مصابیح الانوار في حل مشکلات الاخبار المجلد 1

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: شبر، سیدعبدالله، 1826-1774؟م.

عنوان المؤلف واسمه: مصابیح الانوار فی حل مشکلات الاخبار [کتاب]/ عبدالله شبر؛ تحقیق مجتبی المحمودي؛ المساعدان عبدالحلیم الحلي، علی الانصاري.

تفاصيل النشر: قم: موسسه دارالحدیث العلمیه والثقافیه، مرکز للطباعه والنشر، 1432ق.= 1390.

مواصفات المظهر: 2ج.

فروست : مرکز بحوث دارالحدیث؛ 229

شابک : 230000 ریال: دوره: 978-964-493-560-2 ؛ ج.1: 978-964-493-561-9 ؛ ج.2: 978-964-493-562-6

لسان : العربية.

ملحوظة: نمایه.

ملحوظة: کتابنامه.

موضوع : غریب الحدیث

موضوع : حدیث -- نقد و تفسیر

موضوع : احادیث شیعه -- نقد و تفسیر

معرف المضافة: محمودي، مجتبی، 1333 - ، محقق.

معرف المضافة: حلي، عبدالحلیم

معرف المضافة: انصاری، علي

معرف المضافة: دار الحدیث. مرکز چاپ و نشر

تصنيف الكونجرس: BP108/7/ش2م6 1390

تصنيف ديوي: 297/267

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 2741375

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تصدير

تصدير

لايخفى أهميّة عنصر الحديث في نظام التشريع الإسلامي وعلاقته مع جلّ العلوم الدينيّة المختلفة في الثقافة الإسلاميّة كالفقه والكلام والأخلاق و نحوها ؛ بل الحاجة إليه بدت أكثر من القرآن ؛ لأنّ آيات القرآن معدودة محدودة ، و أمّا الحديث فواسع مَيَدانه في أنواع الموضوعات و المسائل العلميّة والعمليّة والأخلاقيّة .

و مسلّم عند الأصحاب أيضا أنّ الأحاديث لم تسلم في مرّ الدهور والأيّام عن الوضع والتحريف لفظا و معنىً ؛ فعلى هذا قد اهتمّ العلماء والمحقّقون منذ القديم بدراسة الحديث و حلّ مشكلاته ، و تعيين صحيحه عن سقيمه ، أو معتبره عن غير معتبره من زوايا متعدّدة ، منها ما هو يتوجّه إلى فهم المتن ، لاسيّما في خصوص بعض الأخبار المشكلة فهمها على العموم الذين ليست لهم تبحّر شافٍ في العلوم أو الفنون المرتبطة لفهم المعاني ، و من مصابيح هذا المضمار صناعة جليلة عظيمة بسماحة العلاّمة الفهّامة السيّد عبد اللّه بن السيّد محمّد رضا الشبّر من العلماء القرن الثاني عشر ، الذي يتّصل نسبه بالإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهماالسلام - و هو من تلامذة الشيخ جعفر كاشف الغطاء صاحب كتاب كشف الغطاء - مشارك ذائع في أنواع الفنون والعلوم تبلغ مصنّفاته نحوا من ستّين كتابا أشهرها مجموعة جامع المعارف والأحكام حول جميع أخبار أهل البيت عليهم السلام على غرار مجموعة بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي رحمه الله ، و ممّا صنعه في حلّ مشكلات الأخبار المجلّدان اللذان بين يديك سمّاه ب «المصابيح الأنوار» ، الذي احتوت على شرح 363 حديثا معظمها من الأخبار المشكلة التي سبق لبعض علماء الأصحاب التأليف فيها على نحو الاستقلال ، و قد شرح فيه الأحاديث على

ص: 5

منهج الروائي والكلامي ، وأجاد في شرحها جدّا كما هو واضح لمن راجع الكتاب و نظر فيه بعين الإنصاف .

ثمّ ينبغي أن نشكر جزيلاً من المحقّق الفاضل الشيخ مجتبى المحمودي لتصدّيه تحقيق هذا الأثر الثمين على منهج متين ، و من ساعده و وازره من الأخوين المحقّقين الفاضلين : الشيخ عبد الحليم الحلّي ، والشيخ عليّ الأنصاري ، ونسأل اللّه تعالى أن

يقبله منه بجزائه الكثير ، و جعلنا و إيّاه في درعه الحصينة التي يجعل فيها من يريد ، و إنّه لسميع مجيب .

قسم إحياء التراث

مركز بحوث دار الحديث

محمّد حسين الدرايتي

ص: 6

مقدّمة التحقيق

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف(1)

اُسرته

آل شبّر اُسرة علويّة يتّصل نسبها بالإمام زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2) ، وهي من اُسر العراق العلميّة المشهورة ذكرها الداودي - النسّابة الشهير المتوفى سنة 828 ه- - في كتابه : عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ، وذكرها تفصيلاً البحّاثة المعاصر العلاّمة الشيخ جعفر آل محبوبة في كتابه : الاُسر العلويّة فقال : «آل شبّر : اُسرة عراقيّة قديمة ، وهيمن أقدم الطوائف العلويّة القديمة فيالعراق وأعرقها في العروبة ، وأقدمها في الهجرة ، كان مقرّها الأصلي «الحلّة الفيحاء» ولم تزل بقيتهم بها حتّى اليوم ، وبها عرفت ، ومنها تفرّعت كما ذكرهم في العمدة و بحر الأنساب ، وهم ولد الحسن المعروف ب- «شبّر» ابن محمّد بن حمزة بن أحمد بن عليّ برطلّة ، كانوا قديما يعرفون ببني برطلّة ، نسبة إلى عليّ المعروف ب- «برطلّة» ابن الحسين - ويعرف ب- «القمّي» - ابن عليّ بن عمر - الذي شهد فخّا - ابن الحسن الأفطس .

وكلّ شبّري حسيني يرجع إلى الحسين هذا ويعود اليه» .

ص: 7


1- . اعتمدنا في ترجمة المؤلّف على ما كتبه العلاّمة الشهيد السيّد جواد شبّر مقدّمةً على هذا الكتاب وأجرينا بعض التعديلات عليه سيما في مجال كتب المؤلّف .
2- . السيّد عبداللّه بن محمّدرضا بن محمّد بن محسن بن أحمد بن عليّ بن محمّد بن ناصر الدين بن شمس الدين محمّد بن محمّد بن نعيم الدين بن رجب بن الحسن بن محمّد بن حمزة بن أحمد بن أبي عليّ عليّ بن الحسين ابن عليّبن عمر بطلة بن الحسن الأفطس بن عليّ الأصغر بن زين العابدين السجّاد بن الحسين الشهيد بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام .

أشهر الاُسر الحسينيّة الشبريّة هي اُسرة السيّد المترجم السيّد عبداللّه شبّر ، وهي من الاُسر العلميّة الأدبيّة ، شريفة الجدّ كريمة الحسب ، كثيرة الانتشار في النجف والحلّة والكاظميّة والبصرة وبعض المدن العراقيّة الاُخرى .

ولادته و تربيته :

وأشهر من نبغ من أساطين هذا البيت الإمام الفقيه سيّدنا السيّد عبد اللّه شبّر . ولد في النجف الأشرف سنة (1188 ه-) وتربّى على يدي أبيه العلاّمة الكبير السيّد محمّد رضا ، فنشأ على التقوى والصلاح وحبّ العلم والفضيلة منذ صغره ، فقد عرف عنه أنّه دعاه والده وهو بَعْدُ فيريعان شبابه وقال له : لا أحلّ لك أن تتناول ممّا أنفقه عليك ما لم تجتهد في الدرس والتدريس وتنفق أوقاتك في سبيل ذلك حتّى اليوم الواحد ، فكانت هذه الكلمة لا تفارق سيّدنا المترجم له حتّى أنّه شوهد - وهو بين أترابه في مدرسته - يبيع محبرته ، ولما سئل عن ذلك قال : إنّي شغلت هذا اليوم بعارض صحّي لم يمكنني معه من مواصلة دروسي ، فلم أجد ما يسوّغ لي أن أتناول من بيت أبي شيئا ، وهذه الحادثة إن دلّت على شيء فإنّها تدلّ على التربية الدينيّة العالية التي نشأ عليها من ناحية الأخلاق الإسلاميّة ، وتغذيته بحبّ العلم ، وهذا لا شكّ ممّا هيّأه إلى أن يكون من عظماء علماء المسلمين ، وطبعه بطابع التقوى والصلاح ، وجعله في الرتبة العالية ممّن يشار إليه بالبنان في كلّ ذلك .

أساتذته :

ممّا يذكر من أساتذته أن تخرّج أوّلاً على أبيه السيّد محمّد رضا ، ثمّ لازم حوزة العالم المتبحّر السيّد محسن الأعرجي صاحب الوسائل و شرح الوافية ، وتلمّذ على الشيخ الكبير وحيد العصر الشيخ جعفر كاشف الغطاء صاحب كتاب كشف الغطاء .

منزلته العلمية :

يعتبر السيّد المترجم له - أعلى اللّه مقامه - من مشاهير العلماء الذين لهم الصيت الذائع في الفنون الإسلامية كلّها ، فهو - إلى جنب فقاهته التي هي الأصل في ثقافته - معروف

ص: 8

بتبحّره في التفسير والحديث والكلام وغيرها ، وله في كلّ ذلك مؤلّفات شائعة تعدّ في طليعة مؤلّفات مشاهير العلماء ، وكفى أنّه يعدّ في الحديث من أشهر مشايخ الإجازة في عصره ، وأكثر سلسلة الإجازات عند المتأخّرين ترجع إليه ، فكان في وقته مرجعا كبيرا للطائفة الإماميّة من ناحية التقليد والتدريس والاستفادة العلميّة وإجازة الحديث .

ولا تقف على نتاجه العلمي وتقرأ عدد مؤلّفاته التي تنيف على السبعين ، وهو لم يتجاوز من عمره الرابعة والخمسين ، حتّى يتمثّل لك في سعة التأليف وبراعته العلاّمة الحلّي رحمه اللّه أو العلاّمة المجلسي ، ولا تجد نظيرا لهما غير سيّدنا المترجم له .

وأمثال هؤلاء الأعلام لا يسمح بهم الزمن إلا في فترات متباعدة ، وسنين متطاولة ، فيجمع فيهم قوّة الحافظة الخارقة ، إلى البراعة في سرعة التأليف النادرة ، إلى الحرص العظيم على وفرة الإنتاج العلمي ، إلى الصبر والجلد على البحث والتدوين ، إلى الذكاء

المفرط ، إلى دقّة الملاحظة السريعة ، إلى النشاط العقلي العجيب ، إلى كلّ ما من شأنه من الصفات أن يخلق من صاحبها نابغة من نوابغ العلم وبطلاً من أبطاله .

ويتمثّل لك هذا النبوغ العلمي العجيب كاملاً عندما تطّلع على موسوعته الكبيرة في الحديث ، كتابه جامع المعارف والأحكام . فإنّه حوى جميع أخبار أهل البيت عليهم السلام بما يغني عن جميع كتب الأخبار على غرار موسوعة العلاّمة المجلسي ودائرة معارفه الموسومة ب- بحارالأنوار ، فإنّ السيّد كان يحذو حذوه حتّى لقّبه أهل عصره ب- (المجلسي الثاني) غير أنّ المشهور عن الشيخ المجلسي قدس سره أنّ له لجانا خاصّة تسير حسبما يوجّهها وتساعده على الاستكتاب والتنقيب ، والسيّد كان اُمّة بنفسه .

وحسبك أن تقرأ الكتاب الذي بين يديك فترى أنّك أمام فيلسوف من فلاسفة الإسلام يقف بك على أسرار التشريع الإسلامي وحكم الشريعة المحمديّة ، فيجلو الأحاديث المشكلة ويزفّها ناصعة معجبة تستلذّها العقول وتترشّقها الأرواح ، وإن شئت فهذا شرح المفاتيح الكبير الذي يقول فيه السيّد الجيل السيّد محمّد معصوم : هو الكتاب الذي لم يسمح الزمان بمثله ولم ينسج ناسج على منواله . إلى غير ذلك فيعلوم متنوّعة اُخرى سنذكرها عن قريب .

ص: 9

العلماء الذين كتبوا عنه :

كثير من أعلام التأليف ذكروا السيّد وكتبوا عنه ، منهم : العالم الكبير الشيخ عبد النبيّ الكاظمي في كتابه تكملة الرجال قال فيه :

عبداللّه ابن محمّد رضا الحسيني الشبّري ، قرأت عليهما واستفدت منهما ، وهما ثقتان عينان ، مجتهدان فقيهان ، فاضلان ورعان ، حازا الخصال الحميدة . والسيّد عبداللّه حاز جميع العلوم الشرعيّة ، وصنّف في أكثر العلوم ، من التفسير ، والفقه ،

والحديث ، واللغة والأخلاق ، والاُصولين وغيرها ، فأكثر وأجاد وأفاد ، وانتشرت أكثر كتبه في الأقطار ، وملأت الأمصار ، ولم يوجد أحد قط مثله في سرعة التصنيف وجودة التأليف ، ولنذكر ما وقفت عليه من كتبه .

ثمّ ذكر له (41) مؤلّفا وقال : وهذا الكثير مع مواظبته على كثير من الطاعات كزيارة الأئمّة والأخوان ، والنوافل ، وقضاء الحوائج إلى غير ذلك .

وقال العلاّمة الحبر البحّاثة الشيخ عبّاس القمّي في كتابه : سفينة البحار :

المولى الأجلّ السيّد عبداللّه بن السيّد محمّد رضا الشبّريّ الكاظمي ، الفاضل الجليل ، والعالم النبيل ، والمتبحر الخبير ، والفقيه النبيه ، العالم الرباني ، المشتهر في عصره بالمجلسي الثاني ، صاحب شرح المفاتيح في مجلّدات ، وكتابه جامع المعارف والأحكام في الأخبار شبه بحارالأنوار ، وكتب كثيرة في التفسير والحديث والفقه و اُصول الدين وغيرها .

وقد ذكر مصنّفاته شيخنا المتبحّر في دار السلام ، وحكى عنه أنّه قال :

إنّ كثرة مؤلّفاتي من توجّه الإمام الهمام موسى بن جعفر عليه السلام فإنّي رأيته في المنام - ومن رآنا فقد رآنا ، فإنّ الشيطان لا يتمثّل بصورنا(1) - فأعطاني قلما وقال : «اكتب»

ص: 10


1- . هذا مضمون حديث ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ، ونصّه هكذا : عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال له رجل من أهل خراسان : يا ابن رسول اللّه ، رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله في المنام كأنّه يقول لي : كيف أنتم إذا دفن فيأرضكم بضعتي واستحفظتم وديعتي وغيّب في ثراكم نجمي ، فقال له الرضا عليه السلام : «أنا المدفون في أرضكم وأنا بضعة من نبيّكم وأنا الوديعة والنجم ، ألا فمن زارني وهو يعرف ما أوجب اللّه عزّوجلّ من حقّي وطاعتي فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة ، ومن كنّا شفعاءه نجا ولو كان عليه مثل وزر الثقلين الجنّ والإنس ، ولقد حدّثني أبي عن جدّي عن أبيه : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : من رآني في منامه فقد رآني ؛ لأنّ الشيطان لا يتمثّل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ...» الحديث . من لا يحضره الفقيه ، ج 2 ، ص 584 - 585 ، ح 3191 .

فمن ذلك الوقت وفّقت لذلك ، فكلّ ما برز

منّي فمن بركة هذا القلم . انتهى .

وذكر في كتابه الكنى والألقاب ما يقارب هذا .

وبعد هذا فلا يعجب الإنسان من حياة هذا السيّد وهو لم يتجاوز عمره (54) عاما ، ويصدر منه مثل هذه المؤلّفات الضخمة الواسعة ، ولا نستكثر هذه البركة في الوقت والوفرة في عالم التأليف حتّى رأيناه في بعض رسائله يقول : إني شرعت بها عند العشاء وتمت عند نصف الليل .

وقد نظم العلاّمة السماوي رحمه اللّه هذه الكرامة - أعني كرامة اليراع - في كتابه صدى الفؤاد إلى حمى الكاظم والجواد فقال في الفصل الذي ذكر فيه معاجز الإمام الكاظم عليه السلام :

وذكر النوري أيضا اُخرى *** تتلو اللتين قد عددت فخرا

فقال إنّ السيّد الحبر السري *** ذا الفضل عبداللّه آل شبّر

قيل له : بلغت في التصنيف *** ما ليس في الطاقة والتكليف

فكيف ذا وأنت فينا كهل *** ولم تصنّف ذا وأنت طفل؟

وكان قد صنّف ما بين الفئة *** ما بلغت أسماؤها نحو مئة

كلّ مصنّف مجلّدات *** أجزاؤه بها معدّدات

بحيث لو أنّ الفتى المعقّرا *** ينسج ما صنّف منها قصرا

فقال : جاورت إمامي الهدى *** وكنت في رضاهما مجتهدا

وقد طلبت منهما بأن أرى *** في علم أهل البيت فردا فيالورى

فطاف بي الكاظم ليلاً حلما *** وقال خذ منّي إليك قلما

واكتب به ما شئت من كتاب *** يجمع للفصول والأبواب

ص: 11

ثمّ انتبهت وبكفّي قلم *** أكتب ما شئت به وأرقم

يسرع مشيا ويروق وشيا *** فالعدو لا يلحق منه المشيا

وكنت لا أسرع باليراع *** ولا اُراعيه كمن يراعي

فصرت من بعد بهذي الحالة *** بلا شماتة ولا ملالة

لي خاطر يوري وحفظ يروي *** وقلم يكتب لي ما أحوي

فهل عجيب أن تروا من كتبي *** ما ليس يستنسخ طول الحقب

و كتب عنه السيّد الخونساري في روضات الجنّات وعدد مؤلّفاته ، كما كتب عنه العلاّمة الشيخ عليّ كاشف الغطاء في الحصون المنيعة والمرحوم السيّد حسن الصدر في كتابه تكملة أمل الآمل ، ولسيّدنا الكبير ذكر في كتب اُخرى كثيرة .

مجالات عمله التأليفي :

قلّما يوجد حقلٌ من حقول العلوم والمعارف الإسلاميّة لم يقدّم السيّد المؤلّف فيه نتاجا بارعا للمكتبة الإسلاميّة وإليك هذا الجدول الذي تمّ توزيع تأليفه القيّمة على

ضوئه :

أوّلاً - العقيدة واُصول الدين :

1 - الحقّ اليقين في معرفة اُصول الدين .

2 - البلاغ المبين في اُصول الدين .

3 - تسلية الفؤاد في بيان المبدأ والمعاد .

ثانيا - تفسير القرآن :

1 - صفوة التفاسير (في أربعة مجلّدات) .

2 - الجوهر الثمين في تفسير القرآن المبين (في مجلّدين) .

3 - تفسير القرآن باسم (الوجيز) .

4 - مطلع النيّرين في لغة القرآن وحديث أحد الثقلين .

ثالثا - الحديث :

وقد قام في هذا المجال بعلمين ممتازين :

ص: 12

أ - الجمع والتبويب .

ب - الشرح والتوضيح .

أ - الجمع والتبويب :

1 - جامع المعارف والأحكام ؛ جمع فيه أحاديث الاُصولين والفقه من الكتب الأربعة يشتمل على (20) مجلدا .

2 - عجائب الأخبار ونوادر الآثار .

3 - الدرر المنثورة والمواعظ المأثورة عن اللّه تعالى والنبيّ والأئمّة الطاهرين عليهم السلام والحكماء .

4 - رسالة في عمل اليوم والليلة ؛ تشتمل على أربعين حديثا على ترتيب الحروف .

ب - الشرح والتوضيح :

1 - مصابيح الأنوار في حلّ مشكلات الأخبار (مجلّدان) وهو الكتاب الذي بين يديك .

2 - شرح نهج البلاغة (مجلّد ضخم بالقطع الكبير) .

3 - كشف المحجّة في شرح خطبة الزهراء .

4 - الأنوار اللامعة في شرح الزيارة الجامعة .

5 - كشف الحجاب للدعاء المستجاب في شرح دعاء السمات .

رابعا - سيرة الأنبياء وأهل البيت عليهم السلام

1 - قصص الأنبياء .

2 - جلاء العيون في أحوال المعصومين عليهم السلام من مبدأهم إلى خاتمهم ، وهو تعريبٌ لكتاب فارسي للعلاّمة المجلسي وبنفس العنوان .

3 - مثير الأحزان في تعزية سادات الزمان .

خامسا - الفقه :

1 - الرسائل الخمس الاستدلاليّة في العبادات .

2 - رسالة في تكليف الكفّار بالفروع .

3 - فقه الإماميّة (رسالة عمليّة) .

ص: 13

4 - تحفة المقلّد (رسالة فتوى من أوّل الفقه إلى آخره) .

5 - زبدة الدليل (رسالة استدلاليّة في الفقه) .

6 - خلاصة التكليف في الاُصول والعبادات .

7 - الجوهرة المضيئة في الطهارة والصلاة .

8 - رسالة في الحجّ .

9 - شرح الحقائق في الأحكام (لم يكمل) .

10 - مصباح الظلام في شرح مفاتيح شرائع الإسلام . والمفاتيح هو للفيض الكاشاني .

11 - المصباح الساطع في شرح المفاتيح ، ولكنّه أخصر من الشرح السابق .

12 - رسالة في ما يجب على الإنسان .

سادسا - الاُصول :

1 - رسالة في حجّية خبر الواحد من الأخبار .

2 - رسالة في حجّية العقل وفي الحسن والقبيح العقليّين .

3 - علم اليقين في طريقة القدماء والمحدّثين .

4 - منية المحصّلين وأحقّية طريقة المجتهدين .

5 - بغية الطالبين في صحّة طريقة المجتهدين (وهو مختصر من كتابه منية المحصّلين) .

6 - مصابيح الكلام (وهو شرح لديباجة مفاتيح الشرائع للفيض الكاشاني في المباحث الاُصوليّة) .

7 - رسالة في فتح باب العلم والردّ على من يزعم انسداده .

8 - الاُصول الأصليّة والقواعد الشرعيّة .

سابعا - اخلاق :

1 - المواعظ المنثورة (مقتطعات في الحِكَم والأخلاق) .

2 - زينة المؤمنين وأخلاق المتّقين .

3 - رسالة أخلاقيّة .

ص: 14

4 - المهذّب .

5 - منهج السالكين .

6 - زاد العارفين (فارسي) .

7 - الأخلاق (ذكر فيه أنّه اختصره من كتابيه منهج السالكين وزاد العارفين) .

8 - صفاء القلوب .

9 - تسلية الفؤاد في فقد الأحبة والأولاد .

10 - تسلية الحزين في فقد الأقارب والبنين .

ثامنا - علوم ومعارف :

1 - أنوار الساعة في العلوم الأربعة (معارف وأخلاق وعجائب المخلوقات وفقه) .

2 - طبّ الأئمّة عليهم السلام .

3 - إرشاد المستبصر (رسالة في الاستخارة) .

4 - أحسن التقويم (في ما يتعلّق بالنجوم على حساب ما ورد في الشرع الأقدس) .

5 - الدرّ المنظوم في مشكلات العلوم (لم يكمل) .

6 - أسرار العبادات .

تاسعا - أدعية و زيارات :

1 - رسالة فارسيّة في عمل اليوم والليلة .

2 - أعمال السنة (على نمط زاد المعاد للعلاّمة المجلسي) .

3 - ذريعة النجاة في تعقيب الصلاة (على نمط المصابيح للعلاّمة المجلسي) .

4 - زاد الزائرين (فارسي) .

5 - أنيس الذاكرين .

6 - روضة العابدين (في مجلدين : الأوّل في ما يتعلّق بعمل اليوم والليلة وأدعية الاُسبوع وسائر ما يحتاج إليه . والثاني في أعمال السنة) .

7 - المزار (عربي فارسي) .

إنّ الفكرة التي يأخذها الباحثون عنه هي الحديث فقط ، وكأنّها أبرز صفاته التي اشتهر بها ، ويروي لنا تلميذه السيّد الجليل العلاّمة السيّد محمّد معصوم في رسالة

ص: 15

كتبها عن حياته : إنّ جلساءه كثيرا مّا كانوا يمتحنونه بقراءة متن الرواية ويقطعون السند ، وهو - تغمده اللّه برحمته - يسترسل بسلسلة السند حتى يوصله بالإمام من أهل البيت صلوات اللّه عليهم . وقد تكرّر ذلك منه ومنهم حتّى تجاوز حدّ الإحصاء . وهذه الاُحدوثة تفهمنا أنّه كان ذا عارضة قويّة وحافظة شديدة واطّلاعا واسعا .

والحقيقة أنّه لم تكن في ميزانه الباقية ضعف عن هذه ، غير أنّه تعاهد هذه الناحية ونمّاها حتّى ظهرت عليه بارزة ، لأمر لا يخفى على كلّ من ألمّ خبرة بذلك العصر ونزعاته ، وها هو ذا الاُستاذ العلاّمة فضيلة الشيخ محمّدرضا المظفّر يحدّثنا في مقدّمة

جامع السعادات عن القرن الثالث عشر وتولّد النزعات فيه ، فيقول :

وهذه الأخيرة خاصّة - ويعني الأخباريّة - ظهرت في ذلك القرن قويّة مسيطرة على التفكير ، وتدعو إلى نفسها بصراحة لا هوادة فيها ، حتّى أنّ الطالب الديني أصبح يجاهر بتطرّفه ويغالي ، فلا يحمل مؤلّفات العلماء الاُصوليّين إلاّ بمنديل خشية أن تنجس يده من ملامسة حتّى جلدها .

قال : ومن جهة اُخرى يحدث ردّ فعل لهذا الغلو ، فينكر على الناس أن يركنوا إلى العقل وتفكيره ، ويلتجأ إلى تفسير التعبّد بما جاء به الشرع الأقدس بمعنى الاقتصار على الأخبار الواردة في الكتب الموثوق بها في كلّ شيء ، والجمود على ظواهرها ، ثمّ يدعو الغلو هؤلاء أنّ كلّ تلك الأخبار مقطوعة الصدور على ما فيها من اختلاف ، ثمّ يشتدّ بهم الغلو ، فيقولون بعدم جواز الأخذ بظواهر القرآن وحده من دون الرجوع إلى الأخبار الواردة ثمّ ضربوا بعد ذلك بعلم الاُصول عرض الجدار بادّعاء أنّ مبانيه كلّها عقليّة لا تستند إلى الأخبار ، والعقل أبدا لا يجوز الركون إليه في كلّ شيء ، ثمّ ينكرون الاجتهاد وجواز التقليد . انتهى .

