَ بقائهم أهلَ الصحّةِ والسلامةِ) .

مأخوذ من كلام عليّ بن موسى عليهماالسلام حيث كتب فيما كتب إلى محمّد بن سنان في جواب مسائله : «إنّ علّة الزكاة من أجل قوت الفقراء ، وتحصين أموال الأغنياء ؛ لأنّ اللّه عزّوجلّ كلّف أهلَ الصحّة القيامَ بشأن أهل الزمانة والبلوى» الحديث ؛ نقله الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه .(1)

قوله : (إذ شواهدُ ربوبيّته دالّةٌ ظاهرةٌ) .

هذه قبسة من مصباح الهدى ، وغرفة من بحر الحكمة ، أعني أمير المؤمنين عليه السلام قال في خطبة من خطب نهج البلاغة : «وأرانا من ملكوتِ قُدرتِه ، وعَجائبِ ما نطقَتْ به آثارُ صنعته» إلى قوله : «فصار كلُّ ما خلَق حجّةً له ودليلاً عليه، وإن كانَ خلقا صامتا ، فحُجَّتُه بالتدبير ناطقةٌ ، ودلالتُه على المُبْدِعِ قائمةٌ» .(2)

وفي خطبة اُخرى : «لم يُطْلِعِ العقولَ على تحديد صفته ، ولم يَحْجُبْها عن واجب معرفته ، فهو الذي شهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود» .(3)

قوله : (غيرَ مُرخَّصٍ لهم) .

اللام الواقعة بعد الترخيص صلة يتوسّط بين الفعل والمفعول به ، فلا تستعمل بدونها . في القاموس : «رخّص له في كذا ترخيصا».(4) وإذ تبيّن ذلك علم وجه إفراد قوله : «غير مرخّص لهم» . .

ص: 67


1- الفقيه ، ج 2 ، ص 8 ، ح 1580 ؛ علل الشرائع ، ج 2 ، ص 369 ، ح 3 ؛ عيون أخبار الرضا، ج 2 ، ص 88 ، ح 1 .
2- نهج البلاغة ، ص 125 ، الخطبة 91 . وفيه : «آثار حكمته» بدل «آثار صنعة» .
3- نهج البلاغة ، ص 87 ، الخطبة 49 . وفيه : «تشهد» بدل «شهد» .
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 304 (رخص) .

قوله : (ولو كانوا كذلك لَما بَقُوا طرفةَ عينٍ) .

هذا أيضا من مقتبساته - طاب ثراه - من مصابيح الدُّجى وأعلام الهدى ، روى الصدوق في كتاب عيون الأخبار في باب العلل التي رواها الفضل بن شاذان عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه قال : «فإن قال قائل : لِمَ أمر الخلق بالإقرار باللّه - عزّوجلّ - وبرسله وحججه وبما جاء من عند اللّه عزّوجلّ ؟ قيل : لعللٍ كثيرة ؛ منها : أنّ من لم يقرّ باللّه - عزّوجلّ - لم يجتنب معاصيه ، ولم ينته عن ارتكاب الكبائر ، ولم يراقب أحدا فيما يشتهي ويستلذّ من الفساد والظلم ، فإذا فعل الناس هذه الأشياء، وارتكب كلّ إنسان ما يشتهي ويهواه من غير مراقبةٍ لأحد ، كان في ذلك فساد الخلق أجمعَ ، ووثوب بعضهم على بعض ؛ فغصبوا الفروج والأموال، وأباحوا الدماء والنساء ، وقتل بعضهم بعضا من غير حقّ ، فيكون في ذلك خراب الدنيا وهلاك الخلق» الحديث .(1)

قوله : (ولهذه العلّةِ انْبَثَقَتْ على أهل دهرِنا بُثُوقُ هذه الأديانِ الفاسدةِ، والمَذاهِبِ المُسْتَشْنَعَةِ التي قد استوفَتْ شرائطَ الكفرِ والشركِ كُلَّها) .

في القاموس:

بَثَقَ النهرَ بَثقا وبِثقا : كَسَر شَطَّه لينبثق الماءُ كبَثَّقَه ، واسم ذلك الموضع: البَثْقُ ، ويُكْسَرُ . والجمع: بُثوقٌ . وانبثَقَ : انفجَرَ . والسيلُ عليهم : أقبل ولم يَحْتَسِبوه .(2)

وفي الأساس :

انبثق عليهم الماء : إذا خرق الشطّ، أو كُسِر السَّكْر ، فجرى من غير فَجْر . وقد سدّوا البَثق [والبِثق] وهو المكان المكسور ، فَعْل بمعنى المفعول ، أو تسمية بالمصدر كالصيد والضرب ، وهؤلاء [أهل] الوثوق في سدّ البثوق .(3) انتهى .

فيُحتمل أن يكون كلام المصنّف استعارة مكنيّة، ومجازا عقليّا مبتنيا عليها، بأن شبّه أوّلاً الأديان الفاسدة - الممنوعة عن الفشوّ والسراية في الناس بحدود الشريعة الحقّة - .

ص: 68


1- عيون أخبار الرضا ، ج 2 ، ص 99 ، ح 1 ؛ علل الشرائع ، ج 1 ، ص 251 ، ح 9 .
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 210 (بثق) .
3- أساس البلاغة ، ص 28 (بثق) .

بالماء الملح الاُجاج الجاري بشدّة وغلبةٍ إلى الأرض السبخة من نهر قد اُحكم جانباه عن حدوث البثوق ؛ وشبّه تضييع الناس حدودَ الشريعة، وعدمَ مراعاتهم إيّاها بإيهان الشطّ بالتصرّفات الضارّة ، وعدم محافظته عن الانكسار والانثلام وحدوث البثوق ؛ وشبّه سريان تلك المذاهب الفاسدة في الخلق وفشوّها بينهم وفساد عقائدهم وأعمالهم بها بانبثاق ذلك الماء الملح الاُجاج على الأراضي المعمورة ، وتخريب ديارها ، واستيصال زروعها وأشجارها ، فاشتمل الكلام على المكنيّة والتخييل والترشيح .

ثمّ أسند ثانيا الانبثاق إلى نفس البثوق التي انفجر منها الملح الاُجاج على طريق «جرى النهر» و«سال الميزاب» فأضاف البثوق إلى الأديان إضافةً لاميّة .

ويحتمل أن يكون الانبثاق مسندا إلى ضمير الفتن المذكورة قبل ، بعد أن شبّهت بالملح الاُجاج، ويكون البثوق منصوبا بنزع الخافض ، مضافا إلى الأديان إضافةً بيانيّة؛ فتدبّر .

قوله : (وقد قال العالم) إلى آخره .

روى المصنّف - طاب ثراه - في كتاب الإيمان والكفر في باب المُعارين عن أبي الحسن عليه السلام قال : «إنّ اللّه خلق النبيّين على النبوّة ، فلا يكونون إلاّ أنبياء ، وخلق المؤمنين على الإيمان ، فلا يكونون إلاّ مؤمنين ، وأعار قوما إيمانا ، فإن شاء تمّمه لهم ، وإن شاء سلبهم إيّاه ». قال : «وفيهم جرت : «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ»(1)» .(2)

وعن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ اللّه عزّوجلّ جَبَلَ النبيّين على نبوّتهم فلا يرتدّون أبدا، وجَبَلَ الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدّون أبدا ، وجَبَلَ بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدّون أبدا ، ومنهم من اُعير الإيمانَ عاريةً ، فإذا هو دَعا وألحَّ في الدعاء مات على الإيمان».(3) .

ص: 69


1- الأنعام (6) : 98 .
2- الكافي ، ج 2 ، ص 418 ، ح 4 .
3- الكافي ، ج 2، ص 419 ، ح 5 .

وهذان الحديثان صريحان في التربيع، كما هو مقتضى العقل الصريح .

وعبارة المصنّف من جهة وقوع مساهلة فيها توهم التثليث ، وهذه المطالب تستدعي بيان معنى المشيّة والإرادة والقضاء والقدر والسعادة والشقاوة ، وبيانَ أنّه من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتّى حكم لهم في علمه بالعذاب على عملهم ، وسيجيء هذه المباحث في كتاب التوحيد إن شاء اللّه تعالى .

والذي يناسب ذكره هاهنا أن نقول : إنّ خلق النبيّين على النبوّة عبارة عن تيسيرها لهم بأسباب سماويّة فقط ، وخلق الوصيّين على الوصيّة بتيسيرها لهم بأسباب سماويّة مع مدخليّة نبيّ ، وخلق المؤمنين على الإيمان عبارة عن تيسير إيمان لهم ثابت مستقرّ كالنقش في الخاتم .

توضيح ذلك : أنّ الأشياء في مرتبة الإمكان والمقدوريّة - التي هي متقدّمة بالطبع على مرتبة الإيجاد - كانت معانيَ انتزاعيّةً منشؤها القدرة الكاملة ، وكان لكلّ واحد خصوصيّة حتّى يكون ممكنا خاصّا ، وبها تمام قوام ماهيّته الشخصيّة ، وكذلك لكلّ عدّة حتّى يكونوا نوعا خاصّا وصنفا خاصّا، فمنهم من كانوا باعتبار خصوصيّتهم بحيث إذا عُرض عليهم الإيمان تلقّوه بالقبول تلقّيَ الصَّدْيانِ(1) لشربة ماء عذب بارد ، فتيسيرَ أسباب تحقّق ذلك منهم خلقٌ لهم على الإيمان ، والطينةُ الطيّبة - التي وردت في الأخبار - مابه قوام وجود تلك الخصوصيّة ، والطينةُ الخبيثة مقابلها ، وبهاتين كانت الأخيار والأشرار موجوداتٍ خاصّةً ، كما أنّهم بالخصوصيّات التي كانوا بها في مرتبة المقدوريّة ممكناتٌ خاصّةٌ ، وحديث الزرع الذي سبق كافٍ لاُولي الألباب في هذا الباب ، هذا .

وإعارة الإيمان عبارة عن تيسير متابعة الإمام الحقّ وتصديقه ، ولكن تصديقا تقليديّا يصلح أن يترقّى إلى درجة العلم واليقين ، وأن يتنزّل إلى مرتبة الجحود .

ص: 70


1- الصديان من الصدى : شدّة العطش . وقيل : العطش . يقال : هو صَدٍ و صادٍ و صَديان ، والاُنثى: صديا . اُنظر : العين ، ج 7 ، ص 141 ؛ لسان العرب ، ج 14 ، ص 453 (صدى) .

والتكذيب ، ثمّ تيسير أسباب الاستبصار لبعض منهم ، مثل أن يوفّقه لصحبة الأخيار وخلطة العلماء الأبرار ليستمع منهم دلائل قاطعة وبراهين ساطعة ، وهذا التيسير هو تتميم إيمان ذلك المُعار .

وأمّا سلب إيمان بعضٍ آخَرَ منهم فبأن يَكِلَه إلى نفسه ، فيخالط الأشرار ، ويعاشر الفجّار ، فيدعوه إلى ضلالتهم فيقبل منهم ، وهذا الوكول المفضي بالموكول إلى مخالطة المضلّين وإلى القبول منهم إنّما هو لأنّه كان في مرتبة المقدوريّة والإمكان ذا خصوصيّة بها كان ممكنا خاصّا ، وبسبب تلك الخصوصيّة كان مُعرضا عن ذكر الرحمان ، وقد قال اللّه تعالى : «وَ مَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ»(1) .

وكلا الأمرين - أعني تيسير أسباب الاستبصار ، والوكول المستتبع لمخالطة المضلّين الأشرار المستعقب للجحود والإنكار - قد تحقّقا من اللّه تعالى بالنسبة إلى جماعة اتّبعوا أمير المؤمنين عليه السلام بعدما بويع بالخلافة بزعم أنّ إمامته إنّما تحقّقت بالبيعة دون النصّ من اللّه ورسوله ، فسلب اللّه إيمان بعضهم - وهم الناكثون والمارقون الذين ارتدّوا على أعقابهم، وحاربوه عليه السلام بعد أن بايعوه وأقرّوا بإمامته ، فصاروا بذلك الإقرار في عِداد المؤمنين الظاهريّين ، ثمّ سُلبوا الإيمانَ بمحاربته ، فدخلوا بذلك في الكفر - وتمَّم للباقين إيمانَهم وتصديقهم التقليدي ، بأن وفّقهم لأن يستمعوا منه عليه السلام خطبا جليلة مشتملة على حِكَم ومعارف تكشف غشاوة الجهل عن قلوب من سبقت لهم من اللّه الحُسنى ، وتجلو صدأ الريب(2) عنها ، وهم الذين قاتلوا تحت لوائه عليه السلام على بصيرةٍ ويقين إلى أن استشهدوا ، فياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما .

ومعنى مشيّة التتميم ومشيّة السلب هو العلم الذاتي بكون كلّ واحد منهما فيمن فُعل به هو الصواب الموافق للحكمة الكاملة ، المُنبئ عن كمال القدرة على إجابة سؤال .

ص: 71


1- الزخرف (43) : 36 .
2- في حاشية النسخة : إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد ، وهو أن يركبها الرين بمباشرة المعاصي والآثام ، فيذهب بجلائه ، كما يعلو الصدأ وجه المرآة والسيف ونحوهما . النهاية [ج 3 ، ص 15 (صدأ)] .

كلّ ممكن يسأله بلسان خصوصيّته التي بها كان ممكنا خاصّا ، ولا تتوقّف إلاّ على عدم المنافاة للحكمة الكاملة ، وعدم المعاداة للعزّة القاهرة ، فكلّ ما يتحقّق من كلِّ - خيرا كان أو شرّا ، طاعةً كانت أو معصيّةً - فهو ممّا استدعاه وسأله من القادر الحكيم في مرتبة الإمكان والمقدوريّة بلسان خصوصيّة ذاته ، وتحقّقها كاشف عن موافقتها للحكمة التي لا يعلم كنهها إلاّ اللّه .

وقد قلت في بعض قصائدي (شعر) :

تعبير تو از حكمت حقّ مرجعش اينست *** كان علم بأطوار و شؤونات خدائيست

ومن بديع حكمته وعظيم قدرته أن خلق من الممكنات ممكنا من خصوصيّته الذاتيّة الشوق إلى اختيار الإيمان على الكفر إذا وقع بين داعييهما ، وممكنا آخَرَ من خصوصيّته الذاتيّة الشوق إلى الكفر ، ولا تستبعد كلَّ الاستبعاد أن يكون الذاتان مختلفين بالنوع ، ليت شعري ما الذي أفادك اليقينَ بأنّ الحيوان الناطق نوع حقيقي ، ولا يمكن أن يكون في نفس الأمر إضافيّا متحصّلاً نوعين بفصلين لم يخطرا بالبال ؟! وأنّى لك ولمثلك أن تحيط بجميع أجزاء المهيّة ؟! وما الذي آمنك أنّ الذي اشتهر أنّه فصلٌ أخير ليس فصلاً مقسّما؟! وكأنّه لم يقرع سمعك ما اعترف به الرئيس في رسالة الحدود من خروج تحقيق أجزاء المهيّة والتمييز بين الذاتيّات والعَرَضيّات عن طوق البشر ؛ «أطرِقْ كرا، أطرقْ كرا، إنّ النّعام في القُرى» .(1)

محصّل الكلام أنّ السعداء والأشقياء متمايزون في الذوات والطينات في مرتبة الإمكان والمقدوريّة ، وثَمَّ ثبتت الطاعة والمعصية ، لا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ، لا تتبدّل مقتضياتهم الذاتيّة . .

ص: 72


1- مَثَلٌ يضرب للمعجب بنفسه ؛ أو مَثَل يضرب لمن يخدع بكلام لطيف له، و يراد به الغائلة ؛ أو يضرب لمن يتكلّم عنده بكلام فيظنّ أنّه هو المراد بالكلام ، أي اُسكت فإنّي اُريد من هو أنبل منك و أرفع منزلة ؛ أو يضرب للرجل الحقير إذا تكلّم في الموضع الذي لايشبهه و أمثاله الكلام فيه ، فيقال له : اُسكت فإنّ الأجلاّء أولى بهذا الكلام منك . الصحاح ، ج 4 ، ص 1516 ؛ لسان العرب ، ج 15 ، ص 22 ؛ تاج العروس ، ج 13 ، ص 295 (طرق)؛ وج 20 ، ص 123 (كرو) .

نعم ، قد يصدر بعض أفعال السعداء من الأشقياء وبالعكس لعارض يزول ولو بعد حين ، والختم إنّما هو بالذاتي ، وسيجيء في كتاب الإيمان والكفر أنّه : «يسلك بالسعيد [في] طريق الأشقياء حتّى يقول الناس : ما أشبهه بهم ، بل هو منهم ، ثمّ يتداركه السعادة ».(1) ومثل هذا ورد في أمر الشقيّ .

وفي قصيدتي التي أشرت إليها قبل هذا أبيات تناسب المقام (قصيدة للمؤلّف) :

بر منهج تدبير الآهى است جهان كل *** تدبير جهان لازمه حكمت ذاتيست

اعنى چه بُوَد لايق ايجاد و چه نَبْود *** از جمله معلوم چو فعلش نه جزافى است

گر فعل قبيحى ز تو سر زد بقضا دان *** امّا بنگر كز دو كدامست و قضا چيست

خود بودى در علم ازل سايل تيسير *** مقرون به اجابت شده پس مَقضى حتميست

يا بادره اى بود و خطايى ز جهالت *** مسؤل تو در علم ازل طاعت و تقواست

آنست سؤالت و بدانست مآلت *** وين لغزش حاليست نه از خواهش ذاتيست

گر توبَه نصيبت شود اين كاشف از آنست *** كان بادِره بودست، نه از خواهش ذاتيست

امّا چُه بُوَد توبه پشيمانى و خجلت *** كاين چيست كه كردم من و در غايت زشتى است

پس عزم كنى بر عدم عود از آن ره *** كز قبح وى آگه شده ديدى كه چه مُخزيست .

ص: 73


1- الكافي ، ج 1 ، ص 154 ، كتاب التوحيد ، باب السعادة والشقاء ، ح 3 .

نه از ره خوفِ ضرر عاجل و آجل *** كاين توبه اطفال و عوامست و ادا نيست

آن آگهى از اهل كمالست و نجابت *** زان بر حسب معرفت و قوّت عقلى است

گر در گُنهى فهم نشد زشتى ذاتى *** اين بس كه خلاف سخن و حكم الآهى است

دانى كه اجابت چه و تيسير چه باشد *** وين مسئلت و خواستن از حضرت حق چيست

بودن بسوى خاص ترا خواهش ذاتى *** كز فقد شروطش به تو پوشيده و مخفى است

چون شرط به فعل آمد و شد وقت بروزش *** يابى كه ترا طبع و جبلّى و غريزيست

ناشى زخصوصيت ذات تو و اين را *** برهان نبود حاجت و وجدان تو كافيست

اين خواهش ذاتيست كه در حكم سؤالست *** گر جانب خوبيست و گر جانب زشتى است

زان نيست رجوعت ابد الدهر و گرهست *** در ظاهر حالست و لسانيست،نه قلبى است

رو آيه «ردّوا» كه «لعادوا» ست جوابش*** بر خوان كه درين باب ترا حجّت قطعى است

اين خواست نه آنست كه ازراه قوى خواست *** آن عاريتى باشد و اين امر جبلّى است

آن از بدن، اين يك زخصوصيّت ذاتست *** ذات مَلَكى مفترق از ذات بليسى است

آن ميكندت غافل ولاهىّ و فريبد *** زان چون بخود آيى ز ويت نفرت ذاتيست

ص: 74

عارض شود و زايل از اسباب و عروضش *** بر حكمت و بر مصلحت حال تو مبنى است

زان رو كه ندم آرد و تايب شوى از وى *** محبوب خدا گردى از آن توبه كه نصّى است

ذنبى كه از آن خواست نفورست از آن ذات **** رغبت كه سوى آن شده از غفلت و مستى است

ذنبى كه ازين خواست ز خاصيّت ذاتست *** از روى ارادت شدنش نافى آن نيست

اين هر دو شود جمع عجب نيست نبينى *** كافساد و ضرر خاصيت فَأره و افعى است

هر چند ندارند نصيب از خرد امّا *** طبعى نبُوَد جنبششان بلكه اراديست

از نوع بشر نيز چو مفسد فتد و ضارّ *** از سنخ افاعى بُوَد و فأر، نه انسى است

كو نيز بود بى خرد و جمله فعالش *** بر خواهش طبعست و هوا، عقل درونيست

ور هست ز طغيان هوا خوار و ذليلست *** وز خوف وى از حكم و حكومت متبرّيست

چون صاحب ملكى كه ز خذلان رعايا *** مغلوب و اسير يَدِ يك طاغى باغيست

هان! عقل مدان شيطنت و مكر و دُها را *** عقلى كه بُوَد خاصه انسان، نه معاشى است

هر امر كه در نظم وجود آمد و آيد **** زنهار مدانش كه به تدبير منافى است

در حكمت و علم ازلى بوده مُجَوَّز *** چون عزّش از ايجاب و جهالت متعالى است

ص: 75

تيسير ، مهيّا شدن از جانب حقّ است *** هر امر كه در كار تو در كار و ضروريست

حكمست قضا برشدن و اين همه شرطش *** نه مذهب تفويضى و نه مذهب جبريست

اِنجاح سؤالست، نه اكراه بر افعال *** محتاج به تيسير عمل گرچه اراديست

از جمله تيسير ، عطا كردن عقل است *** و اسباب و شروطى كه ببارى متناهيست

تكليف هم از جمله اسباب و شروطست *** بى امر كى اين ممتثل ، آن مُعْرِض و عاصى است

ذات تو و مختار تو در علم ازل بود *** هان عمر بنحوش نكنى صرف ، كه ره نيست

اين بود نه فى نفسه و معقول بذاتست *** بل رابطى آن ربطْ وِ را بودنِ عقلى است

ممكن زخدا بودن شى ء، شى ء نباشد *** تا جعل دهد بود به وى معنى ربطى است

بل منتزع از قدرت و آن منتزع از ذات *** خود قادر و خود عالم و خود صورت علمست

معنىّ هو الكلُّ وَ فى وحدةٍ اينست *** تحقيق درين مسئله اينست و جز اين نيست

معلوم خدا بودى و مقدور جنابش *** زان پيش كه «كن» گفته شود، گرچه مجازيست

از كردن او ممكن و مقدور نگشتى *** بل قدرت ذاتيش در امكان تو كافيست

علمش بتو و خواهش ذاتيت محيط است *** پيش از همه موجود كه ارضى و سمائيست

ص: 76

شرطيّه در آن علم ندارد رَهْ از آن راه *** كز جهل نباشد برى آن علم كه شرطيست

رو «لَو عَلِمَ اللّه» بخوان تا كه بدانى *** ذو الخير و عديمش همه در علم الآهى است

پس غايت تكليف نه آنست كه داند *** مؤمن كه و كافر كه و نيكو كه و بد كيست

بل آنكه به فعل آيد و واقع شود اشيا *** هر يك به همان وجه كه در علم الآهى است

ابليس بسى سال كه در صف ملايك *** مى كرد به طاعات و عبادات خدا زيست

تكليف ميان آمد و شد واقع و ظاهر *** ذنبى كه عيان بود كه از خواهش ذاتيست

زان توبه نكرد و نشد از كرده پشيمان *** كز خواسته خويش كسى را نَدَمى نيست

آدم چو گناهش نَبُد از خواهش ذاتى *** زان چون به خود آمد به خجالت شد و بگريست

كس را نرسد كاين همه اشرار چرا اند *** انواع ستمها كه به مظلوم شد از چيست

بر ظلم چرا گشته معلّق عوض و اَجر *** بى آن چه شدى گر شدى اين داد و ستد چيست

بس ظلم كه گر عرض شود بر تو و گويند *** باشد عوضش ملك جهان ، طبع نه راضى است

آن ظالم شرّير چرا كرده شد ايجاد *** با علم كه شوقش بسوى ظلم غريزيست

ايجاد بود خير ، ولى در حد ذاتش *** چون تابعش افتاد ضرر ، پس ثمرش چيست

ص: 77

آنرا كه مآلش به رجوعست و ندامت *** پس خواهش ذاتى به گنه نيست، پس از چيست

هر چند بود حجّت حقّ بر همه لازم *** جز خواهششان داده نشد جبر به كس نيست

امّا چه شدى گرنشدى خلق جز آن كو *** در علم ازل خواهش ذاتيش به خوبيست

تيسير نگشتى گنهى كز ره مستى *** خواهش شده در واقع از آن نفرت ذاتيست

يك حرف جواب همه باشد كنى ار فهم *** اجزاى جهان جمله شؤنات خدائى است

كل مظهر غايات صفاتند بتفصيل *** گر مؤمن و گر كافر و گر مجرم و عاصى است

كى غايت غفّار به فعل آيد اگر نه *** تيسير شود زلّت و جرمى كه نه ذاتيست

گر نُجح سؤالات طواغيت نباشد *** آن كس كه شود مظهر غايات غضب كيست

در نظم وجود ار نبُوَد ظالم و عاتى *** ذو البطش كِرا بطش كند منتقم از كيست؟

اين قافله با قافله سالار قضا كل *** در جادّه عدلى كه راهى به جز آن نيست

در سير الى اللّه تصيرند جميعا *** ختم است بر اين قول و جز اين ، فضل و فضوليست

گر نيستى از حكمت حق غافل و لاهى *** مشكل نشود بر تو امورى كه قضائى است

و رنه بخودآ تا نگرى ز انفس و آفاق *** بس آيت حكمت كه در آن مُودَع و مَطْويست

ص: 78

والمراد بالاُمور القضائيّة كلّ الاُمور الاختياريّات منها وغير الاختياريّات ، والصفة موضحة ، وكفى لاُولي الألباب موضع التدبّر والتبصّر قوله تعالى : «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِىآ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِىآ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ»(1) .

واعلم أنّه كما كان في الحكمة الكاملة خلق كلا النوعين : الأشرار والأخيار ، كذلك كان في الرحمة الشاملة التكفّل بأرزاق كلّ منهما ، ونهج السبيل إليها ، وإعطاء أسباب الانتفاع بها ، مثل آلات التغذّي والهضم ودفع الفضول وغير ذلك ممّا لا يكاد يحاط بعدّ ، وينتهى في إحصائها إلى حدّ ، وقد فصّل نزرٌ(2) منها في كتب التشريح؛ «وَ إِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ»(3) .

ثمّ إنّه سبحانه لعظيم قدرته وبديع حكمته فعل ما فعل بممكنات خبيثة ذوات الانجليار من الإيجاد وتيسير بعض ما سألوه من حضرته بلسان خصوصيّات ذواتهم؛ لعدم منافاته للحكمة الكاملة ، ثمّ التكفّل بأرزاقهم والتفضّل بإعطاء ما يلائم حالهم من أسباب تحصيلها وأدوات الانتفاع بها إلى غير ذلك بممكنات خبيثة ذوات الإرادة فقط أيضا ، مثل الأفعى والعقرب والفأرة والبقّ والبرغوث والقُمّل والضفدع وسامّ أبْرَص(4) وما يقع على الزرع والأشجار من الدِيدان المنتنة ، وسائر أصناف الهوامّ والحشرات ، وكثير من أنواع الحيوان مثل الخنازير والكلاب والذئاب وغيرها؛ لتكون معتبرا لاُولي الألباب ، ويروا عموم قدرته وشمول فضله وإحسانه لهذه الخبيثات الظاهرة الخباثة ، مع إباحة قتلها لمهانتها، وكونها ممّا في شأنه إيذاء خلق اللّه وإن لم يتحقّق الإيذاء بعدُ ، أو كانت أذيّته أقلَّ قليل بالنسبة إلى ما اُبيح به من إزالة الحياة التي هي ألذّ الأشياء ، كأذيّة القملة والذبابة ، فإذا شاهد اُولوا الأبصار أمثال هذه الخبائث، ورأوا أنّ خبثها الذاتي - .

ص: 79


1- الأنفال (8) : 44 .
2- النَّزْر : القليل . لسان العرب ، ج 5 ، ص 203 (نزر) .
3- إبراهيم (14) : 34 ؛ النحل (16) : 18 .
4- سامُّ أبرصَ : ضرب من كبار الوزغ . كتاب العين ، ج 7 ، ص 206 ؛ لسان العرب ، ج 12 ، ص 304 (سمم) .

الذي به كان ممكنا خاصّا - لم يكن منافيا للحكمة ومضادّا للجبروت والعزّة ، فصحّ إيجادها بصور مختلفة وأمزجة مختلفة لمصالحَ ظاهرة وغير ظاهرة ، فهل يستبعدون إيجاد أخباث صورها الصورة الإنسانيّة ، وسنخها من سنخ تلك الأخباث ، كلّ واحد من سنخ ما يشاكله في الخصال والأفعال ، بأن يكون مردةُ أعداء آل محمّد [...[ كالمتغلّبة من بني اُميّة وبني العبّاس وأضرابهم من سنخ الأفاعي والعقارب والخنازير والذئاب والذباب والكلاب ، ويكونَ أشياعهم فيما بين أسناخ الفأر والبقّ والبراغيث والقُمّل على حسب اختلاف مراتبهم في الأذيّة ، ويكونَ الضرر الواقع من هؤلاء الأشرار على الأئمّة الأطهار وشيعتهم الذين هم فضل طينتهم عليهم السلام ومخالفون في الطينة لاُولئك الأخباث كالضرر الواقع من تلك الهوامّ والحشرات التي في غير الصورة الإنسانيّة على غيرهنّ بإرادة وشوق ذاتي يهيج عند التمكّن ، ويحملهنّ على الإضرار من دون إكراه أو اقتضاء من الطبيعة العنصريّة ، كاقتضاء النار للإحراق بلا شعور وقصد وإرادة ، بل بقصد وشعور وشوق انبعث من خبث ذاتي ، به كنّ ممكناتٍ خاصّةً ومقدوراتٍ خاصّةً .

بل أقول : الحدس الصائب لا يتوقّف في الحكم بأنّ الأخباث الإنسانيّة من سنخ الأخباث المذكورة ، غاية الأمر أنّ قوّة الإرادة فيهم - المسمّاة بالشيطنة والنَّكْرى - أقوى وأشدّ من قوّة إرادتهنّ بحيث يجري فيها التوبيخ والتعيير ، وبهذا صارت شبيهة بالعقل ، بخلاف قوّة إرادتهنّ . وعلى هذا فأصل قوّة الإرادة التي لا يجب أن يدخل فيها القوّة العقليّة التي هي «ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان»(1) صنفان ، بل نقول : كلّ صنف منهما ذو مراتب جدّا ، ففي الصنف الذي يجري فيه التوبيخ والتعيير قوّة كانت لابن الخطّاب وابن العاص ، وقوّة كانت لأبي موسى الأشعري وأبي هريرة ، وفي الصنف الآخَر قوّة تكون للغراب الأبقع والفأر والبرغوث ، وقوّة تكون للقمّل .

ص: 80


1- الكافي ، ج 1 ، ص 11 ، كتاب العقل والجهل ، ح 3 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 195 ، ح 15 ؛ معاني الأخبار ، ص 239 ، ح 1 .

والخنفساء والديدان البدنيّة التي تتولّد في البطن من البلغم ، والديدان المنتنة التي تقع على الزروع والأشجار ، والضفادع والحلزونات إلى غير ذلك .

وبعد الإحاطة بما ذكرنا ظهر لك حقيقة قوله تعالى : «كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ»(1)المائدة (2) : 60 .(3) وقوله : «وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ»(2) ، وما ورد في الأخبار الكثيرة من أنّ بني اُميّة مُسخت بصورة الوزغة ، وعُلم أنّ العبرة بطينة النفوس ، وأمّا الأبدان فهي لباس لها، وقد يبدّل اللباس لحكمة ومصلحة ، وكلا صنفي الخبيث اُبيح في الحكمة ذلّهما ، وهو أنّهما من جهة نفس خباثة النفس ، وكونها مؤذيةً بالإرادة المنبعثة عن خبث ذاتي ، واختصّ صنفٌ منهما بالنكال والإذلال في النشأة الآخرة من جهة سوء الأفعال أيضا لمزيد قوّة لقوّته المدركة ، لا لكونه خارجا عن سنخ تلك الخبائث ، ولا استبعادَ أن يكون بعض أصناف سنخ واحد قابلاً للأدب والتعليم ، وفي عرضة الخطاب والعتاب ، ألم تر تعلّم الجَدْي وتأدّبَه من سائسه وكذلك القردة ، وقد شوهدت من كلّ منهما أفعال على وجه القصد والإرادة ، كانت بها في سلك حذّاق الإنس . وحسبك حجّةً قاطعةً في هذا الباب قوله تعالى : «وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ»(4) .

والحاصل أنّ الصورة الإنسانيّة لهذا الصنف في هذه النشأة لباس عارية لهم ، وسيحشرون بصورهم الأصليّة التي هي صور القردة والخنازير والكلاب ، وناهيك في هذا الباب ما حكى اللّه تعالى عمّن قال: «لِمَ حَشَرْتَنِىآ أَعْمَى وَ قَدْ كُنتُ بَصِيرًا»(5) وغيرها من الآيات .

وما يصل إليهم في النشأة الآخرة من جهتين : خباثة ذواتهم ، وسيّئ أعمالهم التي تصدر عنهم بشوق وإرادة لانتفاع الأبدان، أو لمحض دعوة خباثتهم الذاتيّة ، ولا خير فيهم؛ «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأََّسْمَعَهُمْ»،(5) والأمر والنهي بالنسبة إليهم من أسباب .

ص: 81


1- البقرة
2- الأنفال (8) : 23 .
3- : 65 ؛ الأعراف (7) : 166 .
4- المائدة (5) : 4 .
5- طآه (20) : 125 .

هيجان شوقهم الذاتي إلى المضادّة والاستكبار والمخالفة ، كما أنّهما بالنسبة إلى النفوس الطيّبة من أسباب هيجان شوقهم الذاتي إلى الطاعة والاستكانة لربّهم الذي ابتدعهم وربّاهم وهداهم إلى ما فيه رشدهم وصلاحهم ؛ قال اللّه تعالى : «وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ»(1) ، وقال تعالى : «وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ۖ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ»(2) .

وبالجملة ، لا ينبغي الشكّ في وجود الطيّبات والخبيثات ، وللّه في كلٍّ تدبير . ومقطع الكلام هو ما ذكرنا في القصيدة التي سبقت وهو قولنا (نظم) :

اين قافله با قافله سالار قضا كل *** در جادّه عدلى كه راهى به جز آن نيست

در سير الى اللّه تصيرند جميعا *** ختم است براين قول و جز اين ، فضل و فضولى است

وما أحسن ما قال بعض أرباب الكمال (شعر) :

دريا به وجود خويش موجى دارد *** خس پندارد كه اين كشاكش با اوست

للحكيم الغزنوي (نظم) :

به ز تسليم نيست در علمش *** تو چه دانى حكيمى و حلمش

فطوبى لمن فتح اللّه عين عبرته ، ووفّقه لإعمال فكرته ، والإقامة من سكرته ، والنهوض من عثرته ، ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور ؛ وسنعيد هذا المطلب الأسنى والمقصد الأقصى في باب صفات الذات ؛ لنستدرك ما عسى أن يكون قد فات ، على أنّه هو المسك ما كرّرته يتضوّع .

قوله : (ممّا اختلفت الرواية فيه) .

أفاد السيّد المحقّق الرفيع قدس سره أنّ :

المراد بالروايات المختلفة التي(3) لاتحتمل الحمل على معنى يرتفع به الخلاف ة.

ص: 82


1- الذاريات (51) : 55 .
2- النمل (27) : 81 .
3- «التي» خبر للمراد ، لاصفة للمختلفة.

بملاحظتها جميعا، وكون بعضها قرينةً على المراد من البعض ، لا الذي يتراءى فيه الاختلاف في بادئ الرأي . وطريقُ العمل في المختلفات الحقيقيّة كما ذكروه - بعد شهرتها واعتبارها - العرض على كتاب اللّه والأخذ بموافقه دون مخالفه ، ثمّ الأخذ بمخالف القوم وحمل الموافق على التقيّة ، ثمّ الأخذ من باب التسليم بأيّما تيسّر . انتهى .(1)

وتنقيح المقام يقتضي بسطا في الكلام :

اعلم أنّ المصنّف - طاب ثراه - ذكر هاهنا من وجوه الترجيح ثلاثةً ، وذكرها على وجه الحصر حيث قال : «إلاّ على ما أطلقه العالم عليه السلام بقوله» إلى آخره، وحكم بأنّ العمل بحديث بإيماء «أخذتم» مع التمكّن من بعض وجوه الترجيح، كما هو مقتضى قوله : «إلاّ أقلّه» مع كونه أوسع أحوط أيضا ، ولا يخفى ما في ظاهر هذا الحكم من الإشكال ، وكذا دعوى الحصر ، فنحن ننقل أوّلاً مذاهب العامّة في أدلّة الأحكام الشرعيّة ، ثمّ نوجّه الحصر .

قال البيضاوي في المنهاج بعد أن عرّف الفقه و دليله المتّفق عليه بين الأئمّة : الكتاب والسنّة والإجماع والقياس ، فَذَكَرَ أحوالها في أربعة كتب ، ثمّ قال : الكتاب الخامس في دلائل اختلف فيها ؛ وفيه بابان : الباب الأوّل : في المقبول منها ، وهي ستّة :

الأوّل : الأصل في المنافع الإباحة ؛ لقوله تعالى : «خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْءَرْضِ جَمِيعًا»(2) «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِىآ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(3) و«أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ»(4) ، وفي المضارّ التحريم ؛ لقوله عليه السلام : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» .

قال : الثاني : الاستصحاب . وفي الشرح : الثاني من الأدلّة المقبولة استصحاب الحال ، وهو الحكم ببقاء أمر كان في الزمان الأوّل ، وهو حجّة عند الشافعي خلافا للحنفيّة والمتكلِّمين .4.

ص: 83


1- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 39 .
2- البقرة (2) : 29 .
3- الأعراف (7) : 32 .
4- المائدة (5) : 4.

قال : الثالث : الاستقراء . وفي الشرح : الثالث من الأدلّة المقبولة الاستقراء المظنون ، وهو إثبات حكم كلّي لثبوته في بعض جزئيّاته .

قال : الرابع : أخذ الشافعي بأقلّ ما قيل إذا لم يجد دليلاً ، كما قيل : دية الكتابي الثلث ، وقد قيل : النصف ، وقد قيل : الكلّ ؛ بناءً على الإجماع والبراءة الأصليّة . وقيل : يجب الأكثر لتيقّن الخلاص ، قلنا : حيث تيقّن الشغل ، والزائد لم يتيقّن .

قال : الخامس : المناسب المرسل . وفي الشرح : المناسب المرسل مناسب لا يشهد له أصل من اُصول الشرع اعتبارا وإلقاءً . وهل هو من الأدلّة المقبولة ، أم لا ؟ فيه خلاف .

واستدلّ على اعتباره بأنّه إذا غلب على ظنّنا أنّ هذا الحكم مصلحة غالبة على المفسدة، وقطعنا بأنّ المصلحة الغالبة على المفسدة معتبرة في الشرع ، لزم من هاتين المقدّمتين ظنّ أنّ هذه المصلحةَ معتبرة في الشرع ، والعمل بالظنّ واجب لما عرفت مرارا .

قال : السادس : فَقْد الدليل بعد الفحص البليغ يغلب ظنّ عدمه ، وعدمه يستلزم عدم الحكم ؛ لامتناع تكليف الغافل .

قال : الباب الثاني : في المردودة . الأوّل : الاستحسان ؛ وبه قال أبو حنيفة ، وفسّر بأنّه دليل ينقدح في نفس المجتهد ، ويقصر عنه عبارته .

انتهى ما أردنا نقله من المنهاج وشرحه .

وفي نهاية ابن الأثير في الراء مع الهمزة : «والمحدّثون يسمّون أصحاب القياس أصحابَ الرأي ، يعنون أنّهم يأخذون بآرائهم فيما يشكل من الحديث، أو ما لم يأت فيه حديث ولا أثر» انتهى .(1)

فنقول : إذا بلغ أبا حنيفة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله حديثان مختلفان ، فوجد أحدهما موافقا للرأي أو القياس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة ، فلابدّ أن يميّز بتلك الموافقة الصدق منهما ، ويحكم بأنّ الآخر إمّا مختلق، أو ممّا شبّه للناقل ؛ لأنّ كلّ واحد من هذه).

ص: 84


1- النهاية ، ج 2 ، ص 179 (رأى).

الثلاثة دليل لأحكام الشرع قسيمٌ للكتاب ، فكما أنّه يتميّز الخبر بموافقة الكتاب ، كذلك يتميّز بموافقة الرأي والقياس والاستحسان . والمصنّف - طاب ثراه - أراد بقوله : «لايجوز تمييز شيء ممّا اختلفت الرواية فيه برأيه» هذا النوعَ من التمييز ، ونظره إلى أبي حنيفة وأمثاله.

وقوله : «إلاّ على ما أطلقه العالم عليه السلام بقوله» ثمّ تعداد الوجوه المذكورة قصر إضافي لا حقيقي بشهادة أنّه - طاب ثراه - زاد عليها في باب اختلاف الحديث ، فما ذكر هاهنا على سبيل التمثيل، وأوسعيّة العمل بأيّما أخذتم ظاهر .

وأمّا توجيه أحوطيّته مع التمكّن من بعض وجوه الترجيح ، فبعد ذكر ما وصل إلينا عنهم عليهم السلام في أمر الترجيح فنقول : إنّ جميع ما ورد في هذا الباب منحصر في قسمين :

قسم يفيد استعمال العلم بصدق متضمّن أحد الخبرين المعارضين وكذب الآخر ، وقسم لا يفيد استعماله العلم ؛ عسى أن يفيد بعض أصنافه الظنّ .

والأوّل مثل العَرْض على آية من القرآن عُلم مراد اللّه بها من جهة ، كما في ضروريّ دين الإسلام ، مثل آية : «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ»(1) ، أو ضروريّ مذهب أهل البيت عليهم السلام ، مثل آية : «وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»(2) ، وهذا هو المراد فيما يأتي من قول النبيّ صلى الله عليه و آله : «ما يوافق القرآن فأنا قلته ، وما يخالف القرآن فلم أقله» .(3) وفي حديث آخر «فهو زخرف» .(4)

وفي حكم العَرْض على الآية الموصوفة العرضُ على السنّة إذا كانت بالوصف المذكور ، سواءً كانت حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو حديث أحد من الأئمّة عليهم السلام .

وأمّا آية أو حديث لم يعلم المراد بهما، ولكن كان ظاهرا في معنى، فالعرض للاعتضاد وحصول الاطمئنان . وكذا الأمر في سائر الوجوه المأثورة ، مثل أخذ مخالف العامّة . كذا قيل . .

ص: 85


1- المائدة (5) : 90 .
2- المائدة (5) : 6 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 69 ، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب ، ح 5 .
4- المصدر ، ح 4 .

والذي أذهب إليه - وأنا موقن بأنّه هو طريق المتشبّثين بأذيال آل الرسول صلوات اللّه عليهم - أنّ الخبر إذا ثبت وروده عن المعصوم عليه السلام وعارضه مثله، يتخلّص باستعمال واحد من تلك الوجوه، لا على أنّه يفيد لنا العلم أو الظنّ بالحكم الواقعي الذي استودعه واستحفظه رسول اللّه صلى الله عليه و آله الربّانيّين من عترته؛ ليبيّنوا للناس إن كانوا متمكّنين في الحكومة والإفتاء ، بل على أنّه طريق من الطرق التي نَهَجَها لنا مَوالينا عندما أشكل الأمر علينا في زمن الهُدْنة واستيلاء أئمّة الضلال ، فنحن متّبعوهم فيما وصل منهم إلينا على وجه التسليم لهم وإن كان نقيض الحكم الواقعي ، ولا نفرّق بينهما في طاعة اللّه إذا ثبت وروده عنهم ثبوتا يجوز معه العمل ، وإذا ثبت ورود مختلفين نستعمل أحد الوجوه المأثورة ، فما حصل فهو حكم واصلي لنا ، مطابقا للحكم الواقعي أو غير مطابق ، ويُثاب على كلّ من التقديرين بلا تفاوت في النقص والكمال .

ولسنا نقول بما قالوا : إنّ المجتهد إن اتّفق له الإصابة فله ثوابان ، وإن أخطأ فله ثواب واحد ؛ لأنّ مناط الثواب عندنا إطاعة ما أمرنا به ساداتنا المعصومون عليهم السلام ، وربّما كان ثواب من عمل بشيء على أنّه ممّا أمروا به أفضلَ من ثواب من عمل بشيء على أنّه ممّا حصل الظنّ بأنّه حكم واقعي .

وبالجملة : كلّ واحد من الوجوه المأثورة كيفيّة سلوك في أمر الخبرين المختلفين في أيّام الهدنة ودولة المتغلّبين إلى أن يأتي وقت انجلاء شمس الحقّ عن كسوف الباطل ، وزمان تقشّع غمائم الشبهات بسطوع البرهان ؛ أقرَّ اللّه عيوننا بإدراك ذلك الزمان تحت لواء وليّ الأمر وصاحب العصر صلوات اللّه عليه وعلى آبائه الطاهرين .

فمناط عملنا بالوجوه كونها مناهج نَهَجَها لنا الذين اُمرنا بالردّ إليهم فيما أشكل، والقبولِ منهم كلّ ما قالوا ، والاستنادِ إليهم في كلّ ما نعمل ؛ لا أنّ لنا ظنّا بأنّ هذا هو الحكم الواقعي دون ذلك .

ونظير ذلك العملُ بالشهادة ؛ فإنّ مناط العمل بها اعتبار الشارع لها على الوجه الذي اعتبره ، لا الظنّ من حيث إنّه ظنّ ؛ ولهذا يقطع ويجلد ويرجم بها ولو حصل من

ص: 86

أماراتٍ ظنّ أقوى بكثير من الظنّ الحاصل بالشهادة لم يفعل ذلك .

وقد ذكر الاُصوليّون وجوها كثيرة لترجيح أحد الخبرين المختلفين على الآخر، واعترف المحقّقون أنّ أكثرها ليس له مأخذ شرعيّ .

وممّا ذكره العلاّمة - قدّس اللّه روحه - في مبادئ الاُصول أنّ خبر المشهور بالرئاسة أرجح من خبر غيره .(1)

وفي الشرح : سواء شهرته لمنصبه أو لنسبه ؛ لأنّ احترازه عمّا يوجب نقصَ منزلته المشهورة يكون أكثر ، ولذلك كان عليّ عليه السلام يحلّف الراوي ، ويقبل رواية أبي بكر بلا يمين.(2)

قال العلاّمة : والناقل عن حكم الأصل راجحٌ على المقرّر ، وقيل بالعكس .(3)

وفي الشرح : إذا كان أحد الخبرين مخالفا لحكم الأصل والآخَر موافقا له ، كان المخالف راجحا ، وهو قول جمهور الاُصوليّين ؛ لأنّ الشارع إنّما يحتاج إليه ليعرّفنا ما لم تستقلّ عقولنا بإدراكه ، لا ما كان لعقولنا دلالة عليه . وقيل : بل كان الموافق راجحا ؛ لكونه معتضَدا بالأصل .(4)

قال العلاّمة : المشتمل على الحظر راجحٌ عند الكرخي .(5)

وفي الشرح : إذا كان حكم أحد الدليلين الحظرَ والآخرَ الإباحةَ ، فعند الكرخي وأحمد بن حنبل والرازي من أصحاب أبي حنيفة تقديم دليل الحظر ، وعند أبي هاشم [وعيسى بن أبان] تساويا وتساقطا . لنا : أنّ الأصل لا يؤمَن معه الوقوعُ في المآثم ، فيكون مرجوحا .(6)

أقول : أمثال هذه الاعتبارات أكثر من أن تنتهي إلى حدّ ، وما ذكرنا للعبرة .

ولنذكر أصناف القسم الثاني :

الصنف الأوّل : ما ورد في جواز الأخذ بأيّهما شاء ؛ في كتاب الاحتجاج في آخر .

ص: 87


1- مبادي الوصول إلى علم الاُصول ، ص 235 .
2- غاية البادي في شرح المبادي للشيخ محمّد بن عليّ الجرجاني الغروي، تلميذ العلاّمة ، ص 233 .
3- مبادي الوصول إلى علم الاُصول ، ص 237 .
4- غاية البادي في شرح المبادي ، ص 234 .
5- مبادي الوصول إلى علم الاُصول ، ص 237 .
6- غاية البادي في شرح المبادي ، ص 237 .

حديث عن الرضا عليه السلام ، قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، فلم نعلم أيّهما الحقّ ؟ قال : «إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت» .(1)

علّق التوسيع بالعمل بأيّهما شاء على عدم العلم بالحكم الواقعي فحسب ، ولم يعتبر تأخّر هذا الوجه عن استعمال المرجّحات المأثورات إن تيسّرت مع ورود الأمر به . فيعلم من ذلك أنّ الترجيح واستعمال المرجّحات هو الأصل ، والتوسيع بالعمل بأيّهما شاء على وجه التسليم من باب الرخصة ورفع الضيق عنّا شفقة علينا في دار الهدنة ، مثل أداء الظهر عند زوال الشمس والرخصة في تأخيرها إذا عرض لهم شغل كيلا يكونوا مضيّقا عليهم ، وكثيرا ما يقول الصدوق عند تعارض الخبرين : «هذا الخبر أصل ، وذاك رخصة» .(2)

وسيجيء في باب التفويض إلى رسول اللّه : «وعاف رسول اللّه صلى الله عليه و آله أشياءَ وكرهها، لم يَنْهَ عنها نهيَ حرام ، إنّما نهى عنها نهيَ إعافة وكراهة ، ثمّ رخّص فيها، فصار الأخذ بِرُخَصِه واجبا على العباد، كوجوب ما يأخذون من عزائمه(3) ، ولم يرخّص لهم رسول اللّه فيما نهاهم عنه نهيَ حرامٍ ، ولا فيما أمر به أمْرَ فَرْضٍ لازم» الحديث .(4)

وفي قوله عليه السلام : «فموسّع عليك » إشعار بالرخصة كما لايخفى . وكذا في قوله عليه السلام : «من باب التسليم» كما في حديث آخر .

وتكثير طرق الترجيح أيضا للتوسيع ، وإطلاق ذكر الوجوه وعدم التقييد بالترتيب - كما ستعرف - شاهد صدق على ذلك ، وعلى هذا ذكر بعضها في خبر وآخَر في آخَرَ بلا التزام ترتيب ونسق ؛ لكونها متساويةَ الأقدام في تحصيل الغرض ، ولا مزيد فائدة في التصريح بذلك التساوي ، بل هو كما تأمر أحدا يسألك عن كفّارة ماله - في الواقع ثلاث كفّارات كلٌّ تقوم مقام الاُخرى في حال السعة - بواحدة منها على سبيل الاتّفاق ، أو

ص: 88


1- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 357 .
2- اُنظر على سبيل المثال : الفقيه ، ج 1 ، ص 85 ، ذيل ح 188.
3- في المصدر : «بنهيه وعزامه» بدل «من عزائمه» .
4- الكافي ، ج 1 ، ص 266 ، ح 4 .

باعتبار تفرّسك أنّها أنسب بحاله، كالإعتاق بحال الغنيّ، والصومِ بحال الفقير ، ولا تتعرّض للبدل ؛ لعدم غرض يدعو إليه في الأغلب ، اللّهمَّ إلاّ أن يسأل: هل لها بدل ؟

ولا يخفى أنّ الترجيح بين المختلفين فرع ثبوت ورودهما عن المعصوم، وجواز العمل بكلّ مع عدم الآخر ثبوتا يسوغ العمل شرعا . فنسبة الأخباريّين إلى أنّهم يجوّزون العمل بأيّ خبر وُجد في ظهر كتاب تقوّل عليهم .

ومن أخبار هذا الصنف ما في الاحتجاج أيضا من أنّ الصاحب عليه السلام قال في جواب مكاتبة محمّد بن عبداللّه الحميري : «بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا».(1)

وسيجيء في باب اختلاف الحديث بعد نقل حديث الإرجاء : وفي رواية اُخرى : «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» .(2)

الصنف الثاني : في التوقّف في السعة، وأخذ مخالف المخالف في الضيق .

في الاحتجاج أيضا عن سماعة، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام : يرد علينا حديثان ؛ واحد يأمُرُنا بالأخذ به ، والآخَر ينهانا عنه . قال : «لاتعمل بواحد منهما حتّى تأتي(3) صاحبك، فتسأله عنه» . قلت : لابدّ أن يعمل(4) بأحدهما ، قال : «خُذ بما فيه خلاف العامّة» .(5)

أقول : معنى العمل بالحديث الآمر الفعلُ بنيّة أنّه ممّا أمر به الشارع ، فعدم العمل به إمّا بالفعل [لا] بالنيّة المذكورة أو بالترك . ومعنى العمل بالحديث الناهي التركُ بنيّة أنّه ممّا نهى الشارع ، فعدم العمل إمّا بالترك لا بالنيّة المذكورة أو بالفعل . وعلى هذا فالمغيّى إلى زمان إتيان الصاحب عليه السلام عدمُ لزوم شيء من الفعل والترك، والضرورةُ التي ادّعاها السائل وقوعه بين النقيضين ، والأخذ بما خالف العامّة في هذه الصورة ليس ترجيح أحد الخبرين اللّذين كلامنا فيهما ، أعني الخبرين المقترنين بما معه يصحّ العمل بكلّ واحد ، بل طريق العمل للجاهل الواقع بين النقيضين في المدّة التي يمكنه .

ص: 89


1- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 483 ؛ الغيبة للطوسي ، ص 378 . وفيهما : «من جهة التسليم» .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 66 ، باب اختلاف الحديث ، ح 7 .
3- في المصدر : «حتّى تلقى» .
4- في المصدر : «أن نعمل» .
5- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 357 .

الوصول إلى العالم ، مثل أن ساقه القضاء إلى بلاد العامّة ، وسيجيء في باب اختلاف الحديث عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمرٍ كلاهما يرويه ؛ أحدهما يأمره(1) ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع ؟ قال : «يرجئه حتّى يلقى مَن يُخْبِرُه ، فهو في سعةٍ حتّى يلقاه» .(2)

الصنف الثالث : في الأخذ بما خالف القوم من غير شرط بالضيق وعدم التمكّن من وجوه ترجيح أحدهما على الآخر .

في الفوائد المدنيّة : روى الشيخ قطب الدين الراوندي في رسالة ألّفها في بيان أحوال أحاديث أصحابنا بسنده عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان ، فخذوا بما خالف القوم».(3) فلينظر ذو طبعٍ سليم عن الاعوجاج؛ هل يحتمل هذا السياق أن يكون المراد بعد عدم التمكّن من وجه من وجوه الترجيح المفيدة للظنّ ؟ بل الظاهر بيان أنّه طريق سلوك في زمان الهُدْنة ، يُثاب عليه إذا عمل به على وجه التسليم ، كأنّه عليه السلام قال : إن تيسّر لكم سلوك هذا المسلك ، فافعلوا تسليما لنا ، وانتظارا لظهور الفرج ؛ فإنّه أحد ما رخّص لكم عند ورود حديثين مختلفين عليكم .

ووجه أنّ هذا الوجه لا يهنأ لبعض الطباع أنّ المركوز فيه أنّ غرضهم عليهم السلام بيان طريق العمل عند ورود الخبرين المختلفين أن يقترب من الحكم الواقعي، كما هو دأب المخطّئة من أهل الخلاف الذين يقولون على المجتهد أن يبذل الوسع في تقوية الظنّ بالحكم الواقعي بأيّ وجه أمكنه ، فإن أصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجرٌ واحد ، ومن استبصر بطريق أهل البيت عليهم السلام علم أنّ في البين مباينةً كلّية ، والحقّ أنّه لم يبهم شيء من الأحكام ، بل الكلّ محفوظ عند أهل الذكر ، واُمر الناس بالسؤال عنهم ، فإن تمكّنوا بإفتاء الأحكام الواقعيّة فالعمل عليها ، وإلاّ فعلى الأحكام الواصليّة على وجه التسليم لهم ، لا على أنّه مظنون . .

ص: 90


1- في المصدر : «يأمر بأخذه» .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 66 ، ح 7 .
3- الفوائد المدنيّة ، ص 381 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 118 ، ح 33363 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 235 ، ح 17 .

وفي الرسالة المذكورة أيضا عن الحسن بن الجهم : قلت للعبد الصالح عليه السلام : هل يسعنا فيما يرد علينا منكم إلاّ التسليم لكم ؟ فقال : «لا واللّه لا يسعكم إلاّ التسليم لنا» . قلت : فيروى عن أبي عبداللّه عليه السلام شيء، ويروى عنه خلافه ، بأيّهما نأخذ ؟ قال : «بما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه» .(1)

وروي بهذا الإسناد عن أبي عبداللّه البرقي ، عن أبيه ، عن محمّد بن عبيداللّه: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين ؟ فقال : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان، فانظروا ما يخالف منهما العامّة فخذوه ، وانظروا ما يوافق أخبارهم فدعوه» .(2)

الصنف الرابع : في العرض على الكتاب أوّلاً ، وإن لم يوجد في الكتاب، فالعرض على أخبار العامّة .

روى صاحب الفوائد عن الشيخ قطب الدين الراوندي بإسناده عن الصادق عليه السلام ، قال : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان، فاعرضوهما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فذروه ، فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه، فاعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق [أخبارهم] فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه» .(3)

أقول : الظاهر أنّ المخاطبين من لهم التمكّن من تمييز الناسخ من المنسوخ ، والمحكم من المتشابه ، فاُمروا بالعرض أوّلاً على الكتاب عسى أن يظفروا بما يوجب لهم العلم بأنّ متضمّن أحد الخبرين حكم واقعي ، فإن لم يظفروا، فالعرض على أخبار العامّة المفيدُ لمعرفة مخالفها ، وذلك من باب التسليم والإطاعة ، لا لأنّ خلافهم حكم واقعي البتّة ؛ إذ ربّما يتّفق أن يكون في أخبارهم حكم واقعي ، والخبر المخالف لها كذبا موضوعا أو ممّا شبّه للراوي . .

ص: 91


1- الفوائد المدنيّة ، ص 381 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 118 ، ح 33364 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 235 ، ح 18 .
2- الفوائد المدنيّة ، ص 382 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 119 ، ح 33367 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 235 ، ح 19 .
3- الفوائد المدنيّة ، ص 381 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 118 ، ح 33362 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 235 ، ح 20 .

الصنف الخامس : في العرض على الكتاب ، وفيه زيادة أنّ العرض على السنّة المقطوع بها لفظا ومعنىً في حكم العرض على الكتاب .

سيجيء في باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب عن عبداللّه بن أبي يعفور، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ، ومنهم من لا نثق به ، قال : «إذا ورد عليكم حديث ، فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه أو من سنّة رسول اللّه(1) صلى الله عليه و آله ، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به» .(2)

أقول : الخطاب مع علماء أصحاب الأئمّة عليهم السلام العارفين بفتاويهم ، النافذين للأخبار الذين ورد في شأنهم : إنّا نحبّ أن يجلس هؤلاء في المسجد ، فيعلّموا شيعتنا معالم الحلال والحرام ، كزرارة ومحمّد بن مسلم وأبان بن تغلب وأمثالهم .

والمراد بسنّة رسول اللّه الأحاديث المضبوطة بينهم في كتبهم المعروضة على الأئمّة عليهم السلام المشتهرة في تلك الأزمنة بالاُصول . وظاهر أنّ أحدا إذا جاء هؤلاء الأجلاّء بخبر ، فلم يجدوا له شاهدا من الكتاب والسنّة ، فهو محلّ الريبة .

والأظهر أنّ قوله عليه السلام : «فالذي جاء به أولى» كناية عن عدم جواز العمل به مطلقا .

وفي الفوائد المدنيّة عن الحسن بن الجهم ، عن الرضا عليه السلام ، قال : قلت : يجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ، قال : «ما جاءكم عنّا، فاعرضه على كتاب اللّه - عزّوجلّ - وأحاديثنا ، فإن كان ذلك يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا» .(3)

أقول : يتّضح المُشبِه وغير المُشْبِه في مثل فروعات الردّ والنقص والعول والتعصيب(4) ، وسيجيء في باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ على كلّ حقٍّ حقيقةً ، وعلى كلّ صوابٍ نورا ، فما وافَقَ كتاب اللّهة.

ص: 92


1- في المصدر : «من قول رسول اللّه» .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 69 ، ح 2 .
3- الفوائد المدنيّة ، ص 379 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 121 ، ح 33373 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 224 .
4- العول والتعصيب مسئلتان في فرائض الارث ، فالعول عبارة عن قصور التركة عن سهام ذوى الفرائض، ولن تقصر إلاّ بدخول الزوج والزوجة ، وهو في الشرع ضد التعصيب الذي هو توريث العصبة ما فضل عن ذوي السهام. وهما باطلان عند الشيعة الإماميّة.

فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فدَعوه» .(1)

وعن أيّوب بن الحرّ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «كلُّ شيءٍ مردودٌ إلى الكتاب والسنّة ، وكلّ حديثٍ لا يوافقُ كتابَ اللّه فهو زخرفٌ» .(2)

أقول : المراد بكتاب اللّه في هذا الحديث وأمثاله الآية المعلومُ عدمُ نسخها ، والمراد منها ببيانه صلى الله عليه و آله أو ببيان الأئمّة عليهم السلام . وفائدة هذه الأحاديث تمييز مزخرفات أهل السنّة ومفترياتهم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، مثل ما افتروا عليه من قول : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقةٌ»(3) ليتيسّر لهم غصب ميراث فاطمة عليهاالسلام ، وتأويل كتاب اللّه : «وَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ»،(4) «فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِى وَ يَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ»(5) .

وفي ذلك الباب أيضا عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «خطب النبيّ صلى الله عليه و آله بمنى ، فقال : أيُّها الناس ، ما جاءكم يُوافق كتابَ اللّه فأنا قُلْتُهُ، وما جاءكم يُخالف كتابَ اللّه فلم أقُلْه» .(6)

الصنف السادس : العمل بالاحتياط ، كما إذا كان الأمر دائرا بين الوجوب وجواز الترك ، أو بين الحرمة وجواز الفعل .

نقل عن محمّد بن جمهور الأحسائي في كتاب غوالي اللآلي أنّه قال : روى العلاّمة مرفوعا إلى زرارة بن أعين، قال : سألت الباقر عليه السلام ، فقلت : جُعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان [ المتعارضان...] ، وفي آخر الحديث : «إذن فخُذ بما فيه الحائطة لدينك ، واترك ما خالَفَ الاحتياط» .(7)

وفي التهذيب في بحث المواقيت : «ترى(8) أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك» .(9) .

ص: 93


1- الكافي ، ج 1 ، ص 69 ، ح 1 .
2- المصدر ، ح 3 .
3- صحيح مسلم ، ج 5 ، ص 152 ؛ سنن الترمذي ، ج 3 ، ص 82 ؛ السنن الكبرى للنسائي ، ج 4 ، ص 65 .
4- النمل (27) : 15 .
5- مريم (19) : 5 - 6 .
6- الكافي ، ج 1 ، ص 69 ، ح 5 .
7- عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 133 ، ح 229 .
8- في المصدر: «أرى لك» بدل «ترى» .
9- تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 259 ، ح 1031 ؛ الاستبصار ، ج 1 ، ص 264 ، ح 952 .

وفي مبحث الصيد : «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا» .(1)

الصنف السابع : في العمل بالخبر إذا وُجد عليه شاهد أو شاهدان من الكتاب ، وإلاّ فالوقوف ، ثمّ الردّ إليهم عليهم السلام وطلب الاستبانة .

في باب الكتمان من كتاب الكفر والإيمان في جملة حديث : «فإذا جاءكم عنّا حديثٌ ، فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه فَخُذوا به ، وإلاّ فَقِفوا عنده ، ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم» .(2)

أقول : ذكر الشاهدين للإشعار بأنّ شهادة الشاهد إذا كانت مفيدة لاطمئنان ضعيف - بأن كانت من جهة المفهوم لا المنطوق مثلاً ، ولا تقنع النفس - قوّاها بشاهد آخَرَ ، وهذا من باب التسليم لهم عليهم السلام وإطاعتهم كما في سائر رُخَصهم ، لا لتحصيل العلم بحقّيّة متضمّن الخبر ، كما في الشواهد المذكورة قبل .

الصنف الثامن : في الأخذ بالقول الأخير إذا علم التاريخ في باب اختلاف الحديث .

عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «أرأيتَك ، لو حَدَّثْتُك بحديثٍ العامّ ، ثمّ جئتني من قابلٍ ، فَحَدَّثْتُك بخلافه ، بأيّهما كنتَ تأخذ ؟» قال : قلت : كنتُ آخُذُ بالأخير ، فقال : «رحمك اللّه» .(3)

وعن المعلّى بن خنيس، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : إذا جاء حديثٌ عن أوّلكم، وحديثٌ عن آخركم، بأيّهما نأخذ ؟ فقال : «خُذوا [به] حتّى يبلُغَكم عن الحيّ [فان بلغكم عن الحيّ] فخذوا بقوله» . وفي حديث : «فخذوا بالأحدث» .(4)

قال الصدوق - طاب ثراه - في الفقيه في باب الرجل يوصي إلى رجلين حيث نقل .

ص: 94


1- تهذيب الأحكام ، ج 5 ، ص 466 ، ح 1631 . وهو في الكافي ، ج 4 ، ص 391 ، باب القوم يجتمعون على الصيد ... ، ح 1 .
2- الكافي ، ج 2 ، ص 222 ، ح 4 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 67 ، ح 8 .
4- المصدر ، ح 9 .

خبرين مختلفين :

لو صحّ الخبران جميعا ، لكان الواجب الأخذَ بقول الأخير ، كما أمر به الصادق عليه السلام ؛ وذلك أنّ الأخبارَ لها وجوهٌ ومعانٍ، وكلّ إمام أعلم بزمانه وأحكامه عن غيره من الناس . انتهى .(1)

أقول : الأخذ بقول الأخير أو بالقول الأخير إن علم التاريخ ، إمّا من جهة طروّ حالٍ يقتضي ذلك كالتقيّة ، أو لزوال حالة قد عُرضت قبل، واقتضت الأخذَ بالقول الأوّل .

ثمّ إنّ الإمام عليه السلام لم يشترط في العمل الفحصَ عن الحكم الواقعي بالعرض على أخبار العامّة أو بغيره من الوجوه ، فظهر من جميع ذلك أن ليس غرضهم في زمان الهُدْنة تحصيلَ الظنّ بالحكم الواقعي ، بل العمل بالحكم الواصلي إطاعةً وتسليما .

الصنف التاسع : في الأخذ بالخبر المشتهر بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، وترك الشاذّ النادر .

في كتاب غوالي اللآلي لمحمّد بن جمهور الأحسائي أنّه قال :

روى العلاّمة مرفوعا إلى زرارة بن أعين، قال : سألت الباقر عليه السلام ، فقلت : جُعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخذ ؟ فقال عليه السلام : «يازرارة ، خُذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودَعِ الشاذّ النادر» إلى أن قال : «إذن خُذ بما فيه الحائطة لدينك ، واترك ما خالف الاحتياط» .(2)

الصنف العاشر : ما في رواية عمر بن حنظلة المسمّاة بالمقبولة الجامعة لوجوه من الترجيحات المشعرة بالترتيب في باب اختلاف الحديث بالإسناد عن عمر بن حنظلة، قال :

سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَيْنٍ أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو القضاة ، أيحلّ ذلك ؟ قال : «مَن تَحاكَمَ إليهم في حقٍّ أو باطلٍ، فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سُحتا وإن كان حقّا ثابتا ؛ لأنّه أخَذَه

ص: 95


1- الفقيه ، ج 4 ، ص 203 ، ذيل 5472.
2- عوالي اللآلي، ج 4 ، ص 133 ، ح 229 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 245 ، ح 57 .

بحُكْم الطاغوت، وقد أمَرَ اللّه أن يُكفَرَ به ، قال اللّه تعالى : «يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوآاْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوآاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ»(1) .

قلت : فكيف يصنعان ؟

قال : «يَنْظُران مَن كان منكم ممّن قد روى حديثنا ، ونَظَرَ في حلالنا وحرامنا ، وعَرَفَ أحكامَنا ، فَليَرضَوا به حَكَما ؛ فإنّي قد جَعَلْتُه عليكم حاكما ، فإذا حَكَمَ بحُكْمنا - وفي بعض النسخ : فإذا حكَم بحُكْم - فلم يَقْبَلْه منه، فإنّما استخفَّ بحُكْم اللّه، وعلينا رَدَّ ، والرادُّ علينا كالرادّ على اللّه ، وهو على حدّ الشرك باللّه» .

قلت : فإن كان كلّ رجل اختارَ رجلاً من أصحابنا ، فَرَضِيا أن يكونا الناظِرَيْن في حقّهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلف في حديثكم ؟

قال : «الحُكْم ما حَكَمَ به أعدَلُهما وأفقَهُهما وأصدَقُهما في الحديث وأورَعُهما ، ولا يلتفِتْ إلى ما يحكم به الآخر» .

قال : قلت : فإنّهما عَدْلانِ مَرضيّانِ عند أصحابنا، لا يُفَضَّلُ واحدٌ منهما على صاحبه ؟

قال : فقال : «يُنْظَرُ إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حَكَما به المُجْمَعُ عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حُكمنا، ويُتْرَكُ الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ؛ فإنّ المُجْمَعُ عليه لا ريب فيه ، وإنّما الاُمور ثلاثة : أمرٌ بيِّنٌ رُشْدُه فَيُتَّبَعُ ، وأمرٌ بيّنٌ غَيُّه فيُجْتَنَبُ ، وأمرٌ [مشكلٌ] يُرَدُّ علمُه إلى اللّه وإلى رسوله صلى الله عليه و آله ؛ قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : حلالٌ بيِّنٌ ، وحرام بيِّنٌ ، وشبهاتٌ بين ذلك ، فمن تَرَكَ الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» .

قلت : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟

قال : «يُنْظَرُ ، فما وافَقَ حكمُه حكمَ الكتاب والسنّة وخالَفَ العامّةَ فيُؤخَذُ به ، ويُترك ما خالَفَ حكمُه حكمَ الكتاب والسنّة ووافَقَ العامّة» . .

ص: 96


1- النساء (4) : 60 .

قلت : جُعلت فداك ، أرأيتَ إن كانَ الفقيهان عَرَفا حكمَه من الكتاب والسنّة ، ووجدنا أحدَ الخبرين موافقا للعامّة، والآخَرَ مخالفا لهم ، بأيّ الخبرين يُؤخذ ؟

قال : «ما خالف العامّةَ ففيه الرَّشاد» .

قلت : جُعلت فداك ، فإن وافَقَهُما الخبران جميعا ؟

قال : «يُنْظَرُ إلى ما هم إليه أمْيَلُ حكّامُهم وقضاتُهم فيُترك ، ويؤخذ بالآخَر» .

قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا ؟

قال : «إذا كان ذلك، فأرْجِهْ حتّى تَلقى إمامَك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات» .(1)

أقول : قوله : «في دين أو ميراث» مورد السؤال وإن كان خاصّا إلاّ أنّ علّة المنع - وهو الكفر بالطاغوت - يقتضي حرمة الرجوع إليهم في مطلق الأحكام الدينيّة ، وليس هذا من القياس المحرّم ؛ لأنّ العلّة هناك مستنبطة ، وهاهنا مصرّحة .

وقوله عليه السلام : «ممّن روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا» يدلّ على أنّ المستحقّ لأن يُرجع إليه مَن كان بهذه الصفات ، دون أن يقرأ متن الشرائع مثلاً ، ولم يقابل كتب الأحاديث الأربعة أو قابلها ، واكتفى بما سمعه من الاُستاذ في بيان المراد من غير أن يتدبّر هو في كلّ حديث بعد أن يكون قد علم كيفيّة التدبّر ، وعلم حصول التمكّن منه ، كما هو مقتضى قوله عليه السلام : «ونظر في» إلى آخره .

وكيفيّة التدبّر وإن كانت غير منضبطة ولكلٍّ وجهة هو مولّيها(2) ، إلاّ أنّه يحصل بتتبّع الكتب الاستدلاليّة، والاطّلاع على ما قاله الاُصوليّون اطّلاعا إجماليّا ، دون صرف الأوقات في تدقيقاتهم وتطويلاتهم، حالةٌ يعلم بها ما ينبغي أن يفعل إن كان مجتنبا للجاه الباطل وحبّ القيل والقال بلا طائل .

وكفى تخويفا في هذا الباب قول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في صفة من تصدّى للحكومة بين الناس، وليس لذلك أهلاً : «إنّ أبغضَ الخلائق إلى اللّه تعالى .

ص: 97


1- الكافي ، ج 1 ، ص 67 ، ح 10 .
2- اقتباس من الآية 148 من سورة البقرة .

رجلان» إلى قوله : «رجلٌ قَمَشَ جهلاً في جهّال الناس(1) عانٍ - أو غانٍ(2) - في أغباش الفتنة ، عَمٍ بما في عَقد الهُدْنة ، قد سمّاه أشباه الناس عالما وليس به ، بَكَّرَ فاستكثر من جمعٍ ، ما قَلَّ منه خيرٌ ممّا كثر» الحديث(3) .

هذا على الحاكم والمُفتي .

وأمّا الذي على السائل والمُستفتي ، فتحصيل من كان موصوفا بهذه الصفات باعتقاده الحاصل بعد فحص وتفتيش بقدر الوسع ، ثمّ العمل بقوله ما دام يظنّ أنّ قوله وفعله للّه تعالى ؛ وهذا هو العدالة المعتبرة في قبول العامّي من عالِمه ؛ إذ لا سبيل إلى تحقيق ما هو بين أهل النظر مع اختلاف الآراء في شروطها .

ثمّ على الحاكم أن يكون قد حصل له مَلَكة العدالة التي استقرّ عليها رأيه، ولا يضرّ مقلّده لو كان مدلّسا مرائيا بالعمل بعد أن أتى المقلّد بما عليه ؛ فربّ واعظٍ يدخل النار ، ومتّعظٍ بموعظته يدخل الجنّة (شعر) :

كما سوّد القصّار في الشمس وجهه وبالغ في تبييض أثواب غيره(4)

وقد ورد في الحديث أنّ هذا العالم أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة .(5) .

ص: 98


1- في المصدر : «جهّال الاُمّة» .
2- في المصدر : «عادٍ» . وفي الكافي : «عان» . و «عان» اسم فاعل بمعنى الأسير ؛ يقال : عنا فيهم ، أي أقام فيهم على إسارة واحتُبس . أو بمعنى التَعِب ؛ يقال : عَنِي ، أي تعب . أو بمعنى المتّهم والمشتغل ؛ يقال : عنا به ، أي اهتمّ به واشتغل . ونقل المجلسي عن بعض النسخ : «غان» بمعنى عاش ومقيم ؛ من غني بمعنى عاش ، أو غني بالمكان ، أي أقام به . واختاره الداماد والفيض . راجع : التعليقة للداماد ، ص 126 ؛ شرح صدر المتألّهين ، ص 191 ؛ شرح المازندراني ، ج 2 ، ص 296 ؛ الوافي ، ج 1 ، ص 248 ؛ مرآة العقول ، ج 1 ، ص 188 ؛ الصحاح ، ج 6 ، ص 2440 و 2449 (عنو ، غني) .
3- نهج البلاغة ، ص 59 ، الخطبة 17 . وهو في الكافي ، ج 1 ، ص 54 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 6 .
4- فيض القدير ، ج 2 ، ص 537 . ونقله العلاّمة الأميني رحمه اللّه في الغدير ، ج 5 ، ص 432 عن الصفدي في تمام المتون ، ص 226 ، وعجزه هكذا : «حريصا على تبييض ثوب لغيره» . ونقل أيضا في أعيان الشيعة ، ج 10 ، ص 300 عن جمال الدين أبوالحسين يحيى بن عبدالعظيم الجزار المصري (ت 672) وعجزه فيه هكذا : «حريصا على تبييض أثواب غيره» .
5- الكافي ، ج 2 ، ص 175 ، باب زيارة الإخوان ، ح 2 ؛ و ص 299 ، باب من وصف عدلاً وعمل بغيره ، ح 1 ؛ الفقيه ، ج 1 ، ص 48 ، ح 96؛ وغيرها .

وقوله : «وكلاهما اختلف في حديثكم». فيه إشعارٌ بأنّه ينبغي أن يُختار للحكم مَن عُلم من حاله - إمّا من جهة الإخبار أو الاشتهار - أنّه لا يفتي إلاّ بمنطوقات الأحاديث ومدلولاتها الصريحة ولوازمها البيِّنة ، كابني بابويه وغيرهما من القدماء ، لا من كان مشتهرا بالإفتاء من جهة الظنون الحاصلة من الاعتبارات العقليّة ، والأمارات باللوازم الغير البيّنة ، والأفراد والجزئيّات الغير البيّنة الاندراج ، كما هو حال جمع من المتأخّرين ؛ فإنّ من تتبّع شروح الفقه والكتب الاستدلاليّة علم أنّ أكثر الاختلافات نشأ من جهة الاعتقاد بجواز الاعتماد على مطلق الظنّ ، اللّهمَّ إلاّ الحاصل بالقياس ؛ لصراحة النهي عنه ، واختلافُهم من جهة اختلاف الأخبار والترجيحات المأثورة قليل .

ثمّ إنّ اختلافهما في الحديث بأن يدّعي أحدهما وجود خبر عنده صحيحٍ مقتضاه بحسب نظره كذا وكذا ، ويدّعيَ الآخَر مقابله، ولم يذكرا الحديثين ، أو ذكرا مجرّدا عن الإسناد وبيان وجه الاستناد لعدم الفائدة للمستفتين ؛ إذ ليسا من أهل النظر على ما هو المفروض ، فذكر الأعدل والأوثق ليترجّح عند المتحاكمين ادّعاء الموصوف بالأعدليّة والأوثقيّة لوجود الخبر الموثوق به على ادّعاء الآخر له ، وذكر الأفقه ليترجّح نظر الموصوف بالأفقهيّة على نظر الآخر ، وذكر الأورع ليترجّح نظر الموصوف بالأورعيّة من جهة عدم المساهلة في تدقيق النظر وعدم ميله واتّباع هواه على الآخر .

وفي قوله عليه السلام : «الحكم ما حكم به» إلى آخره ، دلالة على ما قلناه .

وقوله : «ليس بمشهور عند أصحابك» بعد قوله : «المجمع عليه» لبيان أن ليس المراد بالإجماع مصطلحَ الاُصوليّين ، بل ما اشتهر اعتباره والعمل به بين الفرقة المحقّة الذين لم يخلطوا طريقتهم بطريقة المخالفين ، كالكليني، وابني بابويه، ومن تقدّمهم من الأخباريّين ذوي البصيرة .

والمجمع عليه بهذا المعنى لا ريب في حقّيّته ؛ لأنّ حجّيّة الإجماع باعتبار دخول المعصوم ، ولا ريب أنّ ما كان العمل به مشتهرا بين الأصحاب في زمانهم عليهم السلام كان مأخوذا منهم ، ومعلوما أنّهم عليه ، وليس الاشتهار من جهة الرأي والاجتهاد الذي بين

ص: 99

العامّة ، وإذ فرض الراوي أنّ الحاكمين المتمسّك كلّ منهما بخبر رواه عدلان مرضيّان، فليس واحد من الخبرين منحولاً إلى الأئمّة عليهم السلام ، فإذا كان أحدهما مشتهرا بين الأصحاب والآخر غير مشتهر ، فعدم الاشتهار إمّا من جهة اشتباهٍ وقع فيه من راويه؛ فإنّ كونه عدلاً مرضيّا إنّما ينافي الكذبَ والميلَ إلى هواه ، لا وقوعَ الاشتباه . وإمّا من جهة أنّ متضمّن الخبر من باب الرخصة ، والرخصة في الأغلب ما كان مرجوحا بالنسبة إلى الأصل والعمل به ؛ لطروّ ضرورة مثل تأخير من شَغَلَهُ شاغل قويّ الظهرين إلى أن يبقى من اليوم بمقدار ثمان ركعات ، ولأجل ندرة الطروّ لم يشتهر ، فإذا احتمل الطرفين فهو من الشبهات .

فقوله عليه السلام في ذلك السياق : «وإنّما الاُمور ثلاثة» إلى آخره، لبيان أنّ غير المشتهر ليس ممّا يحكم بعدم وروده من المعصوم ، بل ممّا لا يعمل به ؛ لكونه من الشبهات التي من ارتكبها وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم، على تقدير كون احتمال المحرّم هو الواقع .

فالبيّن رشدُه : ما ثبت الرخصة بعمله، سواء كان العمل من جهة الترجيح بأحد من وجوه المرجّحات المأثورة - اتّفق مطابقته للحكم الواقعي ، أو لم يتّفق - أو من جهة العلم بكون عمل الرسول والأئمّة عليهم السلام على ذلك ، كما في المشتهر بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام .

والبيّن غيُّه : ما وجب تجنّبه ، سواء كان من جهة كونه خلاف الاُمّة ، أو من جهة اختصاصه بالعامّة، وعدم ورود الرخصة من الأئمّة عليهم السلام بالعمل به لغير التقيّة .

والشبهات : ما كان متّصفا بصفة مسوّغة للعمل ، مثل كونه من أخبار كتب معروفة بين القدماء ، غيرِ ممنوع عندهم الأخذُ منها وإعمال وجوه الترجيحات المأثورة عن الأئمّة عليهم السلام فيها ، ككتاب حريز ونوادر الحكمة وأمثالهما ممّا ذكره الصدوق في أوائل الفقيه ، والشيخ في أواسط التهذيب ، ومع ذلك كان محلاًّ للريبة ؛ بسبب مصادفة أمر كمعارضة المشتهر بين أصحاب الأئمّة إيّاه ، وقد ورد في الخبر : «دَعْ ما

ص: 100

يُريبُك إلى ما لا يُريبُك »(1) هذا .

وقوله عليه السلام : «وأمرٌ مشكل يردّ علمه إلى اللّه ورسوله» يدلّ على أنّ التخلّص من المشكل إنّما هو بالسؤال ؛ لأنّ الردّ كناية عن ذلك .

وفي هذا ردٌّ صريح على المخطّئة الذين يقولون : لنا في المشكل أن نجيل فكرنا ونرجّح طرفا ؛ فإنّ كثيرا ممّا يحتاج إليه الاُمّة قد أبهم اللّه حكمه الذي قدّر في اللوح ، ولم يُعلم به نبيّه ؛ ليكون مجالاً لأفكار العلماء ، فيثابوا ثوابين إن اتّفق الإصابة ، وواحدا إن أخطأوا ، وليس ممّا جاء به النبيّ واستودعه اُولي الأمر وأمر الناس بالسؤال عنهم ؛ «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىآ أُوْلِى الاْءَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»،(2)النهاية ، ج 2 ، ص 179 (رأى) .(3) «فَاسْأَلُوا اْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(4) .

قال ابن الأثير في النهاية : «المحدّثون يسمّون أصحاب القياس أصحاب الرأي ؛ يعنون أنّهم يأخذون بآرائهم فيما يشكل من الحديث ، أو ما لم يأت فيه حديث ولا أثر »(4) انتهى .

ثمّ من الظاهر أنّ السؤال عند التيسّر ، فإذا لم يتيسّر فإن أمكن التوقّف أو الاحتياط ، وإلاّ فالعمل بأيّهما شاء على وجه التسليم .

وهاهنا إشكال: وهو أنّه قد بيّن صلى الله عليه و آله أنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، فكان المناسب أن يأمر به أوّلاً، وقدّم اعتباره على اعتبار الأعدليّة .

والجواب: أنّ الغرض نهجُ عدّةِ سُبُلٍ يحصل بكلّ منها الخروج عن مضيق الحيرة في زمان الهدنة ، إلى أن يأذن اللّه لوليّ الأمر إعلان الحقّ والصدع بالأحكام الواقعيّة ، وتصيرَ كلمة اللّه هي العُليا ، ويتقشّعَ بنور الحقّ غمائم الباطل التي طبّقت وعمّت وجه.

ص: 101


1- الانتصار ، ص 363 ، المسألة 145 ؛ الناصريّات ، ص 139 ، المسألة 38 ؛ إرشاد القلوب ، ج 1 ، ص 12 ؛ غررالحكم ، ص 71 ؛ كشف الغمّة ، ج 1 ، ص 535 ؛ عوالي اللآلي ، ج 3 ، ص 330 ، ح 214 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 167 ، ح 33506، عن جوامع الجامع . سنن الترمذي ، ج 4 ، ص 77 ؛ سنن النسائي ، ج 8 ، ص 327 ؛ مسند أحمد ، ج 1 ، ص 200 ؛ المستدرك للحاكم ، ج 2 ، ص 13 .
2- النساء
3- : 83 .
4- النحل (16) : 43 .

الدنيا ، وليس الغرض إلزامَ الترتيب ، ولعلّك مستغنٍ في إثبات عدم لزومه بما سمعت في خلال ذكر أصناف وجوه الترجيح ، وإن ذكر في هذا الحديث بعض الوجوه عقيب سؤال عن عدم تيسّر بعض ، فهو من باب ذكر إحدى الكفّارات على أنّه إحدى ما تجزي ، ثمّ تعقّبها باُخرى إذا أظهر عدم تيسّر تلك ، لا على لزوم تقديمها على غيرها، وتخصيصها بالذكر لابتدارها إلى الذهن ، أو لمناسبتها لحال السائل ، مثل ذكر الصوم لمن شُوهِد من حاله الفقرُ ، وذكر إعتاق الرقبة لمن شوهد من حاله الغنى ، فلستَ ذكرتها على الوجه الذي ذكرتها لضرورة الترتيب ، بل لأنّها إحدى ما يحصل به التخلّص .

وقوله عليه السلام : «ينظر فيما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به»؛ يعني إن تمسّك كلّ واحد من المفتين برواية عنده ، ولم يرَ ما عند الآخر راجحا على ما عنده ، فطريق الفصل أن ينظر أيّ الروايتين موافقة للكتاب والسنّة ومخالفة للعامّة، فيأخذانها، ويتّفقان على الإفتاء بها ، ويتركان الاُخرى .

والمراد بالكتاب والسنّة، الظاهر المفيد للاطمئنان بصحّة متضمّن الخبر ، لا النصّ المعلوم المراد ، ولهذا احتيج إلى تقوية الاطمئنان بانضمام مخالفة العامّة واعتبارها أيضا ؛ مثال ذلك خبران ورد أحدهما في مسح الرجلين ، والآخر في غَسلهما ، وكلّ منهما مرويّ عن ثقة عدل، لا يفضل أحدهما على الآخر ، والاُولى موافقة لظاهر آية «وَأَرْجُلَكُمْ»(1) على قراءة الجرّ ، والاُخرى لظاهر الآية على قراءة النصب ، والاُولى مخالفة لمذهب العامّة ، فترجّح على الاُخرى .

وظاهر أنّ اعتبار الموافقة للكتاب والسنّة لا يتأتّى ولا يستتبّ(2) للعامّي المستفتي ، ولهذا جعلناه ضابطة للمفتي ؛ ويشهد لذلك قول السائل : «أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة» إلى آخره ؛ يعني إن ادّعى كلاهما أنّهما عرفا حكمه من الكتاب والسنّة، بقي نزاعنا بلا فصل ، غير أنّا نقدر على أن نعلم بالسؤال عن الناس ما يوافق مذهب العامّة ، فقوله عليه السلام : «ما خالف العامّة ففيه الرشاد» ضابطة للمستفتي في هذه الصورة . .

ص: 102


1- المائدة (5) : 6 .
2- لايستتب ، أي لايستقام ولايتبيّن . الصحاح ، ج 1 ، ص 90 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 226 (تبب) .

وقوله عليه السلام : «فارجه حتّى تلقى إمامك». في القاموس : «الإرجاء : التأخير»(1) .

فإن كان الغرض إثبات الفعل للفاعل مطلقا من غير اعتبار تعلّقه بمن وقع عليه ، نزّل التأخير المتعدّي منزلةَ اللازم ، ولم يقدّر له مفعول ، كما قيل في قوله تعالى : «هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ»؛(2) فإنّ المعنى : لايستوي من وجد له حقيقة العلم ومن لا يوجد ، فالهاء في «ارجه» للسكت ، والمعنى : فعليك بالتوقّف والحال هذه ، إلى زمان لقاء إمامك . ويحتمل أن يكون الهاء ضميرا راجعا إلى فصل الأمر المدلول عليه بسياق الكلام .

وكيف كان ، فالعمل في مدّة الإرجاء ينبغي أن يكون بالاحتياط .

ولا يجري في الواقعة المفروضة في هذا الحديث العملُ بأيّما أخذت من باب التسليم وسعك ؛ لأنّ العادة لم تجر بانفصال نزاع المتخاصمين بذلك .

نعم ، يمكن للمدّعي أن يصبر على الضرر، ويترك النزاع للاحتياط ، ولأجل هذا لم يذكر في هذا الحديث التخلّص بالعمل بأيّما شاء على وجه التسليم مع كمال البسط والتفصيل ، ولكون هذا النوع من التخلّص غير داخل في وجوه الترجيح ، بل هو ترك الترجيح ، لم أتعرّض له حين ذكر الوجوه العشرة .

وينبغي أن لا يغفل أنّ ذلك فيما يجري ذلك إنّما هو بعد ثبوت المتعارضين عن المعصوم عليه السلام ثبوتا شرعيّا ، فهو وسائر أصناف التخلّص - التي تحصل بإعمال الوجوه المأثورة للترجيح - متساويان في كونهما على وجه الإطاعة لهم عليهم السلام ، وغرضهم نهج مناهجَ تخرج شيعتهم عن بيداء الحيرة ، ويسلكونها في زمان الفترة ، فالرجوع إلى وجوه الترجيح التي قرّروها لنا وعدم القناعة بعدم الترجيح أيضا من باب التسليم لهم والائتمام بهم ، لا لتحصيل الظنّ بإصابة الواقع .

وبالجملة : المدار في هذه الأعصار - التي لم تصل أيدينا إلى صاحبنا صلوات اللّه عليه وعلى آبائه الطاهرين - العملُ بالأحكام الواصليّة ، ولا ضرورة لنا - معاشرَ .

ص: 103


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 333 (رجأ) .
2- الزمر (39) : 10 .

المستضعفين - إلى الفحص والتفتيش عن الأحكام الواقعيّة بالآراء والظنون ، فمن شاء أن يرافقنا فليرافقنا .

وما أشدّ مناسبةً للمقام ما قال الحكيم الغزنوي في أواخر الحديقة (نظم) :

چار يارى گزيده اهل سنا *** برتن وجانشان زبنده دعا

مصطفا و وصىّ و دو پسرش(1) *** آنكه سوگند من بُوَد به سرش

دوستدار رسول و آل وِيَم *** زانكه پيوسته در نوال وِيَم

گر بَدَست اين عقيده و مذهب *** هم برين بَدْ بدارِيَم يارب(2)

وإذا كان العمل بالترجيحات المأثورة والعمل بأيّهما شئت كلاهما من باب التسليم ، ولا شكّ أنّ الثاني أسهل وأوسع، ونعمة ورخصة من أئمّتنا عليهم السلام ، وترك الأسهل والتزام الأوّل كالردّ للنِّعمة ، فصحّ قول الكليني قدّس اللّه روحه : (ولا نجد شيئا أوسع ولا أحوط من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك») .

أقول : من البيّن أنّ العمل بخبر «أيّهما أخذت» وأخبار الترجيح فرع صحّتها كما اُشير إليه ، فلابدّ من بيان معنى الصحّة وما تحصل به .

قال الشيخ الجليل بهاء الملّة والدِّين - قدّس اللّه روحه - في مقدّمة مشرق الشمسين :

قد استقرّ اصطلاح المتأخِّرين من علمائنا - رضي اللّه عنهم - على تنويع الحديث المعتبر - ولو في الجملة - إلى الأنواع الثلاثة المشهورة : أعني الصحيح، والحسن، والموثّق ؛ بأنّه إن كان جميع سلسلة سنده إماميّين ممدوحين بالتوثيق فصحيحٌ ، أو إماميّين ممدوحين بدونه كلاًّ أو بعضا مع توثيق الباقي فحسنٌ ، أو كانوا كلاًّ أو بعضا غير إماميّين مع توثيق الكلّ فموثّقٌ .

وهذا الاصطلاح لم يكن معروفا بين قدمائنا - قدّس اللّه أرواحهم - كما هو ظاهر لمن مارَسَ كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلّ حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه ، أو اقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه ، وذلك باُمور :6.

ص: 104


1- فى المصدر: «مرتضى و بتول و دو پسرش».
2- حديقة الحقيقة ، ص746.

منها : وجوده في كثير من الاُصول الأربعمائة التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمة سلام اللّه عليهم ، وكانت متداولة لديهم في تلك الأعصار ، مشتهرة بينهم اشتهارَ الشمس في رابعة النهار .

ومنها : تكرّره في [ أصل أو] أصلين منها فصاعدا بطرق مختلفة وأسانيدَ عديدةٍ معتبرة .

ومنها : وجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمّد بن مسلم والفضيل بن يسار ؛ أو على تصحيح ما يصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ويونس بن عبد الرحمن وأحمد بن محمّد بن أبي نصر ؛ أو على العمل بروايتهم ، كعمّار الساباطي ونظرائه ممّن عدّهم شيخ الطائفة في كتاب العدّة، كما نقله عنه المحقّق في بحث التراوح من المعتبر .

ومنها : اندراجه في أحد الكتب التي عُرضت على أحد الأئمّة عليهم السلام ، فأثنوا على مؤلّفيها، ككتاب عبيداللّه الحلبي الذي عرض على الصادق عليه السلام ، وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكري عليه السلام .

ومنها : ما أخذه من أحد الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الفرقة الناجية الإماميّة، ككتاب الصلاة لحريز بن عبداللّه وكتب بني سعيد وعلي بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ككتاب حفص بن غياث القاضي والحسين بن عبيد اللّه السعدي وكتاب القبلة لعليّ بن الحسن الطاطري . وقد جرى رئيس المحدِّثين ثقة الإسلام محمّد بن بابويه - قدّس اللّه روحه - على متعارف القدماء في إطلاق الصحيح على ما يركن إليه ويعتمد عليه ، فحكم بصحّة جميع ما أورده من الأحاديث في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وذكر أنّه استخرجها من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع ، وكثير من تلك الأحاديث بمعزل عن الاندراج في الصحيح على مصطلح المتأخّرين ، ومنخرط في سلك الحسان والموثّقات ، بل الضعاف .

وقد سلك على ذلك المنوال جماعة من أعيان(1) علماء الرجال ، فحكموا بصحّة [حديث] بعض الروات الغير الإماميّة ، كعليّ بن محمّد بن رباح وغيره ؛ لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم ، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الذين انعقد الإجماع على تصحيح ما يصحّ.(2)

ص: 105


1- في المصدر : «أعلام» .
2- مشرق الشمسين ، ص 269 - 270 .

انتهى ما أردنا نقله عن الشيخ بهاء الملّة والدِّين من كتاب مشرق الشمسين .

ومثله قال صاحب الوافي قدّس اللّه روحه .(1)

وقال شيخنا البهائي أيضا في الكتاب المذكور بعد نقل تقسيم الأحاديث بالأقسام الأربعة :

وأوّل من سلك هذا الطريق من علمائنا المتأخّرين شيخنا العلاّمة جمال الحقّ والدِّين الحسن بن المطهّر الحلّي قدّس اللّه روحه ، ثمّ إنّهم - أعلى اللّه مقامهم - ربّما يسلكون طريقة القدماء في بعض الأحيان ، ويصفون مراسيل بعض المشاهير - كابن أبي عمير وصفوان بن يحيى - بالصحّة ؛ لما شاع من أنّهم لا يرسلون إلاّ عمّن يثقون بصدقه ، بل يصفون بعض الأحاديث التي في سندها من يعتقدون أنّه فطحي أو ناووسي بالصحّة ؛ نظرا إلى اندراجه فيمن أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنهم ، وعلى هذا جرى العلاّمة قدّس اللّه روحه في المختلف حيث قال [في مسألة ظهور فسق إمام الجماعة : «إنّ حديث عبداللّه بن بكير صحيح» (2) ، وفي الخلاصة حيث قال :] «إنّ طريق الصدوق إلى أبي مريم الأنصاري صحيح ، وإن كان في طريقه أبان بن عثمان»(3) مستندا في الكتابين إلى إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهما. وقد جرى شيخنا الشهيد الثاني - طاب ثراه - على هذا المنوال أيضا ، كما وصف في بحث الردّة من شرح الشرائع حديث الحسن بن محبوب عن غير واحد بالصحّة(4) . وأمثال ذلك في كلامهم كثير ، فلا تغفل .(5) انتهى .

وأنا أقول : لا ينبغي التوقّف في أنّ الحديث إذا كان بحال يحصل لمن يطّلع عليها سكون واطمئنان بوروده عن المعصوم عليه السلام ، جاز له التمسّك به في إثبات حكم واصلي ، وصحّة الحديث التي يحتاج إليها هي كون الحديث بهذه الحالة ، وما زاد فهو فضل غير واجب الاعتبار . اللّهمَّ إلاّ أن يكون لمراتب الاطمئنان ، فتسمية مفيدٍ كلّ مرتبةٍ باسم خاصّ لا يقدح في معنى الصحّة الواجبِ اعتبارها ، المنحفظةِ في ضمن الأقسام .

ص: 106


1- الوافي ، ج 1 ، ص 22 .
2- مختلف الشيعة ، ج 3 ، ص 71 .
3- خلاصة الأقوال ، ص 438 .
4- مسالك الأفهام ، ج 15 ، ص 25 .
5- مشرق الشمسين ، ص 270 .

المشهورة وغيرها ، وجَرْيُ الأعاظم - الذين نقلهم الشيخ في كتاب مشرق الشمسين - على ما جروا بناؤه على ما ذكرنا ، وليس ما نقله غير الثقة الإمامي ممّا لا يعتمد عليه عند القدماء بمجرّد نقله ، إلاّ إذا اقترن بما يزيل الاطمئنان ، ولا ما نقله غير الثقة ممّا وجب العمل به عند المتأخّرين إن كان مقترنا بما يزيل الاطمئنان ، ولا ما نقله غير الثقة - وكان مقترنا بما يفيد الاطمئنان - ممّا لايعمل به عند الفريقين .

وكلّ ذلك إذا كان الخبر ممّا في الكتب المشهورة بين قدماء الأصحاب التي نقلها الصدوق - طاب ثراه - في أوّل الفقيه(1) ، وبذلك امتاز عن سائر أخبار الآحاد .

فليس في إثبات تعدّد الاصطلاح الموجب للوحشة المحوج إلى الاعتداد كثيرُ فائدةٍ ، مع ما فيه من إثارة نَقْع(2) القيل والقال .

فلننتقل إلى نحوٍ آخَرَ من الكلام :

اعلم أنّه أخبر المصنّف - قدّس اللّه روحه - أنّ ما أودع في هذا الكتاب كلّها من الآثار الصحيحة التي عليها العمل ، وبها يؤدّى فرض اللّه عزّوجلّ ، ولا شكّ أنّ أخبار الكافي باعتبار هذه الأخبار يكون الاطمئنان بصحاحها أقوى من الاطمئنان بصحاح عيون الأخبار وأمثاله ممّا كان الاطمئنان به من جهة السند فقط ، وكذا القول بحِسانها وموثّقاتها بالنسبة إلى موثّقاته وحسانه ، بل عندي أنّ ضِعافها تعادل موثّقاته .

ولولا منظور ثقة الإسلام رجحان أخبار الكافي على سائر الأخبار ، وكان الكلّ متساويَ الأقدام في تعرّف الحال بملاحظة السند ، لكان وصفه إيّاها بالصحّة لغوا من الكلام ، بل كاد أن يكون إغواءً لمصدّقيه ؛ وحاشاه من ذلك .

فإن قلت : إذا كان في إخباره بصحّة أخباره كفاية عن مؤونة ملاحظة السند ، فما وجه ذكر الأسانيد ؟ ولِمَ لم يقتصر على المتون ؟

قلت : إنّه - طاب ثراه - أخذ أخباره من اُصول كانت معمولاً بها ، معوّلاً عليها بين شيوخ أصحاب الأئمّة عليهم السلام وعلمائهم ، كما أنّ أخبار الفقيه أيضا كذلك على ما صرّح .

ص: 107


1- الفقيه ، ج 1 ، ص 3 و 4.
2- نقع الصوت : إذا ارتفع . كتاب العين ، ج 1 ، ص 171 (نقع) .

مؤلّفه قدس سره ، وتلك الاُصول وإن كانت لغاية شهرتها مستغنية عن أن يطلب سندها ويعتمد عليها من جهة السند ، لكنّ الشائع المتعارف روايتها عن مشايخ الإجازة من باب نقلنا لحديث الكافي عن مشايخنا في الإجازة إلى أن يبلغ إلى الكليني ، ثمّ عنه إلى المعصوم عليه السلام بالسند الذي في الكافي ، ولا نبالي بعدم ثقة المشايخ ، وكان الاعتماد فيما أخذه المصنّف - طاب ثراه - من الاُصول على شهرتها وشهرة العمل بما فيها بين علماء الأصحاب وعظمائهم ، وإن تكلّموا أحيانا في أحوال رجال السند، فذلك إمّا لحصول مراتب الاطمئنان المنحفظ في الجميع من جهة الاعتماد على المآخذ - أي الاُصول - وإمّا من جهة إظهار كمال الاطمئنان بصحّة الخبر الذي نقل عن غير العادل المحكوم عليه وعلى غيره من أخبار الكتاب في أوّل الكتاب بالصحّة ، مع إظهار أنّ الراوي ليس مرضيّا ، كما ذكر الصدوق قدس سره في كتاب إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة مذمّةً كثيرةً لأحمد بن هلال(1) ، ومع ذلك نقل عنه الأخبار في الفقيه،(2) وذكر في أوّله : أنّي لستُ ممّن يروي كلّ ما روي له ، بل أروي ما أعتمد عليه وأحكم بصحّته(3) . وهل عدم المبالاة بذلك إلاّ لما ذكرناه ؟

ولننتقل إلى نوع آخر من الكلام :

اعلم أنّ آراء مصنّفي كتب الرجال في كثير من الرواة مختلفة يحتاج الفقيه إلى الترجيح ، وكذا أسماء كثير من الرواة مشتركة ، يحتاج في الإخراج من الاشتراك إلى الفحص عن الأمارات الظنّية ، وإذ لم يكن بدّ في تحصيل الاعتقاد بصحّة الخبر من جهة السند إلى ترجيح ظنّي ، فالظنّ بالرؤوف الرحيم - تعالى شأنه - أن لا يداقّ ذوي الألواح الساذجة التي حصل لهم بتتبّع أحوال صاحب الكافي ظنّ قويّ بأنّه صادق فيما أخبر به من أنّه أخذ أخباره من كتب معتبرة كان عليها اعتماد الأصحاب ، وبرواياتها .

ص: 108


1- راجع : كمال الدين ، ج 1 ، ص 76 .
2- لم نجد نقله رحمه اللّه عن أحمد بن هلال في الفقيه إلاّ واحدا : ج 3 ، ص 143 ، ح 3526 .
3- الفقيه ، ج 1 ، ص 2 ، ونصّه هكذا : «ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رَوَوْه ، بل قصدتُ إلى إيراد ما أفتى به، وأحكُمُ بصحّته، وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني و بين ربّي» .

العمل في كلّ باب، وإن اُودعت فيها بأسانيد مخصوصة ، وأنّه - طاب ثراه - لم يحكم بصحّة تلك الأخبار إلاّ بعد اقترانها بما يوجب كمال الاطمئنان والوثوق بورودها عن المعصومين عليهم السلام ، ومتضمّناتها أحكام واصليّة جائزة العمل بها إلى زمان ظهور وليّ الأمر وصاحب العصر صلوات اللّه عليه وعلى آبائه الكرام .

وقد أعطانا الإمام عليّ بن الحسين عليهماالسلام في هذا الباب دستورا لنعمل به ؛ قال عليه السلام بعد ذكر الصحابة المرضيّين :

«اللّهمَّ وأوْصِلْ إلى التابعينَ لهم بإحسان [...] الذين قَصَدوا سَمْتَهم ، وتَحَرَّوْا وِجْهَتَهم ، ومَضَوْا على شاكلتهم ، لم يَثْنِهِمْ ريبٌ في بصيرتهم ، ولم يَخْتَلِجْهم شكٌّ في قَفْو آثارهم والائتمام بمنارهم(1) ، مُكانفين ومُوازرين لهم ، يَدينونَ بِدينهم ، ويَهتدونَ بِهَدْيِهم ، يَتّفقونَ عليهم ، ولا يَتَّهِمُونَهم فيما أدّوا إليهم» الدعاء .(2)

ولعلّ ظنّنا واطمئناننا بورود تلك الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام ، الحاصل من جهة أخبار هؤلاء الأخيار ، ليس بأقصر من الظنّ الحاصل بالاجتهاد بين آراء الجارحين والمعدّلين، الذين كان من الظاهر البيّن أنّ تلك الآراء لم تحصل لهم بالمعاشرة أو الشياع إلاّ في قليل ، وفي الباقي إمّا بنقل النقلة - وإذ لم يذكروا أسماءهم ، فمن أين لنا المعرفة بحالهم - أو بالروايات التي يحتاج إلى النظر في أسانيدها .

فما ذكره مؤلّفو كتب الرِّجال من أحوال من لم يكن معاصرا لهم ، بل كان قبلهم بسنين كثيرة ، قبولنا له بمحض حسن ظنّنا بهم أنّهم لم يألوا جهدا في تحصيل الاطمئنان ، مع أنّه يُحتمل أن يكون على وجه اجتهاد منهم ، وكانوا قد أخطأوا ؛ لمساهلةٍ وتقصير في بذل المجهود ، فلو قلنا على سبيل حسن ظنّ بثقة الإسلام : إنّه لم يَأْلُ جهدا في تعرّف أحوال الخبر الذي أدّاه إلينا وأخبر بصحّته ؛ بمعنى أنّه كان معمولاً بين علماء أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، مرجعا لعظماء الشيعة ، لا بمعنى أنّي ظانّ بثقة راويه ، أو .

ص: 109


1- في المصدر : «والائتمام بهداية منارهم» .
2- الصحيفة السجّاديّة ، ص 40 ، الدعاء 4 .

مجتهدٌ بصدق متضمّنه ، كيف ومن رجال بعض الأسانيد من هو مشهورٌ بالكذب وفساد المذهب وسوء الحال ، كأحمد بن هلال ومن لُقّبوا بالممطورة؛(1) لعداوتهم مع الأئمّة عليهم السلام ، والواقفيّة التي كانوا على الوقف مدَّةَ حياتهم ؟! وهل يظنّ بثقة الإسلام ومن كان مثلَه في ثقته وعقله ودينه أن يحكم بما ظنّ بصحّته من جهة ظنّ بحسن حال رجال سنده، بأنّي أوردته ليكون مرجعا للإخوان، يعملون به إلى انقضاء الدهر ، وما عسى أبو حنيفة يتوقّع من أصحابه ذلك مع جرأته على اللّه وعدم ديانته وتقواه ؟!

وقد تلخّص بما ذكرنا أنّ طريق السلوك في أخبار الكافي وما كان مثله - ممّا اُخبر بصحّته بالمعنى الذي ذكرناه - أن لا يترك الحديث بمجرّد أنّ راويَهُ ممّن لم يُذكر في كتب الرِّجال بالتوثيق ، بل يجعل تصحيح المؤلّف لأصل الحديث بمنزلة توثيق الرِّجاليّين لراويه إن لم يجعل أقوى ، ويجري في المتعارضات الترجيحاتُ المأثورة على وجه الأخذ بالأحرى إن تيسّر ، وإلاّ العمل بواحد على وجه التسليم ، وأنّه حكمٌ واصليّ إلى زمان فرج آل محمّد عليهم السلام ، الذي هو زمان ظهور الأحكام الواقعيّة ، كما أنّ فصل المرافعات في هذه النشأة بالظاهر ، والحكم الواقعي في النشأة الآخرة ، ويحتاط في العمل بقدر أن لايُفضي إلى الضيق والشغل عمّا هو أهمّ من الضروريّات الدينيّة والمعارف اليقينيّة ، وسيجيء في كتاب الإيمان والكفر أنّ «أفضل العبادة إدمان التفكّر في اللّه وفي قدرته» .(2)

نقلُ مقالٍ لينتفع به من فُتحت عين عبرته :

قال الشيخ الجليل بهاء الملّة والدِّين قدس سره في مشرق الشمسين :

فإن قلت : إنّ كثيرا من الرواة كعليّ بن أسباط والحسن بن بشّار وغيرهما كانوا أوّلاً من غير الإماميّة ، ثمّ تابوا ورجعوا إلى الحقّ ؛ والأصحاب يعتمدون على حديثهم ويثقون .

ص: 110


1- الممطورة : الكلاب المبتلّة بالمطر . ولقّبوا الواقفيّة وبعض فرق الشيعة المنحرفة بذلك ، بمناسبة كمال الاحتراز عنهم ، ككمال الاحتراز عن تلك الكلاب . راجع : بحار الأنوار ، ج 48 ، ص 268 .
2- الكافي ، ج 2 ، ص 55 ، باب التفكّر ، ح 3 .

بهم ، من غير فرق بينهم وبين ثقاة الإماميّة الذين لم يزالوا على الحقّ ، مع أنّ تأريخ الرواية عنهم غير مضبوط ليعلم أنّه هل كان بعد الرجوع أو قبله ، بل بعض الرواة ماتوا على مذاهبهم الفاسدة من الوقف ، وكانوا شديدي التعصّبِ والتصلّبِ فيه ، ولم يُنقل رجوعهم إلى الحقّ في وقتٍ من الأوقات أصلاً ، والأصحاب يعتمدون عليهم ويقبلون أحاديثهم ، كما قبلوا حديث عليّ بن محمّد بن رباح ، وقالوا : إنّه صحيح الرواية ، ثبتٌ ، معتمد على ما يرويه ، وكما قبل المحقّق في المعتبر رواية عليّ بن أبي حمزة عن الصادق عليه السلام معلّلاً ذلك بأنّ تغيّره إنّما كان في زمن الكاظم عليه السلام (1) ، فلا يقدح فيما قبله ، وكما حكم العلاّمة في المنتهى بصحّة حديث إسحاق بن جرير(2) ؛ وهؤلاء الثلاثة من رؤوساء الواقفيّة .

قلت : المستفاد من تصفّح كتب علمائنا المؤلّفة في السير والجرح والتعديل أنّ أصحاب الإماميّة - رضي اللّه عنهم - كان اجتنابهم عن مخالطة من كان من الشيعة على الحقّ أوّلاً ، ثمّ أنكر إمامة بعض الأئمّة عليهم السلام في أقصى المراتب ، وكانوا يحترزون عن مجالستهم والتكلّم معهم ، فضلاً عن أخذ الحديث عنهم ، بل كان تظاهرهم بالعداوة لهم أشدّ من تظاهرهم بها للعامّة ؛ فإنّهم كانوا يلاقون العامّة ويجالسونهم، وينقلون عنهم، ويُظهرون لهم أنّهم منهم ؛ خوفا من شوكتهم ، لأنّ حكّام الضلال منهم .

وأمّا هؤلاء المخذولون فلم يكن لأصحابنا الإماميّة ضرورة داعية إلى أن يسلكوا معهم على ذلك المنوال وسيّما الواقفيّة ؛ فإنّ الإماميّة كانوا في غاية الاجتناب لهم والتباعد عنهم حتّى أنّهم كانوا يسمّونهم بالممطورة - أي الكلاب التي أصابها المطر - وأئمّتنا عليهم السلام لم يزالوا ينهون شيعتهم عن مخالطتهم ومجالستهم ، ويأمرونهم بالدّعاء عليهم ، ويقولون : إنّهم كفّار مشركون زنادقة ، وإنّهم شرّ من النواصب، وإنّ من خالطهم وجالسهم فهو منهم ، وكُتُب أصحابنا مملوّة بذلك، كما يظهر لمن تصفّح كتاب الكشّي وغيره .

فإذا قبل علماؤنا - وسيّما المتأخّرون منهم - روايةَ رجلٍ من ثقاة أصحابنا عن أحد هؤلاء ، وعوّلوا عليها ، وقالوا بصحّتها مع علمهم [بحاله] فقبولهم لها وقولهم بصحّتها .

ص: 111


1- المعتبر ، ج 1 ، ص 68 .
2- منتهي المطلب ، ج 2 ، ص 268 .

لابدّ من ابتنائه على وجهٍ صحيح لا يتطرّق به القدح إليهم ، ولا إلى ذلك الرجل الثقة الراوي عمّن هذا حاله ، كأن يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحقّ وقوله بالوقف ، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحقّ ، أو أنّ النقل إنّما وقع عن أصله الذي ألّفه واشتهر عنه قبل الوقف ، أو من كتابه الذي ألّفه بعد الوقف، ولكنّه أخذ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الاعتماد ، ككتب عليّ بن الحسين الطاطري ؛ فإنّه وإن كان من أشدّ الواقفيّة عنادا للإماميّة ، إلاّ أنّ الشيخ شهد له في الفهرست بأنّه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم وبروايتهم ، إلى غير ذلك من المحامل الصحيحة .

والظاهر أنّ قبول المحقّق - طاب ثراه - رواية أبي حمزة مع شدّة تعصّبه في مذهبه الفاسد مبنيّ على ما هو الظاهر من كونها منقولة من أصله ، وتعليله رحمه الله يُشعر بذلك ؛ فإنّ الرجل من أصحاب الاُصول . وكذلك قول العلاّمة بصحّة رواية إسحاق بن جرير عن الصادق عليه السلام ؛ فإنّه ثقة من أصحاب الاُصول أيضا ، وتأليف أمثال هؤلاء اُصولهم كان قبل الوقف ؛ لأنّه وقع في زمن الصادق عليه السلام ، فقد بلغنا عن مشايخنا رحمهم الله أنّه كان [من] دأب أصحاب الاُصول أنّهم إذا سمعوا من أحد الأئمّة عليهم السلام حديثا بادروا إلى إثباته في اُصولهم ؛ لئلاّ يعرض لهم نسيان لبعضه أو كلّه بتمادي الأيّام ، وتوالي الشهور والأعوام(1) .

انتهى ما أردنا نقله من شيخنا البهائي رحمه الله .

أقول : من تأمّل هذا النقل حقّ التأمّل ، لم يبق له توقّف في صحّة ما ذكرنا في أمر ثقة الإسلام - قدّس اللّه روحه - وأخباره ، وكذا غيره ممّن حذى حذوه .

تتميم :

قال العالم الربّاني مولانا محسن - طاب ثراه - في أوّل الوافي :

أوّل من أحدث الجدال في الدِّين واستنباط الأحكام بالرأي والتخمين في هذه الاُمّة أئمّة الضلال خذلهم اللّه تعالى ، ثمّ تبعهم في ذلك علماء العامّة ، ثمّ جرى على منوالهم فريقٌ من متأخِّري الفرقة الناجية بخطأٍ وجهل، و نحنُ نَقُصُّ عليك نَبَأَهُمْ بالحَقِّ(2) : إنّه لمّا افتتن الناس بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فغرقوا في لُجج الفتن ، وهلكوا في طوفان

ص: 112


1- مشرق الشمسين ، ص 273 - 274 .
2- اقتباس من الآية 13 من سورة الكهف (18).

المحن ، إلاّ شرذمة ممّن عصمه اللّه وبسفينة أهل البيت نجّاه ، وبالتمسّك بالثقلين أبقاه ، واستكتم الناجون دينهم ، وصانوا وتينهم(1) ، فاستبقى اللّه عزّوجلّ بهم رمق الشريعة في هذه الاُمّة ، وأبقى بإبقاء نوعهم سُنّة خاتم النبيّين صلى الله عليه و آله إلى يوم القيامة ، فبعث إماما(2) بعد إمام ، و[أقام] خَلَفَ شيعة لهم بعد سلف ، فكان لا يزال طائفة من الشيعة - رضوان اللّه عليهم - يحملون الأحاديث في الفروع والاُصول عن أئمّتهم عليهم السلام بأمرهم وترغيبهم، ويروونها عن الآخَرين(3) ، ويروي الآخَرون للآخَرين ، وهكذا إلى أن وصلت إلينا ، والحمدُ للّه ربّ العالمين .

وكانوا يثبتونها في الصدور ، ويسطّرونها في الدفاتر ، ويَعُونَها(4) كما يسمعونها ، ويحفظونها كما يتحمّلونها ، ويبالغون في نقدها وتصحيحها ، وردّ زيفها ، وقبول صحيحها ، وتخريج صوابها وسليمها من خطأها وسقيمها ، حتّى يرى أحدهم لا يستحلّ نقلَ ما لا وثوق به، ولا إثباتَ ذلك في كتبه إلاّ مقرونا بالتضعيف ، ومشفوعا بالتزييف ، طاعنا فيمن يروي كلَّ ما يُروى ويسطر كلّ ما يُحكى ، كما هو غير خافٍ على من تتبّع كتب الرِّجال وتعرّف منها الأحوال .

وكانوا لا يعتمدون على خبرٍ(5) ناقلُه منحصر في مطعون أو مجهول ، وما لا قرينة معه تدلّ على صحّة المدلول ، ويسمّونه الخبرَ الواحد الذي لايوجب علما ولا عملاً .

وكانوا لا يعتقدون في شيءٍ من تفاصيل الاُصول الدينيّة ، ولا يعملون في شيءٍ من الأحكام الشرعيّة إلاّ بالنصوص المسموعة عن أئمّتهم عليهم السلام ولو بواسطة ثقة أو بوسائطِ ثقاةٍ .

وكانوا مأمورين بذلك من قِبَل اُولئك السادات ، ولا يستندون في شيءٍ منها إلى تخريج الرأي بتأويل المتشابهات ، وتحصيل الظنّ باستعانة الاُصول المخترعات ، الذي يسمّى بالاجتهاد ، ولا إلى اتّفاق آراء الناس الذي يسمّى بالإجماع ، كما يفعل ذلك كلّه الجمهور من العامّة . .

ص: 113


1- الوتين : عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 274 (وتن) .
2- في المصدر : «فبعث إمام هدى» .
3- في المصدر : «لآخرين» بدل «عن الآخرين» .
4- أي يحفظونها.
5- في المصدر : «على الخبر الذي كان» بدل «على خبر» .

وكانوا ممنوعين عن ذلك(1) من جهتهم عليهم السلام ، ومن جهة صاحب الشرع بالآيات الصريحة والأخبار الصحيحة ، وكان المنع من ذلك كلّه معروفا من مذهبهم، مشهورا بينهم(2) حتّى بين مخالفيهم ، كما صرّح به طائفة من الفريقين .

ثمّ لمّا انقضت مدّة ظهور الأئمّة المعصومين - صلوات اللّه عليهم أجمعين - وانقطعت السفراء بينهم وبين شيعتهم ، وطالت الغيبة ، واشتدّت الفرقة ، وامتدّت دولة الباطل ، وخالطت الشيعة بمخالفيهم ، وألفت في صِغَر سنّهم بكتبهم ؛ إذ كانت هي المتعارفَ تعليمها في المدارس والمساجد وغيرها ؛ لأنّ الملوك وأرباب الدول كانوا معهم ، والناس إنّما يكونوا مع الملوك وأرباب الدول ، فعاشرتْ معهم في مدارسة العلوم الدينيّة ، وطالعوا كتبهم التي صنّفوها في اُصول الفقه التي دوّنوها لتسهيل اجتهاداتهم التي عليها مدار أحكامهم ، فاستحسنوا بعضا ، واستهجنوا بعضا . أدّاهم ذلك إلى أن صنّفوا في ذلك العلم كتبا إبراما ونقضا ، وتكلّموا فيما تكلّم العامّة فيه من الأشياء التي لم يأت بها الرسول صلى الله عليه و آله ، ولا الأئمّة المعصومون صلوات اللّه عليهم أجمعين ، وكثّروا بها المسائل ، ولبّسوا على الناس طرق الدلائل .

وكانت العامّة قد أحدثوا في القضايا(3) أشياءَ كثيرةً بآرائهم وعقولهم في جنب اللّه ، واشتبهت أحكامهم بأحكام اللّه ، ولم يقنعوا بإبهامِ ما أبهم اللّه ، والسكوت عمّا سكت اللّه ، بل جعلوا للّه شركاء ، وحكموا كحكمه ، فتشابه الحكم عليهم ، بل للّه الحكم جميعا وإليه يرجعون(4) ، وسيجزيهم اللّه بما كانوا يعملون .(5)

ثمّ لمّا كثرت تصانيف أصحابنا في ذلك ، وتكلّموا في اُصول الفقه وفروعه باصطلاحات العامّة ، اشتبهت اُصول الطائفتين واصطلاحاتهم بعضا ببعض ، وانجرّ ذلك إلى أن التبس الأمر على طائفة منهم حتّى زعموا جواز الاجتهاد والحكم بالرأي ، ووضع الضوابط والقواعد لذلك ، وتأويل المتشابهات بالتظنّي والترائي ، والأخذ باتّفاق الآراء ، وتأيّد».

ص: 114


1- في المصدر : + «كلّه» .
2- في المصدر : «منهم» .
3- في المصدر : + «والأحكام».
4- اقتباس من الآيتين 70 و 88 من سورة القصص (28) : «...لَهُ الْحُكْمُ وَاِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
5- اقتباس من بعض الآيات ، منها الآية 180 من سورة الأعراف (7): «...سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

ذلك عندهم باُمور :

أحدها : ما رأوه من الاختلاف في ظاهر(1) الآيات والأخبار التي لا تتطابق إلاّ بتأويل بعضها بما يرجع إلى بعض ، وذلك نوع من الاجتهاد المحتاج فيه إلى وضع الاُصول والضوابط .

والثاني : ما رأوه من كثرة الوقائع التي لا نصّ فيها على الخصوص مع مسيس الحاجة إلى(2) أحكامها .

والثالث : ما رأوه من اشتباه بعض الأحكام وما فيه من الإبهام ، الذي لا ينكشف ولا يتعيّن إلاّ بتحصيل الظنّ فيه بالترجيح ، وهو عين الاجتهاد .

فأوّلوا الآيات والأخبار الواردة في المنع من الاجتهاد والعمل بالرأي بتخصيصها بالقياس والاستحسان ونحوهما من الاُصول التي تختصّ بها العامّة ، والواردةِ في النهي عن تأويل المتشابهات ومتابعة الظنّ بتخصيصها [باُصول الدين ، والواردةِ في ذمّ الأخذ بإتّفاق الآراء بتخصيصها] بالآراء الخالية عن قول المعصوم ؛ لما ثبت عندهم أنّ الزمان لا يخلو من إمامٍ معصوم .

فصار ذلك كلّه سببا لكثرة الاختلاف بينهم في المسائل، وتزايدِه ليلاً ونهارا ، وتوسّعِ دائرته مُدَدا وأعصارا ، حتّى انتهى إلى أن تراهم مختلفين في المسألة الواحدة على عشرين قولاً ، أو ثلاثين ، أو أزيد ؛ بل لو شئت أقول : لم يبق مسألة فرعيّة لم يختلفوا فيها ، أو في بعض متعلّقاتها ؛ وذلك لأنّ الآراء لا تكاد تتوافق ، والظنون قلّما تتطابق ، والأوهام(3) تتشاكس(4) ، ووجوه الاجتهاد تتعاكس ، والاجتهاد يقبل التشكيك ، ويتطرّق إليه الركيك ، فيتشبّه بالقوم من ليس منهم ، ويُدخل نفسه في جملتهم وهو(5) بمعزل عنهم ، فظلّت المقلّدة في غمار آرائهم يعمهون ، وأصبحوا في لجج أقاويلهم يغرقون .

ليت شعري ، كيف [ذهب عنهم] ما ينحلّ به عقد هذه المشكلات عن ضمائرهم ؟! أم كيف خفي عنهم ما ينقلع به اُصول هذه الشبهات عن سرائرهم ؟! ألم يسمعوا حديث .

ص: 115


1- في المصدر : «ظواهر».
2- في المصدر : + «معرفة» .
3- في المصدر : «والأفهام».
4- أي تتخالف . لسان العرب ، ج 6 ، ص 112 (شكس) .
5- في المصدر : «من هو» بدل «وهو» .

التثليث المشتهر،(1) المستفيض ، المتّفق عليه بين الخاصّة والعامّة ، المتضمّن لإثبات الإبهام في بعض الأحكام ، وأنّ الاُمور ثلاثة : بيّنٌ رشده ، وبيِّنٌ غيّه ، وأمرٌ مشكل يردّ حكمه إلى اللّه ورسوله ؟ وهلاّ سوّغوا أنّ في إبهام بعض الأحكام حِكَما ومصالحَ ، مع أنّ من تلك الحِكم ما يمكن أن يتعرّف ، ولعلّ ما لا يعرف منها يكون أكثر ، على أنّ الاجتهاد لا يغني من ذلك ؛ لبقاء الشبهات بعده إن لم تزد به .(2)

انتهى ما أردنا نقله من الوافي .

وأنا أقول : من أعظم الحِكم في إبهام بعض الأحكام أن يعلم الناس شدّة الاحتياج إلى وليّ الأمر وصاحب العصر ، فيتضرّعوا إلى اللّه تعالى أن يعجّل الفرج بظهوره ، ويقشع غمائم الشبهات بنوره ؛ وذلك لأنّ اعتقاد أهل الحقّ أنّه ما من شيء ممّا يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة إلاّ وللّه تعالى فيه حكم حتّى أرش الخدش ، والجميع مستودع محفوظ عند أهل الذِّكر عليهم السلام ، واُمِرَ الناس أن يسألوهم عنها ، وكلّ شبهة ولبس عرض فهو من جهة غيبة وليّ الأمر الناشئة من الاُمّة ، كغيبة نبيّنا صلى الله عليه و آله زمانا في الغار ، مع أنّ اللّه تعالى بعثه رسولاً ليبيّن للناس ما يحتاجون في أمر الدِّين ، ولا ضير في احتياج الناس وعدم تمكّنهم من الوصول إلى مَن اُرسل إليهم لبيان ما يحتاجون ، ولم يكن للناس على اللّه حجّة بأنّه تركهم سُدى مهملين في مدّة الغيبة؛ إذ لم يمكنهم الانتفاع بالذي بعثه إليهم ، وهذه الغيبة وعدم حجّة المبعوث إليهم على اللّه في مدّتها أمرٌ بيّن الوقوع لا يستطيع أحد إنكاره ، وإذا جاز ذلك في يومين وثلاثة ولا ينافي الحكمة ، جاز في سنة وألف سنة كما لايخفى على اُولي النّهى ، فلا يستبعد استيداع اللّه تعالى الأحكام المحتاج إليها وليَّه ، ووقعت غيبته من جهة أهل الطغيان مدّةً حسبَ ما في الحكمة ، وكون الناس في تلك المدّة في الحيرة ؛ إذ كان ذلك رحمةً للمؤمنين ، حيث ينتظرون ما وعد اللّه لهم بقوله : «وَ نُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْءَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»(3) وبقوله : «فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» إلى قوله سبحانه : .

ص: 116


1- في المصدر : «المشهور» .
2- الوافي ، ج 1 ، ص 13 - 17 .
3- القصص (28) : 5 .

«يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ»(1) .

ولنختم الكلام بما ورد عنهم عليهم السلام في بعض أدعية التعقيب : «اللّهمَّ وليّك الحجّةَ فاحفَظْه من بين يديه ومن خَلْفه ، وعن يَمينه وعن شِماله ، ومن فوقه ومن تحته ، وامدُدْ له في عُمُره ، واجعله القائمَ بأمرِك ، المُنْتَصِرَ لدينك ، وأرِهِ مايُحِبُّ وتَقَرُّ به عينُه في نفسه ، وفي ذرّيّته وأهلِه ومالِه ، وفي شيعتِه وفي عدوِّه ، وأرِهِم منه ما يَحذرون، وأرِهِ فيهم ما يُحِبُّ وتَقَرُّ به عينُهُ ، واشفِ [به ]صدورنا وصدور قومٍ مؤمنين» .(2)ر.

ص: 117


1- المائدة (5) : 54 .
2- الفقيه ، ج 1 ، ص 327 ، ح 960 . وفي الكافي ، ج 2 ، ص 547 ، باب الدعاء في أدبار الصلوات ، ضمن ح 6 ، مع اختلاف يسير.

ص: 118

كتاب العقل والجهل

ص: 119

ص: 120

كتاب العقل والجهل

قوله : (كتاب العقل والجهل) .

قال السيّد الجليل ميرزا رفيعا ، قدّس اللّه روحه ونوّر ضريحه :

العقل يُطلق على حالة في النفس ، داعيةٍ إلى اختيار الخير والنافع بها يُدرك الخيرَ والشرَّ، ويميّز بينهما ، ويتمكّن من معرفة أسباب المسبّبات وما ينفع فيها وما يضرّ ، وبها تُقوى على زجر الدواعي الشهوانيّة والغضبيّة ودفع الوساوس الشيطانيّة .

ويقابله الجهل ، ويكون بفقد أحد الاُمور ، وبفقد أكثرها ، وبفقد جميعها .

وقد يُطلق العقل ويُراد به قوّة إدراك الخير والشرّ والتمييز بينهما ، و التمكّن من معرفة أسباب الاُمور،(1) وما يؤدّي إليها ، وما يمتنع منها .

والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب ؛ و(2) بالمعنى الأوّل ، «ما عُبد به الرحمان واكتسب به الجنان». ولعلّ الأوّل هو الكامل من الثاني ، فتبادر عند الإطلاق ، وشاع استعماله فيه .

وفي الحديث الأوّل من هذا الباب استُعمل في الثاني ، واُشير إلى أنّ كماله لايكون إلاّ فيمن أحبّ .

وفي الحديث الثاني والثالث استُعمل في الأوّل(3) ، وفي الأحاديث التالية لها استعمل في بعضها في الأوّل ، وفي بعضها في الثاني ؛ يُعرف بالتدبّر .

وقد يُطلق العقل على أوّل مخلوق من الروحانيّين ، كما ورد في أحاديث الأئمّة .

ص: 121


1- في المصدر : + «ذوات الأسباب» .
2- في المصدر : «والعقل» .
3- في المصدر : «في الكامل؛ يعني المعنى الأوّل» بدل «في الأوّل» .

المعصومين ، ووافقها كلمة الكمّل من الحكماء المحقّقين ، فإن صحّ القول بثبوته للنفس - على ما قاله المحقّقون من أنّ نسبته إلى النفس كنسبة النفس إلى البدن ، وقالوا(1): إنّها صورة البدن ، وإنّ الناطق الذي هو فصل الإنسان وصورتَه التي هي النفس مختلفان باعتبار اللابشرطيّة وشرط اللائيّة ، كما أنّ الحيوان الذي هو الجنس ، والبدنَ الذي هو المادّة مختلفان بالاعتبارين المذكورين ، وإذ لم يبالوا بإطلاق التوصيف مع الاختلاف بالمفارقة والمقارنة بين النفس والبدن بمجرّد التعلّق الخاصّ بينهما ، فكيف مع الاتّفاق في التجرّد الذاتي كما في العقل والنفس؟! فلايستبعد حمل العقل في الأحاديث الدالّة على اتّصاف النفس به وكونهِ حالة لها على ذلك الروحانيّ المخلوق أوّلاً . وكثير من أحاديث هذا الباب يؤيّد ذلك ويقوّيه .

ولا يبعد أن يُقال : إنّ للنفس بارتباطها بالعقل المجرّد الذي خلقه اللّه أوّلاً قبل خلق النفس إشراقا من ذلك العقل ، فينتسب إلى النفس باعتبار إشراقه عليها ، وإن كان قد يطلق العقل على حالة النفس باعتبار ذلك الإشراق ، ويتبع ذلك الإشراق حصول العلم والمعرفة للنفس .

وقد يفرّق بين العلم والمعرفة بتخصيص المعرفة بإدراك الشيء بآثاره ، أو بإدراك الشيء إدراكا يتوصّل بتفكّر وتدبّر ، وإطلاق العلم على إدراك الشيء بذاته ويشمل ما يتوصّل إليه بتفكّر وغيره.(2)

انتهى ما أردنا نقله من حواشي السيّد الرفيع رفع اللّه قدره .

قوله : (عن أبي جعفر عليه السلام قال : لمّا خَلَقَ اللّه ُ العقلَ اسْتَنْطَقَهُ) إلى آخره .[ح 1 / 1]

في القاموس : «أنطقه اللّه واستنطقه».(3) وفي تاج المصادر : «استنطاق : سخن گفتن خواستن ، وسخن گفتن با كسي ».

وهذا الحديث رواه العامّة والخاصّة بأسانيد مختلفة وألفاظ متفاوتة .

وفي رواية سماعة الآتية : «إنّ اللّه تعالى خلق العقلَ، وهو أوّلُ خلقٍ من الروحانيّين عن يمين العرش من نوره ، فقال له : أدْبِرْ فأدْبَرَ ، ثمّ قال له : أقْبِلَ فأقْبَلَ ، فقال اللّه تعالى :).

ص: 122


1- في المصدر : + «للنفس» .
2- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 41 - 43 .
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 285 (نطق).

خلقتُك خلقا عظيما ، وكرّمتُك على جميع خلقي» . قال : «ثمّ خلَق الجهلَ من البحر الاُجاج ظلمانيّا ، فقال له : أدبر فأدبر ، ثمّ قال : أقبل فلم يُقْبِلْ ، فقال له : استكبرتَ ، فلعنه» الحديث .(1)

ونقله الصدوق رضى الله عنه في كتاب الخصال والعلل عن سماعة أيضا(2) ، والمتن موافق لما أورده المصنّف ، إلاّ أنّه قدّم هناك إقبال العقل على إدباره .

ورواه البرقي في المحاسن عن سماعة أيضا موافقا للصدوق، وفيه : «بك آخذ ، وبك اُعطي ، وعليك اُثيب» .(3)

وفي أمالي الصدوق : «ولا اُكمّلك إلاّ فيمن اُحبّ» .(4)

قال الفاضل المتتبّع لآثار المعصومين عليهم السلام في كتاب البحار :

ما في بعض الأخبار من أنّه أوّل خلق من الروحانيّين ، فيحتمل أن يكون المراد أوّل مقدّر من الصفات المتعلّقة بالروح ، أو أوّل غريزة يطبع عليها النفس وتودع فيها، أو يكون أوّليّته باعتبار أوّليّة ما يتعلّق به من النفوس .

ثمّ قال :

خبر «أوّل ما خلق اللّه العقل» ما وجدته في الأخبار المعتبرة ، وإنّما هو مأخوذ من أخبار العامّة ، وظاهر أكثر أخبارنا أنّ أوّل المخلوقات الماء أو الهواء(5) . انتهى كلامه زيد إكرامه .

والخبر الذي قال هذا الفاضل إنّه ما وجده في الأخبار المعتبرة، وإنّما هو مأخوذ من أخبار العامّة ، أورده محمّد بن جمهور الأحسائي في كتابه غوالي اللآلي مرفوعا عن النبيّ صلى الله عليه و آله (6) ، ولمّا كان أكثر روايات ذلك الكتاب المنقولة عنه صلى الله عليه و آله بلا سند من روايات .

ص: 123


1- الكافي ، ج 1 ، ص 20 ، كتاب العقل والجهل ، ح 14 . ولايخفى أنّ هذا الخبر منقول في المحاسن ، ج 1 ، ص 196 ، ح 22 ؛ والخصال ، ص 588 ، ح 3 ؛ وعلل الشرائع ، ص 113 ، ح 10 .
2- الخصال ، ص 427 ، ح 4 ؛ علل الشرائع ، ج 1 ، ص 113 ، ح 10 .
3- المحاسن ، ج 1 ، ص 192 ، ح 5 و 6 .
4- الأمالي للصدوق ، ص 418 ، المجلس 65 ، ح 5 .
5- بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 101 .
6- عوالي اللئالي ، ج 4 ، ص 99 ، ح 141 ؛ سعد السعود لسيّد بن طاووس ، ص 202 .

العامّة - كما لايخفى على المتتبّع - ولم يجد الفاضل هذا الخبر في كتب الأصحاب مع كمال اهتمامه بفحص مصنّفات الشيعة في الأخبار ، حَصَلَ الظنّ المُتاخَم للعلم بأنّه من أخبار العامّة ، وغرضه أنّ حمل العقل في الأخبار المتضمّنة لذكر الإقبال والإدبار على ما يقوله الفلاسفة من الجوهر المجرّد الغير المتعلّق بالمادّة لا ذاتا ولا فعلاً ، الحامل له على هذا الحمل إنّما هو الخبران ؛ وهو كما ترى. ولقد أجاد ما أفاد .

ويعضده ما في رواية سماعة من قوله عليه السلام : «عن يمين العرش» فإنّ الظاهر أنّ الأوّليّة إضافيّة لا حقيقيّة ، والتجوّز لا يصار إليه من غير ضرورة ، وقولِه سبحانه : «ولا أكملتك إلاّ فيمن اُحبّ» وخلق الجهل بإزاء العقل أيضا من الموانع عن ذلك الحمل ، وارتكاب المعنى المجازي للإقبال والإدبار مشترك اللزوم .

وبالجملة : لا يشكّ من له نصيبٌ من العقل أنّ الغرض المسوق له الكلام في هذه الأحاديث التنويهُ باسم هذا العقل الذي به يسمّى العقلاء عقلاءَ ، والحثُّ والترغيب على اتّباعه ، والإعانةُ على تسخير الجهل وجنوده - أعني القوى الشهوانيّة والغضبيّة - والتحذيرُ عن خلاف ذلك ، والوعيدُ بالانتكاس(1) على تقدير الانعكاس ، وإذ لا يتوقّف فهم هذا الغرض والانتفاع بالكلام على تحقيق معاني أجزائه ، فمسلك الرشاد المأمونُ من المخاطرات أن يتمتّع العاقل المحتاط من خوان أخبار المعصومين عليهم السلام بنعمةٍ رُزق بها ، وهي ما قرب إليه بحيث تناله يد فهمه ، ولا يحاول بالإقدام والاقتحام ما ليس له ، وناهيك من مؤدِّبٍ لك قول اللّه تبارك وتعالى : «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ»(2) .

روى السيّد الرضيّ رضى الله عنه في نهج البلاغة ، والصدوق - طاب ثراه - في كتاب التوحيد .

ص: 124


1- انْتَكَسَ ، أي انقلب على رأسه . لسان العرب ، ج 6 ، ص 242 (نكس) .
2- آل عمران (3) : 7 .

بالإسناد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال في خطبةٍ طويلة أخذنا منها موضع الحاجة :

«وَاعلَمْ أنّ الراسخينَ في العلمِ هُمُ الذين أغناهم عن اقتحام السُّدَدِ المضروبة دونَ الغيوبِ الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيرَه من الغيب المحجوب ، فمَدَحَ اللّه تعالى اعترافَهم بالعجز عن تناول ما لم يُحيطوا به علما ، وسمّى تركَهم التعمّقَ فيما لم يُكلِّفْهم البحثَ عن كنهه رسوخا ، فَاقْتَصِرْ على ذلك ، ولا تُقَدِّرْ عظمةَ اللّه سبحانه على قدر عقلك ، فتكونَ من الهالكين» الخطبة .(1)

وليعلم أنّ بناء ما قاله عليه السلام على الوقف على الجلالة ، وحمل جملة «والراسخون» على الحاليّة وإرادة علم التأويل بلا تعليم ، وهذا أحد وجهي القراءة .

والوجه الآخر الوقف على «العلم» وعطف «الراسخون» على الجلالة عطفَ المفرد، وإرادة علم التأويل بتعليم النبيّ صلى الله عليه و آله بلا توسيط الرعيّة . وعلى هذا الوجه الأخبار التي ستجيء في كتاب الحجّة المتضمّنة أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة عليهم السلام .

قوله : (عن الأصبغ بن نباتة[عن عليّ عليه السلام قال : هبط جبرئيل على آدم عليه السلام ...]) .[ح 2 / 2]

في حواشي السيّد الجليل الرفيع رفع اللّه شأنه :

الظاهر أنّ آدم عليه السلام حين هبوط جبرئيل عليه السلام كان ذا عقلٍ وحياء ودين ، والأمر باختيار واحدة من ثلاث لا ينافي حصولها . وقول جبرئيل عليه السلام للحياء والدِّين بعد اختيار العقل : «انصرفا» لإظهار ملازمتهما للعقل بقولهما : «إنّا اُمرنا أن نكون مع العقل» .(2)

ولعلّ الغرض من ذلك أن يتنبّه آدم بعِظَم نعمة العقل ، ويشكرَ اللّه على إنعامه .

وفي شرح صدر المحقّقين :

إنّ للإنسان قوّةً بها يدرك الحقائق ، وهي المسمّاة بالعقل ، وقوّةً بها ينفعل عمّا يرد على القلب ، وهي المسمّاة بالحياء ، وقوّةً بها يقتدر على فعل الطاعات وترك المنكرات تسمّى بالدِّين ؛ وهذه الألفاظ الثلاثة كما تطلق على هذه المبادئ - أعني القوى والأخلاق - كذلك تطلق على آثارها والأفعال الناشئة منها ؛ فيُقال : العقل إدراك .

ص: 125


1- نهج البلاغة ، ص 125 ، الخطبة 91 ؛ التوحيد ، ص 53 ، ح 13 .
2- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 45 .

المعقول(1) ، والحياء انفعال القلب عمّا يرد عليه ، والدِّين فعل المعروفات وترك المنكرات .

والحياء على قسمين : حياءٍ نشأ من ضعف القلب وقلّة الاحتمال لعجزه ، وهو ليس بممدوح ؛ وحياء نشأ من استشعار العظمة والهيبة . فالأوّل حياء من الخلق ، والثاني حياء من اللّه ، وهو من محاسن الأخلاق ومكارم الخصال ؛ ولهذا ورد : «الحياء من الإيمان» .(2)

وقال بعض العرفاء : الحياء وجود الهيبة في القلب مع خشية ما سبق منك إلى ربّك .

وقال بعضهم : إنّ العباد عملوا على أربع درجات : الخوف ، والرجاء ، والتعظيم، والحياء ، وأشرفهم منزلةً مَن عمل على الحياء لما أيقن أنّ اللّه يراه على كلّ حال ، فاستحيا من حسناته أكثر ممّا استحيا العاصون من سيّئاتهم .

وهذه الخصال الثلاث لكلّ منها ضدّ ؛ فضدّ العقل هو الجهل بالمعنى الوجوديّ - أعني إدراك الشيء خلاف ما هو عليه - وهو من أسوء الأخلاق السيّئة وأفسدها ؛ إذ الكفر شعبة منه ، وضدّ الحياء الوقاحة ، وضدّ الدِّين الفسق .

إذا تقرّرت هذه المقدّمات فنقول : في الحديث مطالب ثلاثة :

أحدها : وجه الاقتصار على هذه الخصال الثلاث .

والثاني : وجه كون العقل هو المختار منها .

والثالث : علّة استلزامه للأخيرتين .

أمّا الأوّل ، فلأنّ للإنسان قوّتين : فعليّة وانفعاليّة .

والاُولى إذا كانت فاضلة يصدر منها فعل الطاعات والعبادات ، ويسمّى بالدِّين تسميةً للسبب باسم المسبّب .

والثانية : إمّا انفعالها بالصور إدراكيّة ، فهي العقل إذا كانت فاضلة ، أو بغيرها من الاُمور الحسّيّة ، فهي الحياء إذا كانت فاضلة .

وأمّا الثاني ، فلا شبهة في أنّ العقل أشرف الخصال وأكرمها ؛ إذ به يُعرف الحقّ ويميّز عن الباطل ، وبه يكمل الإيمان ويتقرّب إليه تعالى ، وهو الذي يحبّ اللّه ويحبّه اللّه . .

ص: 126


1- في المصدر : «المعقولات» .
2- الكافي ، ج 2 ، ص 106 ، باب الحياء ، ح 1 ؛ عيون أخبار الرضا، ج 1 ، ص 265 ، ح 23 .

وأمّا الثالث ، فلأنّه إذا حصل العقل استشعر القلب عظمة اللّه وجلاله ، فلزم منه الحياء ، وإذا حصل العلم باللّه واليوم الآخر وقعت خشية اللّه في القلب ؛ لقوله تعالى : «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1) ، وإذا حصلت الخشية إيّاه والخوف من عذابه كمل الدِّين وتمَّ العمل.(2) انتهى .

قوله : (تلك النَّكْراء) .[ح 3 / 3]

في القاموس : «النكراء : الدهاء والفطنة» .(3)

اعلم أنّ طائفة من أشباه الناس يذمّون العقل ويسمّونه عقالاً ، ويقولون : إنّ العشق هو الإمام والقائد في السير والسلوك ، فأحببت أن أذكر حجّةً عليهم ما أجرى اللّه تعالى على لسان مَن سمّوه بالمولوي ، ولقّبوه بالعارف الرومي ، قال في تضاعيف المثنوي :

مشورت مى كرد شخصى با يكى *** تا يقينش وانمايد بيشكى

گفت اى خوش نام ، غيرِ من بجو *** ما جراى مشورت با او بگو

من عدوّم مرترا با من مپيچ *** از عدو نايد برايت خير هيچ

گفت مى دانم ترا اى بُوالْحَسَن *** كه تويى ديرينه دشمن دارِ من

ليك مردِ عاقلى و معنوى *** عقل تو نگْذاردت كه كج رَوى

طبع خواهد تا كَشَد از خصم كين *** عقل بر طبع است بندِ آهنين

آيد و منعش كند وا داردش *** عقل چون شحنه ست در نيك و بَدَش

عقلِ ايمانى چو شحنه عادل است *** پاسبان و حاكمِ شهرِ دل است

همچو گربه باشد او بيدار و هوش *** دزد در سوراخ ماند همچو موش

در هر آنجا كه برآرد موش دست *** گربه نبود ور بود خود مرده است

گربه چه ، بل شيرِ شيرْ افكن بُوَد *** عقلِ ايمانى كه اندر تن بُوَد(4)

* * * .

ص: 127


1- فاطر (35) : 28 .
2- شرح صدر المتألّهين ، ص 18 .
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 148 (نكر) .
4- . مثنوى معنوى ، ص 667 ، دفتر چهارم، ش 1969 - 1989، مع اختلاف يسير.

عقل جزئى عقل را بدنام كرد *** كام دنيا مرد را ناكام كرد(1)

***

عقل جزئى را وزير خود مگير *** عقل كل را ساز اى سلطان وزير

مر هوا را تو وزيرِ خود مساز *** كه بر آيد جانِ پاكت از نماز

اين هوا پُر حرص و حالى بين بُوَد *** عقل را انديشه يومِ دين بُوَد(2)

* * *

عقل ضدِّ شهوتست اى پهلوان *** آنكه شهوت مى تند ، عقلش مخوان

وَهْم خوانش آنكه شهوت را نكاست *** وهم قلبِ زرّ نقد عقلها است

چون نه صرّاف و بينا در عيار *** هان محك از كف منه اى مرد كار

بى محك پيدا نگردد وَهم و عقل *** هر دو را سوى محك كن زود نَقْل

اين محك قرآن و حالِ انبيا *** چون محك مر قلب را گويد بيا(3)

* * *

وهم افتد در خطا و در غلط *** عقل باشد در اصابتها فقط(4)

***

عقل جزئى ، عقل استخراج نيست *** جز پذيراى فن و محتاج نيست

قابلِ تعليم و فهم است اين خِرَد *** ليك صاحب شرع تعليمش دهد.(5)

قوله : (إنّ قوما [عندنا] لهم محبّةٌ وليسَتْ لهم تلك العزيمةُ) .[ح 5 / 5]

في القاموس : «عزم على الأمر عَزْما وعزيمةً : أراد فعله وقطع عليه ، أو جدَّ في الأمر» .(6)

وفي هذا الحديث وما يجيء قريبا دلالة واضحة على أنّه يسامح مع ضعفاء العقول.

ص: 128


1- . مثنوى معنوى، ص 779، دفتر پنجم، ش 463.
2- . مثنوى معنوى ، ص 634 ، دفتر چهارم، ش 1258 - 1260، مع اختلاف يسير.
3- . مثنوى معنوى ، ص 682 ، دفتر چهارم، ش 2301 - 2304، مع اختلاف يسير.
4- . مثنوى معنوى ، ص 516، دفتر سوم، ش 3570 .
5- . مثنوى معنوى ، ص 636 ، دفتر چهارم، ش 1295 - 1296، مع اختلاف يسير .
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 150 (عزم) .

في تحصيل اليقين ، ولا يعاتبون على الوقوف على الظنّ ، إلاّ أنّه ينبغي أن يعلم أنّ ضعف العقل يقع على معنيين :

الأوّل : ما كان بحسب الفطرة ، كما في البُلهاء المتوسّطين بين المجانين والعقلاء .

والثاني : ما كان بسبب عدم إخراج ما بالقوّة إلى الفعل . وأصحاب هذا صنفان :

صنفٌ مَنَعَهم عن الإخراج عوائق الدهر ، مثل الاضطرار والاشتغال بطلب المعاش الضروريّ ، ومثل النشوء في مواضعَ لا يستطاع فيها طلب الكمال ، كالمستضعفين من الرجال والنساء والولدان؛ «لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ»(1).

وهؤلاء وأمثالهم في حكم اُولئك ، وكلاهما مرجوّ لهما من اللّه الرحمة الواسعة ما يليق بشأنهما بشرط أن لا يكونا منهمكَيْن في القبائح العقليّة بحسب مبلغ عقولهما ، بل في القبائح الشرعيّة بحسب ما التزماه من الشرع الذي يتديّنان به .

وصنفٌ لم يُخرجوا ما في قوّتهم للتوغّل في تحصيل الفضول ، أو الكسل ، أو ألهاهم الملاهي، أو نحو ذلك ؛ فهؤلاء إن أخذ القضاء والقدر بضَبْعهم، ونشأوا على دين الحقّ، وفي قلوبهم محبّة للدين وأهله ، وبالجملة ليس بهم بأس في أصل المذهب سوى أنّهم على غير بصيرة ويقين فيما هم عليه .

فمقتضى الحديث والظاهر أنّهم لا يعاتبون على عدم تحصيل اليقين بالعقائد الحقّة التي وُفّقوا لها ببركة المحبّة الجبلّيّة التي منشأها كون طينتهم من فضل طينة المعصومين عليهم السلام كما ورد في الأخبار ، وبذلك عُلّل كون قلوب الشيعة تهوي إلى أئمّتهم وإن توجّه إليهم عتاب من جهة الاتّباع للقوى الشهوانيّة والغضبيّة ، ومع هذا كلّه فليسوا في درجة أهل اليقين ، وإن لم يكونوا على دين الحقّ ومن أهل المحبّة ، فهم محشورون مع مَنْ أحبّوه .

وبإزاء هذين الصنفين جماعة نشأوا في معظم البلاد ، ودارسوا العلم ، وتتبّعوا السِّيَر والأخبار ، أو خالطوا العلماء المتتبّعين ، وبالجملة دخلوا في سلك من يُعدّون في العرف من العقلاء ، فهؤلاء هم المأمورون بالنظر والاعتبار ، المأخوذون كلَّ الأخذ ، .

ص: 129


1- النساء (4) : 98 .

المعاتبون كلَّ العتاب إذا خالفوا دين الحقّ ؛ لأنّ تلك المخالفة حينئذٍ ليس من جهة الضعف الفطري المانع عن تحصيل اليقين بأمر الدين ، ولا من جهة الضعف القدري - أعني عدم خروج ما في القوّة إلى الفعل - للاشتغال بطلب المعاش الضروريّ ، أو نحو ذلك مثل عدم الاستطاعة لملاقاة من يُكتسب منه أو لتتبّع الأقوال ، فهي لامحالة للاشتغال بالفضول من المال والجاه ، أو الحبّ المفرط المعبّر بالعشق لانتصار طريقة الآباء والأسلاف ، والسلطان الذي انتفع بماله وجاهه، وذلك الحبّ أعمى بصره، وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة ، ويسمع باُذنٍ غير سميعة ؛ قد خرفت الشهوات عقله ، وأماتت الدنيا قلبه ؛ أو للتسرّع(1) وعدم التثبّت ، وذلك قد يكون منشأوه أن اتّفق للشخص في مذهبٍ جاهٌ شرعي ، مثل رياسة القضاء وإمامة الجماعة ، أو تيسّر له وظائف وإقطاعات ، أو أبغض مذهبا كان عليه لما كُلّف فيه بحكم اشمأزّ طبعه ، مثل تمتيع البنت الثيّب بدون إذن الوالد ، أو نحو ذلك من الأغراض الباطلة التي تميل النفس الدنيّة ، وتصوّر لها أدنى شبهة في صورة الحجّة ؛ جعلنا اللّه تعالى من «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ»(2) .

قال الفاضل المحقّق، قدوة أهل الدين، ومروّج آثار الأئمّة المعصومين عليهم السلام ، صاحب كتاب بحار الأنوار في هذا المقام :

الذي ظهر لنا من تتبّع الأخبار المنتمية إلى الأئمّة الأطهار - سلام اللّه عليهم - هو أنّ اللّه خلق في كلّ شخص من أشخاص المكلّفين قوّةً واستعدادا لإدراك الاُمور من المضارّ والمنافع وغيرها على اختلافٍ كثير بينهم فيها ، وأقلّ درجاتها مناط التكليف ، وبها يتميّز عن المجانين ، وباختلاف درجاتها تتفاوت التكاليف ؛ فكلّما كانت هذه القوى أكملَ كانت التكاليف أشقَّ وأكثرَ ، وتكمل هذه القوّة في كلّ شخص بحسب استعداده بالعلم والعمل ؛ فكلّما سعى في تحصيل ما ينفعه من العلوم الحقّة وعمِلَ بها تقوى تلك القوّة ، ثمّ العلوم تتفاوت في مراتب النقص والكمال ؛ وكلّما ازدادت قوّةً كثرت آثارها، وحثّت صاحبَها بحسب قوّتها على العمل بها ، وأكثر الناس علمهم بالمبدأ والمعاد .

ص: 130


1- عطف على «للاشتغال».
2- الزمر (39) : 18 .

وسائر أركان الإيمان علمٌ تصوّريّ يسمّونه تصديقا ، وفي بعضهم تصديق ظنّي ، وفي بعضهم تصديق اضطراريّ .(1)

أقول : وفي بعضهم تصديق عادّي ، وفي بعضهم تصديق حيائي ، وقد قلت في المثنوي المسمّى ب «نان و پنير» :

گر عمل از شوق و شوق از علمْ خواست *** نيز قصدْ آن دم بمقصد گشت راست

خلق عالم گر عبادت مى كنند *** بيشتر از روى عادت مى كنند

يا حيا از ناظرين ، داعى بُوَد *** يا براى دنيوى ، ساعى بود

بى نمازى با يكى از اهل راز *** خواست گويد علّت ترك نماز

گفت من هرگاه كردم قصد آن *** آفتى آمد به مالم ناگهان

و ان دگر گفتش كه من كردم نماز *** مدّتى بسيار و شبهاى دراز

تا برون آيم ز فقر و احتياج *** گيرد اين دكّان و بازارم رواج

حاصلى كز وى توقّع داشتم *** چون نشد يكبارگى بگذاشتم

اين بود احوال جهّال اى عزيز *** اين بُوَدْشان پايه و قدر تميز

ممكنى را در خيال اين گمرهان *** كرده اند از جهل خود واجب گمان

داده نسبت بخل يا غفلت بوى *** در ميانه خويش را دانسته شى

غير ممكن كى ز ممكن كرد فرق *** آنكه در درياى تشبيه است غرق

تا نشد اوصاف امكانيش فهم *** كى تواند ديد كوته دست وهم

تا ندانسته است اعراض عدد *** بر چه معنى خواهدش گفتن احد

هر كه او را از يقين معلوم نيست *** كاستحالات از صفات ممكنى است

هر چه گويد در رضا و در غضب *** زان منزّه دان جناب قدس ربّ

قوله : (إنّما يُداقُّ اللّه ُ العبادَ في الحسابِ) .[ح 7 / 7]

في شرح صدر المحقّقين :

المداقّة في الحساب هي المناقشة فيه ، وقد سبق أنّ عقول أفراد البشر متفاوتة في أصل .

ص: 131


1- بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 99 .

الجوهر قوّةً وضعفا ، وكذا عقولهم المكتسبة متفاضلة كمالاً ونقصا .

وعلمت أيضا أنّ التكاليف واقعة على حسب العقول ؛ فالأقوى عقلاً أشقّ تكليفا من الأضعف عقلاً ، فإذن يناقش في الحساب يوم القيامة مع أهل الفطانة والأقوياء بما لا يناقش به في الحساب مع الناقصين والضعفاء(1) . انتهى .

قوله : (فلانٌ من عبادتِه ودينِه وفَضْلِه) .[ح 8 / 8]

في شرح صدر المحقّقين : «فلان» مبتدأ، خبره محذوف ، كأنّه قال : «كامل» أو «معروف» أو نحو ذلك(2) .

قوله : (في جزيرةٍ من جزائرِ البحرِ) إلخ .[ح 8 / 8]

في البحار :

النضارة : الحسن . والطهارة هنا بمعناها اللغوي ، أي الصفاء واللطافة . وفي بعض نسخ الكافي بالظاء المعجمة ، أي كان جاريا على وجه الأرض . والنزاهة : البُعد عمّا يوجب القبح والفساد .(3) انتهى .

وقوله : «من جزائر البحر» للامتياز .

في الصحاح :

الجزيرة واحد جزائر البحر ، سمّيت بذلك لانقطاعها عن [معظم] الأرض ، والجزيرة موضع بعينه ، وهو ما بين دجلة والفرات . وأمّا جزيرة العرب ، فإنّ أبا عبيدة يقول : [هي[ ما بين حفر أبي موسى [الأشعري] إلى أقصى اليمن في الطول ، وفي العرض ما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة .(4)

وفي القاموس : «الجزيرة الخضراء : بلد بالأندلس . وجزيرة الذهب : موضعان بأرض مصر»(5) .

هذا ؛ وهاهنا إشكال عويص ، وهو أنّ العابد إن لم يتحقّق له الحمار وجودا وأوصافا).

ص: 132


1- شرح صدر المتألّهين ، ص 22 .
2- المصدر .
3- بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 85 .
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 613 (جزر).
5- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 389 (جزر).

بالرؤية أو بالسماع ممّن رآه ، فما يدري ما الحمار ؛ جمادٌ هو أو نبات أو حيوان ، راع أو آكل اللحم أو لاقط الحبّ ؟ وإن تحقّق له ؛ فما يعني بقوله : «ليس لربّنا حمار» ؟

وكثير من الناظرين في هذا الخبر تبادر إلى أذهانهم أنّ الرجل كان من المجسّمة ، فبادروا إلى استهزائه والضحك عليه ، ولا يرون الحديث موضعَ أن يتدبّروا فيه ؛ لعلّه يظهر للطائف حكمة اُودعت في مطاويه .

ولا شكّ أنّ الملك فهم وجه ضعف عقل العابد من محض كلماته التي نقلها الإمام عليه السلام لنا ، والظاهر أنّه عليه السلام إنّما نقلها لنا مفصّلةً لنفهم نحن أيضا ، فنُقبل إلى شأننا ، ونتدارك الضعف إن نجده فينا ، فينبغي أن لا نتساهل في التفهّم والتدبّر ، ولا نكتفي بما يتراءى لنا بادئ النظر .

فنقول أوّلاً : إنّ الملك صحب العابد يوما وليلة ، فلم يرَ منه نقصا ولا غلطا في آداب عبادته، وطريق مسلكه في الأكل والشرب والنوم، وغيرها من متعلّقات التعيّش حتّى يستدلّ به على منشأ قلّة الأجر مع كثرة العبادة ، مع أنّ الحامل له على النزول هو استطلاع ذلك ، فعلم من هذا أنّ العابد كان قد لاقى العلماء، وأخذ منهم ضروريّاتِ مسائله العمليّة على النهج الذي في شريعة ذلك الزمان ، ولم يكن من جَهَلَة العابدين الذين ما بنوا أعمالهم على أساسٍ متين ، كعوامّ الصوفيّة الذين أخذوا طريق العبادة عمّن علموا أنّه لم يتلمّذ عند علماء الشرع ، معلّلين بأنّ أصحاب الكشف مستغنون عن علماء الظاهر ؛ نعوذُ باللّه من الضلال والإضلال .

ثمّ إنّ الملك رأى للعابد أجرا في اللوح ، غاية الأمر أنّه استقلّه بالنظر إلى عبادته ، وهذا دليل على أنّه لم يفعل ما فعل - من تَرْك الدنيا واختيار العزلة وكثرة العبادة - رياءً وسمعةً ، ولا معتقدا في اللّه ما يوجب الخروج عن الدين وعن زمرة أصحاب اليمين ، كالقول بالتجسيم والتشبيه والجبر والتفويض ، وقد تظافرت الأخبار عن الأئمّة الأطهار بحيث كادت تبلغ حدّ التواتر أنّ القائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك ، وأنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة ، وأنّ من شبّه اللّه بصورة أو بمثال فقد كفر ، فكيف يظنّ

ص: 133

به أنّه كان من المجسّمة وأنّ مراده بالحمار المركب ؟ على أنّه قال : «ليس لربّنا حمار» .

وظاهر أنّ هذه الأخبار على وجه التحسّر والتلطّف ، وهذا يؤذن بأنّه كان مع اعتقاد التجسّم معتقدا لعجزه تعالى عن إيجاد حمار لنفسه على ذلك التقدير .

فإن قلت : لعلّ تحسّره على عدم مشيّته تعالى لخلق حمار لنفسه ، وكان يرجو إن خلقه يركبه يوما فينزل على الأرض ، ويمرّ بتلك الجزيرة ، فيحصل له انتفاع به ، وهو رعي الحشيش ، ورفع سماجة المنظر عن مكانه .

قلت : فما يمنعك أن تحمل قوله : «ليس لربّنا حمار» على عدم كون حمارٍ في تلك الجزيرة له تعالى ، واللامَ على نحو ما في آية الكرسيّ «لَّهُ مَا فِى السَّمَاوَ تِ وَ الاْءَرْضِ»(1)الترّهات : البواطل من الاُمور . لسان العرب ، ج 13 ، ص 480 (تره) .(2) مع الاعتقاد بكمال قدرته والتحسّر على عدم المشيئة ، وتستريح عن ارتكاب تلك التُرَّهات .(2)

وعلى هذا فالذي استدلّ به الملك على ضعف عقل العابد المقتضي لقلّة أجره تَحَسُّرُه على عدم مشيئة اللّه لخلق الحمار في ذلك المكان ، الدالّ على عدم رضائه بما شاء اللّه ودبّره وقضاه وقدّره .

والسلامة من هذا الضعف للأنبياء والأوصياء بالفطرة ، ولسائر الناس بارتياض العقل بالعلوم الحقيقيّة ومدارسة أحاديث المعصومين عليهم السلام الواردة في المعارف الإلهيّة .

ولهذا عرض عريض ؛ والداخلون في هذا العرض هم أصحاب اليمين ، وكلّهم مأجورون على عباداتهم ، ولكن بحسب القرب والبُعد إلى المنتهى ، وهو استكمال جنود العقل وتسخير جنود الجهل ، والخارجون عنه هم أصحاب الشمال ، وفي كلا الفريقين مستضعفون ؛ واللّه أعلم بما هو فاعل بهم .

ووجود الأجر في اللوح دلّ على أنّ العابد كان من أصحاب اليمين ، ولم يكن من .

ص: 134


1- البقرة
2- : 255 .

المجسّمة والمشبّهة الذين تظافرت الأخبار بكفرهم ، وليس غرضي في الاضطرار بنفي التجسيم عنه إلاّ الشفقة على ضعفاء الناظرين في هذا الحديث ، فإنّهم عسى أن يقعوا في القول بأنّ غاية ما يتخوّف على المرء بسبب العقائد الفاسدة قلّة الأجر ، لا عدم النجاة ، إذا اهتمّ بالعبادة والأوراد ، واكتفى من الدنيا بأكل الجشب من الطعام ، ولبس الخشن من اللباس كصوفيّة أهل السنّة ، بل الخوارج إذا لم يكن غرضهم المُراءاة والتراؤس ؛ إذ ليس لهم بأس على هذا التقدير إلاّ فساد عقيدتهم في الخلافة الناشئ من قلّة البحث والتفتيش ، وليس هذا الفساد بأعظم من فساد التجسيم .

أقول : ويمكن أن يقع بعضهم في القول بأجر أهل الرياضة من النصارى واليهود ، بل أهل الرياضة من الهنود ؛ فإنّه إذا رأى العابد في بادئ النظر مجسّما وقد اُجر ، فلا يستبعد أن يؤجر اُولئك أيضا ، وقد عرفت أنّ الأجر بالأعمال ملزوم النجاة ، ولأجل هذه المفاسد شمّرتُ ذيل العناية لنفي كون العابد من المجسّمة ، وإثبات أنّ ضعف عقله ضعفٌ لا يُسلم منه إلاّ بطول الرياضات العلميّة ، وهذا الحديث موضع عبرة للعامّي من صوفيّتنا الذي آثر الخلوة على مجالسة العلماء الربّانيّين ، والصمتَ والجوع والسهر ودوام الذكر على تتبّع أحاديث الأئمّة الهادين عليهم السلام المشتملة على الحقائق والمعارف ، بزعم أنّ تلك الخصال أقرب المسالك وأبعد عن المهالك للوصول إلى درجة اليقين والعرفان ، وفي أشعارهم :

صمت و جوع و سهر و عزلت و ذكر بدوام ناتمامان جهان را بكند كار تمام

ولعمري أنّهم أخطأوا في ذلك بعضَ الخطأ ؛ فإنّ تلك الخصال إنّما ترتقي بالمرء إلى ذروة الكمال إذا كان في حصن تربية اُستادٍ كاملٍ نظَر في أحاديث المعصومين عليهم السلام الذين هم قادة السالكين ، وسادة العارفين ، وعقل تلك الأحاديث عقلَ رعايةٍ لا عقلَ رواية ؛ فإنّ رواة الحديث كثير ورعاته قليل ، وعَرَفَ أحكام الشريعة المقدّسة : اُصولها، وفروعها ، ثمّ عمل بما علم، فعلّمه اللّه بذلك علم ما لم يعلم ، وأطلعه على غوامض الأسرار والحِكم التي ارتفعت عن أن يبلغها عقول العلماء

ص: 135

المفتونين بالدنيا ، وسيجيء في الحديث القدسي : «إذا رأيتم العالِم مفتونا بالدُّنيا، فَاتَّهِموه على دينكم ؛ فإنّ كلَّ محبّ لشيءٍ يَحوطُ ما أحَبَّ ، ألا وإنّ هؤلاء قُطّاع طريق عبادي المريدين ، وإنّ أدنى ما أنا صانعٌ بهم أن أنْزِعَ حلاوةَ مناجاتي من قلوبهم» .(1)

وذلك الاُستاذ هو المعبَّر عنه بين أهل الحقّ ب «شيخ» و«پير» . وقد قلت في المثنوي المسمّى ب «نان و پنير» (نظم) :

عقل چون از علم ، كامل مى شود *** وز تعلّم ، علم ، حاصل مى شود

در تعلّم نيست از دانا گزير *** آنكه خوانند اوستاد و شيخ وپير

پس مرا يارب بدانائى رسان *** تا ز شرّ جهل باشم در امان

وكنت قد اُعطيتُ شرفَ لقاء من كان بهذه الصفات ، ودَرَستُ اُصول الكافي وقدرا من التهذيب على حضرته ، وكان متوجِّها إليَّ كلّ التوجّه ، ولكن لم أعرف قدر هذه النِّعمة حقّ المعرفة ؛ إذ لم اُفوّض إليه أمري كلّ التفويض ليبلغ بي إلى ذروة العرفان ، حتّى أرتحل إلى دار الجنان ، وتركني يتيما منقطعا عن الأب الشفيق ؛ إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ؛ وهو العالم العارف ، الزاهد العابد ، مُحيي آثار أهل البيت عليهم السلام التقيّ المتّقي ، مولانا محمّد تقيّ المجلسي ، قدّس اللّه روحه ونوّر ضريحه .

فإن قلت : إنّك وصفت الصوفيّة بما وصفت ، وأنت أوردت في هذا الكتاب أشعارا من السنائي والعطّار والمشهور بمولانا الرومي وهم صوفيّة أهل السنّة ؟!

قلت : ما أوردت منهم كلُّها حِكمٌ ومعارفُ، وما يتضمّن محبّة اللّه والشوق إلى لقائه والرِّضا والتسليم والتقديس والتحميد على وجه يطابق مخزونات أحاديث المعصومين عليهم السلام طباقا يحصل الظنّ القويّ بأنّهم صرفوا مُدَدَ أعمارهم في التدبّر فيها ، وكذا معارفُ غامضة لم تكن موافقة لعقائد أهل السنّة ، لا أشعريّهم ولا معتزليّهم ، مثل نفي الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين ، قال في المثنوي (نظم) :

شبهه جبر از قدر رسواترست *** زانكه جبرى حسّ خودرا منكرست ظ.

ص: 136


1- الكافي ، ج 1 ، ص 46 ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، ح 4 ، مع اختلاف يسير في اللفظ.

وستسمع من هذه الأبواب في الموضع المناسب لها ، وسمعت مشايخي - رضوان اللّه عليهم - مثل العالم العامل الزاهد الذي سبق ذكره، والمحقّق المدقّق مولانا محمّد باقر الخراساني، والعارف المحقّق الربّاني مولانا محمّد محسن القاساني، يذكرونهم على وجه التوقير والتعظيم ويقولون : إنّهم كانوا شيعة، ولكن مبتلين بالتقيّة من علماء العصر وسلاطينهم ؛ وذلك من أبين الأشياء لمن يتدبّر ما مدحوا به الخلفاء .

قال السنائي في أواخر الحديقة (نظم) :

شادمان مصطفى و يارانش *** آنكه هستند دوستدارانش

چار يارى گزيده اهل سنا *** بر تن و جانشان زبنده دعا

مرتضى و بتول و دو پسرش *** آنكه سوگندِ من بود به سرش

مرمرا مدح مصطفى است غذا *** جان من بنده(1) جانش را بفدا

آل او را بجان خريدارم *** وز بَدى خواهِ آل ، بيزارم

دوستدار رسول و آل ويم *** زانكه پيوسته در نوال ويم

گر بَدَست اين عقيده و مذهب *** هم برين بد بداريم يارب

من زبهر خود اين گزيدستم *** كاندرين ره ، نجات ديدستم(2)

وقال في أوائل الحديقة بعد مدح الثلاثة (نظم) :

اى سنائى بقوّت ايمان *** مدح حيدر بگو پس از عثمان

در مديحش مدايح مطلق *** زهق الباطل است و جاء الحقّ(3)

وقال العطّار في منطق الطير بعد مدح الثلاثة :

خواجه ما(4) پيشواى راستين *** كوه حلم و باب علم و قطب دين

مرتضى و مجتبى،(5) زوج بتول *** خواجه معصوم و داماد رسول

مقتداى دين باستحقاق ، اوست *** مفتى امّت على الاطلاق ، اوست(6)6.

ص: 137


1- . في المصدر: «باد».
2- حديقة الحقيقة ، ص 746.
3- . حديقة الحقيقة ، ص 244.
4- . في المصدر: «خواجه حق».
5- في المصدر: «مرتضى، مجتبى».
6- منطق الطير(مقامات الطيور) ، ص 26.

فليتأمّل العاقل الفطن قولَه : «پيشواى راسيتن» وقوله : «خواجه معصوم» وقوله : «مقتداى دين باستحقاق اوست» .

ونِعمَ ما قال بعض أرباب الكمال (نظم) :

مرد بايد كه بو توانَد برد *** ورنه عالم پراز نسيم صباست

وقال المولوي في أواخر المثنوي ، وهذا عنوان النظم :

در تفسير اين خبر كه رسول اللّه صلى الله عليه و آله فرمود كه : «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» تا منافقان طعنه زدند كه بس نبودش كه ما مطيعى و چاكرى نموديم او را چاكرى كودكى مان هم مى فرمايد ، ثمّ قال (نظم) :

زين سبب پيغمبرِ با اجتهاد *** نام خود و آن على مولى نهاد

گفت هر كو را منم مولا و دوست *** ابن عمّ من على مولاى اوست

كيست مولى ، آنكه آزادت كند *** بند رقّيت زپايت بر كَنَد

چون بآزادى نبوّت هادى است *** مؤمنان را ز انبيا آزادى است

اى گروه مؤمنان شادى كنيد *** همچو سرو وسوسن آزادى كنيد(1)

هذا ؛ وأمّا أشعارهم التي يظهر منها القول بوحدة الوجود أو الموجود بالمعنى الذي يعلم كلّ ذي عقلٍ بطلانه ، فمتروكة الظاهر قطعا ؛ للقطع بأنّ صاحب تلك المعارف مبرّء عن الهذيانات التي علم كلّ أحد بطلانها ، فإن كانوا على ما وصفهم اُولئك الأعلام ، وإلاّ فلا يضرّ بنا إيراد أشعارهم الحقّة ؛ لأنّ الحكمة ضالّة المؤمن، أينما وَجَدَها أخَذَها(2) . وفي حديث أمير المؤمنين عليه السلام : «لا تنظر إلى مَن قال ، وانظر إلى ما قال» .(3)

ولنرجع إلى ما كنّا فيه من الكلام في حديث العابد ، فنقول : قول الملك : «وما لربّك

ص: 138


1- . مثنوى معنوى ، ص 1161، دفتر ششم، ش 4537 - 4541 .
2- اقتباس من الرواية المنقولة في الكافي ، ج 8 ، ص 167 ، ح 186، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «الحكمة ضالّة المؤمن ، فحيثما وجد أحدكم ضالّته فليأخذها» .
3- غرر الحكم ، ص 438 ، ح 10037 ؛ عيون الحكم والمواعظ ، ص 517 ؛ شرح مائة حكمة لابن ميثم البحراني ، ص 68 ، ح 10 ؛ كنزالعمّال ، ج 16 ، ص 197 ، ح 44218 .

حمار» بعد قول العابد : «ليس لربّنا حمار» جملة استفهاميّة معطوفة على جملة مقدّرة من باب قوله تعالى : «أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ»(1)البقرة(2) : 170 ؛ المائدة (5) : 104 .(2) ؛ «أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ»(2) كأنّه يقول : قد توافرت في هذه الجزيرة مياه ظاهرة لطيفة ، وأعشاب خضرة بهيجة ، وألوانٌ من الأزهار والأنوار ، وأنواعٌ من الفواكه والثِّمار ؛ وهذه نعماء جليلة رزقك الذي رَبّاك ، وأحسن إليك بها بعد أن هداك ، أوليس لربّك في جملة ماله في هذه الجزيرة من دلائلَ عظيمِ القدرة ، وآثارٍ جليل النِّعمة حمار ، وهو في جنب تلك النعماء التي أنعمك بها أمرٌ سهلٌ هيّن ؟

وهذا الاستفهام ليس على حقيقته في الحقيقة ؛ لأنّ العابد أخبر الملك بأن ليس للربّ حمار في هذا المكان ، فكيف يستفهم على وجه الحقيقة ؟

والظاهر أنّ الملك أظهر به التعجّب من عدم خلق الحمار في ذلك المكان مع شدّة الاحتياج به إليه ، على أنّ الغرض من هذا الإظهار المماشاة مع العابد كي يتنبّه من وجه التعجّب، بأنّ من كانت قدرته إلى حيث يصدر منها هذه الآثار العظيمة ، ورأفته ورحمته وبرّه وإحسانه إليه بهذه المثابة ، فعدم خلق الحمار في هذه الجزيرة ليس من جهة العجز ، أو البخل والضنّة ، أو السهو والغفلة ، بل لحكمة ومصلحة هو أعلم بها ، والعابد لضعف عقله لم يفطن بذلك ، بل زعم أنّ الملك موافق له في الرأي ، ولتصلّبه عليه تعجّب من الإخبار بعدم الحمار ، فأخذ يستدلّ عليه وقال : «لو كان له حمار ما كان يضيع هذا الحشيش» وهذا القول دليل بيّنٌ على أنّه حمل قول الملك : «وما لربّك حمار» على الاستفهام التعجّبي . والمستند في استعمال الاستفهام في التعجّب قول المحقّقين من النحاة .

قال ابن هشام في المغني :

قد تخرج الهمزة عن الاستفهام الحقيقي ، فترد لثمان معانٍ : التسوية ، والإنكار الإبطالي ، والإنكار التوبيخي ، والتقرير ، والتهكّم ، والأمر ، والتعجّب ، والاستبطاء .(3) .

ص: 139


1- البقرة
2- : 100 .
3- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 17 - 19 .

ومنع الشارح الفاضل الدماميني الانحصار ، وقال : أيّ مانع يمنع عن أن يكون كلمة الاستفهام عند امتناع حملها على حقيقته يتولّد لها بمعونة القرائن ما يناسب المقام خارجا عن تلك المعاني الثمانية .

وهذا القسم من ضعف العقل لمّا كان لأكثر العقول ، ولا يكاد يمكن مداواته إلاّ بارتياض العقل مدّة مديدة بمدارسة العلوم الحقيقيّة وملازمة العلماء الربّانيّين ، لم يتعرّض الملك لإرشاد العابد ورَدْعه عمّا هو عليه من عدم ارتضائه بما أجرى اللّه تعالى من تدبيره وقضائه وعرج ، ولو كان الرجل من المجسّمة وغرضه من الحمار وجود مركب للّه سبحانه لأمكن للملك بسهولة أن ينبّه على بطلانه .

وفي الحديث احتمالٌ آخَرَ، وهو أن يكون اللام في قول العابد : «ليس لربّنا بهيمة» للاختصاص ، بأن يكون لمّا رأى كلّ حمار في تلك الجزيرة وغيرها في تصرّف متصرّف بحيث لا يعارضه أحد ، زَعَمَ بضعف عقله أنّه ليس شيء منها للّه تعالى ، وإلاّ لما تصرّف فيه أحد ، كبيت اللّه وناقة اللّه ، فتمنّى أن يخصّ سبحانه لنفسه حمارا ، لا لاحتياجه إليه ؛ لتعاليه عن ذلك ، بل ليخدمه هو، ويرعاه في ذلك المكان تقرّبا إليه ، ولم يكن له قوّة عقل يحكم بما يحكم به العقول الكاملة من أنّه لا مُلك إلاّ للّه ، وكلّ ما في أيدي الناس إنّما هو ملك اللّه أعارهم إيّاه لينتفعوا به مدّة معيّنة على الوجه الذي أباحه لهم ، ثمّ إذا انقضت المدّة نزع ممّن آتاه ، وأعاره قوما آخَرين ؛ كما قال عزّ من قائل : «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ»(1) .