وكانت بلاد الكاظميّة وهي من المراكز الدينيّة المرموقة من الأقطار الشيعيّة قد أوشكت أن تصبح قاعدة من القواعد الأخباريّة ، فوجب والحال هذه أن تلمع شخصيّة العلاّمة شبر ، وهي شخصيّة علميّة منظورة متسلّحة بقوّة الإرادة ، فعمدت لهذا التيّار

وصدّت تلك الشبهات من أقرب الطرق ، وهي الإحاطة بالأخبار والتعمّق فيها ؛ لتكون الحجّة آكد والدليل ألزم ، فكانت حربا فكريّة من غير تهريج وضجيج ، فرجل يفوقهم

ص: 16

في الإحاطة بالأخبار ، ويجمع شاردها وواردها ، ويميّز صحيحها من سقيمها ، وظاهرها من مدخولها ، مضافا إلى أنّهم معترفون له بالإحاطة والتخصص ، ثمّ يخالفهم في مسالكهم ، ويكتب في نقدهم مثل : رسالة زبدة الدليل في الفقه الاستدلالي ورسالة منية المحصّلين وأحقّيّة طريقة المجتهدين ورسالة فتح باب العلم والردّ على من يزعم انسداده ، ورسالة بغية الطالبين في صحّة طريقة المجتهدين ، كم ترى من الأثر لهذا المجاهد المناضل عن فقه آل محمد وكم أثر الموقف عندما يطوي المهاجم على نفسه .

الدعوة المستجابة

لقد كان سيّدنا المترجم يعرف في الكاظميّة ب- «ابن صاحب الدعوة المستجابة» كما حدّث العلاّمة السيّد محمّد معصوم في رسالته عن كرامة السقيا التي شرّف اللّه بها السيّد محمّدرضا الشبّر ، واستجابة دعائه في تلك السنة المجدبة ، وإليك بيان هذه الكرامة مجملة : يصدر الأمر من والي العراق في العهد العثماني - وهو يومئذ سعيد باشا - إلى جميع أهالي بغداد بالصيام ثلاثا ، وأن يخرجوا في اليوم الرابع مبتهلين طالبين

الغيث ، ولكنّهم رجعوا بنهار مشمس ، وعندها يأمر السيّد الكبير أهالي الكاظميّة بالصيام ثلاثا ، وفي الرابع يخرج حافيا وتندفع الكاظميّة بأسرها خلفه وأصوات المبتهلين تهزّ الجو وتملأ الفضاء والسيّديردّد دعواته ، فتجيبه أصوات الألوف مؤمّنة

على دعائه حتّى انتهى إلى مسجد (براثا) الجامع الأثري المشهور ، وصلّى وتضرّع إلى اللّه باكيّا ، وما أتمّ دعواته حتّى تراكمت السحب وتوالى الرعد والبرق وأرخت السماء

عزاليها ، فسقت أراضي العراق عامّة ، فعاد السيّد الرضا يخوض الماء ، فكانت له كرامة

يتحدّث الناس بها وتعظم منزلته لدى الوالي .

تلامذته والرواة عنه :

تخرّج على يده الكثير من فطاحل العلماء من عرب وعجم نخصّ منهم بالذكر ما وقع بين أيدينا :

1 . العالم التقي الشيخ عبدالنبيّ الكاظمي صاحب شرح المنظومة في اُصول العقائد و تكملة الرجال .

ص: 17

2 . العلاّمة الألمعي الشيخ إسماعيل بن الشيخ أسد اللّه صاحب المنهاج وغيره .

3 . المولى المدقّق السيّد عليّ العاملي شارح المنظومة للسيّد بحر العلوم .

4 . الفاضل الشيخ محمّدرضا الشيخ زين الدين شارح شرائع الاسلام .

5 . المحقّق السيّد هاشم آل المرحوم السيّد راضى مؤلّف رسالة التقليد ، الحجّ ، حجّيّة الكتاب .

6 . السيّد الشريف السيّد محمّد عليّ خلف السيّد كاظم بن العلاّمة السيّد محسن الأعرجي .

7 . الحجّة الشيخ حسين محفوظ العاملي .

8 . الورع الشيخ أحمد البلاغي .

9 . الفقيه الشيخ محمّد إسماعيل الخالصي .

10 . العالم الشيخ مهدي بن الشيخ أسد اللّه .

11 . المدقّق الشيخ محمّد جعفر الدجيلي .

12 . البحّاثة الفاضل السيّد محمّد معصوم .

وفاته :

كانت وفاة سيّدنا في المشهد الكاظمي سنة (1242) هجرية ، فوقفت هذه الحركة العلميّة والحياة الخصبة ، وما كاد يشيع النبأ حتّى تجاوبت الأقطار بنعيه أسفا وحزنا ، وفي الرسالة التي كتبها السيّد محمّد معصوم وصفا وافيا للفاتحة التي أقامها رئيس المذهب الشيخ صاحب جواهر الكلام في النجف الأشرف ، وما قيل فيها من الرثاء ، وكذا كربلاء والحلّة وسائر مدن إيران ، وأرّخ العلاّمة السماوي سنة وفاته فقال في كتابه صدى الفؤاد عند ذكر الذين فازوا بجوار الإمامين الكاظمين :

وكالشريف ذي التصانيف السري *** والفضل عبداللّه نجل شبّر

جامع أخبار الهداة البررة *** في صحف مرفوعة مطهّرة

أوضح بالتأليف كلّ معضل *** وأرّخوا (فاز ببر مفضل)

دفن مع والده المبرور في الحجرة الشرقيّة الواقعة في رواق الإمامين ، فيكون عمره

ص: 18

(54) سنة .

2 - نحن و الكتاب :

يتضمّن الكتاب بجزأيه (363) حديثا معظمها من الأخبار المشكلة التي سبق لبعض علمائنا التأليف فيها على نحو الاستقلال ، وخصّ بعض آخر بابا من بعض كتبهم في حلّ الأخبار المشكلة .

هذا ، وقد أدرج السيّد المؤلّف بعض الأحاديث الغريبة على نهج المجازات النبويّة للشريف الرضي والنهاية لابن الأثير .

كما وعنون بعض الأحاديث التي تحتوي على مباحث كلاميّة مهمّة أو معارفيّة من دون أن يكون هناك إشكال في مضمون الحديث أو غرابة في لفظه ، كما حصل ذلك في البحث عن عظمة القرآن وإعجازه والشفاعة والوفاء بالوعد وغيرها .

التزم المؤلّف في كتابه هذا بالمنهج الحديثي والكلامي في حلّ مشكلات الأخبار ، ولذا فإنّ جلّ اعتماده على شروح العلاّمة المجلسي ووالده التقي والمحدّث الجزائري والفيض الكاشاني والمحقّق المازندراني وغيرهم .

وينقل أحيانا تأويلات بعض الفلاسفة والعرفاء وينتقدها ، ولكنّه يتّجه أحيانا في تفسير الأحاديث العقلية إلاّ لمنهج الفلسفي والعقلي ، كما حصل في بحث وحدة الوجود ، وعلّة نزول الأرواح إلى الأجساد ، والقضاء والقدر ، والجبر والاختيار وغيرها .

اعتمدنا في تحقيق الكتاب على ثلاث نسخ خطّية منه ، هي كالآتي :

1 - مخطوطة مركز إحياء التراث الإسلامي التي تمّ استنساخها في يوم السبت الرابع عشر من شهر شوّال المكرّم سنة (1242 ه- ) (- أي سنة وفاة السيّد المؤلّف - ) بيد عليّ

محمّد بن مير باقر الحسيني الخراساني ، ورمزنا لها ب- «ث» .

2 - مخطوطة مكتبة الإمام الرضا عليه السلام تمّت كتابتها في اليوم العشرين من شهر ذي الحجّة الحرام سنة (1314 ه-) ، ورمزنا لها ب- «ل-» .

3 - مخطوطة مكتبة المسجد الأعظم بقم المقدّسة ، وتاريخ كتابتها سنة (1301 ه-) ، ورمزنا لها ب- «ظ» .

ص: 19

وأتقنها هي نسخة «ث» تليها نسخة «ر» ، وتمّ على هذا معالجة التصحيفات والأغلاط المتسرّبة إلى المطبوع .

استخرجنا المصادر المعتمدة لدى المؤلّف إلاّ القليل النادر جدّا والذي لم نعثر عليه ، وأوردنا بعض التصحيحات وفقا للمصادر ، وأضفنا بعض الزيادات منها فيما اقتضاه السياق .

وكانت لنا طريقتان في كيفيّة استخراج الأحاديث : الاُولى : وهي ما إذا نقل المؤلّف الحديث عن مصدر معيّن واحد أو أكثر ، فإنّنا ذكرنا ذلك المصدر الواحد أو المتعدّد ، وأضفنا له مصدرا أو مصدرين أحيانا من مصادرنا المتأخّرة كالوافي والوسائل والبحار .

الثانية : وهي ما إذا لم ينقل المؤلّف عن مصدر خاصّ فسعينا قدر المستطاع أن نذكر ثلاثة مصادر من مصادرنا الروائيّة المتقدّمة - أي من كتب الحديث الأربعة وغيرها من الكتب المتقدّمة التي عنت بالحديث ونقلته - كما ونذكر ولو مصدرا واحدا من المجامع الروائيّة المتأخّرة .

أمّا أقوال العلماء فاكتفينا بنقلها عن أصحابها من دون أن نشير إلى مواضع الروايات والأقوال الواردة فيها ، إلاّ ماحصل على وجه الاستطراد .

احتفظنا ببعض التعاليق التي كتبها الحجّة المرحوم آية اللّه السيّد عليّ شبّر في تحقيقه للكتاب ، ورمزنا لها ب- «ش» .

تمّ ترقيم الأحاديث على مبنى الأعداد المتسلسلة من بدء الجزء الأوّل إلى نهاية الجزء الثاني .

وردت في نهاية النسخ الخطّية «خاتمة في بعض المسائل المشكلة» أكثرها مسائل عويصة في النكاح والطلاق مستلّة من كتاب العويص للشيخ المفيد قدس سره ، لم تدرج في المطبوع السابق من الكتاب ولا في هذه الطبعة .

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

مجتبى المحمودي

قم المقدسة

صفر الخير 1432 ه-

ص: 20

مَصَابِيحُ الْأَنْوَارِ

فِي حَلِّ مُشْكِلاَتِ الْأَخْبَارِ

السِيُّدُ عَبْدُاللّه ِ شُبَّر

(م 1242 ق)

تحقيقُ

مجتبى المحمودي

ص: 21

ص: 22

[ مقدّمة المؤلّف ]

الحمد للّه الذي عجزت عن إدراك ذاته العقول والأفهام ، وتحيّرت في درك كنه صفاته لطايف الأوهام ، وتاهت في بيداء معرفته عقول الأنام ، وأعيت عن تعبير لفظ يليق بجلاله فصحاء العلماء الأعلام .

والصلاة على كاشف الخفيّات ، ومبيّن المشكلات ، ومظهر البراهين والآيات ، والعالم بحقائق المتشابهات ، ومن لأجله اُوجدت الموجودات ، وخلقت الأرض والسماوات ، محمّد صلى الله عليه و آله وسلم سيّد الكائنات ، وآله الأئمّة الهداة ، اُولي المعجزات الباهرات ، والبراهين ، والدلائل الظاهرات ، ما دامت الأرض والسماوات ، وهامت الوحوش في الفلوات ، وغرّدت الطيور في الوكنات .

أمّا بعد ؛ فيقول العبد الفقير العاصي ، الغريق في بحار الآثام والمعاصي ، المعترف بالقصور والتقصير ، في خدمة مولاه اللطيف الخبير ، أفقر الخلق إلى ربّه الغنيّ ، عبداللّه بن محمّد رضا(1) الحسينيّ ، وفّقهما اللّه لطاعته ومراضيه ، وجعل مستقبل عمرهما خيراً من ماضيه : إنّي بفضل اللّه ومنّه ولطفه ويمنه ، منذ أدركت الحلم إلى هذا الحين ، الذي مضى من العمر ما ينيف على ثلاثين ، كنت مشغولاً بتتبّع أخبار أهل

ص: 23


1- . السيّد محمّد رضا بن محمّد بن محسن بن أحمد بن عليّ بن محمّد بن ناصرالدين بن شمس الدين محمّد بن محمّد بن نعيم الدين بن رجب بن الحسن بن محمّد بن حمزة بن أحمد ابن أبي عليّ عليّ بن الحسين بن عليّ بن عمر بطلة بن الحسن الأفطس بن عليّ الأصغر بن زين العابدين السجّاد بن الحسين الشهيد بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام .

بيت النبوّة ، ومعادن العلم والفتوّة ، أزمّة الحقّ وألسنة الصدق ، القربى الذين أمر اللّه بمودّتهم ، وأهل الذكر الذين حثّ اللّه على مسألتهم ، والراسخين في العلم الذين أتى مدحهم في الكتاب ظاهراً منيراً ، وأهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وكنت حريصاً على تتبّعها ، ومشغوفاً بالنظر إليها :

ومن مذهبي حبّ الديار وأهلها *** وللناس فيما يعشقون مذاهب(1)

لأنّي وجدتها كما قال بعض مشايخنا المحقّقين : سفينة نجاة ، مشحونة بذخائر السعادات ، وفلكاً مزيّناً بالنيّرات المنجية من ظُلَم الجهالات ، سُبَلَها لائحة ، وطُرُقها واضحة ، وأعلام الهدى والفلاح على مسالكها مرفوعة ، وأصوات الداعين إلى الفوز والنجاح في مناهجها مسموعة ، مشتملة على رياض نضرة ، وحدائق خضرة ، مزيّنة بأزهار الحقائق والعلوم ، موصلة إلى رضى الحيّ القيّوم ، لم أعثر على حكمة إلاّ وفيها صفوها ، ولم أظفر بحقيقة إلاّ وفيها أصلها ؛ لأنّها صدرت عن معدن الوحي والتنزيل ، الذين نزل في بيوتهم جبرئيل وكشف لقلوبهم علم الغيوب ، وشاهدوا ما هو عن غيرهم محجوب .

فبينما قلبي بنورها ساطع ، وأنا عاضّ عليها بضرس قاطع ، إذ عرض لي فيها أحاديث معضلة ، وأخبار مشكلة ، قد خاض فيها العلماء الربّانيّون ، وجال فيها الحكماء والمتكلّمون ، وبحث عنها الفقهاء والمحدّثون ، فتيسّر لي بفضل اللّه تعالى بعد الفحص والتتبّع والاستقراء والتطلّع فهم معانيها ، ومعرفة مبانيها ، فخطر في خاطري الفاتر ، وفكري الكليل القاصر ، أن اُفرد جملة من مشكلاتها ، وزبدة من معضلاتها في كتاب مفرد ، يرجع إليه ويُعوّل عليه من كان سالكاً سبيل الإنصاف ، مجتنباً طريق الاعتساف ، قد خلع عن عنقه ربقة التقليد ، وألقى السمع وهو شهيد ، واُودع فيه بيانات شافية ، وتحقيقات وافية ، وتنبيهات كافية ، على طرز رشيق ،

ص: 24


1- . البيت من البحر الطويل ، وهو لشاعر أهل البيت عليهم السلام أبي فراس الحمداني . وفيه : «لاهلها» بدل «وأهلها» .

وطريق أنيق ، ونظام حسن ، وطور متقن ، تهشّ إليها الطباع السليمة ، وتلتذّ بها العقول المستقيمة ، وتشنّف بها(1) الأسماع القويمة ، لم تفرد في زبر الأوّلين ، ولم تجمع في كتب المتأخّرين ؛ فخذها وكن لما آتيتك من الشاكرين ، وقل الحمد للّه ربّ العالمين ،

وأسأل اللّه الإرشاد والتأييد ، والهداية والتسديد ، فإنّه على كلّ شيء قدير شهيد ، وأن يقضي لي بالخيرة ، بمحمّد وآله الهداة البررة .

ص: 25


1- . تشنّف بها : تزيّن بها . انظر : لسان العرب ، ج 9 ، ص 183 شنف .

الحديث الأوّل :[ حديث الطينة ]

ما رويته بأسانيد عديدة وطرق سديدة عن جملة من مشايخي الكرام وأساتيذي العظام ، ومنهم - وهو أعظمهم شأناً ، وأرفعهم مكاناً ، وأقومهم برهانا - قدوة الأنام ، [وعلم الأعلام ، فريد الدهر ، وناموس العصر ، وعظيم القدر ، صدر صدور الأفاصل ، وبدر بدور المحافل ، وجامع أسباب الفواضل والفضائل ، ووارث علوم الأواخر والأوائل ، ورافع الإشكالات من معضلات المسائل بواضحات الشواهد ، ومحكمات الدلائل ، خرّيت طريق التحقيق ، ومالك أزمّة الفضل بالنظر الدقيق ، المؤيّد من اللّه

تعالى بلطفه الجلي والخفي(1)] ، شيخنا ومولانا الشيخ جعفر النجفيّ ، مدّ اللّه ظلّه على العالمين ، وأدام اللّه فضله على المسلمين ، عن الشيخ الأعظم ، والركن الأقوم ، [والطود الأشمّ ، حامي بيضة الإسلام والمسلمين ، ومحيي شريعة سيّد المرسلين ، وخلاصة المتقدّمين والمتأخّرين ، ومرجع العلماء المحقّقين ، وملاذ الفضلاء المدقّقين ، العالم العلم الربّاني الفريد ، الوحيد الذي ليس له ثاني] ،(2) المرحوم المبرور مولانا محمّد باقر الإصفهانيّ البهبهانيّ ، عن والده الأجلّ الأكمل المولى محمّد أكمل ، عن الشيخ النحرير ، والمحقّق الخبير ، غوّاص بحار الأنوار وجواهر الآثار ، [الذي لم تسمع بمثله الأعصار والأدوار ، ولم تكتحل بنظيره العيون والأبصار ، المؤيّد المسدّد ، الفيض الإلهي القدسي ، المحقّق الثالث والعلاّمة الثاني(3)] محمّد باقر المجلسيّ ، رفع اللّه في

ص: 26


1- . ما بين المعقوفتين أثبتناه من نسخة «ر» .
2- . ما بين المعقوفتين أثبتناه من نسخة «ر» .
3- . ما بين المعقوفتين أثبتناه من نسخة «ر» .

أعلا علّيّين قدره ، عن مشايخه المذكورين في الإجازات ، إلى أن يتّصل السند بالأئمّة الهداة ، عليهم أتمّ السلام وأفضل الصلاة .

ح(1) : وعن شيخنا الأقدم ، واُستاذنا الأقوم ، عن الإمام الهمام ، والبحر القمقام ، [كشّاف قواعد الإسلام ، وحلاّل معاقد الأحكام ، ترجمان الحكماء والعارفين ، ولسان الفقهاء والمتكلّمين ، ومرجع المحقّقين ، وملاذ المدقّقين ، ذي الفواضل الجميلة والفضائل الجليلة ، الظاهرة البيّنة للداني والنائي] ،(2) المرحوم المبرور السيّد محمّد مهدي الطباطبائي - قدّس اللّه سرّه ، ونوّر ضريحه - عن جملة من مشايخه الأعلام والفضلاء الكرام ، ومنهم العالم الربّانيّ الشيخ يوسف البحرانيّ ، عن مشايخه المعروفين المذكورين في إجازاته حتّى يتّصل السند بالنبيّ صلى الله عليه و آله وعترته .

وعن سيّدنا المقدّم عن شيخه واُستاذه الأجلّ الأكمل ، قدوة العلماء والمحدّثين الكُمَّل ، الشيخ محمّد مهدي الفتونيّ ، عن شيخه واُستاذه الشهير في الآفاق ، والفائق معاصريه على الإطلاق ، المولى أبوالحسن الشريف العامليّ النجفيّ ، عن عدّة من مشايخه الكرام ، ومنهم علاّمة الأنام الفاضل المجلسيّ ، عن جملة من المشايخ الأعلام والفضلاء الكرام ، ومنهم زبدة المحقّقين ، وصفوة المدقّقين ، وملاذ المحدّثين ، ومحيي ما اندرس من شريعة سيّد المرسلين ، التقيّ النقيّ ، المهذّب الصفيّ المولى محمّد تقي بن المجلسيّ - قدّس اللّه سرّه ، ورفع في الجنان قدره - عن عمدة المحقّقين ، وزبدة المدقّقين ، وصفوة المجتهدين ، وشيخ الإسلام والمسلمين ، بهاء الملّة والحقّ والدين الشيخ محمّد العامليّ الشهير بالبهائيّ ، عن والده العالم

العامل ، والمتبحّر الكامل ، الفاضل الصمدانيّ ، الشيخ حسين بن عبدالصمد الحارثيّ الهمدانيّ ، عن شيخيه الجليلين النبيلين العَلَمين العالمين العاملين السيّد حسن بن جعفر الكركيّ والشيخ زين الدين الشهير بالشهيد الثاني - قدّس اللّه سرّهما ، ورفع في

الجنان قدرهما - عن الشيخ الفاضل التقيّ عليّ بن عبدالعالي الميسيّ ، عن شيخه

ص: 27


1- . علامة لتحويل السند وبيان طريق آخر له .
2- . ما بين المعقوفتين أثبتناه من نسخة «ر» .

السعيد الشهيد محمّد ابن داود المؤذّن الجزينيّ ، عن الشيخ الكامل ضياء الدين عليّ ، عن والده الأفضل الأكمل المحقّق الجامع في معارج السعادة بين رتبتي العلم والشهادة الشيخ شمس الدين محمّد بن مكّيّ الشهير بالشهيد الأوّل - قدّس سرّه ورفع قدره - .

ح : وعن شيخنا زين الملّة والدين ، عن الشيخ الجليل جمال الدين أحمد بن خاتون ، عن العالم المحقّق ، أفضل المتأخّرين ، وأكمل المتبحّرين ، نور الملّة والدين ، عليّ بن عبدالعالي الكركيّ العامليّ ، عن الشيخ الورع الجليل عليّ بن هلال الجزائريّ ، عن الشيخ العالم العابد جمال الدين أحمد بن فهد الحلّيّ ، عن الشيخ زين الدين عليّ بن الخازن ، عن شيخنا الشهيد الأوّل محمّد بن مكّيّ .

ح : وعن الشيخ محمّد بن المؤذّن ، عن السيّد الأجلّ السيّد عليّ بن دقّاق الحسينيّ ، عن الشيخ محمّد بن شجاع القطّان ، عن الشيخ الجليل الفاضل المقداد بن عبداللّه السيوريّ الحلّيّ ، عن شيخنا الشهيد الأوّل ، عن جماعة من مشايخه منهم السيّد المحقّق الطاهر عميد الدين عبدالمطّلب الحسينيّ ، والشيخ الأفضل فخر المحقّقين ولد العلاّمة أبوطالب محمّد الحلّيّ ، والسيّد الفاضل النسّابة أبو عبداللّه محمّد بن القاسم بن معيّة الحسينيّ ، والسيّد الكبير نجم الدين مهنّا بن سنان المدنيّ ، والمولى

الفاضل ملك العلماء مولانا قطب الدين محمّد الرازيّ ، عن الشيخ الأكمل آية اللّه في العالمين والمؤيّد بالدلائل والبراهين المفلجة للخصوم والمعاندين ، حجّة الخاصّة على العامّة ، المشتهر في الآفاق بالعلاّمة ، جمال الملّة والدين أبي منصور الحسن بن الشيخ الأعظم الأطهر يوسف بن المطهّر ، عن والده المبرور ، عن شيخه الأفضل رئيس المحقّقين الكُمّل نجم الملّة والدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن سعيد الحلّيّ الشهير بالمحقّق - قدّس سرّه ورفع قدره - عن السيّد الجليل النسّابة فخار بن

معد الموسويّ ، عن شاذان بن جبرئيل القمّيّ ، عن الشيخ الفقيه العماد أبي جعفر محمّد بن أبي القاسم الطبريّ ، عن الشيخ الفقيه السديد السعيد أبي عليّ الحسن ، عن والده رئيس المذهب وشيخ الطائفة وقدوة الفرقة الناجية الفائقة ، الشيخ أبي جعفر محمّد بن

ص: 28

الحسن الطوسيّ - نوّر اللّه مرقده ، وفي الجنان خلّده - .

ح : وعن الشيخ العلاّمة ، عن السيّد الطاهر ذي المناقب والمفاخر رضي الدين عليّ بن طاوس الحسينيّ رحمه الله ، عن حسين بن أحمد السوراويّ ، عن محمّد بن أبي القاسم الطبريّ ، عن الشيخ الفقيه أبي عليّ ، عن والده محمّد بن الحسن الطوسيّ .

ح : وعن العلاّمة جمال الملّة والدين ، عن اُستاذه أفضل المحقّقين وسلطان الحكماء والمتكلّمين ، والحجّة على الخصوم والمعاندين ، نصير الملّة والحقّ والدين محمّد الطوسيّ ، عن والده الأجلّ محمّد بن الحسن الطوسيّ ، عن السيّد الجليل فضل اللّه الراونديّ ، عن السيّد المجتبى بن الداعي الحسينيّ ، عن شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسيّ ، عن شيخ المشايخ العظام ، وقدوة العلماء الأعلام ، والحجّة على الخاصّ والعام ، مُلهم الحقّ ودليله ، ومنار الدين وسبيله ، الشيخ المفيد أبي عبداللّه

محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثيّ العكبريّ البغداديّ ، عن الشيخ المعظّم ، والعلم المقدَّم ، رئيس المحدّثين ، ومحيي معالم الدين ، عماد الدين أبي جعفر محمّد بن عليّ بن موسى بن بابويه القمّيّ في كتاب (العلل) ، عن أبيه الثقة الجليل ، عن سعد بن

عبداللّه ، عن أحمد بن محمّد السيّاريّ ، عن محمّد بن عبداللّه بن مهران الكوفيّ ، عن حنّان بن سدير ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق الليثيّ ، قال :

قلت لأبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام : يابن رسول اللّه ، أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني ؟ قال : «اللّهمّ لا» .

قلت : فيلوط ؟ قال : «اللّهمّ لا» .

قلت : فيسرق ؟ قال : «لا» .

قلت : فيشرب الخمر ؟ قال : «لا» .

قلت : فيأتي بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش ؟ قال : «لا» .

قلت : فيذنب ذنباً ؟ قال : «نعم ، وهو مذنب ملمّ» .

قلت : ما معنى ملمّ ؟ قال : «الملمّ بالذنب لا يلزمه ولا يصرّ عليه» .

ص: 29

قال : فقلت : سبحان اللّه ! ما أعجب هذا ، لا يزني ولا يلوط ولا يسرق ولا يشرب الخمر ، ولا يأتي كبيرة من الكبائر ولا فاحشة .