وأكثر عوامّ العبّاد والزُّهّاد وأشباههم من علماء القشر غافلون عن هذه الدقيقة ، وإن يقولوا بذلك فإنّما يقولون على وجه التكليف ، دون التحقّق، كما يظهر من أفعالهم وآثارهم .

وقول الملك : «وما لربّك حمار» استفهام إنكاري ، كأنّه يقول : عجبا أنّك تتمنّى له - تبارك وتعالى - مالكيّة حمار فقط، والحال أنّ كلّ الأشياء مملوكة له بالحقيقة ، الحمارَ .

ص: 140


1- آل عمران (3) : 26 .

وغير الحمار ؛ وإنّما أعار بعضها بعضا ، ولمّا لم يتفطّن العابد لمقصوده ؛ لقلّة بصيرته، وضعف عقله، وتوهُّمِ أنّه في شكّ من عدم حمار للّه في تلك الجزيرة ، حاوَلَ أن يخرجه من ذلك الشكّ ، فذكر ما زعم أنّه دليل قاطع على ما ادّعاه ، وقال : «لو كان له حمار ما كان يضيع هذا الحشيش» .

وفي البحار :

يُحتمل أن يكون اللام للاختصاص لا على محض المالكيّة ، بل بأن يكون لهذه البهيمة اختصاص بالربّ تعالى كاختصاص بيته به مع عدم حاجته إليه .

ويكون الجواب [الملك] : أنّه لا فائدة لمثل هذا الخلق حتّى يخلق اللّه حمارا وينسبه إلى جنابه، بخلاف البيت؛ فإنّ فيه حِكما كثيرة .(1) انتهى .

أقول : الظاهر أنّ قول الملك : «وما لربّك حمار» استفهام إنكاري ، فمقتضاه وجود حمار مخصوص للّه في تلك الجزيرة ؛ لأنّ نفي النفي إثبات ، كما في قوله تعالى : «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ»(2) .

ولو حمل على الإخبار الذي لايخفى بُعده، فينبغي أن يتكلّف ويقدّر فيه تعليل حتّى يتقابل كلاما الملكِ والعابد ، فيقالَ : مراد الملك : وما لربّك حمار مختصٌّ بجنابه ؛ إذ لا حكمة في وجوده ، بخلاف البيت المختصّ ، فيكون كلام العابد : «لو كان له حمار ما كان يضيع هذا الحشيش» إثباتَ حكمة في خلقه .

وعلى هذا كان العمدة في جزئي كلامِ الملك هو الجزء الثاني ، فتقدير ذلك الجزء والاقتصار على ذكر الجزء الأوّل ليس على ما ينبغي كما لايخفى .

وقد بسطنا الكلام في شرح هذا الخبر في المثنوي الذي سمّيته ب «نان و پنير» محتذيا بالمثنوي الذي للشيخ الأعظم بهاء الملّة والدين العاملي - قدّس اللّه روحه - المسمّى ب «نان و حلوا» وإذ كان مشتملاً على أسئلة وأجوبة لطيفة في سبكٍ حسن أحببتُ إيراده هاهنا :

حكايت عابد بنى اسرائيل كه در جزيره اى از جزاير بحر ، عبادت بسيار مى كرد و بسبب ضعف عقل ، ترقّى نمى نمود . .

ص: 141


1- بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 85 .
2- الزمر (39) : 36 .

عابدى از قوم اسرائيليان *** در عبادت بود روزان و شبان

روى از لذّات حسّى تافته *** لذّت جان ، در عبادت يافته

قطعه اى از ارض بود او را مكان *** كز سراى خلد مى دادى نشان

چون پر طوطى بهارش پايدار *** چون حيات، آبش لذيذ و خوشگوار

صِيت عابد رفت تا چرخ كبود *** بس كه بودى در ركوع و در سجود

قدسيى از حال او شد با خبر *** كرد اندر لوح ، اجرش را نظر

ديد اجرى بس حقير و بس قليل *** سرّ آن را خواست از ربّ جليل

وحى آمد كز براى امتحان *** قدرى از اوقاتْ با وى بگذران

پس ممثّل گشت پيش او ملك *** تا كند ظاهر عيارش بر محك

گفت عابد: كيستى؟ احوال چيست؟ *** زانكه با نا جنس نتوان كرد زيست

گفت : مردى از علايق رسته اى *** چون تو دل بر قيد طاعت بسته اى

حسن حالت ديدم و حسن مكان *** آمدم تا با تو باشم يك زمان

گفت عابد : گرچه نيكست اين مكان *** ليك عيبى نيز دارد حيف از آن

عيب آن باشد كه اين زيبا علف *** مى شود در صيف، نابود و تلف

كاش بودى ربّ ما را يك حمار *** تا چريدى اين علف بعد از بهار

گفت آن قدسى چو بشنيد اين مقال: *** نيست ربّت را خرى چشمى بمال

گفت عابد : گر خرى ربّ را بُدى *** اين علف ، پامال و ضايع كى شدى

تنبيه

هان تأمّل كن درين نقل شريف *** كاندران مطوى بود سرّ لطيف

استكشال

ظاهر عابد بُوَد تجسيم ربّ *** زان ، حمار از بهر رب كردى طلب

با چنين رأى بد زشت دغل *** چون توانش داد اجرى بر عمل

ص: 142

الجواب

مغتفر باشد چنين راى سخيف *** نزد حق از ناقص العقل ضعيف

ز آنكه بروى وَهْم مستولى شده *** عقلش از تسديد ، عاجز آمده

لا جرم در تحت حكم او بُوَد *** آنچه فرمايد بدان قايل شود

گر كند در غير جسم و حال جسم *** فكر و انديشه فتد اندر طلسم

غير حسّى نزد او موجود نيست *** نفى آن پس لايق معبود نيست

با چنين حالت بود مخلص اگر *** اجر دادن نيست از حكمت بدر

ردّ الجواب

عقلى ار نبود چو عقلِ اَزكيا *** بايدش تعليم گيرد زانبيا

انبيا را چيست تعليم عقول *** گوش كن گر نيستى ز اهل فضول

رفع ستر آنچه بتوانند ديد *** نقل و ذكر آنچه بايَدْشان شنيد

مى شود ظاهر عيار رأى ها *** گر همى سنجى بقول انبيا

چون شود آرا خلاقِ محكمات *** در نظر آيد صحيح آن ترّهات

منكشف گردد كه ناقص بوده عقل *** پس بَرو لازم شود تقليد نقل

وصف ذات اقدس حق چون كند *** بايد از قول رسل درنگذرد

نيست معذور او زراه ضعف عقل *** گر گريزد در پناه ضعف عقل

زانكه در تقليد دين تقصير كرد *** در خيالش ممكنى تصوير كرد

گشت آن معبودش اندر روز و شب *** ممكن مربوب را ناميده ربّ

غير خالق را عبادت مى كند *** وآن عبادت هم به عادت مى كند

باشدش شامل شود عفو خدا *** ليك اجرش نيست در حكمت روا

ردّ الردّ

آنچه گفتى گرچه حقّست و صواب *** شاهد حقّيّتش نصّ كتاب

«فاسألوا» فرموده در قرآنْ إلآه *** تا كه مسترشد نباشد بسته راه

ص: 143

ليك مستضعف در اصناف بشر *** گشته داخل از قضا و از قدر

«فاسئلوا» چون بشنوى از گوش جان *** آيه «لا يستطيعون» هم بخوان

باشد استضعاف تا حدّى رسد *** كه سؤال اندر خيالش نگذرد

عقلها را كرده خالق در نهاد *** مختلف اقدار بر حسْب مواد

شعله ها هر يك به حدّى منتهى است *** مشعلى از شمع جستن ابلهى است

جمله واقع دان به تدبير ازل *** از حكيم ذو الجلال لم يزل

وضع عالم، جمله بر حكمت نهاد *** هركسى را آنچه مى شايست داد

تحقيق حال على وجه لا يبقى للاستشكال مجال

ضعف عقلى از سياق ما جرا *** گرچه معلوم است هر ذى عقل را

ليك مخفى مانده وجه ضعف عقل *** فحص بايد كرد از فحواى نقل

چون ملك تا روز ديگر شد پديد *** منشأ نقصان اجر از وى نديد

گشت مستنبط ازين كان عقل سست *** بود اعمال و عباداتش درست

كرده بُد تصحيح آداب عمل *** تا نباشد در عباداتش خلل

مدّتى با اهل دانش خلطه داشت *** بعد از آن ، همّت سوى عزلت گماشت

بهر حق كرد آن جزيره اختيار *** چون نديد او بِهْ ز طاعت هيچ كار

احتياط آن دان كه تا حملى توان *** بر چنان مردى نگردى بد گمان

حكم بر نقصان او كن آنقدر *** كز كلامش لازم آيد و ز خبر

ظنّ و تخمين را مياور در ميان *** «إنّ بعض الظنّ إثمّ» را بخوان

بيش ازين ظاهر نشد از قول او *** گر خرى بهر چَرا كرد آرزو

گفت رب را كاش بودى يك حمار *** تا چريدى اين حشيش بى شمار

خواست خر بهر صفاى آن زمين *** زانكه علّت مقتضى نَبْوَد جز اين

بود غمگين عابد و مى گفت : حيف *** كين مكان گردد مشوّه فصل صيف

زانكه از گرما علف گردد حطام *** پس نمايد زشت اين جا و مقام

ص: 144

خر نبودن ، گشته عيب اين مكان *** ورنه مانندش نباشد در جهان

گر بُدى خر ، كردمى در وى رها *** چون علف افتادى از حسن و بها

هم نبودى خلق اينها بى مرام *** هم نگشتى زشت اين جا و مقام

مركب و تجسيم ازين بيگانه است *** ذكر شان از بابت افسانه است

عابد از تدبير حق راضى نبود *** خلقِ خر، در عقلش اصلح مى نمود

بود جاهل كانچه مى آيد پديد *** آنچنان بايد بر آن نَبْوَد مزيد

بهترين اوضاع و محكمتر نسق *** آن بود كان در وجود آمد ز حق

نيست تدبيرى چو تدبير ازل *** جمله مشكلها ازين گرديده حل

دفع اعتراضٍ ربما يخطر بالبال في هذا المقام

گر به ايجادى تو را حاجت بود *** ور به اعدامى تو را رغبت شود

بايد آن را كرد از حق مسئلت *** با خضوع وعجز و فقر و مسكنت

موقن و جازم كه گشته مستجاب *** ليك بر وجهى كه حق داند صواب

نه كه چون صبيان و جهّال عوام *** تنگ دل گردى نيابى چون مرام

ضعف عقل عابد آن بود اى عزيز *** كش نبود اين پايه عرفان و تميز

بود مركوز ضميرش كان مكان *** بى خرى معيوب باشد، حيف از آن

زعم او آن بُد كه بى ايجاد خر *** هست خلق آن حشايش بى ثمر

گفته گويا با وجود مصلحت *** خلقِ خَر نا كردن آمد بى جهت

كم بود عقلى كه سالم باشد او *** از چنين ضعفى كنى گر جستجو

پس مخند اى شيخ بر عابد ز جهل *** هان مَدان رستن ز نقص عقل سهل

در كمينِ خود نشينى گر دمى *** خويش را بينى كم از عابد همى

حق به سقمى مبتلا سازد تو را *** يا به فقر وفاقه اندازد تو را

خشم گيرى بر وى اندر باطنت *** گرچه در ظاهر نمائى ساكنت

بلكه گاهى هم كنى اظهار خشم *** بندى از انواع نعمتهاش چشم

ص: 145

مرد بايد كز خدا راضى بُوَد *** در امور خويش خود قاضى بود

گر تو خواهى تا ز حق باشى رضا *** نِه سر تسليم بر حكم قضا

وه چه خوش مى گفت پير عشق كيش *** چون به چرخ آمد ز شوق يار خويش:

عاشقم بر لطف و بر قهرش بجدّ *** اى عجب من عاشقِ اين هر دو ضدّ

نا خوشِ او خوش بُوَد بر جان من *** جان فداى يارِ تن رنجان من

عقل خود را آن زمان ميدان قوى *** كه دو اسبه سوى اين مقصد دوى

گر خَلَد در خاطرت «ياليت كان» *** آن ز ضعف عقل مِيدان بى گمان

قدر ضعف امّا بود حسب الرسوخ *** اين بود ميزانش اى شيخ الشيوخ

معنى ديگر بر سبيل احتمال :

احتمال دارد كه عابد گمان كرده باشد كه خرهائي كه در دست مردم است مِلك خدا نيست ، بلكه هر يك ملك حقيقى كسى است و به تدبير خود بهم رسانيده و جناب حق را جز در ايجادش ، دخلى نيست و از مضمون كريمه «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ»(1)البقرة(2) : 125 .(2) غافل بوده و زعمش آنكه ملك حضرت او آنست كه اختصاص بخود داده و عباد را از تصرّف و تملّك آن منع كرده از بابت ناقه و بيت در آيه «هٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً»،(3) «أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعَاكِفِينَ»(3) وبناى معنى سابق بر آنست كه در آن جزيره اصلا خرى نبوده و بناى اين معنى بر آنكه خرى كه به زعم عابد از خدا باشد نبوده (نظم) :

معنى ديگر به رسم احتمال *** مى توان گفتن كه ربّ نَبْوَد ملال

مرد عابد ديده بُدْ خرها بسى *** هر يكى را ليك در دست كسى

گفت اينها خود همه از مردم است *** هر يك از سعى خود آورده به دست

گشته هر يك مالك ملكى به عقل *** جز در ايجادش خدا را نيست دخل .

ص: 146


1- آل عمران
2- : 26 .
3- الأعراف (7) : 73 .

هر خرى چون هست ملك ديگرى *** پس نباشد حضرت رب را خرى

او ندانسته كه كُل از حق بُوَد *** جمله را حق ، مالك مطلق بود

هر كه را ملكى است از ايتاى اوست *** هر كه را مالى است از اعطاى اوست

نزع و ايتايش به وفق حكمت است *** هر يكى گاهى غضب ، گه رحمت است

منع و اعطا جمله بر حكمت نهاد *** هر كسى را آنچه مى شايست داد

عقل عابد را چو اين عرفان نبود *** با ملك كرد آن چنان گفت و شنود

هست در عقل تو نيز اين اختلال *** نفى خر كرد او ز حق ، تو نفى مال

گر تو اين اموال دانى ملك رب *** بهر چه در غصب و نَهْبى روز و شب

داده حق مالى به زيد و عَمر و بكر *** تو ستانى گه به قهر و گه به مكر

گر بود در عقد قلبت آنكه نيست *** مال جز ملك خدا پس بخل چيست

آنچه دارى ، مال حق دانى اگر *** پس بچشم عاريت در وى نگر

زان به هر وجهى كه خواهى نفع گير *** داده بهر انتفاع آن را مُعير

ليك نه وجهى كه مالك نهى كرد *** تا شوى از خجلت آن روى زرد

گر نكردى اين لوازم را ادا *** دعوى ملزوم كردن دان خطا

قوله : (إذا بَلَغَكُم عن رجلٍ حُسْنُ حالٍ فَانظُروا إلى(1) حُسنِ عَقلِه ، فإنّما يُجازى بحُسنِ عَقلِه(2)) .

حسن الحال مثل كثرة الصلاة والصوم ، وحسن الخُلق والسخاء والمروّة ، ورفض الدنيا والقناعة بما يكفي ، وكلّ هذا قد يكون الداعي إليه والحامل عليه اليقينَ باللّه وبما جاء به الرسول صلى الله عليه و آله كما في اُولي الألباب وأرباب العقول الكاملة ، وقد يكون الإذعانَ التقليدي ، كما في عوامّ الفرقة المحقّة ومستضعفي الفرق الباطلة ، وقد يكون الرياءَ والسمعة ؛ فلا يحكم بمجرّد حسن الحال على الحسن الواقعي ، بل يختبر عقله .

روى الشيخ الطبرسي في الاحتجاج عن الإمام أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام .

ص: 147


1- في الكافي المطبوع : «في» .
2- في الكافي المطبوع : «بعقله» بدل «بحسن عقله» .

أنّه قال : «إذا رأيتم الرجل قد حسن سَمْته وهدؤه ، وتماوَتَ في منطقه ، وتخاضَعَ في حركاته ، فرويدا لا يَغُرَّكم ؛ فما أكثر مَن يُعْجِزُه تناولُ الدنيا وركوبُ الحرام منها لضعف نيّته ومهانته وجُبن قلبه ، فنَصَبَ الدين فَخّا لها ، فهو لا يزال يَخْتِلُ الناس بظاهره ، فإن تَمَكَّنَ من حرام اقْتَحَمَه ، وإذا وَجَدتُموه يَعِفُّ عن المال الحرام فرويدا لايَغُرَّكم ؛ فإنّ شهواتِ الخلق مختلفةٌ ، فما أكثر من يَنْبُو عن الحرام وإن كثر، ويَحْمِلُ نفسَه على أسوئها(1) قبيحةً ، فيأتي منها محرّما ، فإذا وَجَدْتُموه يَعِفُّ عن ذلك فرويدا لا يَغُرَّكم حتّى تَنظُروا ما عقدة عقله ، فما أكثر من تَرَك ذلك أجمعَ ثمّ لا يرجع إلى عقلٍ متين ، فيكون ما يُفْسِدُه بجهله أكثرَ ممّا يُصْلِحُه بعقله ، فإذا وَجَدْتُم عقلَه متينا فرويدا لا يَغُرَّكم حتّى تَنظروا أ مع هواه يكون على عقله ، أو يكون مع عقله على هواه ، وكيف محبّته للرياسات الباطلة وزهده فيها ؛ فإنّ في الناس من خَسِرَ الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أنّ لذّة الرياسات الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنِّعَمِ المباحة المحلّلة ، فيَتْرُكُ ذلك أجمعَ طلبا للرياسة ، حتّى «إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاْءِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ»(2) فهو يخبط عَشْواء(3) ، يقوده أوّلُ باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمدّه ربّه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه ، فهو يحلّ ما حرّم اللّه ، ويحرّم ما أحلّ اللّه ، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رياسته التي قد شقي من أجلها ، فأُولئك الذين غضب اللّه عليهم، ولعنهم، وأعدَّ لهم عذابا مهينا ، ولكنّ الرجلَ كلَّ الرجلِ نِعْمَ الرجلُ هو الذي جَعَلَ هواه تبعا لأمر اللّه ، وقُواهُ مبذولةً في رضى اللّه ، يرى الذُّلَّ مع الحقّ أقربَ إلى عِزّ الأبد من العزّ في الباطل ، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّي إلى دوام النِّعمَ في دارٍ لا تبيد ولا تنفد ، وأنّ كثير ما يلحقه من سرّائها إن اتّبع هواه يؤدّيه إلى عذابٍ لا انقطاع له ولا يزول ؛ فذلكم الرجلُ نِعْمَ الرجل ، فبه تَمَسَّكوا ، وبسُنّته فاقتدوا إلى ربّكم ، فبه فتوسّلوا ؛ فإنّه لا تُرَدُّ له دعوةٌ، ولا تُخَيَّبُ له طَلِبَةٌ» .(4) .

ص: 148


1- في المصدر : «شوهاء» . والشوهاء : الكريهة المشؤومة . لسان العرب ، ج 13 ، ص 508 (شوه) .
2- البقرة (2) : 206 .
3- أي يخبط على غير بصيرة . اُنظر: لسان العرب ، ج 15 ، ص 60 (عشو) .
4- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 320، عن الرضا عليه السلام عن عليّ بن الحسين عليهماالسلام .

وفي خطبة من خطب نهج البلاغة :

«أيّها الناس ، إنّا قد أصبحنا في دهرٍ عَنود ، وزَمَنٍ كَنودٍ(1)، يُعَدُّ فيه المحسنُ مسيئا ، ويزدادُ الظالمُ فيه عُتُوّا ، لا نَنْتَفِعُ بما عَلِمْنا ، ولا نَسألُ عمّا جَهِلْنا ، ولا نَتَخَوَّفُ قارعةً حتّى تَحُلَّ بنا ، فالناس على أربعة أصنافٍ :

منهم : من لا يَمْنَعُه الفسادَ في الأرض إلاّ مَهانةُ نَفْسِه وكَلالةُ حَدّه ، ونَضيضُ وَفْرِه .(2)

ومنهم : المُصْلِتُ(3) بسيفه ، والمُعْلِنُ بشَرّه ، والمُجْلِبُ بخَيْله ورَجله(4) ، قد أشْرَطَ نفسَه، وأوبَقَ دينَه لحطامٍ يَنتَهِزُه ، أو مِقْنَبٍ(5) يَقودُه ، أو منبرٍ يَفْرَعُه ، ولبئسَ المَتجَرُ أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا ، وممّا لك عند اللّه عِوَضا .

ومنهم : من يَطلُبُ الدنيا بعمل الآخرة ، ولا يَطلُبُ الآخرةَ بعمل الدنيا، قد طامَنَ من شَخْصِه،(6) وقارَبَ من خُطْوِه ، وشَمَّرَ من ثوبه، وزَخْرَفَ من نَفْسِه للأمانة ، قد اتّخذ سِتْرَ اللّه ِ ذريعةً إلى المعصية .

ومنهم : مَنْ أقعده(7) على طلب الملك ضُؤولة(8) نفسه، وانقطاع سببه ، فقَصَرَتْهُ الحالُ على حاله ، فتَحَلّى باسم القناعة ، وتزيّن بلباس أهل الزهادة ، وليس من ذلك في مَراحٍ ولا مَغدًى .

وبَقِيَ رجالٌ غَضَّ أبصارَهم ذِكْرُ المرجِعِ ، وأراقَ دُموعَهُم خوفُ المحشر ، فهم بين

ص: 149


1- أي لاخير فيها . والكنود : الكفور . اُنظر: مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 138 (كند).
2- النَّضيض والنَّضيضة من كلّ شيء : قليله . و«نَضيضَ وفره» أي قلّة ماله . راجع : لسان العرب ، ج 7 ، ص 236 (نضض) ؛ و ج 5 ، ص 287 (وفر) ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 2 ، ص 176 .
3- أصْلَتَ سيفَه : جَرّده من غِمْده . اُنظر : لسان العرب ، ج 2 ، ص 53 (صلت) .
4- قال ابن أبى الحديد : «المُجلب ، اسم فاعل من أجلب عليهم ، أي أعان عليهم . والرَّجل ، جمع راجل ، كالركب جمع راكب ، والشرب جمع شارب» . شرح نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 176 .
5- المِقْنَب من الخَيل : ما بين الثلاثين إلى الأربعين . لسان العرب ، ج 1 ، ص 690 (قنب) .
6- قال ابن أبي الحديد : «طامن عن شخصه ، أي خفض . وقارب من خطوه : لم يسرع ومشى رويدا» . شرح نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 177 .
7- في المصدر : «أبعده» .
8- الضؤولة : الصغارة والحقارة . والضئيل : الصغير الحقير . راجع : لسان العرب ، ج 11 ، ص 388 (ضأل) .

شَريد نادٍّ(1) ، وخائف مقموع، وساكتٍ مَكْعومٍ،(2) وداعٍ مُخْلِصٍ ، وثَكلانَ مُوجَعٍ ، قد أخمَلَتْهُم التقيّةُ ، وشَمِلَتْهُم الذلّةُ ، فهم في بحرٍ اُجاج ، أفواههم ضامِزة،(3) وقلوبهم قَرِحَةٌ، قد وَعَظوا حتّى مَلّوا ، وقُهِروا حتّى ذَلّوا ، وقُتِلوا حتّى قَلّوا ، فلتكن الدنيا أصغر في أعينكم من حُثالَةِ القَرَظ(4) ، وقُراضَة الجَلَمِ(5) ، واتّعظوا بمن كان قبلَكم قبل أن يَتَّعِظَ بكم مَنْ بَعْدَكم ، وارفُضُوها ذَميمةً ؛ فإنّها قد رَفَضَتْ مَنْ كان أشغَفَ بها منكم» .(6)

قوله : (ما قَسَمَ اللّه ُ للعبادِ [شَيْئا] أفضَلَ من العقلِ) .[ح 11 / 11]

العقل قسمان : غريزي، وكسبيّ . والكسبيّ هو الذي اُخرج من القوّة إلى الفعل بالتجارب ، وتعلّم العلوم والآداب والعمل بها ، وكلاهما بحسب القسمة الأزليّة في التدبير الأزلي ، وسيجيء في باب البداء وبابٍ قبله وبابٍ بعده معنى التدبير الأزلي ، وليست التسوية مأخوذة في مفهوم القسمة .

قال المطرزي في المغرب : «القسم - بالفتح - مصدر قسم القسّام المال بين الشركاء : فرّقه بينهم، وعيّن انصباءهم » انتهى .(7)

نعم ، إذا استعمل مع «على» اُريد التسوية ، فلكلّ مكلّف من كلّ من الغريزي والكسبي قسمة ونصيب .

والعاقل في قوله صلى الله عليه و آله : (نومُ العاقلِ أفضَلُ مِن سَهَرِ الجاهلِ) مَن وُفّق لإخراج ما في قوّته الغريزيّة إلى الفعل ، وحفظه عن استيلاء الهوى وغلبة حبّ الدنيا ..

ص: 150


1- شريد نادّ ، أي مطرود ذاهب لوجهه ؛ إما لإنكاره ، أو لقلّة صبره على مشاهدته . مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 15 (ندد).
2- كَعَمَ البعير يَكْعَمُه كَعْما ، فهو مَكعوم وكَعيم : شدّ فاه . لسان العرب ، ج 12 ، ص 522 (كعم) .
3- «ضامزة» بالزاي ، أي ساكنة . راجع : الصحاح ، ج 2 ، ص 881 ؛ لسان العرب ، ج 7 ، ص 232 (ضمز) .
4- الحُثالة والحُثال : الرديء من كلّ شيء . والقرظ : شجر يُدْبغ به . لسان العرب ، ج 7 ، ص 54 (قرظ) ؛ وج 11 ، ص 142 (حثل) .
5- قال ابن أبي الحديد : «الجلم : المقصّ ، تجزّ به أوبار الإبل. وقراضته : ما يقع من قرضه وقطعه» . شرح نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 177 .
6- نهج البلاغة ، ص 74 ، الخطبة 32 .
7- المغرب ، ص 382 (قسم).

والمراد بالجاهل هنا من فرّط في ذلك ، واكتفى بتقليد الحقّ ليكون اسم التفضيل على معناه الحقيقي ، والسهر والشخوص ما يكون على الوجه الصحيح، وإن أخذ أعمّ منه ومن المجازي الذي هو مجرّد الفضل ، فالتفضيل بالنسبة إلى غير الصحيح، كما في قولهم : الخلّ أحلى من العسل ، وكما في قوله تعالى : «فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُواْ الْبَيْعَ ذَ لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ»(1) .

قوله : (بَشَّرَ أهلَ العقلِ والفهمِ) .[ح 12 / 12]

المراد بالعقل هنا مصدر عقل ، بمعنى تدبّر وتفكّر ؛ بقرينة إردافه بالفهم .

قوله : «يستمعون القول» .[ح 12 / 12]

أي لا يعرضون عن سماع الدعوة إذا لم يكونوا على يقين ببطلان خلاف ما هم عليه، كما أعرض الاُمم السابقة ؛ قال تعالى حكايةً عن نوح عليه السلام : «وَ إِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوآاْ أَصَابِعَهُمْ فِىآ ءَاذَانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَ أَصَرُّواْ وَ اسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَارًا»(2) ، وقال تعالى : «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ»(3) ، فأمر اللّه تعالى تبشير المشتاقين إلى الحقّ ، وهم الذين إذا وقعوا بين دعوات متقابلة لم يعرضوا عنها أجمع ، كما يفعله الملاحدة الفجرة ؛ خوفا للزوم شيء عليهم ، وكما يفعله المقلّدة للآباء والأسلاف المتمكّنة بقريحتهم التي اُعطوها من تمييز الحقّ والباطل ؛ خوفا للزوم ترك طريقة الآباء ، بل استمعوها استماع دراية ، ثمّ لم يبادروا إلى اتّباع واحدة منها لغرضٍ باطل من مالٍ أو جاهٍ أو ما أشبههما ، بل تأمّلوا فيها، فاتّبعوا أحسنها الذي هو الحقّ ، على أنّ اسم التفضيل منسلخ عن معنى الزيادة ، وضمير «أَحْسَنَهُ» في الآية إلى القول ، والقول عامّ للباطل والحقّ .

وهاهنا محمل آخر ، وهو أن يكون الضمير عائدا إلى مصدر الفعل ، أي يتّبعون أحسن اتّباع ، فالقول على هذا هو الكلام الحقّ .

وكلا المحملين مراد ، ومثل هذا كثير في القرآن المجيد ، وهذا الحديث يلائم الأوّل .

ص: 151


1- الجمعة (62) : 9 .
2- نوح (71) : 7 .
3- فصّلت (41) : 26 .

ويلائم الثاني ما سيجيء في باب رواية الكتب والحديث من قول أبي عبداللّه عليه السلام في رواية أبي بصير، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : قول اللّه جلّ ثناؤه: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»؟(1) قال : «هو الرجل يسمع الحديث، فيحدّث به كما سمعه ، لا يزيد فيه ولا ينقص منه»(2) فتدبّر .

وسنبيّن في باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه أنّ في آية «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّه ُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ»(3) يقولون محملين كلاهما مراد ؛ هذا .

ومن التمييز الموجب لاستحقاق هذه البشارة أن ينظر المستمع أيّ الأقوال أقرب من الأمن ، فيقف عليه إلى أن يتحقّق الأمر ، وبذلك ألزم الحجّة في قوله تعالى : «فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالاْءَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»(4)بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 152 ، ح 1 .(5) ، وسيجيء في كتاب التوحيد من قول الرضا عليه السلام للزنديق : «إن كان القولُ قولَنا وهو قولُنا ، ألستم قد هلكتم ونَجَوْنا» .(6)

ومثله في رواية المفضّل عن الصادق عليه السلام ، قلت - يعني للزنديق الذي يحكي الإمام عليه السلام مناظرته معه - : «أرأيت إن كان القول قولك، فهل تخاف عليَّ شيئا ممّا اُخوّفك به من عقاب اللّه ؟» قال: [لا] قلت : «أفرأيت إن كان كما أقول والحقّ في يدي ، ألستُ قد أخذت فيما كنت اُحاذر من عقاب الخالق بالثقة ، وأنّك قد وقعت بجحودك وإنكارك في الهلكة ؟» قال : بلى ، قلت : «فأيّنا أولى بالحزم وأقرب من النجاة ؟» الحديث .(6)

قوله : «اُولئك الذين هداهم اللّه»(7) .[ح 12 / 12]

استئناف بإعادة ما استؤنف عنه بصفته ؛ فإنّ اسم الإشارة هاهنا في قوّة الموصوف بالصفات المذكورة ، فصار بمنزلة قولهم : «أحسنت إلى زيد صديقك حقيقٌ بالإحسان» وهذا أبلغ أن تستأنف بالإعادة بالاسم كأن تقول في المثال : «زيدٌ حقيقٌ .

ص: 152


1- الزمر (39) : 18.
2- الكافي ، ج 1 ، ص 51 ، باب رواية الكتب والحديث و ... ، ح 1 .
3- آل عمران(3) : 7 .
4- الأنعام
5- : 81 .
6- الكافي ، ج 1 ، ص 78 ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ، ح 3 .
7- الزمر (39) : 18 .

بالإحسان» لما فيه من بيان المقتضى للإحسان ؛ فإنّ في تعليق الحكم على الوصف إيذانا بأنّه الموجب للحكم .

والسؤال المتّجه في الآية المستدعي للاستئناف قول القائل من اُولئك العباد الذين أضافهم اللّه إلى نفسه تشريفا لهم وتكريما ، كما في قوله : «إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ»(1) .

ثمّ أشعر بعلّة التشريف والتكريم بأنّهم امتازوا من بين سائر العباد ، وفازوا بمثل هذا الرشاد ، ولهذا اُجيب بأنّ «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللّه ُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الاْءَلْبَابِ»(2) ؛ كأنّه قيل : الموصوفون بهذه الصفات جماعة محكوم عليهم بهذين الحكمين ، وإنّما ذكر الحكم الأوّل للإشعار بأنّهم فعلوا ما فعلوا لا بحولهم وقوّتهم ، بل بهداية اللّه وتوفيقه .

ثمّ أردفه بالحكم الثاني إيذانا لجهة القابليّة للهداية بعد ذكر الجهة الفاعليّة . وهذه النكتة ممّا استفدنا من شرح صدر المحقّقين .(3)

وفي الآية احتمال آخر وهو أن يكون الاستئناف قوله تعالى : «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ»لا اُولئك ، إلاّ أنّ ما حرّرناه أوجه .

قوله : (إنّ اللّه َ أكْمَلَ للناسِ الحُجَجَ بالعقولِ ، ونَصَرَ النبيّينَ بالبيانِ) .[ح 12 / 12]

في القاموس : «الحجّ : الغلبة بالحجّة . والحُجّة - بالضمّ - : البرهان»(4) انتهى .

ولعلّه إنّما سمّي بها البرهان؛ لأنّه يُغلب به على الخصم ، ومجيء فُعْلة بمعنى ما يفعل به قياس مطّرد ، كالقوّة لما يقوى به ، والوصلة لما يوصل به ، واللقمة لما يلقم به ، ولمّا كان العاقل المنصف إذا رأى أمرا يظهر له به حقّيّةُ دعوى المدّعي خَضَعَ له واستسلم ، فقد غلب المدّعي - بالكسر - بذلك الأمر صاحبه ، فالأمر حجّة؛ لأنّه ما يغلب به ، وكذلك العقل ممّا يغلب به مدّعي الباطل ، والنبيّ بما به من آثار النبوّة ممّا يغلب به مَن في الكفر ؛ فهما حجّتان .

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّه ليس المراد بالحجج هاهنا المعصومين من الأنبياء .

ص: 153


1- الحجر (15) : 42 ؛ الإسراء (17) : 65 .
2- الزمر(39) : 18 .
3- شرح صدر المتألّهين ، ص 26 .
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 182 (حجج) .

والأئمّة عليهم السلام ، وإلاّ لكان مقتضى الاُسلوب : «ونصرهم بالبيان» بل المراد بها دقائق الصنع ، ولطائف التدبير المودعة في أجزاء العالم ، كما ورد في خطبةٍ من خطب أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة حيث قال : «فصارَ كلُّ ما خَلَقَ حُجّةً له ودليلاً عليه ، وإن كانَ خَلقا صامتا فحُجَّتُه بالتدبير ناطقةٌ ، ودلالتُه على المُبْدِع قائمةٌ » الخطبة .(1)

ولمّا كانت العقول هي المدركة لتلك اللطائف والدقائق، وهي الحاكمة بحجّيّتها ، صَحَّ أنّ الحجج كملت بالعقول .

ثمّ اعلم أنّه إنّما يقال : «أكمل لهم الحجّة» إذا كان الغرض إيضاحَها لينتفعوا بها في الإذعان عند الدعوة، والإلزام عند المخاصمة ، فإذن يكون المراد بالناس مَن علم اللّه تعالى انتفاعهم بالحجج ، وسبقت لهم من اللّه الحسنى ، ولو كان الغرض إيضاحَها لقطع العذر وسدّ باب الاعتلال لقيل : «أتمّ عليهم الحججَ» لا أكمل لهم ، ويشهد بذلك - مضافا إلى الاعتبار - تتبّعُ موارد الاستعمال .

وقوله عليه السلام : «ونصر النبيّين» على تقدير الفعليّة ، معناه أنّه سبحانه أعان أنبياءه على المعاندين عند محاجّتهم إيّاهم بإعطاء البيانات الوافية الملزمة ، كما قال عزّ من قائل : «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ»(2) .

ويحتمل أن يكون مصدرا مجرورا بالعطف على العقول ، والبيان متعلّقا به ، والمعنى أنّ اللّه تعالى أوضح الحجج لطالبي الحقّ بالعقول الصحيحة التي أعطاهم ليدركوا بها حجّيّتها ، وبنصر النبيّين إيّاهم بالبيانات المنبّهة عليها لكي لايغفلوا عنها .

وفي خطبةٍ من خطب نهج البلاغة :

«فبعث فيهم رُسُلَه ، وواتَرَ إليهم أنبياءَه، لِيَستأدوهم ميثاقَ فطرته ، ويُذَكِّروهم مَنسِيَّ نعمته ، ويَحتَجّوا عليهم بالتبليغ ، ويُثيروا لهم دفائنَ العقولِ ، ويُروهم آثار القدرة(3) من سَقفٍ فوقَهم مَرفوعٍ ، ومهادٍ تَحتَهُم موضوعٍ» الخطبة .(4) .

ص: 154


1- نهج البلاغة ، ص 125 ، الخطبة 91 .
2- الأنعام (6) : 83 .
3- في المصدر : «آيات المَقدرة» .
4- نهج البلاغة ، ص 43 ، الخطبة 1 .

ولقوله عليه السلام : «ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة ، فقال» كمال ارتباط بهذا الوجه ، وهو عندي أوجه الوجوه وأحسن المحامل ؛ فتدبّر .

قوله : (وَدَلَّهُم على ربوبيّته بالأدلّةِ ، فقال : «وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ» إلى قوله :«لاَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»)(1)القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 70 (ربب) .(2) .[ح 12 / 12]

في القاموس في باب الباء الموحّدة : «الربّ لا يُطلق لغير اللّه ، والاسم: الرِّبابة، والربوبيّة . وربّ كلّ شيءٍ: مالكه» .(2) ومثله في الأساس والنهاية والمجمل .(3)

وقول البيضاوي : «الربّ في الأصل [مصدر] بمعنى التربية»(4) إن أراد أنّه معتلّ اللام، فيأباه إيراد اُولئك الأعلام في باب الباء ، ولعلّه أراد أنّ معناه الأصليَّ التربية ؛ وهذا دعوى لا بيّنة عليها .

نعم ، ذكر صاحب المغرب : «ربّ ولده ربّا ، وربّبه تربيبا ؛ بمعنى ربّاه» .(5)

وذكر صاحب النهاية :

أنّ الربّ يُطلق في اللغة على المالك والسيّد والمربّي والمدبِّر والمتمّم(6) والمنعم ، ولا يطلق غيرَ مضاف إلاّ على اللّه تعالى ، وإذا اُطلق على غيره اُضيف ، فيُقال : ربّ كذا . وقد جاء في الشعر مطلقا على غيره ، وليس بالكثير .

قال :

وفي حديث ابن عبّاس [مع الزبير] : «لاَءن يربّني بنو عمّي أحبُّ إليّ من أن يربّني غيرهم» . وفي رواية : «وإن ربّوني ربّني أكفاء [كرام]». يُقال : ربّه يربّه ، أي كان له ربّا . وفيه : «ألك نعمةٌ تربّها» أي تحفظها وتراعيها وتربّيها كما يربّي الرجل ولده . [يقال : ربّ فلان ولده] يربّه ربّا وربّبه وربّاه ، كلّه بمعنى واحد .(7)

وغاية ما دلّ عليه كلامهم أنّ التربية أحد معاني الربّ ، لا أنّها معناه الأصلي . والذي .

ص: 155


1- البقرة
2- : 163 - 164 .
3- أساس البلاغة ، ص 214 ؛ النهاية ، ج 2 ، ص 179 ؛ مجمل اللغة ، ج 2 ، ص 365 (ربب) .
4- أنوار التنزيل ، ج 1 ، ص 51 .
5- المغرب ، ص 180 (ربب) .
6- في المصدر : «والقيّم» .
7- النهاية ، ج 2 ، ص 179 - 180 (ربب) .

أرى أنّ التربية من الريب من باب التظنّي من الظنّ .

في الصحاح : «التظنّي: إعمال الظنّ ، وأصله التظنّن ، اُبدل من إحدى النونات ياءً» .(1) ومثله في القاموس .(2)

وقال صاحب المغرب : «أمّا الإملاء على الكاتب فأصله الإملال» .(3)

ومقتضى قوله عليه السلام : «ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة ، فقال : «وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ»» ربوبيّته تعالى وإلهيّته بمعنى ، ولعلّه استعمل الربوبيّة هاهنا في معنى المالكيّة ، والمالك الحقيقي يتذلّل له الملوك فضلاً عن غيرهم ، فيؤول معنى الإله ؛ لأنّه بمعنى المعبود ، أي المتذلّل له بالاستحقاق كما ستعرف .

والمراد بالأدلّة هي المذكورات في الآية الثانية ، والآية الاُولى إنّما هي لذكر المطلوب المستدلّ عليه الواجب تقديمه ، ودلالة اللّه على ربوبيّته بالأدلّة وقعت مرّتين : مرّة بأن سطرها بقلم الإبداع في رقّ الإمكان ، ومرّة بأن نبّه عليها بلسان نبيّه ونجيّه وأمينه على وحيه صلى الله عليه و آله . والفاء في قول الإمام عليه السلام : «فقال» هي التي يؤتى بها لتفصيل ما اُجمل ، كما في قوله تعالى : «وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ»(4) ، وقولك : «توضّأتُ، فغسلتُ وجهي ويدي ، ومسحتُ رأسي ورجلي» .

ثمّ اعلموا أيُّها الإخوان - رقى اللّه بكم إلى أقصى درجات الإيمان - أنّ اللّه تبارك وتعالى أخبر في كتابه العزيز عن غرض الخلقة ، فقال : «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(5) .

وفي خطبة مولانا الرضا عليه السلام التي رواها الصدوق - طاب ثراه - في كتاب عيون الأخبار : «أوّل عبادة اللّه معرفته ، وكمال معرفته توحيده» الخطبة .(6)

وهذه الآية التي نحن فيها في أمر التوحيد ، واللّه تعالى بكمال رأفته ورحمته بكم .

ص: 156


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 216 (ظنن) .
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 245 (ظنن) .
3- المغرب ، ص 434 (ملي) .
4- هود (11) : 45 .
5- الذاريات (51) : 56 .
6- عيون أخبار الرضا، ج 1 ، ص 149 ، ح 51 . وفيه : «أصل معرفة اللّه» بدل «كمال معرفته» .

وسبقة الحسنى منه لكم نبّهكم فيها على أدلّة ربوبيّته وإلهيّته . فإذن معرفة جهات دلالتها غايةُ المرام ، فكان المقام جديرا ببسط الكلام ، وعدم المبالاة بعدم موافقته لبعض الأفهام ؛ إذ الغرض في هذا الجمع أن أدّخر لنفسي في أيّام قوّة القوى ما يكون تذكرةً لي في أيّام الضعف والوَنْى ، والغير منظور بالنظر الثاني على أنّه نقل في التفاسير عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «ويلٌ لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها»(1) أي لم يتفكّر فيها ولم يتدبّرها ، والمجّ في الأصل قذف الماء من الفم .

وبعد تقديم الاعتذار نقول :

تبيين المرام من الآيتين الشريفتين في عدّة فصول فصل :

ذكر البيضاوي في بيان مأخذ الجلالة :

أله آلهة واُلوهة واُلوهيّة بمعنى عبد . وأله : إذا تحيّر . وألهت إلى فلان : إذا سكنت إليه . وأله : إذا فزع من أمرٍ نزل . وألهه غيره : أجاره . وأله الفصيل : إذا ولع باُمّه . ووله : إذا تحيّر .

قال :

وقيل : أصله لاهٌ مصدر لاه يليه لَيْها ولاها : إذا احتجب، وارتفع .(2)

وفي الصحاح :

أله - بالفتح - إلهةً ، أي عبد عبادة ، ومنه قرأ ابن عبّاس : «ويذرك وإلهتك» بكسر الهمزة . وتقول : أله يأله ، أي تحيّر ، وأصله وَلَه . وقد ألهت على فلان : إذا اشتدّ جزعي عليه .(3)

أقول : الجلالة وإن احتمل أن يكون أصله أحد المعاني المذكورة إلاّ أنّ المستفاد من تضاعيف الأخبار أنّه من «أله» بمعنى عَبَدَ ، أي خضع وتذلّل ، ويستلزم الخضوعُ والتذلّل الإطاعةَ والانقياد . وفي التنزيل : «لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ»(4) و«أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ

ص: 157


1- تفسيرالثعلبي ، ج 2 ، ص 33 ؛ تفسير القرطبي ، ج 2 ، ص 201 ؛ أنوارالتنزيل للبيضاوي ، ج 1 ، ص 437 .
2- أنوار التنزيل ، ج 1 ، ص 32، مع تلخيص .
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2223 (أله) .
4- النحل (16): 51.

هَوَاهُ»(1) ، وحكايةً عن المشركين: «أَجَعَلَ الاْآلِهَةَ إِلَها وَاحِدا»(2) ، وحكاية عن فرعون : «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَها غَيْرِى»(3) .

وسيجيء في باب معاني الأسماء واشتقاقها تمام الكلام في هذا الباب .

فصل :

قال ابن مالك في كتابه عمدة الحافظ وعُدّة اللافظ :

إنّ المضاف إلى المعرفة معرفة إن لم يقدّر انفصاله ؛ لكونه وصفا يعمل فيما اُضيف إليه عملَ الفعل ، نحو : هذا رجلٌ مكرم الأضياف ، كريم الشمائل ، محمود السير . أو لتأوّله بما هو كذلك ، نحو : مررت برجلٍ مثلك وشبهك وغيرك ، أي مماثلك ومُشبهك ومغايرك . أو لجعله بمباشرة، أو عطفٍ معمولَ ما لا يعمل إلاّ في نكرة . والمباشرة نحو : لا أبا لك ، ولا يدي لك بهذا الأمر، ولا أخا للمُقْترّ ، فهذه وأمثالها مضافات إلى ما بعد اللام ، واللام مُقْحَمَة . والعطف نحو : كم ناقة لك وفصيلها ، وربّ رجل وأخيه .

انتهى ما أخذنا من ذلك الكتاب .

وقال التفتازاني في مبحث تعريف المسند ، وأنّه يجب فيه معلوميّة الطرفين ، سواء كان التعريف بالإضافة أو غيرها :

يؤيّده ما ذكره النحاة من أنّ تعريف الإضافة باعتبار العهد ؛ فإنّك لا تقول : «غلام زيد» إلاّ لغلام معهود بين المتكلّم والمخاطب باعتبار تلك النسبة ، لا لغلام من غلمانه ، وإلاّ لم يبق فرق بين المعرفة والنكرة .

نعم ، ذكر بعض المحقّقين من النحاة أنّ هذا أصلُ وضعِ الإضافة ، لكنّه قد يقال : «جاءني غلام زيد» من غير إشارة إلى معيّنٍ كالمعرَّف باللام ، وهو على خلاف وضع الإضافة ، لكنّه كثير في الكلام .(4)

انتهى كلام التفتازاني .

وفي منتخب شرح الرضيّ في شرح قول ابن الحاجب : «وتفيد تعريفا مع المعرفة» :6.

ص: 158


1- الفرقان (25) : 43 .
2- صآ (38) : 5 .
3- الشعراء(26) : 29 .
4- المطوّل ، ص 176.

لأنّ وصفها لتفيد لواحد - ممّا دلّ عليه المضاف مع المضاف إليه - خصوصيّةً ليست للباقي منه ، مثلاً إذا قلت : «غلام زيد راكب» ولزيد غلمان كثيرة ، فلابدّ أن تشير به إلى غلامٍ من غلمانه له مزيد خصوصيّة بزيد ، إمّا بكونه من أعظم غلمانه ، أو أشهر [هم[ بكونه غلاما له دون غيره ، أو يكون غلاما معهودا بينك وبين المخاطب .

وبالجملة : بحيث يرجع إطلاق اللفظ إليه دون سائر الغلمان ؛ هذا أصل وضعها .

ثمّ قد يقال : «جاءني غلام زيد» من غير إشارة إلى واحدٍ معيّن ، وذلك كما أنّ اللام في أصل الوضع لواحد معيّن ، ثمّ قد يستعمل بلا إشارة إلى معيّن ، كما في قوله : «وقد أمرّ على اللئيم يسبّني» وذلك على خلاف وضعه ، فلا تظنّنّ من إطلاق قولهم في مثل «غلام زيد» أنّه بمعنى اللام أنّ معناه غلام لزيد سواء ، بل معنى «غلام لزيد» واحد من غلمانه غير معيّن ، ومعنى «غلام زيد» الغلامُ المعيّن من غلمانه إن كان له غلمان ، أو ذلك الغلام المعلوم إن لم يكن له إلاّ غلام واحد(1). انتهى .

ولا شكّ أنّ «إلهكم» ليس من الصور المستثناة ، فلابدّ أن تفيد الإضافة فيه تعريفا للمضاف ؛ إذ الأصل في الاستعمال أن يكون على وضعه ، وقد سمعت أنّ أصل وضع الإضافة أن تفيد تعريفا مع المعرفة ، وتخصيصا مع النكرة فيما لا يكون المضاف مقدّر الانفصال كما عرفت .

فصل :

العلم بالمضاف الذي يشترط حصوله للمخاطب عند إضافته إلى المعرفة إنّما هو العلم بوجه مّا ، وكذا تعيّن المضاف له تعيّنٌ بوجه مّا ، وهما حاصلان فيما نحن فيه ؛ إذ يعلم كلّ عاقل أنّ له إلها بالمعنى الذي ذكرناه ، وذلك لوجهين :

أحدهما : أنّه لا يزال يرى نفسه غرضا لعروض حال بعد حال ، ملائمة وغير ملائمة، ولا يستطيع الثبات والقرار والامتناع ممّا يعتور عليه من الحوادث يوما فيوما ، بل ساعةً فساعة ، والعقل مجبول على الحُكم بأنّ الفعل لابدّ له من فاعل ، كما نبّه عليه فيما سيجيء من .

ص: 159


1- شرح الرضي على الكافية ، ص 208 - 209، مع تلخيص و اختلاف يسير في الألفاظ .

حديث الإمام الصادق عليه السلام حيث قال : «وجود الأفاعيل دَلَّ على أنّ صانعها صنعها» .(1)

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة من خطب نهج البلاغة : «وهل يكونُ بناءٌ من غير بانٍ ، أو جنايةٌ من غير جانٍ» الحديث .(2)

فيتذلّل لمورد تلك الأحوال تذلّلاً طبيعيّا تسخيريّا ، وإن تجبّر وتعظّم فإنّما ذلك تكلّف منه لمصلحة الوقت والقلب خاضع ذليل ، اللّهمّ إلاّ أن تأخذه نشأةُ الغفلة، وتغشاه سكرةُ التَرَف ، على أنّه مهما اتّفق ذلك لم يمتدّ بمقتضى الحكمة أكثرَ من زمان يسير ، حتّى أفاق وتنبّه بتذلّله التسخيري لربّه المليك القادر القاهر ، ولو لم يكن منبّه إلاّ الاضطرار إلى الخلأ واستشمام الرائحة الخبيثة المنتنة لكفى .

وإلى هذا الوجه من العلم وقعت الإشارة فيما حكى ابن أبي العوجاء لصاحبه ابن المقفّع حيث قال : فقلت له - يعني الصادق عليه السلام - : ما مَنَعَهُ إن كان الأمر كما تقولون أن يَظهَر لخَلْقه ، ويَدعُوَهم إلى عبادته حتّى لا يختلف منهم اثنان ؟ ولِمَ احتجبَ عنهم وأرسلَ إليهم الرُّسل ؟ ولو باشَرَهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به ؟ فقال لي : «ويلك ، وكيف احتجب عنك من أراك قدرتَه في نفسك : نشوءَك ولم تكن ، وكِبَرَك بعد صِغَرِك ، وقوّتَك بعد ضَعْفِك ، وضعفَك بعد قوّتك ، وسُقمَك بعد صحّتك ، وصحَّتَك بعد سقمك ، ورضاك بعد غضبك ، وغضبَك بعد رضاك ، وحُزنَك بعد فَرَحِك وفَرَحَك بعد حُزنِك ، وحُبَّك بعد غضبك وبغضَك بعد حبّك، وعزمَك بعد أناتك، وأناتَك بعد عزمك ، وشهوتَك بعد كراهتَك ، وكراهتَك بعد شهوتك ، ورغبتك بعد رهبتك ، ورهبتَك بعد رغبتك ، ورجاءك بعد يأسك ، ويأسك بعد رجائك ، وخاطِرَك بما لم يكن في وَهْمك ، وعُزوب ما أنت مُعتَقِدُه عن ذهنك» ومازال يُعدِّدُ عليَّ قدرتَه التي هي في نفسي لا أدفعها حتّى ظننتُ أنّه سيظهر فيما بيني وبينه .(3) .

ص: 160


1- الكافي ، ج 1 ، ص 8 ، باب حدوث العالم و إثبات المحدث ، ح 5 ؛ التوحيد ، ص 243 ، ح 1 ، وفيهما «صانعا» بدل «صانعهما» ؛ الاحتجاج ، ج 2 ، ص 331 .
2- نهج البلاغة ، ص 271 ، الخطبة 185.
3- الكافي ، ج 1 ، ص 74 ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ، ح 2 ؛ التوحيد ، ص 125 ، ح 4 .

والوجه الآخَر أنّه يرى آثار العمد والتدبّر والحكمة والتقدير الدالّة على الصانع القدير فاشية في الآفاق والأنفس ، كما نبّه عليه في قوله تعالى : «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الاْآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(1) ، وكفى ما في قوله جلّ ثناؤه : «وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ»(2) من التقريع والتوبيخ على الذين غفلوا بل تغافلوا ، فتلك الآثار أوجبت علما ضروريّا - وإن كان على ضرب من الاستدلال ، كما هو الشأن في النتائج الفطريّة التي قياساتها معها - فلا يستطيع أحدا ادّعاء الشكّ إلاّ على وجه الإلحاد والعنود ، وستسمع تمام الكلام في هذا الباب في كتاب التوحيد في شرح حديث : «اعرفوا اللّه باللّه» .(3)

هذا ؛ وإلى التذلّل التسخيري والعلم الضروري أشار أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة حيث قال : «لم يُطْلِع العقولَ على تحديد صفته ، ولم يَحْجُبْها عن واجب معرفته ، فهو الذي تَشهَدُ له أعلامُ الوجود على إقرار قلب ذي الجُحود» .(4)

وقال اللّه تبارك وتعالى : «جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(5) ، وحديث توجّه القلب إلى اللّه تعالى عند كسر السفينة وانقطاع الرّجاء عن الخلق بالكلّيّة من شواهد هذا الباب .

فظهر أنّ كلّ من استشمّ رائحة العقل عالم بأنّ في الوجود من بيده زمام أمره علما اضطراريّا ، ومتذلّل له تذلّلاً طبيعيّا تسخيريّا ، وإن غفل عن ذلك أحيانا ولم يشعر بعلمه وتذلّله، فإنّما هو بسبب التوغّل في الملاهي ، وبلوغ نشأة الغفلة حدَّ التناهي .

نعم ، هذا العلم في الأكثر مجامع جهلين :

أحدهما : الجهل بأسمائه الحسنى والصفات اللائقة به تعالى .

والثاني : الجهل بأنّه كما هو ربّه وإلهه فهو ربّ العالمين وإله الكلّ . .

ص: 161


1- فصّلت (41) : 53 .
2- الذاريات (51) : 21 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 85 ، باب أنّه لايعرف إلاّ به ، ح 1 .
4- نهج البلاغة ، ص 87 ، الخطبة 49 .
5- النمل (27) : 14 .

فمعلوم كلّ أحد من جهة الاضطرار المشار إليه بالإضافة في «إلهكم» هو أنّ في الوجود من هو وليّ أمره ، ومالك اختياره ، وله تذلّله التسخيري على وجه الاستحقاق ، وإن وقع لغيره فعلى سبيل الجعل والتكلّف ، ولكن يجوز بحسب جليل النظر أن يكون الموصوف بالوصف المذكور واحدا أو أكثرَ ، وتذلّل الكلّ لذلك الواحد ، أو كلّ متذلّل لبعض .

فقوله سبحانه في الآية : «وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ»بيان لما هو مقتضى دقيق النظر ، فكأنّه تعالى يقول : إنّكم - معاشرَ العباد - الذين عرّفتكم من طريق التذليل والتسخير وإراءة آثار الصنع والتدبير وجودَ إلهكم العزيز القدير، أدقّوا النظر ، واستعملوا الفكر ، وانظروا بعين الاعتبار والاستبصار فيما اُنبّهكم عليه ممّا نصبت لكم من الأدلّة الواضحة والحجج القاطعة ، حتّى يتبيّن لكم أنّ إلهكم إلهٌ واحد ، لا نوع متعدّد الأفراد؛ فإضافة الإله إلى المعرفة للإيذان بوقوع تعريفٍ إجمالي من طريق التسخير وإراءة آثار التدبير ، مع ما في تلك الإضافة من التكريم والتشريف والاستيناس ما لا يخفى .

وبعد الإضافة والإشارة إلى المعرّف المحتمل في جليل النظر للتعدّد ووصفه بالوحدة قال بلا فصل : «لا إلهَ إلاّ هو» استينافا لرفع ما عسى أحد أن يتوهّم أنّه لعلّ الضمير المضاف إليه الإلهُ عبارةٌ عن الإنس فقط ، وللجنّ والملك وغيرهما إلهٌ غير واحد ، فأتى ب «لا» التي لنفي الجنس الذي نفى الوجود عن جميع الأفراد المتوهّمة لمفهوم الإله .

ثمّ استثنى وعبّر عن المستثنى بالضمير الراجع إلى المعلوم المحكوم عليه من طريق الإضافة بأنّه إلهنا ، ومن طريق الوصف بأنّه واحد ليفيد القصر عليه، ويرفع التوهّم المذكور ، فكأنّه قال : لا إله في الوجود إلاّ الذي هو إلهكم ، ونفى تعدّده بوصف الوحدة .

وقوله تعالى في موضع آخَرَ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللّه ُ»(1) أيضا مفيد لما اُفيد في هذه الآية بعينه .

ص: 162


1- الصافّات (37) : 35 ؛ محمّد (47) : 19 .

بلا تفاوت في الإجمال والتفصيل ، بناءً على أنّ الجلالة إله معرّف بلام العهد ، والمعهودُ هو المعلوم للكلّ بوجه الموصوف بالوحدة المستدلّ عليها بآثار العمد والتدبير المذكورة في قوله عزّ وعلا: «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ» إلى آخر الآية .

بل أقول : إنّ العبارتين الشريفتين من أوضح البراهين على ما حقّق في شرح الخطبة من أنّ الحضرة القدّوسيّة أرفع وأمنع من أن يحيط به عِلْم، ويوضَع له عَلَم ؛ إذ لا شكّ أنّ المقصور عليه في كريمة «لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ» المعلومَ لكلّ أحد بوجه الإلآهيّة المدّعى وحدتُه ، المستدلّ بآثار الصنع والتدبير ، المشتمل عليها قوله عزّ من قائل : «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ» إلى آخر الآية ، على قصر الإلهيّة على ذلك المعلوم المدّعى وحدته ، ولو كانت الجلالة عَلَما ، لم يكن القصران على سَنَنٍ واحدٍ ؛ لأنّ أحدهما على واحد شخصي ، والآخَرَ على مستدلّ عليه بالوحدة ، فتدبّر حقَّ التدبّر ، ثمّ اشكر اللّه على ما رُزقتَ من الفهم ، واحفظ هذا البيان ؛ فإنّك لاتجد بهذا التصريح في غير هذا الكتاب .

فصل :

قوله تعالى : «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ» إلى آخره تنبيهٌ على أشياءَ عبَّر عنها الإمام عليه السلام أوّلاً بالحجج في قوله : «إنّ اللّه أكمل للناس الحجج بالعقول» وثانيا بالأدلّة في قوله : «ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة». وفي إفراد الأرض بعد جمع السماء إشعار بأنّها أوّلَ ما خلقت خُلقت شخصا واحدا ، والوصف بالسبع - كما في بعض الأدعية - بسبب نحو من الاعتبارات ، مثل القسمة بالأقاليم السبعة ، ومثل خصوصيّات تكون لها بالنظر إلى عروض البلاد ، ومثل الأعراض الحالّة في أبعاضها من الصلابة والرخوّ واللون والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة .

قوله : «وَ اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَ النَّهَارِ». قيل : هو مجيء أحدهما بعد الآخر ، المستفادُ من قول الصادق عليه السلام - الذي يأتي ذكره - الاختلاف بحسب المدّة . والمعنيان متلازمان في الوجود . و«وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ» . الفلك يحتمل الإفراد والجمع ؛ لأنّ صورتهما واحدة ، والفرق اعتباريّ كما قرّر في موضعه .

ص: 163

في الصحاح : «الفلك - بالضمّ - : السفينة ، واحد وجمع ، يذكّر ويؤنّث».(1)

«بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ » . إن كان لفظة «ما» مصدريّةً - وهو أحد قولي البيضاوي(2) - كان المعنى : تجري في البحر متلبّسة بنفع البحر الناسَ ؛ لتذكير الفعل المسند إلى الضمير المقتضي لتذكير الفاعل .

ولا يخفى ما فيه من البُعد ، والأصوب الموصوليّة ، أي والفلك التي تجري في البحر متلبّسة بالأثقال والأحمال التي تنفع الناس جميعا ، الناقلين بحصول الأرباح ، والمنقول إليهم بتمكّنهم من استعمالها في مآربهم .

«وَبَثَّ فِيهَا» . في الكشّاف :

الظاهر أنّه عطف على «أنزل» فاتّصل به، وصارا جميعا كالشيء الواحد ، فكأنّه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبثّ فيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ . ويجوز عطفه على «أحيا» على معنى : فأحيا بالمطر الأرض، وبثّ فيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ؛ لأنّهم ينمون بالخصب ويعيشون [بالحياء] .

«وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ» أي في مَهابّها قبولاً ودبورا ، وجنوبا وشمالاً ، وفي أحوالها حارّةً وباردة ، وقاصفة وليّنة ، وعقيما ولواقحَ .(3)

قال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان :

الرياح أربع : الشمال ، والجنوب، والصبا ، والدبور . فالشمال عن يمين القبلة ، والجنوب عن يسارها ، والصبا من قبل المشرق ، والدبور من قبل المغرب ، فإذا جاءت الريح بين الصبا والشمال فهي النكباء ، والتي بين الجنوب والصبا يسمّى القبول .(4)

«وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالاْءَرْضِ» . السحاب : مشتقّ من السحب ، وهو جرّ الشيء على وجه الأرض، كما تسحب المرأة ثوبها .

في الصحاح : «السحابة : الغيم ، والجمع : سحاب وسُحُب وسحائب . وسحبتر.

ص: 164


1- الصحاح ، ج 4 ، ص 1604 (فلك) .
2- أنوار التنزيل ، ج 1 ، ص 436 .
3- الكشّاف ، ج 1 ، ص 325 - 326، مع تلخيص .
4- مجمع البيان ، ج 1 ، ص 456، مع تلخيص واختلاف يسير.

ذيلي فانسحب ، أي جررته فانجرّ ».(1) ومثله في القاموس .(2)

ولعلّ مرادهما بجمعيّته اسم جنس يقع على الكثير ، وإلاّ فلا وجه لتذكير «المسخّر» في الآية .

وابن فارس أيضا استعمل في المجمل مطابقا للآية حيث قال : السحاب معروف ، سمّي به لانسحابه في الهواء .(3)

وقال الراغب في تفسيره : «والسحاب المسخّر؛ أي المذلّل المطيع للّه ، سمّي سحابا لأنّه ينسحب ، أي يسير في سرعة كأنّه يسحب؛ أي يجرّ» .

فصل :

اعلم أنّ طائفة لم يسبق لهم من اللّه الحسنى تعامَوا عن مشاهدة جمال الخلقة ، وما اُودع في المخلوقات من بديع الحكمة ، حتّى أفضى تعاميهم إلى العمى ، فعموا وصمّوا كثير منهم ، وذلك لأنّهم اعتادوا بالتمجمج في العلوم من غير إعمال فكر ونظر ، فوقعوا في جحود الأسباب والمسبّبات ، والتقوّل على اللّه سبحانه بأنّه لمّا كان قادرا محتالاً فَعَلَ جميع الأفعال بنفسه ، والأثر الواقع إثرَ الشيء ليس على سبيل السببيّة والمسبّبية ، بل على مجرى العادة ، والفاعل المختار يرجّح أحد الطرفين على الآخر بلا مرجّح ، بل بالمشيّة الجزافيّة ؛ فأبطلوا حكمته سبحانه ، وعزلوا الملائكة الذين لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون ، فإذا حاولوا أن يستدلّوا بالأدلّة التي ذكر اللّه عزّوجلّ في هذه الآية قالوا : إنّ الأشياء متساوية الأقدام في الوقوع على ما هي عليه وعلى أنحاء اُخر ؛ إذ لا مجال للترجّح والأولويّة بالذات ، دلّ الوقوع على أنّ في الوجود فاعلاً مختارا يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد بالمشيّة الجزافيّة التي تنسب إلى سفهاء الملوك ، ويقولون : لا حكمة ولا تدبير ، ولا تسبيب ولا تقدير ، تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا .).

ص: 165


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 146 (سحب) .
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 81 (سحب) .
3- مجمل اللغة ، ج 3 ، ص 126 (سحب ).

للمؤلّف :

نعوذ باللّه من تلك العقيدة إذ *** تهوي بصاحبها ذروة الجبل

وكيف أجحد ترتيب الوجود وقد *** أراه نحوَ قطار النُّوق والجمل

كلاّ بكلّ ربوطا غير منقطع *** كلاّ بكلّ منوطا غير منفصل

بل إن تأمّلتها ألفيت سلسلة *** اُحيل فكّ ثوانيها من الاُول

والطريق الصواب في الاستدلال هو مسلك اُولي الألباب من البحث عن لطائف التدبير ، والتفكّر والتدبّر في خلق السماوات والأرض؛ «رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هٰذَا بَاطِلاً»(1) والتفطّن بمشاهدة اتّصال الصنع وتمام التدبير لوحدة الصانع القدير، عظم شأنه وفخم برهانه .

وها أنا ذاكرٌ لك ما نبّه عليه الإمام أبو عبداللّه جعفر بن محمّد الصادق عليهماالسلام من دقائق الصنع ولطائف التدبير في كلّ واحد واحد من الاُمور المذكورة في الآية الشريفة في الحديث المشهور بكتاب المفضّل ، والمفضّل هو الذي ذكره الشيخ الأجلّ المفيد - طاب ثراه - في إرشاده وقال : «إنّه من خواصّ أصحاب الصادق عليه السلام وبطانته وصاحب سرّه» .(2)

وأذكر أوّلاً ديباجة ذلك الكتاب المستطاب ؛ لما فيه من الفوائد الجليلة :

قال الصادق عليه السلام : «يا مفضّل ، إنّ اللّه كان ولا شيء قبله ، وهو باقٍ ولا نهاية له ، فله الحمد على ما ألهمنا ، والشكر على ما منحنا ، فقد خصّنا من العلوم بأعلاها ، ومن المعاني بأسناها ، واصطفانا على جميع الخلق بعلمه ، وجعلنا مهيمنين عليهم بحكمه» .

قال المفضّل : يا مولاي ، أتأذن لي أن أكتب ما تشرحه ؟ وكنت أعددت معنى ما أكتب فيه .

فقال لي : «افعل» .

ثمّ قال لي : «يا مفضّل ، إنّ الشكّاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة ، وقصرت أذهانهم عن تأمّل الصواب والحكمة فيما ذرأ الباري - جلّ قدسه - وبرأ من صنوف خلقه في البرّ والبحر ، والسهل والوَعْر ، فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود ، .

ص: 166


1- آل عمران (3) : 191 .
2- الإرشاد ، ج 2 ، ص 216 .

وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود ، حتّى أنكروا خلق الأشياء ، وادّعوا أنّ كونها بالإهمال ، لا صنعة فيها ولا تقدير ، ولا حكمة من مدبّر ولا صانع ، تعالى اللّه عمّا يصفون ، وقاتلهم اللّه أنّى يؤفكون ، فهم في ضلالهم وعَمْيهم بمنزلة عُمْيان دخلوا دارا قد بُنيت أتقنَ بناءٍ وأحكمَه ، وفُرشت بأحسن الفراش وأفخره ، واُعدَّ فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس التي يحتاج إليها ولا يستغنى عنها ، ووضع كلّ شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير ، وحكمة من التدبير ، فجعلوا يتردّدون فيها يمينا وشمالاً ، ويطوفون بيوتها إقبالاً وإدبارا ، محجوبةً أبصارهم عنها لا يبصرون بنية الدار وما اُعدَّ فيها ، وربما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وضع موضعه، واُعدّ للحاجة إليه، وهو جاهل بالمعنيّ فيه ولما اُعدَّ ولماذا جعل كذلك ، فتذمّر(1) وتسخّط، وذمّ الدار وبانيها ، فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة ؛ فإنّهم لمّا غربت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء، صاروا يجولون في هذا العالم حيارى ، ولا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته ، وحسن صنعه ، وصواب تهيئته .

وربّما وقف بعضهم على الشيء لجهل سببه والإرب فيه ، فيسرع إلى ذمّه ووصفه بالإحالة والخطأ ، كالذي أقدمت عليه المانية(2) الكفرة ، وجاهرت به الملحدة المارقة الفجرة وأشباههم من أهل الضلال المعلّلين أنفسهم بالمحال ؛ فيحقّ على من أنعم اللّه .

ص: 167


1- تذمّر هو : لام نفسه ، أو تغضّب . لسان العرب ، ج 4 ، ص 311 (ذمر) .
2- في المصدر : المنانيّة . وفي البحار : «المانويّة» وقال في البحار : «والمانويّة: فرقة من الثنويّة أصحاب ماني، الذي ظهر في زمان سابور بن أردشير ، وأحدث دينا بين المجوسيّة والنصرانيّة ، وكان يقول بنبوّة المسيح على نبيّنا وآله و عليه السلام، ولايقول بنبوّة موسى على نبيّنا وآله وعليه السلام ، وزعم أنّ العالم مصنوع مركّب من أصلين قديمين ؛ أحدهما نور، والآخر ظلمة ، وهؤلاء ينسبون الخيرات إلى النور ، والشرور إلى الظلمة ، وينسبون خلق السباع والمؤذيات والعقارب والحيّات إلى الظلمة ؛ فأشار إلى فساد وهمهم بأنّ هذا لجهلهم بمصالح هذه السباع والعقارب والحيّات التي يزعمون أنّها من الشرور التي لايليق بالحكيم خلقها» . بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 61 . وللمزيد راجع : الملل والنحل للشهرستاني ، ج 2 ، ص 81 ؛ مروّج الذهب ، ج 1 ، ص 155 ؛ الفهرست ، ص 456 ؛ الفرق بين الفرق ، ص 162 و 207 ؛ الآثار الباقية للبيروني ، ص 207 .

عليه - بمعرفته، وهداه لدينه ، ووفّقه لتأمّل التدبير في صنعة الخلائق ، والوقوف على ما خلقوا له من لطيف التدبير وصواب التعبير بالدلالة القائمة الدالّة على صانعها - أن يُكثر حمد اللّه مولاه على ذلك ، ويرغب إليه في الثبات عليه والزيادة منه؛ فإنّه جلّ اسمه يقول : «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَءَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ»(1)» .

هذا ما ذكره عليه السلام في الديباجة .

وأنا أذكر بعدُ من المطالب ما هو شرح وتفصيل لأحوال كلّ واحدة من دلائل الربوبيّة التي ذكرت في الآية ، وذلك في فصول :

فصل: في بديع خلقة السماوات

قال عليه السلام في المجلس الرابع من الكتاب : «قد شرحت [لك] يا مفضّل خلق الإنسان وما دبّر به وتنقّله في أحواله وما فيه من الاعتبار ، وشرحت لك أمر الحيوان ، وأنا أبتدئ الآنَ بذكر السماء والشمس والقمر والنجوم والفلك والليل والنهار والحرّ والبرد والرياح والجواهر الأربعة - : الأرضِ ، والماء ، والنار ، والهواء - والمطر والصخر والجبال والطين والحجارة والمعادن والنبات والنخل والشجر، وما في ذلك من الأدلّة والعِبر .

فكِّر يا مفضّل في لون السماء وما فيه من صواب التدبير ؛ فإنّ هذا اللون أشدّ الألوان موافقةً للبصر وتقوية ، حتّى أنّ من صفات الأطبّاء لمن أصابه شيء أضرّ ببصره إدمانَ النظر إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد ، وقد وصف الحُذّاق منهم لمن كان كَلَّ بصرُه الإطلاعَ في إجّانة(2) خضراء مملوءةٍ ماءً ؛ فانظر كيف جعل اللّه - جلّ وتعالى - أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد ليمسك الأبصار المتقلّبة عليه فلا ينكأ فيها بطول مباشرتها له ، فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر والرويّة والتجارب يوجد مفروغا عنه في الخلقة حكمة بالغة(3) ليعتبر بها المُعتبِرون ، ويُفكِّر فيها الملحدون ، قاتلهم اللّه أنّى

ص: 168


1- إبراهيم(14) : 7 .
2- الإجّانة : إناء تغسل فيه الثياب . لسان العرب ، ج 13 ، ص 8 (أجن) .
3- «حكمة بالغة» بالرفع خبر مبتدأ محذوف ، أو بالنصب بالحاليّة ، أو بكونه مفعولاً لأجله . بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 111 .

يؤفكون .

فكِّر يا مفضّل في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي النهار والليل ، فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كلّه ، فلم يكن الناس يسعون في معائشهم ، ويتصرّفون في اُمورهم ، والدنيا مظلمة عليهم ، ولم يكونوا يتهنّأُون بالعيش مع فَقْدهم لذّة النور وروحه ، والإرب في طلوعها ظاهر مستغنى بظهوره عن الإطناب في ذكره والزيادة في شرحه ، بل تأمّل المنفعةَ في غروبها ، فلولا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عِظَم حاجتهم إلى الهدوء والراحة بسكون أبدانهم وجموم(1) حواسّهم ، وانبعاث القوّة الهاضمة لهضم الطعام وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء ، ثمّ كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم نكايته في أبدانهم ؛ فإنّ كثيرا من الناس لولا جثوم هذا الليل بظلمته عليهم لم يكن لهم هدوء ولا قرار ، حرصا على الكسب والجمع والادّخار ، ثمّ كانت الأرض تستحمي بدوام الشمس بضيائها ، ويحتمي كلّ ما عليها من حيوانٍ ونبات ، فقدّرها اللّه بحكمته وتدبيره ، تطلع وقتا وتغرب وقتا ، بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارةً ليقضوا حوائجهم ، ثمّ يغيب عنهم [مثل ذلك] ليهدؤوا ويقرّوا ، فصار النور والظلمة مع تضادّهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه .

[ثمّ] فكِّر بعد هذا في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة ، وما في ذلك من التدبير والمصلحة ؛ ففي الشتاء تعود الحرارة في الشجر والنبات ، فيتولّد فيها موادّ الثمار ويستكشف(2) الهواء ، فينشأ منه السحاب والمطر ، وتشتدّ أبدان الحيوان وتقوى ، وفي الربيع تتحرّك وتظهر الموادّ المتولّدة في الشتاء ، فيطلع النبات ، وتنور الأشجار ، ويهيج الحيوان للسفاد ، وفي الصيف يحتدم(3) الهواء ، فتنضج الثمار ، وتتحلّل فضول الأبدان ، ويجفّ وجه الأرض ، فيتهيّأ للبناء والأعمال ، .

ص: 169


1- الجموم مصدر جمّ ، تقول : جمّ القوم : استراحوا وكثروا.
2- في المصدر : «يتكشّف» أي يغلظ ويكثر . وهو الأصحّ والأنسب .
3- الاحتدام : شدّة الحرّ . لسان العرب ، ج 12 ، ص 117 (حدم) .

وفي الخريف يصفو الهواء ، وترتفع الأمراض ، وتصحّ الأبدان ، ويمتدّ الليل ، فيمكن فيه بعض الأعمال لطوله، ويطيب الهواء ، وفيه مصالح اُخرى لو تقصّيت لذكرها لطال فيها الكلام .

فكِّر الآنَ في تنقّل الشمس في البروج الاثني عشر لإقامة دور السنة وما في ذلك من التدبير ، فهو الدور الذي تصحّ به الأزمنة الأربعة من السنة : الشتاء ، والربيع ، والصيف ، والخريف ، ويستوفيها على التمام ، وفي هذا القدر من دوران الشمس تدرك الغلاّت والثمار ، وتنتهي إلى غاياتهم ، ثمّ تعود فتستأنف النشوء والنموّ ، ألا ترى أنّ السنة مقدار مسير الشمس من الحَمَل إلى الحمل ؛ فبالسنة وأخواتها كان(1) الزمان من لدن خَلَق اللّه العالم إلى كلّ وقت وعصر في غابر الأيّام ، وبها يحسب الناس الأعمار والأوقات الموقّتة للديون والإجارات والمعاملات وغير ذلك من اُمورهم ، وبمسير الشمس تكمل السنة ، ويقوم حساب الزمان على الصحّة .

اُنظر إلى شروقها على العالم كيف دبّر أن يكون ، فإنّها لو كانت تبزغ(2) في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من الجهات ؛ لأنّ الجبال والجدران كانت تحجبها [عنها] فجعلت تطلع في أوّل النهار من المشرق ، فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب .

ثمّ لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتّى تنتهي إلى المغرب ، فتشرق على ما استتر عنها في أوّل النهار ، فلا يبقى موضع من المواضع إلاّ أخذ بقسطه من المنفعة منها والإرب التي قدّرت له ، ولو تخلّفت عن مقدار عامّ أو بعض عامّ كيف كان يكون حالهم ؟ بل كيف كان يكون لهم مع ذلك بقاء ؟ فلا ترى كيف كُفي الناسُ هذه الاُمورَ الجليلة التي لم يكن عندهم حيلة ، فصارت تجري على مجاريها ، لا تفتلّ(3) ولا تتخلّف عن مواقيتها لصلاح العالم وما فيه بقاؤه . .

ص: 170


1- في المصدر : «يكال» .
2- بزع بزغا ، أي طلع . لسان العرب ، ج 8 ، ص 418 (بزغ) .
3- لاتفتلّ ، أي لاتنصرف ولاتزول . راجع : لسان العرب ، ج 11 ، ص 514 (فتل) .

استدلّ بالقمر ، ففيه دلالة جليلة يستعملها العامّة في معرفة الشهور ، ولا يقوم عليه حساب السنة ؛ لأنّ دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة ونشوء الثمار وتصرّمها ، ولذلك صارت شهور القمر وسِنوه تتخلّف عن شهور الشمس وسِنيها ، وصار الشهر من شهور القمر تنتقل ، فتكون مرّة بالشتاء ، ومرّة بالصيف .

فكِّر في إنارته في ظلمة الليل والإرب فيه لك(1) ، فإنّه مع الحاجة إلى الظلمة لهدي الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمةً داجية لا ضياء فيها ، فلا يمكن فيه شيء من العمل ؛ لأنّه ربّما احتاج الناس على العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال بالنهار ، أو لشدّة الحرّ وإفراطه ، فيعمل في ضوء القمر أعمالاً شتّى ، كحرث الأرض ، وضرب اللبن ، وقطع الخشب ، وما أشبه ذلك ، فجعل ضوء القمر معونةً للناس على معائشهم إذا احتاجوا إلى ذلك واُنسا للسائرين ، وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض ، ونقص مع ذلك من نور الشمس وضيائها لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطَهم بالنهار ، ويمتنعون من الهدوء والقرار فيهلكهم في ذلك ، وفي تصرّف القمر خاصّةً في مهلّه ومحاقه وزيادته ونقصانه وكسوفه من التنبيه على قدرة اللّه خالقه المصرّف له هذا التصريفَ لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون .

فكِّر يا مفضّل في النجوم واختلاف مسيرها ؛ فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك ولا تسير إلاّ مجتمعة ، وبعضها مطلقة ينتقل في البروج وتفترق في مسيرها ، فكلّ واحد منها يسير سيرين مختلفين: أحدهما عامّ مع الفلك نحوَ المغرب ، والآخر خاصّ لنفسه نحوَ المشرق ، كالنملة تدور ذات الشمال، والنملة في تلك تتحرّك حركتين مختلفتين : إحداهما بنفسه ، فتتوجّه أمامَها ، والاُخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها . فاسأل الزاعمين أنّ النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال من غير عمد ولا صانعَ لها : ما منعها أن يكون كلّها راتبةً ، أو كلّها منتقلة ، فإنّ الإهمال معنى واحد ، فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن وتقدير ؟ ففي هذا بيان أنّ مسير الفريقين على .

ص: 171


1- في المصدر : «في ذلك» بدل «فيه لك» .

ما يسيران عليه بعمد وتدبير وحكمة وتقدير ، وليس بإهمال كما يزعمه المعطّلة .

فإن قال قائلٌ : لِمَ صار بعض النجوم راتبا ، وبعضها منتقلاً ؟

قلنا : إنّها لو كانت كلّها راتبةً لبطلت الدلالات التي يستدلّ بها من تنقّل المنتقلة ومسيرها في كلّ برج من البروج ، كما قد يستدلّ على أشياءَ ممّا يحدث في العالم بتنقّل الشمس والنجوم في منازلها ، ولو كانت كلّها متنقّلة لم يكن لمسيرها منازلُ تُعرف ، ولا رسم توقف عليه ؛ لأنّها إنّما توقف [عليه] بمسير المنتقلة منها بتنقّلها في البروج الراتبة، كما يستدلّ على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها ، ولو كان تنقّلها بحال واحد لاختلط نظامها ، وبطلت المآرب فيها ، ولساغ لقائلٍ أن يقول : إنّ كينونتها على حالٍ واحدة توجب عليها الإهمالَ من الجهة التي وصفنا ، ففي اختلاف مسيرها وتصرّفها وما في ذلك من المآرب والمصلحة أبين دليل على العمد والتدبير فيها .

فكِّر في هذه النجوم التي تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها ، كمثل الثريّا والجوزاء والشعريين وسهيل ؛ فإنّها لو كانت بأسرها تظهر في وقت واحد لم يكن لواحد فيها على حيالها دلالاتٌ يعرفها الناس، ويهتدون بها لبعض اُمورهم ؛ كمعرفتهم الآنَ بما يكون من طلوع الثور والجوزاء إذا طلعت ، واحتجابها إذا حجبت ، فصار ظهور كلّ واحد واحتجابه في وقت واحد غيرَ وقت الآخر ، لينتفع الناس بما يدلّ عليه كلّ واحدٍ منها على حِدَته ، وكما جعلت الثريّا وأشباهها تظهر حينا وتحجب حينا لضرب من المصلحة ، كذلك جعلت «بنات النعش» ظاهرةً لا تغيب لضربٍ آخَرَ من المصلحة ؛ فإنّها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في البرّ والبحر للطرق المجهولة، وذلك(1) أنّها لا تغيب ولا تتوارى ، فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاؤوا ، وصار الأمران جميعا على اختلافهما موجّهين نحوَ الإرب والمصلحة ، وفيها مآربُ اُخرى(2) ودلالات على أوقات كثير من الأعمال ، كالزراعة والفراش(3) ، .

ص: 172


1- في المصدر : «وكذلك» .
2- في المصدر : + «علامات» .
3- في المصدر : «الغراش» .

والسفر في البرّ والبحر ، وأشياءَ ممّا يحدث في الأزمنة من الأمطار والرياح والحرّ والبرد ، وبها يهتدي السائرون في ظلمة الليل ليقطع القفار الموحشة واللجج الهائلة ، مع ما في تردّدها في كبد السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من العِبر ؛ فإنّها تسير أسرعَ السير وأحثَّه .

أرأيت لو كان الشمس والقمر والنجوم بالقرب منّا حتّى تبيّن لنا سرعة سيرها بكنه ما عليه ، ألم يكن يستخطف الأبصار بوهجها(1) وشعاعها كالذي يحدث أحيانا من البروق إذا توالت واضطرمت في الجوّ ، وكذلك أيضا لو أنّ اُناسا كانوا في قبّة مكلّلة(2) بمصابيحَ تدور حولهم دورا حثيثا لحارت أبصارهم حتّى يخرجوا لوجوههم .

فانظر كيف قدّر أن يكون مسيرها في البُعد البعيد لكيلا تضرّ في الأبصار وتنكأ فيها ، وبأسرع السرعة لكيلا تتخلّف عن مقدار الحاجة في مسيرها ، وجعل فيها جزءا يسيرا من الضوء يسدّ مسدّ الأضواء إذا لم يكن قمر ، ويمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة ، كما قد يحدث الحادث على المرء فيحتاج إلى التجافي جوفَ الليل ، فإن لم يكن شيء من الضوء يهتدي به لم يستطع أن يبرح مكانه ، فتأمّل اللطف والحكمة في هذا التقدير حين جعل للظلمة دولة ومدّة لحاجةٍ إليها ، وجعل خلالَها شيء من الضوء للمآرب التي وصفنا .

وفكِّر في هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على العالم هذا الدَّوَرانَ الدائمَ بهذا التقدير والوزن ؛ لما في اختلاف الليل والنهار وهذه الأزمانِ الأربعةِ(3) على الأرض وما عليها من أصناف الحيوان والنبات من ضروب المصلحة كالذي بيّنت وشخّصت لك آنفا ، وهل يخفى على ذي لبّ أنّ هذا تقديرُ مقدّرٍ وصواب وحكمة من مقدّرٍ حكيم ؟

فإن قال قائل : إنّ هذا شيء اتّفق أن يكون هكذا ، فما منعه أن يقول مثل هذا في .

ص: 173


1- الوَهْج والوَهَج والوَهَجان : حرارة الشمس والنار من بعيد . والوَهَج والوَهيج : تلألؤ الشيء وتوقّده . لسان العرب ، ج 2 ، ص 401 (وهج) .
2- أي محفوفة بالنور . اُنظر لسان العرب ، ج 11 ، ص 596 (كلل) .
3- في المصدر : + «المتوالية من التنبيه» .

دولاب يراه يدور، ويسقي حديقة فيها شجر ونبات ، فترى كلّ شيء من آلته مقدّرا بعضه يلقى بعضا على ما فيه صلاح الحديقة و بما فيها ؟ وبِمَ كان يثبت هذا القول لو قاله؟ وما ترى الناس كانوا قائلين منه لو سمعوه منه ؟ أفينكر أن يقول في دولاب خشب خسيس مصنوع بحيلة قصيرة لمصلحة قطعةٍ من الأرض : إنّه كان بلا صانع ومقدّر، ويقدر أن يقول في هذا الدولاب الأعظم المخلوق بحكمة تقصر عنها أذهان البشر لصلاح جميع الأرض وما عليها : إنّه شيء اتّفق أن يكون بلا صنعة ولا تقدير لو اعتلّ هذا الفلك كما تعتلّ الآلات التي تتّخذ للصناعات وغيرها أيّ شيء كان عند الناس من الحيلة في إصلاحه» .(1)

هذا نبذة ممّا قاله عليه السلام في خلق السماوات .

فصل : في خلق الأرضيّات

قال عليه السلام : «فكِّر يا مفضّل فيما خلق اللّه عزّوجلّ من هذه الجواهر الأربعة(2) ليتّسع ما يحتاج إليه منها ، فمن ذلك سعة هذه الأرض وامتدادها ، فلولا ذلك كيف كانت تتّسع لمساكن الناس ومزارعهم ومراعيهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم والعقاقير العظيمة والمعادن الجسيمة غناؤها ؟ ولعلّ من ينكر هذه الفلوات الخاوية والقفار الموحشة، فيقول : ما المنفعة فيها ؟ فهي مأوى هذه الوحوش ومحالّها ومرعاها ، ثمّ فيها بعدُ منتفسٌ ومضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم ، فكم بيداء ، وكم فَدْفَد(3) حالت قصورا وجنانا بانتقال الناس إليها وحلولِهم فيها ، ولولا سعة الأرض وفسحتها لكان الناس كمن هو في حصار ضيّق لايجد منه مندوحةً من وطنه ، وإذا حزبه أمر يضطرّه إلى الانتقال عنه . .

ص: 174


1- توحيد المفضّل ، ص 126 - 137 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 111 - 117 .
2- المراد بالجواهر الأربعة هي التراب والماء والهواء والنار .
3- الفَدْفَدُ : الفلاة التي لاشيء بها . وقيل : هي الأرض الغليظة ذاتُ الحصى . وقيل : المكان الصُّلب . لسان العرب ، ج 3 ، ص 330 (فدفد) .

ثمّ فكِّر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبةً راكنةً ، فتكون موطنا مستقرّا للأشياء ، فيتمكّن الناس من السعي عليها في مآربهم ، والجلوس عليها لراحتهم ، والنوم لهدوئهم ، والإتقان لأعمالهم ؛ فإنّها لو كانت رَجْراجَةً(1) منكفئةً لم يكونوا يستطيعون أن يتقنوا البناء والتجارة(2) والصناعة وما أشبه ذلك ، بل كانوا لا يتهنّؤون بالعيش والأرض ترتجّ من تحتهم ، واعتبر ذلك بما يصيب الناسَ في الزلازل على قلّة مكثها حتّى يصيروا إلى ترك منازلهم والهرب عنها .

فإن قال قائل : فلِمَ صارت هذه الأرض تزلزل ؟

قيل له : إنّ الزلزلة وما أشبهها موعظة وترهيب يرهّب بها الناس؛ ليردعوا وينزعوا عن المعاصي ، وكذلك ما ينزل بهم من البلاء في أبدانهم وأموالهم تجري في التدبير على ما فيه صلاحهم واستقامتهم ، ويدّخر لهم إن صلحوا من الثواب والعوض في الآخرة ما لا يعدله شيء من اُمور الدنيا ، وربّما عجّل ذلك في الدنيا إذا كان صلاحا للعامّة والخاصّة .

ثمّ إنّ الأرض في طباعها الذي طبعها اللّه عليه باردة يابسة ، وكذلك الحجارة ، أفرأيت لو أنّ اليبس أفرط على الأرض قليلاً حتّى يكون حجرا صلدا كانت(3) تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوان؟ وكان يمكن بها حرث أو بناء ؟ أفلا ترى كيف تنصّبت من يبس الحجارة وجعلت على ما هي عليه من اللين والرخاوة ليتهيّأ للاعتماد .

ومن تدبير الحكيم - جلّ وعلا - في خلقة الأرض أنّ مهبّ الشمال أرفع من مهبّ الجنوب ، فلِمَ جعل اللّه عزّوجلّ كذلك إلاّ لينحدر المياه على وجه الأرض، فيسقيها ويرويها ، ثمّ يفيض آخرَ ذلك إلى البحر ، فكما يرفع أحد جانبي السطح ويخفض الآخر لينحدر الماء عنه ولا يقوم عليه ، كذلك جعل مهبّ الشمال أرفعَ من مهبّ الجنوب لهذه العلّة بعينها ، ولولا ذلك لبقي الماء متحيّرا على وجه الأرض ، فكان يمنع الناس من اعتمالها ويقطع الطريق والمسالك . .

ص: 175


1- رَجْراجَة ، أي مضطربة . لسان العرب ، ج 2 ، ص 282 (رجج) .
2- في المصدر : «النجّارة» .
3- في المصدر : «أكانت» .

ثمّ الماء لولا كثرته وتدفّقه في العيون والأودية والأنهار لضاق عمّا يحتاج الناس إليه لشربهم وشرب أنعامهم ومواشيهم ، وسقي زروعهم وأشجارهم وأصناف غلاّتهم، وشرب ما يرده من الوحوش والطيور والسباع ، ويتقلّب فيه الحيتان ودوابّ الماء ، وفيه منافعُ اُخر أنت بها عارف ، وعن عظيم موقعها غافل ؛ فإنّه سوى الأمر الجليل المعروف - من [عظيم] عنائه في إحياء جميع ما على الأرض من الحيوان والنبات - يمزج الأشربة ، فتلين(1) وتطيب لشاربها ، وبه تنظّف الأبدان والأشربة من الدَّرَن الذي يغشاها ، وبه يبلّ التراب فيصلح للاعتمال ، وبه يكفّ عادية النار إذا اضطرمت وأشرف الناس على المكروه ، وبه يستحمّ المتعب الكالّ ، فيجد الراحة من أوصابه ، إلى أشباه هذه المآرب التي يعرف عِظَم موقعها في وقت الحاجة إليها ، فإن شككت في هذه المياه الكثيرة المتراكمة في البحار، وقلت : ما الإرب فيه ؟ فاعلم أنّه مكتنف ومضطرب ما لا يحصى من أصناف السمك ودوابّ البحر ومعدن اللؤلؤ والمرجان والعنبر وأصناف شتّى يستخرج من البحر ، وفي سواحله منابت العود واليَلَنْجُوج(2)، وضروب من الطيب والعقاقير .

ثمّ هو بعدُ مركب الناس ومحمل لهذه التجارات التي تُجلب من البلدان البعيدة، كمثل ما يجلب من الصين إلى العراق ، ومن العراق إلى العراق(3) ؛ فإنّ هذه التجارات لو لم يكن لها محمل إلاّ على الظهر لبادت(4) وبقيت في بلدانها وأيدي أهلها ؛ لأنّ أجر حملها كان يجاوز أثمانها ، فلا يتعرّض أحد لحملها ، وكان يجتمع من ذلك أمران: أحدهما فقد أشياءَ كثيرةٍ تعظم الحاجة إليها ، والآخر انقطاع معائش من يحملها ويتعيّش بفضلها .

وهكذا الهواء لولا كثرته وسعته لاختنق هذا الأنام من الدخان والبخار الذي يتحيّر .

ص: 176


1- في المصدر : «فتلذّ» .
2- الألَنْجوجُ واليَلَنْجوجُ : عود جيّد . لسان العرب ، ج 2 ، ص 359 (لنج) .
3- في المصدر : «ومن العراق إلى الصين» .
4- في المصدر : «لبارت» . وكلاهما بمعنى هلكت .

فيه ، ويعجز عمّا يحول إلى السحاب والضباب أوّلاً أوّلاً ، وقد تقدّم من صفته ما فيه كفاية .

والنار أيضا كذلك ، فإنّها لو كانت مبثوثة كالنسيم والماء كانت تحرق العالم وما فيه ، و[لما] لم يكن بدّ من ظهورها في الأحايين لعنائها في كثير من المصالح ، فجعلت كالمخزونة في الأجسام ، ملتمس عند الحاجة إليها ، وتمسك بالمادّة والحطب ما احتيج إلى بقائها لئلاّ تخبو ، فلاهي تمسك بالمادّة والحطب فتعظم المؤونة في ذلك ، ولا هي تظهر مبثوثةً فتحرق كلّ ما هي فيه ، بل على تهيئة وتقدير ، اجتمع فيها الاستمتاع بمنافعها والسلامة من ضررها .

ثمّ فيها خلّة اُخرى وهي أنّها ممّا خصّ به الإنسان دون جميع الحيوان لما فيه من المصلحة ، فإنّه لو فقد النار لعظم ما يدخل عليه من الضرر في معاشه .

أمّا البهائم ، فلا تستعمل النار ولا تستمتع بها ، ولمّا قدّر اللّه عزّوجلّ أن يكون هذا هكذا خلق للإنسان كفّا وأصابعَ مهيّئةً لقدح النار واستعمالها ، ولم يُعْطَ البهائم مثل ذلك، لكنّها اُعينت بالصبر على الجفاء، والخلل في المعاش؛ لكيلا ينالها في فقد النار ما ينال الإنسان . واُنبّئك من منافع النار على خلقة صغيرة عظيم موقعها ، وهي هذه المصباح التي يتّخذها الناس ، فيقضون به حوائجهم ما شاؤوا من ليلهم ، ولولا هذه الخلّة لكان الناس يصرف أعمارهم بمنزلة من في القبور ، فمن كان يستطيع أن يكتب أو يخيط أو ينسج في ظلمة الليل ؟ وكيف كانت حال من عرض له وجع في وقتٍ من أوقات الليل، فاحتاج أن يعالج ضمادا أو سفوفا أو أشياء يستشفى به . فأمّا منافعها في نضج الأطعمة ودفاء الأبدان وتجفيف أشياء وتحليل أشياء وأشباه ذلك ، فأكثر من أن تحصى ، وأظهر من أن يخفى» .(1)

قال عليه السلام : «اُنظر يا مفضّل هذه الجبالَ المركومة من الطين، والحجارة التي قد يحسبها الغافلون فضلاً لا حاجة إليها ، والمنافع فيها كثيرة : فمن ذلك أن يسقط عليها الثلوج ،

ص: 177


1- توحيد المفضّل ، ص 142 - 148 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 122 - 124 .

فيبقى في قِلالها لمن يحتاج إليه ، ويذوب ما يذوب منه ، فيجري منه العيون الغزيرة التي يجتمع منها الأنهار العظام ، وينبت منها ضروب من النبات والعقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل ، ويكون فيها كهوف ومعاقل للوحوش من السباع العادية ، ويتّخذ فيها الحصون والقلاع المنيعة للتحرّز من الأعداء ، وينحت منها الحجارة للبناء والارحاء ، ويوجد فيها معادنُ لضروب من الجواهر ، وفيها خلال اُخرى لا يعرفها إلاّ المقدّر لها في سابق علمه .

فكِّر يا مفضّل في هذه المعادن وما يخرج منها من الجواهر المختلفة ، مثل الجصّ والكلس والجبسين والزرانيخ(1) والمرتك والتوتيا والزيبق والنحاس والرصاص والفضّة والذهب والزبرجد والياقوت والزمرّد وضروب الحجارة ، وكذلك ما يخرج منها من القار والموميا والكبريت والنفط وغير ذلك ممّا يستعمله الناس في مآربهم ، فهل يخفى على ذي عقل أنّ هذه كلّها ذخائرُ ذخرت للإنسان في هذه الأرض ليستخرجها، فيستعملها عند الحاجة إليها» .(2)

فصل : في اختلاف الليل والنهار

قال عليه السلام : «فكِّر يا مفضّل في مقادير الليل والنهار كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق ، فصار منتهى كلّ واحدٍ منها إذا امتدّ إلى خمس عشرة ساعة لايجاوز ذلك ، أفرأيت لو كان النهار مقداره مائة ساعة أو مائتي ساعة ألم يكن من ذلك بوار كلّ ما في الأرض من حيوان ونبات ؟ أمّا الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقرّ طول هذه المدّة ، ولا البهائم كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النهار ، ولا الإنسان كان يفتر عن العمل والحركة ، وكان ذلك سيهلكها(3) أجمع ، ويؤدّيها إلى التلف . وأمّا النبات فكان يطول عليه حرّ النهار ووهج الشمس حتّى يجفّ ويحترق .ا»

ص: 178


1- في المصدر : «الزرنيخ» .
2- توحيد المفضّل ، ص 151 - 153 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 127 - 128.
3- في المصدر : «ينهكها»

وكذلك الليل لو امتدّ مقدار هذه المدّة ، كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة والتصرّف في طلب المعاش حتّى يموت جوعا ، وتخمد الحرارة الطبيعيّة من النبات حتّى يعفن ويفسد ، كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع لا تطلع عليه الشمس .

اعتبر بهذا الحرّ والبرد كيف يتعاوران ويتصرّفان هذا التصرّفَ في الزيادة والنقصان والاعتدال لإقامة هذه الأزمنة من السنة وما فيه(1) من المصالح ، ثمّ هما بعدُ دباغ الأبدان التي عليهما بقاؤها وفيهما صلاحها ؛ فإنّه لولا الحرّ والبرد وتداولهما الأبدان لفسدت وخوت(2) وانتكثت .

فكِّر في دخول أحدهما على الآخر بهذا التدريج والترسّل ؛ فإنّك ترى أحدهما ينقص شيئا بعد شيء ، والآخَرَ يزيد مثل ذلك ، حتّى ينتهي كلّ واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان ، ولو كان دخول إحداهما على الاُخرى مفاجأةً لأضرّ ذلك بالأبدان وأسقمها ؛ كما أنّ أحدكم لو خرج من حمّام حارّ على موضع البرودة لضرّه ذلك وأسقم بدنه .

فلِمَ جعل اللّه عزّوجلّ هذا الترسّل في الحرّ والبرد إلاّ للسلامة من ضرر المفاجأة [ولم جرى الأمر على ما فيه السلامة من ضرر المفاجأة] لولا التدبير في ذلك ، فإن زعم زاعم أنّ هذا الترسّل في دخول الحرّ والبرد إنّما يكون لإبطاء مسير الشمس في الارتفاع والانحطاط ، سُئل عن العلّة في إبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها ، فإن اعتلّ في الإبطاء ببُعد ما بين المشرقين ، سُئل عن العلّة في ذلك ، فلا تزال هذه المسألة ترقى معه إلى حيث رقى من هذا القول حتّى استقرّ على العمد والتدبير ، لولا الحرّ لما كانت الثمار الجاسية المُرّة تنضج فتلين وتعذب ، حتّى يتفكّه بها رطبة ويابسة ، ولولا البرد لما كان الزرع يفرخ [هكذا] ويريع الريعَ الكثير الذي يتّسع للقوت .

ص: 179


1- في المصدر : «فيهما».
2- خَوَت ، أي انهدمت . لسان العرب ، ج 14 ، ص 245 (خوا) .

وما يرد في الأرض للبذر ، أفلا ترى ما في الحرّ والبرد من عظيم العناء والمنفعة، وكلاهما مع عنائه والمنفعة فيه يؤلم الأبدان ويمضّها ؛ وفي ذلك عبرة لمن فكّر ، ودلالة على أنّه من تدبير الحكيم في مصلحة العالم وما فيه» .(1)

فصل : فيما أنزل اللّه من السماء من ماءٍ

قال عليه السلام : «فكِّر يا مفضّل في الصحو والمطر كيف يعتقبان(2) على هذا العالم لما فيه صلاحه ، ولو دام واحد منهما عليه كان من ذلك فساده ؛ ألا ترى أنّ الأمطار إذا توالت عفنت البقول والخضر ، واسترخت أبدان الحيوان ، وخثر(3) الهواء ، فأحدث ضروبا من الأمراض ، وفسدت الطرق والمسالك ، وأنّ الصحو إذا دام جفّت الأرض ، واحترق النبات ، وغيض ماء العيون والأودية ، فأضرّ ذلك بالناس ، وغلب اليبس على الهواء، فأحدث ضروبا اُخرى من الأمراض ، فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقبَ اعتدل الهواء، ورفع كلّ واحد عاديةَ الآخَر ، فصلحت الأشياء واستقامت .

فإن قال قائل : ولِمَ لا يكون في شيءٍ من ذلك مضرّة البتّة ؟

قيل : ليمض ذلك للإنسان ويؤلمه بعض الألم ، فيرعوي عن المعاصي ، فكما أنّ الإنسان إذا سقم بدنه احتاج إلى الأدوية المرّة البشعة ليقوم طباعه ، ويصلح ما فسد منه، كذلك إذا طغى وأشر احتاج إلى ما يعضه ويؤلمه ليرعوي ، ويقصر عن مساويه ، ويثبته على ما فيه حظّه ورشده .

ولو أنّ مَلِكا من الملوك قسم من أهل مملكته قناطيرَ من ذهب وفضّة ، ألم يكن سيعظم عندهم ويذهب له به الصوت ؟ فأين هذا من مطرة رواء يعمّ به البلاد ، ويزيد في الغلاّت أكثر من قناطير الذهب والفضّة في أقاليم الأرض كلّها ؟ أفلاترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرَها ، وأعظم النعمةَ على الناس فيها وهم عنها ساهون ، وربما عاقت).

ص: 180


1- توحيد المفضّل ، ص 137 - 140 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 118 - 119 .
2- في المصدر : «يتعاقبان» .
3- خثر ، أي اشتدّ وثخن . وفي المصدر : حصر . راجع : مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 282 (خثر).

أحدَهم عن حاجة لا قدر لها ، فتذمّر وتسخّط إيثارا للخسيس قدرُه على العظيم نفعُه ، جميلاً محمودَ العاقبة ، وقلّةَ معرفةٍ بعظيم العناء والمنفعة فيها .

تأمّل نزوله على الأرض والتدبيرَ في ذلك ، فإنّه جعل ينحدر عليها من عَلُ ليغشى ما غلظ وارتفع منها ويرويَه ، ولو كان إنّما يأتيها من بعض نواحيها لما علا على المواضع المشرفة منها ، ويقلّ ما يزرع من الأرض .

ألا ترى أنّ الذي يزرع سيحا(1) أقلُّ من ذلك ، فالأمطار هي التي تطبق الأرض ، وربما يزرع هذه البراري الواسعة وسفوحَ الجبال وذُراها ، فتغلّ الغلّة الكثيرة ، وبها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مؤونةُ سياق الماء من موضع إلى موضع ، وما يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم ، حتّى يستأثر بالماء ذووا العزّة والقوّة ، ويحرمه الضعفاء .

ثمّ إنّه حين قدر أن ينحدر على الأرض انحدارا جَعَلَ ذلك قطرا شبيها بالرشّ ليغور في قعر الأرض فيرويها ، ولو كان يسكبه إسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها ، ثمّ كان يحطّم الزروع القائمة إذا اندفق عليها ، فصار ينزل نزولاً رفيقا ، فينبت الحبّ المزروع، ويُحيي الأرض والزرع القائم .

وفي نزوله أيضا مصالح اُخرى : فإنّه يليّن الأبدان ، ويجلو كدر الهواء، فيرتفع الوباء الحادث من ذلك ، ويغسل ما يسقط من الشجر والزرع من الداء المسمّى اليرقان ، إلى أشباه هذا من المنافع .

فإن قال قائل : أوليس قد يكون منه في بعض السنين الضرر العظيم الكثير لشدّة ما يقع منه ، أو برد يكون فيه تحطّم الغلاّت ، وخثورة(2) يحدثها في الهواء ، فيتولّد كثيرا من الأمراض في الأبدان والآفات في الغلاّت ؟

قيل : قد يكون ذلك الفرط لما فيه صلاح الإنسان ، وكفُّه عن ركوب المعاصي .

ص: 181


1- زراعة السيح هي الزراعة التي تحصل عن طريق الأنهار والمياه الجارية . راجع : لسان العرب ، ج 2 ، ص 492 (سيح) .
2- في المصدر : «بخورة» .

والتمادي فيها ؛ فيكون المنفعة فيما يصلح له من دينه أرجح ممّا عسى أن يزري في ماله» .(1)

فصل : في «وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» .(2)

اعلم أنّ الصادق عليه السلام في المجلس الثاني من الكتاب المذكور بسط الكلام في أحوال الدوابّ ، وإذ لا يتّسع كتابي هذا لذكر الجميع التقطتُ منه قدرا على سبيل الاُنموذج .

قال عليه السلام : «ابتدئ لك بذكر الحيوان ليتّضح لك من أمره ما وضح لك من غيره ، فكِّر في أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها على ما هي عليه ؛ فلا هي صلاب كالحجارة، ولو كانت ذلك لاتنثني(3) ولا تتصرّف في الأعمال ، ولا هي على غاية اللين والرخاوة ، فكانت لا تتحامل ولا تستقلّ بأنفسها ، فجعلت من لحمٍ رخو ينثني ، يتداخله عظام صلاب ، يمسكه عصب وعرق تشدّه ، وتضمّ بعضَه إلى بعض ، وعُلِيَت(4) فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كلّه .

ومن أشباه ذلك هذه التماثيل التي تعمل على العيدان ، وتلفّ بالخرق ، وتشدّ بالخيوط ، ويطلى فوق ذلك بالصمغ ، فيكون العيدان بمنزلة العظام ، والخرق بمنزلة اللحم ، والخيوط بمنزلة العصب ، والعروق والطلا بمنزلة الجلد ؛ فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرّك حدث بالإهمال من غير صانع ، جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميّتة ، فإن كان هذا غير جائز في التماثيل، فبالحريّ لا يجوز في الحيوان .

وفكِّر بعد هذا في أجساد الأنعام ، فإنّها حين خُلقت على أبدان الإنس من اللحم والعظم والعصب ، اُعطيت أيضا السمعَ والبصر ليبلغ الإنسان حاجته ، فإنّها لو كانت عمياء صمّاء لما انتفع بها الإنسان ، ولا تصرّفت في شيءٍ من مآربه ، ثمّ منعت الذهنَ والعقل لتذلّ الإنسان ، فلا يمتنع عليه إذا كدّها الكدَّ الشديدَ ، وحملها الحملَ الثقيل . .

ص: 182


1- توحيد المفضّل ، ص 148 - 150 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 125 - 126 .
2- البقرة (2) : 164 .
3- لاتنثني ، أي لاتنعطف ولاتميل .
4- في المصدر : «غلفت» .

فإن قال قائل : إنّه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس يذلّون ويذعنون بالكديد الشديد ، وهم مع ذلك [غير] عديمي العقل والذهن ؟

فيُقال في جواب ذلك : إنّ هذا الصنف من الناس قليل ، فأمّا أكثر الناس فلا يذعنون بما تذعن به الدوابّ من الحمل والطحن وما أشبه ذلك ، ولا يغرون(1) بما يحتاج إليه منه ، ثمّ لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم، لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال؛ لأنّه كان يحتاج مكان الحمل الواحد والبغل الواحد عدّة أناسيّ ، فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتّى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات ، مع ما يلحقهم من التعب القادح في أبدانهم ، والضيق والكدّ في معاشهم .

فكِّر يا مفضّل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان وفي خلقتها على ما هي عليه بما فيه صلاح كلّ واحدٍ منها .

فالإنس لمّا قدّر أن يكونوا ذوي ذهن وفطنة وعلاج لمثل هذه الصناعات من البناء والتجارة والصياغة وغير ذلك ، خلق لهم أكفّ كبار ذوات أصابعَ غلاظٍ؛ ليتمكّنوا من القبض على الأشياء ، وأوكدها هذه الصناعات . وآكلاتُ اللحم لمّا قدّر أن يكون معاشها من الصيد ، خلقت لهم أكفّ لِطاف مُدْمِجة(2) ذوات بَراثنَ(3) ومخالبَ(4) تصلح لأخذ الصيد ، ولا تصلح للصناعات وآكلات النبات ؛ لما قدّر أن يكونوا لا ذواتَ صنعة ولا ذواتَ صيد ، خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونةَ الأرض إذا حاول طلب الرعي، ولبعضها حوافرُ مُلَمْلَمة(5) ذوات قعر كأخمص القدم ، تنطبق على الأرض ليتهيّأ للركوب والحمولة . .

ص: 183


1- أي لايؤثر فيهم الإغراء والتحريض على جميع الأعمال التي يحتاج إليها الخلق من ذلك العمل الذي يأتي به الدوابّ.
2- مدمجة ، أي مستقيمة محكمة متداخلة . راجع : لسان العرب ، ج 2 ، ص 275 (دمج) .
3- البراثن - جمع بُرثُن بالضمّ - من السباع والطير بمنزلة الإصبع من الإنسان . لسان العرب ، ج 13 ، ص 50 (برثن) .
4- المخالب - جمع مِخلب بالكسر - وهو الظفر خصوصا من السباع . لسان العرب ، ج 1 ، ص 363 (خلب) .
5- ململمة ، أي مجموعة بعضها إلى بعض . راجع : لسان العرب ، ج 12 ، ص 550 (لمم) .

تأمّل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان حين جُعلت ذوات أسنان حِداد وبراثنَ شِداد وأشداقٍ وأفواه واسعة ، فإنّه لمّا قدّر أن يكون طعمها اللحم خلقت خلقةً تشاكل ذلك ، واُعينت لسلاح وأدوات تصلح للصيد ، وكذلك تجد سباعَ الطير ذواتِ مناقيرَ ومخالبَ مهيّئة لفعلها ، ولو كانت الوحوش ذواتِ مخاليبَ كانت قد اُعطيت ما لا يُحتاج إليه ، أعني السلاح الذي به تصيد وتتعيّش ، أفلاترى اُعطي كلّ واحد من الصنفين ما يشاكل صنعه وطبعه ، بل ما فيه صلاحه وبقاؤه .

اُنظر الآنَ إلى ذوات الأربع، كيف تراها تتبع اُمّهاتها مستقلّةً بأنفسها ، لاتحتاج إلى الحمل والتربية كما يحتاج أولاد الإنس ، فلأجل أنّه ليس عند اُمّهاتها ما عند اُمّهات البشر من الرفق والقيام بالتربية والقوّة عليها والأكفّ والأصابع المرساة ؛ لذلك اُعطيت النهوضَ والاستقلالَ بأنفسها ، وكذلك ترى كثيرا من الطير كمثل الدجاج والدرّاج والقبج تدرج وتلقط حين ينقاب [عنها] البيض .

فأمّا ما كان ضعيفا لا نهوض فيه كمثل فراخ الحمام واليمام والحمر فقد جُعل في الاُمّهات فضلُ عطفٍ عليها ، فصارت تمجّ الطعام في أفواهها بعد ما توعيه(1) حواصلَها(2)، فلا تزال تغنوها حتّى تستقلّ بأنفسها ، ولذلك لم ترزق الحمام فراخا كثيرا مثل ما ترزق الدجاج لتقوى الاُمّ على تربية فراخها ، فلا تفسد ولا تموت ، فكلٌّ اُعطي بقسط من تدبير الحكيم اللطيف الخبير .

اُنظر إلى قوائم الحيوان كيف تأتي أزواجا ليتهيّأ للمشي ، ولو كانت أفرادا لم تصلح لذلك ؛ لأنّ الماشي ينقل قوائمه ويعتمد عليه ؛ فذو القائمتين ينقل واحدة ويعتمد على واحدة ، وذو الأربع ينقل اثنتين ، ويعتمد على اثنتين، وذلك من خلاف ؛ لأنّ ذا الأربع لو كان ينقل قائمتين من أحد جانبيه، ويعتمد على قائمتين من الجانب الآخَر، لما يثبت على الأرض كما لا يثبت السرير وما أشبهه ، فصار ينقل اليمنى من مقاديمه .

ص: 184


1- توعيه ، من أوعى الزاد ونحوه ، أي جعله في الوعاء . لسان العرب ، ج 15 ، ص 397 (وعي) .
2- الحوصل والحوصلة والحوصلاء من الطائر بمنزلة المعدة من الإنسان . لسان العرب ، ج 11 ، ص 154 (حصل) .

مع اليسرى من مآخيره . وينقل الاُخريَيْنِ أيضا من خلاف؛ ليثبت على الأرض، ولا يسقط إذا مشى .

أما ترى الحمارَ كيف يذلّ للطحن والحمولة وهو يرى الفرس مودعا منعّما ، والبعيرَ لا يطيقه عدّة رجال لو استعصى كيف ينقاد للصبيّ ؟

والثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه حتّى يضع النِيرَ على عنقه ويحرث به .

والفرس الكريم يركب السيوف والأسنّة بالمواتاة لفارسه .

والقطيع من الغنم يرعاه رجل واحد ، ولو تفرّقت الغنم فأخذ كلّ منها في ناحية لم يلحقها .

وكذلك جميع الأصناف المسخَّرة للإنسان ، فبِمَ كانت كذلك إلاّ بأنّها عدمت العقل والرويّة ، فإنّها لو كانت تعقل وتروي في الاُمور كانت خليقةَ أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه ، حتّى يمتنع الجمل على قائده ، والثور على صاحبه ، وتتفرّق الغنم عن راعيها ، وأشباه هذا من الاُمور .

وكذلك هذه السِّباع لو كانت ذوات عقل ورويّة فتوازرت(1) على الناس ، كانت خليقةَ أن تحاجّهم فمن كان يقوم للاُسد والذئاب والنمورة والدِّبَبَة لو تعاونت وتظاهرت على الناس ؟ أفلا ترى كيف حجز ذلك عليها ، وصار مكان ما يخاف من إقدامها ونكايتها تهاب مساكن الناس وتحجم عنها ، ثمّ لا تظهر ولا تنتشر لطلب قوتها إلاّ بالليل ، فهي مع صولتها كالخائف للإنسان ، مغمومةٌ(2) ممنوعة منهم ، ولولا ذلك لساورتهم في مساكنهم وضيّقت عليهم .

ثمّ جعل في الكلب من بين هذه السِّباع عطفٌ على مالكه ، ومحاماة عنه ، وحفاظ له، فهو ينتقل على الحيطان والسطوح في ظلمة الليل لحراسة منزل صاحبه ، وذبّ الذعار عنه ، ويبلغ من محبّته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه ودون ماشيته ، ويألفه غايةَ الاُلف حتّى يصبر معه على الجوع والجفوة ، فلِمَ طبع الكلب على هذا الاُلف إلاّ ليكون .

ص: 185


1- توازرت ، أي اجتمعت واتّحدت .
2- في المصدر : «مقموعة» أي مقهورة ذليله .

حارساً للإنسان ، له عين بأنياب ومخاليبُ ونياح هائل ليذعر منه السارق ، ويتجنّب المواضع التي يحميها ويخفرها» .(1)

قال عليه السلام : «تأمّل مشفر الفيل وما فيه من لطيف التدبير ، فإنّه يقوم مقام اليد في تناول العلف والماء وازدرادهما إلى جوفه ، ولولا ذلك ما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض ؛ لأنّه ليست له رقبة يمدّها كسائر الأنعام ، فلمّا اُعدم العنقَ اُعين مكانَ ذلك بالخرطوم الطويل ليسدله ، فيتناول به حاجته ، فمن ذا الذي عوّضه مكان العضو الذي عدمه ما يقوم مقامه إلاّ الرؤوف بخلقه ؟ وكيف يكون هذا بالإهمال كما قال الظلمة ؟

اُنظر الآنَ كيف حياء الاُنثى من الفيلة في أسفل بطنها، فإذا هاجت للضراب ارتفع وبرز حتّى يتمكّن الفحل من ضرابها ، فاعتبر كيف جعل حياء الاُنثى من الفيلة على خلاف ما عليه في غيرها من الأنعام ؟ ثمّ جعلت فيه هذه الخلّة لتتهيّأ للأمر الذي فيه قوام النسل ودوامه» .(2)

«تأمّل خلق القِرَد وشبهه بالإنسان في كثير من أعضائه ، أعني الرأس والوجه والمنكبين والصدر ، وكذلك أحشاؤه أيضا شبيهةٌ بأحشاء الإنسان ، وخُصّ مع ذلك بالذهن والفطانة التي بها يفهم عن سائسه ما يؤمئ إليه ، ويحكي كثيرا ممّا يرى الإنسان يفعله حتّى أنّه يقرب من خلق الإنسان وشمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه أن يكون عبرةً للإنسان في نفسه ، فيعلم أنّه من طينة البهائم وسنخها ؛ إذ كان يقرب من خلقها هذا القربَ، وأنّه لولا فضيلة فضّله بها في الذهن والعقل والنطق كان كبعض البهائم ، على أنّ في جسم القرد فضولاً اُخرى يفرق بينه وبين الإنسان ، كالخَطْم(3) والذنب المسدل والشعر المجلّل للجسم كلّه ، وهذا لم يكن مانعا للقرد أن يلحق بالإنسان لو اُعطي مثلَ ذهن الإنسان وعقله ونطقه ، والفصل الفاصل بينه وبين الإنسان بالصحّة هو النقص في العقل والذهن والنطق . .

ص: 186


1- توحيد المفضّل ، ص 94 - 101 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 90 - 96 .
2- توحيد المفضّل ، ص 103 - 104 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 95 - 97 .
3- الخَطْم من كلّ دابّة : مُقَدَّمُ أنفها وفمها . لسان العرب ، ج 12 ، ص 186 (خطم) .

اُنظر يا مفضّل إلى لطف اللّه - جلّ اسمه - بالبهائم كيف كُسِيت أجسامهم هذه الكسوةَ من الشعر والوبر والصوف؛ ليقيها من البرد وكثرة الآفات ، واُلبست الأظلافَ والحوافرَ والأخفافَ؛ ليقيها من الحَفا(1) إذا كانت لا أيدي لها ولا أكفّ ولا أصابع مهيّئة للغزل والنسج ، فكُفوا بأن جعل كسوتهم في خلقتهم باقيةً عليهم ما بقوا لا يحتاجون إلى تجديدها والاستبدال بها .

فأمّا الإنسان ، فإنّه ذو حيلة وكفّ مهيّئة للعمل ، فهو ينسج ويغزل ويتّخذ لنفسه الكسوة ، ويستبدل بها حالاً عن حال ، وله في ذلك صلاح من جهات : من ذلك أنّه يشتغل بصنعة اللباس عن العبث وما يخرجه إليه الكفاية ، ومنها أنّه يستريح إلى خلع كسوته إذا شاء ولبسها إذا شاء ، ومنها : أن يتّخذ لنفسه من الكسوة ضروبا لها جمال وروعة ، فيتلذّذ بلبسها وتبديلها ، وكذلك يتّخذ بالرفق من الصنعة ضروبا من الخفاف والنِّعال يقي بها قدميه ، وفي ذلك معايشُ لمن يعمله من الناس ، ومكاسبُ يكون فيها معاشهم ومنها أقواتهم وأقوات عيالهم ، فصار الشعر والوبر والصوف يقوم للبهائم مقام الكسوة ، والأظلافُ والأخفاف مقام الحِذاء .

فكِّر يا مفضّل في خلقة عظيمة في البهائم ، فإنّهم يوارون أنفسهم إذا ماتوا كما يواري الناس موتاهم ، وإلاّ فأين جيف هذه الوحوش والسِّباع وغيرها لا يُرى منها شيء وليست قليلةً فتخفى لقلّتها ؟

بل لو قال قائل : إنّها أكثر من الناس لصدَق ، فاعتبر ذلك بما تراه في الصحاري والجبال من أسراب الظباء(2) والمها(3) والحمير والوعول(4) والأيائل(5) ، وغير ذلك من

ص: 187


1- الحفا : المشي بغير خُفّ ولانعل . لسان العرب ، ج 14 ، ص 186 (حفا) .
2- الظباء ، جمع طيبة ، وهي اثني الغزال .
3- المها ، جمع مَهاة ، وهي بقرة الوحشيّة . لسان العرب ، ج 15 ، ص 298 (مها) .
4- الوعول ، جمع وَعِل ، وهو تيس الجبل، له قرنان قويّان منحنيان . اُنظر: لسان العرب ، ج 11 ، ص 731 (وعل) .
5- الأيائل ، جمع أيّل . قيل: هو الذكر من الأوعال ، ويقال : هو الذي يسمّى بالفارسيّة «گوزن». اُنظر: لسان العرب ، ج 11 ، ص 33 (أول) .

الوحوش وأصناف السِّباع من الأسد والضباع والذئاب والنمور وغيرها ، وضروب الهوامّ والحشرات ودوابّ الأرض ، وكذلك أسراب الطير من الغربان(1) والقطا والإوزّ(2) والكراكي(3) والحمام وسباع الطير جميعا ، وكلّها لا يُرى منها إذا ماتت إلاّ الواحد بعد الواحد يصيده قانص(4) أو يفترسه سبع ، فإذا أحسّوا بالموت كَمَنُوا(5) في مواضعَ خفيّة فيموتون فيها ، ولولا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتّى تفسد رائحة الهواء ، وتحدث الأمراض والوباء ، فانظر إلى هذا بالذي يخلص إليه الناس، وعملوه بالتمثيل(6) الأوّل الذي مثل لهم كيف جعل طبعا وأذكارا في البهائم وغيرها ؛ ليسلم الناس من معرّة(7) ما يحدث عليهم من الأمراض والفساد .

فكِّر يا مفضّل في الفطن التي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع والخلقة لطفا من اللّه عزّوجلّ ؛ لئلاّ يخلو من نعمه - جلّ وعزّ - أحدٌ من خلقه لا بعقلٍ ورويّة ، فإنّ الأيّل يأكل الحيّات ، فيعطش عطشا شديدا ، فيمتنع من شرب الماء خوفا من أن يدبّ السمّ في جسمه فيقتله ، فيقف على الغدير وهو مجهود عطشا ، فيعجّ عجيجا عاليا ولا يشرب منه ، ولو شرب لمات من ساعته ، فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمّل الظمأ الغالب الشديد خوفا من المضرّة في الشرب ، وذلك ما لا يكاد الإنسان العاقل المميّز يضبطه من نفسه .

والثعلب إذا أعوزه الطعم ، تمادت ونفخ بطنه حتّى يحسبه الطير ميّتا ، فإذا وقعت عليه لتنهشه ، وثب عليها فأخذها ، فمن أعان الثعلب العديم النطق والرويّة بهذه الحيلة .

ص: 188


1- الغربان ، جمع الغراب .
2- الإوزّ ، جمع الإوَزَّة : طائر مائى . لسان العرب ، ج 5 ، ص 309 (أوز) .
3- الكراكي ، جمع كُرْكي : طائر كبير أغبر اللون ، طويل العنق والرجلين ، أبتر الذنب ، قليل اللحم ، يأوي إلى الماء أحيانا .
4- قَنَصَ الصيدَ : صاده . لسان العرب ، ج 7 ، ص 83 (قنص) .
5- كَمَنَ : توارى واستخفى ، ومنه الكمين في الحرب . مجمع البحرين ، ج 6 ، ص 302 (كمن) .
6- المراد بالتمثيل ما ذكره اللّه تعالى في قصّة قابيل .
7- المعرّة : الأذى . لسان العرب ، ج 4 ، ص 556 (عرر) .

إلاّ من يوكل بتوجيه الرزق له من هذا وشبهه، فإنّه لمّا كان الثعلب يضعف عن كثير ممّا يقوى عليه السباع من مساورة الصيد ، اُعين بالدهاء والفطنة والاحتيال لمعاشه .

والدلفين يلتمس صيد البحر ، فيكون حيلته في ذلك أن يأخذ السمك فيقتله ويشرّحه(1) حتّى يطفو على الماء ، ثمّ يكمن تحته ويثور الماء الذي عليه حتّى لا يتبيّن شخصه ، فإذا وقع الطير على السمك الطافي وثب إليها فاصطادها ، فانظر إلى هذه الحيلة كيف صار طبعا في هذه البهيمة لبعض المصلحة» .

قال المفضّل : فقلت : خبّرني مولاي عن التنين والسحاب .

فقال عليه السلام : «إنّ السحاب كالموكّل به يختطفه حيث ما يفقه(2) كما يختطف حجر المغناطيس الحديد ، فهو لا يطلع رأسه من الأرض خوفا من السحاب ، ولا يخرج إلاّ في القيظ(3) مرّة إذا أضحت(4) السماء ، فلم يكن فيها نكتة من غيمة» .

قلت : فلِمَ وكّلت السحاب بالتنين يرصده ، ويختطفه إذا وجده ؟

قال : «ليدفع عن الناس مضرّته» .

فقلت : لقد وصفت يا مولاي من أمر البهائم ما فيه معتبرٌ لمن اعتبر ، فصِفْ لي الذرّة والنملة والطير .

فقال عليه السلام : «يا مفضّل ، تأمّلْ وجه الذرّة الحقيرة الصغيرة ، هل تجد فيها نقصا عمّا فيه صلاحها ؟ فمن أين هذا التقدير والصواب في خلق الذرّة إلاّ من التدبير القائم في صغير الخلق وكبيره ، اُنظر إلى النمل واحتشاده في جمع القوت وإعداده ، فإنّك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحَبّ إلى زُبْيَتِها بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيرَه ، بل للنمل في ذلك من الجدّ والتشمير ليس للناس مثله ؛ أما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل ، ثمّ يعمدون إلى الحَبّ فيقطعونه قِطَعا كيلا ينبت فيفسد عليهم ، فإن أصابه ندى فأخرجوه فنشروه حتّى يجفّ ، ثمّ لا يتّخذ النمل الزبية إلاّ في .

ص: 189


1- في المصدر : «يسرحه» .
2- في المصدر : «ثقفه» .
3- القيظ : حميم الصيف، وشدّة الحرّ .
4- في المصدر : «صحت» .

نَشْز(1) من الأرض لكيلا يفيض السيل فيغرقها ، فكلّ هذا منه بلا عقل ولا رويّة ، بل خلقة خلق عليها لمصلحة لطفا من اللّه جلَّ وعزّ .

اُنظر إلى هذا الذي يُقال له الليث ، وتسمّيه العامّة أسدَ الذباب ، وما اُعطي من الحيلة والرفق في طلب معاشه ؛ فإنّك تراه حين يحسّ بالذباب قد وقع قريبا منه تركه مليّا حتّى كأنّه موات لا حِراك به ، فإذا رأى الذباب قد اطمئنّ وغفل عنه دَبَّ دبيبا دقيقا حتّى يكون منه بحيث يناله وثبَه، ثمّ يثب عليه فيأخذه ، فإذا أخذه اشتمل عليه بجسمه كلّه مخافةَ أن ينجو منه ، فلا يزال قابضا عليه حتّى يحسّ بأنّه قد ضعف واسترخى ، ثمّ يقبل عليه فيفترسه، ويحيا [بذلك] منه .

فأمّا العنكبوت ، فإنّه ينسج ذلك النسجَ ، فيتّخذه شَرَكا ومصيدا للذباب ، ثمّ يكمن في جوفه ، فإذا نشب فيه الذباب أحال عليه يلدغه ساعة بعد ساعة، فيعيش بذلك منه .

فكذلك يحكى صيد الكلاب والفهود ، وهكذا يحكى صيد الأشراك والحبائل .

فانظر إلى هذه الدُّوَيبة الضعيفة كيف جُعل في طبعها ما لا يبلغه الإنسان إلاّ بالحيلة واستعمالات آلات فيها ، فلا تزدر بالشيء إذا كانت العبرة فيه واضحةً كالذرّة والنملة وما أشبه ذلك ؛ فإنّ المعنى النفيس قد يمثّل بالشيء الحقير ، فلا يضع منه ذلك كما لا يضع من الدينار - وهو من ذهب - أن يوزَن بمثقال حديد .

تأمّل يا مفضّل جسمَ الطائر وخلقته ، فإنّه حين قدّر أن يكون طائرا في الجوّ خفّف جسمه ، واُدمج خلقه ، فاقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين ، ومن الأصابع الخمس على أربع ، ومن منفذين للذبل والبول على واحد يجمعهما ، ثمّ خُلق ذا جؤجؤ محدّد؛ ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه ، كما جُعل في السفينة بهذه الطبيعة لتشقّ الماء وتنفذ ، وجُعل في جناحيه وذَنَبه ريشاتٌ طِوال مِتان لينهض بها للطيران ، وكسى كلّه ليداخله الهواء فيقلّه ، ولمّا قدّر أن يكون طعمه الحَبَّ واللحمَ يبلعه بلعا بلا مضغ ، نَقَصَ من خلقه(2) ، وخلق له منقار صلب حاس(3) يتناول به طعمه، فلا ينسحج(4) من لقط .

ص: 190


1- النشز : المكان المرتفع .
2- في المصدر : «من خلقة الإنسان» .
3- في المصدر : «جاسي» .
4- ينسحج ، أي ينتشر .

الحبّ ، ولا يتقصّف(1) من نهش اللحم ، ولمّا عدم الأسنان وصار يزدرد الحبّ صحيحا واللحم غريضا ، اُعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ ، واعتبر ذلك بأنّ عُجْم العنب وغيرِه يخرج من أجواف الإنس صحيحا ، ويطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر .

ثمّ جُعل ممّا يبيض بيضا ولا يولد ولادة لكيلا يثقل على(2) الطيران ، فإنّه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتّى تستحكم ، لأثقلته وعاقته عن النهوض والطيران ، فجعل كلّ شيء من خلقه متشاكلاً للأمر الذي قدّر أن يكون عليه ، ثمّ صار الطائر السائح في هذا الجوّ يعقد على بيضه فيحضنه اُسبوعا ، وبعضها اُسبوعين ، وبعضها ثلاثة أسابيعَ حتّى يخرج البيضة من الفرخ(3) ، ثمّ يقبل عليه، فيزقّه الريح ليتّسع حوصلته للغذاء ، ثمّ يربّيه ويُغذّيه بما يعيش به ، فما كلّفه أن يلتقط الطعم ويستخرجه بعد أن يستقرّ في حوصلته ويغذو به فراخه ، ولأيّ معنى يحتمل هذه المشقّة ، وليس بذي رويّة ولا تفكّر ولا تأمّل في فراخه ما يأمل الإنسان في ولده من العزّ والرفد وبقاء الذكر ، فهذا هو فعل يشهد بأنّه معطوف على فراخه لعلّة لا يعرفها ولا يفكّر فيها، وهي دوام النسل وبقاؤه لطفا من اللّه تعالى ذكره .

اُنظر إلى الدجاجة كيف تهيج لحصن البيض والتفريخ ، وليس لها بيض مجتمع ولا وَكْر موطَّأ، بل تنبعث وتنتفخ وتَقَوْقى وتمتنع من الطعم حتّى يجتمع لها البيض، فتحضنه وتفرخ ، فلِمَ كان ذلك منها إلاّ لإقامة النسل؟ ولا رويّة ولا تفكّر ، لولا أنّها مجبولة على ذلك .

اعتبر بخلق البيضة وما فيها من المخّ الأصفر الخاثر،(4) والماء الأبيض الرقيق ؛ .

ص: 191


1- يتقصّف ، أي يتكسّر .
2- في المصدر : «عن» .
3- في المصدر : «حتّى يخرج الفرخ من البيضة».
4- الخثورة ، نقيض الرقّة . يقال : خثر اللبن خثورة ، بمعنى اشتدّ وثخن . اُنظر: لسان العرب ، ج 4 ، ص 230 ؛ مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 282 (خثر) .

فبعضه منتشر منه الفرخ ، وبعضه ليتغذّى به إلى أن تنقاب عنه البيضة ، وما في ذلك من التدبير ؛ فإنّه لمّا كان نشوء الفرخ في تلك القشرة المستخصفة(1) التي لا مساغ لشيء ما إليها ، يجعل معه في جوفها من الغذاء ما يكتفى به إلى وقت خروجه منها ، كمن يحبس في حبس حصين إلى أن يوصل إلى من فيه ، فيجعل معه من القوت ما يكتفى إلى وقت خروجه منه .

فكِّر في حوصَلَة الطائر وما قدّر له ، فإنّ مسلك الطعم إلى القانصة(2) ضيّق لاينفذ فيه الطعام إلاّ قليلاً قليلاً ، فلو كان الطائر لا يلقط حبّة ثانية حتّى تصل الاُولى إلى القانصة، لطال عليه ، ومتى كان يستوفي طعمه فإنّما يختلسه اختلاسا لشدّة الحذر ، فجُعلت الحوصلة كالمِخلاة(3) المعلّقة أمامَه ليوعي فيها ما أدرك من الطعم بسرعة ، ثمّ ينفذه إلى القانصة على مهل ، وفي الحوصلة أيضا خلّة اُخرى ؛ فإنّ من الطائر ما يحتاج إلى أن يزقّ فراخَه ، فيكون ردّه الطعمَ من قربٍ أسهلَ عليه» .

قال : فقلت : إنّ قوما من المعطّلة يزعمون أنّ اختلاف الألوان والأشكال في الطير يكون من قِبَل اختلاط امتزاج الأخلاط واختلاف مقاديرها بالمزاج(4) والإهمال .

فقال : «يا مفضّل ، هذا الريش الذي تراه في الطواويس والدرّاج والتدارج على استوائه مقابلة(5) كنحو ما يخطّ بالأقلام ، كيف يأتي به الامتزاج المهمل على شكلٍ واحد لا يختلف ، ولو كان بالإهمال لعدم الاستواء ولكان مختلفا ؛ تأمّل ريش الطير كيف هو ؟ فإنّك تراه منسوجا كنسج الثوب من سلوك دِقاقٍ قد اُلّف بعضه إلى بعض، كتأليف الخطّ إلى الخيط ، والشعرة إلى الشعرة ، ثمّ ترى ذلك النسيج إذا مددته ينفتح قليلاً، ولا ينشقّ لتدخله الريح ، فتنقل الطائر إذا طار ، وترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته ، وهو القصبة التي في وسط .

ص: 192


1- في المصدر : «المستحفظة» .
2- القانصة للطير كالمعدة للإنسان . لسان العرب ، ج 7 ، ص 83 (قنص) .
3- المخلاة : ما يجعل فيه العلف ويعلق في عنق الدابّة . راجع : لسان العرب ، ج 14 ، ص 237 (خلا) .
4- في المصدر : «المرج» بدل «بالمزاج» .
5- في المصدر : «على استواء ومقابلة» .

الريشة ، وهو مع ذلك أجوف ليخفّ على الطائر، ولا يعوقه عن الطيران .

هل رأيت يا مفضّل هذا الطائر الطويل الساقين ؟ وعرفت ما له من المنفعة في طول ساقيه ؟ فإنّه أكثرَ ذلك في ضحضاح(1) من الماء ، فتراه بساقين طويلين كأربيئة(2) فوق مرقب ، وهو يتأمّل ما يدبّ في الماء ، فإذا رأى شيئا ممّا يتقوّت به خطا خطواتٍ رقيقا حتّى يتناوله ، ولو كان قصير الساقين كان يخطو نحو الصيد ليأخذه يصيب بطنه الماء، فيثور ويذعر منه ، فيتفرّق عنه ، فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته ، ولا يفسد عليه مطلبه .

تأمّل ضروب التدبير في خلق الطائر ، فإنّك تجد كلّ طائر طويلَ الساقين طويلَ العنق، وذلك ليتمكّن من تناول طعمه من الأرض ، ولو كان طويلَ الساقين قصيرَ العنق لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض ، وربّما اُعين مع طول العنق بطول المناقير ليزداد الأمر عليه سهولةً وله إمكانا ، أفلا ترى أنّك لا تفتّش شيئا من الخلقة إلاّ وجدته على غاية الصواب والحكمة» .(3)

قال عليه السلام : «فأمّا الطائر الصغير - الذي يُقال له : أبو تمرة(4) - فقد عشّش في بعض الأوقات في بعض الشجر ، فنظر إلى حيّة قد أقبلت نحوَ عُشّه فاغرة فاها لتبلعه ، فبينما هو يتقلّب ويضطرب في طلب حيلة منها إذا وجد حسكة ، فحملها، فألقاها في فم الحيّة ، فلم تزل الحيّة تتلوى وتتقلّب حتّى ماتت ، أفرأيت لو لم أخبرك بذلك كان يخطر ببالك أو ببال غيرك أنّه يكون من حسكة مثل هذه المنفعة ؟ أو يكون من طائر صغير أو كبير مثل هذه الحيلة ؟».(5) .

ص: 193


1- الضحضاح : ما رقّ من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين ، أو الماء القليل يكون في الغدير وغيره . لسان العرب ، ج 2 ، ص 525 (ضحح) .
2- في المصدر : «كأنّه ربيئة» .
3- توحيد المفضّل ، ص 105 - 119 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 97 - 106.
4- في المصدر : «ابن تمرة» .
5- توحيد المفضّل ، ص 121 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 106 .

قال عليه السلام : «اُنظر إلى النحل واحتشاده في صنعة العسل ، وتهيئة البيوت المسدّسة ، وما ترى في ذلك من دقائق الفطنة ؛ فإنّك إذا تأمّلت العمل رأيته عجيبا لطيفا ، وإذا رأيت المعمول وجدته عظيما شريفا موقعه من الناس ، وإذا رجعت إلى الفاعل ألفيته غبيّا جاهلاً بنفسه فضلاً عمّا سوى ذلك ، ففي هذا أوضح الدلالة على أنّ الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل ، بل هي للذي طبعه عليها وسخّره فيها لمصلحة الناس .

اُنظر إلى هذا [الجراد] ما أضعفه وأقواه، فإنّك إذا تأمّلت خلقه رأيته كأضعف الأشياء ، وإن دلفت عساكره نحو بلد من البلدان لم يستطع أحد أن يحميه ؛ ألا ترى أنّ ملكا من ملوك الأرض لو جمع خيله ورَجِله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك ، أفليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه ، فلا يستطيع دفعه .

اُنظر إليه كيف ينشاب على وجه الأرض مثل السيل ، فغشي السهل والجبل والبدو والحضر حتّى يستر نور الشمس بكثرته ، فلو كان لهذا ممّا يصنع بالأيدي ، متى يجتمع منه هذه الكثرة ؟ وفي كم من سنة كان يرتفع ؟ فاستدلّ بذلك على القدرة التي لا يؤودها شيء ، ولا يكبر عليها .

تأمّل خلق السمك ومشاكلته للأمر الذي قدر عليه ، فإنّه خلق غير ذوي قوائمَ ؛ لأنّه لايحتاج إلى المشي ، إذ كان مسكنه الماء ، وخُلق غيرَ ذي ريةٍ لأنّه لايستطيع أن يتنفّس [وهو منغمس] في اللجّة ، وجُعلت له مكانَ القوائم أجنحةٌ شداد يضرب بها في جانبيه كالملاّح بالمجاويف من جانبي السفينة ، وكسى جسمه قشورا مِتانا متداخلة كتداخل الدروع والجواشن ليقيه من الآفات ، فاُعين بفضل حسّ في الشمّ ؛ لأنّ بصره ضعيف والماء يحجبه ، فصار الشمّ من البُعد البعيد فينتجعه ، وإلاّ فكيف يعلم بموضعه ؟

واعلم أنّ مِن فيه إلى صماخيه منافذَ ، فهو يعبّ الماء بفيه ، ويرسله من صماخيه ، فيتروّح إلى ذلك كما يتروّح غيره من الحيوان إلى تنسُّم هذا النسيم .

ص: 194

فكِّر الآنَ في كثرة نسله وما خصّ به من ذلك ، فإنّك ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرةً ، والعلّة في ذلك أن يتّسع لما يغتذي به من أصناف الحيوان ؛ فإنّ أكثرها يأكل السمك أيضا ، حتّى أنّ السباع أيضا في حافات الآجام عاكفة على الماء أيضا كي يرصد السمك ، فإذا مرَّ بها خطفته ، فلمّا كانت السباع تأكل السمك ، والطير يأكل السمك ، والناس يأكلون السمك ، والسمك يأكل السمك ، كان من التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة ، فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقِصَر علوم المخلوقين ؛ فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك ، ودوابّ الماء والأصداف ، والأصناف التي لا تحصى ولا يعرف منافعها إلاّ الشيء بعد الشيء ، يدرك الناس بأسباب تحدث ، مثل القرمز ؛ فإنّه إنّما عرف الناس صبغه بأنّ كلبته تجول على شاطئ البحر ، فوجدت شيئا من الصنف الذي يسمّى الحيلزون(1) ، فأكلته فاختضبت خطمها بدمه ، فنظر الناس إلى حسنه فاتّخذوه صبغا ، وأشباه هذا ممّا يقف الناس عليه حالاً بعد حال ، وزمانا بعد زمان» .(2)

فصل : في السحاب المسخّر بين السماء والأرض

قال عليه السلام : «اُنبّهك يا مفضّل على الريح وما فيها ؛ ألست ترى ركودها إذا ركدت كيف يحدث الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس ، ويمرض الأصحّاء ، وينهك المرضى ، ويفسد الثمار، ويعفن البقول ، ويعقب الوباءَ في الأبدان ، والآفةَ على الغلاّت ، ففي هذا بيان أنّ هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الهواء .(3)

واُنبّهك عن الهواء بخلّة اُخرى ؛ فإنّ الصوت أثر يؤثّره اصطكاك الأجسام في الهواء، والهواء يؤدّيه إلى المسامع ، والناس يتكلّمون في حوائجهم ومعاملاتهم طولَ نهارهم وبعضَ ليلهم ، فلوكان أثر هذه المكارم(4) يبقى في الهواء كما يبقى الكتابة في .

ص: 195


1- في المصدر : «الحلزون» .
2- توحيد المفضّل ، ص 122 - 125 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 106 - 110 .
3- في المصدر : «الخلق» .
4- في المصدر : «هذا الكلام» .

القرطاس لامتلأ العالم منه ، فكان يكربهم ويفدحهم ، وكانوا يحتاجون في تجديده والاستبدال إلى أكثرَ ممّا يحتاج إليه في تجديد القراطيس ؛ لأنّ ما يلقى(1) من الكلام أكثرُ ممّا يُكتب ، فجعل الخلاّق الحكيم - جلّ قدسه - هذا الهواء قرطاسا خفيّا يحمل الكلام رَيْثَما يبلغ العالم حاجتهم ، ثمّ يمحا فيعود جديدا نقيّا ، ويحمل ما حمل أبدا بلا انقطاع .

وحسبك بهذا النسيم - المسمّى هواءً - عبرةً وما فيه من المصالح ؛ فإنّه حياة هذه الأبدان ، والممسك لها من داخل بما يستنشق منه ، ومن خارج بما تباشر به من روحه ، وفيه يطرد هذه الأصوات ، فيؤدّي بها من البُعد البعيد ، وهو الحامل لهذه الأراييج(2) ينقلها من موضع إلى موضع ؛ ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهبّ الريح ، وكذلك الصوت وهو القابل لهذا الحرّ والبرد اللَذيْن يعتقبان(3) على العالم لصلاحه ، ومنه هذه الريح الهابّة ، فالريح يروح عن الأجسام ، ويرخي السحاب من موضع إلى موضع ليعمّ نفعه حتّى يستكثف ، فيمطر ، وتفضّه حتّى يستخفّ فيتفشّى ، ويلقّح الشجر ، وتسيّر السفن ، وترخي الأطعمة وتبرّد الماء ، وتشبّ النار ، وتجفّف الأشياء النديّة .

وبالجملة ، إنّها تُحيي كلّ ما في الأرض ، فلولا الريح لذوى النبات ، ومات الحيوان ، وحَمت الأشياء وفسدت» .(4)

أقول : ولنقتصر على هذا القدر ممّا ذكر الإمام عليه السلام في توحيد المفضّل من الحِكم والمصالح ، مع أنّها بالنسبة إلى ما كتب قلم الصنع في أوراق الأنفس والآفاق غرفة من نهر ، بل قطرة من بحر : «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادا لِكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدا»(5) .

ص: 196


1- في المصدر : «يلقى» .
2- في المصدر : «الأرواح» .
3- في المصدر : «يتعاقبان» .
4- توحيد المفضّل ، ص 140 - 142 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 119 .
5- الكهف (18) : 109 .

فصل : في السحاب المسخّر بين السماء والأرض

قال الصادق عليه السلام في الرسالة المشهورة بالإهليلجة :

«ثمّ نظرت العين إلى العظيم من الآيات من السحاب المسخّر بين السماء والأرض بمنزلة الدخان لا جسد له يلمس بشيء ، يعترض الركبان ، فيحول بعضهم من بعض من ظلمته وكثافته ، ويحتمل من ثِقَل الماء وكثرته ما لا يقدر على صفته ممّا فيه من الصواعق الصادعة ، والبروق اللامعة والرعد والثلج والبَرَد والجليد ما لا تبلغ الأوهامُ صفتَه ، ولا تهتدي القلوب إلى كنه معرفته(1) ، فيخرج مستقلاًّ في الهواء ، يجتمع بعد تفرّقه ، ويلتحم بعد تزايله ، تفرّقه الرياح من الجهات كلّها إلى حيث تسوقه بإذن اللّه ربّها ، يستفل مرّة ويعلو اُخرى ، متمسّك بما فيه من الماء الكثير الذي إذا أزجاه صارت منه البحور ، يمرّ على الأراضي الكثيرة والبلدان المتنائية لا تنقص منه قطرة ، حتّى ينتهي إلى ما لا يحصى من الفراسخ ، فيرسل فيه قطرةً بعد قطرة ، وسيلاً بعد سيل ، متتابع على رَسْله حتّى تنقع البِرَك ، وتمتلئ الفجاج ، وتعتلي الأودية تسيل كأمثال الجبال غاصّةً بسيولها(2) ، مصمخةَ الأذان لدويّها وهديرها ، فتحيا به الأرض الميّتة، فتصبح مخضرّةً بعد أن كانت مُغْبَرّةً ، ومُعْشِبةً(3) بعد أن كانت مُجْدَبةً ، قد كُسيت ألوانا من نبات عشبٍ نضرةٍ(4) زاهرةٍ مزيّنة معاشا للناس والأنعام» .(5)

أقول : هذه الرسالة الشريفة من جملة بديع آثار أهل البيت عليهم السلام التي أودعتُها كتابَ شواهد الإسلام وشرحتها بالفارسيّة والعربيّة ، وأنا أذكر هاهنا ما ذكرت في شرح قوله عليه السلام : «تفرّقه الرياح من الجهات كلّها إلى حيث تسوقه بإذن اللّه» : التذاذ بحلاوت عبارت شريفه «تفرّقه الرياح» إلى آخره ، كه از ينبوع اعجاز نبوع كرده بعد از نقل .

ص: 197


1- في المصدر : «عجائبه».
2- في المصدر : «بالسيول» .
3- أرض مُعْشِبه : بيّنة العَشابة ، كثيرة العُشْب . والعُشْب : الكلأ الرطب . لسان العرب ، ج 1 ، ص 601 (عشب) . وفي المصدر : «معيشة».
4- في المصدر : «ناضرة».
5- بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 152 ، ح 1 ؛ و ج 61 ، ص 55 ، ح 45 .

عبارت صاحب قاموس است .

قال في فصل الفاء من باب القاف : «فرق الناقة أو الأتان فروقا : أخذها المخاض فَنَدَّتْ في الأرض ، فهي فارق . ويشبَّه بهذه السحابةُ المنفردة عن السحاب»(1) انتهى .

ومثل اين است عبارت صاحب صحاح .(2)

وبنابر اين مى گويم : ظاهر آن است كه معنى «تفرّقه الرياح» اين باشد كه: تصيّره كالناقة الفارق التي أخذها المخاض ، فلم تملك نفسها ولم تطق القرار ، بل انطلقت من وجع الطلق ، ونفرت إلى جهة على وجه الاضطرار من غير أن تقصد إلى مكان خاصّ حتّى توافي الموضع الذي قدرت أن تضع حملها فيه .

ومراد ب «من الجهات كلّها» آنكه اين حالت كه از رياح به سحاب عارض مى شود از همه جهات ممكن است و اختصاص به جهتى دون جهتى ندارد و مخصّص ، فرمان نافذ حضرت ربّ العالمين است تعالى شأنه . صاحبان فطانت وذكا ملاحظه نمايند كه چه قدر ملايمت دارد به اين معانى كه مذكور شد قول حضرت امام عليه السلام : «إلى حيث تسوقه بإذن اللّه ربّها» فالحمد للّه على التوفيق لفهم كلام أصفيائه .

ختام مسك لرحيق تحقيق :

ولعلّك تقول : إنّ الآية التي نحن فيها وردت للتنبيه على أنّ في الاُمور الثمانية - أعني : السماوات ، والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، والفُلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، وما أنزل اللّه من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح ، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض - آياتٍ للتوحيد ، وما نقلت من توحيد المفضّل إنّما هو الحِكم والفوائد والمصالح والمنافع لوجود تلك الاُمور .

فاعلم أنّ الإمام عليه السلام قد أزال هذا التوهّم بما ذكر في أوّل ذلك الكتاب حيث قال : «يا مفضّل أوّل العِبر والأدلّة على الباري - جلّ قدسه - تهيّؤه هذا العالمَ ، وتأليف أجزائه .

ص: 198


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 275 (فراق) .
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1541 (فرق) .

ونظمها على ما هي عليه ؛ فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك وميّزته(1) بعقلك ، وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميعُ ما يحتاج إليه عباده ؛ فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة(2) كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكلّ شيء فيها لشأنه معدّ ، والإنسان كالمملَّك ذلك البيت ، والمخوّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيّأة لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه ؛ ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملاءمة ، وأنّ الخالق له واحد ، وهو الذي ألّفه ونظمه بعضا إلى بعض ، جلّ قدسه ، تعالى وكرم وجهه ، ولا إله غيره ، تعالى عمّا يقول الجاحدون ، وجلّ وعظم عمّا ينتحله الملحدون» .(3)

وقال عليه السلام في كتابه الآخَر المسمّى إهليلجة :

«والعجب من المخلوق يزعم أنّ اللّه يخفى على عباده، وهو يرى أثر الصنع في نفسه بتركيب يبهر عقلَه ، وتأليفٍ يبطل حجّتَه» .(4)

وقال عليه السلام في ذلك الكتاب بعد ذكر عدّة من آثار الصنع :

«فنظرت العين إلى خلقٍ متّصل بعضه ببعض» إلى أن قال : «فعرف القلب حين دلّته العين على ما عاينت أنّ لذلك الخلق والتدبير والأمر العجيب صانعا يمسك السماء المنطبعة أن تهوى إلى الأرض ، وأنّ الذي جَعَلَ الشمسَ والنجوم فيها خالقُ السماء .

ثمّ نظرت العين إلى ما استقلّها الأرضُ ، فدلّت القلبَ على ما عاينت ، فعرف القلب أنّ ممسك الأرض الممهّدةِ(5) أن تزول أو تهوى في الهواء - وهو يرى الريشة يرمى بها، فتسقط مكانها، وهي في الخفّة على ما هي عليه - هو الذي يمسك السماء التي فوقها ، وأنّه لولا ذلك لخسفت بما عليها ، وثقل الجبال والأنام والأشجار والبحور والرمال ؛».

ص: 199


1- في المصدر : «وخبّرته».
2- في المصدر : «مضيئة» .
3- توحيد المفضّل ، ص 47 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 61 .
4- بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 152 ، ح 1 .
5- في المصدر: «الممتدّة»».

فعرف القلب بدلالة العين أنّ مدبّر الأرض هو مدبّر السماء .

ثمّ سمعت الاُذن صوت الرياح الشديدة العاصفة والليّنة الطيّبة ، وعاينت العين ما يُقلع من عظام الشجر ، ويهدم من وثيق البنيان ، وتسفى من ثقال الرياح ، تخلّى منها ناحية وتصبّها في اُخرى بلا سائق تبصره العين ، ولا تسمعه الاُذن ، ولا يدرك بشيءٍ من الحواسّ ، وليست مجسّدة تلمس ، ولا محدودة تعاين ، فلم تزد العين وسائر الحواسّ على أن دلّت القلبَ أنّ لها صانعا ، وذلك أنّ القلب يفكّر بالعقل الذي فيه ، فيعرف أنّ الريح لم تتحرّك من تلقائها ، وأنّها لو كانت هي المتحرِّكةَ لم تكفف عن التحرّك ، ولم تهدم طائفة وتعفى اُخرى ، ولم تقلع شجرة وتَدع اُخرى إلى جنبها ، ولم تُصِب أرضا وتنصرف عن اُخرى .

فلمّا تفكّر القلب في أمر الرِّيح ، علم أنّ لها محرِّكا هو الذي يسوقها حيث يشاء ، ويسكنها إذا شاء ، ويُصيب بها من يشاء ، ويصرفها عمّن يشاء .

فلمّا نظر القلب إلى ذلك ، وجدها متّصلةً بالسماء وما فيها من الآيات ، فعرف أنّ المدبّر القادر على أن يمسك الأرض والسماء هو خالق الريح ومحرّكها إذا شاء، وممسكها كيف شاء ، ومسلّطها على من شاء ، وكذلك دلّت العين والاُذن والقلب على هذه الزلزلة ، وعرف ذلك بغيرهما من حواسّه حين حرّكته ، فلمّا دلّ الحواسّ على تحريك هذا الخلق العظيم من الأرض في غِلَظِها وثِقَلها وطولها وعرضها وما عليها من ثقل الجبال والمياه والأنعام وغير ذلك - وإنّما تتحرّك في ناحية [ولم تتحرّك في ناحية[ اُخرى، وهي ملتحمة جسدا واحدا وخلقا متّصلاً بلا فصل ولا وصل ، تهدم ناحية وتخسف بها وتسلم اُخرى - فعندها عرف القلب أنّ محرّك ما حرّك منها هو ممسك ما أمسك منها ، وهو محرّك الريح وممسكها ، وهو مدبّر السماء والأرض وما بينهما ، وأنّ الأرض لو كانت هي المزلزلةَ لنفسها لم تقع زلزلتها ، ولم تسكن رجعتها ، ولو كانت هي المتمسّكةَ لما تزلزلت ولما تحرّكت ، ولكنّ الذي دبّرها وخلقها حرّك منها ما شاء .

ثمّ نظرت العين إلى العظيم من الآيات من السحاب المسخّر بين السماء والأرض

ص: 200

بمنزلة الدخان لا جسد له يلمس بشيء من الأرض والجبال يتخلّل الشجرة ، فلا يحرّك منها شيئا ، ولا يهصر(1) منها غصنا ، ولا يعلق منها بشيء يعرض الركبان ، فيحوّل بعضهم من بعض من ظلمته وكثافته ، ويحتمل من ثقل الماء وكثرته ما لا يقدر على صفته ، مع ما فيه من الصواعق الصادعة ، والبروق اللامعة والرعد والثلج والبرد والجليد ما لا تبلغ الأوهام صفته ، ولا تهتدي القلوب إلى كنه عجائبه ، فيخرج مستقلاًّ في الهواء ، يجتمع بعد تفرّقه ويلتئم بعد تزايله ، تفرّقه الرياح من الجهات كلّها حيث تسوقه بإذن اللّه ربّها، يسفل مرّة ويعلو اُخرى ، متمسّك بما فيه من الماء الكثير الذي إذا أزجاه صارت منه البحور ، يمرّ على الأراضي الكثيرة والبلدان المتنائية لا تنقص منه قطرة ، حتّى ينتهي إلى ما لا يحصى من الفراسخ ، فيرسل فيه قطرةً بعد قطرة ، وسيلاً بعد سيل ، متتابع على رَسْله حتّى تنقع البِرَك ، وتمتلئ الفجاج ، وتعتلي الأودية ، تسيل كأمثال الجبال غاصّة بسيولها ، مصمخة الآذان لدويّها وهديرها ، فتحيا به الأرض الميتة ، فتصبح مخضرّةً بعد أن كانت مغبرّةً ، مُعْشِبة بعد أن كانت مجدبة ، قد كُسيت ألوانا من نبات عشب نضرة زاهرة مزيّنةٍ معاشا للناس والأنعام .

فإذا أفرغ الغمام ماءه ، أقلع وتفرّق وذهب حيث لا يعاين ، ولا يدري أين توارى ، فأدّت العين ذلك إلى القلب ، فعرف القلب أنّ ذلك السحاب لو كان بغير مدبّر وكان ما وصفت من تلقاء نفسه ما احتمل نصف ذلك من الثقل من الماء ، وإن كان هو الذي يرسله لما احتمله ألفا فرسخٍ أو أكثرَ ، ولأرسله فيما هو أقرب من ذلك ، ولما أرسله قطرةً بعد قطرة، بل كان يرسله إرسالاً ، فكان يهدم البنيان ، ويفسد النبات ، ولما جاز إلى بلد وترك آخَرَ دونه ، فعرف القلب بالأعلام المنيرة الواضحة أنّ مدبّر الاُمور واحد ، وأنّه لو كان اثنين أو ثلاثة لكان طولَ هذه الأزمنة والأبد والدهر اختلافٌ في التدبير ، وتناقض في الاُمور ، ولتأخّر بعض ما تقدّم ، وتقدّم بعض ما تأخّر ، ولكان تسفل بعض ما قد علا ، ولعلا بعض ما قد سفل ، ولطلع شيء وغاب ، فتأخّر عن وقته ، أو تقدّم ما

ص: 201


1- الهَصْر: الكسر. لسان العرب، ج 5، ص 264 (هصر).

قبله ؛ فعرف القلب بذلك أنّ مدبّر الأشياء ما غاب منها وما ظهر هو اللّه، الأوّل، خالق السماء وممسكها ، وفارش الأرض وداحيها ، وصانع ما بين ذلك ممّا عددنا وغير ذلك ممّا لم يحص .

وكذلك عاينت العين اختلافَ الليل والنهار دائبين جديدين ، لا يبليان في طول كرّهما ، ولا يتغيّران لكثرة اختلافهما ، ولا ينقصان عن حالهما: النهار في نوره وضيائه ، والليل في سواده وظلمته ، يلج أحدهما في الآخرَ حتّى ينتهي [كلّ واحد منهما] إلى غاية محدودة معروفة في الطول والقِصَر على مرتبة واحدة ومجرى واحد مع سكون مَن يسكن في الليل ، وانتشار من ينتشر في النهار ، وانتشار من ينتشر في الليل ، وسكون من يسكن في النهار ، ثمّ الحرّ والبرد وحلول أحدهما بعقب الآخرَ حتّى يكون الحرّ بردا والبرد حرّا في وقته وإبّانه ؛ فكلّ هذا ممّا يستدلّ به القلب على الربّ سبحانه وتعالى ، فعرف القلب بعقله أنّ من دبّر هذه الأشياء هو الواحد العزيز الحكيم الذي لم يزل ولا يزال ، وأنّه لو كان في السماوات والأرضين آلهة معه سبحانه لذَهَبَ كلُّ إلهٍ بما خَلَق، ولَعَلا بعضُهم على بعضٍ(1)، ولفسد كلّ واحد منهم على صاحبه .

وكذلك سمعت الاُذن ما نزل من المدبّر من الكتب تصديقا لما أدركته القلوب بعقولها وتوفيق اللّه إيّاها ، وما قاله من عرفه كنه معرفته بلا ولد ولا صاحبة ولا شريك ؛ فأدّت الاُذن ما سمعت من اللسان بمقالة الأنبياء إلى القلب ».(2) انتهى ما أردنا نقله من قول الصادق أبي عبداللّه عليه السلام في كتابه الآخر المسمّى بالاهليلجة .

قوله : «فَأَحْيَا بِهِ الاْءَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا»(3) .[ح 12 / 12]

في النهاية :

وفي دعاء الانتباه : «الحمد للّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» سمّى النوم موتا لأنّه يزول معه العقل والحركة تمثيلاً وتشبيها لا تحقيقا . وقيل : الموت يطلق في كلام العرب على السكون ، يُقال : ماتت الرِّيح ، أي سكنت . .

ص: 202


1- اقتباس من الآية 91 سورة المؤمنون (23) .
2- بحارالأنوار ، ج 3 ، ص 161 - 165 ، ح 1 .
3- البقرة (2) : 164 .

والموت يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة :

فمنها : ما هو بإزاء القوّة النامية الموجودة في الحيوان والنبات ، كقوله تعالى : «وَيُحْيىِ الاْءَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا»(1) .

ومنها : زوال القوّة الحسّيّة ، كقوله تعالى حكايةً عن مريم عليهاالسلام : «يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا»(2) .

ومنها : زوال القوّة العاقلة ، وهي الجهالة ، كقوله تعالى : «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتا فَأَحْيَيْنَاهُ»(3)الزمر(39) : 42 .(4) ، «فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى»(5) .

ومنها : الحزن والخوف المكدّر للحياة ، كقوله تعالى : «وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ»(6) .

ومنها : المنام ، كقوله تعالى : «وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا»(6) . وقيل : النوم : الموت الخفيف ، والموت : النوم الثقيل . وقد يستعار الموت للأحوال الشاقّة ، كالفقر والذلّ والسؤال والهرم والمعصية وغير ذلك .

ومنه الحديث : «أوّل من مات إبليس» لأنّه أوّل من عصى.

وحديث موسى عليه السلام قيل له : إنّ هامان قد مات ، فلقيه فسأل ربّه ، فقال له : «أما تعلم أنّ من أفقرته فقد أمتُّهُ» .

وحديث عمر : اللبن لا يموت ؛ أراد أنّ الصبيّ إذا رضع امرأة ميّتة حرم عليه من ولدها وقرابتها ما يحرم عليه منهم لو كانت حيّة وقد رضعها . وقيل : معناه : إذا فصل اللبن من الثدي واُسقيه الصبيَّ ، فإنّه يحرم به ما يحرم بالرضاع ، ولا يبطل عمله بمفارقة الثدي ؛ فإنّه كلّ ما انفصل من الحيّ [ميّت [إلاّ اللبن والشعر والصوف ؛ لضرورة الاستعمال .

وفي حديث البحر : «[الحلّ] ميتته» هو بالفتح اسمٌ لما مات فيه من حيوانه ، ولا يكسر الميم .

وفي حديث الفتن : «فقد مات ميتةً جاهليّة » هي بالكسر حالة الموت، أي كما يموت .

ص: 203


1- الروم (30) : 19 .
2- مريم (19) : 24 .
3- الأنعام
4- : 122 .
5- الروم (30) : 52 .
6- إبراهيم(14) : 17 .

أهل الجاهليّة من الضلال والفرقة(1) .

انتهى كلام صاحب النهاية .

قوله : «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(2) .[ح 12 / 12]

أي يستعملون العقل ويمكّنونه ، أو يتّبعون ويرضون بحكومته .

وفي الأوّل قول أمير المؤمنين عليه السلام في آخر كتابٍ كتب لشريح حين بلغه أنّه باع بيتا بثمانين دينارا : «شَهِدَ على ذلك العقلُ إذا خرج من أسْرِ الهوى ، ونظر بعين الزوال إلى الدنيا» .(3)

وفي الثاني ما سبق في رواية الاحتجاج من قوله عليه السلام : «فإذا وجدت(4) عقله متينا ، فرويدا لا يغرّكم حتّى تنظروا أمع هواه يكون على عقله ، أو يكون مع عقله على هواه» .(5)

«وَسَخَّرَ لَكُمْ»(6) الآية في سورة النحل .

قال صاحب القاموس : «سخّره تسخيرا : ذلّله، وكلّفه عملاً بلا اُجرة» .(7)

أقول : في الآية الشريفة دلالة واضحة على أنّ النجوم عمّال اللّه تعالى تؤثّر في العالم السفلي وكثيرٌ من الكائنات الأرضيّة - مثل نموّ الأشجار ، وإيناع الأثمار ، وسيلان الأنهار ، وغزارة الآبار إلى غير ذلك ممّا يحتاج إليه الإنسان في تعيّشه على رفاهية - مرتبطٌ بالسماويّات ، ولحركاتها وأوضاعها تأثيراتٌ فيه بإذن اللّه وأمره وقضائه وقدره، لا يعصون اللّه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون ، وليس بمجرّد المقارنة بلا تأثير وتأثّر كما زعم شرذمة بتوهّم أنّ إثبات التأثير لها منافٍ لقدرة اللّه وعزّته وسلطانه ، وقولٌ بمذهب الطبيعيّين المتفلسفين والدهريّين الملحدين ، حاشا وكلاّ:

أين الثريّا من ثرى أطْرِقْ كَرا أطْرِقْ كَرا ).

ص: 204


1- النهاية ، ج 4 ، ص 369 - 370 (نوم) .
2- البقرة (2) : 164 .
3- الأمالي للصدوق ، ص 311 ، المجلس 51 ، ح 10 ؛ روضة الواعظين ، ج 2 ، ص 446 ، وفيهما : «لأهل الدنيا» بدل «إلى الدنيا» . نهج البلاغة ، ص 365 ، الكتاب 3 ، وفيه : «وسلم من علائق الدنيا» بدل «ونظر بعين الزوال إلى الدنيا» .
4- في المصدر : «وجدتم» .
5- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 320 .
6- النحل (16) : 12 .
7- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 46 (سخر).

قوله : «ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً»(1) .[ح 12 / 12]

قال البيضاوي :

أطفالاً ، والتوحيد لإرادة الجنس ، أو على تأويل كلّ واحد منكم .

«ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ»اللام فيه متعلّقة بمحذوفٍ تقديره ثمّ يُبقيكم لتبلغوا .

وكذا في قوله : «ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخا». ويجوز عطفه على «لتبلغوا» وقرئ شيوخا وشيخا ، كقوله : طفلاً .

«وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ» الشيخوخة، أو بلوغ الأشدّ «وَلِتَبْلُغُوا» بفعل ذلك لتبلغوا «أَجَلاً مُسَمّىً» هي وقت الموت أو القيامة «وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»ما في ذلك من الحجج والعِبَر .(2)

قوله : «وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ»(3) .[ح 12 / 12]

أوّل الآية: «وَفِى الاْءَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ» إلى آخره .

وفي الصحاح :

الزرع واحد الزروع ، وموضعه مزرعة . والزرع أيضا: طرح البذر . والزرع أيضا : الإنبات ، يُقال : زرعه اللّه تعالى ، أي أنبته ، ومنه قوله تعالى : «أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ»(4) . انتهى .

والمراد في الآية المعنى الأوّل ، وهي التي تنبت في المزرعة ؛ فلا تغفل .

وفي مجمع البيان :

قرأ ابن كثير وأبو عمر ويعقوب وحفص : «وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ» جميعها بالرفع ، والباقون بالجرّ في الجميع .

وقرأ «يسقي» بالياء ابن عامر وعاصم وزيد ورويس عن يعقوب ، وقرأ الباقون «تسقي» بالتاء .

وقرأ أهل الكوفة غير عاصم وروح عن يعقوب: «ويفضّل» بالياء ، والباقون بالنون .

وقال أبو عليّ : من رفع قوله : «وزروع» فتقديره : وفي الأرض زرع ونخيل صنوان، .

ص: 205


1- غافر (40) : 67 .
2- أنوار التنزيل ، ج 5 ، ص 100 .
3- الرعد (13) : 4 .
4- الواقعة (56) : 64 .

فجعله محمولاً على قوله : «وَفِى الاْءَرْضِ قِطَعٌ» ، ولم يجعله محمولاً على ما في الجنّات من الأعناب ، والجنّة قد تقع على الأرض التي فيها الأعناب دون غيره ، كما تقع على الأرض التي فيها الأعناب والنخيل دون غيرهما .

فأمّا من قرأ بالجرّ ، فإنّه حمل النخيل والزرع على الأعناب ، فكأنّه قال : جنّات من أعنابٍ ومن زرعٍ ومن نخيل .

الصنوان فيما يذهب إليه أبو عبيدة صفة النخيل ، والمعنى أن يكون من أصل واحد، ثمّ يتشعّب من الرؤوس ، فتصير نخلاً ونخلين .

قال : وقال : «يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ» لأنّها تشرب من أصل واحد «وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الاْءُكُلِ» وهي التمر .

وأجاز غيره أن يكون الصنوان من صفة الجنّات ، وكأنّه يكون يراد به في المعنى ما في الجنّات وإن جرى على لفظ الجنّات .

وعلى هذا يجوز أن يرفع .

وأمّا الكسرة التي تكون في «صنوان» فليست التي كانت في «صنو» كما أنّ الكسرة التي في «قنو» ليست التي في «قنوان» لأنّ تلك قد حذفت في التكسير وعاقبتها الكسرة التي يجعلها(1) التكسير ، وكذلك الكسرة التي في الهجان . وأنت تريد الجمع ليست الكسرة التي في الواحد ، ولكنّه مثل الكسرة التي في ظراف إذا جمعت عليه ظريفا .

وأمّا من ضمّ الصاد في «صنوان» فإنّه جعله مثل ذويب وذوبان .

وأمّا «صنوان» بفتح الصاد ، فليست من أمثلة الجمع المكسّر وإن صحّ ذلك ؛ فإنّه يكون اسما للجمع ، لا مثالاً من أمثلة التكسير ، فيكون بمنزلة الجامل والسامر ، ومثله قولهم : «السعدان والضمران» في الجمع ، ومن قرأ «تسقى» بالتاء ، فالمعنى تسقى هذه الأشياء ، ومن قرأ بالياء حمله على الزرع وحده .(2)

انتهى ما قاله في الحجّة .

وقال في المعنى :

«قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ» أي أبعاض متقاربات مختلفات في التفاضل ، منها جبل صلب لا

ص: 206


1- في المصدر : «يجتلبها»».
2- مجمع البيان ، ج 6 ، ص 8 - 9 ، ملخّصا.

ينبت شيئا ، ومنها سهل حرّ ينبت ، ومنها سبخة لا تنبت . وقيل : إنّها متجاورات : بعضها عامر ، وبعضها غير عامر .

«وَجَنَّاتٌ» أي بساتينُ «مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ» أي نخلات من أصلٍ واحد «وَغَيْرُ صِنْوَانٍ» أي نخلات من اُصولٍ شتّى . والصنو : الأصل ، يُقال : هذا صنوه، أي أصله ؛ عن ابن الأنباري .

وقيل : إنّ [الصنوان :] النخلة تكون حولها النخلات ، و«غير صنوان» : النخيلُ المتفرّق . وقيل : الصنو : المثل ، والصنوان : الأمثال ، ومنه قوله عليه السلام : «عمّ الرجل صنو أبيه» .

«يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ» : بماء الأنهار ، أو بماء السماء .

«وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْءُكُلِ» في الطعم واللون والطبع ، مع أنّ الأرض واحدة والشرب واحد والجنس واحد ، حتّى يكون بعضها حامضا ، وبعضها حلوا ، وبعضها مرّا ، ولو كانت بالطبع لما اختلفت ألوانها وطعومها مع كون الأرض والماء والهواء واحدا . وفي هذا أوضح دلالةٍ على أنّ لهذه الأشياء صانعا قادرا أحدثها وأبدعها ودبّرها على ما تقتضيه حكمته . و«الأُكُل»: الثمر الذي يؤكل .

وروي عن جابر قال : سمعت النبيّ صلى الله عليه و آله يقول لعليّ عليه السلام : «الناس من شجرٍ شتّى ، وأنا وأنت من شجرةٍ واحدة» وقرأ: «وَفِى الاْءَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ» الآية .(1)

انتهى كلامه قدس سره .

وأنا أقول :

في الصحاح : «النخل والنخيل بمعنى ، والواحدة النخلة»(2) .

وفي القاموس : «النخل: معروف، كالنخيل ، واحدته : نخلة ، والجمع : نخيل» .(3)

وفي الصحاح :

إذا خرج نخلتان أوثلاثٌ من أصل واحد، فكلّ واحدة منهنّ صنو ، والاثنان : صنوان ، والجمع : صنوانٌ ، برفع النون . .

ص: 207


1- مجمع البيان ، ج 6 ، ص 10 - 11، ملخّصا .
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 1827 (نخل) .
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 55 .

وفي الحديث : «عمّ الرجل صنو أبيه» . أبو زيد : رَكيّتان صنوانِ : إذا تقاربتا أونبعتا من عينٍ واحدة .(1)

قوله :«يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفا وَطَمَعا»(2) .[ح 12 / 12]

وفي الحديث : «الخوف للمسافر ، والطمع للمقيم» .(3)

قوله : «قُلْ تَعَالَوْا» .[ح 12 / 12]

في الصحاح :

التعالي : الارتفاع ، تقول منه إذا أمرت : تعالَ يارجل ، بفتح اللاّم ، وللمرأة : تعالَي ، وللمرأتين : تعالَيا ، وللنسوة : تعالَيْنَ . ولا يجوز أن يُقال منه : تعاليتَ ، ولا يُنهى عنه ، وتقول : قد تعاليتُ ، وإلى أيّ شيءٍ أتعالى .(4)

قوله : «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا»(5)[ح 12 / 12]

أي وافعلوا بالوالدين إحسانا ، ومثل هذا التقدير كثير في القرآن ، وقد سبق في قوله تعالى : «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ»(6) أي ثمّ يبقيكم لتبلغوا أشدّكم .

وقوله : «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً» أي يفعل ذلك بكم لتبلغوا أجلكم الذي سمّاه لكم .

قوله : «مِنْ إِمْلاَقٍ»(7) .[ح 12 / 12]

في القاموس : «أملق : افتقر»(8) . وفي آية اُخرى : «خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ»(9) .

قوله : (وقال : «هَلْ لَكُمْ»)(10) إلى آخره .[ح 12 / 12] .

ص: 208


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2404 (صنا).
2- الرعد (13) : 12 .
3- اُنظر: تفسير السمعاني ، ج 3 ، ص 82 ؛ تفسير البغوي ، ج 3 ، ص 10 .
4- الصحاح ، ج 6 ، ص 2437 (علو) .
5- البقرة (2) : 83 .
6- غافر (40) : 67 .
7- الأنعام (6) : 151 .
8- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 284 (ملق) .
9- الإسراء (17) : 31 .
10- الروم (30) : 28 .

في تفسير البيضاوي في سورة الروم :

«ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ»منتزعا من أحوالها التي هي أقرب الاُمور إليكم «هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» من مماليككم «مِنْ شُرَكَاءَ فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ»من الأموال وغيرها «فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ» : فتكونون أنتم وهم فيه شرعا يتصرّفون فيه كتصرّفكم ، مع أنّهم بشرٌ مثلكم وأنّها معارة لكم .

«من» الاُولى ابتدائيّة ، والثانية للتبعيض ، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي .

«تَخَافُونَهُمْ»أن يستبدّوا بتصرّف فيه «كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ» كما يخاف الأحرار بعضُهم من بعض «كَذَلِكَ» : مثل ذلك التفصيل «نُفَصِّلُ الاْآيَاتِ» : نبيّنها ؛ فإنّ التمثيل ممّا يكشف المعاني ويوضحها «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» : يستعملون العقول في تدبّر الأمثال .(1)

قوله : «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا»(2) .[ح 12 / 12]

في تفسير البيضاوي:

على حذف مضافٍ ، تقديره : ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق ، أو مثل الذين كفروا كمثل بهائم الذي ينعق ، والمعنى أنّ الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يُتلى عليهم ، ولا يتأمّلون فيما يقرّر معهم ؛ فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها فتسمع الصوت ولا تعرف مغزاه ، وتحسّ بالنداء ولا تفهم معناه .

وقيل : هو تمثيل في اتّباعهم الهوى على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته ، أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهو التصويت على البهائم ، وهذا يُغني عن الإضمار ، ولكن لا يساعده قوله : «إلاّدعاءً ونِدَاءً» لأنّ الأصنام لا تسمع ، إلاّ أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركّب .(3)

أقول : الداعي على ما ذهب إليه نبيّ العصر ، ويجوز أن يكون المراد بالذين كفروا الكفرةَ الرؤساء الذين يدعون مقلّدتهم السفلة الجهلاء إلى ما هم عليه ، وهم يجيبونهم بمجرّد الدعاء والنداء من غير أن يفكّروا أحقٌّ ما يدعون إليه، أم باطل . .

ص: 209


1- أنوار التنزيل ، ج 4 ، ص 334 .
2- البقرة (2) : 171 .
3- أنوار التنزيل ، ج 1 ، ص 448 - 449 .

وعلى هذا يتقابل أجزاء المشبّه والمشبّه به على التناظر بلا حاجة إلى تقدير ، فالمعنى : مَثَل هؤلاء الكفرة الرؤساء في دعائهم للسفلة الجهلاء دعوةً شبيهة بالنعق ؛ لكونها عاطلةً عن البيان والبرهان ، وكونُ مجيبتها فاقدةً للفطن والأذهان ، لاهيةً عن التفكّر في الحقيقة والبطلان كمثل الراعي ينعق بالبهائم التي لا تسمع إلاّ دعاءً ونداءً، ولا تفهم من الدعاء والنداء إلاّ ما عُوّدت فهمَه بتكرير الصياح والصفير .

وعلى هذا كان الكلام مستغنيا عن التقدير .

فإن قلت : إنّ مقتضى التشبيه أن لا يكون الداعي مذموما كالراعي ، وهذا إنّما يستتبّ بتقدير المضاف وإرادة النبيّ به .