فقال عليه السلام : «لا عجب من أمر اللّه ، إنّ اللّه عزّ وجلّ يفعل ما يشاء ، ولا يُسئَل عمّا يفعل وهم يُسئَلون ، فممّ عجبت يا إبراهيم ؟ سل ولا تستنكف ولا تستحسر(1) ، فإنّ هذا العلم لا يتعلّمه مستكبر ولا مستحسر» .

قلت : يابن رسول اللّه ، إنّي أجد من شيعتكم من يشرب الخمر ويقطع الطريق ، ويخيف السبيل ، ويزني ويلوط ، ويأكل الربا ويرتكب الفواحش ، ويتهاون بالصلاة والصيام والزكاة ، ويقطع الرحم ، ويأتي الكبائر ، فكيف هذا ؟ ولِمَ ذاك ؟

فقال : «يا إبراهيم ، وهل يختلج بصدرك شيء غير هذا ؟»

قلت : نعم يابن رسول اللّه ، اُخرى أعظم من ذلك .

فقال : «وما هو يا أبا إسحاق ؟»

قال : فقلت : يابن رسول اللّه ، وأجد من أعدائكم ومناصبيكم من يكثر من الصلوات ومن الصيام ، ويخرج الزكاة ، ويتابع بين الحجّ والعمرة ، ويحضّ على الجهاد ، ويؤثر على البرّ وعلى صلة الأرحام ، ويقضي حقوق إخوانه ويواسيهم من ماله ، ويتجنّب شرب الخمر والزنا واللواط وسائر الفواحش ، فممّ ذاك ؟ ولم ذاك ؟ فسّره لي يابن رسول اللّه ، وبرهنه وبيّنه ، فقد - واللّه - كثر فكري ، وسهر ليلي ، وضاق ذرعي .

قال : فتبسّم عليه السلام ثمّ قال : «يا إبراهيم ، خُذ إليك بياناً شافياً فيما سألت ، وعلماً مكنوناً من خزائن علم اللّه وسرّه ، أخبرني يا إبراهيم ، كيف تجد اعتقادهما ؟»

قلت : يابن رسول اللّه ، أجد محبّيكم وشيعتكم على ما هم فيه ممّا وصفته من أفعالهم ، لو اُعطي أحدهم مابين المشرق والمغرب ذهباً وفضّة أن يزول عن ولايتكم ومحبّتكم إلى موالاة غيركم وإلى محبّتهم ما زال ولو ضربت خياشيمه بالسيوف فيكم ، ولو قُتل فيكم ما ارتدع ولا رجع عن محبّتكم وولايتكم .

ص: 30


1- . أي لا تملّ ، وهو استفعال في حسر ، إذا أعيا وتعب . انظر : مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 267 حسر .

وأرى الناصب على ما هو عليه ممّا وصفته من أفعالهم لو اُعطي أحدهم مابين المشرق والمغرب ذهباً وفضّة أن يزول عن محبّة الطواغيت وموالاتهم إلى موالاتكم ما فعل ولا زال ولو ضربت خياشيمه بالسيوف فيهم ، ولو قتل فيهم ما ارتدع ولا رجع ، وإذا سمع أحدهم منقبة لكم وفضلاً اشمأزّ من ذلك وتغيّر لونه ، ورؤي كراهية ذلك في وجهه ؛ تعصّباً لكم ومحبّة لهم .

قال : فتبسّم الباقر عليه السلام ثمّ قال : «يا إبراهيم ، هاهنا هلكت العاملة الناصبة « تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ »(1) ، ومن أجل ذلك قال عزّ وجلّ : « وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً »(2) ، ويحك يا إبراهيم ! أتدري ما السبب والقصّة في ذلك ؟ وما الذي قد خفي على الناس منه ؟»

قلت : يابن رسول اللّه ، فبيّنه لي واشرحه وبرهنه .

قال : «يا إبراهيم ، إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يزل عالماً قديماً ، خلق الأشياء لا من شيء ، ومن زعم أنّ اللّه تعالى خلق الأشياء من شيء فقد كفر ؛ لأنّه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الأشياء قديماً معه في أزليّته وهويّته كان ذلك أزليّاً ، بل خلق اللّه عزّ وجلّ الأشياء كلّها لا من شيء ، فكان ممّا خلق اللّه عزّ وجلّ أرضاً طيّبة ، ثمّ فجّر منها ماءا عذباً زلالاً ، فعرض عليها ولايتنا أهل البيت فقبلتها ، وأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيّام حتّى طبّقها وعمّها ، ثمّ نضب ذلك الماء عنها ، فأخذ من صفوة ذلك الطين طيناً فجعله طين الأئمّة ، ثمّ أخذ ثفل(3) ذلك الطين فخلق منه شيعتنا ، ولو ترك طينتكم على حالها - يا إبراهيم - كما ترك طينتنا لكنتم ونحن شيئاً واحداً» .

قلت : يابن رسول اللّه ، فما فعل بطينتنا ؟

قال : «اُخبرك يا إبراهيم ، خلق اللّه عزّ وجلّ بعد ذلك أرضاً سبخة خبيثة منتنة ، ثمّ فجّر منها

ص: 31


1- . الغاشية 88 : 4 و5 .
2- . الفرقان 25 : 23 .
3- . الثفل : ما سَفَل من كلّ شيء . الصحاح ، ج 4 ، ص 1646 ثفل .

ماءا اُجاجاً آسناً(1) مالحاً ، فعرض عليها ولايتنا أهل البيت فلم تقبلها ، فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيّام ثمّ طبّقها وعمّها ، ثمّ نضب ذلك الماء عنها ، ثمّ أخذ من ذلك الطين فخلق منه الطغاة وأئمّتهم ثمّ مزجه بثفل طينتكم ، ولو ترك طينتهم على حالها ولم يمزجها بطينتكم لم يشهدوا الشهادتين ، ولا صلّوا ولا صاموا ، ولا زكّوا ولا حجّوا ولا أدّوا أمانة ، ولا أشبهوكم في الصور ، وليس شيء أكبر على المؤمن من أن يرى صورة عدوّه مثل صورته» .

قلت : يابن رسول اللّه ، فما صنع بالطينتين ؟

قال : «مزج بينهما بالماء الأوّل والماء الثاني ، ثمّ عركها عرك الأديم ، ثمّ أخذ من ذلك قبضة فقال : هذه إلى الجنّة ولا اُبالي ، وأخذ قبضة اُخرى وقال : هذه إلى النار ولا اُبالي ، ثمّ خلط بينهما فوقع من سنخ المؤمن وطينته على سنخ الكافر وطينته ، ووقع من سنخ الكافر وطينته على سنخ المؤمن وطينته ؛ فما رأيته من شيعتنا من زناً ولواط أو ترك صلاة أو صيام أو حجّ أو جهاد أو خيانة أو كبيرة من هذه الكبائر فهو من طينة الناصب وعنصره الذي قد مزج فيه ؛ لأنّ من سنخ الناصب وعنصره وطينته اكتساب المآثم والفواحش والكبائر .

وما رأيت من الناصب ومواظبته على الصلاة والصيام والزكاة والحجّ والجهاد وأبواب البرّ فهو من طينة المؤمن وسنخه الذي قد مزج فيه ؛ لأنّ من سنخ المؤمن وعنصره وطينته اكتساب الحسنات واستعمال الخير واجتناب المآثم ، فإذا عرضت هذه الأعمال كلّها على اللّه عزّوجلّ قال : أنا عدل لا أجور ، ومنصف لا أظلم ، وحَكَم لا أحيف ولا أميل ولا أشطط(2) ، ألحقوا الأعمال السيّئة التي اجترحها المؤمن بسنخ الناصب وطينته ، وألحقوا الأعمال الحسنة التي اكتسبها الناصب بسنخ المؤمن وطينته ، ردّوها كلّها إلى أصلها ، فإنّي أنا اللّه لا إله إلاّ أنا ، عالم السرّ وأخفى ، وأنا المطّلع على قلوب عبادي ، لا أحيف ولا أظلم ولا ألزم أحداً إلاّ ما عرفته منه قبل أن أخلقه» .

ص: 32


1- . الاُجاج : الملح المُرّ . لسان العرب ، ج 2 ص 207 أجج والآسن : المتغيّر ريحه . لسان العرب ، ج 13 ، ص 16 (أسن) .
2- . شطَطَ : جار في الحكم . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 909 شطط .

ثمّ قال الباقر عليه السلام : «يا إبراهيم ، إقرأ هذه الآية» .

قلت : يابن رسول اللّه ، أيّة آية ؟

قال : «قوله تعالى : « قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ »(1)

هو في الظاهر ما تفهمونه ، وهو واللّه في الباطن هذا بعينه . يا إبراهيم ، إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ومحكماً ومتشابهاً وناسخاً ومنسوخاً» .

ثمّ قال : «أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إذا طلعت وبدا شعاعها في البلدان ، أهو باين من القرص ؟»

قلت : في حال طلوعه باين .

قال عليه السلام : «أليس إذا غابت الشمس اتّصل ذلك الشعاع بالقرص حتّى يعود إليه ؟»

قلت : نعم .

قال : «كذلك يعود كلّ شيء إلى سنخه وجوهره وأصله ، فإذا كان يوم القيامة نزع اللّه عزّ وجلّ سنخ الناصب وطينته مع أثقاله وأوزاره من المؤمن ، فيلحقها كلّها بالناصب ، وينزع سنخ المؤمن وطينته مع حسناته وأبواب برّه واجتهاده من الناصب ، فيلحقها كلّها بالمؤمن ، أفترى هاهنا ظلماً وعدواناً ؟»

قلت : لا يابن رسول اللّه .

قال عليه السلام : «هذا - واللّه - القضاء الفاصل ، والحكم القاطع ، والعدل البيّن « لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ »(2) ، هذا - يا إبراهيم - « الْحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ »(3) ، هذا من حكم الملكوت» .

قلت : يابن رسول اللّه ، وما حكم الملكوت ؟

قال : «حكم اللّه وحكم أنبيائه وقصّة الخضر وموسى عليهماالسلام حين استصحبه فقال : « إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً »(4) . افهم يا إبراهيم واعقل ،

ص: 33


1- . يوسف 12 : 79 .
2- . الأنبياء 21 : 23 .
3- . البقرة 2 : 147 .
4- . الكهف 18 : 67 - 68 .

أنكر موسى على الخضر واستفظع أفعاله حتّى قال له الخضر : يا موسى ، ما فعلته عن أمري ، إنّما فعلته عن أمر اللّه عزّ وجلّ ، هذا - ويحك يا إبراهيم ! - قرآن يُتلى وأخبار تُؤثر عن اللّه عزّ وجلّ ، من ردّ منها حرفاً فقد كفر وأشرك وردّ على اللّه عزّ وجلّ» .

قال الليثيّ : فكأنّي لم أعقل الآيات - وأنا أقرؤها أربعين سنة - إلاّ ذلك اليوم . فقلت : يابن رسول اللّه ، ما أعجب هذا ! أتؤخذ حسنات أعدائكم فتردّ على شيعتكم ، وتؤخذ سيّئات محبّيكم فتردّ على مبغضيكم ؟!

قال عليه السلام : «اِي واللّه الذي لا إله إلاّ هو ، فالق الحبّة وبارئ النسمة وفاطر الأرض والسماء ، ما أخبرتك إلاّ بالحقّ ، وما أتيتك إلاّ بالصدق ، وما ظلمهم اللّه وما اللّه بظلاّم للعبيد ، وما أخبرتك لموجود في القرآن كلّه» .

قلت : هذا بعينه يوجد في القرآن ؟

قال : «نعم ، يوجد في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن ، أتحبّ أن أقرأ ذلك عليك ؟»

قلت : بلى يابن رسول اللّه .

فقال عليه السلام : «قال اللّه عزّ وجلّ : « وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ » الآية(1) ، أزيدك يا إبراهيم ؟»

قلت : بلى يابن رسول اللّه .

قال : «« لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ »(2) ، أتحبّ أن أزيدك ؟»

قلت : بلى يابن رسول اللّه .

قال : «« فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً »(3) ، يبدّل اللّه سيّئات شيعتنا حسنات ، ويبدّل اللّه حسنات أعدائنا سيّئات ، وجلال اللّه ووجه اللّه ، إنّ هذا لمن عدله وإنصافه ، لا رادّ لقضائه ولا مُعقّب لحكمه ، وهو السميع العليم ، ألم اُبيّن لك أمر

ص: 34


1- . العنكبوت 29 : 12 - 13 .
2- . النحل 16 : 25 .
3- . الفرقان 25 : 70 .

المزج والطينتين من القرآن ؟»

قلت : بلى يابن رسول اللّه .

قال عليه السلام : «اقرأ يا إبراهيم : « الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ »(1) ، يعني من الأرض الطيّبة والأرض المنتنة ، « فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى » يقول : لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته وصيامه وزكاته ونسكه ؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ أعلم بمن اتّقى منكم ، فإنّ ذلك من قِبل اللمم ، وهو المزاج ، أزيدك يا إبراهيم ؟»

قلت : بلى يابن رسول اللّه .

قال : «« كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللّهِ »(2) ، يعني أئمّة الجور دون أئمّة الحقّ « وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُهْتَدُونَ » ؛ خُذها إليك يا أبا إسحاق ، فواللّه ، إنّه لمن غرر أحاديثنا ، وباطن سرائرنا ، ومكنون خزائننا ، وانصرف ولا تُطْلع على سرّنا إلاّ مؤمناً مستبصراً ، فإنّك إذا أذعت سرّنا بُليت في نفسك ومالك وأهلك وولدك»(3) .

تبصرة :

اعلم أنّ هذا الخبر ونحوه من متشابهات الأخبار ، ومعضلات الآثار ، التي تحيّرت فيها الأنظار ، وتصادمت فيها الأفكار ، واختلفت في توجيهها كلمات علمائنا الأبرار ، وقد تخرّجوا عمّا يلزم من ظاهرها من الجبر ورفع الاختيار بوجوه :

الأوّل : أنّها أخبار آحاد لا توجب علماً ولا عملاً ، فيجب ردّها وطرحها ، سيّما وهي مخالفة للكتاب الكريم والسنّة القطعيّة وإجماع الإماميّة والأدلّة العقليّة والبراهين القطعيّة .

ص: 35


1- . النجم 53 : 32 .
2- . الأعراف 7 : 29 - 30 .
3- . علل الشرائع ، ج 2 ، 606 - 610 ، ح 81 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 228 - 233 ، ح 6 ؛ و ج 64 ، ص 102 - 108 ، ح 21 .

وفيه : إنّ هذه الأخبار قد رواها العلماء الأعلام في جوامعهم العظام بأسانيد عديدة ، وطرق سديدة ، ولا يبعد أن تكون من المتواترات معنى ، فلا معنى لطرحها وردّها ، بل لابدّ من توجيهها ، وقد رواها ثقة الإسلام في الكافي بطرق شتّى ، ومتون عديدة(1) ، والشيخ في الأمالي(2) ، والبرقي في المحاسن(3) ، والصدوق في العلل(4) ، وعليّ بن إبراهيم(5) والعيّاشي(6) في تفسيريهما ، والصفّار في بصائر الدرجات(7) ، وغيرهم في غيرها ، بأسانيد وافرة وطرق متكاثرة .

بل الأولى حينئذٍ أن يقال : إنّ هذه الأخبار متشابهة يجب الوقوف عندها وردّ أمرها وتسليمه إليهم عليهم السلام ، فإنّ كلامهم عليهم السلام كالقرآن ينقسم إلى محكم ومتشابه ، كما ورد عنهم عليهم السلام : «إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكمه ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا»(8) .

الثاني : أنّها محمولة على التقيّة ؛ لموافقتها لروايات العامّة ، ولما ذهب إليه الأشاعرة ، وهم جلّهم ، ولمخالفتها أخبار الاختيار والاستطاعة المعلومة من طريقتهم عليهم السلام .

وهذا مشارك لما قبله في الضعف ، فإنّ الظاهر من بعضها أنّها من أسرار علومهم وكنوز أسرارهم .

الثالث : أنّها كناية عمّا علمه اللّه تعالى وقدّره من اختلاط المؤمن والكافر في الدنيا ، واستيلاء أئمّة الجور وأتباعهم على أئمّة الحقّ وأتباعهم ، وعلم أنّ المؤمنين إنّما

ص: 36


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 2 ، باب طينة المؤمن والكافر .
2- . الأمالي ، للطوسي ، ص 149 ، المجلس 5 ، ح 244 ؛ و ص 308 ، المجلس 11 ، ح 620 .
3- . المحاسن ، ج 1 ص 229 ، باب اختلاط الطينتين .
4- . علل الشرائع ، ج 2 ، ص 489 و 606 .
5- . تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 383 .
6- . تفسير العيّاشي ، ج 2 ص 164 - 165 .
7- . بصائر الدرجات ، ص 34 .
8- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 261 .

يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم ، وعدم تولّي أئمّة الحقّ لسياستهم ، فيعذرهم لذلك ويعفو عنهم ، ويعذّب أئمّة الجور وأتباعهم بتسبّبهم لجرائم من خالطهم مع ما يستحقّون من جرائم أنفسهم .

الرابع : أنّها كناية عن علمه تعالى بما هم إليه صائرون ، فإنّه تعالى لمّا خلقهم مع علمه بأحوالهم فكأنّه تعالى خلقهم من طينات مختلفة ؛ ولا يخفى ضعفه .

الخامس : أنّها كناية عن اختلاف استعدادهم وتفاوت قابليّاتهم ، وهذا أمر بيّن لا يمكن إنكاره ؛ إذ لا شبهة في أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وأبا جهل ليسا في درجة واحدة من الاستعداد والقابليّة ، وهذا لا يستلزم سقوط التكليف ، فإنّ اللّه تعالى كلّف النبيّ صلى الله عليه و آله حسبما أعطاه من الاستعداد لتحصيل الكمالات ، وكلّف أبا جهل حسبما أعطاه من ذلك ، ولم يكلّفه ما ليس في وسعه ، ولم يجبره على شيء من الشرّ والفساد .

السادس : أنّ غاية ما يلزم من الخلق من الطينتين الميل والمحبّة لما يقتضيه كلّ منهما من خير وشرّ بالاختيار ، وذلك لا يستلزم الجبر ، سيّما بعد تصريحه عليه السلام بخلط الطينتين الموجب لتدافع الطبيعتين والوقوف على حدّ الاعتدال ، بحيث يصير المؤمن قادراً على السيّئة ، والكافر قادراً على الحسنة .

ويؤيّده قوله عليه السلام في بعض أخبار هذا الباب : «فقلوب المؤمنين تحنُّ إلى ما خلقوا منه ، وقلوب الكافرين تحنّ إلى ما خلقوا منه»(1) ، وظاهره أنّ ذلك الخلط والمزج صار سبباً لمجرّد الميل ، لا أنّه رفع القدرة والاختيار وصار علّة للإجبار .

ولعلّ الحكمة والمصلحة في مزج الطينتين إظهار قدرته تعالى في إخراج الكافر من المؤمن وبالعكس - دفعاً لتوهّم استنادهم إلى الطبائع - أو ظهور رحمته تعالى في فسّاق المؤمنين بغفران ذنوبهم ، أو تعيّش المؤمنين في دولة الكافرين ؛ إذ لو لم تكن

رابطة الاختلاط ولم يكن لهم رأفة وأخلاق حسنة كانوا كلّهم بمنزلة الشياطين ، فلم يتخلّص أحد من بطشهم ، أو لوقوع المؤمن بين الخوف والرجاء ، حيث لا يعلم أنّ

ص: 37


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 2 ، باب طينة المؤمن والكافر ، ح 1 ؛ علل الشرائع ، ج 1 ، ص 82 ، ح 2 ؛ الاختصاص ، ص 24 ، ح 4 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 239 ، ح 18 .

الغالب فيه الخير أو الشرّ ، أو رفع العُجب عنه بفعل الطاعات ، أو الرجوع إليه تعالى في حفظ نفسه من المعاصي أو غير ذلك من الحِكَم والمصالح التي لا تدركها عقولنا القاصرة وأفهامنا الفاترة .

السابع : ما اعتمده أكثر الأصحاب وعوّلوا عليه في هذا الباب ، وهو أنّ ذلك مُنزّل على العلم الإلهيّ ، فإنّه تعالى لمّا خلق الأرواح كلّها قابلة للخير والشرّ ، وقادرة على فعلهما ، وعلم أنّ بعضها يعود إلى الخير المحض وهو الإيمان ، وبعضها يعود إلى الشرّ المحض وهو الكفر باختيارها ، عاملها هذه المعاملة كالخلق من الطينة الطيّبة أو الخبيثة ، فحيث علم اللّه من (زيد) أنّه يختار الخير والإيمان البتّة ولو لم يخلق من طينة طيّبة ، خلقه منها ، ولمّا علم من (عمرو) أنّه يختار الشرّ والكفر البتّة خلقه من طينة خبيثة ؛ لطفاً بالأوّل وتسهيلاً عليه وإكراماً له ؛ لما علم من حسن نيّته وعمله ، وبالعكس في الثاني ، وعلم اللّه ليس بعلّة لصدور الأفعال .

وهذا معنى جيّد تنطبق عليه أكثر أخبار الباب ويستنبط من أخبارهم عليهم السلام ، كما اُشير إليه في الحديث المذكور بقوله عليه السلام حكاية عنه تعالى : «أنا المطّلع على قلوب عبادي ، لا أحيف ولا أظلم ولا ألزم أحداً إلاّ ما عرفته منه قبل أن أخلقه» ، ويستفاد ذلك من أخبار اُخر ذكرها يفضي إلى التطويل .

الثامن : أنّ اللّه سبحانه وتعالى لمّا خلق الأرواح قبل خلق الأبدان في عالم الذرّ وكلّفها بتكليف حين تجرّدها ، أجّج لها ناراً وأمرها بالدخول إليها والاقتحام فيها ، فامتثل بعضها وبادر إلى الإطاعة ، فكانت عليه برداً وسلاماً ، وأبى بعضها ولم يمتثل ، فندم وخسر ، ثمّ طلب الرجوع مرّة اُخرى ، فأبى ولم يمتثل أيضاً ، فقامت هناك الحجّة ، وثبتت المحجّة ، وتحقّق الإيمان والكفر بالإطاعة والعصيان قبل استقرار الأرواح في الأبدان ، ووقع معلوم اللّه تعالى مطابقاً لعلمه ، فخلق تعالى للأرواح المطيعة مسكناً

مناسباً لها - وهو البدن - من طينة علّيّين ، وخلق للأرواح العاصية مسكناً من طينة سجّين ، كما خلق تعالى للمؤمن جنّة وللكافر ناراً ، وذلك ليستقرّ كلّ واحد فيما يناسبه ، ويعود كلّ جزء إلى كلّه ، وكلّ فرع إلى أصله .

فظهر أنّ الخلق من الطينتين تابع للإيمان والكفر ، ومسبّب عن العمل دون العكس ،

ص: 38

فلا يلزم الجبر ولا ينافي الاختيار ، ألا ترى أنّ اللّه تعالى لمّا علم أنّ بين النبيّين والمؤمنين اتّصالاً من وجه وانفصالاً من وجه آخر - لأنّ المؤمنين يوافقونهم في العقائد ويخالفونهم أحياناً في الأعمال ؛ لصدور المعصية منهم - خلق قلوب المؤمنين من طينة النبيّين ، وخلق أبدانهم من دون ذلك ؛ لانحطاط درجتهم وشرفهم ، فوضع كلاًّ في درجته .

وإنّك إذا قرّرت لعبدك المطيع بيتاً شريفاً ولعبدك العاصي بيتاً وضيعاً صحّ ذلك عقلاً وشرعاً ، ولا يصفك عاقل بالظلم والجور ؛ إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وهو يلزم لو انعكس الأمر أو وقع التساوي ، فبان أنّ الخلق من طينتين علّيّين وسجّين ، تابع للطاعة والمعصية والإيمان والكفر دون العكس .

التاسع : ما صار إليه المحدّث المحقّق الكاشانيّ في الوافي حيث قال - بعد إيراد الخبر المذكور باختلافٍ يسير في ألفاظه - ما نصّه :

جملة القول في بيان السرّ فيه : أنّه قد تحقّق وثبت أنّ كلاًّ من العوالم الثلاثة له مدخل في خلق الإنسان وفي طينته ومادّته من كلّ حظّ ونصيب ، فلعلّ الأرض الطيّبة كناية عمّا له في جملة طينته من آثار عالم الملكوت ، الذي منه الأرواح المثاليّة والقوى الخياليّة الفلكيّة المعبّر عنها ب- «المدبّرات أمراً» ، والماء العذب عمّا له في طبيعته من إفاضات عالم الجبروت ، الذي منه الجواهر القدسيّة والأرواح العالية المجرّدة عن الصور المعبّر عنها ب- «السابقات سبقاً» ، والأرض الخبيثة عمّا له في طينته من أجزاء عالم الملك ، الذي منه الأبدان العنصريّة المسخّرة تحت الحركات الفلكيّة المسخّرة لما فوقها ، والماء الاُجاج المالح الآسن عمّا له في طينته من تهييجات الأوهام الباطلة والأهواء المموّهة الرديّة ، الحاصلة من تركيب الملك مع الملكوت ممّا لا أصل له ولا حقيقة.

ثمّ الصفوة من الطينة الطيّبة عبارة عمّا غلب عليه إفاضة الجبروت من ذلك ، والثفل منه ما غلب عليه أثر الملكوت ، وكدورة الطين المنتن الخبيث عمّا غلب عليه طبائع عالم الملك وما يتبعه من الأهواء المضلّة .

وإنّما لم يذكر نصيب عالم الملك للأئمّة عليهم السلام مع أنّ أبدانهم العنصريّة منه ؛

ص: 39

لأنّهم لم يتعلّقوا بهذه الدنيا ولا بهذه الأجساد تعلّق ركون وإخلاد ، فهم وإن كانوا في النشأة الفانية بأبدانهم العنصريّة ، ولكنّهم ليسوا من أهلها كما مضى بيانه . قال الصادق عليه السلام في حديث حفص بن غياث : «يا حفص ، ما أنزلت الدنيا من نفسي إلاّ بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها» ، فلا جرم نفضوا أذيالهم منها بالكلّيّة إذا ارتحلوا عنها ، ولم يبق معهم منها كدورة .

وإنّما لم يذكر نصيب الناصب وأئمّة الكفر من إفاضة عالم الجبروت مع أنّ لهم منه حظّ الشعور والإدراك وغير ذلك ؛ لعدم تعلّقهم به ولا ركونهم إليه ، ولذا تراهم تشمئزّ نفوسهم من سماع العلم والحكمة ، ويثقل عليهم فهم الأسرار والمعارف ، فليس لهم من ذلك العالم « إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ »(1) ، « نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ » ،(2) فلا جرم ذهب عنهم نصيبهم من ذلك العالم حين أخلدوا إلى الأرض واتّبعوا أهواءهم .