قلت : هذا وإن كان جهةَ ترجيح للتقدير إلاّ أنّها معارَض بأنّ المذموميّة في المثل من جهة اتّباع الدعوة بلا تدبّر وتفكّر ، وعلى تقدير التقدير تكون من جهة عدم الاتّباع ، وإذا حمل الداعي على الذين كفروا تناسق الممثّل والممثّل له ، والثاني راجح باعتضاده بأنّ الأصل عدم التقدير .

ثمّ اعلم أنّ النعق يُستعمل طالبا للمفعول بوساطة الباء وغير طالب ؛ في القاموس : «نعق بغنمه : صاح بها ، والغراب : صاح» .(1)

ولابدّ في دعوة الغنم من النعق ؛ لأنّه فاقد العمل ليس من شأنه الفهمُ والتدبّر ، والناعق أيّا لا سبيل له إلى الدعوة غير النعق .

وأمّا الإنسان ، فيجب أن يكون من شأنه الفهم والتدبّر ليتمّ عليه الحجّة ، فإذا كان الداعي هو النبيّ صلى الله عليه و آله فلا يناسب التعبير عن دعوته بالنعق المأخوذ في معناه عدمُ الإفصاح ، بل ينبغي أن يُصاغ الكلام بحيث يرتفع توهّم التقصير من جانب الداعي ، ويتّضحَ أنّ عدم قبول الدعوة لسوء ذوات المدعوّين وخبث طيناتهم .

نعم ، قد يسند النعق إلى الداعي إذا اُريد ذمّه ، إمّا من جهة أنّه قاصر في البيان البرهاني ، أو من جهة أنّه يخاف أن يفصح عن المدّعى، ويدعو إليه بالحجّة والبيّنة؛ ليقع التدبّر ، ويظهر بطلان ما يدعو إليه ، فلم يظفر بالمرام . .

ص: 210


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 286 (نعق) .

وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين عليه السلام في خطبةٍ يذكر فيها الملاحم، قال : «كأنّي به [قد [نَعَقَ بالشام».(1) قال شارح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني : «يعني عبد الملك بن مروان دعا أهل الشام إلى قتال أهل الكوفة ».(2) انتهى .

وفي رواية كميل عنه عليه السلام بعد عدّ أصناف الناس الذين لا يصلحون لإعطاء العلم إيّاهم إلى أن قال : «أتباعُ كلُّ ناعقٍ يَميلونَ مع كُلِّ ريحٍ».(3)

هذا ، ومن أمثلة النعق الذي لا يستدعي مفعولاً ما في خطبة الطاووس من قوله عليه السلام : «ونَعَقَتْ في أسماعِنا دلائلُه» (4).

قال الشارح : «أي ظهرت للعقول كالأصوات الظاهرة عند السمع» .(5)

قوله : (قال : «وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ»)(6).[ح 12 / 12]

يدلّ على صحّة الوقف في الآية الكريمة على الجلالة ، وستسمع تمام الكلام في هذا الباب في باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه .

قوله : «لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ»(7) .[ح 12 / 12]

يعني عقل ، المراد بالعقل المعنى المصدري، أو القوّة بشرط أن يصدر منها المعنى المصدريُّ ؛ لئلاّ يكون من ليس له عقل معذورا .

قوله : (وكَفى بِكَ جَهْلاً) .[ح 12 / 12]

ذكر ابن هشام في المغني في جملة معاني الباء التوكيدَ ، قال :

وهي الزيادة(8) ، وزيادتها في ستّة مواضعَ :».

ص: 211


1- نهج البلاغة ، ص 196 ، الخطبة 138 .
2- راجع: شرح نهج البلاغة لابن ميثم ، ج 3 ، ص 172 .
3- نهج البلاغة ، ص 495 ، الحكمة 147 ؛ الخصال ، ص 186 ، ح 257 ؛ كمال الدين ، ج 1 ، ص 289 ، ح 2 ؛ الأمالي للمفيد ، ص 248 ، المجلس 29 ، ح 3 ؛ الإرشاد للمفيد، ج 1 ، ص 227 ؛ الأمالي للطوسي ، ص 20 ، المجلس 1 ، ح 23 .
4- نهج البلاغة ، ص 235 ، الخطبة 165 .
5- راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 9 ، ص 266 .
6- آل عمران(3) : 7 .
7- قآ (50) : 37 .
8- في المصدر : «الزائدة».

أحدها : الفاعل، وزيادتها واجبة غالبة وضرورة - قال: - والغالبة في فاعل «كفى» نحو «كَفى بِاللّه ِ شَهِيدا» .(1)البقرة (2) : 137 .(2)

ثمّ قال بعد كلام :

قالوا : ومن مجيء فاعل «كفي» هذه مجرّدا عن الباء قول سجم(3) : «كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا».

ووجه ذلك - على ما اخترناه - أنّه لم يستعمل «كفى» هنا بمعنى اكتف ، ولا تزاد الباء في فاعل «كفى» التي بمعنى أجزأ وأغنى ، ولا التي بمعنى وقى ، فالاُولى متعدّية لواحد كقوله :

قليلٌ منك يكفيني ، ولكن قليلك لا يُقال له قليلُ

والثانية : متعدّية لاثنين، كقوله تعالى : «وَكَفَى اللّه ُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ»(4) ، «فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللّه ُ».(4) ووقع في شعر المتنبّي زيادة الباء في فاعل «كفى» المتعدّيةِ لواحد .(5)

قال :

وقد زيدت في مفعول «كفى» المتعدّية لواحد ، ومنه الحديث : «كفى بالمرء كذبا بأن يحدّث بكلّ ما سمع» وقوله :

كفى بنا فضلاً على من غيرنا حبُّ النبيّ محمّد إيّانا

وقيل : إنّما هي في البيت زائدة في الفاعل ، و«حبّ» بدل اشتمال على المحلّ .

وقال المتنبّي (شعر) :

كفى بجسمي نحولاً أنّني رجلٌ لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني(6)

قوله : (إلاّ لِيَعْقِلُوا عَنِ اللّه ِ) .] ح 12 / 12]

سيجيء أنّه «لم يَخَفِ اللّه َ من لم يَعقِلْ عن اللّه ، ومن لم يَعْقِلْ عن اللّه لم يَعْقِدْ قلبَه على معرفةٍ ثابتةٍ يُبصرها ويَجِدُ حقيقَتَها في قلبه» ..

ص: 212


1- النساء
2- : 79 و 166؛ الرعد (13): 43؛ الإسراء (17): 96؛ الفتح (48): 28 .
3- في المصدر : «سحيم» .
4- الأحزاب (33) : 25 .
5- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 106 - 107 .
6- . مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 109 .

وفي نهج البلاغة بعد خطبة الطاووس : «لا تكونوا كجفاة الجاهليّة ؛ لا في الدِّين يتفقّهون ، ولا عن اللّه يعقلون» .(1)

وفي كتاب الإيمان والكفر في باب فضل اليقين : سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول : «كان في الكنز الذي قال اللّه عزّوجلّ : «وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا»(2) كان فيه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، عجبتُ لمن أيقنَ بالموت كيف يَفْرَحُ ، وعجبتُ لمن أيقن بالقَدَر كيف يَحْزَنُ ، وعجبتُ لمن رأى الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يَرْكَنُ إليها ، وينبغي لمن عَقَلَ عن اللّه أن لا يتّهم اللّه في قضائه ، ولا يستبطئه في رزقه» .(3)

قوله : (وَيَرَى الناسَ كُلَّهُمْ خَيْرا مِنْهُ، وَهُوَ(4) شَرُّهُمْ في نَفْسِه) .[ح 12 / 12]

بقيد «في نفسه» ينحلّ الإشكال الوارد على ظاهر الحديث، كما لايخفى على المتدبّر .

وقوله عليه السلام : (وهو تمام الأمر)] ح 12 / 12] أيضا يؤمي إلى معناه ، وسيجيء في باب المؤمن وعلاماته في حديث هَمّام : «كلّ سعي أخلص عنده من سعيه ، وكلّ نفسٍ أصلح عنده من نفسه ».(5)

قوله : (العقلُ غطاءٌ سَتيرٌ) إلى آخره . [ح 13 / 13]

نقل السيّد الرضيّ رضى الله عنه في أواخر نهج البلاغة ما هذه عبارته : وقال عليه السلام : «الحلم غِطاءٌ ساترٌ، والعقل حُسامٌ قاطع ، فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِك بحلمك، وقاتِلْ هواك بعقلك».(6) فتدبّر ، ثمّ تبصّر .

قوله : (وضدَّه الخُرْقَ) .] ح 14 / 14]

في القاموس : «الخرق - بالضمّ وبالتحريك - ضدّ الرفق» .(7) .

ص: 213


1- نهج البلاغة ، ص 240 ، الخطبة 166 .
2- الكهف (18) : 82 .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 59 ، باب فضل اليقين ، ح 9 .
4- في الكافي المطبوع : «وأنّه» بدل «وهو» .
5- الكافي ، ج 2 ، ص 266 ، باب المؤمن و علاماته وصفاته ، ح 1 .
6- نهج البلاغة ، ص 551 ، الحكمة 424 .
7- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 226 (خرق) .

قوله : (دِعامَةُ الإنسانِ العقلُ) إلى آخره . [ح 23 / 23]

في علل الشرائع بالسند الصحيح إلى الحسن بن محبوب عن بعض أصحابنا رفعه قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : «عرفان المرء نفسَه أن يعرفها بأربع طبائعَ ، وأربع دعائمَ ، وأربعة أركان ؛ فطبائعه: الدّم ، والمرّة ، والريح ، والطعم .(1) ودعائمه : العقل - ومن العقل الفطنة - والفهم ، والحفظ ، والعلم . وأركانه : النور ، والنار ، والروح ، والماء . وصورته طينه(2) ، فأبصر وسمع وعقل بالنور ، وأكل وشرب بالنار ، وجامع وتحرّك بالروح ، ووجد طعم الذوق والطعم بالماء ، فهذا تأسيس صورته ، فإذا كان تأكيد عقله من النور كان عالما حافظا ذكيّا فطنا فهما ، وعرف فيما هو(3) ، ومن أين تأتيه الأشياء ، ولأيّ شيء هو هاهنا ، وإلى ما هو صائر بإخلاص الوحدانيّة والإقرار بالطاعة ، وقد تجري فيه النفس وهي حارّة ، وتجري فيه وهي باردة ، فإذا حلّت به الحرارة أشر وبطر وارتاح وقتل وسرق وسمج وبهج واستبشر وقهر وفجر وزنى واهتز وبذخ ، وإذا كانت باردة اهتمّ وحزن واستكان وذبل ونسي وأيس ، وهي العوارض التي يكون منها الأسقام ، فإنّه سبيلها ، ولا يكون أوّل ذلك إلاّ لخطيئةٍ عملها ، فيوافق ذلك مأكل ومشرب في أحد ساعات لا يكون تلك الساعة موافقةً لذلك المأكل والمشرب لمكان(4) الخطيئة، فيستوجب الألم من ألوان الأسقام» .

وقال عليه السلام : «جوارح الإنسان وعروقه وأعضاؤه جنود اللّه مجنّدة عليه ، فإذا أراد اللّه به سقما سلّطها عليه ، فأسقمه من حيث يريد به ذلك السقم» انتهى .(5)

قال بعض السادة الأجلاّء في كتابه بعد ذكر هذا الحديث على الوجه المذكور : وجدت هذا الحديث مغشوشا، فصحّحته من العللين حسب ما علمت ؛ فتأمّل . انتهى .

ص: 214


1- في المصدر : «والبلغم».
2- في المصدر : - «وصورته طينه» .
3- في المصدر : «فاذا كان عالما حافظا ذكيّا فطنا فهما عرف فيما هو» بدل «فإذا كان تأكيد عقله - إلى - وعرف فيما هو» .
4- في المصدر : «بحال» .
5- علل الشرائع ، ج 1 ، ص 108 ، ح 6 .

قوله : (أحَبَّ إلَيَّ مِنْكَ) .] ح 32 / 32]

في علل الشرائع عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «ما خلق اللّه عزّوجلّ شيئا أبغض إليه من الأحمق ؛ لأنّه [سلبه] أحبَّ الأشياء إليه وهو العقل» .(1)

قوله : (التفكّرُ حَياةُ قَلْبِ البَصيرِ) .] ح 34 / 34]

في آخر حديث طويل في وصف القرآن : «فليَجْلُ جالٍ بصرَه ، وليُبْلِغِ الصفةَ نظرَه يَنْجُ من عَطَبٍ ، ويخلص(2) من نَشَبٍ ؛ فإنّ التفكّرَ حياةُ قلبِ البصير، كما يَمشي المستنيرُ في الظلمات بالنور ؛ فعليكم بحُسْن التخلّصِ ، وقلّةِ التربُّصِ» .(3) .

ص: 215


1- علل الشرائع ، ج 1 ، ص 101 ، ح 1 .
2- في المصدر : «ويتخلّص».
3- الكافي ، ج 2 ، ص 598 ، كتاب فضل القرآن ، ح 2 .

ص: 216

كتاب فضل العلم

اشارة

ص: 217

ص: 218

كتاب فضل العلم

باب فرض العلم

قوله : (وضَمِنَهُ وسَيَفي لَكُمْ) .] ح 4 / 40]باب فرض العلم

روى الصدوق - طاب ثراه - في باب القضاء والقدر من كتاب التوحيد عن الأصبغ بن نباتة ، قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام :

«أمّا بعد ، فالاهتمام بالدنيا غير زائد في الموظوف ، وفيه تضييع الزاد ؛ والإقبال على الآخرة غير ناقص من المقدور ، وفيه إحراز المعاد ، وأنشد (شعر) :

لو كان في صخرة في البحر راسيه *** صمّاء ملمومة ملس مراقيها(1)

رزقٌ لنفسٍ يراها اللّه لانفلقت *** عنه فأدّت إليها كلّ ما فيها

أو كان بين أطباق(2) السبع مجمعه *** لسهّل اللّه في المرقى مراقيها

حتّى يوافى الذي في اللوح خطّ [له] *** إن هي آتيةٌ(3) وإلاّ فهو يأتيها».(4)

وروى السيّد الرضيّ رضى الله عنه في باب الحِكَم والآداب من كتاب نهج البلاغة أنّه عليه السلام قال : «اعلموا علما يقينا أنّ اللّه َ لَمْ يَجْعَلْ للعبد - وإن عَظُمَتْ حيلتُه ، واشتدَّتْ طَلِبَتُه ، وقَوِيَتْ مَكيدتُه - أكثرَ ممّا سُمِّيَ له في الذِّكْر الحكيم ، ولم يجعل(5) بين العبد في ضعفه وقلّة حيلته(6) أن يَبلُغَ ما سُمِّيَ له في الذِّكر الحكيم ، والعارف لهذا العاملُ به أعظَمُ الناسِ راحةً في منفعة ، والتاركُ له الشاكُّ فيه أعظَمُ النّاسِ شُغُلاً في مَضَرَّةٍ» .(7) .

ص: 219


1- . في المصدر : «نواحيها».
2- في المصدر : «طباق» .
3- في المصدر: «أتته» .
4- التوحيد ، ص 372 ، ح 15 .
5- في المصدر : «لم يَحُلْ» .
6- في المصدر : + «وبين» .
7- نهج البلاغة ، ص 523 ، الحكمة 273 . وورد مع اختلاف يسير في الألفاظ في الكافي ، ج 5 ، ص 81 ، باب الإجمال في الطلب ، ح 9 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 322 ، ح 883 ؛ الأمالي للطوسي ، ص 163 ، المجلس 6 ، ح 23 .

باب صفة العلم...

باب صفة العلم [وفضله وفضل العلماء]

قوله : (أو فَريضَةٌ عادِلَةٌ) .] ح 1 / 47]

في النهاية : «أراد بالعادلة العدل في القسمة ، أي في فريضة معدّلة على السهام المذكورة في الكتاب والسنّة من غير جور» .(1)

قوله : (في كُلِّ خَلَفٍ عُدُولاً) .] ح 2 / 48]

في النهاية الأثيريّة :

فيه : «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين». الخلف - بالتحريك والسكون - : كلّ من يجيء بعد من مضى ، إلاّ أنّه بالتحريك في الخير ، وبالتسكين في الشرّ ؛ والمراد في هذا الحديث المفتوح . ومن السكون الحديث : «وسيكون بعد سنين(2) سنة خَلْفٌ أضاعوا الصلاة» .(3)

باب ثواب العالم والمتعلّم

باب ثواب العالم [والمتعلّم]

قوله : (وإنّ الملائكةَ تَضَعُ(4) أجْنِحَتَها لطالبِ العلمِ) .] ح 1 / 61]

هذا المضمون ورد من طرق العامّة أيضا ، قال صاحب النهاية:

فيه: «إنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم» أي تضعها ليكون وطاءً له إذا مشى . وقيل : هو بمعنى التواضع له تعظيما لحقّه . وقيل : أراد بوضع الأجنحة نزولَهم عند مجالس العلم وترك الطيران . وقيل : أراد به إظلالهم له .(5)

باب صفة العلماء

[باب صفة العلماء]

قوله : (يا مَعْشَرَ الحَواريّينَ) .] ح 6 / 72]

ص: 220


1- النهاية ، ج 3 ، ص 191 (عدل) .
2- في المصدر : «ستّين» .
3- النهاية ، ج 2 ، ص 64 - 65 (خلف) .
4- في الكافي المطبوع : «لتضع» .
5- النهاية ، ج 1 ، ص 305 (جنح) .

في النهاية :

وفيه : «حواري من اُمّتي» أي خاصّتي من أصحابي وناصري ، ومنه : «الحواريّون أصحاب عيسى عليه السلام » أي خلصاؤه وأنصاره ، وأصله من التحوير : التبييض . قيل : إنّهم كانوا قصّارين يحورون الثياب ، أي يبيّضونها .

قال الأزهري : الحواريّون خلصان الأنبياء ، وتأويله: الذين خلصوا ونقوا من كلّ عيب .(1)

انتهى كلام النهاية .

باب فقد العلماء

[باب فقد العلماء]

قوله : (إنّه يُسَخّي نَفْسي في سُرْعَةِ المَوْتِ) .] ح 6 / 80]

في أساس الزمخشري : «سخيت نفسي وبنفسي ، قال [الخليل] :

سخى بنفسي أن لا أرى أحدا يموت هزلاً ولايبقى على حال».(2)

انتهى .

وفي القاموس : «سخى - كسعى ودعا وسَرُوَ ورضي - سخا وسخاء وسخوة وسخوا» .(3)

وفي الصحاح : «سخيت نفسي عن الشيء : تركته» .(4)

وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في ذمّ الدُّنيا : «تعبّدوا للدنيا أيَّ تَعَبُّدٍ ، و آثَروها أيَّ إيثارٍ ، ثمّ ظعَنوا عنها بغير زادٍ مُبَلِّغٍ ، ولا ظَهْرٍ قاطعٍ ، فهل بَلَغَكُمْ أنّ الدنيا سَخَتْ لهم نفسا بفِدْيَةٍ ، أو أعانَتْهم بمعونَةٍ» الحديث .(5)

باب استعمال العلم

[باب استعمال العلم]

قوله : (لم يَزْدَدْ صاحِبُهُ إلاّ كُفْرا) .] ح 4 / 114]

«زاد» جاء لازما ومتعدّيا ، وأمّا «ازداد» فهو لازم . وإنّما في القاموس : «زاده اللّه خيرا

ص: 221


1- النهاية ، ج 1 ، ص 457 (حور) .
2- . أساس البلاغة ، ص 289 (سخو) .
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 341 (سخى) .
4- الصحاح ، ج 6 ، ص 2373 (سخا) .
5- نهج البلاغة ، ص 164 ، الخطبة 111 .

فزاد وازداد»(1) . وفي الصحاح : «زاد الشيء يزيد زيدا وزيادةً ، أي ازداد ، وزاده اللّه خيرا» .(2)

وعلى هذا فقوله عليه السلام : «صاحبه» رفع على الفاعليّة ، و«كفرا» نصب على التمييز .

قوله : (فَأبَثَّ(3) له [الشهادةَ]) .] ح 5 / 115]

في القاموس : «بثّ الخير وأبثّه : نشره» .(4)

قوله: (والحَسْرَةُ) ] ح 6 / 116] مرفوع على الابتداء .

وقوله: (منها) ] ح 6 / 116] أي من الحسرة ، والكلام في المسألة المعروفة بالكحليّة .

قوله : (لا تَرتابوا فَتَشُكُّوا) . ] ح 6 / 116]

في أمالي الصدوق طاب ثراه : قال أبو جعفر عليه السلام : «يا زياد ، إيّاك والخصومات ؛ لأنّها تورث الشكّ ، وتحبط العمل ، وتردي صاحبها» .(5)

قوله : (ولا تُرَخِّصُوا لأنْفُسِكُمْ فَتُدْهِنوا) . ] ح 6 / 116]

في خطبة من خطب نهج البلاغة : «لاتُرخّصوا لأنفسكم، فتَذْهَبَ بكم الرُّخَصُ مذاهبَ الظَّلَمَة ؛ ولا تُداهِنوا، فَيَهْجُمَ بكم الإدْهانُ على المعصية».(6)

وقد سبق في الخطبة : «فكانوا محصورين بالأمر والنهي ، مأمورين بقول الحقّ ، غير مرخّص لهم في المقام على الجهل ».

وليكن في ذُكرك أنّ اللام الواقعة بعد الترخيص صلة يتوسّط بين الفعل والمفعول، ولا يستعمل الترخيص بدونها .

في القاموس : «رخص له كذا ترخيصا» .(7)

وإذا تبيّن ذلك علم وجه الإفراد في قوله: «غير مرخّص لهم» فتدبّر . .

ص: 222


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 299 (زود).
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 481 (زيد) .
3- في الكافي المطبوع : «فأثْبَتَ» .
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 161 (ثبت) .
5- الأمالي للصدوق ، ص 417 ، المجلس 65 ، ح 2 .
6- نهج البلاغة ، ص 116 ، الخطبة 86 .
7- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 304 (رخص) .

باب المستأكل بعلمه والمُباهي به

باب المستأكل بعلمه والمُباهي به

قوله : (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار) . ] ح 6 / 123]

في النهاية : «فيه : مَن كذب عليَّ متعمّدا، فليتبوّأ مقعده من النار. ومعناه : لينزل منزله من النار ؛ يُقال : بوّأه اللّه منزلاً : أسكنه إيّاه ، وتبوّأتُ منزلاً : اتّخذته» .(1)

باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه

[باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه]

قوله : ([إذا بَلَغَتِ النفسُ هاهنا - وأشارَ بيده إلى حَلْقِه - لم يَكُنْ لِلْعالِمِ تَوْبَةٌ [ثمّ قرأ «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه ِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ»(2)إبراهيم(14) : 15 .(3)) .] ح 3 / 126]

في الصحاح : «الجهل: خلاف العلم» .(4)

أقول : كثيرا ما يُطلق الجاهل على من كان مغلوبا للهوى ؛ للتلازم بين الهوى والجهل . بيانه : أنّ المرء لا يُقدم على تناول ما يعلم أنّه ضارّ لا نفع فيه بوجه ، أو فيه نفع ولكن ضرره أعظم من نفعه، كأكل السمّ القاتل، وأكل طعام لذيذ علم خلطه بالسمّ ، ويقدم على الإتيان بالمحرّمات التي ضررها أضعاف ضرر السمّ ، وما ذلك إلاّ لعدم العلم اليقيني بالضرر المُوعَدِ به برؤية اللّه تعالى إيّاه في السرّ والعلانية ، فمن عمل معصية فهو إنّما عملها بجهالة .

ولعلّ قائلاً يقول : إنّه يمكن العمل مع العلم إذا غلب الرجاء واستُهين الفعل في جنب كرم الجواد الغنيّ ، أو دعا اللجاج وثَوَرانُ الغيظ إليه كما هو مشهور عن الوليد اللعين، وتمزيقه القرآن المجيد عند ما فتحه ورأى؛ «وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ»(4)، والشعرُ الذي أنشده ذلك اللعين في هذا الباب مشهور .

وجوابه : أنّ هذين أيضا جاهلان؛ أمّا الراجي ، فإنّه جاهل ؛ لأنّ المعصية وإن كانت

ص: 223


1- النهاية ، ج 1 ، ص 159 (بوأ) .
2- النساء
3- : 17 .
4- الصحاح، ج 4، ص 1663 (جهل).

مستهانةً في جنب الغنيّ الجواد الكريم، لكنّه هو الذي اُوعِد على فعلها ، فالاجتزاء عليه اتّكالاً على الرجاء خارج عن سنن العقل ، فلا تجسّر عليها مع ذلك إلاّ الغرّة والجهل ، والرجاء الصادق حامل على طلب غفران ما فرّط وطلب توفيق الخروج ، لا على المساهلة الداعية إلى الجرأة على المخالفة ، فما يسمّيه الجاهلون رجاءً فهو اغترار .

نقل السيّد الرضيّ في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : «يدّعي بزعمه أنّه يرجو اللّه ، كَذَبَ والعظيمِ ، ما بالُه لا يبين(1) رجاؤه في عمله؟ يرجو اللّه في الكبير ، ويرجو العباد في الصغير ، فيعطي العبد ما لا يُعطي الربّ» الحديث .(2)

وسيجيء في باب الخوف والرجاء عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : قلت له : قومٌ يعملون بالمعاصي ويقولون : نرجو ، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت ؟ فقال : «هؤلاء قومٌ يترجّحون في الأمانيّ ، كذبوا ، ليسوا براجين؛ مَن رجا شيئا طلبه ، ومَنْ خاف من شيءٍ هرب منه» .(3)

وفي حديث آخَرَ : «من رجا شيئا عَمِلَ له ، ومن خاف شيئا هَرَبَ منه» .(4)

وأمّا صاحب الغيظ واللجاج ، فهو جاهل بأنّ عذاب اللّه تعالى لا يقوم له أحدٌ ، فهو إمّا مكذّب لوعيد اللّه تعالى في تلك الحالة ؛ لوقوع غشاوة الغضب على بصر عقله ، أو لعدم الإيمان باللّه رأسا ، وإمّا مستهين بالنار وضرره ، وقد حكى اللّه تعالى عن قوم أنّهم قالوا : «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاما مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّه ِ عَهْدا فَلَنْ يُخْلِفَ اللّه ُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه ِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(5) .

وقد ورد عنهم عليهم السلام : «أنّ الغضب عدوٌّ للعقل ، ولذلك يحول بين صاحبه وبين الفهم »(6) فكلّ عامل سوء ما لم يندم لا يعرف قبحه وإفساده للقلب حقَّ المعرفة ، فهو .

ص: 224


1- في المصدر : «لايَتَبَيَّنُ».
2- نهج البلاغة ، ص 225 ، الخطبة 160 .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 68 ، باب الخوف والرجاء ، ح 5 .
4- المصدر ، ح 6 .
5- البقرة (2) : 80 .
6- كمال الدين، ج 2، ص 579 .

إذن جاهل واقع في سُكر الجهالة ، وإنّما يعلم إذا أفاق من ذلك وندم على ما فرّط منه ، وتلك الإفاقة إن كانت قبل معاينة أحوال النشأة الآخرة - أي كان العلم إيمانا - نفعه الندم ، وإن كانت بعد المعاينة - أي كان العلم ضروريّا - لم ينفع .

والحصر في الآية التي قرأها الإمام عليه السلام ليس بالقياس إلى العالم بالمعنى الأوّل ، ولا بمعنى العلم بالمسألة ، بل بالقياس إلى العالم بالمعنى الثاني ، كما اُشير إليه في الآية الاُخرى : «وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الاْآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ»(1) .

وعلى هذا ، فكلّ مسيء عامل للسوء بجهالة ؛ و«مِنْ قَرِيبٍ» عبارة عن قبل آن المعاينة ، وبلوغُ النفس إلى الحلق عبارة عن آن المعاينة .

وقوله عليه السلام : «ليس(2) للعالم توبة» أي العالم بالعلم الضروريّ ، كأنّه عليه السلام يقول : إذا بلغ النفس هاهنا صار المرء عالما بوخامة ما ارتكب وسوءِ مآله ، شاء أم أبى ، ولم يكن لمثل هذا العالم توبة ؛ هذا .

ويخطر بالبال للآية والحديث معنىً آخَر أظنّه هو المقصود ، وهو أن يُراد بالعالم من تدبّر في الأحكام الدينيّة والمعارف اليقينيّة وأخذها من مآخذها ، كما هو الشائع من الإطلاقات العرفيّة ؛ وبالجاهل العامّي وإن كان عالما بالمسائل على وجه التقليد .

والتوبة تستعمل تارةً ب «إلى» واُخرى ب «على» . وعلى الأوّل تسند إلى المذنب ، وعلى الثاني تسند إلى اللّه تعالى .

وفي القاموس : «تاب إلى اللّه توبةً: رجع عن المعصية . وتاب اللّه عليه : وفّقه للتوبة ، أو رجع [به] من التشديد إلى التخفيف ، أو رجع عليه بفضله وقبوله ، وهو توّاب على عباده» .(3)

فمعنى الآية أنّه إنّما يجب على اللّه أن يتوب على الجاهلين من عباده - أي العوامّ .

ص: 225


1- النساء (4) : 18 .
2- في الكافي المطبوع : «لم يكن» .
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 40 (توب) .

ضعفاء البصيرة الذين يزعجهم أضعفُ محرِّك من المحرّكات الغضبيّة والشهويّة - دون العلماء بالمعنى المذكور ؛ فإنّه لقوّة زواجرهم العلميّة ومقاوماتهم العقليّة خرجوا عن أن يجب على اللّه تعالى قبول توبتهم ، بل له أن يعذّبهم على معصيتهم عدلاً ، وله أن يتوب عليهم تطوّلاً .

ونظير هذا ما سيجيء في كتاب الصلاة عن قول أبي عبداللّه عليه السلام : «هذه الصلوات الخمس المفروضات مَنْ أقامهنّ وحافظ على مواقيتهنّ ، لقي اللّه يوم القيامة وله عنده عهدٌ يدخله الجنّة ، ومن لم يصلّهنّ لمواقيتهنّ ولم يحافظ عليهنّ ، فذاك إليه ؛ إن شاء غفر له ، وإن شاء عذّبه» .(1)

ويشهد لهذا المعنى قول الصادق عليه السلام في الحديث السابق : «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنبٌ واحد» .(2)

وعلى هذا فالغرض تشديد الأمر على العالم ، كما فهمه الكليني رحمه الله وعنوَنَ الباب بذلك ، فكأنّه تعالى يقول : إنّما يجب عليَّ التوبة لمن عمل السوء ثمّ لم يولَع فيه ، بل تاب من قريب؛ لأنّ هذا هو الذي كتبتُ على نفسي .

قال تعالى في سورة الأنعام : «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(3) .

وإذا بُني الأمر في الآية على هذا ، فقوله عليه السلام : «إذا بلغت النفس هاهنا لم يكن للعالم توبة» المراد بلوغ النفس إلى الحلق، ولم يعايِن أحوالَ النشأة الآخرة بعدُ ، ولم يختلّ الحواسّ ، وهو أواخر أزمنة الوصيّة والتنجيز .

فكأنّه عليه السلام يقول : إنّ الأمر مشدّد على العالِم بحيث إذا بلغ ذلك الحينُ فليس له توبة ، بخلاف الجاهل ؛ يدلّ على ذلك أنّ هذه الرواية بعينها ستجيء في باب ما أعطى اللّه .

ص: 226


1- الكافي ، ج 3 ، ص 267 ، باب من حافظ على صلاته أو ضيّعها ، ح 2 .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 47 ، باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه ، ح 1 .
3- الأنعام (6) : 54 .

على آدم وقت توبته، وهو من أبواب كتاب الإيمان والكفر منقولةً عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام . وبعد قوله عليه السلام : «لم يكن للعالم توبة» : «وكانت للجاهل توبة» .(1)

وفي ذلك الباب عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من تاب قبل موته بسَنَة قَبِلَ اللّه توبتَه . ثمّ قال : إنّ السَّنَة لَكثيرةٌ ، مَنْ تابَ قبل موته بشهر قَبِلَ اللّه توبتَه . ثمّ قال : إنّ الشهر لكثير ، مَنْ تاب قبل موته بجمعة قَبِلَ اللّه توبتَه . ثمّ قال : إنّ الجمعة لكثير، مَنْ تابَ قبل موته بيوم قَبِلَ اللّه توبتَه . ثمّ قال : إنّ اليوم لكثير ، مَنْ تاب قبل أن يعايِنَ قَبِلَ اللّه توبته».(2)

فهذا نصّ على امتداد زمان التوبة إلى آن المعاينة .

فقوله عليه السلام : «لم يكن للعالم توبة ، وكانت للجاهل توبة» تشديد الأمر على العالم، وكاشفٌ عن أن ليس بلوغ النفس إلى الحلق عبارة عن المعاينة ، ولا ينافي ورود الأخبار في أنّ وقوع المعاينة حين كانت النفس في الحلق ؛ لجواز أن يكون لكون النفس في الحلق امتداد في بعض أجزائه ، تكون الحواسّ على حالها ولم تقع المعاينة بعدُ ، وتقبل توبة الجاهل فيه دون العالم . وفي بعضٍ آخَرَ : «تقع المعاينة».(3) والعلم عند اللّه وعند الرسول وأوصيائه .

فإن قلت : فما الغرض حينئذٍ في اعتبار القريب ، ولِمَ لم يقل : ثمّ يتوبون ما بينهم وبين حضور الموت؟

قلت : لئلاّ يسبق إلى الأذهان أنّ وجوب التوبة موسّع لا يجب المبادرة .

باب النوادر

[باب النوادر]

قوله : (طَلَبَةُ هذا العِلْمِ ثَلاثَةٌ) إلى آخره . [ح 5 / 132]

في فائق الزمخشري في النون مع الحاء :

ص: 227


1- الكافي ، ج 2 ، ص 440 ، باب فيما أعطى اللّه عزّوجلّ آدم عليه السلام وقت التوبة ، ح 3 .
2- الكافي ، ج 2 ، ص 440 ، نفس الباب ، ح 2هض
3- راجع: أعلام الدين ، ص 426 .

الحسن: طلب هذا العلم ثلاثة أصناف من الناس: صنف تعلّموه للمراء والجهل ، وصنف تعلّموه للاستطالة والخَتْل ، وصنف تعلّموه للفقه والعقل . فصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن ، وقد تنحّى في بُرنُسه، وقام الليلَ في حِنْدسه ، قد أوكدتاه يداه ، وأعمدتاه رجلاه ، فهو مقبلٌ على شأنه ، عارفٌ بأهل زمانه ، قد استوحش من كلّ ذي ثقة من إخوانه ، فشدّ اللّه من هذا أركانه ، وأعطاه يوم القيامة أمانه 2ض وذكر الصنفين الآخرين .

تنحّى ، أي تعمّد العبادة، وتوجّه لها، وصار في ناحيتها .

تنحّى له عمرو فشك ضلوعه بتاقدة نجلاء والخيل تضبر

أوتجنّب الناس وجعل نفسه في ناحيةٍ منهم .

وكده وأوكده ووكّده بمعنى : إذا قوّاه .

وقال أبو عبيد : عمدت الشيء : إذا أقمته . وأعمدته : إذا جعلت تحته عمدا؛ يريد أنّه لا ينفكّ مصلّيا معتمدا على يديه في السجود ، وعلى رجليه في القيام ، فوصف يديه ورجليه بذلك ليؤذن بطول أعماله .

ويجوز أن يكون «أوكدتاه» من الوكد وهو العمد والجهد ، و«أعمدتاه» من العميد وهو المريض ، ويريد أنّ دوام كونه ساجدا وقائما قد جهده وشقّه. الألف علامة التثنية، وليست بضمير ، وهي في اللغة الطّائية .(1)

إلى هنا عبارة الفائق بعينها .

وفي النهاية :

ومنه حديث الحسن : «قد تنحّى في بُرنُسه ، وقام الليلَ في حِنْدسه» أي تعمّد للعبادة، وتوجّه لها، وصار في ناحيتها . أو تجنّب الناسَ وصار في ناحيةٍ منهم .(2) انتهى .

وفي النهاية : «يُقال : طال عليه واستطال وتطاول : إذا علاه وترفّع عليه» .(3)

وفيه أيضا :

من أشراط الساعة أن تُعطَّل السيوف من الجهاد ، وأن تُختل الدنيا بالدين ، أي يُطلب .

ص: 228


1- الفائق في غريب الحديث ، ص 282 .
2- النهاية ، ج 5 ، ص 30 (نحو) .
3- النهاية ، ج 3 ، ص 145 (طول) .

الدنيا بعمل الآخرة ، يقال : ختله يختله : إذا خدعه ورادعه . وختل الذئب الصيد : إذا تخفّى له .

ومنه حديث الحسن في طلاّب العلم : «وصنف تعلّموه للاستطالة والخَتْل» أي الخِداع .(1)

وفي القاموس في باب الباء : «الخَبّ : الخَدّاع الجُرْبُزُ - ويكسر - وبالكسر : موضع ؛ والخِداع ، والخُبث ، والغشّ» .(2)

وفي النهاية : «فيه : لا يدخل الجنّة خَبّ. وامرأة خبّة ، وقد تكسر خاؤه ، فأمّا المصدر فبالكسر لا غير» .(3)

وفي النهاية : «البرنس: كلّ ثوب رأسه منه ملتزق به من دُرّاعة أو جُبّة أو مِمْطر أو غيره» .(4)

وفي الصحاح : «كان قلنسوة طويلة تلبسها النُّسّاك في صدر الإسلام ، وهو من البِرس بكسر الباء والنون زائدة» .(5)

قوله : (إنّ رُواةَ الكتابِ كَثِيرٌ) .] ح 6 / 133]

في نهج البلاغة في خطبة يذكر فيها آل محمّد عليهم السلام : «هم عَيْشُ العِلْم ومَوتُ الجهل» إلى قوله عليه السلام : «عقلوا الدِّينَ عقلَ وِعايةٍ ورِعايةٍ ، لا عقلَ سَماعٍ ورواية ؛ فإنّ رواةَ العلمِ كثير ، ورُعاتَه قليل» .(6)

وفي أواخر كتاب الروضة في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام : «فَاعقِلوا الحقَّ إذا سمعتموه عقلَ رِعايةٍ ، ولا تعقلوه عقلَ رواية ؛ فإنّ رواة الكتاب كثير ، ورُعاته قليل ، واللّه ُ المستعانُ» .(7)

قوله : (كَمْ مِن مُسْتَنْصِحٍ لِلحديثِ) .] ح 6 / 133] .

ص: 229


1- النهاية ، ج 2 ، ص 9 (ختل) .
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 59 (جنب) .
3- النهاية ، ج 2 ، ص 4 (جنب) .
4- النهاية ، ج 1 ، ص 122 (برنس) .
5- الصحاح ، ج 3 ، ص 908 (برنس) .
6- نهج البلاغة ، ص 357 ، الحكمة 239.
7- الكافي ، ج 8 ، ص 389 ، ح 586 .

تعريض لأهل الضلال الذين يتركون نصوص الكتاب ، ويتّبعون أحاديثهم المزوَّرة وأكاذيبهم الموضوعة .

وإلى هذا أشار أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة من نهج البلاغة : «واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصحُ الذي لا يَغُشُّ ، والهادي الذي لا يَضِلَّ ، والمحدّثُ الذي لا يَكْذِبُ» إلى قوله : «فكونوا من حَرَثَتِه وأتباعه ، واسْتَدِلّوه على ربّكم ، واستَنْصِحوه على أنفسكم، واتَّهِموا عليه آراءَكُم ، واسْتَغِشُّوا فيه أهواءَكم» الحديث .(1)

وفي رجال الكشّي بالإسناد عن محمّد بن حكيم ، قال : ذكر عند أبي جعفر عليه السلام سلمانُ ، فقال : «ذلك سلمان المحمّدي ، إنّ سلمان منّا أهلَ البيت ، إنّه كان يقول للناس: هربتم من القرآن إلى الأحاديث وجدتم كتابا رقيقا حوسبتم فيه على النقير والقطمير والفتيل وحبّة الخردل ، فضاق ذلك عليكم ، وهربتم إلى الأحاديث التي اتّسعت عليكم» .(2)

قوله : (والجُهّالُ يَحْزُنُهُمْ حِفْظُ الروايةِ) .] ح 6 / 133]

لعلّ الصحيح «يعجبهم» بدل «يحزنهم». روى المصنّف قدس سره في كتاب الروضة عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال في رسالته التي كتبها إلى سعد الخير : «وكلّ اُمّة قد رفَع اللّه عنهم علمَ الكتاب حين نبذوه ، وولاّهم [عدوَّهم] حين تولّوه ، وكان مِنْ نَبْذِهم الكتابَ أن حرّفوه(3) وحرّفوا حدوده ، فهم يَروونَه ولا يَرْعَوْنَه ، والجهّالُ يُعجِبُهم حفظُهُم للرواية ، والعلماء يحزنهم تَرْكُهم للرعاية» .(4)

قوله : (عِلْمُه الذي يَأخُذُهُ عمّن يَأخُذُهُ) .] ح 8 / 135]

المراد العلم النقلي الذي لاسبيل إليه إلاّ التقليد ؛ جمعا بينه وبين ما هو مستفيض عن أمير المؤمنين عليه السلام : «لا تنظر إلى من قال ، وانظر إلى ما قال» .(5) .

ص: 230


1- نهج البلاغة ، ص 252 ، الخطبة 176 .
2- رجال الكشّي ، ص 18 ، ح 42 .
3- في المصدر : «أن أقاموا حروفه» بدل «أن حرّفوه» .
4- الكافي ، ج 8 ، ص 52 ، ح 16 .
5- غرر الحكم ، ص 58 ، ح 612 ؛ و ص 438 ، ح 10037 .

وفي كتاب محاسن البرقي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : «قال المسيح عليه السلام : معشر الحواريّين، لم يضرّكم من نتن القطران إذا أصابكم سراجه ؛ خذوا العلم ممّن عنده ، ولا تنظروا إلى عمله» .(1)

وفي الخبر المستفيض أيضا : «الحكمة ضالّة المؤمن ، أينما وجدها أخذها» .(2)

باب البدع والرأي والمقاييس

[باب البدع والرأي والمقاييس]

قوله : (إنّ مِنْ أبغَضِ الخَلْق) إلى آخره .] ح 6 / 166]

في نهج البلاغة : وكان من كلامٍ له عليه السلام في صفة من تصدّى للحكم بين الاُمّة وليس له بأهل : «إنّ من أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان» إلى آخره .(3)

وفي كتاب المغرب للمطرزي في باب الذال المعجمة ما هذه عبارته :

في فتاوى الليث عن عليٍّ عليه السلام : إنّ رجلاً أتى وقال : يا أمير المؤمنين ، قُضِيَتْ عليَّ قضيّة ذهبت فيها أهلي ومالي ، فخرج إلى الرحبة فاجتمع عليه الناس ، فقال : «ذمّتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم ، إنّ من صرحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن تقحّم الشبهات ؛ إنّ أشقى الناس رجلٌ قمش علما في أوباش الناس بغير علم ولا دليل ، بكّر فاستكثر ممّا قلّ منه خيرٌ ممّا كثر، حتّى إذا ارتوى من آجن ، واكتنز من غير طائل ، جلس للناس مفتيا لتخليص ما التبس على غيره ، فهو من قطع الشبهات في مثل نسج العنكبوت ، لا يدري أصاب أم أخطأ ، خبّاط عشوات ، ركّاب جهالات ؛ لم يعضّ على العلم بضرسٍ قاطع فيغنم ، ولم يسكت عمّا لم يعلم فيسلم ؛ تصرخ منه الدِّماء ، وتبكي منه المواريث ، ويستحيل بقضائه الفرج الحرام ؛ اُولئك الذين حصلت لهم النياحة أيّام حياتهم» .

قرأت هذا الحديث في كتاب نهج البلاغة(4) أطولَ من هذا ، وقرأته في الفائق بروايةٍ

ص: 231


1- المحاسن ، ج 1 ، ص 230 ، ح 172 .
2- الكافي ، ج 8 ، ص 167 ، ح 186 ؛ الأمالي للطوسي ، ص 625 ، المجلس 30 ، ح 3 ؛ خصائص الأئمّة ، ص 94 ؛ منية المريد ، ص 173 ؛ عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 81 ، ح 82 ، مع اختلاف يسير .
3- نهج البلاغة ، ص 59 ، الخطبة 17 .
4- نهج البلاغة ، ص 59 ، الخطبة 17 .

اُخرى فيها تفاوت(1) ، ولا أشرح إلاّ ما نحن فيه .

يُقال : هو رهنٌ بكذا ورهينة ، أي مأخوذٌ به . يقول : أنا بالذي أقوله مأخوذٌ وزعيم ، أي كفيل ، فلا أتكلّم إلاّ بما هو صدق وصواب . والمعنى أنّ قولي هذا حقّ وأنا في ضمانه ، فلا تعدلنّ عنه .

ثمّ أخذ في تقريره فقال : «إنّ من صرحت له العبر» أي ظهرت أو كشفت؛ لأنّ التصريح يتعدّى ولا يتعدّى ، يعني أنّ من اعتبر بما رأى، وسمع من العقوبات التي حلّت بغيره فيما سلف «حجزه التقوي» بالزاي ، أي منعه الاتّقاء عن الوقوع فيما يشتبه ويشكل أنّه حقٌّ أو باطل ، صدقٌ أو كذب ، حلالٌ أو حرام ، فيحترس ويحترز . ويُقال : تقحّم في الوهدة ، أي رمى بنفسه فيها على شدّة ومشقّة. و«القمش» الجمع من هنا وهنا .

و«أوباش الناس»: أخلاطهم ورذالهم ، ولم أسمعه في هذا الحديث .

وقوله : «بكّر» أي ذهب بكرة ، يعني أخذ في طلب العلم أوّل شيء .

«فاستكثر» أي أكثر وجمع كثيرا ممّا قلّ منه الصواب ممّا قلّ منه كما في الفائق، وسماعي في النهج: «فاستكثر من جمعِ ما قلّ منه» على الإضافة ، وصوابه من جمعٍ بالتنوين ، أي من مجموع ، حتّى يرجع الضمير في «منه» إليه ، أو ما على رواية الفائق.

والارتواء : افتعال من روى بالماء ريّا .

والآجن : الماء المتغيّر ، وهذا من المجاز المرشّح ، وقد شبّه علمه بالماء الآجن في أنّه لا نفع فيه ولا محصول عنده .

والاكتناء : الامتلاء . والطائل : الفائدة والنفع . ونسج العنكبوت مَثَل في كلّ شيءٍ ضعيفٍ واهٍ .

والعشواء - بالحركات الثلاث - : الظلمة . ومنها قولهم : ركب فلان عشوة : إذا باشر أمرا لم يتبيّن له وجه ؛ يُقال : أوطأته العشوة : إذا حملته على أمرٍ ملتبس وربّما كان فيه هلاكه .

والخبط في الأصل : الضرب على غير استواء ، ومنه قولهم : فلان يخبط خبط عشواء، شبّهه في تحيّره في الفتوى بواطي العشوة وراكبها . .

ص: 232


1- الفائق في غريب الحديث ، ص 404 .

وقوله : «لم يعضّ على العلم بضرسٍ قاطع» أي لم يُتقنه ولم يُحكمه ؛ وهذا تمثيل .(1)

انتهى ما نقلناه من كتاب المغرب .

وليت شعري مَن المفتي والحاكم الذي ذكر عليه السلام أوصافه على سبيل التعريض ، ولم يتمكّن من التصريح باسمه ، ومنعه من الفتوى والحكم ، وهل الفاضلان جاهلان بالمعرّض له ، أم متجاهلان ؟ ولعمري أنّ الأمر أجلى من أن يُستكشف بالبحث والتفتيش ، وإن لم تستطع أن تراه عيون الخفافيش إذا لم يكن للمرء عينٌ صحيحةٌ ، فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر .

قوله : (مَشْغوفٌ(2) بكلامِ بِدْعَةٍ) .] ح 6 / 166]

في الصحاح : «الشغاف : غلاف القلب ، وهو جلدة دون الحجاب(3) ؛ يُقال : شغفه الحبّ ، أي بلغ شغافه» .(4)

قوله : (قد لَهِجَ بالصومِ والصلاةِ) .] ح 6 / 166]

في الصحاح : «اللهج بالشيء : الولوع به» .(5)

قوله : (فهو فِتنةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِه) .] ح 6 / 166]

في نهج البلاغة : «لا يقولنّ أحدكم : اللّهمَّ إنّي أعوذُ بك من الفتنة؛ لأنّه ليس أحدٌ إلاّ وهو مُشتمِلٌ على فتنةٍ ، ولكن من استعاذَ فليستَعِذْ من مُضِلاّتِ الفِتَنِ» .(6)

قال الشارح ابن أبي الحديد :

الفتنة لفظٌ مشترك - إلى أن قال - : وتارةً تطلق على الضلاّل [يقال:] رجل فاتن ومفتن ، أي مُضلّ عن الحقّ ؛ جاء ثلاثيّا ورباعيّا ، وقال تعالى : «مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِى الْجَحِيمِ»(7) أي بمضلّين . وقرأ قومٌ: بمفتنين . انتهى .(8)

وقال الصدوق - طاب ثراه - في كتاب التوحيد بعد تفسير القضاء وذكر معانيه : .

ص: 233


1- المغرب ، ص 176 - 177 (ذمم) .
2- في الكافي المطبوع : «مشعوف» .
3- في المصدر : «دونه كالحجاب» .
4- الصحاح ، ج 4 ، ص 1382 (شغف) .
5- الصحاح ، ج 1 ، ص 339 (لهج) .
6- نهج البلاغة ، ص 483 ، الحكمة 93 .
7- الصافّات (37) : 162 - 163 .
8- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 18 ، ص 248 .

«والفتنة على عشرة أوجه ، فوجهٌ منها الضلال» إلى آخر ما قال .(1)

قوله : (عانٍ) .] ح 6 / 166]

في النهاية : «عُنِيتُ بحاجتك اُعنى بها ، وأنا بها مَعْنِيٌّ ، وعَنَيْتُ به ، فأنا عانٍ . والأوّل أكثر ، أي اهتممت بها واشتغلت» .(2)

قوله : (بِأغْباشِ الفتنةِ) .] ح 6 / 166]

في الصحاح : «الغبش : ظلمة آخر الليل ، والجمع : أغباش» .(3)

قوله : (ولم يَغْنَ فيه يوما سالما) .] ح 6 / 166]

في تاج المصادر : «الغنى : مقيم شدن ؛ ومنه الحديث : ولم يغن في العلم يوما سالما . والغنى - بالكسر - : توانگر شدن» .(4)

قوله : (ثُمّ قَطَعَ) .] ح 6 / 166]

في نهج البلاغة بإضافة «به» .(5)

قوله : (ولا يَعَضَّ في العِلْمِ بِضْرسٍ قاطِعٍ) .] ح 6 / 166]

في الأساس : «تراءسوا قبل أن يعضّوا في العالم بضرس قاطع» .(6)

قوله : (يَذْرِي الرواياتِ) .] ح 6 / 166]

في النهاية :

يُقال : ذرته الريح وأذرته تذروة و تذريةً : إذا أطارته . ومنه حديث عليّ عليه السلام : «يذرو الرواية ذرو الريح الهشيم» أي يسيّر(7) الرواية كما تنسف الريحُ هشيمَ النبت» .(8)

قوله : (لامَلِى ءٌ بإصدارِ ما عليه) .] ح 6 / 166]

ورد في النهاية :

المليء - بالهمزة - : الغنيّ . وقد ملؤ فهو مليء بين الملاء والملاءة بالمدّ . وقد اُولع الناس .

ص: 234


1- التوحيد ، ص 386 .
2- النهاية ، ج 3 ، ص 314 (عنا) .
3- الصحاح، ج 3، ص 1013 (غبش).
4- تاج المصادر، ج 1، ص 317.
5- نهج البلاغة ، ص 59 ، الخطبة 17 . والكافي المطبوع مطابق لما في نهج البلاغة .
6- راجع: أساس البلاغة ، ص 213 (رأس) .
7- في المصدر : «يسرد».
8- النهاية ، ج 2 ، ص 159 (ذرأ) .

[فيه] بترك الهمزة وتشديد الياء . ومنه الحديث عن عليٍّ عليه السلام : «لامَليء واللّه بإصدار ما ورد عليه» .(1)

باب الردّ إلى الكتاب والسنّة و...

[باب الردّ إلى الكتاب والسنّة و...]

قوله : (والدُّنيا مُتَهَجِّمَةٌ في وجوهِ أهْلِها) .] ح 7 / 189]

في نهج البلاغة : «فهي متهجّمةٌ لوجوه أهلها(2) ، عابِسَةٌ في وجه طالبها ؛ ثَمَرُها الفتنةُ، وطَعامُها الجيفةُ ، وشِعارُها الخوفُ ، ودِثارُها السيفُ» الخطبة .(3)

في شرح ابن ميثم : «التهجّم : العبوس(4) . ووصف التهجّم والعبوس من الدنيا لعدم وضوح مطالبها وتيسيرها لطلاّبها» .

قوله : (مُكْفَهِرَّةٌ مُدْبِرَةٌ غَيرُ مُقبِلَةٍ) .] ح 7 / 189]

في القاموس : «المكفهرّ - كمطمئنّ - : السحاب الغليظ الأسود ، وكلّ متراكب ، ومن الوجوه القليل اللحم ، الغليظ الذي لا يستحيي ، والمتعبّس» .(5)

قوله : (المَوْءُودَةَ بينهم) .] ح 7 / 189]

في القاموس : «وَأدَ بنتَه ، يَئدُها : دفنها حيّةً ، وهي وئيد ووئيدة وموءودة» .(6)

قوله : (تختار(7) [دونَهم طيبُ العيشِ]).] ح 7 / 189]

في بعض النسخ بالجيم والزاي؛ أي كان طيب العيش والرفاهية هو المختار ، أو المجتاز عندهم .

قوله : ([حَيُّهم أعْمى] بخس)(8) على صيغة الصفة .] ح 7 / 189]

في القاموس : «البخس : فقؤ العين» .(9)

ص: 235


1- النهاية ، ج 4 ، ص 352 (ملأ) .
2- في المصدر : «لأهلها» بدل «لوجوه أهلها» .
3- نهج البلاغة ، ص 121 ، الخطبة 89 .
4- راجع: شرح نهج البلاغة لابن ميثم ، ج 2 ، ص 310 .
5- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 128 (كفهر) .
6- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 342 (وأد) .
7- في الكافي المطبوع : «يجتاز» .
8- في الكافي المطبوع : «نجسٌ» .
9- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 199 .

قوله : ([وميّتُهم في النار] مُبْلَسٌ) .] ح 7 / 189]

في سورة الأنعام : «فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ»(1) . قال القاضي : «متحسّرين آيسين» .(2)

باب اختلاف الحديث

باب اختلاف الحديث

قوله : (عن عمر بن حنظلة) .] ح 10 / 202]

هذا الخبر من أوثق الأخبار وأشهرها ؛ حيث أورده المحمّدون الثلاثة أجمعون بأدنى تفاوت في العبارة ، أمّا المصنّف فهاهنا(3) ، وأمّا الصدوق ففي أوّل كتاب القصاص من الفقيه(4) ، وأمّا شيخ الطائفة ففي باب الزيادات في القضايا والأحكام ،(5) ونقله صاحب كتاب الاحتجاج .(6)

وفيه تصريح بوجوب القبول عن الفقيه الورع ، الناظر في الحلال والحرام ، المتتبّع لأخبار الأئمّة عليهم السلام بدون أن يُطلب منه مأخذ الحكم، لكن إذا اعتقدا فيه الصفاتِ المذكورةَ من النظر والتدبّر في مآخذ الأحكام من الكتاب والسنّة ، ومعرفة الخاصّ والعامّ ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، ووجوهَ الدلالات اللفظيّة بتفصيلٍ مذكور في الكتب المدوّنة لذلك ؛ وكلّ هذا مستفاد من قوله عليه السلام : «ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» .

ويُعبَّر عن مثل هذا بالمجتهد الجامع لشرائط الفتوى ، فإذا اتّفق المدّعيان على رجل معتقدَيْن بأنّه بهذه الصفة وجب أن يقفا على ما حكم عليهما ؛ فإنّه حاكم من قِبَل الأئمّة عليهم السلام ، فإن لم يوجد الرجل الموصوف في العصر ، أو لم يتّفق الاتّفاق على واحد ، واختار كلٌّ منهما رجلاً من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرَيْن في حقّهما ، ووقع بينهما

ص: 236


1- الأنعام (6) : 44 .
2- أنوار التنزيل للبيضاوي ، ج 2 ، ص 409 .
3- وأورده أيضا في الكافي ، ج 7 ، ص 412 ، باب كراهيّة الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح 5 .
4- الفقيه ، ج 3 ، ص 8 ، ح 3233 .
5- تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 301 ، ح 845 .
6- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 355 .

اختلاف في الحكم من جهة الحديث بأن يكون في يد كلّ منهما حديث يخالف لما في يد الآخر ، وجب على المدّعيين - إن كانا قادرين - أو على ثالثٍ يرجعان إليه اعتبارُ وجوهات الترجيح المذكورةِ على الترتيب ، وأيّ مرتبة استقرّت ولم يستدع المرتبة الاُخرى كان الحكم في تلك المرتبة من الاُمور البيّن رشدها ، الواجب اتّباعها .

وقال الشهيد - طاب ثراه - في مقدّمة كتاب الذكرى بعد ذكر هذا الحديث ووصفِه بالمقبول : «والمقبول ما تلقّوه بالقبول والعمل بالمظنون».(1)

ثمّ إنّ المراد مجرّد ذكر الوجوه ، والترتيبُ الذكري نشأ من سؤال السائل . وكلام المصنّف قدس سره في الخطبة يُشعر بحمله على ذلك ، وإطلاق أخبار العرض على الكتاب كما ستسمع وعدم التقييد بالمرتبة ، وكذا إطلاق أخبار الأخذ بما خالف أهل الخلاف ، وكذا الأمر بأخذ المجمع عليه وترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، وكذا وجود وجوه اُخرى للترجيح سوى التي في الخبر باتّفاق أهل العلم ؛ كلّ ذلك من الشواهد على عدم تعيّن الترتيب .

فإن قلت : كيف يتأتّى القول بجواز الترجيح بغير ما في الخبر ، مع أنّ المصنّف قال في الخطبة : «إنّه لا يجوز تمييز شيء ممّا اختلفت الرواية فيه إلاّ على ما أطلقه العالم عليه السلام بقوله» إلى آخره .

قلت : الحصر إضافي ، والمقصود الردّ على أصحاب الرأي الذين مناط الردّ والقبول والفتوى والعمل عندهم الهوى وميل النفس ، كما نقل ابن الأثير صاحب النهاية في (ع ر س) : أنّ إمامهم وقائدهم نهى عن متعة الحجّ ، وقال : «قد علمت أنّ رسول اللّه فعله ، ولكنّي كرهت أن يظلّوا بها مُعْرِسين ، أي مُلِمِّين بنسائهم» .(2)

ومن وجوه الترجيح - التي لم تكن معمولة بين قدمائنا ، بل بناؤها على ما اصطلح عليه المتأخّرون - ملاحظةُ مراتب السند؛ فما كان سنده ضعيفا بالاصطلاح الجديد - وإن كان صحيحا عند الكليني والصدوق بالاصطلاح القديم - لا يُعمل به ، وما كان .

ص: 237


1- ذكرى الشيعة ، ج 1 ، ص 48 .
2- النهاية ، ج 3 ، ص 206 (عرس) .

صحيحا يرجَّح على غيره ، وما كان حسنا يرجّح على ما كان موثّقا أو بالعكس ، إلى غير ذلك من الاعتبارات التي في كتب الدراية والاُصول .

وتمام الكلام في هذا الباب في كتاب مشرق الشمسين(1) للشيخ الأجلّ بهاء الملّة والدِّين العاملي - قدّس اللّه روحه - من أراد فليرجع إليه ؛ هذا .

ثمّ إنّ المراد بالكتاب والسنّة المعروض عليهما هو الظاهر المظنون المراد بالأمارات التي ثبت اعتبارها ، كالأخبار المتداولة بين فقهاء أصحاب الأئمّة عليهم السلام كزرارة ومحمّد بن مسلم وأبان بن تغلب وأضرابهم ، أو مجرّد الفتاوى المعمولة بينهم ؛ لتواتر أنّهم لم يكونوا يفتون ويعملون إلاّ بما سمعوا من أئمّتهم عليهم السلام ، ولأجل ذلك ترى المتأخّرين - رضوان اللّه عليهم - يُجرون فتوى عليّ بن بابويه مجرى الأثر معلّلين بأنّه معلوم من حاله أنّ فتاواه متون الأخبار ، فالغرض من العرض على الكتاب والسنّة تحصيل اطمئنان بصدق المعروض ، لا اليقينُ والقطع ، كما فيما إذا كان المعروض عليه هو النصَّ ، أي المقطوع بمراد الشارع به إمّا من جهة كونه من ضروريّات الدِّين ، كإرادة الأركان المخصوصة بآية «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ»وإخراج مال مخصوص بآية «وَآتُوا الزَّكَاةَ» ، أو من جهة ورود خبر مقطوع به في تفسيره ، إلى غير ذلك .

ولو كان المعروض عليه النصَّ ، كانَ الموافق له معلومَ الحقّية ، والمخالفُ له معلومَ البطلان ، وسيجيء في باب الكتمان من كتاب الإيمان والكفر في جملة حديث : «فإذا جاءكم عنّا حديث ، فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه ، فخذوا به ، وإلاّ فقفوا عنده ، ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم» .(2)

ومعلوم أنّ هذه العبارةَ لا تُقال في مقام الأمر بتحصيل اليقين بالخبر المعروض ، بل في مقام الأمر بتحصيل اطمئنانٍ وسكونِ نفس، كما لايخفى على من له دَرْيَة بأساليب الكلام . .

ص: 238


1- مشرق الشمسين ، ص 269 - 270 .
2- الكافي ، ج 2 ، ص 222 ، باب الكتمان ، ح 4 .

وسيجيء في باب الجبائر عن عبدالأعلى، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : عثرت فانقطع ظُفُري ، فجلعت على إصبعي مرارةً ، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال : «تعرف هذا وأشباهُه من كتاب اللّه عزّوجلّ : «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(1) امسح عليه» .(2)

وفي باب الماء الذي فيه قلّة، عن محمّد بن الميسّر، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل منه ، وليس معه إناء يغرف به ، ويداه قذرتان ، قال : «يضع يده ثمّ يتوضّأ ويغتسل ؛ هذا ممّا قال اللّه عزّوجلّ : «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»»(3) .

وفي التهذيب في باب ما أحلَّ اللّه من النساء بعد ذكر خبرين :

فهذان الخبران قد وردا شاذّين مخالفين لظاهر كتاب اللّه عزّوجلّ ، وكلّ حديث ورد هذا المورد؛ فإنّه لايجوز العمل عليه ؛ لأنّه روي عن النبيّ وعن الأئمّة عليهم السلام : «إذا جاءكم عنّا حديث فاعرضوه على كتاب اللّه ، فما وافَقَ كتاب اللّه فخذوه ، وما خالفه فاطرحوه ، أو ردّوه علينا» .

وهذان الخبران مخالفان - على ما ترى - لظاهر كتاب اللّه والأخبار المسندة أيضا المتّصلة(4) ، وما هذا حكمه لا يجوز العمل به .(5)

وفي كتاب الاحتجاج : أنّ يحيى بن أكتم قال لأبي جعفر عليه السلام : ما تقول يابن رسول اللّه في الخبر الذي روي أنّ جبرئيل عليه السلام نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال : إنّ اللّه يقرئك السلام ويقول : سل أبا بكر هل هو عنّي راض، فإنّي عنه راض؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : «لست بمنكرٍ فضلَ أبي بكر ، لكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حجّة الوداع : قد كذب عليَّ الكذّابة وستكثر، فمن كذب عليَّ متعمِّدا فليتبوّأ مقعدَه من النار ، فإذا أتاكم الحديث [عنّي] فاعرضوه على كتاب اللّه وسنّتي ، فما .

ص: 239


1- الحج (22) : 78 .
2- الكافي ، ج 3 ، ص 33 ، باب الجبائر والقروح والجراحات ، ح 4 .
3- الكافي ، ج 3 ، ص 4 ، باب الماء الذي تكون فيه قلّة و ... ، ح 2 .
4- في المصدر : «المفصّلة» .
5- تهذيب الأحكام ، ج 7 ، ص 275 .

وافق كتاب اللّه وسنّتي فخذوا به ، وما خالف كتاب اللّه وسنّتي فلا تأخذوا به؛ وليس يوافق هذا الخبر كتاب اللّه ؛ قال اللّه تعالى : «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاْءِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»(1) ، فاللّه عزّوجلّ خفي عليه رضا أبي بكر من سخطه حتّى سأل عن مكنون سرّه ، هذا مستحيل في العقول» .(2) انتهى كلامه صلوات اللّه عليه وسلامه .

ومن أمثلة المخالَفة : ما افترى ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ؛ فإنّه مخالف لقول اللّه تعالى : «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ»(3) ، وقولِه تعالى حكايةً عن زكريّا عليه السلام : «فَهَبْ لِى مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(4) ، ولا ينافي ذلك ما سبق من «أنّ الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا»(5) لأنّ المراد أنّهم ليسوا كأهل الدنيا يدّخرون القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة ، لا أنّهم لا يورّثون شيئا أصلاً ولو كان دارا أو عقارا أو فرسا أو سلاحا أو نحو ذلك ، كما لا يخفى على من له بصيرة .

ولعلّك تقول : إنّ متضمّن الخبرين كان معلوما في الكتاب والسنّة، فأيّة حاجة إلى الخبر والعرض؟

والجواب بعد تمهيد أصل ، وهو أنّه روى صاحب الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال في حديثٍ طويل أجاب فيه عن أسئلة الزنديق الذي جاءه عليه السلام مستدلاًّ بآيٍ من القرآن متشابهةٍ على وقوع التناقض، فيه : «ثمّ إنّ اللّه - جلّ ذكره - بسعة رحمته ، ورأفته بخلقه ، وعلمه بما يحدثه المبدّلون من تغيير كتابه ، قسّم كلامه بثلاثة أقسام؛ فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه ولطف جنسه وصحَّ تمييزه ممّن شرح اللّه صدره للإسلام ، وقسما لا يعرفه إلاّ اللّه واُمناؤه والراسخون في العلم ، وإنّما فعل ذلك لئلاّ يدّعي أهل الباطل المستولين على ميراث رسول اللّه من علم .

ص: 240


1- قآ (50) : 16 .
2- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 446 .
3- النمل (27) : 16 .
4- مريم (19) : 5 و 6 .
5- الكافي ، ج 1 ، ص 32 ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ، ح 2 .

الكتاب ما لم يجعله اللّه لهم» الحديث .(1)

فما كان من القسم الأوّل ، فهو من ضروريّات الدين لا يمكن أن ينقل حديث على خلافه ، والذي في عرضة العرض هو القسم الثاني ، فإذا توافق المعروض والمعروض عليه شهد كلٌّ منهما لصاحبه ، واطمئنّ القلب ، وسكنت النفس .

وممّا يشهد على ما قلنا ما سبق من قوله عليه السلام : «فإذا وجدتم له شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه» إلى آخره ، والمأمورون بالعرض هم النقّادون ذوو التمييز ، لا الطبقة السفلى من العوامّ .

وإذا أحطت بما تلونا علمتَ أنّ ما ذهب إليه المصنّف قدس سره ليس بعيدا كلَّ البُعد ، وإن كان الأولى استزادة الوثوق بصدق متضمّن الخبر من أيّ جهةٍ كان بقدر الإمكان ما لم يزاحم تلك الاستزادةُ تحصيلَ الواجبات العقليّة والمعارف اليقينيّة ، والعملَ بما عُلم؛ فإنّي أرى كثيرا منهم يصرفون جميع الأوقات في الفرعيّات ، ويتعمّقون فيما لا يكاد يحتاج إليه أحد طولَ عمره ، مثل الأقارير والوصايا المبهمة والحيل في البيوع وأمثال هذه ، ويتسمّون بالفقيه والمجتهد على الإطلاق ، والنائب العامّ ، والحاكم بالاستحقاق ، فإذا سُئلوا عن الواجبات العقليّة من مسائل التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة لم يرتقوا عن درجة العوامّ ، وجعلوا النهي عن البحث والتفتيش جُنّةً عن سهام الإلزام ، ولم يعلموا أنّ الزمان زمان فترة ، وأهمّ الاُمور فيه تحصيل اليقين باُصول الدِّين، والعمل بما عُلم ليُفيض اللّه تعالى علم ما لم يُعلم ، والتضرّع إليه تعالى ليكمل عقله ، وترك التدبيرات الدقيقة للتوسّع في الرزق الموجبة لشغل القلب وحرمان العرفان ؛ فإنّ هموم الدنيا غيومُ وجهِ شمس العقل؛

چون بتابد با هجوم اين هموم *** بر دلت از عقل انوار علوم

ولم يعلموا أنّ أكثر الفروع قد اشتبهت بسبب تغلّب أئمّة الجور ، وغيبة وليّ الأمر وصاحب العصر ، فيتسامح فيها ، ويغتفر عدم إصابة الحكم الواقعي إذا كان ذلك من .

ص: 241


1- الاحتجاج ، ج 1 ، ص 253 .

جهة الأخبار التي وصلت إلينا عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام من جهة سلوك طريقة أهل الآراء والأهواء من المخالفين ، كيف ولو اتّفق الإصابة بالعمل بقواعدهم لم يكن مأجورا كما وردت به الأخبار ، فكيف إذا كان التعمّق والاحتذاء بأهل الأهواء في الفضول الغير المحتاج إليها ، فلعمرك إنّ صرف العمر في تحصيل الظنّ فيها تضييع للعمر بترك ما يعني وطلب ما لا يعني ؛ والأمر إلى اللّه ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه .

ص: 242

كتاب التوحيد

اشارة

ص: 243

ص: 244

باب حدوث العالم وإثبات المحدث

كتاب التوحيد

باب حدوث العالم وإثبات المحدث

للعالم جزءان : روحاني وجسماني ، سماويّات وأرضيّات . والسماويّات منها ما لا ينال بالحسّ ، وإنّما علم بعضها من جهة الحركة كالكرات التسع ، وبعض آخر بتوقيف الشرع ؛ فهي والروحانيّات مشتركان في عدم ظهور حدوثها ؛ لخفاء ذواتها، وحركات الكواكب وتبدّل أوضاعها ونسبها إنّما تدلّ على حدوث صفاتها لا حدوث ذواتها ، و الاستحالات العنصريّة إن كانت في الجوهر ، فيدلّ على حدوث قليل من الذوات ، فإذن أكثر أجزاء العالم غير ظاهر الحدوث .

فليس مراد المصنف - طاب ثراه - أنّ الباب في ذكر الحدوث الظاهر من جميع العالم ليتوصّل به إلى إثبات محدثه ، و لا أنّ الباب في إثبات حدوث العالم ؛ لأنّ ذكر الإثبات بعد تقديره ممّا يأباه من له درية بأساليب الكلام ، فتحمل الإضافة على أنّه من باب ضرب اليوم ، أي باب ذكر الحدوث الفاشي في العالم في الجمله الدالّ بتناسب الحادثات وتلائمها واتّساقها وانتظامها واتّصال بعضها ببعض ولطف التدبير وجوده التقدير فيها، كما قلت في قصيدتي اللاميّة (شعر):

وكيف أجحد ترتيب الوجود وقد *** أراه نحو قطار النوق والجمل

كلاّ بكلّ منوطا غير منقطع *** كلاّ بكلّ ربوطا غير منفصل

بلى إن تأمّلتها ألفيت سلسلة *** اُحيل فكّ ثوانيها عن الأول

بل في أنّ في الوجود محدثا قديما صانعا حكيما قادرا قاهرا على العالم المشاهد ، ثمّ بمعونة مقدّمات اُخر إثبات أنّ مرجع كافّة الموجودات إليه.

روى الصدوق - طاب ثراه - في كتاب التوحيد في باب الردّ على الثنويّة عن هشام بن

ص: 245

الحكم ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما الدليل على أنّ اللّه واحد؟ قال : «اتّصال التدبير، وتمام الصنع».(1)

ومن أراد تفصيل ذلك فعليه بكتاب توحيد المفضّل للصادق عليه السلام .

ولقد أحسن من قال (نظم):

كارگاهى به چنين نظم و نسق *** كار يك كارگزارست الحق

قوله (فمَنْ هذا المَلِكُ الذي أنت عَبْدُه) إلخ .] ح 1 / 215]

أخذ عليه السلام يدعوه إلى سبيل اللّه بكلٍّ من الطرق الثلاثة التي أمر اللّه عزّوجلّ في كتابه ، فابتدأ بالجدل ، والظاهر أنّه عليه السلام اُلهم أو حُدّث من جهة المَلَك أنّ له عليه السلام على الرجل من جهة الاسم إلزاما ، فقال - بعدما أجاب أنّ اسمه عبد الملك - : «مَن هذا المَلِك الذي أنت عبده؟» فكأنّه عليه السلام قال : إنّ من المسلّم المشهور عند الجمهور أنّ من اتّسم باسم عبداللّه وعبد الملك - مثلاً - كان بمجرى العادة متّصفا بمعناه الإضافي ، اللّهمَّ إلاّ أن يكون على سبيل التدليس والمراء والنِّفاق بأن يظهر دخوله في زمرة أهل الدِّين ، ويضمر خلافه ، وهذه صفة يستنكف عنها كلّ من استشمّ رائحة العقل ، فيلزمك بمجرى العادة إمّا أن تتحمّل عار النِّفاق والتدليس ، أو تعترف بعبوديّة ملك من ملوك الأرض ، أو بعبوديّة ملك السماوات والأرض جلّ شأنه وبهر برهانه .

ثمّ ثنّى هذا الطريق بطريق الموعظة الحسنة التي هي أيضا إحدى طرق الدعوة إلى سبيل الربّ ، كما قال تعالى : «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ . . .»(2) .

فقال : (عجبا لك لم تَبلُغِ المشرقَ، ولم تبلغ المغربَ ، ولم تَنزِلِ الأرضَ ، ولم تَصعَدِ السماءَ ، ولم تَجُزْ هناك، فتعرفَ ما خلفَهنّ، وأنت جاحدٌ بما فيهنّ ؟ وهل يَجحَدُ العاقلُ ما لم يَعرِفُ(3)؟) . .

ص: 246


1- التوحيد ، ص 250 ، ح 2 . وعنه في البحار ، ج 3 ، ص 229 ، ح 19 .
2- النحل (16) : 125 .
3- في الكافي المطبوع : «ما لايعرف» .

ثمّ ثلثّه عليه السلام بالحكمة ، فقال : (أما ترى الشمسَ والقمرَ) إلى آخره .

وسيجيء أنّ عبداللّه الديصاني جاء إلى أبي عبداللّه عليه السلام وسأله أن يدلّه على معبوده ، فقال عليه السلام : «ما اسمك؟» فخرج ولم يخبر باسمه ، فقال له أصحابه : كيف لم تخبره باسمك؟ فقال : لو كنت قلت : عبداللّه ، كان يقول : من هذا الذي أنت له عبدٌ ؟(1)

قوله : (فَما يُدْريكَ ما تَحْتَها) .] ح 1 / 215]

يعني لعلّ ما تنكره من الصانع المدبِّر في إحدى ما لم تبلغه من الجهات . وإنّما قال عليه السلام ذلك ليخرجه عن الجهل المركّب إلى الجهل البسيط ، فيصير قابلاً لإلقاء البرهان عليه ؛ إذ قلب صاحب الجهل المركّب كالصفا اليابس والحجر الجامس في محلّ الزرع ، يزلق عنه بذر الحكمة ولا يستقرّ فيه ، فكيف يُعرق وينمو ويثمر ؟

قوله : (وأنتَ جاحِدٌ بما فيهنّ) .] ح 1 / 215]

أي بالصانع المدبّر الذي فيهنّ ، ومثله في الرواية الآتية من قوله عليه السلام : «وكيف يكونُ قولُك وقولُهم واحدا وهم يقولون إنّ لهم مَعادا وثوابا وعقابا ، ويَدينونَ بأنّ في السماء إلها وأنّها عمران ، وأنتم تقولون:(2) إنّ السماء خرابٌ ليس فيها أحدٌ» .

وكلمة «في» في هاتين العبارتين الشريفتين على نحو ما في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في رواية ذِعْلِب الآتية حيث قال : «في الأشياء كلّها غير متمازج بها ولا بائن منها» .(3)

وفي بعض خطب نهج البلاغة : «داخلٌ في الأشياء لا كشيء داخل في شيء ، وخارج عن الأشياء لا كشيء خارج عن شيء»(4) وإنّما لم يبيّن فيما نحن فيه أنّ كونه تعالى في السماء - مثلاً - ليس على ما يفهمه العامّة ؛ لأنّ المقام كان مقام الإجمال .

قوله : (فأنْتَ مِنْ ذلك في شَكٍّ) .] ح 1 / 215]

أي من وجود الصانع المدبِّر . .

ص: 247


1- الكافي ، ج 1 ، ص 79 ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ، ح 4 .
2- في المصدر : «تزعمون» .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 138 ، باب جوامع التوحيد ، ح 4 ؛ التوحيد ، ص 308 ، ح 2 .
4- لم نعثر عليه في نهج البلاغة، ولكن رواه في الكافي ، ج 1 ، ص 85 ، باب أنّه لايعرف إلاّ به ، ح 2 ؛ والاختصاص ، ص 235 .

قوله : (فلعلّه هو، ولعلّه ليس هو) .] ح 1 / 215]

أصل استعمال هذه العبارة فيما إذا تراءى من بُعدٍ شبحٌ يقع في ذهنك أنّه فلان مع تجويز أن لا يكون ذلك ، فالضمير المنصوب لما تراءى ، والمرفوع لفلان ، ثمّ استعمل في كلّ من كان في أمرٍ على شكّ على سبيل الاستعارة التمثيليّة ، كما في قولهم : إنّي أراك تقدّم رِجلاً وتُؤخّر اُخرى .

قوله : (ولعلّ ذلك) .] ح 1 / 215]

أي لعلّ الأمر ذلك الذي قلت .

قوله : (أما تَرَى الشمسَ والقمرَ) .[ح 1 / 215]

المراد رؤية البصر ؛ لأنّ الخطاب مع واحد من الزنادقة، وهم لم يرتقوا عن درجة الإحساس .

قال في المثنوي (نظم) :

چنبره ديد جهان ادراك توست *** پرده پاكان ، حس نا پاك توست(1)

فليس ل «ترى» إلاّ مفعول واحد .

وقوله : (والليلَ والنهارَ) مرفوعان على الابتداء ، و(يَلِجانِ) في محلّ الرفع على الخبر ، والجملة الكبرى في محلّ النصب على أنّها مفعول «ترى» والمعنى : أما تبصر الشمس والقمر والحال أنّ الليل والنهار يلجان ، أي يلج كلّ منهما في صاحبه على نسقٍ بديع ، ونظام كامل صحيح ، للحيوان التعيّش على الرفاهية ، وللنبات والشجر البلوغ إلى الغاية .

قوله : (فلا يَشْتَبِهانِ) .] ح 1 / 215]

في القاموس : «اشتبها ، أي أشبه كلٌّ منهما الآخر».(2) فالمعنى : لا يتماثل الليل والنهار بأن يكون مدّة أحدهما مثلَ مدّة الآخَر ، ويرتفع الارتفاع والانحطاط اللذان للشمس بالنسبة إلى كرة الأرض ، ويكون قوس الليل مثل قوس النهار دائما ، فينتفي المنافع .

ص: 248


1- مثنوى معنوى ، ص 685 ، دفتر چهارم، ش 2384 .
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 286 (شبه) .

المنوطة بالتدرّج ، مثل حصول الفصول الأربعة ، واعتوار الحرّ والبرد على الأشجار ، والمُعدّين لها في الأثمار ، ومثل انعقاد الثلوج وذوبانها شيئا فشيئا ، وتكوّن الأمطار، وتنزّلها على وجهٍ لا يوجب هدم الدِّيار وتخريب البلاد والأمصار .

وبالجملة : تماثل الليل والنهار واشتباههما ملزوم اختلال النظام الملزوم لبوار العالم ، وقد قلت في القصيدة اللاميّة التي احتذيت فيها بلاميّة العجم ، وذكرت فيها ترتيب الوجود ، وشدّة اندمال أجزاء العالم وتلائمها ، وكمال حسن انتظامها ، وافتقار بعضها إلى بعض ، وقد سبق بعض تلك القصيدة قبلُ ، وهذا من جملتها :

وكلّ ما كان مبنىً على حكم *** لو لم تراع لكان الكلّ في الخلل

قال اللّه تبارك وتعالى : «إِنَّ فِى اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ» إلى قوله : «لاَآيَاتٍ لاُِولِى الاْءَلْبَابِ»(1)القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 286 (شبه) .(2) .

وفي الصحيفة الكاملة : «يولج كلّ واحدٍ منهما في صاحبه ، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد فيما يغذوهم به ، وينشئهم عليه » الدُّعاء .(3)

وولوجهما بأن يتناقص أحدهما ويزداد الآخر مدّة معيّنة ، وتعاكس الأمر بعد انقضاء المدّة في مثل تلك المدّة ؛ ذلك تقدير العزيز العليم .

ويمكن أن يكون معنى الاشتباه الوقوعَ في الشبهة ؛ فقوله : «فلا يشتبهان» أي كلّ واحدٍ منهما مشغولٌ بالعمل المرجوع إليه ، ولا يقع في الشبهة بأن لا يعلم هل انقضى زمان عمله ، أم بقي بعده؟ وكذا زمان عمل صاحبه ، إلاّ أنّ اللغة لا تكاد تساعد على ذلك . في القاموس : «اُمور مشتبهة ؛ والشبهة - بالضمّ - : الالتباس» .(3) وهذا يقتضي أن تكون العبارة : فلا يشتبه عليهما أمرهما ؛ فتدبّر .

قوله : (ويَرْجِعانِ) .] ح 1 / 215]

الظاهر أنّ الضمير راجع إلى ما يرجع إليه ضمير «يلجان» و«لا يشتبهان» وحينئذٍ يكون المراد استئنافَ الولوج بعد تمام السنة . .

ص: 249


1- آل عمران
2- : 190 .
3- الصحيفة السجّاديّة ، ص 48 ، الدعاء 6 .

ولنذكر طرفا ممّا ذكره مولانا الصادق عليه السلام في توحيد المفضّل ممّا يتعلّق بهذا المطلب ، قال عليه السلام :

«فكِّر يا مفضّل في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي النهار والليل ، فلولا طلوعهما لبَطَلَ أمر العالم كلّه ، فلم يكن الناس يسعون في معائشهم ويتصرّفون في اُمورهم، والدُّنيا مظلمة عليهم ، ولم يكونوا يتهنّئون بالعيش مع فقدهم لذّة النور ورَوْحَه ، والإرب في طلوعها ظاهر مستغنى بظهوره عن الإطناب في ذكره والزيادة في شرحه ، بل تأمَّلِ المنفعةَ في غروبها ، فلولا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عِظَم حاجتهم إلى الهدوء والراحة؛ لسكون أبدانهم ، وجموم حواسّهم ، وانبعاث القوّة الهاضمة لهضم الطعام ، وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء ، ثمّ كان الحرص يستحملهم في مداومة العمل ومطاولتهم على ما يعظم نكايته في أبدانهم ؛ فإنّ كثيرا من الناس لولا جثوم هذا الليل بظلمته عليهم لم يكن لهم هدوء ولا قرار حرصا على الجمع والكسب والادّخار ، ثمّ كانت الأرض تستحمي بدوام الشمس بضيائها ، وتحمي كلّ ما عليها من حيوان ونبات ، فقدّرها اللّه بحكمته وتدبيره؛ تطلع وقتا ، وتغرب وقتا بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارةً ليقضوا حوائجهم ، ثمّ يغيب عنهم مثل ذلك ليهدؤوا ويقرّوا ، فصار النور والظلمة مع تضادّهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه .

ثمّ فكِّر بعد هذا في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة، وما في ذلك من التدبير والمصلحة ؛ ففي الشتاء تعود الحرارة في الشجر والنبات ، فيتولّد فيها موادّ الثمار ، ويستكثف الهواء ، فينشأ منه السحاب والمطر ، وتشتدّ أبدان الحيوان وتقوى ، وفي الربيع تتحرّك وتظهر الموادّ المتولّدة في الشتاء ، فيطلع النبات ، وتنوّر الأشجار ، ويهيج الحيوان للسفاد ، وفي الصيف يحتدم الهواء ، فينضج الثمار ، ويتحلّل فضول الأبدان ، ويجفّ وجه الأرض ، فيتهيّأ للبناء والأعمال .

وفي الخريف يصفو الهواء ، وترتفع الأمراض ، وتصحّ الأبدان ، ويمتدّ الليل ، فيمكن فيه بعض الأعمال لطوله ، ويطيب الهواء ، وفيه مصالحُ اُخرى لو تقصّيت لذكرها لطال فيها الكلام .

ص: 250

فكِّر الآنَ في تنقّل الشمس في البروج الاثني عشر لإقامة دور السنة ، وما في ذلك من التدبير ؛ فهو الدور الذي تصحّ به الأزمنة الأربعة من السنة : الشتاء ، والربيع، والصيف ، والخريف ، وتستوفيها على التمام ، وفي هذا المقدار من دوران الشمس تدرك الغلاّت والثمار وتنتهي إلى غاياتهم ، ثمّ تعود فتستأنف النشوء والنموّ ؛ ألا ترى أنّ السنة مقدار مسير الشمس من الحَمَل إلى الحَمَل ؛ فبالسنة وأحوالها يكال الزمان من لدن خلق اللّه تعالى العالم إلى كلّ وقت وعصر في غابر الأيّام، وبها يحسب الناس الأعمار والأوقات الموقّتة للديون والإجارات والمعاملات وغير ذلك من اُمورهم ، وبمسير الشمس تكمل السنة ، ويقوم حساب الزمان على الصحّة ؛ اُنظر إلى شروقها على العالم كيف دبّر أن يكون ، فإنّها لو كانت تبزغ في موضع من السماء فتقفَ لا تعدوه ، لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من الجهات ؛ لأنّ الجبال والجُدْران كانت تحجبها [عنها] فجعلت تطلع من أوّل النهار من المشرق ، فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب ، ثمّ لا تزال تدور تغشى جهةً بعد جهة حتّى تنتهي إلى المغرب ، فتشرق على ما استتر عنها في أوّل النهار ، فلا يبقى موضع من المواضع إلاّ أخذ بقسطه من المنفعة منها والإرب التي قدّرت له ، ولو تخلّفت مقدارَ عامٍ أو بعض عامٍ كيف كان يكون حالهم ؟ بل كيف كان يكون لهم مع ذلك بقاء ؟

أفلا ترى كيف كفى الناس هذه الاُمور الجليلة التي لم يكن عندهم فيها حيلة ، فصارت تجري على مجاريها لا تعتلّ(1) ، ولا تتخلّف عن مواقيتها لصلاح العالم وما فيه بقاؤه .

استدلّ بالقمر ، ففيه دلالة جليلة يستعملها العامّة في معرفة الشهور ، ولا يقوم عليه حساب السنة ؛ لأنّ دوره لايستوفي الأزمنة الأربعة ونشوء الثمار وتصرّمها، ولذلك صارت شهور القمر وسِنوه تتخلّف عن شهور الشمس وسنيها ، وصار الشهر من شهور القمر ينتقل ، فيكون مرّة بالشتاء ومرّة بالصيف .

فكِّر في إنارته في ظلمة الليل والإرب في ذلك ؛ فإنّه - مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء .

ص: 251


1- في المصدر : «لاتفتل» .

الحيوان وبرد الهواء على النبات - لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمةً داجية لا ضياء فيها ، فلا يمكن فيه شيء من العمل ؛ لأنّه ربّما احتاج الناس على العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال في النهار ، أو لشدّة الحرّ وإفراطه ، فيعمل في ضوء القمر أعمالاً شتّى كحرث الأرض وضرب اللبن وقطع الخشب وما أشبه ذلك ، فجعل ضوء القمر معونة للناس على معائشهم إذا احتاجوا إلى ذلك ، واُنسا للسائرين ، وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض ، ونقص من ذلك نور من نور الشمس وضيائها لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطهم بالنهار ، ويمتنعوا من الهدوء والقرار فيهلكهم ذلك ، وفي تصرّف القمر - خاصّة في مهلّه ومحاقه ، وزيادته ونقصانه وكسوفه - من التنبيه على قدرة اللّه خالقه المصرّف له هذا التصريف لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون» .(1)

قال عليه السلام بعد كلام في أمر النجوم الراتبة والمنتقلة :

«فكِّر يا مفضّل في مقادير النهار والليل كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق، فصار منتهى كلّ واحد منهما إذا امتدّ إلى خمسة عشرة ساعة لا يجاوز ذلك ؛ أفرأيت لو كان النهار مقداره مائةَ ساعةٍ أو مأئتي ساعة ، ألم يكن في ذلك بوار كلّ ما في الأرض من حيوان ونبات ؟

أمّا الحيوان ، فكان لا يهدأ ولا يقرّ طول هذه المدّة ، ولا البهائم كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النهار ، ولا الإنسان كان يفتر عن العمل والحركة ، وكان ذلك سيهلكها(2) أجمع ويؤدّيها إلى التلف .

وأمّا النبات ، فكان يطول عليه حرّ النهار ووهج الشمس حتّى يجفّ ويحترق .

وكذلك الليل لو امتدّ مقدارَ هذه المدّة ، كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة والتصرّف في طلب المعاش حتّى يموت جوعا، وتخمده(3) الحرارة الطبيعيّة من النبات حتّى يعفن ويفسد، كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع لا تطلع عليه الشمس .».

ص: 252


1- توحيد المفضّل ، ص 128 - 132 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 112 - 114 .
2- في المصدر : «ينهكها».
3- في المصدر : «تخمد».

اعتبر بهذا الحرّ والبرد كيف يتعاودان العالم ويتصرّفان هذا التصرّفَ في الزيادة والنقصان والاعتدال؛ لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وما فيها من المصالح ، ثمّ هما بعد دباغ الأبدان التي عليهما بقاؤها وفيهما صلاحها؛ فإنّه لولا الحرّ والبرد وتداولهما الأبدانَ لفسدت وأخوت وانتكثت .

فكِّر في دخول أحدهما على الآخر بهذا التدريج والترسّل ؛ فإنّك ترى أحدهما ينقص شيئا بعد شيء ، والآخَرَ يزيد مثل ذلك ، حتّى ينتهي كلّ واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان ، ولو كان دخول إحداهما على الاُخرى مفاجأةً لأضرّ بذلك بالأبدان وأسقمها ، كما أنّ أحدكم لو خرج من حمّام حارّ على موضع البرودة لضرّه ذلك وأسقم بدنه .

فلِمَ جعل اللّه عزّوجلّ هذا الترسّل في الحرّ والبرد إلاّ للسلامة من ضرر المفاجأة لولا التدبير في ذلك ؟

فإن زعم زاعم أنّ هذا الترسّل في دخول الحرّ والبرد إنّما يكون لإبطاء مسير الشمس في الارتفاع والانحطاط ، سُئل عن العلّة في إبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها ، فإن اعتلّ في الإبطاء ببُعْد ما بين المشرقين ، سئل عن العلّة في ذلك ، فلا تزال هذه المسألة ترقى معه حيث رقي من هذا القول حتّى استقرّ على العمد والتدبير ، لولا الحرّ لما كانت الثمار الجاسية المُرّة تنضج، فتلين وتعذب حتّى يتفكّه بها رطبة ويابسة ، ولولا البرد لما كان الزرع يفرخ،(1) ويريع الريع(2) الكثير الذي يتّسع للقوت وما يرد في الأرض للبذر .

أفلا ترى ما في الحرّ والبرد من عظيم العناء والمنفعة ، وكلاهما مع عنائه والمنفعة فيه يؤلم الأبدان ويمضّها ، وفي ذلك عبرة لمن فكّر ، ودلالةٌ على أنّه من تدبير الحكيم في مصلحة العالم وما فيه» .(3) .

ص: 253


1- يفرخ الزرع ، أي تنبت أفراخه ، وهي ما يخرج في اُصوله من صغاره . وقيل : هو إذا صارت له أغصان . اُنظر: لسان العرب ، ج 3 ، ص 43 (فرخ) .
2- يريع الريع ، أي تنمو الغلّة وتزداد . اُنظر: لسان العرب ، ج 8 ، ص 138 (ريع) .
3- توحيد المفضّل ، ص 137 - 140 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 118 - 119 .

انتهى كلامه صلوات اللّه عليه وسلامه ، وفيه دلالات على تعيّن ما فسّرنا به الاشتباه كما لا يخفى على البصير .

فإن قلت : إنّك قد قرّرت أنّ قوله عليه السلام : «والليل والنهار يلجان» مع ما عطف على يلجان جملةٌ حاليّة ، فهل هي حال عن الشمس والقمر كليهما ، أو ذكر القمر استطراديّ تمهيدا لقوله : «قد اضطرّا»؟

قلت : الظاهر الأوّل ؛ إذ كما أنّ الشمس لها مدخل في وجود النهار ، كذلك القمر له مدخل في وجود الليل ؛ لأنّ أكثر الليالي ليست تحت الظلمة ، بل ظلمة مختلطة بنور القمر ، فالشمس والقمر معا في معرض الإبصار والاعتبار والِجا كلّ من أثريهما - أعني الظلمة المخصوصة والضياء المخصوص المعبّر عنهما بالليل والنهار - في صاحبه ولوجا لا يشتبهان ، ويستأنفان ذلك بعد إتمام السنة .

وقوله عليه السلام : «قد اضطرّا» استئنافٌ ، الاستئنافَ الذي في قول الشاعر : «سهر دائم وحزن طويل»(1) أعني جواب عن السؤال عن مطلق السبب ، كأنّ قائلاً يقول : ما بالهما وهذه حالهما ؟ فاُجيب بأنّهما مضطرّان .

في القاموس : «الاضطرار : الاحتياج إلى الشيء . واضطرّه اللّه إليه : أحوجه وألجأه ؛ فاضطُرّ ، بضمّ الطاء» .(2)

واعلم أوّلاً أنّ الزنادقة فِرَق كثيرة، وآراؤهم مختلفة ، فبالحريّ أن نفصّلها بعضَ التفصيل؛ ليظهر تقابل المدلول والدليل ، فنقول :

إنّ جماعة من منكري مدبِّر العالم كانوا أصحاب الخليط ، وهم الذين رأيهم الخبيث أنّ أجزاء الأنواع كانت مبثوثةً في الجوّ متصغّرةً متحرِّكة بلا نظام ، فاتّفق أن صادف عدّة أجزاء من نوعٍ عدّةً من نوعها ، فالتأمت ، وبهذا الوجه تولّدت عدّة أشخاص الحيوان ، ثمّ توالدوا وعمرت الدنيا . .

ص: 254


1- صدره هكذا : «قال لي كيف أنت قلت عليل» . اُنظر: مختصر المعاني للتفتازاني ، ص 152 .
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 75 (ضرر) .

وجماعةً اُخرى كانوا أصحاب الكمون والبروز ، وهم يقولون : إنّ الأنواع مكنونة في الأنواع قد يبرز نوع فيلحقه اسمه ، ثمّ يكمن فينتفي الاسم ، ويلحق اسم بارزٍ آخَرَ ؛ هكذا في الكتب الكلاميّة .

ونقل المفضّل بن عمر قدس سره في كتاب توحيده من كلام ابن أبي العوجاء أنّه قال لصاحبه : إنّ ابتداء الأشياء بالإهمال ، لا صنعة فيه ولا تقدير ، ولا صانع ولا مدبِّر ، بل الأشياء تتكوّن من ذاتها بلا مدبِّر ، وعلى هذا كانت الدنيا لم تزل ولا تزال .(1)

ومن كلام مولانا الصادق عليه السلام في موضع من التوحيد حيث قال :

«يا مفضّل، إنّ الشُّكّاك جهلوا الأسباب والمعانيَ في الخلقة ، وقصرت أذهانهم عن تأمّل الصواب والحكمة فيما ذرأ الباري جلّ قدسه ، وبرأ من صنوف خلقه في البرّ والبحر والسهل والوعر ، فخرجوا بقصر عُلُومهم إلى الجحود ، وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود ، حتّى أنكروا خلق الأشياء ، وادّعوا أنّ تكوّنها بالإهمال ، لا صنعة فيها ولا تقدير ، ولا حكمة من مدبِّر ولا صانع ؛ تعالى اللّه عمّا يصفون ، وقاتلهم أنّى يؤفكون ، فهم في ضلالهم وعمائهم وتحيّرهم(2) بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بُنيت أتقنَ بناءٍ وأحسنَه ، وفُرشت بأحسن الفرش وأفخره ، واُعدَّ فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب التي يُحتاج إليها لا يستغنى عنها ، ووضع كلّ شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير ، وحكمة من التدبير ، فجعلوا يتردّدون فيها يمينا وشمالاً ، ويطوفون بيوتها إقبالاً وإدبارا ، محجوبةً أبصارهم عنها ، لا يبصرون بنية الدار وما اُعدَّ فيها ، وربّما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وقع موضعه ، واُعدّ للحاجة إليه وهو جاهلٌ بالمعنيّ فيه ، ولما اُعدَّ ، ولماذا جعل كذلك ، فتذمر وتسخّط، وذمّ الدار وبانيَها ، فهذه حال هذا الصنف من إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة ؛ فإنّهم لمّا غربت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء ، صاروا يجولون في هذا العالم .

ص: 255


1- توحيد المفضّل ، ص 39 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 57 .
2- في المصدر : «وغيّهم وتجبّرهم» بدل «وعمائهم وتحيّرهم» .

حيارى ، ولا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته وحسن صنعته وصواب تهيئته ، وربّما وقف بعضهم على الشيء لجهل سببه والإرب فيه ، فيسرع إلى ذمّه ووصفه بالإحالة والخطأ كالذي أقدمت عليه المانيّة(1) الكفرة ، وجاهرت به الملحدة المارقة الفجرة وأشباههم من أهل الضلال المعلّلين أنفسهم بالمحال ، فيحقّ - على من أنعم اللّه عليه بمعرفته ، وهداه لدينه ، ووفّقه لتأمّل التدبير في صنعة الخلائق ، والوقوف على ما خلقوا له من لطيف التدبير ، وصواب التعبير بالدلالة القائمة الدالّة على صانعها - أن يُكثر حمد اللّه مولاه على ذلك ، ويرغبَ إليه في الثبات عليه والزيادة منه ؛ فإنّه جلّ اسمه يقول : «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَءَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ»(2) .

يا مفضّل أوّل العِبَر والدلالة على الباري - جلّ قدسه - تهيئة هذا العالم ، وتأليف أجزائه ، ونظمها على ما هي عليه ؛ فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك ، وميّزته بعقلك ، وجدته كالبيت المبنيّ المُعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده ؛ فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة(3) كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكلّ شيء فيها لشأنه معدّ، والإنسان كالمملّك ذلك البيت والمخوّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيّأة لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه ، ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملاءَمة ، وأنّ الخالق له واحد، وهو الذي ألّفه ونظمه بعضا على بعض جلّ قدسه ، وتعالى جَدّه ، وكرم وجهه ، ولا إله غيره ، تعالى عمّا يقول الجاحدون ، وجلّ وعظم عمّا ينتحله الملحدون» .(4)

قال عليه السلام في موضع آخر :

«فكِّر يا مفضّل في أعضاء البدن أجمع ، وتدبير كلّ منهما للإرب ؛ فاليدان للعلاج، والرِّجلان للسعي ، والعينان للاهتداء ، والفم للاغتذاء ، والمعدة للهضم ، والكبد .

ص: 256


1- في المصدر : «المنانية» . وفي البحار : «المانوية» .
2- إبراهيم (14) : 7 .
3- في المصدر : «مضيئة» .
4- توحيد المفضّل ، ص 44 - 47 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 59 .

للتخليص ، والمنافذ لتنفيذ الفضول ، والأوعية لحملها ، والفرج لإقامة النسل ، وكذلك جميع الأعضاء إذا تأمّلتها وأعملت فكرك فيها ونظرك وجدت كلّ شيءٍ منها قد قدّر لشيء على صواب وحكمة» .

قال المفضّل : فقلت : يا مولاي إنّ قوما يزعمون أنّ هذا من فعل الطبيعة .

فقال عليه السلام : «سلهم عن هذه الطبيعة أيّ(1) شيءٍ ، له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال ، أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة ، فما يمنعهم من إثبات الخالق؛ فإنّ هذه صنعته ، وإن زعموا أنّها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة ، علم أنّ هذا الفعل للخالق الحكيم ، وأنّ الذي سمّوه طبيعةً هو سنّة في خلقه ، جارية على ما أجراها عليه» .(2)

وقال عليه السلام في موضع آخر في جواب قول المفضّل : فقلت : إنّ قوما من المعطّلة يزعمون أنّ اختلاف الألوان والأشكال في الطير إنّما يكون من قبل امتزاج الأخلاط واختلاف مقاديرها :

«يا مفضّل هذا الوشي الذي تراه في الطواويس والدرّاج على استواء ومقابلة كنحو ما يخطّ بالأقلام ، كيف يأتي به الامتزاج المهمل على شكلٍ واحد لا يختلف ؟ ولو كان بالإهمال لَعدم الاستواء ، ولكان مختلفا» .(3)

وقال عليه السلام في موضع آخر :

«قد شرحت لك يا مفضّل الأدلّةَ على الخلق ، والشواهدَ على صواب التدبير والعمد في الإنسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك ما فيه عبرة لمن اعتبر ، وأنا أشرح لك الآنَ الآفاتِ الحادثةَ في بعض الأزمان الذي اتّخذها اُناس من الجهّال ذريعةً إلى جحود الخلق والخالق والعمد والتدبير ، وما أنكرت المعطّلة والمانيّة(4) من المكاره .

ص: 257


1- في المصدر : «أهي» .
2- توحيد المفضّل ، ص 54 - 55 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 67 - 68 .
3- توحيد المفضّل ، ص 117 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 105 .
4- في المصدر : «المانيّة» .

والمصائب ، وما أنكروه من الموت والفناء ، وما قاله أصحاب الطبائع ، ومن زعم أنّ كون الأشياء بالعرض والاتّفاق ليتّسع ذلك القول في الردّ عليهم ؛ قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون» .(1)

وقال عليه السلام في موضع آخر :

«واعلم يا مفضّل أنّ اسم هذا العالم بلسان اليونانيّة الجاري المعروف عندهم : «قوسموس». وتفسيره : الزينة ، وكذلك سمّته الفلاسفة ومن ادّعى الحكمة ، أفكانوا يسمّونه بهذا الاسم إلاّ لما رأوا فيه من التقدير والنظام ، فلم يرضوا أن يسمّوه تقديرا ونظاما حتّى سمّوه زينةً ليخبروا أنّه مع ما هو عليه - من الصواب والإتقان - على غاية الحُسن والبهاء .

أعجب يا مفضّل من قوم لا يقضون على صناعة الطبّ بالخطأ وهم يرون الطبيب يخطئ ، ويقضون على العالم بالإهمال ولا يرون شيئا منه مهملاً ، بل أعجب من أخلاق من ادّعى الحكمة حين جهلوا مواضعها في الخلق ، فأرسلوا ألسنتهم بالذمّ للخالق جلّ وعلا ، بل العجب من المخذول «ماني» حين ادّعى علم الأسرار ، وعمي عن دلائل الحكمة في الخلق نسبه إلى الخطأ ، ونسب خالقه إلى الجهل ؛ تبارك الحكيم الكريم .

وأعجب منهم جميعا المعطّلة الذين هم راموا أن يدرك بالحسّ ما لايدرك بالخلق(2) ، فلمّا أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجحود والتكذيب ، فقالوا : ولِمَ لا يدرَك بالعقل؟ قيل : لأنّه فوقَ مرتبة العقل ، كما لا يُدرك بالبصر ما هو فوق مرتبته».(3)

انتهى ما أردنا نقله من توحيد المفضّل .

وظهر من المجموع أنّ هؤلاء الفِرَقَ الباطلة لمّا كانوا مشركين في إنكار المدبِّر الحكيم ، كان الردّ عليهم بإراءة آثار العمد والتدبير والحكمة والتقدير وتلاؤم أجزاء .

ص: 258


1- توحيد المفضّل ، ص 166 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 111 .
2- في المصدر : «بالعقل» .
3- توحيد المفضّل ، ص 176 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 146 .

العالم وتناسبها ، ثمّ التنبيه على أنّ التصادق والتصادم على سبيل البخت والاتّفاق المعبَّر عنه بالإهمال لا يأتي بمثل هذا النظام البديع ، والبنيان المنيع كما نقله الإمام عليه السلام ، ولعمرك أنّه من نظر إلى أجزاء العالم من العلويّات والسفليّات والبسائط والمركّبات ، وجدها كأعضاء إنسان كامل في أنّ كلاًّ قد وُكّل إليه عمل معيّن، وهو مشغول به لا يفتر عنه ، كأنّه قد آجر نفسه لعملٍ معيّن باُجرةٍ معيّنة ، ومع ذلك جميع أعمال العَمَلة متلائمة متناسبة ؛ بعضها موضوع عمل بعضٍ آخَرَ ، وبعضها متمِّم عمل بعض ، وبعضها مزيّن عمل بعض ، وغاية المجموع تحقيق الشخص على أكمل نظام ، وتعيّشه أحسن تعيّش ، وقد بيّن ذلك مولانا الصادق عليه السلام في توحيد المفضّل والإهليلجة أفصحَ بياناتٍ ، ومنه اقتبس بعض مواليه في رسالته المسمّاة بالصناعيّة .

وإذا سمعت ما تلونا لك أيقنتَ أنّ ذهاب الشمس والقمر وإيابهما ، وكذا ولوج كلٍّ من الليل والنهار في صاحبه ليس على سبيل البخت والاتّفاق والهرج والمرج ، بل بعمد وتدبير وحكمة وتقدير ، والتدبير متّصل بين السماء والسماويّات ، والأرض والأرضيّات من البسائط والمركّبات ، وكلُّ حركة واقعة فيها - سواء كانت طبيعيّةً ، أي محرّكها في ذات المتحرّك ولا شعور له . أو إراديّةً ، أي محرّكها شوق غالب منبعث عن إحساس أو تخيّل أو تصوّر ، أو قسريّةً يرجع إلى أحد المحرّكين - اضطراريّةٌ ، أي تابعة لقضاء ملك قاهر ، ومشيّة سلطانٍ غالب ، وبهذا المعنى قال الإمام عليه السلام فيما بعدُ : «القوم مضطرّون» واتّضاح ذلك بشرح قدر من أحوال الحركتين:

اعلم أنّ المحرّك الطبيعي قد لا يحرّك الشخص ؛ لفقدان الشرط كالهواء المنحبس في الماء ؛ فإنّ طبيعته لا تحرّكه لوجود العائق ، ولو اتّفق تحقّق غير هواء في الجوّ كالصاعقة أو الماء المنقلب من الهواء لعروض البرد الموجب للتكاثف ، لحرّكته الطبيعة إلى ما يسامته من أجزاء مكانه الطبيعي ، ولو رُدّ لعاد ، فلكلّ من أصل الحركة وزمانها وعوارضها الشخصيّة وانتهائها إلى منتهىً خاصٍّ شرطٌ خاصّ، إذا استوفت الطبيعة جميعها حرّكت الجسمَ على الوجه الخاصّ ، والموفي للشرائط المضطرّ لها

ص: 259

هو القضاء المحكم ، والأمر المبرم ، والتدبير المتّصل ، وقد سمعت قول الصادق عليه السلام لمفضّل : «إنّ الذي سمّوه طبيعة هو سنّة في خلقه ، جارية على ما أجراها عليه».

ومن الأجسام ما له نفسٌ ، وهي محرّكة كالطبيعة ولكن بشعور ، وفيها شوقٌ مكنون إلى تحريك خاصّ ، وتفعل ذلك إذا برز الشوق بمصادفة مهيّجة من رؤيةٍ ، أو سماع ، أو فقرٍ ، أو غنىً ، أو معاشرة ، أو تأثّر وانفعال ، أو أمثال ذلك ، واستوفت شرائطَ الفعل من قدرة ، وصحّة بدن ، وسلامة أعضاء ، وغير ذلك ، وهذا الشوق إرادة ذاتيّة للنفوس ، تابعة لخصوصيّات الذوات ، يكشف عن ذلك أنّه قد يهيّجه مصادف في ذات ، ولا يهيّجه ذلك المصادف بعينه في ذاتٍ آخَرَ ، وقد يشترك عدّة ذوات في هيجان شوقها بمصادفٍ خاصّ .

وبالجملة ، إذا هاجت الإرادة الذاتيّة المكنونة بمصادفة تهيّج ، ووقعت المعارضات بينها وبين الأشواق العقليّة والحيوانيّة - أعني الشهوانيّة والغضبيّة - كان الدست لها ، وإن صارت مغلوبةً أحيانا ووقعت خلافَ ما اشتهته ، فذلك من جهة التدبير الكلّي والتسخير القضائي ؛ لمصلحة النظام الأعلى ، ومع ذلك كانت عاقبة الأحوال على وفق تلك الإرادة، كما ورد في كتاب الإيمان والكفر : «يُسلَكُ بالسعيد [في [طريق الأشقياء حتّى يقولَ الناسُ : ما أشْبَهَهُ بهم ، بل هو منهم ، ثمّ يتداركه السعادة» وبالعكس ،(1) وقد نظمتُ هذا في المثنوي المسمّى ب «نان وپنير» (نظم) :

اى لواى اجتهاد افراخته *** روزه هر روزه عادت ساخته

اهل زلّت را بشقوت كرده حكم *** بسته شان در ربقه صمّ و بكم

هان مشو مغرور بر افعال خويش *** هان مشو مسرور از احوال خويش

اى بسا نعلى كه وارون بسته شد *** شيشه امن نفوس اشكسته شد

گبر چندين ساله در حين نزع *** كرد بر حقّيّت اسلام قطع

عابدى با شدّ و مدّ و كشّ وفش *** بهر ترسا بچّه اى شد باده كش .

ص: 260


1- الكافي ، ج 1 ، ص 154 ، كتاب التوحيد ، باب السعادة والشقاء ، ح 3 .

كار با انجام كارست و سرشت *** ختم ، كاشف از سرشت خوب و زشت

اى بسا بد طينتِ نيكو خصال *** اى بسا خوش طينت نا خوش فعال

طينتِ بد آنكه در علم ازل *** رفته از وى ختم بر كفر و دغل

ومن حسن التدبير في تيسير أسباب المعيشة للطينة الطيّبة أنّ العبد يصير بالندم والتوبة محبوبا للّه تعالى كما قال : «إِنَّ اللّه َ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ»(1)الكافي ، ج 2 ، ص 313 ، ح 1.(2) ويسلم عن الإعجاب الذي يعرض لكثير من العبّاد .

روى الكليني في باب العُجب عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «إنّ اللّه َ عَلِمَ أنّ الذنبَ خيرٌ للمؤمن من العُجْب ، ولولا ذلك ما ابْتُلِيَ مؤمنا بذنبٍ أبدا» .(2)

وفي باب تنقّل أحوال القلب في آخر حديثٍ نقله أبو جعفر عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «لولا أنّكم تُذنِبونَ فتستغفرونَ اللّه َ ، لخَلَقَ اللّه ُ خلقا حتّى يُذنِبوا ، ثمّ يستغفروا اللّه َ ، فَيَغْفِرَ لهم» .(3)

أقول : هذا الحديث صريح في أنّ بناء إيجاد أجزاء النظام الأعلى - أعني العالم بأسره - على الأسماء الحُسنى ، وكلّ منها مظهر لغاية اسم كما سنبيّن ذلك أوضحَ تبيينٍ .

ومن حسن التدبير في تيسير أسباب الخير والحسنة للطينة الخبيثة انتفاعُ المستضعفين بصلتهم وعطائهم ؛ إذ كانت الدنيا في الأغلب في أيديهم . هذا في الحسنات الماليّة ؛ وأمّا البدنيّة ، فموجبة لكسر صولتهم في التجبّر والتكبّر، فيُكَفُّون عن إيذاء خلق اللّه بعضَ الكفّ ، إلى غير ذلك .

وربّما كانت الإرادة الذاتيّة خامدةً ؛ لفقد المهيّج والشروط زمانا ، والمرء يحسب أن ليس لذاته ميلٌ إلى خصوص فعل ، لكن إذا صادفهما هاجت وهو لم يتمالك نفسه ، واللّه تعالى هو العالم بمكنون ذاته ، وهو الموجّه إليه المهيّجات ، المضطرُّ له في بروز المكنون في ذاته على حسب التدبير الأزلي . .

ص: 261


1- البقرة
2- : 222 .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 423 ، ح 1 .

ثمّ إنّ النفوس على تفاوت مراتبهم نوعان :

نوعٌ شوقه الذاتي إلى الخيرات ، وهم طينات طيّبات ، صفوها الملائكة المقرّبون الذين لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمَرون ،(1) والأنبياء والأوصياء المعصومون الذين أذهب اللّه عنهم الرِّجس وطهّرهم تطهيرا .

ثمّ ما فضل من ذلك الصفو وهم شيعتهم ومحبّوهم على تفاوت درجاتهم في القُرب والبُعد إليهم ، وقد ورد في الخبر : «أنّ شيعتنا من فضل طينتنا ، ولذلك تحنّ قلوبهم إلينا» .(2)

ونوع آخَرُ شوقه الذاتي إلى الشرور وهم طينات خبيثات ، أخبثها أبالسة الجنّ وفراعنة الإنس وطواغيتهم ، وما فضل من ذلك الأخبث هو شيعتهم ومحبّوهم .

وقد ظهر ذاتيّة شوقي النوعين في عدّة أفراد بحيث لم يبق للشكّ مجال ، وجزم الذهن الثاقب والحدس الصائب بأنّ إرادتهم واختياراتهم ناشئة من طيناتهم ، والمراد بالطينة مقدور القدرة الكاملة الذي أحاط العلم الأزلي بصفاتها ومقتضياتها في مرتبة «ما» الشارحة .

ولينظر أهل الاعتبار إلى ما يظهر من هؤلاء المردة طينة الخنازير والقردة بالنسبة إلى أهل بيت الرسول عليهم السلام من الظلم والقهر والقتل والأسر ، وقد قلت في بعض مراثيّ :

فواحسرتا واسوأتا وامصيبتا *** لمذبوح أرض الطفّ يوم نزال

تدور بدور الفخر والعزّ والعُلى *** زقاق بلاد الشام فوق جمال

أطائب بيض كالشموس وجوهها *** بِظَهرٍ شَموسٍ في مسير قلال

فوجود القدرة في اُولئك الأرجاس ليس إلاّ ليظهر أنّ ذواتهم في مرتبة «ما» الشارحة كانت فاقدةَ الخير غيرَ قابلة للاستماع ، مريدةً لاستعمال القدرة - التي يصحّ أن تُستعمل في الخيرات والطاعات - في الشرور والمعاصي ، فهم ما داموا مخلّى السِّرْبِ .

ص: 262


1- إشارة إلى الآية 6 من سورة التحريم (66) .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 389 ، باب خلق أبدان الأئمّة و ... ، ح 1 ؛ بصائر الدرجات ، ص 14 ، ح 1 ؛ و ص 16 ، ح 8 ؛ و ص 19 ، ح 1 ؛ و ص 24 ، ح 18 .

موفون شرائطَ الفعل كانت هذه فِعالَهم ، ولو ردّوا إلى الدنيا بعدما رأوا العذاب لعادوا لما نهوا عنه ،(1)كمال الدين ، ج 2 ، ص 589 .(2) كما قلنا في مثال المتحرّك بالحركة الطبيعيّة : والأمر والنهي العقليّان والشرعيّان ليسا بالنسبة إليهم إلاّ ليقطع عليهم قولهم : «لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ»(3) وبالنسبة إلى الطينات الطيّبات تربيةٌ لهم، وإيصال إلى مَراقي الكمالات، كما يربّي الوالد الشفيق ابنه بالأوامر والنواهي .

وحسبك شاهدا في هذا الباب قوله عزَّ من قائل : «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ»(4) ، وقوله : «وَلَوْ عَلِمَ اللّه ُ فِيهِمْ خَيْرا لاَءَسْمَعَهُمْ»(5) ، وقوله : «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرا مِنْ الْجِنِّ وَالاْءِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا» إلى قوله : «أُوْلَئِكَ كَالاْءَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ»(6)الأمالي للصدوق ، ص 219، المجلس 39، ح 5 ؛ روضة الواعظين ، ج 1، ص 198؛ المصباح للكفعمي، ص 368 .(7) .

وفي حكاية بيضات الطير المسمّاة بالقدم - التي نقلها الصدوق طاب ثراه في أواخر كتاب إكمال الدِّين في جملة حكاية «بلوهر» الحكيم - عبرةٌ لاُولي الألباب .(6)

وفي قنوت الوتر للإمام زين العابدين عليه السلام : «سيّدي أَمِن أهل الشقاء خلقتني فاُطيل بكائي ، أم من أهل السعادة خلقتني فاُبشّر رجائي ، ألِضَرب المقامع خلقت أعضائي ، أم لشُرب الحميم خلقت أمعائي» .(7)

يعني أنا من الممكنات المعلومة في العلم الأزلي في مرتبة «ما» الشارحة أنّ إرادتها الذاتيّة إلى موجبات الشقاء ، فخلقتني ويسّرت لي أسباب فعل ما في إرادتي التي علمتها من ذاتي في مرتبة «ما» الشارحة ، فأكون مظهر اسمك القهّار شديدِ البطش ، أم من الممكنات المقابلة لتلك ، فمننت عليَّ بتشريف الإيجاد ، وتتمّ تلك المنّة بتيسير أسباب الرشاد وتربيتي لتجعلني أهلاً لتفضّلاتك الجسيمة ؛ فإنّي أعلم أنّ ما يصيبني من حسنةٍ فمنك ، ولك المِنّةُ عليَّ ، وما يُصيبني من سيّئةٍ فمن نفسي ، ولك الحجّة عليّ ، هكذا ينبغي أن يفهم كلامه صلوات اللّه عليه وسلامه . .

ص: 263


1- إشارة إلى الآية 28 من سورة الأنعام
2- .
3- طآه (20) : 134 .
4- الذاريات (51) : 55 .
5- الأنفال (8) : 23 .
6- الأعراف
7- : 179 .

وبإيجاد أفراد النوعين يتحقّق غايات الأسماء الحُسنى ، التي ندب الشارع إلى الإقرار بها للّه في تشهّد كلّ صلاة .

والظاهر أنّ ذلك ليتذكّر غاياتها ، ويذعن لها ، ويتفطّن أُولوا الألباب لصحّة ما قيل :

«درين پرده يك رشته بيكار نيست» .

وكلّ فرد من أفراد النوعين ميسّرٌ لما خلق له، ومُوفي ما قسم له في التدبير الأزلي .

قال الإمام سيِّد الساجدين وزين العابدين - صلوات اللّه عليه - في الصحيفة الكاملة في دعاء الحمد : «ابتدع بقدرته الخلقَ ابتداعا ، واختَرَعَهم على مشيّته اختراعا ، ثمّ سَلَكَ بهم طريقَ إرادته، وبعثهم في سبيل محبّته ، لا يملكون تأخّرا(1) عمّا قَدَّمَهم إليه ، ولا يَستطيعونَ تَقَدُّما إلى ما أخَّرَهم عنه» .(2)

وفي دعاء الجمعة : «كلّهم صائرون إلى حلمك ، واُمورهم آئلةٌ إلى أمرك» .(3)

وفي توحيد الصدوق - طاب ثراه - عن الرضا عليه السلام في جملة خطبة : «لايجور في قضيّته ، الخلقُ إلى علم منقادون ، وعلى ما سطّر في المكنون من كتابه ماضون ، لا يعملون خلاف ما علم منهم ، ولا غيره يريدون» .(4)

للمؤلّف :

حق چو قيّوم وعالمست و حكيم *** قادر وقاهر و رؤوف و رحيم

عالم السرّ و عالم الأخفى *** مطّلع تر بحال ما از ما

منكشف بهر او بغير نزاع *** فاقد الخير و قابل الأسماع

بهر مجراى حال كل نهجى *** كرده تعيين برى زنقص و كجى

عالم اكنون بر آن نهج گذر است *** خيمه كون بآن ستون برپا است

نه رهى منسلك به جز آن راه *** نه كسى را مجال عذر گناه

رقم اذن او اگر نايد *** از عدم ممكنى بدر نايد

پادشاهيى تام آن باشد *** مملكت دارى اين چنين باشد 9.

ص: 264


1- في المصدر : «تأخيرا» .
2- الصحيفة السجّاديّة ، ص 28 ، الدعاء 1 .
3- الصحيفة السجّاديّة ، ص 204 ، الدعاء 46 .
4- التوحيد ، ص 47 ، ح 9.

وه چه زيبايى و بها و جمال *** وه چه سلطان چه كبريا چه جلال

وقد تلخّص ممّا ذكرنا - من ذاتيّة الإرادة ومكنونيّتها في الذوات ، وهيجانها بتصادف المهيّجات ، وكون التصادف على حسب التدبير والتقدير وتخلّف مقتضى الإرادة الذاتيّة أحيانا ، مع كون المآل وخاتمة الأحوال على وفق الطينة أيضا بالتدبير، وتحقّق المراد بتيسير الأسباب الذي هو بيد اللّه إلى غير ذلك - أنّ الاختيار والاختياريّات كليهما بنحو الاضطرار، كما لا يخفى على ذوي البصائر .

وأمّا كيفيّة اضطرار التدبير الكلّي في الاختيار والاختياريّات ، فاعلم أنّ أفعال الفاعل المختار متوقّفة على تهيّج الشوق والإرادة من الإحساسات والتخيّلات والتصوّرات ، والأشخاص متفاوتة في الاستعداد بحسب الأمزجة والمعاشرات والعلوم المكسوبة ، فربَّ مرئيّ يهيج معه شوقٌ مكنون في ذات شخص إلى فعل، ويهيج معه شوق إلى ترك ذلك الفعل مكنونٌ في شخص آخَرَ . وكذا الكلام في المسموع وغير ذلك ، ولا يعلم أنّ شوق أيّ شخص إلى أيّ فعل يهيج مع أيّ أمر إلاّ صاحب التدبير الكلّي الذي أحاط بكلّ شيءٍ علما ، وهو الموجّه إلى كلّ شخص ما يعلم أنّه يهيج معه الشوق والإرادة إلى فعل مخصوص ، وهو الميسّر أدوات الفعل والمهيّئ لشرائطه ، وهذا هو سرّ ما أخبر اللّه تعالى في كتابه حيث قال : «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ»(1) .

وفي الحديث : «ما شاء اللّه كان ، وما لم يشأ لم يكن» .(2)

وقال اللّه تعالى : «وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(3) .

وقال تعالى : «قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّه ُ لَنَا»(4) الآية .

فاضطرار التدبير الكلّي توجيه ما في العلم الأزلي أنّ ذات الموجّه إليه بحيث إذا .

ص: 265


1- لقمان (31) : 34 .
2- الكافي ، ج 2 ، ص 571 ، باب الحرز والعوذة ، ح 10 ؛ و ج 8 ، ص 81 ، ح 39 ؛ الفقيه ، ج 4 ، ص 402 ، ح 5868 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 487 ، المجلس 74 ، ح 1 ؛ الزهد ، ص 14 ، ح 28 .
3- الإنسان (76) : 30 .
4- التوبة (9) : 51 .

وجّه إليه كذا وكذا يهيج فيه إرادة الفعل الفلاني ، وتيسيرُ ما في العلم الأزلي أنّه إذا تيسّر له كذا وكذا يفعل الفعل الفلاني ، وإذ لا يتخلّف ما في العلم فالتوجيه والتيسير اضطرار ؛ إذ لا نعني به إلاّ الترتيب البتّي اللزومي .

وربّما يكون الشوق الذاتي خامدا ؛ لفقدان المهيّج والشوق العقلي أو الشهواني والغضبيّ هائجا لوجدان مهيّجه ، وكان مقتضاه خلافَ مقتضى الشوق الذاتي ، كحسنات الطينة الخبيثة ، وسيّئات الطينة الطيّبة على ما مرّت الإشارة إليه ، ومصادفة هذا المهيّج للشخص دون ذلك بَيْدَ التدبير الكلّي ، وحديثِ : «قلب المؤمن بين إصبعي الرحمن ، يقلّبها كيف يشاء».(1)

وحديث : «عرفت اللّه بفسخ العزائم».(2)

وحديث : «يسلك بالسعيد [في] طريق الأشقياء» .(3)

وحديث : «إنّ اللّه يحبّ العبد ويبغض عمله ، ويبغض العبد ويحبّ عمله ».(4)

وحديث : «خلقتُ الخير وأجريتُ على يدى من أشاء ، وخلقتُ الشرّ وأجريتُه على يدي من أشاء ولا اُبالي» .(5)

وأمثال ذلك كلُّها ناظرة إلى هذا المعنى ، فاحتفظ هذه المطالب النفيسة ؛ فإنّها من الجواهر المخزونة .

وجريان الإرادات والإراديّات بإيحاء التدبير الكلّي إنّما هو بهذا المعنى الذي حرّرناه الذي جمع مع كمال السلطان غاية العدل ، وهو الأمر بين الأمرين الذي لا .

ص: 266


1- علل الشرائع ، ج 2 ، ص 604 ، ح 75 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 69 ، ص 49 ، ح 9 . وراجع: عوالي اللآلي ، ج 1 ، ص 48 ، ح 69 ؛ و ج 4 ، ص 99 ، ح 139 ؛ تفسير السلمي ، ج 1 ، ص 351 ؛ تفسير البغوي ، ج 2 ، ص 241 .
2- نهج البلاغة ، ص 511 ، الحكمة 250 ؛ غرر الحكم ، ص 81 ، ح 1273 ؛ روضة الواعظين ، ج 1 ، ص 30 .
3- الكافي ، ج 1، ص 154، باب السعادة والشقاء ، ح 3 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 280 ، ح 409 ؛ التوحيد ، ص 357 ، ح 4 .
4- الأمالي للطوسي ، ص 410 ، المجلس 13 ، ح 71 ؛ المناقب ، ج 4 ، ص 186 . وفي نهج البلاغة ، ص 215 ، الخطبة 154، مع اختلاف يسير.
5- الكافي ، ج 1 ، ص 154 ، باب السعادة والشقاء ، ح 2 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 283 ، ح 415 .

يعلمه إلاّ العالم أو من علّمه العالم ، و«ذَلِكَ فَضْلُ اللّه ِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه ُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»(1) .

ولنرجع إلى شرح الحديث :

قوله عليه السلام : (قَد اضْطُرّا) بعد قوله : «أماترى» إلى آخره .] ح 1 / 215]

المقصود أنّ حركتي الشمس والقمر وأثرهما - اللذين هما الليل والنهار - بحيث من رآها بعين الاعتبار علم افتقار أجزاء العالم في اتّساقها وانتظامها إليها ، فتحدَّس أنّ الدار بنيت بتدبير وحكمة ، ولوحظ تناسب أجزائها واتّصال بعضها ببعض ، فالشمس والقمر عاملان من عمّال باني الدار ، يجريان على وفق إرادته وتدبيره ، فليست حركتهما طبيعيّةً ؛ لأنّ الطبيعة لا التفات لها إلى ما يصدر عنها ، بل هو ملائم لأجزاء العالم ، معاون لاتّساقها وانتظامها أو مضادّ ، فإذن هما مضطرّان استعملهما مدبِّر حكيم أحكم منهما .

فبطل قول الزنادقة : أن لا مدبِّر للعالم، وإنّما وجد ما وجد على سبيل البخت والاتّفاق .

ونقل الصادق عليه السلام في توحيد المفضّل عن ارسطاطاليس أنّه ردّ عليهم ، فقال : «إنّ الذي يكون بالعرض والاتّفاق إنّما هو شيءٌ يأتي في الفرط مرّة لأعراض تعرض للطبيعة، فتزيلها عن سبيلها ، وليس بمنزلة الاُمور الطبيعيّة الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا .

وأنت يا مفضّل ترى أصناف الحيوان تجري أكثر ذلك على مثال ومنهاج واحد، كالإنسان يولد وله يدان ورجلان وخمس أصابعَ كما عليه الجمهور من الناس ، فأمّا ما يولد على خلاف ذلك؛ فإنّه لعلّه يكون في الرحم، أو في المادّة التي ينشأ منها الجنين» الحديث .(2) .

ص: 267


1- الحديد (57) : 12 .
2- توحيد المفضّل ، ص 180 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 148 .

قوله : (لَيْسَ لَهُما مَكانٌ إلاّ مَكانُهُما) .] ح 1 / 215]

في حاشية السيّد الجليل الرفيع :

دلّ(1) على اضطرارها ؛ لأنّه متى رأى العاقل حركة منضبطة على نسقٍ واحد لا يتغيّر أبدا ، تحدّس بأنّ المتحرّك بها غير مختار ، كما في الجمادات يتحدّس من عدم اختلاف مقتضياتها - مخلّى بطبائعها - بعدم اختيارها .(2)

أقول : يعني قدس سره أنّ العاقل يجد حركة كلّ منهما في مكانه ومجراه على النهج الواقع من نسق التدريج إلى مدّة معيّنة ، ثمّ الاستئناف بعد انقضاء المدّة إلى مدّةٍ اُخرى مثل المدّة الاُولى لها دخل عظيم في انتظام أجزاء العالم من أنواع الحيوان والنبات والمعادن - كما فصّل الصادق عليه السلام في توحيد المفضّل - فيتحدّس من ثبات هذا النسق ودوام جريهما على هذا النهج - الذي ينفع الحيوانات في تعيّشها من جهة المآكل والمشارب والنباتات والأشجار في نموّها وتغذّيها إلى غير ذلك من الانتفاعات - باضطرارهما ، بمعنى أنّ حكيما مدبِّرا قادرا قاهرا اضطرّهما على هذه الأفعال المحكمة المتقنة ؛ إمّا بأن يكون الفعل له، وهما آلتان لا شعور لهما بأفعالهما ، أو بأفعال مستعملهما كالفأس والمنشار اللذين يستعملهما النجّار ، والقوى الهاضمة والدافعة وغيرهما التي تستعملها النفس ، أو بأن يكونا ذوَيْ شعور وإرادة ولكنّهما تحت تسخير ذلك الحكيم القاهر ، ولا يريدان إلاّ ما في تدبيره وتقديره .

وإن شئت أن ترى الأفعال الإراديّة التسخيريّة ، فانظر بعين التأمّل والعبرة إلى حال الطيور سيّما الطير المستأنس بالإنسان المسمّى بالقُمْري، وقد فصّلت ما شاهدت من أحواله في شرح كتاب الإهليلجة للصادق عليه السلام ، وها أنا اُورد هاهنا ما ذكرت هناك وهو هذا :

اگر كسى بنظر عبرت ملاحظه نمايد در احوال قُمرى و ساختن ايشان جهت بيضه گذاردن و از خار و خاشاك كه به منقار از اينجا و از آنجا جمع آورده [در] محوّطه تعبيه نمودن كه بيضها نغلطند و بر روى بيضه خوابيدن تا به حرارت غريزى بدن ، زرده .

ص: 268


1- في المصدر : «دليل» .
2- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 240 .

تخم را استحالات واقع شود و صورت جوجكى متكوّن شود و چون يكى از والدين بضرورت به طلب غذا رود ، ديگرى بر روى بيضه نشيند تا وقتى كه صاحبش مراجعت كند و دانستن آنكه اگر او نيز بر خيزد تخم سرد مى شود و سرد شدن در اثناى تكوّن، موجب فساد جوهر ذات مى شود . و خالق رؤوف رحيم چنانكه جنين را از خون حيض و استحاضه تغذيه مى كند، از سپيدى تخم غذاى او را آماده و مهيّا كرده ؛ زيرا كه نه اورا راهى به بيرون هست و نه ابوين را راهى به اندرون و چون به حدّ كمال رسيد و اجزاى بدنش تمام شد ، افاضه روح و قلب مى شود بروى و پادشاه على الاطلاق حاكمى واليّى براى مملكت بدن او تعيين مى فرمايد و والدين او را به حرارت غريزى خود مى پر[و]رند و هر يك بر گرسنگى و تشنگى صبر مى كند تا رفيقش باز آيد، هر چند به سبب آنكه دير به روزى خود بر خورد و دير مراجعت نمايد و آن رفيق نيز چون قدر ضرورى تحصيل كرد ، ديگر از راه حرص و شره بر التذاذ ، دير كردن را بر خود جايز نمى داند و خود را به رفيقش مى رساند تا او نيز به طلب روزى رود و خود به جاى او نشيند . و به اين قرار مدتى مى گذرانند و ملال بهم نمى رسانند و از دير آمدن جوجه، مأيوس از آن نمى شوند، هر چند نوبت اوّل تولّد باشد .

و بعد از آنكه جوجه را بيرون آوردند، چون پارچه گوشتى است و مو بر اعضاى آن نروييده و تاب مباشرت هوا ندارد ، والدين بر سبيل تناوب او را در تحت جناح خود از حرّ و برد محافظت مى كنند تا آنكه مدبّر حكيم او را به خلعت شَعر مخلّع گرداند، آنگاه هر دو به طلب غذا مى روند ، هم از براى خود وهم از براى جوجهاى خود ، پس يك يك از غذايى كه در چينه دان ايشان استقرار يافته و با رطوبات آميخته شده و قدرى از صلابتى كه داشته كم شده و نرم گرديده ، برمى گردانند و اوّلاً منقار جوجه را به دهان گرفته، بادى به معده ورودهاى او مى دمند تا چون عصبا نيست تمدّد كند ووا شود و غذا در آن ، حركت تواند كرد ، پس غذا را از كنار دهان به دهان او

ص: 269

مى كنند ، چنانكه مكرّر مشاهده شده و اگر از كنار ، پيشتر آورند از اطراف منقار مى ريزد و به حلق جوجه نمى رسد و چون بزرگ شد و پر و بال به كمال رسيد ، پريدن به او تعليم مى دهند ، به اين طريق كه غذا به او نمى دهند تا او مُلجأ به طلب ايشان شود و آهسته آهسته پريدن گيرد و چون به پرواز آمد ، ديگر او را به حال خود وا مى گذارند و به خودشان عادت نمى دهند تا ايشان را از توالد بازندارد .

و دجاجه تا جوجهاى او صغيرند و در تحصيل غذا عاجزند ، همراه خود مى گرداند و چون به دانه برخورد صفيرى مى كند و جوجه ها را به آن مى خواند و خود نمى خورد و چون به كمال رسيدند و به طلب غذا مى توانند سعى كرد، چون به نزديك مادر آيند به ضرب منقار از خود دور مى كند و نمى گذارد كه به او عادت كنند و با او سهيم و شريك شوند و از طلب غذا باز ايستند .

اگر كسى را چشم عبرت گشوده شود ، يقين مى داند كه اين حركات مذكوره مثل حركت جسم ثقيلى نيست كه از بلندى ساقط شود، هر چند در حدّ ذاتش صاحب اراده باشد ، چون حركت انسان كه از پشت بام ساقط شود و به زمين افتد و مثل بادى كه در خيك سربسته محبوس سازند وخيك را در قعر آب برده سر آن را گشانيد، آن باد به بالا حركت كند و همچنين مثل حركت نيست كه آن را به جبر بالا كشند، هر چند فى حدّ ذاته صاحب اراده باشد، مثل انسانى كه او را به حلق كشند ، بلكه حركتيست از روى شعور و خواهش ، امّا آن خواهش بر حسب تدبير حكيم عليم است و قلوب ايشان مجبولند بر آن و نسبت خيالى و تصوّرى از ذات ايشان منبعث مى شود ؛ ذلك تقدير العزيز الحكيم .

پس قلوب ايشان به عقلى كه اللّه تعالى در آن وديعه گذاشته ، تدبيرات مى كنند و هر چه در كار هر قلبى در كارست به آن ملهم مى شود، پس جميع به وحى و الهام ربّ العالمين است .

در پس آينه طوطى صفتم داشته اند *** هر چه استاد ازل گفت بگو مى گويم

ص: 270

و امر به طريق تفويض نيست چنانكه بطريق جبر نيست . اين است حقيقت حركات تسخيريّه كه از حيثيّتى اراديست و از حيثيّتى الزامى .

كلّ ما يصدر من كلٍّ فهو على وفق مشيّة المدبّر الحكيم ، لا يخالف في أمره ، ولا يجاوز المحتوم من تدبيره؛ «جبر نبود معنى جباريست»، فسبحان الذي بيده ملكوت كلّ شيء .

و از حركات تسخيريّه ، حركات نحل است ؛ قال اللّه تعالى : «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِى مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِى مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(1) .

انتهى ما أخذنا من شرح كتاب الإهليلجة للصادق عليه السلام .

والظاهر أنّ الاضطرار الذي في كلام الإمام عليه السلام هو التسخير بالمعنى الذي فسّرناه، كما لا يخفى على من له طبعٌ سليم وعقلٌ مستقيم .

قوله : (فَإنْ كانا يَقْدِرانِ) إلى آخره .[ح 1 / 215]

في التوحيد : «فإن كانا يقدران على أن يذهبا ولا يرجعا ، فلِمَ يرجعان؟» .(2)

في حواشي السيّد الجليل الرفيع :

تنبيه على اضطرارهما في الرجوع والانضباط بأنّه إن كانا يقدران على أن يذهبا عند الرجوع ، فلِمَ يرجعان من غير تخلّف ؟ وإن كانا غير مضطرّين في الانضباط ، فلِمَ لا يختلف الحركة ليصير الليل - أي ما يكون ليلاً عند الاتّساق - كلُّه أو بعضه نهارا ، والنهار أيضا ليلاً ؟(3)

قوله : (وإنْ كانا غيرَ مُضْطرَّيْنِ) .[ح 1 / 215 [

أي لم يكن أعمالهما حسب أعمال مدبّرٍ حكيم ، لاحظ ملاءمتها لجميع أجزاء العالم وأنت ترى أنّهما يذهبان ويرجعان ، والحركة الطبيعيّة لا ترجع إلى ما ذهب منه ، .

ص: 271


1- النحل (16) : 68 - 69 .
2- التوحيد ، ص 293 ، ح 4 .
3- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 240 .

فإذن كان حركتهما حركةَ مريدٍ عابثٍ غير متروٍّ ، كالأطفال والمجانين يفعلون الأفاعيل الغير المنتظمة لدواعٍ وهْميّة وخياليّة ، يبنون بناءً على التراب من الطين والحشائش والأخشاب ، وإذا لم يكن بناء بنائهم على الرويّة والغرض الصحيح يهدمونه بأضعف هاجس ، فلأيّ سبب كان هذا النظام البديع والبنيان المنيع ، ودام في هذه المدّة المديدة غير متغيّر ولا متبدّل ؟

وكذا الكلام فيما يذهبون إليه ، ويظنّون أنّه الدهر ليس ما ينسبون إليه من الحركات طبيعيّةً لتفنّنها ، فإن لوحظ فيها التدبير ونظام العالم ، فالذي يدبّر هذا التدبيرَ الذي ينبئ عن كمال القدرة والحكمة ، هو الذي نقول به ونخضع له، وهم سمّوه دهرا ، وإن لم يلاحظ فهي كحركات المجانين والأطفال ، فَلِمَ وقعت أجزاء العالم على ما ينبغي ، مثل أنّ السماء مرفوعة والأرض موضوعة ؟ لِمَ لا تسقط السماء على الأرض ؟ لِمَ لاتنحدر الأرض فوق طباقها ، فلا تتماسكان ولا يتماسك من عليها ؟

قال مولانا الصادق عليه السلام في توحيد المفضّل في منفعة وضع الأرض :

«فكِّر يا مفضّل فيما خلق اللّه - عزّوجلّ - عليه هذه الجواهرَ الأربعة ليتّسع ما يحتاج إليه منها ؛ فمن ذلك سعة هذه الأرض وامتدادها ، فلولا ذلك كيف كانت تتّسع لمساكن الناس ومزارعهم ومراعيهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم والعقاقير العظيمة والمعادن الجسيمة غناؤها ؟ ولعلّ من ينكر هذه الفلوات الخاوية والقفار الموحشة فيقول : ما المنفعة فيها ، فهي مأوى هذه الوحوش ومجالها ومرعاها ؟ ثمّ فيها بعدُ متنفّسٌ ومضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم ، فكم بيداء ، وكم فدفد حالت قصورا وجنانا بانتقال الناس إليها وحلولهم فيها ، ولولا سعة الأرض وفسحتها لكان الناس كمن هو في حصارٍ ضيّق لايجد منه مندوحةً عن وطنه إذا أحزنه أمر يضطرّه إلى الانتقال عنه .

ثمّ فكِّر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبةً راكنةً ، فيكون موطنا مستقرّا للأشياء ، فيتمكّن الناس من السعي عليها في مآربهم ، والجلوس عليها

ص: 272

لراحتهم ، والنوم لهدؤهم ، والإتقان لأعمالهم ؛ فإنّها لو كانت رجراجةً منكفئةً لم يكونوا يستطيعون أن يتقنوا البناء والنجارة والصناعة وما أشبه ذلك ، بل كانوا لا يتهنّأون بالعيش والأرض ترتجّ من تحتهم ، واعتبر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل على قلّة مكثها حتّى يصيروا إلى ترك منازلهم والهرب عنها» .(1)

وروى الصدوق في كتاب العيون عن أبي محمّد عليه السلام أنّه قال في تفسير قوله تعالى : «الَّذِى جَعَلَ لَكُمْ الاْءَرْضَ فِرَاشا»(2) الآية : «جعلها ملائمةً لطبائعكم ، موافقةً لأجسادكم؛ لم يجعلها شديدةَ الحمّى فتحرقكم ، ولا شديدةَ البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدةَ النتن فتعطبكم ، ولا شديدةَ اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في حرثكم وأبنيتكم ودفن موتاكم ، ولكنّه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به ، وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم ، وجعل فيها من اللين ما تنقاد به في حرثكم وقبوركم وكثير من منافعكم ، فكذلك جعل الأرض فراشا لكم .

ثمّ قال : «وَالسَّمَاءَ بِنَاءً»يعني سقفا من فوقكم محفوظا ، يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم .

ثمّ قال : «وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً» يعني المطر يُنزله من علا ليبلغ قلل جبالكم ، وتلالَكم وهضابكم وأوهادكم ، ثمّ فرّقه رذاذا ووابلاً وهطلاً لتنشفه أرضكم ، ولم يجعل ذلك المطر نازلاً عليكم قطعةً واحدةً، فتفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم .

ثمّ قال : «فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقا لَكُمْ» يعني ما يخرجه من الأرض رزقكم «فَلاَ تَجْعَلُوا للّه ِِ أَندَادا»أشباها وأمثالاً من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شيء «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»(3) أنّها لا تقدر على شيءٍ من هذه النِّعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربّكم» .(4) .

ص: 273


1- توحيد المفضّل ، ص 142 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 121 .
2- البقرة (2) : 22 .
3- البقرة (2) : 22 .
4- عيون أخبار الرضا ، ج 1 ، ص 137 ، ح 36 .

قوله : (إنْ كانَ الدَّهْرُ يَذْهَبُ بِهِمْ) .[ح 1 / 215]

ضمير «بهم» إمّا إلى الناس، أو الأعمّ على سبيل التغليب ، و«يذهب بهم» ناظر إلى قوله تعالى في حكاية الزنادقة: «وَقَالُوا مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ »(1) .

وقوله عليه السلام : (لِمَ لا يَرُدُّهُمْ).[ح 1 / 215]

المقصود : إن عنيتم بالدهر الذي تذهبون إليه مَن كان صاحبَ قدرة وتدبير على أن ينظّم اُمور العالم النظمَ الذي حيّر اُولي الألباب ؛ لحسن إتقانها وإحكامها ، فقد أقررتم بما نقول من الصانع المدبّر الحكيم ، وسمّيتموه باسم مخلوق ضعيف من مخلوقاته ، وإن عنيتم هذا الضعيف الذي لا يقدر أن يمسك نفسه في أقلّ من ساعة ، ولا يزال في التجدّد والتصرّم ، فليس له فعل يبتني على علم وتدبير ، فليس الذهاب بهم أولى به من ردّهم، ولا ردّهم أولى به من الذهاب بهم ، ولزم من ذلك أن لا يصدر منه واحد منهما ؛ لامتناع الترجّح بلا مرجّح ، وإن كان بإعمال غيره إيّاه وهو المسلّط عليه ، فالمُذهب والرادّ ، والمُحيي والمميت ، والمدبِّر والمقدِّر ذلك لا هذا . از آن كمترند كه با حشيش نام هستى برند .

قوله : (القومُ) .[ح 1 / 215]

المراد بالقوم على نحو ضمير «بهم» إمّا الناس، أو الأعمّ على سبيل التغليب ، ويشهد للثاني قوله عليه السلام عقيبَه : «لِمَ السماء مرفوعة؟» إلى آخره .

قوله : (مُضْطَرّونَ) .[ح 1 / 215]

يعني بالاضطرار التسخيريّ لا القسريّ ، والمسخِّر هو التدبير الكلّي والأزلي ، واعتبر ذلك بالدجاجة وجلوسها على البيض ، وتحمّل الجوع والعطش وعدم الحركة في طلب الغذاء والماء كما كانت قبل ذلك مخافةَ أن تبرد البيض عمّا حدث فيها من الحرارة تحت جناحها فتفسد ، ثمّ إذا انقابت البيضات وخرجت منها الفراريخ حافَظَها .

ص: 274


1- الجاثية (45) : 24 .

تحت جناحيها ، وإذا هجمت على حبّة حرمها نفسَها، ولم تلتقط وطلبت الفراريخ، وولّتهنّ عليها إلى أن بلغن حدّا استغنين عن المربّي ، فإذا جمعن عليها طردتهنّ لئلاّ يعتدن بترك الطلب ، مع أنّها لم تتعلّم ذلك ولم تجرّب ، وليس ذلك من مقتضى ذاتها حتّى يكون طبيعيّا لها ، ولا لها قوّة عقلانيّة حتّى يكون بترجيح منها وتروٍّ ، ولا الفعل فعلَ عابثٍ كما يصدر من الأطفال والمجانين ، بل له غاية لها مدخل عظيم في نظام العالم ، فهل يخفى على ذي لبّ أنّ هذه الأفاعيلَ إنّما هي بتدبير حكيمٍ عليم استعمل هذه الدجاجةَ واضطرّها اضطرارا تسخيريّا غير قسريّ عليها ؛ لما فيها من مصلحة العالم .

ولعمري لو انفتحت عين عبرتك لوجدتَ نسبة كلّ جزء من أجزاء النظام الأعلى إليه هذه النسبةَ .

روى الصدوق - طاب ثراه - في كتاب التوحيد أنّه سُئل الصادق عليه السلام : ما الدليل على أنّ الصانع واحد؟ فقال : «اتّصال التدبير وتمام الصنع» .(1)

ومن هذه المشكاة اقتبس من قال (نظم) :

از محيط فلك و اوج سماك *** تا حضيض سمك ومركز خاك

بين مرتّب شده اجرام كه هست *** وين همه جنبش و آرام كه هست

شكل و ترتيب فلك بر يك حال *** دور سير همه بر يك منوال

يكى از صورت خود ناگشته *** يكى از گردش خود نگذشته

متّفق وضع دواير باهم *** منتظم سلك عناصر باهم

همه بر يك صفت و يك آيين *** هيچ زيرين نشده بالائين

سال و مه روز و شب و شام و سحر *** يك بيك گرم رود تيز گذر

تا بآمد شد خود ره گروند *** بر يكى قاعده آيند و روند

چار فصلى كه بهر سال درست *** بهمين رسم وروش ره سپرست

اين مواليد سه گانه كه جهان *** پر از آنهاست چه پيدا چه نهان

نوع نوعش نه كم آيد نه فزون *** از نهانخانه ابداع برون .

ص: 275


1- التوحيد ، ص 250 ، ح 2 .

كارگاهى بچنين نظم ونسق *** كار يك كار گزاراست الحق

***

وفى كلّ شيء له آية *** تدلّ على أنّه واحد

***

هر گياهى كه از زمين رويد *** وحده لا شريك له گويد

وأذكر هاهنا ما أفاد المحقّق الفاضل صاحب بحارالأنوار في شرح هذا الحديث ، قال مدّ ظلّه :

قوله عليه السلام : «فمن الملك» لعلّه عليه السلام سلك أوّلاً في الاحتجاج عليه مسلكَ الجدل؛ لبنائه على الأمر المشهور عند الناس أنّ الاسم مطابق لمعناه ، ويحتمل أن يكون على سبيل المطايبة والمزاح؛ لبيان عجزه عن فهم الواضحات ، وردّ الجواب في أمثال تلك المطايبات ، أو يكون منبّها على ما ارتكز في العقول من الإذعان بوجود الصانع وإن أنكروا ظاهرا لكفرهم وعنادهم .

ثمّ ابتدأ عليه السلام بإزالة إنكار الخصم وإخراجه منه إلى الشكّ لتُعدَّ(1) نفسه لقبول الحقّ ، فأزال إنكاره بأنّه غير عالم [بما] تحت الأرض ، وليس له سبيلٌ إلى الجزم بأن ليس تحتها شيء ، ثمّ زاده بيانا بأنّ السماء التي لم يصعدها كيف له الجزم والمعرفة بما فيها وما ليس فيها، وكذا المشرق والمغرب ؟ فلمّا عرف قبح إنكاره وتنزّل عنه، وأقرّ بالشكّ بقوله : ولعلّ ذلك ، أخذ عليه السلام في هدايته وقال : ليس للشاكّ دليل، وللجاهل حجّة ، فليس لك إلاّ طلب الدليل ، فاستمع وتفهّم ؛ فإنّا لا نشكّ فيه أبدا .

والمراد بولوج الشمس والقمر غروبهما ، أو دخولهما بالحركات الخاصّة في بروجها ، وبولوج الليل والنهار دخول تمام كلّ منهما في الآخَر ، ودخول بعض من كلّ منهما في الآخر بحسب الفصول .

وحاصل الاستدلال أنّ لهذه الحركات انضباطا واتّساقا ، واختلافا وتركّبا ؛ فالانضباط يدلّ على عدم كونها إراديّة ، كما هو المشاهد من أحوال ذوى الإرادات من الممكنات ، والاختلاف يدلّ على عدم كونها طبيعيّة ؛ فإنّ الطبيعة العادمة للشعور لا تختلف .

ص: 276


1- في المصدر : «لتستعدّ» .

مقتضياتُها ، كما نشاهد من حركات العناصر ، كما قالوا : إنّ الطبيعة الواحدة لا تقتضي التوجّه إلى جهة والانصرافَ عنه .

ويمكن أن يُقال : حاصل الدليل راجع إلى ما يحكم به الوجدان من أنّ مثل تلك الأفعال المحكمة المتقنة الجارية على قانون الحكمة لا يصدر عن الدهر والطبائع العادمة للشعور والإرادة ، وإلى هذا يرجع قوله عليه السلام : «إن كان الدهر يذهب بهم» أي الدهر العديم الشعور كيف يصدر عنه الذهاب الموافق للحكمة ، ولا يصدر عنه بدلَه الرجوعُ ؟

أو المراد أنّه لِمَ يقتضي طبعُه ذهاب شيء ، ولا يقتضي ردَّه وبالعكس ، بناءً على أنّ مقتضيات الطبائع تابعة لتأثير الفاعل القادر القاهر ؟

ويمكن أن يكون المراد بالذهاب بهم إعدامَهم ، وبردّهم إيجادَهم ، والمراد بالدهر الطبيعةَ كما هو ظاهر كلام أكثر الدهريّة ؛ أي نسبة الوجود والعدم إلى الطبائع الإمكانيّة على السواء ، فإن كان الشيء يوجد بطبعه ، فلِمَ لا يعدم ؟ فترجّح أحدهما ترجّح بلا مرجّح يحكم العقل باستحالته ، ويجري جميع تلك الاحتمالات في قوله عليه السلام : «لِمَ السماء مرفوعة» إلى آخر كلامه .

وقوله عليه السلام : «لِمَ لا يسقط السماء على الأرض» أي لا يتحرّك بالحركة المستقيمة حتّى تقع على الأرض .

وقوله : «ولِمَ لا تنحدر الأرض فوق طباقها» أي لا تتحرّك من جهة التحت حتّى تقع على طباق(1) السماء .

أو المراد الحركة الدوريّة فيغرق الناس في الماء ، فيكون ضمير «طباقها» راجعا إلى الأرض . وطباق الأرض : أعلاها ؛ أي تنحدر الأرض بحيث تصير فوق ما علا منها الآنَ .

قوله عليه السلام : «فلا يتماسكان» أي في صورة السقوط والانحدار ، أو المراد فيظهر أنّه لا يمكنها التماسك بأنفسها ، بل لابدّ من ماسك يمسكها .(2)

أقول : تفصيل القول في شرح تلك الأخبار الغامضة يقتضي مقاما آخَرَ ، وإنّما نشير في .

ص: 277


1- في المصدر : «أطباق» . وطباق الأرض : ما علاها . الصحاح ، ج 4 ، ص 1512 (طبق) .
2- في المصدر : «لايمكنهما التمسّك بأنفسها ، بل لابدّ من ماسك يمسكمهما» .

هذا الكتاب إلى ما لعلّه تبتصر به اُولوا الألباب ، وسنبسط الكلام في كتاب مرآة العقول إن شاء اللّه تعالى .(1)

انتهى كلام الفاضل المحقّق صاحب البحار .

قوله : (مَنْ أرَاكَ قُدْرَتَهُ فِي نَفْسِكَ نُشُوءَكَ وَلَمْ تَكُنْ) إلى آخره .[ح 2 / 216]

قد بيّنّا في أوّل كتاب العقل في تفسير قوله تعالى : «وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ»(2) أنّ العلم الذي هو مصحّح الإضافة إلى المعرفة إنّما هو العلم بوجه ما ، وهو في الآية الحاصل لكلّ عاقل ، وذلك من وجهين :

أحدهما : أنّه لا يزال يرى نفسه غرضا لعروض حال بعد حال ملائمةً وغير ملائمة ، ولا يستطيع الثبات والقرار والامتناع ممّا يعتور عليه من الحوادث يوما فيوما ، بل ساعةً فساعة . والعقل مجبول على الحكم بأنّ الفعل لابدّ له من فاعل ، كما نبّه عليه الصادق عليه السلام في الحديث الأوّل حيث قال : «وجود الأفاعيل دلّ على أنّ صانعا صنعها» .(3) وقال أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة : «وهل يكون بناءٌ من غير بان ، أو جنايةٌ من غير جان؟» .(4)

فالعلم الجبلّي الاضطراري حاصل لكلّ أحد بأنّ لتلك الأحوال موردا ، فيتذلّل له تذلّلاً طبيعيّا تسخيريّا ، وإن تجبّر وتعظّم فإنّما ذلك تكلّف منه لمصلحة الوقت ، والقلب خاضع ذليل ، اللّهمّ إلاّ أن تأخذه نشأة الترف والطرب ، أو يخطف بصره سنا برق الغضب ، على أنّه مهما اتّفق ذلك لم يمتدّ بمقتضى الحكمة أكثرَ من زمان يسير حتّى يفيق ويتنبّه بتذلّله التسخيري لربّه المليك القادر القاهر ، ولو لم يكن إلاّ الاضطرار إلى الخلاء في كلّ يوم ، واستشمام الرائحة الخبيثة المنتنة لكفى .

وإلى هذا الوجه من العلم أشار عليه السلام في هذا الحديث ، واعتبر بقول ابن أبي العوجاء واعترافه في آخر الخبر بأنّه عليه السلام : (ما زالَ يُعَدِّدُ عَلَيَّ قُدرتَهُ التي في نفسي التي لا أدْفَعُها حتّى ظننتُ أنّه سَيَظْهَرُ فيما بيني وبينَه) . .

ص: 278


1- بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 52 .
2- البقرة (2) : 163 ، ومواضع اُخر .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 80 ، ح 5 .
4- نهج البلاغة ، ص 271 ، الخطبة 185 .

والوجه الآخر أنّه رأى آثار العمد والتدبير ، والحكمة والتقدير ، الدالّةَ على الصانع القدير ، فاشيةً في أقرب الأشياء إليه، وهو نفسه كما نبّه عليه في قوله تعالى : «وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ»(1) ، فأوجب له علما اضطراريّا وإن كان استدلاليّا ، كما هو الشأن في النتائج الفطريّة التي قياساتها معها ، فلا يستطيع الجحود وادّعاء الشكّ إلاّ على وجه الإلجاء والعنود ، وسيجيء إتمام الكلام في هذا المقام في شرح حديث : «اعرفوا اللّه باللّه» .(2)

وإلى التذلّل التسخيري والعلم الاضطراري أشار أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة حيث قال : «لم يُطْلِعِ العقولَ على تحديدِ صفتِه، ولم يَحْجُبْها عن واجبِ معرفته ، فهو الذي شهد(3) له أعلامُ الوجودِ على إقرارِ قلبِ ذي الجُحُودِ».(4) وقال تعالى : «جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْما»(5) ، وحديث تذلّل القلب له تعالى عند كسر السفينة وانقطاع الرجاء عن الخلق بالكلّيّة من شواهد هذا الباب .

فظهر أنّ كلّ من استشمّ رائحة العقل عالم بأنّ في الوجود من بيده زمام أمره علما اضطراريّا ، ومتذلّل له تذلّلاً طبيعيّا تسخيريّا ، وإن غفل عن ذلك أحيانا ولم يشعر به ، فإنّما هو بسبب التوغّل في الملاهي ، وبلوغ نشأة الغفلة حدَّ الكمال والتناهي .

نعم ، هذا العلم يكون خاملاً لجهلين :

أحدهما : الجهل بأسمائه الحسنى والصفات اللأئقة به .

والثاني : الجهل بأنّه كما هو ربّه وإلهه فهل هو إله الكلّ وربّ العالمين ؟ فالحمدُ للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه .

وفي حاشية السيّد الجليل الرفيع رحمه الله :

هذا الدليل والأدلّة التي ستذكر في الأحاديث الآتية كلّها مبنيّة على مقدّمات مرتكزة في العقول السليمة ، لا يُشكّ فيها إلاّ عند الاشتباه الناشئ من ورود الشُّبه التي لا يُقدَر .

ص: 279


1- الذاريات (51) : 21 .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 85 ، باب أنّه لايعرف إلاّ به ، ح 1 .
3- في المصدر : «تشهد» .
4- نهج البلاغة ، ص 87 ، الخطبة 49 .
5- النمل (27) : 14 .

على حلّها ، ولقد وقع الاحتياج إليها في زماننا ؛ لشيوع الشُّبه وكثرة ذكرها من المتأخِّرين .

المقدّمة الاُولى : أنّ ما يخرج من العدم إلى الوجود لا يمكن أن يخرج بنفسه ، بل يحتاج إلى موجد مباين له ؛ لأنّ ما لا يكون موجودا فيصير موجودا لايمكن أن يصير موجودا ويحصل له الوجود إلاّ بمحصّل لوجوده وسببٍ لاتّصافه به ، ولا يجوز أن يكون ذلك المحصّل للوجود مهيّتَه الخاليةَ عن الوجود ؛ لأنّ إعطاء الوجود وتحصيله من غير الموجود لا يتصوّر ، فلابدّ أن يكون الموجد له والعلّة المطلقة لوجوده موجودا مباينا له .

وقد استعملها(1) أبو عبداللّه عليه السلام كما رواه الصدوق بإسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال أبو شاكر الديصاني لأبي عبداللّه عليه السلام : ما الدليل على أنّ لك صانعا؟ فقال : وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين : إمّا أن أكون صنعتها أنا(2) ، فلا أخلو من أحد معنيين : إمّا أن أكون صنعتها وكانت موجودة ، أو صنعتها وكانت معدومة ، فإن كنت صنعتها وكانت موجودة ، فقد استغنيت بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة ، فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يحدث شيئا ؛ فقد ثبت المعنى الثالث أنّ لي صانعا وهو اللّه ربّ العالمين» .(3)

المقدّمة الثانية : أنّ ما يوجد فيه شيئان - ولو بالتحليل - لابدّ لضمّهما من موجبٍ ، أحدهما كان أو ثالثا .

وبيانها أنّ ما ينحلّ إلى الشيئين في العقل ، ويحكم العقل بانحلاله إليهما حكما صادقا - سواء كان الانحلال إلى ذاتيّين أو إلى الذاتي والعرضي انحلالاً لا يخلو فيه كلّ منهما في مرتبة عن الاُخرى - فللإيجاد أو الخلط والمقارنة فيه لا محالة سبب ، وسببه إمّا أحدهما أو الثالث .

ثمّ لا يجوز في الوجود المطلق - الذي لا يكون ذاتيّا للموجود في الخارج ؛ لكونه من المنتزعات العقليّة - أن يكون سببا لهذا الانضمام الذي هو الموجوديّة ؛ فإنّ مقتضى كون الشيء موجودا - أي كونه بحيث يصحّ انتزاع الوجود منه - لا يكون إلاّ ما هو موجود ، فضلاً أن يكون ما لا يتصوّر وجوده ، ولا يجوز أن يكون سببه المهيّةَ الخالية عن الوجود .

ص: 280


1- الضمير راجع إلى المقدّمة الاُولى.
2- في التوحيد : + «أو صنعها غيرى ؛ فإن كنت صنعتها أنا».
3- التوحيد ، ص 290 ، ح 10 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 51 ، ح 23 .

- أي المأخوذ بحيث لا يصحّ أن ينتزع منها الوجود لهذا الانضمام ولصحّة الانتزاع التي هي كونه موجودا - لأنّ المعدوم لا يصحّ إيجاده لشيء فضلاً عن أن يوجد ذاتَه بديهةً ، فالسبب في صحّة انتزاع الوجود وانضمامه إلى المهيّة - التي يصحّ خلوّها في مرتبة اللحاظ العقلي عن الوجود - لا يكون إلاّ موجودا آخَرَ يفيد وجود هذا الموجود .

المقدّمة الثالثة : أنّ الموجودات التي يحتاج كلّ واحدٍ منها إلى موجِد مباين له ، يحتاج مجموعها إلى الموجب المباين له ، وحكم الواحد والجملة لا يختلف فيه ؛ لأنّ مجموعها مَهيّات يصحّ عليها جملةً أن تكون خالية عن الوجود ؛ فإنّه كما يصحّ تحليل كلّ واحد إلى مهيّة ووجود منتزع عنها - وامتيازُهما عند العقل في ملاحظتهما امتيازا لا يكون معه وفي مرتبته خلط بينهما ، ولذلك يحكم بكونه محتاجا إلى سببٍ مباين له موجودٍ - كذلك يصحّ على الجملة والمجموع الغير المتناهية المؤلّفة من تلك الآحاد ما يصحّ على كلّ واحدٍ منهما ؛ فإنّ العقل لايفرّق في هذا الحكم بين الجملة المتناهية والجملة الغير المتناهية ، كما لايفرّق فيه بين الجملة المتناهية وكلّ واحد .

وإذ قد تمهّدت المقدّمات ، فأقول : خلاصة الاستدلال أنّه لا شكّ في حركات المتحرّكاتٍ من العلويّات حركات ليست طبيعيّةً للمتحرّك ؛ للانصراف عمّا يتحرّك إليه ، ولا إراديّةً للمتحرّك ؛ لانضباطها ودوامها وانحفاظها الدالّة على عدم اختلاف أحوال المتحرّك بالحركة من الاستنشاط أو الكلال أو حدوث ميل وغيرها التي يتحدّس منها بكونها غير إراديّة للمتحرّك ، وكلّما وجدت الحركة ، كان المحرِّك لها موجودا بحكم المقدّمة الاُولى والثانية ، وإذ ليست إراديّةً للمتحرّك ، فله محرِّك يضطرّه إلى الحركة ، والقاهر الذي اضطرّه إلى الحركة أقوى منه وأحكم ؛ لأنّ الضعيف لا يمكنه قهر القويّ ، فلا يكون حالاًّ في المتحرِّك ، محتاجا إليه ، وأكبر من أن يحاط بالمتحرّك أو تحصر فيه ، أو أن يتّصف بمثل صفته الاضطراريّة ، ولابدّ أن ينتهي إلى محرّك لا يكون جسما ؛ لأنّ الجسم لا يحرّك الجسم إلاّ بالمجاورة والحركة ، أو إحداث محرّك في المتحرّك(1) ، فيكون التحريك بالحركة ، والكلام في حركته كالكلام في حركة الاُولى ، أو ينتهي ؛ لضرورة انتهاء الأجسام المتحرِّكة ، ولكون جميعها محتاجةً إلى خارج بحكم المقدّمة .

ص: 281


1- في المصدر : + «وإذ عرفت أنّ المحرّك ليس في المتحرّك» .

الثالثة ، فلابدّ من محرِّك لا يكون جسما ، قاهرٍ للمتحرّك في حركته ، فإن لم يكن له مبدأ فهو المبدأ الأوّل ، وإن كان له مبدأ ، فلابدّ من مبدأ أوّلَ بحكم المقدّمة الثالثة .

وإنّما استدلّ من الحركة لضرورة احتياجها إلى المحرِّك ؛ لضرورة خروجها من العدم إلى الوجود دون الأجسام ، ولم يستدلّ من الكائنات الفاسدات ؛ لأنّه ما يتوهّم أن لا مبدأ له هي العلويّات دون السفليّات ، ولأنّ الغالب القاهر على العلويّات أحقّ بالغلبة على السفليّات الظاهر تأثّرها من العلويّات دون العكس .

انتهى كلام السيّد قدس سره .(1)

قوله : (يَقْدِرُ أنْ يُدْخِلَ الدُّنْيا [كُلَّها البَيْضَةَ]).[ح 4 / 219]

مخترع هذه المسألة ومبتدعها رأس الضلال، ورئيسهم إبليس الخبيث .

روى الصدوق - طاب ثراه - في باب القدر من كتاب التوحيد عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال : «إنّ إبليس قال لعيسى بن مريم عليه السلام : يقدر ربّك على أن يُدخل الأرض بيضةً لا تصغر الأرض ولا تكبر البيضة؟ فقال عيسى عليه السلام : ويلك إنّ اللّه لا يوصف بعجز ، ومَن أقدر ممّن يلطف الأرض ويعظم البيضة ؟».(2)

وروي أيضا عنه عليه السلام : «قال لأمير المؤمنين عليه السلام : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا وتكبر البيضة؟ قال : إنّ اللّه تعالى لا يُنسب إلى العجز ، والذي سألتني لا يكون» .(3)

وأيضا عنه عليه السلام قال : «جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : أيقدر اللّه أن يُدخل الأرض في بيضة ، ولا تصغر الأرض ولا تكبر البيضة؟ فقال له : ويلك إنّ اللّه لا يوصف بالعجز ، ومن أقدر ممّن يلطف الأرض ويعظم البيضة؟» .(4)

وروى ابن أبي نصر، قال : جاء رجلٌ إلى الرضا عليه السلام ، فقال : هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ .

ص: 282


1- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 244 - 247 .
2- التوحيد ، ص 127 ، ح 5 .
3- التوحيد ، ص 130 ، ح 9 .
4- التوحيد ، ص 130 ، ح 10 .

قال : «نعم ، وفي أصغرَ من البيضة ؛ قد جعلها في عينك وهي أقلّ من البيضة ؛ لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما ، ولو شاء لأعماك عنها» .(1)

أقول : ليتفطّن اللبيب لما روعي من النكتة في قول أمير المؤمنين عليه السلام : «والذي سألتني لا يكون» حيث لم يقل : لا يفعله اللّه ؛ بل أسند عدم الكون إلى ذات المسؤول عنه . وفي قوله : «ومن أقدر ممّن يلطف الأرض ويعظم البيضة؟» فتدبّر .

قوله : (إنَّهُما اثْنَانِ) .[ح 5 / 220]

هذا في الظاهر حَمْل الشيء على نفسه ، ولعلّ توجيهه أنّ الذي تخيّلنا متّصفا بصفة الاثنينيّة اثنان في الواقع أيضا .

قوله : (مِنْ أنْ يَكونا قَدِيمَيْنِ قَوِيَّيْنِ) إلى آخره .[ح 5 / 220]

لم يُنقل أنّ أحدا من أصحاب النِّحَل ذهب إلى أنّ سلسلة العلل والمعلولات لا إلى نهاية في طرف الماضي ، ولا أنّ المبدأ وُجد بالترجيح أو الأولويّة الذاتيّة ، ووجه ذلك أنّ الشيطان وإن كان شديد الحرص على أن يغوي الإنسان كلَّ الإغواء ، ويدخلَه في الجهالات والضلالات ، إلاّ أنّه لا يستطيع أن يشكّك في البديهيّات ، وبطلانُ الترجيح والأولويّة والذهاب إلى غير النهاية من البديهيّات ، والدلائلُ المسطورة في الكتب على سبيل الاستظهار ومن باب إقامة البرهان على المطالب الهندسيّة ، الذي في غاية الظهور ، ولأجل هذا لم يتعرّض الإمام عليه السلام لإثبات المبدإ القديم ، بل جعله من المسلّمات ، وأبطل تكثّره ، فاستوفى شقوق القديمين باعتبار القوّة .

والمراد بالقوّة الاستطاعة بنفسه على الإطلاق ؛ أي بلا مدخليّة الغير ، سواء كان بالمشاركة، أو بتفويض الأمر إليه وعدم الممانعة ، لا مجرّد القدرة ؛ وذلك لأنّ نسبة القدرة إلى الفعل والترك على السواء ، فلا يتحقّق الفعل بمجرّدها ، بل لابدّ من أمرٍ آخَرَ وجوديٍّ ينضمّ إليه حتّى يتعلّق به ، ورفع الموانع وتهيّؤ الآلات وسائر مايحتاج إليها ممّا يجامع الفعل والترك مأخوذ مع القدرة ، والاستطاعةُ هي القدرة المستجمعة .

ص: 283


1- التوحيد ، ص 130 ، ح 11 .

لشرائط التأثير . وسيجيء في باب الاستطاعة زيادة بسط في أحوالها .

ثمّ إنّ متعلّق القدرة(1) في هذا المقام تدبير العالم على النهج الواقع ، لا جزء من الأجزاء حتّى يتصوّر الشركة في تدبير الكلّ بدلالة قوله عليه السلام : «ويتفرّد بالتدبير» .

وإذ قد ظهر معنى القوّة علم أنّ القديمين القويّين من المستحيلات ؛ لأنّ دفع كلّ واحدٍ منهما اللازمَ للقوّة بالمعنى المذكور - وقد أشار عليه السلام إليه بقوله : «فلِمَ لايدفع» إلى آخره - يستلزم دفعَ المغلوب حين هو مغلوب للغالب ، والدفع في صورة التكافؤ غير معقول ، فكيف في صورة المغلوبيّة؟

فكأنّه عليه السلام يقول : إنّ كون القديمين قويّين مستحيل هذا ، وأمّا الضعيفان فإذ كان كلّ منهما فاقدَ الاستطاعة على تدبير العالم ، فيجوز في جليل النظر أن يكونا واقعين ، وكان هذا التدبير منهما معا ؛ إمّا بالمشاركة والمشاورة ، أو بتفويض أحدهما الأمرَ إلى صاحبه، وكفّ الممانعة والمضادّة ، والاحتياج في التدبير غير منافٍ للقِدَم ، وإنّما المنافي الاحتياج في الذات ولوازم الذات ، فلابدّ من التعرّض لإبطال هذا الشقّ ، ولعلّه عليه السلام أخّر ذلك ليدرجه في شقوق قوله فيما بعد : «فإن قلت : إنّهما اثنان» كما سيظهر عند شرحه ، فشقّ الضعيفين مبطل بالقوّة ، وكون أحدهما قويّا والآخر ضعيفا موجب المقصود من أنّ المدبِّر واحد، وما عداه مدبّر بتدبيره عاجز عن المشاركة ؛ لأنّ القويّ دافعه ، فهو عاجز عن المشاركة والمضادّة ، ولذا قال عليه السلام : «العجز الظاهر من الثاني» وإن أراك تزعم أنّ ظهور العجز في الثاني من جهة فرض كونه ضعيفا ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنّ الضعف - كما عرفت من تفسير القويّ - عدمُ الاستطاعة على تدبير العالم ، أي إيجاد كلّ جزء منه في الموضع اللائق به على وجه الصواب والحكمة ، ومن لم يستطع على ذلك بانفراده أمكن أن يكون قد فعل بشركة غيره ، والعجز بمعنى المقهوريّة غير الضعف بالمعنى المذكور ، فلا يمتنع أن يكون التدبير الواقع في العالم، الموجبُ لاتّصال جميع أجزائه بعضِها ببعض من قديمين ضعيفين ، فلا يثبت أنّ المدبّر واحد . .

ص: 284


1- في حاشية النسخة : «القوّة . ل» .

والعجز الذي قال الإمام عليه السلام المغلوبيّةُ والمقهوريّة ، وهو ظاهر في الثاني إذا فرض الأوّل قويّا ؛ لأنّ القويّ - كما عرفت - هو المستطيع بنفسه ، والمستطيع بنفسه على الإطلاق ما كان قاهرا على جميع ما عداه لئلاّ يلزم أن يكون استطاعته بشرط عدم مدخليّة الغير ، فلا يكون قويّا على الإطلاق .

وقوله عليه السلام : «فإن قلت : إنّهما اثنان» أي إن لم تتفطّن بالبيان المذكور لما هو الحقّ، وأصررت على القول بأنّ المبدأ الذي هو متّصف في وهمك بالاُثنوّة اثنان في نفس الأمر ، غاية ما في الباب أن يكونا ضعيفين بمعنى المحتاجين في تدبير العالم إلى المشاركة والمشاورة والمعاونة ، أو عدم المضادّة الممانعة والمستغنيين في أصل ذاتيهما ، فلا يخلو الأمر من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة ، أو مفترقين من كلّ جهة ؛ أي كلّ ما لأحدهما من الذاتيّات والتعيّن اللازم للذات كان للآخر ، أو ليس شيء ممّا لأحدهما للآخر ، بل لكلٍّ ما يخصّ به ، وإنّما انحصر الأمر في الشقّين مطلقا - سواء جوّز جليل النظر أن يكونا قويّين ، أو ضعيفين ، أو أحدهما قويّا والآخر ضعيفا - للزوم التركيب في غيرهما المستلزم للاحتياج إلى الأجزاء المنافي للقدم الذاتي ، لا يتصوّر الشقّ الأوّل لارتفاع الاثنينيّة ، فاعتبارها فيه جمع النقيضين ، والحدس الصائب يحكم بتضادّ أثري مؤثّرين مفترقين من كلّ وجه وتخالفهما ، وعدم حصول الانتظام والاتّساق والتلاؤم والتناسب ، بل بتمانع تأثيريهما المستلزم لعدم صحّة الفعل والتدبير عن واحدٍ منهما .

ونحن لمّا رأينا الخلق منتظما ، والفلك جاريا ، والتدبير واحدا ، والشمس والقمر والليل والنهار كلّها على نهج اقتضاء الصواب والحكمة ، دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد .

وفي توحيد الصدوق طاب ثراه : سُئل الصادق عليه السلام : ما الدليل على أنّ اللّه واحد؟ فقال : «اتّصال التدبير ، وتمام الصنع» .(1) .

ص: 285


1- التوحيد ، ص 250 ، ح 2 .

ولقد أحسن من قال :

كارگاهى بچنين نظم و نسق *** كار يك كارگزارست اَلحق

ولمّا كان المقام مظنّةَ أن يتوهّم الخصم وجود قديمين متّفقين من كلّ جهة حتّى في التعيّن والتشخّص بزعم عدم منافاة بقاء الوحدة الشخصيّة لعروض الاثنينيّة ، كما ذهب إليه بعض فضلاء عصرنا زاعما أنّ الانفصال الخارجي لا يوجب انعدام الصورة الجسميّة للواحد الشخصي وحدوثَ صورتين اُخريين ، بل تفريق الشخص إلى جزءين ، وتبعه على ذلك كثير من تلامذته .

وفي حاشية الجواهر للمحقّق الدواني في قول الشارح : لكنّ البديهة تشهد بأنّ الأطراف باقية إذا قطعنا المخروط بنصفين طولاً من رأسه إلى قاعدته :

فإمّا أن يُقال بانقسام النقطة إلى نقطتين مع بقائهما بالشخص ، أو بصيرورة النقطة الشخصيّة اثنتين قائمتين بمحلّين لا بطريق الانقسام ، بل بكونها هذه وتلك ، أو بانعدام النقطة وحدوث اُخريين . والأوّلان باطلان ، فتعيّن الثالث ، سواء قلنا بانعدام الجسم بالتفريق وحدوث آخَرين ، أو ببقائه موصوفا بالكثرة بعدما كان موصوفا بالوحدة .

وأمّا إذا اُخذ قطعة من المخروط من جهة قاعدته كما فرضه ، وقلنا بأنّ التفريق ليس إعداما ، يلزم انتفاء النقطة ، بل يجوز أن تبقى بعينها قائمةً بذلك المحلّ الذي كان واحدا أوّلاً وصار كثيرا بالتفريق ، سواء جُعل محلّه القريبُ المقدارَ أو الجسم .

فتقرّر أنّ ما استشكله ليس مشكلاً على شيء من المذهبين ، وقد اختار الشارح تبعا للمصنّف بقاء الجسم بعد التفريق ، وحينئذٍ لا يلزم انتفاء النقطة ، فلا يلزم إشكال ، فلا وجه لاستشكاله أصلاً ؛ وقس عليه المكعّب المقطوع .

انتهى كلام الفاضل الدواني .

فظهر أنّ احتمال كون القديمين المفروضين واحدا بالتشخّص ، معروضا للكثرة، وانتظامَ أجزاء العالم لكونها آثار شخص واحد ليس بديهيّ البطلان ، فلأجل هذا قال الإمام عليه السلام : «ثمّ يلزمك إن ادّعيت اثنين» إلى آخره ، أي إن اخترت أنّهما متّفقان من كلّ وجه حتّى في المهيّة والتعيّن بناءً على أنّهما شخص واحد حصل له الاُثنوّة ، فصار

ص: 286

اثنين متّفقين من كلّ جهة ؛ لأنّ حقيقتهما وتعيّنهما كليهما واحد ، وزعمت أنّ الاتّساق والانتظام الواقع باعتبار أنّ الآثار آثار قديمين متّفقين في الحقيقة والتعيّن ، فلا تخالف في الآثار من جهة أن لا تخالف في ذات المؤثّرين لزمك فرجة بينهما حتّى يكونا اثنين ، أي ما انفرج به أحد شطري الشخص عن الآخر ، كما في ماء حوض يصير قطعتين بتخلّل جسم فاصل في البين ، فيكون الفرجة ثالثا لهما قديما معهما ، وكنت تقول : إنّ في الوجود قديمين فحسب ، وليس لزوم خلاف الفرض مخصوصا باختيار قديمين متّفقي الحقيقة ، بل لو اخترت ثلاثةَ قدماءَ كذلك يلزمك أن تكون خمسةً بعين ما ذكر ، وهكذا إلى ما لا نهاية له .

فالقول بالتعدّد مع الاتّفاق من كلّ جهة فُرض ما يوجب خلاف الفرض مطلقا ، فانحصر شقوق القديمين في مفترقين من كلّ جهة ، وائتلافُ أجزاء العالم واتّصال التدبير يدفعه ، فإذن التعدّد باطل رأسا ، والخلق والأمر للواحد الحيّ القيّوم الذي لا إله إلاّ هو؛ «إِنَّ اللّه َ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ»،(1) «فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْ ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون»(2) .

والآن نذكر ما ذكر الفاضل المحقّق السيّد السند الأفضل الأقدم الأمجد السيّد أحمد داماد السيّد الداماد - قدّس اللّه روحهما ونوّر ضريحهما - قال طاب ثراه :

قوله عليه السلام : «لا يخلو قولك» إلى آخره ، لا خفاء في أنّ ما وقع في هذا الخبر يجوز تقريره على ما يصلح أن يكون تفسيرا لقوله تعالى : «وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللّه ِ عَمَّا يَصِفُونَ»(3) ، وذلك يظهر بعد تمهيد مقدّمة[؟؟؟(4)] إمّا في الذات ، وإمّا في الصنع والإيجاد ردّا على الثنويّة ، وإمّا في استحقاق العبوديّة ردّا على مشركي العرب حيث شاركوا أصنامهم في الاستحقاق للعبادة .

فإذا تقرّر هذا فنقول : إنّ قوله عليه السلام : «لا يخلو قولك أنّهما اثنان» إلى قوله : «فإن قلت :ة.

ص: 287


1- فاطر (35) : 41 .
2- يآس (36) : 83 .
3- المؤمنون(23) : 91 .
4- هنا كلمات غير مقروءة.

إنّهما» إلى آخره ، إشارة إلى الدليل على المسلك الأوّل بما تحريره أنّه : لو كان اثنين ، فلا يخلو إمّا أن يكونا مستقلّين بالقدرة والتأثير في جميع ما في حيطة عالم الإمكان ، أو يكونا ضعيفين ، أو يكونَ أحدهما ضعيفا والآخر قويّا ، والأقسام بأسرها باطلة :

أمّا الأوّل ، فلأنّه يستلزم قوّة كلّ منهما ضعفَ الآخَر حيث إنّ مراد أحدهما لمّا وقع بإرادته المستقلّة التي لا تمنعها إرادة الآخر لفرض الاستقال فيها ، فلو أراده الآخر أيضا ، يلزم توارد العلّتين على معلول ، وهو باطل ؛ فتعيّن عدم إرادة الآخر ، فيلزم ضعفه ؛ وبالعكس لو أراد .

وبالجملة ، قوّة كلّ منهما تستلزم ضعف الآخَر ، وما وقع عنه بقوله عليه السلام : «هذا ثاني البراهين وهو أحد الوجوه البرهانيّة فلِمَ لا يدفع» استفهام إنكاري ، أي معلوم أنّه كما في قوله تعالى : «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا» ،(1) يدفع كلّ منهما الآخر عن قوّته ، وإلاّ يلزم ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجّح ، فاستقلال كلّ منهما يستلزم ضعف الآخر ، فكلّ منهما قويّ وضعيف معا ؛ هذا خلفٌ .

وقوله : «فإن قلت» إلى قوله : «ثمّ يلزمك» الخ ، إشارة إلى الدليل على المسلك الثاني بما تقريره : أنّه لو تعدّد فلا يخلو إمّا أن يكون نسبة كلّ من المعلولات إليهما في الصدور على السواء ، أم لا ، وكلاهما باطل :

أمّا الأوّل، فلأنّه على فرض صدوره عنهما لو أرادا ، لزم توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد شخصي ، وعلى فرض صدور بعض عن أحدهما وبعض عن الآخر، ترجيح من دون مرجّح ، وإليه أشار بقوله عليه السلام : أن يكونا متّفقين» .

وأمّا الثاني ، فلأنّ افتراق الفاعلين أحدهما عن الآخر في التأثير فيما إذا كان لأحدهما نفع عائد إليه كما في الممكنات الفاعلة ؛ لأنّه يصحّ افتراقها في التأثير ؛ لمنفعة نيل المثوبات ودفع العقوبات .

وأمّا في الواجب على تقدير تعدّده، فلا يستقيم ذلك أصلاً ؛ لأنّه غنيّ مطلقا ، فلا مصلحة له نظرا إلى فعله لا يكون لآخَر ، وعلى فرض وقوع الافتراق في التأثير والإيجاد يلزم عدم اتّساق نظام الوجود وعدم تلازم أجزائه على ما يشير إليه بقوله : «إِذا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ»(2) وهو باطل . .

ص: 288


1- الأنبياء (21) : 22 .
2- المؤمنون (23) : 91 .

فقد تعيّن أن يكون مدبِّر العالم واحدا ، كما يرشدك إليه قوله تعالى : «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا»إشارة على الدليل على المسلك الثالث بما تقريره : أنّه لو تعدّد - تعالى عن ذلك - فإنّه يكون نسبة جميع الممكنات إليه تعالى على سنّة واحدة ؛ لأنّ طباع الإمكان يستدعي الحاجة إلى الواجب ، والواجب يوجب ذلك ، فامتياز بعضها في استناده إلى أحدهما دون الآخر يحتاج إلى ما به يتميّز بعضها المستند إلى أحدهما عن البعض المستند إلى الآخر ، فيحتاج إلى ثالث من الآلهة حتّى يفيد تميّزَ بعضها عن البعض، حتّى يصحّ استنادهما إليهما ، وقد عبّر عليه السلام عنه بقوله : «فرجة [ما] بينهما» وهو ما يفيد تميّز بعض عن البعض باستناده إلى أحدهما دون الآخر .

ثمّ إنّه يلزم على تقدير وجود آلهة ثلاثة [أن] يكون نسبة جميع الممكنات إليها واحدا ، فيحتاج إلى الواجبين الآخَرين ليتميّز أثر كلّ من الأوّلين عن أثر الثالث بكلّ من الآخرين اللذين هما الرابع والخامس ؛ لاحتياج امتياز أثر كلّ اثنين إلى فرجة .

ولمّا كان كلّ من الأوّلين مع الثالث اثنين فيحتاج إلى فرجتين ، وهكذا يحتاج إلى ما لا نهاية له من الآلهة ، فاتّفق المرام على هذا المنوال ، والعلم عند أصحاب العصمة عليهم السلام .

وأمّا ما يُقال من أنّ المراد من الفرجة المجموع المركّب من الواجبين، وأنّه واجب لغنائه عن المؤثّر ، فهو من الزور جدّا ؛ لأنّ [كون] الفرجة مجموعَهما لا ثالث لهما لا يساعد العقل ولا اللغة .

وأيضا الحكم بأنّ المركّب من الواجبين واجب ، باطلٌ جدّا ؛ لأنّ كلّ مركّب ممكن ؛ لافتقاره إلى أجزائه التأليفيّة .

وكذا ظهر بطلان ما قيل من أنّ المراد بالفرجة التسلسل ، وهذا أيضا كما ترى .(1)

انتهى كلام السند قدس سره .

ثمّ نذكر ما أفاد المحقّق صاحب الوافي - قدّس اللّه روحه - لتكون على بصيرة في هذا الباب .

قال طاب ثراه :

قوله عليه السلام : «لا يخلو قولك» إلى قوله : «فإن قلت» برهانٌ مبنيّ على ثلاث مقدّمات مبيّنة .

ص: 289


1- راجع: التعليقة على الكافي ، ص 184 - 192 .

في كتب الحكمة مضمّنة في كلامه عليه السلام :

إحداها : أنّ صانع العالم لابدّ أن يكون قويّا مستقلاًّ بالإيجاد والتدبير لكلّ واحد واحد والجميع .

والثانية : عدم جواز استناد حادث شخصي إلى موجدين مستقلّين بالإيجاد .

والثالثة : استحالة ترجّح أحد الأمرين المتساويين على الآخر من غير مرجّح ، وقد وقعت الإشارة إلى الثالث بقوله عليه السلام : «فلِمَ لا يدفع كلّ منهما صاحبه ؟». وهو مع أنّه محال مستلزمٌ للمطلق .

وقوله : «لا يخلو» برهانٌ آخر مبنيّ على ثلاث مقدّمات حدسيّة :

إحداها : أنّ كلّ متّفقين من كلّ وجه بحيث لا تمايز بينهما أصلاً لا يكونان اثنين ، بل هما واحد البتّة ، كما قيل : صرف الوجود الذي لا أتمّ منه كلُّ ما فرضته ثانيا فإذا نظرت فهو هو .

والثانية : أنّ كلّ متفرّقين من كلّ جهة لا يكون صنع أحدهما مرتبطا بصنع الآخر ، ولا تدبيره مؤتلفا بتدبيره بحيث يوجد عنهما أمرٌ واحد شخصيّ .

والثالثة : أنّ العالم أجزاؤه مرتبط بعضها ببعض، كأنّ الكلّ شخصٌ واحد .

وقوله عليه السلام : «ثمّ يلزمك» إمّا برهانٌ ثالث مستقلّ على حياله ، وإمّا تنويرٌ للثاني وتشييدٌ له على سبيل الاستظهار بأن يكون إشارةً إلى إبطال قسم ثالث ، وهو أن يكونا متّفقين من وجه ، ومفترقين من وجه آخر ، فيقال : لو كانا كذلك يكون لا محالة ما به الامتياز بينهما غيرَ ما به الاشتراك ، فيكونوا ثلاثةً .

وإلى البرهان الثاني أشار ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد بإسناده عن هشام بن الحكم، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : ما الدليل على أنّ اللّه واحد؟ قال : «اتّصال التدبير وتمام الصنع، كما قال عزّوجلّ: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا»»(1) .

وروى فيه أيضا بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : «إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام ؛ فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّوجلّ ، ووجهان يثبتان فيه . فأمّا اللذان لا يجوزان عليه ، فقول القائل : واحد يُقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّ .

ص: 290


1- التوحيد ، ص 250 ، ح 5 . والآية في سورة الأنبياء (21) : 22 .

ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفَر من قال :«ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ »(1)الوافى ، ج 1 ، ص 330 و 331.(2) ، وقول القائل : هو واحد من الناس يُريد النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز عليه ؛ لأنّه تشبيه ، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك . وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : [هو واحدٌ ليس له في الأشياء شبهٌ ؛ كذلك ربّنا ، وقول القائل :(3)] إنّه ربّنا(4) عزّوجلّ أحديّ المعنى ؛ يعني به أنّه لا ينقسم في وجودٍ ولا عقلٍ ولا وهمٍ ؛ كذلك ربّنا عزّوجلّ» .(5)

انتهى ما نقلناه من الوافي .(5)

وننقل ما ذكره مروّج آثار المعصومين عليهم السلام ؛ لأنّه موجب لكمال البصيرة في هذا الباب .

قال - دام ظلّه - بعد نقل الحديث المذكور :

ولنشر هاهنا إلى بعض براهين التوحيد على وجه الاختصار ، ثمّ نذكر ما يمكن أن يُقال في حلّ هذا الخبر ؛ فأمّا البراهين :

فالأوّل : أنّه لمّا ثبت كون الوجود عين حقيقة الواجب ، فلو تعدّد لكان امتياز كلّ منهما عن الآخر بأمرٍ خارج عن الذات ، فيكونان محتاجين في تشخّصهما إلى أمرٍ خارج ، وكلّ محتاجٍ ممكنٌ .

الثاني : لو تعدّد الواجب لذاته ، فإمّا أن يكون امتياز كلّ منهما عن الآخر بذاته ، فيكون مفهوم واجب الوجود محمولاً عليهما بالحمل العرضي ، والعارض معلول للمعروض ، فيرجع إلى كون كلّ منهما علّةً لوجوب وجوده ؛ وقد ثبت بطلانه .

وإمّا أن يكون ذلك الامتياز بالأمر الزائد على ذاتهما ، وهو أفحش ؛ فإنّه إمّا أن يكون معلولاً لمهيّتهما أو لغيرهما .

وعلى الأوّل إن اتّحد مهيّتهما ، كان التعيّن مشتركا ؛ وهذا خلف ، وإن تعدّدت المهيّة ، كان كلّ منهما شيئا عرض له وجوب الوجود ، أعني الوجود المتأكّد [للواجب] ، وقد بطل(6) بدلائل عينيّة الوجود بطلانه . .

ص: 291


1- المائدة
2- : 73 .
3- ما بين المعقوفين من المصدر.
4- في المصدر : - «ربّنا».
5- التوحيد ، ص 83 ، ح 3 . وهو في الخصال ، ص 2 ، ح 1 ؛ ومعاني الأخبار ، ص 5 ، ح 2 ؛ وروضة الواعظين ، ج 1 ، ص 36 .
6- في المصدر : «وقد تبيّن» .

وعلى الثاني يلزم الاحتياج إلى الغير والإمكان .

وبالجملة ، لو كان الواجب متعدّدا ، لكان نسبة الوجوب إليهما نسبةَ العوارض ، فكان ممكنا لا واجبا .

الثالث : أنّه لو كان للّه سبحانه شريك ، لكان لمجموع الواجبين وجود غير وجود الآحاد - سواء كان ذلك الوجود عين مجموع الوجودين، أو أمرا زائدا عليه - ولكان هذا الوجود محتاجا إلى وجود الأجزاء ، والمحتاج إلى الغير ممكنٌ محتاج إلى المؤثّر ، والمؤثّر في الشيء يجب أن يكون مؤثّرا في واحدٍ من أجزائه، وإلاّ لم يكن مؤثّرا في ذلك الشيء ، وقد ادّعوا الضرورة فيه ، ولا يمكن التأثير فيما نحن فيه في شيءٍ من الأجزاء ؛ لكون كلّ من الجزءين واجبا ، فالشريك يستلزم التأثير فيما لا يمكن التأثير فيه ، أو إمكانَ ما فرض وجوبه ، إلى غير ذلك من المفاسد .

الرابع : برهان التمانع . وأظهر تقريراته : أنّ وجوب الوجود يستلزم القدرة والقوّة على جميع الممكنات قوّةً كاملةً بحيث يقدر على إيجاده ودفع ما يضادّه مطلقا ، وعدمُ القدرة على هذا الوجه [نقصٌ] والنقصُ عليه تعالى محال ضرورةً ؛ بدليل إجماع العقلاء عليه ، ومن المُحال عادةً إجماعهم على نظري وإن لم يكن ضروريّا فنظري ظاهر متّسق الطريق ، واضح الدليل ، واستحالة إجماعهم على نظري لا يكون كذلك أظهرُ ، فنقول حينئذٍ : لو كان [في الوجود [واجبان لكانا قويّين ، وقوّتهما تستلزم عدم قوّتهما ؛ لأنّ قوّة كلّ منهما على هذا الوجه تستلزم قوّته على دفع الآخر عن إرادة ضدّ ما يريد نفسه من الممكنات ، والمدفوع غير قويّ بهذا المعنى [الذي زعمنا أنّه لازم لسلب النقص] .

فإن قلت : هذا إنّما يتمّ لو كان إرادة كلّ منهما للممكن بشرط إرادة الآخر لضدّه ممكنا وبالعكس ، وليس كذلك ، بل إرادة كلّ منهما له بشرط إرادة الآخر لضدّه ممتنع ، ونظير ذلك أنّ إرادة الواجب للممكن بشرط وجود ضدّه محال ، ولا يلزم منه نقص .

قلت : امتناع الإرادة بشرط إرادة الآخر هو الامتناع بالغير ، وامتناعه بالغير يحقّق النقص والعجز ؛ تعالى عن ذلك .

وأمّا امتناع إراده الشيء بشرط وجود ضدّه ، فمن باب امتناع إرادة المحال الذاتي ، وإن كان [امتناع الإرادة] امتناعا بالغير ؛ ومثله غير ملزوم للنقص ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّ المراد ممتنع بالغير .

ص: 292

فإن قلت : وجود الشيء كما يمتنع بشرط ضدّه ونقيضه ، كذلك يمتنع بشرط ملزوم ضدّه وملزوم نقيضه ، والأوّل امتناع بالذات ، والثاني امتناع بالغير ، وكما أنّ إرادة الأوّل منه تعالى محال [ولانقص فيه] كذلك إرادة الثاني . وظاهر أنّ إرادة إيجاد الممكن بشرط إرادة الآخر له من قبيل الثاني ، فينبغي أن لا يكون فيه نقص .

قلت : فرق بين الأمرين ؛ فإنّ وجود الممكن إذا قيّد واشترط بملزوم نقيضه ، كان ممتنعا ولو بالغير ولم يتعلّق به إرادة ضرورةً ، وأمّا إذا لم يقيّد الوجود به بل اُطلق ، فغير ممتنع ، فيمكن تعلّق الإرادة به ولو في زمان وجود الملزوم بأن يدفع الملزوم، وإن لم يندفع هو من قبل نفسه أو من دافع ، بخلاف إرادة الآخر له ؛ فإنّه لو لم يندفع من قبل نفسه ولم يدفعه دافع آخر، لم يتعلّق به الإرادة ضرورةً ، فهو مدفوع ، وإلاّ فالآخر مدفوع .

فصار حاصل الفرق حينئذٍ أنّ الصانع تعالى قادر على إيجاد أحد الضدّين في زمان الضدّ الآخر بدون حاجة إلى واسطة غير مستندة إليه تعالى ، وهو - أي الحاجة إلى الواسطة المستندة إلى الفاعل - لا ينافي الاستقلال والقدرة ، كما لا ينافي الاحتياج إلى الواسطة المستندة إلى الذات الوجوبَ الذاتي ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّه احتياج إلى واسطة غير مستندة إلى الذات .

لا يقال: لعلّ انتفاء إرادة الآخر واجب بنفسه ، ولا نسلّم منافاة توسّط الواجب بالذات بين الفاعل وفعله ؛ لاستقلاله واستلزامه النقص .

لأنّا نقول : الأوّل بيِّن البطلان ، فإنّ تحقّق إرادة الآخر وانتفاءها ممكنٌ في نفسه ، لكنّه ينتفي فيما نحن فيه من قبل ذي الإرادة؛ لو انتفى ليكون(1) واسطة ممكنة غير صادرة عن الفاعل ولا مستندة إليه .

وأمّا الثاني ، فربّما تدّعى البداهة في استلزامه النقصَ ، وهو غير بعيد .

وبهذا التقرير يندفع كثير من الشكوك والشُّبه .

الخامس : تقرير آخر لبرهان التمانع ذكره المحقّق الدواني ، وهو أنّه لا يخلو أن يكون قدرة كلّ واحدٍ منهما وإرادتُه كافيةً في وجود العالم ، أو لا شيء منهما كافٍ ، أو أحدهما كافٍ فقط . .

ص: 293


1- في المصدر : «فيكون» .

وعلى الأوّل يلزم اجتماع المؤثّرين التامّين على معلول واحد شخصي .

وعلى الثاني يلزم عجزهما ؛ لأنّه لا يمكن لهما التأثير إلاّ باشتراك الآخر .

وعلى الثالث لا يكون الآخر خالقا ، فلا يكون إلها ؛ أفمن يخلق كمن لا يخلق ؟

لا يقال : [إنّما] يلزم العجز إذا انتفت القدرة على الإيجاد بالاستقلال ؛ أمّا إذا كان كلّ واحد منهما قادرا على الإيجاد بالاستقلال ولكن اتّفقا على الإيجاد بالاشتراك فلا يلزم العجز ، كما أنّ القادرين على حمل خشبة بالانفراد قد يشتركان في حملهما ، وذلك لا يستلزم عجزهما ؛ لأنّ إرادتهما تعلّقت بالاشتراك ، وإنّما يلزم العجز لو أرادا الاستقلال ولم يحصل .

لأنّا نقول: تعلّق إرادة كلّ منهما إن كان كافيا لزم المحذور الأوّل ، وإن لم يكن كافيا لزم المحذور الثاني ، والملازمتان بيّنتان لا تقبلان المنع ، وما أوردتم من المثال في سند المنع لا يصلح للسنديّة ؛ إذ في هذه الصورة ينقص ميل كلّ واحد منهما من الميل الذي يستقلّ في الحمل قدر ما يتمّ الميل الصادر عن الآخر حتّى ينقل الخشبة بمجموع الميلين ، وليس كلّ واحدٍ منهما بهذا القدر من الميل فاعلاً مستقلاًّ .

وفي مبحثنا هذا ليس المؤثّر إلاّ تعلّق القدرة والإرادة ، ولا يتصوّر الزيادة والنقصان في شيءٍ منهما .

السادس : أنّ كلّ من جاء من الأنبياء وأصحاب الكتب المُنزلة إنّما ادّعى الاستناد إلى واحد استند إليه الآخر ، ولو كان في الوجود واجبان لكان يخبر مخبر من قبله بوجوده وحكمه ، واحتمال أن يكون في الوجود واجب لا يرسل إلى هذا العالم ، أو لا يؤثّر ولا يدبّر أيضا فيه مع تدبيره ووجود خبره في عالم آخر أو عدمه ممّا لا يذهب إليه وَهْمُ واهمٍ ؛ فإنّ الوجوب يقتضي العلم والقدرة وغيرهما من الصفات ، ومع هذه الصفات الكماليّة يمتنع عدم الإعلام ونشرِ الآثار بحيث يبلغ إلينا وجوده .

وأمّا ما زعمت الثنويّة من الإله الثاني، فليس بهذه المثابة وممّا يرسل ويحكم فيهم، وإن قالوا بوجود واجب آخر فقد نفوا لازمه ، فهو باطل بحكم العقل .

وقد أثبتنا في كتاب الروضة فيما أوصى به أمير المؤمنين ابنه الحسن - صلوات اللّه عليهما - ما يؤمي إلى هذا الدليل حيث قال عليه السلام : «واعلم أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت صفاته وأفعاله ، ولكنّه إلهٌ واحدٌ كما وصف

ص: 294

نفسه ، لا يضادّه في ملكه أحدٌ ولا يحاجّه ، وأنّه خالق كلّ شيء» .

السابع : الأدلّة السمعيّة من الكتاب والسنّة ، وهي أكثر من أن تُحصى، وقد مرّ بعضها ، ولا محذور بالتمسّك بالأدلّة السمعيّة في باب التوحيد ، وهذه هي المعتمد عليها عندي ، وبسط الكلام في تلك الأدلّة وما سواها ممّا لم نشر إليها موكول إلى مظانّها .

ولنرجع إلى حلّ الخبر وشرحه ، وقد قيل فيه وجوه :

الأوّل : أنّ المراد بالقوي القويُّ على فعل الكلّ بالإرادة مع إرادة استبداده به ، والمراد بالضعيف الذي لا يقوى على فعل الكلّ، ولا يستبدّ به، ولا يقاوم القويّ؛ «فإن كانا قويّين فلِمَ لايدفع كلّ منهما صاحبه وينفرد به» أي يلزم من قوّتهما انفراد كلِّ بالتدبير ، ويلزم منه عدم وقوع الفعل «وإن زعمت أنّ أحدهما قويّ والآخر ضعيف ثَبَتَ أنّه واحد» أي المبدأ للعالم واحد ؛ لعجز الضعيف عن المقاومة [والتأثير]، وثبت احتياج الضعيف إلى العلّة الموجدة ؛ لأنّ القويّ أقوى وجودها من الضعيف ، وضعف الوجود لا يتصوّر إلاّ بجواز خلوّ المهيّة عن الوجود ، ويلزم منه الاحتياج إلى المبدأ المباين الموجِد له .

«وإن قلت : إنّهما اثنان» أي المبدأ اثنان . وهذا هو الشقّ الثاني ، أي كونهما ضعيفين بأن يقدر ويقوى كلّ منهما على بعض ، أو يفعل بعضا دون بعض بالإرادة وإن كان يقدر على الكلّ ، وفي هذا الشقّ «لا يخلو من أن يكونا متّفقين» أي في الحقيقة من كلّ جهة، ويلزم من هذا عدم الامتياز بالتعيّن ، للزوم المغايرة بين الحقيقة والتعيّن المختلفة ، واستحالة استنادهما إلى الحقيقة ، واستحالة استنادهما إلى الغير ، فيكون لهما مبدأ «أو مختلفين مفترقين من كلّ جهة» وذلك معلوم الانتفاء ، فإنّا «لمّا رأينا الخلق منتظما، والفلك جاريا» والتدبير واحدا «و[اختلاف] الليل والنهار والشمس والقمر ، دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبِّر واحد» لا اثنان مختلفان من كلّ جهةٍ . ثمّ ذلك المدبِّر الواحد لايجوز أن يكون واحدا بجهة من حيث الحقيقة ، مختلفا بجهة اُخرى ، فيكون المدبِّر اثنين .

«ويلزمك إن ادّعيت اثنين فرجةٌ بينهما» لأنّ لهما وحدةً ، فلا يتمايزان إلاّ بمميّز فاصل بينهما حتّى يكونا اثنين ؛ لامتناع الاثنينيّة بدون فاصل(1) بلا مميّز بينهما .».

ص: 295


1- في المصدر : - «بدون فاصل».

وعبّر عن الفاصل المميّز بالفرجة حيث إنّ الفاصل بين الأجسام يُعبَّر عنه بالفرجة ، واُولئك الزنادقة لم يكونوا يدركون غير المحسوسات ؛ تنبيها على أنّكم لا تستحقّون أن تخاطبوا إلاّ بما يليق استعماله في المحسوسات .

وذلك المميّز لابدّ أن يكون وجوديّا داخلاً في حقيقة أحدهما ، إذ لا يجوز التعدّد مع الاتّفاق في تمام الحقيقة كما ذكرنا ، ولا يجوز أن يكون ذلك المميّز ذا حقيقة يصحّ انفكاكها عن الوجود وخلوّها عنه ولو عقلاً ، وإلاّ لكان معلولاً محتاجا إلى المبدأ ، فلا يكون مبدأً ولا داخلاً فيه ، فيكون الفاصل بينهما قديما موجودا بذاته كالمتّفق فيه ، فيكون الواحد المشتمل على المميّز الوجودي اثنين لا واحدا ، ويكون الاثنان اللذان ادّعيتهما ثلاثةً .

فإن قلت به وادّعيت ثلاثةً ، لزمك ما قلت في الاثنين من تحقّق المميّز بين الثلاثة ، ولابدّ من مميّزين وجوديّين حتّى يكون بين الثلاثة فرجتان ، ولابدّ من كونهما قديمين كما مرّ ، فيكونوا خمسةً وهكذا ، ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة ، ويبلغ عدده كثرةً غير متناهية .

أو المراد أنّه يلزمك أن يتناهى المعدود المنتهي ضرورةً بمعروضِ ما ينتهي به العدد - أي الواحد - إلى كثير لا نهاية له في الكثرة، فيكون عددا بلا واحد ، وكثرةً بلا وحدة .

وعلى هذا يكون الكلام برهانيّا لا يحتاج إلى ضميمة ، وعلى الأوّلين يصير بضمّ ما ذكرناه من ثالث الاحتمالات برهانيّا .

الثاني : أن يكون إشارة إلى ثلاثة براهينَ :

وتقرير الأوّل - بعدما تقرّر أنّ ما لا يكون قويّا على إيجاد أيّ ممكن كان لا يكون واجبا بالذات - أن يُقال : لا يصحّ أن يكون الواجب بالذات اثنين ، وإلاّ كان كلّ منهما قويّا على إيجاد أيّ ممكن كان ، وكلّ ممكن بحيث يكون استناده إلى أيّ منهما كافيا في تصحيح خروجه من القوّة إلى الفعل .

وحينئذٍ لم يكن مَحيص إمّا من لزوم استناد كلّ معلول شخصيّ إلى علّتين مستبدّتين بالإفاضة ، وذلك محال ؛ أو من لزوم الترجّح بلا مرجّح ، وهو فطريّ الاستحالة ؛ أو من كون أحدهما غير واجب بالذات ، وهو خلاف المفروض . وهذا البرهان يتمّ عند قوله عليه السلام : «للعجز الظاهر في الثاني».

ص: 296

وقولُه عليه السلام : «فإن قلت» [إلى] قوله : «على أنّ المدبّر واحد» إشارةٌ إلى برهان ثانٍ ، وهو أحد الوجوه البرهانيّة في قوله تعالى : «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا» .(1)

وتلخيص تقريره : أنّ التلازم بين أجزاء النظام الجملي المنتظم المتّسق - كما بين السماء والأرض مثلاً على ما أحقّته القوانين الحِكميّة - لا يستتبّ بالاستناد إلى فاعل واحد يصنع الجميع بحكمته وقدرته ؛ إذ التلازم بين شيئين لا يتصحّح إلاّ بعلّيّة أحدهما للآخر ، أو لمعلوليّتهما لعلّة واحدة موجبة ، فلو تعدّد اختلّ الأمر وفسد النظام .

وتقرير الثالث هو أنّك لو ادّعيت اثنين ، كان لا محالة بينهما انفصال في الوجود، وافتراقٌ في الهويّة ، ويكون هناك موجود ثالث هو المركّب من مجموع الاثنين ، وهو المراد بالفرجة ؛ لأنّه منفصل الذات والهويّة ، وهذا المركّب يفتقر إلى الجاعل بحسب افتقار أجزائه ،(2) فإذا لم يفتقر أجزاءه لم يفتقر هو بالضرورة ، فإذن قد لزمه أن يكون هذا الموجود الثالث أيضا قديما ، فيلزمك ثلاثة وقد ادّعيت اثنين ، وهكذا .

ويرد عليه - مع بُعد إطلاق الفرجة بهذا المعنى - أنّه يلزم في الفرض الثاني سبعة لا خمسة .

الثالث : أن يكون إشارةً إلى حجّتين : إحداهما عامّيّة مشهوريّة ، والاُخرى خاصّيّة برهانيّة .

أمّا الاُولى ، فقوله : «لا يخلو قولك» إلى قوله : «في الثاني» ومعناه أنّه لو فرض قديمان ، فلا يخلو أن يكون كلاهما قويّين ، أو كلاهما ضعيفين ، أو أحدهما قويّ والآخر ضعيف ؛ والثلاثة بأسرها باطلة :

أمّا الأوّل ، فلأنّه لو كانا قويّين - وكلّ منهما في غاية القوّة من غير ضعف وعجز كما هو المفروض ، والقوّة يقتضي الغلبة والقهر على كلّ شيءٍ سواه - فما السبب المانع لأن يدفع كلّ واحد منهما صاحبه حتّى ينفرد بالتدبير والقهر على غيره ؛ إذ اقتضاء الغلبة والاستعلاء مركوزة في كلّ ذي قوّة على قدر قوّته ، والمفروض أنّ كلاًّ منهما في غاية القوّة . .

ص: 297


1- الأنبياء (21) : 22 .
2- في المصدر : «وهذا المركّب تركبّه عن الواجبات بالذات المستغنيات عن الجاعل موجودٌ لامن تلقاء الصانع ؛ إذ افتقار المركّب إلى الجاعل بحسب افتقار أجزائه» بدل «وهذا المركّب يفتقر إلى الجاعل بحسب افتقار أجزائه» .

وأمّا فساد الشقّ الثاني ، فهو ظاهر عند جمهور الناس ؛ لما حكوا بالفطرة من أنّ الضعف ينافي الأولويّة ، ولظهوره لم يذكره عليه السلام .

وأيضا يعلم فساده بفساد الشقّ الثالث وهو قوله : «وإن زعمت أنّ أحدهما قويّ والآخر ضعيف ، ثبت أنّه أي الإله واحدٌ - كما نقول - للعجز الظاهر في المفروض ثانيا ؛ لأنّ الضعف منشأ العجز ، والعاجز لا يكون إلها بل مخلوقا [محتاجا] لأنّه محتاج إلى من يعطيه القوّة والكمال والخيريّة .

وأمّا الحجّة البرهانيّة ، فأشار إليها بقوله : «فإن قلت إنّهما اثنان» وبيانه أنّه لو فرض موجودان قديمان ، فإمّا أن يتّفقا من كلّ جهةٍ ، أو يختلفا من كلّ جهة ، أو يتّفقا بجهة ويختلفا باُخرى .

والكلّ محال : أمّا بطلان الأوّل ، فلأنّ الاثنينيّة لا تتحقّق إلاّ بامتياز أحد الاثنين من صاحبه ولو بوجه من الوجوه . وأمّا بطلان الثاني فلما نبّه عليه بقوله : «فلمّا رأينا الخلق منتظما» وتقريره أنّ العالم كلّه كشخص واحد كثير الأجزاء والأعضاء مثل الإنسان ؛ فإنّا نجد أجزاء العالم مع اختلاف طبائعها الخاصّة وأفعالها المخصوصة يرتبط بعضها ببعض ، ويفتقر بعضها إلى بعض، وكلّ منهما يعين بطبعه صاحبَه ، وهكذا نشأ هذه الأجرام العالية ، وما ارتكز فيها - من الكواكب النيّرة في حركاتها الدوريّة وأضوائها الواقعة منها - نافعة للسفليّات ، محصّلة لأمزجة المركّبات التي يتوقّف عليها صور الأنواع ونفوسها ، وحياة الكائنات ، ونشوء الحيوانات والنبات .

فإذا تحقّق ما ذكرنا من وحدة العالم لوحدة النظام واتّصال التدبير دَلَّ على أنّ المدبّر واحد .

وأمّا بطلان الشقّ الثالث - وهو أنّهما متّفقان من وجه ومختلفان من وجه آخر - فبأن يقال كما أشار إليه عليه السلام بقوله : «ثمّ يلزمك»: إنّه لابدّ فيهما من شيء يمتاز به أحدهما عن صاحبه وصاحبه عنه ؛ وذلك الشيء يجب أن يكون أمرا وجوديّا يوجد في أحدهما ولم يوجد في الآخر ، أو أمران وجوديّان يختصّ كلّ منهما بواحد فقط .

وأمّا كون الفارق المميّز لكلّ منهما عن صاحبه أمرا عدميّا ، فهو ممتنع بالضرورة ؛ إذ الأعدام بما هي أعدام لا تمايز بينها ولا تمييز بها ، فإذا فرض قديمان فلا أقلّ من وجود أمر ثالث يوجد لأحدهما ويسلب عن الآخر ، وهو أيضا لا محالة قديم موجود معهما ،

ص: 298

وإلاّ لم يكونا اثنين قديمين ، فيلزم أن يكون القدماء ثلاثةً وقد فرض اثنان ، وهذا خلف ، ثمّ يلزم من كونهم ثلاثةً أن يكونوا خمسةً ، وهكذا إلى أن يبلغ عددهم إلى ما لانهاية له ، وهو محال .

أقول : الأظهر على هذا التقرير أن يحمل الوحدة في قوله عليه السلام : «على أنّ المدبّر واحد» على الأعمّ من الوحدة النوعيّة والشخصيّة ، ولو حمل على الشخصيّة يمكن أن يستخرج منه ثلاث حجج بهذا التقرير ، ولا يخفى توجيهها .

الرابع : أن يكون إشارةً إلى ثلاث حجج ، لكن على وجه آخر ، وتقرير الأوّل أنّه لو كان اثنين ، فإمّا أن يكونا قويّين، أي مستقلّين بالقدرة على كلّ ممكن ما في نفسه، سواء كان موافقا للمصلحة أو مخالفا ، وهو إنّما يتصوّر بكونهما قديمين ؛ وإمّا أن يكونا ضعيفين ، أي غير مستقلّين بالقدرة على ممكن ما في نفسه ؛ وإمّا أن يكون أحدهما قويّا والآخر ضعيفا . والأوّل محال ؛ لاشتماله على التناقض ؛ لأنّ كون كلّ منهما قويّا بهذا المعنى يستلزم أن يكون قويّا على دفع الآخر عن أن يصدر عنه مراده بعينه أو مثله أو ضدّه في محلّه ؛ لأنّ عدم المنافي شرط في صدور كلّ ممكن ، وعدم القوّة على الشرط ينافي القوّة على المشروط ، ولاشكّ أنّ المدفوع كذلك ضعيف مسخّر ، فقوّة كلّ منهما في فعل صدر عنه يستلزم دفعه الآخر فيه وضعف ذلك الآخر ، و في فعل تركه حتّى أنّ فعل الآخر ضدّه يستلزم تمكينه الآخر في فعله ، وهذا تفرّد بالتدبير .

فالاستفهام في «لِمَ لا يدفع» إنكاريّ ، أي معلوم ضرورةَ أنّه لا يدفع كلّ منهما إلاّ وينفرد بالتدبير .

وبطلان الشقّ الثالث لكونه مستلزما لعجز أحدهما ، أي ضعفه . وعدمُ كونه ممّن ينتهي إليه شيء من تدبير العالم يستلزم بطلان الشقّ الثاني بطريق أولى .

وتقرير الثاني : أنّه لو كان المدبّر اثنين ، فنسبة معلول معلول إليهما إمّا متساوية من جميع الوجوه، بأن لا يكون في واحدٍ منهما ولا في كلّ منهما ما يختصّ به، ويرجّح صدوره عنه على صدوره عن الآخر من الداعي والمصلحة ونحوهما ، وإمّا غير متساوية من جميع الوجوه ، وكلاهما باطل:

أمّا [بطلان] الأوّل، فلأنّه إمّا أن يكون ترك كلّ منهما لذلك المعلول مستلزما لفعل الآخر إيّاه لحكمة كلّ منهما أم لا ، فعلى الأوّل إحداث أحدهما ذلك المعلول يستلزم الترجيح

ص: 299

بلا مرجّح ؛ لأنّ إحداث كلّ منهما ذلك المعلول ليس أولى بوجه من تركه إيّاه مع إحداث الآخر إيّاه .

وعلى الثاني إمّا أن يكون ترك التارك له مع تجويزه الترك على الآخر قبيحا وخلاف الحكمة أم لا ، والأوّل يستلزم النقص ، والثاني يستلزم عدم إمكان رعاية المصالح التي لا تحصى في خلق العالم ؛ لأنّه اتّفاقيّ حينئذٍ ، ومعلوم بديهةً أنّ الاتّفاقيّ لا يكون منتظما في أمر ، بل كصدور مثل قصيدة من قصائد البُلغاء المشهورين عمّن لم يمارس البلاغة ، وإن كان يمكن أن يصدر عنه اتّفاقا مصراع بليغ أو مصراعان فضلاً عمّا نحن فيه .

وأمّا بطلان الثاني ، فلأنّه يستلزم أن يكون مختلفةً من جميع الوجوه، بأن لا يكون أحدهما قادرا عليه أصلاً ؛ لأنّ اختلاف نسبة قادرين إلى معلول واحد شخصي إنّما يتصوّر فيما يمكن أن يكون راجعا إليه كالعبادة ، أمّا إذا كان القادران بريئين من الانتفاع - كما فيما نحن فيه - فلا يتصوّر ذلك بديهةً ، وينبّه عليه أنّ الغنيّ المطلق إنّما يفعل ما هو الخير في نفسه من غير أن يكون له نفع فيه ، سواء كان لغيره فيه نفع كما في ثواب المطيع ، أو لم يكن ؛ ومثاله عقاب الكافر إن لم يكن للمطيعين فيه نفع .

وتقرير الثالث : أنّه إن كان المدبّر اثنين ، فنسبة معلول معلول إليهما إمّا متساوية من جميع الوجوه أو لا ، وكلاهما باطل :

أمّا [بطلان] الأوّل ، فلأنّ صدور بعض المعلولات عن أحدهما وبعضٍ آخر منها عن آخر يحتاج إلى ثالث هو الفرجة بينهما ، أي ما يميّز ويعيّن كلّ معلول معلول لواحد معيّن منهما حتّى يكون المدبّران اثنين ، لامتناع الترجيح من جهة الفاعلين بلا مرجّح ، أي بلا داع أصلاً كما هو المفروض ، فيلزم خلاف الفرض وهو أن يكون المدبّر ثلاثةً ، ثمّ ننقل الكلام إلى الثلاثة وهكذا إلى ما لا نهاية له في الكثرة ، ويلزم التسلسل .

وإنّما اكتفى(1) عليه السلام بعد نقل الكلام إلى الثلاثة بالاحتياج إلى فرجة واحدة للتمييزين حتّى يكون المجموع أربعةً لا خمسةً ، وإن كان المطلوب و هو لزوم التسلسل حاصلاً به أيضا ؛ لأنّ هناك ثلاثةَ تمييزاتٍ وتخصيصُ واحد منهما بمميّز - كما هو المفروض - .

ص: 300


1- في المصدر : «وإنّما ل2ض تف» .

واشتراكُ اثنين منهما بواحد مع اتّحاد النسبة تحكّم .

وأمّا بطلان الثاني فلما مرّ في بيان بطلان الشقّ الثاني من الدليل .

أقول : لا يخفى بُعد هذا التقرير عن الأفهام ، واحتياجُه إلى كثيرٍ من المقدّمات في الكلام .

الخامس : أن يكون إشارةً إلى برهان التمانع بأحد تقريراته المشهورة ، والثاني إلى التلازم كما مرّ ، والثالث يكون إلزاما على المجسّمة المشركين القائلين بإلهين مجسّمين متباعدين في المكان ، كما هو الظاهر من كلام المجوس لعنهم اللّه ، ويكون الفرجة محمولةً على معناه المتبادر من جسم يملأ البون(1) بينهما؛ لبطلان الخلأ، أو سطح فاصل بينهما لتحقّق الاثنينيّة . هذا ما قيل، أو يمكن أن يُقال في حلّ هذا الخبر الذي تحيّرت فيه الأفهام والفِكَر .(2)

انتهى ما أردنا نقله من كتاب بحار الأنوار .

وقال الفاضل المحقّق المدقّق مولانا محمّد سعيد بن عطاء اللّه الجيلاني(3) مدّ ظلّه :

هذا الحديث مشتمل على ثلاثة براهين على توحيد واجب الوجود :

البرهان الأوّل : من قوله عليه السلام : «فإن كانا قديمين قويّين» إلى قوله : «فإن قلت» ولعلّ المراد بالقديم في هذا المورد وأمثاله ما يكون مستغنيا في وجوده عن العلّة ، ولا محالة يكون القديم بهذا المعنى واجبَ الوجود ، وبالقويّ ما يكون تامّا في معنى إيجاد الغير بحيث لا يكون في فيضان وجود الممكنات القابلة للوجود عنه محتاجا إلى أن يحصل له معنى يتمّ به فاعليّته ؛ لأنّ كلّ فاعل كان يحتاج إلى أن يحصل له حالة متوقّعة حتّى يتمّ

ص: 301


1- في المصدر : «البعد».
2- بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 230 - 240 .
3- المولى محمّد سعيد كان معاصرالصاحب رياض العلماء، حيث قال في ترجمة والده: «المولى عطاء اللّه الرودسري والد المولى محمّد سعيد المعاصر»، و كان تأليف الرياض في سنوات 1106 - 1130. و قال عبد النبيّ القزويني: «مولانا محمّد سعيد الرودسري كان فاضلاً نبيلاً وعالما جليلاً وحكيما ماهرا وفقيها باهرا، وبالجملة كان عظيم الشأن، رفيع المكان، نيّرالبرهان، فخر الزمان، و هو من أجلاّء تلامذة أعظم الأفاضل و أفخم الأماثل، مولانا محمّد باقر صاحب ذخيرة المعاد...». و الرودسري: نسبة إلى رودسر، قصبة معروفة من توابع لاهيجان من بلاد جيلان، قال صاحب الرياض: «وقد رأيتها»، وهي الآن مدينة عامرة. راجع: رياض العلماء، ج 3، ص 317 و 318؛ تتميم أمل الآمل، ص 172، الرقم 124 ؛ طبقات أعلام الشيعة، ج 6 ، ص 380.

فاعليّته وإفاضته ، فهو في حدّ ذاته ضعيف ، ويصير بتلك الحالة المتوقّعة قويّا .

وبالجملة ، القويّ بهذا المعنى يكون وجوده عين ذاته ، ولا يكون لفيضان الممكن الوجود عنه حالةٌ منتظرة إلاّ كون وجود ذلك الممكن مصلحةً في نفس الأمر ، فإذا كان قديمان قويّان بالمعنى المذكور وفرض كون وجود ممكن من الممكنات مصلحةً في نفس الأمر ، لزم أن يكون كلّ واحد من القويّين بحيث يفيض الوجود منه على ذلك الممكن ، وفيضان الوجود على ذلك الممكن يستلزم عدم فيضان الوجود على ذلك الممكن من القويّ الآخر ، وهذا معنى قوله عليه السلام : «فلِمَ لا يدفع كلّ واحدٍ منهما صاحبه ويتفرّد بالتدبير».

والبرهان الثاني: من قوله عليه السلام : «فإن قلت إنّهما اثنان» إلى قوله : «ثمّ يلزمك» وحاصله أنّه لو كان واجب الوجود اثنين ، لزم أن يكون ذات كلّ واحدٍ منهما مباينا لذات الآخر من كلّ جهة ، أو يكون ذات كلّ واحدٍ منهما موافقا لذات الآخر من كلّ جهة ، ولا يحتمل أن يكونا متوافقين من بعض الجهات ، ومتخالفين من بعض الجهات ؛ لأنّ المراد بالتوافق والتخالف التوافق والتخالف في الذاتيّات ، فإذا كان بينهما توافق في بعض الذاتيّات وتخالف في بعضها ، لزم تركيبهما ، وهو منافٍ لوجوب وجوديهما ، فانحصر الاحتمال في المذكورين ، ولم يتعرّض عليه السلام لإبطال كونهما متوافقين من كلّ جهة ؛ لأنّه مستلزم لرفع الاثنينيّة ؛ لأنّ كلّ اثنين لابدّ أن يكون بينهما تمايز البتّةَ من بعض الجهات ، وقد فرض في هذا الشقّ رفع التمايز من كلّ جهة ؛ لأنّه فرض توافق الاثنين من كلّ جهة .

فإن قيل : لم يفرض توافقهما من كلّ جهة ، بل فرض توافقهما في الذات من كلّ جهة، ويمكن أن يكونا متمايزين بالاُمور الزائدة على الذات كما في أفراد النوع المتعدّد الأفراد .

قيل : فيجب احتياج واجب الوجود في تحصّله إلى أمرٍ خارج عن ذاته ، وهو مناف لوجوب الوجوب ، فلظهور فساد هذا الاحتمال لم يتعرّض عليه السلام لإبطاله ، وتعرّض لإبطال الشقّ الآخر ، وهو أن يكونا مختلفين من كلّ جهة ؛ بأنّ السببين المختلفين من كلّ جهة لا يكون أثراهما متوافقين من كلّ جهة بحيث لا يكون بين أثرهما تخالف بوجه من الوجوه ، والحال أنّا نرى الخلق منتظما والفلك جاريا والتدبير واحد، إلخ .

والحاصل أنّا نرى نظاما واحدا متّصلاً مرتبطا مسبّباتها بأسبابها على الانتظام والنسق الواحد ، وهذا يدلّ على أنّ هذا النظام يجب أن يكون منتهيا إلى مدبِّرٍ واحد، لا إلى ذاتين

ص: 302

مختلفين من كلّ جهة .

وقوله : «ثمّ يلزمك إن ادّعيت اثنين فرجة ما بينهما» برهانٌ ثالث على توحيد واجب الوجود ، ولعلّ ما في كتب الحكمة مستخرجٌ من فوائد هذا الحديث ، وحاصله : أنّه لو كان واجب الوجود اثنين ، يجب أن يكون بين ذينك الاثنين المشتركين في أصل وجوب الوجود الذي يجب أن يكون ذاتيّا لهما امتياز البتّةَ بأمر يكون به المباينة والامتياز بينهما ، وعبّر عليه السلام عمّا به الامتياز بالفرجة مجازا .

وما به الامتياز في بادئ الأمر يكون إمّا أمرا وجوديّا من كلّ واحدٍ منهما يميّزه عن الآخر ، فيكون الفرجة اثنين ، فيلزم أن يصير العدد أربعا ؛ وإمّا أن يكون في أحدهما أمرا وجوديّا وفي الآخر عدميّا ، فيمتاز ذلك الآخر من الأوّل بعدم ذلك الأمر الوجودي ، وحينئذٍ يكون العدد ثلاثةً ، فاكتفى عليه السلام بأقلّ ما لابدّ من تحقّقه حتّى يحصل الامتياز بينهما ، ففَرَض الفرجة في المرتبة الاُولى واحدا ، وألزم تحقّق ثلاثِ موجوداتٍ ، وفي المرتبة الثانية لمّا كانت الموجودات ثلاثةً لزم بين كلّ موجودين مميّز واحد ، فلزم ثلاث مميّزات ، لكن لمّا كان المميّز بين الأوّلين هو الثالثَ ، فلزم خمسة موجودات وهكذا ، فلزم عدم تناهي الواجب . انتهى ، فتدبّر .

ولمّا كان الأمر مهمّا لم اُبالِ بإطناب :

روى الصدوق - طاب ثراه - في التوحيد بالإسناد عن الرضا عليه السلام عن آبائه، عن عليّ عليهم السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : التوحيد نصف الدِّين» .

قوله : (أنّه شيءٌ بِحَقيقةِ الشَّيْئيّةِ) .[ح 5 / 220]

المراد بالشيء معنى عامّ يصدق على كلّ موجود من حيث هو موجود بوجود مّا ، تصوّري أو وهميّ أو خياليّ مجرّدا عن سائر خصوصيّاته ، وظاهر أنّ القديم بالذات - المحتاجَ إليه جميعُ ما عداه - أقدمُ وأولى بالوجود ، فحقيقة الشيئيّة له حقيقة .

قوله : (لا جِسْمٌ وَلا صُورَةٌ) .[ح 5 / 220]

قال صاحب المغني :

«لا» على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون نافيةً ، وهذه على خمسة أوجه :

أحدها : أن تكون عاملة عملَ «إنّ» وذلك إذا اُريد [بها] نفي الجنس على سبيل

ص: 303

التنصيص ، وتسمّى حينئذٍ بَتْريّةً ، وإنّما تظهر نصب اسمها إذا كان خافضا ، نحو «لا صاحبَ جودٍ ممقوت» وقول أبي الطيّب :

فلا ثوب مجد غير ثوب ابن أحمد *** على أحد إلاّ بلؤم مرقّع

أو رافعا نحو : «لا حسنا فعله مذموم» أو ناصبا نحو : «لا طالعا جبلاً حاضر» ومنه : «لا خيرا من زيد عندنا». وتخالف «لا» هذه «إنّ» من سبعة أوجه :

أحدها : أنّها لا تعمل إلاّ في النكرات .

والثاني : أنّ اسمها إذا لم يكن عاملاً؛ فإنّه يبنى [وقيل:] لتضمّنه معنى «من» الاستغراقيّة . وقيل : لتركيبه مع «لا» تركيبَ خمسة عشر .

والثالث : أنّ ارتفاع خبرها - عند إفراد اسمها نحو : لا رجل قائم - بما كان مرفوعا به قبل دخول «لا» بها ، وهذا قول سيبويه ، وخالفه الأخفش والأكثرون ، ولا خلاف بين البصريّين في أنّ ارتفاعه بها إذا كان اسما عاملاً .

الرابع : أنّ خبرها لا يتقدّم على اسمها ولو كان ظرفا أو مجرورا .

الخامس : أنّه يجوز مراعاة محلّها مع اسمها قبل مضيّ الخبر وبعده ، فيجوز رفع النعت والمعطوف عليه ، نحو : لا رجل ظريف فيها ، ولا رجل وامرأة فيها .

والسادس : أنّه يجوز إلغاؤها إذا تكرّرت ، نحو : «لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه» ولك فتح الاسمين ورفعهما والمغايرة بينهما، بخلاف نحو قوله :

إنّ محلاًّ و إنّ مرتحلاً *** وإنّ في السفر إذا مضوا مهلاً

فلا مَحيد عن النصب .

السابع : أنّه يكثر حذف خبرها إذا علم ، نحو : «قالوا لا ضير ولا فوت» وتميم لا يذكره حينئذٍ .

الثانية : أن تكون عاملة عملَ «ليس» كقوله :

من صدّ عن نيرانها *** فأنا ابن قيس لا براح

وإنّما لم يقدّرها مهملةً والرفعَ بالابتداء ؛ لأنّها حينئذٍ واجبة التكرار . وفيه نظر؛ لجواز تركه في الشعر . و«لا» هذه تخالف «ليس» من ثلاث جهات :

أحداها : أنّ عملها قليل حتّى ادّعي أنّه ليس بموجود .

الثانية : أنّ ذكر خبرها قليل حتّى إنّ الزجّاج لم يُظفَر به ، فادّعى أنّها لا تعمل في الاسم

ص: 304

خاصّةً ، وأنّ خبرها مرفوع .

الثالثة : أنّها لا تعمل إلاّ في النكرات ، خلافا لابن جنّي وابن الشجري .

الوجه الثالث : أن تكون عاطفة.

قال بعد ذكر شروطها :

الوجه الرابع : أن تكون جوابا مناقضا لنعم، وهذه تُحذَف الجمل بعدها كثيرا ، يقال : أجاءك زيد؟ فتقول : لا ، والأصل : لا ، لم يجيء .

والخامس : أن تكون على غير ذلك ، فإن كان ما بعدها جملةً اسميّة صدرها معرفةٌ أو نكرة ولم تعمل فيها ، أو فعلاً ماضيا لفظا أو تقديرا ، وجب تكرارها ؛ مثال المعرفة : «لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِى لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ»(1) ، ومثال النكرة التي تعمل فيها : «لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ»(2) ، والتكرار هنا واجب ، بخلافه في : «لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ»(3) ، ومثال الفعل الماضي : «فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى»(4) ، وفي الحديث : «فإنّ المُنْبَتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا بقي» ، وقول الهذلي : كيف أعزم من [لا] شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهلّ ، وإنّما ترك التكرار في : «لا شلّت يداك» و«لا فضّ اللّه فاك» لأنّ المراد الدعاء ، فالفعل مستقبل في المعنى ، ومثله في عدم وجوب التكرار لعدم قصد المعنى ، إلاّ أنّه ليس دعاءً قولُه : «واللّه لا فعلت كذا» .

وأمّا قوله تعالى : «فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ»(5) فإنّ «لا» فيه مكرّرة في المعنى ؛ لأنّ المعنى: فلا فكّ رقبة، ولا أطعم مسكينا ؛ لأنّ ذلك تفسير العقبة . قاله الزمخشري .

وقال الزجّاج : إنّما جاز لأنّ «ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا»(6) معطوف عليه، وداخل في النفي، فكأنّه قيل : فلا اقتحم ولا آمن . انتهى .

ولو صحّ لجاز : لا أكل زيد وشرب . وقال بعضهم : «لا» دعائيّة ، دعاءٌ عليه أن لا يفعل خيرا .

وقال آخَرُ تحضيضٌ ، والأصل : فإلاّ اقتحم ، ثمّ حذفت الهمزة . وهو ضعيف .7.

ص: 305


1- يآس (36) : 40 .
2- الصافّات (37) : 47 .
3- الطور (52) : 23 .
4- القيامة (75) : 13 .
5- البلد (90) : 11 .
6- البلد (90): 17.

وكذلك يجب تكرارها إذا دخلت على مفردٍ خبرٍ أو صفةٍ أو حالٍ ، نحو : زيد لا شاعر ولا كاتب ولا جاء زيد لا ضاحكا ولا باكيا ، ونحو «إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ»،(1)الواقعة (56) : 43 - 44 .(2) «وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لاَ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ»،(2) «وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ»،(3) «مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ»(4) ، وإن كان ما دخلت عليه فعلاً مضارعا لم يجب تكرارها، نحو: «لاَ يُحِبُّ اللّه ُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ»،(5)«قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا»(6) .

ويتخلّص المضارع بها للاستقبال عند الأكثرين ، وخالفهم ابن مالك ؛ لصحّة قولهم : «جاء زيد لا يتكلّم» بالاتّفاق ، على أنّ الجملة الحاليّة لا تصدّر بدليل استقبال .(7)

انتهى ما أردنا نقله من كتاب مغني اللّبيب .

والمقصود بالذِّكر أوّلاً وبالذات قوله : «وكذلك يجب تكرارها إذا دخلت على مفرد» كي يعلم أنّ «لا» في قوله عليه السلام : «لا جسم ولا صورة» غير العاملة ، والباقي من أحكام «لا» ذُكر بالعرض ؛ لأنّ الاحتياج إليها في الأحاديث غير قليل ، فأحببت أن اُذكِّر بها الإخوانَ فيكونَ في ذُكرهم .

باب إطلاق القول بأنّه شيء

[باب إطلاق القول بأنّه شيء]

قوله : (ولَيْسَ قولي «اللّه» إثباتَ [هذه الحروف]) إلى آخره .[ح 6 / 227]

في التوحيد والاحتجاج هكذا : «وليس قولي «اللّه» إثباتَ هذه الحروف : ألف ، لام ، هاء ؛ ولكن ارجع إلى معنى هو شيء خالق الأشياء وصانعها وقعت عليه هذه الحروف ، وهو المعنى الذي يسمّى به اللّه والرّحمن والرحيم والعزيز ، وأشباه ذلك من أسمائه ، وهو المعبود جلّ وعزّ» .

ص: 306


1- البقرة
2- : 68 .
3- الواقعة (56) : 32 - 33 .
4- النور(24) : 35 .
5- النساء (4) : 148 .
6- الأنعام (6) : 90 .
7- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 237 - 244، ملخّصا.

قال السائل : فإنّا لم نجد موهوما إلاّ مخلوقا ؟ قال أبو عبداللّه عليه السلام : «لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنّا مرتفعا ؛ لأنّا لم نكلّف أن نعتقد غير موهوم ، ولكنّا نقول : كلّ موهوم بالحواسّ مدرَكٍ ؛ فما تجده الحواسّ وتمثّله فهو مخلوق ، ولابدّ من إثبات صانع الأشياء خارجا من الجهتين المذمومتين : إحداهما النفي إذا(1) كان النفي هو الإبطالَ والعدمَ ، والجهة الثانية التشبيه إذا(2) كان التشبيه من صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف ، فلم يكن بدّ من إثبات الصانع ؛ لوجود المصنوعين والاضطرار منهم إليه(3) أنّهم مصنوعون».(4)

وباقي الألفاظ كما في المتن .

وفي الاحتجاج قبل قوله : «قال له السائل : فإنّا لم نجد : قال له السائل : أتوهّمه شيئا؟»: «قال : نعم ، غير معقول ولا محسوس» .(5)

ومن قاس ما في النسختين بما في الكافي أيقن أنّ أهمّ الشغل لأهل الدِّين في هذا الزمان مرمّة الأخبار بتصفّح الكتب ، والتوفيق من اللّه .

قوله : (لَمْ نَجِدْ مَوْهوما) .[ح 6 / 227]

أي مخطرا بالبال . في القاموس : «الوهم من خطرات القلب» .(6)

وقوله : (لَكانَ التوحيدُ عَنّا مُرْتَفِعا).[ح 6 / 227]

أي التصديق والإقرار بالحقّ القديم لذاته ، وبما يليق به من صفاته ؛ فإنّ التوحيد كثيرا ما يُطلق في الأخبار على هذا المعنى ، وارتفاع التوحيد على القول بأنّ كلّ ما يخطر بالبال مخلوق ، ظاهرٌ لا يخفى .

والمراد بالتكليف التكليف العقلي ، ويحتمل الأعمّ .

وقوله : (والاضطرارِ إليهم) .[ح 6 / 227]

وفي التوحيد : «والاضطرار منهم إليه» وهو الصواب ، وضمير «إليه» راجع إلى الصانع . .

ص: 307


1- في المصدر : «إذ» .
2- في المصدر : «إذ» .
3- في المصدر : + «أثبت» .
4- التوحيد ، ص 243 ، ح 1 ؛ الاحتجاج ، ج 2 ، ص 331 .
5- لم ينقل هذه الزيادة في الاحتجاج المطبوع .
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 187 (وهم) .

(أنّهم مَصْنوعونَ) أي في أنّهم مصنوعون ، أو إلى الإقرار بأنّهم مصنوعون .

وإذ وقع في هذا الحديث تصحيفات عديدة فلا يستبعد أن يكون الأصل هكذا : «والاضطرار منهم إلى أنّهم مصنوعون» بإسقاط ضمير «إليه».

وقد ورد مثل هذا من الصادق عليه السلام حيث قال في حديث نقله الطبرسي في موضعٍ آخر من كتاب الاحتجاج : «واضطرار النفس إلى الإقرار بأنّ له صانعا مدبّرا» .(1)

باب أنّه لايعرف إلاّ به

[باب أنّه لايُعرفُ إلاّ به]

قوله : (معنى قولِهِ : اعْرِفوا اللّه َ بِاللّه ِ) .[ح 1 / 229]

هذه عبارة المصنّف - طاب ثراه - نقله الصدوق قدس سره في كتاب التوحيد عن عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق رضى الله عنه ، قال : سمعت محمّد بن يعقوب يقول : «معنى قوله : اعرفوا اللّه باللّه يعني أنّ اللّه خلق الأشخاص والأنوار» إلى آخره(2) ، فلا يتوهّم أنّه تفسير الصادق عليه السلام لقول أمير المؤمنين عليه السلام .

ثمّ إنّه عليه السلام قال في الفقرة الاُولى : «باللّه»، وفي الثانية والثالثة : «بالرسالة والأمر بالمعروف والعدل والإحسان»، لا بالرسول واُولي الأمر ؛ فإمّا أن يُراد بالجلالة الثانية المعنى الوصفي حتّى يكون الكلام على سننٍ واحدٍ ، فالمعنى : اعرفوا الذات الأقدس بأنّه اللّه ، أي معبود بالحقّ ، مستجمع لجميع الصفات الكماليّة ، متقدّس عن شوائب النقص ، على أنّ الباء هي التي تدخل في الصفة، كقولك : عرفت زيدا بالسخاء والمروّة ، لا التي تدخل في الدليل ، كقولك للفقيه : بِمَ تعرف عدالة الرجل ، وقوله لك : بصدق الحديث وأداء الأمانة . والأوّل وإن كان فيه تكلّف ما ، إلاّ أنّه يتأيّد بما سيجيء في باب حدوث الأسماء من قوله عليه السلام : «من زَعَمَ أنّه يَعرِفُ اللّه َ بحجابٍ أو بصورةٍ أو بمثالٍ فهو مُشرِكٌ ؛ لأنّ حجابَه ومثالَه وصورتَه غيرُه ، [وإنما هو واحدٌ متوحِّدٌ [وكيف(3)

ص: 308


1- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 338 . وفيه: «لها» بدل «له» .
2- التوحيد ، ص 288 ، ح 5 .
3- في الكافي المطبوع : «فكيف» .

يُوَحِّدُه مَن زَعَمَ أنّه عَرَفَه بغيره ، وإنّما عَرَفَ اللّه َ مَن عَرَفَه بِاللّه ِ».(1)

فتأمّل في وجه إيثار قوله عليه السلام : «من عرفه باللّه» على قوله : «من عرفه به» .

ومن هذا الباب ما روى الصدوق في التوحيد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سُئل : بِمَ عرفت ربّك؟ فقال : «بما عرّفني نفسه». قيل : وكيف عرّفك نفسه؟ فقال : «لا يُشبه(2) صورةً، ولا يُحَسّ بالحواسّ ، ولا يُقاس بالناس ، قريبٌ في بُعده ، بعيدٌ في قربه ، فوق كلّ شيء ، ولا يقال : شيءٌ فوقه ، أمامَ كلّ شيء ، ولا يُقال : له أمام ، داخل في الأشياء لا كشيء داخل في شيء ، وخارج عن الأشياء لا كشيء خارج عن شيء ، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره ، ولكلّ شيء مبتدأ» .(3)

ومن الثاني قوله عليه السلام : «عرفت اللّه بفسخ العزائم» .(4)

وبناء الكليني - طاب ثراه - على الأوّل . وإن اُريد بالجلالة الثانية الذات الأقدس، فلابدّ لتغيير الاُسلوب من نكتة ، فأقول :

إنّ معرفته تعالى على وجهين :

أحدهما : معرفة كونه وثبوته ، بمعنى أن يصدّق العبد أنّ له خالقا عليما قادرا ، وهي فطريّة، بمعنى أنّه تعالى كفى العبادَ مؤونةَ تحصيلها بأن أراهم آياتِه في الآفاق وفي أنفسهم حتّى تبيّن لهم أنّه الحقّ ؛ وإليه الإشارة بقوله عزَّ من قائل : «أَفِى اللّه ِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ»(5) ، فكأنّه سبحانه يقول : أيسع أحدا أن يدّعي الشكَّ في الخالق الحكيم القادر العليم بعد ما يرى مثل هذه الآثار البديعة العجيبة الشاهدة على أنفسها بالمخلوقيّة ؟ كلاّ بل لئن سألتهم مَن خَلَقَ السماواتِ والأرضَ ليقولُنَّ اللّه ُ(6) ، أي الذات المستجمعة للصفات الكماليّة المتفرّدة باستحقاق المعبوديّة .

وفي كتاب المحاسن عن الإمام زين العابدين عليه السلام : «العجب كلُّ العجب لمن شكّ في .

ص: 309


1- الكافي ، ج 1 ، ص 113 ، باب حدوث الأسماء ، ح 4 .
2- في المصدر : «لاتشبهه» .
3- التوحيد ، ص 285 ، ح 2 .
4- نهج البلاغة ، ص 511 ، الحكمة 250 ؛ غرر الحكم ، ص 81 ، ح 1273 .
5- إبراهيم (14) : 10 .
6- إشارة إلى الآية 25 من سورة لقمان (31) .

اللّه وهو يرى الخلق» .(1)

وأورده الصدوق - طاب ثراه - أيضا في أماليه .(2)

وفي خطبة من خطب أمير المؤمنين : «الذي بَطَنَ [من] خفيّاتِ الاُمورِ ، وظَهَرَ في العقول بما يُرى في خَلْقه من علامات التدبير» . نقلها المصنّف - طاب ثراه - والصدوق في التوحيد .(3)

وفي خطبة اُخرى نقلها السيّد الرضيّ في نهج البلاغة : «لم يُطْلِعِ العقولَ على تحديد صفته ، ولم يَحْجُبْها عن واجب معرفته ، فهو الذي شهد(4) له أعلامُ الوجودِ على إقرارِ قلب ذي الجحودِ» .(5)

أقول : هذه الشهادة قولها بلسان الحال أنّ مع وجود أمثالنا آثارِ الصنع الشواهدِ على الصانع الحكيم يمتنع الشكّ في الصانع تعالى ، فالجاحد باللسان مقرٌّ بالقلب لا محالة . وسيجيء في باب النسبة : «عارفٌ بالمجهول ، معروفٌ عند كلّ جاهلٍ» .(6)

وفي خطبة اُخرى من خطب نهج البلاغة :

«وأرانا من ملكوت قدرته ، وعجائبِ ما نطقَتْ به آثارُ حِكْمته ، واعترافِ الحاجةِ من الخَلْقِ إلى أن يُقيمَها بِمِساكِ قدرته(7) ما دَلَّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته، وظهرت في البدائع التي أحدثها(8) آثار صَنْعته وأعلام حِكْمته ، فصار كلُّ ما خَلَقَ حُجّةً له ودليلاً عليه ، وإن كان خلقا صامتا فحُجَّتُه بالتدبير ناطقةٌ ، ودلالَتُه على المُبْدِع قائمةٌ»(9) .1.

ص: 310


1- المحاسن ، ج 1 ، ص 242 ، ح 230 . وفيه : «العجب كلّ العجب للشاكّ في قدرة اللّه وهو يرى خلق اللّه» .
2- لم نعثر عليه في الأمالي للصدوق . وهو في الأمالي للطوسي ، ص 663 ، المجلس 35 ، ح 31 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 141 ، باب جوامع التوحيد ، ح 7 ؛ التوحيد ، ص 31 ، ح 1 .
4- في المصدر : «تشهد».
5- نهج البلاغة ، ص 87 ، الخطبة 49 .
6- الكافي ، ج 1 ، ص 91 ، باب النسبته ، ح 2 ؛ التوحيد ، ص 57 ، ح 15 .
7- في المصدر : «قوّته» .
8- في المصدر : «فظهرت البدائع التي أحدثتها» .
9- نهج البلاغة ، ص 125 ، الخطبة91.

وفي خطبة اُخرى : «لم يَتَقَدَّمْه وقتٌ ولا زمانٌ ، ولم يتعاوَرْه زيادةٌ ولا نقصانٌ ، بل ظَهَرَ للعقولِ بما أرانا من علامات التدبيرِ المُتْقَنِ والقضاءِ المُبْرَمِ ، فمِنْ شواهد خَلْقِه خَلْقُ السماواتِ مُوَطِّداتٍ بلا عَمَدٍ ، قائماتٍ بلا سَنَدٍ» الخطبة .(1)

وفيما ذكرنا من الآيات والروايات تنبيهات وتلويحات على أنّ فطريّة المعرفة الواردة في الأخبار الكثيرة إنّما هي بمعنى حصول موجبات المعرفة من فُشُوّ آثار الصنع والتدبير في جميع أجزاء العالم ، وظهورها لكلّ من له حظٌّ من العقل وقسطٌ من التمييز ، وما قيل من أنّه بمعنى خلق المعرفة بلا مدخليّة مشاهدة الآثار ، فلعلّه رجمٌ بالغيب .

وفي كتاب الإهليلجة للصادق عليه السلام : «والعجب من مخلوقٍ يزعم أنّ اللّه يخفى على عباده، وهو يرى أثر الصنع في نفسه بتركيبٍ يبهر عقله ، وتأليفٍ يبطل حجّته» الحديث .(2)

والفرق بين قولنا بفطريّة هذا القدر من المعرفة - أعني معرفة أنّ لنا خالقا عليما قادرا - وبين قول جماعة بنظريّته أنّ قياسنا الموجب للتصديق من نوع قياسٍ معروفٍ موسومٍ بين العلماء بالقياس الفطري ، ومعلومنا من النتائج المسمّاة بينهم بقياساتها معها ، فلا تحتاج إلى تجشّم الحركتين المعتبرتين في النظريّات .

نعم ، قد يغشى بعض النفوس يوم الغفلة، فيحتاج إلى التنبيه والتذكير ، كما قال تعالى : «أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ»(3) ؛ «أَفَلاَ يُبْصِرُونَ»(4)؛«أَفَلاَ يَنْظُرُونَ»(5) ؛ «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ»(6) ؛ «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى»(7)؛ «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ»(8) ، وعلى ذلك يحمل قوله تعالى : «أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ»(9) ، وقول أمير المؤمنين عليه السلام : «لا تَستطيعُ عقولُ .

ص: 311


1- نهج البلاغة ، ص 260 ، الخطبة 182 .
2- بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 152 .
3- يونس (10) : 3 .
4- السجدة(32) : 27 .
5- الغاشية (88) : 17 .
6- قآ (50) : 37 .
7- الأعلى (87) : 9 .
8- الذاريات (51) : 55 .
9- الأنعام (6) : 50 .

المتفكّرين جَحْدَه»(1) لما نرى من أنّ الواقع هو الأوّل .

وما ورد في الخبر من أنّ المعرفة ليس للعباد فيها صُنْعٌ(2) ، يُحتمل أن يكون إشارةً إلى هذه المعرفة .

وثاني وجهي معرفته تعالى : ما للأنبياء والأوصياء وأشباههم ونظرائهم الذين استضاؤوا بنورهم ، وهي المعرفة الشهوديّة الدائرة على ألسنة أصحاب العرفان ، وهي طورٌ وراء طور العقل ، كما أنّ المعرفة العقليّة طورٌ فوق طور الحسّ .

وناهيك من شاهدٍ لهذا الباب ما ورد في الحديث القدسي : «إنّه - أي العبد - ليتقرّب إليَّ بالنوافل حتّى اُحبّه ، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به ، وبصرَه الذي يُبصِرُ به» . رواه المصنّف في كتاب الإيمان والكفر، في باب من آذى المسلمين واحتقرهم .(3)

وفي دعاء عرفة لأبي عبداللّه الحسين عليه السلام ، وقد نقله السيّد ابن طاووس في كتاب الإقبال : «إلهي تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار ، فاجمعني بخدمة توصلني إليك ؛ كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقرٌ إليك ، ألغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هوالمُظهر لك ؟! متى غِبْتَ حتّى تحتاج إلى دليلٍ يدلّ عليك ؟! ومتى بعُدتَ حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!» .(4)

وفيه أيضا : «منك أطلب الوصول إليك ، وبكَ أستدلُّ عليك» .(5)

وفيه أيضا : «أنت الذي أشرقتَ الأنوار في قلوب أوليائك حتّى عرفوك ووحّدوك» .(6)

وفي دعاء السحر لسيِّد الساجدين وزين العابدين عليّ بن الحسين عليهماالسلام : «[بك .

ص: 312


1- الكافي ، ج 1 ، ص 141 ، باب جوامع التوحيد ، ح 7 ؛ التوحيد ، ص 31 ، ح 1 .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 163 ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح 2 ؛ و ص 164 ، باب اختلاف الحجّة على عباده ، ح 1 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 10 ، ح 29 ؛ التوحيد ، ص 410 - 411 ، ح 1 و 6 ؛ و ص 416، ح 15 ؛ الخصال ، ص 325 ، ح 13 .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 352 ، ح 7 ؛ المؤمن ، ص 32 ، ح 62 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 291 ، ح 443 .
4- الإقبال ، ص 348 - 349 .
5- الإقبال ، ص 349 .
6- الإقبال ، ص 349 .

[ عرفتك، وأنت دللتني عليك، ودعوتني إليك ، ولولا أنت لم أدرِ ما أنت» .(1)

وفي دعاء أمير المؤمنين عليه السلام : «يا مَن دلَّ على ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته» .(2)

وروى الكليني قدس سره عن الإمام قدوة العارفين ومنار السالكين أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد سأله رجلٌ : هل رأيت ربّك؟ فقال : «ويلك ، ما كنت أعبد ربّا لم أرَهُ». قال : كيف رأيته؟ قال : «ويلك، لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان» .(3)

إذا سمعت ما تلونا عليك علمت أنّ الوجه الأوّل من وجهَيِ المعرفة من جهة إراءة اللّه تعالى إيّانا آياته في الآفاق والأنفس حتّى يتبيّن لنا أنّه الحقّ ، فقد كُفيتْ عنّا مؤونةُ تجشّم طلب ذلك الوجه من المعرفة ، فهو معدودٌ من العلوم الضروريّة وإن توقّف حصوله على مشاهدة آثار العمد والتدبير ، كما أنّ المعرفة الحسّيّة - التي هي أيضا من العلوم الضروريّة - تتوقّف على الإحساس ، فلا معنى للأمر بتحصيله ؛ إذ لا يؤمر بتحصيل الحاصل ، بخلاف الوجه الثاني ؛ فقوله عليه السلام : «اعرفوا اللّه باللّه» متوجّه إلى هذا الوجه ، كأنّه عليه السلام يقول : تعرّضوا بالإتيان بالقربات والاجتهاد في الطاعات لأن يحبّكم اللّه ، فيكون على ما وعده سمعكم وبصركم بالمعنى الذي عنده وعند أوليائه ، فترونه وتشاهدونه بذلك البصر ، فتكونون عرفتم اللّه باللّه .

ولا أظنّك يذهب وَهْمك إلى أنّ كون اللّه سبحانه سمع خُلّص أوليائه وبصرهم على وجه الحقيقة ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ؛ بل هو مجاز عن يقين تامّ خالص عن شوب الارتياب ، كأنّه يراه ناشئا عن صدرٍ منشرح ، وقلبٍ مطمئنّ .

وعلى الجملة ، يقينٌ أجلُّ مِن أن يصل إلى حقيقته من لم يغز به ، ومتعلّق هذا اليقين .

ص: 313


1- مصباح المتهجّد ، ص 582 ؛ الإقبال ، ص 67 و 148 ؛ المصباح للكفعمي ، ص 588 .
2- بحار الأنوار ، ج 87 ، ص 339 ، ح 19 ؛ و ج 94 ، ص 242 ، ح 11 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 97 ، باب في إبطال الرؤية ، ح 6 .

غاية ما يمكن للمخلوق أن يرزق فهمه من صفات كمال الخالق المتعالي تقدّست أسماؤه وجلّت كبرياؤه ، وهذا الذي [أشار] إليه قدوة العارفين وإمام المهتدين أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليه - في الحديث الآتي حين سُئل : بِمَ عرفتَ ربَّك؟ قال : «بما عرّفني نَفْسَه» قيل : وكيف عرّفك نفسَه؟ قال : «لا يُشِبهُه صورةٌ» إلى آخر ما قال .(1)

وأمّا قوله عليه السلام : (والرَّسولَ بِالرِّسالَةِ) إلى آخره] ح 1 / 229] ، فوجه تغيير الاُسلوب في الفقرتين حيث لم يقل : «والرّسول بالرسول واُولي الأمر بأُولي الأمر» أنّ من فهم معنى الرسالة وخواصّها ولوازمها عرف من اتّصف بها ومن تكلّفها ، وكذا معنى ولاية الأمر ؛ وذلك لأنّ معنى الرسالة أن يدّعي بشرٌ أنّه جاء من عند اللّه إلى العباد ليتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويُعلّمهم الكتاب والحكمة .

وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام : «فبعث إليهم(2) رُسُلَه ، وواتَرَ إليهم أنبياءَه لِيَستَأْدوهم ميثاقَ فطرتِه ، ويُذَكِّروهم مَنسِيَّ نعمته ، ويَحتجّوا عليهم بالتبليغ ، ويُثيروا لهم دفائنَ العقولِ ، ويُروهم آيات القدرة»(3) الحديث .(4)

فيجب في الحكمة أن يكون المدّعي بحالٍ لا يستطيع المبلَّغ إليه جحده وتكذيبه ؛ إمّا من جهة نصّ السابق الثابت حجّيّته ، وإمّا من جهة المعجزات الباهرة ، وإمّا من جهة الأمارات والقرائن المفيدة باجتماعها العلمَ بصدق المدّعي للرسالة ، كالتحلّي بصفات الكمال ومحامد الخصال ، مثل الأمانة وملازمة الصدق ، وبسط العدل ، وكظم الغيظ، وإيصال الخير إلى كافّة الخلق حسب ما اقتضاه العقل ، والشفقة عليهم والنصح لهم ، ورفض فضول الدنيا ، والإيثار على نفسه ، وحبّ الفقراء الأبرار ، وبغض المتكبِّرين الأشرار ، وترفّع النفس عن خسائس الاُمور ورذائلها ، كلّ ذلك مع عقلٍ متين ، وذهنٍ وقّاد ، وقوّة تصرّف وتمييز فيما يعرض للناس من معضلات الاُمور ومُبهماتها كي لا .

ص: 314


1- الكافي ، ج 1 ، ص 85 ، باب أنّه لايعرف إلاّ به ، ح 2 .
2- في المصدر : «فيهم» .
3- في المصدر : «المقدرة» .
4- نهج البلاغة ، ص 43 ، الخطبة 1 .

يُرمى إلى خفّة العقل ومهانة النفس ، فإذا وجد أمثال هذه القرائن في مدّعي الرِّسالة ولا مانع من جهةٍ فلا مجال لتكذيبه ؛ إذ النفوس السالمة عن الحسد وعداوة الحقّ ومضادّة أهله ، وعن الحبّ المفرط لتقليد الآباء والأسلاف ، مضطرّةٌ بمحبّة مَن تجده بهذه الحِلْية ، وبالإذعان له ، والتصديق فيما يخبر به إذا كان ممّا لا يمتنع العقول عن القبول ، فضلاً عمّا تستحسنه وتراه جاريا على سنن الرشد والصواب .

فاتّضح أنّ وصف الرسالة ممّا يعرف به الرسول ، ووقع تغيير الاُسلوب في الفقرة الاُولى موقعه ، وهكذا الأمر ؛ في اُولي الأمر؛ فإنّ وصف الأمر بالمعروف معنى يستدعي العلم بجميع فروع الفقه ؛ إذ المراد باُولي الأمر - الذين اُمرنا بمعرفتهم - هم الذين ذكرهم اللّه عزّوجلّ ، وقَرَنَ طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله ، فقال : «أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْءَمْرِ مِنْكُمْ»(1) .

فظاهر أنّ إطاعة اللّه وإطاعة رسوله في كلّ ما أمَرَا به ، ومقتضى عدم التقييد في اُولي الأمر فيهم أيضا كذلك .

وقال سبحانه في موضعٍ آخَر من كتابه العزيز في الردّ إلى اُولي الأمر : «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاْءَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(2) ، وإذ وجب إطاعة اُولي الأمر في كلّ ما يأمر وينهى - وما من حركةٍ وسكون إلاّ وهو داخل تحت حكمٍ من الأحكام الخمسة - عُرف بصفة الأثر بالمعروف أنّ اُولي الأمر هم الذين يعلمون جميع مسائل الحرام والحلال ، علما ليس فيه اختلاف ورأي واجتهاد ، كما أنّ علم الرسول صلى الله عليه و آله كذلك ، فوجب أن يكونوا عالمين بأبواب القضايا والأحكام والمواريث والديات والحدود ؛ فهم حكّام على أموال المسلمين ودمائهم ، وأن يكونوا عالمين بأبواب النكاح والطلاق وأبواب الجهاد الذي ربّما يُفضي إلى إتلاف آلاف من النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، فهم حكّام على الفروج والدِّماء والأموال ، ويجب بمقتضى الحكمة أن يكون إجراؤهم لهذه الأحكام بين الناس على وجه العدل مقترنا بالرحمة .

ص: 315


1- النساء (4) : 59 .
2- النساء (4) : 83 .

والشفقة والإحسان ، ولا يعتريهم شوب الغضب وميل الطبع وهوى النفس ، وأن يكونوا معصومين عن الخطأ والسهو والنسيان التي لا يسلم منها أصحاب الآراء والمقاييس ؛ لئلاّ يدخلوا في القضاة الذين قال أمير المؤمنين عليه السلام في شأنهم : «تصرُخُ منه الدماء ، وتبكي منه المواريث ، ويُستَحَلُّ بقضائه الفرجُ الحرام ، ويُحَرَّمُ بقضائه الفرجُ الحلال» الحديث .(1)

فاتّضح أنّ الوصف المذكور - أي الأمر بالمعروف والعدل والإحسان - معرّف اُولي الأمر ومميّزهم عن المتكلّفين المتّسمين بهذا الاسم ، الجالسين مجلسهم بالتغلّب والحيلة والتزوير ، لكن وجود أكثر تلك الاُمور المذكورة في شخصٍ واحد ممّا لا سبيل إلى العلم به إلاّ من جهة من هو عالم بالضمائر ، واقف على السرائر ، فيكشف الوصف المذكور عن ورود النصوص على أشخاص على الخصوص لا محالة، فيفحص عنها من سبقت له من اللّه الحُسنى في ذلك ؛ لأنّه «مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّه ُ لَهُ نُورا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» .(2) وما أحسن ما قال :

هر كه او روى به بهبود نداشت *** ديدن روى نبى سود نداشت

وتلك النصوص مثل قوله تعالى : «إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللّه ُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(3) .

وقولِ رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه» .(4)

وقول كلّ سابقٍ من الأئمّة على لاحقٍ، كما هو مسطور ومضبوط في مظانّه . .

ص: 316


1- الكافي ، ج 1 ، ص 54 ، باب البدع و الرأي والمقاييس ، ح6 ؛ الإرشاد ، ج1 ، ص 231؛ الأمالي للطوسي ، ص234 ، المجلس 9 ، ح 8 .
2- النور (24) : 40 .
3- المائدة (5) : 55 .
4- هذا الحديث متواتر لفظا و معنى في المصادر الفريقين . اُنظر على سبيل المثالِ : الكافي ، ج 1 ، ص 420 ، باب فيه نكت و نتف من التنزيل في الولاية ، ح 42 ؛ الفقيه ، ج 2 ، ص 559 ، ح 3144 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 3 ، ص 143 ، ح 1 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 122 ؛ المجلس 26 ، ح 1 ؛ الأمالي للطوسي ، ص 254 ، المجلس 9 ، ح 48 ؛ الغدير ، ج 1 ، ص 214 .

فظهر أنّ تغيير الاُسلوب في الفقرة الثانية أيضا واقع موقعه ، فالحمدُ للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه .

قوله : (إنّ اللّه َ أَجَلُّ[وأعَزُّ] وَأكْرَمُ مِنْ أنْ يُعْرَفَ بِخَلْقِه) .[ح 3 / 231]

أي ذاته المقدّسة بأن يشبّه بالشمس أو بضوئها أو بآدم أو ببلّورة ، تعالى عن ذلك ، وإلاّ فهو معروف بالآثار، كما أوضحنا في الحاشية السابقة عند ذكر القسم الأوّل من قسمَيِ المعرفة ، وإنّما لا يعرف الذات الأقدس بخلقه؛ لما بيّنه الإمام أبو الحسن الرضا عليه السلام في خطبةٍ خَطَبَها في مجلس المأمون من أنّ نفس خلقيّة الخلق حجابٌ بينه تعالى وبينهم(1) ، فكيف يتصوّر معرفته بهم ؟

وفي خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة : «لا يَحجُبُه الحُجُبُ ، والحجابُ بينه وبين خَلْقِهِ خَلْقُهُ إيّاهم ؛ لامتناعه ممّا يُمكن في ذواتهم ، ولإمكانهم ممّا يمتنع منه» .(2)

وفي خطبة أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهماالسلام : «ليس بينه وبين خَلْقه حجابٌ غير خَلْقه» .(3)

باب المعبود

باب المعبود

قوله : (مَنْ عَبَدَ اللّه ِ بِالتوهّمِ) .[ح 1 / 235]

المراد به الإخطار بالبال على وجه التحديد والتصوير ، ولم يذكر هذا المعنى للتوهّم في شيءٍ من كتب اللغة المشهورة ، مثل الصحاح والقاموس والنهاية والمُغرب وتاج المصادر ؛ بل في القاموس : «الوهم من خطرات القلب ، أو مرجوحُ طَرَفَي المتردَّد فيه ؛ وتوهَّمَ : ظَنَّ» .(4)

ص: 317


1- التوحيد ، ص 34 ، ح 2 ؛ الأمالي للمفيد ، المجلس 30 ، ح 4 ؛ الأمالي للطوسي ، ص 22 ، المجلس 1 ، ح 28 ؛ الاحتجاج ، ج 2 ، ص 398 .
2- لم نعثر عليه في نهج البلاغة . والخبر في الكافي ، ج 1 ، ص 139 ، باب جوامع التوحيد ، ح 5 ؛ والتوحيد ، ص 56 ، ح 14 .
3- التوحيد ، ص 178 ، ح 12 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 327 ، ح 27 .
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 187 (وهم) .

وفي الصحاح : «توهّمت ، أي ظننت» .(1)

وفي تاج المصادر : «التوهّم : گمان كردن» .

وكثيرا ما وجدنا في الأخبار معاني الألفاظ على وجه يكاد يبلغ حدّ القطع من جهة قرائن المقام لم يظفر بها اللغويّون .

وزيادات القاموس على الكتب المتقدِّمة عليه أكثرها ممّا استنبطه مؤلّفه من استعمالات من يوثق بكلامه ، ولكن لم يذكر مآخذها، كما ذكره الزمخشري في الأساس وابن الأثير في النهاية روما للاختصار، كما هو طريقته في ذلك الكتاب ، فلا ينبغي للمحدّث الناظر في الحديث قصرُ المعنى على ما ذكره اللغويّون، والإعراضُ عمّا هو ظاهر من سياق الحديث ظهورا معتدّا به ، كما لاينبغي الجرأة والجسارة على تفسير اللفظ بمحض التخمين بلا مستند ومتمسّك ، بل الصواب التحرّي والاحتياط ؛ واللّه الموفّق .

وفي الاحتجاج في أسئلة الزنديق عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال له السائل : أتوهّمه شيئا؟ قال : «نعم ، غير معقول ولا محسوس» أي الإخطار على وجه يخرجه عن الحدّين : حدّ التعطيل ، وحدّ التشبيه ، والسائل توهّم أنّ مطلق التوهّم والإخطار يوجب مخلوقيّة المُخْطَر ، ولذا قال : إنّا لا نجد موهوما إلاّ مخلوقا ، فأجاب عليه السلام بأنّه : «لو كان ذلك كما تقول، لكان التوحيد عنّا مرتفعا ؛ لأنّا لم نكلَّف غيرَ موهوم»(2) يعني أنّ عقولنا بملاحظة الفقر - الذي هو ذاتيُّ الممكنات ورأسُ مالهم، واستلزام ذلك المعنى بالذات المطهّر ذيل قدسه عن الاتّصاف بما يقبل الخلق والإيجاد - كلّفنا تكليفا اضطراريّا بالاعتراف بما يحتاج إليه تعالى وتقدّس عن مشابهة الممكنات ، وبالعبادة له ، والتخضّع لديه ، فلزمنا أن نتوهّمه في عبادتنا ، وإذ ليس فيه شَبَهٌ من الممكنات حتّى نتوهّمه به ، فلابدّ أن نتوهّمه على وجهٍ يخرجه عن الحدّين ، ولو كان هذا النحو من التوهّم أيضا يوجب المخلوقيّة لكان التوحيد - أي الإقرار بمن ليس كمثله شيء - عنّا مرتفعا ، ولكنّا نقول : كلّ موهوم بالحواسّ مدرَك به تحدّه الحواسّ وتمثّله ، فهو مخلوق . .

ص: 318


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 2054 (وهم) .
2- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 331 .

قوله : (ومَنْ عَبَدَ الاسمَ دونَ المعنى) .] ح 1 / 235]

لعلّ المراد بالاسم مفهوم المشتقّ، والمعنى ما صدق عليه ذلك المفهوم ، وكذلك المسمّى ، والمقصود أنّ المفهوم أمرٌ ذهنيّ ليس موجودا أصلاً ، فعبادته كفر ، وفي الحديث الآتي : «من عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا» .

قوله : (اللّه ُ ممّا هو مُشتقٌّ) .] ح 2 / 236]

كلمة «ما» موصولة ، لا استفهاميّة ، وإلاّ سقطت ألفها كما في قوله تعالى : «عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ»(1)؛ «قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ»(2) ؛ «لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ»(3) والاستفهام المستفاد من الكلام مدلول الهمزة المقدّرة من قبل الجلالة ؛ يعني أنّ هذه اللفظة أمن الألفاظ المشتقّة - التي وضعت لمفهومات كلّية ذهنيّة هي أسماء الأشياء خارجيّة صدقت عليها ، فيكون الاسم الذي هو المفهوم الكلّي غير المسمّى الذي هو أفراده الجزئيّة الخارجيّة - أم من الألفاظ الجامدة التي وضعت لمفهومات جزئيّة داخلة فيها تشخّصاتها مطابق ما في الذهن منها لما هو في الخارج كما هو شأن الأعلام ، فيكون الاسم والمسمّى متّحدين ، لا مغايرة بينهما إلاّ باعتبار الوجودين ، فباعتبار الوجود الخارجي مسمّى وباعتبار الوجود الذهني اسم ، وأسماء الأجناس في حكم المشتقّات من حيث إنّها وضعت لمفهومات كلّيّة هي أسماء الأشياء خارجيّة صدقت عليها، والألفاظ والنقوش مباينتا الحقيقة للاسم والمسمّى ، وعلى هذا يلائم المقام قوله عليه السلام لهشام : (لو كانَ الاسمُ هو المُسمّى لكانَ كلُّ اسمٍ منها إلها) إلى آخره ؛ فتدبّر أجزاء الحديث عسى أن تطمئنّ بما قلنا .

وهذا الحديث قد كرّر في باب معاني الأسماء واشتقاقها ، وستسمع تمام الكلام هناك .

باب الكون والمكان

باب الكون والمكان

قوله : (لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلا وَلَدا) .] ح 1 / 238]

ص: 319


1- النبأ (78) : 1 و 2 .
2- النساء (4) : 97 .
3- مريم (19): 42.

في فصل التاء من القاموس :

تَخِذَ يَتْخَذُ، كعلم[يعلم] : بمعنى أخذ ، وقرئ : «لَتَخِذَتْ» و«لاتّخَذْتَ»(1) وهو افتعل من تَخِذَ ، فاُدغم إحدى التاءين في الاُخرى . ابن الأثير: وليس من الأخذ في شيء ؛ فإنّ الافتعال من الأخذ : ائتخذ ؛ لأنّ فاءه همزة، والهمزة لا تدغم في التاء ، خلافا لقول الجوهري : الاتّخاذ : افتعال من الأخذ ، إلاّ أنّه اُدغم بعد تليين الهمزة وإبدال الياء تاءً ، ثمّ لمّا كثر استعماله بلفظ الافتعال توهّموا أصالة التاء ، فبنوا منه فَعِل يفعل . وأهل العربيّة على خلافه .(2)

أقول : أي على خلاف ما قاله الجوهري .

قوله : (وَكانَ اعتمادُه على قُدرتِه) .] ح 2 / 239]

لمّا توهّم السائل أنّه تعالى كالأجسام لابدّ أن يعتمد ويتّكئ في كونه وقيامه على مكان عرفيّ ، قال عليه السلام : «إنّ اعتماده على قدرته» كنايةً عن أنّه قائم بذاته ، غنيٌّ بذاته .

وفي حاشية السيّد الجليل الرفيع : قوله : «وعلى أيِّ شيءٍ كانَ اعتمادُه» أي بأيّ شيء كان استمداده في خلق ما خلق؟(3)

قوله : (جاء رجلٌ إلى أبي جعفر عليه السلام ) إلى آخره .] ح 3 / 240]

هذا الحديث أورده الصدوق طاب ثراه في كتاب التوحيد في باب نفي الزمان والمكان ، والطريق متّحد ، وكذلك المتن ، إلاّ في مواضع :

منها : قوله : «إنّما يُقال لشيء لم يكن : متى كان»؛ ففي التوحيد : «إنّما يُقال لشيء لم يكن فكان : متى كان» .

ومنها قوله : «ولا كان لكونه كون كيف». في التوحيد : «ولا كان لكونه كيف» وفيه أيضا : «ولا يشبه شيئا مكوّنا» وفيه : «ولا يصعق لشيء ولا يخوّفه شيء ، بل تصعق الأشياء كلّها لخيفته» وفيه : «كيف شاء» بدل «حين شاء» وفيه : «ولا يُسأل عن شيء يفعله» إلى آخره .(4) .

ص: 320


1- الكهف (18) : 77 .
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 351 (تخذ) .
3- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 292 .
4- التوحيد ، ص 141 ، ح 6 .

قوله : (لا يَصْعَقُ لشيءٍ) .] ح 3 / 240]

في النهاية : «الصعق : أن يغشى على الإنسان من صوت شديد يسمعه» .(1)

قوله : (لا يَحارُ من شيءٍ، ولا يُحاوره شيءٌ)(2). ] ح 3 / 240]

الأوّل : من الحيرة . في القاموس : «حار يحار حيرةً : نظر إلى الشيء، فغُشي [عليه[ ولم يهتد لسبيله ، فهو حيران وحائر» .(3) والثاني موضع تأمّل .

في الصحاح : «المحاورة : المجاوبة» .(4)

قوله : (لا تَأخُذُهُ سِنةٌ ولا نَوْمٌ ).] ح 3 / 240]

كلّ من السنة والنوم عدوّ لليقظة ، والثاني أقوى ، وإذا قُصد نفي استيلاء عدوّين أضعفَ وأقوى ، فمقتضى البلاغة نفي استيلاء الأضعف أوّلاً ، ثمّ نفي استيلاء الأقوى ، ألا ترى أنّه يُقال : فلان في القوّة بحيث لا يقاومه ألف ولا آلاف ، فمن قال : إنّ الأقرب في الظاهر أن ينفى النوم ثمّ السنة، فقد غفل عن الاستيلاء المفهوم من الأخذ .

قوله : (كانَ اللّه ُ ولا مكانَ) .] ح 5 / 242]

فيه ردّ على القائلين بأنّ المكان هو الخلا بمعنى الفضاء الخالي .

قوله : (بلا كيفٍ) .] ح 6 / 243]

ليس في التوحيد الفقرات التي بينه وبين قوله : «يا يهودي كيف يكون» إلى آخره .(5)

باب النسبة

باب النسبة

قوله : (لا ظِلَّ له يُمْسِكُهُ) .] ح 2 / 247]

في القاموس : «الظلّ من كلّ شيء: شخصه».(6) والظاهر أنّ المراد هنا التشخّص .

قوله : (معروفٌ عندَ كلِّ جاهلٍ) .] ح 2 / 247]

ص: 321


1- النهاية ، ج 3 ، ص 32 (صعق) .
2- في الكافي المطبوع : «ولايَحارُ ولايُجاوِزهُ شيءٌ».
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 16 (حور).
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 640 (حور) .
5- التوحيد ، ص 77 ، ح 33 .
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 10 (ظلل) . أي بالوجه الأوّل من وجهي المعرفة اللذين ذكرنا في شرح قوله عليه السلام : «اعرفوا اللّه باللّه» .

قوله : (ولا لإرادتِه فَصْلٌ) .] ح 2 / 247]

أي لا يتخلّف المراد عن إرادته: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(1) .

قوله : (فمن رامَ وَراءَ ذلك فقد هَلَكَ) .] ح 3 / 248]

بذكر «الأحد» ينتفي الأجزاء العقليّة من الجنس والفصل ، والأجزاءُ الخارجيّة التي للمركّبات ، والأجزاءُ المقداريّة التي للجسم المفرد ، وبذكر «الصَّمَدُ» ينتفي الاحتياج ، وملزوم هذا الانتفاء الوجوب الذاتي ، ويثبت القدرة على كلّ شيء حتّى يكون مصمودا إليه لكلّ شيء ، ولازم هذا الثبوت العلم بجميع الأشياء ، وبذكر «لَمْ يَلِدْ»ينتفي المشاركة في النوع وانفصالُ شيء منه لطيفٍ أو كثيفٍ ، وبذكر «لَمْ يُولَدْ» ينتفي خروجه من أصل بجميع أنحاء الخروج ، وبذكر «لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أحَدٌ» ينتفي الشبه والمثل ، وجميع تقديسات العلماء الكُمّل ترجع إلى هذه التقديسات .

وآيات سورة الحديد تثبت له تعالى ملك السماوات والأرض ، والقدرةَ على كلّ شيء ، وإحاطةَ العلم بكلّ شيء ، فما سوى ما تضمّنته هذه الآيات الكريمة صريحا أو ضمنا أو التزاما ممّا ينافيه ويخالفه ، فهي فضول وجهالات توجب الهلاك والبوار ؛ نعوذ باللّه منه .

باب النهي عن الكلام في الكيفيّة

باب النهي عن الكلام في الكيفيّة

قوله : (إيّاكَ والخُصُوماتِ ؛ فإنّها تُورِثُ الشَّكَّ) .] ح 4 / 254]

الخصومات من الارتياب الذي نهى عنه أمير المؤمنين عليه السلام في خطبه ، فقال : «لاترتابوا فتشكّوا ، ولا تشكّوا فتدهنوا»(2) نقله المصنّف في باب استعمال العلم ، وذلك أنّ الرجل ربّما يحتاج في المغالبة إلى إنكار حقّ أو تصحيح باطل ، فإذا فعل وسكت

ص: 322


1- يآس (36) : 82 .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 45 ، باب استعمال العلم ، ح 6 ؛ الأمالي للمفيد ، ص 206 ، المجلس 23 ، ح 38 . وفيهما : «فتكفروا» بدل «فتدهنوا» .

الخصم إمّا عجزا أو كفّا عن المِراء ، عرض للرجل شكّ في أنّه لعلّ ما فعل كان صوابا ولأجل ذلك سكت الخصم ، ومن الارتياب أنّ الرجل منَّ اللّه عليه بوساطة حججه عليهم السلام في الكتاب والسنّة ، وهو يتعمّق فيما لم يكلّف البحث عن كنهه ، فيقع في الشكوك والشبهات التي لا يستطيع أن يخرج منها .

وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة الأشباح حيث قال : «فانظُرْ أيُّها السائلُ فما دَلَّكَ عليه القرآنُ من صفته فَأْتَمَّ به ، واستَضِئْ بنور هدايته ، وما كَلَّفَكَ الشيطانُ عِلْمَه ممّا ليس في الكتاب عليك فَرْضُه ، ولا في سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله وأئمّة الهدى أثَرُهُ ، فكِلْ عِلْمَه إلى اللّه سبحانه ؛ فإنّ ذلك منتهى حقِّ اللّه عليك . واعلَمْ أنّ الراسخينَ في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السُّدَدِ المضروبةِ دونَ الغيوبِ الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيرَه من الغيب المحجوب ، فمَدَحَ اللّه ُ تعالى اعترافَهم بالعجزِ عن تناولِ ما لم يُحيطوا به عِلْما، وسَمّى تَرْكَهم التعمّقَ فيما لم يكلّف(1) البحثَ عن كنهه رسوخا، فَاقْتَصِرْ على ذلك ، ولا تُقَدِّرْ عظمةَ اللّه على قَدْرِ عقلك فتكونَ من الهالكين» .(2)

قوله : (إيّاكُمْ والتَّفَكُّرَ) .] ح 7 / 257]

في أنّه سيجيء في كتاب الإيمان والكفر، في باب التفكّر عن أبي عبداللّه عليه السلام : «أفضل العبادة إدمان التفكّر في اللّه وفي قدرته».(3) وطريق التوفيق واضح .

قوله : (والكيفُ مخلوقٌ ، واللّه ُ لا يوصَفُ بخَلْقِه) .] ح 9 / 259]

وجهه ظاهر ؛ لأنّ المخلوق طبيعة مفتقرة الذات ، فلا يتّصف بها الغنيّ بالذات ، وعلى هذا الأصل الأصيل بُنيت التقديسات في الخطب الجليلة الواردة عنهم عليهم السلام في التوحيد ، كقولهم : «بتَجْهيرِه الجواهرَ عرفت أن لا جوهرَ له»(4) وأمثال ذلك . .

ص: 323


1- في المصدر : «لم يُكَلِّفْهُمُ».
2- نهج البلاغة ، ص 125 ، الخطبة 91 .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 55 ، باب التفكّر ، ح 3 .
4- الكافي ، ج 1 ، ص 138 ، باب جوامع التوحيد ، ح 4 ؛ التوحيد ، ص 34 ، ح 2 ؛ و ص 308 ، ح 2 ؛ عيون أخبارالرضا، ج 1 ، ص 149 ، ح 51 ؛ الاحتجاج ، ج 2 ، ص 400 . وفي جميع المصادر : «عُرِفَ» بدل «عرفت» .

باب إبطال الرؤية

باب إبطال الرؤية

قوله : (حيث قال : «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى»(1)) .] ح 2 / 262]

في الكشّاف :

ما كذب الفؤاد : فؤادُ محمّد صلى الله عليه و آله ما رآه ببصره من صورة جبرئيل عليه السلام ، أي ما قال فؤاده لمّا رآه : لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذبا ؛ لأنّه عرفه ؛ يعني أنّه رآه بعينه وعرفه بقلبه، ولم يشكّ في أنّ ما رآه حقّ . وقرئ «ما كذّب» أي صدّقه ولم يشكّ أنّه جبرئيل بصورته.(2) انتهى .

أقول : «صدق» بالتخفيف قد يتعدّى إلى مفعولين ، في التنزيل : «الْحَمْدُ للّه ِِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ»(3)؛ «لَقَدْ صَدَقَ اللّه ُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ»(4) و«كذب» إلى مفعول واحد .

في القاموس : «كُذب الرجل : اُخبر بالكَذِب» .(5)

وفي زيارة يوم الغدير التي نقلها مشايخنا - رضوان اللّه عليهم - عن أبي محمّد بن عليّ العسكريّ عليهم السلام : «وأشهد أنّك ما أقدمت ولا أحجمت ولا نطقت ولا سكتَّ إلاّ بأمرٍ من اللّه ورسوله ، وقلت : والذي نفسي بيده لقد نظر إليَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أضرب بالسيف قُدما ، فقال : يا عليّ ، أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، واُعلمك أنّ موتك وحياتك معي وعلى سنّتي ، فواللّه ما كَذبت ولا كُذبت ولا ضللت ولا ضُلَّ بي» الحديث بطوله .(6)

و«كذب» في الآية الكريمة من هذا الباب على ما قرّره صاحب الكشّاف حيث قال : «أي ما قال فؤاده لمّا رآه : لم أعرفك» إلى آخره ؛ لأنّ «كذب» في كِلَيِ الاستعمالين بمعنى إخبار الغير بخلاف ما علم ، وأمّا «صدق» المتعدّي إلى مفعولين ، فالظاهر أنّه ليس في الآية المذكورة بمعنى الإخبار بالصدق ، بل بمعنى ما نقله صاحب مصادر اللغة

ص: 324


1- النجم (53) : 11 .
2- الكشّاف ، ج 4 ، ص 29 .
3- الزمر (39) : 74 .
4- الفتح (48) : 27 .
5- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 122 (كذب) .
6- بحار الأنوار ، ج 100 ، ص 361 ، ح 6 .

حيث قال في باب فعل يفعل - بفتح العين في الماضي وضمّها في الغابر - : «الصدق : راست گفتن وراست گردانيدن وعده» .

قوله : (إذا كانَتِ الرواياتُ مخالفةً للقرآن كَذَّبْتُها) .] ح 2 / 262]

فيه تبصّرٌ لمن أراد أن يتبصّر .

قوله : (فهذا دليلٌ على أنّ اللّه َ - عزّ ذكره - لا يُرى بِالعَيْنِ) .] ح 3 / 263]

معنى ظاهر هذا الحديث لا يخلو عن حزازة ، والظاهر أنّ الراوي لم ينقله على وجهه ، أو وقع تصرّف من جهة النسّاخ ، وهذا غير قليل في هذا الكتاب ، ولا حاجة بنا إلى تصحيح معناه بالتكلّفات الركيكة التي يشمئزّ منها الطبع السليم .

قال الفاضل المحقّق صاحب البحار بعد نقل ما قالوا في هذا الحديث :

لا يخفى أنّ شيئا من الوجوه لا يخلو من التكلّفات : إمّا لفظيّة وإمّا معنويّة ، ولعلّه عليه السلام بنى ذلك على بعض المقدّمات المقرّرة بين الخصوم في ذلك الزمان إلزاما عليهم كما صدر عنهم كثير من الأخبار كذلك ، واللّه تعالى يعلم وحججه حقائق كلامهم عليهم السلام .

واعلم أنّ الاُمّة اختلفوا في رؤية اللّه تعالى على أقوال ؛ فذهبت الإماميّة والمعتزلة إلى امتناعها مطلقا ، وذهبت المشبّهة والكرّاميّة إلى جواز رؤية اللّه في الجهة والمكان؛ لكونه تعالى عندهم جسما ، وذهبت الأشاعرة إلى جواز رؤية اللّه تعالى منزّها عن المقابلة والجهة والمكان .

قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال ناقلاً عن بعض علمائهم : إنّ رؤية اللّه تعالى جائزة في الدنيا عقلاً ، واختلف في وقوعها ، وفي أنّه هل رآه النبيّ صلى الله عليه و آله ليلة الإسراء أم لا ، فأنكرته عائشة وجماعة من الصحابة والتابعين والمتكلِّمين ، وأثبت ابن عبّاس وقال : إنّ اللّه اختصّه بالرؤية ، وموسى بالكلام ، وإبراهيم بالخلّة ، وأخذ به جماعة من السلف والأشعري وابن حنبل ، وكان الحسن يقسم لقد رآه ، وتوقّف فيه جماعة ، هذا حال رؤيته في الدنيا .

وأمّا رؤيته في الآخرة فجائزة في الآخرة(1) ، وأجمع على وقوعها أهل السنّة ، وأحالها .

ص: 325


1- في المصدر : «عقلاً» بدل «في الآخرة» .

المعتزلة والمرجئة والخوارج ، والفرق بين الدنيا والآخرة أنّ القوى والإدراكات ضعيفة في الدنيا ، حتّى إذا كانوا في الآخرة وخلقهم للبقاء قوّى إدراكهم، فأطاقوا رؤيته . انتهى .

[ثمّ قال:]

وقد عرفت ممّا مرّ أنّ استحالة رؤيته تعالى مطلقا من المعلومات(1) من مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وعليه إجماع الشيعة باتّفاق المخالف والمؤالف و[قد دلّت [عليه الآيات الكريمة ، واُقيمت عليه البراهين الجليلة .(2) انتهى .

أقول : الاختلاف نشأ من ظواهر الآيات والأحاديث ، كقوله تعالى : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»(3) ، وقوله تعالى : «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى»(4) ؛ «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى»(5) ، وقوله تعالى : «فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ»(6) إلى غير ذلك .

وفي كتاب الدعاء من الكافي في باب الدعاء في أدبار الصلاة، برواية أبي جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه السلام : «كان النبيّ صلى الله عليه و آله يقول إذا فرغ من صلاته : اللّهمَّ اغفر لي» إلى قوله : «وأسألك الرضا بالقضاء ، وبركة الموت بعد العيش، وبَرْد العيش بعد الموت، ولذّة النظر(7) إلى وجهك ، وشوقا إلى رؤيتك ولقائك» .(8)

ومن أيقن بالبراهين القاطعة العقليّة والنقليّة أنّ اللّه سبحانه ليس كمثله شيء ، فقد استراح من التشاجر والتنازع ، وعلم أنّ الرؤية التي نفهم معناها جلَّ ساحة الكبرياء عن أن تحوم حولها ، بل النظر والرؤية مجاز عن نسبة شريفة لا نسبة أشرف وألذّ منها ، وهذه عطيّة لا يستأهلها إلاّ الكُمّل من الأنبياء والأوصياء والصدِّيقون ؛ رزقنا اللّه شرف جوارهم باقتفاء آثارهم .

قوله : (ما لم يَكُنْ بينَ الرائي والمرئيِّ هواءٌ لم يَنْفُذْهُ البَصَرُ) .] ح 4 / 264]

وفي بعض النسخ بدون «لم»، وكذا في الاحتجاج، وفيه : «فمتى انقطع الهواء وعدمَ .

ص: 326


1- في المصدر : «هو المعلوم» بدل «من المعلومات».
2- بحارالأنوار، ج 4، ص 58 - 61 .
3- القيامة (75) : 22 و 23 .
4- النجم (53) : 11 .
5- النجم (53) : 13 .
6- الكهف (18) : 110 .
7- في المصدر : «المنظر».
8- الكافي ، ج 2 ، ص 547 ، باب الدعاء في أدبار الصلوات ، ح 6 .

الضياء لم تصحّ الرؤية ، وفي وجوب اتّصال الضياء بين الرائي والمرئيّ وجوب الاشتباه» .(1)

فثبت أنّه لا يجوز عليه سبحانه الرؤية بالأبصار ؛ لأنّ الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسبّبات .

أقول : في القاموس : «تشابها واشتبها : أشبه كلّ منهما الآخَر» .(2) وعلى هذا يكون قوله (وكان ذلك التشبيه) كالتكرار ، ولا يبعد أن يكون أحدهما نسخةَ بدلٍ للآخر ، فجَمَع الكاتب بينهما ، كما يشعر به ما في الاحتجاج .

وما في كتاب التوحيد موافق لما في الكافي بزيادة في قبل «ذلك التشبيه».(3)

ويمكن أن يكون ذكر «الاشتباه» لبيان حال الرائي والمرئيّ ، وذكر «التشبيه» لبيان ما وجب من الحكم بشبه جناب الأقدس لرائيه في الجسميّة التي هي ملزومة تشابههما في السبب الموجب بينهما في الرؤية .

قوله : (فكَشَفَ له) .] ح 8 / 268]

هذا الحديث أورده الصدوق في كتاب التوحيد في باب أنّه تعالى شيء ، والطريق متّحد ، وكذا المتن إلاّ قوله : «فكشف له» إلى آخره ؛ فإنّ فيه : «فكشف لي ، فأراني اللّه ما أحبّ» .(4)

قوله : (في قوله : «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ»(5)القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 373 (بصر) .(6)) .] ح 9 / 269]

في القاموس : «البصر - محرّكةً - : حسّ العين ، والجمع : أبصار . ومن القلب : نظره وخاطره» .(6)

ومقتضى السياق أنّ البصر بمعنى نظر القلب لا يُجمع هذا الجمعَ ، ويكذّبه قوله عليه السلام في تفسير الآية : «إحاطة الوهم» . .

ص: 327


1- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 449 .
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 286 (شبه) .
3- التوحيد ، ص 109 ، ح 7 .
4- التوحيد ، ص 108 ، ح 4 .
5- الأنعام
6- : 103 .

وأمّا قوله عليه السلام : «ألاترى» إلى قوله : «فلان بصير بالدراهم» فالغرض منه ذكر شواهدَ على استعمال ما اشتقّ من هذه المادّة في رؤية القلب بصنوف الاشتقاقات ليكسر سَوْرة الاستبعاد لإرادة المعرفة القلبيّة بالأبصار .

وعلى هذا فيكون قوله تعالى : «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ» من المجملات التي احتيج في معرفة المراد إلى التوقيف والقرائن ، وهذا كلّه بناءً على أنّه ما كانت كتب اللغة مدوّنةً في تلك الأعصار ، وإنّما دوّنوها بعدها ، وإلاّ فكلام صاحب القاموس وصاحب الصحاح(1) حيث صرّحا بمجيء البصر بمعنى حسّ العين ووهم القلب كافٍ في المقصود .

قوله : (إنّ أوهامَ القلوبِ أكثر(2) من أبصارِ العيونِ ، فهو لا تُدْرِكُه الأوهامُ وهو يُدرِكُ الأوهامَ) . [ح10 / 270]

الغرض تعليم استنباط المرام من الآية الكريمة ، وكأنّه عليه السلام يقول : إنّ البصر مشترك بين حسّ العين ووهم القلب ، والجمع المحلّى باللام يفيد شمول جميع الأفراد ، فإذا نفى إدراك اللّه تعالى عن الأبصار ، كان أكبر الأفراد وأدقّها وأنفذها - وهو وَهْم القلب - هو المنفيَّ بالذات ، وأصغرها وأضعفها - وهو حسّ العين - منفيّ بالعرض وبطريقٍ أولى .

وإلى هذا أومأ في الحديث الآتي حيث قال عليه السلام : «أوهامُ القلوبِ لا تُدرِكُه، فكيف أبصارُ العيون» .

قال السيّد الجليل الرفيع في الحاشية :

المراد نفي إحاطة الوهم ، ويلزمه نفي الإبصار بالعين ، فأفاد نفي الإبصار بالأوهام مطابقةً ، ونفي الإبصار بالعيون التزاما .

وقوله : «ألا ترى» إلى آخره ، استشهاد لصحّة إرادة إدراك الأوهام من إدراك الأبصار .

قال :

وقوله : «أوهام القلوب لا تدركه ، فكيف أبصار العيون» أي يلزم من نفي أوهام القلوب نفي أبصار العيون ؛ فنفيها نفي لهما .(3) .

ص: 328


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 373 ؛ الصحاح ، ج 2 ، ص 591 (بصر) .
2- في الكافي المطبوع : «أكبر».
3- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 334 - 336 .

باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه

باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه

قوله : (ولا تَعْدُوا القرآنَ فَتَضِلّوا بعد البيانِ) .] ح 1 / 273]

قد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الباب ما هو دستور لاُولي الألباب ؛ قال عليه السلام في خطبة الأشباح من خطب نهج البلاغة بعدما سأله سائلٌ وقال : صِفْ لنا ربّك ، نزد له معرفةً وبه حبّا ، فأمر عليه السلام بالصلاة جامعةً ، ثمّ صعد المنبر ، وخطب خطبةً بليغةً مشتملةً على تقديس اللّه وتنزيهه : «فَانظُرْ أيُّها السائلُ ، فما دَلَّ(1) عليه القرآن من صنعته(2) فَأْتَمَّ به، واستِضيءْ بنور هدايته ، وما كَلَّفَكَ الشيطانُ عِلْمَه ممّا ليس عليك في الكتاب(3) فَرْضُه ، ولا في سنّة النبيّ وأئمّة الهُدى أَثَرُه ، فكِلْ عِلْمَه إلى اللّه سبحانه ؛ فإنّ ذلك منتهى حقّ اللّه عليك . واعلم أنّ الراسخينَ في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السُّدَدِ المضروبةِ دونَ الغيوبِ الإقرارُ بجملة ما جَهِلوا تفسيرَه من الغيب المحجوب ، فمَدَحَ اللّه ُ تعالى اعترافَهم بالعجز عن تناول ما لم يُحيطوا به عِلْما ، وسمّى تركهم التعمّقَ فيما لم يُكَلِّفْهُمْ البحثَ عن كنهه رسوخا ، فاقتصِرْ على ذلك ، ولا تُقَدِّرْ عظمةَ اللّه ِ سبحانه على قَدْرِ عقلك ، فتكونَ من الهالكين» الحديث .(4)

أقول : قوله عليه السلام : «الراسخين في العلم» ناظرٌ إلى قوله تعالى : «هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّه ُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»(5) .

وقوله عليه السلام : «الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره» ناظرٌ إلى قوله تعالى : «يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا» ، فدلّ الحديث على أنّ الراسخين في العلم لا يقتحمون في

ص: 329


1- في المصدر : «دلّك».
2- في المصدر : «صفته» .
3- في المصدر : «في الكتاب عليك».
4- نهج البلاغة ، ص 125 ، الخطبة 91 .
5- آل عمران (3) : 7 .

المتشابهات ، بل يقتصرون على الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره ، وعلى قول : إنّا آمنّا به كلٌّ من عند ربّنا ، والاعتراف بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، ورسوخهم في العلم هو ترك التعمّق فيما لم يكلَّفوا البحث عن كنهه .

ومقتضى هذا أن يكون «وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ» مبتدأ و«يَقُولُونَ» خبره ، ويصحّ الوقف على اللّه ، ويكون كلّ من يقرّ ويعترف الإقرارَ والاعترافَ المذكورين ويكفّ نفسه عن الاقتحام المذكور داخلاً في الراسخين المذكور في الآية .

وفي رواية هشام المذكورة في أوّل كتاب العقل : «يا هشام ، ثمّ ذكر اُولي الألباب بأحسن الذِّكْر ، وحلاّهم بأحسن الحِلْية ، فقال : «يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ»(1)آل عمران (3) : 7 .(2) إلى قوله : وقال : «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الاْءَلْبَابِ» .(2)

ومقتضى هذا أيضا الوقف على اللّه كما لا يخفى ، ومقتضى الأخبار التي جاءت عن الأئمّة الأطهار - سلام اللّه عليهم - في أنّهم هم الراسخون في العلم الوقفُ على العلم ، وعدمُ حصول الرسوخ لآحاد الاُمّة .

والجمع بأن يحمل الرسوخ تارةً على الثبات والاستقرار في علم التأويل بأن لا يأوِّلوا المتشابهات بالظنّ والتخمين والرأي والاجتهاد التي يلزمها التزلزل والانتقال من قول إلى قول ، بل بتعليم وتوقيف من اللّه تعالى .

وعلى هذا المعنى كان الوقف على العلم و«يَقُولُونَ» استئناف أو حال وضمير «بِهِ» للكتاب «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»أي محكمه ومتشابهه . والرسوخ بهذا المعنى مختصّ بالنبيّ وآله الأطهار، سلام اللّه عليهم .

وفي باب أنّ الراسخين هم الأئمّة عليهم السلام : «فرسول اللّه صلى الله عليه و آله أفضلُ الراسخين في العلم ، قد عَلَّمَه اللّه ُ عزّوجلّ جميع ما أنزَلَ عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان اللّه لِيُنْزِلَ عليه شيئا لم يُعَلِّمُهُ تأويلَه ، وأوصياؤُهُ من بعده يعلمونه كُلَّه ، والذين لا يعلمون تأويلَه إذا .

ص: 330


1- البقرة
2- : 269 .

قال العالمُ فيهم بعلمٍ، فأجابهم اللّه بقوله : «يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»» الحديث .(1)

ويُحمل تارةً اُخرى على الاستقرار والثبات في علم المحكمات ، وعدم التجاوز عنه إلى طلب التأويل بالرأي والتظنّي ، والوقفُ على هذا على «إلاَّ اللّه ُ» وضمير «بِهِ» راجع إلى «ما» في «مَا تَشَابَهَ» ، و«كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا» أي المحكم والمتشابه كلاهما حقٌّ جاء من عند اللّه إلى المستودعين لعلم اللّه ، لا مناقضة بينهما ، ونحن مقرّون به، والمعترفون بالعجز عن استنباط مراد اللّه منه ، ولا سبيل لنا إلاّ السؤال عن أهل الذِّكر ؛ فليتدبّر قوله عليه السلام : «وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا».

والوقف على كلا الموضعين مجوّز عند القرّاء .

باب النهي عن الجسم والصورة

باب النهي عن الجسم والصورة

قوله : (الحمدُ للّه فاطرِ الأشياءِ إنشاءً ومُبْتَدِعِها ابتداءً(2) بقدرته وحكمته ، لا من شيءٍ فيبطُلَ الاختراعُ ، ولا لعلّةٍ فلا يَصِحَّ الابتداعُ) . [ح 3 / 287]

يظهر من جعل الإنشاء مفعولاً مطلقا للفطر ، والابتداءِ مفعولاً مطلقا للابتداع أنّ الكلّ بمعنى . وأهل اللغة أيضا لم يفرّقوا بينها .

قال الزمخشري في الأساس : «فطر اللّه الشجر بالورق فانفطر به ، وفطر اللّه الخلق وهو فاطر السماوات : مبتدعها».(3) وفيه : «أبدع الشيء وابتدعه : اخترعه»(4) . وفيه : «اخترع اللّه الأشياء : ابتدعها من غير سبب» .(5) وفيه : «أنشأ اللّه الخلق» .(6)

وفي الصحاح : «الفطر : الشقّ . والفطر : الابتداع والاختراع»(7) . وفيه : «الخرع : الشقّ ؛ يُقال : اخترعه وأنشأه وابتدعه»(8) . وفيه : «أبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال ، واللّه

ص: 331


1- الكافي ، ج 1 ، ص 213 ، باب أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة عليهم السلام ، ح 2 .
2- في الكافي المطبوع: «ابتداعا» .
3- أساس البلاغة، ص 476 (فطر).
4- المصدر، ص 32 (بدع).
5- المصدر، ص 159 (خرع).
6- المصدر، ص 631 (نشأ).
7- الصحاح ، ج 2 ، ص 781 (فطر) .
8- المصدر ، ج 3 ، ص 1203 (خرع).

تعالى بديع السماوات والأرض. والبديع : المبتدع أيضا» .(1)

وفي المُغرب : «اسم من ابتدع الأشياء : ابتدأه»(2) . وفيه : «الفطر : إيجاد الشيء ابتداءً وابتداعا ، يُقال : فطرا اللّه الخلق فطرا : إذا ابتدعهم» .(3)

وفي النهاية : «الفطر : الابتداع والاختراع . وفيها : من أسماء اللّه تعالى البديع ، وهو الخالق المخترع لا على مثال سابق» .(4)

وفي القاموس : «بدعه، كمنعه : أنشأه، كابتدعه».(5) «والخرع كالمنع : الشقّ . واخترعه : شقّه وأنشأه .(6)

ومقتضى العقل أيضا أنّ جميع أسماء اللّه تعالى الفعليّة هي بمعنىً واحدٍ ، وهو إفاضة الكون والتحقّق على مقدورات القدرة الكاملة التي هي عين الذات الحقّة المنكشفة عنده تعالى من العلم بالذات ، الذي هو عين الذات، وإنّما تعدّدت تلك الأسماء باعتبار اختلاف مفهومات تلك المقدورات ، وتلك الإفاضة إفاضة ناشئة من الجود المطلق الذي هو عين الذات ، غير مشروط بشرط سوى الاستحقاق ، ومرجعه إلى عدم كون وجود المقدور مضادّا ومنافيا لجبروته وعزّ جلاله .

فما ورد في كلام سيِّد الساجدين زين العابدين عليه السلام في الصحيفة الكاملة في دعاء الحمد من قوله عليه السلام : «ابتدع بقدرته الخلق ابتداعا ، واخترعهم على مشيّته اختراعا ، ثمّ سلك بهم طريق إرادته ، وبعثهم على سبيل محبّته» الدعاء(7) ، تعليق الابتداع على القدرة، والاختراع على المشيّة ، وتخصيص تفريع بطلان الاختراع بالكون من شيء ، وبطلان الابتداع بالتكوين لعلّه - كما في الحديث الذي نحن فيه - مبنيّ على الجهات الاعتباريّة والملاحظات العقليّة ، وستسمع في تضاعيف الكتاب ما يوجب زيادة بصيرة في هذا الباب . .

ص: 332


1- المصدر ، ج 3 ، ص 1183 (بدع).
2- المغرب ، ص 37 (بدع).
3- المصدر ، ص 362 (فطر).
4- النهاية ، ج 1 ، ص 106 (بدع).
5- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 4 (بدع).
6- المصدر ، ج 3 ، ص 17 (خرع).
7- الصحيفة السجّاديّة ، ص 28 ، الدعاء 1 .

قوله : (ليس القولُ ما قالَ الهشامان) . [ح 5 / 289]

في كتاب البحار :

لا ريب في جلالة قدر الهشامين وبراءتهما عن هذين القولين ، وقد بالغ السيّد المرتضى - قدّس اللّه روحه - في براءة ساحتهما عمّا نُسب إليهما في كتاب الشافي مستدلاًّ عليها بدلائلَ شافيةٍ ، ولعلّ المخالفين نسبوا إليهما هذين القولين معانَدَةً ، كما نسبوا المذاهب الشنيعة إلى زرارة وغيره من أكابر المحدِّثين ، أو لعدم فهم كلامهما ، فقد قيل : إنّهما قالا بجسم لا كالأجسام ، وبصورةٍ لا كالصور ، فلعلّ مرادهما بالجسم الحقيقة القائمة بالذات ، وبالصورة المهيّة . [...]

قال الشهرستاني : حكى الكعبي عن هشام بن الحكم أنّه قال : هو جسم ذو أبعاض، له قدر من الأقدار ، ولكن لا يشبه شيئا من المخلوقات ، ولا يشبهه شيء .[...]

وحكى عنه أبو عيسى الورّاق أنّه تعالى مماسٌّ لعرشه ، لا يفضل عنه شيء من العرش ، ولا يفضل هو عنه .

وقال هشام بن سالم : إنّه تعالى على صورة إنسانٍ أعلاه مجوّف ، وأسفله مُصْمَتٌ . [...]

ثمّ قال : وغلا هشام على عليّ حتّى قال : إنّه إله واجب الطاعة ، وهذا هشام بن الحكم صاحب [غور] في الاُصول لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة ؛ فإنّ الرجل وراء ما يلزمه على الخصم ، ودون ما يظهره من التشبيه ، وذلك أنّه ألزم العلاّف فقال : إنّه يقول(1) : إنّ الباري تعالى عالم بعلم ، وعلمه ذاته ، فيشارك المحدثات في أنّه عالم بعلم ، ويباينها في أنّ علمه ذاته ، فيكون عالما لا كالعالمين ، فلِمَ لا يقول إنّه جسمٌ كالأجسام ، وصورةٌ لا كالصور ، وله قدر لا كالأقدار، إلى غير ذلك . انتهى كلام الشهرستاني .

فظهر أنّ نسبة هذين القولين إليهما [إمّا] لتخطئة رواة الشيعة وعلمائهم وبيان سفاهة آرائهم ، أو أنّهم لمّا ألزموهم من الاحتجاج أشياءَ إسكاتا لهم نسبوها إليهم ، والأئمّة عليهم السلام لم ينفوها عنهم ؛ إمّا للتبرّي عنهم إبقاءً عليهم ، أو لمصالحَ اُخرَ .

ويمكن أن يُحمل هذا الخبر على أنّ المراد ليس هذا القول الذي تقول ما قال الهشامان ، بل قولهما مباين لذلك . .

ص: 333


1- في المصدر : «إنّك تقول» .

ويُحتمل أن يكون هذان مذهبهما قبل الرجوع إلى الأئمّة عليهم السلام والأخذ بقولهم ؛ فقد قيل : إنّ الهشام بن الحكم قبل أن يلقى الصادق عليه السلام على رأي جهم بن صفوان.(1) انتهى ما نقلناه من البحار .

باب صفات الذات

باب صفات الذات

قال الفاضل المحقّق صاحب البحار :

اعلم أنّ أكثر الأخبار(2) تدلّ على نفي زيادة الصفات ؛ أي على نفي صفات موجودة زائدة على ذاته ؛ أمّا كونها عينَ ذاته بمعنى أنّها تصدق عليها ، أو أنّها قائمة مقام الصفات الحاصلة في غيره تعالى ، أو [أنّها] اُمور اعتباريّة غير موجودة في الخارج واجبة الثبوت لذاته تعالى ، فلا نصّ فيها على شيءٍ منها ، وإن كان الظاهر من بعضها أحدَ المعنيين الأوّلين ، ولتحقيق المقام من(3) ذلك مقامٌ آخر .

قال المحقّق الدواني : لا خلاف بين المتكلِّمين كلّهم والحكماء من(4) كونه تعالى عالما قديرا مريدا متكلِّما وهكذا في سائر الصفات ، ولكنّهم تخالفوا في أنّ صفاته عين ذاته أو غير ذاته ، أو لا هو ولا غيره ؛ فذهب المعتزلة والفلاسفة إلى الأوّل ، وجمهور المتكلّمين إلى الثاني ، والأشعري إلى الثالث ، والفلاسفة حقّقوا عينيّة الصفات بأنّ ذاته تعالى من حيث إنّه مبدأ لانكشاف الأشياء [عليه] عِلْم ، ولمّا كان مبدأُ الانكشاف عينَ ذاته كان عالما بذاته ، وكذا الحال في القدرة والإرادة وغيرهما من الصفات . قالوا : وهذه المرتبة أعلى من أن تكون تلك الصفات زائدةً عليه ؛ فإنّا نحتاج في انكشاف الأشياء علينا إلى صفة مغايرة لنا ، قائمة بنا ، واللّه تعالى لا يحتاج إليه ، بل بذاته ينكشف الأشياء عليه ، ولذلك قيل : محصول كلامهم نفي الصفات وإثبات نتائجها وغاياتها .

وأمّا المعتزلة ، فظاهر كلامهم أنّها عندهم من الاعتباريّات العقليّة التي لا وجود لها في الخارج .(5)

انتهى ما نقلناه من البحار .

ص: 334


1- بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 288 - 290، ملخّصا .
2- في المصدر : «أكثر أخبار هذا الباب» .
3- في المصدر : «في» .
4- في المصدر : «في» .
5- بحار الأنوار، ج 4، ص 62 - 63 .

وفي توحيد الصدوق رضى الله عنه بإسناده عن الباقر ، عن أبيه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام في خطبةٍ خطبها بعد موت النبيّ صلى الله عليه و آله بتسعة أيّام، وذلك حين فرغ من جمع القرآن : «الحمد للّه الذي أعجز الأوهام أن تدرك(1) إلاّ وجوده ، وحجب العقول أن تتخيّل ذاته» إلى قوله : «فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن ، ويتمكّن(2) منها لا على الممازجة ، وعلمها لا بأداة ، لا يكون العلم إلاّ بها ، وليس بينه وبين معلوم علم غيره» الخطبة .(3)

تو فضول از ميانه بيرون بَر *** گوش خر در خورست با سر خر

همه را از طريق حكمت و داد *** آنچه بايست ، بيش از آن هم داد

قوله : (فلمّا أحْدَثَ الأشياءَ) . [ح 1 / 293]

أي بمحض هويّته الأقدس الذي هو علم وعالم ومعلوم ، وقدرة وقادر ، ومشيّة وشاء ، بمعنى كونه تعالى بحيث يترتّب عليه غايات هذه الصفات بدون مباديها ، والقائم مقام مبادئ الجميع بحتُ الذات الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء ، وتلك الحيثيّة أيضا عين الذات ، ليست مكتسبة بتجربة وإعمال فكر ورويّة .

قوله : (وكانَ المعلومُ) . [ح 1 / 293]

أي حدث بإحداثه تعالى ، واللام للإشارة إلى ما سبق ذكره في قوله عليه السلام : «ولا معلوم» أي المعلوم المنفيّ ، والمراد حدوث ذات المعلوم ، والوصف العنواني للتعبير .

قوله : (وَقَعَ العلمُ منه على المعلومِ) . [ح 1 / 293]

اللام في العلم للعهد ؛ أي العلم المعروف المستعمل في المحاورات ، وهو مصدر علم يعلم ، ويُترجم في الفارسيّة : «دانستن» .

وبما قلنا يظهر معنى ما في مواضعَ من القرآن من نحو فعلنا كذا لنعلم كذا ، قال اللّه تعالى : «فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى .

ص: 335


1- في المصدر : «أن تنال» .
2- في المصدر : «تمكّن» .
3- التوحيد ، ص 72 ، ح 27 . وهو في الأمالي للصدوق ، ص 320 ، المجلس 52 ، ح 8 .

لِمَا لَبِثُوا أَمَدا»(1) ، وفي سورة سبأ : «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤمِنُ بِالآخِرَةِ»(2) .

وفي تفسير العيّاشي عن داود الرقّي، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام في قوله تعالى : «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللّه ُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ»(3) ، قال : «إنّ اللّه هو أعلم بما هو مكوّنه قبل أن يكوّنه وهم ذرّ ، وعلم من يجاهد ممّن لا يجاهد ، كما علم أنّه يميت خلقه قبل أن يميتهم ولم يرهم موتى وهم أحياء» .(4)

أقول : قوله عليه السلام : «قبل أن يكوّنه وهم ذرّ» لعلّه إشارة إلى نشأة الثبوت الذي بيّنّاه ، وكذلك جميع أحاديث الذرّ .

قوله : (فَعِلْمُه به قبلَ كَوْنِهِ كَعِلْمِه به بعد كَوْنِهِ) . [ح 2 / 294]

ومثله في الحديث الآتي ، وسيجيء في باب جوامع التوحيد : «أحاطَ بالأشياء عِلْما قبل كَوْنِها ، فلم يزدد بكونها عِلْما ، عِلْمُهُ بها قبل كونها(5) كعلمه بعد تكوينها» .(6)

وفي كتاب التوحيد للصدوق عن أبي الحسن عليه السلام في جواب كتاب كتبه أيّوب بن نوح : «لم يزل اللّه عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء» .(7)

وفيه عن ابن مسكان، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن اللّه تبارك وتعالى : أكان يعلم المكان قبل أن يخلق المكان ، أم علمه به عند ما خلقه وبعد ما خلقه؟

فقال : «تعالى اللّه ، بل لم يزل عالما بالمكان قبل تكوينه كعلمه به بعدما كوّنه ، وكذلك علمه بجميع الأشياء كعلمه بالمكان» .(8)

أقول : هذه الأحاديث والتي سبق نقلها صريحة في أنّ الممكنات بأسرها معلومة للّه .

ص: 336


1- الكهف (18) : 11 و 12 .
2- سبأ (34) : 20 و 21 .
3- آل عمران (3) : 142 .
4- تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 199 ، ح 147 .
5- في المصدر : «قبل أن يكوّنها».
6- الكافي ، ج 1 ، ص 134 ، باب جوامع التوحيد ، ح 1 . وهو في التوحيد ، ص 41 ، ح 3 .
7- التوحيد ، ص 145 ، ح 13 .
8- التوحيد ، ص 137 ، ح 9 .

تعالى في الأزل على وجه الخصوص والجزئيّة كما هي بعد التكوين ، فكونها - سواء كان في هذه النشأة أو في النشأة البرزخيّة أو في نشأة معاد وحشر الأجساد - لباس لها ، واللّه تعالى عالم في الأزل بذاته من غير صورة وشبح ومثال بأنّ المهيّة الإنسانيّة - التي الاختيار المطلق فصلٌ لها ، أو لازم فصل - يختار كلّ فرد منها باعتبار خصوصيّته في أيّ نشأة متلبّسا بلباس له في تلك النشأة ، مع أيّ داعٍ يوجّهه إليه، ماذا من الخيرات والشرور حسبَ المناسبة الذاتيّة ، وربّما يختار بعضهم بصميم القلب مع داع خاصّ أن يفعل فيما يأتي خيرا ، فإذا حان حين الفعل انقلب اختياره إلى اختيار الضدّ ، وهذا الأخير هو الاختيار الذاتي الذي كان لسان حال له في علم اللّه يسأل به التمكّن من الوصول إلى مختار ذلك الاختيار الذي هو محبوبه ، بل معشوقه .

ويشهد لما ذكرنا من أمر الاختيار الذاتي مضافا إلى التجربة والوجدان قولُه تعالى في سورة المؤمنون: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِى لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(1) ؛ وذلك لظهور أنّه كان عند حضور الموت قد اختار أن يعمل ، صالحا فيما ترك لو رجع ، مع أنّ اللّه تعالى أخبر أنّه لا يعمل، بل يختار الترك .

ومثله قوله تعالى في سورة فاطر : «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ»(2) .

وفي سورة الأنعام : «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(3) .

وما لم يجيء وقت الفعل لم يعلم الاختيار المكنون في الذات سوى الذي يعلم السرّ وأخفى ، وإلى هذا اُشير في قوله تعالى : «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا»(4) . .

ص: 337


1- المؤمنون (23) : 99 - 100 .
2- فاطر (35) : 37 .
3- الأنعام (6) : 27 و 28 .
4- لقمان (31) : 34 .

باب آخر و هو من الباب الأوّل

[باب آخر و هو من الباب الأوّل]

قوله : (يَسْمَعُ بما يُبْصِرُ ، ويُبْصِرُ بما يَسْمَعُ) . [ح 1 / 299]

يعني يترتّب غايات القوى المختلفة - التي هي فينا مبادئ الأفعال - على صرف الذات الأحديّة المنزّهة عن شوب وجه من وجوه الكثرة ، فالسميع يشتقّ لنا باعتبار انضمام مبدأ السمع إلى ذاتنا ، وباعتبار ترتّب غاية السمع على ذاتنا المأخوذة معها المبدأ ، ويشتقّ للّه تعالى باعتبار ترتّب الغاية على بَحْت الذات ، والذات الواحد من جميع الجهات قائم مقام المبدأ ، وكذا الحال في جميع الصفات ، فهو باعتبار الغاية مشترك بيننا وبينه تعالى اشتراكا معنويّا ، وباعتبار المبدأ اشتراكا لفظيّا ، وهذا لا يحتمل الخلاف؛ والحمد للّه على التوفيق .

قوله : (إنّما يَعْقِلُ ما كانَ بصفةِ المخلوقِ) . [ح 1 / 299]

أي على وجه الاكتناه والتحديد والتمثيل .

باب الإرادة أنّها من صفات الفعل...

باب الإرادة أنّها من صفات الفعل [وسائر صفات الفعل]

قوله : (إنّ المريدَ لا يكونُ إلاّ والمراد(1) معه) . [ح 1 / 301]

تأسيس هذه الضابطة بكون المراد بالإرادة هي المستجمعة لجميع شرائط الفعل حتّى ارتفاع الموانع ، وبعدم كون المعيّة - التي الغرض المسوّق له الكلام نفيُ أزليّتها - المعيّةَ في مرتبة الذات ؛ ضرورة تأخّر المراد عن تلك المرتبة ، فالتقدّم المنفيّ بثبوت المعيّة هو التقدّم الزماني ، ولمّا كان المقصود نفيَ أزليّة الإرادة ، فالحديث من المصرِّحات بحدوث العالم غيرِ الحدوث الذاتي ، وهو التلبّس بالكون بعد العدم الخارجي ، أي لا الاعتباري الذي يقول به أصحاب القِدَم ، والحدوث بالمعنى الذي قلنا هو الذي استُعمل في الأخبار مقابلَ قدم اللّه تعالى ، ولهذا اُورد أنّه لو كان غيره تعالى

ص: 338


1- في الكافي المطبوع : «إلاّ لمراد» بدل «إلاّ والمراد».

قديما لكان إلها ثانيا .

والحدوث الزماني الذي يدور على ألسنة المتكلّمين - وهو كون العالم بعد امتداد موهومٍ غيرَ متناه في طرف الأزل - ليس في الكتاب والسنّة منه عينٌ ولا أثر ، ولا أجد له معنى محصّلاً يصلح أن يُمْعَن النظر فيه ، وإنّما هو اختراع من الوهم ، فالإمساك عن الخوض فيه وعدمُ الاهتمام ببيان بطلانه أمنعُ حصنا من تطرّق جنود الوهم ؛ هذا .

وقال السيّد الفاضل المحشّي قدّس اللّه روحه :

قوله عليه السلام : «لا يكون المريد إلاّ والمراد معه»(1) أي لا يكون المريد بحال إلاّ حالَ كون المراد معه ، ولا يكون مفارقا عن المراد .

وحاصله أنّ ذاته تعالى مناطٌ لعلمه وقدرته - أي صحّة الصدور واللا صدور - بأن يريد فيفعل، وأن لا يريد فيترك ، فهو بذاته مناط لصحّة الإرادة فيكون ، وصحّة عدمها فلا يكون ، ولا يكون مناطا للإرادة وعدمها ، بل المناط فيها الذات مع حال المراد، فالإرادة - أي المخصّصة لأحد الطرفين - لم تكن من صفات الذات ، فهو بذاته عالمٌ قادر مناط لهما ، وليس بذاته مناطا للإرادة وعدمها ، بل بمدخليّةِ مغايرٍ متأخّرٍ عن الذات ، وهذا معنى قوله : «لم يزل عالما قادرا ثمّ أراد».(2)

انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه .

أقول : الذات الأقدس في مرتبة هويّته القدّوسيّة وإن كان أحدا صمدا لم يتطرّق إليه شوب كثرة بوجه ، إلاّ أنّه بذاته وفي عين الوحدة كان مستحقّا لأسماء غير متناهية ، فهو تعالى بوحدته المحضة قائمٌ مقام الكمالات الغير المتناهية ، فهو علم كلّه ، قدرة كلّه ، وهكذا سائر الكمالات منزّها عن شوب نقائص تكون لها فينا .

روى الصدوق - قدّس اللّه روحه - في كتاب التوحيد عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، قال : دخلت على أبي عبداللّه عليه السلام ، فقال لي : «أتنعت اللّه؟» قلت : نعم ، قال : «هات» فقلت : هو السميع البصير ، قال : «هذه صفة يشترك فيها المخلوقون» قلت : وكيف تنعته؟.

ص: 339


1- في المصدر : «إلاّ المراد معه» .
2- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 367 .

فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «هو نورٌ لا ظلمة فيه ، وحياةٌ لا موت فيه ، وعلمٌ لا جهل فيه، وحقٌّ لا باطل فيه» .

فخرجت من عنده وأنا أعلم الناس بالتوحيد .(1)

وفي هذا الحديث إشارة إلى ما قلناه مرارا من أنّ الاشتراك باعتبار الغايات معنويّ ، وباعتبار المبادئ لفظي ، وأنّ الذات الأقدس بوحدته قائم مقام الصفات الكماليّة ، فهي بوحدته الحقيقيّة مصحّحة لأن يوصف بالأسماء الحسنى الجماليّة والجلاليّة ، وإذا كان من جملة كمالاته تعالى القدرة الشاملة ، فبالعلم بالذات من حيث إنّه قادر تميّزت الممكنات التي هي ظلال شؤونات القدرة الكاملة ، وهذه المرتبة مرتبة العلم الذي يسمّونه بالعلم التفصيلي ، وتُحاذي الذي يسمّونه بالعلم الإجمالي الذي هو الكلّ في وحدة صرفة أعني مرتبةَ الذات .

وقد عُبّر في أخبار أصحاب العصمة - سلام اللّه عليهم - عن تلك الممكنات المتميّزة في مرتبة العلم التفصيلي بالذرّ .

روى العيّاشي في تفسيره عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال : «هو أعلم بما هو مكوّنه قبل أن يكوّنه وهم ذرّ» ولا يبعد أن يكون وقوع التكليف في نشأة الذرّ وإطاعة بعض وعصيان بعض مَجازاتٍ عن العلم التفصيلي باختيار الممكنات التي هي ظلال شؤونات القدرة الكاملة حالةَ تمييزهم بسبب علم اللّه بذاته الأقدس من حيث إنّه قادر .

وبالجملة ، مناط العالميّة بذوات الممكنات وصفاتها المختلفة التابعة لاختلاف الذوات من حيث إنّ كلاًّ منهما مقدور خاصّ للذات الأقدس تعالى شأنه ، وقد بيّنّا مرارا أنّ المشيّة الذاتيّة هو العلم الخاصّ ، أي العلم بما لا ينافي الحكمة الكاملة والجبروت والعزّة ، وإحداثُ ما لا ينافي - أي فيضان الكون على الوجه الذي يقتضيه الحكمة من الجواد المطلق المعبّر عنه في الأخبار الكثيرة بالإرادة - لا يتوقّف على غير ذلك العلم ، فلو حُمل الإرادة في قوله عليه السلام : «لم يزل اللّه عزّوجلّ عالما قادرا ثمّ أراد» .

ص: 340


1- التوحيد ، ص 146 ، ح 14 .

على الإفاضة والإحداث - وإن كانت قد تطلق على المشيّة أيضا - كان أصوبَ .

فإن قلت : إنّا نجد مشيّتنا معنى مترتّبا على علمنا بالنافع والأصلح ، لا نفسَ العلم؟

قلنا : المعنى المترتّب على العلم فينا - معاشرَ المخلوقين - ليس إلاّ الحركة الميلانيّة وهيجان الشوق والهمّ والقصد ، ومعلوم امتناع أمثال هذه في حقّه تعالى ، فالمترتّب على العلم بما له أهليّة الكون من جهة عدم المنافاة للحكمة والجبروت لا يعقل هناك سوى فيضان الكون من الجود المطلق الغير المعلّل ؛ أعني الإرادة بمعنى الإحداث . نعم ، فرق اعتباري بين العلم والمشيّة هناك من جهة التعلّق ؛ فإنّ متعلّق العلم بما هو علم أعمُّ ممّا ينافي الحكمة وما لا ينافيها ، وبما هو مشيّة مختصّ بما لا ينافيها ، وهذا لا يوجب الترتّب .

فإن قلت : فما تقول في الخبر الوارد : «إنّك تقول : سأفعل كذا إن شاء اللّه ، ولا تقول : سأفعل كذا إن علم اللّه؟».

قلنا : إنّ المعلوم بما هو معلوم ليس واجبَ الإفضاء إلى الكون ، وإلاّ لكان كلُّ ما عُلم ، والحال أنّ الأخبار صريحة في الكافي وغيره أنّ اللّه يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون ، بل بما هو نوع خاصّ من المعلوم ، وهو ما لا ينافي الحكمة ، والعلم بمثله مشيّة ، فيصحّ أنّ ما شاء اللّه هو الكائن ، لا مطلق ما علم اللّه ، فكأنّه يقول : إنّي سأفعل كذا إن كان ممّا علمه اللّه متّصفا بأنّه لا ينافي الحكمة ، لا مجرّد أنّه ممّا علمه اللّه .

فإن قلت : إنّ ما روي أنّه تعالى علم وشاء وأراد ، وهذا يؤذن بأنّ المشيّة مترتّبة على العلم .

قلنا : لو توسّطت الفاء وقيل «علم فشاء» لكان ما قلت له وجه ، وكذلك لفظة «ثمّ» كما في قوله عليه السلام : «لم يزل اللّه عالما قادرا ثمّ أراد» وغاية ما يقتضيه الواو إثبات معنيين متغايرين ، ويكفي في المغايرة كون أحدهما أخصَّ من الآخَر ، وما قاله السيّد الفاضل قدس سره - من أنّه تعالى بذاته مناط لصحّة الإرادة وصحّة عدمها - فالظاهر أنّ مطمح نظره مرتبة الهويّة التي لم يلاحظ فيها تعيّن الأسماء والصفات وتعيّن الممكنات وحالها بالنسبة إلى الحكمة الكاملة باعتبار المضادّة وعدمها .

ص: 341

ثمّ اعلم أنّه روى المصنّف قدس سره في كتاب الإيمان والكفر عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : «إنّ اللّه - جلّ وعزّ - لمّا أخرج ذرّيّةَ آدمَ عليه السلام من ظَهْره ليأخذَ عليهم الميثاقَ بالربوبيّة [له[ وبالنبوّة لكلّ نبيّ ، فكان أوّل من أخَذَ له عليهم الميثاق بنبوّته محمّدُ بن عبداللّه صلى الله عليه و آله .

ثمّ قال اللّه - جلَّ وعزّ - لآدم : اُنظر ماذا ترى؟ قال : فنظر آدم عليه السلام إلى ذرّيّته وهم ذرّ قد ملؤوا السماء ، قال آدم عليه السلام : ما أكثر ذرّيّتي ، ولأمرٍ ما خلَقْتَهُم؟ فما تُريدُ منهم بأخذك الميثاقَ عليهم؟

قال اللّه جلّ وعزّ : يعبدونني لا يشركون بي شيئا ، ويؤمنون بِرُسُلي ويتّبعونهم .

قال آدم عليه السلام : ياربّ ، فما لي أرى بعض الذرّ أعظمَ من بعض ، وبعضَهم له نورٌ كثير ، وبعضَهم له نورٌ قليل ، وبعضَهم ليس له نور؟

فقال اللّه جلّ وعزّ : كذلك خَلَقْتُهُم لأبلوهم في كلّ حالاتهم إلى قوله تعالى : بعلمي خالفت بين خلقهم، وبمشيّتي يمضي فيهم أمري، وإلى تدبيري وتقديري صائرون» إلى قوله : «وبعلمي النافذ فيهم خالفتُ بين صُوَرهم وأجسامهم وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم ، فجعلتُ منهم الشقيّ والسعيد ، والبصير والأعمى، والقصير والطويل ، والجميل والذميم ، والعالِم والجاهل ،والغنيّ والفقير ، والمطيع والعاصي ، والصحيح والسقيم ، ومَنْ به الزَّمانة ومن لا عاهةَ به» الحديث .(1)

قوله : (ألا تَرى أنّك تقولُ : سَأفْعَلُ كذا إنْ شاء اللّه ُ ، ولا تقول : سَأفْعَلُ كذا إنْ عَلِمَ اللّه ُ) . [ح 2 / 302]

وجه ذلك أنّ الشيء لا يدخل في الوجود بالعلم المطلق ، فربّ معلوم للّه تعالى لا يوجد ، بل ولا يوجد أبدا ؛ لمضادّته الحكمة الكاملة ، مثل أن يوجد في عصر كلّ رسول ذو قوّة إذا اُرسل الرسول وثب عليه ، فقتله قبل أن يبلِّغ رسالته حتّى يبطل الغرض في إرساله ، وغير ذلك من الأمثلة ؛ بخلاف المشيّة التي هو علم خاصّ ، وهو علم بأنّ هذا المعلوم موافق للحكمة الكاملة ، غير مضادٍّ لها باعتبار صفاته ومقارنات .

ص: 342


1- الكافي ، ج 2 ، ص 8 ، باب آخر منه ، ح 2 .

خاصّة استهال الوجود .

وظاهر أنّ ما كان بحال كذا من الأفعال سيفعل لا محالة ، ومجرّد كونه معلومَ الحقيقة عند اللّه لا يوجب وجوده ، بل قد يجب عدمه ، وذلك إذا كان العلم بحقيقته مع العلم بمضادّته، فتبصّر .

وفي كتاب بحار الأنوار بعد نقل الحديث من كتاب التوحيد :

لعلّ [المراد] المشيّة المتأخّرة من العلم الحادثة عند حدوث المعلوم ، وقد عرفت أنّه في اللّه تعالى ليس سوى الإيجاد ، ومغايرته للعلم ظاهر ، ويحتمل أن يكون المقصود بيانَ عدم اتّحاد مفهوميهما ؛ إذ ليست الإرادة مطلقَ العلم ، إذ العلم يتعلّق بكلّ شيء ، بل العلم بكونه خيرا وصلاحا ونافعا ، ولا يتعلّق إلاّ بما هو كذلك .

وفرق آخر بينهما وهو أنّ علمه تعالى بشيء لا يستدعي حصوله ، بخلاف علمه به على النحو الخاصّ ، فالسبق على هذا محمول على السبق الذاتي الذي يكون بين العامّ والخاصّ ؛ والأوّل أظهر.(1)

انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه .

أقول : الذي هناك علم بما هو خير ونافع ، وعلم بما ليس خيرا ونافعا ، والأوّل مشيّة وجود المعلوم بالأحداث ، والثاني عدم مشيّة وجود المعلوم ، والشامل للعلمين إنّما هو مفهوم اعتباري لا أمر له تقدّم ذاتي على الخاصّ ، بل هو متأخّر عن الخاصّين ؛ لكونه منتزعا منهما ، ولعلّ مقصوده - دام عزّه - التقريب إلى الأفهام .

وقال السيّد الفاضل المحشّي :

أي ليس معنى المشيّة معنى العلم بعينه ؛ فإنّ العلم هو مناط الانكشاف ، والمشيّة مخصّص المنكشف برجحان الوقوع والصدور ، فمن المعلوم ما يشاء ، ومنه ما لا يشاء .

وقوله : «فقولك : إن شاء اللّه [دليل على أنّه لم يشأ]» : دليل على أنّه لم يكن بذاته مناطَ المشيّة ، أي التخصيص والترجيح المتعلّق بأحد الطرفين ، بل هو بذاته مناط لما به يصحّ أن يكون شائيا وأن لا يكون . .

ص: 343


1- بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 144 .

وقوله : «فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء» أي إذا اتّصف بالمشيّة بعد ما لم يكن بذاته شائيا ومناطا للمشيّة ، كان الذي شاء - أي وُجد - متعلّق المشيّة ، وترتّب وجوده على المشيّة بشروط الترتّب على وفق استدعائها لوجوده وترجيحها له .

قوله : «[و]عِلْمُ اللّه ِ السابِقُ المشيّة»(1) أي علم اللّه هو الذي يسبق المشيّةَ ويتقدّمها ، ويحتمل إعمال «السابق» ونصب «المشيّة»؛ وإضافة «السابق» إلى «المشيّة» من باب «الضارب الرجل» .

وللكلام وجهٌ آخر لا يخلو عن بُعد ، وهو كون «السابق» صفةً لقوله(2) «علم اللّه» و«المشيّة» خبرا له ، ويكون المعنى : علم اللّه السابق إلى المعلوم - وترجيح وجوده من حيث هو سابق إليه ، ومرجّح له بما يلحقه بعدما لم يكن بذاته مناطا لهذه الجهة كما هو بذاته مناط للعلم - هو المشيّة . انتهى .(3)

أقول : أكثر إطلاق المشيّة في الأخبار على المشيّة الفعليّة ، أي الإحداث أو تيسير أسباب الوجود ، اختياريّةً كانت أو غير اختياريّة ، ولعلّ ذلك لأنّ أفهام أكثر مخاطبي الأئمّة عليهم السلام كانت قاصرةً عن فهم المشيّة الذاتيّة فهما لا يوقعهم في المفاسد ، مثل القول بالميل وهيجان الشوق في اللّه تبارك وتعالى ، والقول بالاُصول الأزليّة ذات الخواصّ واللوازم الداعية للّه تعالى [إلى] أفعال مخصوصة ، وعدم ابتنائها على الحكمة والتدبير، وإحالة السعادة والشقاء إلى البخت والاتّفاق ، كما يقول الشاعر : «تا يار كِرا خواهد و ميلش به كه باشد».

والقرآن المجيد - زاده اللّه شرفا - لمّا لم يكن أكثر آياته الكريمة ملقاةً إلى عموم الناس ، بل إلى من اُنزل إليه والراسخين في العلم ، قد اُشير فيه إلى المشيّة الذاتيّة حيث قال عزّ من قائل : «يَفْعَلُ اللّه ُ مَا يَشَاءُ»(4) و«يَحْكُمُ مِا يُرِيدُ» .(5)

وهذا الحديث يمكن أن يُحمل[على] أنّه من الأحاديث التي اُريد فيها بالمشيّة المشيّةُ الفعليّة ، ولمّا كان الخطاب مع عامّة الناس استدلّ على الحدوث ، والفرق بينها .

ص: 344


1- في الكافي المطبوع : «للمشيّة».
2- ما أثبتناه من المصدر ، وفي المخطوطة : «لكونه» .
3- الحاشية على اُصول الكافي للميرزا رفيعا ، 367 - 368 .
4- إبراهيم (14) : 27 .
5- المائده (5) : 1 .

وبين العلم بما شاع في محاوراتهم وما أفاد الفاضل السيّد - طاب ثراه - يتمّ على إرادة المشيّة الفعليّة ، ولا يكاد يجري في المشيّة الذاتيّة كما لايخفى .

قوله : (الإرادةُ من الخَلْقِ الضميرُ ، وما يَبْدُو لهم بعد ذلك من الفِعْلِ) . [ح 3 / 303]

قال السيّد الفاضل رفع اللّه قدره :

«الضمير» أي أمر يدخل خواطرَهم وأذهانَهم ، ويوجَد في نفوسهم، ويحلّ فيها بعدما لم يكن فيها، وكانت هي خاليةً عنه .

وقوله : «وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل» يُحتمل أن يكون جملةً معطوفةً على الجملة السابقة ، والظرف - أعني «من الفعل» - خبرا للموصول ، ويُحتمل أن يكون الموصول معطوفا على قوله «الضمير» ويكون من عطف المفرد على المفرد ، ويكون قوله «من الفعل» بيانا للموصول ، والمعنى على الأوّل : أنّ الإرادة من الخلق الضمير الذي يدخل في قلبهم ، والذي يكون لهم بعد ذلك من الفعل ، لا من إرادتهم . وعلى الثاني : أنّ إرادتهم مجموع ضمير يحصل في قلبهم وما يكون لهم من الفعل المترتّب عليه .

والمقصود هنا بالفعل ما يشمل الشوق إلى المراد وما يتبعه من التحريك إليه والحركة ، فالإرادة من الخلق حالة حادثة في ذواتهم بدخولها فيهم وقيامها بهم بعد خلوّهم بذواتهم عنها .

وأمّا الإرادة من اللّه فيستحيل أن يكون كذلك ؛ فإنّه يتعالى عن أن يقبل شيئا زائدا ويدخله ما يزيد عليه ويغايره ، إنّما إرادته المرجّحة للمراد من مراتب الإحداث لا غير ذلك .(1)

أقول : قوله عليه السلام : «الضمير». في الصحاح : «أضمرت في نفسي شيئا. والاسم: الضمير» .(2)

وفي القاموس : «الضمير : السرّ، وداخل الخاطر» .(3)

والمراد ما يقع في خيالهم ووهمهم ممّا يحسبونه خيرا مؤثّرا بحسب استعدادهم .

ص: 345


1- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 369 .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 722 (ضمر) .
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 76 (ضمر) .

الحاصل لهم من المعاشرات والمعادات واكتساب العلوم والأخلاق الفطريّة المزاجيّة والمكتسبة ، وحالة شوقيّة تنبعث من القلب ، ويهيج بعد ذلك الاعتقادُ وتحمل على جلبه ، و«من الفعل» بيان ل «ما» . والمراد به معناه المصدري لا المفعول ؛ أي بما يستقرّ من رأيهم من فعل شيء اعتقدوا خيريّته ومرجوحيّة تركه في نظرهم ، وهذا الفعل هو الذي عبّر عليه السلام عنه حين نسبه إلى اللّه تعالى بالإحداث ، فكأنّه عليه السلام يقول : الإرادة من الخلق مجموع التروية والإحداث ، ومن اللّه تعالى مجرّد الإحداث .

فإن قلت : كيف قال عليه السلام : «لا غير» مع أنّ للعلم الأزلي بأنّ ما يوجد خير - أي غير مضادّ للحكمة الكاملة كما سبق بيانه - دخلاً عظيما ، بل هو الأحقّ باسم الإرادة ، وقد قال اللّه تعالى : «يَفْعُلُ اللّه ُ ما يَشَاءُ»(1) و«يَحْكُمُ مَا يُرِيُد»(2)؟

قلت : المراد المتجدّد من الإرادة ، وبيان أنّ المتجدّد من المخلوق كلا الأمرين ، ومن اللّه هو الأخير لا غير ، وما جوّزه السيّد قدس سره من عطف الجملة على الجملة مجرّد إبداء احتمال ، والسياق يأباه خصوصا قوله عليه السلام : «لا غير» .

في البحار :

اعلم أنّ إرادة اللّه تعالى - كما ذهب إليه متكلِّموا الإماميّة - هي العلم بالخير والنفع وما هو الأصلح ، ولا يثبتون فيه تعالى وراء العلم شيئا . ولعلّ المراد بهذا الخبر وأمثاله من الأخبار الدالّة على حدوث الإرادة هو أن يكون في الإنسان قبل حدوث الفعل اعتقاد النفع فيه ، ثمّ الرويّة ، ثمّ الهمّة ، ثمّ انبعاث الشوق منه ، ثمّ تأكّده إلى أن يصير إجماعا باعثا على الفعل ؛ وذلك كلّه إرادة فينا متوسّطة بين ذاتنا وبين الفعل ، وليس فيه تعالى سوى العلم القديم بالمصلحة من الاُمور المقارنة للفعل سوى الإحداث والإيجاد ، فالإحداث في الوقت الذي يقتضي المصلحة وقوعَ الفعل فيه قائم مقام ما يحدث من الاُمور في غيره تعالى ، فالمعنى أنّ ذاته تعالى بصفاته الذاتيّة الكماليّة كافية في حدوث الحادث ، من غير حاجة إلى حدوث أمر في ذاته عند حدوث الفعل .(3) .

ص: 346


1- إبراهيم (14) : 27 .
2- المائدة (5) : 1 .
3- بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 137 .

قوله : (خَلَقَ اللّه ُ المشيّةَ بنفسها ، ثمّ خَلَقَ الأشياءَ بالمشيّةِ) . [ح 4 / 304]

اعلم أنّ الفاضل المحقّق صاحب البحار قد استقصى الكلام في هذا الحديث ، قال :

هذا الخبر هو من غوامض الأخبار يحتمل وجوها من التأويل :

الأوّل : أن [لا] يكون المراد بالمشيّة الإرادة ، بل إحدى مراتب التقديرات التي اقتضت الحكمة الكاملة جعلَها من أسباب وجود شيء ، كالتقدير في اللوح - مثلاً - والإثبات فيه ؛ فإنّ اللوح وما اُثبت فيه لم يحصل بتقديرٍ آخَرَ في لوح سوى ذلك اللوح، وإنّما وجد سائر الأشياء بما قدّر في ذلك اللوح . وربّما يلوح هذا المعنى من بعض الأخبار، كما يأتي في كتاب العدل . وعلى هذا المعنى يُحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير .

الثاني : أن يكون خلق المشيّة بنفسها كنايةً عن كونها لازمةً لذاته تعالى ، غيرَ متوقّفة على تعلّق إرادة اُخرى بها ، فيكون نسبة الخلق إليها مجازا عن تحقّقها بنفسها ، منتزعةً عن ذاته تعالى بلا توقّف على مشيّة اُخرى ، أو أنّه كناية عن أنّه اقتضى علمه الكامل وحكمته الشاملة كونَ جميع الأشياء حاصلةً بالعلم بالأصلح ، فالمعنى أنّه لمّا اقتضى كمالُ ذاته أن لا يصدر عنه شيء إلاّ على وجه الأصلح والأكمل ، فلذلك لا يصدر عنه شيء ، أو بالإرادة المقتضية لذلك .

الثالث : ما ذكره السيّد الداماد - قدّس اللّه روحه - : أنّ المراد بالمشيّة هنا مشيّة العباد لأفعالهم الاختياريّة ؛ لتقدّسه سبحانه عن مشيّة مخلوقةٍ زائدةٍ على ذاته عزّوجلّ ، وبالأشياء أفاعيلهم المرتّب وجودها على تلك المشيّة . وبذلك تنحلّ شبهةٌ ربّما اُوردت هاهنا وهي : أنّه لو كانت أفعال العباد مسبوقةً بإرادتهم لكانت الإرادة مسبوقةً بإرادة اُخرى ، وتسلسلت الإرادات لا إلى نهاية .

الرابع : ما ذكره بعض الأفاضل، وهو أنّ للمشيّة معنيين :

أحدهما متعلّق بالشائي ، وهي صفة كماليّة قديمة هي نفس ذاته سبحانه ، وهي كون ذاته سبحانه بحيث يختار ما هو الخير والصلاح .

والآخَر ما يتعلّق بالمَشيء ، وهو حادث بحدوث المخلوقات لا يتخلّف المخلوقات عنه ، وهو إيجاده سبحانه إيّاها بحسب اختياره ، وليست صفةً زائدةً على ذاته عزّوجلّ

ص: 347

وعلى المخلوقات ، بل هي نسبة بينهما تحدث بحدوث المخلوقات؛ لفرعيّتها للمنتسبين معا .

فنقول : إنّه لمّا كان هاهنا مظنّةُ شبهةٍ هي أنّه إن كان اللّه عزّوجلّ خلق الأشياء بالمشيّة ، فبِمَ خلق المشيّة؟ أبمشيّةٍ اُخرى ، فيلزم أن يكون قبل كلّ مشيّة مشيّةٌ إلى ما لا نهاية له ؟

فأفاد الإمام عليه السلام أنّ الأشياء مخلوقة بالمشيّة ؛ أمّا المشيّة نفسها فلايحتاج خلقها إلى مشيّة اُخرى ، بل هي مخلوقة بنفسها ؛ لأنّها نسبة وإضافة بين الشائي والمَشيء تتحصّل بوجوديهما العيني والعلمي ، ولذا أضاف خلقها إلى اللّه سبحانه ؛ لأنّ كلا الوجودين له وفيه ومنه .

وفي قوله عليه السلام : «بنفسها» دون أن يقول «بنفسه» إشارةٌ لطيفة إلى ذلك ؛ نظير ذلك ما يُقال : إنّ الأشياء إنّما توجد بالوجود ، فأمّا الوجود نفسه فلايفتقر إلى وجودٍ آخَرَ ، بل إنّما يوجد بنفسه .

الخامس : ماذكره بعض المحقّقين بعدما حقّق أنّ إرادة اللّه تعالى المتجدّدةَ هي نفس أفعاله المتجدِّدة الكائنة الفاسدة ، فإرادته لكلّ حادث بالمعنى الإضافي ترجع إلى إيجاده، وبمعنى المراديّة ترجع إلى وجوده . قال : نحن إذا فعلنا شيئا بقدرتنا واختيارنا ، فأردناه أوّلاً ، ثمّ فعلناه بسبب الإرادة ؛ فالإرادة نشأت من أنفسنا بذاتها ، لا بإرادة اُخرى، وإلاّ تسلسل الأمر إلى ما لا نهاية ؛ فالإرادة مرادة لذاتها ، والفعل مراد بالإرادة ، وكذا الشهوة في الحيوان مشتهاة لذاتها لذيذةٌ بنفسها ، وسائر الأشياء مرغوبة بالشهوة .

وعلى هذا المثال حال مشيّة اللّه المخلوقةِ ، وهي نفس وجودات الأشياء ؛ فإنّ الوجود خير ومؤثّر لذاته ومجعول بنفسه ، والأشياء بالوجود موجودة ، والوجود مَشيء بالذات ، والأشياء مشيّة بالوجود ، وكما أنّ الوجود حقيقة واحدة متفاوتة بالشدّة والضعف والكمال والنقص ، فكذا الخيريّة والمشيئة ، وليس الخير المحض الذي لا يشوبه شرّ إلاّ الوجود البَحْت الذي لا يمازجه عدم ونقص ، وهو ذات الباري جلّ مجده ؛ فهو المراد الحقيقي ، إلى آخر ما حقّقه .

والأوفق بالأخبار هو الوجه الأوّل كما سيظهر لك في كتاب العدل ، وسيأتي بعض الأخبار المناسبة لهذا الباب هناك ، وخبرُ سليمان المروزي في باب احتجاجات

ص: 348

الرضا عليه السلام ، وسنورد هناك بعضَ ما تركنا هاهنا ، وقد مرّ بعضها في باب نفي الجسم والصورة ، وباب نفي الزمان والمكان .(1)

انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه .

وأنا أقول : حلّ الشبهة المورَدة في مسبوقيّة أفعال العباد بإرادتهم إنّما هو بأن يبيّن معنى كون إرادتهم مخلوقةً بنفسها ، وقد بيّنّاه في رسالتنا في إبطال الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين .

ونقول هاهنا على وجه الإجمال : إنّ الإرادة المطلقة من الصفات الذاتيّة للحيوان بما هو حيوان ، ولذا تسمعهم يقولون في حدّ الحيوان : «إنّه جوهر قابل للأبعاد نامٍ حسّاسٌ متحرّك بالإرادة» . وأمّا الإرادات الجزئيّة نوعا وشخصا ، فتابعة للفصول والقوى المركّبة في كلّ نوع ، والمزاج وقوّة القوى وضعفها بالفطرة ، وبمصادفات الاُمور الخارجيّة من المعاشرات والاكتسابات للعلوم والأخلاق والسلطنة والمال إلى غير ذلك . والكلّ بتقدير الحكيم القدير ومشيّته وقضائه ، وكلّ مصادف بالنسبة إلى خصوص كلّ أحدٍ مهيّج قوّة من القوى ، وداعٍ إلى حركة خاصّة ، وإذا تعارضت القوى فالدست للغالب ، فهيجان الشوق إلى ما دعاه الغالب هو الإرادة الجزئيّة ، فالإرادة المطلقة كالمادّة تحصل لها في كلّ شخص باعتبار الحالات المذكورة صورةٌ ، وتكون كامنةً فيه إلى أن تبرز بأسباب البروز وتصير شخصا؛ «از كوزه همان برون طراود كه دروست» والعصمة من اللّه .

وفي الصحيفة السجّاديّة التي هي زبور آل محمّد عليهم السلام : «إذا هَمَمْنا بهَمَّيْنِ يُرضيك أحدُهما عنّا ، ويُسخطك الآخر علينا ، فَمِلْ بنا إلى ما يُرضيك عنّا ، وأوْهِنْ قوّتَنا عمّا يُسخِطُك علينا ، ولا تُخَلِّ في ذلك بين نفوسنا واختيارها ؛ فإنّها مختارةٌ للباطل إلاّ ما وَفَّقْتَ ، أمّارةٌ بالسوء إلاّ ما رَحِمْتَ» .(2)

وفيما سمح جواد القلم هاهنا كفايةٌ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد . .

ص: 349


1- بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 145 - 147 .
2- الصحيفة السجّاديّة ، ص 58 ، الدعاء 9 .

باب حدوث الأسماء

باب حدوث الأسماء

قوله : (إنَّ اللّه َ خَلَقَ أسماءً(1) بالحروف) إلخ . [ح 1 / 308]

هذا الحديث رواه الصدوق - طاب ثراه - في التوحيد بإسناده عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «إنّ اللّه تبارك وتعالى خلق أسماءً بالحروف ، وهو عزّوجلّ بالحرف(2) غير منعوت، وباللفظ غير منطق ، وبالشخص غير مجسّد ، وبالتشبيه غير موصوف ، وباللون غير مصبوغ ، منفيٌّ عنه الأقطار ، مبعدٌ عنه الحدود ، محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم ، مستترٌ غير مستور . فجعل كلمة تامّة على أربعة أجزاء معا ليس واحد منها قبل الآخر ، فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها ، وحجب واحدا منها ، وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي ظهرت(3) ، فالظاهر هو اللّه تبارك وتعالى . وسخّر سبحانه لكلّ اسم من هذه أربعةَ أركان ؛ فذلك اثنا عشر ركنا . ثمّ خلق لكلّ ركن منها ثلاثين اسما فعلاً منسوبا إليها ، فهو الرحمن الرحيم ، الملك القدّوس ، الخالق البارئ المصوّر، الحيّ القيّوم ، لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم ، العليم الخبير ، السميع البصير ، الحكيم العزيز، الجبّار المتكبِّر ، العليّ العظيم ، المقتدر القادر ، السلام المؤمن، المهيمن البارئ ، المنشئ البديع ، الرفيع الجليل ، الكريم الرازق ، المُحيي المميت ، الباعث الوارث ؛ فهذه(4) الأسماء الثلاثةُ أركانٌ ، وحجب للاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة ، وذلك قول اللّه عزّوجلّ : «قُلْ ادْعُوا اللّه َ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الاْءَسْمَاءُ الْحُسْنَى»» .(5)

قال الفاضل المحقّق صاحب البحار :

اعلم أنّ هذا الخبر من متشابهات الأخبار وغوامض الأسرار التي لا يعلم تأويلها إلاّ اللّه

ص: 350


1- في الكافي المطبوع : «اسما» .
2- في المصدر : «بالحروف» .
3- في المصدر : «أظهرت» .
4- في المصدر : + «الأسماء، و ما كان من الأسماء الحسنى حتّى تتمّ ثلاثمائة وستّين اسما ، فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة ، وهذه» .
5- التوحيد، ص 190، ح 3. والآية في سورة الإسراء (17) : 110 .

والراسخون في العلم ، والسكوت عن تفسيره والإقرارُ بالعجز عن فهمه أصوب وأولى ، وأحوط وأحرى ، ونحن نذكر وجها تبعا لمن تكلّم فيها على سبيل الاحتمال ، فنقول :

«أسما» في بعض النسخ بصيغة الجمع ، وفي بعضها بصيغة المفرد ؛ والأخير أظهر، والأوّل لعلّه مبنيّ على أنّه مجزّأ بأربعة أجزاءٍ، كلٌّ منها اسم ، فلذا اُطلق عليه صيغة الجمع .

وقوله : «بالحروف غير منعوت». وفي بعض النسخ كما في الكافي : «غير متصوّت» وكذا ما بعده من الفقرات يحتمل كونها حالاً عن فاعل «خلق» وعن قوله «اسما» .

ويدلّ على الأوّل ما في أكثر نسخ التوحيد : «خلق اسما بالحروف ، وهو عزّوجلّ بالحروف غير منعوت» . فيكون المقصود بيانَ المغايرة بين الاسم والمسمّى بعدم جريان صفات الاسم بحسب ظهوراته النطقيّة والكتابيّة فيه تعالى .

وأمّا على الثاني ، فلعلّه إشارة إلى حصوله في علمه تعالى ، فيكون الخلق بمعنى التقدير والعلم ، وهذا الاسم عند حصوله في العلم الأقدس لم يكن ذا صوتٍ ولا ذا صورة ، ولا ذا شكل ولا ذا صبغ ، ويُحتمل أن يكون إشارةً إلى أنّ أوّل خلقه كان بالإضافة إلى روح النبيّ صلى الله عليه و آله وأرواح الأئمّة عليهم السلام بغير نطقٍ وصبغ ولون وخطّ بقلم .

ولنرجع إلى تفصيل كلّ من الفقرات وتوضيحها ؛ فعلى الأوّل قوله : «غير متصوّت» إمّا على البناء للفاعل ، أي لم يكن خلقها بإيجاد حرف وصوت ؛ أو على البناء للمفعول ، أي هو تعالى ليس من قبيل الأصوات والحروف حتّى يصلح كون الاسم عينه تعالى .

وقوله عليه السلام : «وباللفظ غير مُنْطَقٍ» بفتح الطاء ، أي ناطق ؛ أو أنّه غير منطوق باللفظ كالحروف ليكون من جنسها ؛ أو بالكسر ، أي لم يجعل الحروف ناطقةً على الإسناد المجازي ، كقوله تعالى : «هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ»(1).

وهذا التوجيه يجري في الثاني من احتمالَيِ الفتح ، وتطبيق تلك الفقرات على الاحتمال الثاني - وهو كونها حالاً عن الاسم - بعدما ذكرنا ظاهر ، وكذا تطبيق الفقرات الآتية على الاحتمالين .

قوله عليه السلام : «مستترٌ غير مستور» أي كنه حقيقته مستور عن الخلق ، مع أنّه من حيث الآثار .

ص: 351


1- الجاثية (45) : 29 .

أظهر من كلّ شيء ؛ أو مستتر بكمال ذاته من غير ستر وحاجب ؛ أو أنّه غير مستور ، بل هو في غاية الظهور ، والنقص إنّما هو من قِبَلنا .

ويجري نظير الاحتمالات في الثاني ، ويُحتمل على الثاني أن يكون المراد أنّه مستور عن الخلق غير مستور عنه تعالى .

وأمّا تفصيل الأجزاء وتشعّب الأسماء ، فيمكن أن يُقال : إنّه لمّا كان كنه ذاته تعالى مستورا عن عقول جميع الخلق ، فالاسم الدالّ عليه ينبغي أن يكون مستورا عنهم ، فالاسم الجامع هو الاسم الذي يدلّ على كنه الذات من جميع الصفات الكماليّة ، ولمّا كانت أسماؤه تعالى ترجع إلى أربعة - لأنّها إمّا أن تدلّ على الذات ، أو الصفات الثبوتيّة ، أو السلبيّة التنزيهيّة ، أو صفات الأفعال - فجُزّئ ذلك الاسم الجامع إلى أربعة أسماء جامعةٍ ، واحدٌ منها للذات فقط ، فلما ذكرنا سابقا استبدّ تعالى به ولم يعطه خلقا ، وثلاثة منها يتعلّق بالأنواع الثلاثة من الصفات ، فأعطى ليعرفوه بها بوجهٍ من الوجوه ؛ فهذه الثلاثة حجب ووسائطُ بين الخلق وبين هذا الاسم المكنون ؛ إذ بها يوصَلون إلى الذات وإلى الاسم المختصّ .

ولمّا كانت تلك الأسماء الأربعة مطويّةً في الاسم الجامع على الإجمال ، لم يكن بينها تقدّم وتأخّر ، ولذا قال : «ليس واحد منها قبل الآخر» .

ويمكن أن يُقال على بعض الاحتمالات السابقة : إنّه لمّا كان تحقّقها في العلم الأقدس ، لم يكن بينهما تقدّم وتأخّر .

أو يُقال : إنّ إيجادها لمّا كان بالإضافة على بعض الأرواح المقدّسة ولم يكن بالتكلّم، لم يكن بينها وبين أجزائها تقدّم وتأخّر في الوجود كما يكون في تكلّم الخلق . والأوّل أظهر .

ثمّ بيّن الأسماء الثلاثة ؛ فأوّلها : «اللّه» وهو الدالّ على النوع الأوّل ؛ لكونه موضوعا للذات المستجمع للصفات الذاتيّة الكماليّة .