فإذا جاء يوم الفصل وميّز اللّه الخبيث من الطيّب ارتقى من غلب عليه إفاضات عالم الجبروت إلى الجبروت وأعلى الجنان ، والتحق بالمقرّبين ، ومن غلب عليه آثار الملكوت إلى الملكوت ومواصلة الحور والولدان ، والتحق بأصحاب اليمين ، وبقي من غلب عليه الملك في الحسرة والثبور والهوان والتعذيب بالنيران ؛ إذ فرّق الموت بينه وبين محبوباته ومشتهياته ؛ فالأشقياء وإن انتقلوا إلى نشأة من جنس نشأة الملكوت خلقت بتبعيّتها بالعرض ، إلاّ أنّهم يحملون معهم من الدنيا من صور أعمالهم وأخلاقهم وعقائدهم ممّا لا يمكن انفكاكهم عنه ممّا يتأذّون به ، ويعذّبون بمجاورته من سموم وحميم وظلّ من يحموم ، ومن حيّات وعقارب ذوات لدغ وسموم ، ومن ذهب وفضّة كنزوها في دار الدنيا ولم ينفقوها في سبيل اللّه ، واُشرب في قلوبهم محبّتها « فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَاكُنْتُمْ تَكْنِزُونَ » ،(3) ومن آلهة يعبدونها من دون اللّه من

ص: 40


1- . الرعد 13 : 14 .
2- . الحشر 59 : 19 .
3- . التوبة 9 : 35 .

حجر أو خشب أو حيوان أو غيرها ممّا يعتقدون فيه أنّه ينفعهم ، وهو يضرّهم ؛ إذ يقال لهم : « إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دوُنِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ »(1) .

وبالجملة ، المرء مع من أحبّ ، فمحبوب الأشقياء لمّا كان من متاع الدنيا الذي لا حقيقة له ولا أصل ، بل هو متاع الغرور ، فإذا كان يوم القيامة وبرزت حواقُّ الأمر وكسد متاعهم وصار لا شيئاً محضاً ، فيتألّمون بذلك ، ويتمنّون الرجوع إلى الدنيا التي هي وطنهم المألوف ؛ لأنّهم من أهلها ، ليسوا من أهل النشأة الباقية ؛ لأنّهم رضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها ، فإذا فارقوها عُذِّبوا بفراقها في نار جهنّم بأعمالهم التي أحاطت بهم .

وجميع المعاصي والشهوات يرجع إلى متاع هذه النشأة الدنيويّة ومحبّتها ، فمن كان من أهلها عُذِّب بمفارقتها لا محالة ، ومن ليس من أهلها ، وإنّما ابتلي بها وارتكبها مع إيمان منه بقبحها أو خوف من اللّه سبحانه في إتيانها ، فلا جرم يندم على ارتكابها إذا رجع إلى عقله وأناب إلى ربّه ، فتصير ندامته عليها والاعتراف بها وذلّ مقامه بين يدي ربّه حياءا منه تعالى سبباً لتنوير قلبه ، وهذا معنى تبديل سيّئاتهم حسنات .

فالأشقياء إنّما عُذِّبوا بما لم يفعلوا لحنينهم إلى ذلك ، وشهوتهم له ، وعقد ضمائرهم على فعله دائماً إن تيسّر لهم ؛ لأنّهم كانوا من أهله ومن جنسه « وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ » ،(2) والسعداء إنّما لم يخلدوا في العذاب ولم يشتدّ عليهم العقاب بما فعلوا من القبائح ؛ لأنّهم ارتكبوا على كره من عقولهم وخوف من ربّهم ؛ لأنّهم لم يكونوا من أهلها ولا من جنسها ، بل اُثيبوا بما لم يفعلوا من الخيرات لحنينهم إليه وعزمهم عليه وعقد ضمائرهم على فعله دائماً إن تيسّر لهم ، فإنّما الأعمال بالنيّات ، وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى ، وإنّما ينوي كلّ ما يناسب طينته وتقتضيه جبلّته ، كما قال اللّه سبحانه : « قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ » ،(3) ولهذا ورد في

ص: 41


1- . الأنبياء 21 : 98 .
2- . الأنعام 6 : 28 .
3- . الإسراء 17 : 84 .

الحديث : أنّ كلاًّ من أهل الجنّة والنار إنّما يخلدون فيما يخلدون على نيّاتهم .

وإنّما يعذّب بعض السعداء حين خروجهم من الدنيا بسبب مفارقة ما مزج بطينتهم من طينة الأشقياء ممّا أنسوا به قليلاً وألفوه بسبب ابتلائهم به ما داموا في الدنيا .

وروى الصدوق رحمه الله في اعتقاداته مرسلاً أنّه لا يصيب أحداً من أهل التوحيد ألم في النار إذا دخلوها ، وإنّما تصيبهم الآلام عند الخروج منها ، فتكون تلك الآلام جزاءا بما كسبت أيديهم ، وما اللّه بظلاّم للعبيد(1) . انتهى كلامه ، رفع مقامه .

ص: 42


1- . الوافي ، ج 4 ، ص 51 - 54 .

الحديث الثاني [ بقاء طينة الميّت مستديرة في القبر ]

اشارة

ما رويناه بأسانيدنا السالفة عن ثقة الإسلام ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن أحمد ، عن أحمد بن الحسن ، عن عمرو بن سعيد ، عن مصدِّق بن صدقة ، عن عمّار بن موسى ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : سُئل عن الميّت يبلى جسده ؟

قال : «نعم ، حتّى لا يبقى لحم ولا عظم إلاّ طينته التي خلق منها ، فإنّها لا تبلى ، بل تبقى في القبر مستديرة حتّى يخلق منها كما خلق أوّل مرّة»(1) .

إيضاح :

في تعيين المراد من الطينة الباقية على الاستدارة في هذا الخبر للناظرين فيه أقوال :

أحدها : أنّ المراد بها النفس الناطقة التي هي أصل الإنسان وحقيقته ، وهي المثابة المعاقبة الثابتة بعد فناء الجسد حتّى يخلق اللّه الجسد وتتعلّق به ثانياً ، وبقاؤها في القبر إشارة إلى بقاء تعلّقها بأجزاء بدنها التي في القبر ، فإنّ البدن لكونه آلة لتحصيل كمالاتها

يمتنع أن يزول تعلّقها وتعشّقها به ، واستدارتها كناية عن انتقالها من حال إلى حال ، ومن شأن إلى شأن ، ككونها رميماً وتراباً ، وغير ذلك من الدوران بمعنى الحركة مع بقائها بذاتها ، فهي محفوظة في كلّ الأحوال ، وهذا يؤيّد ما ذكره المتكلّمون من أنّ

تشخُّص الإنسان إنّما هو بالأجزاء الأصليّة، ولا مدخل لسائر الأجزاء والعوارض فيه.

ويمكن أن يراد كونها بهيئة الاستدراة أن يكون كناية عن بساطتها وتجرّدها ؛ نظراً

ص: 43


1- . الكافي ، ج 3 ، ص 251 ، باب النوادر ، ح 7 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 7 ، ص 43 ، ح 21 ؛ وج 57 ، ص 357 - 358 ، ح 43 .

إلى أنّ الاستدراة شكل للبسيط .

ثانيها : أنّ المراد بالطينة هي النطفة ؛ لأنّ الطينة هي الأصل الذي يخلق منه ، أي ما يتولّد به الأجزاء الأصليّة من اللحم والعظم والعصب وغيرها ، والإنسان قد خلق من النطفة ، فالمراد أنّ الأجزاء الفضليّة تتفرّق وتتلاشى بالموت ، ويبقى من البدن ما به

تتكوّن تلك الأجزاء ، وهي النطفة بحالها ؛ ليكون كالمادّة يخلق منه جسد الميّت كما خلق منها أوّل مرّة ، إمّا بضمّ تلك الأجزاء إليها بعد التشتّت أو بإنشائها مرّة اُخرى كما أنشأها في المرّة الاُولى .

ثالثها : أنّ المراد بها التراب الذي يدخل في النطفة كما هو ظاهر بعض الآيات والروايات ، كقوله تعالى : « مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى »(1).

وفي بعض الروايات : «من خلق من تربة دفن فيها»(2) .

وفي اُخرى : «إنّ النطفة إذا وقعت في الرحم بعث اللّه ملكاً يأخذ من التربة التي يدفن فيها وخلطها في النطفة ، فلا يزال قلبه يحنّ إليها حتّى يدفن فيها»(3) . وتحمل الاستدارة حينئذ على أحد المعاني السابقة .

رابعها : أنّ المراد من الطينة ذرّة من الذرّات المسؤولة في الأزل بقوله تعالى : « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ »(4) بعد ما جعلت قابلة للخطاب بتعلّق الروح بها ، فيكون بدن كلّ إنسان مخلوقاً من ذرّة من تلك الذرّات ، فينمّيها اللّه تعالى إلى ما شاء اللّه من غاية ، ثمّ يذهب ويفنى عنها ما زاد عليها ، وتبقى أصل الذرّة مستديرة في القبر إلى ما شاء اللّه ، ثمّ يزيد فيها وقت الإحياء ، فتصير ما كان في الدنيا .(5)

ص: 44


1- . طه 20 : 55 .
2- . الكافي ، ج 3 ، ص 202 ، باب التربة التي يدفن فيها الميّت ، ح 1 .
3- . الكافي ، ج 3 ص 203 ، باب التربة التي يدفن فيها الميّت ، ح 13 و 14 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 57 ، ص 338 ، ح 14 .
4- . الأعراف 7 : 172 .
5- . الوجوه الأربعة في تفسير الحديث وردت في الأنوار النعمانيّة ، ج 4 ، ص 358 - 361 . وأضاف وجهاخامسا بقوله : إنّ المراد بالطينة الباقية هي الصورة المزاجيّة ، وكأنّ المراد بتلك الصورة هي النفس مع قالبها المثالي أو مجرّد قالبها ، وهذا الحمل قريب من الأوّل . الأنوار النعمانيّة ، ج 4 ، ص 363 .

تبصرة : [تحقيق الكلام في معنى إعادة المعدوم]

ربّما جعل هذا الخبر من الأدلّة الدالّة على أنّ إعادة المعدوم عبارة عن إيجاده بعد انعدامه - كما هو أحد القولين - لا تأليف أجزائه بعد تفرّقها - كما هو القول الآخر - ولكلّ من القولين أدلّة واعتبارات ، فممّا يدلّ بظاهره على القول الأوّل قوله تعالى : « هُوَ الأَوَّلُ وَالاْخِرُ »(1) ، أي في الوجود ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بانعدام ما سواه واضمحلاله .

ويمكن الجواب بأنّ المراد هو مبدأ كلّ وجود وغاية كلَّ مقصود ، أو المتوحّد في الاُلوهيّة أو صفات الكمال ، كما إذا سُئلت : زيد أوّل من زارك أم آخرهم ؟ فتقول : هو الأوّل والآخر ، تريد أن لا زائر سواه .

وقوله تعالى : « كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ »(2) ، فإنّ المراد بالهلاك الانعدام .

ويمكن الجواب بأنّ الهلاك هو الخروج عن الانتفاع المقصود منه اللائق به .

وقوله تعالى : « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ »(3) ، « كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ »(4) ، وقد كان البدء من العدم فكذا الإعادة ، وأيضاً إعادة الخلق بعد إبدائهم لا يتصوّر بدون تخلّل

العدم بينهما .

وقوله تعالى : « كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ »(5) ، والفناء هو العدم .

ويمكن الجواب بالمنع ، بل هو خروج الشيء عن صفته التي ينتفع بها كما يقال : فني زاد القوم ، وفني الطعام والشراب ، أو المراد : كلّ من على وجه الأرض من الأحياء

ص: 45


1- . الحديد 57 : 3 .
2- . القصص 28 : 88 .
3- . الروم 30 : 27 .
4- . الأنبياء 21 : 104 .
5- . الرحمن 55 : 27 .

فهو ميّت .

ومنها : الخبر المذكور حيث صرّح بأنّه يبلى جسده .

واُجيب بأنّ الإبلاء لا يستلزم العدم ، فإنّ العرب يقولون : بلي الثوب ، بمعنى خلق ، فيكون الإبلاء عبارة عن تفرُّق الأجزاء لا انعدامها .

واُورد عليه بأنّه يلزم مثله في الطينة مع استثنائها من البلاء ، فالأظهر أنّ البلاء بمعنى الانعدام ليتمَّ استثناء الطينة .

ومنها : ما رواه الطبرسيّ في الاحتجاج في حديث الزنديق الذي سأل الصادق عليه السلام عن مسائل ، منها : أن قال : أتتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باقٍ ؟ قال : «بل هو باقٍ إلى وقت يوم ينفخ في الصور ، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى ، فلا حسّ ولا محسوس ، ثمّ اُعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها ، وذلك أربعمائة سنة بين النفختين»(1) .

ومنها : قوله عليه السلام في النهج : «هو المفني لها بعد وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها ، وليس فناء الدنيا بعد ابتدائها بأعجب من إنشائها واختراعها - إلى أن قال - : وإنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك ، ويكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ، ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ، لا شيء إلاّ الواحد القهّار - إلى أن قال - : ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها» ، إلى آخره(2) .

وممّا يدلّ ظاهراً على القول الآخر الآيات الدالّة على كون النشور بالإحياء بعد الموت والجمع بعد التفرّق ، كقوله تعالى : « وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن »الآية(3) .

وكقوله تعالى : « أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِيْ هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا » - إلى أن قال - : « وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً »(4).

ص: 46


1- . الاحتجاج ، ج 2 ، ص 97 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 217 ، ح 8 ؛ و ج 10 ، ص 185 ، ح 2 .
2- . نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
3- . البقرة 2 : 260 .
4- . البقرة 2 : 259 .

وقوله : « كَذلِكَ النُّشُورُ »(1) ، و « كَذلِكَ تُخْرَجُونَ »(2) ، و « كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ »(3) ، بعد ما ذكر بدأ الخلق من طين وعلى وجه يُرى ويُشاهد ، مثل : « أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ »(4) ، « قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ »(5) .

وقوله تعالى : « يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ »(6) . إلى غير ذلك من الآيات المشعرة بالتفريق بعد الإعدام .

وما رواه القمّيّ في تفسيره عن الصادق عليه السلام قال : «إذا أراد اللّه أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحاً ، فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم»(7) .

وروى الديلميّ عن السجّاد عليه السلام في حديث قال فيه : «ثمّ يأمر اللّه السماء أن تمطر على الأرض أربعين يوماً حتّى يكون الماء فوق كلّ شيء ذراعاً ، فتنبت به أجساد الخلائق كما ينبت البقل ، فتتدانى أجزاؤهم التي صارت تراباً» ، الحديث(8) .

وفي الاحتجاج عن هشام بن الحكم : أنّه قال الزنديق للصادق عليه السلام : أنّى للروح البعث والبدن قد بلي والأعضاء قد تفرّقت ، فعضو في بلدة تأكلها سباعها ، وعضو باُخرى تمزّقه هوامها ، وعضو قد صار تراباً بني به مع الطين حائط ؟

قال عليه السلام : «إنّ الذي أنشأه من غير شيء وصوّره على غير مثال كان سبق إليه قادر أن يعيده كما بدأ» .

قال : أوضح لي ذلك .

قال : «إنّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسنين في ضياء وفسحة ، وروح

ص: 47


1- . فاطر 35 : 9 .
2- . الروم 30 : 19 ؛ الزخرف (43) : 11 .
3- . الأعراف 7 : 29 .
4- . العنكبوت 29 : 19 .
5- . العنكبوت 29 : 20 .
6- . القارعة 101 : 4 و5 .
7- . تفسير القمي ، ج 2 ، ص 253 .
8- . إرشاد القلوب ، ج 1 ، ص 55 .

المسيئين في ضيق وظلمة ، والبدن يصير تراباً منه خلق ، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها لمّا أكلته ومزَّقته ، كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وأنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب في التراب ، فإذا كان حين البعث مطرت السماء فتربو الأرض ، ثمّ تمخض مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيجتمع تراب كلّ قالب ، فينقل بإذن اللّه إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها ، وتلج الروح فيها ، فإذا هو قد استوى لا ينكر من نفسه شيئاً»(1) . إلى غير ذلك من الأخبار .

ويمكن الجمع بينها وبين ما تقدّم : أنّ اللّه تعالى يفني العالم بأسره ويعدمه ، كما دلّت عليه الآيات والأخبار السابقة ، ثمّ يوجد الأرض والسماء ، ثمّ يحيي الأموات ويعيد الأشياء لجمع الأجزاء المتفرّقة .

تحقيق المعاد الجسمانيّ

القول بالمعاد الجسمانيّ من ضروريّات الدين ، واتّفق عليه جميع الملّيّين ، ومنكره خارج عن ربقة المسلمين ، والآيات به متظافرة ، والنصوص به متواترة ، وقد أجمع الأنبياء على ثبوته ، ولم يقم دليل على امتناعه ، فوجب القول به .

ثمّ إن قلنا بعدم امتناع إعادة المعدوم - لعدم قيام دليل على امتناعه - فالأمر واضح ، وإن قلنا بامتناعه فيمكن أن يُقال : يكفي في المعاد كونه مأخوذاً من تلك المادّة بعينها أو من تلك الأجزاء بعينها ، لاسيّما إذا كان شبيهاً بذلك الشخص في الصفات والعوارض بحيث لو رأيته لقلت : إنّه فلان ؛ إذ مدار اللذّات والآلام على الروح ، ولو بواسطة الآلات وهو باق بعينه .

ولا تدلّ النصوص إلاّ على إعادة ذلك الشخص ، بمعنى أنّه يحكم عليه عرفاً بكونه هو ، كما يحكم على الماء الواحد إذا اُفرغ في إنائين أنّه هو الذي كان في واحد عرفاً

ص: 48


1- . الاحتجاج ، ج 2 ، ص 98 .

وشرعاً ، والإطلاقات اللغويّة والشرعيّة والعرفيّة لا تبتني على الدقائق الحكميّة والفلسفيّة ، والآيات والأخبار تشير إلى ذلك ، كقوله تعالى : « أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم »(1) ، وقوله تعالى : « بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا »(2) ، وما ورد من كون أهل الجنّة جرداً مرداً(3) ، وكون ضرس الكافر مثل جبل اُحد(4) ، وأنّه يحشر المتكبّرون كأمثال الذرّ(5) .

ولا يقال : إنّه يلزم من ذلك كون المثاب والمعاقب باللذّات والآلام الجسمانيّة غير من عمل الطاعة وارتكب المعصية .

لأنّا نقول : العبرة في ذلك بالإدراك ، وإنّما هو للروح ولو بواسطة الآلات ، وهو باق بعينه ، وكذا الأجزاء الأصليّة من البدن ، ولذا يقال للشخص من الصبا إلى الشيخوخة :

إنّه هو بعينه وإن تبدّلت الصور والهيئات ، بل كثير من الأعضاء والآلات ، ولا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب : أنّها عقوبة لغير الجاني .

ص: 49


1- . يس 36 : 81 .
2- . النساء 4 : 56 .
3- . بحار الأنوار ، ج 7 ، ص 53 . والجرد : الذين ليس على أبدانهم شعر ، أولا ثياب لهم . انظر : النهاية لابن الأثير ، ج 1 ، ص 256 ؛ والوافي ، ج 25 ، ص 652 . والمرد : جمع الأمرد ، وهو الذي طرّ شاربه ولم تنبت لحيته . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 461 (مرد) .
4- . بحار الأنوار ، ج 7 ، ص 53 .
5- . بحار الأنوار ، ج 7 ، ص 50 .

الحديث الثالث [ اعرفوا اللّه باللّه والرسول بالرسالة... ]

اشارة

ما رويناه بالأسانيد السالفة عن ثقة الإسلام وعلم الأعلام في الكافي ، عن عليّ بن محمّد ، عمّن ذكره ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن حمران ، عن الفضل بن سكن ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «قال أميرالمؤمنين عليه السلام : اعرفوا اللّه باللّه ، والرسول بالرسالة ، واُولي الأمر بالمعروف» .

وفي بعض النسخ : «بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان»(1) .

وهذا الخبر من غوامض الأخبار ومعضلات الآثار ، وهو يحتمل معان :

الأوّل : ما قاله الكلينيّ ، قال :

معنى قوله عليه السلام : «اعرفوا اللّه باللّه» يعني أنّ اللّه خلق الأشخاص والأنوار والجواهر والأعيان ، فالأعيان : الأبدان ، والجواهر : الأرواح ، وهو جلّ وعزّ لا يشبه جسماً ولا روحاً ، وليس لأحد في خلق الروح الحسّاس الدرّاك أمر ولا سبب ، هو المتفرّد بخلق الأرواح والأجسام ، فإذا نفى عنه الشبهين : شبه الأبدان وشبه الأرواح ، فقد عرف اللّه باللّه ، وإذا شبّهه بالروح أو النور فلم يعرف اللّه باللّه (2) .

أقول : توضيح كلامه رحمه الله : أنّ معنى قوله عليه السلام : «اعرفوا اللّه باللّه» اعرفوه بأنّه هو اللّه مسلوباً عنه جميع ما يعرف به الخلق من الجواهر والأعراض ، ومشابهة شيء منها ، وعلى هذا فمعنى قوله عليه السلام : «والرسول بالرسالة» إلى آخره ، معرفة الرسول بأنّه اُرسل بهذه الشريعة وهذه الأحكام وهذا الدين والكتاب ، ومعرفة كلّ من اُولي الأمر بأنّه

ص: 50


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 85 ، باب أنّه لا يعرف إلاّ به ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 270 ، ح 7 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 85 ، ذيل ح 1 .

الآمر بالمعروف العالم العامل به ، وبالعدل ، أي لزوم الطريقة الوسطى في كلّ شيء ، والإحسان ، أي الشفقة على خلق اللّه ، والتفضّل عليهم ، ودفع الظلم عنهم .

الثاني : ما ذكره الصدوق في كتاب التوحيد بعد ما ذكر هذا الخبر ونحوه ، وأسند هذا المعنى إلى الكلينيّ ، قال :

القول الصواب في هذا الباب هو أن يقال : عرفنا اللّه باللّه ؛ لأنّا إن عرفناه بعقولنا فهو عزّ وجلّ واهبها ، وإن عرفناه عزّ وجلّ بأنبيائه ورسله وحججه فهو عزّ وجلّ باعثهم ومرسلهم ومتّخذهم حججاً ، وإن عرفناه بأنفسنا فهو عزّ وجلّ محدثها ، فبه عرفناه ، وقد قال الصادق عليه السلام : «لولا اللّه ما عرفناه(1) ، ولولا نحن ما عُرف اللّه» ، ومعناه : لولا الحجج ما عرف اللّه حقّ معرفته ، ولولا اللّه ما عرف الحجج(2) . انتهى .

وحاصل كلامه : أنّ جميع ما يُعرف به ينتهي إليه سبحانه وتعالى .

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّه يعطي انحصار طريق معرفة اللّه سبحانه في معرفته به تعالى ، وظاهر الخبر يعطي أنّ لها طريقاً آخر غير هذا ، إلاّ أنّ هذا هو الأولى والأرجح والأصوب .

وثانياً : أنّه على هذا تكون معرفة الرسول واُولي الأمر أيضاً باللّه ، فما الفرق بينهما وبين معرفة اللّه في ذلك ؟ وأيضاً : لا يلائمه قوله : «اعرفوا اللّه باللّه» .

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الفرق باعتبار أصناف المعرفة ؛ فالمعرفة بالرسالة صنف من المعرفة باللّه ، والمعرفة بالمعروف صنف آخر منهما ، ومعرفة اللّه فيها أصناف لا اختصاص لها بصنف ، والمراد بقوله عليه السلام : «اعرفوا اللّه باللّه» : حصّلوا معرفة اللّه التي تحصل باللّه ، وفيه بُعد .

الثالث : أن يكون المعنى : اعرفوا اللّه باللّه ، أي بما يناسب اُلوهيّته من التنزيه والتقديس ، والرسول بما يناسب رسالته من العصمة والفضل والكمال ، واُولي الأمر

ص: 51


1- . هكذا في النسخ والمطبوع ، وفي المصدر : «ما عُرفنا» . وأوضح محقّق الكتاب الجملة بقوله : أي لو لا تعريف اللّه إيّانا لخلقه ما عرفنا أحدٌ منهم ، وما في بعض النسخ من زيادة ضمير المفعول الراجع إلى اللّه هنا خطأ . التوحيد ، ص 290 .
2- . التوحيد ، ص 290 ، ذيل حديث 10 .

بما يُناسب درجتهم العالية التي هي الرئاسة العامّة للدين والدنيا ، وبما يحكم العقل به من اتّصاف صاحب تلك الدرجة القصوى به من العلم والعصمة والفضل والمزيّة على من سواه .

الرابع : أن يكون الغرض من هذا الحديث ترك الخوض في معرفته تعالى ومعرفة رسوله وحججه بالعقول الناقصة ، فينتهي إلى نسبة ما لا يليق به تعالى وإلى الغلوّ في أمر الرسول والأئمّة ، وعلى هذا فيحتمل الحديث وجهين :

أحدهما : أن يكون المراد : اعرفوا اللّه بعقولكم بمحض أنّه خالقٌ إلهٌ ، والرسول بأنّه رسول أرسله اللّه إلى الخلق ، واُولي الأمر بأنّهم المحتاج إليهم لإقامة المعروف والعدل والإحسان ، ثمّ عوّلوا في صفاته تعالى وصفات حججه عليهم السلام على ما بيّنوا ووصفوا لكم ، ولا تخوضوا فيها بعقولكم .

وثانيهما : أن يكون المعنى : اعرفوا اللّه بما وصف لكم في كتابه وعلى لسان نبيّه ، والرسول بما أوضح لكم من وصفه في رسالته إليكم ، والإمام بما بيّن لكم من المعروف والعدل والإحسان ، كيف اتّصف بتلك الأوصاف والأخلاق الحسنة ؟

ويحتمل الأخيران وجهاً ثالثاً ، وهو أن يكون المراد : لا تعرفوا الرسول بما يخرج به عن الرسالة إلى درجة الاُلوهيّة ، وكذا الإمام .

الخامس : أن يكون المراد بما يعرف به : ما يعرف باستعانته من قوى النفس العاقلة والمدركة ، وما يكون بمنزلتها ويقوم مقامها ، فمعنى «اعرفوا اللّه باللّه» اعرفوه بنوره المشرق على القلوب بالتوسّل إليه والتقرّب به ، فإنّ العقول القاصرة والأفهام الحاسرة

لا تهتدي إليه إلاّ بأنوار فيضه تعالى .