والثاني : «تبارك» لأنّه من البركة والنموّ ، وهو إشارة إلى أنّه معدن الفيوض ، ومنبع الخيرات التي لا تتناهى ، وهو رئيس جميع الصفات الفعليّة من الخالقيّة والرازقيّة والمنعميّة وسائر ما هو منسوب إلى الفعل ، كما أنّ الأوّل رئيس الصفات الوجوديّة من العلم والقدرة وغيرهما .

ص: 352

ولمّا كان المراد بالاسم كلَّ ما يدلّ على ذاته وصفاته تعالى أعمَّ من أن يكون اسما أو فعلاً أو جملةً ، لا محذور من عدّ «تبارك» من الأسماء .

والثالث : هو «سبحان» الدالّ على تنزيهه تعالى من جميع النقائص ، فيندرج فيه ويتبعه جميع الصفات السلبيّة والتنزيهيّة ؛ هذا على نسخة التوحيد .

وفي الكافي : «هو اللّه تبارك وتعالى ، وسخّر لكلّ اسم» فلعلّ المراد أنّ الظاهر بهذه الأسماء هو اللّه تبارك وتعالى، وهذه الأسماء إنّما جعلها ليظهر بها على الخلق ، فالمظهر هو الاسم ، والظاهر به هو الربّ سبحانه .

ثمّ لمّا كان لكلّ من تلك الأسماء الثلاثة الجامعة شعب أربعة ترجع إليها ، جُعل لكلّ منها أربعة أركان هي بمنزلة دعائمه ؛ فأمّا «اللّه» فلدلالته على الصفات الكماليّة الوجوديّة له أربعة دعائمَ هي : وجوب الوجود المعبّر عنه بالصمديّة والقيموميّة والعلم والقدرة والحياة ، أو مكان الحياة واللطف والرحمة والعزّة ، وإنّما جعلت هذه الأربعة أركانا لأنّ سائر الصفات الكماليّة إنّما يرجع إليها كالسميع والبصير والخبير مثلاً ، فإنّها راجعة إلى العلم ، والعلم يشملها وهكذا .

وأمّا «تبارك» فلها أركانٌ أربعة هي : الإيجاد ، والتربية في الدارين ، والهداية في الدنيا ، والمُجازاة في الاُخرى ؛ أي الموجد أو الخالق ، والربّ ، والهادي ، والديّان .

ويمكن إدخال الهداية في التربية ، وجعل المجازاة ركنين : الإثابة والانتقام ، ولكلّ منها شعب من أسماء اللّه الحسنى، كما لايخفى بعد التأمّل والتتبّع .

وأمّا «سبحان» فله أربعة أركان ؛ لأنّه إمّا لتنزيه الذات عن مشابهة الممكنات ، أو لتنزيهه عن إدراك الحواسّ والأوهام والعقول ، أو لتنزيه صفاته عمّا يوجب النقص ، أو تنزيه أفعاله عمّا يوجب الظلم والعجز والنقص .

ويحتمل وجها آخر وهو تنزيهه عن الشرك والأضداد ، وتنزيهه عن المشاكلة والمشابهة ، وتنزيهه عن إدراك العقول والأفهام ، وتنزيهه عمّا يوجب النقص والعجز من التركيب والصاحبة والولد والتغيّرات والعوارض والظلم والجور والجهل وغير ذلك .

وظاهر أنّ لكلّ منها شعبا كثيرةً ، فجعل عليه السلام شعب كلّ منها ثلاثين ، وذكر بعض أسمائه الحسنى على سبيل التمثيل ، وأجمل الباقي .

ويُحتمل على ما مرّ في الكافي أن يكون الأسماء الثلاثة ما يدلّ على وجوب الوجود

ص: 353

والعلم والقدرة ، والاثنا عشر ما يدلّ على الصفات الكماليّة والتنزيهيّة التي تتبع تلك الصفات ، والمراد بالثلاثين صفات الأفعال التي هي آثار تلك الصفات الكماليّة ، ويؤيّده قوله : «فعلاً منسوبا إليها» .

وعلى الأوّل يكون المعنى أنّها من توابع تلك الصفات ، فكأنّها من فعلها .

هذا ما خطر ببالي في حلّ هذا الخبر ، وإنّما أوردته على سبيل الاحتمال من غير تعيين لمرام المعصوم عليه السلام ، ولعلّه أظهر الاحتمالات التي أوردها أقوام ، وإنّما هداني إلى ذلك ما أورده ذريعتي إلى الدرجات العُلى ، ووسيلتي إلى مسالك الهُدى بعد أئمّة الورى عليهم السلام ؛ أعني والدي العلاّمة - قدّس اللّه روحه - في شرح هذا الخبر على ما في الكافي حيث قال : «والذي يخطر بالبال في تفسير هذا الحديث على الإجمال هو أنّ الاسم الأوّل كان اسما جامعا للدلالة على الذات والصفات ، ولمّا كان معرفة الذات محجوبةً عن غيره تعالى جزّئ ذلك الاسم على أربعة أجزاء ، وجعل الاسم الدالّ على الذات محجوبا عن الخلق ، وهو الاسم الأعظم باعتبار ، والدالّ على المجموع اسم أعظم باعتبارٍ آخر ، ويُشبه أن يكون الجامع هو «اللّه» ، والدالّ على الذات فقط «هو» ، وتكون المحجوبيّة باعتبار عدم التعيين، كما قيل : إنّ الأعظم داخل في جملة الأسماء المعروفة ، ولكنّها غير معيّنة لنا ، ويمكن أن يكونا غيرهما . والأسماء التي أظهرها اللّه للخلق على ثلاثة أقسام ؛ منها ما يدلّ على التقديس ، مثل العليّ العظيم العزيز الجبّار المتكبِّر ؛ ومنها ما يدلّ على علمه تعالى ؛ ومنها ما يدلّ على قدرته تعالى . وانقسام كلّ واحدٍ منها إلى أربعة أقسام ؛ بأن يكون التنزيه إمّا مطلقا ، أو للذات ، أو الصفات ، أو الأفعال ، ويكون ما يدلّ على العلم إمّا مطلق العلم ، أو للعلم بالجزئيّات كالسميع والبصير ، أو الظاهر والباطن ، وما يدلّ على القدرة إمّا للرحمة الظاهرة أو الباطنة ، أو الغضب ظاهرا أوباطنا ، أو ما يقرب من ذلك التقسيم . والأسماء المفردة على ما ورد في القرآن والأخبار تقرب من ثلاثمائة وستّين اسما ذكرها الكفعمي في مصباحه، فعليك بجمعها والتدبّر في ربط كلّ منها بركن من تلك الأركان. انتهى كلامه رفع اللّه مقامه .

أقول : بعض الناظرين في هذا الخبر جعل الاثني عشر كنايةً عن البروج الفلكيّة ، والثلاثمائة وستّين عن درجاتها .

ولعمري قد تكلّف بأبعد ما بين السماء والأرض .

ص: 354

ومنهم من جعل الاسم كنايةً عن مخلوقاته تعالى ، والاسم الأوّل الجامع عن أوّل مخلوقاته ، وبزعم القائل هو العقل ، وجعل ما بعد ذلك كنايةً عن تشعّب المخلوقات وتعدّد العوالم .

وكفى ما أومأنا إليه للاستغراب ، وذِكْرها بطولها يوجب الإطناب .

قوله : «وذلك قوله عزّوجلّ» . استشهاد لأنّ له تعالى أسماءً حسنى ، وأنّه إنّما وضعها ليدعوه الخلق بها ، فقال تعالى : قل ادعوه تعالى باللّه أو بالرحمن أو بغيرهما ، فالمقصود واحد وهو الربّ ، وله أسماء حسنى ، وكلّ منها يدلّ على صفة من صفاته المقدّسة ؛ فأيّا تدعوه فهو حسن .

قيل : نزلت الآية حين سمع المشركون رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : «يا أللّه يا رحمن» فقالوا : إنّه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخَرَ .

وقالت اليهود : لتقلّ ذكر الرحمن وقد أكثره اللّه في التوراة ، فنزلت الآية ردّا لما توهّموا من التعدّد أو عدم ذكر الرحمن .(1)

إلى هنا كلام صاحب البحار .

قوله : (يَراها ويَسْمَعُها). [ح 2 / 309]

في حاشية السيّد الجليل الرفيع رفع اللّه قدره : «لا يبعد أن يكون مكان «يسمعها» : «يسمّيها» وإن لم يوجد في النسخ التي وصلت إلينا» .(2)

أقول : يشهد له بذلك تعريفه عليه السلام حيث قال : «فليس يحتاج أن يسمّي نفسه» .

قوله : (اسمُ اللّه ِ غيرُ اللّه) .(3) [ح 4 / 311]

سيجيء الكلام في هذا الباب في الباب الآتي .

روى الصدوق في التوحيد بالإسناد عن محمّد بن سنان ، قال : سألته عن الاسم ما هو؟ قال : «صفة لموصوف».(4) وهذا صريح في أنّ المراد بالاسم المفهوم الذي وضع اللفظ بإزائه ، لا المؤلّف من الحروف ، وهذا مفيد في حلّ الأحاديث التي تدلّ على أنّ الاسم غير المسمّى . .

ص: 355


1- بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 167 - 172، ملخّصا .
2- شرح اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 380 .
3- في الكافي المطبوع : «غيره» .
4- التوحيد ، ص 192 ، ح 5 .

قوله : (واللّه ُ غايةٌ من غاياه) .(1) [ح 4 / 311]

في كتاب التوحيد عن الحسن بن سعيد، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «اللّه غايةُ من غيّاه ، والمغيّا غير الغاية» .(2)

وفيه : ابن المتوكّل ، عن محمّد بن العطّار ، عن ابن أبان ، عن ابن اُورمة ، عن عليّ بن الحسين بن محمّد ، عن خالد بن يزيد ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «اسم اللّه غير اللّه ، وكلّ شيء وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا اللّه ؛ فأمّا ما عبّرت الألسن عنه أو عملت الأيدي فيه فهو مخلوق ، واللّه غاية من غاياه ، والمغيّا غير الغاية ، والغاية موصوفة ، وكلّ موصوف مصنوع ، وصانع الأشياء غير موصوف بحدٍّ مسمّى، لم يتكوّن فتعرف كينونته بصنع غيره ، ولم يتناه إلى غاية إلاّ كانت غيره ، لا يذلّ من فهم هذا الحكم أبدا ، وهو التوحيد الخالص ، فاعتقدوه وصدّقوه وتفهّموه بإذن اللّه عزّوجلّ ، ومن زعم أنّه يعرف اللّه بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك ؛ لأنّ الحجاب والمثال والصورة غيره ، وإنّما هو واحد موحّد ، فكيف يوحّد من زعم أنّه عرفه بغيره ، إنّما عرف اللّه من عرفه باللّه ، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه ، إنّما يعرف غيره ، ليس بين الخالق والمخلوق شيء، واللّه خالق الأشياء لا من شيء ، يسمّى بأسمائه ، فهو غير أسمائه ، والأسماء غيره ، والموصوف غير الوصف ، فمن زعم أنّه يؤمن بما لا يعرف فهو ضالّ عن المعرفة ، لا يدرك مخلوق شيئا إلاّ بإذن اللّه ، ولا يدرك معرفة اللّه إلاّ باللّه ، واللّه خِلْو من خلقه، وخلقه خلو منه ، وإذا أراد شيئا كان كما أراد بأمره من غير نطق ، لا ملجأ لعباده ممّا قضى ، ولا حجّة لهم فيما ارتضى ، لم يقدروا على عمل، ولا معالجة ممّا أحدث في أبدانهم المخلوقة إلاّ بربّهم ، فمن زعم أنّه يقوى على عمل لم يرد اللّه عزّوجلّ فقد زعم أنّ إرادته تغلب إرادة اللّه ؛ تبارك اللّه ربّ العالمين» .(3)

أقول : هذا الحديث الذي أورده الكليني طاب ثراه ، وإنّما نقلته من كتاب التوحيد .

ص: 356


1- في الكافي المطبوع : «غاياته» .
2- التوحيد ، ص 58 ، ح 16 .
3- التوحيد ، ص 142 ، ح 7 . وقريبا منه في ص 192 ، ح 6 .

ليعرف مواقع الاختلاف ، وليعلم أنّ قوله عليه السلام : «إنّما عرف اللّه من عرفه باللّه» لم يقع فيه تصرّف من الرواة والكُتّاب ، فليتأمّل في إيثاره على قول : «إنّما عرف اللّه من عرفه به» وقول : «إنّما عرف اللّه من عرف اللّه به - أو باللّه - » .

والذي يخطر بالبال أنّ المراد ب «اللّه» في : «عرف اللّه» الذات الأقدس ، وب «اللّه» في قوله : «باللّه» المعنى الوصفي ، أعني ما يستحقّ أن يخصّ العبادة لكونه ربّ العالمين .

ثمّ إنّ في عبارة : «وهو غاية من غاياه» تأمّلاً ، بناءً على أنّه بالغين المعجمة والياء المثنّاة التحتانيّة ؛ إذ لم يذكر له أهل اللغة الذين وصلت إلينا كتبهم مثل الزمخشري في الفائق والأساس ، وابن فارس في المجمل ، والجوهري في الصحاح ، وابن الأثير في النهاية ، والمطرزي في المغرب ، والبيهقي في تاج المصادر لذلك معنى يناسب المقام .

نعم ، ذكروا : غايا القوم فوق رأس فلان بالسيف كأنّهم أظلّوه به ، والغاية مدى الشيء ، والجمع : غاي، مثل ساعة وساع . والغاية : الراية ، يُقال : غييت غاية وأغييت : إذا نصبتهما .(1)

وفي النهاية : «غاية كلّ شيء: مداه ومنتهاه» .(2)

وفي القاموس : «الغياية: كلّ ما أظلّ الإنسان من فوق رأسه، كالسحابة ونحوها . وغايا القوم فوق رأسه بالسيف أظلّوا . والغاية : المدى»(3) . ومثله ما في المجمل .(4)

وفي خطبة الإمام أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في مجلس المأمون - وقد أوردها الصدوق طاب ثراه في التوحيد وعيون الأخبار - قال : «ومن قال : إلى مَ فقد نهاه ، ومن قال : حتّى م فقد غيّاه ، ومن غيّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد وصفه ، ومن وصفه فقد ألحد فيه» .(5) .

ص: 357


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2451 ؛ لسان العرب ، ج 15 ، ص 143 (غيا) .
2- النهاية ، ج 3 ، ص 404 (غيا) .
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 372 (غيا) .
4- مجمل اللغة ، ج 4 ، ص 22 (غوى) .
5- التوحيد ، ص 34 ، ح 2 ؛ عيون أخبار الرضا، ج 1 ، ص 149 ، ح 51 .

قال صاحب البحار بعد نقل تلك الرواية :

«من قال : إلى م» أي إلى أيّ شيءٍ ينتهي شخصه «فقد نهاه» أي جعل له حدودا ونهاياتٍ جسمانيّة وهو منزّه عنها . «ومن قال : حتّى م» يكون وجوده «فقد غيّاه» أي جعل لبقائه غايةً ونهايةً ، ومن جعل له غاية فقد غاياه ، أي حكم باشتراكه مع المخلوقين في الفناء ، فيصحّ أن يُقال : غايته قبل غاية فلان أو بعده ، ومن قال به فقد حكم باشتراكه معهم في المهيّة في الجملة ، فقد حكم بأنّه ذو أجزاء ، ومن قال به فقد وصفه بالإمكان والعجز وسائر نقائص الممكنات ، ومن حكم به فقد ألحد في ذاته تعالى .(1)

وسيجيء تمام الخطبة مع شرحه .

وقال - زيدَ إكرامه - في شرح هذه الخطبة :

اعلم أنّ الغاية تُطلق على المدى والنهاية ، وعلى امتداد المسافة ، وعلى الغرض والمقصود من الشيء ، وعلى الراية والغاية(2) ، فهذه العبارة تحتمل وجوها :

الأوّل : أن تكون الغاية بمعنى الغرض والمقصود ، أي كلمة الجلالة مقصودُ من جعله مقصودا ، وذريعةُ من جعله ذريعةً ؛ أي كلّ من كان له مطلب وعجز عن تحصيله بسعيه يتوسّل إليه باسم اللّه ، والمغيّا بالغين المعجمة والياء المثنّاة المفتوحة، أي التوسّل إليه بتلك الغاية غير الغاية، أو بالياء المكسورة، أي الذي جعل تلك الغاية غايةً هو غيرها . وفي بعض النسخ : «والمعنى» بالعين المهملة والنون، أي المقصود بذلك التوسّل، أو المعنى المصطلح غير تلك الغاية التي هي الوسيلة إليه .

الثاني : أن يكون المراد بالغاية النهاية، وباللّه الذات لا الاسم ؛ أي الربّ تعالى غاية آمال الخلق يدعونه عند الشدائد بأسمائه العظام ، والمغيّا - بفتح الياء المشدّدة - : المسافة ذات الغاية ، والمراد هنا الأسماء، فكأنّها طرق ومسالك توصل الخلق إلى اللّه في حوائجهم . والمعنى أنّ العقل يحكم بأنّ الوسيلة غير المقصود بالحاجة، وهذا لا يلائمه قوله «والغاية موصوفة» إلاّ بتكلّف تامّ .

الثالث : أن يكون المراد بالغاية العلامة، وصُحّفت «غاياه» ب «غاياته» أي علامة من علاماته ، والمعنى أي المقصود، أو المعنى(3) أي ذو العلامة غيرها .».

ص: 358


1- بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 235 .
2- في المصدر : «والعلامة».
3- في المصدر: «أو المغيّا».

الرابع : أن يكون المراد أنّ الحقّ تعالى غاية أفكار مَن جعله غايةً وتفكّر فيه ، والمعنى المقصود - أعني ذات الحقّ - غير ما هو غاية أفكارهم ومصنوع عقولهم؛ إذ غاية ما يصل [إليه] أفكارهم ويحصل في أذهانهم موصوف بالصفات الزائدة الإمكانيّة، وكلّ موصوف كذلك مصنوع .

الخامس : ما صحّفه بعض الأفاضل حيث قرأ: «عانة من عاناه» أي الاسم ملابس من لابسه ؛ قال في النهاية : معاناة الشيء : ملابسته ومباشرته .(1)

أو مهمّ من اهتمّ به ؛ من قولهم : عنيت به فأنا عانٍ ، أي اتّهمت به واشتغلت ؛ أو أسيرٌ من اُسره . وفي النهاية : «العاني : الأسير ، وكلّ من ذلّ واستكان وخضع فقد عنا يعنو، فهو عانٍ».(2)

أو محبوس من حبسه . وفي النهاية : «وعَنّوا بالأصوات أي احبسوها» .(3) والمعنى أي المقصود بالاسم غير الغاية أي غير ما نتصوّره ونعقله .

ثمّ اعلم أنّه على بعض التقادير يمكن أن يقرأ «واللّه ِ» بالكسر بأن يكون الواو واوَ القسم .

قوله : «غير موصوف بحدّ» أي الحدود الجسمانيّة ، أو الصفات الإمكانيّة ، أو الحدود العقليّة .

وقوله : «مسمّى» صفة بحدّ للتعميم ، كقوله تعالى : «لَمْ يَكُنْ شَيْئا مَذْكُورا »(4) ، ويُحتمل أن يكون المراد أنّه غير موصوف بالصفات التي هي مدلولات تلك الأسماء ، وقيل : هو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف .

قوله : «لم يتكوّن فيعرف كينونته بصنعٍ غيره» قيل : المراد أنّه لم يتكوّن فيكونَ محدثا بفعل غيره ، فيعرفَ كينونته وصفات حدوثه بصنع صانعه كما تعرف المعلولات بالعلل .

أقول : لعلّ المراد أنّه غير مصنوع حتّى يُعرف بالمقايسة إلى مصنوعٍ آخر ، كما يعرف المصنوعات بمقايسة بعضها إلى بعض ، فيكون الصنع بمعنى المصنوع و«غيره» صفة له ، أو أنّه لا يُعرف بحصول صورة هي مصنوعة لغيره ؛ إذ كلّ صورة ذهنيّة مصنوعةٌ للمدرك ، معلولة له . .

ص: 359


1- النهاية ، ج 3 ، ص 314 (عنا) .
2- النهاية ، ج 3 ، ص 314 (عنا) .
3- النهاية ، ج 3 ، ص 315 (عنا).
4- الإنسان (76) : 1 .

قوله : «ولم يتناه» أي هو تعالى في المعرفة ، أو عرفانه، أو العارف في عرفانه إلى نهاية إلاّ كانت تلك النهاية غيره تعالى ومباينة له غير محمولة .

قوله عليه السلام : «لا يزل» في بعض النسخ بالذال ، أي ذلّ الجهل والضلال ، من فهم هذا الحكم، وعرف سلب جميع ما يغايره عنه ، وعلم أنّ كلّ ما يصل إلى أفهام الخلق فهو غيره تعالى .

قوله عليه السلام : «ومن زعم أنّه يعرف اللّه بحجاب» أي بالأسماء التي هي حُجب بين اللّه وبين خلقه ووسائل بها يتوسّلون إليه ، بأن زعم أنّه عين تلك الأسماء ؛ والأنبياء(1) والأئمّة عليهم السلام بأن زعم أنّ الربّ تعالى اتّحد بهم ؛ أو بالصفات الزائدة ، فإنّها حجب عن الوصول إلى حقيقة الذات الأحديّة ، أو بصورة ، أو بأنّه ذو صورة كما قالت المشبّهة ، أو بصورة عقليّة زعم أنّها كُنه ذاته وصفاته تعالى ، أو بمثال أي خيالي ، أو بأن جعل له مماثلاً ومشابها عن خلقه ، فهو مشرك ؛ لما عرفت مرارا من لزوم تركّبه تعالى وكونه ذا حقائقَ مختلفةٍ وذا أجزاء ؛ تعالى اللّه عن ذلك .

ويُحتمل أن يكون إشارةً إلى أنّه لا يمكن الوصول إلى حقيقته تعالى بوجه من الوجوه، لا بحجاب رسول يبيّن ذلك ، ولا بصورة عقليّة ولا خياليّة ؛ إذ لابدّ بين المعرَّف والمعرِّف من المماثلة وجهة اتّحاد ، وإلاّ فليس ذلك الشيء معرّفا أصلاً ، واللّه تعالى مجرّد الذات عن كلّ ما سواه ، فحجابه ومثاله وصورته غيره من كلّ وجه ؛ إذ لا مشاركة بينه وبين غيره في جنس أو فصل أو مادّة أو موضوع أو عارض ، وإنّما هو واحد موحّد فرد عمّا سواه ، وإنّما يُعرف اللّه باللّه إذا نفي عنه جميع ما سواه ، وكلّ ما وصل إليه عقله كما مرّ أنّه التوحيد الخالص .

وقال بعض المحقّقين : من زعم أنّه يعرف اللّه بحجاب أو بصورة أو بمثال ، أي بحقيقة من الحقائق الإمكانيّة كالجسم والنور ، أو بصفة من صفاتها التي هي عليها كما اُسند إلى القائلين بالصورة ، أو بصفة من صفاتها عند حصولها في العقل - كما في قول الفلاسفة في رؤية العقول المفارقة - فهو مشرك ؛ لأنّ الصورة والحجاب والمثال كلّها مغايرة غيرُ محمول ، فمن عبد الموصوف بها عبد غيره ، فكيف يكون موحّدا له عارفا به ، إنّما عرف اللّه من عرفه بذاته وحقيقته المسلوب عنه جميع ما يغايره ، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه ، إنّما يكون يعرف غيره .».

ص: 360


1- في المصدر : «أو الأنبياء».

أقول : لا يخفى أنّ هذا الوجه وما أوردته سابقا - من الاحتمالات التي سمحت بها قريحتي القاصرة - لا يخلو كلّ منها من تكلّف ، وقد قيل فيه وجوهٌ اُخر أعرضت عنها ؛ لعدم موافقتها لاُصولنا .

والأظهر عندي أنّ هذا الخبر موافق لما مرّ، وسيأتي في كتاب العدل من أنّ المعرفة من صنعه تعالى ، وليس للعباد فيها صنع ، وأنّه تعالى يهبها لمن طلبها ، ولم يقصر فيما يوجب استحقاق إفاضتها ، والقول بأنّ غيره تعالى يقدر على ذلك نوعٌ من الشرك في ربوبيّته وإلهيّته ؛ فإنّ التوحيد الخالص هو أن يعلم أنّه تعالى مفيض جميع العلوم والخيرات والمعارف والسعادات ، كما قال تعالى : «مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللّه ِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»(1) .

فالمراد بالحجاب إمّا أئمّة الضلال وعلماء السوء الذين يدّعون أنّهم يعرفون اللّه بعقولهم، ولا يرجعون في ذلك إلى حجج اللّه ؛ فإنّهم حجب يحجبون الخلق عن معرفته وعبادته ، فالمعنى أنّه تعالى إنّما يعرف بما عرّف به نفسه للناس ، لا بأفكارهم وعقولهم ، وأئمّة الحقّ أيضا ؛ فإنّهم ليس شأنهم إلاّ بيانَ الحقّ للناس ، فأمّا إفاضة المعرفة والإيصال إلى البُغية فليس إلاّ من الحقّ سبحانه ، كما قال سبحانه : «إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ»(2) .

ويجري في الصورة والمثال ما مرَّ من الاحتمالات ، فقوله عليه السلام : «ليس بين الخالق والمخلوق شيء» أي ليس بينه وبين خلقه حقيقة أو مادّة مشتركة حتّى يمكنهم معرفتُه من تلك الجهة ، بل أوجدهم لا من شيء كان .

قوله عليه السلام : «غير الواصف» يحتمل أن يكون المراد بالواصف الاسمَ الذي يصف الذات بمدلوله .

قوله : «فمن زعم أنّه يؤمن بما لا يعرف» أي لا يؤمن أحد باللّه إلاّ بعد معرفته ، والمعرفة لا تكون إلاّ منه ، فالتعريف من اللّه ، والإيمان والإذعان وعدم الإنكار من الخلق .

ويُحتمل أن يكون المراد على بعض الوجوه السابقة بيانَ أنّه وإن لم يعرف بالكنه لكن لا يمكن الإيمان إلاّ بعد معرفته بوجه من الوجوه ، فيكون المقصود نفيَ التعطيل. والأوّل أظهر . .

ص: 361


1- النساء(4) : 79 .
2- القصص(28) : 56 .

وهذه الفقرات كلّها مؤيّدة للمعنى الأخير، كما لا يخفى لمن تأمّل فيها .

ثمّ بيّن عليه السلام كون الأشياء بمشيّته تعالى ، وأنّ إرادة الخلق لا تغلب إرادته كما سيأتي تحقيقه في كتاب العدل .(1)

انتهى ما أوردنا نقله من كتاب البحار .

وأنا أقول : المتعارف في زمن المعصومين عليهم السلام من الصورة التي كانت تذكر في أمر التوحيد - وتنسب إلى هشام بن سالم - الشكل والتخطيط ، وقد سبق في باب النهي عن الصفة بغير ما وصفه به نفسه أنّ قوما بالعراق يصفون اللّه بالصورة والتخطيط ، وأنّ محمّدا صلى الله عليه و آله رأى ربّه في صورة الشابّ الموفَّق .(2)

وفي القاموس : «الصورة - بالضمّ - : الشكل» .(3)

وفي النهاية :

فيه : «أتاني ربّي الليلةَ في أحسن صورة» والصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها [وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته] وعلى معنى الصفة ؛ يقال : صورة العقل كذا وكذا ، أي هيأته ، وصورة الأمر كذا وكذا أي صفته .(4)

فالمناسب أن تحمل اللفظة على المتعارف أو عرف اللغة ، لا على الصورة الذهنيّة التي هي عرف الفلاسفة حتّى يجعل الباء في قوله عليه السلام : «من زعم أنّه يعرف اللّه بحجاب أو بصورة أو بمثال» بمعنى الاستعانة ، بل على ما حملنا الصورة بالملابسة، كما في قولك : عرفت زيدا بالكرم .

ومن هذا الباب ما في رواية عليّ بن عقبة السابقة في باب أنّه لا يعرف إلاّ به ، حيث قال : سُئل أمير المؤمنين عليه السلام : بِمَ عرفت ربّك ؟ قال : «بما عرّفني به(5) نفسه» .(6)

وكذا في رواية الفضل من قوله عليه السلام : «اعْرِفوا اللّه َ باللّه»(7) على أحد محمليه ، وهو أن .

ص: 362


1- بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 162 - 165 .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 100 ، باب النهي عن الصفة ... ، ح 1 .
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 73 (صور) .
4- النهاية ، ج 3 ، ص 58 - 59 (صور) .
5- في الكافي المطبوع : - «به» .
6- الكافي ، ج 1 ، ص 85 ، باب أنّه لايعرف إلاّ به ، ح 2 .
7- المصدر ، ح 1 .

يكون المراد باللّه المفهوم الصفتي .

وعلى هذا يكون الباء في «بحجابٍ» أو «مثال» أيضا للملابسة لئلاّ ينقطع نظم الكلام ، فالمعنى أنّه من حاول أن يعرف اللّه تعالى زاعما أنّه ملابس بحجاب أي هو وراء حجاب كالملوك المتجبّرة ، وبصورة أي هو ذو شكلٍ وهيأة وتخطيط كالشابّ الموفّق ، وبمثال أي هو ذو مقدار وكميّة كالأجسام المعروفة .

في القاموس : «المثال : المقدار ، وصفة الشيء» .(1)

وهذا المثال أنسب بمقتضى الحال من أن يُقال : المراد المتّصل والمنفصل اللذين بين الفلاسفة ، وكذا الحجاب اللغوي أربطُ بالمقام ممّا لا يكاد يصل إلى الأفهام .

نعم ، إذا حمل الباء على الاستعانة احتيج إلى ذلك ، وتعليل الاشتراك بأنّ حجابه ومثاله وصورته غيره يدلّ على أنّها بزعمهم أشياء تلازم الذات، ولا يكون الذات بدونها حتّى يتحقّق التعدّد المعتبر في الإشراك ، وإلاّ فمجرّد المعرفة بالغير لايوجب إشراكا كما في معرفته تعالى بأفعاله المحكمة المتقنة وهي غيره ، وأنّى يتصوّر زعم التلازم المذكور بين الذات الأقدس والحجاب بمعنى أئمّة الضلال وعلماء السوء ، أو بمعنى الرسول المبيِّن ، والصورة بمعنى الصورة الذهنيّة والخياليّة ، والمثال بمعنى المماثل بوجه ، أو بالمعنى الذي عند الفلاسفة .

فقوله عليه السلام : (وكيف وحّده مَن زَعَمَ أنّه عَرَفَه بغيره) [ح 4 / 311] يعني ملابسا بغيره .

وقوله : (إنّما عَرَفَ اللّه) أي عرف الذات الأقدس (مَنْ عَرَفَه بِاللّه ِ) [ح 4 / 311] أي بهذا المفهوم الذي جمع فيه جميع الصفات الكماليّة والتقديسيّة .

ويرجع إلى هذا المعنى ما في حديث موسى بن جعفر عليهماالسلام بعد نقل هذا الحديث، وقد سُئل عن معنى اللّه ، فقال : «استولى على ما دقّ وجلّ»(2) .

والمعرفة بهذا المفهوم بمعنى الإذعان بأنّه تعالى يصدق عليه هذا المفهوم ، وهو يستحقّه بنفس ذاته تعالى شأنه عمّا يصفه المشبّهون علوّا كبيرا . .

ص: 363


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 49 (مثل) .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 114 ، ح 3 ؛ التوحيد ، ص 230 ، ح 4 .

قوله عليه السلام : (ليس بينَ الخالِقِ والمخلوقِ شيءٌ) . [ح 4 / 311] أي لا حجاب ولا صورة ولا مثال ولا غير ذلك .

وهذا أيضا صريح في أن ليس المراد بها المعانيَ المذكورةَ التي مصداقاتها المخلوقات ، بل الصفات الزائدة الموجودة كالشكل والمقدار والتخطيط ، وما يلزمها من الاحتجاب والتواري بالحجاب .

وفي كتاب التوحيد عن الحارث الأعور ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه دخل السوق فإذا هو برجل مُولِيه ظهره يقول : لا والذي احتجب بالسبع . فضرب عليّ عليه السلام ظهره ، ثمّ قال : «مَن الذي احتجب بالسبع؟» قال : اللّه يا أمير المؤمنين ، قال : «أخطأت ثكلتك اُمّك ، إنّ اللّه عزّوجلّ ليس بينه وبين خلقه حجاب ؛ لأنّه معهم أينما كانوا» . قال : ما كفّارة ما قلت يا أمير المؤمنين؟ قال : «أن تعلم أنّ اللّه معك حيث كنت» قال : اُطعم المساكين ، قال : «لا ، إنّما حلفت بغير ربّك» .(1)

أقول : هذا الرجل كان قد عرف اللّه بالحجاب ، ولذا لم يعرفه؛ لأنّه قال عليه السلام : «إنّك حلفت بغير ربّك» . ولذا قال أبو عبداللّه عليه السلام في الحديث الذي نحن فيه : «فمن لم يعرفه به فليس يعرفه ، إنّما يعرف غيره ».

وقول أمير المؤمنين عليه السلام : «ليس بينه وبين خلقه حجاب؛ لأنّه معهم » نفي وجود الحجاب لعلّة المعيّة ، لا نهي عن اتّخاذ الحجاب - وإن لزمه - والتفسير بأئمّة الضلال وعلماء السوء مثبت وجود الحجاب، وليس في المعنى نهي عن اتّخاذه .

ومن الاتّفاقات أنّ رجلاً من البراهمة قبل بلوغي في هذه التعليقة إلى هذا الحديث أنشأ بيت شعر ، و هو هذا :

نظر بعارض جانان زپرده دوخته ايم *** حجاب عينك چشم است مرد بينا را

وكان اسمه برهمن ، فقلت في جوابه :

برهمن ازپى تصحيح بت پرستى گفت *** حجاب عينك چشم است مرد بينا را .

ص: 364


1- التوحيد ، ص 184 ، ح 21 .

تو خود حجابى و عينك حجاب چشم حجاب *** كه ناظراست ؟ بيا حل كن اين معمّا را

هم اوست ناظر و هم اوست خويش را منظور *** بآن نظر شده حاصل ثبوت اشيا را

تو آفريده و حقّ است آفريننده *** ز حدّ وهم برون دان جناب اعلى را

وجود فاقرة الذات اين قدر فهماند *** كه از غنىّ بذاتيست بَدْو اشيا را

مگر بهشت غنى گر فقير شد مفهوم *** مگر كه راه بود عاقلان دانا را

از و هر آنچه به وهم آيدت ، كن استغفار *** زاعتراف بموجد برون مَنِه پا را

تو عبد عاجز و محتاج و او غنىّ قوىّ *** چه بَونِ لا يتناها است در ميانْ ما را

زلطف اوست كه از بهر احتياج عباد *** براى وصف خود انشا نمود اشيا را

باب معاني الأسماء واشتقاقها

[باب معاني الأسماء واشتقاقها]

قوله : (سأل [أبا عبداللّه عليه السلام ] عن أسماء اللّه تعالى واشتقاقها). [ح 2 / 313]

المراد أنّه سأل عن أنّ أسماء اللّه الواردةَ في الكتاب والسنّة هل هي مشتقّات كلّها ، أم فيها ما هو غير مشتقّ ، علم أو غير علم ، كالخبز الموضوع لمفهوم كلّي وإن كان منحصرا في فرد بدليل .

ولمّا كان لفظ الجلالة مظنّةَ عدم الاشتقاق لإجراء المشتقّات عليها في القرآن كثيرا - كقوله تعالى : «بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ للّه ِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» إلى غير ذلك ، ولهذا وقع

ص: 365

الاختلاف فيها - تعرّض للسؤال عنها على حدة أيضا ، وقال (اللّه ُ ممّا هو مُشتَقُّ) على أنّ لفظ «ما» موصولة لا استفهاميّة ، والاستفهام المستفاد من الكلام مدلول الهمزة المقدّرة ، وليس المقصود على ما توهّم طلبَ مأخذ الاشتقاق المقتضي ثبوتَ أصل الاشتقاق .

والدليل على عدم كون «ما» استفهاميّةً أنّها مجرورة ب «من» ، وقد نصّ صاحب القاموس أنّ «ما» الاستفهاميّة يجب حذف ألفها إذا جُرّت ، وإبقاء الفتحة دليلاً عليها كفيمَ ، وإلى مَ، وعلامَ ، قال : وربّما تبعت الفتحة الألف في الشعر .(1)

وقال ابن هشام في المغني :

ويجب حذف ألف «ما» الاستفهاميّة إذا جرّت ، وإبقاء الفتحة دليلاً عليها نحو : فيمَ، وإلى م ، وعلامَ ، وربّما تبعت الفتحة الألف في الحذف وهو مخصوص بالشعر .

ثمّ قال :

وأمّا قراءة عكرمة وعيسى «عمّا يتساءلون» فنادر ، وأمّا قول حسّان : «على ما قام يشتمني لئيم» فضرورة ، ولا يجوز حمل القراءة المتواترة على ذلك لضعفه .(2) انتهى .

على أنّا نقول : كفى حجّةً في هذا المقام على أنّه لا يليق برتبة هشام ومتانة عقله أن يسأل عن الإمام عليه السلام مأخذَ اشتقاق كلمة كما لايخفى ، بخلاف أصل الاشتقاق ؛ فإنّ فيه مسائلَ دقيقةً دينيّةً ، مثل عدم العَلَميّة، وعدم كون الاسم عين المسمّى، وغير ذلك .

قوله : (اللّه ُ مشتقٌّ مِنْ إله ، وإلهٌ يَقتضي مألوها). [ح 2 / 313]

«ألهَ» فعل على الأظهر الأقوى في الموضعين ، ولا داعي إلى اعتباره فعالاً ، على أنّه لو كان كذلك لكان المناسب أن يعرف الثاني ، ثمّ إنّ أظهر معاني الاُلوهة بالنسبة إلى المقام العبادةُ .

في القاموس : «ألَهَ إلالهة واُلوهة واُلوهيّة : عبد عبادة . ومنه لفظ الجلالة» .(3) انتهى .

وظاهر أنّ لفظ «اللّه» إذا اشتقّ من الاُلوهة كان صفةً مبنيّة للمفعول ، فيكون مرادفا للمألوه ، فكما أنّ المضروب اسم لذات في الخارج كان هو المضروبَ ، كذلك اللّه اسم).

ص: 366


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 411 (ما).
2- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 298 - 299، ملخّصا.
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 280 (أله).

لذات في الخارج كان هو المألوهَ ، فإله باعتبار الاُلوهة التي تضمّنها يقتضي مألوها هو مسمّى اللّه .

قال السيّد الجليل الرفيع في باب المعبود :

يحتمل أن يكون المشتقّ منه «إله» كفعال ، ويحتمل «أله» كفعل ، وعلى التقديرين ففيه معنى الإله . «والإله يقتضي مألوها» أي من له إله ؛ فإنّ معنى الإله نسبي يقتضي نسبتَه إلى غيره ، ولا يتحقّق بدون الغير ، والمسمّى لا حاجة له إلى غيره ، فيكون الاسم غير المسمّى ، كما قال : «والاسم غير المسمّى» .(1)

وقال في باب معاني الأسماء :

قد سبق هذا الحديث في باب المعبود بسنده ومتنه إلاّ أنّه هناك وقع : «والإله يقتضي مألوها» وهاهنا : «وإله يقتضي مألوها» بدون لام التعريف ، ولو جرّد النظر عمّا هناك لم يبعد أن يقرأ هاهنا بلفظ الفعل الماضي ، وإلاهةً واُلوهة واُلوهيّة : عبد عبادة ؛ ومنه لفظ الجلالة . كذا ذكره اللغويّون . «وإله يقتضي مألوها» أي يوجبه ليكون مطابقه ومصداقه .(2) انتهى .

قوله : (والاسمُ غيرُ المسمّى) إلى آخره . [ح 2 / 313]

ليعلم أوّلاً أنّ الاسم يطلق على اللفظ الموضوع ، وهذا هو المعروف بين العامّة ، ويُطلق أيضا على الصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها اللفظ أوّلاً ، وبوساطتها على ما في الخارج . وعلى ذلك اصطلاح المتكلّمين الذين كانوا في زمن المعصومين عليهم السلام ، كما يستفاد من تضاعيف أخبار هذا الباب وتصريح أعاظم المتكلِّمين ، وستطّلع على كلام شارح المقاصد .

ثمّ ليعلم أنّ الكلّي لابدّ له في الجزئيّة من أن يتخصّص وإن لم نعلم كُنه ما يتخصّص به ، والذي تبيّن لي أنّ ذلك ليس الوجودَ الخاصّ للشيء ، وذلك لأنّه من ضروريّات الدِّين - بحيث لا يعتريه شائبة ريب - أنّ اللّه عالم بالجزئيّات ، على أيّ وجه شئت فصحّح . وقد صحّ عن أصحاب العصمة عليهم السلام أنّ علمه تعالى لا يتفاوت في حالة الوجود .

ص: 367


1- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 290 .
2- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 386 .

والعدم ، كما سبق في باب صفات الذات أنّه «كانَ اللّه ُ ولا شيءَ غيرُه ، ولم يَزَلْ عالِما بما يكون ، وعِلْمُه به قبلَ كَوْنِه كعلمه به بعد كونه» .(1)

وفي حديثٍ آخر : «لم يَزَلِ اللّه ُ عالِما بالأشياء قبل أن يَخلُقَ الأشياءَ ، كعِلْمه بالأشياء بعد ما خَلَقَ الأشياءَ» .(2)

وقد حقّقنا هنا أنّ وقوع العلم على المعلوم ليس إلاّ مجامعةَ العلم الأزلي لوجود المعلوم ، وسيجيء في باب جوامع التوحيد أنّه تعالى أحاط بالأشياء عِلْما قبل كونها، فلم يَزْدَدْ وبكونها علما عِلْمُه بها قبل أن يُكوّنها كعِلْمه بها بعد تكوينها(3) ، فعينيّة الشيء بالجزئيّة لا بالوجود ، ولهذا يعقل الخلاف بأنّ الشيء بعد الإعدام هل يعاد بعينه أو بمثله ؟ ولا يلزم على القول بالعينيّة ارتكاب خلاف الضرورة ، ويتيسّر التفصّي عن مفاسد القول بالمثليّة .

وليعلم أيضا أنّ العَلَم باتّفاق علماء الأدب ما وضع لشيء بعينه ، وقد عرفت أنّ مناط العينيّة الجزئيّةُ ، لا الوجود ، فإذا أدركت جزئيّا ووضعت له لفظا ، فاسمه ذلك اللفظ في إطلاقات العامّة ، وتلك الصورة الإدراكيّة في اصطلاح المتكلّمين ، والمسمّى هو الجزئي الخارجي ، والصورة مطابقة له ؛ إذ لا تغاير بينهما إلاّ بالوجودين ، فالاسم في العَلَم عين المسمّى .

ولمّا لم يمكن تصوّر الذات الأقدس على وجه الجزئيّة ؛ لأنّ جزئيّته بوجوده الخاصّ الذي هو عين ذاته ، فتصوّره على وجه الجزئيّة إنّما يتصوّر إذا دخل هو سبحانه بعينه في الذهن ، وجلال كبريائه تعالى أعظم وأجلّ من ذلك باعتراف الجميع ، وإن كان بعضهم غافلين عن أنّه لازم القول بالعَلَميّة ، بل ولازم القول بعينيّة الاسم للمسمّى ، فالاسم هناك غير المسمّى وإن كان غير مشتقّ ، ولذا جعل الإمام عليه السلام بعدما بيّن اشتقاق لفظ «اللّه» مناطَ الغيريّة هو الاسميّةَ، فقال : «والاسم غير المسمّى» ومثّل .

ص: 368


1- الكافي ، ج 1 ، ص 107 ، باب صفات الذات ، ح 2 .
2- المصدر ، ح 4 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 134 ، باب جوامع التوحيد ، ح 1 .

بالخبز والماء اللذين هما لمفهومين كلّيين هما غير المأكول والمشروب الخاصّين .

ولمّا كانت عينيّة الاسم للمسمّى في اللّه تعالى - الذي وجوده عين ذاته - مبنيّا على أخذ الوجود في الاسم ، وكان له تعالى تسعة وتسعون اسما ، فالوجود على تقدير العينيّة مأخوذ في كلّ واحد منها ، لزم تعدّد الإله حسب تعدّد الأسماء الحسنى ، فلذا قال عليه السلام : (لو كانَ الاسمُ عين المسمّى لزم أن يكون كلّ اسم منها إلها) .(1)

ولدقّة ما شرح عليه السلام في جواب هشام ولطافته ووثاقته [قال]: «أفهمت يا هشام فهما تدفع وتناقل به أعداءنا المتّخذين مع اللّه عزّوجلّ غيره؟» ثمّ سأل من اللّه تعالى نفعه به وتثبيته به ؛ فخذ ما أنعم اللّه عليك بوساطة أوليائه المعصومين عليهم السلام وكن من الشاكرين .

قوله : (تناقل(2) به أعداءَنا) . [ح 2 / 313]

في الأساس : «ناقل به الحديث : إذا حدّثته وحدّثك ، وناقل الشاعر الشاعر : ناقضه، ورجل نَقِل وذو نقل : إذا كان جدلاً مناقلاً» .(3) انتهى .

وفي بعض النسخ «تناضل» مكان «تناقل». في الصحاح : «أي راماه ، ويُقال : ناضلت فلانا فنضلته : إذا غلبته»(4) .

قوله : (يَبِيدُ أو يَتَغَيَّرُ أو يداخله(5) التغيّر) . [ح 5 / 316]

في حاشية السيّد الجليل الرفيع :

كلّ شيء من المخلوقات يهلك بزوال حقيقته «أو يتغيّر» بزوال فرد وحصول آخرَ ، كأفراد الحرارة والبرودة «أو يدخله التغيّر والزوال» كالموادّ القوابل لتلك الأفراد ، أو حقائق الصور التي يزول عنها [لاببدل] لا ينتقل من لون إلى لون ، أي من نوع إلى نوع ، أو من فاضل عن غيره إلى آخر ، كالموادّ المنتقلة من نوع كالمائيّة إلى آخر كالأرضيّة «ومن هيئة إلى هيئة» أي كيفيّة موجودة إلى كيفيّة اُخرى موجودة «ومن صفة إلى صفة» والصفة ما يوصف به الشيء، ويشمل الاعتباريّات «ومن زيادة إلى نقصان ، ومن نقصان .

ص: 369


1- في الكافي المطبوع : «فلو كان الاسم هو المسمّى لكان كلّ اسمٍ منها إلها» .
2- في الكافي المطبوع : «تناضل» .
3- أساس البلاغة ، ص 653 (نقل) .
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 1831 (نضل) .
5- في الكافي المطبوع : «يدخله» .

إلى زيادة» كالاختلاف والتغيّر في الكمّيّات المتّصلة أو المنفصلة ، فكلّ شيء له نهاية وزوال «إلاّ ربّ العالمين ؛ فإنّه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة ، هو الأوّل قبل كلّ شيء» فإنّه مبدأ كلّ شيء وفاعله «وهو الآخر» لعدم زواله وعدم تغيّر صفاته وأسمائه الدالّة على الصفات كاختلافها على غيره ، كالإنسان «الذي يكون» بمادّته «ترابا مرّةً ، ومرّةً لحما ودما ، ومرّة رُفاتا ورميما».

الرّفات : كلّ ما دقّ وكسر ، وغلب استعماله في العظم . والرميم : العظم البالي.

«وكالبسر الذي يكون مرّة بلحا». والبلح - بالحاء المهملة محرّكة - : ما بين الخلال والبسر ، وثمر النخل إذا اخضرّ واستدار فخلال ، وإذا عظم فبسر ؛ فإذا انتهى نضجه فرطب ، فإذا جفّ ويبس تمر ، فالبسر في التبدّل والتغيّر في الأسماء والصفات ، وكذا الإنسان وسائر المخلوقات فلجميع المخلوقات زوال بوجه ، وهو سبحانه باقٍ لا يزول بوجه من الوجوه ، فهو الآخِر الباقي بعد زوال الأشياء وفنائها .(1) انتهى كلامه ، رفع اللّه مقامه .

قوله : (أسماؤُهُ وصفاتُهُ هي هو) . [ح 7 / 318]

في البحار :

اعلم أنّ المتكلّمين اختلفوا في أنّ الاسم هل هو عين المسمّى أو غيره؟ فذهب أكثر الأشاعرة إلى الأوّل ، والإماميّة والمعتزلة إلى الثاني، وقد وردت هذه الأخبار ردّا على القائلين بالعينيّة ، وأوّل بعض المتأخّرين كلامهم لسخافته ، وإن كانت كلماتهم صريحةً في ما نسب إليهم .

قال شارح المقاصد : الاسم هو اللفظَ المفرد الموضوع للمعنى على ما يعمّ أنواع الكلمة ، وقد يقيّد بالاستقلال والتجرّد عن الزمان ، فيقابل الفعلَ والحرف على ما هو مصطلح النحاة ، والمسمّى هو المعنى الذي وضع له الاسم بإزائه ، والتسمية هو وضع الاسم للمعنى . وقد يُراد بها ذكر الشيء باسمه كما يقال : فلان يسمّى زيدا ولم يسمّ عمروا .

ولا خفاء في تغاير الاُمور الثلاثة ، وإنّما الخفاء فيما ذهب إليه بعض أصحابنا من أنّ الاسم نفس المسمّى ، وفيما ذكره الشيخ الأشعري من أنّ أسماء اللّه تعالى ثلاثة أقسام: .

ص: 370


1- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 389 - 390 .

ما هو نفس المسمّى ، مثل «اللّه» الدالّ على الوجود أي الذات ؛ وما هو غيره ، كالخالق والرازق ونحو ذلك ممّا يدلّ على فعل ؛ وما لا يقال إنّه هو ولا غيره ، كالعالم والقادر وكلّ ما يدلّ على الصفات ، وأمّا التسمية فغير الاسم والمسمّى .

وتوضيحه أنّهم يريدون بالتسمية اللفظَ ، وبالاسم مدلولَه ، كما يريدون بالوصف قولَ الواصف ، وبالصفة مدلولَه ، وكما يقولون : القراءة حادثة والمقروء قديم ، إلاّ أنّ الأصحاب اعتبروا المدلول المطابقيَّ ، فأطلقوا القول بأنّ الاسم نفس المسمّى ؛ للقطع بأنّ مدلول الخالق شيء ما له الخلق، لا نفس الخلق ، ومدلول العالم شيء ما له العلم ، لا نفس العلم ، والشيخ أخذ المدلول أعمَّ ، واعتبر في أسماء الصفات المعانيَ المقصودةَ ، فزعم أنّ مدلول الخالق الخلق وهو غير الذات ، ومدلول العالم العلم ، وهو لا عين ولا غير . انتهى .

وإذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الظاهر أنّ المراد بالأسماء الدالّة على الذات من غير ملاحظة صفة ، وبالصفات ما يدلّ على الذات متّصفا بصفة ، واستفسر عليه السلام مراد السائل وذكر محتملاته وهي ثلاثة ، وينقسم بالتقسيم الأوّل إلى احتمالين ؛ لأنّ المراد إمّا معناه الظاهري ، أو مأوّل بمعنى مجازي .

الأوّل : أن يكون المراد كونَ كلّ واحد من تلك الأسماء والحروف المؤلّفة عينَ ذاته تعالى ، فحكم عليه السلام بأنّه تعالى منزّه عن ذلك ؛ لاستلزامه تركّبه وحدوثه وتعدّده ؛ تعالى اللّه عن ذلك .

الثاني : أن يكون قوله «هي هو» كنايةً عن كونها دائمةً معه في الأزل ، فكأنّها عينه. وهذا يحتمل معنيين :

الأوّل: أن يكون المراد أنّه تعالى كان [في الأزل] مستحقّا لإطلاق تلك الأسماء عليه ، وكونِ تلك الأسماء في علمه تعالى من غير تعدّد في ذاته وصفاته ومن غير أن يكون معه شيء في الأزل ؛ فهذا حقّ .

الثاني : أن يكون المراد كونَ تلك الأصوات والحروف المؤلّفة دائما معه في الأزل ؛ فمعاذ اللّه أن يكون معه غيره في الأزل . وهذا صريح في نفي تعدّد القدماء ، ولا يقبل التأويل .

ثمّ أشار عليه السلام إلى حكمة خلق الأسماء والصفات بأنّها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرّعون

ص: 371

بها إليه ، وهي «ذكره» بالضمير ، أي يذكر بها ، والمذكور بالذكر قديم ، والذكر حادث .

ومنهم من قرأ بالتاء ، قال الجوهري : «الذكر والذكرى نقيض النسيان ، وكذلك الذكرة» .(1)

قوله عليه السلام : «والأسماء والصفات مخلوقات». النسخ هاهنا مختلفة :

ففي التوحيد : «مخلوقات المعاني»(2) أي معانيها اللغويّة ومفهوماتها الكلّيّة :

وفي الاحتجاج : ليس لفظ «المعاني» أصلاً .(3)

وفي الكافي : «والمعاني» بالعطف .

والمراد بها إمّا مصداق مدلولاتها، ويكون قوله «والمعنيّ بها» عطف تفسيري له ، أو هي معطوفة على الأسماء ، أي والمعاني وهو حقائق مفهومات الصفات مخلوقة ؛ أوالمراد بالأسماء الألفاظ ، وبالصفات ما وضع ألفاظها .

وقوله : «مخلوقات والمعاني» خبران لقوله : «الأسماء والصفات» أي الأسماء مخلوقات، والصفات هي المعاني .

قوله : «والمعنيّ بها هو اللّه» أي المقصود بها والمذكور بالذِّكر ومصداق تلك المعاني المطلوبة بها هو ذات اللّه ، والمراد بالاختلاف تكثّر الأفراد، أوتكثّر الصفات ، أوالأحوال المتغيّرة ، أو اختلاف الأجزاء وتباينها بحسب الحقيقة ، أو الانفكاك والتحلّل ، وبالائتلاف التركيب من الأجزاء ، أو الأجزاء المتّفقة الحقائق .

قوله عليه السلام : «فإذا نفى اللّه الأشياء» استدلال على مغايرته تعالى للأسماء وهجاها وتقطيعها والمعاني الحاصلة منها في الأذهان من جهة النهاية ، كما أنّ المذكور سابقا كان من جهة البداية .

والحاصل أنّ علمه تعالى ليس عينَ قولنا: «علم» وليس اتّصافه تعالى به متوقّفا على التكلّم بذلك ، وكذا الصور الذهنيّة ليست عينَ حقيقة صفاته تعالى بالصفات متوقّفةً على حصول تلك الصور ؛ إذ بعد فناء الأشياء تفنى تلك الاُمور مع بقائه تعالى متّصفا بجميع الصفات الكماليّة ، كما أنّ قبل حدوثها كان متّصفا بها .

ثمّ اعلم أنّ المقصود ممّا ذكر في هذا الخبر وغيره من أخبار البابين هو نفي تعقّل كنه ذاته.

ص: 372


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 664 (ذكر) .
2- التوحيد ، ص 193 ، ح 7 .
3- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 442 .

وصفاته تعالى ، وبيان أنّ صفات المخلوقات مشوبة بأنواع العجز ، واللّه تعالى متّصفٌ بها ، معرّى عن جهات النقص والعجز كالسمع ؛ فإنّه فينا هو العلم بالمسموعات بالحاسّة المخصوصة ، ولمّا كان توقّف علمنا على الحاسّة لعجزنا ، وكان حصوله لنا من جهة تجسّمنا وإمكاننا ونقصنا ، وأيضا ليس علمنا من ذاتنا لعجزنا، وعلمنا حادث لحدوثنا ، وليس علمنا محيطا بحقائق ما نسمعه كما هي ؛ لقصورنا عن الإحاطة بها ، وكلّ هذه نقص ذلك الكمال ، فقد أثبتنا له تعالى ما هو الكمال وهو أصل العلم ، ونفينا عنه جميع تلك الجهات التي هي من سِمات النقص والعجز ، ولمّا كان علمه تعالى غيرَ متصوّر لنا بالكنه وأنّا لمّا رأينا الجهل فينا نقصا ، نفيناه عنه ، فكأنّا لم نتصوّر من علمه تعالى إلاّ عدم الجهل ، فإثباتنا العلم له تعالى إنّما يرجع إلى نفي الجهل ؛ لأنّا لم نتصوّر علمه تعالى إلاّ بهذا الوجه .

وإذا تدبّرت في تلك حقَّ التدبّر ، وجدته نافيا لما يدّعيه جماعة من الاشتراك اللفظي في الوجود وسائر الصفات لا مثبتا ، وقد عرفت أنّ الأخبار الدالّة على نفي التعطيل تنفي هذا القول .(1) انتهى .

قوله : (إنْ كنتَ تقول هِيَ هُوَ) . [ح 7 / 318]

في حواشي السيّد الجليل الرفيع:

استفسر عليه السلام عن مراد السائل بقوله : «هي هو» وذكر محتملاته وحكمَ كلّ منها ، فقال : إن كان المراد أنّها كثيرة معدودة، وهو متكثّر متعدّد على وفق كثرتها ، فتعالى اللّه سبحانه من التعدّد والتكثّر ، وإن كان المراد أنّ هذه الأسماء والصفات له سبحانه لم تزل ، فإن قلت : لم تزل هذه له بوجودها العلمي الظلّي في علمه سبحانه ، ولم يزل بحيث إذا عرف عرف مستحقّا لها ، فنعم ، وإن قلت : «لم يزل تصويرها» أي ثبوت حقائق الأسماء والصفات «وهجاها» أي شكلها أو تقطيع الكلمات بحروفها «وتقطيع حروفها» - وقوله : «وتقطيع حروفها» كالمفسّر ل «هجاها» على ثاني الاحتمالين - فعلى جميع هذه الشقوق يلزم أن يكون مع اللّه موجود عيني مغاير له ، غير مسبوق بالعدم؛ ومعاذ اللّه أن يكون معه شيء مغاير له عينا محدث . .

ص: 373


1- بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 155 - 157 .

ولا كذلك الظلميّات ؛ فإنّها كالتوابع والأظلال للعينيّات لا تأصّل لها في الوجود حتّى يجب أن يكون موجودا بذاته ، ومخرَجا من العدم إلى الوجود العيني ، وثبوتها نفس تابعيّتها للذات الأحديّة ، وكذا مسبوقيّتها بالذات ، فليس كالاُمور العينيّة التي مقتضى تأخّرها وانفصال وجودها عن الوجود الأزلي مسبوقيّتها بالعدم، كما سبقت إليه إشارة مّا ، وسنزيدك إيضاحا لما لوّحنا إليه هاهنا في مقام يناسبه إن شاء اللّه تعالى .

وأشار إلى حكمة خلق الأسماء والصفات المذكورة في الكتاب بأنّها «وسيلة بينه وبين خلقه يتضرّعون بها إليه ويعبدونه» تنبيها على أنّها مغايرة للأسماء التي هي الأركان؛ فإنّها ليست بالألفاظ والحروف وهي بها «وهي» أي هذه المذكورات في الكتاب «ذِكْرُه ، وكان اللّه ُ ولا ذِكْرَ» لأنّ الذكر موجود عيني مسبوق بالعدم ، أو تابع لموجود عيني كذلك ، فالذكر محدث «والمذكور بالذكر هو اللّه القديم الذي لم يزل» .

وقوله : «فقولك : إنّ اللّه قدير» بيان لحال توصيفه بالصفات كالعلم والقدرة ، وأنّ معانيها مغايرة للذات لا بانضمام صفة ، وأنّ أشكالها وألفاظها وصورها تفنى، وهو لا يزال قدير عالم .

والمراد إذا قلت : قولك : إنّ اللّه قدير ، «خبّرت» بهذا القول «أنّه لا يعجزه شيء» فمعنى القدرة فيه نفي العجز لا صفة وكيفيّة موجودة ، فجعلت العجز مغايرا له ، منفيّا عنه ، ونفي المغاير عن الشيء مغاير له كالمنفيّ .

وكذلك إذا قلت : قولك : عالم ، إنّما نفيت بهذا القول الجهل ، وجعلت الجهل منتفيا عنه ، ونفيه عنه مغاير له ، فمعانيها مغايرة للذات ، وصورها وألفاظها وأشكالها فانية ، وهو سبحانه لم يزل ولا يزال قادر عالم بذاته ، أي هو بذاته مناط نفي العجز والجهل لا بمغاير الذات .

وأمّا مفهومات نفي الجهل والعجز فمغايرة للذات بلا شبهه ، والعجز والجهل وأشباهها وإن كانت أعداما لكنّها أعدامُ ملكاتٍ لها حظّ من الثبوت ، به يصحّ أن يُنفى أو يثبَت .(1)

انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه .

فلقد أتى في هذه الحاشية بفوائدَ جليلةٍ تستحقّ أن يُضَنّ بها ، غير أنّ قوله : «فمعنى .

ص: 374


1- الحاشية على اُصول الكافي ، ص 391 - 394 .

القدرة فيه نفي العجز» محلّ تأمّل ؛ إذ لا يدلّ عليه قوله : «فنفيت بالكلمة العجز، وجعلت العجز سواه ، وكذلك قولك : عالمٌ إنّما نفيت بالكلمة الجهل ، وجعلت الجهلَ سواه» وذلك لأنّ نفي العجز بقولك: «قادر» أعمُّ من أن يكون باعتبار أنّه معناه ، أو لازم معناه ، وكذلك نفي الجهل بقولك: «عالم» ألا ترى أنّك إذا قلت : «إنّ زيدا قادر عالم» نفيت عنه بالكلمتين العجز والجهل ، مع أنّ أصحاب الاشتراك إنّما ادّعوا ذلك ؛ أعني الإرجاع إلى السلب في إطلاقهما على الباري عزّ اسمه فقط ، ولعلّ السيّد قدس سره نظر إلى كلام الكليني رحمه الله في ذيل باب الإرادة ، فقال ما قال .

وتحقيق المقام أنّ العالم قد يُطلق على ذات له مبدأ انكشاف الأشياء وإن لم ينكشف له شيء بعدُ ؛ لفقدان شرط ، وقد يطلق على من انكشف له بالفعل ، والجاهل مقابل العالم بالمعنى الثاني ، فهو من لم ينكشف له دون العالم بالمعنى الأوّل ؛ إذ لا يقابل للجماد أنّه جاهل ، وأكثر ما يطلق العالم على اللّه هو بالمعنى الثاني .

وقوله عليه السلام : «إنّما نفيت بالكلمة الجهل» للإشعار بذلك ، وكذلك سائر الصفات الذاتيّة أكثر إطلاقها على اللّه تعالى باعتبار الغايات ، وينفى بها المقابلات ، وليس المقصود أنّه لا يجوز أن يُطلق عليه الصفات باعتبار المبدأ ، كيف وقد صحّ عنهم عليهم السلام أنّه سبحانه يسمع بنفسه ، ويبصر بنفسه ، وأنّه لم يزل عالما والعلم ذاته ، وقادرا والقدرة ذاته ، إلى غير ذلك . ووجه أنّ أكثر إطلاقات العالم على اللّه تعالى باعتبار الغاية - أي باعتبار المعنى الثاني - انتفاعُ عموم الناس ، وذلك لقصور الأكثر عن فهم أنّ الذات الأحديّة المقدّسة عن شوب الكثرة مبدأ بنفس ذاته لمفهومات متكثّرة متغايرة ؛ ولذلك ذهب جماعة كثيرة تراءسوا قبل أن يعضّوا في العلم بضرس قاطع إلى مبادٍ متكثّرةٍ مع اللّه تعالى ، بها يحصل الغايات المتغايرة بعد ذلك في التوحيد ، فالتزم بعضهم بتعدّد الأزلي وقالوا وبعضها موصوفا ، وفرّ بعض عن ذلك إلى ما هو إلى غير ذلك من الخرافات لعموم الناس ، ثمّ تحيّروا إذا كان بعضها صفةً أشنعَ ، وقال: صفاته تعالى لا هو ولا غيره ، ولذلك أخذ المعصومون عليهم السلام في أكثر مخاطباتهم الصفات

ص: 375

باعتبار الغايات ، وقالوا: ينفى بإطلاق العالم على اللّه تعالى الجهلُ ، وبإطلاق القادر العجزُ ، وهكذا ، وسكتوا عن أنّ مبدأ الكلّ ، ومصحّح الإطلاق إنّما هو مجرّد الذات الأقدس الذي ليس كمثله شيء لئلاّ يذهب العقول الناقصة كلَّ مذهب ، ولا يتيهوا في بيداء الحيرة والضلالة .

روى الصدوق - طاب ثراه - في التوحيد وعيون الأخبار عن الحسين بن خالد، قال : سمعت الرضا عليه السلام يقول : «لم يزل اللّه تبارك وتعالى عالما قادرا ، حيّا قديما ، سميعا بصيرا» فقلت له : يا بن رسول اللّه إنّ قوما يقولون : إنّه عزّوجلّ لم يزل عالما بعلم ، وقادرا بقدرة ، وحيّا بحياة ، وقديما بقِدَم ، وسميعا بسمع ، وبصيرا ببصر ، فقال عليه السلام : «من قال بذلك ودان به فقد اتّخذ مع اللّه آلهةً اُخرى ، وليس من ولايتنا على شيء» .(1)

وفي حديثٍ آخَر عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال في صفة القديم : «إنّه واحد أحدٌ صمدٌ ، أحديّ المعنى ، ليس بمعانٍ كثيرة مختلفة» .

قال : قلت : جعلت فداك ، يزعم قوم من أهل العراق أنّه يسمع بغير الذي يبصر، ويبصر بغير الذي يسمع ؟

قال : فقال : «كذبوا وألحدوا وشبّهوا ، تعالى اللّه عن ذلك ؛ إنّه سميعٌ بصير ، يسمع بما يبصر ، ويبصر بما يسمع» .(2)

وقد سبق في باب صفات الذات : «لم يزل اللّه عزّوجلّ ربّنا ، والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور» الحديث .(3)

وستسمع في الباب الآتي تمام الكلام في هذا الباب .

قوله : (بِبَصَرِ لَحْظَةِ العَيْنِ) إلى قوله : (ومَوْضِعِ النُّشُوء منها) . [ح 7 / 318] .

ص: 376


1- التوحيد ، ص 139 ، ح 3 ؛ عيون أخبار الرضا، ج 1 ، ص 119 ، ح 10 .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 108 ، باب آخر و هو من الباب الأوّل ، ح 1 ؛ التوحيد ، ص 144 ، ح 9 ؛ الاحتجاج ، ج 2 ، ص 322 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 107 ، باب صفات الذات ، ح 1 .

في التوحيد : «بنظر لحظة(1) العين» إلى قوله «وأخصر منها(2) وموضع الشقّ منها» .(3)

قوله : (وإقامِ بعضها على بعضٍ) . [ح 7 / 318]

في التوحيد : «وإفهام بعضها على(4) بعض» . وفي رواية فتح بن يزيد على ما رواه الصدوق في التوحيد وعيون الأخبار : «وفهم بعضها عن بعض» .(5)

قوله : (لا بقوّةِ البَطْشِ) . [ح 7 / 318]

قال السيّد الجليل الرفيع :

أبطل كون قوّته قوّةَ البطش المعروف من الخلق بوجهين :

أحدهما : لزوم وقوع التشبيه ، وكونه مادّيّا مصوّرا بصورة المخلوق .

وثانيهما : لزوم كونه سبحانه محتملاً للزيادة ؛ لأنّ الموصوف بمثل هذه الكيفيّة لابدّ له من قوّة مادّة قابلة لها ، متقوّمة بصورة جسمانيّة ، موصوفة بالتقدير بقدر التناهي والمتجدّد بحدّ لا محالة ، فيكون لا محالة حينئذٍ موصوفا بالزيادة على من دونه من ذوي الأقدار ، وكلّ موصوف بالزيادة الإضافيّة موصوف بالنقصان الإضافي لوجهين :

أحدهما : أنّ المقادير الممكنة لا حدّ لها تقف عنده في الزيادة ، كما لا لها حدّ في النقصان ، فالمقدّر بمقدار متناهٍ يتّصف بالنقص الإضافي بالنسبة إلى بعض الممكنات وإن لم يكن يدخل في الوجود .

وثانيهما : أنّه يكون حينئذٍ لا محالة موصوفا بالنقص الإضافي بالنسبة إلى مجموع الموصوف بالزيادة الإضافيّة والمقيس إليه ، فيكون أنقص من مجموعهما ، وما كان ناقصا بالنسبة إلى غيره من الممكنات لا يكون قديما واجب الوجود لذاته ؛ لأنّه علّة ومبدأ لكلّ ما يغايره ، والمبدأ المفيض أكمل وأتمّ من المعلول الصادر عنه المفاضُ عليه منه ، فكلّ ناقص إضافي أحقّ بالمعلوليّة من المبدئيّة لما هو أكمل وأزيد منه ، وهذا ينافي ربوبيّته ويتمّ به المطلوب ، لكنّه لمّا أراد إلزام ما هو أظهر فسادا - وهو لزوم عجزه من قوّته - ضمّ إليه قوله : «وما كان غير قديم كان عاجزا» وذلك لأنّه كان معلولاً لعلّته .

ص: 377


1- في المصدر : «لحظ».
2- في المصدر : «وأحقر من ذلك» .
3- التوحيد ، ص 193 ، ح 7 .
4- في المصدر : «عن» .
5- التوحيد ، ص 185 ، ح 1 ؛ عيون أخبار الرضا، ج 1 ، ص 127 ، ح 23 .

ومبدئه ، مسخّرا له، غير قويّ على مقاومته .(1) انتهى .

قوله : (وعلى الضمائر أن يُكَوِّنَهُ) .(2) [ح 7 / 318]

وفي التوحيد : «وعلى الضمائر أن يكيّفه» .(3)

باب آخر وهو من الباب الأوّل...

باب آخر وهو من الباب الأوّل...

قوله : (عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السلام ). [ح 1 / 324]

في البحار : «أبو الحسن هو الرضا عليه السلام كما يظهر من الكليني ، ويُحتمل الهادي عليه السلام حيث عدّ الشيخ رحمه الله الفتح من أصحابه ، والأظهر الأوّل»(4) انتهى .

هذا الحديث رواه الصدوق في كتاب التوحيد في باب أسماء اللّه عن الفتح بسندٍ آخر(5) ، وفي المتن اختلاف في عدّة مواضعَ :

منها قوله : «لم يكن له كفوا أحد ، لم يعرف الخالق من المخلوق» فإنّ هناك بعد «أحد» : «منشى ء الأشياء ومجسّم الأجسام ومصوّر الصور ، لو كان كما يقولون لم يعرف الخالق من المخلوق» إلى آخره .

ومنها قوله : «والإنسان نفسه ليس واحدا» فإنّ هناك بالفاء .

ومنها قوله : «وألوانه مختلفة ، ومَن ألوانه مختلفة غير واحد» فإنّ هناك : «وألوانه مختلفة غير واحدة وهو أجزاء مجزّأة» .

ومنها قوله : «فالإنسان واحد في الاسم ولا واحد في المعنى» فإنّ هناك بدون الواو .

ومنها قوله : «ومن الخلق اللطيف ، ومن الحيوان الصغار» فإنّ هناك : «وفي الخلق اللطيف من الحيوان الصغار من البعوض والجرجس ما هو أصغر منهما» .

ومنها قوله : «وأفهام بعضها» فإنّ هناك : «وفهم بعضها» .

ص: 378


1- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 395 - 396 .
2- في المصدر : «أن تكوّنه» .
3- التوحيد ، ص 193 ، ح 7 . وفيه : «أن تكيّفه» .
4- بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 174 .
5- التوحيد ، ص 185 ، ح 1 .

ومنها قوله : «وبياض مع حمرة» إلى آخره ، فإنّ هناك : «وبياضا مع حمرة ، وما لا يكاد عيوننا تستبينه بتمام خلقها ولا تراه عيوننا» .

ورواه في كتاب عيون الأخبار هكذا ، إلاّ قوله : «وهو أجزاء مجزّأ» فإنّ في النسخة التي عندي هكذا : «وهو أجزاء مجزّأة» بالتوصيف .(1)

ورواه أيضا في كتاب التوحيد في أواسط باب ثواب الموحّدين والعارفين ، وذكر هناك مكان قوله : «من أجزاء مختلفة» : «فمن أجزاء مختلفة» إلى آخره(2) ، ولا ريب أنّه أصحّ .

قوله : (إنّما التشبيهُ في المعاني) . [ح 1 / 324]

الأظهر أنّ المراد بالمعاني المسمّيات التي هي الأعيان الخارجيّة ، وبالأسماء المفهوماتُ الكلّيّة التي هي مدلولات الألفاظ ، فالمعنى أنّ معنى مفهوم الواحد في جناب القدس هو الذات الأقدس المباين لجميع من عداه من جميع الوجوه ، فبأنّه هو استحقّ إطلاقَ الاسم ونفيَ الكثرة عنه من كلّ وجه ، كما أنّه بأنّه هو استحقّ إطلاق اسم العالم ونفيَ الجهل عنه ، وبأنّه هو استحقّ إطلاق اسم القادر ونفيَ العجز عنه .

وبالجملة ، الأسماء الحسنى - أي مفهومات الألفاظ - له سبحانه ، لا فيه ، بخلاف المخلوقين ؛ فإنّ الإنسان مثلاً - أي الأجزاء المخصوصة - وإن كان لفظ الواحد يطلق عليه كما يطلق على اللّه سبحانه ، وكلا الإطلاقين باعتبار مفهومٍ واحدٍ هو مدلول اللغوي المعبّر عنه بالاسم ، غيرَ أنّ مصحّح الإطلاق ومناط الحمل فيه الوحدةُ التي هي من إحدى المقولات ، وفي جنابه تعالى نفس الذات المقدّسة التي استحقّت بوحدانيّته جميع الأسماء الحسنى ، فإن نُظر إلى المحمول فالاشتراك معنوي ، وإن نُظر إلى مناط الحمل فالاشتراك لفظي ؛ على ذلك أحيا ، وعليه أموت ، وعليه اُبعث إن شاء اللّه .

قوله : (ما لا يَكادُ يستبينه(3)) . [ح 1 / 324]

في القاموس : «بِنْتُهُ - بالكسر - وبيّنته وتبيّنته وأبان واستبنته : أوضحته وعرّفته ، فبان .

ص: 379


1- عيون أخبار الرضا، ج 1 ، ص 127 ، ح 23 .
2- التوحيد ، ص 60 ، ح 18 .
3- في الكافي المطبوع : «تستبينه» .

وتبيّن وأبان واستبان ، كلّها لازمة متعدّية» .(1)

وفي الصحاح : «استبان الشيء : ظهر . واستبنته أنا : عرّفته» .(2)

وفي الأساس : «بان لي الشيء وتبيّن وبيّن وأبان واستبان وبيّنته وأبنته وتبيّنته واستبنته» .(3)

أقول : لم يستبن بعدُ من عبارة صاحب القاموس أنّ قائل استبنته يعرّف ويوضّح ما هو واضح عنده للغير ، أو يطلب وضوحه لنفسه ، والظاهر أنّ مراده الأوّل ، فقوله : «فبان» أي للغير ، وهو ظاهر عبارة الصحاح والأساس ، بل الحديث الثاني .

قوله : (لدَمامَةِ خَلْقِها) . [ح 1 / 324]

في القاموس في الدال المهملة : «الدميم - كأمير - : الحقير» .(4)

قوله : (عليُّ بن محمّد مرسلاً) . [ح 2 / 325]

هذا الحديث أورده الصدوق - طاب ثراه - مسندا في كتاب التوحيد في باب أسماء اللّه تعالى .(5)

وفي كتاب عيون الأخبار في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار في التوحيد ، والسند هكذا : «حدّثنا عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق رحمه الله ، قال : حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني ، قال : حدّثنا عليّ بن محمّد المعروف بعلاّن ، عن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن خالد ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام » .(6)

وفي المتن اختلاف في عدّة مواضعَ :

منها قوله : «والقدم صفته التي دلّت العاقل». ففي التوحيد وعيون الأخبار : «والقدم صفة دلّت». وفي التوحيد : «دلّت العاقل على أنّه لا شيء قبل اللّه ولا شيء معه» .

وفي عيون الأخبار بإضافة «في ديمومته» . .

ص: 380


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 204 (بين) .
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 2083 (بين) . وفيه : «وضح» بدل «ظهر» .
3- أساس البلاغة ، ص 58 (بين) .
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 113 (دمم) .
5- التوحيد ، ص 186 ، ح 2 .
6- عيون أخبار الرضا، ج 1 ، ص 145 ، ح 50 .

ومنها قوله : «معجزة الصفة». ففي العيون : «مع معجزة الصفة».

ومنها قوله : «أولى بأن يكون خالقا». ففي الكتابين : «للأوّل الثاني» .(1)

ومنها قوله : «على معانيها التي كانت بنيت عليه». ففي عيون الأخبار : «بنيت عليها» .

ومنها قوله : «وإنّما سمّى اللّه بالعلم». ففي الكتابين : «وإنّما نسمّي اللّه بالعالم» .

ومنها قوله : «ويفسد ما مضي». ففي التوحيد : «وتقفية(2) ما مضى ».

ومنها قوله : «ويعينه». ففي العيون : «ويعنه» .

ومنها قوله : «كما أنّا لو رأينا». ففي الكتابين «كما أنّا رأينا» .

ومنها قوله : «إذا كانوا ففيه جهلة». ففي الكتابين «إذ كانوا قبله جهله» .

ومنها قوله : «فقد جمعنا الاسم بالسمع». ففي الكتابين : «بالسميع» .

ومنها قوله : «وهكذا البصر». ففي العيون : «وهكذا البصير» .

ومنها قوله : «ولم نجمع المعني». ففي الكتابين : «ولم يجمعنا المعنى» .

ومنها قوله : «كقولك للرجل لطف عنّي». ففي الكتابين : «كقولك : لطف عنّي» .

ومنها قوله : «يخبرك أنّه غمض فيه العقل». ففي الكتابين : «يخبرك أنّه غمض ، فبهر العقل» .

ومنها قوله : «ولا يفوته». ففي التوحيد : «ولا يفوته شيء» .

ومنها قوله : «فعند التجربة والاعتبار علما». ففي التوحيد والعيون : «فيفيد التجربة والاعتبار علما لولاهما ما علم» .

ومنها قوله : «ولغلبة الأشياء وقدرته عليها». ففي الكتابين : «ولغلبته الأشياءَ وقدرته عليها» .

ومنها قوله : «الغائب المستتر». ففي التوحيد : «الغائب في الشيء المستتر به ، فقد جمعنا الاسم» .

ومنها قوله : «طرفة عين أن يقول». ففي الكتابين : «طرفة عين غير أنّه يقول» . .

ص: 381


1- أي هكذا : «أولى بأن يكون خالقا للأوّل الثاني» .
2- في التوحيد المطبوع : «وبعينه» .

ومنها قوله : «لم نستجمعها». ففي الكتابين : «لم نسمعها فتبصر» .

باب تأويل الصمد

[باب تأويل الصمد]

قوله : (بأسماء دعاء الخلق(1)) إلى قوله : (فهو واحدٌ صَمَدٌ) . [ح 2 / 327]

بتنوين «أسماء» ونصب «دعاء» ؛ أي لدعاء الخلق .

وفي التوحيد : «قال الباقر عليه السلام : حدّثني أبي زين العابدين ، عن أبيه الحسين بن عليّ عليهم السلام أنّه قال : الصمد : الذي لا جوف له ، والصمد : الذي انتهى(2) سؤدده ، والصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب ، والصمد : الذي لا ينام ، والصمد : الدائم الذي لم يزل ولا يزال» .

قال الباقر عليه السلام : «كان محمّد بن الحنفيّة رضى الله عنه يقول : الصمد : القائم بنفسه ، الغنيّ عن غيره ، و[قال غيره:] الصمد : المتعالي عن الكون [و] الفساد ، والصمد : الذي لا يوصف بالتغاير» .

قال الباقر عليه السلام : «الصمد : السيّد المطاع الذي لا شريك له ، ولا يؤوده حفظ شيء ، ولا يعزب عنه علم شيء» .(3)

قال وهب بن وهب القرشي : قال زيد بن عليّ عليه السلام : الصمد : الذي إذا أراد شيئا قال له كُن فيكون ، والصمد : الذي أبدع الأشياء ، فخلقها أضدادا وأشكالاً وأزواجا ، وتفرّد بالوحدة بلا ضدّ ولا شكل ولا مثل ولا ندّ .(4)

قال وهب بن وهب القرشي : وحدّثني الصادق جعفر بن محمّد ، عن أبيه الباقر ، عن أبيه عليهم السلام : «أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن عليّ عليهماالسلام يسألونه عن الصمد ، فكتب إليهم : بسم اللّه الرحمن الرحيم ؛ أمّا بعدُ ، فلا تخوضوا في القرآن ، ولا تجادلوا فيه ، ولا تتكلّموا فيه بغير علم ، فقد سمعت جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : من قال في القرآن بغير

ص: 382


1- لم ترد هذه الكلمات في الكافي .
2- في المصدر : «قد انتهى» .
3- التوحيد ، ص 90 ، ح 3 .
4- التوحيد ، ص 90 ، ح 4 .

رأي(1) فليتبوّأ مقعدَه من النار ، وأنّه سبحانه فسّر الصمد ، فقال : الذي «لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُ ».

«لَمْ يَلِدْ»: لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنفس ، ولا يتشعّب البَدَوات(2) ، كالسنه والنوم والخطرة والهمّ والحزن والبهجة والضحك والبكاء والخوف والرجاء والرغبة والسأمة والجوع والشبع ، تعالى أن يخرج منه شيء ، وأن يتولّد منه شيء كثيف أو لطيف .

«ولم يولد» : لم يتولّد من شيء ، ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها ، كالشيء من الشيء ، والدابّة من الدابّة ، والنبات من الأرض ، والماء من الينابيع ، والثمار من الأشجار ، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها ، كالبصر من العين ، والسمع من الاُذن ، والشمّ من الأنف ، والذوق من الفم ، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب ، وكالنار من الحجر ؛ لا بل هو اللّه الصمد الذي لا من شيء ، ولا في شيء ، ولا على شيء ، مبدع الأشياء وخالقها ، ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيّته ، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه ؛ فذلكم اللّه الذي لم يلد ولم يولد ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ، ولم يكن له كفوا أحد» .(3)

باب الحركة والانتقال

باب الحركة والانتقال

قوله : (وعنه رَفَعَه) . [ح 2 / 329]

هذا الحديث والذي قبله أوردهما الصدوق - طاب ثراه - في كتاب التوحيد في باب نفي الزمان والمكان(4) ، وذكر للأوّل السند الذي ذكره المصنّف طاب ثراه ، ثمّ قال : «وبهذا الإسناد عن الحسن بن راشد ، عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، عن أبي إبراهيم»

ص: 383


1- في المصدر : «بغير علم» .
2- البدوات : ما يبدو ويسنح ويظهر من الحوادث والحالات المتغيّرة والآراء المبتدلّة . راجع : بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 228 ؛ لسان العرب ، ج 14 ، ص 66 (بدو) .
3- التوحيد ، ص 90 - 91 ، ح 5 .
4- التوحيد ، ص 183 ، ح 19 .

وذكر مكان قوله عليه السلام : «ولم يَحتَجْ إلى شريكٍ يَذْكُرْ له مُلكَه»: «لم يحتج إلى شريك يذكر له في ملكه لزمها الحواية» . في التوحيد وبعض نسخ الكافي : «لزمه الحوانة» .

قوله : (استوى على كلِّ شيءٍ) . [ح 6 / 333]

الظاهر أنّ لفظة «على» وقعت سهوا من النسّاخ ؛ بدليل أنّ الصدوق - طاب ثراه - ذكر هذا الحديث عن سهل مع باقي السند وعدّة أحاديثَ اُخَر ، وفي الجميع: «استوى من كلّ شيء» أمّا في الأحاديث الاُخر فمصرّح ، وأمّا في هذا الحديث فلأنّه نقل رواية ما ردّ على الوجه الذي نقله المصنّف ، ثمّ قال : «ماجيلويه ، عن محمّد العطّار ، عن سهل» مثله(1) ، ثمّ قال : «ابن الوليد ، عن محمّد العطّار ، عن سهل ، عن الخشّاب رفعه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام » مثله .(2)

ونقل رواية صفوان ، عن عبد الرحمان بن الحجّاج بعين ما نقله الكليني رحمه الله وفيها أيضا : «من كلّ شيء» بدل «في كلّ شيء» في الموضعين .(3)

والمراد أنّ نسبته تعالى إلى كلٍّ على السواء ، على أنّ «من» بمعنى النسبة، كما في قوله صلى الله عليه و آله : «عليٌّ منّي بمنزلة هارون من موسى» .(4)

و«على العرش» ظرف مستقرّ ، سواء اُريد بالعرش العلم ، أو جملة المخلوقات ، كما ذهب إليه الصدوق قدس سره في الاعتقادات . والزمخشري لمّا حُرم سؤالَ أهل الذِّكر عليهم السلام جعل الظرف لغوا ، وقال : لمّا كان الاستواء على العرش - وهو سرير الملك - لا يحصل إلاّ مع المُلك جعلوه كنايةً عن المُلك فقالوا : استوى فلان على السرير يريدون مُلكه وإن لم يقعد على السرير البتّةَ .(5) .

ص: 384


1- التوحيد ، ص 315 ، ح 1 .
2- التوحيد ، ص 316 ، ح 4 .
3- التوحيد ، ص 315 ، ح 2 .
4- هذا الحديث متواتر في المصادر الفريقين . اُنظر على سبيل المثال : الكافي ، ج 8 ، ص 106 ، ح 80 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 46 ، المجلس 11 ، ح 4 ؛ الأمالي للطوسي ، ص 50 ، المجلس 2 ، ح 34 ؛ الإرشاد ، ج 1 ، ص 8 ؛ الاحتجاج ، ج 1 ، ص 110 و ... .
5- الكشّاف ، ج 2 ، ص 530 .

باب جوامع التوحيد

باب جوامع التوحيد

قوله : (حَشَدَ الناسُ) . [ح 1 / 350]

بالدال المهملة - وكذا في التوحيد(1) - أي اجتمعوا ، وفي بعض النسخ بالراء .

قوله : (قدرةٌ بانَ بها من الأشياء) . [ح 1 / 350]

أي هذا - أعني الخلق لا من شيء - قدرةٌ بها وقعت المباينة . و«بان» مستعمل مع «من» ومع «عن» .

في النهاية : «بانت المرأة من زوجها ، أي انفصلت عنه ووقع عليها طلاقه» .(2)

وفي المغرب : «بان الشيء عن الشيء : انقطع عنه وانفصل» .(3)

وفي الصحاح : «البين : الفراق ، تقول منه : بان يبين بينونة . والبين : الوصل ؛ وهو من الأضداد . وقرئ «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» بالرفع والنصب، فالرفع على الفعل، أي تقطّع وصلكم ؛ والنصب على الحذف ، يريد : ما بينكم»(4) .

ورفع «قدرة» على الابتداء ، وجعل الجملة صفةً لها ، وتقدير الخبر تكلّفٌ مستغنى عنه لا ترتضيه الطبع .

وفي التوحيد : «قدرته بان بها» إلى آخره ، وما في الكافي أصحّ .

قوله : (صِفَةٌ تُنالُ) [ح 1 / 350] أي تدرك .

قوله : (وَلا حَدٌّ يُضْرَبُ(5) له فيه الأمثالُ) . [ح 1 / 350]

أي ليست له حدّ بوجه لا باعتبار الذات بأن يكون له طول وعرض وعمق متناهية، ولا باعتبار مدّة الوجود بأن يكون له أوّلٌ أو آخِر ، ولا باعتبار الحقيقة بأن يكون له أجناس وفصول .

ص: 385


1- التوحيد ، ص 41 ، ح 3 .
2- النهاية ، ج 1 ، ص 176 (بين) .
3- المغرّب ، ص 57 (بين) .
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 2082 (بين) .
5- في الكافي المطبوع : «تضرب» .

وضرب المثل وقع في القرآن مرارا ، قال اللّه تعالى : «إِنَّ اللّه َ لاَ يَسْتَحْيِى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا»(1)الكهف (18) : 32 - 45 .(2) ، وقال : «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئا وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَرا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدا» إلى قوله : «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّه ِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرا هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ للّه ِِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابا وَخَيْرٌ عُقْبا وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْءَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيما تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللّه ُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ مُقْتَدِرا»(2) .

وقال : «أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللّه ُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاءِ تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّه ُ الاْءَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الاْءَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ»(3) .

وقال : «وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ»(4) .

وقال : «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ »(5) .

وقال : «ضَرَبَ اللّه ُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللّه ِ شَيْئا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وَضَرَبَ اللّه ُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِنْدَكَ بَيْتا فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ»(6) .

وقال : «أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدا رَابِيا وَمِمَّا يُوقِدُونَ .

ص: 386


1- البقرة
2- : 26 .
3- إبراهيم (14) : 24 - 26 .
4- يآس (36) : 78 .
5- يآس (36) : 13 .
6- التحريم (66) : 10 - 12 .

عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّه ُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاْءَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّه ُ الاْءَمْثَالَ»(1) ، إلى غير ذلك .

قال البيضاوي في قوله تعالى : «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا»(2) :

لمّا جاء بحقيقة حالهم عقّبها بضرب المثل ، زيادةً في التوضيح والتقرير ؛ فإنّه أوقع في القلب ، وأقمع للخصم الألدّ ؛ لأنّه يريك المتخيّلَ محقّقا ، والمعقولَ محسوسا ، ولأمرٍ مّا أكثر اللّه في كتبه الأمثال ، وفشت في كلام الأنبياء والحُكماء . والمثَلَ في الأصل بمعنى النظير ؛ يُقال : مِثل ومَثَل ومثيل كشِبه وشَبَه وشَبِيه ثمّ للقول السائر الممثّل مضربه بمورده ، ولا يضرب إلاّ ما فيه غرابة ، ولذلك حوفظ عليه من التغيير ، ثمّ استعير لكلّ حال أو قصّة ، أو صفة لها شأن وفيها غرابة ، مثل قوله : «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ»(3) وقوله : «وَللّه ِِ الْمَثَلُ الاْءَعْلَى »(4) .

وفي القاموس :

المثل - بالكسر والتحريك وكأمير - : الشبه ، والجمع : الأمثال . والمَثَل محرّكةً : الحجّة والحديث ، وقد مثّل به تمثيلاً وامتثله وتمثّله ، وبه ، والصفة ، ومنه «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» وامتثل عندهم مثلاً حسنا ، وتمثّل : أنشد بيتا ، ثمّ آخَرَ ثمّ آخَرَ وهي الاُمثولة . وتمثّل بالشيء : ضربه مثلاً .(5)

أقول : يستفاد من الآيات الكريمة أنّ معنى «ضرب العبد مثلاً للّه تعالى» ذكرٌ باطل لا يليق نسبته إلى جناب الحقّ ، أو لا يجوز له أن يقوله مع علم اللّه المحيط بكلّ شيء، وقدرته الكاملة التي لا يمتنع منها شيء ، ومعنى «ضرب اللّه تعالى مثلاً» ذكر ما ينبغي أن يعتبر ويتّعظ منه ، سواء كان ذكره على وجه التشبيه أو على وجه الحكاية ، والأمثال التي يضربونها للّه سبحانه في الحدّ على تقدير المحال مثل تشبيهه بالمخلوقات وإجراء أحكامهم عليه ؛ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا . .

ص: 387


1- الرعد (13) : 17 .
2- البقرة (2) : 17 .
3- الرعد (13) : 35 .
4- أنوار التنزيل ، ج 1، ص 186. و الآية في سورة النحل (16) : 60 .
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 49 (مثل) .

قوله : (تَحْبيرُ اللغاتِ) . [ح 1 / 350]

أي ما يتكلّم به بُلَغاء كلّ لغة وخطباؤها وشعراؤها .

في القاموس : «تحبير الخطّ والشعر وغيرهما : تحسينه» .(1)

قوله : (وضَلَّ هُناك تَصاريفُ الصفاتِ) . [ح 1 / 350]

في دعاء صلاة الليل من أدعية الصحيفة الكاملة : «ضَلَّتْ فيك الصفاتُ ، وتَفَسَّخَتْ دونَك النعوتُ» .(2)

في القاموس : «ضلّ يضلّ وبفتح الضادّ : ضاع ، ومات ، وخفي ، وغاب» .(3)

وفي الصحاح : «ضلّ الشيء يضلّ ضلالاً، أي ضاع وهلك . والاسم : الضُّلّ ، ومنه قولهم : هو ضلّ بن ضلّ : إذا كان لا يُعرف ولا يُعرف أبوه» .(4)

أقول : يظهر من ملاحظة عبارة الصحيفة الكاملة أنّ إضافة التصاريف إضافةُ المصدر إلى الفاعل ، أي التصاريف التي للصفات .

قال السيّد الداماد - قدّس اللّه روحه - في الرواشح السماويّة :

«تصاريف الصفات» عبارة عن تكثّر جهاتٍ(5) تقييديّةٍ في ذات [الموصوف [يكون كلّ واحدة منها بإزاء إحداها ، على ما هو الشأن في عالم الإمكان . وذلك ممتنع بالقياس إلى جناب الواحد القيّوم بالذات جلّ ذكره ، فجملة الصفات الحقيقيّة [الكماليّة] هناك في إزاء حيثيّة واحدة حقّة أحديّة هي حيثيّة الوجوب بالذات ، التي مثابتها بوحدتها وأحديّتها مثابة جملة الحيثيّات المجديّة الكماليّة ، على أقصى مراتب التمام والكمال، وفوق التمام والكمال . وكثرة الاعتبارات راجعة إلى كثرة الأسماء الحسنى لا غير، ويكون في إزاء ذلك تكثّر جهاتٍ ذاتيّةٍ ، ولا تكثّر معانٍ قائمة بذات [الواحد] الحقّ أصلاً ؛ إذ هي(6) عبارة عن ضروب الصفات وأنواعها التي هي الصفات الحقيقيّة الصريحة القارّة حقّا من كلّ جهة ، والصفات الحقيقيّة اُولات إضافةٍ لازمةٍ ، والإضافات المحضة ، .

ص: 388


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 3 (حبر) .
2- الصحيفة السجّاديّة ، ص 146 ، الدعاء 32 .
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 5 (ضلل) .
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 1748 (ضلل) .
5- في المصدر : «تكثير حيثيّات» .
6- في المصدر : «أو هي» .

والسلوب الصرفة الخالصة ؛ وذلك إنّما يكون في الموصوفات الجائزة الذات والوجود .

وأمّا في الذات الواجبة والحقيقة الوجوبيّة ، فلا يصحّ إلاّ السلوب الصرفة والإضافات المحضة .(1)

انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه .

قوله : (عَميقاتُ مذاهِبِ التفكيرِ) . [ح 1 / 350]

العميقات صفة الأفكار ، وإضافتها إلى مذاهب التفكير بملابسة سيرها فيها .

وفي القاموس : «فكّر فيه وأفكر وفكّر وتفكّر» .(2)

قوله : (وانْقَطَعَ دونَ الرسوخِ في علمِهِ جَوامعُ التفسيرِ) . [ح 1 / 350]

في حاشية السيّد الجليل الرفيع : «وانقطع قبل الوصول إلى الرسوخ في علمه ، أي في معلومه بما هو معلوم، أو في العلم به سبحانه ، أو معرفته ، أو في إبانة حقيقة علمه بالأشياء» .(3)

«جوامع التفسير» أي كلمات وجيزة جامعة في كشف الأستار وتبيين الأسرار .

في النهاية :

فيه : «اُوتيت جوامع الكلم» يعني القرآن ، جمع اللّه بلطفه في الألفاظ اليسيرة منه معاني كثيرةً، واحدها جامعة ، أي كلمة جامعة ، ومنه الحديث في صفته صلى الله عليه و آله : أنّه كان يتكلّم بجوامع الكلم ، أي أنّه صلى الله عليه و آله كان كثيرَ المعاني قليلَ الألفاظ . والحديث الآخر : «يستحبّ الجوامع من الدعاء» هي ما تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة ، أو تجمع الثناء على اللّه تعالى وآداب المسألة .

وحديث عمر بن عبد العزيز : عجبت لمن لاحَقَ(4) الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم ، أي كيف لا يقتصر على اللفظ الوجيز ويترك(5) الفضول .(6) .

ص: 389


1- الرواشح السماويّة ، ص 42 .
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 111 (فكر) .
3- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 437 .
4- في المصدر : «لاحَنَ».
5- عطف على المنفيّ ، أي لايترك .
6- النهاية ، ج 1 ، ص 295 (جمع) .

قوله : (تاهَتْ في أدنى أدانيها طامِحاتُ العقولِ) . [ح 1 / 350]

في النهاية : «تاه يتيه تيها : إذا تحيّر» .(1)

وفي الصحاح : «الدنيّ : القريب - غير مهموز - وقولهم : لقيته أدنى دنيّ ، أي أوّل شيء . وأمّا الدنيء بمعنى الدون فمهموز» .(2)

وفي القاموس : «لقيته أدنى دنيّ - كجنيّ(3) - وأدنى دنى : أوّل شيء» .(4)

وفي القاموس : «طمح بصرهُ إليه - كمنع - : ارتفع. وفي الطلب : أبعد . وكلّ مرتفع: طامح . وأطمح بصرَه : رفعه» .(5)

فالمعنى : تحيّرت في أقرب الحجب القريبة العقولُ البعيدة في طلب لطيفات الاُمور ، أي لم يهتد سبيلاً العقولُ التي تبعد في طلب الاُمور اللطيفة ، أي تغور فيها إلى أوائل الحجب وأقربها بالنسبة ، فضلاً عن الحجب البعيدة وعن الغيوب التي وراء الحُجب .

وبالجملة : قوله: «في أدنى أدانيها» متعلّق ب «تاهت» وقوله : «في لطيفات الاُمور» متعلّق ب «طامحات» وإضافتها إلى «العقول» إضافة الصفة إلى الموصوف .

قوله : (لم يَتَكأّده)(6) . [ح 1 / 350]

في القاموس : «تكأّده : تكلّفه» .(7)

قوله : (على ضِدٍّ مُناوٍ ، ولا نِدٍّ مُكاثِرٍ ، ولا شريكٍ مكابد) .(8) [ح 1 / 350]

في القاموس في باب الهمزة : «ناواه مناواةً : فاخره وعاداه» .(9)

والجوهري ذكره في باب الياء وقال : «إنّ أصله من النوء بالهمز» .(10)

وفي القاموس : «الندّ - بالكسر - : المثل» (11). .

ص: 390


1- النهاية ، ج 1 ، ص 203 (تيه) .
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2342 (دنا) .
3- في المصدر : «كغني» .
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 329 (دنا) .
5- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 238 (طمح) .
6- في الكافي المطبوع : «لايتكأّده».
7- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 331 (كأد) .
8- في الكافي المطبوع : «مكابر» .
9- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 31 (ناء) .
10- الصحاح ، ج 6 ، ص 2517 (نوى) .
11- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 341 (ندد) .

وفي كتاب التوحيد : «ولا استعانة على ضدّ مثاور(1) ، ولا شريكٍ مكايد» .(2)

في القاموس : «ثاوره : واثبه»(3) . وفيه في الكاف مع الباء الموحّدة : «كابده : قاساه» . وفيه: «قاساه : كابده» .(4)

وفي تاج المصادر : «المكابدة : سختى كشيدن» . وفيه : «المقاساة : رنج چيزى كشيدن».

وقد يقرأ : «كايد» بالياء المثنّاة التحتانيّة ، وهو تصحيف ، وليس المكايدة في اللغة أصلاً .

قوله : (وخَلَقَ ما عَلِمَ لا بالتفكيرِ في علمٍ حادثٍ أصابَ ما خَلَقَ). [ح 1 / 350]

في التوحيد وبعض نسخ الكافي : «ولا بعلمٍ حادث» إلى آخره .

وفي حاشية السيّد الجليل الرفيع :

قوله : «علم ما خلق ، وخلق ما علم» أي كلّ مخلوقاته معلوماته بعلمه بالخير والنظام الأعلى ، وكلّ معلوماته بذلك العلم مخلوقاته ، فعلمه بالأشياء على وجه الصلاح والخيريّة هو الداعي إلى وجود الأشياء ، فكلّ مخلوقاته داخل في هذا العلم، وكلّ معلوم بهذا العلم داخل في الوجود ، فما لم يدخل في الوجود لعدم الداعي إلى وجوده، فالاكتفاء بما خلق عمّا لا يخلق للداعي على ما خلق ، ولعدم الداعي على غيرها ، لا لعجز ولا لضعف ولا بالتفكير في علمٍ حادث أصاب ما خلق ، بل بالمشيّة الأزليّة والداعي ، ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق، بل لم يخلق ؛ لعدم الداعي إلى خلقه وإيجاده .(5)

قوله : (وخَصَّ نفسَه بالوحدانيّة) . [ح 1 / 350]

خصوص نفسه سبحانه بها كنايةٌ عن أنّها من لوازم وجوب الوجود ، وكذا سائر ما أتى بلفظ الفعل . .

ص: 391


1- في المصدر : + «ولاندّ مكاثر».
2- التوحيد ، ص 41 ، ح 3 .
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 384 (ثور) .
4- المصدر ، ص 332 (كبد) .
5- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 442 .

قوله : (والسناء) . [ح 1 / 350]

في القاموس : «السنى : ضوء البرق ؛ وبالمدّ : الرفعة» .(1)

قوله : (ولا يشركه)(2) . [ح 1 / 350]

في القاموس : «شركه في البيع كعلمه» .(3)

قوله : (المُبيدُ للأبدِ) . [ح 1 / 350]

في الصحاح : «باد الشيء يبيد بيدا : هلك . وأبادهم اللّه ، أي أهلكهم» .(4) وفيه : «الأبد: الدهر ، والجمع : آباد ، ولا أفعله أبد الآبدين كما يقال : دَهْرَ الداهرين ، والآبد أيضا: الدائم» .(5) ومثله في القاموس .(6)

وجمعيّة الأبد صريحة في أنّ كلّ قطعة طويلة من الزمان أبد ، وعلى هذا فلا إشكال في إبادة الأبد مع القول بعدم فناء الزمان بالكلّيّة ؛ إذ ما من قطعة تفرض إلاّ واللّه تعالى مبيدها وخالقُ قطعةٍ اُخرى ، ولا يلزم من قوله عليه السلام الفناء والهلاك بالكلّيّة على القول بعدم جوازه كما لايخفى . وهكذا الكلام في قوله عليه السلام : «ووارث الأبد» .

وفي خطبة من خطب نهج البلاغة: «وأنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان، عُدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء إلاّ الواحد القهّار الذي إليه مصير جميع الاُمور، بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها ؛ لم يتكأّده صنع شيء منها إذ صنعه، ولم يَؤُدْهُ منها خلق ما برأه وخلقه ، ولم يكوّنها لتشديد سلطان ، ولا تخوّف(7) من زوال ونقصان ، ولا للاستعانة بها على ندٍّ مكاثر ، ولا للاحتراز بها على(8) ضدٍّ مثاور ، ولا للازدياد بها في ملكه ، ولا لمكاثرة شريك في شركه ، ولا لوحشة كانت منه ، فأراد أن .

ص: 392


1- المصدر ، ج 4 ، ص 344 (سنى) .
2- في الكافي المطبوع : «ولم يشركه» .
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 308 (شرك) .
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 450 (بيد) .
5- الصحاح ، ج 2 ، ص 439 (أبد) .
6- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 273 (أبد) .
7- في المصدر : «لخوف» .
8- في المصدر : «من» .

يستأنس إليها ، ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها ، لا لسأمٍ دخل عليه في تصريفها وتدبيرها ، ولا لراحةٍ واصلة إليه ، ولا لثقل شيء منها عليه ، ولا يُملّه طول بقائها ، فيدعوه إلى سرعة إفنائها ، ولكنّه سبحانه دبّرها بلطفه ، وأمسكها بأمره ، وأتقنها بقدرته، ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ، ولا استعانة بشيء منها عليها ، ولا لانصرافٍ من حال وحشة إلى حال استيناس ، ولا من حال جهل وعمىً إلى [حال] علم والتماس ، ولا من فقرٍ وحاجة إلى غنىً وكثرة ، ولا من ذلّ وضِعةٍ إلى عزٍّ وقدرة»(1) .

قوله : (وحدانيّا) . [ح 1 / 350]

الألف والنون للمبالغة في النسبة كما في الربّانيّ والظلمانيّ .

قوله : (قبل بدء الدهور) . [ح 1 / 350]

نصّ على كون الزمان ذا بدء .

قوله : (مُنيفُ الآلاء ، وسَنِيُّ(2) العَلْياء) . [ح 2 / 351]

في النهاية : «ذاك طود منيف ، أي عالٍ مشرفٌ» .(3)

وفي القاموس : «النيّف : الفضل والإحسان . وأناف على الشيء : أشرف . وأناف عليه: زاد» .(4)

وفيه : «العلياء : السماء ، والمكان العالي ، وكلّ ما علا من شيء ؛ والفعلة العالية» .(5)

وفي الصحاح : «العلياء : كلّ مكانٍ مشرف» .(6)

أقول : العين مفتوحة والألف ممدودة في النسخ المصحّحة .

وفي النهاية :

وفي شعر العبّاس أيضا يمدح النبيّ صلى الله عليه و آله :

حتّى احتوى بيتك المهيمن من *** خِنْدِفَ عَلْيا تحتها النُّطُقُ .

ص: 393


1- نهج البلاغة ، ص 276 ، الخطبة 186 .
2- في الكافي المطبوع : «سنيّ» بدون الواو.
3- النهاية ، ج 5 ، ص 141 (نيف) .
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 203 (نيف) .
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 365 (علو) .
6- الصحاح ، ج 6 ، ص 2436 (علا) .

«علياء» اسم للمكان المرتفع كالبقاع(1) ، وليست بتأنيث الأعلى ؛ لأنّها جاءت منكّرة ، وفعلاء أفعل يلزمها التعريف .(2) انتهى .

وفي حاشية السيّد الجليل الرفيع :

«سنّي العلياء» : رفيعة . والعلياء : اسم السماء ، ورأس الجبل ، والمكان المرتفع ، وكلّ ما علا من شيء . ولعلّ المراد هنا كلّ مرتفع يليق بأن ينسب إليه تعالى .(3)

قوله : (ضَمَّني وأبا الحسن عليه السلام الطريقُ) . [ح 3 / 352]

هذه الرواية رواها الصدوق - طاب ثراه - في أوائل كتاب التوحيد بسند آخَر ، وذكر بدلَ قوله : «لطفت» : «فتلطّفت»(4) وهو الأصحّ ، قال اللّه تعالى حكايةً عن أصحاب الكهف : «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاما فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدا»(5) .

في القاموس : «تلطّف للأمر وفي الأمر : ترفّق» .(6)

قوله : (فَقَمَنٌ) . [ح 3 / 352]

في القاموس : «القمين : الخليق الجدير، كالقمن ككتف» .(7)

قوله : (إذ هو مُنْقَطِعُ الكيفوفيّة والأينونيّة) . [ح 3 / 352]

في حاشية السيّد الجليل الرفيع :

يحتمل أن يكون من باب الوصف بحال المتعلّق وعلى صيغة اسم الفاعل ، أي الكيفوفيّة والأينونيّة منقطعة عنه ، ويُحتمل أن يكون على صيغة اسم المفعول بأن يكون اسمَ مفعول ، أي هو منقطع فيه وعنده الكيفوفيّة والأينونيّة ، أو يكون اسمَ مكان ، أي مرتبته مرتبة انقطع فيها الكيفوفيّة والأينونيّة.(8)7.

ص: 394


1- في المصدر : «كاليفاع» .
2- النهاية ، ج 3 ، ص 296 (علا) .
3- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 446 .
4- التوحيد ، ص 60 ، ح 18 . وما في التوحيد مطابق للكافي المطبوع .
5- الكهف (18) : 19 .
6- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 195 (لطف) .
7- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 261 (قمن) .
8- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا، ص 447.

قوله : (محمّد بن أبي عبداللّه رفعه). [ح 4 / 353]

هذه الرواية رواها الصدوق - طاب ثراه - في كتاب التوحيد في آخر باب حدوث العالم بسند متّصل إلى عبداللّه بن يونس عن أبي عبداللّه عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام .(1)

وفي المتن اختلاف في عدّة مواضعَ :

منها : قوله عليه السلام في صفة ذعلب : «ذو لسانٍ بَليغ في الخُطَب» فإنّ بدله هناك : «ذرب اللسان ، بليغ في الخطاب» .

في القاموس : «الذربة - بالكسر - : السليطة اللسان ، وهو ذرب» .(2)

ومنها : قوله : «لا يقال له بَعْدٌ» فإنّ هناك : «لا يقال شيء بعده» .

ومنها : قوله : «لا تَضْمنه الأوقات» فإنّ هناك : «لا تصحبه الأوقات». وهكذا في خطبة أوردها السيّد الرضيّ رضى الله عنه في نهج البلاغة في خطبة وصفها بأنّها تجمع بين اُصول العلم ما لا تجمعه خطبة .(3)

ومنها: قوله : «واليُبْسَ بِالبَلَل» فإنّ هناك : «والجسوّ بالعلل» ومعنى الكلمتين وإن كان واحدا إلاّ أنّ الترجيح لما في التوحيد ؛ لأنّه هو المذكور في خطبة الرضا عليه السلام التي أوردها الصدوق في أوائل التوحيد ، وأشار إليها في ذيل هذه الرواية التي نحن فيها ، فقال :

في هذا الخبر ألفاظ قد ذكر[ها] الرضا عليه السلام في خطبته ، وهذا تصديق قولنا في الأئمّة عليهم السلام : إنّ علم كلّ واحدٍ منهم مأخوذ عن أبيه حتّى ينتهي ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه و آله .(4) انتهى .

ومنها: قوله : «والخشن باللين» فإنّه لم ينقله الصدوق لا في هذه الرواية ولا في خطبة الرضا عليه السلام ، مع أنّ باقي أجزاء الكلام متوافقة فيهما إلى قوله عليه السلام : «أن لا غريزة لمغرزها» .

ومنها: قوله : «مؤلّفا»(5) فإنّ الصدوق - طاب ثراه - أورده في الخطبتين بالرفع ، وهكذا في خطبة نهج البلاغة التي أشرنا إليها ؛ فهو أصحّ . .

ص: 395


1- التوحيد ، ص 308 ، ح 2 .
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 68 (ذرب) .
3- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
4- التوحيد ، ص 309 ، ذيل ح 2 .
5- في الكافي المطبوع : «مؤلّفٌ» بالرفع .

وينبغي أن يقرأ قوله: «دالّة» بالنصب على أنّه حال عن المتعاديات والمتدانيات ، وكذا قوله عليه السلام : «شاهدة» و«مخبرة» .

ومنها: قوله : ليُعْلَمَ أن لا حجابَ بينه وبين خلقه» فإنّ هناك: «بينه وبين خلقه غير خليقته» . وفي خطبة الرضا عليه السلام : «حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيرها». وفي موضع آخَر من تلك الخطبة : «خلقة اللّه الخلق حجاب بينه وبينهم» .

ثمّ إنّ لهذه الخطبة تتمّةً لم ينقلها المصنّف ؛ ففي التوحيد بعد قوله : «إذ لا مسموع»: ثمّ أنشأ يقول ، (شعر) :

ولم يزل سيّدي بالحمد معروفا *** ولم يزل سيّدي بالجود موصوفا

وكنت إذ ليس نورٌ يستضاء به *** ولا ظلامٌ على الآفاق معكوفا

فربّنا بخلاف الخلق كلّهم *** وكلّ ما كان في الأوهام موصوفا

ومن يروه على التشبيه ممتثلاً *** يرجع أخا حصر بالعجز مكتوفا

وفي المعارج يلقى موج قدرته *** موجا يعارض طرف الروح مكفوفا

فاترك أخا جدلٍ في الدِّين منعمقا *** قد باشر الشرك فيه الرأي مأروفا

واصحب أخا ثقةٍ حبّا لسيّده *** وبالكرامات من مولاه محفوفا

أمسى دليل الهدى في الأرض منتشرا *** وفي السماء جميل الحال معروفا

قال : فخرَّ ذعلب مغشيّا عليه ، ثمّ أفاق وقال : ما سمعت بهذا الكلام، ولا أعود إلى شيء من ذلك .

وذكر الصدوق قبل هذا الخبر خبرا طويلاً مشتملاً على مضامينَ لطيفةٍ في معرفة اللّه ، وفيه أنّه بعدما قال أمير المؤمنين عليه السلام في أثناء خطبةٍ : «سلوني قبل أن تفقدوني ؛ فواللّه الذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لو سألتموني [عن] آية آية في ليلة اُنزلت ، أو في نهار اُنزلت، مكّيّها ومدنيّها ، وسفريّها وحضريّها ، ناسخها ومنسوخها ، محكمها ومتشابهها ، تأويلها وتنزيلها لأخبرتكم» قام إليه رجل يُقال له: «ذعلب» وكان ذرب اللسان ، بليغا في الخطب ، شجاعَ القلب ، فقال : ارتقى ابن أبي طالب مرقاةً صعبة

ص: 396

لأخجلته اليوم لكم في مسألتي إيّاه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هل رأيت ربّك؟ فقال : «ويلك يا ذعلب ، لم أكن بالذي أعبد ربّا لم أره» الحديث .(1)

قوله : (لطيفُ اللطافةِ ، لا يوصَفُ بِاللطفِ) . [ح 4 / 353]

في القاموس :

لطف كنصر لطفا - بالضمّ - : رفق ودنا ، ولطف اللّه لك : أرسل إليك مرادك بلطف، وككرم لطفا ولطافة : صغر ودقّ . واللطيف : البَرّ بعباده ، المحسن إلى خلقه بإيصال المنافع إليهم برفق ولطف، أو العالم بخفايا الاُمور ودقائقها ؛ ومن الكلام ما غمض معناه وخفي . واللطف من اللّه تعالى : التوفيق والعصمة . وألطفه بكذا ، أي برّه به . والاسم : اللطف بالتحريك ؛ يُقال : جاءنا لَطَفة من فلان ، أي هديّة .(2)

وفي النهاية :

من أسماء اللّه تعالى «اللطيف» هو الذي اجتمع له الرفق في الفعل ، والعلم بدقائق المصالح ، وإيصالها إلى ما قدّرها له من خلقه ، يُقال: لطف به وله - بالفتح - يلطف لطفا : إذا رفق به ، فأمّا لطف - بالضمّ - فمعناه صغر ودقّ .(3)

أقول : خرج من تضاعيف كلام هؤلاء الأعلام أنّ اللطافة مخصوصة بمعنى الدقّة والصِغَر ، واللطف بغير التحريك مشترك بينه وبين غيره ، وبالتحريك اسم المصدر، ولم يظفروا باللطف على وزن الرعب ، فقوله عليه السلام : «لا يوصف باللطف» أي باللطافة ، والغرض أنّ قولنا : «لطيف» لطافته ليست باعتبار المبادئ - حتّى يكون متّصفا باللطافة ، غاية الأمر أنّ لطافته اللطافات - بل باعتبار الغايات ، أي ليس لتحديق النظر ، ولا لتعميق الوهم والفكر مطمع فيه سبحانه ، وكذلك الفقرات الآتية (شعر) :

گفتم همه ملك حسن سرمايه تست *** خورشيد فلك چو ذرّه در سايه تست

گفتا غلطى(4) ز ما نشان نتوان يافت *** آن ما تو هر آنچه يابى آن پايه تست

والعِظَم والكِبَر والغِلَظ كلّها على وزن عِنَب كما ذكر في القاموس .(5)).

ص: 397


1- التوحيد ، ص 305 ، ح 1 .
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 195 (لطف) .
3- النهاية ، ج 4 ، ص 251 (لطف) .
4- . في هامش النسخة : «هَىْ هَىْ - خ ل» .
5- اُنظر: القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 52 (عظم) ؛ و ج 2 ، ص 124 (كبر) ؛ و ج 2 ، ص 397 (غلظ).

قوله : (لا يُقالُ لَهُ بَعْدٌ) . [ح 4 / 353]

اللام في «له» ليست كاللام في قول الشاعر :

قال لي: كيف أنت؟ قلتُ: عليل [سحر دائم و ليل طويل]

بل كاللام في قول اللّه تعالى : «قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ»(1) ، وقوله تعالى : «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ»(2)تاج المصادر، ص 361، ط لكهنو.(3) ، بقرينة القرينة ، فبعد بالرفع والتنوين .

قوله : (شائي(4) الأشياء) . [ح 4 / 353]

بالإضافة بقرينة ما قبل وما بعد .

قوله : (لا بهمّةٍ) . [ح 4 / 353]

في القاموس : «الهمّة - بالكسر وتفتح - : ما همّ به من أمر ليفعل» .(5)

قوله : (دَرّاكٌ لا بخَديعةٍ) . [ح 4 / 353]

في حاشية السيّد الجليل الرفيع : «هو درّاك [لا] بآلة يتصرّف فيها ، أو حركة نفسانيّة منتهية إليها ، وما يشبهها من الحيل والخدائع في التوصّل إلى المطالب» .(6)

أقول : قال البيهقي : «الاحتيال : چاره ساختن» .(6)

وفي القاموس في الحول : «الاحتيال : الحذق ، وجودة النظر ، والقدرة على التصرّف».(7) وفي الحيل : «الحَيْلَة : اسم من الاحتيال» .(8)

وفي المجمل : «رجل محتال : ذو حيلة» . وفيه : «الحيلة - بالكسر - : من الاحتيال .(9)

وما اشتهر بين العوامّ أنّ الحيلة المكر والخديعة ليس في كتب اللغة ، وأمّا الخدع ففي مصادر اللغة : «الخدع والخدع والخداع : فريفتن» .(10)ه.

ص: 398


1- الزخرف (43) : 81 .
2- الأنعام
3- : 101 .
4- في الكافي المطبوع : «شاء» .
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 192 (همم) .
6- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 449 .
7- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 363 (حول) .
8- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 365 (حيل) .
9- راجع: مجمل اللغة ، ج 2 ، ص 128 (حيل) .
10- تاج المصادر، ج 1، ص 223 (خدع) تحقيق: دكتر هادى عالم زاده.

وفي تاج المصادر : «الخدع والخديعة : فريفتن» .

وفي القاموس : «خدعه - كمنعه - : ختله» . وفيه : «ختله يختله : خدعه» .(1)

وفي تاج المصادر : «الختل : فريفتن». ومثله في المصادر .

وفي القاموس : «خدعه - كمنعه - : ختله ، وأراد به المكروه من حيث لا يعلم، كاختدعه . والاسم : الخديعة» .(2) ومثله في الصحاح(3) ، فإن كان ذكر الحيل لكونها بمعنى الخدائع فهو كما ترى ، كيف ؟ وقد وضع باب في كتب الأحاديث للحيل في الأحكام ، وظاهر أنّ الخدع محرّم فيها ، وإلاّ فلا دخل له في معنى الحديث .

ثمّ اعلم أنّ ظاهر عبارة السيّد المحشّي رحمه الله أنّه أخذ الدرك بمعنى الفهم(4) ، والأصوب أنّه بمعنى اللحوق .

في الصحاح : «الإدراك : اللحوق ؛ يُقال : مشيت حتّى أدركته ، وعشت حتّى أدركته زمانه ، وأدركته ببصري» .(5)

وفي القاموس : «الدرك - محرّكةً - : اللحاق ؛ أدركه : لحقه ؛ ورجل درّاك ومدرك» .(6)

وفي المجمل : «الإدراك : اللحوق» .(7)

وفي النهاية : «الدرك : اللحاق والوصول إلى الشيء ؛ أدركته إدراكا ودركا» .(8)

ولم ينقل أحد من أهل اللغة الإدراك بالمعنى المعروف بين المتكلّمين والحكماء ، فمعنى الحديث أنّ اللّه تعالى مدرك الهاربين منه على سبيل القهر والسلطان من غير أن يحتاج إلى خديعة ، كما يحتاج إليها في الحرب مع الأقران .

وفي الدعاء الذي احترز به الصادق عليه السلام عن المنصور نقله الكفعمي رحمه الله : «اللّهمَّ إنّي .

ص: 399


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 16 (خدع) .
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 16 (خدع) .
3- الصحاح ، ج 3 ، ص 1201 (خدع) .
4- راجع : الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 449 .
5- الصحاح ، ج 4 ، ص 1582 (درك) .
6- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 301 (درك) .
7- مجمل اللغة ، ج 2 ، ص 262 (درك) .
8- النهاية ، ج 2 ، ص 114 (درك) .

أسألك يا مُدرك الهاربين» .(1)

وفي دعاء الرهبة من الصحيفة الكاملة : «اللّهمَّ إنّك طالبي إن أنا هَرَبْتُ ، ومدركي إن أنا فَرَرْتُ» الدعاء .(2)

قوله : (في الأشياءِ كلِّها غير مُتَمازِجٍ بها، ولا بائنٍ منها) . [ح 4 / 353]

في بعض خطب نهج البلاغة : «داخلٌ في الأشياء لا كشيءٍ داخلٍ في شيء ، وخارجٌ عن الأشياء لا كشيءٍ خارجٍ عن شيء» .(3)

أقول : هذه المطالب فوق حدّ العقل ، كما أنّ العقليّات فوق حدّ الحسّ ، فمن اشتاق إلى فهمها فليسأل من الجواد المطلق بلسان الاستعداد عسى أن يراك أهلاً للفيض ويؤتيك من لدنك علما ، وحصول الاستعداد بعد أن جعلت همومك همّا واحدا ، كما أوصى به أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليه - ولده الحسن عليه السلام بتتبّع أقوال الربّانيّين من العلماء ، المناسبة لهذا المقام ، وتذكّرها مرارا مع قلب متعطّش ، وعقل متكلّف .

ومن جملة تلك الأقوال قول أشرف الربّانيّين وإمام المهتدين عليه السلام في الخطبة السابقة : «فلم يَحْلُلْ فيها، فيُقالَ: هو فيها كائنٌ ؛ ولم يَنَأَ عنها، فيُقالَ: هو منها [بائنٌ] ؛ ولم يَخْلُ منها، فيُقالَ: له أين ، لكنّه سبحانه أحاطَ به علْمُه ، وأتقنها صُنْعُه ، وأحصاها حِفْظُه» .(4)

ومنها : قوله عليه السلام في الخطبة التي بعدها : «نأى في قربه ، وقَرُبَ في نَأْيِه ، فهو في نأيه قريبٌ ، وفي قربه بعيد» .(5)

ومنها : قوله عليه السلام في الخطبة الآتية : «لا أمد لكونه ، ولا غاية لبقائه ، لا تشمله المشاعر، ولا تحجبه الحُجب ، والحجاب بينه وبين خَلْقِه [خَلْقُه] إيّاهم ؛ لامتناعه ممّا يمكن في .

ص: 400


1- البلد الأمين ، ص 382 .
2- الصحيفة السجّاديّة ، ص 242 ، الدعاء 50 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 85 ، باب أنّه لايعرف إلاّ به ، ح 2 . ولم نعثر عليه في نهج البلاغة.
4- الكافي ، ج 1 ، ص 134 ، باب جوامع التوحيد ، ح 1 .
5- المصدر ، ص 137 ، ح 3 .

ذواتهم ، ولإمكانهم ممّا يمتنع منه» .(1)

وقوله عليه السلام في تلك الخطبة : «الشاهد لا بمماسّة ، والباطن لا باجتنان ، والظاهر البائن لا بتراخي مسافة» .(2)

ومنها: قوله عليه السلام في خطبة بعد تلك الخطبة : «الشاهد المتعالي عن الخلق بلا تباعد منهم ، والقريب منهم بلا ملامسة منه ، ليس له حدّ ينتهي إلى حدّه ، ولا له مِثل فيُعرفَ بمثله» .(3)

وقوله عليه السلام فيها : «كَلَّتْ عن إدراكه طروف العيون ، وقَصُرَتْ دونَ بلوغ صفته أوهامُ الخلائق ، الأوّلِ قبل كلّ شيء ولا قبلَ له ، والآخِر بعد كلّ شيء ولا بَعد له ، الظاهر على كلّ شيء بالقهر له ، والشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها ، لا تَلْمِسُه لامسةٌ ، ولا تَحُسُّه حاسَّةٌ» .(4)

وفي خطبة من خطب نهج البلاغة : «لا يوصَفُ بشيءٍ من الأجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعَرَض من الأعراض ، ولا بالغيريّة والأبعاض ، ولا يُقال له حدّ ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية ، ولا أنّ الأشياء تحويه فَتُقِلُّه ، أو تُهْوِيه ، أو أنّ شيئا يَحْمِلُه فَيُميلَه ، أو يُعَدِّلَهُ ، ليس في الأشياء بوالجٍ ، ولا عنها بخارج» .(5)

وفي خطبة اُخرى منها : «لا يُقال له متى ، ولا يُضْرَبُ له أمَدٌ بحتّى ، الظاهر لا يُقال [:ممَّ ، والباطن لايقال:] فيمَ ، لا شبح فَيُتَقَصّى ، ولا محجوب فَيُحوى ، لم يَقْرُبْ من الأشياء بالتصاق ، ولم يبعد بعضها بافتراق ، لا يخفى عليه من عباده شُخُوصُ لحظة ، ولا كُرُورُ لَفْظَةٍ ، ولا ازدلاف رَبْوَةٍ ، ولا انبساط خُطوة ، في ليلٍ داج ، ولا غَسَقٍ ساجٍ ، يتفيّأ عليه القمر [المنير] ، وتَعْقُبُه الشمسُ ذات النور في الكرور الاُفول ،(6) ، وتقليب(7) .

ص: 401


1- المصدر ، ص 139 ، ح 5 .
2- المصدر .
3- المصدر، ص 141 ، ح 7 . وفيه «... والمستوي على العرش بغير زوال ، والمتعالي على الخلق بلا تباعد منهم ولاملامسة منه لهم ، ليس له حدّ ينتهي إلى حدّه ...» .
4- المصدر .
5- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
6- في المصدر : «في الاُفول والكرور».
7- في المصدر : «وتقلّب» .

الأزمنة والدهور من إقبال ليلٍ مقبل ، وإدبار نهارٍ مدبر قبل كلّ غاية ومُدّة ، وكلّ إحصاءٍ وعِدّة ، تعالى عمّا يَنْحَلُه المحدّدون من صفات الأقدار ، ونهايات الأقطار ، وتأثّل المساكن ، وتمكّن الأماكن ، فَالْحَدُّ لخلقه مضروبٌ ، وإلى غيره منسوبٌ ، لم يخلق الأشياء من اُصول أزليّة ، ولا من أوائل أبديّة ، بل خَلَقَ ما خَلَقَ فأقام حَدَّه ، وصَوَّرَ ما صَوَّرَ فأحسن صورتَه ، ليس بشيء منه امتناع ، ولا له بطاعة شيء انتفاع ، عِلْمُه بالأموات الماضين كعِلْمِه بالأحياء الباقين ، وعِلْمُه بما في السماوات العُلى كعلمه بما في الأرضين السفلى» .(1)

وفي خطبة اُخرى من خطب نهج البلاغة : «أوّل الدِّين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه بشهادة(2) كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وَصَفَ اللّه سبحانه فقد قَرَنَه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومَنْ ثنّاه فقد جَزَّأَه ، ومن جزّأه فقد جهله ، [ومن جهله فقد أشار إليه] ، ومن أشار إليه فقد حَدَّه ، ومن حدّه فقد عَدَّه ، ومن قال «فيمَ» فقد ضَمَّنَه ، ومن قال «علامَ» فقد أخلى منه، كائنٌ لا عن حَدَثٍ ، موجودٌ لا عن عَدَمٌ ، مع كلّ شيءٍ لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء لا بمزايلة ، فاعلٌ لا بمعنى الحركات والآلة ، بصيرٌ إذ لا منظور إليه من خلقه ، متوحّدٌ إذ لا سَكَنَ يستأنس به ، ولا يستوحش من فَقْده» .(3)

وفي خطبة اُخرى : «سَبَقَ في العلوّ فلا شيء أعلى منه ، وقَرُبَ في الدنوّ فلا شيء أقرب منه ، فلا استعلاؤُه باعَدَه عن شيء من خَلْقه ، ولا قُرْبُه ساواهم في المكان به ، لم يُطْلِعِ العقولَ على تحديد صفته ، ولم يَحْجُبْها عن واجب معرفته ، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود ، على إقرار قلب ذي الجحود ، تعالى [اللّه] عمّا يقوله المشبّهون به، والجاحدون له علوّا كبيرا» (4). .

ص: 402


1- نهج البلاغة ، ص 232 - 233 ، الخطبة 163 .
2- في المصدر : «لشهادة» .
3- نهج البلاغة ، ص 39 ، الخطبة 1 . وفيه : «لفقده» بدل «من فقده» .
4- نهج البلاغة ، ص 87 ، الخطبة 49 .

قوله : (مُتَجَلٍّ لا باستهلالِ رؤيةٍ) . [ح 4 / 353]

في الفائق : «أهلّ الهلال : إذا طلع . وأهلّ واستهل : إذا أبصر» .(1)

وفي تاج المصادر : «الاستهلال : ماه نو ديدن - يُقال : استهل الهلال - وپيدا شدن ماه» .(2)

وفي الصحاح :

أهلَّ المعتمر : إذا رفع صوته بالتلبية ، وأهلَّ بالتسمية على الذبيحة . وقوله تعالى : «وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه ِ»(3) أي نودي عليه بغير اسم اللّه ، وأصله رفع الصوت ، أهلَّ الهلال واستهلّ على ما لم يسمَّ فاعله ، ويُقال أيضا : استهلَّ هو بمعنى تبيّن .(4)

أقول : فمعنى قوله عليه السلام : «متجلّ لا باستهلال رؤية» أنّه مُظهر نفسه على العباد بالآيات التي أفشاها في الآفاق والأنفس ، لا بالتبيين الحاصل من جهة الرؤية .

قوله : (لَطيفٌ لا بتجسّمٍ) . [ح 4 / 353]

الباء بمعنى «مع». وفي بعض النسخ على صيغة المضارع ، وما اخترناه أوفقُ بحسب المعنى .

قوله : (مُريدٌ بِهَمامَةٍ) . [ح 4 / 353]

ليس في الصحاح والنهاية والمغرب والمصادر والفائق لفظُ «الهامة» وإنّما هي في القاموس ولكن هكذا : «الهمّ والهمّة - بكسرهما - : الشيخ الفاني ، وقد أهمّ . والمصدر: الهُمومة والهَمامة».(5)

وكفى بوروده في مثل هذا الحديث الشريف حجّةً .

وقد ورد في خطبة خطبها الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في مجلس المأمون لمّا أراد أن يستعمله ؛ نقلها الصدوق - طاب ثراه - في التوحيد والعيون أذكرها هنا بتمامها على ما في العيون مع شرح الفاضل الكامل صاحب البحار؛ لينتفع بفوائدها مَن نظر في هذه التعليقة . .

ص: 403


1- الفائق في غريب الحديث ، ص 406 .
2- تاج المصادر، ص 387، ط لكهنو.
3- البقرة (2) : 173 .
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 1852 (هلل) .
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 192 (همم) .

خطبة أبي الحسن الرضا عليه السلام في كتاب عيون الأخبار :

حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله ، قال : حدّثنا محمّد بن عمر الكاتب، عن محمّد بن زياد القلزمي ، عن محمّد بن أبي زياد الجدّي صاحب الصلاة بجدّة ، قال : حدّثني محمّد بن يحيى بن عمر بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يتكلّم بهذا الكلام عند المأمون في التوحيد . قال ابن أبي زياد : ورواه أيضا أحمد بن أحمد بن عبداللّه العلويّ مولى لهم وخالاً لبعضهم ، عن القاسم بن أيّوب العلوي أنّ المأمون لمّا أراد أن يستعمل الرضا عليه السلام جمع بني هاشم ، فقال : إنّي اُريد أن أستعمل الرضا على هذا الأمر من بعدي ، فحسدوا(1) بنو هاشم ، فقالوا : [أتولّي] رجلاً جاهلاً ليس له بصر بتدبير الخلافة ، فابعث إليه [رجلاً] يأتنا ، فنرى من جهله ما نستدلّ به عليه ، فبعث إليه فأتاه ، فقال له بنو هاشم : يا أبا الحسن اصعد المنبر، وانصب لنا عَلَما نعبد اللّه إليه ، فصعد عليه السلام المنبر ، فقعد مليّا لا يتكلّم مطرقا ، ثمّ انتفض انتفاضةً واستوى قائما ، وحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلّى على نبيّه وأهل بيته ، ثمّ قال :

«أوّل عبادة اللّه معرفته ، وأصل معرفة اللّه توحيده ، ونظام توحيد اللّه نفي الصفات عنه ؛ لشهادة العقول أنّ كلّ صفة وموصوف مخلوق ، وشهادة كلّ مخلوق أنّ له خالقا ليس بصفة ولا موصوف ، وشهادة كلّ موصوف وصفة بالاقتران ، وشهادة الاقتران بالحدث(2) وشهادة الحدث(3) بالامتناع من الأزل ، فليس اللّه من عُرف بالتشبيه ذاتُه ، ولا إيّاه وَحَّد من اكتنهه ، ولا حقيقةً أصاب من مثّله ، ولا به صدّق مَن نهّاه ، ولا صمد صمده من أشار إليه ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا له تذلّل من بعّضه ، ولا إيّاه أراد من توهّم ، كلّ معروف بنفسه مصنوع ، وكلّ قائم في سواه معلول ، بصنع اللّه يُستدلّ عليه ، والعقول تعتقد معرفته ، وبالفطرة تثبت حجّته ، خَلْق اللّه الخلقَ حجابٌ بينه وبينهم ، ومباينته إيّاهم ومفارقته أينيّتهم وابتداؤه إيّاهم دليلٌ على أن لا ابتداء له ؛ لعجز كلّ مبتدأ عن .

ص: 404


1- في المصدر : «فحسدوا».
2- في المصدر : «بالحدوث» .
3- في المصدر : «الحدوث» .

ابتداء غيره وأدوه(1) إيّاهم دليل على أن لا أداة(2) فيه ؛ لشهادة الأدوات بفاقة المادين .

فأسماؤه تعبير ، وأفعاله تفهيم ، وذاته حقيقة ، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه ، وغيوره تحديد لما سواه ، فقد جهل اللّه من استوصفه ، وقد تعدّاه من اشتمله ، وقد أخطأه من اكتنهه ، ومن قال: «كيف» فقد شبّهه ، ومن قال «لِمَ» فقد علّله ، ومن قال «متى» فقد وقّته ، ومن قال «فيمَ» فقد ضمّنه ، ومن قال «إلى م» فقد نهاه ، ومن قال «حتى م» فقد غيّاه ، ومن غيّاه فقد غاياه ، ومن غاياه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد وصفه ، ومن وصفه فقد ألحد فيه ، لا يتغيّر اللّه بانغيار المخلوق ، كما لا ينحدّ(3) بتحديد المحدود .

أحدٌ لا بتأويل عدد ، وظاهر لا بتأويل المباشرة ، متجلٍّ لا باستهلال رؤية ، باطن لا بمزايلة ، مباين لا بمسافة ، قريبٌ لا بمداناة ، لطيفٌ لا بتجسّم ، موجودٌ لا بعدَ عدم ، فاعل لا باضطرار ، مقدّر لا بحول فكرة ، مدبّر لا بحركة ، مريد لا بهمامة ، شاءٍ لا بهمّة ، مدرك لا بمجسّة ، سميع لا بآلة ، بصير لا بأداة ؛ لا تصحبه الأوقات ، ولا تضمّه الأماكن ، ولا تأخذه السِّنات ، ولا تحدّه الصفات ، ولا تقيّده الأدوات ، سبق الأوقاتَ كونُهُ، والعدمَ وجودهُ، والابتداءَ أزله ؛ بتشعيره المشاعر عُرف أن لا مشعر له ، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له ، وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الاُمور عرف أن لا قرين له .

ضادَّ النور بالظلمة ، والجلاية بالبهم والجسو بالبلل ، والصرد بالحرّ ، ومؤلّف بين متعادياتها ، مفرّق بين متدانياتها ، دالّة بتفريقها على معرفتها ، وبتأليفها على مؤلّفها، ذلك قوله جلّ وعزّ : «وَمِنْ كُلِّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(4) ؛ ففرّق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد ، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها ، دالّة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها ، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها ، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيرها ، له معنى الربوبيّة إذ لا مربوب ، وحقيقة الإلهيّة إذ لا .

ص: 405


1- في المصدر : «وأدوات» .
2- في المصدر : «أدوات» .
3- في المصدر : «لايتحدّد».
4- الذاريات (51) : 49 .

مألوه ، ومعنى العالم ولا معلوم ، ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وتأويل السمع ولا مسموع .

ليس مذ خلق استحقّ معنى الخالق ، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البرائيّة ، كيف ولا تغيبه مذ ، ولا تدنيه قد ، ولا يحجبه لعلّ ، ولا يوقته متى ، ولا يشمله(1) حين ، ولا يقارنه مع ، إنّما تحدّ الأدوات أنفسها ، وتشير الآلة إلى نظائرها ، وفي الأشياء يوجد فعالها ، منعتها مذ القدمة(2) ، وحمتها قد الأزليّة لولا الكلمة افترقت ، فدلّت على مفرّقها، وتباينت فأعربت عن مباينها ، لمّا تجلّى صانعها للعقول ، وبها احتجب عن الرؤية ، وإليها تحاكم الأوهام ، وفيها أثبت غيره ، ومنها أنبط الدليل ، وبها عرّفها الإقرار ، وبالعقول يعتقد التصديق باللّه ، وبالإقرار يكمل الإيمان به .

ولا ديانة إلاّ بعد معرفة ، ولا معرفة إلاّ بالإخلاص ، ولا إخلاص مع التشبيه ، ولا نفي مع إثبات الصفات للتنبيه(3) ؛ فكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع في صانعه ، لا تجري عليها الحركة والسكون ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، أو يعود فيه ما هو ابتدأه ، إذا لتفاوت ذاته ، ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ، ولما كان للباري معنى غير معنى المبروء ، ولوحدّ له وراء إذا حدّ(4) له أمام ، ولو التمس له التمام إذ ألزمه النقصان ، كيف يستحقّ الأزل من لا يمتنع من الحدث(5) ؟ وكيف ينشئ الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء ؟ إذا لقامت فيه آية المصنوع ، ولتحوّل دليلاً بعدما كان مدلولاً عليه ، ليس في مُحال(6) القول حجّةٌ ، ولا في المسألة عنه جواب، ولا في معناه للّه تعظيم ، ولا في إبانته عن الخلق ضيم إلاّ بامتناع الأزلي أن يثنى ، ولما لابدأ له أن يبدأ(7) ، لا إله إلاّ هو العليّ العظيم ، كذب العادلون باللّه ، وضلّوا ضلالاً بعيدا، وخسروا خسرانا مبينا ، وصلّى اللّه على محمّدٍ وأهل بيته الطاهرين» .(8) .

ص: 406


1- في المصدر : «يشتمله» .
2- في المصدر : «القديمة».
3- في المصدر : «للتشبيه».
4- في المصدر : «إذ الحدّ».
5- في المصدر : «الحدوث» .
6- في المصدر : «مجال» .
7- في المصدر : «أن يبتدأ».
8- عيون أخبار الرضا، ج 1 ، ص 149 ، ح 51 ؛ التوحيد ، ص 34 ، ح 2 .

شرح الخطبة من كتاب بحار الأنوار:

قال الفاضل المحقّق صاحب البحار بعد نقل الخبر من العيون :

في الاحتجاج رواه مرسلاً من قوله : «وكان المأمون لمّا أراد أن يستعمل الرضا عليه السلام » .(1)

وفي أمالي المفيد عن الحسن بن حمزة العلوي ، عن محمّد الحميري ، عن أبيه ، عن ابن عيسى ، عن مروك بن عبيد ، عن محمّد بن زيد الطبري ، قال : سمعت الرضا عليه السلام يتكلّم في توحيد اللّه ، فقال : «أوّل عبادة اللّه معرفته» إلى آخر الخطبة .(2)

ثمّ قال :

«مليّا» أي طويلاً . والانتفاض شبه الارتعاد والاقشعرار .

قوله عليه السلام : «أوّل عبادة اللّه» أي أشرفها وأقدمها زمانا ورتبةً ؛ لاشتراط قبول سائر العبادات بها ، وأصل المعرفة التوحيد ؛ إذ مع إثبات الشريك أو القول بتركّب الذات أو زيادة الصفات يلزم القول بالإمكان ، فلم يعرف المشرك الواجبَ ولم يثبته ، ونظام التوحيد وتمامه نفي الصفات الزائدة الموجودة عنه ؛ إذ أوّل التوحيد نفي الشريك ، ثمّ نفى التركيب ، ثمّ نفي الصفات الزائدة ، فهذا كماله ونظامه .

ثمّ استدلّ على نفي زيادة الصفات ، ويمكن تقريره بوجوه :

[الوجه] الأوّل : أن يكون إشارةً إلى دليلين :

الأوّل : أنّ كلّ صفة وموصوف لابدّ من أن يكونا مخلوقين ؛ إذ الصفة محتاجة إلى الموصوف لقيامها به وهو ظاهر ، والموصوف محتاج إلى الصفة في كماله والصفة غيره ، وكلّ محتاج إلى الغير ممكن ، فلا يكون شيء منهما واجبا ولا المركّب منهما ، فثبت احتياجهما إلى علّة ثالثة ليس بموصوف ولا صفة ، وإلاّ لعاد المحذور .

الثاني : أنّ الصانع لابدّ أن يكون كاملاً أزلاً وأبدا ؛ لشهادة جميع العقول به ، فلابدّ من أن يكون الصفات الزائدة مقارنة له غير منفكّة عنه ، ولا يجوز قِدم الجميع ؛ لبطلان تعدّد القدماء ، فيلزم حدوث الذات والصفات معا ، فلا يكون شيء منهما واجبا ، فالمراد بقوله : «شهادة كلّ موصوف وصفة» شهادة كلّ موصوف فرض كونه صانعا وصفته ، أو الصفات اللازمة للذوات . .

ص: 407


1- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 398 .
2- الأمالي للمفيد ، ص 253 ، المجلس 30 ، ح 4 .

الوجه الثاني : أن يكون إشارة إلى دليلين على وجهٍ آخر :

الأوّل : أنّه لو كانت له تعالى صفات زائدة لكانت ممكنة ؛ لامتناع تعدّد الواجب ، ولايجوز أن يكون الواجب موجدا لها ؛ إمّا لامتناع كون الشيء قابلاً وفاعلاً لشيء واحد ، أو لأنّ تأثير الواجب فيهما يتوقّف على اتّصافه بتلك الصفات ؛ إذ لو لم يتوقّف التأثير في تلك الصفات - التي هي منشأ صدور جميع الممكنات عليها - لم يتوقّف التأثير في شيء عليها ، فلا يثبت له تعالى شيء من الصفات ، فتكون معلولة لغيره تعالى ، ومن كان جميع صفاته الكماليّة من غيره لا يكون واجبا صانعا لجميع الموجودات بالضرورة .

الثاني : أنّ التوصيف اقتران خاصّ يوجب الاحتياج من الجانبين كما مرّ ، والاحتياج موجب للحدوث المنافي للأزليّة .

الوجه الثالث : أن يكون راجعا إلى دليل واحد ، وتقريره : أنّه لو كانت الصفات زائدةً لكانت الذات والصفات مخلوقةً ، وهذا خلف . وبيّن الملازمة بقوله : «وشهادة كلّ صفة وموصوف بالاقتران» بنحو ما مرّ من الاحتياج المستلزم للإمكان .

قوله : «فليس اللّه من عُرف بالتشبيه ذاتُه » أي ليس من عُرف ذاته بالتشبيه بالممكنات واجبا ؛ لأنّه يكون ممكنا مثلها . ويمكن أن يُقرأ «اللّه» بالرفع والنصب، والأوّل أظهر .

قوله : «من اكتنهه» أي بيّن كنهه ، أو طلب الوصول إلى كنهه ؛ إذ لو كان يعرف كنهه لكان شريكا مع الممكنات في التركّب والصفات الإمكانيّة ، فهو ينافي التوحيد ، أو لأنّ حصول الكنه في الذهن يستلزم تعدّد أفراد الواجب كما قيل .

قوله عليه السلام : «من مثّله» أي جعل له شخصا ومثالاً ، أو مثله في ذهنه، وجعل الصورة الذهنيّة مثالاً له ، أو المراد : أثبت له مثلاً وشبّهه بغيره .

قال الفيروزآبادي : «مثّله له تمثيلاً : صوّره له حتّى كأنّه ينظر إليه . ومثّل فلانا ، وبه : شبّهه»(1) انتهى .

وعلى ما ذكره يمكن أن يقرأ بالتخفيف أيضا .

قوله عليه السلام : «من نهّاه» بالتشديد ، أي جعل له حدّا و نهاية من النهايات الجسمانيّة ، ومن جعله كذلك فلم يصدّق بوجوده ، بل بممكن غيره . ويُحتمل أن يكون المعنى: جعله نهايةً لكفره ، .

ص: 408


1- القاموس المحيط، ج 4 ، ص 49 (مثل) .

وزعم أنّه وصل إلى كنهه .

قوله عليه السلام : «ولا صمد صمده» أي لا قصد نحوه من أشار إليه إشارةً حسّيّة ، أو الأعمّ منها ومن الوهميّة والعقليّة .

وفي مجالس المفيد رحمه الله : «من أشار إليه بشيء من الحواسّ» .

قوله عليه السلام : «مَن بعّضه» أي حكم بأنّ له أجزاءً وأبعاضا فهو في عبادته لم يتذلّل للّه تعالى ، بل لمن عرفه ، وهو غيره .

قوله عليه السلام : «مَن توهّمه» أي من تخيّل له في نفسه صورة أو هيئة وشكلاً ، أو المعنى أنّه كلّ ما يصل إليه عقول العارفين فهو غير كنهه تعالى .

قوله عليه السلام : «كلّ معروف بنفسه مصنوع» أي كلّ ما يعلم وجوده ضرورةً بالحواسّ من غير أن يستدلّ عليه بالآثار فهو مصنوع ، أو كلّ ما هو معلوم بكنه الحقيقة إمّا بالحواسّ أو الأوهام والعقول فهو مصنوع مخلوق ؛ إمّا لما ذكر أنّ كنه الشيء إنّما يعلم من جهة أجزائه ، وكلّ ذي جزء فهو مركّب ممكن ، وإمّا لما مرّ من أنّ الصورة العقليّة تكون أفرادا لتلك الحقيقة ، فيلزم التعدّد ، وهو يستلزم التركيب .

ويُحتمل أن يكون المعنى : أنّ الأشياء إنّما تعلم بصورها الذهنيّة ، والمعروف بنفسه هو نفس تلك الصورة ، وهو حالّ في محلّ ، والحالّ في المحلّ حادث ممكن محتاج ، فكيف يكون كنهَ حقيقة الباري سبحانه؟ فيكون قوله : «وكلّ قائم في سواه معلول» كالدليل عليها ، وعلى الأوّلين يكون نفيا لحلوله تعالى في الأشياء وقيامه بها .

ويؤيّد المعنى الأوّل قوله عليه السلام : «بصنع اللّه يستدلّ عليه» .

قوله عليه السلام : «وبالفطرة تثبت حجّته» أي بأن فطرهم وخلقهم خلقةً قابلةً للتصديق والمعرفة والإذعان والاستدلال عليه ، وبتعريفهم في الميثاق، وفطرهم على ذلك التعريف ، وقد مرّ بيانه في باب الدِّين الحنيف .

ويُحتمل أن يكون المراد هنا أنّ حجّته تمام على الخلق بما فطر وابتدع من خلقه .

قوله : «خلقة اللّه الخلق» أي كونه خالقا وأنّ الخالق لا يكون بصفة المخلوق ويكون مباينا له في الصفات صار سببا لاحتجابه عن الخلق ، فلا يدركونه بحواسّهم ولا عقولهم .

والحاصل أنّ كماله ونقصَ مخلوقِيهِ حجاب بينه وبينهم .

قوله عليه السلام : «ومباينته إيّاهم» أي مباينته تعالى إيّاهم ليس بحسب المكان ، حتّى يكون هو في

ص: 409

مكان وغيره في مكان آخر ، بل إنّما هي بأن فارق أينيّتهم ، فليس له أين ومكان، وهم محبوسون في مطمورة(1) المكان . أو المعنى : أنّ مباينته لمخلوقِيهِ في الصفات صار سببا لأن ليس له مكان .

قوله عليه السلام : «وأدوه إيّاهم» أي جعلهم ذوي أداة يحتاجون إليها في الأعمال من الأعضاء والجوارح وسائر الآلات دليل على أنّه ليس فيه شيء منها ؛ لشهادة الأدوات فيما نشاهده في المادّين بفاقتهم واحتياجهم إليها ، وهو منزّه عن الاحتياج . أو المعنى أنّ الأدوات - التي هي أجزاء للمادّين - تشهد بفاقتهم إلى موجد ؛ لكون كلّ ذي جزء محتاجا ممكنا ، فكيف يكون فيه تعالى ؟!

قوله عليه السلام : «فأسماؤه تعبير» أي ليست في ذاته وصفاته ، بل هي معبّرات عنها ، وأفعاله تفهيم ليعرفوه، ويستدلّوا بها على وجوده وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته .

قوله عليه السلام : «وذاته حقيقة» أي مكنونة عالية لا تصل إليها عقول الخلق ؛ بأن يكون التنوين للتعظيم والتبهيم ، أو خليقة بأن يتّصف بالكمالات دون غيرها ، أو ثابتة واجبة لا يعتريها التغيّر والزوال ؛ فإنّ الحقيقة ترد بتلك المعاني كلّها . وفي بعض نسخ التوحيد: «حقاقة» أي مثبتة موجدة لسائر الحقائق .

قوله عليه السلام : «وكنهه تفريق بينه وبين خلقه» لعلّ الغرض بيان أنّه لا يشترك في ذاتيٍّ مع الممكنات بأبلغ وجه ، أي كنهه يفرَّق بينه وبينهم ؛ لعدم اشتراكه معهم في شيء . ويُحتمل أن يكون المعنى أنّ غاية توحيد الموحّدين ومعرفتهم نفي صفات الممكنات عنه .

والحاصل عدم إمكان معرفة كنهه ، بل إنّما يعرف بالوجوه التي ترجع إلى نفي النقائص عنه كما مرّ تحقيقه .

ويؤيّد الأوّل قوله عليه السلام : «وغيوره تحديد لما سواه» فالغيور إمّا مصدر ، أو جمع غير، أي كونه [مغائرا له تحديدٌ لما سواه ، فكلّ ما سواه] مغايرا له في الكنه . ويُحتمل أن يكون المراد بقوله : «ما سواه» ما لم يكن من توابعه أصلاً ، لا جزءا له ولا صفةً ، أي كلّ ما هو غير ذاته فهو سواه ، فليس له جزءا ولا صفةً زائدة .

قوله عليه السلام : «من استوصفه» أي من طلب وصف كنهه ، وسأل عن الأوصاف والكيفيّات).

ص: 410


1- المطمورة : حفرة، أو مكان تحت الأرض قد هيّئ خفيا ، يطمر فيه طعام أو مال . العين ، ج 7 ، ص 424 (طمر).

الجسمانيّة له ، فقد جهل عظمته وتنزّهه .

قوله عليه السلام : «فقد تعدّاه» أي تجاوزه ولم تعرفه .

قوله : «من اشتمله» أي توهّمه شاملاً لنفسه محيطا به ؛ من قولهم: «اشتمل الثوب» إذا تلقّف به ، فيكون ردّا على القائلين بالحلول والاتّحاد ؛ أو من توهّم أنّه تعالى محيط بكلّ شيء إحاطةً جسمانيّةً. ويُحتمل أن يكون كنايةً عن نهاية المعرفة والوصول إلى كنهه .

وفي بعض نسخ التوحيد : «أشمله» أي جعل شيئا شاملاً له بأن توهّمه محاطا بمكان ، ومثله قوله عليه السلام : «من اكتنهه» أي توهّم أنّه أصاب كنهه .

قوله : «ومن قال : كيف» أي سأل عن الكيفيّات الجسمانيّة «فقد شبّهه» بخلقه. «ومَن قال : لِمَ» صار عالما أو قادرا «فقد علّله» بعلّة ، وليس لذاته وصفاته علّة .

وفي المجالس وأكثر نسخ التوحيد : «علّله» وهو أظهر .

«ومن قال : متى» وجد فقد وقّت أوّل وجوده ، وليس له أوّل . «ومن قال : فيِمَ» أي في أيّ شيء هو ، فقد جعله في ضمن شيء ، وجعل شيئا متضمّنا له ، وهو من خواصّ الجسمانيّات .

«ومَن قال : إلى م» أي إلى أيّ شيءٍ ينتهي شخصه «فقد نهاه» أي جعل له حدودا ونهاياتٍ جسمانيّةً ، وهو تعالى منزّه عنها .

«ومن قال : حتّى م» يكون وجوده «فقد غيّاه» أي جعل لبقائه غايةً ونهاية ، ومن جعل له غاية فقد غاياه ، أي حكم باشتراكه مع المخلوقين في الفناء ؛ فيصحّ أن يُقال : غايته قبل غاية فلان أو بعده ، ومن قال به فقد حكم باشتراكه معهم في المهيّة ، وفي الجملة فقد حكم بأنّه ذو أجزاء ، ومن قال به فقد وصفه بالإمكان والعجز وسائر نقائص الممكنات ، ومن حكم به فقد ألحد في ذاته تعالى .

ويُحتمل أن يكون المعنى أنّ من جعل لبقائه غاية فقد جعل لذاته أيضا غاياتٍ وحدودا جسمانيّةً، بناءً على عدم ثبوت مجرّدٍ سوى اللّه تعالى ، وتفرّع التجزّي وما بعده على ذلك ظاهر .

ويمكن أن يُقال : الغاية في الثاني بمعنى العلّة الغائيّة كما هو المعروف أو الفاعليّة ، وقد يُطلق عليها أيضا بناءً على أنّ المعلول ينتهي إليها ، فهي غاية له . فعلى الأوّل المعنى أنّه من حكم بانتهائه فقد علّق وجوده على غاية ومصلحة ، كالممكنات التي عند انتهاء المصلحة ينتهي بقاؤهم ؛ وعلى الثاني المراد أنّه لو كان وجوده واجبا لما تطرّق إليه الفناء ، فيكون مستندا

ص: 411

إلى علّة ، وعلى الوجهين فيكون وجوده زائدا على ذاته ، فاتّصف حينئذٍ بالصفات الزائدة ، وهذا قولٌ بتعدّد الواجب ، وهو إلحاد فيه .

وفي المجالس : «ومن قال حتّى فقد غيّاه ، ومَن غيّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد ألحد فيه» .

قوله عليه السلام : «لا يتغيّر بانغيار المخلوق» أي ليس فيه التغيّرات التي تكون في مخلوقاته موجبةً للتغيّر في ذاته وصفاته الحقيقيّة ، بل إنّما التغيّر في الإضافات الاعتباريّة ، كما أنّ خلقه للمحدودين حدودا لا يوجب كونه متّحدا بحدود مثلهم . ويُحتمل أن يكون المراد أنّه لا يتغيّر كتغيّر المخلوقين ، ولا يتحدّد كتحدّد المحدودين .

وفي المجالس : «لا يتغيّر اللّه بتغاير المخلوق ، ولا يتحدّد بتحدّد المحدود» .

قوله عليه السلام : «واحد لا بتأويل عدد» أي بأن يكون معه ثانٍ من جنسه ، أو بأن يكون واحدا مشتملاً على أعداد ، وقد مرّ تحقيقه مرارا .

قوله عليه السلام : «لا بتأويل المباشرة» أي ليس ظهوره بأن يباشره حاسّة من الحواسّ ، أو ليس ظهوره بأن يكون فوق جسم يباشره كما يقال : ظهر على السطح ؛ بل هو ظاهر بآثاره ، غالب على كلّ شيء بقدرته .

قوله عليه السلام : «متجلٍّ». التجلّي : الانكشاف والظهور - ويقال : استهلّ الهلال على المجهول والمعلوم، أي ظهر وتبيّن - أي ظاهر لا بظهور من جهة الرؤية .

قوله عليه السلام : «لا بمزايلة» أي لا بمفارقة مكان بأن انتقل من مكان إلى مكان حتّى خفي عنهم ، أو بأن دخل في بواطنهم حتّى عرفها ؛ بل لخفاء كنهه عن عقولهم ، وعلمه ببواطنهم وأسرارهم .

قوله : «لا بمسافة» أي ليس مباينته لبعده بحسب المسافة عنهم ، بل لغاية كماله ونقصهم باينهم في الذات والصفات .

قوله عليه السلام : «لا بمداناة» أي ليس قربه قربا مكانيّا بالدنوّ من الأشياء ، بل بالعلم والعلّيّة والتربية والرحمة .

قوله : «لا بتجسّم» أي لطيف لا بكونه جسما له قوام رقيق ، أو حجم صغير ، أو ترك غريب ، ووضع(1) عجيب ، أو لا لون له ؛ بل لخلقه الأشياءَ اللطيفةَ ، وعلمه بها كما مرّ ، أو تجرّده . .

ص: 412


1- في المصدر : «وصنع» .

قوله عليه السلام : «لا بجول فكرة» أي ليس في تقديره للأشياء محتاجا إلى جولان الفكر وحركته .

قوله : «لا بحركة» أي حركة ذهنيّة أو بدنيّة .

قوله عليه السلام : «لا بهمامة» أي عزم واهتمام وتردّد .

قوله : «شاء» أي ذو مشيئة لا بهمّة وقصد وعزم حادث .

و«الجسّ» : المسّ باليد ، وموضعه : المجسّة .

قوله عليه السلام : «لا تصحبه الأوقات» أي دائما لحدوثها وقِدَمه ، أو ليس بزماني أصلاً .

«ولا تضمّنه» بحذف إحدى التاءين . والسِّنة : مبدأ النوم .

قوله عليه السلام : «ولا تحدّه الصفات» أي ولا تحيط به صفات زائدة ، أو لا تحدّه توصيفات الخلق .

قوله عليه السلام : «لا تفيده الأدوات» أي لا ينتفع ولا يستفيد منها . وفي بعض نسخ التوحيد: «ولا تقيّده» بالقاف ، أي ليس فعله مقيّدا مقصورا على الأدوات ليحتاج إليها .

وفي خطبة أمير المؤمنين عليه السلام : «ولا ترفده»(1) من قولهم : رفدت فلانا : إذا أعنته .

قوله عليه السلام : «كونُه» بالرفع ، أي كان وجوده سابقا على الأزمنة والأوقات .(2)

قوله عليه السلام : «والعدمَ وجودهُ» أي وجوده لوجوبه سبق وغلب العدم ، فلا يعتريه عدم أصلاً . وقيل : المراد عدم الممكنات ؛ لأنّ عدم العالَم قبل وجوده كان مستندا إلى عدم الداعي إلى إيجاده المستند إلى وجوده ، فوجوده سبق عدمَ الممكنات أيضا .

قوله : «والابتداء أزله» أي سبق وجوده الأزليُّ كلَّ ابتداء ، فليس لوجوده ولا شيء من صفاته ابتداء .

قوله : «بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له» أي بخلقه المشاعرَ الإدراكيّةَ وإفاضتها على الخلق عرف أن لا مشعر له ، إمّا لما مرّ من أنّه تعالى لا يتّصف بخلقه ، أو لأنّا بعد إفاضة المشاعر علمنا احتياجنا في الإدراك إليها ، فحكمنا بتنزّهه تعالى؛ لاستحالة احتياجه تعالى إلى شيء ، أو لما يحكم العقل به من المباينة بين الخالق والمخلوق في الصفات .

قال ابن ميثم : لأنّه لو كان له مشاعرُ لكان وجودها له إمّا من غيره ، وهو محال ، أمّا أوّلاً فلأنّه مشعّر المشاعر ، وأمّا ثانيا فلأنّه يكون محتاجا في كماله إلى غيره ، فهو ناقص بذاته وهذا».

ص: 413


1- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
2- في المصدر : + «بحسب الزمان الوهمي أو التقديري ، وكان علّة لها ، أو غلبها فلم يقيّد بها».

محال ؛ [وإمّا منه ، وهو أيضا محالٌ ؛ لأنّها إن كانت من كمالات اُلوهيّته كان موجدا لها من حيث هو فاقد كمالاً ، فكان ناقصا بذاته ، وهذا محال ، و [إن لم تكن كمالاً كان إثباتها له نقصا ؛ لأنّ الزيادة على الكمال نقصان ، فكان إيجاده لها مستلزما لنقصانه وهو محال .(1)

وقال ابن أبي الحديد : «وذلك لأنّ الجسم لا يصحّ منه فعل الأجسام ، وهذا هو الدليل يعوّل عليه المتكلّمون في أنّه تعالى ليس بجسم» .(2)

قوله عليه السلام : «بتجهيره الجواهر» أي بتحقيق حقائقها ، وبإيجاد مهيّاتها عرف أنّها ممكنة، وكلّ ممكن محتاج إلى مبدأ ، فمبدأ المبادي لا يكون حقيقةً من هذه الحقائق .

قوله عليه السلام : «وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له» المراد بالضدّ إمّا المعنى المصطلح ، أي موجودان متعاقبان على موضوع أو محلّ واحد ، أو المعنى العرفي الذي هو المساوي للشيء في القوّة .

فعلى الأوّل نقول : لمّا خلق الأضداد في محالّها، ووجدنا محتاجةً إليها ، علمنا عدم كونه ضدَّ الشيء ؛ للزوم الحاجة إلى محلّ ، المنافي لوجوب الوجود ؛ أو لأنّا لمّا رأينا كلاًّ من الضدّين يمنع وجود الآخر ويدفعه ويُفنيه ، فعلمنا أنّه تعالى منزّه عن ذلك ؛ أو لأنّ التضادّ إنّما يكون للتحدّد بحدود معيّنة لا تجامع غيرها كمراتب الألوان والكيفيّات ، وهو تعالى منزّه عن الحدود ، وأيضا كيف يضادّ الخالق مخلوقه والفائض مفيضه ؟

وأمّا على الثاني ، فلأنّ المساوي في القوّة للواجب يجب أن يكون واجبا ، فيلزم تعدّد الواجب ، وقد مرّ بطلانه .

قوله عليه السلام : «وبمقارنته بين الاُمور» أي بجعل بعضها مقارنا لبعض - كالأعراض ومحالّها ، والمتمكّنات وأمكنتها ، والملزومات ولوازمها - عُرف أنّه ليس قرين مثلها؛ لدلالة كلّ نوع منها على أنواع النقص والعجز .

قوله عليه السلام : «ضادّ النور والظلمة» يدلّ على أنّ الكلمة أمرٌ وجوديّ كما هو المشهور إن كان التضادّ محمولاً على المعنى المصطلح .

و«الجلاية» : الوضوح والظهور . و«البهم» : الخفاء . وفي النهج : «والوضوح بالبهمة» وفسّرهما الشرّاح بالبياض والسواد . ولا يخفى بُعده . .

ص: 414


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم، ج 4، ص 156.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 13 ، ص 73 .

وقال الفيروزآبادي : «جسا جسوّا : صلب»(1) . وجسئت الأرض بالضمّ ، فهي مجسوءة من الجساء ، وهو الجلد الخشن والماء الجامد .(2)

و«الصرد» بفتح الراء وسكونها : البرد ، فارسيّ معرّب . والحرور - بالفتح - : الريح الحارّة .

قوله عليه السلام : «مؤلّف بين متعادياتها» كما ألّف بين العناصر المختلفة الكيفيّات ، وبين الروح والبدن ، وبين القلوب المتشتّتة الأهواء وغير ذلك .

«مفرّق بين متدانياتها» كما يفرّق بين أجزاء العناصر وكلّيّاتها للتركيب ، وكما يفرّق بين الروح والبدن ، وبين أجزاء المركّبات عند انحلالها ، والأبدان بعد موتها ، وبين القلوب المتناسبة الحكم لا يحصى ، فدلّ التأليف والتفريق المذكوران الواقعان على خلاف مقتضى الطبائع على قاسر يقسرها عليهما ، وكونها على غاية الحكمة ونهاية الإحكام على علم القاسر وقدرته وكماله .

قوله عليه السلام : «وذلك قول اللّه عزّوجلّ» يُحتمل أن يكون استشهادا لكون المضادّة والمقارنة دليلاً على عدم اتّصافه بهما ، كما فسّر بعض المفسّرين الآية بأنّ اللّه تعالى خلق كلّ جنس من أجناس الموجودات نوعين متقابلين وهما زوجان ؛ لأنّ كلّ واحد منهما مزدوج بالآخر ، كالذّكر والاُنثى ، والسواد والبياض ، والسماء والأرض ، والنور والظلمة، والليل والنهار ، والحارّ والبارد ، والرطب واليابس ، والشمس والقمر، والثوابت والسيّارات ، والسهل والجبل ، والبحر والبرّ ، والصيف والشتاء ، والجنّ والإنس ، والجهل والعلم ، والشجاعة والجبن ، والجُود والبخل ، والإيمان والكفر، والسعادة والشقاوة ، والحلاوة والمرارة ، والصحّة والسقم ، والغنى والفقر ، والضحك والبكاء ، والفرح والحزن ، والحياة والموت ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، خلقهم كذلك ليتذكّروا أنّ لهم موجدا ليس هو كذلك .

ويُحتمل أن يكون استشهادا لكون التأليف والتفريق دالاًّ على الصانع ؛ لدلالة خلق الزوجين على المفرّق والمؤلّف لهما ؛ لأنّه خلق الزوجين من واحد بالنوع ، فيحتاج إلى مفرّق يجعلهما متفرّقين، وجعلهما مزاوجين مؤلّفين ألّفه لخصوصهما ، فيحتاج إلى مؤلّف يجعلهما مؤتلفين ، وقيل : [كلّ] موجود دون اللّه ففيه زوجان اثنان ، كالمهيّة والوجود ، والوجوب والإمكان ، والمادّة والصورة ، والجنس والفصل ، وأيضا كلّ ما عداه يوصف بالمتضايفين ، .

ص: 415


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 312 (جسا).
2- لسان العرب ، ج 1 ، ص 48 (جسأ) .

كالعلّيّة والمعلوليّة ، والقريب والبعيد ، والمقاربة والمباينة، والتأليف والتفريق ، والمعاداة والموافقة ، وغيرها من الاُمور الإضافيّة .

وقال بعض المفسّرين : المراد بالشيء الجنس ، وأقلّ ما يكون تحت الجنس نوعان، فمن كلّ جنس نوعان ، كالجوهر منه المادّي والمجرّد ، ومن المادّي الجماد والنامي ، ومن النامي النبات والمدرك ، ومن المدرك الصامت والناطق ، وكلّ ذلك يدلّ على أنّه واحد لا كثرة فيه ، فقوله : «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»أي تقرّون(1) باتّصاف كلّ مخلوق بصفة التركّب والزوجيّة أنّ خالقهما واحد ، أحد ، لا يوصف بصفاتها .

قوله عليه السلام : «ليعلم أن لا قبل له ولا بعد» يدلّ على عدم كونه تعالى زمانيّا . ويُحتمل أن يكون المعنى : عرفهم معنى القبليّة والبعديّة ليحكموا أن ليس شيء قبله ولا بعده؛ ويعلم الفقراتُ التالية ممّا قدّمنا في الكلام السابقة .

والغرائز : الطبائع . ومغرزها : موجد غرائزها ومفيضها عليها ، ويمكن حملها وأمثالها على الجعل البسيط إن كان واقعا . والمفاوت - على صيغة اسم الفاعل - : من جعل بينها التفاوتَ . وتوفيتها : تخصيص حدوث كلّ منها بوقت ، وبقائها إلى وقت .

قوله عليه السلام : «جعل حُجب بعضها عن بعض» أي بالحجب الجسمانيّة أو الأعمّ ليعلم أنّ ذلك نقص وعجز ، وهو منزّه عن ذلك ؛ بل ليس لهم حجاب عن الربّ إلاّ أنفسهم؛ لإمكانهم ونقصهم .

قوله عليه السلام : «معنى الربوبيّة» أي القدرة على التربية ؛ إذ هي الكمال .

قوله عليه السلام : «إذ لا مألوه» أي من له الإله ، أي كان مستحقّا للعبوديّة إذ لا عابد . وإنّما قال : «وتأويل السمع» لأنّه ليس فيه تعالى حقيقةً ، بل مأوّل بعلمه بالمسموعات .

قوله عليه السلام : «ليس مذ خلق استحقّ معنى الخالق» إذ الخالق الذي هو كماله هو القدرة(2) على خلق كلّ ما علم أنّه أصلح ، ونفس الخلق من آثار تلك الكماليّة ، ولا يتوقّف كماله عليه . و«البرّائيّة» بالتشديد : الخلاّقيّة .

قوله عليه السلام : «كيف ولا تغيبه مذ» أي كيف لا يكون مستحقّا لهذه الأسماء في الأزل والحال أنّه لا يصير «مذ» الذي هو لأوّل الزمان سببا لأن يغيب عنه شيء ؛ فإنّ الممكن إذا كان قبل ذلك .

ص: 416


1- في المصدر : «تعرفون» .
2- في المصدر : «إذ الخالقية التي هي كماله هي القدرة» .

المبدأ أو بعده يغيب عن غيره ، فيقال : مذ كان موجودا كان كذا .

ولمّا لم يكن زمانيّا لا تدنيه كلمة «قد» التي هي لتقريب الماضي إلى الحال ؛ إذ ليس في علمه شدّة وضعف حتّى يقربه كلمة «قد» التي للتحقيق إلى العلم لحصول شيء .

ولا تحجبه كلمة «لعلّ» التي هي لترجّي أمر في المستقبل ؛ أي لا يخفى عليه الاُمور المستقبلة، وليس له شكّ في أمر حتّى يمكن أن يقول: «لعلّ» وليس له وقت أوّلُ حتّى يقال له : متى وُجد ، أو متى علم ، أو متى قدر ، وهكذا ، أو مطلق الوقت كما مرّ مرارا ، ولا يشمله حين ولا زمان . وعلى الاحتمال الثاني تأكيد ، ويؤيّد الأوّل .

ولا يقارنه «مع» بأن يقال : كان شيء معه أزلاً ، أو مطلق المعيّة بناءً على نفي الزمان ، أو الأعمّ من المعيّة الزمانيّة أيضا ، فمن كان كذلك فليس تخلّف الخلق عنه عجزا له ولا نقصا في كماله ، بل هو عين كماله حيث راعى المصلحة .

ويمكن أن يطبَّق بعض الفقرات على ما قيل: إنّه لخروجه عن الزمان كان جميع الزمانيّات حاضرةً عنده في الأزل كلّ في وقته ، وبذلك وجّهوا نفي التخلّف مع الحدوث .

لكن في هذا القول إشكالات ليس المقام موضعَ ذكرها، وليس في مجالس المفيد والاحتجاج . «البدنيّة والقوى الجسمانيّة» أي هذه الأعضاء والقوى إنّما تحدّ وتشير إلى جسمانيٍّ مثلها ، وقيل : يعني ذوي الأدوات والآلات .

أقول : لا يبعد أن يكون المراد بالأدوات هذه الحروف والكلمات التي نفاها عنه سابقا ، فيكون كالتعليل لما سبق ، وفي الأشياء الممكنة توجد فعال : تلك الأدوات والآثار ، لا فيه تعالى .

قوله عليه السلام : «منعتها» منذ القدمة ، وحمتها قد الأزليّة ، وجنّبتها لولا التكملة ، بها تجلّى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون». وقد روي القدمة والأزليّة والتكملة بالنصب ، وقيل : كذا كان في نسخة الرضيّ أيضا بخطّه ، فتكون مفعولاتٍ ثانيةً ، والمفعولات الاُولى الضمائر المتّصلة بالأفعال ، ويكون «منذ» و«قد» و«لولا» في موضع الرفع بالفاعليّة ، والمعنى حينئذٍ أنّ إطلاق لفظ منذ وقد ولولا على الآلات تمنعها من كونها أزليّةً قديمةً كاملةً ، فلا يكون الآلات محدّدةً له سبحانه ، مشيرةً إليه جلّ شأنه ؛ إذ هي لحدوثها ونقصها بعيدة المناسبة عن الكامل المطلق القديم في ذاته ؛ أمّا الاُولى فلأنّها لابتداء الزمان ، ولا ريب أنّ منذ وجدت الآلة تنافي قدمها . وأمّا الثانية فلأنّها لتقريب الماضي إلى الحال ، فقولك : قد وجدت هذه

ص: 417

الآلة تحكم بقربها من الحال وعدم أزليّتها .

وأمّا «لولا» فلأنّ قولك إلى المحسّنة منها والمتوقّد من الأذهان : ما أحسنها لولا أنّ فيها كذا ، فيدلّ على نقص فيها ، فجنّبها عن الكمال المطلق .

ويروى أيضا برفع القدمة والأزليّة والتكملة على الفاعليّة ، فتكون الضمائر المتّصلة مفعولاتٍ اُولَ ، و«قد» و«منذ» و«لولا» مفعولاتٍ ثانيةً ، ويكون المعنى أنّ قدم الباري سبحانه وأزليّته وكماله المطلق منعت الآلات والأدوات عن إطلاق لفظ «قد» و«منذ» و«لولا» عليه سبحانه ؛ لأنّه تعالى قديم كامل ، و«قد» و«منذ» لا يطلقان إلاّ على محدَث ، و«لولا» لا يطلق إلاّ على ناقص .

أقول : ويُحتمل أن يكون المراد القدمةَ التقديريّةَ ، أي لو كانت قديمةً لمنعت عن إطلاق «منذ» عليها، وكذا في نظيريها .

وقوله عليه السلام : «بها تجلّى» أي بمشاعرنا وخلقه إيّاها وتصويره لها تجلّى لعقولنا بالوجود والعلم والقدرة .

وقوله عليه السلام : «وبها امتنع» أي بمشاعرنا استنبطنا استحالةَ كونه تعالى مرئيّا بالعيون ؛ لأنّا بالمشاعر والحواسّ كملت عقولنا ، وبعقولنا استخرجنا الدلالةَ على أنّه لا يصحّ رؤيته . أو بإيجاده المشاعر مدركةً بحاسّة البصر ظهر امتناعه عن نظر العيون ؛ لأنّ المشاعر إنّما تدرك بالبصر ؛ لأنّها ذاتُ وضعٍ ولون وغيره من شرائط الرؤية ، فبها علمنا أنّه يمتنع أن يكون محلاًّ لنظر العيون . أو لمّا رأينا المشاعر إنّما تدرك ما كان ذا وضع بالنسبة إليها علمنا أنّه لا يدرك بها ؛ لاستحالة الوضع فيه .

ثمّ اعلم أنّه على ما في تلك النسخ الفقرتان الاُوليان مشتركتا ، وأمّا الثالثة فالمعنى أنّه لولا أنّ الكلمة - أي اللغات والأصوات والآراء والعزائم والمخلوقات فإنّها كلم الربّ ؛ لدلالتها على وجوده وسائر كمالاته - افترقت واختلفت ، فدلّت على مفرّق فرّقها ، وتباينت فأعربت وأظهرت عن مباينها - أي من جعلها متباينةً - أو عن صانع هو مباين لها في الصفات ، لما تجلّى فظهر صانعها للعقول، كما قال تعالى : «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ»(1) . .

ص: 418


1- الروم (30) : 22 .

«وبها» أي بالعقول «احتجب عن الرؤية» لأنّ الحاكم بامتناع رؤيته هو العقل ، وإلى العقل يتحاكم الأوهام عند اختلافها .

قوله عليه السلام : «وفيها أثبت غيره» أي كلّ ما يثبت ويرتسم في العقل فهو غيره تعالى . ويُحتمل أن يكون مصدرا بمعنى المغايرة ، أي بها يثبت مغايرته للممكنات . ويمكن إرجاع الضمير إلى الأوهام ، أي القول بالشريك له تعالى فعل الوهم لا العقل لكن فيه تفكيك ، ومن العقول يستنبط الدليل على الأشياء ، وبالعقول عرّف اللّه العقولَ أو ذويها الإقرارَ به تعالى .

ويمكن إرجاع الضمير أيضا إلى الأوهام أي الأوهام ، معيّنة للعقل ، وآلات في استنباط الدليل ، وبالأوهام عرّف اللّه العقولَ الإقرارَ بأنّه ليس من جنسها وجنس مدركاتها .

وبما ذكرنا يظهر جواز إرجاع الضميرين في النهج إلى العقول ، كما أنّه يجوز إرجاع الضمائر هنا إلى الآلات والأدوات ولكنّهما بعيدان ، والأخير أبعد .

قوله : «ولا ديانة». الديانة مصدرُ دان يدين . وفي المصادر : «الديانة : دين دارگشتن» أي لا يدين بدين اللّه ؛ أو مِن دان ، بمعنى أطاع وعبد ، أي لا عبادة إلاّ بعد معرفة اللّه .

والإخلاص هو جعل المعرفة خالصةً عمّا لا يناسب ذاته المقدّسة من الجسميّة والعَرَضيّة والصفات الزائدة والعوارض الحادثة ، وحَمْله على الإخلاص في العبادة لا يستقيم إلاّ بتكلّف ، ولا يتحقّق الإخلاص مع تشبيهه تعالى [بخلقه] في الذات والصفات .

وفي بعض النسخ - كما في الاحتجاج - : «ولا نفي مع إثبات الصفات للتشبيه». فقوله : «للتشبيه» متعلّق بالنفي ، أي لم يَنفِ التشبيهَ من أثبت له الصفاتِ الزائدةَ.

وفي أكثر النسخ : «للتنبيه». ولعلّ المراد به الإشارة إلى ما مرّ من أنّه يجب إخراجه تعالى عن حدّ النفي وحدّ التشبيه ، أي إذا نفينا عنه التشبيه لا يلزم النفي المطلق مع أنّا نثبت الصفات لتنبيه الخلق على وجه لا يلزم النقص ، كما تقول : عالم لا كعلم العلماء، قادر لا كقدرة القادرين . وإنّما قال : «للتنبيه» إشارةً إلى أنّه لا يمكن تعقّل كنه صفاته تعالى .

ثمّ بيّن عليه السلام ذلك بقوله : «فكلّ ما في الخلق» .