واعرفوا الرسول صلى الله عليه و آله بتكميله إيّاكم برسالته وبمتابعته ، فما يؤدّي إليكم من طاعة ربّكم ، فإنّها توجب الروابط المعنويّة بينكم وبينه ، وعلى قدر ذلك يتيسّر لكم من معرفته .

وكذا معرفة اُولي الأمر إنّما تحصل بمتابعتهم بالمعروف والعدل والإحسان وباستكمال العقل بها .

ص: 52

ويؤيّده ما رواه الصدوق في التوحيد عن هشام بن سالم ، قال : حضرت محمّد ابن النعمان الأحول وقام إليه رجل ، فقال له : بم عرفت ربّك ؟ قال : بتوفيقه وإرشاده وتعريفه وهدايته . قال : فخرجت من عنده فلقيت هشام بن الحكم ، فقلت له : ما أقول لمن يسألني فيقول لي : بم عرفت ربّك ؟ قال : قل : عرفت اللّه عزّوجلّ بنفسي(1) ، الحديث .

السادس : أن يكون المراد من «اعرفوا اللّه باللّه» أي بما تتأتّى معرفته لكم بالتفكّر في ما أظهر لكم من آثار صنعه وقدرته وحكمته بتوفيقه وهدايته ، لا بما أرسل به الرسول من الآيات والمعجزات ، فإنّ معرفتها إنّما تحصل بعد معرفته تعالى .

«واعرفوا الرسول بالرسالة» أي بما اُرسل به من المعجزات والدلائل أو بالشريعة المستقيمة التي بعث بها ، فإنّها لانطباقها على قانون العدل والحكمة يحكم أهل العدل بحقّيّة من اُرسل بها .

واعرفوا اُولي الأمر بعملهم بالمعروف وإقامة العدل والإحسان وإيتائهم بها على وجهها .

ويؤيّده ما رواه الكافي عن منصور بن حازم ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : إنّي ناظرت قوماً فقلت لهم : إنّ اللّه أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه ، بل العباد يُعرفون به .

فقال : «رحمك اللّه»(2) .

وما رواه الصدوق في التوحيد : أنّ الجاثليق سأل أميرالمؤمنين عليه السلام : هل عرفت اللّه بمحمّد أم عرفت محمّداً باللّه ؟ فقال عليه السلام : «ما عرفت اللّه بمحمّد صلى الله عليه و آله بل عرفت محمّداً باللّه عزّ وجلّ حين خلقه وأحدث فيه الحدود من طول وعرض ، فعرفت أنّه مدبَّر مصنوع باستدلالٍ وإلهامٍ منه وإرادة ، كما ألهم الملائكة طاعته وعرّفهم نفسه بلا شبه ولا كيف»(3) ، الحديث .

ص: 53


1- . التوحيد ، ص 289 ، ح 9 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 86 ، باب أنّه لا يعرف إلاّ به ، ح 3 باختلاف يسير .
3- . التوحيد ، ص 287 ، ح 4 . وقد أورد الميرزا رفيعا أكثر هذه الوجوه في كتابه الحاشية على اُصول الكافي ، ص 281 - 283 .

السابع : قال المحدّث الكاشانيّ :

معنى قوله عليه السلام : «اعرفوا اللّه باللّه» : اُنظروا في الأشياء إلى وجوهها التي إلى اللّه سبحانه بعد ما أثبتُّم أنّ لها ربّاً صانعاً ، فاطلبوا معرفته بآثاره فيها ، من حيث تدبيره وقيموميّته إيّاها ، وتسخيره لها ، وإحاطته بها ، وقهره لها حتّى تعرفوا اللّه بهذه

الصفات القائمة به ، ولا تنظروا إلى وجوهها التي إلى أنفسها ، أعني من حيث إنّها أشياء لها ماهيّات لا يمكن أن توجد بذواتها ، بل مفتقرة إلى موجد يوجدها ، فإنّكم إذا نظرتم إليها من هذه الجهة تكونوا قد عرفتم اللّه بالأشياء ، فلن تعرفوه إذاً حقّ

المعرفة ، فإنّ معرفة مجرّد كون الشيء مفتقراً إليه في وجود شيء ليست بمعرفة في الحقيقة .

على أنّ ذلك غير محتاج إليه ؛ لما عرفت أنّها فطريّة بخلاف النظر الأوّل ، فإنّكم تنظرون في الأشياء أوّلاً إلى اللّه عزّوجلّ وآثاره من حيث هي آثاره ، ثمّ إلى الأشياء وافتقارها في أنفسها ، فإنّا إذا عزمنا على أمر - مثلاً - وسعينا في إمضائه غاية السعي

فلم يكن علمنا أنّ في الوجود شيئاً غير مرئيّ الذات يمنعنا عن ذلك ويحول بيننا وبينه ، وعلمنا أنّه غالب على أمره ، وأنّه مسخّر للأشياء على حسب مشيّته ، ومدبّر لها بحسب إرادته ، وأنّه منزَّه عن صفات أمثالنا ، وهذه صفات يعرف بها صاحبها حقّ المعرفة .

فإذا عرفنا اللّه عزّ وجلّ بهذا النظر فقد عرفنا اللّه باللّه ، وإلى مثل هذه المعرفة اُشير في غير موضع من القرآن المجيد ، حيث قال : « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لَأُوْلِي الأَلْبَابِ »(1) ، وأمثال ذلك من نظائره .

وعلى هذا القياس معرفة الرسول بالرسالة ، فإنّا بعدما أثبتنا وجوب رسول من اللّه سبحانه إلى عباده ، وحاولنا أن نعرفه ونعيّنه من بين سائر الناس ، فسبيله أن ننظر إلى من يدّعي ذلك ، هل يبلّغ الرسالة كما ينبغي أن تبلّغ ، وينهج الدلالة كما ينبغي أن تنهج ، فإذا نظرنا إليه من هذه الجهة فقد عرفناه بالرسالة .

ص: 54


1- . آل عمران 3 : 190 .

وكذا القول في الإمام ، فإنّ الكلّ على وتيرة واحدة .

وممّا يؤيّد ما قلناه : ما رواه الصدوق في توحيده في هذا الباب بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام عن أبيه عن جدّه عليهماالسلام أنّه قال : «إنّ رجلاً قام إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال : يا أميرالمؤمنين ، بماذا عرفت ربّك ؟ فقال : بفسخ العزائم ونقض الهمم ، لمّا هممت فحيل بيني وبين همّي ، وعزمت فخالف القضاء والقدر عزمي ، علمت أنّ المدبّر غيري» .

وبإسناده عن موسى بن جعفر عليهماالسلام قال : «قال قوم للصادق عليه السلام : ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا ؟ قال : لأنّكم تدعون من لا تعرفونه»(1) . انتهى .

تتمّة مهمّة : [طريقان لمعرفة اللّه]

قال بعض المحقّقين : لمعرفة اللّه طريقان :

الأوّل : معرفة الحقّ بالحقّ ، ومعرفة ذاته الحقّة بذاته أو بجميع الصفات الكماليّة التي هي نفس ذاته الأحديّة ، لا بواسطة أمر خارج عنه ، وحيثيّات مغايرة له ، وهذه المعرفة ليست لِمّيّة ؛ لتعاليه من العلّة ، ولا إنّيّة ؛ لعدم حصولها بواسطة المعلول .

وأيضاً المعرفة اللمّيّة والإنّيّة إنّما تحصلان بالنظر والاستدلال ، وهذه المعرفة إنّما تحصل بالكشف والظهور للكُمّل من الأولياء ، كما قال سيّد المرسلين : «لي مع اللّه وقت لا يسعه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل» ، وهي مرتبة الفناء في اللّه بحيث لا يشاهد فيها غيره ، فهو معروف بالذات لا بغيره .

وكما قال سيّد الوصيّين عليه السلام : «ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت اللّه قبله» ؛ إذ لا شبهة في أنّ هذه الرؤية ليست رؤية ظاهريّة ، بل هي رؤية قلبيّة ، ولا في أنّها ليست مستندة إلى واسطة ؛ لاستلزامه بطلان الحصر .

ومثله قول بعض الأولياء : رأيت ربّي بربّي ، ولولا ربّي ما رأيت ربّي .

والظاهر أنّ قوله تعالى : « أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ »(2) إشارة إلى هذه

ص: 55


1- . الوافي ، ج 1 ، ص 339 ، ذيل الحديث 263 .
2- . فصّلت 41 : 53 .

المرتبة .

الثاني : معرفته بالنظر والاستدلال بما دلّ به على نفسه من الآثار العجيبة والأفعال الغريبة ، كما هو طريق المتكلّمين الذين يستدلّون بوجود الممكنات وطبايعها وصفاتها وإمكانها وحدوثها وتكوّنها وقبولها التغيير والتركيب على المبدء الأوّل ، وإلى هذا الطريق أشار أميرالمؤمنين عليه السلام بقوله : «الحمد للّه الذي دلّ على وجوده بخلقه» ، وقد أشار إليه جلّ شأنه في مواضع كثيرة من القرآن العزيز .

فكيفيّة معرفته تعالى من هذين الطريقين ، وبأيّ طريق اتّفقت فهي معرفته تعالى به ؛ لأنّ الكلّ منه كما تقدّم .

ص: 56

الحديث الرابع :[ لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ]

ما رويناه بأسانيدنا السالفة عن جملة من مشايخنا الأعلام وفضلائنا الكرام ، ومنهم بهاء الملّة والحقّ والدين ، والمحقّق المحدّث البحرانيّ ، والمحدّث الشريف الجزائريّ ، أنّهم رووا مستفيضاً عن أميرالمؤمنين وإمام الموحّدين وقطب العارفين وسيّد السالكين أنّه عليه السلام قال : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً»(1) .

ووجه الإشكال فيه : أنّه يشكل الجمع بينه وبين ما استفاض نقله عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «اللّهمّ زدني فيك معرفة ، اللهمّ زدني فيك تحيُّراً»(2) ، فإنّ الحديث الأوّل يدلّ على بلوغه عليه السلام مرتبة لا يتصوّر عليها الزيادة في المعرفة ، والثاني يدلّ على بلوغ مقام يتحمّل الزيادة ، مع أنّ مادّة النبوّة أعظم من مادّة الإمامة .

وقد تخرّج الفضلاء عن ذلك بوجوه :

الأوّل : ما يحكى عن الشيخ البهائيّ رحمه الله من أنّ الحديث الأوّل منزَّل على اُمور الآخرة من الجنّة والنار والصراط والميزان والحساب والعقاب ونحوها ، كما رُوي عنه عليه السلام أنّه قال : «كأنّي أنظر إلى جهنّم وزفيرها على أهل المعاصي ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة متّكئين فيها على أرائكهم» ، والثاني منزّل على مراتب المعرفة والعلم بذات اللّه تعالى وصفاته(3) .

ص: 57


1- . الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 105 ؛ نور البراهين ، ج 2 ، ص 145 ؛ بحار الأنوار ، ج 40 ، ص 153 ولم نظفر عليه في كتب الشيخ البهائي الموجودة عندنا .
2- . وردت أدعية بهذا المضمون عن النبيّ صلى الله عليه و آله لا بنفس الألفاظ ، راجع : سنن أبي داود ، ج 2 ، ص 489 ؛ المستدرك على الصحيحين ، ج 1 ، ص 540 ؛ صحيح ابن حبّان ، ج 12 ، ص 341 .
3- . حكاه عنه الجزائري في نور البراهين ، ج 2 ، ص 146 ، و الأنوار النعمانيّة ، ج 1، ص 36 ، ولوامع الأنوار ، ورقة 36 مخطوط .

الثاني : أن يكون نصْب يقيناً على المفعول به ل- «ازددت» لا على الظرفيّة والتمييز ، والمعنى : أنّ لي علماً ومعرفة يقينيّة بوجود الصانع وذاته وصفاته حتّى لوكشف الغطاء لما حصلت علماً يغاير ما علمته ، من كونه في زمان أو مكان مّا يغاير العلم الأوّل ؛ لأنّ العلم الذي عندي لا تحصل له الزيادة ، لأنّ العيان أبلغ من المعرفة اليقينيّة(1) .

ولا يخفى ما فيه .

الثالث : ما يحكى عن العلاّمة رحمه الله وهو : أنّ مادّة النبوّة أقبل من مادّة الإمامة ، فمن ثمّ قال عليه السلام : «لو كشف الغطاء» ، يعني أنّ ما تقبله مادّتي من المعارف قد استكملت .

وأمّا قوله صلى الله عليه و آله : «ربّ زدني فيك معرفة» فهو إشارة إلى مادّة النبوّة لم يستكمل قبولها بعد(2) .

الرابع : ما اختاره المحدّث الشريف الجزائريّ ، وهو : أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كانت مراتب علومه ومعارفه تتزايد يوماً فيوماً ، حتّى أنّه ربّما عدَّ مرتبته أمس تقصيراً وذنباً بالنسبة إلى مرتبة اليوم ، وعليه نزّل قوله صلى الله عليه و آله : «إنّي لأستغفر اللّه في كلّ يوم سبعين مرّة من غير ذنب» ، ولمّا تكامل عمره الشريف تكاملت معرفته اللائقة بالمادّة النبويّة ، وقد سلّم تلك العلوم التي حصلت له مدّة عمره الشريف لعليّ عليه السلام في ساعة واحدة بحكم قوله عليه السلام : «علّمني ألف باب من العلم يُفتح من كلّ باب ألف باب» ، وكلام أميرالمؤمنين عليه السلام بعد قبض اللّه تعالى نبيّه إليه ؛ لأنّه إنّما حصل هذه المرتبة من ذلك العلم الذي أفاضه صلى الله عليه و آله عليه ، فلا يلزم زيادة علمه عليه السلام عن علمه صلى الله عليه و آله (3) .

الخامس : أنّ كشف الغطاء إنّما هو بعد الموت ، ومعنى قوله عليه السلام : «لو كشف الغطاء» أنّه عليه السلام بعد الموت لا تزداد معرفته ؛ إذ كشف الغطاء عبارة عن التجرّد عن التعلّق

ص: 58


1- . حكاه السيّد الجزائري عن بعض المعاصرين في نور البراهين ، ج 2 ، ص 146 ؛ والأنوار النعمانيّة ، ج 1 ، ص 36 .
2- . حكاه عنه في نور البراهين ، ج 2 ، ص 145 .
3- . نور البراهين ، ج 2 ، ص 145 ؛ الأنوار النعمانيّة ، ج 1 ص 37 . وقال فيه عن هذا الوجه : الرابع : ما خطر لنا وبعد هذا رأينا في شرح اُستاذنا الأجلّ الشيخ عليّ أعلى اللّه شأنه على شرح اللمعة .

بالبدن والانسلاخ عن ملابسته ، وهذا لا ينافي تزايد معرفته عليه السلام في الدنيا قبل الموت .

وقوله صلى الله عليه و آله : «زدني فيك معرفة» إنّما أراد صلى الله عليه و آله بلوغه الغاية الممكنة له في المعرفة في الدنيا ، وهذا لا يقتضي زيادة معرفته بعد كشف الغطاء والتجرّد المحض عن معرفته الكاملة نهاية مراتب المعرفة الحاصلة في النشأة الدنيويّة .

السادس : أنّه عليه السلام قال : «ما ازددت يقيناً» وهو لا ينافي الازدياد المطلق ، كيف والزيادة على اليقين إنّما هي عين اليقين ؟

السابع : أنّ المفهوم من قوله عليه السلام : «لو كشف الغطاء» أنّه عليه السلام بلغ في المعرفة السبحانيّة غاية لا يتصوّر الزيادة عليها ، وليس فيه أنّه عليه السلام بلغ من جميع العلوم والمعارف إلى الحدّ المذكور ، وحديث : «ربّ زدني فيك تحيّراً» إنّما يقتضي زيادة الحيرة ، وهي الحيرة المحمودة ، وليست هي نفس اليقين ، فلا يلزم من تزايدها تزايده . وأمّا حديث : «زدني

فيك معرفة» فيمكن حمل المعرفة فيه على الحيرة المحمودة ، وسمّيت معرفة لنشوئها منها .

الثامن : أن يحمل اليقين في الحديث الأوّل على التصديق بوجوده تعالى وصفاته الجلاليّة والجماليّة ، وتحمل المعرفة في الحديث الثاني على معارف اُخر تتعلّق به سبحانه وراء ذلك التصديق .

وهذه التوجيهات الأربعة للشيخ سليمان البحرانيّ .(1)

التاسع : ما اختاره المحدّث المحقّق الشيخ يوسف البحرانيّ ، وهو : أنّ هذه المرتبه التي ذكرها أميرالمؤمنين عليه السلام هي المرتبة التي طلب الرسول الزيادة فيها ، وتكون هذه الزيادة هي الفارقة بين مقام النبوّة ومقام الإمامة ؛ فإنّ أحاديث طلب الرسول الزيادة في المعرفة لا تدلّ على بلوغه مرتبة مخصوصة في ذلك الوقت بحيث تنقص عن مرتبة أميرالمؤمنين عليه السلام حتّى تحصل المنافاة بين الأخبار المذكورة ، بل هي مطلقة ، وحينئذٍ فيحمل إطلاقها على هذه المرتبة التي عناها أميرالمؤمنين عليه السلام ممّا لا يبلغ حدّه من البشر غيرهما عليهماالسلام وأبنائهما الغرر ، والرسول مع بلوغه إيّاها طلب الزيادة فيها ؛ تحقيقاً لعلوّ

ص: 59


1- . أجوبة الشيخ سليمان الماحوزي ، الورقة 479 - 480 مخطوط .

مقامه على الباقين .

لا يقال : إنّه ينافي ذلك قوله عليه السلام : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً» ؛ لإشعاره بأنّ هناك أفراداً زائدة للمعرفة عمّا بلغ إليه ، وهي التي ذكرتم أنّ الرسول صلى الله عليه و آله طلبها ، فيلزم أن تكون موجودة بعد كشف الغطاء ، ومنها تحصل زيادة اليقين على ما كان عليه أوّلاً .

لأنّا نقول : إنّ اليقين بالمعرفة كما يقبل الشدّة والضعف والزيادة والنقيصة قبل كشف الغطاء كذلك بعده ، فإنّ الإحاطة بالشيء أو العلم به قد تكون من جميع جهاته ، أو متعلّقاته ومنسوباته ، وقد تكون من أكثرها ، وقد تكون من بعضها ، وهو يتفاوت بتفاوت الاستعداد له والقابليّة ، فهي قابلة للشدّة والضعف ، وغاية ما يلزم أنّ هذه الزيادة لا تحصل في علم عليّ عليه السلام بعد كشف الغطاء له ، وإنّما تحصل للرسول ولا ضير فيه ؛ لأنّه قد زاد بها قبل كشف الغطاء واختصّ بها ، فكذلك يختصّ بعده ، فلا إشكال بحمد اللّه الملك المتعال .(1)

ص: 60


1- . الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 111 - 112 .

الحديث الخامس [ في البداء ]

اشارة

ما رويته بأسانيدي السالفة عن ثقة الإسلام ، وعلم الأعلام ، محمّد بن يعقوب الكلينيّ رحمه الله في الكافي بإسناده الصحيح عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ابن عيسى ، عن الحجّال ، عن أبي إسحاق ثعلبة ، عن زرارة ، عن أحدهما عليهماالسلام قال : «ما عُبِد اللّه بشيء مثل البَداء»(1) .

قال : وفي رواية ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «ما عظّم اللّه بمثل البَداء»(2) .

توضيح :

للبداء معانٍ يُطلق عليها ، بعضها يجوز عليه تعالى ، وبعضها يمتنع ، وهو - بالفتح والمدّ - أكثر ما يطلق في اللغة على ظهور الشيء بعد خفائه ، وحصول العلم به بعد الجهل ، واتفقت الاُمّة على امتناع ذلك على اللّه سبحانه إلاّ مَن لا يعتدُّ به . ومن نسب ذلك إلى الإماميّة من النواصب فقد افترى عليهم كذباً ، والإماميّة منه بُراء .

وقد يُطلق على النسخ ، وعلى القضاء المجدّد ، وعلى مطلق الظهور ، وعلى غير ذلك من المعاني الآتية ، وقد تظافرت الأخبار من طرقنا بثبوت البَداء ، ورواه جملة من المخالفين أيضاً .(3)

ص: 61


1- . الكافي ، ج 1، ص 14، باب البداء ، ح 1 ؛ التوحيد ، ص 331، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 4، ص 107، ح 19 .
2- . الكافي ، ج 1، ص 146، باب البداء، ح 1 ؛ التوحيد ، ص 333، ح 2 ؛ بحار الأنوار ، ج 4، ص 107، ح 20 .
3- . معنى البداء ثابت عند جمهور أهل السنة، وهو : أن اللّه قد ينقص من الرزق وقد يزيد فيه ، وكذا الأجل والصحّة و ... وقد روى ذلك جابر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله . راجع : التفسير الكبير ، ج 5 ، ص 210 .

قال ابن الأثير في النهاية - في حديث الأقرع والأبرص والأعمى - :

بدا للّه أن يبتليهم ، أي قضى اللّه بذلك ؛ وهو معنى البَداء ههنا ؛ لأنّ القضاء سابق ، والبداء استصواب شيء علم بعد أن لم يُعلم ، وذلك على اللّه غير جائز .(1) انتهى .

وورد أيضاً : أنّ الصدقة والدعاء يغيّران القضاء(2) ، وورد خبر دعاء النبيّ صلى الله عليه و آله على اليهودي وخبر عيسى الآتيين ، وغير ذلك .

ومع ورود ذلك في أخبارهم فقد شنّعوا على الإماميّة بذلك ، فقال إمامهم ورئيس المشكّكين في خاتمة كتاب المحصّل حاكياً عن سليمان بن جرير عاملهما اللّه بعدله :

إنّ أئمّة الرافضة وضعوا لشيعتهم أصلين لا يقدر عليهم معهما : التقيّة والقول بالبَداء ، فإذا قالوا : إنّه سيكون لهم أمر وشوكة ، ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبرا به ، قالوا : بدا للّه تعالى فيه ، وإذا رووا عن أئمّتهم فعلاً أو تركاً يخالف ما هم عليه ، قالوا : إنّه صدر تقيّة واستصلاحاً .(3)

وأجاب سلطان المحقّقين ، نصير الملّة والحقّ والدين في نقد المحصّل :

بأنّ الإماميّة لا يقولون بالبداء وإنّما ورد في رواية رووها عن جعفر الصادق عليه السلام أنّه جعل إسماعيل القائم مقامه بعده ، فظهر من إسماعيل ما لم يرتضه منه ، فجعل القائم مقامه موسى عليه السلام ، فسُئل عن ذلك ، فقال : «بدا للّه في إسماعيل» . وهذه رواية واحدة ، وعندهم أنّ الخبر الواحد لا يوجب علماً ولا عملاً .(4) انتهى .

واستغرب هذا الجواب جماعة من المحقّقين ممّن تأخّر ، ومنهم السيّد السند الداماد(5) ، والعلاّمة المجلسيّ(6) وغيرهما ، والأخبار في ثبوت البداء ووجوب الإقرار

ص: 62


1- . النهاية لابن الأثير ، ج 1 ، ص 109 (بدا) .
2- . انظر : من لا يحضره الفقيه ، ج 4 ، ص 368 ، ح 5762 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 9 ، ص 384 ، ح 12296 . هذا في الصدقة ، وأمّا الدعاء فانظر : الكافي ، ج 2 ، ص 469 ، باب أنّ الدعاء يرد البلاء والقضاء ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 7 ، ص 26 ، ح 8613 ، وغيرها من الأحاديث المتعدّدة .
3- . راجع : تلخيص المحصّل ، ص 421 - 424 .
4- . راجع : تلخيص المحصّل ، ص 421 - 424 .
5- . نبراس الضياء ، ص 8 .
6- . راجع : بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 123 ؛ مرآة العقول ، ج 2 ، ص 124 .

به مستفيضة من طرقنا كادت أن تبلغ حدّ التواتر ، وقد عقد لها في الكافي باباً ، ورواها الصدوق والشيخ(1) وغيرهم من أئمّة الحديث وأساطينهم ، فكيف خفي ذلك على المحقّق الطوسيّ ولم يطّلع إلاّ على تلك الرواية التي لم نعثر عليها بعد الفحص ؟!

ويمكن دفع هذا الاستبعاد بأنّ البداء الذي نسبه رئيس المشكّكين إلى الإماميّة إنّما هو البداء في إخباراتهم الجزميّة البتّيّة بوقوع بعض الحوادث ، وأصحابنا لا يقولون بذلك ، والروايات المستفيضة بمعزل عن هذا المعنى كما يأتي ، والرواية التي ذكرها المحقّق الطوسيّ من ذلك القبيل الذي اتّفق على منعه أصحابنا ، فلذلك ردّوها ، فلم توجب عندهم علماً ولا عملاً .

مع أنّها بهذا اللفظ لم نقف عليها في كتب الأخبار ، ومع أنّ فيها إشكالات اُخر تنافي اُصول المذهب من وقوع البداء في التبليغات والأحكام الدينيّة والعقايد الاُصوليّة ممّا لانقول به ، ومن منافاتها لما استفاض من الأخبار بين الفريقين من أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد نصّ على خلفائه الاثني عشر ، واحداً بعد واحد بأسمائهم(2) ، وأنّ جبرئيل نزل بصحيفة من السماء فيها أسماؤهم واحداً(3) بعد واحد ، فكيف تصحّ هذه الرواية ؟!

نعم ، روى الصدوق في التوحيد عن الصادق عليه السلام قال : «ما بدا للّه أمر كما بدا له في إسماعيل ابني» ، قال : يقول عليه السلام : ما ظهر للّه أمر كما ظهر له في إسماعيل ابني إذ اخترمه قبلي ليُعلم بذلك أنّه ليس إمام بعد أبيه .(4) انتهى .

وكيف كان ، فلأصحابنا - رضوان اللّه عليهم - في تحقيق البداء الذي تظافرت به الأخبار معانٍ صحيحة :

أحدها : ما ذكره الفيلسوف النحرير ، والمحقّق الخبير السيّد السند العماد محمّد باقر الداماد ، في نبراس الضياء ، قال :

البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع ، فما في الأمر التشريعيّ

ص: 63


1- . راجع : الغيبة ، للشيخ الطوسي ، ص 427 - 432 .
2- و 3 . راجع : بحار الأنوار ، ج 36 ، ص 192 ، باب نصوص اللّه عليهم ...
3-
4- . التوحيد ، ص 336 ، ح 10 .