ثمّ استدلّ عليه السلام بعدم جريان الحركة والسكون عليه بوجوه :

الأوّل : أنّه تعالى أجراهما على خلقه وأحدثهما فيهم ، فكيف يجريان فيه ؟ إمّا بناءً على ما مرّ مرارا من أنّه تعالى لا يتّصف بخلقه ، ولا يستكمل به ، واستدلّ عليه بعضهم بأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر ، فذلك الأثر إمّا أن يكون معتبرا في صفات الكمال ، فيلزم

ص: 419

أن يكون باعتبار ما هو موجد له ومؤثّر فيه ناقصا بذاته ، مستكملاً بذلك الأثر ، والنقص عليه محال ، وإن لم يكن معتبرا في صفات كماله ، فله الكمال المطلق بدون ذلك الأثر ، فيكون إثباته له نقصا في حقّه ؛ لأنّ الزيادة على الكمال المطلق نقصان، وهو عليه تعالى محال ؛ أو لأنّه لو جريا عليه لم ينفكّ أحدهما عنه ، فيدلّ على حدوثه ، كما استدلّ المتكلِّمون على حدوث الأجسام بذلك . والأوّل أظهر لفظا ومعنىً .

الثاني: أنّه يلزم أن يكون ذاته متفاوتةً متغيّرة بأن تكون تارةً متحرّكة ، واُخرى ساكنةً ، والواجب لا يكون محلاًّ للحوادث والتغيّرات ؛ لرجوع التغيّر فيها إلى الذات .

الثالث: أنّه يلزم أن يكون ذاته وكنهه متجزّيا ؛ إمّا لأنّ الحركة من لوازم الجسم ، أو لأنّ الحركة بأنواعها إنّما تكون في شيء يكون فيه ما بالقوّة وما بالفعل ، أو لأنّه يستلزم اشتراكَه مع الممكنات ، فيلزم تركّبه ممّا به الاشتراك وما به الامتياز .

وأمّا قوله عليه السلام : «ولامتنع» إلى قوله : «غير المبروّ» فكالتعليل لما سبق .

وقوله عليه السلام : «ولوحدّ له وراء» أي لو قيل إنّ له وراءً وخلفا ، فيكون له أمام أيضا ، فيكون منقسما إلى شيئين ولو وَهْما ، فيلزم التجزّي كما مرّ .

ثمّ بيّن عليه السلام أنّه لايجوز أن يكون اللّه مستكملاً بغيره ، أو يحدث فيه كمال لم يكن فيه، وإلاّ لكان في ذاته ناقصا ، والنقص منفيّ عنه تعالى بإجماع جميع العقلاء ، وأيضا يستلزم الاحتياج إلى الغير في الكمال المنافيَ لوجوب الوجود كما مرّ .

ثمّ أشار عليه السلام إلى أنّ الأزلي لا يكون إلاّ مَن كان واجبا بالذات ، ممتنعا عن الحدث، وإلاّ كان ممكنا محتاجا إلى صانع ، فلا يكون أزليّا ؛ إذ كلّ مصنوع حادثٌ. ويُحتمل أن يكون المراد بامتناع الحدوث أن يحدث فيه الحوادث وكونه محلاًّ لها ، وبيانه أنّه ينافي الأزليّة والوجوب .

قوله عليه السلام : «وكيف ينشئ الأشياء» أي جميعها مَن لا يمتنع مِن كونه منشأً ؛ إذ هو نفسه ومن أنشأه لا يكونان من منشآته ، فكيف يكون منشأً للجميع ؛ أو أنّ منشئ كلّ شيء ومبدعه لا يكون إلاّ واجبا كما مرّ في باب أنّه تعالى خالق كلّ شيء . ويُحتمل أن يكون المراد عدمَ الامتناع من إنشاء شيء فيه ؛ إذ لا يجوز أن يكون منشئ تلك الصفة نفسَه ولا غيرَه .

ثمّ استدلّ على جميع ما تقدّم بأنّه لو كان فيه تلك الحوادث والتغيّرات وإمكان الحدوث ، لقامت فيه علامة المصنوع ، ولكان دليلاً على وجود صانع آخر غيره كسائر الممكنات ؛

ص: 420

لاشتراكه معهم في صفات الإمكان وما يوجب الاحتياجَ إلى العلّة لا مدلولاً عليه بأنّه صانع .

قوله عليه السلام : «ليس في محال القول حجّة» أي ليس في هذا القول المحال - أي إثبات الحوادث والصفات الزائدة له - حجّةٌ ، ولا في السؤال عن هذا القول ؛ لظهور خطائه جواب ، وليس في إثبات معنى هذا القول له تعالى تعظيم ، بل هو نقص له كما عرفت، وليس في إبانته تعالى عن الخلق في الاتّصاف بتلك الصفات - حيث نفيت عنه تعالى وأثبت فيهم - ضيمٌ ، أي ظلم على اللّه تعالى أو على المخلوقين ، إلاّ بأنّ الأزلي يمتنع من الاثنينيّة ، وإثبات الصفات الزائدة يوجب الاثنينيّة في الأزليّ ، وبأنّ ما لا بدء - على المصدر - أو بديء له - على فعيل بمعنى مفعل - يمتنع من أن يبدأ ، ويكون له مبدأ ، أو ما نسبوا إليه تعالى ممّا مرّ مستلزم لكونه تعالى ذا مبدأ وعلّة ، فالمعنى أنّه لا يتوهّم ظلم إلاّ بهذا الوجه ، وهذا ليس بظلم كما في قول الشاعر :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهنّ فلول من قراع الكتائب

والعادلون باللّه هم الذين يجعلون غيره تعالى معادلاً ومشابها له .

أقول : قد روى في تحف العقول [والنهج] مثل هذه الخطبة مع زيادات عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه ، وقد أوردتها في أبواب خطبه عليه السلام .(1)

انتهى كلام الفاضل المحقّق صاحب البحار .

ولقد أحسن وأجاد في شرح هذه الخطبة الجليلة النبيلة وحلّ مشكلاتها وكشف غوامضها ، وبقي بعدُ خبايا في زوايا ، وأنا أرجو اللّه تعالى أن يوفّقني لإبراز بعضها فأقول :

قوله عليه السلام : «أوّل عبادة اللّه معرفته» فيه توفيق بين قوله تعالى : «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(2) والحديث القدسي المشهور : «كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن اُعرف ، فخلقت الخلق لأن اُعرف»(3) فقول من قال : «أي ليعرفون» إن كان مستندا إلى الرواية .

ص: 421


1- بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 231 - 247، مع اختلاف يسير.
2- الذاريات (51) : 56 .
3- بحار الأنوار ، ج 87 ، ص 198 و 344 ؛ تفسير الكبير للرازي ، ج 28 ، ص 234 ؛ الإحكام للآمدي ، ج 1 ، ص 131 ؛ تفسير ابن عربي ، ج 2 ، ص 123 ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 5 ، ص 163 ؛ تفسير أبي السعود، ج 2 ، ص 130 ؛ تفسير الآلوسي ، ج 14 ، ص 216 ؛ و ج 17 ، ص 121 .

[فهو] تفسير بأشرف ما صدقات العبادة ، وسيجيء فيباب التفكّر عن أبي عبداللّه عليه السلام : «أفضل العبادة إدمان التفكّر في اللّه وفي قدرته» .(1)

وفيه عن معمّر بن خلاّد ، قال : سمعت الرضا عليه السلام يقول : «ليس العبادة كثرةَ الصلاة والصوم ، إنّما العبادة التفكّر في أمر اللّه عزّوجلّ» .(2)

وقوله : «وأصل معرفة اللّه توحيده» أي نفي الشريك في المعبوديّة وفي التدبير وفي الوجوب الذاتي ، ونفي الكثرة في الذات من جهة المهيّة والوجود ، ومن جهة القوّة والفعل ، ومن جهة الجنس والفصل ، ومن جهة الأجزاء الخارجيّة المنفصلة ، ومن جهة الذات والصفة .

قال بعض محقّقي الشرّاح :

هذا التوجيه إنّما ينتظم بأن ينفى الصفات عنه تعالى عينا وزيادةً ، بمعنى أن ليس ذاته سبحانه مصداقا لتلك المفهومات ، كما أنّ غيره كذلك ، بل صفاته - جلّ سلطانه - صفاتُ إقرارٍ ، لا صفات إحاطة وانتزاع ، وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله : «ونظام توحيد اللّه نفي الصفات عنه» أي الذي ينتظم به التوحيد الحقيقي ويصير به العارف باللّه موحّدا حقيقيّا هو نفي الصفات عنه ، وإرجاع جميع صفاته الحسنى إلى سلب نقائضها ونفي مقابلاتها ، لا أنّ هاهنا ذاتا وصفةً قائمةً بها أو بذواتها أو أنّها عين الذات ؛ بمعنى أنّ حيثيّةُ كونها ذاتا هي بعينها حيثيّةُ كونها ذاتا هي بعينها حيثيّة كونها مصداقا لتلك الصفات، بأن تكون كما أنّها بنفسها فرد من الوجود ، كذلك تكون فردا من العلم والقدرة وغيرهما فردا عرضيّا ، بشهادة العقول أنّ كلّ صفةٍ وموصوف مخلوق ، هذا إبطال للقول بالصفات العينيّة والعارضة ، أي العقل الصريح - الغير المشوب بالشبهة والشكوك - يحكم بمخلوقيّة الصفة والموصوف، سواءٌ قيل بالعينيّة أو بالزيادة .

بيان ذلك على القول بالصفة أنّ تلك الصفة لمّا كانت عارضةً، وكلّ عارض إمّا أن يكون واجبا أو ممكنا ، ومن البيّن أنّه يمتنع وجوبه ؛ لأنّ الصفة حقيقتها الشيء المحتاج، وذلك يناقض الوجوب الذاتي ، فتعيّن أن يكون ممكنا ، وكلّ ممكن عارضٍ لابدّ له من علّة .

ص: 422


1- الكافي ، ج 2 ، ص 55 ، باب التفكّر ، ح 3 .
2- الكافي ، ج 2 ، ص 55 ، باب التفكّر ، ح 4 .

لكونه ولعروضه ، فلا محالة يكون تلك العلّة هي الذات ، فالذات لامحالة علّة لعروض تلك الصفة لنفسها ، فتكون الصفة والموصوف كلاهما متعلّق الجعل ؛ أمّا الصفة فظاهرة معلوليّتها ، وأمّا الموصوف فلأنّ كونه موضوعا لهذا العارض معلوليّته له وإن كان من نفسه، وهذا معنى ما نقوله من أنّه يلزم كون الشيء فاعلاً وقابلاً .

فإن قيل : لعلّ علّة العروض نفس الصفة بمعنى أنّها بنفسها تقتضي العروض لتلك الذات .

فنقول : ننقل الكلام إلى علّة نفس الصفة ، فإمّا أن تكون هي الذات ، فيرجع إلى ما قلناه آنفا ، وإمّا أن تكون غير الذات ، فيلزم معلوليّة الصفة والموصوف للغير ، وهو الذي أردناه .

وأمّا على القول بالعينيّة ، فإنّه - مع تسليم اتّحاد حيثيّة الذات والصفات - لا شكّ في اعتبار كون تلك الحيثيّة حيثيّةَ الذات ، متقدّم على اعتبار كونها حيثيّةَ الصفات اعتبارا واقعيّا نفسَ أمريٍّ ؛ لأنّ الذات متقدّم بالذات على الصفات ، ومنع هذا مكابرة صريحة؛ إذ الوصف مفهومه الشيء المحتاج المتأخّر عن الموصوف ؛ لامتناع كونه متقدّما أو معا بديهةً ، فإذا تحقّقت القبليّة والبَعديّة الذاتيّتين ، اتّضحت العلّيّة والمعلوليّة بين الصفة والموصوف ، وإذ قد فرضت العينيّة فالذات باعتبارٍ علّةٌ وباعتبار معلول ، وهذا واضح بحمد اللّه .

وبوجه آخر أنّ القائلين بالعينيّة يقولون : إنّ الذات كما أنّها فرد عرضي للوجود، كذلك بنفس حيثيّة أنّها ذاتٌ فرد عرضي للعلم والقدرة وغير ذلك ، وعندهم أنّ هذه الصفات موجودة بطبائعها في الخلق ، ومن البيّن أنّ كلّ ما في الخلق فهو معلول، فيلزمهم - بناءً على ما هو الحقّ المبرهن عليه عند أهل المعرفة من جعل الطبائع بالذات والحقيقة - أنّ جميع تلك الطبائع العرضيّة مجعولات الحقيقة ، فيلزم مجعوليّة الذات والصفات بالبديهة ؛ إذ جعل الطبيعة إنّما يكون بجعل الأفراد وإن كان تلك الأفراد بالعرض .

انتهى ما أردنا نقله من كلام هذا الفاضل المحقّق .

وأنا أقول غيرَ قاصد لانتصار طرف ، أو تزييف طرف ، بل ناقلاً لما انعقد به قلبي بقدر انطلاق لساني ، وأذكر أوّلاً طريق حصول معرفتي بربّ العالمين ؛ إذ بطريق الحصول يظهر أنّ أيّ المحمولات يليق بحضرة الذات - : إنّي نظرت بالذات ، إنّي

ص: 423

نظرت في الآفاق والأنفس ، ورأيت فيها صنوفا من التغيّرات والتقلّبات ، ووجدت لبّي مجبولاً على الحكم بإمكان المتغيّر - أي عدم لزوم واحد من الوجود والعدم له في حدّ ذاته ، ومع قطع النظر عن غيره - وعلى الحكم بافتقار الممكن إلى الغير ، وعلى الحكم بامتناع ذهاب سلسلة الافتقارات، لا إلى نهاية بالضرورة الفطريّة ، وعلى الحكم بأنّ التشكيك فيه كالتشكيك على اليقظان في أنّه لعلّك نائم ؛ فإنّ الحالات التي بك - من الأكل والشرب والانتقال من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان وغير ذلك - قد يتخيّل في المنام ، ويزعم النائم أنّه في حال اليقظة ، فبِمَ استيقنت أنّك الآنَ لست نائما ؟

فكما أنّ هذا التشكيك فيما علم بالضرورة ، كذلك احتمال ذهاب السلسلة لا إلى نهاية ، وعلى الحكم بأنّ البراهين - التي ذُكرت في إبطال تسلسل العلل والمعلولات تشحيذا للأذهان - هي التي أوقعت بعضَ الأذهان في القلق ، كما قال بعض أرباب الكمال : «اين ره از بسيارى سنگ نشان هموار نيست».

وعلى الحكم بأنّ هذه الأحكامَ كلّها حاصلة لكلّ عقل لم يعوج بمدارسة شكوك المتفلسفين ومن حذا حَذْوَهم من مجادلي المتكلِّمين ، إمّا بالضرورة الفطريّة، أو الحدس والفراسة ، أو ما شئت فسمِّ .

هذا طريق حصول معرفتي بخالق العالم من حيث الذات والمحمولات اللائقة بجنابه تعالى بحيث المعرفة الموجودة بمعنى الخارج عن حدّ التعطيل ، والواجب الوجود بمعنى الغنيّ بالذات المتعالي عن العدم السابق واللاحق وعن مشابهة المحتاجين إليه ، وبالجملة المحمولات اللاّئقة لجناب القدس بهذه المعرفة ، لا تزيد على التقديس والتنزيه ، ولا يوجب تناول الذات ، كيف ولا مطمع هناك للملائكة المقرّبين ولا الأنبياء المرسلين فضلاً عن غيرهم ، وكفى في ذلك قول سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله : «ما عرفناك حقّ معرفتك» .(1) وفي الحديث : «كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم .

ص: 424


1- عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 132 ، ح 227 ؛ بحار الأنوار ، ج 69 ، ص 293 ، ذيل ح 23 ؛ فيض القدير ، ج 2 ، ص 520 ؛ تفسير الآلوسي ، ج 4 ، ص 79 .

في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم ، مردود إليكم ، ولعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ للّه تعالى زبانيتين ؛ فإنّ ذلك كمالها ، وتتوهّم أنّ عدمها نقصان لمن لم يتّصف بهما ، وهكذا حال العقلاء فيما يصفون اللّه تعالى» انتهى كلامه صلوات اللّه عليه وسلامه .(1)

وهذه الرواية نقلها الشيخ بهاء الملّة والدِّين في شرح الأربعين. هذا، ومن كان حصول معرفته من طريقٍ آخر على غير الوجه الذي ذكرناه ، فمحمولاته على حسب معرفته ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرّا فشرّا ، فلو فرض أنّه عرفه سبحانه من جهة الرؤية - مثلاً - كان المحمول المناسب الطويلَ والقصيرَ والأبيضَ والأحمرَ وأمثالَها ، ولو فرض أنّه عرفه سبحانه من جهة اللمس كان المناسب الخشنَ والليّن ، وعلى هذا القياس في سائر الحواسّ ، ولو فرض المعرفة من جهة النقل فبحسب ما نقل ، فإن كان المنقول المعرّفُ الصفاتِ الذاتيّةَ، نُظر إلى أنّها هل هي من شأنها الحصول للناقل بإحدى الحواسّ ، فالمحمولات المناسبة بحسبها أو لا ، فهي صفاتُ إقرارٍ أو تقديساتٌ أو تنزيهات ، وإن كان الصفات المعروف بها الصفاتِ الفعليّةَ - أي صفاتٍ لها تعلّق بالأفعال ، سواء اُذعن بها من جهة النقل، أو من مشاهدة الآثار - فلا تدلّ على مبادٍ متغايرة مع اللّه سبحانه ؛ لأنّ أمر اللّه تعالى لا يُقاس باُمور خلقه ، فلعلّ ذاته الأقدس - الذي ليس كمثله شيء بأنّه هو - مبدأ لمفهومات متغايرة ظهرت غاياتها في الآفاق والأنفس ، ولم يكن هناك لها مبادٍ غيرُ الذات بلا شوب كثرة، فيرجع الأمر إلى أنّ الأسماء الحسنى لم تزل في علم اللّه تعالى بلا كيف ، أي كانت منكشفةً له في الأزل بلا صورة ومثال ، وهو تعالى مستحقّ لها بنفس ذاته ، وباستحقاق كلّ منها صحّ لنا أن ننفي عنه مقابله ، ففائدة حمل تلك الصفات [عليه] تعالى أمران ليس إلاّ : أحدهما إظهار التصديق باستحقاقه تعالى بنفس ذاته المقدّسة ، المستلزم لنفي مقابلاتها عنه . والثاني الإذعان بغاياتها في أفعاله التي في عالم الملكوت كما في أفعاله التي في عالم المُلك ؛ .

ص: 425


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم ، ج 4 ، ص 388 ؛ مشرق الشمسين ، ص 398 ؛ بحار الأنوار ، ج 69 ، ص 293 ، ذيل ح 23 .

وبالجملة، المحسوس وغير المحسوس .

فإن عُني بعينيّة الصفات الاستحقاقُ لها بمجرّد الذات بلا تكثّر حيثيّات وجوديّة في الذات أو اُمور موجودة مع الذات ، فلا مُشاحّةَ في الاصطلاح بعد بيان المقصود ، غير أنّه لمّا لم يرد في الأخبار الواردة عن الأئمّة الأطهار لفظُ «العينيّة» - بل الوارد إنّما هو نفي الصفات وإطلاق الأسماء الحسنى عليه تعالى ، والتصريحات بأنّه واحدٌ أحد ليس معه شيء لا قبلُ ولا الآنَ - لا ضرورة في إطلاق هذه اللفظة .

وقوله : «فليس اللّه [عرف] من عرف بالتشبيه ذاته». هكذا في التوحيد ، والموجود في عيون الأخبار : «فليس اللّه من عرف بالتشبيه ذاته» .

وصاحب البحار - وإن عنون الحديث برمزَيِ التوحيد وعيون الأخبار كليهما - نقل الحديث من عيون الأخبار ، ولذا قال : قوله عليه السلام : «فليس اللّه مَن عرف بالتشبيه» أي ليس من عرف ذاته بالتشبيه بالممكنات واجبا ؛ لأنّه يكون ممكنا مثلها ، ويمكن أن يقرأ «اللّه» بالرفع والنصب ، والأوّل أظهر .

أقول : بناء القراءتين على ما في العيون، والأصحّ ما في التوحيد ؛ لأنّ «مَن» على هذا عبارة عن الإنسان ، تكون مع الفقرات الآتية - أعني قوله : «ولا إيّاه وحّد من اكتنهه ، ولا حقيقته أصاب مَنْ مثّله ، ولا به صدّق من نهّاه ، ولا صمد صمده من أشار إليه ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا له تذلّل من بعّضه ، ولا إيّاه أراد من توهّم» - على نسق واحد .

وعلى ما في العيون عبارة عن اللّه تعالى ، فيشوّش الكلام ، وحاشا المعصوم من ذلك .

وقوله : «ولا صمد صمده». في بعض نسخ التوحيد : «ولا صمده مَن أشار إليه» وبعض الأفاضل ما ذكر في شرحه للتوحيد ملتوى هذا ، ولم يتعرّض للنسخة الاُولى بوجه(1)، وكذا في بعض نسخ العيون أيضاً .

وفي خطبة من خطب نهج البلاغة معنونة بأنّه يجمع هذه الخطبةُ من اُصول العلوم4.

ص: 426


1- راجع: شرح توحيد الصدوق للقاضي سعيد القمّي، ج 1، ص 124.

ما لا يجمع خطبة : «ما وَحَّدَه من كيّفه ، ولا حقيقته أصابَ من مَثَّلَه ، ولا إيّاه عنى من شَبَّهَه ، ولا صَمَدَه من أشار إليه وتوهّمه».(1)

في القاموس : «الصمد: القصد . والصمد : السيّد ؛ لأنّه يقصد» .(2)

وعلى ما في نهج البلاغة لا يبعد أن يقرأ «صمّده» بالتشديد على نحو ما في الخطبة من قوله عليه السلام : «ما وحّده» فيكون المعنى : ولا نسبه إلى الصمدانيّة ، كما [أنّ] معنى «ما وحّده» ما نسبه إلى الوحدانيّة وما قال بصمدانيّته ووحدانيّته .

وقوله عليه السلام : «بصنع اللّه يستدلّ عليه» فيه ردّ على من فسّر النظر على التوحيد بالاستغناء عن الاستدلال ، فقوله : «بالفطرة تثبت حجّته» أي بأن فُطر كلّ مولود بحيث لو خُلّي وطبعَه ولم يهوّده الأبوان ولم ينصّراه ولم يمجّساه، لأفضى به مشاهدةُ آيات اللّه في الآفاق والأنفس إلى التوحيد ، أي الإقرار باللّه وإلهيّته ووحدانيّته وصمدانيّته ، ففطرة اللّه الخلقَ على هذه الحيثيّة إتمام حجّته عليهم . وهذا الوجه أظهر وجوه صاحب البحار .

وقوله عليه السلام : «وابتداؤه إيّاهم دليل على أنّ الابتداء له» لم يتعرّض صاحب البحار لبيان أنّ المبتدِئ - بالكسر - ليس بمبتدأ - بالفتح - البتّة ، ولعلّ وجهه أنّ معنى الابتدائيّة طبيعيّة فاقرة الذات كما كشف عنه الصدور ، فلا توجد في الغنيّ بالذات .

وقال بعض الأفاضل في شرح التوحيد :

هاهنا ثلاثة مقامات :

الأوّل : أنّه كيف ذلك دليلاً ؟

والثاني : لِمَ صار يعجز الشيء الذي له ابتداء عن ابتداء غيره ؟

الثالث : يجتمع هذا مع القول بالأسباب والوسائط والعلل المتوسّطة من المبادئ العالية والسافلة .

أمّا المقام الأوّل : فالبرهان عليه هو المقام الثاني . بيان ذلك : أنّه قد تحقّق ببراهين إثبات .

ص: 427


1- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 308 (صمد) .

المبدأ الأوّل جلّ شأنه ، وتناهي العلل إلى علّة فاعليّة لا علّة لها أنّه مبدأ المبادئ وعلّة العلل .

فنقول : الابتداء هو إيجاد الشيء الذي له أثر في الوجود بوجه من الوجوه ، وأنّ المبدأ الأوّل هو الذات ابتدأت منه الموجودات ، وانتهت إليه سلسلة المبتدآت ، وذلك من عِلْمٍ منه بها ، وإرادةٍ دعت إليها ، وحينئذٍ لايمكن أن يكون شيء من الموجودات سببا لابتداء غيره ؛ إذ كلّ ما فرض أنّه ابتدأ من ذلك المبتدئ فله صورة في علم الإله تعالى ، لا أنّ العلم بمعنى حصول الصورة ؛ إذ ما عند اللّه هو الحقائق المتأصّلة الباقية، وكلّ ما في الكون فهي أشباح وأمثلة لتلك الصور العالية : «مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللّه ِ بَاقٍ»(1) ، فإذا كان كذلك ، فما فرض أنّه مبتدأ من ذلك المبتدأ فليس بمبتدأ ، ولا ريب أنّ الموجودات لها ابتداء ، فكلّها ابتدأت من الباري تعالى . نعم ، إنّما المبادئ العالية والعلل المتوسّطة شأنها الإبداء والإظهار ، وأين الإبداء من الابتداء ؟ مع أنّ الإبداء أيضا منه سبحانه على الحقيقة؛ إذ الكلّ هالك دون وجهه الكريم ، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا ، ولا موتا ولا حياةً ولا نشورا ، فكيف لغيرهم وهو المُبدئ والمُعيد ؟ ومن ذلك ظهر تحقيق المقام الثالث .(2)

وقوله : «بفاقة المادين» لم يتعرّض صاحب البحار لتصحيح لفظ «المادين» هل هو اسم مفعول أو اسم فاعل .

اعلم أنّه قد وقع في صورة خطّه تصحيف ، والصواب «مؤدين» على أنّه جمع المذكّر السالم في حالة الجرّ .

في الصحاح :

الأداة: الآلة ، والجمع : الأدوات . وآداه على كذا ، يؤديه إيداءً : إذا قوّاه عليه وأعانه . وآدى الرجل أيضا ، أي قوي؛ من الأداة ، فهو مؤدٍ بالهمز ، أي شاكٍ في السلاح ، وأمّا مُودٍ بلا همز ، فهو من أودى ، أي هلك .(3)).

ص: 428


1- النحل (16) : 96 .
2- شرح توحيد الصدوق لقاضي سعيد القمّي ، ج 1 ، ص 132 - 133 .
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2265 (أدا).

أقول : ظهر من كلام الجوهري أنّ «المودين» اسم فاعل ، وصورة كتابته بالواو كما في «المؤمن» وهو جمع المذكّر السالم كالموصين .

والفاضل المحقّق شارح توحيد الصدوق - طاب ثراه - نقل «المتادين» بدل «المادين» ثمّ قال :

الأدْوَة - بفتح الهمزة وسكون الدال وفتح الواو - : الإبداء ، مصدر الإفعال ، وهو جعل الشيء ذا أداة ، و«المتادين» على المدّ من باب التفاعل من الأداة .(1)

في القاموس : «تآدى : أخذ للدهر أداته» .(2) ولا يساعده النسخ التي رأيناها .

وقوله عليه السلام : «أسماؤه تعبير» أي مفهومات الألفاظ التي تطلق على اللّه تعالى - مثل العالم والقادر والحيّ والسميع والبصير - ليست تحمل عليه سبحانه حملَها [على[ الإنسان على أن يكون لكلّ منها مبدأ في ذاته تعالى ، فيكونَ سبحانه فردا حقيقيّا لها كالإنسان ؛ فإنّه فرد حقيقي للنامي والمتحرّك بالإرادة والناطق ، أو عارضا لذاته سبحانه، فيكونَ فردا عرضيّا لها كالإنسان ؛ فإنّه فرد عرضيّ للضاحك والماشي ، بل تعبيرات عنه سبحانه باعتبار استحقاقه لها بنفس ذاته الأقدس الواحد حقَّ الوحدة .

وإنّما ذكرنا الاستحقاق مقتفيا بكلام الإمام عليه السلام في رواية أبي هاشم الجعفري التي سبقت في باب معاني الأسماء واشتقاقها حيث قال : «فإن قلت : لم يزل [عنده] في علمه وهو مستحقّها ، فنعم»(3) لئلاّ يتوهّم أنّ المراد مجرّد التعبير حتّى يكون في إطلاق العالم عليه تعالى غير ملاحظ لمفهومه الذي وضع له في الفارسيّة لفظ «دانا» وفي التركيّة لفظ «بلَنْ» وفي اللغات الاُخر بألفاظٍ اُخرى ، بل المراد أنّه كان في الأزل مستحقّا لأن يحمل عليه الأسماء الحسنى الذاتيّة ، باعتبار أنّ ذاته المقدّسة عن شوب الكثرة قائم مقام مباديها المتكثّرة المتغايرة ، ويترتّب غاياتها على مجرّد الذات ، فهو علم كلّه، وقدرة بعين ماهو به علم ، وحياة بعين ما به علم وقدرة ، وهكذا عالم بعين ما به علم، وقادر .

ص: 429


1- شرح توحيد الصدوق لقاضي سعيد القمّي ، ج 1 ، ص 134 .
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 298 (أدا).
3- الكافي ، ج 1 ، ص 116 ، باب معاني الأسماء واشتقاقها ، ح 7 ؛ التوحيد ، ص 193 ، ح 7 .

بعين ما به عالم ، فاشتراك الأسماء بهذا الاعتبار لفظي بَحْت ؛ إذ العالم فينا من له مبدأ خاصّ ، والقادر من له مبدأ خاصّ ، والحيّ من له مبدأ خاصّ آخر ، وعلى هذا القياس سائر الأسماء ، بخلاف العالم والقادر والحيّ هناك ؛ فإنّ مبادئ الجميع هناك أمرٌ واحد مجهول الكنه والحقيقة ، بل معلوم المباينة عن الكلّ ، وباعتبار استحقاق جمل المفهومات وإن كان بنفس الذات البسيط المقدّس عن شوائب الكثرة معنويّا واستحقاقه تعالى في الأزل للعالميّة والقادريّة كاستحقاقه في الأزل للخالقيّة والبارئيّة - كما سيصرّح به عليه السلام - فتبارك الذي ليس كمثله شيء، ولا يعدله شيء ، ونِعمَ ما قيل (نظم) :

هست در وصف او بوقت دليل *** نطق ، تشبيه وخامشى تعطيل

آنكه اثباتِ هستِ او بر نيست *** همچو اثبات مادَرِ اعمى است

داند اعمى كه مادرى دارد *** ليك چوبى بوصف در نارد

گر نگويى ، ز دين تهى باشى *** ور بگويى ، مشبّهى باشى

چون برون از كجا و كى بُوَد او *** گوشه خاطر تو كى شود او

آنچه پيش توبيش از آن ره نيست *** غايت وَهْم تست ، اللّه نيست

پاك از آنها كه غافلان گفتند *** پاكتر زانچه عاقلان گفتند

وصف او زير علم نيكو نيست *** هر چه در گوشت آيد آن او نيست

چه كنى وهم را به بحثش حثّ *** چون كند از قِدَم حديث حدث

جز به حسّ ركيك و وهم خبيث *** نكند در قدم حديث حديث

هيچ دل را بكنه او ره نيست *** عقل و جان از كمالش آگه نيست

سست جولان ز عزّ ذاتش وهم *** تنگ ميدان ، ز كنه وصفش فهم

ذات او سوى عارف عالم *** برتر از اَيْن و كيف وَزْ هل و لم

ضلّت فيك الصفات ، وتفسّخت دونك النعوت ، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام .(1) .

ص: 430


1- هذه الفقرات بعينه في الصحيفة السجّاديّة ، ص 146 ، الدعاء 32 .

قوله عليه السلام : «وأفعاله تفهيم» يعني أنّ ذكر أفعاله تعالى بمجرّد تفهيمنا أنّها عنه؛ أمّا أنّها صدرت عنه صدورَها عن المخلوقين بعلاج ومباشرة واستعمال آلة ، فكلاّ : «إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ»(1) بلا نطق ولا همّ ، وما أحسن ما قيل في نفي الإشارة إلى جناب الأقدس، وفي عدم كون المراد ب «كُن» التلفّظَ بالحرفين :

فعل و ذاتش برون زآلت وسوست *** زانكه هوّيتش بَرَاز «كن» و «هُو»ست

«كن» دو حرفست بى نوا هر دو *** هو دو حرفست بى هوا هر دو

كاف و نونيست جز نبشته ما *** چيست «كن» سرعت نفوذ قضا

فعل او برتر از چگونه و چون *** ذات او خارج از درون و برون

هستها تحت قدرت اويند *** همه با او و او همى جويند

باز مردان چو فاخته در گور *** طوق در گردنند و كوكو گو

قوله عليه السلام : «وذاته حقيقته» روي أنّه سأل كميل بن زياد أمير المؤمنين عليه السلام ، قال : ما الحقيقة؟ فقال عليه السلام : «ما لكَ والحقيقة؟» فقال كميل : أولستُ صاحب سرّك يا أمير المؤمنين؟ ثمّ ألحَّ في السؤال إلى أن فسّر عليه السلام ، فقال : زدني ، ثمّ فسّره مرّةً اُخرى ، فقال : زدني ، ووقع ذلك مرّاتٍ . ومن جملة التفسيرات قوله عليه السلام : «محو الموهوم مع صحو المعلوم».(2)

ولعلّه عليه السلام أشار بذلك إلى قوله تعالى : «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقا»(3) .

قوله عليه السلام : «وغيوره تحديد لما سواه». الغيور على ما فسّره صاحب البحار بالمعجمة ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة ، وهذه اللفظة لم تجيء في اللغة إلاّ صفةً بمعنى صاحب الغيرة ، ولا يناسب المقام .

وذكر الفاضل شارح التوحيد بالباء الموحّدة بعد المعجمة .(4) .

ص: 431


1- يآس (36) : 82 .
2- شرح الأسماء الحسنى لملاّ هادي السبزواري ، ج 1 ، ص 67 .
3- الأعراف (7) : 143 .
4- شرح توحيد الصدوق لقاضي سعيد القمّي ، ج 1 ، ص 136 .

في المصادر : «الغبور : باقي ماندن وماضي شدن» .(1)

وفي القاموس : «غبر غبور : أمكث وذهب» .(2)

قال الشارح :

فيصير المعنى أنّ بقاءه سبحانه هو الذي يحدّد وجود ما سواه ، ويجعل كلّ واحد في درجته ويعيّن له مرتبة وجوده ؛ إذ ببقائه يستبقي كلّ شيء على حسب استعداده ، وبدوامه دامت السماوات والأرض . وفي الخبر : «لا يتقدّم متقدّم إلاّ باللّه ، ولا يتأخّر متأخّر إلاّ به» .(3)

قوله عليه السلام : «فقد جهل اللّه من استوصفه» .

في القاموس : «استوصفه لذاته : سأله أن يصف له ما يتعالج به» .(4) ومثله في الصحاح.(5)

وفي تاج المصادر : «الاستيصاف : وصف كردن خواستن» . هذا ما ذكره أهل اللغة .

وقال الفاضل شارح كتاب التوحيد :

يُحتمل أن يكون معنى استوصفه : جعله ذا وصف بإثبات الأوصاف له ، كما قيل في حديث العقل : إنّ «استنطقه» بمعنى جعله ذا نطق .(6)

أقول : الأحوط أن يقتصر على ما ذكروا وأن يقال : المراد بالاستيصاف جعله سبحانه عرضةً لأن يطلب كيفيّته ، وظاهر أنّ من جعله سبحانه كذا فقد جهله ، ولم يدر أنّه منزّه عن الكيفيّات .

وفي خطبة اُخرى له عليه السلام كتبها لفتح بن يزيد الجرجاني: «ومن قال: كيف؟ فقد استوصفه».(7)

قوله عليه السلام : «ومن قال : متى ، فقد وقّته». في شرح التوحيد : «أي جعله ذا وقت ؛ لأنّ .

ص: 432


1- تاج المصادر، ج 1، ص 22.
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 99 (غبر) .
3- شرح توحيد الصدوق لقاضي سعيد القمّي ، ج 1 ، ص 137 .
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 204 (وصف) .
5- الصحاح ، ج 4 ، ص 1439 (وصف) .
6- شرح توحيد الصدوق لقاضي سعيد القمّي ، ج 1 ، ص 138 .
7- التوحيد ، ص 570 ، ح 14 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 284 ، ح 17 . وراجع : نهج البلاغة ، ص 211 ، الخطبة 152 .

«متى» سؤال عن الزمان ، وكان اللّه ولم يكن معه شيء ، وذلك ثابت له أزلاً وأبدا» .

فنقول : من قال : الآنَ كما كان ، كلام شعريّ ؛ لأنّه فهم من «كان» المضيَّ .

أقول : روى الصدوق - طاب ثراه - في أواسط باب نفي الزمان والمكان من كتاب التوحيد بالإسناد عن الإمام موسى بن جعفر عليهماالسلام أنّه قال : «إنّ اللّه تبارك وتعالى كان لم يزل بلا زمان ولا مكان ، وهو الآنَ كما كان ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشتغل به مكان ، ولا يحلّ في مكان» الحديث .(1)

والمراد أنّ نسبة كونه تعالى إلى مواضي الأزمان كنسبته إلى الآنَ لا تتفاوت ؛ لأنّه ليس بزمانيّ ، أي ليس الأزمنة ظرفا لكونه حتّى يكون له المضيّ وغير المضيّ ، بل هو فاعل الزمان ، وكونه تعالى في الآنَ هو بعينه الكونُ الذي قبل خلق الزمان ، ولا كيف لكونه ؛ لأنّ كونه الحقيقيَّ هو نفس ذاته المقدّسة عن الكيف ، والكون المنتزع له سبحانه من آثاره صفة إقرار اضطراريا به لمصلحة أن يخرجه من التعطيل مقترنا بنفي التشبيه . ولعمرك كلّما زدتُ في الإيضاح زادت الأوهام حيرةً ، كما قال الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهماالسلام في دعاء صلاة الليل من الصحيفة الكاملة : «ضلّت فيك الصفات ، وتفسّخت دونك النعوت ، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام ، كذلك أنت اللّه الأوّل في أوّليّتك ، وعلى ذلك أنت دائم لا تزول» الدعاء .(2)

قوله عليه السلام : «ومن غيّاه فقد غاياه» .

الذي في القاموس : «غايا القوم فوق رأسه بالسيف : أظلّوا» .(3)

وفي المجمل : «الغيابة كالغبرة والظلمة تغشى ، ويُقال : تغايا القوم فوق رأس فلان بالسيوف، كأنّهم أظلّوه بها» .(4)

هذا ما وجدنا في كتب اللغة ، وإذ حُرم القوم عن تتبّع آثار أهل الذِّكر الذين اُمروا بالسؤال إيّاهم ، لم يظفروا بمعنى يناسب المقام . .

ص: 433


1- التوحيد ، ص 178 ، ح 12 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 327 ، ح 27 .
2- الصحيفة السجّاديّة ، ص 146 ، الدعاء 32 .
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 372 (غوى) .
4- راجع : مجمل اللغة ، ج 4 ، ص 25 (غيب) .

قوله : «لا يتغيّر اللّه بانغيار المخلوق» .

الانغيار : هو الحركة في الغيريّة ، وكلّ متحرّك يتغيّر من حالة إلى حالة حسبَ تحريك محرّك وتغييره ، فالمحرّك أيضا يتحرّك ويتغيّر لا محالة ، ولكن إذا كان تحريكه التحريكَ الذي نرى ونشاهد ، وإذ لا يمكن أن يتسلسل التغيّرات لا إلى نهاية، فلابدّ أن تنتهي ، فهناك مغيّر غير متغيّر ومحرِّك غير متحرِّك قطعا ، فذلك التحريك هو فعل اللّه الذي لا تصل إليه العقول ولا تعلم كنهه ، وإنّما اضطرّت على الإقرار بتحقّقه، ولا تدري كيف هو كما هو الشأن في فاعل ذلك الفعل (نظم) :

راه يابندگان ستراَلَست بيش ازين پى نبرده اند كه هست

وفي المجلس الرابع من كتاب توحيد المفضّل : «الحقّ الذي تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه :

فأوّلها : أن ينظر أ موجود هو أم ليس بموجود ؟

والثاني : أن يعرف ما هو في ذاته وجوهره ؟

والثالث : أن يعرف كيف هو ؟ وما صفته ؟

والرابع : أن يعلم لماذا هو ؟ ولأيّة علّة ؟

فليس من هذه الوجوه شيء يمكن المخلوقَ أن يعرفه من الخالق حقَّ معرفته غير أنّه موجود فقط ، فإذا قلنا : وكيف؟ وما هو؟ فممتنع علم كنهه وكمال معرفته به ، وأمّا لماذا هو؟ فساقط في صفة الخالق ؛ لأنّه جلّ ثناؤه علّة كلّ شيء ، وليس شيء بعلّة له ، ثمّ ليس علم الإنسان بأنّه موجود موجب له أن يعلم ما هو؟ وكيف هو ؟ كما أنّ علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي؟ وكيف هي ؟ وكذلك الاُمور الروحانيّة اللطيفة.

فإن قالوا : فأنتم الآنَ تصفون من قصور العلم عنه وصفاته(1) كأنّه غير معلوم .

قيل له : هو كذلك من جهةٍ إذا رام العقل معرفة كنهه والإحاطَة به ، وهو من جهة».

ص: 434


1- في المصدر : «وصفا حتّى» بدل «وصفاته».

اُخرى أقرب من كلّ قريب إذا استدلّ عليه بالدلائل الشافية ، فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد ، وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد ، وكذلك العقل أيضا ظاهر بشواهده ، مستور بذاته» .(1)

قوله عليه السلام : «كما بتحديد المحدود» .

قال الفاضل شارح التوحيد :

تحديد المحدود هو تعيين درجة وجوده ، وتشخيص أوّله وآخره ، وتقدير أجله ، والمعنى أنّه - جلّ مجده - لمّا كان هو المعيّن لدرجات كلّ موجود ، وليس له ابتداء ولا انتهاء ، فلا حدّ له بذاته ، ولا يتّحد بذلك التحديد أيضا ؛ لأنّه خارج عن أجناس المهيّات وحقائق الموجودات ، فلا يتّصل بوجوده شيء ، وليس بعده شيء كما لم يكن قبله شيء ، وليس تحديده الشيءَ بأن يجعله في ثاني مرتبته كما الأمر في جميع العلل - التي سواه - ذلك ، حتّى يتّحد بتحديد ذلك الشيءَ ، بل هو محيط بكلّ شيء ، ولا يخرج عن ملكه شيء ، فكيف يكون له ثانٍ؟(2)

قوله عليه السلام : «أحدٌ لا بتأويل عدد» .

قال الفاضل شارح التوحيد :

أي أحديّته ليست عدديّةً بأن يؤول ويرجع إلى العدد ، ويصيرَ مع فرض واحدٍ آخر معه اثنين ؛ إذ الاثنان من حيث هما اثنان لابدّ وأن يشتركا في ذاتيّ أو عَرَضي ، وأقلّ ذلك صدق العدد العارض لهما ، والعرضي يجب أن يستند إلى الذات ، فيلزم كون البسيط قابلاً وفاعلاً ، أو إلى الذاتيّ المشترك ، فيلزم التركيب .

وسرّ ذلك ما قلنا مرارا من أنّ الكلّ بالنسبة إليه - عزّ شأنه - مستهلك باطل، فليس معه شيء حتّى يكون ثانيا له ، فليست وحدته عدديّةً يتألّف منها الأعداد ، وسيجيء زيادة بسط لذلك .(3)

يعني في تفسير سورة التوحيد . .

ص: 435


1- توحيد المفضّل ، ص 179 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 148 .
2- شرح توحيد الصدوق لقاضي سعيد القمّي ، ج 1 ، ص 143 .
3- شرح توحيد الصدوق لقاضي سعيد القمّي ، ج 1 ، ص 144 .

وفي ذلك يقول الحكيم (نظم) :

احدست و شُمار از او معزول *** صمدست ونياز از او مخذول

آن احد نه كه عقل داند و فهم *** آن صمد نه كه حسّ شناسد و وهم

كس نگفته صفات مبدع هو *** چند و چون و چرا چه و كى و كو

قوله عليه السلام : «ظاهر لا بتأويل المباشرة» .

قال الفاضل المحقّق شارح التوحيد :

ظهور الأشياء إمّا بالمباشرة الحسّيّة كما في الجسمانيّات ، أو بالمباشرة المعنويّة كما في اتّصال العلل الممكنة إلى معلولاتها ؛ فإنّها متّصلة من حيث اشتراكها في الأجناس البعيدة أو الأعراض المشتركة ، ومن حيث إنّ اُفق كلّ عالم يتّصل وينتهي إلى عالمٍ فوقَه إلى أن ينتهي إلى الاُفق المبين الذي في العالم الأعلى العقلي .

وأمّا الباري سبحانه ، فلمّا كان مباينا من جميع الجهات لكلّ ما سواه ، وليس بخارج ولا داخل في العوالم ، فهو ظاهر لا بمباشرة حسّيّة ، أو اتّصال معنوي ، وإنّما ظهوره بأن لا ظاهر غيره ، فكلّ شيء فهو ظاهر سبحانه .(1)

أقول : في دعاء عرفة للحسين بن عليّ عليهماالسلام : «كيف يستدلّ عليك بما هو في ظهوره(2) مفتقرٌ إليك؟ ألغيرك(3) من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهرَ لك؟ متى غبت حتّى تحتاج إلى دليلٍ يدلّ عليك؟ ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عينٌ لا تراك قريبا(4) ، وخسرت صفقةُ عبدٍ لم تجعل له من حبّك نصيبا» .(5)

ثمّ أقول : الخفيّ في ذاته العدم الصرف ، وسائر الخفيّات خفي من النظر الحسّي أو العقلي ، أي الإدراكات العقليّة والحسّيّة التي يندرج فيها الإدراك بالمشاعر الباطنة ، والظاهر في حدّ ذاته هو الوجود العامّ البديهي .

لستُ أقول : إنّه ظاهر في حدّ ذاته بمعنى أنّه لذاته ومن ذاته أي غير محتاجٍ ، بل بمعنى أنّ ظهوره بذاته أي ليس بالعرض ، والخفيّ من النظر له شمّة من الظاهر في حدّ .

ص: 436


1- المصدر ، ص 145 .
2- في المصدر : «في وجوده» .
3- في المصدر : «أ يكون لغيرك» .
4- في المصدر : «عميت عين لاتراك ، ولاتزال عليها رقيبا» .
5- الإقبال ، ص 349 ؛ بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 142 .

ذاته لا محالة ، ولمّا رأينا الظاهرات طبائعَ محتاجةً إلى الظهور ، والظهور طبيعة نعتيّة محتاجة إلى من تقوم به ، اضطرّت عقولنا إلى الإقرار بمحتاج إليه غير خفيّ في حدّ ذاته، أي خارج عن العدم ، وظاهر لذاته أي لا بظهور نعتيّة حتّى يصحّ أن يتحقّق الظاهر بظهورٍ نعتيّة محتاجة إلى المنعوت إلى أن تقوم به ، وإلى الظاهر لذاته في أن يقيمها فيه ، وظاهر أنّ الظهور لذاته الظاهر بالظهور - الذي ليس ظاهرا لذاته المحتاج في كونه ظاهرا بهذا الظهور - ظلّ الظاهر لذاته .

وفي هذا المعنى قال من قال (نظم) :

هر آن نورى كه ازمه تا به ماهى است *** شعاع نور اسماى الهى است

بر او عقل از جهانى مستدلّ است *** كه ظلّ ظلّ ظلّ ، ظلّ ظلّ است

چه نسبت سايه را با شخص قائم *** چه شركت ذرّه را با نور دائم

بر آن درگه ندارد ديد كس بار *** برو بر خوان : «ولا تدركه الأبصار»(1)

چو ذاتش مطلق است از شى ء ولا شى ء *** نه ذاتست آن بگو «استغفر اللّه»

منزّه از كم و كيف وهل و لم *** چه صورت باشدش در علم عالم

مبرّا از جهات و جا و مأوى *** كجا در گوشه خاطر كند جا

هر آنچه آيد بدست وَهْم از آن ذات *** مشوب است آن بشوب اعتبارات

نبود اين ديده را چون تاب آن نور *** شد از فرط ظهور خويش مستور

قوله عليه السلام : «مُتَجَلٍّ لا باستهلالِ رُؤيَةٍ» .

في الصحاح : «اُهلَّ الهلال واستُهلّ ، على ما لم يسمّ فاعله ، ويُقال أيضا : استهلّ بمعنى تبيّن».(2) فالمعنى أنّه متجلٍّ لمن تجلّى ، لا بأن يتبيّن له من جهة الرؤية ؛ والإضافة تصحّ بأدنى ملابسة .

قوله عليه السلام : «موجودٌ لا بعد عَدَمَ» .

إطلاق لفظ «الموجود» على اللّه تعالى كإطلاق سائر الأسماء الحسنى في أنّه باعتبار استحقاقه له بنفس الذات المقدّس عن شوب الكثرة ، وكونِ بحت الذات قائما مقام .

ص: 437


1- . اشارة إلى الآية 103 من سورة الأعراف (6) .
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 1852 (هلل) .

المبدأ ، والاستحقاق باعتبار ترتّب معناه المعروف وغايته على الذات ، والتعمّق في أنّ الذات الأقدس فرد حقيقي له بأن يكون الوجود تمام الحقيقة المقدّسة ، وامتاز عن سائر الأفراد بقيامه بذاته ، أو فرد عرضي بأن يكون عرضا عامّا بين الممكن والواجب من الفضول التي سمّي في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام المذكورة سابقا ترك التعمّق فيها رسوخا في العلم ، فهو موجود خارج عن حدّ التعطيل لا بعد عدم ، بمعنى غير داخل في حدّ التشبيه .

قوله عليه السلام : «فاعِلٌ لا بالاضطرارٍ» .

في خطبة من خطب نهج البلاغة : «فاعل لا باضطرار» .(1)

وقال الفاضل شارح التوحيد :

اعلم أنّ كلّ علّة من العلل العقليّة والطبيعيّة فإنّما يفعل بقضاء حتم حُكم عليه، ووجوبٍ سابق سُبق إليه سبق من اللّه إليه ، وكذلك جرت سنّة اللّه التي لا تبديل لها ؛ «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه ِ تَبْدِيلاً»(2) ، «وَلَنْ تَجِدُ لِسُنَّةِ اللّه ِ تَحْوِيلاً»(3) وذلك لأنّ اللّه - عزّ برهانه - أودع في كلّ حقيقة من الحقائق ما لا يمكنه إلاّ أن يظهر في الوجود الآثار ، وأن يؤدّى الأمانة إلى أهلها من الأبرار والفجّار ، وأمّا اللّه - عزّ شأنه - فليس يفعل بأن وجب عليه ، ولا بأن يضطرّ في خلق ما خلق ؛ وذلك لأنّ ذلك الوجوب إمّا ناشٍ من اللّه سبحانه أو من غيره ، وإذ لا أثر للغير فلا معنى لكون اللا شيء مؤثّرا ، مع أنّه يلزم تأثّره - عزّ شأنه - من الغير ، وكذا لا يسأل إلى كون الوجوب ناشئا من الذات ، سواءً كان من الذات من حيث هي هي أو من صفة من صفاتها ، وإلاّ لكان الواحد من جميع الجهات فاعلاً وقابلاً ؛ إذ هو من حيث إنّه موجِب - على اسم الفاعل - غيرُه من حيث إنّه موجَب - على اسم المفعول - فيتكثّر الجهات ، وذلك ينافي أحديّة الذات .

وأيضا من المحقَّق عند أهل الحقّ أنّه سبحانه لايوجب شيئا ، ولا يقتضيه ، ولا يلزم هو شيئا ، ولا يلزمه شيء ؛ وذلك لأنّ المقتضي للشيء والموجِب له بذاته لابدّ وأن يستكمل به . .

ص: 438


1- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
2- الفتح (48) : 23 .
3- الأحزاب (33) : 62 .

وأيضا لو كان كذلك لكان النسبة إلى الغير نفسَ ذاته ، أو داخلاً في ذاته ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا .

وأيضا لو كان وجب عليه شيء بنفس الذات لكانت المعلولات في مرتبة الذات، كيف ؟ ولا يجوّزون ذلك - أي كونَ الشيء واجبا على شيء بنفس الذات - في سائر الممكنات كما يقولون في المهيّة من حيث هي إنّها ليست إلاّ حيث هي حتّى كانت لوازمها في تلك الرتبة مقطوع النظر منها ، وأباحوا ذلك في الواحد الحقّ ؛ تعالى من ذلك علوّا كبيرا .

نعم ، الأشياء إنّما تجب بذواتها؛ لأنّه سبحانه حكم بوجودها وأمر بشهودها ، إذ لا رادّ لقضائه ، ولا معقّب لحكمه ، ولا أنّها وجبت به سبحانه ، وفرق ما بينهما بُعد ما بين الأرض والسماء ، وكلّ شيء إنّما يجب بما يجب ، فيوجَد عن اللّه تعالى ؛ إذ الكلّ يصدر عن أمره ، ولا يجب عليه سبحانه شيء بوجه من الوجوه .

وهذا من أسرار علم الربوبيّة ، والناس من ذلك في مِرية ، ولا تُصْغِ إلى قول اُولئك المتفلسفة المختلفة الأهواء ؛ فإنّهم ضلّوا وأضلّوا كثيرا ، وإيّاك أن تلتفت إلى أهواء هؤلاء المبتدعة الأشرار : «وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ»(1) .

أقول : ذكر الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام في توحيد المفضّل في المجلس الرابع بعد إثبات أنّ الأشياء كلّها تحت تدبير الحكيم القدير : «أنّ الذي سمّوه طبيعةً هو سنّته في خلقه ، الجاريةُ على ما أجراها عليه»(2) فتدبّر ثمّ تبصّر .

قوله عليه السلام : «لا تقيّده الأدوات» .

قال الفاضل شارح التوحيد :

الأدوات هي التي بها يتأتّى فعل الفاعل ويتمكّن من الفعل ، سواء كانت آلةً جسمانيّة كآلات الصانعين ، أو قوّةً جسمانيّة كقوى الحيوان والنبات والآدميّين ، أو ملكةً راسخة كملكات الشعراء والكاتبين ، أو حيثيّةً ذاتيّة كما للملائكة المهيمنين .

ولا ريب أنّ هذه الاُمور قيودات الفاعل بها حيث لا يقدر كلّ واحد من هؤلاء الفواعل على فعل ليس فيه أدواته ، كما أنّ الكاتب لا يقدر من جهة ملكة الكتابة على الشعر ، ولا .

ص: 439


1- شرح توحيد الصدوق لقاضي سعيد القمّي ، ج 1 ، ص 147 - 149 . والآية في سوره هود (11) : 113 .
2- توحيد المفضّل ، ص 55 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 67 .

بالقوّة الباصرة على ما هو شأن القوى الاُخر ، ولا النجّار على فعل الخيّاط من حيث ملكة النجارة ، وهكذا الأمر في سائر المبادئ بلا تفرقة ، واللّه سبحانه فاعل بالإطلاق ، وفعله مطلق ؛ بمعنى أنّه ليس فيه - عزّ شأنه - حيثيّة أو جهة هي جهة صدور فعل دون آخر ، وإلاّ لكان فيه جهة دون جهة ، وذلك ممتنع ؛ لاستلزام ذلك اختلاف جهاته بالنسبة إلى الأشياء وبالقرب والبُعد والاقتدار وعدمه ، فهو جلّ سلطانه لا يقيّده الأدوات بهذا المعنى ، وأظنّك ما سمعت بهذا التحقيق من غيرنا ؛ ففتّن به .(1)

قوله عليه السلام : «بتشعيره المشاعر عُرف أن لا مشعر له» .

قال الفاضل شارح التوحيد :

هذا وما بعدها من الفقرات إنّما يبتني على قاعدة شريفة وأصل أصيل :

أمّا القاعدة : فهي أنّ الفاعل المستغني بذاته عن كلّ شيء لا يوصف بالشيء المعلول له ؛ إذ الوصف يدلّ على الكمال والوجود كما في الخبر ، فيستكمل هو بخلقه ، وذلك ينافي الغنى الذاتي .

وأمّا الأصل : فهو أنّ فاعل الشيء يجب أن لا يكون فيه شيء من معلوله بأن يكون هو سنخا له ؛ وذلك لأنّ الحقّ في الجعل إنّما هو جعل الطبائع - كما هو صريح في قوله : «بتشعيره المشاعر» - جعلاً بسيطا حتّى توجد مشاعر ، فجاعل الطبيعة النوعيّة إنّما يجعل جنسها مقيّدا بالفصل ؛ إذ لا وجود له إلاّ بذلك الفصل ؛ لأنّه يعيّن الجنس ، فإذا كان ذلك الجنس المعلول حاصلاً في العلّة ، يلزم علّيّة الشيء لنفسه ، ولا مجال هاهنا للقول بأنّه علّة لذلك الجنس في ضمن هذا الفرد ؛ إذ قد قلنا: إنّ المجعول بالذات هو الطبيعة ، والفرد مجعول بالعرض ببراهينَ ليس هنا محلّ ذكرها .

وبالجملة ، لو كان من المعلول سنخ في العلّة ، لزم كون الشيء معلولاً لنفسه ، وذلك ممتنع ؛ فبتشعير اللّه المشاعر وجعله إيّاها عرف العارفون باللّه أن لا مشعر له ، لا جنسه ولا سنخه ، فالعلّة مباينة للمعلول بتمام ذاتها وحقيقتها ؛ وليذهب الحسن يمينا وشمالاً .(2)

قوله عليه السلام : «وذلك قول اللّه عزّوجلّ : «وَمِنْ كُلِّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»»(3) . .

ص: 440


1- شرح توحيد الصدوق ، ج 1 ، ص 155 - 156 .
2- شرح توحيد الصدوق ، ج 1 ، ص 157 - 158 .
3- الذاريات (51) : 49 .

قال الفاضل شارح التوحيد :

ذلك إشارة إلى دلالة المتفرّق على المفرّق ، والمؤتلف على المؤلّف ، فالزوجان أعمّ من أن يكونا ضدّين؛ إذ كمال التباين من أنحاء التشاكل ، أو يكونا جنسا وفصلاً ، أو مهيّة ووجودا ، أو إمكانا ووجوبا ، أو قوّة وفعليّة ، أو عقلاً ونفسا ، أو صورةً ومادّةً ، أو ذكرا واُنثى ، إلى غير ذلك من الازدواجات الواقعة بين الأشياء الممكنة ، إذ الممكن زوج تركيبي ، والتركيب مؤذن بالفقر ، واللّه تعالى جعل الممكن كذلك ليتذكّر اُولوا الألباب أنّه سبحانه منزّه عن جميع أنحاء التركيب ، منزّه عن اتّخاذ الصاحبة والشريك .(1)

قوله عليه السلام : «ففرّق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد» .

قال الفاضل شارح كتاب التوحيد :

الباء إمّا للظرفيّة - أي فرّق في الأشياء بين قبل وبعد - وإمّا للسببيّة، أي بسببها ؛ لأنّها معنى تحقّق القبليّة والبعديّة . والمعنى أنّ اللّه تعالى بسبب إيجاد الموجودات ميّز بين القبل والبعد ؛ إذ لو لم يوجد الأشياء على الترتيب السببي والنظم الطبيعي لم يتحقّق القبليّة والبعديّة ، فتحقّق القبل والبعد إنّما يكون بوجود الأشياء ، أمّا هو سبحانه فهو قبل القبل بلا قبل ؛ بمعنى أنّه موجد القبل في الأشياء ، فلا أثر للقبليّة فيه ، ولذلك دلّت القبليّة والبُعديّة على أنّه سبحانه لا يوصف بهما ؛ إذ فاعل الشيء لا يوصف به ، فكما أنّه موجود لا كالموجودات ، وشيء لا كالأشياء ، فهو قبل لا كالشيء الذي هو بعد ، وكذلك في سائر الأحكام ؛ وهذا هو التوحيد الحقيقي ، فافهم .

وهذا الذي قلنا إنّما هو على ما يكون قبل وبعد في المقامين بمعنى القبليّة والبعديّة، وهو حقّ المعنى . ويُحتمل أن يكون بمعنى الشيء ذي القبليّة والبعديّة ، فالمعنى أنّه فرّق بين المتأخّر والمتأخَّر بأن جعل قبل الثاني ، والثاني بعد الأوّل ليعلم أن لا شيء قبله ولا شيء بعده ؛ إذ لو كان كذلك لزم أن يكون لذلك علّة ، فإن كانت العلّة هو عزّ شأنه فهو المتقدّم ؛ هذا خلف . وإن كان ذلك المتقدّم فهو أولى بالاُلوهيّة ، وإن كانت ثالثا فكذلك ، مع أنّه ثبت بالبراهين انتهاء العلل إليه سبحانه .(2)

قوله عليه السلام : «شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها» . .

ص: 441


1- شرح توحيد الصدوق ، ج 1 ، ص 161 .
2- المصدر، ج 1 ، ص 161 - 162 .

قال الفاضل شارح التوحيد :

الغريزة : الطبيعة ، وهي التي بها يصير الشيء ذا آثار مخصوصة ، أعمَّ من أن يكون مزاجا أو غيره ، وكلّ شيء سواه جلّ برهانه فإنّما له شيء بسببه يصير مبدأً للآثار المختصّة به ، ما خلا اللّه سبحانه ، فإنّه الفاعل المطلق ، وفعله مرسل لا يختصّ بشيء دون شيء ؛ إذ العالَم صُنعه بكلّه ، وهو خالق كلّ شيء ولا يؤوده حفظ شيء ، فالأشياء بطبائعها الخاصّة بها لا تتجاوزه عن الأفاعيل المأمورة بها ، والمقامات المعلومة لها شاهدة على أنّ مغرزها - أي جاعلَها ذواتِ غرائزَ - ليس له غريزة وإلاّ لاختصّ فعله بشيء دون شيء ، وليس كذلك ؛ إذ العقل الذي هو أوّل شيء من أفعاله سبحانه مشتمل على كلّ شيء ، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إلى ما لا أسفل منه ، فهو فعله وصنعه . وسيأتي زيادة توضيح لذلك إن شاء اللّه .(1)

قوله عليه السلام : «دالّة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها» .

قال الشارح الفاضل صاحب التوحيد :

المفاعلة على معنى الجعل والتصيير كالتفعيل فيما سبق من المغرّز ، وفي بعض ما سيأتي من المباين وغيره ، والمراد بالتفاوت إنّما هو تفاوت الشيء الواحد بالنقص إلى أن يستكمل ، وبالقوّة إلى أن يخرج إلى الفعل ، وبالضعف إلى أن يشتدّ ، وبالنقصان إلى أن يزيد ، ولا يخلو من واحد منها ممكن مفارق أو مقارن ، وأقلّ ذلك أنّ القوّة الإمكانيّة تحتاج إلى أن تخرج إلى فعليّة الوجوب ، واللّه سبحانه هو المخرج إيّاها من قوّتها إلى 1فعلها ، ومن نقصانها إلى كمالها إلى غير ذلك ، فلا يوصف بالتفاوت بالقاعدة المذكورة .

وأيضا لو كان هو كذلك لاحتاج إلى مخرج آخَر ، وهو محال ؛ إمّا للخلف ، لأنّه قد فرض أنّ جميع ما هو بالقوّة فإنّما يحتاج إلى مخرج هو بالفعل من جميع الوجوه ، وإلاّ لكان هو من جملة هذا المجموع ، وإمّا لاستحالة التسلسل كما هو المشهور .(2)

قوله عليه السلام : «ولا تحجبه لعلّ» .

قال الفاضل الشارح للتوحيد :

كلمة «لعلّ» للترجّي إلى جلب محبوب أو دفع مكروه ، والرجاء إنّما يكون لمن لم يصل .

ص: 442


1- شرح توحيد الصدوق ، ج 1 ، ص 162 - 163 .
2- المصدر ، ج 1 ، ص 163 .

إلى شيء لا محالة ، وذلك إنّما يكون لوجود مانع عن ذلك ، وأيّا ما كان فإطلاق الحجاب على كلمة «لعلّ» من قبيل إطلاق اسم السبب على المسبّب ، أي ليس له سبحانه حالة منتظرة حتّى تتوقّع حصوله ويترجّى وقوعه ؛ لكونه ممنوعا عنه ، محجوبا عنه .(1)

قوله عليه السلام : «ولا تشمله حينَ ، ولا تقارنه مع» .

قال الفاضل شارح التوحيد :

لا يشمله حينَ - بالبناء على الفتح - إذ الأحيان إنّما تحيط بالزمانيّات وتشملها ، وأمّا ما ليس وجوده في زمان فلا يشمله حين ، ولا يقال عليه : هو كذا حين كان كذا .

والفرق بين «متى» و«حين» أنّ متى لزمان الوجود ، وحين لزمان الوصف ، وكلمة مع للمقارنة ؛ ولا يقارنه سبحانه شيء حتّى يقارنه مع ؛ أي يجعله قرينا لشيء ، أو يقرن تلك الكلمة به سبحانه .(2)

قوله عليه السلام : «إنّما تحدّ الأدوات أنفسها ، وتشير الآلة إلى نظائرها» .

قال الفاضل شارح التوحيد :

اللام في «الأدوات» و«الآلة» للعهد ؛ أي هذه الحروف إنّما تستلزم التحديد والإشارة ؛ لأنّها تجعل الشيء المقول عليه محدودا بالزمان أو المكان أو المرتبة ، مشارا إليه بالإشارة الحسّيّة أو العقليّة ، واللّه سبحانه يستحيل عليه الحدّ والإشارة مطلقا ، فالأدوات المذكورة إنّما تحدّ أنفسها من الأشياء المخلوقة ، وتشير تلك الآلات إلى نظائرها من الاُمور المحدودة ، ويحكم عليها وتخبر عنها وتستعمل فيها .

وأمّا اللّه سبحانه ، فهو مقدّس من أن تشير إليه هذه الأدوات ، وتستعمل فيها كما بيّنّاه .

و«في الأشياء توجد فعالها» أي من الأشياء الممكنة المحدودة يتحقّق آثار تلك الأدوات ، ويتصحّح إطلاق هذه الآلات ، وليس لها في جبروت مجده سبحانه من سبيل ، ولا لها إلى تلك الحضرة من دليل .

«منعتها منذ القدمة ، وحمتها قد الأزليّة ، وجنّبتها لولا التكملة». منعتها للبيان ، أي تحقّق آثار تلك الآلات في الأشياء هو أنّها منعتها إلى آخره .

وتأنيث الأفعال الثلاثة لكون فواعلها الكلماتِ الثلاثَ وضمير مفاعيلها الاُوَل يرجع إلى .

ص: 443


1- المصدر ، ج 1 ، ص 170 .
2- المصدر ، ج 1 ، ص 171 .

الأشياء ، والقدمةُ والأزليّة والتكملة مفعولاتها الثواني .

و«جنّبتها» على صيغة التفعيل ، والتجنّيب جعل الشيء في جانب . والمعنى : منعت كلمة «منذ» - أي إطلاقها عليها - عن أن يكون الأشياء قديمةً ؛ إذ منذ تدلّ على الابتداء، والقدمُ ينافي الابتداء .

«حمت» أي دفعت كلمة «قد» التقريبيّة الأشياءَ عن الأزليّة بمعنى أنّ إطلاق «قد» على الأشياء دفعتها عن مرتبة الأزل ؛ إذ التقريب إنّما هو بالنسبة إلى الزمان .

و«جنّبتها» أي جعلت الأشياء في جانب عن الكمال كلمةُ «لولا» التحضيضيّة ؛ إذ التحريض على الشيء إنّما يكون لفاقده ؛ أو كلمة «لولا» الامتناعيّة حيث تطلق على الأشياء بأنّه لولا ذلك المانع لوصل هذا الشيء إلى كماله .

وبالجملة لما صحّ هذا الإطلاق هذه الأدوات على الأشياء الممكنة إزالتها عن المراتب العالية من القدمة والأزليّة والكمال والتماميّة «افترقت فدلّت على معرفتها، وتباينت فأعربت عن مباينها».

أعربت، أي أفصحت . والمباين على صيغة الفاعل ، وهو جاعل البينونة وموجد المباينة ، كما سبق في المفاوت . وقد عرفت وجه تلك الدلالة ، وهذا الإفصاح بها تجلّى صانعها للعقول ، أي بوساطة خلق الأشياء تجلّى صانعها للعقول حيث ترى العقول تلك الأشياءَ مظاهرَ صنع اللّه ، ومزايا نوره ، وجلايا ظهور أسمائه وصفاته، فتستدلّ بها على اللّه وصفاته وأسمائه ؛ إذ بالآثار والأعلام إنّما يستدلّ عليه تعالى وعلى أسمائه الحسنى ، وهؤلاء القوم اُشير إليهم في قوله تعالى : «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الاْآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(1) .

وأمّا العارفون بنور اللّه عزّ شأنه ، الفائزون بالمحبوبيّة التامّة ، فيقولون - كما ورد في دعاء عرفة عن سيّد الشهداء عليه ألف سلام وتحيّة وثناء - : «كيف يستدلّ عليه بما هو في وجوده مفتقر إليك ألغيرك(2) من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهرَ لك ؟».(3)

فهؤلاء لم يروا في الوجود إلاّ اللّه ، وما رأوا شيئا إلاّ ورأوا اللّه قبله ؛ إذ الأعيان إنّما هي في خفائها واستتارها ، وإنّما المظهِر لها والدليل عليها هو اللّه نور السماوات والأرض ، .

ص: 444


1- فصّلت (41) : 53 .
2- في المصدر : «أيكون لغيرك» .
3- الإقبال ، ص 349 ؛ بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 142 .

وزين السماوات والأرض ، وجمال السماوات والأرض ، وعماد السماوات والأرض . وإلى هؤلاء الأجلاّء صدر الخطاب في قوله تعالى : «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ»(1) ، ولهذا غيّر الاُسلوب عن الغيبة إلى الخطاب ، فهو سبحانه شهيد على التجلّي فيه والظهور ، وليس في قوّة العالم أن يدفع عن نفسه هذا الظاهر فيه ، ولا أن يكون مظهرا ؛ إذ هذا هو معنى الإمكان على التحقيق التامّ ، فلو دفع لكان مسلوبا عن نفسه ولو لم يكن حقيقة العالم الإمكانَ لما قبل نورَ الحقّ وظهورَ آثاره .

وفي النسخ «لِما تجلّي» باللام الجارّة و«ما» المصدريّة ، فيكون متعلّقا بقوله : «دلّت» و«أعربت» والمعنى: أفصحت عن اللّه لأجل تجلّي صانعها للعقول بواسطة هذه الأشياء؛ إذ هي مرايا ظهوره ، وبها احتجب عن الرؤية ، كما أنّ اللّه جلّ جلاله ظهر بالأشياء وفي الأشياء ، كذلك اختفى بها عنها ، وليس ذلك إلاّ اعتبارا بالأشياء ، ولذا قيل: بطن ما ظهر .

وعن أمير المؤمنين عليه السلام : «لا يجنّه البطون عن الظهور» .(2)

وعن بعض العرفاء : العجب كلُّ العجب أنّه تعالى ما ظهر بشيء من مظاهر أفعاله إلاّ وقد احتجب به ، فسبحانه من احتجب بنور ظهوره ، وظهر بإسداله ستره . انتهى .

وقيل في الشعر : «بدت باحتجاب واختفت بمظاهر» .

وقيل أيضا :

لقد ظهرت فلا تخفى على أحد *** إلاّ على أكمهَ لا يعرف القمرا

لكن بطنت بما أظهرت محتجبا *** وكيف يعرف مَن بالعرف استترا

هذا الذي قلنا إنّما هو على تقدير أن يكون الضمير في «بها» راجعا إلى «الأشياء» ويُحتمل أن يكون راجعا إلى «العقول» والمعنى : أنّ اللّه تعالى احتجب عن الرؤية بسبب العقول ؛ إذ ما دام الإنسان يعقل نفسه ويثبت وجودا و شيئيّة لذاته ، فهو بعيد عن رؤية اللّه تعالى ، بل عن رؤية ذكر اللّه ، كما قال عزّ شأنه : «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ»(3) .

«وإليه تحاكم الأوهام» أي إنّ تحاكم الأوهام وتنازعها إنّما ينتهي إلى الأشياء ، ولا يصل إلى اللّه سبحانه ؛ إذ الأوهام إنّما تحكم على ما يتصوّره من الأشياء المعروفة عندها ، واللّه .

ص: 445


1- فصّلت (41) : 53 .
2- نهج البلاغة ، ص 309 ، الخطبة 195 .
3- الكهف (18) : 24 .

أعظم من أن يوصف بها ، فكلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مثلكم مردود إليكم ، فالقابل بالبيّنة مع امتناعها في نفسها إنّما يحكم حسب ما يتصوّره ، وكذا القابل بالرحمة إنّما يثبت له ما يثبت لنفسه ؛ فتعالى اللّه عمّا يشركون .

ويُحتمل أن يعود الضمير إلى المفعول ، أي إنّ تنازع الأوهام والتخيّلات إنّما تنتهي إلى العقول ؛ إذ الوهم إنّما يكون في حكم العقل وتحت سلطانه ، فكلّ ما يدركه الوهم من الأشياء فإنّما يوصلها إلى العقل ، والعقل عاجز من إدراكه سبحانه ، فكيف حال الوهم .

«وفيها أثبت غيره» أي في الأشياء ما يدّعي إثباتَ غير اللّه حيث يزعمون أنّها على شيء ، وليسوا يدرون أنّها لا شيء محض وأعدام صرفة ، وإنّما هي مظاهر أنوار اُلوهيّة ، ومجالُ أحكام ربوبيّة ، ولا يملكون لأنفسهم ضرّا ولا نَفْعا ولا حياةً ولا نُشُورا ،(1) فإثبات الغير هو إسناد أمر من الاُمور إلى شيء غير اللّه ، وغير حوله وقوّته ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه .

ويمكن أن يكون المراد أنّ في النظر إلى الأشياء وتنقّلات أحوالها وتطوّرات أوضاعها أثبت أنّها غير اللّه ؛ إذ خالقها منزّه عن أوصافها ، ولا يكون مثلَها . وهذه العبارة كنظائرها يحتمل أن يكون ضمير «فيها» يرجع إلى العقول [أي [إنّ في العقول أثبت غير اللّه ؛ وذلك يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّ كلّ ما يحصل في العقل ويتوهّم أنّه هو اللّه ، فهو غير اللّه ، كما في الخبر : «كلّ ما ميّزتموه في أدقّ معانيه مخلوق مثلكم» .(2)

والثاني : أنّ في العقول أنّ هنا أشياءَ غيرَ اللّه ومنها أنبط الدليل . في القاموس: «كلّ ما اُظهر بعد خفاء، فقد اُنبط، واستُنبط مجهولين»(3) انتهى . أي ومن الأشياء استخرج الدليل على وجوده سبحانه ووحدته وسائر صفاته الحسنى وتقدّسه عمّا لا يليق بجناب الكبرياء .

ففي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد

قيل: هذه الآية هي أحديّة كلّ موجود ، سواء كان واحدا أو كثيرا ؛ فإنّ الكثير أحديّة).

ص: 446


1- إشارة إلى الآية 3 من سورة الفرقان (25).
2- راجع : بحار الأنوار ، ج 69 ، ص 292 .
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 378 (نبط).

الكثرة التي بها يتميّز عن غيره ، سواء كان ثمّة ما به اشتراك أو لا ، وهذه الأحديّة عبارة عن نسبة كون الشيء متعيّنا في علم الحقّ أزلاً ، فلمّا كشف للعبد بنور الإيمان أحديّةُ كلّ موجود ، علم منها قطعا بأنّ اللّه له أحديّة تخصّه لا كأحديّة غيره ، بل كأحديّةٍ غير عدديّة كما ستقف إن شاء اللّه تعالى ، وإذا كان ضمير «منها» يرجع إلى العقول ، فالمعنى أنّ من العقول السليمة استخرج الدليل على اللّه وصفاته الحسنى وأسمائه العليا .

وبالجملة ، فكما أنّ بالعقول يثبت غيره أي الأشياء ، كذلك من العقول يستخرج للدليل على أن لا إله غيره ، ولا موجود في الحقيقة سواه .

«وبها عرفه الإقرار». وفي أكثر النسخ: «عرّفها» وكأنّه من النسّاخ ، أي وبالأشياء عرف اللّه سبحانه عباده معرفةَ إقرار ، والإقرار هو أن يقرّ أنّ للعالم مبدأً ، وللطبيعة الممكنة التي هي القوّة المحضة مخرجا إلى الفعل ، ولا يشبه شيئا ، ولا يشبهه شيء .

قال بعض أهل المعرفة : أمّا إثبات وجوده فمدرك بضرورة العقل ؛ لوجود ترجيح الممكن بأحد الوجهين ، وأمّا أحديّة الذات فلا يعرف لها مهيّة حتّى يحكم عليها ؛ لأنّها لا تشبه شيئا من العالم ، ولا يشبهها شيء ، فلا يتعرّض العاقل إلى الكلام من ذاته إلاّ بخبر من عنده ، ومع إتيان أخباره فإنّا نجهل نسبة ذلك الحكم إليه ، لجهلنا به ، بل نؤمن على ما قاله وعلى ما يعلّمه هو ، فإنّ الدليل لا يقوم إلاّ على نفي التشبيه شرعا وعقلاً . انتهى .

وأمّا على نسخة الأصل فهو إنّما يصحّ إذا كان الضمير في «بها» راجعا إلى العقول ، كما هو أحد الاحتمالين ، وضمير «صرفها» إلى الأشياء ، أي وبالعقول يعرف الأشياء معرفة إقرار ، أسند المعرفة إلى الإقرار إشعارا بأنّ غاية ما يتصوّر - من معرفة حقائق الأشياء - هو الإقرار بأنّ هاهنا أشياءَ ممكنةً ، وإلاّ فالظاهر والباطن والأوّل والآخر هو اللّه لا شيء غيره .

«وبالعقول يعتقد التصديق باللّه» أي إنّ عقد التصديق باُلوهيّته ووحدانيّته واستجماعه الكمالاتِ الذاتيّةَ والصفاتيّة إنّما هو بالعقل حسبما فطره اللّه عليه ، والتصديق هو أن يعتقد بأنّ للعالم مبدأً ، ولكلّ شيء مبدأ .

وهذا هو الإقرار به سبحانه، كما أشار إليه عليه السلام بقوله : «وبالإقرار يكمل الإيمان» أي بذلك التصديق الذي قلنا: إنّه الإقرار المحض والمقايسة أنّ صرفه يحصّل الإيمان

ص: 447

الكامل، ويصير المعتقد بهذا الإقرار مؤمنا حقيقيّا كاملاً في الإيمان ؛ رزقنا اللّه الوصول إليه .(1)

انتهى ما أردنا نقله من شرح هذا الفاضل.

ونرجع إلى شرح ما في الكافي : (البصيرُ لا بأداةٍ ، والسميعُ لا بتفريقِ آلةٍ) . [ح 5 / 354]

روى الصدوق - طاب ثراه - في كتاب التوحيد بإسناده عن جعفر بن محمّد الأشعري ، عن فتح بن يزيد الجرجاني ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام أسأله عن شيء من التوحيد ، قال : فكتب بخطّه قال [جعفر] : وإنّ فتحا أخرج إليّ الكتاب ، فقرأته بخطّ أبي الحسن عليه السلام : «بسم اللّه الرحمن الرحيم ، الحمدللّه المُلهم عبادهَ الحمدَ ، وفاطرهم على معرفة ربوبيّته ، الدالّ على وجوده بخلقه ، وبحدوث خلقه على أزليّته(2) وباشتباههم على أن لا شبيه له(3) ، المستشهد بآياته على قدرته ، الممتنع من الصفات ذاته، ومن الأبصار رؤيته ، ومن الأوهام الإحاطة به ، لا أمد لكونه ، ولا غاية لبقائه ، لا تشمله المشاعر ، ولا تحجبه الحُجب ، والحجاب بينه وبين خلقه خلقه إيّاهم ؛ لامتناعه ممّا يمكن من ذواتهم ، ولإمكان ذواتهم ممّا يمتنع منه ذاته ، ولافتراق الصانع والمصنوع ، والربّ والمربوب ، والحادّ والمحدود ، أحدٌ لا بتأويل عدد ، الخالق لا بمعنى حركة ، السميع لا بأداة ، البصير لا بتفريق آلة ، الشاهد لا بمماسّة ، البائن لا بتراخي(4) مسافة ، الباطن لا باجتناب(5) ، الظاهر [لابمحاذ]، الذي قد حسرت دون كنهه نوافذ الأبصار ، وقمع(6) وجوده جوائل الأوهام ، أوّل الديانة معرفته ، وكمال معرفته توحيده ، وكمال التوحيد نفي الصفات عنه ؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة الموصوف أنّه غير الصفة ، وشهادتهما جميعا على أنفسهما بالتثنية(7) الممتنع منها ، فمن وصف اللّه تعالى فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبطل أزله ، .

ص: 448


1- شرح توحيد الصدوق لقاضي سعيد القمّي ، ج 1 ، ص 171 - 178 .
2- في المصدر : «أزله» .
3- في المصدر : «وبأشباههم على أن لا شبه له» .
4- في المصدر : «لاببراح» .
5- في المصدر : «لاباجتنان» .
6- في المصدر : «وامتنع» .
7- في المصدر : «بالبيّنة» .

ومَنْ قال «كيف» فقد استوصفه ، ومَن قال «علام» فقد حمله ، ومن قال «أين» فقد أخلى منه ، ومن قال «إلى م» فقد وقّته ، عالم إذ لا معلوم ، وخالق إذ لا مخلوق ، وربّ إذ لا مربوب ، وإله إذ لا مألوه ، وكذلك يوصف ربّنا وهو فوق ما يصفه الواصفون»(1) انتهى .

فتدبّر وتأمّل فإنّه جدير به ، سيّما قوله : «السميع لا بأداة ، والبصير لا بتفريق آلة» فإنّه إذا قيس بنسخة الكافي لم يَخْفَ ما هو الصواب منهما .

قوله : (بل وَصَفَتْهُ بفعاله ، ودَلَّتْ عليه بآياتِه) . [ح 7 / 356]

كما في قوله تعالى حكايةً عن قول فرعون : «وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ»(2) .

قوله : (فأنْجِعوا بما يَحِقُّ عليكم) . [ح 7 / 356]

أي فاطلبوا الثواب والأمن من العقاب بما يجب عليكم ، إلى آخره .

باب النوادر

باب النوادر

قوله : (وجَهِلَنا من جَهِلَنا وإمامةَ المتّقينَ) . [ح 3 / 359]

في كتاب التوحيد من باب تفسير قول اللّه عزّوجلّ : «كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ»(3) ، بالإسناد عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : «ونحن المثاني التي أعطاها اللّه نبيّنا صلى الله عليه و آله ، ونحن وجه اللّه نتقلّب في الأرض بين أظهركم ، عرفنا من عرفنا ، ومن جهلنا فأمامه اليقين» .(4)

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم : «ومن جهلنا فأمامه السعير».(5)

وسيأتي في باب أنّ الأئمّة عليهم السلام ورثوا علم النبيّ وجميع الأنبياء : «فهذه حجّتنا على من أنكر حقُّنا ، وجحد ميراثنا ، وما منعنا من الكلام ، وأمامنا اليقين» .(6)

فهذه كلّها شواهدُ على تصحيف ما في الكافي ، فالمعنى أنّ الموت سيكشف الغطاء، ويعلم علمَ العيان مَن المحقّ ومَن المبطل حيث لا ينفع الاعتذار . والتعبير عن

ص: 449


1- التوحيد ، ص 56 ، ح 14 .
2- الشعراء (26) : 23 - 24 .
3- القصص (28) : 88 .
4- التوحيد ، ص 150 ، ح 6 .
5- تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 377 .
6- الكافي ، ج 1 ، ص 224 ، ح 2 .

الموت باليقين تأسٍّ بقول ربّ العالمين حيث قال : «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ»(1) مع ما فيه من لطف الموقع .

قوله : (وهو الذي خَلَقَهما وأشباههما)(2) . [ح 6 / 374]

في بعض النسخ : «خلقهما وأنشأهما» . وفي كتاب التوحيد : «وأحدثهما وأنشأهما».(3)

قوله : (ونحنُ ولاةُ أمرِ اللّه) . [ح 7 / 375]

إن كان المراد بالأمر أمر الإمامة ، فالإضافة من باب حَبّ الرمّانة .

باب البداء

باب البداء

قوله : (وأخْبَرَه بالمحتومِ من ذلك ). [ح 14 / 382]

علمه صلى الله عليه و آله بكونه محتوما بإخبار اللّه بتعلّق المشيّة الحتميّة به ؛ إمّا صريحا ، أو بدلالة الاستثناء فيما سوى ذلك . والمراد بالاستثناء ما يدلّ على التعلّق بالمشيّة ، كقول : «إن شئت». ولعلّ تسمية هذا التعليق بالاستثناء باعتبار وقوع كلمة «إلاّ» في قوله تعالى : «وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَىْ ءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(4) .

قوله : (ذواتِ الأجسامِ المُدْرَكاتِ بالحواسّ) الخ . [ح 16 / 384]

ظاهر هذا الحديث واللذين في الباب الآتي أنّ الخصال السبع بتمامها إنّما تجري في الكائنات في الأرض والسماء من الجسمانيّات لا في الروحانيّات حتّى المخلوق الأوّل ، اللّهمّ إلاّ أن يُقال : ذكر الجسمانيّات على سبيل المثال ، وهي جارية في الروحانيّات أيضا بنحو من الاعتبارات .

قال السيّد الجليل الرفيع المحشّي :

الظاهر من سؤال «كيف علم اللّه تعالى» أنّ العلم(5) مستند إلى الحضور العيني والشهود في

ص: 450


1- الحجر (15) : 99 .
2- في الكافي المطبوع : «وأنشأهما».
3- التوحيد ، ص 168 ، ح 2 .
4- الكهف (18) : 23 - 24 .
5- في المصدر : «أبعلم» بدل «أنّ العلم» .

وقته لموجود عينيّ ، أو في موجود عينيّ كما في علومنا ، أو بعلم مستند إلى الذات سابق على خلق الأشياء ؟

فأجاب عليه السلام : بأنّ العلم سابق على وجود المخلوق بمراتبَ ، وقال : «علم وشاء ، وأراد وقدّر ، وقضى وأمضى» فالعلم : ما به ينكشف الشيء ، والمشيّة : ملاحظته بأحوال مرغوب فيها توجب فينا ميلاً دون المشيّة له سبحانه ؛ لتعاليه عن التغيّر والاتّصاف بالصفة الزائدة . والإرادةُ : تحريك الأسباب نحوهَ بحركة نفسانيّة فينا، بخلاف الإرادة فيه سبحانه . والقَدَر : التحديد وتعيين الحدود والأوقات . والقضاء هو الإيجاب . والإمضاء هو الإيجاد ؛ فوجود الخلق بعد علمه سبحانه بهذه المراتب .

وقوله : «فأمضى ما قضى» إلى آخره ؛ أي فأوجد ما أوجب ، وأوجب ما قدّر ، وقدّر ما أراد .

ولمّا بلغ بيانه إلى هذا ، أخذ البيان من رأس على وجه أوضحَ ، وقال : «فبعلمه كانت المشيّة »وهي مسبوقة بالعلم «وبمشيّة كانت الإرادة» وهي مسبوقة بالمشيّة «وبإرادته كان التقدير» والتقدير مسبوق بالإرادة «وبتقديره كان القضاء» والإيجاب ، وهو مسبوق بالتقدير ، حيث لا إيجاب إلاّ للمحدود الموقوت «وبقضائه كان الإمضاء» والإيجاد «والعلم متقدّم على المشيّة» وهو الأوّل بالنسبة إليها «والمشيّة ثانية ، والإرادة ثالثة، والتقدير واقع» وقوعا سابقا «على القضاء» والإيجاب المتلبّس «بالإمضاء» والإيجاد .

«وللّه تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء» فإنّ الدخول في العلم أوّلُ مراتب السلوك إلى الوجود العيني ، وله البداء بعدم الإيجاد فيما علم متى شاء أن يبدو ، وفيما أراد وحرّك الأسباب نحوَ تقديره متى شاء قبل القضاء والإيجاب «فإذا وقع القضاء» والإيجاب متلبّسا «بالإمضاء» والإيجاد «فلا بداء» ، فعلم أنّ في المعلوم العلم قبل كون المعلوم وحصوله في الأذهان والأعيان ، وفي المُشاء المشيّة قبل عينه ووجوده العيني .

وفي أكثر النسخ: «المنشأ». لعلّ المراد الإنشاء قبل الإظهار كما في آخر الحديث .

وفي المراد الإرادة قبل قيامه ، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها وحضورها العيني في أوقاتها . «والقضاء بالإمضاء هو المبرم» الذي يلزمه وجود المَقضيّ .

وقوله : «من المفعولات» يحتمل تعلّقه بالمبرم ، ويكون قوله : «ذوات الأجسام» ابتداءَ

ص: 451

الكلام . ويحتمل كونه من الكلام المستأنف وتعلّقه بما بعده ، والمعنى : أنّ هذه الأشياءَ المحدثة للّه فيها البداء قبل وقوع أعيانها ، فإذا وقع العين فلا بداء .

وقوله : «فبالعلم علم الأشياء قبل كونها» وحصولها . وأصل العلم غير مرتبط بنحو من الحصول للمعلوم ، ولو في غيره بصورته المتجدّدة ، ولا يوجب نفس العلم والانكشاف - بما هو علم وانكشاف للأشياء - إنشاءها وبالمشيّة ومعرفتها بصفاتها وحدودها أنشأها إنشاءً قبل الإظهار والإدخال في الوجود العيني ، وبالإرادة وتحريك الأسباب نحو وجودها العيني ميّز بعضها عن بعض بتخصيص تحريك الأسباب نحو وجود بعض دون بعض ، وبالتقدير قدّرها وعيّن وحدة أقواتها وأوقاتها وآجالها، وبالقضاء وإيجابها بموجباتها أظهر للناس أماكنها ، ودلّهم عليها بدلائلها ، فاهتدوا إلى العلم بوجودها حسب ما يوجبه الموجب بعد العلم بالموجب ، وبالإمضاء والإيجاد أوضح تفسير عللها «وأبان أمرها» بأعيانها «وذلك تقدير العزيز العليم» . فبالعليم أشار إلى مرتبة أصل العليم ، وبالعزيز إلى مرتبة المشيّة والإرادة ، وبإضافة التقدير إلى العزيز العليم إلى تأخّره عن العزّ بالمشيّة والإرادة للقادر اللتين يغلب بهما على جميع الأشياء، ولا يغلبه فيهما أحدٌ ممّا سواه ، وبتوسّط العزّ بين التقدير والعلم إلى تأخّره عن مرتبة العلم ، وتقدّمُ مرتبة العلم عليه كتقدّمه على التقدير .(1)

انتهى كلام السيّد قدس سره .

وأنا أقول : قد تظاهرت وتعاضدت الأدلّة العقليّة والنقليّة على أنّ اللّه تعالى كان ولا شيء معه، لا من جنس الذوات، ولا من جنس الصفات ، والآنَ كما كان .

روى الصدوق رضى الله عنه في التوحيد عن عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق أيضا قال : حدّثنا محمّد بن أبي عبداللّه الكوفي ، قال : حدّثنا محمّد بن إسماعيل البرمكي ، عن عليّ بن عبّاس ، عن حسين بن راشد ، عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهماالسلام أنّه قال : «إنّ اللّه - تبارك وتعالى - كان لم يزل بلا زمان ولا مكان ، وهو الآنَ كما كان ؛ لا يخلو منه مكان ، ولا يشتغل به مكان ، ولا يحلّ في مكان» الحديث .(2) .

ص: 452


1- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 481 - 483 .
2- التوحيد ، ص 178 ، ح 12 .

وسبق في باب صفات الذات أنّ اللّه تعالى كان عالما ولا معلوم،(1) وبيّنّا أنّه لم يكن المعلوم موجودا ، لا وجودا عينيّا ولا ارتساميّا ظلّيا ، بل كان ثابتا ثبوتا متعاليا عن أن يصل إليه وهم ، وأشبه ما يُقال في مقام التعبير والتفهيم ثبوت الانتزاعيّات للمنتزع منه قبل أن ينتزعها منتزع ، وتلك المعلومات الثابتة له تعالى - التي لم تشمّ رائحة الوجود بعدُ بوجه لا الوجود العيني ولا الارتساميّ الظلّي - ذوات ممكنة وصفاتها اللازمة والمفارقة وأحوال كلّ منها - إذا اُخذ مع المقارنات وما ينتزع من الصفات وصفات الصفات وهلمّ جرّا ، بل ما لا هويّة له إلاّ بنحو من المقايسة والاعتبار بما له هويّة - كالممتنعات بالذات ، والجميع قد انكشف في الأزل بجميع شؤونه واعتباراته التي تتبع وجوده العيني على فرض وجوده للذات الأقدس الواحد الأحد المنكشف لنفسه بكنهه الذي لا يعلمه إلاّ هو ، وبما هو تحت قدرته الكاملة التي لا يمتنع منها شيء، وليس بينه تعالى وبين تلك المعلومات علم غيره ، كما نصّ عليه أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة نقلها الصدوق - طاب ثراه - في كتاب التوحيد ، ونقلها عنه في باب صفات الذات وانكشاف تلك الأشياء في الأزل للذات الأقدس المنكشف لنفسه علمه بها(2)، وهو المعنيُّ ب «علم» في قول العالم عليه السلام في تعداد الخصال .

ثمّ إنّ تلك المعلومات قسمان :

قسمٌ لا يستحقّ بوجهٍ من الوجوه فيضانَ الوجود عليه من منبع الكرم والجود ؛ لكونه منافيا لملك الملك على الإطلاق وعزّ جلاله وعظمته وسلطانه ، فهو في مضيق العدم ، ومحبس الليس بالحبس المؤبّد .

وقسم يستحقّ الوجود بوجه فهو ، من حيث ذلك الوجه ممّا يصل إليه ذوو العقول ويشاؤونه ، وجناب الأقدس - تعالى شأنه - مقدّس عن الميلان ، فمجرّد علمه تعالى بأنّه يستحقّ الوجود مشيّته الحتميّة التي لا يمكن أن يقع شيء على خلافها ، سواء كان اختيارا من مختار ، أو فعلاً اختياريّا أو غير اختياريّ ، قال اللّه تعالى : «وَمَا .

ص: 453


1- راجع : الكافي ، ج 1 ، ص 107 ، ح 1 .
2- راجع: التوحيد ، ص 72 ، ح 27 .

تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(1) .

وفي الحديث القدسي الذي سيجيء : «ابن آدم ، بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء» .(2)

وفي التعقيب المأثور : «ما شاء اللّه كان ، وما لم يشأ لم يكن» .(3)

وهذه المشيّة مترادفة أو متلازمة للكتابة التي في قوله تعالى : «قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّه ُ لَنَا»(4) .

وفي القنوت المأثور : «اللّهمَّ إنّي أسألك إيمانا تباشر به قلبي ، ويقينا صادقا حتّى أعلم أنّه لن يصيبني إلاّ ما كتبت لي» .(5)

ومثله في آخر دعاء السحر للإمام زين العابدين عليه السلام .(6)

وقد يطلق واحدة من الخصال ويراد الكلّ ، في الصحيفة الكاملة : «أصبحنا في قبضتك ، يحوينا ملكك وسلطانك ، وتضمّنا مشيّتك ، ونتصرّف عن أمرك ، ونتقلّب في تدبيرك ، ليس لنا من الأمر إلاّ ما قضيت ، ولا من الخير إلاّ ما أعطيت» .(7)

وفي دعاء آخر منها : «ذلّت لقدرتك الصِّعاب ، وتسبّبت بلطفك الأسباب ، وجرى بقدرتك القضاء ، ومضت على إرادتك الأشياء ، فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرةٌ، وبإرادتك دون نهيك منزجرةٌ» .(8)

وفي دعاء الأضحى منها : «اللّهمَّ إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ، ومواضع اُمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها ، وأنت المقدّر لذلك ، لا يغالب أمرك ، ولا يجاوز المحتوم من تدبيرك ، كيف شئت ، وأنّى شئت ، ولما أنت أعلم .

ص: 454


1- الإنسان (76) : 30 .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 152 ، باب المشيّة والإرادة ، ح 6 .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 571 ، باب الحرز والعوذة ، ح 10 ؛ الفقيه ، ج 4 ، ص 402 ، ح 5868 .
4- التوبة (9) : 51 .
5- الكافي ، ج 2 ، ص 524 ، باب القول عند الإصباح والإمساء ، ح 10 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 3 ، ص 90 ، ح 21 .
6- الإقبال ، ص 81 ؛ المصباح للكفعمي ، ص 601 .
7- الصحيفة السجّاديّة ، ص 48 ، الدعاء 6 .
8- المصدر ، ص 52 ، الدعاء 7 .

به غير متّهم على خلقك ، ولا لإرادتك حتّى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين ، يرون حكمك مبدّلاً ، وكتابك منبوذا ، وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعك ، وسنن نبيّك متروكةً» .(1)

وفي دعاء آخر : «أنت الذي أردت فكان حتما ما أردت ، وقضيت فكان عدلاً ما قضيت» إلى قوله : «وقدّرت كلّ شيء تقديرا» .(2)

وفي دعاء الاستخارة منها : «حبِّب إلينا ما نكره من قضائك ، وسهِّل علينا ما نستصعب من حكمك ، وألهمنا الانقيادَ لما أوردت علينا من مشيّتك»(3) إلى غير ذلك من الأدعية والأخبار .

هذا ، وتدبيره تعالى المعترف به له عند كافّة ذوي العقول إنّما هو التفرقة العلميّة بين ما يستحقّ الوجود على الوجه الذي يستحقّ وبين ما لا يستحقّ ، وإيجاده فيضانُ الوجود منه على كلّ مستحقّ على الوجه المستحقّ ؛ إذ يمتنع هناك القصد والحركة النفسيّة والجوارحيّة ، وفيض الجواد على الإطلاق لا يستدعي سوى الاستحقاق .

وعلى هذا فيكون ما بعد العلم من الخصال السبع أسبابا متلازمة في كلّ شيء تحقّقت إحداها تحقّقا واقعيّا تحقّقت الباقية بتّةَ ، وتكثر الأسماء باعتبار تكثّر الوجود التي استحقّ المعلوم الوجود على تلك الوجود ، كلّ اسم منها وقع على العلم باعتبار تعلّقه بوجه من وجوه أصل الوجود، كما يشعر به قوله عليه السلام : «فبالعلم علم الأشياء قبل كونها ، وبالمشيّة عرف صفاتها وحدودها ، وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها ، وبالتقدير قدّر أقواتها ، وبالقضاء أبان للناس أماكنها» .

وفي الحديث الآتي : قلت : ما معنى «شاء»؟ قال : «ابتداء الفعل» . قلت : ما معنى «قدّر»؟ قال : «تقدير الشيء من طوله وعرضه» .(4)

وعلى هذا فما بعد العلم من الأسماء إلى الإمضاء تعبير عن اعتبارات العلم باعتبار .

ص: 455


1- الصحيفة السجّاديّة ، ص 234 ، الدعاء 48 .
2- المصدر ، ص 210 ، الدعا 47 .
3- المصدر ، ص 154 ، الدعاء 33 .
4- الكافي ، ج 1 ، ص 150 ، باب المشيّة والإرادة ، ح 1 .

المتعلّق ، ويُحتمل أن يكون المراد بها تسبيبَ الأسباب الخارجيّة في عالَم غير عالم الحسّ ، إلاّ أنّ تلك الأسباب لابدّ أن تستند بالأخرة إلى اعتبارات في العلم ؛ والعلم عند اللّه .

فإن قلت : كيف يجمع القول بإمكان وقوع البداء فيما عدا الإمضاء مع القول بعدم تخلّف الكون والوجود عمّا شاء اللّه على الوجه الذي شاء؟

قلت : لا تدافع بينهما بعد تحقيق معنى البداء ، فاعلم أنّ عندنا ما نعلم بالعلم العادي؛ إذ يتأدّى إلى وجود شيء كإمرار السكّين المشحوذة(1) على قوّة بالحلق المتأدّى إلى إزهاق الروح ، وإلقاء ذوي الروح في أتُّونٍ(2) مشتعل أشدَّ الاشتعال المتأدّى إلى الاحتراق ، فبحسب ما يعدّ من الشرائط العاديّة الظاهرة ، فعلم بمقتضى أخبار الصادقين عليهم السلام تحقّق الشرائط الباطنة في الواقع - أعني الخصال السبع - ونحكم باقتراب وجود ذلك الشيء ، حتّى إذا تواتر علينا تحقّق تمام الشرائط العاديّة الظاهرة ، علمنا علما عاديّا بوجوده ، وحكمنا بتحقّق جميع تلك الخصال ، وربما نرى العادة قد انخرقت ولم يترتّب الوجود على الأسباب الظاهرة مع تمامها ، أو انقطعت وما تأدت ، فيقال : «بدا للّه فيه» ولا يريد بذلك العارفون بأمر اللّه معناه اللغويَ ، لعلمهم بتعاليه عن أن يظهر له أمر كان مخفيّا عليه فيتغيّرَ رأيه ، بل يقولون ذلك على ضرب من التوسّع .

بيان ذلك: أنّه قد سبق أنّ اللّه تعالى علم في معلوماته جميع ما استحقّ الوجود على وجه مخصوص ، فهو على ذلك الوجه لازم الوجود ؛ إذ الجود المطلق لا يستدعي سوى الاستحقاق ، فما استحقّ الوجود بوجه فهو يوجَد على ذلك الوجه لا محالة ، وما لم يستحقّ لا يوجَد أبدا ، فما دخل في الوجود في عالم الحسّ أو غير الحسّ من لفظ أو كتابة ونقش من قِبل اللّه أنّه يكون كذا وكذا في وقت كذا، وهو في علم اللّه تعالى ممّا لا يكون ، أو وجد ما يتراءى أنّه سبب لوجود شيء، أو متأدّ إلى وجود شيء ، ولم يترتّب عليه وجود ذلك انقطعت الوسائط ، وما تأدّت فقد علم اللّه تعالى في الأزل أنّه استحقّ .

ص: 456


1- شحَذ السكينَ والسيفَ : أحَدَّه بالمِسَنِّ وغيره مما يُخرج حَدَّه . لسان العرب ، ج 3 ، ص 493 (شحذ) .
2- الأتُّون : الموقِد . لسان العرب ، ج 13 ، ص 7 (أتن) .

الوجود على ذلك الوجه ، وأنّ ما تراءى أنّه سبب له أو يتأدّى إليه لم يستحقّ الوجود على ذلك ، فوجود ما وجد وعدمُ ما لم يوجد كلاهما كانا قد تعيّنا في الأزل لدى الحكيم العليم ، وبالإفاضة منه تعالى وعدم الإفاضة صار إحداهما موجودا ، وبقي الآخر معدوما .

فمرجع بداء اللّه تعالى إلى إيجاد أمر حسب ما يستحقّ الوجود صرفه عن مجرى العادة لمصلحة هو أعلم بها ، وربما يظهرها للعباد ، وهذا يشبه البداء اللغوي في أنّهما يشتركان في أنّ الفاعل ترك ما كان مقصودا عاديّا من فعله بترك الفعل أو إبراز مقصود آخر لأجل مصلحة ، ويفترقان في أنّ أحدهما عن علم سابق أزليّ بتلك المصلحة، والآخر عن علمٍ حادث في أثناء الفعل ، وقد سبق عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه «ما بدا للّه في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له» .(1)

وعنه عليه السلام أنّه قال : «إنّ اللّه لم يَبْدُ له من جهل»(2) وقال تعالى : «يَمْحُوا اللّه ُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(3) ، وقال تعالى : «اللّه ُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الاْءَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاْءَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه َ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللّه َ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْما»(4) .

في القاموس : «تنزّل : نزل على مهلة» .(5)

وما أشبه بذلك في انسياق الحكم على وجه التدرّج إلى حدّ الإمضاء دفاترُ ملوك الدنيا، وكان ما في عالم الملك احتذاءً بما في عالم الملكوت ، ولعلّ العلم بالنظام الأعلى الذي هو المجموع بما هو مجموع الكتابُ المبين الذي ما من ورقة تسقط ولا حبّة في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلاّ فيه ، وهو اُمّ الكتاب الذي عند اللّه تعالى، والإمكان لوح المحو والإثبات .

فإن قلت : ما وجه الحثّ على الكلام في البداء؟ وما الغرض في أخذ الميثاق على النبيّين بالإقرار بالبداء؟ .

ص: 457


1- الكافي ، ج 1 ، ص 148 ، باب البداء ، ح 9 .
2- المصدر ، ح 10 .
3- الرعد (13) : 39 .
4- الطلاق (65) : 12 .
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 56 (نزل) .

قلت : من نتائج الكلام في البداء والبحث عنه اليقين بأنّ للّه تعالى أن يحوّل إن شاء حالَ مَن انتهك محارم الشرع وسلك سبيلَ الأشقياء ، حتّى يُقال : ما أشبهه بهم بل هو منهم ، ويوفّقه للرجوع والإنابة ، وأن يكل إن شاء من عبده مدّة سماويّة بصنوف العبادات ، حتّى يقال : ما أشبهه بالسعداء بل هو منهم إلى نفسه ، ومنعه اللطف والعصمة حتّى يموت وهو عليه ساخط ، فلا ييأس العاصون من رَوْح اللّه بسبب الوقوع في الزلاّت ، ولا يأمن المتعبِّدون من مكر اللّه اغترارا بكثرة الحسنات ، بل يكون كلّ أحد بين الخوف والرجاء . وقد ورد أنّه «ما من مؤمن إلاّ وفي قلبه نوران : نور خيفة ، ونور رجاء ، لو وُزِنَ هذا لم يَزِدْ على هذا» .(1)

ومن النتائج أنّه إذا أخبرني من طريق الوحي أنّ فلانا قرب أجله ولا يعمّر إلاّ سنةً - مثلاً - واتّفق منه أن يتصدّق بصدقة على مسكين أو يصلَ رحما ، فجاوز عمره المدّةَ ، لم يكذَّب المخبر ولم ينكر عليه ، بل يستعلم وجه البداء مؤمنا به ، ويزداد في الرغبة إلى الخيرات والتضرّع والدُّعاء ؛ ففي البداء وإيقاننا به والإقرار به للّه تعالى كمالُ الحكمة والمصلحة ، وأخذ الميثاق على النبيّين بإقرار البداء للّه تعالى؛ لأنّهم الذين يخبرون أوّلاً بكون ما ليس بكائن من غير الإعلام بحقيقة الأمر وبوجه المصلحة إلاّ بعد وقوع البداء، وإخبار غيرهم إنّما هو بوساطتهم ، وإخبار موارد وقوع البداء كاشفة عمّا قلناه .

فإذن النبيّون أوّل من في عرضة الإعراض والتعجّب ، فلذلك أخذ عليهم الميثاق بأن يقرّوا له تعالى بالبداء ، وجمعٌ من أهل العمْى والجهل حُرموا إدراكَ هذه المعاني، فتاهوا في بوادِ الضلال حيارى عمهين سكارى ، حادوا عن مدرجة الأكياس ، وارتقوا في مرعى الأرجاس ، حسدوا اُمناء الوحي وخزّان العلم ؛ لِمَ يحسدون الناس على ما آتاهم اللّه من فضله ، يا ويلهم ما أشقاهم ، وأطولَ عناهم ، حملهم العنود على إنكار البداء على سبيل الجمود ، وضاهوا في ذلك كفرة اليهود . .

ص: 458


1- الكافي ، ج 2 ، ص 67 و 71 ، باب الخوف والرجاء ، ح 1 و 13 ؛ وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 217 - 218 ، ح 20311 و 20314 .

نقل الفاضل المحقّق مروّج آثار الأئمّة الأطهار - عليهم سلام اللّه - أعني مصنّف كتاب بحار الأنوار: أنّ الناصبي المتعصّب فخر الرازي ذكر في خاتمة كتاب المحصّل حاكيا عن سليمان بن جرير: أنّ أئمّة الرافضة وضعوا القول بالبداء لشيعتهم ، فإذا قالوا: إنّه سيكون لهم أمر وشوكة ، ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروا ، قالوا : بدا للّه فيه .(1)

وأنا أقول لهم : قاتلكم اللّه معشرَ الحُسّاد ، ذوي اللداد والعناد ، كفاكم عماكم أنّ أئمّتنا عليهم السلام أهلُ بيت قصرت عن أداء محامدهم عبادةُ كلّ بليغ ؛ إنّ أئمّتنا عليهم السلام أهل بيت جعل اللّه مودّتهم أجر التبليغ ، إنّ أئمّتنا عليهم السلام أهل بيت تنزّل عليهم الملائكة والروح ، إنّ أئمّتنا عليهم السلام أهل بيت نصّ جدّهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله على أنّ مَثَلهم كمثل سفينة نوح ، إنّ أئمّتنا عليهم السلام أهل بيت أذهب اللّه عنهم رجس الذنوب ، إنّ أئمّتنا عليهم السلام أهل بيت طهّرهم اللّه من دنس العيوب ؛ أما تستحيون عن جدّهم رسول ربّ العالمين ، وعن أبيهم أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم أجمعين؟ ويلكم ما جوابكم إذ دعاكم يوم فصل الخصام قاضي القضاة؟ وها نحن نُنصفكم وندعو لنا ولكم بدعاء هو أقرّ لعيوننا وعيونكم من رقدة الوسنان ، وأثلج لصدورنا وصدوركم من شربة الظمآن وهو هذا ؛ رزقنا اللّه تعالى وحرمكم جوارَ أئمّتنا عليهم السلام ، وجَنَّبَنا وحشركم مع أئمّتكم : يزيدَ ومعاويةَ وآل زياد وآل مروان ، آمين آمين آمين .

باب المشيئة والإرادة

[باب المشيئة والإرادة]

قوله : (قلتُ : وأحَبَّ ؟ قال : لا) إلى آخره . [ح 2 / 388]

لا يتصوّر الحبّ بمعنى الميل في حقّه تعالى ، وإنّما هو وأمثاله حيثما أسندوا إلى اللّه تعالى باعتبار القامات ، وقد نصّ الإمام عليه السلام على ذلك حيث قال في حديث : «ورضاه ثوابه ، وسخطه عقابه»(2) وإذ كان المراد بالمشيّة والإرادة تهيئةَ الأسباب أو نفسَ

ص: 459


1- بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 122؛ المحصّل، ص 249 .
2- التوحيد ، ص 170 ، ح 4 ؛ روضة الواعظين ، ج 1 ، ص 35 .

الإحداث - وهما المشيّة الحادثة ، أو العلم باستحقاق الوجود وهو المشيّة القديمة التي هي عين الذات - فلا منافاة بين شاء وأراد ولم يحبّ ؛ إذ كلّ ما وجد فهو مستحقّ للوجود ، وإيجاده وإحداثه إنّما هو بيد خالق كلّ شيء ، مؤمنا كان أو كافرا ، مطيعا كان أو عاصيا ، وليست الإثابة شاملة للجميع . ولمّا لم يكن للسائل أهليّة أن يشرح له ، قال عليه السلام : «هكذا خرج إلينا» .

قوله : (إرادةَ حَتْمٍ ، وَإرادةَ عَزْمٍ) . [ح 4 / 390]

إرادة اللّه الحتميّة الذاتيّة القديمة مرجعها إلى العلم باستحقاق الوجود على الوجه المخصوص ، والفعليّة الحادثة تهيئة جميع أسباب تحقّق الفعل أو الترك ، فإن كان المراد نفس الاختيار ، فإرادته الفعليّة توجيه ما يعلم أنّ العبد معه يهيج اختياره للشيء الخاصّ ، وإن كان اختياريّا - أي أمرا من جملة أسباب تحقّقه إرادة العبد واختياره - فتيسير جميع ما يعلم أنّ العبد يتوصّل به إلى المختار .

فظهر بهذا البيان أنّ كلّ ما هو في حيطة التحقّق فبإرادة اللّه الحتميّة ، ولا ينافي ذلك أن يكون لإرادة العبد مدخل فيه .

وكلام سيّد الساجدين عليه السلام حيث قال في دعاء يوم الأضحى والجمعة : «ابْتَزّوها - يعني الإمامة والخلافة - وأنت المُقَدِّرُ لذلك ، لا يخالف(1) أمرُك ، ولا يُجاوَزُ المحتومُ مِنْ تَدْبِيرِك ، كيف شئتَ وأنّى شئتَ»(2) ناظر إلى هذا المعنى .

وسيجيء في كتاب الحجّة في باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون : فقال له حُمرانُ : جُعلتُ فداك ، أرأيتَ ما كان من أمر قيام عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام وخروجهم وقيامهم بدين اللّه - عزّ ذكره - وما اُصيبوا من قَتْلِ الطواغيتِ إيّاهم والظَّفَر بهم حتّى قُتِلوا وغُلِبُوا؟

فقال أبو جعفر عليه السلام : «يا حُمرانُ ، إنّ اللّه تعالى قد كانَ قَدَّرَ ذلك عليهم وقَضاه وأمضاه .

ص: 460


1- في المصدر : «لايغالب» .
2- الصحيفة السجّاديّة ، ص 234 ، الدعاء 48 ؛ رجال الكشّي ، ص 381 ، ح 715 ؛ مصباح المتهجّد ، ص 371 .

وحَتَمَهُ على سبيل الاختيار» الحديث .(1)

أقول : بيان حتم اللّه تعالى فعلاً على سبيل اختيار العبد إيّاه ، المستلزمِ لأن لم يكن ألزم عليه ما لا يريده، بل يريد خلافه، أنّه قد كان في سابق علم اللّه تعالى أنّ من الممكن ما هو باعتبار خصوصيّته الممتاز بها عن سائر الممكنات ، بحيث إن رأى امرأة جميلة ذات بعل في مكان لم يكن هناك مانع بوجه ، ولو كان وجود من يستحيي منه أو احتمال اطّلاع من يتضرّر به ، انبعث من ذاته باعتبار ما لها من الخصوصيّة المذكورة شوق وإرادة بالغة حدَّ الإجماع لغشيانها ، ولا شكّ أنّ لتحقّق كلٍّ من هذه الشروط سببا؛ لبطلان البخت والاتّفاق ، وللسبب سبب ، ولا يرتقي إلى ما لا يتناهى ، وليس للممكنات مبدأ سوى اللّه تعالى ، فالكلّ تحت تدبيره وتقديره ؛ فوقوع الغشيان من ذلك الممكن بإرادته وشوقه كاشف عن تنزّل الأسباب والشرائط - الاختياري منها وغير الاختياري - بإذن ربّها المدبِّر الحكيم القادر القاهر ، وانتهائها إلى غشيان الفاعل بشوق وإرادة كانت كامنةً في نفسه ، فهاجت من ذاته حين ما استكملت شرائط الهيجان .

وكذا كاشف عن أنّ في إيجاد الممكن المفروض وتيسير شرائط ما يستدعيه بلسان خصوصيّته حكمة لا يعلمها غير الموجد الحكيم الذي أوجده بعلم وإرادة؛ لامتناع الجهل والاضطرار .

فليس له أن يقول : لِمَ كنت في علم اللّه ممكنا خاصّا بالخصوصيّة المذكورة وما كنت ممكنا آخر ؟ ولمَ كنت مقدورا من مقدوراته ؟ ولِمَ خلقني اللّه ؟ ولعلّ اللّه لم يعلم ما ينتهي إليه أمري ، أو كان مضطرّا في خلقي ؟ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، بل للّه الحجّة البالغة ، وحجّتهم داحضة عند ربّهم . هذا بيان حتم اللّه تعالى للفعل على سبيل الاختيار من العبد . «فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .(2)

هذا ، وقد يطلق إرادة الحتم وقضاء الحتم على جبر اللّه تعالى للعبد وإكراهه إيّاه .

ص: 461


1- الكافي ، ج 1 ، ص 261 ، ح 4 .
2- يآس (36) : 83 .

على طاعة أو معصية ، وهذه هي المنفيّة في الأخبار .

وأمّا إرادة العزم فهي الطلب التكليفي ، أعمّ من أن تجري الإرادة الحتميّة على وفقها أو على خلافها ، وإرادة العاصي تغلب هذه الإرادة إن جرت الإرادة الحتميّة على الغلبة؛ إذ لولا توجيه اللّه تعالى إلى العبد ما يعلم هيجان إرادته معه وتيسير أسباب مخالفة ذلك الطلب ، لما وقعت المخالفة .

إذا عرفت هذا فقوله عليه السلام : (نهى آدمَ وزوجَتَه أن يأكُلا من الشجرةِ وشاءَ ذلك) [ح 4 / 390 [المقصودُ ذكر مثال لإرادة عزميّة جرت الحتميّة على خلافها ، وبيان أنّ غلبة مشيّتهما على مشيّة اللّه العزميّة - وهي في المثال المذكور النهي عن الأكل - إنّما هي بمعونة تلك المشيّة الحتميّة المتعلّقة بالأكل ، وإلاّ لما حصلت الغلبة ؛ إذ ليس العبد - وإن اُعطي القدرةَ التي نسبتها إلى الفعل والترك سواء - مفوّضا إليه في أمر الإرادة ، بأن لا يشترط هيجانها من نفسه بتوجيه اللّه ما تهيّج به ، فإذن لا يكون الأمر كما قال اللّه تعالى : «وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(1) ، بل يكون العبد مستقلاًّ بعد إقدار اللّه تعالى بالإرادة كلاّ، وليس تهيئة الأسباب مُلجئا للعبد مضطرّا له ، بل هي شرط لهيجان الإرادة ، والشرط ليس بملزِم ومؤثّر ، بل المؤثّر هو الذات المعيّن المخصوص الذي علم اللّه في الأزل أنّه يريد الفعل مع شرط كذا ، فالعبد من حيث إنّه هو المريد بدون الإلزام والإجبار، فليس بمجبور ، ومن حيث إنّه ليس بمجرّد الإقدار مستقلاًّ ، بل إنّما يشاء بالفعل ، ويفعل ما يشاء بإرادة اللّه ومشيّته التي هي التوجيه والتيسير المذكوران ، فليس بمفوّض إليه ، فالأمر بين الأمرين . وقد قلت في المثنوي الموسوم ب «نان وپنير» (نظم) :

امر و نهىِ عقلى و شرعى ز رب *** شرط فعل اين و آن دان ، نه سبب

شرط اصلاً موجب مشروط نيست *** ليك از بهر وجودش بودنى است

گر نيابد بارش عام از سما *** از زمين كى رويد اقسام گيا

گل بفيض عام رويد از زمين *** ليك اين باشد چنان و آن چنين .

ص: 462


1- الإنسان (76) : 30 .

اين يكى خارست و آن يك گل به ذات *** هر يكى دارد ز ذات خود صفات

سنبل و گل بهر بوييدن خرند *** خار و خس را بهر تون تابى برند

بارش اين ها چنين حالات داد *** يا به بارش حال ذات از وى بزاد

گرنكردى فهم ، بگذر زين مقال *** خويش را باطل مگردان در جدال

وأمّا قوله عليه السلام : (أمَرَ إبراهيمَ) .

بيان ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة هي أنّ إرادة العبد ومشيّته قد تطلق على حالة بها يترجّح أحد الطرفين على الآخر ، وهي المعبّر عنها بين العلماء بالإجماع ، ويجب وقوع متعلّقها إذا طاوعت الآلة وارتفعت الموانع ، وربما يعبّر عن إرادة ترك الفعل بعدم الإرادة ، كما في رواية عبداللّه بن سنان السابقة عن أبي عبداللّه عليه السلام حيث قال أوّلاً: «أمر اللّه ولم يشأ» ثمّ قال : «أمر إبليس أن يسجد لآدم ، وشاء أن لا يسجد» الحديث .(1)

ولا يتحقّق من العبد اختياري - فعلاً كان أو تركا - إلاّ وهو مسبوق بهذه الإرادة ، أعني الإجماع .

وقد تطلق على كون العبد بالنسبة إلى فعل أو ترك بحيث لو خُلّي وطبعَه لأراده بالمعنى الأوّل ، وسيأتي مثاله ، وربّما يعبّر عن إرادة ترك الفعل بعدم إرادته، وبكراهته أيضا ، وقد يكون فعل شيء مرادا بالإرادة بالمعنى الأوّل كشرب الخمر بأمر السلطان ، وقد يكون الفعل مرادا بالإرادتين كالشرب بطوع النفس .

إذا تمهّد هذا ، فنقول : إنّ إبراهيم عليه السلام كان شائيا ومريدا بالإرادة بالمعنى الثاني بمقتضى البشريّة عدمَ ذبح ابنه ، وإن أراد الذبح بالمعنى الأوّل ؛ لوقوع الأمر ، واللّه تعالى كان شائيا للذبح مشيّةَ عزم ، أي كان آمرا به ، ومقصود الإمام عليه السلام أنّ غلبة مشيّة إبراهيم عليه السلام الطبيعيّة على مشيّة اللّه هذه بمعنى تحقّق مقتضاها - وهو عدم تحقّق الذبح - دون مقتضى مشيّة اللّه هذه - وهو تحقّق الذبح - إنّما هي بسبب أنّه كان للّه تعالى مشيّة اُخرى حتميّة اقتضت عدم وقوع الذبح ، ولولا تلك لما غلبت مشيّة إبراهيم عليه السلام الطبيعيّةُ مشيّة .

ص: 463


1- الكافي ، ج 1 ، ص 150 ، باب المشيئة والإرادة ، ح 2 .

اللّه العزميّةَ التكليفيّةَ ، فهي إنّما صارت مغلوبةً لمشيّة إبراهيم - أي تحقّق متعلّق هذه دون متعلّق تلك - من جهة المشيّة الاُخرى الحتميّة ، فمثل هذه المغلوبيّةً ليست مغلوبيّة منافية لسلطان اللّه تعالى ، بل هي محقّقة له .

وكذا الأمر في نهي آدم ومخالفته ؛ فبطل قول المفوّضة الزاعمين للاستقلال بعد الإقدار بتوهّم أنّه لولاه لما غلب مشيّة العاصي مشيّةَ اللّه ، فسبحان الذي لا رادّ لمشيّته ، ولا معقّب لحكمه ، ولا حول ولا قوّة إلاّ به ، له الخلق والأمر، وإليه يرجع الأمر كلّه .

وهذا الحلّ قد يسّر اللّه تعالى بمعونة مفاوَضَة بعض الألبّاء المشتغلين إليّ ، ولعمري إنّ هذا الحديث الشريف وأمثاله من الآيات البيّنات على إمامة أئمّتنا عليهم السلام وغزارة علمهم ، والعجب ممّن عدّها من المتشابهات وممّن حملها على التقيّة ، زاعما أنّها موافقة لمذهب الأشعريّة ، كلاّ إن هو إلاّ كذبٌ مفترى ، فتدبّر وتبصّر ، ثمّ كُن للّه من الشاكرين .

باب السعادة والشقاء

[باب السعادة والشقاء]

قوله : (مِنْ أيْنَ لَحِقَ الشقاءُ أهلَ المعصيةِ) ، إلى آخره . [ح 2 / 396]

في التوحيد : «علم اللّه عزّوجلّ أن لا يقوم أحدٌ من خلقه بحقّه، فلمّا علم بذلك وهب» إلى آخره .

وفيه : «ولم يمنعهم إطاقة القبول منه ؛ لأنّ علمه أولى بحقيقة التصديق ، فوافقوا ما سبق لهم في علمه وإن قدروا أن يؤتوا خِلالاً تُنجيهم عن معصيته ، وهو معنى شاء ما شاء وهو سرّ»(1) فليتدبّر .

ثمّ إنّ غرض السائل أنّا نعلم أنّ عمل أهل الشقاء هو الموجب لعذابهم؛ «وَمَا كَانَ اللّه ُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»(2) ، وأنّ الحكم في علمه تعالى لهم بالعذاب تابع لشقائهم ، ولا نعلم من أين لحقهم الشقاء ؟

وحاصل الجواب : أنّ الشقاء لهم من ذواتهم الشخصيّة ، واتّضاح ذلك بعد ذكر اُصول :

ص: 464


1- التوحيد ، ص 354 ، ح 1 .
2- العنكبوت(29) : 40 .

اعلم أنّ الذات الأقدس - تعالى شأنه - وإن كان واحدا أحدا منزّها عن شوب جميع أنحاء الكثرة ، إلاّ أنّه معدن كمالات لا تحصى ، وله من معاني الحسن والبهاء ما لا يستقصى ؛ إذ جميع ما فشا في عالم المُلك والملكوت من لطائف الحسن وبدائع الجمال - التي أعجبت أبصار الناظرين وبصائر المستبصرين - ظلالُ وعكوسُ ذلك الحسن والجمال ، بل هي كسرابٍ بِقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً (نظم) :

ابرو كه بود در نظرت چون محراب *** چشمى كه ربوده است از چشم تو خواب

بر روى سراب ، چهره اى تشنه حُسن *** آن هيات موج دان و اين شكل حباب

وقد اُشير إلى كمالاته التي لا تتناهى في حديث : «كنت كنزا مخفيّا»(1) ووصلت إلينا بواسطة سفرائه الكرام عدّة من أسمائه الحسنى ، وندبونا إلى أن نقرّ له تعالى بالجميع على وجه الإجمال في تشهّد كلّ صلاة بقولنا : «والأسماء الحسنى كلّها للّه» وبقولنا : «وخير الأسماء كلّها للّه» وأوقفنا عزّ شأنه على عدّة اُخرى بفعاله العجاب في الإتقان .

وقد سبق في باب معاني الأسماء واشتقاقها في رواية أبي هاشم الجعفري عن أبي جعفر عليه السلام أنّ رجلاً سأله وقال : له تعالى أسماء وصفات في كتابه ، وأسماؤه وصفاته هي هو ، فقال عليه السلام : «إنّ لهذا الكلام وجهين : إن كنت تقول : هي هو [أي] أنّه ذو عَدَدٍ وكثرة؛ فتعالى اللّه عن ذلك ، وإن كنت تقول : هذه الصفات [والأسماء] لم تزل ؛ فإنّ «لم تزل» محتملٌ معنيين ؛ فإن قلتَ : لم تزل عنده في علمه وهو مستحقُّها ، فَنَعَم» الحديث.(2)

وتلك الأسماء وإن كان مبدأ جميعها مجرّدَ الذات الوحداني حقّا ، إلاّ أنّ كلاًّ منها باعتبار غاية مخصوصة وأثر مخصوص ، ولابدّ أن يتحقّق أثره ؛ مثلاً العالميّة أثره وغايته انكشاف الشيء للذات، ويمتنع أن يكون تعالى مستحقّا لاسم «العالم» ولن ينكشف له شيء أبدا ، وإذ كان اللّه ولا شيء معه ، فالمنكشف له أوّلاً وبالذات هو ذاته .

ص: 465


1- بحار الأنوار ، ج 87 ، ص 191 و 344 ؛ تفسير الكبير للرازي ، ج 28 ، ص 234 ؛ الإحكام للآمدي ، ج 1 ، ص 131 ؛ تفسير ابن عربي ، ج 2 ، ص 123 ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 5 ، ص 163 ؛ تفسير أبي السعود ، ج 2 ، ص 130 ؛ تفسير الآلوسي ، ج 14 ، ص 216 ؛ و ج 17 ، ص 121 .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 116 ، ح 7 .

الأقدس ، وبانكشافه انكشفت شؤونات قدرته الكاملة التي هي عين الذات ، فتعيّنت في نفس الأمر مقدورات لا تتناهى .

وقد سبق في باب صفات الذات وما بعده أنّ هذا التعيّن ليس وجودا لا عينيّا خارجيّا ولا ظلّيّا ارتساميّا ، بل هو ثبوت مجهول الكنه ، أشبه شيء به ثبوت الانتزاعيّات للمنتزع منها ، وبيّنّا أنّ هذا الثبوت غير الثبوت الذي يقوله طائفة من المتكلِّمين ، وأنّ علمه تعالى بالأشياء انكشاف تلك المتعيّنات له تعالى ، وأنّه انكشف له تعالى كلّ من الذوات الممكنة بجميع شؤوناته وصفاته اللازمة والمفارقة التي له باعتباره في نفسه ، وباعتبار فرض مقارنته مع كلّ واحد واحد ممّا عداه ، بل انكشفت له أيضا الممتنعات التي لا هويّة لها إلاّ بنحو من المقايسة مع الممكنات ، وأنّ بعض هذه المعلومات غير مستحقّ للوجود بوجه كالممتنعات ؛ لمضادّته ومنافاته للإلهيّة ، فهو في محبس العدم بالحبس المؤبّد ، والباقون مستحقّون للوجود كلٌّ بوجه ، والجواد المطلق يطلقه عن العدم إلى الوجود على الوجه المستحقّ له به بتّةَ ؛ إذ المقتضي - وهو الجود المطلق - حاصل ، والمانع - وهو عدم الاستحقاق - منتفٍ، وكلّ مستحقّ للوجود مظهر غاية اسم من الأسماء الحسنى ، فله موقع في النظام الأعلى يوجب زينه وجماله ، كأجزاء الدار فيها من بيت النوم وبيت الضيف وبيت الخلاء والاصطبل والكنيف وغيرها ، وكأجزاء الإنسان فيه من الدماغ والقلب والمعدة والأمعاء والقوى والأعضاء ومخرج البول والبَراز(1) وغيرها ممّا لو لم يكن واحد منها لاختلّ نظام البدن ، أو خرج عن الإتقان والحسن ، وهكذا أجزاء النظام الأعلى من المؤمن والكافر ، والصالح والفاجر ، والشريف والوضيع ، والعاصي والمطيع .

وقد قلت في قصيدتي اللاميّة :

حال الخلائق طرّا كيفما ظهرت *** بعلم خالقنا العلاّم لم يزل

وكلّ ما كان منها عن مشيّته *** وكان ما لم يشأ ليسا من الأزل .

ص: 466


1- كناية عن الغائط . وفي اللسان : «البَراز - بالفتح - : اسم للفضاء الواسع ، فكَنَوْا به عن قضاء الغائط كما كَنَوْا عنه بالخلاء؛ لأنّهم كانوا يتبرّزون في الأمكنة الخالية من الناس» . لسان العرب ، ج 5 ، ص 309 (برز) .

وكلّ ما شاء مبنيّ على حكم *** لو لم تراع لكان الكلّ في الخلل

هذا اُجاج ولكن عند ذي سقم *** من صحّ كان له أحلى من العسل

ولقد أحسن من قال (نظم) :

بچشم حقارت مبين پشه را *** كه آن در جنود خدا صفدريست

خرابات را نيز بيجا مدان *** كه آن نيز در ملك حق كشوريست

وبالجملة ، كلّ معلوم استحقّ إدخاله في الوجود فله نسبة مخصوصة إلى اسم من أسماء اللّه الحسنى التي بناء النظام الأعلى عليها ؛ مثلاً من معلومات اللّه تعالى مهيّة شخصيّة فصلها، أو لازم فصلها الحسّاس المتحرّك بالإرادة الناطق المائل بالطبع إلى الشهوات واللذّات الدنيّة الدنيويّة المنهيّ عنها في الشريعة المقدّسة ، ميلاً لا على وجه المضادّة والمعاندة ، بل على وجه الزلّة والاغترار وغلبة الهوى ، مع الاعتراف بأنّ ما ارتكب كان سيّئا قبيحا حريّا بأن لا يُفعل ، فهذه المهيّة مع هذه الصفات كان مقدورا من مقدورات اللّه تعالى ، معلوما من معلوماته ، استحقّ الوجود ؛ لكونه مظهرا لغاية اسم العفوّ الغفور ، الرؤوف الرحيم .

وفي بعض الأدعية الجليلة : «إلهي ما عصيتك حين عصيتك وأنا لربوبيّتك جاحد، ولا لعقوبتك متهاون ، ولا لأمرك مستخفّ ، ولكن خطيئةٌ عرضت وسوّلت لي نفسي ، وأعانت عليها شقوتي ، وغرّني سترك المرخى عليّ» .(1)

ومن مقدورات اللّه تعالى المعلومة له مهيّةٌ مقابلة للمهيّة الاُولى في الذات والصفات ، أي يكون في طبعها الظلم والجور، والميل إلى السوء والفواحش على سبيل العمد والإصرار من غير الندم، والاعتراف بأنّ ما ارتكب كان ممّا لا ينبغي ، فهو بلسان حاله سائل عن الجواد الحكيم - جلّ ثناؤه - الوجودَ ، وأن يوجّه إليه ما يبرز معه في ذاته من اختيار السوء والفواحش ، ويُيَسّر له أسباب فعل المختار من إعطاء العقل .

ص: 467


1- قطعة من دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام في ليالي شهر رمضان المشهور بدعاء أبي حمزة الثمالي : مصباح المتهجّد ، ص 587 ؛ الإقبال ، ص 71 ؛ البلد الأمين ، ص 209 .

وإنزال الشرع والتمكين والإقدار ورفع الموانع ، وإذ علم اللّه تعالى أنّه يستحقّ الوجود لأنّه مظهر لأثر صفة العدل والانتقام ، أجاب سؤله .

ومن الأسماء الحسنى : المحسن المجمل المفضل ، ومن المعلومات ما أخبر اللّه تعالى بقوله : «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللّه ُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما»(1)إبراهيم (14) : 24 .(2) ، وبقوله : «بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ»،(3) «لاَ يَعْصُونَ اللّه َ مَا أَمَرَهُمْ»(4) ، وبقوله : «ضَرَبَ اللّه ُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ»(4) .

ومن الأسماء الحسنى : ذو اللّعن والرجم ، ومن المعلومات من لم يعلم اللّه فيهم خيرا ، كما أخبر عنهم في كتابه المجيد ، وهم الأبالسة والشياطين وجنودهم من الإنس ؛ قال تعالى : «لاَ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ»(5) ، وقال : «وَمَا يَسْتَوِى الاْءَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ»(6) ، وقال : «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ»(7) ، وقال : «مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ»(8) ، وقال : «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرا مِنْ الْجِنِّ وَالاْءِنسِ»(9) ، وقال : «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرْآنِ»(10) .

وسيجيء في كتاب الكفر والإيمان في باب طينة المؤمن والكافر ما يستأنس به المستبصرون ويستوحش منه الجاهلون ، وهذا النوع من المعلوم استحقّ الوجودَ ؛ لكونه مظهر صفة الغضب والقهر واللعن والرجم .

مثنوي :

زبان حال هر يكشان به تكرار *** به يا رب يارب از حضرت طلبكار

يكى را ورد جان «يا عالم الغيب» *** يكى را بر زبان «يا ساتر العيب»

يكى را آرزوى گنج و شادى *** يكى را كُنج فقر و نا مرادى .

ص: 468


1- النساء
2- : 54 .
3- الأنبياء (21): 26.
4- التحريم (66) : 6 .
5- المائدة (5) : 100 .
6- فاطر (35) : 19 - 21 .
7- البقرة (2) : 171 .
8- إبراهيم (14) : 26 .
9- الأعراف (7) : 178 .
10- الإسراء (17) : 60 .

يكى را ميل عليّين و ابرار *** يكى را روى با سجّين وفجّار

يكى بهر تجرّد كرد زارى *** يكى را در تقيّد كامكارى

يكى را در بساطت بوده صد ذوق *** يكى را در تركّب ، گونه گون شوق

هر آنچه حقِّ استدعائشان بود *** عطا فرمود حقّ از مخزن جود

بر آن اعيان بحسب الاستفاضه *** كمالات وجودى كرد افاضه

جواد مطلق، ايجاد جهان كرد *** به خلق اظهار آن سرّ نهان كرد

حقايق را كه از اسما نوال است *** به هر يك زان يكى را اتّصال است

رود هر يك بسوى اسم خاصى *** كه در اصلش بدو بود اختصاصى

يكى را راه سوى اسم هادى *** خلاص هر بلا و نا مرادى

يكى را ميل جان سوى ضلال است *** وزان هر لحظه در نقص و زوالست

يكى ز اسم معزّ اندر سروراست *** يكى زاسم مذلّ اندر ثبور است

يكى را راه در لطف و جمال است *** يكى را كار با قهر وجلالست

اگر اهل شقا و اهل نعيمند *** به رفتن بر صراط مستقيمند

هر آنكو راهِ دست راست پوييد *** زلطف حق گل امّيد بوييد

گروهى را كه شد در دست چب بار *** فروماندند اندر قهر جبّار

نعيم دايم و حرمان همين است *** ظهور خاصّ اين ، در يوم دين است

والحاصل أنّ الأسماء الحسنى كاشفة عن أنّ الذات الأقدس بوحدانيّته الحقّة قائم مقام مباديها ومحقّق لغاياتها ، والعوالم بقضّها وقضيضها ما تحلّى منها بحلية الوجود، وما يتحلّى - أعني النظام الكلّي الأعلى - مظاهر غايات تلك الأسماء أو مقدّمات الغايات ، شاءها اللّه على الوجه الواقع بالمشيّة الذاتيّة ، أي علمها في جملة معلوماته أنّها غير منافية لإلهيّته وحكمته ، بل موافقة لها ، لكونها مظاهر أسمائه الحسنى ، فلولا الظالمون لكان اسم «المنتقم» معطّلاً ، ولولا أهل الزلاّت لكان اسم «التوّاب الرحيم» معطّلاً ، ولولا الجاحدون المعاندون المتكبِّرون لكان اسم «اللاعن والراجم» معطّلاً ، وهكذا الشأن في سائر الأسماء .

ص: 469

فإن قلت : إنّ اسم المنتقم ليس داعيا إلى إيجاد الظالم ، بل ظلم الظالم سبب لحصول اسم المنتقم للّه تعالى .

قلت : هذا كلام ظاهري قشريّ ، وذلك لأنّ الظالم ليس إيجاده اضطراريّا ، بل كان هو في جملة معلومات اللّه الغير المتناهية المنتزعة من القدرة الكاملة ؛ أي كان في علم اللّه تعالى أنّ من مقدوراته ذات في طبعه أن يختار الظلم إن أوجد وأقدر وخيّر ، وظاهر أنّ كلّ ما في علمه تعالى ليس مستحقّا للوجود وممّا يتحلّى بحلية الوجود ، وليس اختيار اللّه تعالى طائفة منها للإيجاد على سبيل البخت والاتّفاق بلا حكمة في التخصيص ، فالحكمة في إيجاد من علم أنّ في طبعه الظُّلَمَ المتقدّمة على الإيجاد هي الموجبة لاسم المنتقم للّه تعالى .

گر نكردى فهم ، بگذر زين مقال خويش را باطل مگردان در جدال

فلنشرح أجزاء الحديث على وفق الاُصول المتقدِّمة :

قوله عليه السلام : (لأهْلِ مَحَبَّتِه). [ح 2 / 396]

أي للذين لهم أهليّة أن يحبّهم اللّه تعالى ، أو هم أهلٌ أن يحبّون اللّه . وهذا هو الأظهر بقرينة قوله عليه السلام : (ووَضَعَ عنهم ثِقْلَ العملِ) أي حالة الكسالة التي تكون للمتكلّفين ، فهم يؤتون ما اُتوا من العبادات على كمال الشوق والنشاط ، والسرور والانبساط، لا للخوف من العذاب ، أو لطمع الأجر والثواب ، بل لأنّه ممّا أمرهم به محبوبهم «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينا وَيَتِيما وَأَسِيرا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّه ِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورا»(1) .

ثمّ من العمل الصبر على البلايا ، والمحبّون يتلذّذون بمرارته ، ويعدّون كلّ بلاء مائدةً من محبوبهم نازلةً عليهم ، وذلك لأنّ إيراد اللّه تعالى البلاء على المحبّين ليس ليعرف حالهم من الصبر والجزع ، بل هو أذابه لأجل التصفية عن الكدورات الإمكانيّة .

ص: 470


1- الإنسان (76) : 8 - 9 .

بقدر الإمكان ، كما يُفعل ذلك بالذهب والفضّة ، ويعبّر عن ذلك أهل الصناعة بالوضع في الخلاص ، وإذ اُورد على المحبّ بلاء يستدلّ بذلك على أنّ المحبوب في مقام تصفيته فيبتلاه بذلك ، وللمحبّ حرقة اُخرى لازمة للمحبّة ليس شيء في الدنيا والآخرة ألذَّ منها ، بل بها حياته وبفقدها مماته ، يعرف ذلك معرفةً ضعيفةً من ابتُلي بالعشق ، وفتنته مدرة خولطت بدم وبلغم وتناسبت أجزاؤها ، وكان ممّن انفكّت رقبته عن أسر الشهوة البهيميّة ، فهو كالظمآن تراءى له من بُعد سرابٌ بِقيعةٍ ، فحسبه ماءً حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا . وإلى تلك الحرقة اللذيذة أشار العطّار وتمنّاها حيث قال في منطق الطير :

هركه را خوش نيست دل با درد تو *** خوش مبادش زانكه نبود مرد تو

ذرّه اى دردم ده اى درمان من *** زانكه بى دردت بميرد جان من

كفر كافر را و دينْ دين دار را *** ذرّه اى دردت دل عطّار را(1)

وفي مناجاة الإمام زين العابدين عليه السلام : «إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبّتك فرام منك بدلاً ، ومَن ذا الذي آنس بقربك فابتغى عنك حولاً ، فاجعلني من الذين هم بالبدار إليك يسارعون ، وبابك على الدوام يُطرقون ، وإيّاك في الليل والنهار يعبدون» .(2)

قوله عليه السلام : (لِسَبْقِ عِلْمِه فيهم). [ح 2 / 396]

أي لعلمه السابق على خلقهم أنّ ذواتهم الشخصيّة بحيث لو وجدت واُعطيت العقلَ الذي هو صحّة مناط التكليف ، ودعاهم الرُّسل إلى الحقّ ، ما اختاروا إلاّ المعصية ، ولو وجدوا أدوات العمل ما صرفوها إلاّ في المعصية ، فكلّ ما يعطونه من الأدوات فهو قوّة المعصية بالنظر إليهم ، ولمّا لم يكن وجودهم ووجود معصيتهم منافيا لسلطان اللّه وإلهيّته - عظم شأنه - بل كان باعتبار ترتّب العذاب على خبائث أعمالهم والانتقام للمظلومين مظهرا لغاية من غايات الأسماء الجلاليّة ، أوجدهم ووهب لهم القوّة على معصيته . .

ص: 471


1- . منطق الطير ، ص 24 .
2- قطعتان من مناجاة المحبّين ومناجاة المريدين . راجع: بحار الأنوار ، ج 94 ، ص 147 - 148 .

قوله عليه السلام : (ومَنَعَهُم إطاقَةَ القبولِ) . [ح 2 / 396]

في الصحاح : «المنع : خلاف الإعطاء . ومنعت الرجل عن الشيء فامتنع منه» .(1)

والمراد الأوّل ؛ أي لم يعطهم ما يطاق به القبول عن العقول والأنبياء من أسباب التوفيق ؛ لعدم انتفاعهم بها على منوال قوله تعالى : «وَلَوْ عَلِمَ اللّه ُ فِيهِمْ خَيْرا لاَءَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ»(2) ، هذا على ما في الكافي .

وأمّا على ما في التوحيد وهو: «ولم يمنعهم إطاقة القبول»(3) فالمراد الثاني ، وعلى هذا فنصب الإطاقة من باب الحذف والإيصال ، أي لم يسلبهم القدرة على القبول ، بل كان في وسعهم أن يقبلوا وإن لم يستطيعوه ، أي لم يتيسّر لهم أن يصيروا علّة تامّة له . وسيأتي في باب الاستطاعة .

وقوله عليه السلام : (ولم يَقْدِروا أن يأتوا حالاً تُنْجِيهم من عذابه). [ح 2 / 396]

أي لم يستطيعوا ؛ فإنّ القدرة قد تطلق على الاستطاعة .

وتحقيق المقام أنّ للإنسان بالنسبة إلى فعله الاختياري ثلاثَ حالات :

حالة لم يبق معها شيء ممّا يتوقّف عليه وجود ذلك الفعل ، وهذا إذا تهيّأ له جميع ما يحتاج إليه من الأسباب والشرائط والمعدّات وارتفاع الموانع ، كصحّة البدن ووجدان الآلات الداخليّة والخارجيّة وتخلية السرب ومصادفة ما يهيج معه الإرادة ، وليس وجود الفعل وعدمه بالنسبة إلى صاحب الحالة سواءً ، بل يقع الشروع في الفعل لا محالة ، ويستتمّ ما لم ينفسخ الإرادة بعروض مهيّج لإرادة مقابلة للاُولى ، ولم يعرض مانع من الخارج أو خلل في الآلة .

وحالة اُخرى تكون النسبتان معها متساويتين ، وتحقّق كلّ من الفعل والترك متوقّف على انضمام إرادة هي المعبّر عنها بالإجماع في اصطلاح العلماء ، وذلك إذا حصل جميع الشرائط والأسباب سوى المصادفة المذكورة . .

ص: 472


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1287 (منع) .
2- الأنفال (8) : 23 .
3- التوحيد ، ص 354 ، ح 1 .

وحالة ثالثة يمتنع معها الفعل ، وذلك بأن يكون فاقدَ الآلة ، أو غيرَ مخلّي السرب .

إذا تبيّن ذلك فنقول : قد يطلق على الحالة الاُولى لفظ «الاستطاعة» وعلى الثانية لفظ «القدرة» وعلى الثالثة لفظ «العجز» أو نحوه ، والأخبار التي تدلّ على أنّ الاستطاعة مع الفعل ناظرة إلى هذا الإطلاق ، وقد تطلق تلك اللفظة على الحالة الثانية ، والأخبار الدالّة على أنّ الاستطاعة قبل الفعل - كما أورده الصدوق طاب ثراه في كتاب التوحيد - ناظرة إلى هذا .

وقد يطلق لفظ «القدرة» على الحالة الاُولى ، وهذا الحديث ناظر إلى هذا ؛ فلا تغفل .

وقوله عليه السلام : (وهو معنى شاء ما شاء). [ح 2 / 396]

المراد بالاُولى مشيّة اللّه الحادثة الفعليّة ، وبالثانية مشيّته الذاتيّة القديمة ، أي وهذا الذي قلنا: إنّهم لم يقدروا أن يأتوا حالاً تنجيهم من العذاب ، أي ما يسّر اللّه لهم ما يستطيعون به إتيان ما يُنجيهم معنى أنّه تعالى شاء بعد إيجاد العالم ما شاء قبل الإيجاد بالمشيّة الذاتيّة ، وهو سرّ مطابقة المشيّة الفعليّة للمشيّة الذاتيّة .

ويمكن أن يكون «ما» في «ما شاء» للتفخيم ، والمعنى أنّ ما في ألسنة الراسخين في العلم من أنّه تعالى شاء ما شاء المعنيّ بذلك أنّه علم من بين معلوماته - التي لا تتناهى - ما استحقّ فيضان الوجود عليه وما لم يستحقّ ؛ واللّه أعلم بحقائق كلام أوليائه .

باب الخير والشرّ

[باب الخير والشرّ]

قوله : (فطوبى لِمَنْ أجْرِيْتُ الخيرَ على يَدَيْهِ(1)) . [ح 2 / 399]

أي يسّرت أسبابه له .

باب الاستطاعة

[باب الاستطاعة]

قوله : (أتَسْتَطِيعُ أنْ تَعْمَلَ ما لم يُكَوِّنْ) . [ح 2 / 416]

المراد بالتكوين التعيين في القضاء والقدر على وفق سابق علمه بما يستحقّ الوجود .

ص: 473


1- في الكافي المطبوع: «أجريت على يديه الخير».

وفي حواشي السيّد الجليل الرفيع :

الاستطاعة للشيء: التمكّن منه ، وانقياد حصول ذلك الشيء له ، واستطاعة أحد الطرفين لا تستلزم استطاعة الطرف الآخر ، بخلاف القدرة ؛ فإنّ القدرة على أحد الطرفين يلزمها القدرة على الآخر ، والقدرة على الفعل تسبقه بمراتبَ بخلاف الاستطاعة ، فقوله : «فجعل فيهم آلة الاستطاعة» أي آلة حصولها، وما يتمّ به حصولها .(1)

وفي شرح صدر المحقّقين :

أراد بالاستطاعة هنا الاستعداد التامّ الذي لا يكون إلاّ مع الأثر ، وأراد بآلة الاستطاعة جميع ما يتوقّف عليه الأثر ، فعلاً كان أو تركا ، فاستطاعة الفعل لا تكون إلاّ مع الفعل ، واستطاعة الترك لا تكون إلاّ مع الترك . انتهى .(2)

وروى الصدوق - طاب ثراه - في التوحيد بالإسناد إلى أبي محمّد العسكري ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم السلام ، قال : قام رجل إلى الرضا عليه السلام وقال له : يابن رسول اللّه ، صِف لنا ربّك؛ فإنّ مَن قِبَلَنا قد اختلفوا علينا . فقال الرضا عليه السلام : «إنّ من يصف ربّه بالقياس لا يزال الدهرَ في الالتباس» إلى قوله : «لا يمثّل بخليقته ، ولا يجور في قضيّته ، الخلق إلى ما علم منقادون ، وعلى ما سطر في المكنون من كتابه ماضون ، لا يعملون خلاف ما علم منهم ، ولا غيره يريدون» الحديث .(3)

وأيضا في التوحيد في باب القضاء والقدر : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : «بحرٌ عميق فلا تَلِجْه».

قال : يا أمير المؤمنين : أخبرني عن القدر ، قال : «طريقٌ مظلم فلا تسلكه».

قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : «سرّ اللّه فلا تكلّفه» .

قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : «أمّا إذا أبيت فإنّي سائلك : أخبرني أكانت رحمة اللّه للعباد قبل أعمال العباد ، أم كانت أعمال العباد قبل رحمة اللّه؟» فقال الرجل : بل كانت رحمة اللّه قبل أعمال العباد ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : .

ص: 474


1- الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 509 .
2- شرح اُصول الكافي لصدر المتألّهين ، ص 420 .
3- التوحيد ، ص 47 ، ح 24 .

«قوموا، فسلّموا على أخيكم ؛ فقد أسلم» وقد كان كافرا .

قال : فانطلق الرجل غيرَ بعيد ، ثمّ انصرف إليه ، فقال : يا أمير المؤمنين أبالمشيّة الاُولى نقوم ونقعد ، ونقبض ونبسط؟

فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : «وإنّك لبعد في المشيّة ، أما إنّي سائلك عن ثلاث لا يجعل اللّه لك في شيء منها مخرجا: أخبرني أخلق اللّه العباد كما شاء ، أو كما شاؤوا؟» فقال : كما شاء ، قال : «فخلق اللّه العباد لما شاء ، أو لما شاؤوا؟» فقال : لما شاء ، قال : «يأتونه يوم القيامة كما شاء ، أو كما شاؤوا؟» قال : يأتونه كما شاء ، قال : «فقم ليس عليك(1) من المشيّة شيء» .(2)

تمّ ما علّقناه على كتاب التوحيد من الكافي ، والحمد للّه حقَّ حمده ، والصلاة على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين . .

ص: 475


1- في المصدر : «إليك» .
2- التوحيد ، ص 365 ، ح 3 .

ص: 476

كتاب الحجّة

اشارة

ص: 477

ص: 478

باب الاضطرار إلى الحجّة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

كتاب الحجّة

باب الاضطرار إلى الحجّة

قوله: (إنّ الجوارحَ إذا شَكَّتْ في شيءٍ شَمَّتْه أو رَأَتْه أو ذاقته [أو سَمِعَتْهُ]، رَدَّتْهُ إلى القلبِ ، فيستيقن اليقينَ ويبطل الشكَّ). [ح 3 / 436]

الشكّ في المسموع: مثل أن يسمع مجاوبة الجبل، فيتوهّم أنّه يتكلّم كالأصل، والقلب هو الذي يرشده إلى الصواب، فيعلم أنّه الصدى ليس إلاّ.

والشكّ في المرئيّ: مثل أن يرى في البعد البعيد شجرا قصيرا، فإذا دنا منه رآه طويلاً، فيتوهّم أنّه نما في مدّة السير إليه هذا النموّ، والقلب هو الذي يرشده إلى الصواب، فيعلم أنّ المنشأ بُعدُ المسافة و قربها لا النموّ.

والشكّ في المشموم: مثل أن يشمّ نتن العذرة من بيتٍ كانت فيه وقتا، فيتوهّم أنّ أجزاءها الصغار تفشّت في الفضاء وتلوّثت سطوح الجدران وغيرها بها، فالقلب يرشده إلى الصواب، فيعلم أنّ النتن كيفيّة حدثت بالمجاورة، وليس من فُشُوّ الأجزاء، ولم يتلوّث السطوح.

والشكّ في المَذوق: مثل أن يذوق خلاًّ حادّا، فيتوهّم أنّ به لسعا، كما بإبرة العقرب والزنبور، فالقلب يرشده إلى الصواب، فيعلم أنّ الكيفيّة هي السبب.

والشكّ في الملموس: مثل أن يلمس ريحا في الفضاء بعد ما لم يكن، فيتوهّم أنّ الفضاء خلأ وذات الريح حدثت فيه، والقلب يرشده إلى الصواب، فيعلم أنّ الخلأ محال ، والحادث حركة الهواء الذي كان ساكنا.

ص: 479

والأظهر أنّ شكّ الحواسّ والردّ إلى القلب كناية عن احتياجها في الإدراك إليه و كون معرفتها به. قال الصادق عليه السلام في الكتاب المشتهر بالإهليلجة مخاطبا للطبيب الذي أنكر وجود غير المحسوس:

«أمّا إذ أبيت إلاّ الجهالة ، و زعمت أنّ الأشياء لا تدرك إلاّ بالحواسّ، فإنّي اُخبرك أنّه ليس للحواسّ دلالة على الأشياء ، ولا فيها معرفة إلاّ بالقلب؛ فإنّه دليلها و معرّفها الأشياء التي تدّعي أنّ القلب لايعرفها إلاّ بها.

فقال: أمّا إذ نطقت بهذا، فما أقبل منك إلاّ بالتخليص والتفحيص منه بإيضاحٍ وبيانٍ وحجّةٍ وبرهانٍ.

قلت: فأوّل ما أبدأ به أنّك تعلم أنّه ربما ذهبت الحواسّ أو بعضها، ودبر القلب للأشياء التي فيها المضرّة والمنفعة من الاُمور العلانية والخفيّة، فأمر بها ونهى، فنفذ فيها أمره، وصحّ فيها قضاؤه.

قال: إنّك تقول في هذا قولاً يشبه الحجّة، ولكنّي اُحبّ أن توضحه لي غير هذا الإيضاح.

قلت: ألست تعلم أنّ القلب يبقى بعد ذهاب الحواسّ؟

قال: نعم، يبقى بغير دليل على الأشياء التي تدلّ عليها الحواسّ.

قلت: أفلست تعلم أنّ الطفل تضعه اُمّه مضغةً ليس تدلّه الحواسّ على شيءٍ يسمع ولايبصر ولا يُذاق ولا يلمس؟(1)

قال: بلى.

قلت: فأيّة الحواسّ تدلّه(2) على طلب اللبن إذا جاع، والضحك بعد البكاء إذا روى من اللبن؟ وأيّ حواسّ سباع الطير ولاقط الحبّ ، منها دلّها على أن تلقي بين أفراخها اللحم والحبّ، فتهوي(3) سباعها إلى اللحم والآخرون إلى الحبّ؟ وأخبرني عن فراخ طير الماء؛ ألست تعلم أنّ فراخ طير الماء إذا طُرحت فيه سبحت، و إذا طُرحت [فيه] فراخ طير البرّ غرقت، والحواسّ واحدة ، فكيف انتفع بالحواسّ طير الماء وأعانته على السباحة ، ولم ينتفع طير البرّ في الماء بحواسّها؟ وما بال طير البرّ إذا غمستها في الماء ساعةً ماتت، وإذا».

ص: 480


1- في المصدر : + «ولايشمّ».
2- في المصدر : «دلّته».
3- في المصدر : «فتأوي».

أمسكت طير الماء عن الماء ساعةً ماتت؟ فلا أرى الحواسّ في هذا إلاّ منكسرا عليك، ولا ينبغي ذلك أن يكون إلاّ من مدبّرٍ حكيمٍ جعل للماء خَلقا وللبرّ خَلقا.

أم أخبرني ما بال الذرّة التي لا تعاين الماء قطّ تُطرح في الماء وتسبح، وتلقى الإنسان ابن خمسين سنة من أقوى الرجال و أعقلهم لم يتعلّم السباحة فيغرق؟ كيف لم يدلّه عقله و لبّه وتجاربه و بصره بالأشياء مع اجتماع حواسّه و صحّتها أن يدرك ذلك بحواسّه ، كما أدركته الذرّة إن كان ذلك إنّما يُدرك بالحواسّ؟

أفليس ينبغي لك أن تعلم أنّ القلب الذي هو معدن العقل في الصبيّ الذي وصفت وغيره ممّا سمعت من الحيوان، هو الذي يهيّج الصبيّ إلى طلب الرضاع، والطير اللاقط على لقط الحبّ، والسباع على ابتلاع اللحم».

وقال عليه السلام بعد كلام: «لأنّ اللّه تبارك وتعالى جعل القلب مدبّرا للجسد، به يسمع ، وبه يبصر، وهو القاضي والأمير عليه، لايتقدّم الجسد إن هو تأخّر، ولايتأخّر إن هو تقدّم، وبه سمعت الحواسّ وأبصرت، إن أمرها ائتمرت، وإن نهاها انتهت، وبه ينزل الفرح والحزن، وبه ينزل الألم، إن فسد شيء من الحواسّ بقي على حاله، وإن فسد القلب ذهبت جميعا(1) حتّى لايسمع ولايبصر».(2)

انتهى ما أردنا نقله من كتاب الإهليلجة، وسيجيء في كتاب الإيمان والكفر في باب أنّ الإيمان مبثوث بجوارح البدن : «فليس من جوارحه جارحةٌ إلاّ وقد وُكِّلَتْ من الإيمان بغير ما وُكِّلت به اُخْتُها، فمنها قلبُه الذي به يَعقِلُ ويَفْقَه ويفهم، وهو أميرُ بدنه الذي لاتَرِدُ الجوارحُ ولاتَصدُرُ إلاّ عن رأيه وأمره» الحديث.(3) وقد ذكر في موضعين من الباب المذكور بسندين.(4)

هذا ومحصّل الدليل أنّ الحكمة البالغة أبت أن يقع الخلق في شُبهةٍ من جهة الخلقة، ولمّا كان النظام الواقع - الذي هو أعلى النظام - على وجهٍ يلزمه ثوران الفتن والشبهات بتصادف الأهواء وتصادم الاختيارات، مَنَّ الحكيم الخبير الرؤوف الرحيم - تعالى7.

ص: 481


1- في المصدر : «جميعها».
2- بحارالأنوار، ج 3، ص 159 - 162؛ و ج 61 ، ص 55 - 61 ، ح 45.
3- الكافي، ج 2، ص 33، ح 1.
4- المصدر، ح 7.

شأنه - على العباد بنصب المميّزات في مواقع الشبهات ؛ «لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَةٍ»(1).(2)النهاية، ج 2، ص 179 (رأى).(3)

ولمّا وجد «عمرو بن عبيد» نصب المميّز في أمر الحواسّ أفاده بزعمه لهشام، غافلاً عمّا يتبعه من الكَبْح(4) والإلزام، وبعد ما نبّه عليه تفطّن أنّ للكلام غورا بعيدا، فعظّم هشاما وأجلّ مكانه، ولم ينطق بشيءٍ مادام جالسا، دهشةً وهيبةً ؛ وذلك لأنّه وجد نفسه معترفةً بوقوع الشبهة. كيف لا ولم يُفصَّل في محكمات الكتاب والسنّة حكم كلّ واقعةٍ تحدث في الاُمّة، وإلاّ لما احتاجوا إلى القياسات والاستحسانات.

قال ابن الأثير في النهاية - وهو في تتبّع الآثار والغور فيها بمكانٍ رفيعٍ - :

المحدّثون يسمّون أصحاب القياس أصحاب الرأي، يعنون أنّهم يأخذون بآرائهم فيما يشكل من الحديث أو ما لم يأت فيه حديث ولا أثر(4). انتهى.

وظاهرٌ أنّ القياس والاستحسان لايفيدان إلاّ ظنّا، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا. وسيتبيّن في باب تفسير «إنَّا أَنْزَلْناهُ» بطلان مذهب المصوّبة الذين يقولون : ليس للّه في كثير من الواقعات حكمٌ في نفس الأمر، بل ما استقرّ عليه رأي المجتهد فهو حكم اللّه الواقعيّ، وإن استقرّ رأي مجتهدٍ آخر على نقيضه فهو أيضا حكم اللّه الواقعيّ، فلم يتصوّر خطأ في الحكم، بل الكلّ مصيبون؛ لأنّ حكم اللّه تابع لآرائهم. تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وكذا مذهب المخطّئة الذين يقولون : إنّ اللّه حكما في كلّ واقعة، ولكن لم يبيّن لنبيّه صلى الله عليه و آله إلاّ بعضها ، ووكل العباد في البواقي إلى عقولهم؛ لكي يستفرغ المجتهدون منهم وُسعهم في طلبها، فإن أصابوا كان لهم أجران، وإن أخطأوا فأجرٌ واحدٌ، والحقّ).

ص: 482


1- الأنفال (8) : 42 .
2- إشارة إلى الآية 165 من سورة النساء
3- : «لَئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ».
4- كبح الدابّة: جذب لجامها لتقف. وبالسيف: ضرب. وفلانا: ردّه عن الحاجة. القاموس المحيط، ج 1، ص 244 (كبح).

أنّهم مأثومون و إن أصابوا لما ثبت عن أصحاب العصمة عليهم السلام أنّ القضاة أربعةٌ، ثلاثةٌ في النار ، وواحدٌ في الجنّة؛ أمّا الذين في النار: فمن أخطأ الحكم جهلاً، ومن أصاب الحكم جهلاً، ومن لم يحكم بالحكم عمدا.(1)

والمذهب الحقّ - الذي ذهب إليه الفرقة المحقّة الاثنا عشريّة التي سبقت لهم من اللّه الحُسنى - : أنّ للّه تعالى على كلّ قضية حكما - حتّى أرش الخدش - أنزله في كتابه مجملاً، و بيّنه لنبيّه صلى الله عليه و آله مفصّلاً، واستودع النبيُّ صلى الله عليه و آله جميع تلك الأحكام الربّانيّين من أهل بيته عليهم السلام ، وهم أهل الذكر الذين أمر اللّه بالسؤال عنهم والرجوع إليهم، فبيّنوا لهم على علمٍ ويقينٍ ، كما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يبيّن ذلك.

وقد سبق في باب البدع والرأي والمقاييس عن أبي عبداللّه عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «إنّ عند كلّ بدعةٍ تكون من بعدي يُكاد بها الإيمانُ وليّا من أهل بيتي مُوكَّلاً به يَذُبُّ عنه، ينطق بإلهامٍ من اللّه، ويُعْلِنُ الحقَّ ويُنوّره، ويردّ كيد الكائدين». الحديث.(2)

وفيه عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، قال لسماعة بن مهران : «إنّما هلك من هلك [من[ قبلكم بالقياس» ثمّ قال : «لعن اللّه أبا حنيفة، كان يقول: قال عليّ وقلتُ، وقالت الصحابة وقلتُ» ثمّ قال : «أ[كنت] تجلس إليه؟».

فقلت : لا، و لكن هذا كلامه. فقلت أصلحك اللّه ، أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله الناس بما يكتفون به في عهده؟

فقال : «نعم و ما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة».

فقلت: فضاع من ذلك شيء؟

فقال : «لا، هو عند أهله».(3)

وفي بابٍ بعده وهو باب الردّ إلى الكتاب والسنّة : «أنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه الناس إلاّ وقد جاء فيه كتابٌ أو سنّة».(4)ر.

ص: 483


1- راجع: الكافي، ج 7، ص 407، باب أصناف القضاة، ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 4، ح 3221؛ تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 218، ح 5.
2- الكافي، ج 1، ص 54، ح 5.
3- الكافي، ج 1، ص 57، ح 13.
4- الكافي، ج 1، ص 59 ، مع اختلاف يسير.

ومن كلام أميرالمؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا : «يرد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام ، فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم ، فيصوّب آرائهم جميعا ، وإلههم واحدٌ ، ونبيّهم واحدٌ ، و كتابهم واحدٌ؛ أفرأى أمرهم(1) اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه دينا تامّا فقصّر الرسول صلى الله عليه و آله عن تبليغه وأدائه ، واللّه سبحانه يقول: «ما فَرَّطْنا فِي الكِتابِ مِنْ شَيءٍ»(2) وفيه تبيان كلّ شيء، وذكر أنّ الكتاب يُصدّق بعضه بعضا، وأنّه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا»(3)نهج البلاغة، ص 61 ، الخطبة 18.(4)، وأنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق؛ لاتُفنى عجائبه ، ولاتنقضي غرائبه ، ولاتُكشف الظلمات إلاّ به».(4)

ولعلّك تقول: هو ذا فقهاؤنا - رضوان اللّه عليهم - مع كمال التقوى والديانة قد اختلفوا في الفتاوى، فما الوجه في ذلك؟ فاعلم أنّه قد سبق أنّ اللّه أنزل جميع الواقعات الحادثة إلى يوم القيامة على نبيّه صلى الله عليه و آله ، وهو استودعها وصيّه وخليفته أميرالمؤمنين عليه السلام ، و هكذا توارث الأوصياء عليهم السلام واحدا بعد واحد إلى أن انتهى الأمر إلى الحجّة الخلف المنتظر وليّ الأمر وصاحب العصر ، صلوات اللّه وسلامه عليه و على آبائه الطاهرين.

ولو قلّدوا الموصى إليه اُمورها لَزُمّت بمأمون عن العثرات(5)

كما قال مادح آل محمّد عليهم السلام دعبل الخزاعي في قصيدته، ولكنّ الحسد وحبّ الرئاسة الباطلة حملا جماعة على أن غصبوا الخلافة ، وصرفوها عن أهلها بالزور والتدليس، ولم يمكّنوهم ممّا نصبوا له من إعلان الحقّ والإفتاء بما أنزل اللّه تعالى على علمٍ ويقينٍ ، كما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يفعل، واللّه تعالى أملى لهم بحسب.

ص: 484


1- في المصدر : «أفأمرهم» بدل «أفرأى أمرهم».
2- الأنعام (6): 38.
3- النساء
4- : 82 .
5- العدد القويّة، ص 286؛ كشف الغمّة، ج 2، ص 320؛ بحارالأنوار، ج 53، ص 246.

الحكمة الكاملة إلى زمان الخروج.

خروج إمامٍ لا محالة خارج *** يقوم على اسم اللّه بالبركات(1)

وليس هذا بمستبعد من الحكمة، كما قال سبحانه: «وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ »(2) ، فكما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله فرّ من المشركين إلى الغار وكانت الأرض في مدّة غيبته خالية عن حجّةٍ ظاهرةٍ ، متمكّنة من دعوة الخلق وتمييز الحقّ من الباطل والهدى من الضلال، ولم يكن للناس على اللّه حجّة في ذلك لكون عدم الظهور والتمكّن من جهتهم لا من جهة اللّه تعالى؛ إذ هو سبحانه قد أزاح العلل بنصب من يقوم بالأمر إن مكّنوه؛ فكذلك أئمّتنا عليهم السلام اعتزلوا في زوايا الخمول من استيلاء متغلّبي أعصارهم، ولم يتمكّنوا من إظهار ما أنزل اللّه على نبيّه صلى الله عليه و سلم ، واستحفظه النبيّ صلى الله عليه و سلم الربّانيّين من أهل بيته، فكانوا مغلوبين مقهورين مبتزّين، يَرَوْن حكم اللّه مبدّلاً، وكتابه منبوذا، وشرائعه محرّفة عن جهات إشراعه، وسنن نبيّه متروكة، وكانوا إذا سُئلوا في الواقعات الطارئة عمّا هو حكم اللّه تعالى فيها أفتوهم على التقيّة في الأكثر، وأوقعوا فيهم الاختلاف عمدا؛ لئلاّ يشتهروا بمخالفة أئمّة الجور ، فيتضرّروا هم و شيعتهم منهم، ووصل إلينا معاشر أيتام آل محمّد عليهم السلام المنقطعين عنهم من أخبارهم وآثارهم ما اشتبه التقيّة وغير التقيّة، و اُضيف إلى ذلك التحريفات والتغييرات من جهة الرواة والنسّاخ، فامتزج الحكم الواقعيّ بغير الواقعيّ، فاضطررنا - من جهة الخلق لا من جهة الخالق - إلى التحرّي والاجتهاد بقدر الوسع والطاقة، ووقع الاختلاف فينا من هذه الجهة، فنحن كمن حبسه ظالم في محبسٍ مظلمٍ لايستطيع أن يستعلم القبلة وأوقاف الصلوات فيتحرّى بقدر الوسع، وليس لأحدٍ أن يحتجّ على اللّه تعالى بوقوع الإبهام في أحكامه بالنسبة إلى ذلك الشخص المحبوس، وتجويزه تعالى الاختلاف فيها، وأين هذا الاختلاف من اختلاف3.

ص: 485


1- . عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 265، ح 35؛ كمال الدين، ج 2، ص 372، ح 6؛ دلائل الإمامة، ص 183؛ روضة الواعظين، ج 2، ص 268؛ العدد القويّة، ص 291. وفي كل المصادر : «والبركات» بدل «بالبركات».
2- الأعراف (7): 183.

المصوّبة والمخطّئة الذين يقولون : إنّ الإبهام الداعي إلى الاجتهاد والتظنّي من قبل اللّه لا من قبل الخلق، فنحن مضطّرون إلى الاجتهاد المستلزم للاختلاف من جهة الظَّلَمة لا من جهة اللّه، وهم على زعمهم الفاسد مأمورون بالاجتهاد، بل بالاختلاف؛ لأنّ الأمر بالملزوم أمرٌ باللازم، فهم مصداق ما أخبر اللّه تعالى بقوله: «وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَة قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ».(1)

ومَثَلنا مثل قطيع من الغنم وكلّ عليها مولاها راعيا بصيرا ذا معرفة بالمشرع والمرعى، فحبسه ظالم و منعه عن القيام بأمر القطيع، ثمّ إنّا وإن انقطعنا عن راعينا إلاّ أنّا منتظرون لإنجاز ما وعد اللّه - تبارك و تعالى - أئمّتنا عليهم السلام بقوله: «وَ نُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْءَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ »(2) ووعد شيعتهم المؤمنين بقوله: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَ عَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْءَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا»(3) ، ومثلهم كمثل عدّة شاة من القطيع أفلتت الراعي وأخذت تعدو في الصحاري حيارى، لاتهتدي إلى ماءٍ ولامرعى حتّى انتظمت عمّا قليل في زمر الهالكين والصرعى.

وليكن ختام الكلام بما قلت في مرثيتي للحسين عليه السلام نظما ونثرا، وكأنّي بمولانا القائم عليه السلام وقد سلّ سيف الانتقام من غمده، وأمر بإحضار يزيد اللعين وجُنده، فحمل عليهم حملاتٍ ، وقطّعهم قطعاتٍ، ذلك جزاؤهم في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى ، ثمّ رخّص لأنصار اللّه قتل سائر النواصب، فحملوا عليهم بالرماح الشواجر، والسيوف القواضب ، كأنّ أكَمَةً من الحطام جرى عليها السيل، أو أنوار الصبح هَجَمَت بغتةً على ظلام الليل، أو كان اللّه تعالى أرسل على أصحاب الفيل: «طَيْرا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ»(4) (نظم) : .

ص: 486


1- الأعراف (7): 28.
2- القصص (28): 5.
3- النور (24): 55.
4- الفيل (105) : 3 - 5 .

أيا نفس قد آن الخروج فهيّئي *** لتروي بهم حدّ القواضب والقنى

ولا تحسبنّ اللّه مخلف وعده *** فها هو ذا اليوم يُنجزُ أو غدا

ولا تقنطي من رحمة اللّه أنّه *** لأكرمَ مسؤول وأفضل مُرتجى

قوله : (إنّي رجلٌ صاحبُ كلامٍ) .[ح 4 / 437]

المراد بالكلام الدلائل الجدليّة التي بناؤها على الوضع إمّا من العامّة، أو طائفة خاصّة، أو من خصوص المخاطب؛ ولمّا كانت مجادلات رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالتي هي أحسن - التي مرجعها إلى وضع ما هو واقع في نفس الأمر من دون استعمال مشاغبة ومغالطة وإن اُخذ على أنّه مشهور، أو مسلّم طائفة، أو مسلّم المخاطب؛ لأنّ الغرض كان إفادة إذعان القوم للدين الحقّ - لا على وجه الخديعة كما هو شأن المغالطين والمشاغبين، فمن كان له استعداد فَهم البرهان الذي هو الحكمة، كان يدعوه بها ليحصل له الإذعان اليقيني، ومن لم يكن له ذلك الاستعداد، كان يدعوه بأمر اللّه تعالى بالجدال بالتي هي أحسن ، والموعظة الحسنة ليرقّ قلبه، ويميل إلى الحقّ، ويحصل له شبه اليقين إلى أن يتدرّج ويرتقي إلى فهم الحكمة والبرهان، فلذلك قال عليه السلام : «من كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أو من عندك؟» ولمّا عمّم الرجل ، قال عليه السلام : «إنّ استعمال الرسول صلى الله عليه و آله من جهة أنّه كان مأمورا به من قبل اللّه تعالى، فمَنْ أذن لك بذلك؟» وليس برهانا عقليّا حتّى يستقلّ العقل به، ولا يحتاج إلى الإذن ؛ فإنْ زعمت أنّ ما أتى به جبرئيل عليه السلام فقد أشركك فيه، فأنت إذن شريك رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإن ادّعيت أنّ اللّه تعالى أوحى إليك بالإذن على وجه الخصوص، كذّبك نفسك، وإن لم تدّع لا هذا ولا ذاك، فمن أيّ وجهٍ تُوجب علينا أن نُصغي إلى كلامك ؟ ونحن على يقين فيما عندنا، فلا نحتاج إلى البحث والفحص إلاّ أن تدّعي أنّه يجب إطاعة ما تأمرنا به ، كما كان يجب إطاعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله من جهة ظهور آياته، فهل تقول بذلك؟

فلمّا اعترف بعدم وجوب الطاعة، انسدّ عليه باب المناظرة ؛ فلذا قال عليه السلام : «فهذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلّم» ، ثمّ أمر بإحضار المتكلّمين تبرّعا لئلاّ يخطر ببال الرجل أنّ غرض الإمام عليه السلام في هذا الإلزام الفرار من الكلام .

ص: 487

وبما حرّرنا تبيّن معنى قوله عليه السلام : «إنّما قلت ويل(1) لهم إن تركوا ما أقول ، وذهبوا إلى ما يريدون» ويشهد لما بيّنّا ما قال عليه السلام لكلّ واحد من الأصحاب، خصوصا قوله عليه السلام : «تكسر باطلاً بباطل إلاّ أنّ باطلك أظهر» ، فتدبّر .

قوله : (لو كُنتَ تُحْسِنُ الكلامَ) . [ح 4 / 437]

في القاموس : «هو يحسن الشيء إحسانا، أي يعلمه ».(2)

أقول : وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام :

«وقيمة المرء ما قد كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداء»(3)

قوله : (فيالها مِن حَسْرَةٍ) . [ح 4 / 437]

«يا» حرف النداء، واللام هي الجارّة، ومعناها التعجّب. والضمير نكرة من باب ربّه رجلاً . و«من حسرةٍ» بيان . ومثل ذلك في زيارة الحسين عليه السلام : «يا لها من مصيبة».(4)

واختلف في أنّ المنادى ماذا ؟

قال الجامي بعد قول المصنّف : «ويخفض بلام الاستغاثة»:

قيل : قد يخفض المنادى بلامي التعجّب والتهديد أيضا، فلام التعجّب نحو: يا للماء ويا للدواهي، ولام التهديد نحو: يا لزيد لأقتلنّك، فلمَ أهمَلَ المصنّف ذكرهما ؟ وكيف يصدق قوله فيما بعد : وينصب ما سواهما ؟

واُجيب بأنّ كلاًّ من هاتين اللامين لام الاستغاثة، كأنّ المهدِّد - اسم الفاعل - يستغيث بالممهَّد - اسم المفعول - ليحضر، فينتقم منه ، و يسرّيح من ألم خصومته، و كأنّ المتعجّب يستغيث بالمتعجّب منه ؛ ليحضر ، فيقضي منه التعجّب ، ويتخلّص منه.

واُجيب عن لام التعجّب بوجه آخر ذكره المصنّف في الإيضاح وهو : أنّ المنادى في قوله : «يا للماء ويا للدواهي» ليس الماء ولا الدواهي، وإنّما المراد: يا قوم، أو يا هؤلاء .

ص: 488


1- في المطبوع : «فويل».
2- القاموس المحيط، ج 4، ص 214 (حسن).
3- . ديوان الإمام عليّ عليه السلام ، ص 24. و راجع: نهج البلاغة، ص 482، الحكمة 81 ؛ و ص 501، الحكمة 172؛ الإرشاد، ج 1، ص 300؛ غرر الحكم، ص 66 ، ح 869؛ و ص 383، ح 8716 .
4- الكافي ، ج 3 ، ص 220 ، ح 3 ؛ كامل الزيارات ، ص 177 ، ح 8 .

اعجبوا للماء والدّواهي .

انتهى كلام الجامي .

أقول : الأولى أن يقتصر في أمثال هذه المطالب على القدر المعلوم من استعمالات الفصحاء ، وهو إرادة التعجّب والتهديد، ويستراح من التوجيهات الركيكة التي يذكرونها على وجه التخمين ولا طائل تحتها، ولا يخطر ببال مستعملي أمثال هذه التراكيب المعنى الذي هو مقتضى التوجيه بوجه .

قوله : (فقلتُ: جُعلتُ فداك، إنّي سمعتك تنهى) إلى آخره . [ح 4 / 437]

فاعل «قلت» قائلُ «قال يونس»، وكان حاضرا في المجلس سامعا لقول يونس، أي بعدما قال الإمام عليه السلام ليونس : «لو كنت تُحسن الكلام كلّمته» قلتُ: جُعلت فداك؛ إلى آخره ، وليس كلامَ يونس ، كما لايخفى على من له دراية بأساليب الكلام .

قوله : (هذا يُنقادُ وهذا لا يُنقاد) إلى آخره . [ح 4 / 437]

قال صاحب الوافي: «الظاهر أنّ المراد قوله في المناظرات: لا نسلّم أن يكون كذا، ولو سلّم لم لا يجوز أن يكون كذا؛ وأمثال ذلك» .(1)

قوله : (وكان قد تَعَلَّمَ الكلامَ من عليّ بن الحسين عليه السلام ) . [ح 4 / 437]

شاهدٌ بأنّ كلامهم عليهم السلام كان ممتازا عن كلام غيرهم ؛ ولذلك قال أبو عبد اللّه عليه السلام للشامي : «كلامك من كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو من عندك ؟» وقال عليه السلام : «إنّما قلت: ويل(2) لهم إن تركوا ما أقول ، وذهبوا إلى ما يريدون». ويشهد بذلك أيضا ما سيجيء من قوله عليه السلام لحمران: «تُجري الكلامَ على الأثر فتُصيبُ» ، وقوله عليه السلام لقيس : «تتكلّم وأقرب ما يكون من الخبر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أبعد ما يكون منه» إلى آخر ما قال .(3)

قوله : (في فازة له) . [ح 4 / 437]

قال في القاموس في الفاء من الزاي: «الفازة: مظلّة بعمودين» .(4)).

ص: 489


1- اُنظر: الوافي، ج 2، ص 29.
2- في المطبوع : «فويل».
3- الاحتجاج ، ج 2، ص 366 ؛ الإرشاد، ج 2، ص 198.
4- القاموس المحيط، ج 2، ص 186 (فوز).

قوله : (فإذا هو ببعير بحث)(1) . [ح 4 / 437]

في بعض النسخ : «يخبّ». الخَبَب: ضرب من عدو البعير .(2)

قوله : (فتعارفا) . [ح 4 / 437]

في الصحاح : «ائت فلانا فاستعرف إليه حتّى يعرفك. وقد تعارف القوم ، أي عرف بعضهم بعضا» .(3) ومثله في القاموس (4) .

قوله : (أربُّك أنظَرُ لخَلْقِه) . [ح 4 / 437]

في القاموس : «نظر لهم: أعانهم»(5) .

أقول : الظاهر أنّ هذا من باب حاصل المعنى، وهض ل نظر في اُمورهم لتمشية ما يحتاجون إليه.

والأوَد - بالتحريك - : الاعوجاج .

قوله : (روّاع) (6). [ح 4 / 437]

في القاموس : «راع الشيء يروع ويريع»: رجع . وكشدّاد: الروّاع بن عبد ، وسلمان بن الروّاع ، وأحمد بن الروّاع ، المحدّثون» (7).

قوله : (قفّازان) . [ح 4 / 437]

في القاموس في القاف من الزاي: «قفز قفوزا : وثب »(8).

قوله : (على الخوان) . [ح 5 / 438]

في القاموس : «الخوان - كغراب وكتاب - : ما يؤكل عليه» (9).

قوله : (ولكن كَتَمَهُم) . [ح 5 / 438]

في القاموس : «كتمه كتما وكتمانا وكتمه إيّاه» (10).).

ص: 490


1- في الكافي المطبوع : «يخبّ».
2- راجع: لسان العرب، ج 1، ص 341 (خبب).
3- الصحاح، ج 4، ص 1403 (عرف).
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 175 (عرف) .
5- راجع: القاموس المحيط، ج 1، ص 671 (نظر).
6- في الكافي المطبوع : «رواغ» بالغين المعجمة.
7- راجع: القاموس المحيط، ج 3، ص 32 (روع).
8- القاموس المحيط، ج 2، ص 187 (قفز).
9- القاموس المحيط، ج 4، ص 220 (خون).
10- القاموس المحيط، ج 4، ص 169 (كتم).

قوله : (ولم يترك له مسلكا يسلكه) . [ح 5 / 438]

بإزاء هذا الخبر أخبار كثيرة نقلها الصدوق - طاب ثراه - في عيون الأخبار باب طبقات الأنبياء والرُّسُل والأئمّة (1).

باب طبقات الأنبياء و الرسل و الأئمّة

[باب طبقات الأنبياء و الرسل و الأئمّة عليهم السلام ]

قوله : (لايَكونُ السَّفِيهُ إمامَ التقيِّ) . [ح 2 / 440]

في الكشّاف ، في قوله تعالى : «لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ» (2):

الإمام : اسم مَن يؤتمّ به ، على زنة الإله، كالإزار لما يؤتزر به، أي يأتمّون بك في دينهم ، و «مِنْ ذُرّيّتى» عطف على الكاف، كأنّه قال: وجاعل بعض ذرّيّتي، كما يقال لك : ساُكرمك، فتقول : وزيدا.

«لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ» وقرئ : «الظالمون» أي مَن كان ظالما من ذرّيّتك لا يناله استخلافي في عهدي إليه بالإمامة، وإنّما ينال من كان عادلاً بريئا من الظلم. وقالوا: في هذا دليل على أنّ الفاسق لا يصلح للإمامة ، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته، ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدّم للصلاة ؟! وكان أبو حنيفة - رحمة اللّه عليه - يفتي سرّا بوجوب نصرة زيد بن عليّ رضى الله عنه ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللصّ المتغلّب المتسمّى بالإمام والخليفة كالدوانيقي وأشباهه ، وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمّد ابني عبد اللّه بن الحسن حتّى قتل، فقال : ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد ، وأرادوني على عدّ آجرّه ، لما فعلته . وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماما، وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنّما هو لكفّ الظلمة ، فإذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المَثَل السائر: من استرعى الذئب ظلم .

انتهى ما نقلناه من الكشّاف (3).9.

ص: 491


1- راجع: عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 75.
2- البقرة (2) : 124 .
3- الكشّاف، ج 1، ص 309.

قوله : (وقَبَضَ يَدَه) . [ح 4 / 442]

الظاهر أنّ الضمير البارز والمستتر راجعان إلى الباقر عليه السلام ، والكلام من الراوي ، أي لمّا قال عليه السلام : فلمّا جمع له هذه الأشياء قبض يده ، أي ضمّ أصابعه لبيان اجتماع هذه الخمسة له ، وهذا شائع في أمثال هذه المقامات .

باب الفرق بين الرسول و النبيّ و المحدّث

[باب الفرق بين الرسول و النبيّ و المحدَّث]

قوله : (يأتيه جبرئيلُ قُبُلاً) . [ح 3 / 445]

في القاموس : «رأيته قبلاً - محرّكتين وبضمّتين وكصرد وعنب - : أي عيانا ومقابلة »(1).

باب أنّ الحجّة لا تقوم للّه على خلقه إلاّ بإمام

[باب أنّ الحجّة لا تقوم للّه على خلقه إلاّ بإمام]

قوله : (بإمامٍ حتّى يُعرَفَ) . [ح 1 / 447]

هكذا في النسخ المشهورة، والظاهر أنّ «حتّى» تصحيف «حيّ» كما في بعض النسخ.

ويؤيّده ما رواه الصدوق في كتاب العلل عن يعقوب السرّاج ، قال : قلت لأبيعبداللّه عليه السلام : تبقى الأرض بلا عالم حيّ ظاهر يفزع إليه الناس في حلالهم وحرامهم ؟ فقال لي : «إذن لا يعبد اللّه يا أبا يوسف» (2).

باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة

باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة

قوله : (إنّ الأرضَ لا تخلو [إلاّ و فيها إمامٌ] ) . [ح 2 / 452]

من باب قوله تعالى : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» وانتهت أعمارهم وفنوا «أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ»(3) وجعلتم موته مستمسكا لانقلابكم ، ولعلّ

ص: 492


1- القاموس المحيط، ج 4، ص 34 (قبل).
2- علل الشرائع، ج 1، ص 195، ح 3.
3- آل عمران (3) : 144 .

بعض مَن في قلوبهم زيغ كانوا يتكفّلون هذا الرأي الفاسد ابتغاء الفتنة . والظاهر أنّ إنكار عمر موت النبيّ صلى الله عليه و آله كان مبنيّا على ذلك؛ نقل علاّمتهم الزمخشري في الفائق في النون مع الهاء :

أنّ عمر مانعهم في دفن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال : إنّه لم يمت، ولكنّه صعق كما صعق موسى ، فقال عبّاس : إنّ رسول اللّه لم يمت حتّى ترككم على طريق ناهجة، فخلّ بيننا وبين صاحبنا (1).

وهذه الجملة ذكرت استطرادا ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، فقوله عليه السلام : «إنّ الأرض لا تخلو من حجّة» إن كان من ذلك الباب، فالمعنى أنّ عمر الإنسان لا يجري ولا يمضي ولا يمتدّ إلى غايته ولا ينقضي إلاّ مع حجّة من اللّه على الخلق، ولولاها لماجت بأهلها، وانتهى عمرها .

وفي كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة في باب اتّصال الوصيّة من لدن آدم عليه السلام عن أبي حمزة الثمالي ، قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام وهو يقول : «لن تخلو الأرض إلاّ وفيها رجل منّا يعرف الحق» الحديث (2).

وفي حديث آخر عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : «لم تخل إلاّ وفيها عالم كيما إن زاد المؤمنون(3) شيئا ردّهم إلى الحقّ، وإن نقصوا شيئا تمّمه لهم» .(4)

قوله : (عن ربيع بن محمّد المسلمي(5)). [ح 3 / 453]

أورد الصدوق - طاب ثراه - هذا الحديث في كتاب إكمال الدين بإسناده عن أيّوب بن نوح عن ربيع بن محمّد المسلمي(6) ، وباقي السند والمتن موافق إلاّ أنّ «الحجّة» ذكرت هناك منكّرة ، و «ما زالت» في هذا الحديث ناقصة(7) وخبرها محذوف، والتقدير في عرضة الانحلال وتفرّق الأجزاء، أو أن تسوخ بما عليها من الحيوان وغيره . 4.

ص: 493


1- الفائق في غريب الحديث، ص 339.
2- كمال الدين، ج 1، ص 222، ح 12.
3- فى المصدر: «المسلمون».
4- كمال الدين، ج 1، ص 221، ح 6 .
5- في الكافي المطبوع: «المسلي».
6- في كمال الدين: «المُسْلي».
7- راجع: كمال الدين، ج 1، ص 229، ح 24.

وبالجملة ، الأخبار متوافرة كادت تبلغ حدّ التواتر في معنى التلازم بين وجودي الأرض والحجّة، والمراد باللزوم اللزوم الناشئ من تقدير المدبّر الحكيم ، لا اللزوم الطبيعي .

باب معرفة الإمام و الردّ إليه

[باب معرفة الإمام و الردّ إليه]

قوله : (ولا تعرفوا) . [ح 6 / 474]

هكذا في النسخ، والظاهر أنّه من النسّاخ، والصواب: «ولا تعرفون» وهكذا: «ولا تصدّقوا» .

قوله : (أبوابا أربعةً [لا يَصلُحُ أوّلُها إلاّ بآخرها]) . [ح 6 / 474]

الظاهر أنّ الأربعة هي المذكورة في الآية الآتية، والآخر الذي لا يصلح أوّلهما إلاّ به الاهتداء إلى اُولي الأمر، وسياق الحديث شاهد بذلك .

قوله : (ما وَصَفَ في عهده) . [ح 6 / 474]

أي وصف اللّه تعالى في وصيّته للعباد.

في الصحاح : «العهد : الأمان ، واليمين ، والموثق ، والوصيّة ، والذمّة . وقد عهدته إليه ، أي أوصيته ، ومنه العهد الذي يكتب للولاة »(1).

قوله : (ثمّ استخلصهم) . [ح 6 / 474]

في القاموس : «استخلصه لنفسه: استخصّه »(2).

قوله : (مُصَدقينَ بذلك في نُذُره) . [ح 6 / 474]

مصدَّقين - بفتح الدال - أي جعلهم مخصوصين بأن يكونوا من جهة الأخلاق الجميلة والصفات الحميدة والاقتران بالمعجزات الباهرة وشهادة السابق على اللاحق بحالة يصدّقهم كلّ أحد ممّن سبقت لهم من اللّه الحسنى فيما يذكرون من نذر اللّه تعالى .

ص: 494


1- الصحاح، ج 2، ص 515 (عهد) مع اختلاف يسير.
2- القاموس المحيط، ج 2، ص 301 (خلص).

في القاموس :

أنذره بالأمر إنذارا ونذرا - بالضمّ وبضمّتين - ونذيرا : أعلمه ، وحذّره ، وخوّفه في إبلاغه . والاسم : النُّذُر بضمّتين ، ومنه «فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي ونُذُرِ»(1) أي إنذاري(2) .

قوله : (اقتصّوا الطريقَ بالتماس المنار) . [ح 6 / 474]

في القاموس : «قصّ أثره قصّا : تَتبعه ، واقتصّ أثره : قصّه» .(3)

قوله : (يَفْرَغُ بعضُها في بعضٍ) . [ح 9 / 477]

في الصحاح : «فرغ الماء مثال سمع: انصبّ . وفرّغته تفريغا : صببته »(4).

والظاهر أنّ الحديث على التفعيل ليدلّ على أنّه ليس لمياه عيونهم قوّة الجريان حتّى لا يتغيّر طعمه وريحه من طول اللبث ، بل ينزحون الماء عند الاحتياج من بعض العين و يصبّونه في بعض آخر ليكثر و يفي بحاجتهم ، و بسبب التحريكات الواقعة يكون كدرا مشوبا بالحمأ ؛ لعدم المادّة القويّة ، يتناقص يوما فيوما إلى أن يجفّ، وكفى موعظةً لاُولي الألباب قوله عزّ من قائل : «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدا كَذلِكَ نُصَرِّفُ الاْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ»(5) .

باب فرض طاعة الأئمّة

باب فرض طاعة الأئمّة عليهم السلام

قوله عليه السلام : (اُشرك بين الأوصياء) [ح 5 / 487] بالبناء للمفعول، إلاّ أنّ اللّه تعالى هو أشرك ذلك حيث قال: «أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الاْءَمْرِ مِنْكُمْ»(6) .

قوله عليه السلام : (مَكسبةٌ للحسنات، مَمْحاةٌ للسيّئات) [ح 14 / 496] بفتح الميم .

في كتاب من لا يحضره الفقيه قبيل باب فضل الصلاة عن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول: «إنّ أفضل ما يتوسّل به المتوسِّلون الإيمان باللّه ورسوله» إلى قوله : «حجّ البيت ؛ فإنّه

ص: 495


1- القمر (54) : 16.
2- القاموس المحيط، ج 2، ص 140 (نذر).
3- القاموس المحيط، ج 2، ص 313 (قصص).
4- راجع: الصحاح، ج 4، ص 1324 (فرغ).
5- الأعراف (7) : 58 .
6- النساء (4) : 59 .

منفاة للفقر ، ومدحضة للذنب، وصلة الرحم ؛ فإنّها مثراة في المال ، منسأة في الأجل» (1).

في القاموس في باب الواو : «هذا مثراة للمال : مكثرة» (2). ومثله في الصحاح (3)، وضبط الميم فيه بالفتح، وأصله : مثروة ، كمقبرة .

وفي النهاية : «في حديث صلة الرحم : هي مثراة للمال ومنسأة في الأثر» .

ذكر ذلك في ذيل «ثرو» (4)، وذكر «المنسأة» في المهموز ، قال:

النس ء : التأخير ؛ يُقال : نساءً الشيء نسأ وأنسأتة إنساءً : إذا أخّرته ، والنَّساء : الاسم ويكون في العمر والدين ، ومنه الحديث : «صلة الرحم مثراة في المال، منسأة في الأثر» مفعلة منه، أي مظنّة له وموضع ، ومنه حديث ابن عوف وكان قد اُنسئ له ، وحديث عليّ رضى الله عنه : «مَن سرّه النَّساء ولانَساء» أي تأخير العمر والبقاء . انتهى (5).

أقول : لفظة «في» بعد المثراة هو الصواب كما في النهاية . وعبارة القاموس و الصحاح تشعران بأنّ اللام في المال لمعونة العمل ، وليس كذلك ؛ لأنّ الثرى لم يكن متعدّيا ، بل ولا الإثراء ، كما نصّ عليه صاحب الصحاح حيث قال : «الثراء كثرة المال . وأثرى الرجل : إذا كثرت أمواله» .

هذا ؛ ولفظ الأثر في عبارة النهاية بمعنى الأجل .

وقال في الهمزة مع الثاء المثلّثة : «في الحديث : من سرّه أن يبسط اللّه في رزقه وينسأ في أثره فليصل رحمه. الأثر: الأجل »(6) انتهى كلامه .

باب في أنّ الأئمّة شهداء اللّه عزّ وجلّ على خلقه

باب في أنّ الأئمّة شهداء اللّه عزَّ وجلَّ على خلقه

قوله : «أُمَّةً وَسَطا» . [ح 2 / 501]

في القاموس : «الوسط - محرّكةً - من كلّ شيء أعدله. «وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا»(7)

ص: 496


1- الفقيه، ج 1، ص 205، ح 613 .
2- القاموس المحيط، ج 4، ص 308 (ثرى).
3- الصحاح، ج 6 ، ص 2292 (ثرى).
4- النهاية، ج 1، ص 210 (ثرو).
5- النهاية، ج 5، ص 44 (نسأ).
6- النهاية، ج 1، ص 23 (أثر).
7- البقرة (2) : 143 .

أي عدلاً خيارا»(1) .

قوله : «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» . [ح 2 / 501]

الآية في سورة الحجّ هكذا : «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ»(2) الآية .

باب أنّ الأئمّة هم الهداة

باب أنّ الأئمّة عليهم السلام هم الهداة

قوله : (رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله المُنذِرُ و لكلّ زمانٍ منّا هادٍ) . [ح 2 / 506]

الآية في سورة الرعد هكذا : «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ»(3) .

الحصر ب «إنّما» لبيان أنّ الذي على الرسول هو الإنذار، لا ما يخصّصونك على الإتيان به تعنّتا بقولهم : «لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» . وجه الحصر أنّ الإنذار إنّما متصوّر بالنسبة إلى من كان معترفا بوجود مَن أنذر ، وبقدرته على ما أنذر به ، وإنّما منعه من الجري على مقتضى الاعتراف الهوى والشيطان ، قال اللّه تعالى : «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(4) .

إنّ اللّه تعالى جبل العقول على معرفة حقّيّة ما ينذرون به ، وهو كون اللّه ربّهم وخالقهم ووليَّ أمرهم ، وبطلانُ ما أشركتم به من الآلهة .

قال أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة : «لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الذي شهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود»(5) وإن كان القائل لولا اُنزل عليه آية متعنّتا مغلوبا للهوى .

قال تعالى : «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ»يعني ما بعثناك إليهم لتهديهم إلى معرفتنا ؛ لأنّ العقل قد

ص: 497


1- القاموس المحيط، ج 2، ص 391 (وسط).
2- الحجّ (22) : 78 .
3- الرعد (13) : 7 .
4- النمل (27) : 14 .
5- نهج البلاغة، ص 87 ، الخطبة 49.

كفاك مؤونتها ، إنّما عليك أن تنذرهم ، وتحذر عن متابعة الهوى والغفلة ، وبعد التأثّر بالإنذار ورفض الهوى بحملهم العقول على طلب مرضاة اللّه تعالى ومسخطاته ، وحينئذٍ ينصب لهم من دلائل النبوّة ما يناسب حالهم ، ويثبت به الحجّة عليهم ، ولا يعلم ذلك إلاّ الذي جبل الخلائق على طبائع مختلفة وعقول متفاوتة ، وكثيرا ما يثبت صدق النبيّ بإخبار نبيّ سابق ، وربّما يثبت بمحامد خصال اجتمعت فيه، وربّما ينغرس الصدق بمجرّد مشاهدة السيماء .

فظهر من هذا البيان أنّ المقصود جواب قولهم : «لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ»وهو قد تمّ بقوله تعالى : «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ» ولا مدخل في ذلك لقول : «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ»فينبغي الوقف على «مُنْذِرٌ» و جَعْلُ «و لِكُلِّ قَوْمٍ» كلاما مستأنفا . وقد حُرم هذا الفهمَ البيضاوي(1) ، ورُزق الكواشي ، قال :

المنذر : محمّد . والهادي : عليّ . ومن جعل الهادي محمّدا لم يقف على منذر ؛ لأنّ المعنى : إنّما أنت منذر وهاد ، ومن جعل غيره وقف على منذر . انتهى .

أقول : لو كان المراد أنّ الهادي محمّد ، كان حقّ العبارة : «إنّما أنت منذر وهاد لكلّ قوم» أو «إنّما أنت منذر لكلّ قوم وهاد» . ومن له ذوق سليم ودراية بأساليب الكلام لايخفى عليه صدق ما قلناه ؛ فتدبّر .

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم :

حدّثني أبي ، عن حمّاد ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : «المنذر : رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، والهادي : أمير المؤمنين عليه السلام وبعده الأئمّة عليهم السلام ، وهو قوله : «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» [أي] في كلّ زمان إمام هاد» . وهو ردّ على من ينكر أنّ في كلّ عصر وزمان إماما ، وأنّه لا تخلو الأرض من حجّة ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : «لا يخلو الأرض من قائم بحجّة للّه إمّا ظاهرا مشهورا ، أو خائفا مغمورا ؛ لئلاّ يبطل حجج اللّه وبيناته» (2) انتهى .

ولعلَّ قوله سبحانه : «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» شبه استيناف ؛ لما عسى أن يخطر بالبال من أنّ9.

ص: 498


1- أنوار التنزيل، ج 3، ص 319.
2- تفسير القمّي، ج 1، ص 359.

الرسول إذا انحصر في أن يكون منذرا فلا يحصل منه الهداية ، فاُجيب بأنّ اللّه تعالى وإن كان وليَّ كلّ نعمة ومفيض كلّ خير ، والهداية من أعظم النعماء وأجلّها ، إلاّ أنّ الحكمة الكاملة أبت إلاّ أن تجري الأشياء بأسبابها، والأسباب لابدّ من مناسبتها للمسببّات ، ولأجْل ذلك قيل: إنّ لكلّ قوم هاد ، وهذا بالنظر إلى المبادئ القريبة، وإلاّ فلا هادي إلاّ اللّه ، وكذلك سائر النعم ؛ فإنّ مولاها جميعا هو اللّه تعالى ، وإن كان بالنظر إلى المبادئ القريبة لكلّ منعم عليه وليُّ نعمة.

ولنذكر عدّة آيات وردت في أمر الهداية :

ففي سورة المؤمن : «وَقَالَ الَّذِى آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ»(1) ، وفي سورة الأعراف : «وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(2) ، وفيها أيضا : «مَنْ يَهْدِ اللّه ُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى»(3) ، وفي سورة الأنبياء : «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا»(4) ، وفي سورة الأنعام : «قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّه ِ مَا لاَ يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّه ُ»(5)الأنعام (6) : 161 .(6) ، وفيها أيضا : «قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّى إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(6) .

باب أنّ الأئمّة نور اللّه عزّ وجلّ

باب أنّ الأئمّة عليهم السلام نور اللّه عزَّ وجلّ

قوله : «اللّه ُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضِ»(7) . [ح 5 / 522]

في تفسير البيضاوي :

النور في الأصل كيفيّة يدركها الباصرة أوّلاً وبوساطتها سائر المبصرات، كالكيفيّة الفائضة من النيّرين على الأجرام الكثيفة العنصريّة(8) المحاذية لهما ، وهو بهذا المعنى لا يصحّ إطلاقه على اللّه تعالى إلاّ بتقدير مضاف ، كقولك : زيد كرم ، أي ذو كرم ؛ أو على تجوّز ، بمعنى منوّر السماوات والأرض ؛ فإنّه تعالى نوّرها بالكواكب وما يفيض عنها

ص: 499


1- غافر (40) : 38 .
2- الأعراف (7) : 181.
3- الأعراف (7) : 178 .
4- الأنبياء(21) : 78 .
5- الأنعام
6- : 71 .
7- النور (24) : 35 .
8- في المصدر: - «العنصريّة».

من الأنوار أو موجدها ، فإنّ النور ظاهر بذاته مظهر لغيره ، وأصل الظهور هو الوجود ، كما أنّ أصل الخفاء هو العدم ، واللّه سبحانه موجود بذاته موجد لما عداه(1) .

أقول : في دعاء عرفة لأبي عبد اللّه الحسين عليه السلام : «كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ، ألغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك ، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ، ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي الموصل إليك»(2) .

و يظهر من قوله عليه السلام : «ما ليس لك» أنّ الظهور بمعنى الحاصل بالمصدر معنى تشكيكي ، وكلّ ما لغير اللّه أو يمكن أن يكون لممكن فهو للّه على الوجه الأشدّ .

ونِعمَ ما قال بعض أهل الحال :

بر او عقل از جهانى مستدلّ است *** كه ظلّ ظلّ ظلّ ظلّ ظلّ است

وعيون العقول لضعف إبصارها لا تستطيع إبصار ظهور اللّه تعالى ، فهي كالخفافيش يستدلّ عليه تعالى بالبحث والتفتيش ، إلاّ من فتح اللّه عين بصيرته ، وأيّده بنوره، فإنّه يرى ظهورات الأشياء منظمّة في ظهور اللّه انطماس نور السها في ضياء الشمس في رابعة النهار كصاحب الدعاء عليه السلام ، وفي تلك الحال يعلم حقيقة وحدة الوجود وحقيقة قول أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير الحقيقة : «فهو الموهوم مع صحو المعلوم ، واطف السراج فقد طلع الصباح»(3) .

وفي حالة اُخرى وبالنظر الثاني يرى ظهور الغير ، ونِعمَ ما قال الشبستري :

دلى كز معرفت نور وضيا ديد *** ز هر چيزى كه ديد اوّل خدا ديد

وعن لسانهم قال من قال :

هر جا كه بگشايم نظر ، ز آن پيش كانجا بنگرم *** بى منّتِ حسِّ بصر ، آن روى زيبا بنگرم .

ص: 500


1- أنوار التنزيل، ج 4، ص 187، مع تلخيص.
2- بحارالأنوار، ج 68 ، ص 142.
3- راجع: شرح فصوص الحكم للقيصري، ص 68 .

وظاهر أنّه ليس لكل أحد أهليّة أن يقول ما قال الإمام عليه السلام ، فلو أنّ أهله وجد الخلائق حقائق مجعولة بالجعل المجهول الكنه المعلوم الأثر ، والوجود بمعنى الكون المعلوم لكلّ أحد منتزعا منها بعد الجعل ، وليست وجودات ولا موجودات ، فالظاهر أنّه لا يستحقّ بذلك اللعن .

ولنرجع إلى تتمة تفسير البيضاوي :

«مَثَلُ نُوِرِه» : صفة نوره العجيبة الشأن . وإضافته إلى ضميره سبحانه دليل على أنّ إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره «كَمِشْكوةٍ» : كصفة مشكوة ، وهي الكوّة الغير النافذة «فِيهَا مِصْبَاحٌ» : سراج ضخم ثاقب . وقيل : المشكوة : الاُنبوية في وسط القنديل ، والمصباح : الفتيلة المشتعلة «اَلْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ» : في قنديل من الزجاج «الزُّجاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ» : مضيء متلألئ منسوب إلى الدرّ ، أو فُعّيل كمريق من الدرء ؛ فإنّه يدفع الظلام بضوئه ، قُلبت همزته ياء «يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» أي ابتدأت ثقوب المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن روّيت ذبالته بزيتها . وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثمّ إبدال الزيتونة عنها تفخيمٌ لشأنها .

وقرأ نافع وابن عامرو حفص بالياء والبناء للمفعول من أوقد ، وحمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء ، كذلك على إسناده إلى الزجاجة بحذف المضاف . وقرئ «توقد» بمعنى تتوقّد . «لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ» تقع الشمس عليها حينا دون حين(1) ، بل بحيث تقع عليها طول النهار ، كالتي تكون على قلّة أو صحراء واسع ؛ فإنّ ثمرتها تكون أنضج ، وزيتها أصفى ، أو لا [نابتة] في شرق المعمورة ولا في غربها بل في وسطها وهو الشام ؛ فإنّ زيتونه أجود الزيتون ، أولا في مَضحى تشرق الشمس عليها دائما [فتحرقها] أو فى مَقنأة تغيب عنها دائما فتتركها نيّا، وفي الحديث : «لا خير في شجرة ، ولا نبات في مقنأة ، ولا خير فيهما في مضحى» . «يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسَهُ نَارٌ» أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لتلألئه وفرط وميضه(2) . «نُورٌ عَلى نُورٍ»(3) متضاعف ؛ فإنّ نور المصباح زاد في إنارتة صفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط المشكاة لأشعّته . وقد ذكر .

ص: 501


1- في المصدر: «حينا بعد حين».
2- في المصدر: «وبيصه».
3- النور (24) : 35 .

في معنى التمثيل وجوه(1) .

انتهى ما أردنا نقله من تفسير البيضاوي .

وفي الصحاح : «الكوكب الدرّي : الثاقب المضيء ، نسب إلى الدرّ ، و قد تكسر الدال ، فيُقال : درّي مثل سخري وسخرى ، ولجّي ولجّي»(2) .

قوله : (ظلماتٌ الثاني) . [ح 5 / 522]

«الثاني» صفة «ظلمات» . والتذكير والتعريف باعتبار الحكاية ، و «بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ» من تتمّة المبتدأ ، و «معاوية» مع ما عطف خبر المبتدأ . و الآية في سورة النور هكذا : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً»(3) إلى قوله : «أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُجِّىٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ»(4) .

باب أنّ الأئمّة هم أركان الأرض

باب أنّ الأئمّة عليهم السلام هم أركان الأرض

قوله : (المُتَعَقِّبُ عليه) . [ح 1 / 524]

في القاموس : «تعقّبه : طلب عورته أو عثرته(5)» . وفي الصحاح : «تعقّبت الرجل : إذا أخذته بذنب كان منه»(6) .

وكلّ من المعنيين يناسب المقام ، ولكن بضرب من التجوّز ، ولم أجد في شيء من كتب اللغة المشهورة استعمال التعقّب مع «على» ولعلّه في الحديث بتضمين مثل الردّ .

قوله : (عُلِّمْتُ المنايا والبلايا والأنسابَ) . [ح 1 / 524]

في كتاب إكمال الدين في باب ما روي عن الصادق عليه السلام من النصّ على القائم - عجّل اللّه تعالى فرجه - في حديث طويل : «وَيْحكم نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم، وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة،

ص: 502


1- أنوار التنزيل، ج 4، ص 189، مع تلخيص و اختلاف يسير.
2- الصحاح، ج 2، ص 656 (درر).
3- النور (24) : 39 .
4- النور (24) : 40 .
5- القاموس المحيط، ج 1، ص 107 (عقب).
6- الصحاح، ج 1، ص 187 (عقب).

الذي خصّ اللّه به محمّدا صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام ومن بعده ، وتأمّلت فيه مولد قائمنا وإبطاءه وطول عمره وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان» . الحديث(1) .

وفي كتاب عيون الأخبار في باب دلالات الرضا عليه السلام بالإسناد عن محمّد بن داوُد ، قال :

كنت أنا وأخي عند الرضا عليه السلام ، فأتاه من أخبره أنّه قد ربط ذقن محمّد بن جعفر ، فمضى أبوالحسن ومضينا معه ، فإذا لحيته قد ربط ، وإذا إسحاق بن جعفر وولده وجماعة من آل أبي طالب يبكون ، فجلس أبو الحسن عند رأسه ونظر في وجهه فتبسّم ، ونقم من كان في المجلس عليه ، فقال : إنّما تبسّم شامتا بعمّه ، قال : فقام أبو الحسن وخرج ليُصلّي في المسجد ، فقلنا له : جعلنا اللّه فداك ، قد سمعنا فيك من هؤلاء ما نكره حين تبسّمت ، فقال أبو الحسن عليه السلام : «إنّما تعجّبت من بكاء إسحاق ، وهو واللّه يموت قبله ويبكيه محمّد» قال : فبرأ [محمّد] ومات إسحاق .

قال مصنّف هذا الكتاب رحمه الله : علم ذلك الرضا عليه السلام بما كان عنده من كتاب المنايا ، وفيه مبلغ أعمار أهل بيته متواترا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ومن ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام : «اُوتيت علم المنايا والأنساب وفصل الخطاب»(2) .

انتهى ما نقلناه من كتاب العيون .

وأمّا فصل الكتاب ، فهو الذي قال اللّه تعالى في سورة صآ في حكاية داوُد عليه السلام : «وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ»(3) .

وفي كتاب العيون أيضا في باب معرفته عليه السلام بجميع اللغات :

عن أبي الصلت الهروي قال : كان الرضا عليه السلام يكلّم الناس بلغاتهم ، وكان أفصح الناس وأعلمهم بكلّ لسان ولغة ، فقلت له يوما : يا ابن رسول اللّه ، إنّي لأعجب من معرفتك بهذه اللغات على اختلافها! فقال : «يا أبا الصلت ، أنا حجّة اللّه [على خلقه] وما كان اللّه ليتّخذ حجّة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم ، أوَ ما بلغك قول أمير المؤمنين عليه السلام : اُوتينا فصل الخطاب ؛ فهل فصل الخطاب إلاّ معرفة اللغات»(4) .

انتهى كلامه صلوات اللّه عليه وسلامه .3.

ص: 503


1- كمال الدين، ج 2، ص 352، ح 51.
2- عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 206 - 207، ح 6 .
3- صآ (38) : 20 .
4- عيون أخبارالرضا، ج 2، ص 228، ح 3.

باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته

باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته

قوله : «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً»(1) . [ح 1 / 527]

في القاموس : «أعطى نافلة من المعروف ، والنافلة : العطيّة»(2) .

قوله : (اُسُّ الإسلامِ النامي [و فرعُهُ السامي]) . [ح 1 / 527]

هذا الحديث أورده الصدوق في أواخر كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة(3) . والنامي هناك صفة للفرع .

قوله : (المُجَلّلة بنورها) . [ح 1 / 527]

في الصحاح : «جلّل الشيء تجليلاً ، أي عمّ»(4) .

قوله : ([والنجم الهادي] في غَياهِبِ الدُّجى) . [ح 1 / 527]

في القاموس : «الغيهب: الظلمة، والشديد السواد من الخيل والليل»(5) .

قوله : (وأجْوازِ البلدانِ والقِفارِ) . [ح 1 / 527]

وفي الصحاح : «جوز كلّ شيء : وسطه. وجمعه : أجواز»(6) .

أقول : القفار صفة الأجواز، والمراد كلّ ما وقع بين كلّ بلدين من الصحاري .

قوله : ([الإمامُ النارُ] على اليفاع) . [ح 1 / 527]

في الصحاح : «اليفاع : ما اتّصنح من الأرض»(7) .

قوله : (الحارُّ) [ح 1 / 527] خبر بعد خبر للإمام .

قوله : (الغيثُ الهاطِلُ) . [ح 1 / 527]

في القاموس : «الهاطل(8) : المطر الضعيف الدائم»(9) .

ص: 504


1- الأنبياء (21) : 72 .
2- القاموس المحيط، ج 4، ص 59 (نفل).
3- كمال الدين، ج 2، ص 675 ، ح 32.
4- الصحاح، ج 4، ص 1660 (جلل).
5- القاموس المحيط، ج 1، ص 112 (غيهب).
6- الصحاح، ج 3، ص 871 (جوز).
7- راجع: الصحاح، ج 3، ص 1187 (بقع).
8- في المصدر: «الهطل».
9- القاموس المحيط، ج 4، ص 69 (هطل).

قوله : (الأخُ الشقيقُ) . [ح 1 / 527]

في النهاية : «شقيق الرجل : أخوه لأبيه واُمّه»(1) .

قوله : (ومَفْزَعُ العباد في الداهيةِ النِّآدِ) . [ح 1 / 527]

في القاموس: «النآد ، كسحاب : الداهية»(2) .

و المذكور في كتاب إكمال الدين : «ومفزع العباد في الداهية، الإمام أمين اللّه» إلى آخره(3).

والمذكور في كتاب الأمالي للصدوق(4) وفي كتاب العيون(5) في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام في وصف الإمام كما في الكافي ، ولكن بدون «النآد» . وهكذا في الاحتجاج(6) .

والداهية : الأمر العظيم ؛ كذا في الصحاح(7) .

قوله : (ضَلَّتِ العقولُ) . [ح 1 / 527]

في الأساس : «ضلَّ عن الطريق وعن القصد»(8) .

قوله: (وتاهَتِ الحُلُومُ) . [ح 1 / 527]

في القاموس : «التيه - بالكسر - : الضلال ، تاه تيها ويكسر(9)» . وفيه : «الحلم - بالكسر - الإناءة والعقل . والجمع : أحلام وحلوم ، ومنه : «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ»»(10) .

قوله : (خَسَأتِ العيونُ) . [ح 1 / 527]

في الصحاح : «خسأ بصره خسأ ، أي سدر ، ومنه قوله تعالى : «يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئا»»(11) . وفيه : «السدر : تحيّر البصر»(12) .).

ص: 505


1- النهاية، ج 2، ص 492 (شقق).
2- القاموس المحيط، ج 1، ص 340 (نأد).
3- كمال الدين، ج 2، ص 667 ، ح 32.
4- الأمالى للصدوق، ص 674 ، ح 1.
5- عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 216، ح 1.
6- الاحتجاج، ج 2، ص 434.
7- الصحاح، ج 6 ، ص 2344 (دهو).
8- أساس البلاغة، ص 378 (ضلل).
9- القاموس المحيط، ج 4، ص 282 (توه).
10- القاموس المحيط، ج 4، ص 99 (حلم). والآية في سورة الطور (52): 32.
11- الصحاح، ج 1، ص 47 (خسأ). والآية في سورة الملك (67): 4.
12- الصحاح، ج 2، ص 680 (سدر).

قوله : (وحَصِرَتِ الخُطَباءُ) . [ح 1 / 527]

في القاموس : «الحصر ، كالضرب والنصر : العيّ في المنطق»(1) .

قوله : (كَذَبَتْهُم واللّه ِ أنفسُهُم) ، [ح 1 / 527] بالتخفيف .

في القاموس : «كذب يكذب كذبا وكُذب الرجل : اُخبر بالكذب»(2) .

وفي زيارة يوم الغدير الطويلة المنقولة عن العسكري عليه السلام حكاية عن كلام أمير المؤمنين عليه السلام بعد إخبار ما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله في شأنه عليه السلام : «فواللّه ما كذبت ولا كُذبت»(3)

وفي التنزيل : «مَا كَذَبَ الْفُوءَادُ مَا رَأَى»(4) .

في الكشّاف :

«مَا كَذَبَ الفُؤَادُ» : فؤاد محمّد ما رآه ببصره؛ أي ما قال فؤاده لما رآه : لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذبا ؛ لأنّه عرفه ، يعني أنّه حقّ(5) . انتهى .

قوله : (أنّى يُؤفَكونَ) . [ح 1 / 527]

في الصحاح : «الإفك - بالكسر - : الكذب . والأفك - بالفتح - مصدر قولك : أفكه يأفكه ، إذا قلبه ، وصرفه عن الشيء»(6) .

وفي بعض النسخ هكذا : «فلم يزدادوا منه إلاّ بُعدا ، قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون ، ولقد راموا» إلى آخره ؛ وهكذا في كتاب الاحتجاج و إكمال الدِّين و الأمالي و عيون الأخبار(7) .

قوله : «أنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ»(8) . [ح 1 / 527]

الآية في سورة القصص، وليس «مِنْ أمْرَهُمْ» هناك ، ولا هو مذكور في عيون الأخبار .

ص: 506


1- القاموس المحيط، ج 2، ص 9 (حصر).
2- القاموس المحيط، ج 1، ص 122 (كذب).
3- الأمالي للصدوق، ص 405، ح 10؛ روضة الواعظين، ج 1، ص 135؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 18، ص 368.
4- النجم (53) : 11 .
5- الكشّاف، ج 4، ص 29.
6- الصحاح، ج 4، ص 1572 (أفك).
7- الاحتجاج، ج 2، ص 435؛ كمال الدين، ج 2، ص 678 ، ح 32؛ الأمالي للصدوق، ص 677 ، المجلس 97، ح 1؛ عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 220، ح 1.
8- الأحزاب (33) : 36 .

والأمالي وإكمال الدِّين والاحتجاج ، فهو إذن من تصرّف النسّاخ ، وعلى تقدير الصحّة فهو من متعلّقات الآية التي نزل بها جبرئيل عليه السلام . نعم هو في الآية الثانية التي هي من سورة الأحزاب ، ومنها نشأ الاشتباه .

قوله : «أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ»(1) . [ح 1 / 527]

في تفسير البيضاوى¨ :

«أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ» من السماء «فِيهِ تَدْرُسُونَ» : تقرؤون «لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ»(2) أي لكم ما تختارونه وتشتهونه ، وأصله : «أنّ لكم» بالفتح ؛ لأنّه المدروس ، فلمّا جيئت باللام كسرت ، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس أو استينافا . وتخيّر الشيء واختاره : أخذ خيره .

«أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا» : عهود مؤكّدة بالأيمان «بَالِغَةٌ» : متناهية في التوكيد، وقرئت بالنصب على الحال ، والعامل فيها أحد الظرفين «إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» لا نخرج عن عهدتها حتّى نحكمكم في ذلك اليوم «إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ»جواب القسم ؛ لأنّ معنى «أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا»: أقسمنا لكم .

«سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ» : بذلك قائم يدّعيه ويصحّحه .

«أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ» يشاركونهم في هذا القول «فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ»(3) في دعواهم ؛ إذ لا أقلّ من التقليد(4) .

قوله : (وداع)(5) بالدال . وفي بعض النسخ بالراء .

قوله : (لا يَنْكُلُ) . [ح 1 / 527]

في الصحاح : «نكل عن العدو وعن اليمين ينكُل - بالضمّ - أي جبن. والناكل: الجبان والضعيف»(6).

قوله : (لا مَغْمَزَ فيه) [ح 1 / 527] بالمعجمتين .).

ص: 507


1- القلم (68) : 37 .
2- القلم (68) : 38 .
3- القلم (68) : 39 - 41 .
4- أنوار التنزيل، ج 5، ص 373، ملخّصا.
5- في الكافي المطبوع: «وراع» بالراء.
6- الصحاح، ج 5، ص 1835 (نكل).

في الصحاح : «ليس في فلان غميزة ، أي مطعن»(1) .

قوله : (مُضْطَلِعٌ بالإمامةِ) . [ح 1 / 527]

في القاموس : «هو مُضلِع بهذا الأمر ومضطلع ، أي قويّ عليه»(2) انتهى .

وفي كتاب الأزهري : «اضطلع الحمل : حملتْهُ أضلاعه ؛ يقال : هو مضطلع بحمله ، أي قويّ عليه» .

قوله : (عالمٌ بالسياسة) . [ح 1 / 527]

في القاموس : «سُسْت الرعيّةَ : أمرتها ونهيتها»(3) .

قوله : «مَنْ صَدَّ عَنْهُ»(4) . [ح 1 / 527]

في القاموس : «صدّ عنه صدودا : أعرض . وصَدَّ فلانا عن كذا صدّا : صرفه»(5) .

قوله : (ولا يُحَيَّرُ) . [ح 1 / 527]

مجهول من باب التفعيل ؛ لاتّفاق النسخ على وجود الياء وعدم التاء ، وإلاّ كان الصواب : «ولا يتحيّر» أو «ولا يُحَرْ» والراء مجزوم بالعطف و «لا» زائدة لتأكيد النفي .

قوله : (قد أمن الخطأ والزلل)(6) . [ح 1 / 527]

كذا في العيون . وفي إكمال الدين : «قد أمن من الخطأ والزلل» .

وفي القاموس : «الأمنة : ضدّ الخيانة . وقد أمنه - كسمع - وأمّنه تأمينا وائتمنه واستأمنه»(7) .

وفي الأساس : «فلان أمنة ، أي يأمن كلّ أحد ويثق به ، ويأمنه الناس ولا يخافون غائلته»(8) انتهى .

وفي بعض نسخ الكافي اُلحق كلمة «من» بعد «أمن» . ولم أجد هذا الاستعمال في كتب اللغة ، ولعلّ من ألحق نظر إلى استعمال الأمن بالفارسيّة .).

ص: 508


1- الصحاح، ج 3، ص 889 (غمز).
2- القاموس المحيط، ج 3، ص 57 (ضلع).
3- القاموس المحيط، ج 2، ص 222 (سوس).
4- النساء (4) : 55.
5- القاموس المحيط، ج 1، ص 306 (صدد).
6- في الكافي المطبوع: «قد أمن من الخطايا و الزلل».
7- القاموس المحيط، ج 4، ص 197 (أمن).
8- أساس البلاغة، ص 22 (أمن).

قوله : (فيختارونه) . [ح 1 / 527]

في العيون و إكمال الدين والاحتجاج بدون النون ، وكذا «يقدّمونه» .

قوله : (وأبْلَجَ بهم) . [ح 2 / 528]

في القاموس : «بلج الصبح : أضاء وأشرق ، كابتلج وتبلّج ، و كلّ متّضح أبلج»(1) .

قوله : (ومَنَحَ بهم)(2) . [ح 2 / 528]

في بعض النسخ : «وفتح بهم» وهكذا ذكر المصنّف قدس سره في ديباجة الكتاب ، ولعلّه الصواب .

قوله : (طُلاوَةِ إسلامه) . [ح 2 / 528]

في القاموس : «الطلاوة - مثلّثة - : الحسن ، والبهجة ، والقبول»(3) .

قوله : ([و جَعَلَه] حُجَّةً على أهل موادّه [و عالَمِه]) . [ح 2 / 528]

في القاموس : «المادّة : الزيادة المتّصلة»(4) . وكذا في الصحاح(5) . والمراد هنا أجزاء العالم وأهلها ذوي العقول منها الذين سخّرت سائر الأجزاء لهم . ولم أجد إضافة «الأهل» إلى الشيء وإرادة غير ذوي العقول .

وقوله : «وعالَمه» بفتح اللام عطف بيان للموادّ .

قوله : (يَمُدُّ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [لا يَنْقَطِعُ عنه موادُّه]) . [ح 2 / 528]

في القاموس : «المدّ : المطل ، مدّه ، وبه ، فامتدّ»(6) . وفيه : «المطل : مدّ الحبل والحديد وسبكه»(7) .

وفي الصحاح : «مطلت الحديدة أمطلها مطلاً : إذا ضربتها ومددتها ليطول ، وكلّ ممدود ممطول»(8) .

أقول : في التنزيل في سورة الحجّ : «مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّه ُ فِي الدُّنْيَا وَالاْآخِرَةِ .

ص: 509


1- القاموس المحيط، ج 1، ص 179 (بلج).
2- في الكافي المطبوع: «و فتح بهم».
3- القاموس المحيط، ج 4، ص 357 (طلو).
4- القاموس المحيط، ج 1، ص 337 (مدد).
5- الصحاح، ج 2، ص 537 (مدد).
6- القاموس المحيط، ج 1، ص 336 (مدد).
7- القاموس المحيط، ج 4، ص 51 (مطل).
8- الصحاح ، ج 5 ، ص 1819 (مطل) .

فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ»(1) . في تفسير البيضاوي :

فليمدد بسببٍ من السماء ، ثمّ ليقطع ، فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه بأن يفعل كلّ ما يفعله الممتلي غضبا أو المبالغ جزعا حتّى يمدّ حبلاً إلى سماء بيته ، فيختنق من قطع إذا اختنق ؛ فإنّ المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه . وقيل : فليمدد حبلاً إلى سماء الدنيا ، ثمّ ليقطع به المسافة حتّى بلغ عنانها ، فليجتهد في دفع نصره وتحميل رزقه(2) .

أقول : المراد بالسماء في الحديث هو المعنى الثاني على أنّ المعنيّ به عالم الملكوت . وحاصل الكلام أنّ الإمام يتوصّل إلى اللّه تعالى بوصلة قائمة بينهما غير منقطعة ؛ على أنّ جملة «لا ينقطع» صفة لسبب .

في القاموس : «السبب : الحبل ، وما يتوصّل به إلى الشيء»(3) .

ويمكن أن يقرأ «يمدّ» بالبناء للمجهول ؛ من الإمداد بمعنى إعطاء المدد .

والجملة حال من الإمام ، أي أمدّه اللّه بمدد وسبب يتّصل إلى السماء غير منقطع عنه موادّ ذلك السبب .

وفي نهج البلاغة في صفة الملائكة : «لا يَرجِعُ بهم الاستهتارُ بلزوم طاعته [إلاّ] إلى موادّ من قلوبهم غيرِ منقطعةٍ من رجائه ومخافته ، ولم ينقطع أسبابُ الشَّفَقَةِ منهم ، فَيَنوا في جِدِّهم»(4) .

في شرح بعض المحقّقين :

لمّا كانت غاية عبادته هو الوصول إلى كمال معرفته ، وكانت درجات المعارف الإلهيّة غير متناهية ، لم يكن قَطْعهم لتلك المسافة ممكنا ، ولمّا كانوا غرقى في محبّته ، عالمين بكمال عظمته ، وأنّ ما يرجونه من تمام جوده أشرف المطالب وأربح المكاسب ، وما يخشى من انقطاع جوده ونزول حرمانه أعظم المهالك والمعاطب ، لاجرم دام رجاؤهم لهم وخضوعهم في رقّ الحاجة إليه والفزع من حرمانه ، وكان ذلك الرجاء والخوف هو مادّة استهتارهم بلزوم طاعته التي يرجون إليها من قلوبهم ، فلم ينقطع استهتارهم بلزومها .1.

ص: 510


1- الحجّ (22) : 15 .
2- أنوار التنزيل، ج 4، ص 118.
3- القاموس المحيط، ج 1، ص 81 (سبب).
4- نهج البلاغة، ص 131، الخطبة 91.

والشفقة الاسم من الإشفاق ، أي لم ينقطع أسباب خوفهم له ، وأسبابه حاجتهم إلى القيام في الوجود إلى الاستكمال بجوده ، وهي الحاجة الضروريّة إلى الغير في مطلوب يستلزم الخوف منه في عدم قضائه ، ويوجب الإقبال على الاستعداد لجوده بلزوم طاعتهم وحاجتهم إليه دائمةً ؛ فجدّهم في عبادته دائم ، فالتواني فيه مفقود . انتهى .

فتدبّر تستبصر في معنى الموادّ .

قوله : (أئمّةً من اللّه) [ح 2 / 528 [أي هؤلاء أئمّة .

قوله : «يَهْدُونَ بِالْحَقِّ» . [ح 2 / 528]

في سورة الأعراف «وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(1) .

قال البيضاوي : «يهدون الناس محقّين ، أو بكلمة الحقّ . «وَبِهِ يَعْدِلُونَ» : بالحقّ يعدلون في الحكم»(2) انتهى .

قوله : (واستهلّ(3) بنورهم البلادُ) . [ح 2 / 528]

في الصحاح : «تهلّل السحاب ببرقه : تلألأ ، وتهلّل وجه الرجل من فرحه واستهلّ»(4) .

قوله : (ويَنْمُو ببركتهم التلادُ) . [ح 2 / 528]

في القاموس : «التلاد والتليد : ما وُلد عندك من مالك أو نتج ؛ تلد المال يتلد»(5) .

قوله : (والهادي المُنْتَجا) . [ح 2 / 528]

في القاموس : «انتجيته: إذا خصصته بمناجاتك»(6) .

قوله : (وَاصْطَنَعَهُ [على عَيْنِه في الذرِّ]) . [ح 2 / 528]

في النهاية :

فيه : اصطنع رسول اللّه صلى الله عليه و آله خاتما من ذهب ، أي أمر أن يصنع له ، كما تقول : اكتتب ، أي).

ص: 511


1- الأعراف (7) : 59 .
2- أنوار التنزيل، ج 3، ص 66 .
3- في الكافي المطبوع: «و تستهلّ».
4- الصحاح، ج 5، ص 1851 (هلل).
5- القاموس المحيط، ج 1، ص 279.
6- راجع : القاموس المحيط، ج 4، ص 393. والعبارة بنصّه في الصحاح، ج 6 ، ص 2503 (نجا).

أمر أن يكتب له . والطاء بدل من تاء الافتعال لأجل الصاد . ومنه حديث آدم عليه السلام : «أنت كليم اللّه الذي اصطفاك لنفسه» . هذا تمثيل لما أعطاه تعالى من منزلة التكريم . والاصطناع افتعال من الصنيعة ، وهي العطيّة ، والكرامة ، والإحسان . انتهى .(1)

قوله : (وَانْتَجَبَهُ لِطُهْرِه) . [ح 2 / 528]

ناظر إلى قوله تعالى : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه ُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا»(2) .

قوله : (بَقِيَّةً من آدَمَ) . [ح 2 / 528]

إنّما يقال لشيء : هذا بقيّة من فلان ، إذا كان له شأن وبقي من ذي شأن ، وقد أبقاه لينتفع به الجائين ، قال اللّه تعالى في سورة البقرة : «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ»(3).

في تفسير البيضاوي :

رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وعمامة هارون . وآلهما : أبناؤهما أو أنفسهما . و «آل» مقحّم لتفخيم شأنهما أو أنبياء بني إسرائيل ؛ لأنّهم أبناء عمّهما(4) .

وفي سورة هود : «بَقِيَّتُ اللّه ِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ»(5) .

قوله : (وسُلالَةً من إسماعيلَ) . [ح 2 / 528]

في كتاب إكمال الدين في آخر باب اتّصال الوصيّة من لدن آدم عليه السلام :

معنى السلالة : الصفوة من كلّ شيء ، يقال : سلالة وسليل ، وفي الحديث : قال النبيّ صلى الله عليه و آله : «اللّهمّ اسق عبد الرحمن من سليل الجنّة» . وقالوا في تفسير قول اللّه عزّ وجلّ : «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاْءِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ»(6) يعني من صفوة طين الأرض(7) . انتهى .

وفي القاموس : «السلالة - بالضمّ - : ما انسلّ من الشيء ، والولد»(8) انتهى .

وما قاله الصدوق أقرب .).

ص: 512


1- النهاية ، ج 3 ، ص 56 (صنع) مع تلخيص .
2- الأحزاب (33) : 33 .
3- البقرة (2) : 248 .
4- أنوار التنزيل، ج 1، ص 544.
5- هود (11) : 86 .
6- المؤمنون (23) : 12 .
7- كمال الدين، ج 1، ص 248 و 249.
8- القاموس المحيط، ج 3، ص 396 (سلل).

قوله : (مَدْفُوعا عنه وُقُوبُ الغَواسِقِ) [ح 2 / 528] ناظر إلى قوله تعالى : «وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ»(1) .

في القاموس :

الغاسق : القمر أو الليل إذا غاب الشفق «وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ»أي الليل إذا دخل ، أو الثريا إذا سقطت لكثرة الطواعين والأمراض والأسقام عند سقوطها . عن ابن عبّاس(2) .

وفيه:

وقب الظلام : دخل ، والشمس وقبا ووقوبا : غابت ، والقمر : دخل في الكسوف ، ومنه «غاسِقٍ إذَا وَقَبَ».(3)

قوله : (و نُفُوثُ كلّ فاسقٍ) [ح 2 / 528] ناظر إلى قوله تعالى : «وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ»(4) .

في القاموس : «نفث ينفث، وهو كالنفخ، وأقلّ من التفل. والنفّاثات في العقد: السواحر»(5).

قوله : (مَصْروفا عنه قَوارِفُ السوء) . [ح 2 / 528]

في القاموس : «قرف فلانا : عابه ، أو اتّهمه . والقرف - بالكسر - : القشر . وبهاء : الهجنة، والتّهمة ، والكسب»(6) .

قوله : (مَعْروفا بالحلمِ والبرّ في يَفاعِهِ) . [ح 2 / 528]

في الصحاح : «أيفع الغلام : إذا شارف الاحتلام ولم يحتلم»(7) .

قوله : (واستَحْفَظَه عِلْمَه) . [ح 2 / 528]

في القاموس : «استحفظه إيّاه : سأله أن يحفظه»(8) . وفي الأساس : «استحفظته سرّا».(9) ).

ص: 513


1- الفلق (113) : 3 .
2- القاموس المحيط، ج 3، ص 272 (غسق) ، و فيه: «ابن عباس و جماعة من شرّ الذَّكَر إذا قام».
3- القاموس المحيط، ج 1، ص 137 (وقب).
4- الفلق (113) : 4 .
5- القاموس المحيط، ج 1، ص 175 (نفث).
6- القاموس المحيط، ج 3، ص 184 (قرف).
7- الصحاح، ج 3، ص 1310 (يفع).
8- القاموس المحيط، ج 2، ص 395 (حفظ).
9- راجع: أساس البلاغة، ص 133 (حفظ).

وفي التنزيل : «وَ الرَّبَّانِيُونَ وَ الأَْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا»(1) بالبناء للمجهول . وغفل من فسّر المستحفظين في دعاء سجدة الشكر بالحافظين ، أو ذكر لازم المعنى .

باب ما فرض اللّه ورسوله من الكون مع الأئمّة

باب ما فرض اللّه ورسوله من الكون مع الأئمّة عليهم السلام

قوله : (وأيْمُ اللّه ِ [لَيَقْتُلَنَّ ابْني]) . [ح 5 / 544]

في الصحاح :

«أيمُنُ اللّه» اسمٌ وضع للقسم ، هكذا بضمّ الميم والنون ، وألفه ألف وصل عند أكثر النحويّين ، ولم يجئ في الأسماء ألف الوصل مفتوحة غيرها ، وقد يدخل عليه اللام لتأكيد الابتداء تقول : «لَيْمُنُ اللّه ما ندري» وهو مرفوع بالابتداء. وربّما حذفوا منه النون قالوا : «أيم اللّه» و «إِيم اللّه» أيضا بكسر الهمزة(2) . انتهى .

قوله : ([و عَرْضُهُ] ما بين صَنعاءَ إلى ايْلَةَ) . [ح 6 / 545]

في القاموس : «صنعاء : بلد باليمن كثيرة الأشجار والمياه يشبه دمشق»(3) .

وفي النهاية : «فيه ذكر أيلة - بفتح الهمزة وسكون الياء - : البلد المعروف فيما بين مصر والشام»(4) .

قوله : (فيه قُدْحانُ فِضَّةٍ وذَهَبٍ عَدَدَ النجومِ) . [ح 6 / 545]

«قدحان» جمع «قدح» كالبلدان جمع بلد ، ولم يذكر أهل اللغة فيما رأيناه أنّ القدح يجمع هذا الجمع ، وكفى بكلامه عليه السلام حجّة على ذلك .

باب أنّ أهل الذكر الذين أمر اللّه الخلقَ بسؤالهم هم الأئمّة

باب أنّ أهل الذكر الذين أمر اللّه [الخلقَ] بسؤالهم هم الأئمّة عليهم السلام

قوله : «وَسَوْفَ تُسْألوُنَ»(5) . [ح 1 / 547]

لعلّ المعنى أنّها إن أعرضت الاُمّة عنكم في دول الباطل وتركوا سؤالكم المأمور به ،

ص: 514


1- المائدة (5) : 44.
2- الصحاح، ج 6 ، ص 2221 (يمن).
3- القاموس المحيط، ج 3، ص 53 (صنع).
4- النهاية، ج 1، ص 85 (أيل).
5- الزخرف (43) : 44.

فسيأتي زمان تكونون أنتم المرجع والمسؤول عنهم ، وهو أيّام الرجعة التي لا دولة فيها إلاّ دولتكم ولا ملك فيها إلاّ ملككم .

ويمكن أن يكون معنى كلام الإمام عليه السلام : نحن المنصوبون للسؤال من قبل اللّه تعالى في قوله تعالى : «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(1) فلو سألوا غيرنا لكان من باب وضع الشيء غير موضعه .

ولفظة «سوف» يؤيّد الأوّل .

وقال بعض المشتغلين إليّ : يمكن أن يكون «سوف» إشارة إلى يوم القيامة ، والمراد : يسألكم اللّه ، هل رجعت الاُمّة إليكم في استعلام معالم دينهم ؟

قال البيضاوي : «وسوف تسئلون ، أي عنه يوم القيامة وعن القيام بحقّه»(2) .

ولايخفى على من له دراية بأساليب الكلام أنّ في الإخبار بأنّكم تسئلون - على ما ذكر هذا المحجوب - تخويفا وتهديدا للنبيّ وقومه ، وفي أوّل الآية تشريفا لهم ، فلا يتلاءم أجزاء الكلام ، والأخبار التي ذكرها المصنّف - وكادت أن تبلغ لكثرتها حدّ التواتر - صريحة في أنّهم عليهم السلام كانوا يعدّون مسؤوليّتهم شرفا لهم وتكريما ؛ فالمعنى هو الذي قدّمناه .

قوله : «فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(3) . [ح 3 / 549]

مصدر حاسب يحاسب . و في دعاء الوضوء : «وحاسبني حسابا يسيرا»(4) .

وسبق في كتاب العقل : «إنّما يداقّ اللّه العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(5) .

فالحاصل : أنّا جعلنا عطاءنا هذا بيدك وفوّضناه إليك ، فامنن على من مننت ، وأمسك عمّن شئت بغير أن نحاسبك : لِمَ مننتَ على هذا وأمسكتَ عن ذاك؟ وذلك أنّا7.

ص: 515


1- النحل (16) : 43 .
2- أنوار التنزيل، ج 5، ص 147، مع اختلاف يسير.
3- ص (38) : 39 .
4- الفقيه، ج 1، ص 41، ح 84؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 53، ح 2.
5- الكافي، ج 1، ص 11، ح 7.

علمنا من حالك أنّك لا تمنّ ولا تمسك على حسب هوى نفسك ، بل تراعي فيهما موافقة رضانا ، وقد عصمناك عن الخطأ ، فاعمل على وفق مصلحة الوقت ومقتضى المقام .

وليست في الآية دلالة على رخصة النبيّ صلى الله عليه و آله للاجتهاد في نفس الأحكام كما يقول به من في قلوبهم زيغٌ ، كيف ولو كان المراد ذلك لقيل : «قل ما شئت» لا «أمسك» ؟! وهذا ظاهر لا يحتاج إلى تأمّل .

وقد دلّت الأخبار الواردة عن أصحاب العصمة أنّ الحكم جاء في كلّ مَن كان معصوما وإن كان مورده سليمان عليه السلام .

قوله : (فرسول اللّه الذكر) . [ح 4 / 550]

يمكن أن يكون «الذكر» في الآية مصدرا ، وحمله على اسم «إنّ» على طريق المبالغة ، والكاف معمول المصدر ، واللام لتقوية العمل .

والأظهر أنّه اسم لما يحصل بالمصدر ، فالمراد المذكور ؛ فالحمل على الحقيقة واللام للاختصاص . والمعنى : أنّ القرآن ذِكْرنا المشتمل على الحقائق والمعارف والأحكام والمسائل كائنا لك ولقومك ، بمعنى أنّكم المختصّون بحمله ، والمبيّنون للاُمّة تأويله وتنزيله وسائر ما يختصّ به القرآن ، مثل أن يكون ظهره عامّا وبطنه خاصّا ، وبالعكس إلى غير ذلك .

هذا هو الكلام في الآية .

وأمّا الحديث ، أعني قوله عليه السلام : «فرسول اللّه الذكر» فنقول : لا شكّ في أنّ الفاء لا مدخل لها في إفادة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله الذكر ، ولابدّ لها من فائدة ، ولا بعد أن تكون الإشعار بشرط مقدّر ، كأنّه عليه السلام قال : إذا ثبت بالآية كون القرآن ذكرا يهتدي به الاُمّة بوساطتنا ، ورسول اللّه هو الأصل فينا ونحن أغصانه وفروعه ، فهو بالحقيقة والمآل الذكر ؛ لأنّه ناطق عنه ، ونحن أهل الذكر . ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام حين احتال القاسطين بالدعوة إلى القرآن : «أنا كلام اللّه الناطق»(1) .8.

ص: 516


1- وسائل الشيعة، ج 27، ص 34، ح 33147؛ بحارالأنوار، ج 30، ص 546. و راجع: بصائر الدرجات، ص 64 ، ح 13؛ التوحيد، ص 164، ح 1؛ الاختصاص، ص 248.

قوله : (ثمّ قال بيده) . [ح 7 / 553]

في النهاية :

في الحديث : «فقال بثوبه [هكذا]» . العرب تجعل القول عبارةً عن جميع الأفعال ، وتطلقه على غير الكلام باللسان ، فتقول : «قال بيده» أي أخذه ، و «قال برجله» أي مشى ، و [قال الشاعر] : «قالت له العينان سمعا وطاعة» أومأت و «قال بالماء على يده» أي قلب ، و «قال بثوبه» أي رفعه . وكلّ ذلك على المجاز والاتّساع ، كما روي في حديث السهو : «قال : ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : صدق» روي أنّهم أومأوا برؤوسهم ، أي نعم ، ولم يتكلّموا . ويُقال: «قال» بمعنى «أقبل» وبمعنى : مال ، واستراح ، وضرب ، وغلب وغير ذلك . وقد تكرّر ذكر القول بهذه المعاني في الحديث(1) . انتهى .

وفي القاموس :

قال به : غلب به ، ومنه : «سبحان من تعطّف بالعزّ وقال به» والقوم بفلان : قتلوه . ابن الأنباري : قال يجيء بمعنى تكلّم وضرب وغلب ومات ومال واستراح وأقبل ، ويعبّر بها عن التهيّء للأفعال والاستعداد لها . يقال : قال فأكل ، وقال فضرب ، وقال فتكلّم ، ونحوه .(2) انتهى .

باب أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة

باب أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة عليهم السلام

قوله : «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّه ُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»(3) . [ح 2 / 559]

نصّ على الوقف على «في العلم» ، وقد سبق تحقيق المقام في كتاب العقل في رواية هشام .

ذكر الآية للاستشهاد على أنّ في الناس من لا يستجيب الحقّ اتّباعا للهوى ، فلو كان الجواب واجبا على الإطلاق غير منوط بملاحظة المقام ، لوجب جواب من علم أنّ سؤاله على سبيل التعنّت والمراء والإذاعة المفضية إلى الفساد .

هذا أحد وجوه عدم الوجوب الذي دلّت الآية عليه ، وله وجوه اُخرى مثل نقصان

ص: 517


1- النهاية، ج 4، ص 124 (قول) مع تلخيص.
2- القاموس المحيط، ج 4، ص 42 (قول).
3- آل عمران (3) : 7 .

عقل السائل وعدم استطاعته لفهم الجواب من جهة الفطرة ، أو من جهة عدم تحصيل الشرائط ، أو غير ذلك من الأسباب .

قوله : (الذين لا يعلمون تأويلَه) . [ح 2 / 559]

لفظة «لا» في «لا يعلمون» ليست في أكثر النسخ . وفي بعضها : «يعلم» بالياء المثنّاة التحتانيّة مكان «بعلم» .

وهذا الحديث ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره إلى قوله: «يعلمونه كلّه» ولعلّ ذلك لتشويش فيما بعده ، أو لأنّ أصل الحديث هو ذلك القدر ، والباقي إمّا من المصنّف، أو من الرواة .

ثمّ اعلم أنّ جمعا من القرّاء وقفوا على الجلالة ، وعلى هذا فالراسخون في العلم مبتدأ ، خبره «يقولون» والجملة إمّا حاليّة أو استئنافيّة ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة الأشباح المنقولة في نهج البلاغة و توحيد(1) الصدوق - طاب ثراه - كالنصّ على ذلك ؛ حيث قال : «ما كلّفك [الشيطانُ] علمَه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضُه ولا في سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله وأئمّة الهدى عليهم السلام أثرُه ، فكِلْ علمَه إلى اللّه سبحانه ؛ فإنّ ذلك منتهى حقّ اللّه عليك . واعلم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح اللّه تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم التعمّقَ فيما لم يكلّفهم البحثَ عن كنهه رسوخا» .

ومن تأمّل هذا الحديث علم أنّ المقصود من الحديث الذي نحن فيه في غاية الظهور، و أنّ العبارة قد وقع فيها اختلال من جهة النقل .

باب أنّ الأئمّة قد اُوتوا العلم واُثبت في صدورهم

باب أنّ الأئمّة عليهم السلام قد اُوتوا العلم واُثبت في صدورهم

قوله : (ما قال بين دفّتي المصحف) . [ح 3 / 563]

في الوافي : «يعني ما قال آيات بيّنات بين دفّتي المصحف ، بل قال : «فِى صُدُورِ الَّذِينَ

ص: 518


1- نهج البلاغة ، ص 125 ، الخطبة 91 ؛ التوحيد ، ص 48 ، ح 13 .

اُوتُوا الْعِلْمَ»»(1) .

باب في أنّ من اصطفاه اللّه من عباده و أورثهم كتابه هم الأئمّة

[باب في أنّ من اصطفاه اللّه من عباده و أورثهم كتابه هم الأئمّة عليهم السلام ]

قوله : «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللّه ِ»(2) . [ح 1 / 566]

في أمالي الصدوق - طاب ثراه - في مجلس يوم الجمعة سلخ جمادى الاُخرى من سنة ثمان وستّين وثلاثمائة بإسناده عن الريّان بن الصلت ، قال :

حضر الرضا عليه السلام مجلس المأمون بمرو ، وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء العراق وخراسان ، فقال المأمون : أخبروني عن معنى هذه الآية: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»فقالت العلماء : أراد اللّه بذلك الاُمّة كلّها . فقال المأمون : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال الرضا عليه السلام : «لا أقول كما قالوا ، ولكنّي أقول : أراد اللّه العترة الطاهرة» . فقال المأمون : كيف عنى العترة الطاهرة ؟ فقال الرضا عليه السلام : «إنّه لو أراد الاُمّة لكانت بأجمعها في الجنّة ؛ لقول اللّه تبارك وتعالى : «فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللّه ِ»ثمّ جمعهم كلّهم في الجنّة ، فقال : «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ»فصارت الوراثة للعترة الطاهرة» .(3)

أقول : الآية في سورة فاطر ، وهي هكذا : «وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللّه َ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّه ِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُوءْلُوءا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ للّه ِِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ»(4) .

ص: 519


1- الوافي، ج 3 ، ص 534 . والآية في سورة العنكبوت (29) : 49 .
2- فاطر (35) : 32 .
3- الأمالي للصدوق، ص 522، المجلس 75، ح 1.
4- فاطر (35) : 31 - 35 .

ثمّ أقول : الآية الاُولى صريحة في أنّ المراد بالكتاب في الآية الثانية القرآن ، وقد اعترف بذلك البيضاوي أوّلاً ، ثمّ جوّز أن يكون المُراد التوراة ، والموروث منهم الاُمم السابقة ، ويكون آية «وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ»جملة معترضة . وهذا كماترى .

وقال في توجيه إيراد الإيراث بصيغة الماضي : «حكمنا بتوريثه منك أو نورّثه ، فعبّر عنه بالماضي لتحقّقه ، أو أورثناه من الاُمم السالفة ، والعطف على «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ»(1)، «وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ» اعتراض لبيان كيفيّة التوريث»(2) .

فأقول : يحتمل أن يكون «أورثنا» بمعنى استودعنا واستحفظنا ، و «عبادنا» عبارةً عن هذه الاُمّة التي علم اللّه أنّ بعضهم أشرار ظلمة ، وبعضهم أئمّة يهدون بالحقّ ، وبعضهم مقتفي آثار الأئمّة ، ويكون «من» في «من عبادنا» ابتدائيّةً ، والجارّ متعلّق ب «اصطفينا» أي انتخبناهم من بين العباد ، والمصطفون من بين العباد المستودَعون للكتاب المستحفظون إيّاه هم صنف الأئمّة من أصناف الاُمّة ، وضمير «منهم» - المشتمل على الأصناف الثلاثة - للعباد ، أي الاُمّة ، والفاء فيه للسببيّة كما نقل صاحب المغني في قوله تعالى : «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّه َ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الاْءَرْضُ مُخْضَرَّةً» أي فصار الاصطفاء سببا ومنشأً لأن تكون الاُمّة كذا وكذا(3) ؛ لأنّه بالاصطفاء حصل صنف ، وبمخالفة المصطفى صنف آخر ، وبمتابعته حصل صنف ثالث ؛ فلم تزد الأصناف عن الثلاثة ولم تنقص .

وهذا التقسيم يحاذي في الأقسام قوله تعالى :«وَ أصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ و ماءٍ مَسْكُوبٍ»(4) الآيه. «وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ»(5) الآية . «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ»(6) .

جعل سبحانه في هذه الآية الكونَ في الجنّات وصفَ حال للسابقين دون أصحاب2.

ص: 520


1- فاطر (35) : 29.
2- أنوار التنزيل، ج 4، ص 419.
3- مغني اللبيب، ج 1، ص 162.
4- الواقعة (56): 27 - 31.
5- الواقعة (56) : 41 - 43 .
6- الواقعة (56): 10 - 12.

اليمين، ولابدّ لذلك من نكتة، فلتكن تلك النكتة بعينها مرعيّةً في إرجاع ضمير «يدخلون» إلى «السابق بالخيرات» في الآية التي نحن فيها دون المقتصد .

والظاهر أنّ النكتة كون السابقين هم الأصل ، والمقتصدين وأصحاب اليمين إنّما يدخلون الجنّة ببركة أتباعهم ، والمتعارف في الضيافات ذكر الأصل والمقصود بالذات ، دون الأتباع الذين هم بالعرض .

والتوجيه الذي ذكرنا موافق لما عليه أهل الذكر الراسخون في العلم ، فلا يعدل عنه إلى غيره إلاّ الذين في قلوبهم زيغ .

وما قال المتسمّون بالعُلماء في مجلس المأمون من أنّ المراد جميع الاُمّة ممّا لا يقبله ذوق من له دراية بأساليب الكلام ؛ لأنّ المراد بالإيراث إن كان هو الاستيداع والاستحفاظ كما هو الظاهر بحسب المقام ، فظاهر أنّ جميع الاُمّة - الذين فيهم الباغون على أئمّة العدل حسدا وحبّا للرياسة الباطلة باعتراف الكلّ - ليسوا أهلاً لذلك ؛ وإن كان المراد مجرّد الإبقاء فيهم ، فوصف المورثين بالاصطفاء عارٍ عن الفائدة ، بل مخلّ غير ملائم لقوله : «فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ» كما لايخفى .

وقد تفطّن لذلك البيضاوي ، وخصّ المصطفين بالعلماء من الصحابة ومن بعدهم(1) .

وبالجملة ، فالمعنى على الاحتمال الذي ذكرنا : «ثُمَّ أَوْرَثْنَا» الموحى إليك - أي استودعناه واستحفظناه الذين اصطفينا من عبادنا - الجماعةَ الذين خلّصناهم من بين هذه الاُمّة عن كدورات الرجس : رجس الذنوب وإضاعة ما استودعوه واستُحفظوه تعمّدا أو خطأً أو سهوا ، أي فطرناهم صافين خالصين ؛ من باب ضيّق فم الركيّة .

وإنّما أورثناهم الكتاب كيما إن حرّف كلمةً منه المتصنّعون بالإسلام ، أواقتحم في متشابهه الجاهلون الذين تراءسوا قبل أن يعضّوا في العلم بضرس قاطع ، كان للمسترشدين سبيل إلى استعلام الحقّ ، وإلى دليل يهديهم في كلّ حادثة نزلت بهم إلى حكمها المنزّل في الكتاب على العلم واليقين ، دون الظنّ والتخمين : «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى9.

ص: 521


1- أنوار التنزيل، ج 4، ص 419.

الرَّسُولِ وَإِلى أُولِى الاْءَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(1)الكافي، ج 1، ص 226، ح 7.(2) .

وهذا الاصطفاء والإيراث صار منشأ لأن يتصنّف الاُمّة ثلاثة أصناف :

صنف أعرضوا عن اتّباع المصطفين ، بل ظلموهم وغصبوا حقوقهم ، وأزالوهم في الظاهر عن مراتبهم التي رتّبهم اللّه فيها ، وفي الحقيقة ما ظلموهم ، بل كانوا أنفسهم يظلمون ؛ لحرمانهم إيّاها ما نظر اللّه تعالى لهم ، ولذلك سمّاهم اللّه بالظالم لنفسه .

وصنف تابعوا المصطفين ، واقتفوا أثرهم ، ولم يميلوا عنهم إلى جانبي الإفراط والتفريط ، أي الغلوّ والبغض ، بل كانوا على قصد الطريق ؛ ولذلك سمّاهم بالمقتصد.

وصنف المصطفون الذين سمّوا بالسابق بالخيرات ؛ لكونهم هم الفائزين بتشريف التقديم والإمامة ، الحائزين قصبات السبق في حلية الفضل والكرامة ، ولأنّهم سبقوا في علم اللّه بأهليّة الرياسة العظمى والزعامة الكبرى.

وسيجيء في باب أنّ الأئمّة عليهم السلام ورثوا علم النبيّ صلى الله عليه و آله وجميع الأنبياء عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام : «وأنّ في كتاب اللّه لآيات» إلى قوله : «إنّ اللّه يقول : «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالاْءَرْضِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُبِينٍ»»(3) ، ثمّ قال : ««ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»(4) فنحنُ الذين اصطفانا اللّه عزَّ وجلَّ ، وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كلّ شيء»(4) .

فالحمد للّه الذي هدانا بتعليم مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام إلى ما هو الحقّ والصواب في هذه الآية .

وكنت قد قلت في سفري إلى مشهده عليه السلام قصيدة في مدحه، فرأيت أن أختم هذه الحاشية بها رجاءَ أن يشتهر بين الإخوان ، عسى أن تتوارث إلى أن تتشرّف بخدمة صاحب الزمان صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين ، والساعي في النشر شريك في الأجر :7.

ص: 522


1- النساء
2- : 83 .
3- النمل (27) : 75 .
4- فاطر (35) : 32 .

قصيدة للمؤلّف في مدح مولانا الرضا عليه السلام :

يا تارك الشرف السني وطالب *** العزّ الدنيّ المستهان الفاني

ومعفّر الخدّ البهيّ لمن أعار *** من المنيّة عارة السلطان

حتّى متى وإلى متى تدع الهُدى *** تَبَع الهوى وصحابةَ الشيطان

قم فانطلق واركض برجلك والحقن *** عيرا من الحافين والركبان

قد اُسرجت أفراسهم وتساقطت *** ما كان من خيم ومن سُقبان

قصدوا إلى مصر أذلّة أهله *** فخرّ الأعزّة من بني كنعان

مصر حوالي مطبخ لعزيزة *** فوج الملوك كجائع سغبان

مصر تمعّك فيه نيل شرافة *** ما في حريم القدس من سكّان

أعني به الأرض المقدّسة التي *** قد شرّفت بخليفة الرحمن

المقتدى الهادي الرضا عَلَمُ الهدى *** بحر الندى ذي الفضل والإحسان

أبصرت لو أبصرت قبّة داره *** رمّانة جُنيت من البستان

لا بل شُموسا قد اُذيبت ثمّ أفرغ *** تاسع الأفلاك في الحُسبان

خدّامه حكّام جنّات على *** حُجّابه مستخدموا رضوان

حفّاظ مشهده المقدّس مطربوا *** داوُد ذي المضمار بالألحان

زوّار مرقده الشريف مفاخروا *** حجّاج بيت اللّه بالإيقان

ربحت تجارة من أتى بولائه *** وعِدَاه صفقتهم على الخسران

خفت موازين الذين بوقرهم *** مثقال خردلة من الشنآن

فاُولئك الأغلال في أعناقهم *** يصلون مسجونين في النيران

ذاك الذي استقصى ليُطفئ نوره *** طاغوت أهل البغي والعدوان

فدَعا له متكلّمي الأمصار ثمّ *** أفاضل الأحبار والرهبان

حتّى إذا حجّ الخصوم بأسرهم *** طورا بيّنة وبالبرهان

طورا بما وردت من الآيات *** في التوراة والإنجيل والفرقان

فهنالك انشرحت صدور الهدى *** وتضيّقت اُخرى عن الإيمان

ص: 523

واسودّ وجهٌ رام سؤدد *** أوجه السادات والأشراف بالطغيان

مَن لم يُوال وليّه ويُعاد مَن *** عاداه فهو كعابد الأوثان

جحد النبوّة أو أقرّ بها كلا *** الأمرين عند إلهنا سيّان

يا ابن النبيّ المصطفى وابن الوصي *** المرتضى فلحبّذ الجدّان

يا ابن البتول المطهّر فاطمة التي *** سادت وفاقت سائر النسوان

يا ابن المجاهد في سبيل اللّه *** بالأموال والأولاد والإخوان

البارع البطَل الخطوف الصارع *** الأسْدان والفرسان والشجعان

سبّاق ميدان الفخار كصنوه *** الحسن الزكيّ المجتبى الحسّان

نِعمَ الإمامان اللذان تفرّدا *** دار الجنان بسؤدد الشبّان

يا ابن الإمام ابن الإمام أخي الإمام *** أبي الأئمّة يا له من شان

يا ابن الإمام العابد السجّاد ذي *** الثفنات والبكّاء والأنّان

يا ابن الذي بقر العلوم وشقّها *** بعد اندراس من بني مروان

فأتى بما شهد البرايا أنّه *** ما كان إلاّ نفخة الرحمن

يا ابن الإمام الصادق الصدّيق *** والكشّاف للقرآن بالتبيان

يا ابن الإمام الكاظم الغيظ الذي *** بلغ الذرى في العفو والغفران

كن عند جدّك شافعا لجرائمي *** باُولئك السادات والأعيان

وبولدك الغرّ الكرام أئمّة *** الإسلام فخر الدين والإيمان

وهم الجواد عماد دين المصطفى *** ثمّ ابنه الهادي إلى الرحمن

ثمّ ابنه الحسن الإمام المقتدى *** والسيّد السند العظيم الشانِ

ثمّ ابنه الخلف الإمام القائم *** الماحي ظلام الكفر والكفران

إنّي أتيتك زائرا متضرّعا *** من بلدةٍ تدعى بأصباهان

حزنا كئيبا خائفا مترقّبا *** ممّا جنيت بدعوة الشيطان

لا تطردنّي من قطيعك سيّدي *** فاُقطّعنّ بأنيُب الذُّوُبان

تاللّه لست براجع عنكم وإن *** جذبتني الأعداء بالأرسان

ص: 524

حاشا وكلاّ لا اُخالطهم *** وإن ضربا دقيقا في رحى الطحّان

حسبي إلهي خالقي ربّي رؤوفي *** رازقي متعطّفي حنّاني

ثمّ الرسول المصطفى مع آله *** أبواب علم اللّه والخزّان

ربّي لئن كانت ذنوبي جمّة *** تترى عظاما أوجبت خذلاني

فلقد هُديت البيت ثمّ أتيته *** من هذه الأبواب يا منّان

والآن قمت بباب عزّك سائلاً *** وأقول قول العاجز اللهفان :

يا عدّتي في شدّتي ، يا *** مفزعي في روعتي ، يا من به اطمئناني

يا موئلي ومؤمّلي يا من *** عليه معوّلي في الصفح عن عصياني

يا من علا بجلاله يا من دنا *** بفعاله العجّاب في الإتقان

بمحمّدٍ وبآله وبفضله *** وكماله اجعَلْنِ في الغفران

واقبل بفضلك توبتي وأقِلْ *** بجودك عثرتي وعثار من ربّاني

واعمم بذلك سائر *** الآباء والأبناء والإخوان والجيران

باب أنّ القرآن يهدي للإمام

باب أنّ القرآن يهدي للإمام عليه السلام

قوله : («وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاْءَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ»(1) قال : إنّما عنى بذلك الأئمّة عليهم السلام ، بهم عَقَدَ اللّه ُ - عزّوجَلَّ - أيْمانَكُم) . [ح 1 / 572]

في الكشّاف :

«مِمَّا تَرَكَ» تبيين لكلٍّ ، أي ولكلّ شيء ممّا ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا موالي ورّاثا يلونه ويحرزونه ؛ أو ولكلّ قوم جعلناهم موالي نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون على أنّ «جَعَلْنَا مَوَالِىَ» صفة لكلّ ، والضمير الراجع إلى كلٍّ محذوفٌ ، والكلام مبتدأ وخبر ، كما تقول لكلّ من خلقه اللّه إنسانا : من رزق اللّه ُ، أي حظّ من رزق اللّه ؛ أو ولكلّ أحد جعلنا موالي ممّا ترك ، أي ورّاثا ممّا ترك ، على أنّ «من» صلة موالي ؛ لأنّهم في معنى الورّاث ، وفي «ترك» ضمير كلّ ، ثمّ فسّر الموالي بقوله : الوالدان

ص: 525


1- النساء (4) : 33 .

والأقربون ، وكأنّه قيل : مَن هم ؟ فقيل : الوالدان والأقربون . «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ» مبتدأ ضُمِّن معنى الشرط ، فوقع خبره مع الفاء ، وهو قوله : «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ»(1)المائدة (2) : 1 .(3) . ويجوز أن يكون منصوبا على قولك : زيد فاضربه، ويجوز أن يعطف على الوالدان ، ويكون المضمر في «فَآتُوهُم» لموالي ، والمراد بالذين عقدت أيمانكم موالي الموالات . كان الرجل يعاقد الرجل ، فيقول : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وثأري ثأرك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي واُطلب بك ، وتفعل عنّي وأفعل عنك(4) ، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ، فنسخ .

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه خطب يوم الفتح ، فقال : «ما كان من حلف في الجاهليّة فتمسّكوا به ؛ فإنّه لم يزده الإسلام إلاّ شدّة ، ولا تُحدثوا حلفا في الإسلام» .

وقيل : المعاقدة : التبنّي ، ومعنى عاقدت أيمانكم : عاقدتكم أيديكم وماسحتموهم ، وقرئ «عقدت» بالتشديد والتخفيف بمعنى عقدت عهودكم أيمانكم(5) .

انتهى كلام الزمخشري .

وفي مجمع البيان :

وقال أكثر المفسِّرين : إنّ قوله : «والذين» مبتدأ ، أي والذين عاقدت أيمانكم أيضا فآتوهم نصيبهم ، ثمّ اختلفوا [فيه] على أقوال :

أحدها : أنّ المراد بهم الحلفاء ؛ عن قتادة وسعيد بن جبير والضحّاك . وقال مجاهد : فأعطوهم نصيبهم من النصر والعقل والرفد . فعلى هذا تكون الآية غير منسوخة ، ويؤيّده قوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(4) .

ثانيها : أنّ المراد بهم قوم آخى بينهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله من المهاجرين والأنصار حين قدموا المدينة ، وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة ، ثمّ نسخ اللّه ذلك بالفرائض .

وثالثها : أنّهم الذين كانوا تَبَنُّون أبناء غيرهم في الجاهليّة(5) .

انتهى كلام صاحب مجمع البيان .

أقول : ظَهرُ الآية حكم الذين تصافقوا وتعاقدوا وتعاهدوا على التوارث والموالاة6.

ص: 526


1- النساء
2- مجمع البيان، ج 3، ص 76.
3- : 33 .
4- في المصدر: «و تعقل عنّي و أعقل عنك».
5- الكشّاف، ج 1، ص 522 و 523.

والتعاضد والمواساة على ما نقلوا ، وبطن الآية عقد بيعة الإمام عليه السلام يوم الغدير ، بل يوم الذرّ ، فالنصيب: الإطاعة والإئتمام والخمس والأنفال وأمثالها ؛ فالحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه .

باب أنّ المتوسّمين الذين ذكرهم اللّه تعالى في كتابه هم الأئمّة...

[باب أنّ المتوسّمين الذين ذكرهم اللّه تعالى في كتابه هم الأئمّة عليهم السلام ...]

قوله : (بَيّاع الزُّطِّي) . [ح 1 / 578]

في القاموس : «الزُّطّ - بالضمّ - : جيل من الهند ، معرّب «جَتَّ» بالفتح ، والواحد : زطّي»(1).

وفي الصحاح : «الواحد : زطّي ، مثل الزنج والزنجي ، والروم والرومي»(2) .

قوله : («وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ»(3) فقال : نحن المتوسّمون ، والسبيل فينا مقيم) . [ح 1 / 579]

في القاموس : «أقام بالمكان إقامة : دام . وماله قيمة : إذا لم يدم على شيء»(4) .

وفي مجمع البيان في سورة الحجر :

«وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ» معناه أنّ مدينة لوط لبطريق مسلوك يسلكها الناس في حوائجهم ، فينظرون إلى آثارها ويعتبرون بها ؛ لأنّ الآثار التي يستدلّ بها مقيمة ثابتة ، وهي مدينة سدوم(5) . انتهى .

وفي جوامع الجامع :

«إِنَّ فِى ذلِكَ لاَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لاَآيَةً لِلْمُوءْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الاْءَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ»(6) . «أصحاب الأيكة» : قوم شعيب ، و«إنّهما» يعني قوم لوط والأيكة «لبإمام مبين» : لبطريق واضح يؤمّ ويتبع ويهتدى به(7) . انتهى .

أقول : ذكر ابن هشام في المغني من معاني الباء التوكيد ، قال : «وهي الزائدة ،

ص: 527


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 362 (زطط) .
2- الصحاح، ج 3، ص 1129 (زطط).
3- الحجر (15) : 76 .
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 168 (قوم) .
5- مجمع البيان، ج 6 ، ص 126.
6- الحجر (15) : 75 - 79 .
7- جوامع الجامع، ج 2، ص 309.

وزيادتها في ستّة مواضع»(1) وعدّ منها الفاعلَ ، نحو : أحسن بزيد ، و «كَفى بِاللّه ِ شَهِيدا»(2)مريم (19) : 25 .(3) ، والمفعولَ ، نحو : «وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(4) ، و «وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ»(4) ، «فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ»(5)، «وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ»(6) . وقد زيدت في مفعول كفى المتعدّي لواحد ، ومنه الحديث : «كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكلّ ما سمع»(7) ، وقوله :

فكفى بنا فضلاً على من غيرنا *** حبّ النبيّ محمّد إيّانا(8)

والمبتدأ ، وذلك في قولهم : بحسبك درهم ، وخرجت فإذا بزيد ، وكيف بك إذا كان كذا . والخبر ، و هو ضربان : غير موجب فيقاس ، نحو : ليس زيد بعالم ، و «مَااللّه ُ بِغَافِلٍ»(9) وموجب ، فيتوقّف على السماع ، وهو قول الأخفش و من تبعه .

أقول : ومنه قوله تعالى : «وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ . . . وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ» .

والحال المنفيّ عاملها ؛ ذكر ذلك ابن مالك وخالفه أبو حيّان . والتوكيد بالنفس والعين . انتهى ما أخذنا من المغني(10) .

وقوله عليه السلام : (والسبيل فينا مقيم). [ح 1 / 578] هذا من البطون، وفي تفاسير أهل البيت عليهم السلام كثير.

وخبر سليمان الآتي عن أبي عبد اللّه عليه السلام : «إِنَّ فِى ذلِكَ لاَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» قال : «هم الأئمّة عليهم السلام » «وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ» قال : «لا يخرج منّا أبدا»(11) .4.

ص: 528


1- مغنى اللبيب، ج 1، ص 106.
2- النساء
3- : 79 .
4- البقرة (2) : 195 .
5- الحجّ (22) : 15 .
6- الحجّ (22): 25.
7- معاني الأخبار، ص 158، ح 1؛ الأمالي للطوسى، ص 535، المجلس 19، ح 1. و عنه في وسائل الشيعة، ج 12، ص 188، ح 16044.
8- الشاعر: حسّان بن ثابت كما فى جامع البيان للطبري، ج 1، ص 259؛ المحرّر الوجيز لابن عطيّة الأندلسي، ج 1، ص 111؛ تفسير ابن كثير، ج 1، ص 67 . و نسبه فى لسان العرب إلى بشير بن عبدالرحمن. راجع : لسان العرب، ج 13، ص 419؛ و ج 15، ص 226.
9- البقره (2): 74 و 85 و 140 و... .
10- مغنى اللبيب، ج 1، ص 106 - 108.
11- نفس الباب، ح 4.

قوله : (من أهل هِيتٍ) . [ح 2 / 579]

في القاموس : «هيت - بالكسر - : بلد بالعراق»(1) .

باب أنّ الطريقة التي حثّ على الاستقامة عليها ولايةُ عليِّ

[باب أنّ الطريقة التي حثّ على الاستقامة عليها ولايةُ عليِّ عليه السلام ]

قوله : «مَاءً غَدَقا»(2) . [ح 1 / 589]

في الصحاح : «الماء الغدق : الكثير»(3) .

قوله : «وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنْتُمْ تُوعَدُونَ»(4). [ح 2 / 590]

في الصحاح :

بشَرت الرجل أبشُره - بالضمّ - بَشْرا وبُشورا من البشرى ، وكذلك الإبشار والتبشير ثلاث لغات ، والاسم البشارة ، والبشارة ، بالكسر والضمّ ، يقال : بشرته بمولود فأبشر إبشارا ، أي سُرّ ، وتقول : أبشر بخير ؛بقطع الألف ، ومنه قوله تعالى : «وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ» ، وبشرت بكذا أبشَر ، أي استبشرت به ، وأتاني أمر بَشِرت به ، أي سُررت به(5) .

باب أنّ الأئمّة معدن العلم و...

[باب أنّ الأئمّة معدن العلم و...]

قوله : (ومن خفرها) . [ح 3 / 593]

المقابلة والمقام يقتضي أن يكون «خفر» بمعنى نقض العهد ، إلاّ أنّ صاحب النهاية قال : «أخفرت الرجل : إذا نقضت عهده وذمامه ، والهمزة فيه للإزالة ، أي أزلت خفارته ، كأشكيته : إذا أزلت شكواه»(6) .

وقال صاحب المغرب : «خفر بالعهد : وفى به خفاره ، من باب ضرب . وأخفره : نقضه إخفارا ، الهمزة للسلب»(7) .

ص: 529


1- القاموس المحيط، ج 1، ص 160 (هيت).
2- الجنّ (72) : 16 .
3- الصحاح، ج 4، ص 1536 (غدق).
4- فصّلت (41) : 30 .
5- الصحاح، ج 2، ص 590 (بشر).
6- النهاية، ج 2، ص 52 (خفر).
7- المغرب، ص 149 (خفر).

وفي القاموس : «خفره وبه وعليه : أجاره ومنعه وأمته كخفره ، والاسم الخفارة مثلّثةً ، وخفره : أخذ منه جُعلاً ليجيره ، وبه خفرا و خفورا : نقض عهده وغدره كأخفره»(1) .

وفي الصحاح : «أخفرته : إذا نقضت عهده»(2) .

وفي الفائق : «خفرت الرجل : أجرته وحفظت عهده ، وأخفرته : نقضت عهده ، والهمزة فيه مثلها في أشكيته ، كأنّ المعنى : أزلت خفرته»(3) . هذا كلام أرباب اللغة ؛ فتأمّل .

باب أنّ الأئمّة ورثة العلم يرث بعضهم بعضا العلم

[باب أنّ الأئمّة ورثة العلم يَرِثُ بعضهم بعضا العلمَ]

قوله : (يَمُصُّونَ الثَماد) . [ح 6 / 598]

في القاموس : «الثمد - ويحرّك وككتاب - : الماء القليل لا مادّة له»(4) .

وفي الأساس : «لو كنتم ماء لكنتم ثمدا ، أي قليلاً . قال الأصمعي : هو ماء المطر يبقى محقونا تحت رمل ، فإذا كشف عنه أدّته الأرض ، وتركناهم يمصّون الثماد»(5). انتهى .

قوله : (إنّ العلمَ الذي نَزَلَ مع آدمَ عليه السلام لم يُرْفَعْ) . [ح 8 / 600]

لينظر ناظر بعقله وسليم فطرته أنّ العلم الذي نزل مع آدم عليه السلام - ولا يزال يتوارث - هل هو علم الحلال والحرام ، أم المعارف الإلهيّة التي لا تتغيّر بتغيّر الملل ؟

باب أنّ الأئمّة ورثوا علم النبيّ و...

[باب أنّ الأئمّة عليهم السلام ورثوا علم النبيّ و...]

قوله : (ونَحْنُ النُّجَباءُ النُّجاةُ) . [ح 1 / 601]

النجاة بضمّ - النون - جمع ناجى ، كدُعاة جمع داعي ، وقضاة جمع قاضي .

قوله : (نحن أفْراطُ الأنبياء) . [ح 1 / 601]

في النهاية :

ص: 530


1- القاموس المحيط، ج 2، ص 22 (خفر).
2- الصحاح، ج2، ص 649 (خفر).
3- الفائق في غريب الحديث، ص 333.
4- القاموس المحيط، ج 1، ص 280 (ثمد).
5- أساس البلاغة، ص 76 (ثمد).

فيه : «أنا فرطكم على الحوض» أي متقدّمكم إليها ، يقال : فرط [يفرط] فهو فارط وفرط : إذا تقدّم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء ، ويهيّء لهم الدلاء والأرشية ، ومنه الدُّعاء للطفل الميّت : «واجعله له فرطا» أي أجرا يتقدّمه ، وحديث الدُّعاء أيضا على ما فرط منّي ، أي سبق وتقدّم . ومنه الحديث : «أنا والنبيّون فراط القاصفين» . فراط : جمع فارط ، أي متقدّمون إلى الشفاعة ، وقيل : إلى الحوض . والقاصفون : المزدحمون(1) .

أقول : ظهر من كلامه أنّ الفرط - بمعنى التقدّم - جمعه فراط .

وفي القاموس :

فرط القوم يفرطهم فرطا [و فراطة] : تقدّمهم إلى الورد لإصلاح الحوض والدلاء ، وهم الفراط ، والفرط : الاسم من الإفراط ، والغلبة ، والعلم المستقيم يهتدى به . والجمع : أفرط وأفراط(2) .

أقول : المعنى الأخير هو المراد في قوله عليه السلام : «ونحن أفراط الأنبياء» ولذلك جمع بالأفراط؛ فتبصّر .

قوله : (في ذُؤابةُ العَرْشِ) . [ح 2 / 602]

في القاموس في الذال المعجمة والهمزة والباء الموحّدة : «الذؤابة : الناصية ، أو منبتها من الرأس ، ومن العزّ والشرف ، وكلّ شيء أعلاه»(3) .

قوله : (إنّ العِلْمَ الذي يَحْدُثُ يوما بعد يومٍ) . [ح 3 / 603]

يعني أنّ العلم الذي لا حظّ لغيرنا فيه ، هو الذي يحصل لنا بتحديث الملك كلّ يوم وكلّ ساعة . وسيجيء في الأخبار أنّهم عليهم السلام محدّثون .

قوله : «مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ»(4) . [ح 6 / 606]

الظاهر أنّ المراد بالذكر ما في اللوح المحفوظ .

قوله : (وسليمانَ بن داوُدَ [كانَ يفهم منطق الطيرِ]) . [ح 7 / 607]

تتمّة كلام أبي الحسن عليه السلام و «يُفّهم» بالبناء للمفعول من باب التفعيل ، بناءً على أنّه5.

ص: 531


1- النهاية، ج 3، ص 434 (فرط).
2- القاموس المحيط، ج 2، ص 377 (فرط) مع تلخيص.
3- القاموس المحيط، ج 1، ص 67 (ذأب) مع تلخيص.
4- الأنبياء (21) : 105.

ناظر إلى قوله : «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ»(1) وإشارة إلى أنّ سليمان عليه السلام لم يكن اُوتي فهمَ منطق الطير على الإطلاق ، بل يُفهّمه اللّه تعالى كلّما يشاء ، وكذلك عيسى عليه السلام لم يكن اُوتي القدرة على الإحياء كلّما أراد ، بل إذا جاء الإذن من اللّه تعالى ، كما في آل عمران : «وَأُحْىِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّه ِ»(2)المائدة (3) : 110 .(4) ، وفي المائدة : «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى»(3) .

قوله : (وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد أُعطي القدرة(5) على هذه المنازل) . [ح 7 / 607]

سياق الكلام يعطي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد اُعطي القدرة على فهم منطق الطير على الإطلاق ، أي غير مختصّ بطير دون طير ، ومنطق دون منطق ، وهو مُفاد أحاديثَ كثيرةٍ وردت في الواقعات ، وقوله تعالى : «هَذَا عَطَاوءُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(5) ربما يُشعر بذلك .

باب أنّ الأئمّة عندهم جميع الكتب التي نزلت...

[باب أنّ الأئمّة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت...]

قوله : (في حديث بُرَيْهٍ) . [ح 1 / 608]

في القاموس : «بُريه : مصغّر إبراهيم»(6) .

قوله : (ما أوْثَقَنِي بِعِلْمِي) . [ح 1 / 608 [فعل التعجّب .

باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة و...

[باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة عليهم السلام و...]

قوله : (ما ادَّعى أحَدٌ من الناس أنّه جَمَعَ القرآنَ كلَّه كما اُنزل إلاّ كذّابٌ) . [ح 1 / 610]

تحقيق معناه وتبيين مغزاه يستدعي تمهيد مقدّمة فنقول :

روى الهيثم التميمي ، قال : سألت أبا عبد اللّه صلى الله عليه و آله عن قول اللّه تعالى : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ»(7) ، فقلت : هكذا ، فمسحت من ظهر كفّي إلى المرفق ؟

ص: 532


1- الأنبياء (21) : 79 .
2- آل عمران
3- ص (38) : 39.
4- : 49 .
5- في الكافي المطبوع: «يقدر» بدل «قد أعطي القدرة».
6- راجع: القاموس المحيط، ج 4، ص 79 (بره).
7- المائدة (5) : 6 .

فقال : «ليس هكذا تنزيلها ، إنّما هي : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنَ الْمَرَافِقِ»(1) .

ومثل هذه العبارة ورد عنهم عليهم السلام في عدّة آيات ، وتوهّم جماعة من الأخباريّين في عصرنا أنّ المراد وقوع التحريف ، وليس الأمر على ما توهّموا ، بل المراد بتنزيل الآية ما جاء به جبرئيل عليه السلام من متعلّقاتها مثل أنّ ما اُريد فيها أو بها ولم يصرّح به لحكمة ومصلحة كيت وكيت .

ولنذكر في هذا الباب مثالاً يزيل عنك الارتياب :

روي الكليني في الحسن عن زرارة وبكير أنّهما سألا أبا جعفر عليه السلام عن وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فدعا بطَسْت أو تَوْرٍ - الى أن قال : - ثمّ قال : «إنّ اللّه عزَّ وجلَّ يقول : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ»(2) ، فليس له أن يَدَعَ شيئا من وجهه إلاّ غَسَلَه ، وأمَرَ بغَسْل اليدين إلى المرفقين ، فليس له أن يَدَعَ شيئا من يديه إلى المرفقين إلاّ غَسَلَه ؛ لأنّ اللّه يقول : «اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ» » الحديث(3) .

ذكر عليه السلام الظرف أوّلاً على نحو ما في الآية محتملاً للتعلّق ب «اغسلوا» أو بالعامل المقدّر ، ثمّ قدّمه على الغسل في التفريع ليتعيّن الاحتمال المقصود حيث قال : «فليس له أن يدع شيئا من يديه إلى المرفقين إلاّ غسله» . فدلّ عليه السلام بهذا على أنّ التحديد في الآية للمغسول ، لا للغسل ، كأنّه تعالى يقول : اغسلوا أيديكم منتهية إلى المرافق ، لا مطلق ما يطلق عليه اليد ، حتّى يشمل بإطلاقها العضد أيضا . وعلى هذا يكون حكم أنّ الغسل من أين يبتدأ وإلى أين ينتهي ، غير مصرّح به في الآية ؛ يحتمل أن يكون من المرفق إلى رؤوس الأصابع أو بالعكس .

وما ورد في رواية الهيثم أنّ تنزيلها من المرافق معناه أنّ حكم الابتداء والانتهاء الذي نزل به جبرئيل عليه السلام على رسول اللّه صلى الله عليه و آله من المرافق .

إذا تمهّد هذا فنقول : قوله عليه السلام : «ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما اُنزل»5.

ص: 533


1- الكافي، ج 3، ص 28، باب حدّ الوجه الذي يغسل و...، ح 5؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 57، ح 159؛ وسائل الشيعة، ج 1، ص 405، ح 1053.
2- المائدة (5) : 6 .
3- الكافي، ج 3، ص 25، باب صفة الوضوء، ح 5.

معناه : لم يجمعه مقترنا بتنزيله ، أي بما لم يُتعرّض له فيه لمصلحة ونزل به جبرئيل عليه السلام لا على وجه القرآن ، وتأويله أي ما يتحقّق مصداقه بعد حين نزوله وتبيين مجمله وتعيين بطونه ، أي مقاصده التي ليست من ظواهره ؛ وبالجملة ، مع جميع متعلّقاته المبيّنة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ فتبصّر وكن من الشاكرين .

قوله : (أو مُسْتَراحا) . [ح 3 / 612]

في القاموس : «استروح إليه : استنام»(1) . وفيه : «نام إليه : سكن واطمأنّ ، كاستنام»(2) .

باب ما اُعطي الأئمّة من اسم اللّه الأعظم

باب ما اُعطي الأئمّة عليهم السلام من اسم اللّه الأعظم

قوله : (و نحن عندنا [من الاسم الأعظم اثنان و سبعون حرفا]) . [ح 1 / 616]

اُكّد الضمير المتّصل المجرور بالمنفصل المرفوع ، وقد وجدت ذلك في الأخبار كثيرا .

باب ما عند الأئمّة من آيات الأنبياء

باب ما عند الأئمّة عليهم السلام من آيات الأنبياء عليهم السلام

قوله : (وإنّ عَهْدي بها آنِفا) . [ح 1 / 619]

في الصحاح : «قلت كذا آنفا وسالفا».(3)

وفي الأساس : «من المجاز : أتيته آنفا»(4) .

وفي القاموس : «العهد : المعرفة ، ومنه عهدي بموضع كذا»(5) .

[قوله: (و إنّها لَتَروعُ و تَلْقَفُ ما يَأفِكونَ)] . [ح 1 / 619].

وفي الصحاح : «رعت فلانا وروّعته فارتاع ، أي أفزعته ففزع»(6) .

وفيه : «لقفت الشيء بالكسر وتلقّفته أيضا ، أي تناولته بسرعة»(7) . ومثله في القاموس(8) .

ص: 534


1- راجع: القاموس المحيط، ج 1، ص 224 (روح).
2- القاموس المحيط، ج 4، ص 184 (نوم).
3- الصحاح، ج 4، ص 1333 (أنف).
4- أساس البلاغة، ص 23 (أنف).
5- القاموس المحيط، ج 1، ص 320 (عهد).
6- الصحاح، ج 3، ص 1223 (روع).
7- الصحاح، ج 4، ص 1428 (لقف).
8- راجع: القاموس المحيط، ج 3، ص 196 (لقف).

وفيه : «أفك - كضرب وعلم - أفكا : كذب ؛ وعنه : صرفه وقلبه»(1) .

أقول : في التنزيل : «وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا»(2) .

قوله : (ينتج(3) لها [شعبتان]) . [ح 1 / 619]

في الوافي : «يفتح»(4) .

قوله : ([تَلْقَفُ ما يَأفِكونَ] بلسانها) . [ح 1 / 619]

يناسب اللقف بالمعنى الذي نقلناه عن أهل اللغة ، وفي تفسير البيضاوي : «تبتلعه»(5) ، ولم أجده في اللغة .

قوله : (و هو يقولُ هَمْهَمَةً [هَمْهَمَةً]) . [ح 4 / 622] بالنصب ، أي على وجه الهمهمة .

في الصحاح : «الهمهمة : ترديد الصوت في الصدر» .(6)

وتكرير «همهمة» غير معلوم الوجه ، لعلّه من تصرّف النسّاخ .

وفي «و ليلةً مُظْلِمَةً» أيضا شيء . وبالجملة ، مقول القول : «خرج عليكم الإمام» .

لا يبعد أن يكون أحد الهمهمة هو كما في الصحاح : «الهينمة : الصوت الخفيّ»(7) ومثل هذا التصحيف غير مستبعد من الكتّاب .

قوله : «لَوْلاَ أنْ تُفَنِّدُونَ»(8) . [ح 5 / 623]

في الصحاح : «الفند : ضعف الرأي من هرم . والتنفيد : اللؤم ، وتضعيف الرأي»(9) .

باب ما عند الأئمّة من سلاح رسول اللّه و متاعه

باب ما عند الأئمّة عليهم السلام من سلاح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و متاعه

قوله : (وهُم أصحابُ وَرَعٍ وتَشمِيرٍ) . [ح 1 / 624]

في النهاية : «التشمير : الجدّ والاجتهاد»(10) . ).

ص: 535


1- القاموس المحيط، ج 3، ص 292 (أفك) مع تلخيص.
2- طه (20) : 69 .
3- في الكافي المطبوع: «يُفْتَحُ».
4- الوافي، ج 3، ص 565، ح 11117.
5- أنوار التنزيل، ج 4، ص 60 .
6- الصحاح، ج 5، ص 2062 (همهم).
7- الصحاح، ج 5، ص 2062 (هنم).
8- يوسف (12) : 94.
9- الصحاح، ج 2، ص 520 (فند) مع تلخيص.
10- النهاية، ج 2، ص 500 (شهر).

قوله : (عند عبد اللّه بن الحسن) . [ح 1 / 624]

هو عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ادّعى الإمامة زمانا لنفسه ، ثمّ لابنه محمّد ، وسيجيء طرف من أحواله في باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ والمبطل ، ويذكر طرف آخر في باب تاريخ مولد الحسن عليه السلام .

قوله : (دِرْعَه) . [ح 1 / 624]

في القاموس : «درع الحديد ، وقد تذكّر ، ومن المرأة قميصها مذكّر»(1) .

قوله : (ولاَمَتَهُ) . [ح 1 / 624]

في النهاية : لمّا انصرف النبيّ صلى الله عليه و آله من الخندق ووضع لامته ، أتاه جبرئيل عليه السلام فأمره بالخروج إلى بني قريظة . اللأمة مهموزةً : الدرع ، وقيل : السلاح»(2) .

قوله : (ومِغْفَرَهُ) . [ح 1 / 624]

في القاموس : «المغفر ، كمنبر: زَرَد من الدرع يلبس تحت القلنسوة ، أو حَلَقٌ يتقنّع بها المتسلّح»(3) . وفيه : «زَرِد الدرعَ : سَرَدَها»(4) .

وفي الصحاح : «الزرد ، مثل السرد ، وهو تداخل حلق الدرع بعضها في بعض ، والزرد بالتحريك : الدرع المزرودة . والزرّاد : صانعها»(5) .

قوله : ([إنّ عندي لراية رسول اللّه صلى الله عليه و آله ] المِغْلَبَةَ). [ح 1 / 624]

في الوافي : «كأنّها اسم إحدى راياته ؛ فإنّه صلى الله عليه و آله كان يسمّي ثيابه ودوابّه و أمتعته»(6) .

قوله : ([لم يَصِلْ من المشركين إلى المسلمين] نُشّابَةٌ) . [ح 1 / 624]

في الصحاح : «النُّشّاب - بالضمّ مشدّدةً - : السهام ، الواحدة : نشّابة»(7) .

قوله : (لَمِثْلَ الذي جاءت) . [ح 1 / 624] بكسر الميم .

في الوافي : ).

ص: 536


1- القاموس المحيط، ج 3، ص 20 (درع).
2- النهاية، ج 4، ص 220 (لام).
3- القاموس المحيط، ج 2، ص 103 (غفر).
4- القاموس المحيط، ج 1، ص 297 (زرد).
5- الصحاح، ج 2، ص 480 (زرد).
6- الوافى، ج 3، ص 569.
7- الصحاح، ج 1، ص 224 (نشب).

لمثل الذي جاءت به الملائكة ؛ يعني ما يشبه ذلك وما هو نظير له ، ولعلّه أشار بذلك إلى ما أخبر اللّه عنه في القرآن بقوله : «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ»(1)الكافي، ج 1، ص 25، ح 21.(2) .

أقول : سيأتي صفة التابوت .

قوله : (ويَضَعُ اللّه ُ له يَدا على رأسِ رعيّته) . [ح 2 / 625]

في كتاب العقل : «إذا قام قائمنا وضع اللّه يده على رؤوس العباد ، فجمع بها عقولهم ، وكملت به أحلامهم»(2) .

والظاهر أنّ «له» أي لأجل تكريمه لتصير رعيّته اُولى العقول والأحلام الكاملة ، ويحتمل أن يكون صفةَ اليد قدّمت توسّعا .

قوله : ([لَبِسَ أبي دِرْعَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ] ذاتَ الفضولِ) . [ح 4 / 627]

في النهاية : «كان اسم درعه عليه السلام ذاتَ الفضول ؛ لفضلة كانت فيها وسَعة»(3) .

قوله : (وكانَتْ حِلْيَتُهُ مِنْ فِضَّةٍ) . [ح 5 / 628]

سيجيء هذا الخبر في الروضة بسند آخر عن الرضا عليه السلام ، وبدل «حليته» : «حلقته»(4) .

قوله : (حيث بَنى بالثَّقَفِيَّة) . [ح 6 / 629]

في الأساس : «من المجاز بنى على أهله : دخل عليها ، وأصله أنّ المعرّس كان يبني على أهله خباءً ، وقالوا : بنى بأهله كقولهم : أعرس بها»(5) .

قوله : (فَنُجَّدَ البيتُ) . [ح 6 / 629]

في الأساس : «بيت منجّد : مزيّن بنجوده ، وهي ستوره التي تشدّ على الحيطان»(6) .

أقول : قوله عليه السلام : «لقد حدّثني» يعني أنّه قد كان أبي قبل قضيّة البناء شقّ في جدار البيت لأجل السلاح ، فوضعه في الموضع المشقوق عرضا ، ثمّ ملط الجدار بالجصّ ونحوه لئلاّ يعلم به أحد ويكون مصونا محفوظا ، فاتّفق أن وقعت المسامير التي دقّتها).

ص: 537


1- الوافي، ج 3، ص 569. والآية في سورة البقرة
2- : 248 .
3- راجع: النهاية، ج 3، ص 456 (فضل).
4- الكافي، ج 8 ، ص 267، ح 391.
5- أساس البلاغة، ص 52 (بني).
6- أساس البلاغة، ص 619 (نجد).

الخادم في جدار البيت لتنجيده بالستور ، فلمّا كان صبيحة العرس رمى عليه السلام ببصره ، فرأى المسامير في الموضع المشقوق ، فخاف أن يكون أطرافها وصلت إلى السلاح ، فكسرت السيف حين الدقّ ، فلم يُعلم الثقفيّة بذلك لعدم الأمن بها ، وحوّلها إلى بيت آخر ، ثمّ أزال ما ملط به الجدار ، فرأى المسامير مصرف الأطراف غير واصل واحد منها إلى السيف .

والغرض من هذا النقل إثبات ما قال سابقا من أنّ السلاح مدفوع عنه .

قوله : (فَكَشَطَهُ) . [ح 6 / 629]

في النهاية : «الكشط والقشط واحد سواء في الرفع والإزالة والقطع والكشف»(1) .

قوله : (وأنت تُباري الريحَ) . [ح 9 / 632]

في الصحاح في باب الباء : «فلان يباري فلانا : يُعارضه ويفعل مثل فعله ، وفلان يباري الريح سخاءً»(2) .

قوله : (والسَّحابِ والبُرْدِ والأبْرَقَةِ والقَضِيبِ) . [ح 9 / 632]

في النهاية : «فيه : أنّ عمامة رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقال له : السحاب»(3) .

وفي القاموس : «الأبرق : حبل فيه لونان ، وكلّ شيء اجتمع فيه سواد وبياض»(4) .

وفي كتاب إعلام الورى : «فالتمس عصابة كان يشدّها على بطنه إذا لبس درعه، ويروى أنّ جبرئيل عليه السلام نزل بها من السماء، فجيء بها إليه فدفعها إلى أمير المؤمنين عليه السلام » تمام الخبر(5) .

وفي أمالي الصدوق : «وكان له قضيب يقال له : الممشوق»(6) .

في القاموس : «المشق : الطول مع الدقّة . وجارية ممشوقة : حسنة القوام : وقضيب ممشوق : طويل دقيق» (7).).

ص: 538


1- النهاية ، ج 4 ، ص 176 (كشط) . و فيه : «القلع» بدل «القطع» .
2- الصحاح، ج 6 ، ص 2280 (برى).
3- راجع: النهاية، ج 2، ص 345 (سحب).
4- القاموس المحيط، ج 3، ص 211 (برق).
5- إعلام الورى، ص 135.
6- راجع: الأمالي للصدوق، ص 633 ، المجلس 92، ح 6 .
7- القاموس المحيط، ج 3، ص 283 (مشق).

قوله : ([و حَيْزُومِ] وهو الذي كان يقول : أقْدِمْ حَيْزُومُ ، والحمارِ عُفَيْرٍ) . [ح 9 / 632]

في النهاية : «في حديث بدر : أقدم حيزوم ، جاء في التفسير أنّه اسم فرس جبرئيل عليه السلام »(1) .

وفيها أيضا : «إنّ اسم حمار النبيّ «عفير» هو تصغير ترخيم لأعفر من العفرة ، وهي الغبرة ولون التراب ، كما قالوا في تصغير أسود : سويد ، وتصغيره غير مرخّم : اُعيفر كاُسيود»(2) . انتهى .

باب أنّ مثل سلاح رسول اللّه مثل التابوت في بني إسرائيل

باب أنّ مَثَلَ سلاح رسول اللّه صلى الله عليه و آله مَثَلُ التابوت في بني إسرائيل

في الوافي :

قال عليّ بن إبراهيم رحمه الله في تفسيره : إنّ ذلك هو التابوت الذي أنزل اللّه على موسى ، فوضعته اُمّه فيه وألقته في اليمّ ، فكان في بني إسرائيل يتبرّكون به ، فلمّا حضر موسى الوفاة وضع [فيه] الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوّة ، وأودعه يوشع وصيّه ، فلم يزل التابوت بينهم حتّى استخفّوا به ، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات ، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف ما دام التابوت عندهم ، فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفّوا بالتابوت رفعه اللّه عنهم ، فلمّا سألوا النبيّ و بعث اللّه إليهم طالوت ملكا يقاتل معهم ، ردّ اللّه عليهم التابوت ، كما قال اللّه «إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ»(3) ، قال : البقيّة : ذرّيّة الأنبياء . قوله : «فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» فإنّ التابوت كان يوضع بين يدي العدوّ وبين المسلمين ، فيخرج منه ريح طيّبة ، لها وجه كوجه الإنسان .

قال: حدّثني أبي عن الحسن بن خالد عن الرضا عليه السلام أنّه قال : «السكينة ريح من الجنّة ، لها وجه كوجه الإنسان ، وكان إذا وضع التابوت بين يدي المسلمين والكفّار ، فإن تقدّم التابوت رجل لا يرجع حتّى يقتل أو يغلب ، ومن رجع عن التابوت كفر وقتله الإمام ،

ص: 539


1- النهاية، ج 1، ص 467 (حيزم).
2- النهاية، ج 3، ص 263 (عفر).
3- البقرة (2) : 248 .

فأوحى اللّه إلى نبّيهم أنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى وهو رجل من ولد لاوي بن يعقوب عليه السلام اسمه داوُد بن آسي» الحديث بطوله(1) ، فكانت وكانت يعني قد يصل إلى الأرض وقد لا يصل ، يعني لم يختلف عليَّ وعلى أبي اختلافا محسوسا ذا قدر(2) .

انتهى ما نقلناه من الوافي .

باب فيه ذكر الصحيفة و الجفر و الجامعة و...

[باب فيه ذكر الصحيفة و الجفر و الجامعة و...]

قوله : (وِعاءٌ مِنْ أدَمٍ) . [ح 1 / 637]

في القاموس : «الأديم: الجلد أو مدبوغه . والجمع : اُدُم وآدِمة ، والأدَم اسم للجمع»(3) .

وفي الصحاح : «الاُدم جمع الأديم ، مثل أفيق واُفق ، وقد يجمع على آدمة ، مثل رغيف وأرغفة»(4) .

وفي المغرب : «الأدم - بفتحتين - : اسم لجمع أديم»(5) .

قوله : (ما فيه من قرآنكم حرفٌ واحدٌ) . [ح 1 / 637]

أي لفظ واحد ، وإلاّ فمضامينه الشريفة في القرآن لا محالة ، وفيه إشارة إليها بلا شكّ ؛ إذ فيه تبيان كلّ شيء ، ولعلّ تلك المضامين تفاصيل مجملات القرآن وبيانات قدرٍ من رموزه وإشاراته ، والتعبير بالمصحف - الذي شاع إطلاقه على القرآن - لهذه العلاقة . وقد عرفت فيما علّقنا على باب أنّه ما ادّعى أحد أنّه جمع القرآن على ما اُنزل غير عليّ إلاّ كذّاب(6) ، أنّ للقرآن متعلّقاتٍ نزل بها جبرئيل عليه السلام لا على أنّها قرآن ، بل على أنّها مراد اللّه منه ، ولم يصرَّح بها في القرآن لحكمة و مصلحة ، فمن حيث إنّها خارجة من المركّبات القرآنيّة فليس فيها من القرآن حرف واحد ، وعسى أن يكون حروفا هي موادّ كلام الملائكة الروحانيّات ، أو المراد بالحرف نفس الكلمة .

ص: 540


1- تفسير القمّي، ج 1، ص 81 .
2- الوافي، ج 3، ص 569 - 570.
3- القاموس المحيط، ج 4، ص 73 (أدم).
4- الصحاح، ج 5، ص 1858 (أدم).
5- المغرب، ص 22، (أدم).
6- عنوان الباب هكذا: «باب أنّه لا يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة عليهم السلام و أنّهم يعلمون علمه كلّه».

قوله : (فَشَكَتْ ذلك [إلى أميرالمؤمنين عليه السلام ]) . [ح 2 / 638]

في الوافي : «لرعبها عليهاالسلام من الملك حالَ وحدتها وانفرادها بصحبته»(1) .

أقول : لعلّ من خصائص البشريّة الخوف عند ملاقاة الملك ، كما يشعر به حكاية إبراهيم عليه السلام : «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً»(2) .

قوله : (مِثْلُ فَخِذِ الفالِجِ) . [ح 5 / 641]

في القاموس : «الفالج: الجمل الضخم ذو السنامين»(3) .

باب في شأن (إنّا اَنْزَلْناهُ في لَيْلَة القَدْر) و تفسيرها

[باب في شأن «إنّا اَنْزَلْناهُ في لَيْلَة القَدْر» و تفسيرها]

قوله : (رجلٌ مُعْتَجِرٌ قد قُيِّضَ له) . [ح 1 / 645]

في القاموس : «الاعتجار : لفّ العمامة على الرأس»(4) .

وفي المغرب : «المعتجر : المتنقّب بعمامته وقد غطّى أنفه»(5) . وفيه : «قيّض اللّه فلانا لفلان ، أي جاء به وأتاحه له»(6) .

قوله : (وإنْ شِئتَ فَاصْدُقْني) . [ح 1 / 645]

في القاموس : «صدق في الحديث ، وصدق فلانا الحديث»(7) .

وهذا الحديث ردّ على المصوّبة القائلين بأنّه إذا اجتهد مجتهدان في مسألة بعينها، واستقرّ رأي كلّ منهما على ما يقابل رأي الآخر، فكلاهما علْم نفس أمريّ ؛ إذ ليس في القضيّة الاجتهاديّة للّه تعالى حكم في نفس الأمر مع قطع النظر عن اجتهادهم ، بل حكم اللّه تعالى تابع لرأي المجتهد ، وهو نفس الأمر لتلك القضيّة ، وهذا القول مشهور عنهم ، مسطور في كتبهم الاُصوليّة .

وفي النهاية في الراء مع الهمزة : «المحدّثون يسمّون أصحاب القياس أصحاب

ص: 541


1- الوافي، ج 3، ص 581.
2- الذاريات (51) : 28 .
3- القاموس المحيط، ج 1، ص 203 (فلج).
4- القاموس المحيط، ج 2، ص 85 (عجر).
5- المغرب، ص 304 (عجر).
6- المغرب، ص 397 (قيض).
7- القاموس المحيط، ج 3، ص 252 (صدق).

الرأى ، يعنون أنّهم يأخذون بآرائهم فيمايشكل من الحديث ، أو مالم يأت فيه حديث ولا أثر»(1) انتهى .

وبالتشبّث بهذا الرأي رأوا أنفسهم مستغنين عن سؤال أهل الذكر والردّ إلى اُولي الأمر الذين قرن اللّه طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله بقوله : «أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الاْءَمْرِ مِنْكُمْ»(2)يونس (10) : 69 .(3) ، وقال «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِى الاْءَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(4) فضلّوا وأضلّوا ، ولمّا كان انهدام بنيانهم بإثبات أنّ للّه تعالى في جميع الاُمور حتّى أرش الخدش حكما معيّنا منزّلاً على الرسول عليه السلام مستودعا عند اُمنائه لا يختلف باختلاف الآراء ، ومن خالف ذلك لا من جهة عروض المانع من شرف لقاء إمام زمانه كان مضادّا للّه ، بالغوا عليهم السلام في ذلك ، كما لايخفى على من تتبّع الآثار.

وفي طيّ هذا الحديث الشريف سدّ جميع أبواب المفرّ على المصوّبة القائلين بأنّه لمّا لم يكن للّه في القضايا الاجتهاديّة حكم في نفس الأمر سوى رأى المجتهد يجوز الاختلاف في الرأي، وعلى المخطّئة القائلين بأنّ للّه تعالى في كلّ واقعة حكما معيّنا ولكنّه أبهمه علينا في كثير من الحوادث ليكون مضمارا للمجتهدين يتسابقون إلى الحكم الواقعي ، ويستفرغون وسعهم في طلبه بالقياسات والاستحسانات إلى أن يستقرّ رأيهم على حكم فيفتون به ، ويسمّون حكم اللّه بالنسبة إليهم لا حكم اللّه الواقعي ؛ فإن اتّفق لأحد إصابة الواقع في الواقع فهو مثابٌ بثوابين، وإن أخطأ فله ثواب واحد ، والحقّ أنّهم مأثومون ، اتّفقت الإصابة أو وقع الخطأ ؛ لأنّ القول بأنّ اللّه سبحانه أبهم حكمه افتراءٌ عليه «إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ»(4) بل الحقّ أنّ البُهم إنما طرأ على الأحكام المعيّنة المفصّلة المُستودعة عند العُلماء الربّانيين المستحفظين لكتاب اللّه من جهة الطواغيت من المتغلّبين وفقهائهم المتقرّبين إليهم بالأباطيل المزوّرة ليأكلوا بهم الدنيا، وعارضوا أئمّة الدين عليهم السلام لحطام دنيا دنيّة زائلة، ونازعوهم .

ص: 542


1- النهاية، ج 2، ص 179 (رأى).
2- النساء
3- : 59 .
4- النساء (4) : 83 .

في ردائهم الذي خصّهم اللّه به من الرياسة العامّة والإمارة المطلقة وقيادة الاُمّة ، وعصوا اللّه تعالى فيما أوجب عليهم من سؤال أهل الذكر والسمع والطاعة لاُولي الأمر ، فعرضت البهمة من جهة اُولئك الظلمة، فأمرنا أئمّتنا عليهم السلام بالعمل بما يصل إلينا منهم عليهم السلام على وجه التسليم والانقياد بعد التحرّي ورعاية الاحتياط إلى زمان الفرج :

خروج إمام لا محالة خارج *** يقوم على اسم اللّه والبركات

فنحن مجتهدون بالاجتهاد اللغوي ، لا ما اصطلح عليه المصوّبة والمخطّئة من استفراغ الوسع لتحصيل الظنّ عن الأدلّة التي من جملتها القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وإجماع أهل الحلّ والعقد في عصر على أمر ليس فيه كتاب أو سنّة ، فمَثَلنا مثل من حبسه ظالم في سجن لا يتيسّر فيه معرفة أوقات الصلوات وجهة القبلة وأمثالهما .

قوله : (فإيّاك أن يَنْطِقَ لسانُك عند مَسْألتي بأمرٍ تُضْمِرُ لي غيرَه) . [ح 1 / 645]

يعني إيّاك أن تجيبني عند مسألتي بجواب هو أحد رأييك في تلك المسألة ، وتضمر جوابا آخر مقابلاً له، معتقدا بأنّ لك أن تجيب بذلك أيضا ؛ لأنّ كلاًّ منهما يصدق عليه أنّه رأي المجتهد، ورأي المجتهد حكم اللّه، ولهذا ترى أهل الضلال يذكرون في كتبهم الفقهيّة : هذا أحد قولَيْ أبي حنيفة ، وهذا قول الشافعي القديم ، ولأبي يوسف في ذلك قولان ، وأمثال هذه العبارات ، ولأجل صحّة العمل بكلٍّ لا يغيّرون ما في الكتاب السابق ، بل يقولون : إنّه لا ترجيح لأحدهما على الآخر ؛ فإنّهما حكم اللّه تعالى في الواقع - بناء على أصل التصويب - وأمران مستفرغ لهما الوسع في طلب ما آتاهم اللّه تعالى ليجول فيه الأفكار، بناء على أصل التخطئة .

فقوله عليه السلام : «إنّما يَفْعَلُ ذلك مَنْ في قلبهِ عِلْمان» أي رأيان مخالفان في مسألة واحدة من مسائل الحلال والحرام، وليعلم أنّ الفرقة الناجية وإن كانت فتاواهم أيضا مختلفة وقد يفتي واحد منهم في كتاب بفتوى وفي كتاب آخر باُخرى ، إلاّ أنّهم معترفون بأنّ ذلك من باب الاضطرار الناشئ من عدم تمكّن الإمام العالم بجميع أحكام اللّه تعالى في

ص: 543

جميع الحوادث، ولولا غصب الطواغيت حقوقهم ومكانهم لما حصل الاضطرار إلى التحرّي الذي لا يكاد يسلم عن عروض الاختلاف .

قوله : (من في قلبه علمان) . [ح 1 / 645]

المراد بالعلم في هذا الحديث علم الحلال والحرام، لا الأعمّ . وفي عدّة مواضع منه دلالة على ذلك .

قوله : (وأمّا مالابُدَّ منه للعبادِ [منه] فعند الأوصياء) . [ح 1 / 645]

هذا من المواضع الدالّة على أنّ المراد بالعلم في هذا الحديث العلم المحتاج إلى التوقيف .

قوله : (زَعَمْتَ) [ح 1 / 645] . بفتح التاء .

في القاموس : «الزعم مثلّثهً : القول الحقّ ، والباطل والكذب ؛ ضدّ»(1) .

قوله : (وهم مُحَدَّثونَ) . [ح 1 / 645]

سيجيء بابٌ في هذا الباب .

قوله : (وأيمُ اللّه ِ) . [ح 1 / 645]

قد سبق في باب ما فرض اللّه من الكون مع الأئمّة عليهم السلام تحقيق هذه اللفظة .

قوله : (إن لو صَدَعَ) . [ح 1 / 645]

إن - بالكسر - مخفّفة من المثقّلة، واسمه ضمير الشأن .

قوله : (فلذلك كَفَّ) . [ح 1 / 645]

أي عن الجهاد ومعارضة المشركين .

قوله : (فَوَدِدْتُ) . [ح 1 / 645] كلام أبي جعفر عليه السلام .

وقائل : «ثمّ أخرج» أبو عبد اللّه عليه السلام ، وفاعله الضمير الراجع إلى فاعل ما عطف عليه، أعني «فضحك أبي» .

وقائل «ثمّ قال» أبو عبد اللّه، وفاعله الضمير الراجع إلى ما يرجع إليه فاعل ما عطف عليه ، أعني «ثمّ أخرج». ).

ص: 544


1- القاموس المحيط، ج 4، ص 124 (زعم).

وقوله عليه السلام : «أي واللّه» تأكيد لإخباره عليه السلام بأنّ هذا منها، ولا يلزم أن يكون بإزاء احتمال تردّد من السامع ، وهذا شائع بين بلغاء العجم أيضا، ولا أظنّك ترتاب في صحّة قول القائل بعد أن أخبر بأمر مستبعد : أي وربّ الكعبة إنّ ذلك لكما أخبرت ، نعم يستعمل اللفظة عند السؤال أيضا ، ولا يقتضي ذلك الحصر .

ورأيت نسخة عتيقة من الكافي كان فيها خطّ شيخنا البهائي وخطّ مولانا محمّد تقيّ بن المجلسي وخطّ مولانا عبد اللّه التستري - قدّس اللّه أرواحهم - لم يكن فيها لفظتا «قال» و «أي» والنسخة عند الأخ في اللّه محمّد عليّ بن التوشمال باشي .

قوله : (إنّ اللّه عزَّ وجلَّ يقول) إلى آخره . [ح 1 / 645]

ابتدأ عليه السلام بتعليم سدّ باب المفرّ عن سؤال أهل الذكر عليهم السلام على هؤلاء الكفرة حيث يقولون : إنّ الأحكام ما كان منها من ضروريّات الدين فليست ممّا يحتاج إلى السؤال ، وما كان من الاجتهاديّة فنجتهد فيه ، فكلّ ما استقرّ عليه رأينا فهو الحكم الواقعي بناء على أصل التصويب ، فيُقال لهم : إنّ اللّه تعالى قد أخبر في سورة القدر بأنّ الملائكة تنزّل في ليلة القدر على رسوله صلى الله عليه و آله بإذن ربّهم من كلّ أمر ؛ يعني من كلّ أمر يفرق في تلك الليلة بدلالة قوله تعالى في سورة الدخان : «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ»إلى قوله : «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ»(1) فهل كان لرسول اللّه صلى الله عليه و آله علم لم ينزل عليه في تلك الليلة ولا في غيرها؟ على أنّ قوله عليه السلام : «يأتيه» عطف على «يعلمه» أي هل كان يعلم شيئا من صفته إحدى السالبتين، أو لم يكن يعلم إلاّ شيئا من صفته أنّه يعلمه في ليلة القدر بتنزّل الملائكة والروح ، أو من صفته أنّه يأتيه به جبرئيل عليه السلام في غير تلك الليلة .

والحاصل أنّه هل كان جميع ما علمه صلى الله عليه و آله من علوم الحلال والحرام والقضايا والأحكام تعليماتٍ اُوتي بها صلى الله عليه و آله من عند اللّه تعالى ، أو كان بعضها من رأيه وهواه؟ فسيقولون : لا ، أي لا يستطيعون أن يقولوا : نعم ، فيكونوا مثبتين له علما نشأ من رأيه .

ص: 545


1- الدخان (44) : 3 - 5 .

وهواه كعلوم المصوّبة . ووجه عدم استطاعتهم أنّه ما من أحد من المنتمين إلى الإسلام إلاّ وقد أقرّ بقول اللّه عزَّ وجلَّ : «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحى»(1) وهذا وجه عدم تعرّض الإمام عليه السلام للوجه، وبما بيّنّا من أنّ المراد هل كان لرسول اللّه صلى الله عليه و آله علم غير التعليمات ، وقوله عليه السلام : «فسيقولون : لا» ظهر أنّ العلم الذي الكلام فيه هو ما عدا العلوم العقليّة البرهانيّة .

قوله : (فهل كانَ لما عَلِمَ بُدّ من أن يُظْهِرَ) .[ح 1 / 645]

هذا أيضا ممّا يدلّ على أنّ العلم الذي الكلام فيه علم الاحكام المتعلّقة بأفعال المكلّفين .

قوله : (فَقُلْ لهم ما يَعْلَمُ [تأويلَه إلاّ اللّه ُ]) . [ح 1 / 645]

المراد أنّ ما أظهر رسول اللّه صلى الله عليه و آله من العلم الذي اعترفتم بأنّه لا اختلاف فيه الكتاب المجيد ، وفيه بالنصّ القاطع ماله تأويل لا يعلمه إلاّ اللّه والراسخون في العلم، فيجب على العباد أن يطلبوهم ويتعلّموا منهم تأويله حتّى يأمنوا من المخالفة .

قوله : (فهل بَلَّغَ أولا ؟) . [ح 1 / 645]

لمّا تبيّن قُبيلَ هذا أنّ الكلام في علم الحلال والحرام والذي لابدّ للعباد منه، ظهر لزوم الاعتراف بالتبليغ ؛ فلذا قال عليه السلام : «فإن قالوا : قد بلّغ» ثمّ فرّع على ذلك أنّ العقول مجبولة على الحكم بأنّ من كان خليفته صلى الله عليه و آله فهو أحقّ بأن يعلم ما بلّغ من غيره حتّى يحكم بحكمه، فهو أيضا من الراسخين في العلم الذين لا اختلاف في علمهم ، وهذا هو الذي يدّعيه الفرقة المحقّة .

قوله عليه السلام : (فإن قالوا : لا) . [ح 1 / 645]

يعني إن كابروا العقل، وجوّزوا أن يكون الخليفة غير عالم بجميع ما بلّغ ممّا يحتاج إليه العباد ، لزمهم تجويز عدم علم غير الخليفة بالطريق الأولى ، فيكون التبليغ كما لا تبليغ ؛ لعدم انتفاع أحد به ، فيكون قد ضيّع رسول اللّه صلى الله عليه و آله من في أصلاب الرجال . .

ص: 546


1- النجم(53) : 3 - 4 .

قوله : (لا يَسْتَخْلِفُ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله إلاّ من يَحْكُمُ بِحُكْمِه ، وإلاّ مَن يكونُ مِثْلَهُ إلاّ النبوّةَ) . [ح 1 / 645]

يعني مركوز في العقول السليمة أنّ الرسول الذي كان السبب بينه وبين اللّه متّصلاً وجبرئيل عليه السلام كان يأتيه ، لا يستخلف ولا يستنيب ولا يختار للجلوس في مقامه وإجراء أحكامه إلاّ من كان مؤيَّدا مسدّدا معلّما علمه الذي لا اختلاف فيه ، فلا محيص لهم عن القول بذلك ، فهم إذن بين جحود الاستخلاف - وهو إسناد تضييع من في أصلاب الرجال إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله - وبين الاعتراف به ، فينهدم بنيانهم ويضعف أركانهم للاتّفاق على قول خليفتهم : كلّ الناس أفقه من عمر حتّى المخدّرات في الحِجال(1) ؛ وقوله أيضا : لولا عليّ لهلك عمر(2) .

قوله : (فإن قالوا لك : فإنّ علمَ رسولِ اللّه كانَ من القرآن ، فَقُلْ) . [ح 1 / 645]

يعني إن تترّسوا عن سهام الإلزام بالقرآن ، وقالوا : لا حاجة إلى أن يستخلف رسول اللّه صلى الله عليه و آله مَن كان مستودعا لعلمه ؛ فإنّ علمه كان من القرآن ، فحسبنا كتاب اللّه ، نأخذ منه ما نحتاج إليه كما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يأخذ منه ، فإذن اقرأ عليهم هذه الآية التي تدلّ على أنّ مجملات الأحكام تخرج في كلّ ليلة القدر إلى التفصيل بقدر ما يحتاج إليه أهل سنة تلك الليلة ، ويرسل اللّه الملائكة والروح بتفاصيل أحوال كلّ سنة في ليلة قدرها ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : «يُفْرَقُ» و «تَنَزّل» بصيغة المضارع المفيد للتجدّد ، فهل يكون المرسل إليه بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلاّ خليفة العصر ؟

ولايخفى على العارف بآداب المناظرة أنّهم بعد بيان الإمام عليه السلام أنّ لأهل كلّ سنة أحكاما في مطاوي جُمل القرآن ، وخروجها إلى التفصيل في ليلة قدر تلك السنة، .

ص: 547


1- المبسوط للسرخسي، ج 10، ص 153؛ الكشّاف، ج 3، ص 140؛ تفسير الرازي، ج 10، ص 13؛ تفسير ابن كثير، ج 1، ص 478؛ الدرّ المنثور، ج 2، ص 133.
2- الكافي، ج 7، ص 423، باب النوادر، ح 6؛ الفقيه، ج 4 ، ص 35، ح 5025؛ التهذيب، ج 6 ، ص 304، ح 56؛ الاستيعاب، ج 3، ص 1103؛ تفسير السمعاني، ج 5، ص 154؛ تفسير الرازي، ج 21، ص 22؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، ص 19 و 141 و... .

واستلزام هذا تنزّل الملائكة والروح في كلّ سنة ؛ إن قالوا : لا يرسل اللّه إلاّ إلى نبيّ ، كان هذا إنكار النتيجة بعد ثبوت مباديها ، فليس صالحا للالتفات إلى جوابه ، ولهذا أعرض الإمام عليه السلام عنه وجاء من جانب آخر . وأضرب عن الأوّل فقال : إنّ صريح الآية أنّ الملائكة تنزل في ليلة القدر بما يفرق فيها من الأحكام ، فهذا التنزّل أمِن سماء إلى سماء ، أم من سماء إلى أرض ؟ لا مجال للأوّل ؛ إذ ليس في السماء أحد يرجع من طاعة إلى معصية حتّى تتنزّل الملائكة بما فرق في ليلة القدر من حكمه ، فتعيّن الثاني ، وإذ لم يقرّوا بتعدّد النزول حسب تجدّد السنة ، وقالوا إنّما نزلت الملائكة والروح بتفاصيل أحكام العباد إلى الرسول فحسب ، ومنه وصل إلينا ، فيُقال لهم : لا تستطيعون أن تجحدوا أنّ كثير ما وصل إليكم منه صلى الله عليه و آله بحيث يقبل التشاجر والتنازع ، فهل بدّ من سيّدٍ تتحاكمون إليه ؟ إلى آخره .

أقول : في قوله : «ليس أحد في السماء يرجع من طاعة إلى معصية» . نصّ علم أنّ العلم الذي فيه الكلام علم الحلال والحرام والقضايا والأحكام .

قوله : (فقل : «اللّه ُ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا»)(1) . [ح 1 / 645]

الغرض من إيراد هذه الآية أنّ اللّه تعالى يخرج من كان في علمه من أهل الإيمان من ظلمات الغواية إلى نور الهداية وهو وليّهم ، ومن كان في علمه كافرا يتبع الطاغوت فيقع في ظلمات الغواية والطواغيت أولياء أمثاله ، وفي غريزة العقول الصحيحة أنّ من كان اللّه وليّه وهداه الصراط المستقيم لا يحكم فيما لم يعلم ، ولا يخطيء فيما يحكم ، ومن كان الطاغوت وليّه وأدخله في بيداء الضلال لا يبالي بالحكم فيما لم يعلم إذا رآه على وفق هواه ، فهل الخليفة الذي قلتم إنّه حَكَمُكم ممّن يجوز عليه الخطأ في الحكم ، أم لا ؟

فإن كان الأوّل ، فهو محتاج إلى تسديد مَن لا يجوز عليه الخطأ ، فالحَكَم الحقّ والوالي المطلق هو ذاك ، لا هذا . وإن كان الثاني ، فهو من التائهين الحائرين الذين .

ص: 548


1- البقرة (2) : 257 .

أولياؤهم الطاغوت ، وفي زمرة الكفّار والأئمّة الذين يدعون إلى النار يصلونها فبئس القرار .

أقول : في هذا الموضع ردّ على المخطّئة ، كما أشرنا إليه سابقا ؛ فتبصّر .

قوله : (ثمّ وَقَفَ) . [ح 1 / 645]

عطف على : «قال : إنّ شيعتنا» يعني قال أبي عليه السلام للرجل : كيت وكيت ، ثمّ وقف ، فقال الرجل : يا ابن رسول اللّه ، إلى آخره .

قوله : «لِكَيْلاَ تَأْسَوْا»(1). [ح 1 / 645]

هذه تتمّة آية في سورة الحديد أشار إليها سابقا ، حيث قال : «اشهد» إلى آخره ، وهي هذه : «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِى الاْءَرْضِ وَلاَ فِى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّه ِ يَسِيرٌ لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»(2) ولعلّ الإشارة إلى الجزء الأوّل تمهيد للسؤال عن الجزء الثاني الذي ورد شطر منه فيهم عليهم السلام ، وشطر آخر في غاصبي حقوقهم .

وربما يختلج ببال من لا معرفة له بضروب أساليب كلام البلغاء أنّه كيف يكون آية واحدة مشتملةً على خطأ بيّن كلّ منهما لجماعة ، وبسبب هذا الاختلاج لا يطمئنّ قلبه في تصديق هذا الحديث ؛ فلنذكر لأجل اطمئنان قلوب المؤمنين ما ذكره السيّد الجليل غوّاص بحار الفضل ، نقّاد فنون العلم ، المرتضى الملقّب بعلم الهدى في كتاب تنزيه الأنبياء في قوله تعالى : «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللّه َ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّه ُ عَمَّا يُشْرِكُونَ»(3) :

إنّ الكناية في قوله : «جعلا» غير راجعة إلى آدم وحوّا ، بل إلى الذكور والإنات من أولادهما ، وإلى جنسين ممّن أشرك من نسلهما ، وإن كانت الكناية الاُولى تتعلّق بهما ، و .

ص: 549


1- الحديد (57) : 23 .
2- الحديد (57): 22 - 23.
3- الأعراف (7) : 189 - 190 .

يكون تقدير الكلام : فلمّا آتى اللّه آدم وحوّا الولد الصالح الذي تمنّياه وطَلَباه ، جعل كفّارة أولادهما ذلك مضافا إلى غير اللّه ، ويقوّي هذا التأويل قوله : «فَتَعَالَى اللّه ُ عَمَّا يُشْرِكُونَ»وهذا ينبئ على أنّ المراد بالتثنية ما أردناه من الجنسين أو النوعين ، وليس يجب - من حيث كانت الكناية المتقدّمة راجعة إلى آدم وحوّا - أن يكون جميع ما في الكلام راجعا إليهما ؛ لأنّ الفصيح قد ينتقل من خطاب مخاطب إلى غيره، ومن كناية إلى خلافها ؛ قال اللّه تعالى : «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا لِتُوءْمِنُوا بِاللّه ِ وَرَسُولِهِ»(1) فانصرف من مخاطبة الرسول إلى مخاطبة المرسل إليهم ، وقال : «وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ»يعني الرسول صلى الله عليه و آله ، ثمّ قال: «وتُسَبِّحوُهُ»(2) يعني مُرسِل الرسول ، فالكلام واحد متّصل بعضُه ببعض ، والكناية مختلفة كماترى(3) .

أقول : ثمّ استشهد لهذا الباب بعدّة أشعار للفصحاء القدماء .

قوله : («لاَ تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ»(4) ، ممّا خُصَّ به علىٌّ عليه السلام ) . [ح 1 / 645]

يعني أنّ قوله سبحانه : «لا تأسوا» خطابٌ لنا ، يقول: يا ذرّيّة محمّد ، لا تحزنوا على ما فاتكم وخرج من أيديكم في الظاهر ، وهو ما خصّ به أبوكم عليّ عليه السلام من ولاية الأمر .

وقوله : «ولا تفرحوا» خطاب لفلان وأصحابه : الثاني و الثالث والمقتفين لأثرهما ، يقول : يا فراعنة آل محمّد ، لا تفرحوا بما آتيناكم من الملك الزائل في أيّامٍ قلائل . و إسناد الإيتاء إليه تعالى مصداق قوله تعالى : «تُوءْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ»(5) .

نزع و ايتاءش بوفق حكمت است هر يكى گاهى غضب گه رحمت است

وما يتراءى في ذلك من الإشكال ينحلّ بما سبق في أبواب كتاب التوحيد وتعليقاتنا عليه ، ثمّ إنّ في قوله سبحانه : «لاَ تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ» لتعزيةً و تسليةً للمخاطبين به ، ووعدا بإعطاء ما هو خير وأبقى، كما أنّ في قوله تعالى : «وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ» تهديدا .

ص: 550


1- الفتح (48) : 8 - 9 .
2- الفتح (48) : 9 .
3- تنزيه الأنبياء، ص 29 و 30.
4- الحديد (57) : 23 .
5- آل عمران (3) : 26 .

للمخاطبين واستهانةً بالدنيا وسلطانها، وتعريضا بأنّ هذا الإيتاء ليس من باب اللطف والرحمة ، بل من باب الاستدراج والإملاء ، كما قال عزّ من قائل : «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ»(1) وقال : «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِءَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْما وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(2)الحديد (57) : 22 - 23.(3) .

مع ما في هذا الإسناد من الإشارة إلى أنّهم لم يكونوا مفوّضين بحيث يمكنهم أن يصيروا بمجرّد إعطاء القدرة مستطيعين لمخالفة مشيّة اللّه العزميّة، أي أوامره ونواهيه ، بل أزمّة الاُمور كلّها بيد جبروته، لا يستطيع أحد فعلاً : طاعة كانت أو معصية، أي لا يتمّ علّيّته لذلك الفعل إلاّ بمشيّة اللّه الحتميّة التي هي إكمال جميع ما يتوقّف عليه هيجان إرادة العبد وتحقّق المراد، فلا يكون الإقدار موجبا للخروج عن سلطان الملك الجبّار طرفة عين.

وقوله عليه السلام : (واحدةٌ مُقَدِّمِةٌ) . [ح 1 / 645]

الأظهر عندي أنّ تأنيث «واحدة» على أنّها صفة لمصيبة، أي المذكورة في الآية السابقة، أعني قوله تعالى : «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِى الاْءَرْضِ وَلاَ فِى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّه ِ يَسِيرٌ لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»(3) الآية ، فكأنّه عليه السلام يقول : إنّ الفقرة الاُولى إشارة إلى وقوع مصيبة متعلّقة بنا في الدنيا رحمة لنا ، والثانية إشارة إلى وقوع مصيبةٍ متعلّقة بهم في الآخرة غضبا عليهم، واحدة من المصيبتين مقدّمة ، وهي استدراج اللّه إيّاهم المنشأ لتسلّطهم علينا وغصب حقوقنا بسوء اختيارهم ، المستند إلى خبث طينتهم واستحقاقهم بذلك للعذاب الدائم ، وواحدة مؤخّرة ، وهي مصيبتنا المتأخّرة على ذلك الاستدراج .

ويحتمل أن يكون التأنيث باعتبار موصوف مقدّر ، أي حكومة واحدة مقدّمة ، وهي التي جعلها اللّه تعالى لعليّ عليه السلام يوم أخذ الميثاق ويوم الغدير ، وحكومة اُخرى مؤخّرة ، وهي التي آتاهم اللّه تعالى بعد رحلة النبيّ صلى الله عليه و آله استدراجا ؛ نعوذ باللّه من ذلك .3.

ص: 551


1- الأعراف (7) : 183 .
2- آل عمران
3- : 178 .

قوله : (إذا استضحك) . [ح 2 / 646]

على صيغة المجهول ، أي طلب خاطر الضحك منه ، ولذا قال عليه السلام : (هل تدرون ما أضحكني ؟) ولم يتعرّض في القاموس للاستضحاك .

وفي الصحاح : «تضاحك الرجل واستضحك بمعنى»(1) . وضَبْطُه في النسخ العتيقة بفتح التاء .

قوله : (مِنَ «الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا»(2)) . [ح 2 / 646]

قد سبق في باب بعد باب عرض الأعمال أنّه سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن هذه الآية، فقال عليه السلام : «استقاموا على الأئمّة واحدا بعد واحد : «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاوءُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الاْآخِرَةِ»(3)» .

والظاهر أنّ التنزّل حين الاحتضار ، ويحتمل أن يكون في القبر . وعلى هذا الحديث كان الذي قال ربّنا اللّه ثمّ استقام شيعتهم عليهم السلام ، وعلى ما قال الباقر عليه السلام الأئمّة عليهم السلام نفسهم والتنزّل في الدنيا ؛ ولذا قال عليه السلام : «هل رأيت الملائكة» إلى آخره، فأحد المعنيين ظهر الآية ، والآخر بطنها ، ومثل هذا كثير في القرآن ، وقد أشرت إلى بعض فيما مضى ، ولعلّ قول ابن عبّاس في جوابه عليه السلام تشبّث بالمعنى الأوّل للتفصّي .

وفي القاموس : «اغرورقت عيناه : دمعتا ، كأنّها غرقت في دمعها» .(4)

وقوله عليه السلام : (صدقت) . [ح 2 / 646] على ما ذكرناه - من كون المعنيين ممّا أُريد بالآية - تصديق له ، وإذ لم يكن أهل أن يقبل المعنى الآخر من الإمام عليه السلام صرف الكلام لإلزامه إلى وجه آخر ، وقال : (هل في حكم اللّه اختلافٌ ؟) .

قوله : (جاء الاختلافُ في حكم اللّه) . [ح 2 / 646]

في الوافي : «لعدم إمكان الاتّفاق في مثله»(5) . 5.

ص: 552


1- الصحاح، ج 4، ص 1597 (ضحك).
2- فصلت (41) : 30 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 220 ، باب أنّ طريقة التي حثّ على الاستقامة عليها ولاية عليّ عليه السلام ، ح 2 . والآية في سورة فصّلت (41) : 30 - 31 .
4- القاموس المحيط، ج 3، ص 271 (غرق).
5- الوافي، ج 2، ص 45.

أقول : يعني من الممتنع العادي أن لا يخالف ذوا عدلٍ ذَوَيْ عدلٍ آخر في تقدير ما يحكم في الأصابع ؛ إذ ليس منصوصا بزعم ابن عبّاس حتّى يقف إلى حدّ .

قوله : (كما أعْمى بَصَرَك) . [ح 2 / 646] أي أعمى اللّه بصرك .

وقوله : (عليّ بن أبي طالب) [ح 2 / 646] نصبٌ على أنّه مفعول ثان للجحود .

وفي القاموس : «جحده حقّه وبحقّه - كمنعه - جحدا وجحودا : أنكره مع علمه» .(1) ومثله في الصحاح(2) . وظاهر كلامهما يعطي أنّ المفعول الأوّل صاحب الحقّ ، وعبارة الحديث تعطي عكس ذلك .

قوله : ([إن]عَمِيَ بَصَري إلاّ من صَفْقَةِ جَناحِ المَلَك) . [ح 2 / 646]

هكذا في عدّة نسخ معوّل عليها، و على هذا فالمعنى أنّه قال ابن عبّاس بعد ما صدّق الإمام عليه السلام في إخباره بأنّ عماه يوم الجحود : من أين علمت ذلك فواللّه ، إلى آخره . ولعلّ إنكاره لليلة القدر بعد النبيّ صلى الله عليه و آله مع الاعتراف بأنّه كان سبب عماه ، وتأكيد ذلك بالقسم هو الذي أضحك الإمام عليه السلام ؛ لأنّه يدلّ على سخافة عقله .

وفي النسخ المتداولة : «بصره» فالقسم من الصادق عليه السلام ، وقول الباقر عليه السلام : «ما تكلّمتَ بالصدق مثل أمس...» يؤيّد الأوّل على أظهر الاحتمالين ، فيكون تفصيلاً لما أجمله ابن عبّاس .

قوله : (فَتَبَدّى لك المَلَكُ الذي يُحَدِّثُه) . [ح 2 / 646]

أي فظهر لك نوع ظهورالملك الموكّل بتحديث عليّ عليه السلام ، فقال : كذبت في قولك لا أراها كانت إلاّ مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، يا ابن عبّاس أنا موقن بما حدّثك به عليّ عليه السلام في أمر ليلة القدر ، وكونه مع أحد عشر من صلبه هم المنزل عليهم إيقانا كأنّه رأت ذلك عيناي .

وجملة : «ولم تَرَهَ عيناه ، ولكن وعى قلبه ، و وُقِرَ في سمعه» من كلام الباقر عليه السلام ، وبيان أنّ مراد الملك في قوله : «رأت عيناي الذي حدّثك به علي» ليس المراد معناه الحقيقيّ ، بل إيقان القلب ، وقول ابن عبّاس : «ما اختلفنا في شيء فحكمه إلى اللّه» ناظر).

ص: 553


1- القاموس المحيط، ج 1، ص 280 (جحد).
2- الصحاح، ج 2، ص 451 (جحد).

إلى قوله تعالى : «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَىْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّه ِ»(1) .

وغرضه من إيراد هذا الكلام أنّ الآية تدلّ على أنّا إذا اختلفنا في مسألة فيجب أن نرجع إلى اللّه ، أي نطلب الحكم من كتابه لا أن نرجع إلى من يدّعي أنّ الاُمور تفرق في ليلة القدر ويتنزّل بها الملائكة إلى وليّ الأمر .

وقوله عليه السلام : (فهل حَكَمَ اللّه في حُكْم...) . [ح 2 / 646]

معناه أنّك تجده في كثير من الوقائع يرجع المتخالفان فيها إلى القرآن ، وكلّ منهما يستدلّ على مطلوبه ، فكيف يكون القرآن حَكَما بدون قيّم يعلم من مجملات القرآن ما يحدث الاحتياج إليه في كلّ سنة بتفصيل يتنزّل به في ليلة القدر التي لتلك السنة .

قوله : (لأنّها «تَنَزَّلُ» فيها) . - إلى - «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ». [ح 4 / 648]

في سورة الشعراء: «وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَ ما يَنْبَغِى لَهُمْ وَ مَا يَسْتَطِيعُونَ إنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ»(2) . وقبيل هذه الآية : «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْءَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ»(3) ، ويستفاد من هذه الآيات أنّ الباء في «بِإذْنِ رَبِّهِمْ» للتعدية أو للمصاحبة ، والإذن والمأذون المرضيّ صدوره عن المعصوم المنزّل عليه ، وأنّ «على من يشاء» في قول سيّد الساجدين عليه السلام في دعاء شهر رمضان(4) متعلّق بتنزّل ، أو به وبسلام على سبيل التنازع ، و «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»حال للإذن ، فتدبّر .

قوله : «سَلاَمٌ هِىَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ»(5). [ح 4 / 648]

نصّ على الوقف على الأمر ، كما هو مقتضى رعاية الفواصل ، فلا تصنع إلى قول المخالف ، و «سلام» مفعول مطلق ؛ إذ الأصل يسلم الملائكة سلاما ، عدل إلى الرفع لإفادة الدوام والثبات ، كما قال القاضي في قوله تعالى في الذاريات : «قالَ سَلاَمٌ»(6) .5.

ص: 554


1- الشورى (42) : 10 .
2- الشعراء (26) : 210 - 213.
3- الشعراء (26) : 192 - 195 .
4- الصحيفة السجّاديّة، ص 186، الدعاء 44.
5- القدر (97) : 5 .
6- الذاريات (51) : 25.

وقول الصادق عليه السلام : (يقول : تُسَلِّمُ عليك يا محمّد ملائكتي وروحي بسلامي) [ح 4 / 648 [إلى آخره ، يعطي ذلك ؛ فالتقدير : عليك سلام ، و أصله يسلّمون سلاما .

وقوله : «هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» . يعني الليلة تجري على ظرفيّة التسليم إلى طلوع الفجر .

وقال البيضاوي : ««سَلاَمٌ هِيَ» ما هي إلاّ سلامة ، أي ما يقدّر اللّه فيها إلاّ السلامة ، ويقضي في غيرها السلامةَ والبلاء ، أو ماهي إلاّ سلام ؛ لكثرة ما يسلّمون فيها على المؤمنين»(1) . وتفسير الصادق عليه السلام يشهد لما قلناه .

وفي دعاء شهر رمضان من الصحيفة الكاملة : «ثمّ فضَّلَ ليلةً واحدةً من لياليه على ليالي ألفِ شهرٍ ، وسمّاها ليلة القدر ، تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم من كلِّ أمرٍ سلامٌ دائمُ البركة إلى طلوع الفجر على من يشاءُ مِنْ عِباده بما أحْكَمَ من قضائه»(2) .

ومقتضى هذه العبارة الشريفة أيضا الوقف على الأمر ، وكون سلام مبتدأً محذوفَ الخبر ؛ فتدبّر .

قوله : «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً»(3) . [ح 4 / 648]

أي بَليّة . وقيل : ذنبا . وقيل : عذابا . وقيل : هو إقرار المنكر بين أظهركم .

وقوله : «لاَ تُصِيبَنَّ». [ح 4 / 648] لا يخلو أن يكون جوابا لأمر ، أو نهيا بعد أمر معطوفا عليه بحذف الواو صفة للفتنة ، فإذا كانت جوابا فالمعنى : إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصّة ولكن تعمّكم ، وإنّما جاز دخول النون في جواب الأمر ؛ لأنّ فيه معنى النهي كما تقول : أنزل عن الدابّة لا تطرحنّك ، ويجوز : لا تطرحنْك ، وإذا كان نهيا بعد أمر فكأنّه قيل : واحذروا بليّة أو ذنبا أو عقابا ، ثمّ قيل : لا تتعرّضوا للظلم فتصيب البليّة أو العذاب أو أثر الظلم ووباله مَن ظلم منكم خاصّة . وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول ، كأنّه قيل : واتّقوا فتنة مقولاً فيها لا تصيبنّ ، ونظيره قول الشاعر :

حتّى إذا جنّ الظلام واختلط جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قطّ(4) .

ص: 555


1- أنوار التنزيل، ج 5، ص 514.
2- الصحيفة السجّاديّة، ص 186، الدعاء 44.
3- الأنفال (8) : 25 .
4- اُنظر: الكشّاف، ج 2، ص 152.

أي بمذق يقال فيه هذا القول ؛ لأنّ فيه لون الوُرْقة(1) التي هي لون الذئب ، ويعضده قراءة تصيبنّ على جواب القسم المحذوف. ويكون للتبيين على هذا ؛ لأنّ المعنى لا تصيبنّكم خاصّة على ظلمكم ؛ لأنّ الظلم أقبح منكم من سائر الناس . كذا في جوامع الجامع(2) .

وقال القاضي : «اتّقوا ذنبا يعمّكم أثره على أنّ قوله : «لاَ تُصِيبَنَّ» إمّا جواب الأمر على معنى : إذا أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم بل يعمّكم» .

وفيه : «أنّ جواب الشرط متردّد ، فلا يليق به النون المؤكّدة ، لكنّه لمّا تضمّن معنى النهي ساغ فيه ، كقوله : «ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ»(3) .

وإمّا صفة لفتنة ولا للنفي . وفيه شذوذ ؛ لأنّ النون لا يدخل المنفّي في غير القسم ، أو النهي على إرادة القول .

وإمّا جواب قسم محذوف.

ويحتمل أن يكون نهيا بعد الأمر باتّقاء الذنب عن التعرّض للظلم ؛ فإنّ وباله يصيب الظلم خاصّة ويعود عليه» .

و«من» على الوجه الأوّل للتبعيض وعلى الآخرين للتبيين ، و فائدته التنبيه على أنّ الظلم منكم أقبح .

قوله : (فهذه فتنةٌ أصابَتْهم خاصّةً) . [ح 4 / 648]

لمّا كان الأمر باتّقاء فتنة غيرِ خاصّة بالظالمين منهم مشعرا بفتنة خاصّة مثّل عليه السلام لها ، ثمّ قال «فهذه» إلى آخره .

قوله : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ»(4). [ح 4 / 648]

في تفسير الكواشي : «لا وقف هنا ؛ لأنّ «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ»مرفوع محلاًّ صفة رسول» . .

ص: 556


1- الوُرْقَة: سواد في غبرة، و قيل: سواد و بياض. لسان العرب، ج 10، ص 376 (ورق).
2- جوامع الجامع، ج 2، ص 17.
3- النمل (27) : 18 .
4- آل عمران (3) : 144 .

قوله : ([كان عليّ عليه السلام ]كثيرا ما يقول ما اجتمع) . [ح 5 / 649]

قال صاحب الوافي :

كأنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، ولعلّهما صدرا من النسّاخ ، تقديره هكذا : «كان عليّ عليه السلام يقول كثيرا : ما أجمع» أو هكذا : «كثيرا ما يقول : اجتمع» . و «لما رأت عيني» إشارة إلى الملائكة المنزلين في تلك الليلة ، و «وعا قلبي» إشارة إلى ما حدّثته من تبيين الاُمور وإحكام الأحكام ، و «لِما يرى قلبُ هذا من بعدي» إشارة إلى تفسير من الملائكة وتحديثهم إيّاه . وأشار بهذا إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد مضى في خبر آخر أنّه وعا قلبه ووقرفي سمعه .(1)

قوله : (فإن كانا ليعرفانِ) . [ح 5 / 649]

«إن» هي المخفّفة من المثقّلة بدلالة اللام ، كما في قوله تعالى : «وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ»(2) والفاء فصيحة ، و «يعرفان» على صيغة المجهول من المجرّد ، و «تلك الليلة» في محلّ النصب على الظرفيّة ، أي كانا في تلك الليلة من شدّة الرعب والخوف بحال يعرفهما الناس بما بهما من تغيّر الحال واضطراب البال مخافة أن ينزل على وليّ الأمر في شأنهما ما يسوؤهما لما يعلمان من خيانتهما في الدين وعدم نصح المسلمين . وفي المثل السائر : إذا وضع البيطار مكواته في النار هاج الرعب بالبغل الشموس .

ويحتمل أن يكون من باب التفعيل مبنيّا للفاعل أو المفعول ، ويكون «تلك الليلة» منصوبا على أنّه مفعول ثانٍ ، والمعنى على الأوّل : أنّهما كانا يعرّفان أولياءهما تلك الليلة حتّى يُنيبوا إلى اللّه ويتضرّعوا إليه أن لا ينزل في ما شانهما ؛ وعلى الثاني : أنّهما كانا يوكّلان من يعرفهما تلك الليلة مخافة أن يلهيهما عنها لذّة الجاه وغرور الملك ، فلا يشتغلا بالتضرّع .

قوله : (من البعثة في أقطار الأرض) . [ح 6 / 650]

«البَعَثة» بالتحريك : جمع بعيث بمعنى المبعوث ، كالقَتَلة جمع قتيل بمعنى المقتول . .

ص: 557


1- الوافي، ج 2، ص 50.
2- القلم (68) : 51 .

في المغرب :

البعث : الإثارة . يقال : بعث الناقة فانبعثت ، أي أثارها فثارت ونهضت . وبعثه : أرسله ، ومنه : ضُرب عليهم البعث ، أي عُيّن عليهم ، واُلزموا أن يبعثوا إلى الغزو ، فقد يسمّى الجيش بعثا لأنّه يبعث ، ثمّ يجمع فيُقال : مرّت عليهم البعوث ، أي الجيوش(1) .

قوله : (إلاّ أن تكون عليهم حجّة) . [ح 7 / 651]

أي لا يقوم ولا ينهض هؤلاء الكرام - الذين هم أهل ليلة القدر مدّعين لعلم ما يأتيهم في تلك الليلة - إلاّ بعد أن يكون للّه عليهم حجّة في صدق ذلك ، على سياق قوله تعالى : «لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ»(2) ، فتدبّر .

والحاصل أنّه لا يستطيع هؤلاء الاُمناء الشكّ فيما يأتيهم ؛ لأنّ قيامهم مدّعين لعلم ذلك بعد أن يكون للّه عليهم حجّة ، أي لا يمكنهم تجويز وقوع الغلط فيه ؛ لظهور موجبه الذي هو تحديث الملائكة والروح ، ف «يكون» تامّةٌ ، و «ما» عبارة عن الملائكة والروح وتحديثهم ، والباء في «بما» صلة الاحتجاج ، يقال : احتجّ اللّه على خلقه برسله ، فالظرف متعلّق بالحجّة على أنّها مصدر . ويمكن أن يكون الحجّة عبارة عن الملك ، والباء للمصاحبة ، وتأتيهم بالتاء ، وفاعله المستكنّ العائد إلى الحجّة وعائد الموصول محذوفا ؛ لكونه فضلة أعني به ، فتدبّر .

قوله : «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ». [ح 7 / 651]

في سورة النور بعد قوله تعالى : «مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ»(3) .

قوله : (إنّ اللّه َ عزَّ وَجلَّ لَيَدْفَعُ بالمؤمنينَ) إلى آخره . [ح 7 / 651]

قال الفاضل الصالح الشارح :

يعني أنّ اللّه تعالى ليدفع بالمؤمنين بها عن الجاحدين لها عذاب الدنيا ، ولولا المؤمنون .

ص: 558


1- المغرب، ص 46 (بعث).
2- النساء (4) : 165.
3- النور (24) : 55 .

بها لعذّبهم في الدنيا وأهلكهم كافّة ، وذلك ليعذّبهم في الآخرة عذابا أليما بسبب جحودهم وإنكارهم إيّاها ، وذلك الدفع أو كمال عذاب الآخرة لمن علم اللّه تعالى أنّه لا يتوب عن إنكاره ولا يرجع عنه إلى الإيمان بها ، وهذا الدفع مثل ما يدفع اللّه بالمجاهدين في سبيله [عن القاعدين [هلاكهم بسيوف المشركين أو بعقوبته(1) .

أقول : قوله طاب ثراه : «وذلك الدفع» يعني ذلك الدفع المعلّل بأنّه لكمال عذاب الآخرة ، لا مطلق الدفع ؛ إذ لا اختصاص له بكونه لمن يعلم أنّه يتوب .

قوله : (فما يَحْدُثُ لهم في ليالي القَدْرِ عِلْمٌ) اِلى آخره . [ح 8 / 652]

على تقدير همزة الاستفهام ، أي أفما يحدث لهم علم غير ما علموا ؛ فالفاء للتعقيب ، أو على سبيل الاستشكال ، أي فعلى هذا لا يحدث لهم غير ما علموا ، وهو محال ، فالفاء للتفريع .

وكيف كان ، يكون المراد بقوله عليه السلام : (هذا ممّا اُمروا بكتمانه) أنّ جواب هذا السؤال أو ممّا ينحلّ به الإشكال ممّا اُمر الأوصياء عليهم السلام بكتمانه وعدم إظهاره لأمثالكم .

وفي لفظ الكتمان دلالة على علمهم بذلك ، ولا تنافي بينه وبين قوله صلى الله عليه و آله : (ولا يَعْلَمُ تَفسيرَ ما سألتَ عنه إلاّ اللّه ُ) إذ المقصد أنّ كشف هذا المسؤول ليس ممّا يتيسّر بالعقول ، بل إنّما هو بالتعليم الإلهي ؛ إذ لا يعلم ذلك إلاّ اللّه ، كما أنّ تأويل القرآن لا يستتبّ بالعقول ؛ إذ لا يعلمه إلاّ اللّه أو الذين علّمهم اللّه من الراسخين في العلم .

وبهذا يظهر وجه الجمع بين الوقف في آية «مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ»(2)نهج البلاغة، ص 201، الخطبة 144.(3) على اللّه ، كما دلّ عليه بعض خطب أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة(3) و توحيد الصدوق(4) طاب ثراه ، وبين الوقف على الراسخين في العلم ، كما دلّت عليه روايات الكليني طاب ثراه(5) ، وقد بيّنّا ذلك في كتاب العقل في شرح رواية هشام بن الحكم ، وقد كتب في هذا المقام بعض المشتغلين إليّ ما هذه عبارته :

في قوله : «قال السائل : فما يحدث» إلى آخره ، يحتمل الكلام أن يكون استفهاميا أو .

ص: 559


1- شرح اُصول الكافي للمازندراني، ج 6 ، ص 17.
2- آل عمران
3- : 7.
4- التوحيد، ص 53، ح 13.
5- راجع: الكافي، ج 1، ص 213، باب أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة عليهم السلام .

نفيا ، مآلهما أنّه إذا كان الحاصل لهم في تلك الليلة كيفيّة العمل دون العلم ، فلا يحدث علم سوى ما علموا؟ و لايخفى أنّه قد فهم جوابه ممّا ذكر سابقا من تفصيل العلم بالجمل والتفسير ؛ إذ المراد بالتفسير هو إعلام اللّه تعالى في تلك الليلة لوليّ الأمر على وجه الحتم ما وقع الإعلام به ليلة الأسرى معلّقا بالمشيّة ومحتملاً للبداء ، وقد دلّ على ذلك لفظ الفرق في قوله عزّ من قائل : «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ»؛(1) إذ الفرق إنّما يجري فيما هو في عرضة الوجهين سابقا ، ودلّ عليه أيضا قوله عليه السلام بعد تلك الآية في صدر الحديث(2) : «أنّه لينزل في ليلة القدر إلى وليّ الأمر تفسير الاُمور سنةً سنةً» إلى آخره .

قوله : (أبى أن يُطْلِعَ الأوصياءٌ عليه إلاّ أنْفُسَهُم) . [ح 8 / 652]

«يطلع» من باب الإفعال ، و«الأوصياء» مرفوع على الفاعليّة ، و«أنفسهم» منصوب على المفعوليّة .

قوله : (لما ترون) . [ح 9 / 653]

في بعض النسخ : «لما تزورون» . وكذا «ممّا ترون ممّا تزورون» ، ولعلّه الصواب .

قوله : (فيهبط فيها من الملائكة) . [ح 9 / 653] عطف على «أتت» .

وقوله : «خلق» جزاء «إذا» .

قوله : (قَيَّضَ اللّه) . [ح 9 / 653]

في القاموس : «قيّض اللّه له : جاءه به ، وأتاحه له»(3) .

باب في أنّ الأئمّة يزدادون في ليلة الجمعة

[باب في أنّ الأئمّة عليهم السلام يزدادون في ليلة الجمعة]

قوله : (مِثْلُ جَمّ الغَفِير) . [ح 1 / 654]

في القاموس : «الجمّ : الكثير من كلّ شيء»(4) وفيه :

غفره : ستره ، وجاؤوا جمّا غفيرا ، وجمّ غفيرٍ ، وجمّاء الغفيري ، وجمّ الغفيرة ، وجمّاء الغفيرة ، والجمّ الغفير ، والجمّاء الغفير والغفيرة أي جميعا : شريفُهم ووضيعهم ، ولم

ص: 560


1- الدخان (44) : 4 .
2- الحديث 3 من نفس الباب.
3- القاموس المحيط، ج 2، ص 343 (قيض).
4- القاموس المحيط، ج 4، ص 91 (جمم).

يتخلّف أحد وهم كثيرون . وهو عند سيبويه اسم موضوع موضع المصدر ، أي مررت بهم جموعا غفيرا ، وجعله غيره مصدرا ، و أجاز ابن الأنباري فيه الرفع على تقدير «هُم» . وقال الكسائي: العرب تنصب الجماء الغفير في التمام ، وترفعه في النقصان(1) . انتهى .

وفي كتاب عمدة الحافظ وعدّة اللافظ لابن مالك الطائي - وهو أحسن ما صنّف في النحو - :

وقد يعرّف الحال وهي في المعنى نكرة ، كقولهم : جاؤوا الجمّاء الغفير، أي جميعا ودخلوا الأوّل فالأوّل مرتّبين ، وقعد وحده أي منفردا ، ومنه قراءة شاذّة «ليُخرجنَّ الأعزّ منها الأذلّ» أي ليخرجنّ العزيز منها ذليلاً . انتهى .

قوله : (ولولا ذلك لأنْفَدْنا) . [ح 2 / 655]

في الصحاح : «نفد الشيء - بالكسر - : فنى ، وأنفدته أنا وأنفد القوم ، أي ذهبت أموالهم و فني زادهم»(2) .

باب أنّ الأئمّة يعلمون متى يموتون و ...

[باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون متى يموتون و . . .]

قوله : (لمّا سَمِعَ صياحَ الإوَزّ) . [ح 4 / 675]

«الإوزّ» - على ما صحّح في النسخة العتيقة من الصحاح بكسر الهمزة وفتح الواو والزّاي المشددة : - البطّ .

وقال صاحب الوافي قدس سره :

«الإوزّ» : البطّ . أراد السائل أنّه - صلوات اللّه عليه - كان عارفا بقتله في ذلك الوقت ، وقد قال عند سماع صياح الإوزّ : (صوائح تتبعها نوائح) وقد منعته اُمّ كلثوم عن الخروج من الدار في ذلك الوقت . وهذه دلائل واضحة على أنّه لم يشكّ في قتله حينئذٍ ، ومع ذلك فأبى إلاّ الخروج ، (وهذا ممّا لم يَجُزْ تعرّضه في الشرع) أو «لم يحلّ» أو «لم يحسن» على اختلاف النسخ ، فقد قال اللّه تعالى : «وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى

ص: 561


1- القاموس المحيط، ج 2، ص 104 (غفر).
2- الصحاح، ج 2، ص 544 (نفد).

التَّهْلُكَةِ»(1)الوافي، ج 3، ص 594 - 595.(2) فأجابه عليه السلام بأنّه - أو صلوات اللّه عليه - خُيّر في تلك الليلة ، أي جعل إليه الأمر بأن يختار لقاء اللّه أو البقاء في الدنيا ، فاختار لقاء اللّه ، فسقط عنه وجوب حفظ النفس(2) .

انتهى كلام صاحب الوافى¨ .

أقول : مَثَل ذلك مَثَل أن يكون بينك وبين معشوقك طريقان : أحدهما قريب إن سلكته وصلت إليه في أقرب الزمان ، ولكن تشاك ويتمزّق ثيابك ويتخدّش إهابك ، والآخر بعيد خال من تلك المضارّ ، ولكن يؤخّرك عن المزار ، فخيّرك المعشوق في الوصول إليه بين الطريقين ، فتختار القريب ولا تبالي بما يعرض لك في البين ، ولقد أحسن وأجاد ونظم وأفاد (شعر) :

بدم المحبّ يُباع وصلهُمُ *** فاسمح بنفسك إن أردت وصال

قال عزّ من قائل : «إِنَّ اللّه َ اشْتَرَى مِنَ الْمُوءْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللّه ِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاةِ وَالاْءِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه ِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(3) .

وفي مثنوي شيخنا البهائي قدس سره المسمّى ب «نان وحلوا» :

ابذلوا أرواحكم يا عاشقين إن تكونوا في هوانا صادقين

تا نسازى بر خود آسايش حرام *** كى توانى زد به راه عشق گام

نيست اندر راه عشق آسودگى *** سر بسر در دشت و خون پالودگى

غير نا كامى درين ره كام نيست *** راه عشق است ، اين رَهِ حمّام نيست

كوى دولت آن سعادتمند برد *** كو به پاى دلبرخود جان سپرد

هذا ، ثمّ إنّ في هذا الحديث وما يأتي بعده إشكالاً آخر ، و هو أنّه قد تظافرت الأخبار بأنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا عالمين بشهادتهم وكيفيّتها وأزمنتها وأمكنتها والمباشرين لها بإخبار رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن جبرئيل عن الباري عزّ اسمه وتعالى شأنه ، فما معنى التخيير في أمر قد تعيّن فيما قبل ؟ .

ص: 562


1- البقرة
2- : 195 .
3- التوبة (9) : 111 .

وانحلال هذا الإشكال بتذكرّ ما سبق في كتاب التوحيد وحواشينا الرافعة لغواشيه ، والذي نقول هاهنا : أنّ إخبار اللّه تعالى لجبرئيل بشيء قد يكون بإثبات ذلك الشيء في لوح مخصوص هو أعلم بحقيقته ، والأمرِ بتنزّل جبرئيل عليه السلام به على رسوله ، وربما يمحو ذلك المثبت بعد التنزّل به كما قال عزّوجلّ : «يَمْحُوا اللّه ُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ»(1) وذلك المحو للإيذان بأنّ الشيء لا يتمّ له الوجود في الأعيان ، والإثبات المشعر بأنّه سيقع لِحِكَم كثيرة يعلم بعضها بإخبار الصادقين عليهم السلام ، وذلك المحو والإثبات هو البداء الذي القول به من ضروريّات مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وإذ ثبت جواز محو بعض ما ثبت ، فليس كلّ ما في ذلك اللوح ممّا شاء بالمشيّة الحتميّة التي لا يقع شيء في حيطة التحقّق ، فعلاً كان أو تركا ، طاعة كانت أو معصية إلاّ بها كما سبق تحقيقه ، فما أخبر به جبرئيل عليه السلام تحقّقه تحت سلطان المشيّة ، فيمكن أن يقع فيه البداء ، وإن كان ظاهرُ الإخبار - بالكسر - أنّه سيتحقّق.

إذا تمهّد ذلك فنقول: غاية الأمر - بناء على هذه الاُصول الأصيلة - أنّهم عليهم السلام كانوا عالمين بشهاداتهم على الوجه المعيّن علما مستندا بإخبار الرسول ، المستند بإخبار جبرئيل ، المستند بإثبات اللّه تعالى في اللوح ، وإذ كانوا عليهم السلام مجوّزين للبداء فيما أخبروا به إلى حين نزول التخيير ، فلم يكن المخيّر فيه متعيّنا في نظرهم حتّى ينافي التخيير.