والأحكام التكليفيّة(1) نسخ ، فهو في الأمر التكوينيّ والمكوّنات الزمانيّة بداء ، فالنسخ كأنّه بداء تشريعيّ ، والبداء كأنّه نسخ تكوينيّ ، ولا بداء في القضاء بالنسبة إلى جناب القدّوس الحقّ ، والمفارقات المحضة من الملائكة القدسيّة ، وفي متن الدهر الذي هو ظرف مطلق الحصول القارّ والثبات الباتّ ، ووعاء عالم الوجود كلّه .

وإنّما البداء في القدر وفي امتداد الزمان الذي هو اُفق التقضّي والتجدّد ، وظرف التدريج والتعاقب ، وبالنسبة إلى الكائنات الزمانيّة ومن في عالم الزمان والمكان ، وإقليم المادّة والطبيعة .

وكما أنّ حقيقة النسخ عند التحقيق : انتهاء الحكم التشريعيّ وانقطاع استمراره ، لا رفعه وارتفاعه عن وعاء الواقع ، فكذا حقيقة البداء - عند الفحص البالغ - [انبتات(2)] استمرار الأمر التكوينيّ ، وانتهاء اتّصال الإفاضة ، ومرجعه إلى تحديد زمان الكون وتخصيص وقت الإفاضة ، لا أنّه ارتفاع المعلول الكائن عن وقت كونه وبطلانه في حدّ حصوله .(3)

وثانيها : ما ذكره بعض المحقّقين في شرحه على الكافي ، وتبعه المحدّث الكاشانيّ في الوافي ، وهو :

أنّ القوى المنطبعة الفلكيّة لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الاُمور دفعة واحدة ؛ لعدم تناهي تلك الاُمور ، بل إنّما ينتقش فيها الحوادث شيئاً فشيئاً ، وجملة فجملة ، مع أسبابها وعللها على نهج مستمرّ ونظام مستقرّ ، فإنّ ما يحدث في عالم الكون والفساد إنّما هو من لوازم حركات الأفلاك المسخّرة للّه ، ونتائج بركاتها ، فهي تعلم أنّ كلّما كان كذا كان كذا ، فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمرمّا في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه ، فينتقش فيها ذلك الحكم .

وربّما تأخّر بعض الأسباب الموجب لوقوع الحوادث على خلاف ما يوجبه بقية

ص: 64


1- . في المصدر : «التشريعيّة التكليفيّة والوضعيّة والمتعلّة بأفعال المكلّفين» بدل قوله : «التكليفيّة» .
2- . أثبتناه من المصدر ، وهو بمعنى الانقطاع ، وفي نسخ الكتاب ومطبوعه : «إثبات استمرار ...» وهو سهوٌ .
3- . نبراس الضياء ، ص 55 - 57 ، مع اختلاف يسير وتلخيص لبعض العبائر .

الأسباب لولا ذلك السبب ، ولم يحصل لها العلم بذلك بعد ؛ لعدم اطّلاعها على سبب ذلك السبب ، ثمّ لمّا جاء أوانه واطّلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأوّل ، فينمحي عنها نقش الحكم السابق ، ويثبت الحكم الآخر .

مثلاً : لمّا حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا في ليلة كذا لأسباب تقتضي ذلك ، ولم يحصل لها العلم بتصدُّقه الذي سيأتي به قبل ذلك الوقت لعدم اطّلاعها على أسباب التصدُّق بعد ثمّ علمت به ، وكان موته بتلك الأسباب مشروطاً بأن لا يتصدّق ، فتحكم أوّلاً بالموت ، وثانياً بالبرء .

وإذا كانت الأسباب لوقوع أمر أو لا وقوعه متكافئة ولم يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد - لعدم مجيء أوان سبب ذلك الرجحان بعد - كان لها التردّد في وقوع ذلك الأمر أو لا وقوعه ، فينتقش فيها الوقوع تارة ، واللا وقوع اُخرى ، فهذا هو السبب في البداء والمحو والإثبات والتردّد ، وأمثال ذلك في اُمور العالم .

فإذا اتّصلت بتلك القوى نفس النبيّ صلى الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام فرأى فيها بعض تلك الاُمور فله أن يخبر بما رآه بعين قلبه ، أو شاهده بنور بصيرته ، أو سمعه باُذن قلبه .

وأمّا نسبة ذلك كلّه إلى اللّه سبحانه فلأنّ كلّما يجري في العالم الملكوتيّ إنّما يجري بإرادة اللّه تعالى ، بل فعلهم بعينه فعل اللّه ، إنّهم لا يعصون ما أمرهم ويفعلون ما يُؤْمَرون ؛ إذ لا داعي لهم إلى الفعل إلاّ إرادة اللّه عزّ وجلّ ؛ لاستهلاك إرادتهم في إرادته تعالى .

ومثلهم كمثل الحواسّ للإنسان ، كلّما همّ بأمر محسوس امتثلت الحواسّ لما همّ به ، فكلّ كتابة تكون في هذه الألواح والصحف فهو أيضاً مكتوب للّه تعالى عزّ وجلّ بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأوّل ، فيصحّ أن يوصف اللّه نفسه بأمثال ذلك بهذا الاعتبار ، وإن كان مثل هذه الاُمور تشعر بالتغيُّر والنسوخ ، فهو تعالى منزّه عنه ، فإنّ كلّ ما وجد أو سيوجد فهو غير خارج عن عالم ربوبيّته .(1) انتهى .

ص: 65


1- . نقله المجلسي عن بعض الأفاضل في شرحه على الكافي . راجع : بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 128 ؛ الوافي ، ج 1 ، ص 507 - 509 ؛ عين اليقين ، ج 1 ص 405 - 406 .

وقال في الوافي بعد ذلك :

ونظير ذلك ما مضى في الحديث في باب تأويل ما يوهم التشبيه من أنّ نسبة الأسف والمظلوميّة ونحوهما إلى نفسه تعالى إنّما هو باعتبار خلطه بعض عباده بنفسه ، وللّه الحمد على ما فهّمنا من غوامض علمه .(1) انتهى .

ولا يخفى بُعده ، ويظهر منه جواز البداء في ما يصل علمه إلى الأنبياء والأئمّة عليهم السلام بسبب اتّصال نفوسهم بتلك القوى المنطبعة التي هي موطن البداء ، وإن أخبروا بالوقوع أو اللاوقوع ، كما يرشد إليه بعض الأخبار الآتية .

ثالثها : ما يحكى عن الفاضل المدقّق الميرزا رفيعا ، وهو :

أنّ الاُمور كلّها - عامّها وخاصّها ، ومطلقها ومقيّدها ، ومنسوخها وناسخها ، ومفرداتها ومركّباتها ، وإخباراتها وإنشاءاتها ، بحيث لا يشذّ عنها شيء - منتقشة في اللوح [المحفوظ(2)] ، والفائض منه على الملائكة والنفوس العلويّة والنفوس السفليّة قد يكون الأمر العام أو المطلق ، أو المنسوخ حسبما تقتضيه الحكمة الكاملة من الفيضان في ذلك الوقت ، ويتأخّر المبيّن إلى وقت تقتضي الحكمة فيضانه فيه ، وهذه النفوس العلويّة وما يشبهها يعبّر عنها بكتاب المحو والإثبات .

والبداء : عبارة عن هذا التغيّر في ذلك الكتاب ، من إثبات ما لم يكن مثبتاً ، ومحو ما يثبت(3) فيه ، والروايات كلّها تنطبق عليه ، وبملاحظة جميعها يهتدى إليه .(4) انتهى .

رابعها : ما ذكره السيّد المرتضى في جواب مسائل أهل الريّ ، وهو : أنّ المراد بالبداء : النسخ نفسه ، وادّعى أنّه ليس بخارج عن معناه اللغوي(5) ، وقريب منه ما ذكره الشيخ في العدَّة ، إلاّ أنّه صرّح بأنّ إطلاقه على النسخ على ضرب من التوسّع والتجوّز ،

ص: 66


1- . الوافي ، ج 1 ، ص 510 - 509 .
2- . اُضيف من المصدر .
3- . في المصدر : «اُثبت» .
4- . الحاشية على اُصول الكافي ، الميرزا رفيعا ، ص 475 .
5- . حكاه عنه المجلسي في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 125 .

وحمل الأخبار عليه(1) ، ويمكن إرجاعه إلى المعنى الأوّل .

خامسها : ما ذكره الصدوق في كتاب التوحيد ، حيث قال :

ليس البداء كما تظنّه جهّال الناس بأنّه بداء ندامة ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً ، ولكن يجب علينا أن نقرّ للّه عزّ وجلّ بأنّ له البداء ، معناه : أنّ له أن يبدأ بشيء من خلقه ، فيخلقه قبل كلّ شيء ، ثمّ يعدم ذلك الشيء ويبدأ بخلق غيره ، ويأمر بأمر ثمّ ينهى عن مثله ، أو ينهى عن شيء ثمّ يأمر بمثل ما ينهى عنه ، وذلك بمثل نسخ الشرائع ، وتحويل القبلة ، وعدّة المتوفّى عنها زوجها ، ولا يأمر اللّه عباده بأمر في وقت إلاّ وهو يعلم أنّ الصلاح لهم في ذلك الوقت في أن يأمرهم بذلك ، ويعلم في وقت آخر لهم الصلاح في أن ينهاهم عن مثل ما أمرهم به ، فإذا كان ذلك الوقت أمرهم بما يصلحهم .

فمن أقرّ بأنّ للّه عزّ وجلّ أن يفعل ما يشاء ، ويؤخّر ما يشاء ، ويخلق مكانه ما يشاء ، ويقدّم ما يشاء ، ويؤخّر ما يشاء ، ويأمر بما يشاء كيف يشاء ، فقد أقرّ بالبداء ، وما عظّم اللّه بشيء أفضل من الإقرار بأنّ له الخلق والأمر ، والتقديم والتأخير ، وإثبات

ما لم يكن ، ومحو ما كان .

والبداء : هو ردٌّ على اليهود ؛ لأنّهم قالوا : إنّ اللّه قد فرغ من الأمر ، فقلنا : إنّ اللّه كلّ يوم هو في شأن ، يحيي ويميت ، ويرزق ويفعل ما يشاء .

والبداء ليس من ندامة ، وإنّما هو ظهور أمر . تقول العرب : بدا لي الشخص في طريقي ، أي ظهر . قال اللّه تعالى : « وَبَدَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ »(2)، أي ظهر لهم ، ومتى ظهر للّه - تعالى ذكره - من عبده صلة لرحمه زاد في عمره ، ومتى ظهر له منه قطيعة رحم نقّص من عمره ، ومتى ظهر له من عبده إتيان الزنا نقّص من عمره ورزقه ، ومتى ظهر له منه التعفّف عن الزنا زاد في رزقه وعمره .

ومن ذلك قول الصادق عليه السلام : «ما بدا للّه كما بدا له في إسماعيل ابني» ؛ يقول : ما ظهر له أمر كما ظهر له في إسماعيل ابني ؛ إذ اخترمه قبلي ليعلم بذلك أنّه

ص: 67


1- . حكاه عنه المجلسي في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 129 ؛ ومرآة العقول ، ج 2 ص 131 .
2- . الزمر 39 : 47 .

ليس بإمام بعدي .

وقد روي لي من طريق أبي الحسين الأسدي في ذلك شيء غريب ، وهو أنّه روى أنّ الصادق عليه السلام قال : «ما بدا للّه بداء كما بدا له في إسماعيل أبي ، إذ اُمر أباه بذبحه ، ثمّ فداه بذبح عظيم» .

وفي الحديث على الوجهين عندي نظر ، إلاّ أنّي أوردته لمعنى لفظ البداء .(1) انتهى .

أقول : وجه النظر ما أشرنا إليه سابقاً في توجيه كلام المحقّق الطوسيّ رحمه الله .

سادسها : ما ذكره شيخ الطائفة في كتاب [الغيبة(2)] حيث قال - بعد إيراد بعض أخبار البداء - :

الوجه في هذه الأخبار - إن صحّت - أنّه لا يمتنع أن يكون اللّه تعالى قد وقّت هذا الأمر في الأوقات التي ذكرت ، فلمّا تجدّد ما تجدّد تغيّرت المصلحة ، واقتضت تأخيره إلى وقت آخر ، وكذلك في ما بعد ، ويكون الوقت الأوّل وكلّ وقت يجوز أن يؤخّر مشروطاً بأن لا يتجدّد ما يقتضي المصلحة تأخيره إلى أن يجيء الوقت الذي لم يغيّره شيء ، فيكون محتوماً .

وعلى هذا يتأوّل ما روي في تأخير الأعمار عن أوقاتها والزيادة فيها عند الدعاء ، وصلة الأرحام ، وما روي في تنقيص الأعمار عن أوقاتها إلى ما قبله عند فعل الظلم ، وقطع الرحم وغير ذلك ، وهو تعالى وإن كان عالماً بالأمرين فلا يمتنع أن يكون أحدهما معلوماً بشرط والآخر بلا شرط ، وهذه الجملة لا خلاف فيها بين أهل العدل .

وعلى هذا يتأوّل أيضاً ما روي من أخبارنا المتضمّنة للفظ البداء ، وتبيّن أنّ معناها النسخ على ما يريده جميع أهل العدل في ما يجوز فيه النسخ ، أو تغيّر شروطها إن كان طريقها الخبر عن الكائنات ؛ لأنّ البداء في اللغة هو الظهور ، فلا يمتنع أن يظهر

لنا من أفعال اللّه تعالى ما كنّا نظنّ خلافه ، أو يعلم ولا نعلم شرطه .

فمن ذلك ما رواه سعد بن عيسى عن البزنطيّ ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : «قال

ص: 68


1- . التوحيد ، ص 335 - 336 ، ذيل حديث 9 .
2- . في النسخ الخطّية والمطبوع : «العُدّة» ، وهو سهو .

عليّ بن الحسين ، وعليّ بن أبي طالب قبله ، ومحمّد بن عليّ ، وجعفر بن محمّد : كيف لنا بالحديث مع هذه الآية : « يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ »(1) ، فأمّا من قال : إنّ اللّه تعالى لم يعلم الشيء إلاّ بعد كونه فقد كفر وخَرج عن التوحيد» .

وقد روى سعد بن عبد اللّه عن أبي هاشم الجعفري ، قال : سأل محمّد بن صالح الأرمني أبا محمّد العسكري عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجل : « يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ » ، فقال أبو محمّد عليه السلام : «وهل يمحو إلاّ ما كان ، ويثبت ما لم يكن ؟» فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقول هشام ؛ لأنّه لا يعلم الشيء حتّى يكون ، فنظر إليّ أبو محمّد عليه السلام فقال : «تعالى الجبّار العالم بالأشياء قبل كونها» ، الحديث .

والوجه في هذه الأخبار ما قدّمنا ذكره من تغيّر المصلحة فيه ، واقتضائها تأخيره الأمر إلى وقت آخر على ما بيّنّاه دون ظهور الأمر له تعالى ، فإنّا لا نقول به ، ولا نجوّزه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً .(2) انتهى .

سابعها : ما صار إليه بعض الفضلاء من أنّ البداء عبارة عن القضاء السابق - تعويلاً على كلام ابن الأثير في النهاية - وهو بعيد لا تنطبق الأخبار عليه .

ثامنها : ما يحكى عن الفاضل المحقّق ابن أبي الجمهور الإحسائيّ في حواشي عوالي اللآلي ، وهو موقوف على تمهيد مقدّمة ، هي : أنّ القضاء : هو الأمر الكلّيّ الواقع في العالم العقليّ ، المسمّى بعالم الملكوت ، وعالم الغيب ، وعالم الأمر ، واللوح المحفوظ . والقدر : هو تفصيل ذلك القضاء الواقع في الوجود الخارجيّ ، والعالم الحسّيّ المسمّى بعالم الملك ، وعالم الشهادة ، وعالم التقدير . والفرق بين الأمرين لا يكاد يشتبه .

وبهذا يظهر معنى قول أميرالمؤمنين عليه السلام لمّا مرّ يوماً بجنب حائط فأسرع في المشي ، فقيل له : أتفرّ يا أميرالمؤمنين من قضاء اللّه تعالى ؟ فقال عليه السلام : «أفرّ من

ص: 69


1- . الرعد 13 : 39 .
2- . الغيبة ، ص 429 .

قضاء اللّه إلى قدره» .

ويتّضح أنّ مراده أنّي أفرّ من ذلك الأمر الكلّيّ المشروط بشرائطه إلى ما هو مقدّر تابع لتلك الشرائط على ما يقتضيه العلم الإلهي المتعلّق به .

ويتّضح معنى قول النبيّ صلى الله عليه و آله : «فرغ اللّه من أربع : الخلق والقضاء والرزق والأجل» ، فلمّا سمع اليهود هذا قالوا : فإنّ اللّه تعالى الآن معطّل ؛ لأنّه قد فرغ من الاُمور كلّها ، فقال عليه السلام : «كلاّ ليس الأمر كذلك ، فإنّه يوصل القضاء إلى القدر» ومعناه : أنّ الاُمر التفصيلي الجزئيّ يجب مطابقته للأمر الكلّيّ ووقوعه على ترتيبه ، ويسمّى الأوّل عالم

القضاء والثاني عالم القدر ، ويجوز الفرار(1) من القضاء الإلهي ، ولكن لا يجوز الفرار من القدر التابع له ، فإنّ إيصال القضاء إلى القدر ووقوع القدر بموجب القضاء [واجب ، بل ]هو فعله و شأنه بحكم قوله تعالى : « كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ »(2) ، والقدر هو موطن البداء ، وتلك التجدّدات والتقضّيات نتائجه .(3)

تاسعها : ما حكي عن الفاضل الطيّبيّ في شرح مشكاة المصابيح ، وهو من أعلام المخالفين ، قال :

إذا علم اللّه تعالى أنّ زيداً يموت سنة خمسمائة استحال أن يموت قبلها أو بعدها ، فاستحال أن تكون الآجال - التي عليها علم اللّه - أن تزيد أو تنقص ، فتعيّن تأويل زيادة العمر ونقصانه الواردين في الأخبار النبويّة بأنّهما بالنسبة إلى ملك الموت أو

غيره ممّن وكّل بقبض الأرواح وأمر بالقبض بعد آجال محدودة ، فإنّه تعالى بعد أن يأمره بذلك أو يثبته في اللوح المحفوظ ينقص منه أو يزيد على ما سبق به علمه في كلّ شيء ، وهو معنى قوله تعالى « يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ »(4)

وعلى ما ذكر يحمل قوله تعالى : « ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِندَهُ » ، فالإشارة

ص: 70


1- . في نسخ الكتاب والمطبوع في الموردين : «الفراغ» وما اُثبت من المصدر .
2- . الرحمن 55 : 29 .
3- . عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 114 مع اختلاف في بعض الألفاظ ، أثبتناها كما في العوالي ، وليس فيه : «وتلك التجدّدات والتقضّيات نتائجه» .
4- . الرعد 13 : 39 .

بالأجل الأوّل إلى ما في اللوح المحفوظ وما عند ملك الموت ، وبالأجل الثاني إلى ما في قوله : « وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ » ، وقوله تعالى : « فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَيَستَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ »(1) .(2) انتهى .

عاشرها : ما اختاره العالم العلم الربّانيّ المحقّق الثالث ، والعلاّمة الثاني المحدّث الفاضل المجلسيّ في الأربعين ، ومرآة العقول وغيرهما ، وهو أوضح الطرق وأقربها لانطباق جميع الأخبار الواردة في ذلك عن الأئمّة الأطهار عليهم صلوات اللّه الملك الغفّار ، وهو :

أنّهم عليهم السلام إنّما بالغوا في البداء ردّاً على اليهود الذين يقولون : إنّ اللّه قد فرغ من الأمر ، وعلى النظّام وبعض المعتزلة القائلين : إنّ اللّه خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن ، معادن ونباتا ، وحيواناً وإنساناً ، ولم يتقدّم خلق آدم على خلق أولاده ، والتقدّم إنّما يقع في ظهورها ، لا في حدوثها ووجودها ، وإنّما أخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والبروز من الفلاسفة .

وعلى بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكيّة ، وبأنّ اللّه تعالى لم يؤثّر حقيقة إلاّ في العقل الأوّل ، فهم يعزلونه تعالى عن ملكه وسلطانه ، وينسبون الحوادث إلى هؤلاء .

وعلى آخرين منهم قالوا : إنّ اللّه سبحانه أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة دهريّة لا ترتيب فيها باعتبار الصدور ، بل إنّما ترتّبها في الأزمان فقط ، كما أنّه لا تترتّب الأجسام المجتمعة زماناً ، وإنّما ترتّبها في المكان فقط ، فنفوا عنه كلّ ذلك ، وأثبتوا

أنّ اللّه تعالى كلّ يوم في شأن ، من إعدام شيء وإحداث آخر ، وإماتة شخص وإحياء آخر إلى غير ذلك ؛ لئلاّ يترك العباد التضرّع إلى اللّه ومسألته وطاعته والتقرّب إليه بما يصلح اُمور دنياهم وعقباهم ، وليرجوا عند التصدُّق على الفقراء وصلة الأرحام وبرّ الوالدين والمعروف والإحسان ما وعدوا عليها من طول العمر ، وزيادة الرزق

ص: 71


1- . الأعراف 7 : 34 .
2- . حكاه عنه في تحفة الآحوذي ، ج 6 ص 290 .

وغير ذلك(1) . انتهى كلامه رفع مقامه .

وتوضيحه : أنّ البداء المنسوب إليه تعالى معناه : أن يبدو له في الشيء فيثبته بعد عدمه ، أو عكس ذلك مختاراً مع علمه بأصله ، وعلمه بأنّه سيفعله في المستقبل لأغراض ومصالح وغايات سبق العلم بها على التفصيل ، ولا يحدث له من معلومها شيء لم يكن معلوماً له سابقاً ؛ لئلاّ يلزم نسبة الجهل إليه تعالى ، كما نطقت به الأخبار ، ففي الصحيح عن الصادق عليه السلام قال : «ما بدا للّه في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له» .(2)

وعنه عليه السلام قال : «إنّ اللّه لم يبد له من جهل» .(3)

فالبداء منه سبحانه لمحو المثبت وإثبات غير المثبت مسبوق بعلمه الأزليّ ، وليس البداء مخصوصاً بالمحو فقط ، بل يشمل الإثبات كما دلّت عليه الآية والرواية .

وبالجملة ، فمرجع البداء المذكور إلى أنّه سبحانه مختار على الإطلاق في عامّة الأفاعيل والتكوينات ، مستمرّ التصرّف والإرادات في كلّ الاُمور وكافّة الأحوال والشؤون ، فعلها وتركها ، وإحكامها ونقضها ، وتقديمها وتأخيرها ، جليلها وحقيرها ، وقبيلها ودبيرها ، ولهذا لم يعبد اللّه ولم يعظّم بشيء مثل البداء ؛ لأنّ المدار استجابة الدعاء والرغبة إليه سبحانه والرهبة منه ، وتفويض الاُمور إليه ، و التعلّق بين الخوف والرجاء ، والتصدّق والرحم والأعمال الصالحة وأمثالها من أركان العبوديّة ، كلّها على

البداء .

حادي عشرها : أنّه ترجيح أحد المتقابلين ، والحكم بوجوده بعد تعلّق الإرادة بها تعلّقاً غير حتميّ ؛ لرجحان مصلحته وشروطه على مصلحة الآخر وشروطه ، ومن هذا القبيل إجابة الداعي ، وتحقيق مطالبه ، وتطويل العمر بصلة الرحم ، وإرادة إبقاء قوم

بعد إرادة إهلاكهم ، وقد قال مولانا الرضا عليه السلام لسليمان المروزيّ - وهو كان منكراً للبداء وطلب منه عليه السلام ما يدلّ عليه من القرآن - : «قوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه و آله : « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ

ص: 72


1- . الأربعين ، ص 59 - 60 ؛ مرآة العقول ، ج 2 ، ص 131 .
2- و 3 . الكافي ، ج 1 ، ص 148 ، باب البداء ، ح 9 و 10 .
3-

بِمَلُومٍ »(1) ، ثمّ بدا للّه تعالى فقال : « وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ »»(2) (3) يريد عليه السلام أنّه أراد إهلاكهم لعلمه بأنّهم لا يؤمنون ، وأراد بقاءهم لعلمه بأنّه يخرج من أصلابهم المؤمنون ، فرجّح بقاءهم فحكم به ؛ تحقيقاً لمعنى الإيمان .

تتمّة مهمّة : [في تحقيق اللوحين]

قال خاتمة المحدّثين العلاّمة المجلسيّ :

اعلم أنّ الآيات والأخبار تدلّ على أنّ اللّه تعالى خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات :

أحدهما : اللوح المحفوظ الذي لا تغيُّر فيه أصلاً ، وهو مطابق لعلمه تعالى .

والآخر : لوح المحو والإثبات ، فيثبت فيه شيئاً ، ثمّ يمحوه لحِكَمٍ كثيرة لا تخفى على اُولي الألباب . مثلاً : يكتب فيه : أنّ عمر زيد خمسون سنة ، ومعناه أنّ مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره ، فإذا وصل الرحم - مثلاً - يمحى الخمسون ويكتب مكانه الستّون ، وإذا قطعها يكتب مكانه أربعون ، وفي اللوح المحفوظ أنّه يصل عمره ستّون ، كما أنّ الطبيب الحاذق إذا اطّلع على مزاج شخص يحكم بأنّ عمره بحسب هذا المزاج يكون ستّين سنة ، فإذا شرب سمّاً ومات أو قتله إنسان فنقص من ذلك ، أو استعمل دواء قوي مزاجه فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب .

والتغيير الواقع في هذا اللوح مسمّى بالبداء ؛ إمّا لأنّه مشبّه به كما في سائر ما يطلق عليه تعالى من الابتلاء والاستهزاء والسخرية وأمثالها ، أو لأنّه يظهر للملائكة أو للخلق - إذا اُخبروا بالأوّل - خلاف ما علموا أوّلاً .

وأيّ استبعاد في تحقّق هذين اللوحين ؟ وأيّ استحالة في هذا المحو والإثبات حتّى يحتاج إلى التأويل والتكلّف ، وإن لم تظهر الحكمة فيه لنا ؛ لعجز عقولنا عن الإحاطة بها ، مع أنّ الحِكَم فيها ظاهرة :

ص: 73


1- . الذاريات 51 : 54 .
2- . الذاريات 51 : 55 .
3- . التوحيد ، ص 443 ، ح 1 . وفيه : «قول اللّه عزّوجلّ» بدل «قوله تعالى» .

منها : أن يظهر للملائكة الكاتبين في اللوح والمطّلعين عليه لطفه تعالى بعباده ، وإيصالهم في الدنيا إلى ما يستحقّونه ، فيزداد به معرفة .

ومنها : أن يعلم العباد - بإخبار الرسل والحجج عليهم السلام - أنّ لأعمالهم الحسنة مثل هذه التأثيرات في صلاح اُمورهم ، ولأعمالهم السيّئة تأثيراً في فسادها ، فيكون داعياً لهم إلى الخيرات ، صارفاً لهم عن السيّئات .

فظهر أنّ لهذا اللوح تقدّماً على اللوح المحفوظ من جهة ؛ لصيرورته سبباً لحصول بعض الأعمال ، فبذلك انتقش في اللوح المحفوظ حصوله ، فلا يتوهّم أنّه بعدما كتب في هذا اللوح حصوله لا فائدة في المحو والإثبات .

ومنها : أنّه إذا أخبر الأنبياء والأوصياء أحياناً من كتاب المحو والإثبات ، ثمّ أخبروا بخلافه يلزمهم الإذعان به ، ويكون في ذلك تشديداً للتكليف عليهم ، تسبيباً لمزيد الأجر لهم ، كما في سائر ما يبتلي اللّه عباده به من التكاليف الشاقّة وإيراد الاُمور التي تعجز أكثر العقول عن الإحاطة بها ، وبها يمتاز المسلمون الذين فازوا بدرجات اليقين عن الضعفاء الذين ليس لهم قدم راسخ في الدين .

ومنها : أن تكون هذه الأخبار تسلية لقوم من المؤمنين المنتظرين لفرج أولياء اللّه وغلبة الحقّ وأهله ، كما روي في قصّة نوح حين أخبر بهلاك القوم ، ثمّ أخّر ذلك مراراً ، وكما روي في فرج أهل البيت عليهم السلام وغلبتهم ؛ لأنّهم عليهم السلام لو كانوا أخبروا الشيعة في أوّل ابتلائهم باستيلاء المخالفين وشدّة محنتهم أنّه ليس فرجهم إلاّ بعد ألف سنة أو ألفي سنة ليئسوا ورجعوا عن الدين ، ولكنّهم عليهم السلام أخبروا شيعتهم بتعجيل الفرج ، وربّما أخبروهم بأنّه يمكن أن يحصل الفرج في بعض الأزمنة القريبة ليثبتوا على الدين ، ويثابوا بانتظار الفرج ، كما سيأتي في باب كراهية التوقيت من كتاب الحجّة ، عن عليّ بن يقطين ، قال : قال لي أبوالحسن عليه السلام : «الشيعة تربّى بالأمانيّ منذ مأتي سنة» .

قال : وقال يقطين لابنه عليّ بن يقطين : ما بالنا قيل لنا فكان ، وقيل لكم فلم يكن ؟ قال : فقال له عليّ : إنّ الذي قيل لنا ولكم كان من مخرج واحد ، غير أنّ أمركم حضر فاُعطيتم محضه ، فكان كما قيل لكم ، وأنّ أمرنا لم يحضر فعلّلنا بالأمانيّ ، فلو قيل

لنا : إنّ هذا الأمر لا يكون إلاّ إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة لقست القلوب ، ورجع

ص: 74

عامّة الناس عن الإسلام ، ولكن قالوا : ما أسرعه وما أقربه ؛ تألّفاً لقلوب الناس ، وتقريباً للفرج .

ومعنى قوله : «قيل لنا» أي خلافة العبّاسيّة ، وكان من شيعتهم ، أو في دولة آل يقطين ، و«قيل لكم» ، أي في أمر القائم وظهور فرج الشيعة .

وبالجملة ، فإخبارهم بما يظهر خلافه ظاهراً من قبيل المجملات والمتشابهات التي تصدر عنهم بمقتضى الحِكَم ، ثمّ يصدر عنهم بعد ذلك تفسيرها وبيانها .

ومعنى قولهم عليهم السلام : «ما عُبِد اللّه بمثل البداء» أنّ الإيمان بالبداء من أعظم العبادات القلبيّة ؛ لصعوبته ومعارضة الوساوس الشيطانيّة فيه ، ولكونه إقراراً بأنّ له الخلق والأمر ، وهذا كمال التوحيد .

أو المعنى : أنّه من أعظم الأسباب والدواعي لعبادة الربّ تعالى كما عرفت ، وكذا قولهم عليهم السلام : «ما عظّم اللّه بمثل البداء» يحتمل الوجهين ، وإن كان الأوّل فيه أظهر .

وأمّا قول الصادق عليه السلام : «لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه» فلما مرّ أيضاً من أنّ أكثر مصالح العباد موقوفة على القول بالبداء ؛ إذ لو اعتقدوا أنّ كلّ ما قدّر في الأزل فلابدّ من وقوعه حتماً لَما دعوا اللّه في شيء من

مطالبهم ، وما تضرّعوا إليه ، وما استكانوا لديه ، ولا خافوا منه ، ولا رجعوا إليه ، إلى غير ذلك ممّا قد أومأنا إليه .

وأمّا أنّ هذه الاُمور من جملة الأسباب المقدَّرة في الأزل أن يقع الأمر بها لا بدونها فممّا لا يصل إليه عقول أكثر الخلق ؛ فظهر أنّ هذا اللوح وعلمهم بما يقع فيه من المحو والإثبات أصلح لهم من كلّ شيء .(1) انتهى .

تبصرة : [في أنّ للّه علمين]

روى ثقة الإسلام بإسناده عن الفضيل بن يسار عن الباقر عليه السلام قال : «العلم علمان : فعلم عند اللّه مخزون ، لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، وعلم علّمه ملائكته ورسله ، فما علَّمه ملائكته ورسله فإنّه سيكون ، لا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم عنده

ص: 75


1- . مرآة العقول ، ج 2 ، ص 132 - 135 .

مخزون ، يقدّم منه ما يشاء ، ويؤخّر ما يشاء ، ويثبت ما يشاء» .(1)

وعنه عليه السلام قال : «من الاُمور اُمور موقوفة عند اللّه ، يقدّم منها ما يشاء ، ويؤخّر منها ما يشاء» .(2)

وعن أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ للّه علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاّ هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه ، فنحن نعلمه» .(3)

وهذه الأخبار تدلّ على أنّ البداء لا يقع في أخبار الأنبياء والأئمّة معلّلة ، ويؤيّده العقل السليم والفهم المستقيم من أنّ وقوع البداء في إخباراتهم عليهم السلام يؤدّي إلى عدم الاعتماد عليها والوثوق بها والركون إليها ، ويكون عدم وقوع ما أخبروا بوقوعه أو العكس موجباً لتنفّر الناس عنهم ، إلاّ أنّ بإزاء هذه الأخبار أخباراً اُخر تدلّ على وقوع البداء في إخباراتهم :

ومنها : ما رواه الصدوق في العيون عن الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «إنّ اللّه عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّ من أنبيائه أن أخبر فلانا المَلِك أنّي متوفّيه إلى كذا وكذا ، فأتاه ذلك النبيّ فأخبره ، فدعا اللّه الملك وهو على سريره حتّى سقط من السرير ، وقال : يا ربّ ، أجّلني حتّى يشبّ طفلي وأقضي أمري ، فأوحى اللّه تعالى إلى ذلك النبيّ : أن ائت فلانا الملك فأعلمه أنّي قد أنسأت أجله وزدت في عمره خمسة عشر سنة ، فقال ذلك النبيّ : يا ربّ ، إنّك لتعلم أنّي لم أكذب قطّ ، فأوحى اللّه تعالى إليه : إنّما أنت عبد مأمور وأبلغه ذلك ، واللّه لا يُسئَل عمّا يفعل» .(4)

وما رواه الكلينيّ في باب الصدقة عن الصادق عليه السلام قال : «مرّ يهوديّ بالنبيّ صلى الله عليه و آله ، فقال : السام عليك ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : وعليك ، فقال أصحابه : إنّما سلّم عليك

ص: 76


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 147 ، باب البداء ، ح 6 ؛ تفسير العيّاشي ، ج 2 ، ص 217 ، ح 67 .
2- . المحاسن ، ج 1 ، ص 243 ، ح 232 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 147 ، باب البداء ، ح 7 ؛ تفسير العياشي ، ج 2 ، ص 217 ، ح 65 ، وعن المحاسن في بحارالأنوار ، ج 4 ، ص 113 ، ح 37 .
3- . بصائر الدرجات ، ص 109 ، ح 2 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 147 ، باب البداء ، ح 8 ؛ وعن البصائر في بحارالأنوار ، ج 4 ، ص 109 - 110 ، ح 27 .
4- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 161 ؛ وعنه في بحارالأنوار ، ج 4 ، ص 95 - 96 ، ح 2 .

بالموت ، فقال : الموت عليك ، قال النبيّ صلى الله عليه و آله : وكذلك رددت . ثمّ قال النبيّ صلى الله عليه و آله : إنّ هذا اليهوديّ يعضّه أسود في قفاه فيقتله .

قال : فذهب اليهوديّ فاحتطب كثيراً فاحتمله ، ثمّ لم يلبث أن انصرف ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ضعه ، فوضع الحطب ، فإذا أسود في جوف الحطب عاضّ على عود ، فقال صلى الله عليه و آله : يا يهوديّ ، أيّ شيء عملت اليوم ؟ فقال : ما عملت عملاً إلاّ حطبي هذا احتملته وجئت به ، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : بها دفع اللّه عنك» .(1)

وقال صلى الله عليه و آله : «إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان» .(2)

ويمكن الجمع بوجوه :

الأوّل : أن يكون المراد بالأخبار الاُولى عدم وقوع البداء في ما وصل إليهم على سبيل التبليغ ، بأن يؤمروا بتبليغه ؛ ليكون إخبارهم بها من قبل أنفسهم لا على وجه التبليغ .

وفيه : أنّه لا ينطبق على الخبر الأوّل .

الثاني : أن يكون المراد بالاُولى الوحي ، ويكون ما يخبرون به من جهة الإلهام واطّلاع نفوسهم عن الصحف السماويّة يقع فيه البداء .

وهو كالذي قبله .

الثالث : أن تكون الاُولى محمولة على الغالب ، فلا ينافي ما وقع على سبيل الندرة .

الرابع : ما أشار إليه الشيخ رحمه الله في كتاب الغيبة من أنّ المراد بالأخبار الاُولى عدم وصول الخبر إليهم وإخبارهم على سبيل الحتم ، فتكون أخبارهم على قسمين :

أحدهما : ما اُوحي إليهم أنّه من الاُمور المحتومة ، فهم يخبرون كذلك ، ولا بداء فيه .

ص: 77


1- . الكافي ، ج 4 ، ص 5 ، باب أن الصدقة تدفع البلاء ، ح 3 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 78 ، ح 15689 .
2- . الكافي ، ج 4 ، ص 2 ، باب فضل الصدقة ، ح 1 و 2 باختلاف يسير ؛ وسائل الشيعة ، ج 2 ، ص 433 ، ح 2566 . وفيه : «صاحبها» بدل «الإنسان» .

وثانيهما : ما يوحى إليهم لا على هذا الوجه ، فهم يخبرون كذلك ، وربّما أشعروا أيضاً باحتمال وقوع البداء فيه ، كما قال أميرالمؤمنين عليه السلام بعد الإخبار بالسبعين : «ويمحو اللّه ما يشاء ويثبت» .

وهذا وجه قريب .

الخامس : أن يكون المراد بالأخبار الأوّلة أنّهم لا يخبرون بشيء لا تظهر وجه الحكمة فيه على الخلق ؛ لئلاّ يوجب تكذيبهم ، بل لو أخبروا بشيء من ذلك يظهر وجه الصدق في ما أخبروا به كخبر النبيّ صلى الله عليه و آله ، ونحوه خبر عيسى ، حيث ظهرت الحيّة دالّة على صدق مقالتهما .(1)

ص: 78


1- . وهذه الوجوه الخمسة ذكرها المجلسي في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 133 ؛ ومرآة العقول ، ج 2 ، ص 135 .

الحديث السادس :[ في العلم والمشيّة والإرادة والقدر والقضاء ]

ما رويته بأسانيدي المتقدّمة عن ثقة الإسلام ، عن الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، قال : سُئل العالم عليه السلام (1) : كيف علم اللّه ؟

قال : «علم وشاء وأراد ، وقدّر وقضى وأمضى ، فأمضى ما قضى ، وقضى ما قدّر ، وقدّر ما أراد ، فبعلمه كانت المشيّة ، وبمشيّته كانت الإرادة ، وبإرادته كان التقدير ، وبتقديره كان القضاء ، وبقضائه كان الإمضاء ؛ فالعلم متقدّم على المشيّة ، والمشيّة ثانية ، والإرادة ثالثة ، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء ، فللّه البدا في ما علم متى شاء ، وفي ما أراد لتقدير الأشياء ، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء ، فالعلم بالمعلوم قبل كونه ، والمشيّة في المنشأ قبل عينه ، والإرادة في المراد قبل قيامه .

والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عياناً ووقتاً ، والقضاء بالإمضاء ، وهو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام المدركات بالحواسّ من ذي لون وريح ووزن وكيل ، وما دبّ ودرج من إنس وجنّ ، وطير وسباع ، وغير ذلك ممّا يدرك بالحواسّ ، فللّه تبارك وتعالى فيه البدا ، ممّا لا عين له ، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء ، واللّه يفعل ما يشاء .

فبالعلم علم الأشياء قبل كونها ، وبالمشيّة عرّف صفاتها وحدودها ، وأنشأها قبل إظهارها ، وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها ، وبالتقدير قدّر أقواتها وعرّف أوّلها وآخرها ، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ، ودلّهم عليها ، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها ، ذلك تقدير العزيز العليم»(2) .

ص: 79


1- . المراد بالعالم موسى بن جعفر عليهماالسلام .
2- . الكافي ، ج 1، ص 148 - 149 ، باب البداء ، ح 16 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 102، ح 27 .

بيان :

هذا الحديث من غوامض الأخبار ومتشابهات الآثار ، الموكول علم حقيقته إلى معادن الوحي والأسرار ، ولكنّا نذكر له بياناً على سبيل الاحتمال ، واللّه العالم بحقيقة الحال :

ولعلّ غرض السائل الاستفهام عن كيفيّة علمه تعالى بالأشياء بأنّه هل هو مستند إلى الحضور العينيّ والشهوديّ وقت وجود الأشياء وحصولها - كما في علومنا - أو أنّه مستند إلى الذات سابق على الأشياء ، متعلّق بالمكوّنات قبل تكوينها وإيجادها ؟

فأجاب عليه السلام : بأنّ علمه سابق على الأشياء ، متقدّم عليها ، وبينه وبين وجودها وسائط ، فقال عليه السلام :

(علم) ، والعلم ما به ينكشف الشيء ، أي علم في الأزل بأنّه سيوجد الأشياء .

(وشاء) ما يكون في وجوده مصلحة ، ويكون وجوده خيراً محضاً أو خيراً غالباً .

والمشيّة لنا ملاحظة الشيء بأحوالٍ مرغوب فيها توجب فينا ميلاً ، دون المشيّة له سبحانه ؛ لتعاليه عن التغيّر والاتّصاف بالصفات الزائدة ، ففيه وفي ما بعده ونحوهما تؤخذ الغايات ، وتترك المبادي .

(وأراد) إرادة عزم ، ولعلّ المراد بالإرادة : العزيمة على ما يشاء ، أو الثبوت عليه ، وأصل الإرادة : تحريك الأسباب نحو الشيء بحركة نفسانيّة فينا ، بخلاف الإرادة فيه سبحانه . وقيل : إنّ المشيّة هي ا لعلم بالشيء مع ما يترجّح به وجوده ، فهي نوع من العلم مغايرة للإرادة حينئذٍ .

(وقدّر) أي قدّر الأشياء أوّلها وآخرها ، وحدودها وذواتها ، وصفاتها وآجالها ، وأرزاقها إلى غير ذلك ممّا يعتبر في كمالها وتميّزها وتشخيصها ، والقدر : التحديد وتعيين الحدود والأوقات .

(وقضى) أي حكم بوجود تلك الأشياء في الأعيان على وفق الحكمة والتقدير ، والقضاء هو : الحكم والإيجاب .

(وأمضى) أي أنفذ حكمه وأتمّه ، فجاءت الأشياء كما أرادها وقدّرها ، وقضاها مع أسبابها وشرائطها، وتميّزاتها وتشخّصاتها في أماكنها ومساكنها طوعاً وانقياداً.

فهذه الاُمور الستّة لابدّ منها في خلق الموجودات .

ص: 80

ونظير ذلك - جلّ تعالى عن النظير - أنّ الصانع منّا لشيء لابدّ أن يتصوّر ذلك الشيء أوّلاً ، وأن يتعلّق مشيّته وميله إلى صنعه ثانياً ، وأن يتأكّد العزم عليه ثالثاً ، وأن يقدّر طوله وعرضه وحدوده وصفاته رابعاً ، وأن يشتغل بصنعه وإيجاده خامساً ، وأن يمضي صنعه سادساً حتّى يجيء على وفق ما قدّره ، إلاّ أنّ هذه الاُمور في صنع الخلق لا تحصل إلاّ بحيلة وهمّة ، وفكر وشوق ونحوها ، بخلاف صنع الخالق ، فإنّه لا يحتاج إلى شيء ، بل الأشياء محتاجة إليه تعالى .

وقوله عليه السلام : (فأمضى ما قضى ...) إلى آخره ، أي فأوجد ما أوجب ، وأوجب ما قدّر ، وقدّر ما أراد . ولعلّه أشار بهذا التفريع إلى أنّ وجود القضاء وتحقّقه دليل على وجود جميع الاُمور المذكورة المعتبرة في لحاظ العقل لتحقّقه ؛ لأنّ وجود المسبّب دليل على وجود جميع أسبابه المتعاقبة ، أو لأنّه يمكن اعتبار تلك الاُمور وملاحظتها تارة على سبيل التعاقب ، وتارة على سبيل الاجتماع .

ولعلّه عليه السلام لم يقل : وأراد ما شاء ، وشاء ما علم ؛ لظهور ذلك ممّا ذكر أوّلاً ، أو لأنّه لا تفاوت بين المشيّة والإرادة إلاّ بحسب الاعتبار ، وتعلّق المشيّة بكلّ ما علم غير صحيح ؛ لأنّه تعالى عالم بالمفاسد والقبائح وأسبابها .

ثمّ استأنف عليه السلام البيان على وجه أوضح وأبين ، فقال عليه السلام : (فبعلمه كانت المشيّة) ؛ إذ مشيّة الشيء متوقّفة على العلم به وبجهات حسنه .

(وبمشيّته كانت الإرادة) أي الإرادة المؤكّدة بالعزم على المشيّة ؛ إذ العزم على الشيء فرع لحصول ذلك الشيء .

(وبإرادته كان التقدير) ؛ إذ التقدير مسبوق بالإرادة ، كما أنّ الباني يقدّر في نفسه طول البيت وعرضه بعد العزم على بنائه .

(وبتقديره كان القضاء والإيجاب) ؛ لأنّ خلق الشيء والحكم بوجوده يقع بعد تقديره بقدر معيّن ، ووزن معلوم ، ومقدار مخصوص ، فإنّ القضاء بمنزلة البناء ، والقدر بمنزلة الأساس ، ولا يتحقّق البناء بلا أساس .

(وبقضائه كان الإمضاء) ؛ إذ الإمضاء هو إتمام القضاء وإنفاذه والفراغ منه ، ولا يتصوَّر ذلك بدون القضاء .

ص: 81

ثمّ أكّد ذلك بقوله عليه السلام : (والعلم متقدّم على المشيّة) ، وهو الأوّل بالنسبة إليها ، (والمشيّة ثانية ، والإرادة ثالثة ، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء) .

والنسبة بين التقدير والقضاء كالنسبة بين العلم والمعلوم في التقدّم والتأخّر ، فكما أنّ العلم واقع على القضاء منطبق عليه إذا وجد المعلوم ، كذلك التقدير واقع على القضاء منطبق عليه إذا وُجد القضاء بالإمضاء ، ثمّ لمّا كان الانطباق من الطرفين كان

القضاء أيضاً منطبقاً على التقدير ، واقعاً على وفقه .

(فللّه البَداء في ما علم ، متى شاء وفي ما أراد لتقدير الأشياء ، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء) يعني أنّ الدخول في العلم أوّل مراتب السلوك إلى الوجود العينيّ ، وله البداء في ما علم متى شاء أن يبدو ، وفي ما أراد ، وحرّك الأسباب نحو تحريكه متى شاء قبل الإيجاب ، فإذا وقع القضاء متلبّساً بالإمضاء فلا بداء .

والحاصل : أنّ تلك الأسباب إذا لوحظت من أوّلها إلى أعلى المسبّبات وهو القضاء بالإمضاء فلا بداء ، وكان له تعالى البَداء في كلّ مرتبة من مراتب تلك الأسباب ؛ إذ له أن يشاء وأن لا يشاء بقدرته واختياره على ما يقتضيه الحكمة والمصلحة ، وأن يريد وأن لا يريد ، وأن يقدّر وأن لا يقدّر ، وهذا معنى البداء في حقّه تعالى .

وإذا لوحظتْ تلك المسبّبات من آخرها - وهو القضاء بالإمضاء - فلا بَداء له في شيء من مراتبها ؛ لأنّ تحقّق القضاء دليل على وقوع جميع أسبابها ووقوع ما وقع خارج عن متعلّق القدرة والإرادة ؛ إذ لا يقدر أحد على إيقاع ما وقع ، ولا يمكن له إرادته ؛ لأنّ القدرة والإرادة إنّما يتعلّقان بالشيء قبل وقوعه لا بعده .

ثمّ أشار عليه السلام إلى أنّ كلاًّ من العلم والمشيّة والإرادة والتقدير متعلّقٌ بمتعلّقه قبل وجود ذلك المتعلّق في الأعيان على سبيل التفريع ؛ لكونه نتيجة للسابق ومعلوماً منه بقوله عليه السلام : (فالعلم بالمعلوم قبل كونه) أي قبل كون المعلوم وحصوله في الأذهان والأعيان بمراتب ؛ لأنّ العلم أزليّ والمعلوم حادث .

(والمشيّة في المنشأ قبل عينه) أي قبل وجوده في الأعيان بمرتبتي الإرادة والتقدير ، أو المراد : قبل تعيّن عينه وحقيقته .

(والإرادة في المراد قبل قيامه) في الزمان والمكان ، والحاصل قبل وجوده في

ص: 82

الأعيان ؛ لأنّ قيامه إنّما هو بالإرادة المتعلّقة بإيجاده في وقت معيّن وحدها أو لمرجّح على اختلاف ، وعلى التقديرين قيامه مسبوق بالإرادة .

(والتقدير لهذه المعلومات) المذكورة أعني المنشأ والمراد أو المحسوسة المشاهدة في هذا العالم (قبل تفصيلها وتوصيلها) أي تفصيل بعضها عن بعض ، وتوصيل بعضها ببعض واقع ؛ لأنّ التفصيل والتوصيل واقعان على وفق التقدير ، أو المراد تفصيلها وتوصيلها في لوح المحو والإثبات ، أو في الخارج .

(عياناً ووقتاً) منصوبان على الظرفيّة لكلّ من التفصيل والتوصيل ؛ أمّا التفصيل العيانيّ - أي الخارجيّ - فهو مثل جعل السماء مرفوعة والأرض موضوعة ، وجعل بعض الحيوان متحرّكاً على رجلين وبعض على أربع ، ووضع بعض الأجسام في المشرق وبعضها في المغرب ، ووضع بعض الأموال في محلّ وبعضها في محلّ آخر إلى غير ذلك .

وأمّا التوصيل العيانيّ فهو مثل جعل هذا الجسم متّصلاً بآخر ممّا شابهه مقارباً له في المكان ، وجعل هذه الأشخاص متساوية في الحقيقة ولوازمها ، ووضع هذه الأموال في محلّ واحد ، وأمثال ذلك ممّا لا يعدّ كثرة .

وأمّا التفصيل الوقتي فهو كجعل بعض الأشياء موجوداً في هذا الزمان ، وبعضها في زمان سابق ، وبعضها في زمان لاحق .

وأمّا التوصيل الوقتيّ فهو كجعل كثير من الأشياء متشاركة بالوجود في هذا الزمان ، وكثير منها متشاركة في الوجود في زمان آخر .

(والقضاء بالإمضاء) أي الحكم على تلك المعلومات بإمضائها ووجودها على وفق التقدير .

(وهو المبرم) أي المحكم المتقن الواقع بلا دافع ولا مانع ، ولا خلل من جهة القضاء ، ولا من جهة الإمضاء ، ولا من جهة المقتضي ، ولا من جهة انطباقه على التقدير الواقع على النظام الأكمل .

وقوله : (من المفعولات) بالفاء والعين يحتمل أن تكون «من» صلة للمبرم أو بياناً له ، ويحتمل جعلها بياناً للمعلومات ، ولكنّه بعيد .

ص: 83

(ذوات الأجسام) بيان للمفعولات أو بدل منه ، أي الذوات التي هي الأجسام .

(المدركات بالحواس) فالإضافة بيانيّة ، أو الذوات التي للأجسام ، فالإضافة لاميَّة ، فيندرج حينئذٍ في الذوات : العقول والنفوس الفلكيّة بناءا على ثبوتها ، والحيوانيّة .

(من ذي لونٍ وريح ووزن وكيل) بيان للأجسام ، أي كون تلك الأجسام على مقدار مخصوص وحدّ معلوم .

(وما دبّ ودرج) عطف على ذوات الأجسام من باب عطف الخاصّ على العامّ ، والدبيب والدروج : المشي على الأرض ، والمراد هنا مطلق الحركة وإن كانت في الهواء .

(من إنس وجنّ وطير وسباع وغير ذلك ممّا يدرك بالحواس) من أنواع الحيوان وأشخاصه .

(فللّه تعالى فيه) أي في كلّ واحد من المعلوم والمنشأ والمراد والمقدّر المذكور في قوله : (فالعلم بالمعلوم قبل كونه) إلى آخره ، (البداء) أي الإرادة والقدرة على اختيار أحد الطرفين لمرجّح أو لا ، على اختلاف المذهبين .

(ممّا لا عين له) أي لا وجود له في الأعيان ، وهو حال عن الضمير المجرور في قوله فيه :

(فإذا وقع العين المفهوم المدرك) بالحواسّ بعد القضاء بالإمضاء ، (فلا بداء) ؛ إذ لا تتعلّق الإرادة والقدرة بإيجاد الموجود ، (واللّه يفعل ما يشاء) تأكيداً لثبوت البَداء له تعالى .

(فبالعلم) الذي هو عين ذاته تعالى .