وأمّا التعيّن في علم اللّه تعالى فهو غير مُناف له ؛ لأنّ الغرض منه بروز ما كمن في ذواتهم المقدّسة من أمر الاختيار ليظهر يوم تُبلى السرائر وجه الاصطفاء وعلّة الاجتباء ، ثمّ إنّك إذا أحطت بما تلونا لك ، علمت أنّ الأصوب في تقرير السؤال في هذا الحديث أن يقال : إنّ هذه الاُمور تدلّ على أنّ الإمام عليه السلام كان عالما بأنّ القضيّة قد تعيّنت، ولابدّ منه ولا محيص عنه ، والقول بهذا ممّا لا يجوز ولا يحلّ ولا يحسن ؛ لأنّه يفضي إلى القول بأنّه عليه السلام لم يكن قادرا على عدم المشي إلى المسجد ؛ إذ كان المشي متعيّنا من جهة اللّه ، وكذا ترتّب الواقعة على ذلك المشي ، فلم يكن مشيه إلى المسجد ولا صلاته9.

ص: 563


1- الرعد (13): 39.

فيه تلك الليلة اختياريّا ؛ إذ كان واجبا ليطابق القضاء والقدر .

فعلى هذا فالجواب أنّه عليه السلام قد خيّر في تلك الليلة ، فاختار ما وقع شوقا إلى اللّه ، والوجوبُ والتعيّن في علم اللّه تعالى بكونه من جهة الاختيار الذي قد سبق في العلم الأزلي لا ينافي التخيير والاختيار ، بل يحقّقه كما حقّق فيما سبق فتذكّر ، والتعيّن عنده عليه السلام لكونه من جهة الإخبار الذي يمكن وقوع البداء فيه أيضا لا ينافي التخيير والاختيار ، كما لايخفى على اُولي الأبصار .

باب أنّ الأئمّة يعلمون علم ما كان وما يكون

باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون [علم]ما كان وما يكون

قوله : ([وحَتَمَه] على سبيل الاختيار) . [ح 2 / 683]

أي اختيار اللّه لهم عليهم السلام ؛ لأنّ للّه تعالى منازلَ جرت سنّته أن لا يرتقي إليها إلاّ الممتحنين الصابرين الذين نزل فيهم: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للّه ِِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ»(1) فنزول ما نزل عليهم إنّما هو تنزيه وتكميل وتأهيل للقعود في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، لا كفّارة ذنب أو عقوبة عاجلة إلى أن يأتي وقت العذاب العظيم ؛ نعوذ باللّه منه . ومن فوائد إذابتهم في بوتقة الدنيا بنار المحنة والابتلاء ظهور جواهرهم ونقاوة ذواتهم عن غشّ محبّة الغير .

ويمكن أن يكون معنى على سبيل الاختيار أنّهم عليهم السلام إذ كانوا مختارين للبلايا علما منهم بأنّه تربية وتأهيل لهم ، قضى اللّه عليهم السلام قضاء حتما ناشئا من اختيارهم . والمعنيان متقاربان .

باب جهات علوم الأئمّة

باب جهات علوم الأئمّة عليهم السلام

قوله : (عن عليّ السائي) . [ح 1 / 689]

في القاموس في باب الواو : «الساية : بلد بمكّة ، أو واد بين الحرمين»(2) .

ص: 564


1- البقرة (2) : 155 - 157 .
2- راجع: القاموس المحيط، ج 4، ص 346 (سوي).

قوله : (وغابر) . [ح 1 / 689]

في القاموس : «غبر غبورا : مكث وذهب ؛ ضدّ ، وهو غابر من غبر كركع»(1) .

وفي النهاية :

فيه : أنّه كان يحدر فيما غبر من السورة ، أي يسرع في قراءتها . قال الأزهري : يحتمل الغابر هاهنا الوجهين ، أي الماضي والباقي ؛ فإنّه من الأضداد . قال : والمعروف الكثير أنّ الغابر الباقي . وقال غير واحد من الأئمّة : إنّه يكون بمعنى الماضي(2) .

انتهى كلام صاحب النهاية .

قوله : (أو يُنْكَتُ [في آذانِكم])(3) . [ح 2 / 690]

في النهاية : «فجعل ينكت بقضيب ، أي يضرب بطرفه»(4) .

قوله : (إنّ عِلْمَنا غابِرٌ) . [ح 3 / 691]

الغابر هنا بمعنى الماضي .

قوله : (ومَزْبورٌ) . [ح 3 / 691]

أي مكتوب في الكتب المختصّة بنا ، مثل الجامعة ومصحف فاطمة ، ننظر في الكتب على حسب ما بلغنا من الرخصة .

باب أنّ الأئمّة لو ستر عليهم لأخبروا كلّ امرئ بما له و عليه

باب أنّ الأئمّة عليهم السلام لو سُتر عليهم لأخبروا كلّ امرئ بما لَه و عليه

قوله : (جُعِلتُ فِداك) . [ح 2 / 693]

في القاموس : «الفداء ككساء وعلى وإلي»(5) .

قوله : (أوكِيَةٌ) . [ح 2 / 693]

في القاموس : «الوكاء - ككساء - : رباط القربة وغيرها . وقد وكاها وأوكاها وعليها»(6) .

أقول : يعادل للوكاء الإكاء أيضا ؛ ذكر في باب الهمزة .

ص: 565


1- القاموس المحيط، ج 2، ص 99 (غبر).
2- النهاية، ج 3، ص 337 (غبر).
3- في الكافي المطبوع: «و ينكت».
4- النهاية، ج 5، ص 113 (نكت).
5- القاموس المحيط، ج 4، ص 373 (فدا).
6- القاموس المحيط، ج 4، ص 401 (وكي).

باب التفويض إلى رسول اللّه وإلى الأئمّة في أمر الدين

باب التفويض إلى رسول اللّه وإلى الأئمّة عليهم السلام في أمر الدين

هذا التفويض بعد تكميل نفسه صلى الله عليه و آله بحيث دخل في زمرة من أحبّه اللّه تعالى ، وقد ورد في الحديث القدسي : «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها»(1) وإلى هذه المرتبة اُشير في قوله تعالى : «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّه َ رَمى»(2) ، وكذلك الأئمّة عليهم السلام ، وقد يفوّض الملك أمر مملكته إلى بعض خواصّه الذي امتحنه ، وعرف قوّة عقله وتدبيره ، والغرض من الإعلام بأنّه صار بحيث لايشاء ، ولا يريد إلاّ مطابقا لمشيّته وإرادته .

قوله : (لِيَسُوسَ عِبادَهُ) . [ح 4 / 697]

في النهاية : «فيه : كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم ، أي تتولّى اُمورهم كما يفعل الاُمراء والولاة بالرعيّة . والسياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه»(3) .

باب في أنّ الأئمّة بمن يشبّهون ممن مضى و ...

[باب في أنّ الأئمّة بمن يشبّهون ممن مضى و ...]

قوله : (صاحب موسى) . [ح 1 / 704]

المراد به إمّا يوشع بن نون ، ووجه الشبه الوصاية ؛ وإمّا الخضر ، ووجه الشبه التشرّف بالعلم اللدنّي بلا نبوّة ، وهذا بناء على عدم نبوّته كما يلوح ممّا رواه الصدوق في كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة عن الصادق عليه السلام أنّه قال في حديث طويل : «وأمّا العبد الصالح أعني الخضر عليه السلام فإنّ اللّه تعالى ما طوّل عمره لنبوّةٍ قدّرها له ، ولا لكتاب نزل عليه ، ولا شريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله من الأنبياء ، ولا لإمامة يلزم عباده الاقتداء لها ، ولا لطاعةٍ يفرضها له ، بلى إنّ اللّه تبارك وتعالى لمّا كان في سابق علمه أن

ص: 566


1- الكافي، ج 2، ص 352، باب من آذى المسلمين و احتقرهم، ح 7؛ المؤمن، ص 32، ح 61؛ المحاسن، ج 1، ص 291، ح 443؛ إرشاد القلوب، ج 1، ص 91 ؛ عوالي اللئالي، ج 4، ص 103، ح 152.
2- الأنفال (8) : 17 .
3- النهاية، ج 2، ص 421 (سوس).

يقدّر من عمر القائم عليه السلام في أيّام غيبته ما قدر و علم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول ، طَوَّلَ اللّه عمر العبد الصالح»(1) .

ولكن روى في عيون الأخبار في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من خبر الشامي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام سأله الشامي عن ستّة من الأنبياء لهم اسمان ؟ فقال : «يوشع بن نون وهو ذو الكفل ، ويعقوب وهو إسرائيل اللّه(2) ، والخضر وهو حلقيا ، و يونس وهو ذو النون ، وعيسى وهو المسيح ، و محمّد وهو أحمد صلّى اللّه عليه و عليهم أجمعين»(3) .

قوله : (أو ما بلغكم أنّه قال) [ح 4 / 707]أي علي عليه السلام .

روى الصدوق في كتاب إكمال الدين في باب ماروي عن أبي محمّد العسكريّ عليه السلام من وقوع الغيبة عن أصبغ بن نباتة ، قال : جاء ابن الكوّاء إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو على المنبر ، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن ذي القرنين أنبيّ كان أو ملك ؟ وأخبرنا عن قرنَيْه أذَهب كان أو فضّة ؟ فقال له : «لم يكن نبيّا ولا ملكا ، ولا كان قرناه من ذهب وفضّة ، ولكنّه كان عبدا أحبَّ اللّه فأحبّه اللّه ، ونصح للّه فنصحه اللّه ، وإنما سُمّي ذا القرنين لأنّه دعا قومه ، فضربوه على قرنه ، فغاب منهم حينا ، ثمّ عاد إليهم ، فضرب على قرنه الآخر ؛ وفيكم مثله»(4) .

باب أنّ الأئمّة محدّثون مفهّمون

باب أنّ الأئمّة محدّثون [مفهّمون]

قوله : (ألا سألْتَهُ) [ح 5 / 715 [بفتح الهمزة وتخفيف اللام .

باب ما فيه ذكر الأرواح التي في الأئمّة

باب ما فيه ذكر الأرواح التي في الأئمّة عليهم السلام

قوله : (لا يَزْهُو) . [ح 3 / 718]

في القاموس : «الزهو : الكبر والتيه والفخر ، وزُهي كعُني ، وكدعا قليل ، وأزهى

ص: 567


1- كمال الدين، ج 2، ص 355، ح 51.
2- في المصدر: - «اللّه».
3- عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 245، ح 1.
4- كمال الدين، ج 2، ص 393، ح 3.

وزاهاه الكبر»(1) .

أقول : في المطوّل :

ولا زوردية تزهو بزرقتها *** بين الرياض على حمر اليواقيت

كأنّها فوق قامات ضعفن بها *** أوائل النار في أطراف كبريت .

باب أنّ الإمام يعرف الإمام الذي يكون من بعده...

باب أنّ الإمام يعرف الإمام الذي يكون من بعده، وأنّ قوله :

«إنّ اللّه َ يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها»(2) فيهم نزلت

قوله : (إيّانا عَنى) . [ح 1 / 731]

ذكر صاحب مجمع البيان عدّة احتمالات في معنى الأمانة التي ذكرت في هذه الآية ، وغفل عن أحاديث هذا الباب ، وربّما يختلج ببال من له لم يتتبّع إذا ذكر عنده ورودها أنّها لو كانت لَنَقَلَها صاحب الكتاب وهو من أعيان مفسّري الشيعة ، ولا سيما وقد نقل قولاً عن ابن عبّاس وابن مسعود واُبيّ بن كعب والحسن وقتادة ، ثمّ قال : «وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبداللّه عليهماالسلام »(3) وغرضي رفع الاستبعاد .

قوله : (كذا نَزَلَتْ) . [ح 1 / 731]

يعني أنّ الآية نزلت من عند اللّه تعالى مُرادا بها أنّ اُولي الأمر أيضا من المردود إليهم لا من الرادّين .

وبالجملة ، نزلت مقترنة بمعنى هذه الفقرة لا بلفظها معبّرا ذلك المعنى للرسول بهذا اللفظ . وقد سبق تحقيق هذا الباب فيما علّقناه على باب أنّه لا يدّعي أحد أنّه جمع القرآن كلّه كما نزل غير أمير المؤمنين عليه السلام إلاّ كذّاب .

وقوله عليه السلام : (وكيف يأمُرُهُم). [ح 1 / 731]

بيان أنّ في الآية دلالةً على هذه الفقرة ، وذلك لأنّ اللّه تعالى أمر الناس بإطاعة اُولي

ص: 568


1- القاموس المحيط، ج 4، ص 340 (زهو).
2- النساء (4) : 58.
3- مجمع البيان، ج 3، ص 111 - 112.

الأمر حيث قال : «أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الاْءَمْرِ مِنْكُمْ»(1) فنصّ سبحانه على أنّهم مطاعون فيما يحكمون، ليس لأحد أن ينازعهم، فيجب أن يكون الذين يمكن أن يكون بينهم تنازعٌ غيرَهم ؛ إذ يجب عليهم في تنازعهم الردُّ إلى من يجوز معه التنازع ، ولا يسعهم إلاّ إطاعته والتسليم له والقبول منه ؛ فتبصّر وكن من الشاكرين لما أولاك مولاك .

قوله : (ولا يزويها عنه) . [ح 2 / 732]

في القاموس : «زواه : نحّاه»(2) .

باب أنّ الإمامة عهد من اللّه عزّوجلّ معهود من واحد إلى واحد

[باب أنّ الإمامة عهد من اللّه عَزَّوَجَلَّ معهود من واحد إلى واحد عليهم السلام ]

قوله : (معنى الحديث الأوّل) . [ح 1 / 740]

هذا مضمون رواية أوردها المصنّف في أواخر كتاب المعيشة في باب ضمان ما يفسد البهائم في الحرث ، ولا أرى لنعت الحديث بالأوّل(3) وجها محصّلاً ، ولعلّه من تصرّفات النسّاخ .

باب أنّ الأئمّة لم يفعلوا شيئا ولا يفعلون

باب أنّ الأئمّة عليهم السلام لم يفعلوا شيئا ولا يفعلون

إلاّ بعهد من اللّه عزّوجلّ وأمرٍ منه لا يتجاوزونه

قوله : (وأطرق) . [ح 1 / 742]

في القاموس : «أطرق : سكت ولم يتكلّم، وأرخى عينيه ينظر إلى الأرض»(4) .

قوله : (هذه وصيّتُك إلى النُّجَبَةِ من أهلك) . [ح 2 / 743]

في القاموس : «النجيب ، وكهُمَزةٍ : الكريم الحسيب»(5) . وأقول : والجمع : «النجبة» بالتحريك ، كالقتلة جمع قتيل ، والبعثة جمع بعيث ، وقد سبق.

ص: 569


1- النساء (4) : 59 .
2- القاموس المحيط، ج 4، ص 339 (زوي).
3- قال العلّامة المجلسي في مرآة العقول، ج 3، ص 188: «لعلّ الأوّل بدل من الحديث، أى الأوّل منه، والحاصل: معنى أوّل الحديث و هو سؤال سليمان عن وقت دخول الغنم والكرم وفائدته».
4- القاموس المحيط، ج 3، ص 257 (طرق).
5- القاموس المحيط، ج 1، ص 130 (نجب).

قوله : (وَاشْرِ نَفْسَكَ للّه) [ح 2 / 743] ناظر إلى قوله تعالى : «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه ِ»(1)في الكافي المطبوع: «ليقبضها».(2) .

قوله : (أليس كانَ عليّ عليه السلام كاتبُ الوصيّة) . [ح 4 / 745]

الظاهر أنّ منشأ السؤال ما يتراءى من التنافي بين كون الوصيّة كتابا نزل به جبرئيل عليه السلام ، وبين كونها بإملاء رسول اللّه عليه السلام وخطّ عليّ ومحمّد ؟

الجواب : أنّه قد كان ما قلت ، ولكن لا ينافي كون الوصيّة إملاء من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبخطّ عليّ عليه السلام كونها كتابا نزل به جبرئيل عليه السلام ؛ لأنّ النسبة بين الوصيّتين هي النسبة بين الروح والجسد ، وموضع استفادته ذلك من كلام أبي عبد اللّه عليه السلام في نقل الواقعة ، قولُه عليه السلام حكاية عن جبرئيل عليه السلام : (لتَقْبِضَها(2) منّا و تُشْهِدَنا بدَفْعِك إيّاها إليه) وقولُه : (فدَفَعَه إليه وأمَرَه بدَفْعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ) بأن يقال : الدفع الأوّل دفع معنويّ ، لا يمكن تحقّقه إلاّ بين جبرئيل وصاحب مرتبة النبوّة ، وكذا الكتاب المدفوع هذا النحو من الدفع ، والدفع الثاني دفع ذلك المدفوع على وجه يمكن تحقّقه بين النبيّ صلى الله عليه و آله وبين عليّ عليه السلام وذلك بالإملاء عليه ، وقبضه عليه السلام هو كتابة ما اُملي عليه ، فصحّ كون أمير المؤمنين عليه السلام كاتب الوصيّة ، وكون رسول اللّه صلى الله عليه و آله هو المُملي عليه ، مع أنّها كانت كتابا نزل به جبرئيل عليه السلام ، ودَفَعَه إلى الرسول صلى الله عليه و آله وهو دَفَعَه إلى عليّ عليه السلام ؛ فافهم .

قوله : (ضامنا لها) [ح 4 / 745] حال من الضمير المجرور في «إليه» .

قوله : (صَدَقَ عزّ وجلَّ وَبَرَّ) . [ح 4 / 745]

في الصحاح : «برّ فلان في يمينه : صدق»(3) .

باب ما نصّ اللّه ورسوله على الأئمّة واحدا فواحدا

باب ما نصّ اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله على الأئمّة واحدا فواحدا

قوله : (فما له لم يُسَمِّ عليّا وأهل بيته عليهم السلام [في كتابِ اللّه عزّوجلّ]) . [ح 1 / 759]

في هذا الحديث أوضح دلالة على عدم تسمية أمير المؤمنين عليه السلام في القرآن صريحا ،

ص: 570


1- البقرة
2- : 207 .
3- الصحاح، ج 2، ص 588 (برد).

فالأخبار المشتملة على اسمه عليه السلام في خلال الآيات وقول المعصوم : «هكذا نزلت» بمعنى أنّ جبرئيل عليه السلام نزل بالآية مقترنا بهذا التفسير ؛ فتبصّر واستقم كما اُمرت .

قوله : (عزيمةٌ [من اللّه عزّوجلّ] بَتْلَةً) . [ح 6 / 764] تأكيد للعزيمة . في الأساس : «طلّقها بتّة بتلةً»(1) .

قوله : (يازياد) . [ح 6 / 764]

هو اسم أبي الجارود المتقدّم .

باب الإشارة والنصّ على أمير المؤمنين

باب الإشارة والنصّ على أمير المؤمنين عليه السلام

قوله : ([سلّموا على عليّ] بإمْرَةِ المؤمنين) . [ح 1 / 766]

في القاموس : «الأمر : ضدّ النهي ، ومصدر أمرني . والاسم : الإمرة بالكسر»(2) .

قوله : (أن تكون أئمّة هي أزكى من أئمّتكم) . [ح 1 / 766]

في سورة النحل : «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه ِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الاْءَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّه َ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً»(3) ؛ «وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّه ُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ»(4) .

في تفسير القاضي :

«مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ» : من بعد إبرام وإحكام «أَنْكاَثا» : طاقات نكث فتلها ، جمع نكث ، وانتصابه على الحال من «غزلها» أو المفعول الثاني لنقضت ؛ فإنّه بمعنى صيّرت «تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ» حال من الضمير في «ولا تكونوا» أو في الجارّ الواقع موقع الخبر ، أي لا تكونوا مشبّهين بامرأة هذا شأنها متّخذي أيمانكم مفسدةً ودخلاً بينكم . وأصل الدخل ما يدخل الشيء ولم يكن منه . «أَنْ تَكُونَ اُمَّةً هِىَ أَرْبى مِنْ اُمَّةٍ» بأن تكون جماعة أزيد عددا وأوفر مالاً من جماعة ، والمعنى : لا تغترّوا بقومٍ لكثرتكم .

ص: 571


1- أساس البلاغة، ص 28 (بتل).
2- راجع: القاموس المحيط، ج 1، ص 365 (أمر).
3- النحل (16) : 91 .
4- النحل (16) : 92 .

وقلّتهم ، أو لكثرة منابذتهم وقوّتهم كقريش ؛ فإنّهم كانوا إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم «إِنَّمَا يَبْلُوَكُمُ اللّه ُ بِهِ»الضمير لأن تكون اُمّة ؛ لأنّه بمعنى المصدر ، أي يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسّكون بحبل الوفاء بعهد اللّه وبيعة رسوله، أو تغترّون بكثرة قريش وشوكتهم وقلّة المؤمنين(1) ؟

أقول : المعنى على ما في الحديث : لا تكونوا كالناقضة لغزلها بعدما اُبرمت، فتنقضوا بيعتكم للنبيّ صلى الله عليه و آله أن تقبلوا كلّ ما يجيء به ، وقد أبرمتم وأحكمتم تلك البيعة بالعهود والأيمان ، فإذا جاءكم بالولاية وقال : مَن كنتُ أولى به من نفسه ، وحكمي عليه أنفذَ عليه ، وأحقَّ بالقبول من حكم هواه ، فهذا على مثلي وبمنزلتي بالنسبة إليه ، نكصتم على أعقابكم ونقضتم عهودكم وبيعتكم ، واتّخذتم أيمانكم التي أتيتم بها حين بيعة النبيّ في قبول كلّ ما يجيء به دخلاً فاسدا باطلاً لأن سمعتم أنّ أئمّة - وهم آل الرسول - أزكى وأولى بالإمامة من أئمّتكم التي تهوونهم ، وكان في نيّتكم أن تنصبوهم وتجعلوا الأمر لهم ، إنّما يبلوكم اللّه بكون أئمّة أزكى من أئمّتكم ، أي بإنزال الولاية ليعلم من يطيعه في أمرها ومن يعصيه ومن يختار مزكّى اللّه على مزكّى هواه ، وأين هم من التزكية ، وقد قال تبارك وتعالى : «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى»(2) ولعمري إنّ هذا القول من اللّه نصّ قاطع على امتناع الإمامة بالاختيار ، بل هو بإخبار من هو عالم بالأسرار .

قوله : (في المُسْتَحْفَظينَ) . [ح 3 / 768] بفتح الفاء .

في الأساس : «استحفظته سرّا(3) ». وفي التنزيل: «بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّه ِ»(4)القاموس المحيط، ج 1، ص 106 (عقب).(5) .

قوله : ([أسْلَمَ له]العَقِبُ من المستحفِظين) . [ح 3 / 768]

في القاموس : «العقب : الولد ، وولد الولد ، كالعقب ككتف»(5) .

قوله : (ولم يُبْعَثْ إليهم نبيٌّ) . [ح 3 / 768]

أي على أن تمكن من التعيّش بينهم وتأديبهم بآداب اللّه تعالى ، وإنّما قلنا ذلك إذ).

ص: 572


1- أنوار التنزيل، ج 3، ص 417.
2- النجم (53) : 32.
3- أساس البلاغة، ص 133 (حفظ).
4- المائدة
5- : 44 .

ليس قوم لم يبعث إليهم كيلا يستطيعوا؛ «لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْ لاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى»(1) .

قوله : (فقال اللّه جلّ ذكره : «وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» ؛ «وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ») . [ح 3 / 768]

هذا الترتيب بعينه ليس في القرآن ، نعم ذكر «وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» في سورتين :

الاُولى سورة حجر ، قال تعالى : «لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجا مِنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُوءْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمَا تُوءْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّه ِ إِلَها آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ»(2) .

الثانية : سورة النحل ، قال تعالى : «وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّه ِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ»(3) ، وليس «وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» في غير هذين الموضعين .

وقوله : «وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ»(4) [ح 3 / 768] في سورة الزخرف ليس إلاّ قال تعالى : «وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَوءُلاَءِ قَوْمٌ لاَ يُوءْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ»(5) .

فمقصود الإمام عليه السلام ذكر ما التقط من القرآن ممّا ورد في نصب أمير المؤمنين عليه السلام ، وتسلية نبيّه صلى الله عليه و آله عن حزنه على الجاحدين المكذّبين ، وتقوية قلبه بكفاية المستهزئين ؛ فتبصّر واحمد مولاك على ما أولاك .

قوله : (يُعَرِّضُ بِمَنْ رَجَعَ [يُجَبِّنُ أصحابه]) . [ح 3 / 768]

هو عمر ؛ إذ هو المبعوث إلى غزوة أهل خيبر قبل أمير المؤمنين عليه السلام و فرّ منهم . .

ص: 573


1- طآه (20) : 134 .
2- الحجر (15) : 88 - 99 .
3- النحل (16) : 127 .
4- الزخرف (43) : 89 .
5- الزخرف (43) : 88 - 89 .

وقوله : «يجبّن» حال عن فاعل «رجع» . في الأساس : «جبّنته : نسبته إلى الجبن»(1) . وفي القاموس : «هو يُجبَّن تجبينا : يُرمى به»(2) .

قوله : (فَوَقَعَتْ حَسْكَةُ النفاقِ في قلوبِ القومِ) . [ح 3 / 768]

في القاموس : «الحسكة - محرّكةً - : نبات تعلق ثمرته بصوف الغنم»(3) .

قوله : (كَبَّتَ عَدُوَّنا) . [ح 3 / 768]

في القاموس : «كبته يكبته : صرعه ، وأخزاه ، وردّ العدوّ بغيظه ، وأذلّه»(4) .

قوله : (فَيَشْمَتُ بك العَدُوُّ) . [ح 3 / 768]

في القاموس : «شمت - كفرح - : فرح ببليّة العدوّ»(5) .

قوله : «يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(6) . [ح 3 / 768]

الضمير المرفوع عائد للموصول الذي هو فاعل علم ، والمجرور للرسول واُولي الأمر . والاستنباط : الاستخراج . ذكره الجوهري(7) .

قوله : (بضَبْعِ ابن عمّه) . [ح 3 / 768]

في القاموس : «الضبع : العضد كلّها ، أو وسطها بلحمها ، أو الإبط ، أو ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاه»(8) .

قوله : (بين ظَهْرانِينا) . [ح 3 / 768]

في القاموس : «هو بين ظهريهم وظهرانيهم - ولا تكسر النون - وبين أظهرهم ، أي وسطهم»(9) .

قوله : (في مَرَضِه الذي تُوُفِّيَ فيه) . [ح 4 / 769]

وممّا وقع في مرضه الذي توفّي فيه ما نقله العلاّمة الزمخشري في الفائق في الهاء مع).

ص: 574


1- أساس البلاغة، ص 82 (جبن).
2- القاموس المحيط، ج 4، ص 208 (جبن).
3- القاموس المحيط، ج 3، ص 298 (حسك).
4- القاموس المحيط، ج 1، ص 155 (كتب).
5- القاموس المحيط، ج 1، ص 151 (شمت).
6- النساء (4) : 83 .
7- الصحاح، ج 3، ص 1162 (نبط).
8- القاموس المحيط، ج 3، ص 53 (ضبع).
9- القاموس المحيط، ج 2، ص 82 (ظهر).

الجيم : «أنّه صلى الله عليه و آله قال في مرضه: ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلّون بعدي. فقالوا: ما شأنه ؟ أهجر ، أي أهذي ؟ يُقال: هجر يهجر هجرا : إذا هذي ، وأهجر : أفحش»(1) انتهى .

أقول : قد استفاض من نقلة الآثار من العامّة والخاصّة أنّ ابن الخطّاب هو الذي ردّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذلك ونسبه إلى الهذيان ، ولعلّ هذا الفاضل لمّا تفطّن لأنّ هذه الكلمة صريحة في كفر قائلها ، غيّر الاُسلوب وأبهم القائل فرارا من الافتضاح ، ولم يتبيّنه بأنّ من استشمّ رائحة العقل علِمَ أنّ الذي سمّى مثل هذا النصح بالهذيان من هو ، ولأيّ غرض أقدم على هذا ، وفي المثل السائر : إذا وضع البيطار مكواته في النار تفطّن البغل الشموس ؛ لأنّ المقصود كيّه .

وممّا يشهد ما قلناه من أنّ القائل هو ذاك ما قال فاضلهم ومتتبّعهم ابن الأثير في النهاية حيث فسّر الهجر أوّلاً بالهذيان والفحش والتخليط ، ثمّ قال :

ومنه حديث مرض النبيّ صلى الله عليه و آله ، قال : ما شأنه ؟ اهجر ؟ أي اختلط كلامه على سبيل الاستفهام ، أي هل تغيّر كلامه واختلط لأجل ما به من المرض ؟ هذا أحسن ما يقال فيه ، ولا تجعل إخبارا فيكون إمّا من الفحش أو الهذيان ، والقائل كان عمر ولا يظنّ به ذلك(2) . انتهى .

وفي شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة في شرح قوله عليه السلام : «للّه بِلادُ فُلانٍ فلقد قَوَّمَ الأوَدَ» :

روى ابن عبّاس قال : دخلت على عمر في أوّل خلافته ، وقد اُلقي له صاع من تمر على خصفة ، فدعاني إلى الأكل ، فأكلت تمرة واحدة ، فأقبل فأكل حتّى أتى عليه ، ثمّ شرب من جر كان عنده ، واستلقى على مرفقة له ، وطفق يحمد اللّه ، يكرّر ذلك .

ثمّ قال : من أين جئت يا عبد اللّه؟ قلت: من المسجد ، قال : كيف خلّفت ابن عمّك ؟ فظننته يعني عبد اللّه بن جعفر ، قلت : خلّفته يلعب مع أترابه ، قال : لم أعن ذلك ، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت . قلت : خلّفته يمسح بالغرب على نخيلات من فلانر.

ص: 575


1- الفائق في غريب الحديث، ص 391.
2- النهاية، ج 5، ص 246 (هجر) مع تلخيص و اختلاف يسير.

وفلان ، ويقرأ القرآن .

قال : يا عبد اللّه عليك دماء البدن إن كتمتنيها ، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم . قال : أيزعم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نصّ عليه ؟ قلت : نعم ، وأزيدك : سألت أبي عمّا يدّعيه فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان من رسول اللّه من أمره ذرو من قول لا يثبت حجّة ولا يقطع عذرا ، ولقد كان يربع من أمره وقتا ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه ، فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الإسلام ، لا وربّ هذه الِبينة لا يجتمع عليه قريش أبدا ، ولو ولاّها لانتقضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول اللّه أنّي علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى اللّه إلاّ إمضاء ما حتم .

ذكر ذلك الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب تاريخ بغداد في كتابه مسندا(1) .

انتهى ما نقلناه من الشرح المذكور ، فتدبّر واعتبر .

ونقل الزمخشري في الفائق في الواومع الثاء أنّ أبا بكر قال لهذيل بن شرحيل وقد اعترض عليه بقوله : أبو بكر يتوثّب على وصيّ رسول اللّه : «ودّ أبو بكر أنّه وجد عهدا من رسول اللّه ، وأنّه خزّم أنفه بخزامة» وبعد نقل هذا قال :

يقال : توثّب عليه في كذا : إذا استولى عليه ظلما ، أي لو كان عليّ موصى له بالخلافة ومعهودا إليه فيها ، لكان في أبي بكر وازع يزعه من دينه وتقدّمه في الإسلام ، وطاعة أمر اللّه ورسوله أن يغتصبه حقّه ، ويودّ أبو بكر لو ظفر بوصيّة وعهدٍ من رسول اللّه ، وأن يكون هو أوّلَ من ينقاد للمعهود إليه ، ويسلس قيادة له ، ولا يألو في اتّباعه إيّاه ، ويكون في ذلك كالجمل الذلول في خزامته(2) . انتهى كلام الزمخشري .

وفي هذا النقل عبرة لمن كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد .

قوله : ([ما تروون من فَضْلنا] إلاّ ألفا غيرَ معطوفةٍ) . [ح 9 / 774]

أي شطرا من واحد ؛ لأنّ الألف الذي هو واحد بحساب الجُمَّل يكتب بالخطّ الكوفي معطوف العجز هكذا «L» ، وهكذا قال صاحب الوافي(3) والفاضل المجلسي(4) .0.

ص: 576


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 12، ص 20.
2- الفائق في غريب الحديث، ص 345 و 346.
3- راجع: الوافي، ج 2، ص 324.
4- راجع: مرآة العقول، ج 3، ص 290.

باب الإشارة والنصّ على الحسن بن عليّ

باب الإشارة والنصّ على الحسن بن عليّ عليهماالسلام

قوله : (شَهِدْتُ وصيّةَ أمير المؤمنين) . [ح 1 / 775]

قال الشيخ الجليل النبيل أبو عليّ الطبرسي - قدّس اللّه روحه ونوّر ضريحه - في كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى في الفصل الذي عقده للدلالة على إمامة الإمام الحسن بن عليّ عليهماالسلام :

لنا من ذلك طرق :

أحدها : أن نقول : ثبت وجوب الإمامة في كلّ زمان من جهة العقل ، وأنّ الإمام لابدّ أن يكون معصوما منصوصا عليه ، وعلمنا أنّ الحقّ لا يخرج عن اُمّة محمّد صلى الله عليه و آله ، فإذا ثبت ذلك سبرنا أقوال الاُمّة بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام ، فقائل يقول : لا إمام ، وقوله باطل ؛ لما ثبت من وجوب الإمامة . وقائل يقول بإمامة من ليس بمعصوم ، وقوله باطل ؛ لما ثبت من وجوب العصمة . وقائل يقول بإمامة الحسن ويقول بعصمته ، فيجب القول بصحّة قوله ، وإلاّ أدّى ذلك إلى خروج الحقّ عن أقوال الاُمّة .

وثانيها : أن نستدلّ بتواتر الشيعة ونقلها خلفا عن سلف أنّ أمير المؤمنين عليه السلام نصّ على ابنه الحسن بحضرة شيعته ، واستخلفه عليهم بصريح القول ، ولا فرق بين من ادّعى عليهم الكذب فيما تواتر به ، وبين من ادّعى على الاُمّة الكذب فيما تواترت من معجزات النبيّ صلى الله عليه و آله ، وادّعى على الشيعة الكذب فيما تواتر به من النصّ على أمير المؤمنين عليه السلام .

وثالثها : أنّه قد اشتهر في الناس وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحسن خاصّة من بين ولده وأهل بيته ، والوصيّة في الإمام توجب الاستخلاف للموصى إليه على ما جرت به عادة الأنبياء والأئمّة في أوصيائهم ، لا سيّما والوصيّة علَمٌ عند آل محمّد عليهم السلام كافّة إذا انفرد بها واحد بعينه على استخلافه ، و إشارة إلى إمامته ، و تنبيه على فرض طاعته ، و إجماع آل محمّد عليهم السلام حجّة .

ورابعها : أن نستدلّ بالأخبار الواردة فيما ذكرنا، فمن ذلك ما رواه إبراهيم بن عمر اليماني عن سليمان بن قيس الهلالي ، قال : شهدت أمير المؤمنين عليه السلام حين أوصى إلى

ص: 577

ابنه الحسن ، وأشهد على وصيّته الحسين ومحمّدا و جميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ثمّ دفع إليه الكتاب والسلاح وقال : «يا بُنيَّ أمرني رسول اللّه عليه السلام أن اُوصي إليك ، وأدفع إليك كتبي وسلاحي كما اُوصى إليّ ، ودفع إليّ كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين» . ثمّ أقبل على ابنه الحسين ، فقال : «وأمرك رسول اللّه أن تدفعها إلى ابنك هذا» - وأخذ بيد عليّ بن الحسين - «وأمرك رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن تدفعها إلى ابنك محمّد بن عليّ ، فاقرأه من رسول اللّه ومنّي السلام»(1) .

وعن جابر ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام مثل ذلك سواءً .

وعن أبي جعفر عليه السلام قال : «إنّ أمير المؤمنين لمّا حضره الوفاة قال لابنه الحسن : اُدنُ منّي حتّى اُسرّ إليك ما أسرّ إليّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأئمنك على ما ائمنني عليه»(2) .

وبإسناده رفعه إلى شهر بن حوشب أنّ عليّا عليه السلام لمّا سار إلى الكوفة استودع اُمّ سلمة - رضي اللّه عنها - كتبه والوصيّة ، فلمّا رجع الحسن دفعتها إليه(3) .

وخامسها : أنّا وجدنا الحسن بن عليّ عليهماالسلام قد دعا إلى نفسه وادّعى الأمر بعد أبيه ، وبايعه الناس على أنّه الخليفة والإمام . فقد روى جماعة أهل التاريخ أنّه عليه السلام خطب صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين عليه السلام ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلّى على النبيّ ، ثمّ قال : «لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون ، ولا يدركه الآخِرون ، لقد كان يجاهد مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيقيه بنفسه ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوجّهه برايته ، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن شماله ، فلا يرجع حتّى يفتح اللّه تعالى على يديه ، ولقد توفّي عليه السلام في الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم ، وفيها قبض يوشع بن نون ، ولا خلّف بيضاء ولا صفراء إلاّ سبعمائة درهم فضلت عن عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله»(4) .

ثمّ خنقته العبرة ، فبكى وبكى الناس ، ثمّ قال : «أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى اللّه بإذنه ، أنا ابن السراج المنير ، أنا ابن من أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم2.

ص: 578


1- راجع: الكافى، ج 1، ص 297، ح 1؛ الفقيه، ج 4، ص 189، ح 5433؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 176، ح 4.
2- الكافى، ج 1، ص 298، ح 2.
3- الكافي، ج 1، ص 298، ح 3؛ إعلام الورى، ص 208؛ كشف الغمّة، ج 1، ص 532.
4- الكافى، ج 1، ص 457، ح 8 ؛ الخرائج، ج 2، ص 888؛ كشف الغمّة، ج 1، ص 532.

تطهيراً ، أنا من أهل بيتٍ افترض مودّتهم في كتابه ، فقال : «قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنا»(1) فالحسنة مودّتنا أهل البيت» .

ثمّ جلس ، فقام عبد اللّه بن عبّاس بين يديه ، فقال : معاشر الناس ، هذا ابن نبيّكم ووصيّ إمامكم فبايعوه، فتبادر الناس إلى البيعة بالخلافة . فلابدّ أن يكون محقّا في دعوته ، مستحقّا للإمامة مع شهادة النبيّ صلى الله عليه و آله له ولأخيه بالإمامة والسيادة في قوله : «ابناي هذان إمامان ، قاما أو قعدا» ، وقوله : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» ، وشهادة القرآن بعصمتهما في قوله تعالى : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه ُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا»(2) على ما تقدّم القول فيه .(3)

وسادسها : أن يستدلّ على إمامته بما أظهر اللّه على يديه من العلم المعجز ، ومن جملته حديث حبابة الوالبيّة .(4)

انتهى ما أردنا نقله من كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى .

قوله : (ثمّ قال : الحمد للّه) إلى آخره .] ح 6 / 780]

بعض أجزاء هذا الحديث مذكور في نهج البلاغة في باب المختار من خطبه عليه السلام ، وعُنْوِن بأنّه «و من كلامه عليه السلام قبل موته» وهو من قوله عليه السلام : «أيّها الناس» إلى قوله : «قيام غيري مقامي»(5). والظاهر أنّ ما في الكافي بدل قوله : «قيام غيري مقامي» تصحيف من النسّاخ .

وبعضٌ آخر في باب المختار من كتبه ، و عنوانه : «ومن كلامه لمّا ضربه ابن ملجم» وهو من قوله : «أمّا وصيّتي» إلى قوله : «أن يغفر اللّه لكم» وأنا اُبيّن مواضع اختلاف بين ما في الكافي وموضعَي النهج ؛ ففي موضعي النهج بدون «إليه» بعد «مساق النفس» فعلى ذلك فالمساق اسم مكان كالمرجع والمآل ، وعلى ما في الكافي مصدر ميميّ. ويراد .

ص: 579


1- الشورى (42) : 23 .
2- الأحزاب (33) : 33 .
3- الإرشاد ، ج 2 ، ص 7 - 8 ؛ إعلام الورى ، ص 208 - 209 ؛ كشف الغمّة ، ج 1 ، ص 532 .
4- إعلام الورى، ص 207 - 209، مع اختلاف يسير.
5- راجع : نهج البلاغة ، ص 207 ، الخطبة 149 .

بالأجل ما اُريد في قوله تعالى : «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ»(1) .

وفي باب الخطب من النهج: «أمّا وصيّتي فاللّه لا تشركوا به شيئا» .(2)

وفي باب الكتب : «وصيّتي لكم أن لا تشركوا باللّه شيئا»(3) وفي كلا الموضعين: «ومحمّد» بالرفع .

وقوله عليه السلام : «وخلاكم ذمّ» . كذا في موضعي النهج أيضا ، إلاّ أنّ الموضع الثاني خالٍ عن «ما لم تَشْرُدوا» .

وفي نهاية ابن الأثير : «وفي حديث علي : وخلاكم ذمّ ما لم تشردوا. يقال : افعل ذلك و خلاك ذمّ ، أي اُعذرتَ وسقط عنك الذمّ» .(4)

وفي الصحاح : «قولهم : افعل كذا وخلاك ذمّ ، أي اُعذرتَ وسقط عنك الذمّ» .(5)

وقال الفاضل البحراني : «خلاكم ذمّ : مَثَل يضرب لمن تبرّأ من العيب» .

وقوله عليه السلام : (حُمِّلَ كلّ امرى ءٍ مجهودة) إلى قوله : (الجَهلَة) [ح 6 / 780] إشارة إلى تفاوت التكليف بذلك . و قوله عليه السلام : «كلّ امرء منكم» في نهج البلاغة وأكثر نسخ الكافي بدون «منكم» و لعلّه الأصوب . والكلام إشارة إلى قوله تعالى : «إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيْكُمْ»(6) .

وقوله : (فذاك المرادُ) [ح 6 / 780] في النهج بدون «المراد» وهو الأصحّ .

وقد ورد في نهج البلاغة : «واللّه إنّ ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه» .

و في ذيل ما في الموضع الثاني من النهج : «واللّه ما فجئتني من الموت وارد كرهته ، ولا طالع أنكرته ، وما كنت إلاّ كقارب ورد ، وطالب وجد ، وما عند اللّه خيرٌ للأبرار» .

وقال الفاضل البحراني : «شبّه نفسه في شدّة طلبه للقاء اللّه بالقارب، وهو طالب الماء» .

أقول : في القاموس : «القارب : طالب الماء ليلاً»(7) .).

ص: 580


1- الأعراف (17) : 34 .
2- نهج البلاغة، ص 207، الخطبة 149.
3- نهج البلاغة، ص 378، الرسالة 23.
4- راجع: النهاية، ج 2، ص 76 (خلو).
5- الصحاح، ج 6 ، ص 2331 (خلو).
6- الجمعة (62) : 8 .
7- راجع: القاموس المحيط، ج 1، ص 114 (قرب).

قال الشارح الفاضل في شرح ما في الموضع الأوّل من النهج : «أطردت الأيّام» : «جعلتها طريدة لي» .

وفي القاموس : «الطريدة : ما طردت من الصيد أو غيره»(1) .

أقول : الظاهر رفع «الأيّام» على أنّها فاعل «اطّردت» .

في القاموس : «اطرّد الأمر : تبع بعضه بعضا»(2) .

و هذا الأمر - على ما قاله الفاضل - قتله عليه السلام .

والظاهر أنّ المكنون سرّ قضائه الذي علمه مخزون عند اللّه ، أبى اللّه أن يطلعه على أحد كيفيّة القتل ، كأنّه أشار به إلى أمر ، وبمكنونه إلى سرّ عدم استقامتها كما ينبغي .

وفي الوافي : «هذا الأمر الخلافة»(3) .

وعرضه عليه السلام بقوله : ابحثها ، أي جعلتها طرف تفكّري إظهار الاعتراف بالعجز .

وقوله : (في ذَرَى رِياحٍ) [ح 6 / 780] في النهج : «ومهابّ رياح» وكلاهما بمعنى ؛ لأنّ إضافة الذرى جمع ذروة - وهي أعلى الجبل - إلى الرياح بملابسة كثرة هبوبها هناك في الأغلب .

قوله : (تحت ظلّ غَمامةٍ) . [ح 6 / 780]

في القاموس :

الغمامة : السحابة البيضاء ، والجمع : غمام . ومحطّ الغمام في الأرض : الموضع الذي يقع عليه ظلّها وعفاه : زوال امتيازه عن سائر المواضع بزوال ظلّ الغمام(4) .

و«المتلفّق» - على صيغة اسم الفاعل - أي المتلاحق .

في القاموس : «تلفّق به: لحقه . وتلافقوا : تلاءمت اُمورهم»(5) .

[قوله] : (وعفى في الأرض مَحَطُّها) [ح 6 / 780] أي انمحى ظلّها الذي وقعت على الأرض . ).

ص: 581


1- القاموس المحيط، ج 1، ص 310 (طرد).
2- المصدر.
3- راجع : الوافي ، ج 2 ، ص 334 .
4- راجع: القاموس المحيط، ج 4، ص 157 (غمم).
5- القاموس المحيط، ج 3، ص 281 (لفق).

في الصحاح : «عفت الريح المنزل : درسته . وعفى يعفو : درس ، يتعدّى ولا يتعدّى»(1) . وفيه أيضا : «المحطّ : المنزل»(2) .

وقوله : (فإنّه أوعَظُ لكم من الناطقِ البَليغِ) . [ح 6 / 780]

في النهج : «فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ والقول المسموع» .

وقوله : (والعفو لي). [ح 6 / 780]

في بعض النسخ : «وإن أعفُ فالعفو لي قربة»(3) . وكذا في النهج .

وقوله : (ولكم حَسَنَةٌ). [ح 6 / 780]

لعلّ المراد أنّ فعل الخير منّي لمحض التقرّب إلى اللّه تعالى ، لا لطمع الثواب وخوف العقاب ، بخلاف فعلكم ؛ فإنّه إمّا فعل التجّار و [إمّا فعل [الأجير ، فثمرة العفو لي القربة ولكم الحسنة .

[قوله] : (أن يغفر اللّه لكم) . [ح 6 / 780]

في النهج في الموضع الثاني بعد هذه الفقرة : «واللّه ما فجأني من الموت وارد كرهْتُه ، ولا طالع أنكرته ، وما كنتُ إلاّ كقاربٍ وَرَدَ ، وطالبٍ وَجَدَ ، وما عند اللّه خيرٌ للأبرار» انتهى كلامه صلوات اللّه عليه وسلامه .

وأمّا ما في الكتاب في قوله : «فياحسرة» إلى آخره فليس في النهج في شيء من الموضعين .

قوله : (كما انتسب) . [ح 6 / 780]

قد سبق في كتاب التوحيد أنّ اليهود قالوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله : انسب لنا ربّك، فنزل سورة التوحيد .

قوله : (ومحمّدا صلى الله عليه و آله فلا تُضَيِّعوا سنَّتَه) . [ح 6 / 780]

من باب «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ»(4) في دخول الفاء . في الكشّاف : «دخلت الفاء .

ص: 582


1- الصحاح، ج 6 ، ص 2432 (عفا).
2- الصحاح، ج 3، ص 1119 (حطط).
3- و هكذا في الكافي المطبوع.
4- المدّثّر (74) : 3 - 4 .

لمعنى الشرط كأنّه قيل : و ما كان من شيء فلا تدع تكبيره»(1) .

قوله : (وخُفُوتُ إطراقي) . [ح 6 / 780]

في الصحاح : «خفت الصوت خفوتا [: سكن] . ولهذا قيل للميّت : خفت ، إذا انقطع كلامه» .(2)

وفيه أيضا : «قولهم : ما به طِرْق بالكسر ، أي قوّة . وأصل الطرق : الشحم ؛ كنّى به عنها لأنّها أكثر ما يكون فيه»(3) .

قوله : (ممّن لا يَقُصُر به عن طاعة اللّه) . [ح 6 / 780]

في الصحاح : «قصرت عن الشيء قصورا : أعجزت عنه ولم أبلغه» .(4)

والباء للتعدية ، والمعنى : ممّن لا يعجزه عن طاعة اللّه رغبة في الدنيا وزخارفها .

قوله : (ليعظكم هُدُوّي) . [ح 6 / 780]

إمّا بفتح اللام على أنّها موطّئة ، أو كسرها ، ونصب الظاء بأن المقدّرة واللام متعلّقة «بتعقبون» ، أو بسكون الظاء على الأمر .

قوله : (إذا أنا مِتّ) . [ح 7 / 781]

في القاموس : «مات يمات ويموت ويَميت»(5) .

قوله : (واحفِرْ له في الكُناسة) . [ح 7 / 781]

الكناسة - بالضم - : اسم موضع بالكوفة .

قوله : (موضع الشُّوَّاء والرُّؤّاس) . [ح 7 / 781]

في الصحاح : «يقال لبائع الرؤوس : رءّاس ، والعامّة تقولون : روّاس»(6) .

وفي القاموس : رءّاس ككتّان : بائع الرؤوس . والرآسي لحن»(7) .).

ص: 583


1- الكشّاف، ج 4، ص 180.
2- الصحاح، ج 1، ص 248 (خفت).
3- الصحاح، ج 4، ص 1514 (طرق).
4- الصحاح، ج 2، ص 794 (قصر).
5- القاموس المحيط، ج 1، ص 158 (مات).
6- الصحاح، ج 3، ص 932 (رأس).
7- القاموس المحيط، ج 2، ص 218 (رأس).

باب الإشارة و النصّ على الحسين بن عليّ

[باب الإشارة و النصّ على الحسين بن عليّ عليه السلام ]

قوله : (فلمّا قبض عليه السلام وضع على السرير ثمّ انطَلَقوا به)(1) . [ح 1 / 782]

وفي بعض النسخ : «فلمّا قبض عليه السلام ووضع على السرير انطلقوا به» .

قوله : (ذو العُوَيْنَيْنِ) . [ح 1 / 782]

في الصحاح : «العين : حاسّة الرؤية . وتصغيرها : عيينة ، ومنه قيل للجاسوس : ذو العُيَيْنَتَيْنِ ، ولا تقل : ذو العُوَيْنَتَيْنِ»(2) .

قوله : (من غير آل محمّد) . [ح 2 / 783]

هكذا في النسخ التي رأيناها ، والشيخ الطبرسي قدس سره أورد هذا الحديث في كتاب إعلام الورى في الباب الثامن من الركن الثالث نقلاً عن الكليني رحمه الله وذكر مكان «غير» : «من عترة»(3) . فتبصّر .

قوله : (كالكتاب المعجَم في الرَّقِّ المُنَمْنَمِ) . [ح 2 / 783]

في الأساس : «كتاب فلان اُعجم : إذا لم يُفهم ما كتب فيه»(4) .

وفي الصحاح : «الرَّقّ - بالفتح - : ما يكتب فيه ، وهو جلد رقيق»(5) .

وفي القاموس : «نمنمه : زخرفه ونقشه»(6) .

باب الإشارة والنصّ على عليّ بن الحسين

باب الإشارة والنصّ على عليّ بن الحسين عليهماالسلام

قال الشيخ الجليل عماد الإسلام الشيخ أبو جعفر محمّد بن بابويه في كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة :

من أوضح الأدلّة على الإمامة أنّ اللّه - عزَّ وجلَّ - جعل آية النبيّ أنّه أتى بقصص الأنبياء

ص: 584


1- في الكافي المطبوع: «فلمّا قبض الحسن عليه السلام و وُضِعَ على السرير ثمّ انطلقوا به...».
2- الصحاح، ج 6 ، ص 2170 (عين).
3- إعلام الورى، ص 216، و فيه كما في الكافي.
4- أساس البلاغة ، ص 410 (عجم).
5- الصحاح، ج 4، ص 1483 (رقق).
6- القاموس المحيط، ج 4، ص 183 (نمم).

الماضين عليهم السلام ، وبكلّ علم التوراة والإنجيل والزبور ، من غير أن يكون يعلم الكتابة ظاهرا ، أو لقي نصرانيّا أو يهوديّا ، فكان ذلك أعظم آياته ، وقتل الحسين بن عليّ عليهماالسلام وخلّف عليّ بن الحسين عليه السلام متقارب السنّ ، وكان سنّه أقلّ من عشرين سنة ، ثمّ انقبض عن الناس ، ولم يلق أحدا ، و لا كان يلقاه إلاّ خواصّ أصحابه ، وكان في نهاية العبادة ، فلم يخرج منه من العلم إلاّ يسير ؛ لصعوبة الزمان ، وجور بني اُميّة .

ثمّ ظهر ابنه محمّد بن عليّ المسمّى بالباقر لفتقه العلم ، وأتى من علوم الدين والكتاب والسنّة والسير والمغازي بأمر عظيم ، وأتى جعفر بن محمّد - صلوات اللّه عليه - من بعده من ذلك بما كثر وانتشر ، فلم يبق فنّ من فنون العلم إلاّ أتى فيه بأشياء كثيرة ، وفسّر القرآن والسنن ، ورويت عنه المغازي وأخبارالأنبياء من غير أن يُرى هو وأبوه محمّد بن عليّ أو عليّ بن الحسين عليهم السلام عند أحد من رُواة العامّة ، بل فقهائهم ، ربما كانوا(1) يتعلّمون منهم عليهم السلام . وفي ذلك أدلّ دليل على أنّهم إنّما أخذوا ذلك العلم عن النبيّ صلى الله عليه و آله ثمّ عن عليّ عليه السلام ، ثمّ عن واحد واحد من الأئمّة عليهم السلام ، وكذلك سائر جماعة الأئمّة عليهم السلام هذه سبيلهم في العلم ، يسألون عن الحلال والحرام ، فيُجيبون أجوبة متّفقة من غير أن يتعلّموا ذلك من أحد من الناس ، فأيّ دليل أدلّ من هذا على إمامتهم ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله نصبهم وعلّمهم وأودعهم علمه وعلوم الأنبياء عليهم السلام ؟ وهل رأينا في العادات من ظهر عنه مثل ما ظهر عن محمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد من غير أن يتعلّموا ذلك من أحد من الناس ؟

فإن قال قائل : لعلّهم كانوا يتعلّمون سرّا .

قيل له : قد قال مثل ذلك الدهريّة في النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه كان يتعلّم الكتاب ويقرؤه سرّا ، وكيف يجوز أن يظنّ ذلك في محمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد عليهم السلام ، وأكثر ما أتوا به لا يُعرف إلاّ منهم ولا يُسمع من غيرهم(2) . انتهى .

وقال الطبرسي قدّس اللّه روحه في كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى في الركن الثالث من الفصل الذي عقده للدلالة على إمامة زين العابدين عليه السلام قريبا ممّا ذكره الصدوق - طاب ثراه - أجببنا إيراده ؛ لأنّه هو المسك ما كرّرته يتضوّع .0.

ص: 585


1- في المصدر: - «ربما كانوا».
2- كمال الدين، ج 1، ص 90.

قال قدس سره :

المعوّل عليه في تصحيح إمامة أكثر أئمّتنا عليهم السلام النظر والاعتبار ، دون تواتر الأخبار ؛ لأنّهم عليهم السلام كانوا في زمان الخوف وشدّة التقيّة والاضطرار ، ولم يتمكّن شيعتهم من ذكر فضائلهم التي تقتضي إمامتهم ، فضلاً عن ذكر ما يُوجب فرض طاعتهم ، ويبيّن عن تقدّمهم على جميع الخلائق(1) .

وقال في الركن الرابع من الفصل الذي عقده لذكر جمل من الدلائل على إمامة الأئمّة عليهم السلام ، وقد حكينا بعضها في باب الاُمور التي توجب حجّة الإمام :

أحد الدلائل على إمامتهم عليهم السلام ما ظهر منهم من العلوم التي تفرّقت في فرق العالم ، فحصل في كلّ فرقة فنّ منها ، واجتمعت فنونها وسائر أنواعها في آل محمّد عليهم السلام ؛ ألاترى إلى ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في أبواب التوحيد ، والكلام الباهر المفيد من الخطب و علوم الدين و أحكام الشريعه و تفسير القرآن و غير ذلك ما زاد على كلام جميع الخطباء والبلغاء والفصحاء ، حتّى أخذ عنه المتكلّمون والفقهاء والمفسِّرون ، ونقل أهل العربيّة عنه اُصول الإعراب ومعاني اللغات ، وقال في الطبّ ما استفاد منه الأطبّاء ، وفي الحكمة والوصيّة والآداب ما أربى على كلام جميع الحكماء ، وفي النجوم وعلم الآثار ما استفاده جميع أهل الملل والآراء .

ثمّ قد نقلت الطوائف عمّن ذكرنا من عترته وأبنائه عليهم السلام مثل ذلك من العلوم في جميع الأنحاء ، ولم يختلف في فضلهم وعلوّ درجتهم من أهل العلم اثنان ؛ فقد روي عن الباقر والصادق عليهماالسلام لمّا تمكّنا من الإظهار وزالت عنهم التقيّة التي كانت على سيّد العابدين عليه السلام من الفتاوى في الحلال والحرام والمسائل والأحكام ، وروي عنهما من علوم الكلام وتفسير القرآن وقصص الأنبياء والمغازي والسير وأخبار العرب وملوك الاُمم ما سمّي أبو جعفر عليه السلام لأجله «باقر العلوم» .

وروى عن الصادق عليه السلام في أبوابه من مشهوري أهل العلم أربعة ألف إنسان ، وصنّف من جوابه في المسائل أربعمائة كتاب هي معروفة بكتب الاُصول رواها أصحابه ، وأصحاب أبيه من قبله ، وأصحاب ابنه أبي الحسن موسى عليه السلام ، ولم يبق فنّ من فنون7.

ص: 586


1- إعلام الورى، ص 257.

العلم إلاّ روي عنه عليه السلام فيه أبواب ، وكذلك كانت حال ابنه موسى عليه السلام من بعده في إظهار العلوم إلى أن حبسه الرشيد ومنعه من ذلك .

وقد انتشر أيضا عن الرضا وابنه أبي جعفر عليه السلام من ذلك ما شهرة جملته يغني عن تفصيله ، وكذلك كان سبيل أبي الحسن وأبي محمّد العسكرييّن عليهماالسلام ، وإنّما كانت الرواية عنهما أقلّ لأنّهما كانا محبوسين في عسكر السلطان ، ممنوعين من الانبساط في الفتيا ، وأن يلقاهما كلّ أحد من الناس .

وإذا ثبت بما ذكرنا بينونة أئمّتنا عليهم السلام بما وصفنا عن جميع الأنام - ولا يمكن أحد أن يدّعي أنّهم أخذوا العلم عن رجال العامّة ، أو تلقّوه من رواتهم وفقهائهم ؛ لأنّهم لم يُروا قطّ مختلفين إلى أحدٍ من العلماء في تعلّم شيء من العلوم ؛ لأنّ ما اُثر عنهم من العلوم فإنّ أكثره لم يُعرف إلاّ منهم ، ولم يظهر إلاّ عنهم ، وعلمنا أنّ هذه العلوم بأسرها قد انتشرت عنهم مع غناهم عن سائر الناس ، وتيقّنا زيادتهم في ذلك على كافّتهم ، ونقصان جميع العلماء عن رتبتهم - ثبت أنّهم أخذوها عن النبيّ صلى الله عليه و آله خاصّة ، وأنّه قد أفردهم بها ليدلّ على إمامتهم بافتقار الناس إليهم فيما يحتاجون إليه وغناهم عنهم ، وليكونوا مفزعا لاُمّته في الدين ، وملجأً لهم في الأحكام ، وجروا في هذا التخصيص مجرى النبيّ صلى الله عليه و آله في تخصيص اللّه له بإعلامه أحوال الاُمم السالفة ، وإفهامه ما في الكتب المتقدّمة من غير أن يقرأ كتابا ، أو يلقى أحدا من أهله .

هذا ؛ وقد ثبت في الاُصول أنّ الأعلم الأفضل أولى بالإمامة من المفضول ، وقد بيّن اللّه ذلك بقوله : «أَفَمَنْ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّى إِلاَّ أَنْ يُهْدَى»(1) ؛ وقوله : «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ»(2) .

ودلّ بقوله سبحانه في قضيّة طالوت : «وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ»(3) أنّ التقدّم في العلم والشجاعة موجب للتقدّم في الرياسة ، ولقد كان أئمّتنا عليهم السلام أعلم الاُمّة بما ذكرناه ، فقد ثبت أنّهم أئمّة الإسلام الذين استحقّوا الرياسة على الأنام على ما قلناه(4) . انتهى .1.

ص: 587


1- يونس (10) : 35 .
2- الزمر (39) : 9 .
3- البقرة (2) : 247 .
4- إعلام الورى، ص 409 - 411.

وأنا أقول مقتفيا أثرهما مثلّثا لهما وثالثهما كلبهما :

أمّا إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وابنيه الحسن والحسين عليهماالسلام فقد كفانا مؤونة إثباتهما اشتهارُ محامدهم وفضائلهم ، وما فعل سامريّ هذه الاُمّة من نصب العجل الخبيث يوم السقيفة ، وتظاهر جمع من العجليّين على استضعاف من هو من الرسول بمنزلة هارون من موسى ، ولقد قلت في مرثيتي للحسين عليه السلام نظما ونثرا .

(نثر) : اُنظر كيف ثار بهم النفاق حتّى ذهبوا لطلب المأمول ، والرسول مضطجع على الفراش غير مدفون ولا مغسول ، سبحان اللّه ما أجرأ السارقين ، حيث خرجوا قبل استتار القرص من الكمين .

(نظم) :

مضوا وطغا ما ابتعوهم ليخرجوا *** لهم عجلاً كالسامريّ الذي مضى

خطأت لعمري حيث شبّهتهم به *** وقانون أرباب البيان يعكس ذا

إذا قست أمر السامري بأمرهم *** وجدت إذن سرّ الذي قلت قد بدا

(نثر) : إنّ السامري صبر على الدين ثلاثين يوما بعد غيبة موسى ورجاله ، وأصحاب السقيفة لم يصبروا يوما واحدا بعد رحلة المصطفى صلى الله عليه و آله ،لم يتولّد من بدعة السامري بدعة أو ظلم قطّ ، ونتائج بدعة أصحاب السقيفة كولد إبليس لا تحاط ولا تضبط . وبالجملة : ظهور الأحوال بحيث لم يبق للشبهة مجال .

(شعر) :

شجو حسّادهم وغيظ عداهم *** أن يرى مبصر ويسمع واع

ولم ينازعهم إلاّ جمع من المتصنّعين بالإسلام ، المنقلبين على أعقابهم الذين افتضحوا بقبائح أفعالهم بين جميع الأنام ، وصاروا موضع الطعن ومواقع اللعن إلى يوم القيامة ، فنحن مستغنون بحمد اللّه عن إثبات بطلانهم ، وتحقيق مستحقّي الإمامة في أزمانهم ، ولشدّة ظهور الأمر استقرّ رأيي على أنّ مُظهري الاعتقاد باُولئك الكفرة الفجرة - إذا كانوا من أرباب الفحص والبحث والاطّلاع بأحوال الصحابة والتابعين - فإمّا جاحدوا الحقّ عمدا لخبث طينتهم التي هي من طينة طواغيتهم ، أو مستعملوا

ص: 588

التقيّة خوفا من سلاطين أزمانهم والعوامّ المقلّدة . ويظنّ ذلك بأكثر فضلاء أهل السنّة الذين آثار الحذق والفطانة لائحة من مصنّفاتهم .

ولا تقل : إنّهم ذكروا في كتبهم ما لا يدعو له التقيّة ؛ لأنّ لها أسبابا خفيّة : منها أن يسجلُوا عند السلاطين وغيرهم من المتعصّبين على تسنّنهم ورفع تهمة التقيّة عنهم .

وإنّما حصرنا في هذين الصنفين؛ لأنّ الاشتباه ممّا لا مجال فيه بعد حصول أدني تتبّع لأحوال السلف .

نعم ، زمان سيّد الساجدين عليه السلام مظانّ تطرّق الشبهة؛ لأنّه كان معاصرا لمحمّد بن الحنفيّة رضى الله عنه و هو ذو جلالة الشأن ، و أكبر ولد أميرالمؤمنين عليه السلام - ولزيد بن الحسن وأخيه الحسن بن الحسن ، وهما أيضا ممّن للشبهة في أمرهم مجال ، ونفي صلاحيّتهم للإمامة يحتاج إلى دليل ، فاحتيج إذن في تحقيق المستحقّ والتمييز بين المبطل والمحقّ إلى نظر واعتبار ، فنظرنا فإذا عليّ بن الحسين عليهماالسلام قد ظهر منه آثار توجب القطع بأنّه هو الوارث للعُلوم النبويّة ، والعلم من أوضح العلامة للأولى بالإمامة ؛ إذ به احتجّ اللّه تعالى على الملائكة حين ظنّوا الأولويّة بالخلافة ، وقالوا : «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ»(1)البقرة (2) : 247 .(2) وذلك لأنّ مرجع الجواب إلى أنّ جوهر آدم هو القابل لتعلّم الأسماء بلا توسّطٍ ، بخلاف الملائكة ، وكذلك بالعلم احتجّ نبيّ من الأنبياء على قومه حيث [قال :] «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّه َ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُوءْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّه َ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ»(2) ، وكان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : «واعجبا أترون أنّ اللّه سبحانه زاد ابن أبي سفيان على بسطة في العلم والجسم ؟» نقله الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج(3) ؛ هذا.

وأمّا الآثار فمن أبينها وأشهرها - الذي لا يستطيع أحد من المخالف والمؤالفر.

ص: 589


1- البقرة
2- : 30 .
3- الاحتجاج، ج 1، ص 173؛ الارشاد، ج 1، ص 263، مع اختلاف يسير.

إنكاره - خلفه وخليفته محمّد الباقر عليه السلام الذي اتّفق الأولياء والأعداء على عِظَم قدره وجلالته وتبحّره في العلوم الدينيّة والمعارف اليقينيّة ، وكان علماء جميع الفرق يختلفون إليه ، ويعرضون مشكلاتهم عليه ، ويستفيدون منه أجوبة شافية ، كما هو مسطور في كتب السير ، وقد صرّح أرباب اللغة بأنّ تلقيبه عليه السلام بالباقر لأجل اتّساعه في العلم :

قال الجوهري: «التبقّر : التوسّع في العلم والمال ، وكان يقال لمحمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب : الباقر ؛ لتبقّره في العلم»(1) . انتهى .

وقال الزمخشري في الأساس : «تبقّر في العلم والمال: توسّع، وهو باقر بقر عن العلوم».(2)

وقال صاحب القاموس : «الباقر محمّد بن عليّ بن الحسين رضى الله عنه ، لتبحّره في العلوم»(3) .

وهذا الوجه ورد في الأخبار أيضا؛ ففي كتاب معاني الأخبار للصدوق رضى الله عنه في باب معاني أسماء الأئمّة عليهم السلام عن الصادق عليه السلام أنّه قال : «سُمّي الباقر عليه السلام باقرا ؛ لأنّه بقر العلم بقرا ، أي شقّه شقّا وأظهره إظهارا»(4) .

وقد قلت في قصيدتي للرضا عليه السلام :

يا ابن الذي بقر العلوم وشقّها *** بعد اندراس من بني مروان

فأتى بما شهد البرايا أنّه *** ما كان إلاّ نفحة الرحمن

ولا شكّ أنّه عليه السلام لم يكن تلمّذ عند أحد ، وإلاّ كان يجب أن يشتهر ذلك بين الناس ؛ لتوفّر الدواعي إلى نقل مثل هذا الأمر سيّما في زمن خلفاء بني العبّاس ، الذين ماتوا على تمنّي انكسار قدرتهم عليهم السلام وانحطاط مرتبتهم ، حتّى أنّهم كانوا كثيرا ما يجمعون أصحاب الملل وأرباب المقالات ، ويعدونهم في الخلوات بضروب العطايا والصِّلات على أن يظهروا عليهم عليهم السلام في المناظرة ولو بالمغالطة والمكابرة ، ويحطّونهم في المجالس عن جاههم ، ويطفؤوا و أنوار اللّه بأفواههم ، فلم يتهيّأ لهم ذلك ، بل كان ينقلب عليهم المراد على نحو قضيّة فرعون والسحرة . وذلك لأنّهم كانوا يرون7.

ص: 590


1- الصحاح، ج 2، ص 594.
2- أساس البلاغة ، ص 42 (بقر) .
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 376 (بقر) .
4- معاني الأخبار، ص 64 ، ذيل ح 17.

مناظريهم الموعودين بالبرّ والصلة مبكمين بعد يسير من المناظرة ، مسلّمين لبراهينهم عليهم السلام ، معترفين ببطلان دينهم عاجزين - إذا أوردوا عليهم السلام الاعتراضات - عن الجواب ، مسترشدين منهم عليهم السلام منهج الصدق والصواب ، كما هو مشهور من قصّة عمران الصابي وسليمان المروزي ويحيى بن أكثم وأضرابهم ، وأيّ سبيل كان لهؤلاء الظلمة أقرب إلى المراد من أن يقولوا لهم عليهم السلام : إنّ علومكم التي تستمحون لأجلها، وتدّعون وراثتها عن النبيّ صلى الله عليه و آله مأخوذة من فلان الفقيه ، أو فلان المتكلّم ؛ لأنّ أباكم الذي هو أقدمكم فيها كان تلميذا له لو كان الواقع ذلك ، ولمعري إنّهم ما أعرضوا عن سلوك هذا السبيل القريب إلاّ لعلمهم بتوجّه سهام التكذيب من كلّ بليد و لبيب .

وإذا تقرّر أنّ علم الباقر عليه السلام لم يكن من جهة التلمّذ ، بل كان من جهة الوراثة ، تبيّن كمال علم أبيه عليّ بن الحسين عليهماالسلام ، وبنحو التقريب المذكور علم أنّه ورث عن أبيه عن عمّه عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولم يخرج عن محمّد بن الحنفيّة ولا عن غيره من بني الحسن - رضي اللّه عنهم - ما يظنّ به وراثة العلم ، بل كان الصالح منهم مقلّد الإمامة مستندا إليه في أحكامه ، والطالح منهم موافقا لعلماء العامّة في العمل بالرأي والقياس وسائر وجوه الاستنباطات الظنّيّة والاستحسانات العقليّة ، كما هو مشهور بين فرق الزيديّة حتّى أنّهم لمّا رأوا أبا حنيفة أعلم من أئمّتهم وأعرف بفنّ القياس منهم بنوا بناء العمل بفقهه ، واعترفوا بأنّ أئمّتهم لم يكونوا أصحاب النصّ كأئمّتنا عليهم السلام .

فثبت أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام من بين هؤلاء هو الوارث للعلوم النبويّة ، فكان هو المستحقّ للإمامة والرئاسة على الاُمّة ؛ لما عرفت أنّ مناط الإمامة والخلافة هو العلم ، و إنّى واللّه شاهد عليّ فرضت نفسي قد استبصرت بحقّيّة الإسلام ، وأنا نشأت بين فرقة من فرق الكفر ، فخرجت إلى بلاد المسلمين فوجدت المسلمين مختلفين، ففحصت عن أحوالهم واُصولهم في الاعتقادات والأعمال ، ثمّ حكّمت العقل في اختيار مذهب من تلك المذاهب لأحتجّ بذلك يوم ألقى اللّه عزّوجلّ ، فما حكم عقلي بعد الاطّلاع بحقيقة المذاهب إلاّ بحقّيّة المذهب الفرقة الناجية الاثني عشريّة ، وذلك لأنّي وجدت

ص: 591

العقل يستنكف أشدّ الاستنكاف من أن يقلّد جماعة عقيدتهم أنّ اللّه تعالى فوّض شرائع دينه إلى ظنونهم وآرائهم ، وليس له في الوقائع الحادثة حكم في الواقع ، بل حكمه تابع لرأي المجتهد ، فلمّا استقرّ عليه ظنّه فه2ض ير حكم اللّه وإن كان رأي أحد مخالفا لرأي الآخر ، كما هو قانون التصويب ، أو كان له عليه السلام في كلّ قضيّة حكم ولكن لم يبيّن لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فيكون للمجتهدين مجال يجولون فيه بالتضنّي والتخمين ، فإن أصابوا الواقع فلهم أجران ، وإن أخطأوا فأجر واحد ، كما هو قاعدة التخطئة ، ويحكمون بما استقرّ عليه آراؤهم على دماء المسلمين وأموالهم وفروجهم ، تبكي منهم المواريث ، وتصرخ منهم الدماء ، ويستحلّ بقضائهم الفرج الحرام ، ترى أحدهم بكّر فاستكثر من جمعٍ ، ما قلّ منه خير ممّا كثر ، إذا ارتوى من آجنٍ ، واكتنز من غير طائل ، جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتلخيص ما اشتبه على غيره(1) ، لا يبالي أن يخالف رأي مَن كان قبله ، ولا يأمن أن ينقض حكمه ، ويعكس ما أخذ ، وأعطى برأيه من يجيء بعده ، فقلت ما قال الشاعر (شعر) :

شرع اگر اينست وقاضى اين وقاضى زاده اين *** الوداع اى باغ وبستان و سراگاه وزمين

ووجدت المنتمين إلى الإسلام كلّهم إمّا مصوّبة أو مخطّئة إلاّ الفرقة المحقّة الاثناعشريّة - مَدَّ اللّه ظلالهم ، وكثّر اللّه أمثالهم - فإنّهم يقولون : إنّ دين اللّه لا يُصاب بالقياس(2) ، وإنّ من طلب الدين بالقياس لم يزل دهرَه في ارتماس(3) ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يخرج من الدنيا إلى جوار اللّه تعالى حتّى أكمل للاُمّة دينهم ، وليس قد تركهم في غياهب الجهالة وبوادي الضلالة تائهين عطشين ، يعدو كلّ طائفة منهم بطمع الارتواء إلى سراب بقيعة ، ويتبع كلّ فرقة تائها مثلهم رجاءَ الاهتداء إلى أرض مريعة ، بل قد7.

ص: 592


1- اقتباس من الرواية المنقولة عن عليّ عليه السلام في الكافي، ج 1، ص 54، باب البدع و الرأي و المقائيس، ح 6 .
2- الكافي، ج 1، ص 57، باب البدع و الرأي و المقائيس، ح 14؛ بصائر الدرجات، ص 146، ح 23 ؛ و ص 149، ح 16.
3- الكافي، ج 1، ص 57، باب البدع و الرأي و المقائيس، ح 17؛ قرب الإسناد، ص 7.

نصب أعلاما واضحة ومنائر ساطعة «يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(1) واستحفظهم دينه وشريعته ، وأنزل اللّه جميع ما يحتاج إليه الاُمّة يوم القيامة على رسوله صلى الله عليه و آله ، وأمرهم أن يستودع كلّها الخلفاء الاُمناء المعصومين عن الخطأ والزلل ، وأمر سائر الاُمّة بالرجوع إليهم والسؤال منهم لكيلا يستطيع أحدٌ أن يقول : إنّ فقدان النصّ في الواقعات الحادثة اضطرّنا إلى العمل بالقياس والاستحسان والرأي ، ولا يشكّ من بلغ أدنى مرتبة التمييز أنّ الموافق للحكمة الكاملة الإلهيّة هو هذا المذهب ، ولقد أجرى روح القدس على لسان من قال (شعر) :

إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهبا *** ينجيك يوم الحشر من لهب النار

فدع عنك قول الشافعي ومالك *** وأحمد والنعمان بل كعب الأحبار

وآت اُناسا قولهم وحديثهم *** روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

الحمد للّه الذي هدانا لهذا وماكنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه .

باب الإشارة و النّص على أبي جعفر

[باب الإشارة و النّص على أبي جعفر عليه السلام ]

قوله : (إلى زيد بن الحسن وكان أكبرهم) . [ح 3 / 791]

هو زيد بن الحسن بن عليّ عليهماالسلام ، وفي كتاب إعلام الورى في فصل فيه ذكر أولاد الحسن عليه السلام : «وكان زيد بن الحسن يلي صدقات رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكان جليل القدر ، مات وله تسعون سنة ، وخرج من الدنيا ولم يدّع الإمامة ، ولا ادّعاها له مدّع من الشيعة ولا غيرهم»(2) انتهى .

باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن موسى

باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن موسى عليه السلام

قوله : (لم يُؤذَنْ لنا في أوَّلَ منك) . [ح 9 / 809]

أوّل هذا اسم تفضيل ، ولذا استعملت مع «من» أي لم يؤذن لنا أن نخبر بإمامته من كان أقدم منك .

ص: 593


1- الأعراف (7) : 59 .
2- إعلام الورى، ص 213.

في القاموس في فصل الواو : «الأوّل : ضدّ الآخر ، وأصله أوأل أو وَوأل ، والجمع : أوائل والأوالي - على القلب - والأوّلون ، وهي الاُولى . والجمع كصرد وركّع ، وإذا جعلت صفة منعته»(1) .

قوله : (وأُمّي وأُمّه واحدةً) . [ح 10 / 810]

قال الفاضل مولانا محمّد أمين الأسترآبادي : «هكذا في النسخ . وفي ربيع الشيعة: وأصلي وأصله واحد . وهو الصواب ؛ لعدم اتّحاد أُمّ موسى عليه السلام وأُمّ عبد اللّه» .

أقول : في كتاب إعلام الورى في الباب السادس من الركن السادس ، وفي الباب الخامس من ذلك الركن : «كان له - أي لأبي عبد اللّه عليه السلام - عشرة أولاد : إسماعيل وعبد اللّه واُمّ فروة - اُمّهم فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام - وموسى وإسحاق وفاطمة ومحمّد لاُمّ ولد اسمها حميدة البربريّة»(2) .

قوله : (عَدَلْتَهُ بِي) . [ح 16 / 816]

في القاموس : «عدل عنه يعدل عدلاً وعدولاً : حاد ؛ وإليه عدولاً : رجع ؛ والطريق : مال ؛ وفلانا بفلان : سوّى بينهما»(3) .

أقول : فالضمير المنصوب لأبي الحسن عليه السلام ، و «عدلته» على بناء المجرّد .

باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن الرضا

[باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن الرضا عليه السلام ]

قوله : (إنّ ابني عليّ)(4) . [ح 2 / 818]

هكذا في النسخ ، فعليّ رفع على المدح ، أي وهو عليّ .

قوله : (إنّ اللّه عزّ وجلَّ قال) . [ح 4 / 820]

دلّ عليه السلام على أنّ اسم الفاعل في الآية للتكرار ، وعمله في خليفته لأعمّ من الحال والاستقبال ، فكأنّه سبحانه يقول : إنّي أجعل في الأرض خلفاء واحدا بعد واحد ، ولا تخلى الأرض من خليفة . والغرض المسوق له الكلام إبطال قول الواقفة .

ص: 594


1- القاموس المحيط، ج 4، ص 62 (وأل).
2- إعلام الورى، ص 291.
3- القاموس المحيط، ج 4، ص 14 (عدل).
4- في الكافي المطبوع : «عليّا» .

قوله : (عهدي إلى أكبر وُلْدي ، يُعطى فلان كذا) . [ح 9 / 825]

في القاموس : «عهد إليه : أوصاه».(1) و«يعطى» بالبناء للمفعول ، وإن كان مقتضى السياق خلافه ؛ لأنّ فلانا ليس في عداد المبنيّات .

قال الرضيّ رضى الله عنه : «اعلم أنّ جميع الكنايات ليست مبنيّة ؛ فإنّ فلانا وفلانة معربان بالاتّفاق».(2)

وفي الصحاح : «فلان كناية عن اسم سمّي به المحدّث عنه ، خاصّ غالب . ويقال في غير الناس : الفلان والفلانة بالألف واللام»(3) .

قوله : (وفلانٌ لا يُعطى حتّى أجِيءَ) . [ح 9 / 825]

الظاهر أنّه ابنه عبّاس كما يظهر من أواخر الباب .

قوله : (فهل تُثْبِتُه أنت؟) . [ح 14 / 830]

في القاموس : «أثبته : عرفه حقّ المعرفة»(4) .

قوله : (والموتُ لا يَعْرى منه) . [ح 14 / 830]

في الصحاح : «أنا عرو منه - بالكسر - أي خلو منه»(5) . وفي الأساس : «ما يعرّى فلان من هذا الأمر ، أي ما يخلّص ، ولا يعرّى من الموت أحد[أي لايخلّص]»(6) .

قوله : (فَأَحْدِثْ إليَّ شيئا اُحَدِّثْ به مَن يَخلُفُني من بَعْدِي). [ح 14 / 830]

قد شاع في عرف أهل الخبر : «حدّث» من باب التفعيل بمعنى أخبر ، ولم أجد ذلك في كتب اللغة ولا مجيء «أحدث» بهذا المعنى ، والظاهر أنّ المراد بأحدث في هذا الخبر الإتيان بأمر جديد بتضمين مثل التوجّه .

قوله : (يَلُمُّ به الشَّعْثَ) . [ح 14 / 830]

في القاموس : «لمّه : جمعه . واللّه شَعَثَه : قارب بين شَتيتِ اُموره»(7) . .

ص: 595


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 320 (عهد) .
2- شرح الرضي على الكافية ، ج 3 ، ص 149 .
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2178 (فلن) .
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 145 (ثبت) .
5- الصحاح ، ج 6 ، ص 2423 (عرا) .
6- أساس البلاغة ، ص 417 (عرى) .
7- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 177 (لمم) .

قوله : (ويَشْعَبُ به الصَّدْعَ) . [ح 14 / 830]

في الصحاح : «الشعب : الجمع ، والإصلاح»(1) .

قوله : (خيرُ كَهْلٍ) . [ح 14 / 830]

في القاموس : «الكهل : من جاوز الثلاثين أو أربعا وثلاثين إلى إحدى وخمسين» .(2)

قوله : (إنّ أبي كان في زمانٍ ليس هذا زمانَه) . [ح 14 / 830]

يعني أنّ زمانه لم يكن زمان تقيّة يخاف فيه لو نصّ على إمام بعده ، أو أشار إليه أن يسعى به إلى السلطان ، بخلاف زماني .

وقول يزيد : «فمن يرضى منك» معناه من يرضى منك بفعل يفضي إلى الضرر بك فعليه لعنة اللّه .

قوله : (ورأيتُ مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله خاتما وسيفا) . [ح 14 / 830]

فيه ما يدلّ على صور مثاليّة .

قوله : (مُعَلَّمَا حُكْما وعِلْما) . [ح 14 / 830]

بفتح اللام ، ولعلّه ناظر إلى قوله تعالى في سورة الكهف في قصّة صاحب موسى عليه السلام : «وَ عَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا»(3) .

قوله : ([فإنّه قد استقامَتْ] وصيَّتُهُ) . [ح 14 / 830]

أي كونه وصيّا؛ على أنّ التاء مصدريّة .

قوله : (فعادوني إخوَتُه من غير ذَنْبٍ) . [ح 14 / 830]

في الباب السابع من الركن الثالث من كتاب إعلام الورى بدون «إخوته»(4). وهو الصحيح .

قوله : (وإنّه لَيَقْعُدُ) . [ح 14 / 830]

يعني أنّ يزيد . .

ص: 596


1- راجع : الصحاح ، ج 1 ، ص 156 (شعب) .
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 47 (كهل) .
3- الكهف (18) : 65 .
4- إعلام الورى، ص 319 .

قوله : (وولدي إبراهيم(1) والعبّاس) إلى آخره. [ح 15 / 831]

كذا في بعض النسخ ، وهو الصواب . وفي كثير من النسخ : «وولدي إلى إبراهيم». وفي بعضها : «أبي إبراهيم» وليسا بشيء .

قوله : (وثلثُ صدقةِ أبي) . [ح 15 / 831]

عطفٌ على «أمر نسائي» .

قوله : (لي عنده تَبِعَةٌ) . [ح 15 / 831]

في الأساس : «لي قِبَلَ فلان تبعةٌ وتباعةٌ ، وهي الظلامة ».(2)

وفي القاموس : «تبعه - كفرح - تبعا وتباعة : مشى خلفه ، ومرّ به فمضى معه . وكفرحة وكتابة : الشيء الذي لك فيه بغية شبه ظلامة» .(3)

قوله : (فهو مُصَدِّقٌ فيما ذَكَرَ) . [ح 15 / 831]

يعني عليّ عليه السلام مصدّق فيما ذكر من أنّ له قبلي مال ، وأنا معترف بأنّ له عندي مالاً كذا وكذا، فإن هو ادّعى أقلّ ممّا اعترفت له فهو أعلم ، وإن ادّعى أكثر فهو الصادق ، واعترافي بأقلّ من باب النسيان والسهو ، وقوله : «كذلك» خبر مبتدأ ، أي الشأن كذلك .

قوله : (إلى محواي) . [ح 15 / 831]

في الأساس : «قعدوا في الحواء ، وهم أهل حواء وهو أخبية متدانية ، وكنّا في أحوية بني فلان ؛ ومن المجاز احتوى القوم : تجاوروا ، وهذا محتوى بني فلان ومحواهم» .(4)

قوله : (وهو وأُمّ أحمد) . [ح 15 / 831 [أي شاهدان .

قوله : (ويُريدُ أن يَحْتَجِنَهُ(5)) . [ح 15 / 831]

في القاموس في الجيم ثمّ الحاء المهملة ثمّ النون : «حجن المال : ضمّه ، واحتواه(6)».

وفي بعض النسخ : «يحتجبه» بالباء من الاحتجاب ، وهو تصحيف . .

ص: 597


1- في الكافي المطبوع : «وولدي إلى إبراهيم» .
2- أساس البلاغة ، ص 59 (تبع) .
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 8 (تبع) .
4- أساس البلاغة ، ص 149 (حوى) .
5- في الكافي المطبوع : «أن يحتجبه» .
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 212 (حجن) . وفيه : «احتجن المال» بدل «حجن المال» .

قوله : (إلاّ ألْجَأه) . [ح 15 / 831]

في القاموس : «ألجأه إليه : اضطرّه . وأمرَه إلى اللّه : أسنده إليه» .(1)

قوله : (فوثَبَ إليه إبراهيم بن محمّد) . [ح 15 / 831]

هو الذي كان من شهود الكاظم عليه السلام في وصيّته كما ذكر في صدر الحديث السابق .

قوله : (وما كان لِيَأمَنَك) . [ح 15 / 831]هي لام الجحود .

قوله : (وإدخالُه) [ح 15 / 831] أي موسى عليه السلام إخوة عليّ عليه السلام في ولايته ، أي كونه عليه السلام وليّ اُمورهم .

قوله : (فَزَجَرَها إسحاقُ بن جعفر) . [ح 15 / 831]

لمّا كان هذا النقل من دلائل إمامته ردعها إسحاق رضى الله عنه على وجه التقيّة .

قوله : (فتعيَّنَ لي ما عليهم) . [ح 15 / 831]

الظاهر أنّه أمر من التعيّن بمعنى العينة بالكسر ، وهي السلف ، والمعنى : اشتَر لي من غرمائهم ما يطلبون منهم ، وليكن تلك المعاملة على وجه العينة لئلاّ يتحقّق الكالي بالكالي .

قوله : (ولكن حَسَدُ أبينا) . [ح 15 / 831]

خبره محذوف ، أي حمله على ذلك .

قوله : (إنّي أعرِفُ صفوانَ بن يحيى) . [ح 15 / 831]

كان وكيلاً لموسى بن عليّ عليه السلام .

قوله : (اُعْنى باُمورِهم) . [ح 15 / 831]

في الأساس : «عني - بالكسر - : تعب ؛ وعُنيت بحاجتك اُعنى بها» .(2)

قوله : (ومِنَ الذي يكونُ بعدَه) . [ح 16 / 832]

في كتاب إعلام الورى في الباب السابع من الركن الثالث : «ولا من الذي يكون بعده» .(3) .

ص: 598


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 27 (لجأ) .
2- لم نعثر عليه في أساس البلاغة . نعم ، هو موجود نصّا في الصحاح ، ج 6 ، ص 2440 (عني) . وانظر أيضا : النهاية ، ج 3 ، ص 314 (عني) .
3- إعلام الورى، ص 320 .

باب الإشارة والنصّ على أبي الحعفر الثاني

[باب الإشارة والنصّ على أبي الحعفر الثاني عليه السلام ]

قوله : (بَغى عليه إخوتُه) . [ح 14 / 846 [أي في ابنه أبي جعفر عليه السلام .

قوله : (ونحن أيضا) . [ح 14 / 846]

عطفٌ على «إخوته» . و«ما كان» إلى آخره مقول «قال» .

قوله : (حائلَ اللونِ) . [ح 14 / 846]

في القاموس : «الحائل : المتغيِّر اللون(1)» .

وفي الصحاح : «حال لونه : أي تغيّر ، واسودّ» .(2)

قوله : (قد قَضى بالقافَةِ) . [ح 14 / 846]

في النهاية : «القائف : الذي يتبع الآثار ويعرفها ، ويعرف شبه الرجل بأخيه [وأبيه] ، والجمع : القافة»(3) .

قوله : (ابنُ خِيَرَةِ الإماءِ) . [ح 14 / 846]

قال الفاضل ابن المجلسي :

قيل : المراد القائم عليه السلام ؛ فإنّه أيضا ابن النوبيّة بواسطة ، كما أنّ الجواد عليه السلام ابنها بلا واسطة ، وعلى هذا فالضمير المستكنّ في «يقتلهم» راجع إلى الابن . وقيل : المراد الجواد عليه السلام ، والضمير راجع إلى اللّه تعالى ، أو مبهم يفسّره قوله : «هو الطريد» والمراد القتل في الرجعة ؛ فإنّ كلاًّ من أئمّة الضلال يعذّب في الدنيا أيضا بإزاء ما جفوا أئمّة الحقّ : وقيل : الضمير راجع إلى «الاُعيبس وذرّيّته» بتأويل ما ذكر أو ما مضى ، وضمير الجمع إلى الأئمّة عليهم السلام ، وضمير «هو الطريد» إلى الابن . ومجال الاحتمال واسع ، واللّه يعلم وحججه .(4) انتهى .

قوله : (ابنُ النوبِيَّة) . [ح 14 / 846]

في القاموس : «النوب - بالضمّ - : جيل من السودان ، وبلدة بصنعاء اليمن . والنوبة -

ص: 599


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 364 (حول) .
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1679 (حول) .
3- النهاية ، ج 4 ، ص 121 (قوف) .
4- مرآة العقول ، ج 3 ، ص 381، مع اختلاف يسير في الألفاظ .

بالضمّ - : بلاد واسعة للسودان بجنوب الصعيد ، منها بلال الحبشي» .(1)

وفي كتاب إعلام الورى: «اُمّه - أي اُمّ أبي جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه السلام - اُمّ ولد يقال لها : سبيكة ، ويقال : درة ، ثمّ سمّاها الرضا عليه السلام خيزران ، وكانت نوبيّة»(2) .

وفي كشف الغمّة: «ابن خيرة الإماء ابن النّوبية ، من ولده الطريد الشريد».(3)

فعلى هذا المراد بابن خيرة الإماء ابن النوبيّة محمّد الجواد عليه السلام ، والمراد بالطريد صاحب الزمان عليه السلام . كذا في حواشي الشيخ محمّد طاب ثراه .

باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن الثالث

[باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن الثالث عليه السلام ]

قوله : (حتّى قَطَعَ على يَدَيْه) . [ح 2 / 848]

في الوافي : «حتّى جزم بمعرفة الإمام بعد أبي جعفر عليه السلام بسببه وباختياره فيه»(4) .

قوله : (وجعل أمر موسى عليه السلام ) . [ح 3 / 849]

في الوافي : «يعني ابنه الملقّب بالمبرقع المدفون بقمّ»(5) .

قوله : (ويُصَيِّرُ أمرَ موسى) . [ح 3 / 849]

في الوافي : «صيّر ؛ يعني فإذا بلغ عليّ بن محمّد صيّر ، ولعلّه سَقَط من قلم النسّاخ ، أو كان فصيّر فسقط الفاء»(6) انتهى .

باب الإشارة والنصّ على أبي محمّد

[باب الإشارة والنصّ على أبي محمّد عليه السلام ]

قوله : (فقد أحدَثَ فيك أمرا) . [ح 4 / 853]

أي جعلك إماما بموت أخيك الأكبر ، بل أظهر للناس من إمامتك التي في علمه بموت أكبر ولد أبيك المترصّد للإمامة .

ص: 600


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 134 (نوب) .
2- إعلام الورى ، ص 344 .
3- كشف الغمّة ، ج 3 ، ص 143 .
4- الوافي ، ج 2 ، ص 384 .
5- المصدر .
6- المصدر.

قوله : ([كُنتُ حاضرا] عند أبي جعفر(1) محمّد بن عليّ) . [ح 5 / 854]

أي عند مضيّه ، وكذا في ربيع الشيعة(2) . وأبو جعفر هذا هو أخو الحسن العسكري عليه السلام ، واسمه محمّد .

قوله : (عن أبي محمّد الأسبار(3)) . [ح 7 / 856]

في ربيع الشيعة وإعلام الورى : «عن أبي محمّد الأسترآبادي»(4) .

قوله : (وأبو جعفر ابنه) . [ح 7 / 856]

هكذا في النسخ التي رأيناها ، وفي كتاب إعلام الورى : «وجعفر ابنه في الأحياء(5)» وإنّما قال : «أظنّه هو القائم من بعده» (6).

أقول : الصواب ما في نسخ الكافي كما يدلّ عليه قوله : «في الأحياء » والمقصود أنّي سألته عن الإمام بعده في وقت كان أبو جعفر ابنه في الأحياء ، فأخّر الجواب ؛ لأنّ أبا جعفر كان أكبر من أبي محمّد عليه السلام ، فلمّا توفّي أبو جعفر كتبت إليه عليه السلام وأعدت المسألة ، فكتب : «الإمامة في الكبير من ولدي » وإنّما أتى عليه السلام بهذا الجواب في هذه المرّة ؛ لأنّ ولده عليه السلام كان منحصرا في ذلك الوقت في جعفر المشهور بالكذّاب وأبي محمّد عليه السلام ، وكان أبو محمّد عليه السلام هو الأكبر .

قوله : (أبو محمّد ابني أنصحُ آلِ محمّدٍ غريزةً) . [ح 11 / 860]

في إعلام الورى : «أصحُّ» بدل «أنصح(7)» وهو أصحّ .

باب في تسمية من رآه

[باب في تسمية من رآه عليه السلام ]

قوله : (فإنّ الأمرَ عند السلطانِ) . [ح 1 / 869] إلى آخره تعليلٌ صريح في اختصاص

ص: 601


1- في الكافي المطبوع : «عند مضيّ أبي جعفر».
2- إعلام الورى، ص 368 . ولاحظ الكلام في اتّحاد ربيع الشيعة مع إعلام الورى مقدّمة التحقيق لكتاب إعلام الورى.
3- في الكافي المطبوع : «أبي محمّد الإسبارقيني» .
4- إعلام الورى ، ص 368 .
5- وهكذا أيضا في الكافي المطبوع .
6- إعلام الورى ، ص 368 .
7- إعلام الورى ، ص 369 .

حرمة التصريح باسمه عليه السلام بذلك العصر .

باب نادر في حال الغيبة

[باب نادر في حال الغيبة]

قوله : (وهم في ذلك يعلمون أنّه لم تبطل حجّة اللّه جلّ ذكره) . [ح 1 / 888]

من أعاظم نعم اللّه علينا أن جعلنا من أهل هذا العلم ، فنحن بحمد اللّه من الموقنين لا نحتاج إلى بحث ونظر ، فإن نازع عنان القلم فهو لأجل تخليص الضعفاء من أسر الناصبين الذين هم أعظم جنود إبليس ، مع ما في ذلك من الذكرى لمن كان له قلب؛ فلنذكر أوّلاً طرفا ممّا نقل عن متقدّمي أصحابنا - رضوان اللّه عليهم - في هذا الباب :

ففي كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة بعد نقل مناظرات شيخنا الأقدم الأعظم أبي جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي رضى الله عنه مع المعتزلة :

وقال غيره من متكلّمي مشايخنا الإماميّة : إنّ عامّة المخالفين قد سألونا في هذا الباب مسائل ، ويجب عليهم أن يعلموا أنّ القول بغيبة صاحب الزمان عليه السلام مبنيّ على القول بإمامة آبائه عليهم السلام ، والقول بإمامة آبائه عليهم السلام مبنيّ على القول بتصديق محمّد صلى الله عليه و آله ونبوّته ، وذلك لأنّ هذا الباب شرعيّ ليس بعقليّ محض ، والقول في الشرعيّات مبنيّ على الكتاب والسنّة ، كما قال اللّه تعالى : «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْ ءٍ» [يعني في الشرعيّات[ «فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه ِ وَالرَّسُولِ»(1) ، فمتى شهد لنا الكتاب والسنّة وحجّة العقل فقولنا هو المجتبى . فنقول : إنّ جميع طبقات الزيديّة والإماميّة قد اتّفقوا على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، وهما الخليفتان من بعدي ، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» وتلقّوا هذا الخبر بالقبول، فوجب أنّ الكتاب لا يزال معه من العترة من يعرف التنزيل والتأويل علما يقينيّا يخبر عن مراد اللّه عزَّ وجلَّ ، كما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يخبر عن المراد ، ولا يكون معرفته بتأويل الكتاب استنباطا ولا استخراجا كما لم يكن معرفة الرسول بذلك استخراجا ولا استنباطا ، ولاعلى ما تجوز عليه اللغة وتجري عليه المخاطبة ، بل يخبر عن مراد اللّه عزّ وجل،

ص: 602


1- النساء (4) : 59 .

ويبيّن عن اللّه بيانا تقوم بقوله الحجّة على الناس ؛ كذلك يجب أن يكون معرفة عترة الرسول بالكتاب على يقين وبصيرة ، قال اللّه عزَّ وجلَّ في صفة الرسول صلى الله عليه و آله : «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللّه ِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى»(1) فأتباعه من أهله وذرّيّته وعترته هم الذين يخبرون عن اللّه مراده من كتابه على يقين ومعرفة وبصيرة ، ومتى لم يخبر عن اللّه عزّ وجلّ مراده ظاهرا مكشوفا ، فيجب علينا أن نعتقد أنّ الكتاب لا يخلو من مقرون به من عترة الرسول يعرف التأويل والتنزيل ؛ إذ الحديث يوجب ذلك .(2)

قوله : (إلى حَرْثِ الدنيا) . [ح 2 / 889]

في الصحاح : «الحرث : كسب المال ، وجمعه» .(3)

باب في الغيبة

[باب في الغيبة]

قوله : ([إذا فُقِدَ] الخامسُ مِنْ وُلْدِ السابع) . [ح 2 / 892]

في الوافي : «الخامس كناية عن المهديّ عليه السلام ، والسابع كناية عن نفسه عليه السلام » .(4)

قوله : (لَتُمَخَّضُنَّ)(5) . [ح 3 / 893]

في القاموس : «مخض اللبن يمخضه - مثلّثةَ الآتي - : أخذ زبده»(6) . وفي المهملتين : «التمحيص : الابتلاء ، والاختبار»(7) .

قوله : (ولَتُكْفَؤُنَّ) . [ح 3 / 893]

في القاموس : «كفأت الإناء : كببته، وقلبته» .(8)

قوله : (لا يُدرَى أيٌّ من أيٍّ) . [ح 3 / 893]

سيجيء في رواية المعروف بن الخرّبوذ : «فاستوت بنو عبد المطلّب ، فلم يدر أيّ من أيّ(9)».

ص: 603


1- يوسف (12) : 108 .
2- كمال الدين ، ج 1 ، ص 63 .
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 279 (حرث) .
4- الوافي ، ج 2 ، ص 406 .
5- في الكافي المطبوع : «لتمحّصنّ».
6- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 343 (مخض) .
7- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 318 (محص) .
8- لم نعثر عليه في القاموس المحيط ، نعم ، هو موجود نصّا في الصحاح ، ج 1 ، ص 67 (كفا).
9- الكافي ، ج 1 ، ص 338 ، باب في الغيبة ، ح 8 ؛ الغيبة للنعماني ، ص 156 ، ح 17 .

ولعلّ المراد أنّ كلاًّ منهما يدّعي أنّه صاحب الأمر وراثة ، ولا يدري أنّه من أيّ شعب. والحاصل أنّه يشتبه الأمر على أهل ذلك العصر إلاّ الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى .

قوله : (ومنهم من يقول : خملٌ(1)) . [ح 5 / 895 [بالمعجمة من الخمول .

في القاموس : «خمل ذكره وصوته خمولاً : خفي ؛ وأخمله اللّه فهو خامل».(2)

وفي بعض النسخ بالمهملة : والأوّل أصحّ . ويشهد له ما سيجيء من قوله عليه السلام : «ولَيَخْمِلَنَّ حتّى يقال : مات أو هلك»(3) إلى آخره .

قوله : (يكونُ مِن ظَهْري الحادي عشر مِن وُلْدي) . [ح 7 / 897]

قال الفاضل صاحب البحار في حواشي الكافي : «في بعض النسخ : من ظهري بالياء، وأكثر النسخ بغير ياء».(4)

ولعلّ المراد بالحادي عشر من الأئمّة حال كونه من ولدي ، فلا تغفل» .

قوله : (وإنّ هذا لكائنٌ ؟ فقال : نعم كما أنّه مخلوق) . [ح 7 / 897]

أي سيخلق خلقَ تكوينٍ ، كما قد خلق خلق تقديرٍ .

قوله : (فيمن هَذَا) . [ح 13 / 903]

أي فيمن هذأ بالجهالات ، أي تكلّم ورغب عن العلم .

قوله : (نِعْمَ المنزلُ طَيْبَةُ وما بثلاثين من وَحْشَةٍ) . [ح 16 / 906]

في الوافي : «طيبة هي المدينة المشرّفة ، يعني إذا اعتزل فيها مستترا ، ومعه ثلاثون من شيعته ، فلا وحشة» انتهى .(5)

قوله : «فإذا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ»(6) . [ح 30 / 920]

في الصحاح : «نقر الطائر الحبّة ينقرها نقرا : التقطها . ونقرت الشيء : ثقبته بالمنقار. ونُقر في الناقور : نفخ في الصور».(7) .

ص: 604


1- في الكافي المطبوع : «حمل» بالمهملة .
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 371 (خمل) .
3- الحديث 11، من نفس الباب .
4- مرآة العقول ، ج 4، ص 43.
5- الوافي ، ج 2 ، ص 416 .
6- المدّثّر (74) : 8 .
7- الصحاح ، ج 2 ، ص 834 (نقر) .

وفيه : «الصور : القرن ، ومنه قوله تعالى : «يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ»(1) . قال الكلبي : لا أدري ما الصور ، ويقال : هو جمع صورة ، مثل بسرة وبسر، أي ينفخ في صور الموتى الأرواحُ . وقرأ الحسن: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ»»(2) .

وفي النهاية :

فيه ذكر «النفخ في الصور» هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام عند بعث الموتى إلى المحشر . وقال بعضهم: إنّ الصور جمع صورة ، يريد صورة الموتى ينفخ فيه الأرواح . والصحيح الأوّل ؛ لأنّ الأحاديث تعاضدت عليه ، تارة بالصور ، وتارة بالقرن . انتهى .(3)

أقول : ظهر ممّا نقلناه أنّ بناء ما قالوا على الاستنباط من استعمالات الشرع، لا على السماع من العرب ، وبالجملة مراد الإمام عليه السلام أنّ الناقور في الآية قلب الإمام المنتظر عليه السلام ، والنقر فيه نفث الملك فيه ، كما ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّ روح الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها ، وعلى هذا فالتعبير بالنفث عن النكت - وهو الضرب في الأرض بقضيب كما في القاموس(4) - من باب حاصل المعنى .

باب ما يُفصَل بين دعوى المحقّ والمبطل في أمر الإمامة

[باب ما يُفصَل بين دعوى المحقّ والمبطل في أمر الإمامة]

قوله : (يقال له: خداش) . [ح 1 / 922]

في القاموس : «خداش - ككتاب - : ابن سلامة ، أو أبي سلامة ، صحابيّ ، وابن زهير وابن حميد وابن بشير [: شعراء]» .(5)

قوله : (حتّى تَقِفَه) . [ح 1 / 922]

في الصحاح : «وقفته على ذنبه : أطلعته عليه».(6)

وفي الأساس : «وقّفته على ذنبه» .(7)

ص: 605


1- الأنعام (6) : 73 .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 716 (صور) .
3- النهاية ، ج 3 ، ص 60 (صور).
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 159 (نكت) .
5- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 271 (خدش) .
6- الصحاح ، ج 4 ، ص 144 (وقف).
7- أساس البلاغة ، ص 686 (خدش) .

قوله : (وأن يُخالي الرجل) . [ح 1 / 922]

في الصحاح في المعجمة مع الواو : «وخلى به وإليه ، ومعه خلوا و خلاءة وخلوة: سأله أن يجتمع معه في خلوة»(1). ومع الياء : «خالاه : صارعه ، وخادعه» .(2)

قوله : (فقد كنّا نرى أنّك أشجعُ فرسان العرب) . [ح 1 / 922]

يعني أنّ الدعاء على الخصم علامة العجز عن المقاومة والانتقام ، وكنّا نراك أشجع فرسان العرب .

وجواب هذه الفقرة ما سيجيء من قول أمير المؤمنين عليه السلام : «إنّ لكلّ موقف عملاً» يعني أنّ الموقف الذي نحن فيه الآن موقف الدّعاء عليكم ، وسيجيء موقف الانتقام أيضا .

قوله : (قال : فأنشدك باللّه) . [ح 1 / 922]

في الصحاح : «نشدت فلانا أنشده نشدا ، إذا قلت له : نشدتك اللّه ، أي سألتك باللّه، فكأنّك ذكّرته إيّاه فنشد ، أي تذكّر».(3)

وفي القاموس : «نشد فلانا : استحلف . وفلانا نشدا : قال له : نشدتك اللّه» (4).

قوله : (وملأ سحرا كما) . [ح 1 / 922]

في الأساس : «كلّ ذي سحر يتنفّس هو الرئة ، ويقال : انتفخ سحره ، إذا ملّ ، وجبن ».(5)

وفي الصحاح : «السحر : الرئة . ويقال للجبان : انتفخ سحره»(6) .

قوله : (اللّهمّ أقْعِصِ الزبيرَ) . [ح 1 / 922]

في القاموس : «قعصه كمنعه : قتله مكانه»(7) .

قوله : (أنّا أهلَ البيت نَعافُه) . [ح 6 / 927]

في القاموس : «عاف الطعام والشراب : كرهه ، فلم يشربه»(8) . .

ص: 606


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 233 (خلا) .
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1440 (وقف) .
3- الصحاح ، ج 2 ، ص 543 (نشد) .
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 341 (نشد) .
5- أساس البلاغة ، ص 287 (سحر) .
6- الصحاح ، ج 2 ، ص 678 (سحر) .
7- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 314 (قعص) .
8- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 179 (عاف) .

قوله : (وذلك أنّهم رووا). [ح 7 / 928]

المشار إليه بذلك الدخول ، والمقصود أنّا قصدنا إتيان عبد اللّه نمتحنه بالسؤال ، فإن وجدناه مليّا بالعلم علمنا أنّ الناس بنوا الاجتماع عليه على تأويل ما رووا «أنّ الأمر في الولد الكبير ما لم يكن به عاهة» بأنّ فطح الرجل ليس من العاهة المانعة ، وأصابوا في ذلك ، وإن وجدناه جاهلاً علمنا أنّهم أخطأوا في التأويل .

قوله : (فَألقِ إليهم) كما ألقيت إليّ (وادعهم إليك) [ح 7 / 928] كما دعوتني إليك .

وفي بعض النسخ : «فاُلقى» وهو سهو .

قوله : (مَعْنِيّا بدينه) . [ح 8 / 929]

في النهاية : «يقال : عُنيت بحاجتك أعني بها فأنا معنيّ ، وعنيت به فهو عانٍ . والأوّل أكثر ، أي أهتممت به ، واشتغلت» (1).

قوله : (بعدما جَهَدتُ به) . [ح 9 / 930]

في القاموس : «جهد - كمنع - وجهد بزيد : امتحنه»(2) .

قوله : (بما قالَ أبو عبداللّه عليه السلام في ابنه) . [ح 11 / 932]

قال الفاضل الإسترآبادي رحمه الله :

كأنّه إشارة إلى ما ذكره الكشّي في ترجمة يحيى بن القاسم أبي بصير حيث قال: قال محمّد بن عمران: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : «هنا ثمانية محدّثون سابعهم القائم» فقام أبو بصير بن القاسم ، وقبّل رأسه ، وقال : سمعته من أبي جعفر عليه السلام منذ أربعين سنة .(3)

قوله : (في بعض الرِّزَم) . [ح 12 / 933]

في القاموس : «الرزمة - بالكسر - : ما شدّ في ثوبٍ واحدٍ ، ورزّم الثياب ترزيما : شدّها»(4) .

وفي الصحاح : «الرزمة : الكارة من الثياب . وقد رزّمتها ترزيما : شددتها رزما»(5) . .

ص: 607


1- النهاية ، ج 3 ، ص 314 (عنا).
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 286 (جهد) .
3- الحاشية على اُصول الكافي للإسترابادي (المطبوع ضمن ميراث حديث شيعه ، ج 8) ص 355 ؛ رجال الكشّي ، ص 474 ، ح 901 .
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 119 (رزم) .
5- الصحاح ، ج 5 ، ص 1931 (رزم) .

قوله : (وثَبَّطَ عن الجهاد) . [ح 16 / 937]

في القاموس : «ثبّطه عن الأمر تثبيطا : شغله عنه» (1).

قوله : (لم ينقض(2) اُكُلُه) . [ح 16 / 937]

في القاموس : «الاُكُل - بالضمّ وبضمّتين - : الرزق ، والحظّ من الدنيا» .(3)

قوله : (أسد الإله) [ح 17 / 938] يعني حمزة سيّد الشهداء .

قوله : (بعده الروّاسا) . [ح 17 / 938]

«الروّاسا» صفة «عقيلاً» .

في الأساس : «رجل أرأس ورؤّاسيّ : عظيم الرأس» (4).

قوله : (أن تقول هُجْرا) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «الهجر - بالضمّ - : القبيح من الكلام»(5) .

قوله : (اختزالَ منزلها) . [ح 17 / 938]

في الصحاح : «اختزل الشيء : انقطع»(6) .

قوله : (فقال: هذه دار تسمّى دار السَّرِقَة) . [ح 17 / 938]

يعني دار أبي عبد اللّه يسمّى عندنا معاشر بني الحسن دار السارقين ، على أنّ السَّرِقَة صيغة الجمع كطلبة وضعفة وحملة. وفاعل «قال» : موسى .

والمظنون أنّ مراده التعريض لبني الحسين بأنّهم سرقوا منّا معاشر بني الحسن حقَّ الإمامة . وبهذا المحمل أو شبيهه يخرج الكلام عن كونه أجنبيّا غير مناسب بسائر أجزائه .

ولفظة «هذا» في قول خديجة إشارة إلى موسى ، يخاطب عبد اللّه بن إبراهيم .

ص: 608


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 352 (ثبط) . وفيه : «ثبّطه عن الأمر : عوّقه ، وبطأ به عنه ، كثبّطه فيها» .
2- في الكافي المطبوع : «لم تنقض» .
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 329 (أكل) .
4- أساس البلاغة ، ص 212 (رأس) .
5- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 158 (هجر) .
6- الصحاح ، ج 4 ، ص 1684 (خزل) .

الجعفري بأنّ هذا الرجل الذي يرمينا بالسرقة مختار مهديّنا ومصطفاه ، قالته على سبيل المطايبة والمزاح ؛ إذ كانت عالمة بأنّه لم يقل ما قال على سبيل الاعتقاد ، كما يشعر به قوله : «واللّه لاُخبرنّكم بالعجب» إلى آخر الحكاية .

وبما ذكرنا يتلاءم أجزاء الخبر .

ويحتمل أن يُراد بالسرقة معناه المشهور ، فدار أبي عبد اللّه عليه السلام كانت موسومة بذلك؛ إمّا لوقوع سرقة فيها ، أو لوجه آخر ، وكان غرض موسى مجرّد الإخبار عن الواقع ، وقول خديجة : «هذا ما اصطفى» إشارة إلى تلك الدار ، وتذكير اسم الإشارة باعتبار الخبر .

والمراد بالاصطفاء النهب والغارة ؛ لما سيجيء في هذا الخبر من أنّ السراقي اللعين دفع بأمر محمّد - أخي موسى المسمّى بمهديّ آل محمّد - في ظهر أبي عبد اللّه عليه السلام حتّى أدخل السجن ، واصطفى ما كان له من مال ، وما كان لقومه ممّن لم يخرج مع محمّد. وعلى هذا فيكون الممازحة من خديجة مع موسى باعتبار التعبير عن أخيه بمهديّنا .

ولعلّ هذا الاحتمال أقرب .

قوله : (وأجمَعَ على لقاء أصحابه) . [ح 17 / 938]

أي صمّم العزم .

قوله : ([اُريد البادية] أو أهُمُّ بها) . [ح 17 / 938]

لعلّ العطف بأو على سبيل الترقّي بناءً على أنّ الهمّ القصد على إمضاء ما اُريد، وأصله الحزن ، ومنه الاهتمام . وما قيل من أنّ الترديد من الراوي ليس يعجبني ؛ لأنّه يلزم أن يكون الضمير قد اُورد بلا سبق مرجع ولا قرينة عليه ؛ اللّهمّ إلاّ أن يرتكب تكلّف .

قوله : (ولقد ولّى وترك) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «ولّى تولية : أدبر»(1) .

والمعنى أنّه كيف يتّهمه أحد بأنّه ادّخر الأمر لنفسه ، والحال أنّه قد أدبر عن الدنيا وترك ما فيها ، فما أوصى إلى من أوصى الأمر إلاّ بأمر اللّه ورسوله . .

ص: 609


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 402 (ولى) .

قوله : (وهو جدّك) . [ح 17 / 938]

ذكر الشيخ أبو عليّ الطبرسي في كتاب إعلام الورى في الباب الأوّل من الركن الثالث عند ذكر أحوال الحسن بن الحسن عليه السلام :

روي أنّه خطب إلى عمّه الحسين عليه السلام إحدى ابنتيه ، فقال له الحسين عليه السلام : «يا بُنيّ اختر أحبّهما إليك» فاستحيا الحسن ، فقال الحسين عليه السلام : «فإنّي قد اخترت لك ابنتي فاطمة ، وهي أكثرهما شبها بأُمّي فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله » (1).

قوله : (فما أوْلاكَ به) . [ح 17 / 938]

فعل التعجّب ، أي أنت أحقّ به وأولى بقول الخير فيه ؛ فإنّه جدّك من الطرفين .

قوله : (لا آلوك نصحا) . [ح 17 / 938]

في الأساس : «هو لا يألو ولا يأتلي أن يفعل كذا ، ويقول الرجل : ما ألوت عن الجهد في حاجتك ، فيُقال : بل أشدّ الألو» (2).

وفي الصحاح : «ألا يألو، أي قصر ؛ وفلان لا يألوك نصحا»(3) .

وفي المغرب : «لا آلوك نصحا ، أي لا أمنعكه ولا أنقصكه ، وهو تضمين من آلى في الأمر يألو : إذا قصّر»(4) .

وفي القاموس : «ما ألوت الشيء ألْوا و ألْوا : ما تركته»(5).

وفي المطوّل في شرح ديباجة التلخيص :

و«لم آل» من الأَلْو ، وهو التقصير «جُهدا» بالضمّ والفتح : الاجتهاد.

وعن الفرّاء : الجُهْد بالضمّ : الطاقة ، وبالفتح المشقّة .

وقد استُعمل الأَلْو في قولهم : لاآلوك جُهْدا ، يتعدّى إلى مفعولين ، والمعنى لم أمنعك جهدا ، وحذف هاهنا المفعول الأوّل ؛ لأنّه غير مقصود ، والمعنى لم أمنع اجتهادي(6) . انتهى . .

ص: 610


1- إعلام الورى ، ص 213 .
2- أساس البلاغة ، ص 20 (ألو) .
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2270 (ألا) .
4- المغرب ، ج 1 ، ص 18 (ألا).
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 300 (ألا).
6- المطوّل ، ص 11 .

وفي حواشي الچلبي : «قال الاُستاد : لا يجوز أن يكون تمييزا ؛ لأنّه في المعنى يجب أن يكون فاعلاً أو مفعولاً» .

قوله : (وحرصا) . [ح 17 / 938]

أي على حصول الخير لك .

قوله : (فكيف). [ح 17 / 938]

أي فكيف لي بإرشادك إلى ما يصلح به دنياك وآخرتك ، والحال أنّي لا أراك تفعله، وقد قضى اللّه عليك بوصول الشرّ إليك ، لما سبق في علمه من سوء اختيارك ، ولا مردّ لقضائه ، ولا معقّب لحكمه .

ولنذكر أنحاء استعمال «كيف» ليظهر ما هو المقصود في الحديث :

في القاموس :

«كيف» اسم مبهم ، والغالب فيه أن يكون استفهاما ؛ إمّا حقيقيّا ككيف زيد ، أو غيره نحو «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ»(1)الفجر (89) : 6 ؛ الفيل (105) : 1 .(2) فإنّه اُخرج مخرج التعجّب ، و:

كيف ترجون سِقاطي بعدما *** جلّل الرأس مشيبٌ وصلَع

فإنّه اُخرج مخرج النفي .

ويقع خبرا قبل ما لا يستغنى عنه ، ككيف أنت ، وكيف كنت ؛ وحالاً قبل ما يستغنى عنه ، ككيف جاء زيد ؛ ومفعولاً مطلقا : «كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ»(2)؛ «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ».(3)القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 194 (كيف) .(4) ويستعمل شرطا ، فيقتضي فعلين متّفقي اللفظ والمعنى ، [غير [مجزومين ، ككيف تصنع أصنع ، لا كيف تجلس أذهب .

سيبويه : كيف تجلس أذهب ظرف .

الأخفش : لا يجوز ذلك .

ابن مالك : صدق ؛ إذ ليس زمانا ولا مكانا . ويقال : كيف لي بفلان؟ فتقول : كلّ الكيف(4) .

انتهى ما نقلناه من القاموس. .

ص: 611


1- البقرة
2- : 28 .
3- النساء
4- : 41 .

ويظهر من تتبّع موارد استعمال «كيف لي» أنّ المقصود إظهار العجز عن إمضاء ما يجب أو دفع ما يكره ، وهذه العبارة تستعمل في مقام ما يقال بالفارسيّة : «چه كنم كه از پيشم نمى رود». وهذا المعنى هو المراد في الحديث .

قوله : (فسُرّ أبي عند ذلك) . [ح 17 / 938]

لعلّ سروره من جهة قول أبي عبد اللّه عليه السلام : «وما لأمر اللّه من مَرَدٍّ» فاستبشر من ذلك بتحقيق ما هو بتمشيته من الخروج .

قوله : (أنّه الأحوَلَ الأكشَفَ الأخضَرَ، المقتول بسُدَّة أشجَعَ) . [ح 17 / 938]

في الصحاح : «الكشف - محرّكةً - : انقلاب من قصاص الناصية كأنّها دائرة ، وهي شعيرات تنبت صُعدا ، والرجل أكشف»(1) .

وفيه : «الخضرة : لون الأخضر ، وربّما سمّوا الأسود أخضر»(2) .

وفي القاموس : «السدّة : باب الدار»(3) . وفيه : «أشجع بن ريث بن غطفان : أبو قبيلة»(4) .

أقول : في تعريف الأحول والأوصاف بعده إشعار بورود خبر عن النبيّ صلى الله عليه و آله أو أحد من آبائه المعصومين عليهم السلام في أمر من كان بهذه الصفات وسوء عاقبته واشتهار ذلك الخبر بينهم ، ويعضد الإشعار والاشتهار قول عبد اللّه : أليس هو ذلك ؟

قوله : (لَيُحاربَنَّ باليوم يوما) . [ح 17 / 938]

في الوافي : «يعني أعداءنا ، والضمير المرفوع لابنه . وفي بعض النسخ : «ليجازينّ» بالجيم والزاي والياء المثنّاة»(5) انتهى .

قوله : (مَنَّتك نَفسُك في الخلاء ضلاّلاً) . [ح 17 / 938]

في الصحاح : «الاُمنيّة: واحدة الأمانيّ ؛ تقول منه : تمنّيت الشيء ومنّيت غيري تمنية»(6) . .

ص: 612


1- الصحاح ، ج 4 ، ص 1422 (كشف) .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 646 (خضر) .
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 301 (سدد).
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 43 (شجع) .
5- الوافي ، ج 2 ، ص 162 .
6- الصحاح ، ج 6 ، ص 2498 (منا) .

قوله : (إذا أحفَلَ) . [ح 17 / 938]

في الأساس : «أحتفل الفرس في حُضْره، إذا جدّ فيه»(1) .

قوله : (بين رِجْلَيْه لَبِنَةٌ) . [ح 17 / 938]

كناية عن سلب إزاره . واللبنة - بالكسر وبكسرتين ، وككتف - : هذا المضروب من الطين مربّعا للبناء . كذا في القاموس(2) .

قوله : (فَيُقَتَلُ كَبشُها) . [ح 17 / 938]

في الأساس : «ومن المجاز هو كبش كتيبة»(3) . قال :

وأنّا لمما نضرب الكبش ضربة على رأسه تلقي اللسان من الفم

قوله : «وبني سُورا حصينا ووثّقه بالكبوش» .

في القاموس : «الكبش : [الحمل] إذا أثنى أو إذا خرجت رباعيته ، وسيّد القوم وقائدهم»(4) .

قوله : (لَتَعُودَنَّ أو ليفيء(5) اللّه بك وبغيرك) . [ح 17 / 938]

اللام موطّئة للقسم ، والمراد بالعود الدخول الابتدائي ، كما في قوله تعالى حكاية عن قوم شعيب: «لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا»(6)الصحاح ، ج 1 ، ص 63 (فيأ) .(7) ولا يبعد من سخافة عقله أن يكون قد اقتبس كلامه من تلك الآية ، ولم يعلم ما عليه في ذلك الاقتباس . والباء في «بك» للتعدية .

في الصحاح : «فاء يفيء : رجع ، وأفاءه غيره: رجعه» .(7)

قوله : (ورأيتَ أن تدفَعَ [بالتي هي أحسَنُ فَافعَلْ]) [ح 17 / 938]

أي تماشى وتجامل مع هؤلاء الفراعنة الذين لم ينقضِ أجلهم بعدُ وتجلسَ في بيتك ولا تخرج عليهم فافعل ؛ فإنّه خيرٌ لك في العاجل والآجل . .

ص: 613


1- أساس البلاغة ، ص 134 (حفل) .
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 265 (لبن) .
3- أساس البلاغة ، ص 534 (كبش) .
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 285 (كبش) .
5- في الكافي المطبوع : «ليقي» .
6- الأعراف
7- : 88 .

وقوله عليه السلام هذا ناظر إلى قوله تعالى : «ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ»(1) .

قوله : (فصُفّدوا في الحديد) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «صفده يصفده : شدّه وأوثقه ، كأصفده وصفّده»(2) .

قوله : (لا وِطاء فيها) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «الوطاء - ككتاب وكساء - : خلاف الغطاء(3)».

وفي الأساس : «ما له وطاء ولا غطاء»(4) .

أقول : المخالفة بأنّ الأوّل تحت الشخص والشخص عليه ، والثاني فوقه وعلى الشخص ، وقول صاحب الأساس : «ماله وطاء ولا غطاء» معناه هو الذي يقال بالفارسيّة : «نه زيرانداز دارد و نه بالا انداز ».

قوله : (ثمّ اطّلع من باب المسجد) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «طلع فلان علينا - كمنع ونصر - : أتانا ، كأطلع» (5).

قوله : ([وأهوى إليه] الحَرَسِيُّ) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «حرسه حرسا فهو حارس ، والجمع: أحراس وحرس وحرّاس. والحرسيّ واحد حرس السلطان»(6) .

أقول : وزانه وزان الأعرابي .

قوله : (رَمَحَتْهُ ناقَتُه) . [ح 17 / 938]

في الصحاح : «رمحه الحمار والفرس والبغل : إذا ضربه برجله»(7) .

قوله : (واسْتَوسَقَ الناسَ للبيعة)(8) . [ح 17 / 938]

في الوافي : «استوسق الناس : استجمعهم . وفي بعض النسخ بالثاء المثلّثة في الثاني ، .

ص: 614


1- فصلت (41) : 34 .
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 308 (صفد) .
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 32 (وطأ) .
4- أساس البلاغة ، ص 680 (وطئ) .
5- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 59 (طلع) .
6- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 206 (حرس).
7- الصحاح ، ج 1 ، ص 366 (رمح) .
8- في الكافي المطبوع : «لبيعته» .

أي طلب الوثيقة منهم»(1) .

أقول : في الصحاح : «وسُقْت الشيء : جمعته ؛ واستوسقت الإبل : اجتمعت ، قال الراجز :

إنّ لنا قلائصا حقائقا *** مستوسقات لو يجدن سائقا»(2).

وقد ضبط «استوسقت» في النسخ العتيقة بفتح التاء الاُولى و«الإبل» بضمّ اللام ، والاستشهاد بقول الراجز يعضد هذا الضبط .

وفي القاموس : «وسقه ، يسقه: جمعه».(3)

وفي الأساس : «الراعي يسق الإبل حتّى استوسقت : اجتمعت».(4) فالناس مرفوع على الفاعليّة .

قوله : (الذي حاقَ به) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «حاق به يحيق : أحاط به كأحاق ؛ وبهم الأمر : لزمهم ، ووجب عليهم، ونزل ؛ وأحاق اللّه بهم : مكرهم»(5) .

قوله : (لم أُعارك)(6) . [ح 17 / 938]

في الوافي : «اُعارك من المعارات . وفي بعض النسخ «لم اُغازّك» من الغزاء بمعنى المحاربة»(7) انتهى .

قوله : (جُحْرا) . [ح 17 / 938]

بتقديم الجيم المضمومة على المهملة الساكنة ، وهو ما يحتفره الهوامّ والسباع لأنفسها .

قوله : (مِثْلَ الهَيقِ النافِرِ) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «الهيق : الظليم».(8) وهو الذكر من النعام . ومقتضى عدم التقييد أن يكون .

ص: 615


1- الوافي ، ج 2 ، ص 162 .
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1566 (وسق) .
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 289 (وسق) .
4- أساس البلاغة ، ص 675 (وسق) .
5- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 224 (حاق) .
6- في الكافي المطبوع : «لم اُعازَّك» .
7- الوافي ، ج 2 ، ص 163 . وفيه : «لم اُعارك من المعاداة» .
8- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 291 (هيق) .

بفتح الهاء وسكون الياء المثنّاة ، كما لايخفى على الممارس لكلامه .

قوله : (فَنَفَرَ عليه محمّدٌ بانتهارٍ [احْبِسْهُ]) . [ح 17 / 938]

ضمير «عليه» لعيسى ، أو للحابس .

في القاموس : «نفّره عليه تنفيرا، أي قضى له عليه بالغلبة».(1)

ولعلّ المراد نفّر الحابس عليه، أي أغراه وجرّأه كما يغرى الكلب على أحد .

وفي القاموس : «نهره وانتهره : زبره»(2) .

وقوله : «أحبسه» إلى آخره ما يعزى به على وجه الخشونة والانتهار .

قوله : (فارِسٌ مُعلَمٌ في يده طِرادَةٌ) . [ح 17 / 938]

في الصحاح : «أعلم الفارس : جعل لنفسه في الحرب علامة الشجعان ، فهو معلم».(3)

وفي القاموس : «الطرد - ويحرّك - : الإبعاد ؛ وككتاب : رمح قصير»(4) .

قوله : ([فَرَسٍ كُمَيتٍ] أقرَح) . [ح 17 / 938]

في الصحاح : «القرحة في وجه الفرس: الغرّة ؛ والفرس أقرح»(5) .

قوله : ([من آل أبي عمّار] الدُّؤليّين) . [ح 17 / 938]

الدئل - بالكسر - : حيّ من تغلب .

قوله : (عليه غديرتان [مَضْفورَتان]) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «الغدر : ضدّ الوفاء . والغديرة : الذوابة»(6).

وفيه في فصل الضاد المعجمة : «ضفر الشعر : نسج . والحبل : فتله»(7) .

[قوله : (فلا رَحِمَ اللّه ُ رِمَّتَهُ)]. [ح 17 / 938]

وفي الصحاح : «الرمّة - بالكسر - : العظام البالية»(8) .).

ص: 616


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 146 (نفر) .
2- راجع: القاموس المحيط ، ص 150 (نهر). وهو موجود نصّا في الصحاح، ج 2، ص 840 (نهر).
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1990 (علم) .
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 310 (طرد) .
5- الصحاح ، ج 1 ، ص 395 (قرح) . وفيه : «ما دون الغرّه».
6- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 100 (غدر) .
7- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 76 (ضفر).
8- الصحاح ، ج 5 ، ص 1937 (رمم).

قوله : (واصْطُفِيَ ما كان له من مال) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «استصفاه : أخذ صفوه كاصطفاه . وماله : أخذه كلّه»(1) .

مقتضى عبارة الخبر أن يذكر «كاصطفاه» بعد «وماله : أخذه كلّه» كما لايخفى على الفطن .

قوله : (وَاغْلُظْ له) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «أغلظ له في القول : خشن»(2) .

قوله : ([إنّك تُقْتَلُ عند كِبَرِ سِنِّك] ضياعا) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «مات ضياعا، كسحاب ، أي غير مفتقد»(3) .

قوله :( لا يَنتَطِحُ من دَمِكَ عَنْزانِ) . [ح 17 / 938]

في الصحاح : «انطحت الكباش وتناطحت»(4). والمراد أنّ دمك يصير هدرا لا يصول فيه أحد على قاتلك ، فضلاً أن يقتله قودا .

وفي المغرب : «وفي الأمثال : لا ينتطح فيها عنزان ، يضرب في أمرٍ مبيّن لا يكون فيه تعيير ولا نكير .

قال الجاحظ : أوّل من تكلّم به النبيّ صلى الله عليه و آله حين قتل عمر بن عدي»(5) .

وفي النهاية : «لا ينتطح فيها عنزان ، أي لا فيها عنزان(6) ؛ لأنّ النطاح من شأن التيوس والكباش ، لا من شأن العنوز . وهو إشارة إلى قضيّة مخصوصة لا يجري فيها خلف ولا نزاع» (7).

قوله : (يَنْتَمِي من آلِ الحسن) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «انتمى البازي : ارتفع من موضعه إلى آخر»(8) . .

ص: 617


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 352 (صفو).
2- القاموس المحيط ، ج 2، ص 397 (غلظ).
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 58 (ضيع) .
4- الصحاح ، ج 1 ، ص 412 (نطح) .
5- المغرب ، ج 2 ، ص 215 (نطح) .
6- كذا في النسخة ، وفي المصدر : «أي لايلتقى فيها اثنان ضعيفان» .
7- النهاية ، ج 5 ، ص 74 (نطح) .
8- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 397 (نما) .

قوله : (فَنَزَل بذُبابٍ) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «ذباب : موضع»(1) .

قوله : (المُسَوِّدَةُ) . [ح 17 / 938]

المراد بالمسوّدة جند بني العبّاس ؛ لأنّ رايتهم وملابسهم كانت سودا .

قوله : (إلى مَسجِدِ الخَوَّامينَ) . [ح 17 / 938]

في الوافي : «الخوّام ، كأنّه من الخامة بمعنى الفجل»(2) .

قوله : (فَضاءٍ) [ح 17 / 938] بالجرّ ، عطف بيان للموصول .

قوله : (إلى شِعْبِ فَزارَة) . [ح 17 / 938]

في الوافي : «فزارة ، وهذيل ، وأشجع أسماء قبائل سمّوا بأسماء آبائهم»(3) .

قوله : (بزُجِّ الرُّمحِ) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «الزجّ - بالضم - : الحديد في أوّل الرمح»(4) .

قوله : (حتى أثخَنَه) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «أثخن في العدوّ : بالغ في الجراحة فيهم ؛ وفلانا : أوهنه. و«حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ»(5) أي غلبتموهم وكثر فيهم الجراح»(6) .

قوله : (واُجلينا هَرَبا في البلاد) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «جلى القوم عن الموضع ومنه جلوا و جلاء وأجلوا : تفرّقوا»(7) .

قوله : (مُكْمَنا عنده) . [ح 17 / 938]

في القاموس : «كمن له - كنصر وسمع - : استخفى ، وأكمنه . واكتمن : اختفى»(8) .).

ص: 618


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 68 (ذبب) .
2- الوافي ، ج 2 ، ص 163 ، وفيه : «والخوّامين يشبه أن يكون بالحاء المهملة بمعنى الأماكن الغلاظ المنقادة ، جمع خومانه» . وراجع : مرآة العقول ، ج 4 ، ص 145 .
3- الوافي ، ج 2 ، ص 163 .
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 191 (زجج) .
5- محمّد (47) : 4 .
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 206 (ثخن) .
7- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 313 (جلا).
8- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 263 (كمن).

قوله : (المقتول بفخّ) . [ح 18 / 939]

قال صاحب كتاب معجم البلدان :

الفَخّ - بفتح أوّله وتشديد ثانيه - : وادٍ بمكّة ، ويوم فخّ كان أبو عبد اللّه الحسين بن عليّ بن الحسن بن السبط خرج يدعو إلى نفسه.(1) انتهى .

والمراد بالسبط الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام .

قوله : (فأجِدَّ الضِّرابَ) [ح 18 / 939 [أمر من «أجاد» .

وفي القاموس : «ضرب في الأرض ضرابا : خرج تاجرا ، أو غازيا ، أو أسرع»(2) .

قوله : (من تَحَنُّنِكَ) . [ح 19 / 940]

في كثير من النسخ : «من محبّتك».

قال صاحب الوافي : «يعني للإمامة والخلافة (مع خذلانك) يعني إيّانا ، أو مع أنّك مخذول (وقد شاورتُ) أي الناس في دعوتهم لمن يرتضيه آل محمّد (وقد احْتَجَبْتُها) أي احتجبت عن مشاورتي ولم تحضرنا»(3) .

أقول : لعلّه قدس سره يريد أنّ «احتجبتها» من باب الحذف والإيصال .

قوله : (فَاسْتَهْوَيْتُمْ) . [ح 19 / 940]

في القاموس : «استهوته الشياطين : ذهبت بهواه وعقله ، أو استهامته وحيّرته ، أو زيّنت له هواه»(4) .

قوله : (إلى يحيى بن عبد اللّه) . [ح 19 / 940]

في الوافي : «كأنّه عليه السلام أشرك أخاه عليّ بن جعفر رضى الله عنه معه في المكاتبة ؛ ليصرف بذلك عنه ما يصرف من نفسه»(5) .

قوله : (وسَتُكتَبُ شَهادَتُهُم [ويُسْألونَ]) . [ح 19 / 940]

ذكر الآية على وجه الاقتباس(6) إشعارٌ بأنّ ما ذكرت من أنّي وأبي مدّعيان للخلافة .

ص: 619


1- معجم البلدان ، ج 4 ، ص 237 (فخ) .
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 95 (ضرب) .
3- الوافي ، ج 2 ، ص 173 .
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 404 (هوى) .
5- الوافي ، ج 2 ، ص 173 .
6- اقتباس من الآية 19 من سورة الزخرف (43) .

شهادة زور ستسأل عنها .

قوله : (مَا الْعَتْرَفُ في بدنك) . [ح 19 / 940]

في القاموس : «العتريفة : الغزيرة النفس التي لا تبالي الزجر . والعترفة : الشدّة»(1) .

في النهاية :

فيه أنّه ذكر الخلفاء بعده ، فقال : «أوه لفراخ محمّد من خليفة يستخلف ، عتريف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف» . العتريف : الغاشم الظالم ؛ وقيل : الداهي الخبيث. قال الخطابي : قوله : «خلفي» يتأوّل على ما كان من يزيد بن معاوية إلى الحسين بن عليّ وأولاده رضي اللّه عنهم ، وخلف الخلف ما كان يوم الحرّة على أولاد المهاجرين والأنصار(2) . انتهى .

وفي فائق الزمخشري عن معاذ بن جبل :

بينا أنا وأبو عبيدة وسلمان جلوسا ننتظر رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذ خرج علينا في الهجير مرعوبا ، فقال : «أوه من خليفة يستخلف ، عتريف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف» . العتريف والعتريس : الغاشم . وقيل : هو قلب عفريت يتأوّل على ما جرى من يزيد - عليه اللعنة - في أمر الحسين ، وعلى أولاد المهاجرين والأنصار يوم الحرّة ، وهم خلف الخلف(3) .

أقول : للّه درّ من قال (شعر) :

لولا حدود صوارم أمضا مضاربها الخليفة *** لنشرت من أسرار آل محمّد جملاً طريفة

وأريتكم أنّ الحسين اُصيب في يوم السقيفة *** ولأيّ شيء ألحدت بالليل فاطمة الشريفة

وقال دعبل في قصيدته التي قالها في الإمام عليّ بن موسى عليهماالسلام (شعر) :

وما سهلت تلك المذاهب فيهم *** على الناس إلاّ بيعة الفلتات(4) .

ص: 620


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 171 (عترف) .
2- النهاية ، ج 3 ، ص 178 (عترف) .
3- الفائق في غريب الحديث ، ج 2 ، ص 329 (عترف) .
4- ديوان دعبل الخزاعي، ص 57 .

[قوله : (ومَا الصَّهْلُجُ في الإنسان)]. [ح 19 / 940]

و«الصهلج» ليس في الكتب المشهورة ، نعم في القاموس : «الصملج - كعملس - : الشدّة»(1) .

تمّ الجزء الثاني من كتاب الحجّة ، ويتلوه الجزء الثالث الذي أوّله: باب كراهية التوقيت.

***

وقبل الشروع نذكر ما نقله الصدوق محمّد بن بابويه في كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة من دلائل علماء الزيديّة على مذهبهم واعتراضاتهم علينا ؛ لأنّا قد نبّهنا في شرح «باب الإشارة والنصّ على علي بن الحسين عليه السلام » على أنّ إمامة أمير المؤمنين وابنيه الحسن والحسين عليهم السلام قد كفانا مؤونةَ إثباتها اشتهارُ محامدهم وفضائلهم وما جرى عليهم من فراعنة أعصارهم ، وأنّ من لم يكن ممّن ختم اللّه على قلوبهم لايخفى عليه أنّ اُولئك الفراعنة ليسوا في عُرضة أن يُعارضوهم ، ويتشابه الأمر حتّى يحتاج في التمييز إلى النظر والاستدلال (شعر) :

شجو حسّادهم وغيظ عداهم *** أن يرى مبصر ويسمع واعي

ولم ينازعهم إلاّ جمع من المتصنّعين بالإسلام ، المنقلبين على أعقابهم ، الذين افتضحوا بقبائح أفعالهم بين جميع الأنام ، وصاروا مواضيع الطعن ومواقع اللعن إلى يوم القيامة ، فنحن مستغنون بحمد اللّه عن إثبات بطلانهم وتحقيق مستحقّي الإمامة في أزمانهم .

نعم، زمان سيّد الساجدين عليه السلام مظانّ تطرّق الشبهة ؛ لأنّه كان معاصرا لمحمّد بن الحنفيّة رضى الله عنه وهو ذو جلالة الشأن وأكبر ولد أمير المؤمنين عليه السلام ، ولزيد بن الحسن وأخيه الحسن بن الحسن وهما أيضا ممّن للشبهة في أمرهم سبيل ، ونفي صلاحيتهم للإمامة يحتاج إلى دليل ، وبين شيعتهم علماء فضلاء متتبّعين لأخبار النبيّ صلى الله عليه و آله ومتفحّصين لآثار السلف وأحوال الصحابة التابعين ، ومع ذلك يُعارضونا ويردّون علينا دلائلنا، .

ص: 621


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 197 (صملج) .

ويقيمون على ما ذهبوا إليه دلائل يزعمون أنّهم راعوا فيها جانب العدل والإنصاف، وجانبوا التقوّل والبغي والاعتساف ؛ فها نحن ذاكروا مقالاتهم واعتراضاتهم واستدلالاتهم لينظر فيها بعين الإنصاف من لم يُمْرِض قلبَه حبُّ طريقة الآباء والأسلاف «فإنّ من عَشِقَ شيئا أعْشى بصرَه وأمرض قلبَه فهو ينظر بعينٍ غيرِ صحيحة ، ويسمع باُذنٍ غيرِ سميعة» كما في حديث أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة(1) .

في أوائل كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة للصدوق أبي جعفر محمّد بن بابويه القمّي قدّس اللّه روحه ونوّر ضريحه :

وقال أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي في نقض كتاب الأشهاد لأبي زيد العلوي ، قال صاحب الكتاب بعد أشياء كثيرة ذكرها لا منازعة فيها : وقالت الزيديّة والمؤتمّة(2) الحجّة من ولد فاطمة عليهاالسلام لقول الرسول المجمع عليه في حجّة الوداع ويوم خروجه إلى الصلاة في مرضه الذي توفّي فيه : «أيّها الناس إنّي خلّفت فيكم كتاب اللّه وعترتي ألا إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، ألا وإنّكم لن تضلّوا ما استمسكتم بهما» . ثمّ أكّد صاحب الكتاب هذا الخبر ، وقال فيه قولاً لا مخالفة فيه ، ثمّ قال بعد ذلك: إنّ المؤتمّة خالفت الإجماع وادّعت الإمامة في بطن من العترة ، ولم توجبها لسائر العترة ، ثمّ لرجل من ذلك البطن في كلّ عصر .

فأقول - وباللّه الثقة - : إنّ في قول النبيّ صلى الله عليه و آله على ما يقوله الإماميّة حجّةً واضحةً ، وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي» دلّ على أنّ الحجّة ليس من العجم ولا من سائر قبائل العرب ، بل من عترته أهل بيته ، ثمّ قرن قوله بما دلّ به على مراده ، فقال : «ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» فأعلَمَنا أنّ الحجّة من عترته لا يفارق الكتاب ، وإنّا متى نتمسّك من لا يفارق الكتاب لن نضلّ.

ومن لا يفارق الكتاب - ممّن فرض اللّه على الاُمّة أن يتمسّكوا به - يجب في العقول أن يكون عالما بالكتاب ، مأمونا عليه بعلم ناسخه من منسوخه ، وخاصّه من عامّه ، وحتمه من ندبه ، ومحكمه من متشابهه ؛ ليضع كلّ شيء من ذلك في موضعه الذي وضعه اللّه عزّ وجلّ ، لا يقدّم مؤخّرا ، ولا يؤخّر مقدّما .ة.

ص: 622


1- نهج البلاغة ، ص 159 ، الخطبة 109.
2- يعني الإمامية الاثنى عشرية.

ويجب أن يكون جامعا لعلم الدين كلّه ليمكن التمسّك به ، والأخذ بقوله فيما اختلفت فيه الاُمّة وتنازعته من تأويل الكتاب والسنّة ، ولأنّه إن بقي شيء لا يعلم لم يمكن التمسّك به فيه ، ثمّ متى كان بهذا المحلّ لم يكن مأمونا على الكتاب ، ولم يؤمن أن يغلط ، فيضع الناسخ منه مكان المنسوخ ، والمحكم مكان المتشابه ، والندب مكان الحتم ، إلى غير ذلك ممّا يكثر تعداده .

وإذا كان هذا هكذا ، صار الحجّة والمحجوج سواءً ، وإذا فسد هذا القول صحّ ما قالت الإماميّة من أنّ الحجّة من العترة لا يكون إلاّ جامعا لعلم الدين ، معصوما مؤتمنا على الكتاب . فإن وجدت الزيديّة في أئمّتها مَن هذه صفته فنحن أوّل من ينقاد له ، وإن يكن الاُخرى فالحقّ أولى ما اتّبع .

وقال شيخ من الإماميّة : إنّا لم نقل إنّ الحجّة من ولد فاطمة عليهاالسلام قولاً مطلقا ، بل قلناه بتقييد وشرائط ، ولم نحتج لذلك بهذا الخبر فقط ، بل احتججنا به وبغيره ، فأوّل ذلك أنّا وجدنا النبيّ صلى الله عليه و آله قد خصّ من عترته أهل بيته أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام بما خصّ ودلّ على جلالة خطرهم وعِظَم شأنهم وعلوّ حالهم عند اللّه عزّ وجل بما فعل بهم في الموطن بعد الموطن والموقف بعد الموقف بما شهرته تغني عن ذكره بيننا وبين الزيديّة ، ودلّ اللّه - تعالى ذكره - على ما وصفناه من علوّ شأنهم بقوله : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه ُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا»(1) وبسورة هل أتى ، وما يشاكل ذلك ؛ فلمّا قدّم عليه السلام هذه الاُمور وقرّر عند اُمّته أنّه ليس في عترته من يتقدّمهم في المنزلة والرفعة ولم يكن عليه السلام ممّن ينسب إلى المحاباة ولا ممّن يوالي ويقدّم إلاّ على الدين ، علمنا أنّهم عليهم السلام نالوا ذلك منه استحقاقا بما خصّهم به ، فلمّا قال بعد ذلك كلّه : «قد خلّفت فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي » علمنا أنّه عنى هؤلاء دون غيرهم ؛ لأنّه لو كان من عترته من له هذه المنزلة لخصّه عليه السلام ونبّه على مكانه ودلّ على موضعه ؛ لئلاّ يكون فعله بأمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام محاباةً، وهذا واضح بيّن والحمد للّه. ثمّ دلّنا على أنّ الإمام بعد أمير المؤمنين عليه السلام الحسن استخلاف أمير المؤمنين عليه السلام إيّاه واتّباع أخيه له طوعا .3.

ص: 623


1- الأحزاب (33): 33.

وأمّا قوله : «إنّ المؤتمّة خالفت الإجماع وادّعت الإمامة في بطن من العترة » فيُقال : ما هذا الإجماع السابق الذي خالفناه لأنا لا نعرفه ، اللّهمّ إلاّ أن يجعل مخالفة الإماميّة للزيديّة خروجا عن الإجماع ، فإن كنت إلى هذا تومئ فليس يتعذّر على الإماميّة أن تنسب الزيديّة إلى مثل ما نسبتها إليه ، وتدّعي عليك من الخروج من الإجماع مثل الذي ادّعيت عليها ، وبعدُ فإنّك تقول أنّ الإمامة لا تكون إلاّ لولد الحسن والحسين عليهماالسلام فبيّن لنا لم خصّصت ولدهما بذلك دون سائر العترة لنبيّن لك بأحسن من حجّتك على ما قلناه؟ وسيأتي البرهان في موضعه إن شاء اللّه .

ثمّ قال صاحب الكتاب : وقالت الزيديّة : الإمامة جائزة للعترة ؛ لدلالة رسول اللّه صلى الله عليه و آله عليهم عامّا لم يخصّص بها بعضا دون بعض ، ولقوله عزّ وجلّ لهم دون غيرهم بإجماعهم: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»(1) الآية .

فأقول - باللّه التوفيق - : قد غلط صاحب الكتاب فيما حكى ؛ لأنّ الزيديّة إنّما تجيز الإمامة لولد الحسن والحسين خاصّة ، والعترة في اللغة العمّ وبنو العمّ ، الأقرب فالأقرب ، وما عرف أهل اللغة قطّ ، وما حكي عنهم أحد أنّهم قالوا : العترة لا يكون إلاّ ولدا لابنة من ابن العمّ ، هذا شيء تمنّته الزيديّة ، وخدعت به أنفسها ، وتفرّدت بادّعائه بلا بيان ولا برهان ؛ لأنّ الذي يدّعيه ليس في العقل ولا في الكتاب ولا في الخبر ولا في شيء من اللغات ، وهذه اللغة وهؤلاء أهلها ، فاسألوهم يبيّن لكم ؛ لأنّ العترة في اللغة الأقرب ، فالأقرب من العمّ وبني العمّ .

فإنْ قال صاحب الكتاب : فلم زعمت أنّ الإمامة لا تكون لفلان وولده وهم من العترة عندك ؟

قلنا له: نحن لم نقل هذا قياسا ، وإنّما قلناه اتّباعا لما فعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله بهؤلاء الثلاث(2) دون غيرهم ، ولو فعل بفلان ما فعل بهم لم يكن عندنا إلاّ السمع والطاعة .

وأمّا قوله : «إنّ اللّه تبارك وتعالى قال: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا» الآية» فيُقال له : قد خالفك خصومك ؛ من المعتزلة ، وغيرهم في تأويل هذه الآية ، وخالفتك الإماميّة ، وأنت تعلم مَن السابق بالخيرات عند الإماميّة ، وأقلّ ما كان يجب .

ص: 624


1- فاطر (35) : 32 .
2- يعني أميرالمؤمنين والسبطين عليهم السلام .

عليك - وقد ألّفت كتابك هذا لتبيين الحقّ وتدعو إليه - أن تؤيّد الدعوى بحجّة ، فإن لم يكن فاقتناع ، فإن لم يكن فترك الاحتجاج بما لم يمكنك أن تبيّن الحجّة أنّه حجّة لك دون خصومك؛ فإنّ تلاوة القرآن وادّعاء تأويله بلا برهان أمر لا يعجز عنه أحد ، وقد ادّعى خصومنا وخصومك أنّ قول اللّه عزَّ وجلَّ: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»(1) الآية ، هم جميع علماء الاُمّة ، وسبيل علماء المرجئة سبيل واحد ، وأنّ الإجماع لا يتمّ والحجّة لا تثبت بعلم العترة ، فهل بينك وبينها فصل؟ وهل تقنع منها بما ادّعت أو تسألها البرهان ؟

فإن قال : بل اسألها البرهان . قيل له : فهات برهانك أوّلاً على أنّ المعنيّ بهذه الآية التي تلوتها هم العترة ، وأنّ العترة هم الذرّيّة ، وأنّ الذرّيّة هم ولد الحسن والحسين دون غيرهم من ولد جعفر وغيرهم ممّن اُمّهم فاطميّات .

ثمّ قال : ويقال للمؤتمّة : ما دليلكم على إيجاب الإمامة لواحد دون الجميع وخطرها على الجميع؟ فإن اعتلّوا بالوراثة والوصيّة ، قيل لهم : هذه المغيريّة(2) تدّعي الإمامة لولد الحسن ، ثمّ في بطون من ولد الحسن بن الحسن في كلّ عصر و زمان بالوراثة والوصيّة من أبيه ، وخالفوكم فيما تدّعون كما خالفتم غيركم فيما يدّعي .

فأقول - وباللّه التوفيق - : الدليل على أنّ الإمامة لا يكون إلاّ لواحد أنّ الإمام لا يكون إلاّ الأفضل ، فالأفضل يكون على وجهين : إمّا أن يكون أفضل من الجميع ، أو أفضل من كلّ واحد من الجميع ، وكيف كانت القصّة فليس يكون الأفضل إلاّ واحدا ؛ لأنّه من المحال أن يكون أفضل من جميع الاُمّة أو من كلّ واحد وفي الاُمّة من هو أفضل منه، فلمّا لم يمكن هذا وصحّ بدليل يعترف الزيديّة بصحّته أنّ الإمام لا يكون إلاّ الأفضل، صَحَّ أنّها لا تكون إلاّ لواحد في كلّ عصر . والفصل بيننا وبين المغيريّة سهل واضح قريب ، والمنّة للّه ، وهو أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله دلّ على الحسن والحسين دلالة بيّنة ، وبان بهما من سائر العترة بما .

ص: 625


1- آل عمران (3) : 110 .
2- المغيريّة هم أصحاب المغيرة بن سعيد العجلي الذي ظهر بظاهر الكوفة في إمارة خالد بن عبداللّه القسري ، فظفر به وأحرقه و أحرق أصحابه سنة 119 ، كما في تاريخ الطبري . وقد تظافرت الروايات بكونه كذّابا ، وروي الكشّي روايات كثيرة في ذمّه . وهو وأصحابه أنكروا إمامة أبي عبداللّه جعفر بن محمّد عليهماالسلام ، وقالو بإمامة محمّد بن عبداللّه بن الحسن ، فلمّا قتل صاروا لا إمام لهم و لا وصيّ ، ولايثبتون لأحد إمامة بعد .

خصّهما به ممّا ذكرناه ووصفناه ، فلمّا مضى الحسن كان الحسين أحقّ وأولى ؛ لدلالة الرسول عليه واختصاصه إيّاه وإشارته إليه ، فلو كان الحسن أوصى الإمامة لابنه لكان مخالفا للرسول صلى الله عليه و آله و حاشى له من ذلك ، وبعدُ فلسنا نشكّ ولا نرتاب في أنّ الحسين عليه السلام أفضل من الحسن بن الحسن ، والأفضل هو الإمام على الحقيقة عندنا وعند الزيديّة ؛ فقد تبيّن لنا بما وصفنا كذب المغيريّة ، وانتقض الأصل الذي بنوا عليه مقالتهم ، ونحن لم نخصّ عليّ بن الحسين بن عليّ عليهم السلام بما خصّصناه به محاباة ، ولا قلّدنا في ذلك أحدا ، و لكنّ الأخبار قرعت سمعنا فيه بما لم تقرع في الحسن بن الحسن .

ودلّنا على أنّه أعلم منه ما نقل من علم الحلال والحرام عنه وعن الخلف من بعده وعن أبي عبد اللّه عليه السلام ، ولم نسمع للحسن بن الحسن بشيء يمكننا أن نقابل بينه وبين ما سمعناه من علم عليّ بن الحسين عليه السلام ، والعالم بالدين أحقّ بالإمامة ممّن لا علم له ، فإن كنتم يا معشر الزيديّة عرفتم للحسن بن الحسن علما بالحلال والحرام فأظهروه ، فإن لم تعرفوا له فتفكّروا في قول اللّه عزّ وجل: «أَفَمَنْ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّى إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(1) ، ولسنا ندفع الحسن بن الحسن عن فضل و تقدّم وطهارة وزكاء وعدالة ، والإمامة لا يتمّ أمرها إلاّ بالعلم بالدين ، والمعرفة بأحكام ربّ العالمين، وتأويل كتابه . ولارأينا إلى يومنا هذا ولا سمعنا بأحد قالت الزيديّة بإمامته إلاّ وهو يقول في التأويل - أعني تأويل القرآن - على الاستخراج ، وفي الأحكام على الاجتهاد والقياس ، وليس يمكن تأويل القرآن بالاستخراج ؛ لأنّ ذلك كان ممكنا لو كان القرآن إنّما اُنزل بلغة واحدة ، فكان علماء أهل تلك اللغة يعرفون المراد ، فأمّا والقرآن قد نزل بلغات كثيرة ، وفيه أشياء لا يعرف المراد منها إلاّ بتوقيف ، مثل الصلاة والزكاة والحجّ ، وما في هذا الباب منه ، وفيه أشياء لا يعرف المراد منها إلاّ بتوقيف ممّا نعلم وتعلمون أنّ المراد منه إنّما عرف بالتوقيف دون غيره ، فليس يجوز حمله على اللغة ؛ لأنّك تحتاج أوّلاً أن تعلم أنّ الكلام الذي تريد أن تتأوّله ليس فيه توقيف أصلاً ، لا في جملته ولا في تفصيله .

فإن قال منهم قائل : لم تنكر أن يكون ما كان سبيله أن يعرف بالتوقيف فقد وقف اللّه .

ص: 626


1- يونس (10) : 35 .

ورسوله عليه ، وما كان سبيله أن يستخرج فقد وكل إلى العلماء ، وجعل بعض القرآن دليلاً على بعض ، فاستغنينا بذلك عمّا تدعون به من التوقيف والموقف .

قيل له : لا يجوز أن يكون ذلك على ما وصفتم ؛ لأنّا نجد للآية الواحدة تأويلين متضادّين كلّ واحد منهما يجوز في اللغة يحسن أن يتعبّد اللّه به ، وليس يجوز أن يكون للمتكلّم الحكيم كلام يحتمل أمرين متضادّين .

فإن قال : ما تنكر أن يكون في القرآن دلالة على أحد المرادين ، وأن يكون العلماء بالقرآن متى تدبّروه علموا المراد بعينه دون غيره .

فيقال للمعترض بذلك : أنكرنا هذا الذي وصفته ؛ لأنّا نخبرك به : ليس تخلو تلك الدلالة التي في القرآن على أحد المرادين من أن تكون محتملة ، للتأويل أو غير محتملة ، فإن كانت محتملة للتأويل فالقول فيها كالقول في هذه الآية ، وإن كانت لا تحتمل التأويل فهي إذن توقيف نصّ على المراد بعينه ، وليس يجب أن يشكل على أحد عَلِم اللغة معرفةُ المراد ، وهذا ممّا لا ينكر في العقول ، وهو من فعل الحكيم جائز حسن ، ولكنّا إذا تدبّرنا آي القرآن لم نجد هكذا ، ووجدنا الاختلاف في تأويلها قائما بين أهل العلم بالدين واللغة ، ولو كان هناك آيات تفسّر آياتٍ تفسيرا لا يحتمل التأويل ، لكان فريق من المختلفين في تأويله من العلماء باللغة معاندين ، ولأمكن كشف أمرهم بأهون السعي ، ولكان من تأوّل الآية خارجا عن اللغة ومن لسان أهلها ؛ لأنّ الكلام إذا لم يحتمل التأويل فحملته على ما لايحتمله خرجت عن اللغة التي وقع الخطاب بها؛ فدلّونا يا معشر الزيديّة على آية واحدة اختلف أهل العلم في تأويلها في القرآن ما يدلّ نصّا وتوقيفا على تأويلها ، وهذا أمر متعذّر ، وفي تعذّره دليل على أنّه لابدّ للقرآن من مترجم يعلم مراد اللّه فيخبر به . وهذا عندي واضح(1) .

وقال(2) بعد ذكر أسئلة وأجوبة :

ثمّ يقال : إنّه أنّا إنّما علمنا أنّ في العترة من يعلم التأويل ، ويعرف الأحكام بخبر النبيّ صلى الله عليه و آله الذي قدّمنا، وبحاجتنا إلى من يعرّفنا المراد من القرآن ، ومن يفصّل بين أحكام اللّه وأحكام الشيطان ، ثمّ علمنا أنّ الحقّ في هذه الطائفة من ولد الحسين ؛ لما رأينا أنّ كلّ .

ص: 627


1- كمال الدين ، ص 94 - 100.
2- أي شيخ الإماميّة أو أبو جعفر ابن قبة (منه) .

من خالفهم من العترة يعتمد في الحكم والتأويل على ما يعتمد عليه علماء العامّة من الاجتهاد والرأي والقياس في الفرائض السمعيّة التي لا علّة في التعبّد بها إلاّ المصلحة ؛ فعلمنا بذلك أنّ المخالفين لهم مبطلون . ثمّ ظهر لنا من علم هذه الطائفة بالحلال والحرام والأحكام ما لم يظهر من غيرهم ، ثمّ ما زالت الأخبار بنصّ واحد على آخر حتّى بلغ الحسن بن عليّ عليهماالسلام ، فلمّا مات ولم يظهر النصّ والخلف بعده، رجعنا إلى الكتب التي كان أسلافنا رووها قبل الغيبة ، ووجدنا فيها ما يدلّ على أمر الخلف من بعد الحسن عليه السلام ، وأنّه يغيب عن الناس ويخفى شخصه ، وأنّ الشيعة يختلف ، وأنّ الناس يقعون في حيرة من أمره ، فعلمنا أنّ أسلافنا لم يعلموا الغيب ، وأنّ الأئمّة عليهم السلام أعلموهم بذلك بخبر الرسول ، فصحّ عندنا من هذا الوجه بهذه الدلالة كونه ووجوده وغيبته ، فإن كان هنا حجّة تدفع ما قلنا فليظهر الزيديّة ، فما بيننا وبين الحقّ معاندة ؛ والشكر للّه .(1)

ثمّ قال - يعني صاحب الكتاب - :

ليس الأمر كما يتوهّمون في بني هاشم ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله دلّ اُمّته على عترته بإجماعنا وإجماعكم التي هي خاصّته التي لا يقرب أحد منه صلى الله عليه و آله كقربهم ، فهي لهم دون الطلقاء وأبناء الطلقاء ، ويستحقّها واحد منهم في كلّ زمان ؛ إذ كان الإمام لا يكون إلاّ واحدا بلزوم الكتاب والدعاء إلى إقامته بدلالة الرسول صلى الله عليه و آله عليهم : «أنّهم لا يفارقون الكتاب حتّى يردوا عليَّ الحوضَ». وهذا إجماع ، والذين اعتللتم بهم من بني هاشم ليسوا من ذرّيّة الرسول وإن كان لهم ولادة ؛ لأنّ كلّ بني اُميّة(2) ينتمون إلى عصبتهم(3) ما خلا ولد فاطمة عليهاالسلام ؛ فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عصبتهم وأبوهم ، والذرّيّة هم الولد ؛ لقول اللّه عزّ وجلّ: «إِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»(4) .

فأقول - وباللّه اعتصم - : إنّ هذا الأمر لا يصحّ بإجماعنا وإجماعكم عليه ، وإنّما يصحّ .

ص: 628


1- كمال الدين ، ص 113 - 114.
2- في المصدر : «بني ابنة» .
3- أي ينتسبون . وعصبة الرجل : بنوه و قرابته لأبيه ، وإنّما سمّوا عصبة لأنّهم عصبوا به ، أي أحاطوا به ، فالأب طرف و الابن طرف ، والعمّ جانب والأخ جانب . والعصبة اسم جنس يطلق على الواحد والكثير . وقال الفيروزآبادي : «العصبة : الذين يرثون الرجل عن كلالة من غير والد ولا ولد ، فأمّا في الفرائض فكلّ من لم يكن له فريضة مسمّاه فهو عصبة» . راجع : الصحاح ، ج 1 ، ص 182 ؛ قاموس المحيط ، ج 1 ، ص 104 (عصب) .
4- آل عمران (3) : 36 .

بالدليل والبرهان ، فما دليلك على ما ادّعيت؟ على أنّ الإجماع بيننا إنّما هو في ثلاثة : أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام ، ولم يذكر الرسول صلى الله عليه و آله ذرّيّته وإنّما ذكر عترته ، فملتم أنتم إلى بعض العترة دون بعض بلا حجّة وبيان أكثر من الدعوى، واحتججنا نحن بما رواه أسلافنا عن جماعة حتّى انتهى خبرهم إلى نصّ الحسين بن عليّ على ابنه ، ونصّ عليّ على محمّد ، ونصّ محمّد على جعفر ، ثمّ استدللنا على صحّة إمامة هؤلاء دون غيرهم ممّن كان في عصرهم من العترة بما ظهر من علمهم بالدين وفضلهم في أنفسهم ، وقد حمل العلم عنهم الأولياء والأعداء ، وذلك مبثوث في الأمصار ، معروف عند نقلة الأخبار ؛ وبالعلم يبيّن الحجّة من المحجوج ، والإمام من المأموم ، والتابع من المتبوع ، وأين دليلكم يا معشر الزيديّة على ما تدّعون(1) ؟

ثمّ قال صاحب الكتاب : ثمّ رجعنا إلى إيضاح حجّة الزيديّة في قول اللّه عزّ وجلّ: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»(2) الآية .

فيُقال له : نحن نسلّم لك أنّ هذه الآية نزلت في العترة ، فما برهانك أنّ السابق في الخيرات هم ولد الحسن والحسين ، دون غيرهم في سائر العترة؟ فإنّك لست تريد إلاّ التشنيع على خصومك ، وتدّعي لنفسك .

ثمّ قال : قال اللّه - عزَّ وجلَّ - وذكر العامّة والخاصّة من اُمّة نبيّه صلى الله عليه و آله : «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه ِ جَمِيعا»(3) ثمّ انقضت مخاطبة العامّة ، ثمّ استأنف مخاطبة الخاصّة فقال: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ»(4) إلى قوله للخاصّة: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»(5) فقال : هم ذرّيّة إبراهيم عليه السلام دون سائر الناس ، ثمّ المسلمون دون من أشرك من ذرّيّة إبراهيم قبل إسلامه ، وجعلهم شهداء على الناس فقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا» إلى قوله : «وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ»(6) وهذا سبيل الخاصّة من ذرّيّة إبراهيم ، ثمّ اعتلّ بآيات كثيرة تشبه هذه الآيات من القرآن .

فيقال له : أيّها المحتجّ أنت تعلم أنّ المعتزلة وسائر فرق الاُمّة تنازعك في تأويل هذه 8.

ص: 629


1- كمال الدين ، ص 115 .
2- فاطر (35) : 32 .
3- آل عمران (3) : 103 .
4- آل عمران (3) : 104 .
5- آل عمران (3) : 110 .
6- الحجّ (22) : 77 - 78.

الآيات أشدّ منازعة ، وأنت فليس تأتي بأكثر من الدعوى ، ونحن نسلّم لك ما ادّعيت ، ونسألك الحجّة فيما تفرّدت به من أنّ هؤلاء هم ولد الحسن والحسين دون غيرهم ، فإلى : متى تأتي بالدعوى وتعرض عن الحجّة ، وتهوّل علينا بقراءة القرآن، وتوهّم أنّ لك في قراءته حجّةً ليست لخصومك؟ ! واللّه المستعان .

ثمّ قال صاحب الكتاب : فليس من دعا إلى الخير من العترة - كمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وجاهد في اللّه حقّ جهاده - سواء ، وسائر العترة ممّن لم يدع إلى الخير ، ولم يجاهد في اللّه حقّ جهاده ، كما لم يجعل اللّه من هذا سبيله من أهل الكتاب سواء ، وسائر أهل الكتاب وإن كان تارك ذلك فاضلاً وعابدا ؛ لأنّ العبادة نافلة ، والجهاد فريضة لازمة كسائر الفرائض صاحبها يمشي بالسيف إلى السيف ، ويؤثر على الدعة الخوف ، ثمّ قرأ سورة الواقعة ، وقرأ الآيات التي ذكر اللّه فيها الجهاد ، وأتبع الآيات بالدعاوي ، ولم يحتجّ في شيء من ذلك بالحجّة ، فنطالبه بصحّتها، أو نقابله بما نسأله فيه الفصل .

ثمّ أقول - وباللّه أستعين - : إن كان كثرة الجهاد هو الدليل على الفضل والعلم والإمامة ، فالحسين أحقّ بالإمامة من الحسن ؛ لأنّ الحسن وادع المعاوية ، والحسين جاهد حتّى قُتل ، فكيف يقول صاحب الكتاب؟ وبأيّ شيء يدفع هذا؟

وبعدُ فلسنا ننكر فضل الجهاد ولا فرضه ، ولكنّا رأينا الرسول صلى الله عليه و آله لم يحارب أحدا حتّى وجد أنصارا وأعوانا فحينئذٍ حارب ، ورأينا أمير المؤمنين عليه السلام فعل مثل ذلك بعينه ، ورأينا الحسن عليه السلام قد همّ بالجهاد ، فلمّا خذله أصحابه وادع ولزم منزله ، فعلمنا أنّ الجهاد فرض في حال وجود الأنصار والأعوان ، والعالم بإجماع العقول أفضل من المجاهد الذي ليس بعالم ، و ليس كلّ من دعا إلى الجهاد يعلم كيف حكم الجهاد ، ومتى يجب القتال ، ومتى يحسن الموادعة ، وبماذا يستقبل أمر هذه الرعيّة ، وكيف يصنع بالدماء والأموال والفروج ؟!

وبعدُ فإنّا نرضى من إخواننا بشيء واحد ، وهو أن يدلّونا على رجل من العترة ينفي التشبيه والجبر من اللّه ، ولا يستعمل الاجتهاد والقياس في الأحكام السمعيّة ، ويكون مستقلاًّ كافيّا حتّى نخرج معه ، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على قدر الطاقة وبحسب الإمكان ، والعقول تشهد أنّ تكليف ما لا يطاق فاسد ، والتغرير بالنفس قبيح ، ومن التغرير أن يخرج جماعة قليلة لم تشاهد حربا ولا تدرّبت بدربة أهله إلى

ص: 630

قوم متدرّبين بالحروب تمكّنوا في البلاد وقتلوا العباد ، وتدرّبوا بالحروب ، ولهم العدد والسلاح والكراع ومن نصرهم من العامّة - ويعتقد أنّ الخارج مباح الدم - مثل جيشهم أضعافا مضاعفة ، وكيف يسومنا صاحب الكتاب أن نلقي بالأغمار المتدرّبين بالحروب؟ وكم عسى أن يحصل في يد داع إن دعا من هذا العدد؟ هيهات هيهات ، هذا أمر لا يزيله إلاّ نصر اللّه العزيز العليم .(1)

ويقال له : أليس جعفر بن محمّد عندكم كان لا يذهب إلى ما يدّعيه الإماميّة ، فكان على مذهبكم ودينكم؟ فلابدّ أن تقولوا : نعم ، اللّهمّ إلاّ أن تبرّؤوا منه ، فيُقال لهم : وقد كذبت الإماميّة فيما نقلته عنه ، وهذه الكتب المؤلّفة التي في أيديهم إنّما هي من تأليف الكذّابين، فإن قالوا : نعم ، قيل لهم : فإذا جاز ذلك فلِمَ لا يجوز أن يكون إمامكم يذهب مذهب الإماميّة ويدين بدينهم ، وأن يكون ما يحكي سلفكم ومشايخكم عنه مولّدا موضوعا لا أصل له(2) .

ويُقال لصاحب الكتاب : هل تعرف في أئمّة الحقّ أفضل من أمير المؤمنين عليه السلام ؟ فمن قوله : لا ، فيقال له : هل تعرف من المنكر بعد الكفر والشرك شيئا أقبح وأعظم ممّا كان من أصحاب السقيفة ؟ فمن قوله : لا ، فيقال له : فأنت أعلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد أو أمير المؤمنين؟ فلابدّ أن يقول : أمير المؤمنين ، فيقال له : فما باله لم يجاهد القوم؟ فإن اعتذر بشيء ، قيل له : فاقبل مثل هذا العذر من الإماميّة ؛ فإنّ الناس جميعا يعلمون أنّ الباطل اليوم أقوى منه يومئذٍ ، و أعوان الشيطان أكثر ، فلا تهوّل علينا بالجهاد وذكره ؛ فإنّ اللّه عزّوجلّ إنّما فرضه بشرائط لو عرفتها لقلّ كلامك وقصر كتابك ، ونسأل اللّه التوفيق .(3)

ويقال لصاحب الكتاب : أتصوّبون الحسن بن عليّ في موادعته معاوية ، أم تخطّئونه؟ فإن قالوا : نصوّبه ، قيل لهم : أتصوّبونه وقد ترك الجهاد وأعرض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه الذي تؤمّون إليه؟ فإن قالوا : نصوّبه لأنّ الناس خذلوه ولم يأمنهم على نفسه ، ولم يكن معه من أهل البصائر من يمكنه أن يقاوم بهم معاوية .

ص: 631


1- كمال الدين ، ص 117 - 119 .
2- كمال الدين ، ص 123 .
3- كمال الدين ، ص 125 - 126 .

وأصحابه ، فإذا قالوا ذلك ، قيل لهم : إذا كان الحسن عليه السلام مبسوط الغدر ومعه جيش أبيه ، وقد خطب له الناس على المنابر وسلّ سيفه وسار إلى عدوّ اللّه وعدّوهم للجهاد كما وصفتم وذكرتم ، فلِمَ لا تعتذرون جعفر بن محمّد عليه السلام في تركه الجهاد ، وقد كان أعداؤه في عصره أضعاف من كان مع معاوية ، ولم يكن معه من شيعته مأة نفر قد تدرّبوا بالحروب ، وإنّما كان قوم من أهل السرّ لم يشاهدوا حربا ، ولا عاينوا وقعة؟ فإن بسطوا عذره أنصفوا ، وإن امتنع منه ممتنع به سئل الفصل ولا فصل .

وبعدُ فإن كان قياس الزيديّة صحيحا ، فزيد بن عليّ أفضل من الحسن بن عليّ ؛ لأنّ الحسن وادع وزيد حارب حتّى قُتل ، وكفى بمذهب يؤدّي إلى تفضيل زيد بن عليّ على الحسن بن عليّ قبحا ؛ واللّه المستعان(1) .

انتهى ما نقلته من كلام الشيخ الفاضل ناصر الحقّ والدين أبي جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي على ما نقله الصدوق رضى الله عنه في كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة؛ والحمد للّه على ما هدانا ، وله الشكر على التوفيق لاتّباع الحقّ وترك العصبيّة والمراء . .

ص: 632


1- كمال الدين ، ص 126 .

فهرس المطالب

فهرس المطالب

تصدير............... 5

مقدّمة التحقيق............... 7

المؤلّف............... 7

المؤلّف وتراثه الشعري............... 9

مصنّفاته............... 13

الذريعة إلى حافظ الشريعة (الكتاب الذي بين يديك)............... 19

النسخة المعتمدة............... 22

الذريعة إلى حافظ الشريعة

شرح خطبة الكافي............... 35

كتاب العقل والجهل............... 119

كتاب فضل العلم............... 217

باب صفة العلم............... 220

باب فرض العلم............... 217

باب ثواب العالم والمتعلّم............... 220

باب صفة العلماء............... 220

باب فقد العلماء............... 221

ص: 633

باب استعمال العلم............... 221

باب المستأكل بعلمه والمُباهي به............... 223

باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه............... 223

باب النوادر............... 227

باب البدع والرأي والمقاييس............... 231

باب الردّ إلى الكتاب والسنّة و...··· 235

باب اختلاف الحديث............... 236

كتاب التوحيد............... 243

باب حدوث العالم وإثبات المحدث............... 245

باب إطلاق القول بأنّه شيء............... 306

باب أنّه لايعرف إلاّ به............... 308

باب المعبود............... 317

باب الكون والمكان............... 319

باب النسبة............... 321

باب النهي عن الكلام في الكيفيّة............... 322

باب إبطال الرؤية............... 324

باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه............... 329

باب النهي عن الجسم والصورة............... 331

باب صفات الذات............... 334

باب آخر و هو من الباب الأوّل............... 338

باب الإرادة أنّها من صفات الفعل...............338

باب حدوث الأسماء............... 350

باب معاني الأسماء واشتقاقها............... 365

باب آخر وهو من الباب الأوّل............... 378

ص: 634

باب تأويل الصمد............... 382

باب الحركة والانتقال............... 383

باب جوامع التوحيد............... 385

باب النوادر............... 449

باب البداء............... 450

باب المشيئة والإرادة............... 459

باب السعادة والشقاء............... 464

باب الخير والشرّ............... 473

باب الاستطاعة............... 473

كتاب الحجّة............... 477

باب الاضطرار إلى الحجّة............... 479

باب طبقات الأنبياء و الرسل و الأئمّة............... 491

باب الفرق بين الرسول و النبيّ و المحدّث............... 492

باب أنّ الحجّة لا تقوم للّه على خلقه إلاّ بإمام............... 492

باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة............... 492

باب معرفة الإمام و الردّ إليه............... 494

باب فرض طاعة الأئمّة............... 495

باب في أنّ الأئمّة شهداء اللّه عزّ وجلّ على خلقه............... 496

باب أنّ الأئمّة هم الهداة............... 497

باب أنّ الأئمّة نور اللّه عزّ وجلّ............... 499

باب أنّ الأئمّة هم أركان الأرض............... 502

باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته............... 504

باب ما فرض اللّه ورسوله من الكون مع الأئمّة............... 514

باب أنّ أهل الذكر الذين أمر اللّه الخلقَ بسؤالهم هم الأئمّة............... 514

ص: 635

باب أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة............... 517

باب أنّ الأئمّة قد اُوتوا العلم واُثبت في صدورهم............... 518

باب في أنّ من اصطفاه اللّه من عباده و أورثهم كتابه هم الأئمّة............... 519

باب أنّ القرآن يهدي للإمام............... 525

باب أنّ المتوسّمين الذين ذكرهم اللّه تعالى في كتابه هم الأئمّة...··· 527

باب أنّ الطريقة التي حثّ على الاستقامة عليها ولايةُ عليِّ............... 529

باب أنّ الأئمّة معدن العلم و............... 529

باب أنّ الأئمّة ورثة العلم يرث بعضهم بعضا العلم............... 530

باب أنّ الأئمّة ورثوا علم النبيّ و............... 530

باب أنّ الأئمّة عندهم جميع الكتب التي نزلت............... 532

باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة و............... 532

باب ما اُعطي الأئمّة من اسم اللّه الأعظم............... 534

باب ما عند الأئمّة من آيات الأنبياء............... 534

باب ما عند الأئمّة من سلاح رسول اللّه و متاعه............... 535

باب أنّ مثل سلاح رسول اللّه مثل التابوت في بني إسرائيل............... 539

باب فيه ذكر الصحيفة و الجفر و الجامعة و............... 540

باب في شأن (إنّا اَنْزَلْناهُ في لَيْلَة القَدْر) و تفسيرها............... 541

باب في أنّ الأئمّة يزدادون في ليلة الجمعة............... 560

باب أنّ الأئمّة يعلمون متى يموتون و ............... 561

باب أنّ الأئمّة يعلمون علم ما كان وما يكون............... 564

باب جهات علوم الأئمّة............... 564

باب أنّ الأئمّة لو ستر عليهم لأخبروا كلّ امرئ بما له و عليه............... 565

باب التفويض إلى رسول اللّه وإلى الأئمّة في أمر الدين............... 566

باب في أنّ الأئمّة بمن يشبّهون ممن مضى و ............... 566

ص: 636

باب أنّ الأئمّة محدّثون مفهّمون............... 567

باب ما فيه ذكر الأرواح التي في الأئمّة............... 567

باب أنّ الإمام يعرف الإمام الذي يكون من بعده............... 568

باب أنّ الإمامة عهد من اللّه عزّوجلّ معهود من واحد إلى واحد............... 569

باب أنّ الأئمّة لم يفعلوا شيئا ولا يفعلون............... 569

باب ما نصّ اللّه ورسوله على الأئمّة واحدا فواحدا............... 570

باب الإشارة والنصّ على أمير المؤمنين............... 571

باب الإشارة والنصّ على الحسن بن عليّ............... 577

باب الإشارة و النصّ على الحسين بن عليّ............... 584

باب الإشارة والنصّ على عليّ بن الحسين............... 584

باب الإشارة و النّص على أبي جعفر............... 593

باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن موسى............... 593

باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن الرضا............... 594

باب الإشارة والنصّ على أبي الحعفر الثاني............... 599

باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن الثالث............... 600

باب الإشارة والنصّ على أبي محمّد............... 600

باب في تسمية من رآه............... 601

باب نادر في حال الغيبة............... 602

باب في الغيبة............... 603

باب ما يُفصَل بين دعوى المحقّ والمبطل في أمر الإمامة............... 605

ص: 637

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.