(علم الأشياء قبل كونها) أي قبل وجودها وحصولها ، وأصل العلم غير مرتبط بنحو من الحصول للمعلوم ولو في غيره بصورته المتجدّدة ، ولا يوجب نفس العلم والانكشاف بما هو علم ، وانكشاف الأشياء إنشاؤها .

(وبالمشيّة عرّف) من المعرفة (صفاتها وحدودها وأنشأها قبل إظهارها) وإدخالها في الوجود العينيّ . وفيه إشعار بأنّ المراد بالمشيّة هنا هو العلم بالأشياء من حيث اتّصافها بالصفات المذكورة .

ص: 84

(وبالإرادة) تحريك الأسباب نحو وجودها العيني .

(ميّز أنفسها) أي أنفس الأشياء بعضها عن بعض بتخصيص تحريك الأسباب نحو وجود بعض دون بعض .

(في ألوانها وصفاتها) من الكيفيّات والحدود وغيرها ، وخصّ كلّ شيء منها بلون مخصوص وصفة معيّنة .

(وبالتقدير قدّر أقواتها وعرّف أوّلها وآخرها) من الزمان المقدّر وجودها فيه ، ويحتمل أن يراد أوّلها من حيث ذواتها ، وآخرها من حيث صفاتها .

(وبالقضاء) وإيجابها بموجباتها .

(أبان للناس أماكنها) المحسوسة والمعقولة .

(ودلّهم عليها) بدلائلها ، فاهتدوا إلى العلم بوجوبها حسبما يوجبه الموجب بعد العلم بالموجب .

(وبالإمضاء) والإيجاد (شرح) أي أوضح تفصيل (عللها) الفاعليّة والمادّيّة والصوريّة والغائيّة (وأبان أمرها) من حقائقها وصورها ، ومصالحها ومنافعها ، وحركاتها وسكناتها وغيرها ، و(ذلك) المذكور من كيفيّة الإيجاد (تقدير العزيز) الغالب القاهر على جميع الممكنات (العليم) المحيط علمه بجميع الكائنات .

وقيل : إنّه عليه السلام أشار بالعليم إلى مرتبة أصل العلم ، وبالعزيز إلى مرتبة المشيَّة والإرادة ، وبإضافة التقدير إليهما إلى تأخّره عن العزّ بالمشيَّة والإرادة اللتين يغلب بهما على جميع الأشياء ، ولا يغلبه فيهما أحد ممّا سواه ، وبتوسّط العزيز بين التقدير والعلم

إلى تأخُّره عن رتبة العلم ، وتقدّم مرتبة العلم عليه كتقدّمه على التقدير ، وأكثر هذا الحلّ اعتمدنا فيه على المحقّق المدقّق الفاضل المازندرانيّ(1) مع تغيير وزيادة .

وقال بعض الفضلاء في حلّ هذا الحديث :

أشار عليه السلام إلى ستّ مراتب بعضها مرتَّب على بعض :

أوّلها : العلم ؛ لأنّه المبدأ الأوّل لجميع الأفعال الاختياريّة ، فإنّ الفاعل المختار لا يصدر عنه فعل إلاّ بعد القصد والإرادة ، ولا يصدر عنه القصد والإرادة إلاّ بعد

ص: 85


1- . شرح المازندراني ، ج 4 ، ص 252 - 257 .

تصوُّر ما يدعوه إلى ذلك الميل ، وتلك الإرادة والتصديق به تصديقاً جازماً أو ظنّاً راجحاً ؛ فالعلم مبدأ مبادئ الأفعال الاختياريّة ، والمراد به هنا هو العلم الأزليّ الذاتيّ الإلهيّ أو القضاء المحفوظ عن التغيير ، فينبعث عنه ما بعده ، وأشار عليه السلام إليه

بقوله : «علم» أي : دائماً من غير تبدُّل .

وثانيها : المشيّة ، والمراد بها مطلق الإرادة ، سواءا بلغت حدّ العزم أم لا ، وقد تنفكُّ المشيَّة فينا من الإرادة الحادثة .

وثالثها : الإرادة ، وهي العزم على الفعل أو الترك بعد تصوّره وتصوّر الغاية المترتّبة عليه من خير أو نفع أو لذّة ، لكنّ اللّه بريء عن أن يفعل لأجل غرض يعود إلى ذاته .

ورابعها : التقدير ، فإنّ الفاعل لفعل جزئيّ من أفراد طبيعة واحدة مشتركة إذا عزم على تكوينه في الخارج ، كما إذا عزم الإنسان على بناء بيت فلابدّ قبل الشروع أن يعيّن مكانه الذي يبني عليه ، وزمانه الذي يشرع فيه ، ومقداره الذي يكون عليه من كبر أو صغر ، أو طول أو عرض ، وشكله ووصفه ولونه وغير ذلك من صفاته وأحواله ، وهذه كلّها داخلة في التقدير .

وخامسها : القضاء ، وهو إيجاب الفعل واقتضاء الفعل من القوّة الفاعلة المباشرة ، فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وهذه القوّة الموجبة لوقوع الفعل منّا هي القوّة التي تقوم في العُضَل والعصب ، من العضو الذي توقع القوّة الفاعلة فيها قبضاً وتشنيجاً وبسطاً وإرخاءا أوّلاً ، فيتبعه حركة العضو ، فيتبعه صورة الفعل في الخارج من كتابة أو بناء أو غيرهما .

والفرق بين هذا الإيجاب وبين وجود الفعل في العين كالفرق بين الميل الذي في المتحرّك وبين حركته ، وقد ينفكّ الميل عن الحركة كما تحسّ يدك من الحجر المسكّن باليد في الهواء .

ومعنى هذا الإيجاب والميل من القوّة المحرّكة أنّه لولا أنّ هناك اتّفاق مانع أو دافع من خارج لوقعتِ الحركة ضرورة ؛ إذ لم يبق من جانب الفاعل شيء منتظر . فقوله عليه السلام : «وقضى» إشارة إلى هذا الاقتضاء والإيجاب الذي ذكرنا أنّه لابدّ من تحقّقه قبل الفعل ، قبليّة بالذات لا بالزمان ، إلاّ أن يدفعه دافع من خارج ، وليس المراد منه القضاء الأزليّ ؛ لأنّه نفس العلم ، ومرتبة العلم قبل المشيّة

ص: 86

والإرادة والتقدير .

وسادسها : نفس الإيجاب(1) ، وهو أيضاً متقدّم على وجود الشيء المقدَّر في الخارج ، ولهذا يعدّه أهل العلم والتحقيق من المراتب السابقة على وجود الممكن في الخارج ، فيقال : أوجب فوجب ، وأوجد فوجد .

ثمّ أراد عليه السلام الإشارة إلى الترتيب الذاتيّ بين هذه الاُمور ؛ لأنّ العطف بالواو سابقاً لم يفد الترتيب ، فقال : «فأمضى ما قضى» ولمّا لم يكن أيضاً صريحاً في الترتيب صرّح بإيراد باء السببيّة ، فقال : «فبعلمه كانت المشيّة ... إلى آخره» ، ثمّ لمّا كانت الباء أيضاً محتملة للتلبُّس والمصاحبة وغيرهما زاد في التصريح ، فقال : «والعلم متقدّم المشيّة»(2) أي عليها .

وقوله : «والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء» أراد به أنّ التقدير واقع على القضاء الجزئيّ بإمضائه وإيقاع مقتضاه في الخارج .

ثمّ بيّن عليه السلام أنّ البداء لا يقع في العلم الأزليّ ، ولا في المشيّة والإرادة الأزليّتين ، ولا بعد تحقّق الفعل بالإمضاء ، بل للّه البداء في عالم التقدير الجزئيّ وفي لوح المحو والإثبات .

ثمّ أراد عليه السلام أن يبيّن أنّ هذه الموجودات الواقعة في الأكوان الماديّة لها ضرب من الوجود والتحقّق في عالم القضاء الإلهيّ قبل عالم التقدير التفصيليّ ، فقال : «فالعلم في المعلوم» ؛ لأنّ العلم - و هو صورة الشيء مجرّدة عن المادّة - نسبته إلى المعلوم به نسبة الوجود إلى الماهيّة الموجودة ، فكلّ علم في معلومه ، بل العلم والمعلوم متَّحدان بالذات ، متغايران بالاعتبار ، وكذلك حكم قوله : «والمشيّة في المنشأ(3) ، والإرادة في المراد قبل قيامه» أي قبل قيام المراد قياماً ساذجيّاً(4) .

وقوله : «والتقدير لهذه المعلومات» يعني أنّ هذه الأنواع الطبيعيّة والطبائع الجسمانيّة التي بيّنّا أنّها موجودة في عالم علمه الأزليّ ومشيّته وإرادته السابقتين

ص: 87


1- . في المصدر : «الإيجاد» .
2- . في الحديث : «متقدّم على المشيّة» وحينئذ فلا حاجة إلى تفسيرها بقوله : «أي عليها» .
3- . في مرآة العقول : «المشاء» .
4- . في المصدر ومرآة العقول : «خارجيّا» .

على تقديرها وإثباتها في الألواح القدريّة والكتب السماويّة ، فإنّ وجودها القدريّ أيضاً قبل وجودها الكونيّ في موادّها السفليَّة عند تمام استعداداتها ، وحصول شرائطها ومعدّاتها ، وإنّما يمكن ذلك بتعاقب الذوات وتكثّر الأشخاص في ما لا يمكن استبقاؤه إلاّ بالنوع دون العدد ، وذلك لا يتصوّر إلاّ في ما يقبل التفصيل والتركيب والتفريق والمزج ، فأشار عليه السلام بتفصيلها إلى كثرة أفرادها الشخصيّة وبتوصيلها إلى تركّبها من العناصر المختلفة .

وأراد بقوله : «عياناً ووقتاً» وجودها الخارجيّ الكونيّ الذي يدركه الحسّ الظاهريّ فيه عياناً .

وقوله عليه السلام : «والقضاء بالإمضاء» يعني أنّ الذي وقع فيه إيجاب ما سبق في عالم التقدير جزئيّاً ، أو في عالم العلم الأزليّ كلّيّاً بإمضائه هو الشيء المبرم الشديد من جملة المفعولات كالجواهر العلويّة والأشخاص الكونيّة وغير ذلك من الاُمور الكونيّة التي يعتنى بوجودها من قبل المبادئ العلويّة .

ثمّ شرح عليه السلام المفعولات التي تقع في عالم الكون التي منها المبرم وغير المبرم القابل للبداء قبل التحقّق ، وللنسخ بعده ، وبيّن أحوالها وأوصافها ، فقال : «ذوات الأجسام» يعني أنّ صورها الكونيّة ذوات أجسام ومقادير طوليّة عرضيّة عمقيّة ، لا كما كانت في العالم العقليّ صوراً مفارقة عن الموادّ والأبعاد .

ثمّ لم يكتف بكونها ذوات أجسام ؛ لأنّ الصورة التي في عالم التقدير العلميّ أيضاً ذوات أبعاد مجرّدة عن الموادّ ، بل قيّدها بالمدركات بالحواسّ من ذي لون وريح ، وهما من الكيفيّات المحسوسة ، وبقوله : «ما دبّ ودرج» أي قبل الحركة ، وهي نفس الانفعالات المادّيّة ، لتخرج بهذه القيود الصور المفارقة ، سواءا كانت عقليّة كلّيّة أو إدراكيّة جزئيّة .

ثمّ أورد لتوضيح ما أفاده من صفة الصور الكونيّة التي في هذا العالم الأسفل أمثلة جزئيّة بقوله : «من إنس وجنٍّ وطيرٍ وسباع» وغير ذلك ممّا يدرك بالحواسّ .

ثمّ كرّ عليه السلام راجعاً إلى ما ذكره سابقاً من أنّ البداء لا يكون إلاّ قبل الوقوع في الكون الخارجيّ ، بل إنّما يقع في عالم التقدير تأكيداً بقوله عليه السلام : «فللّه تبارك وتعالى فيه البَداء» أي في ما من شأنه أن يدرك بالحواسّ ، ولكن عندما لم يوجد عينه الكونيّ ،

ص: 88

فأمّا إذا وقع فلا بداء .

وقوله : «واللّه يفعل ما يشاء» أي يفعل في عالم التكوين ما يشاء في عالم التصوير والتقدير .

ثمّ استأنف كلاماً في توضيح المراتب بقوله : «فبالعلم علم الأشياء» أي علماً عامّاً أزليّاً ذاتيّاً إلهيّاً أو عقليّاً أو قضائيّاً(1) قبل كونها في عالمي التقدير والتكوين ، «وبالمشيّة عرّف صفاتها» الكلّيّة «وحدودها» الذاتيّة وصورها العقليّة ، فإنّ المشيّة متضمّنة للعلم بالمشيء قبل وجوده في الخارج ، فإنّ المشيّة إنشاء للمشيء إنشاءا علميّاً ، كما أنّ الفعل إنشاء له إنشاءا كونيّاً [جسمانيّا(2)] ولذا(3) قال : «أنشأها قبل إظهارها» أي في الخارج على المدارك الحسّيّة «وبالإرادة ميّز أنفسها» ؛ لأنّ الإرادة - كما مرّ - : هي العزم التامّ على الفعل بواسطة صفة مرجّحة ترجّح أصل وجوده أو نحوا من أنحاء وجوده ، فبها يتميّز الشيء في نفسه فضل تميّز لم يكن قبل الإرادة .

«وبالتقدير قدّر أقواتها» ؛ لأنّه قد مرّ أنّ التقدير عبارة عن تصوير الأشياء المعلومة أوّلاً على الوجه العقليّ الكلّي ، جزئيّة مقدّرة بأقدار معيّنة ، متشكّلة بأشكال وهيئات شخصيّة ، مقارنة لأوقات مخصوصة على الوجه الذي يظهر في الخارج قبل إظهارها وإيجادها .

قوله : «وبالقضاء» وهو إيجابه تعالى لوجودها الكونيّ «أبان للناس أماكنها ودلّهم عليها» ؛ لأنّ الأمكنة والجهات والأوضاع ممّا لا يمكن ظهورها على الحواسّ البشريّة إلاّ عند حصولها الخارجيّ في موادّها الكونيّة الوضعيّة ، وذلك لا يكون إلاّ بالإيجاب والإيجاد الذين عبّر عنهما بالقضاء والإمضاء ، كما قال : «وبالإمضاء» وهو إيجادها في الخارج .

«شرح» أي فصّل عالمها الكونيّ(4) ، و«أبان أمرها» أي أظهر وجودها على الحواسّ

ص: 89


1- . في المصدر و مرآة العقول : «أو عقليّا وقضائيّا» .
2- . أثبتناها من المصدر .
3- . في نسخ الكتاب ومطبوعه : «وكذا قال» ، وما اُثبت من المصدر .
4- . في «ر» : «عللها» ، وعليه فالأنسب : «عللها الكونيّة» .

الظاهرة ، «وذلك» الشرح والتفصيل والإبانة والإظهار صورة «تقدير» اللّه «العزيز» الذي علم الأشياء قبل تقديرها في لوح القدر ، وقبل تكوينها في مادّة الكون .(1) انتهى .

ويحتمل أن تكون المراتب المذكورة إشارة إلى مراتب تقدير الأشياء في الألواح السماويّة ، أو اختلاف مراتب ترتّب أسبابها إلى وقت حصولها ، ويكون قوله : «قبل تفصيلها وتوصيلها» أي في لوح المحو والإثبات أو في الخارج .

وقوله عليه السلام : «فإذا وقع العين المفهوم المدرك» أي فُصّل وميّز في اللوح أو اُوجد في الخارج .

ولعلّ تلك الاُمور عبارة عن اختلاف مراتب تقديرها في لوح المحو والإثبات ، وقد جعلها اللّه من أسباب وجود الشيء وشرائطه ؛ لمصالح - كما مرّ بيانها - فالمشيّة : كتابة وجود زيد وبعض صفاته - مثلاً - مجملاً ، والإرادة : كتابة العزم عليه مبيّناً مع كتابة بعض صفاته أيضاً ، والتقدير : تفصيل بعض صفاته وأحواله ، لكن مع نوع من الإجمال أيضاً ، والقضاء : تفصيل جميع الأحوال ، وهو مقارن للإمضاء ، أي الفعل والإيجاد ، والعلم بجميع تلك الاُمور أزليّ قديم .

فقوله عليه السلام : «وبالمشيّة عرّف» على صيغة التفعيل ، وشرح العلل كناية عن الإيجاد ، ونستغفر اللّه من المقال ، ونكل العلم إلى اللّه المتعال ، ونبيّه وآله خير آل .

ص: 90


1- . ما ذكره هنا عن بعض الفضلاء في شرح الحديث هو لصدر الدين الشيرازي ، راجع : شرح اُصول الكافي ، ج 4 ، ص 219 - 227 . وقد لخّصه المجلسي في مرآة العقول ، ج 2 ، ص 143 - 149 . والمصنّف نقل نفس ما في مرآة العقول .

الحدیث السابع:[ خلق اللّه الأشياء بالمشيّة ، والمشيّة بنفسها ]

ما رويته بالأسانيد المتقدّمة عن الشيخين الجليلين العلمين النبيلين ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكلينيّ ، عن عليّ بن إبراهيم ، ورئيس المحدّثين محمّد بن عليّ بن الحسين الصدوق ، عن أبيه ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بن أبي عمير ، عن عمر بن اُذينة ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «خلق اللّه المشيّة بنفسها ، ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة»(1) .

تنقيح :

هذا الحديث الشريف يحتمل وجوهاً من المعاني :

الأوّل : أنّ المراد بالمشيّة هي إرادة اللّه المتجدّدة التي هي نفس أفعاله المتجدّدة الكائنة ، كما دلّت عليه الأخبار الكثيرة أنّ الإرادة من صفات الفعل ، وأنّها عبارة عن نفس الإيجاد ؛ فإرادته تعالى لكلّ حادث بالمعنى الإضافيّ ترجع إلى إيجاده ، وبمعنى المراديّة ترجع إلى وجوده .

ونحن إذا فعلنا شيئاً بقدرتنا واختيارنا ، فأردناه أوّلاً ثمّ فعلناه بسبب الإرادة ، فالإرادة نشأت من أنفسنا بذاتها لا بإرادة اُخرى ، وإلاّ لتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية له ، فالإرادة مرادة لذاتها ، والفعل مراد بالإرادة ، وكذا الشهوة في الحيوان مشتهاة لذاتها

لذيذة بنفسها ، وسائر الأشياء مرغوبة بالشهوة .

فعلى هذا المثال حال مشيّة اللّه المخلوقة ، وهي نفس وجودات الأشياء ، فإنّ

ص: 91


1- . الكافي ، ج 1، ص 110، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل ، ح 4 ؛ التوحيد ، ص 147 و148 ، ح 19 ؛ بحار الأنوار ، ج 54 ، ص 56 .

الوجود خير ومؤثّر لذاته ، ومجعول بنفسه ، والأشياء بالوجود موجودة ، والوجود مشيء بالذات ، والأشياء مشيئة بالوجود ، وكما أنّ الوجود حقيقة واحدة متفاوتة في الشدّة والضعف والكمال والنقص ، فكذا الخيريّة والمشيئيّة . وليس الخير المحض الذي لا يشوبه شرّ إلاّ الوجود البحت الذي لا يمازجه عدم ونقص ، وهو ذات الباري جلّ مجده ، فهو المراد الحقيقيّ . هذا خلاصة ما ذكره بعض المحقّقين .(1)

الثاني : ما ذكره بعض الأفاضل ، وهو:

أنّ للمشيّة معنيين :

أحدهما : متعلّقٌ بالشائيّ ، وهي صفة كماليّة قديمة ، هي نفس ذاته سبحانه ، وهي كون ذاته سبحانه بحيث يختار ما هو الخير والصلاح .

والثاني : يتعلّق بالمشيء ، وهو حادث بحدوث المخلوقات ، لا تتخلّف المخلوقات عنه ، وهو إيجاده سبحانه إيّاها بحسب اختياره ، وليست صفة زائدة على ذاته عزّ وجلّ وعلى المخلوقات ، بل هي نسبة بينهما تحدث بحدوث المخلوقات لفرعيّتها على المنتسبين معاً .

فنقول : إنّه لمّا كان ههنا مظنّة شبهة هي : أنّه إن كان اللّه عزّ وجلّ خلق الأشياء بالمشيّة فبم خلق المشيّة ، أبمشيّة اُخرى ؟ فيلزم أن يكون قبل مشيّته مشيّة إلى ما لا نهاية له ، فأفاد الإمام عليه السلام أنّ الأشياء مخلوقة بالمشيّة ، وأمّا المشيّة نفسها فلا يحتاج خلقها إلى مشيّة اُخرى ، بل هي مخلوقة بنفسها ؛ لأنّها نسبة وإضافة بين الشائيّ والمشيء ، تتحصّل بوجوديهما العينيّ والعلميّ ، ولذا أضاف خلقها إلى اللّه سبحانه ؛ لأنّ كلا الوجودين له وفيه ومنه .

وفي قوله : «بنفسها» دون أن يقول بنفسه إشارة لطيفة إلى ذلك ، نظير ذلك ما يقال : إنّ الأشياء إنّما توجد بالوجود ، فأمّا الوجود بنفسه فلا يفتقر إلى وجود آخر ، بل إنّما يوجد بنفسه .(2)

ص: 92


1- . شرح اُصول الكافي لصدر المتألّهين ، ج 3 ، ص 226 - 227 .
2- . الوافي ، ج 1 ، ص 458 ، ذيل حديث 371 .

الثالث : ما ذكره السيّد السند العماد ، المحقّق المدقّق الداماد ، وهو : أنّ المراد بالمشيّة هنا : مشيّة العباد لأفعالهم الاختياريّة ؛ لتقدُّسه سبحانه عن مشيّة مخلوقة زائدة على ذاته عزّ وجلّ ، وبالأشياء : أفاعيلهم المترتّب وجودها على تلك المشيّة ، وبذلك

تنحلّ شبهة ربّما اُوردت هنا ، وهي أنّه لو كانت أفعال العباد مسبوقة بإرادتهم لكانت الإرادة مسبوقة بإرادة اُخرى ، وتسلسلت الإرادات لا إلى نهاية .(1)

الرابع : أن يكون خلق المشيّة بنفسها كناية عن كونها لازمة لذاته تعالى غير متوقّفة على تعلّق إرادة اُخرى بها ، فتكون نسبة الخلق إليها كناية عن تحقّقها بنفسها ، منتزعة عن ذاته تعالى بلا توقّف على مشيّة اُخرى ، أو أنّه كناية عن أنّه اقتضى علمه الكامل وحكمته الشاملة كون جميع الأشياء حاصلة بالعلم بالأصلح ، فالمعنى أنّه لمّا اقتضى كمال ذاته أن لا يصدر عنه شيء إلاّ على الوجه الأصلح والأكمل ، فلذا لا يصدر شيء عنه تعالى إلاّ بإرادته المقتضية لذلك .

الخامس : أن لا يكون المراد بالمشيّة الإرادة ، بل إحدى مراتب التقديرات التي اقتضت الحكمة جعلها من أسباب وجود الشيء ، كالتقدير في اللوح - مثلاً - والإثبات فيه ، فإنّ اللوح وما اُثبت فيه لم يحصل بتقدير آخر في لوح سوى ذلك اللوح ، وإنّما وجد سائر الأشياء بما قدّر في ذلك اللوح ، فيكون الخلق حينئذٍ بمعنى التقدير ، واللّه العالم .(2)

ص: 93


1- . التعليقة على كتاب الكافي ، ص 248 .
2- . الوجوه الخمسة في شرح الحديث وردت في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 145 ؛ و مرآة العقول ، ج 2 ، ص 18 - 20 .

الحديث الثامن [ نسبة التردّد إلى اللّه تعالى وشبهة الاتّحاد والتجسيم ]

اشارة

ما رويناه بأسانيدنا السابقة عن ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب في باب من آذى المسلمين من كتاب الإيمان والكفر من الكافي عن العدّة ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن أبي سعيد القمّاط ، عن أبان بن تغلب ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «لمّا اُسري بالنبيّ صلى الله عليه و آله ، قال : يا ربّ ، ما حال المؤمن عندك ؟

قال : يا محمّد ، من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، وما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في وفاة المؤمن ؛ يكره الموت وأكره مساءته ، وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلاّ الغنى ، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك ، وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلاّ الفقر ، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك ، وما يتقرّب إليّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه ، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة فأحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ؛ إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته» .(1)

وروى خبرين آخرين بهذا المعنى(2) .

والإشكال في هذا الخبر في موضعين :

الأوّل : في نسبة التردّد إليه تعالى ، فإنّه صفة الجاهل بالعواقب ، واللّه سبحانه منزّه عنه .

ص: 94


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 352 ، باب من آذى المسلمين واحتقرهم ، ح 8 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 2 ، ص 428 ، ح 2549 . وفيه إلى قوله : «وأكره مساءته» .
2- . الكافي ، ج 2، ص 352 و 354 ، باب من آذى المسلمين واحتقرهم ، ح 7 و 11 .

الثاني : قوله : «كنت سمعه وبصره» ممّا ظاهره الاتّحاد والتجسيم ؛ فالكلام فيه يقع في مقامين :

المقام الأوّل :

في الجواب عن الإشكال الأوّل ، وقد ذكر العلماء له وجوهاً :

الأوّل : أنّ في الكلام إضماراً ، والتقدير لو جاز عليّ التردّد ما تردّدت في شيء كتردّدي في وفاة المؤمن .

الثاني : أنّه لمّا جرت العادة أن يتردّد الشخص في مساءة من يحترمه ويوقّره كالصديق الوفيّ والخلّ الصفيّ ، وأن لا يتردّد في مساءة من ليس له عنده قدر ولا حرمة كالحيّة والعقرب ، بل إذا خطر بالبال مساءته أوقعها من غير تردّد ولا تأمّل، صحّ أن يعبّر بالتأمّل والتردّد في مساءة الشخص الذي لزم توقيره واحترامه، وبعدمهما عن إذلاله واحتقاره .

وقوله سبحانه : (ما تردّدت في شيء كتردّدي في وفاة المؤمن) المراد به - واللّه أعلم - ليس لشيء من مخلوقاتي عندي قدر وحرمة كقدر عبدي المؤمن وحرمته ؛ فالكلام من قبيل الاستعارة التمثيليّة .

الثالث : أنّه قد روي من طرق الخاصّة والعامّة أنّ اللّه سبحانه يظهر للعبد عند الاحتضار من اللطف والكرامة والبشارة بالجنّة ما يزيل به كراهية الموت ويوجب رغبته في الانتقال إلى دار القرار ، فيقلّ تأذّيه ويصير راضياً بالموت ، راغباً في حصوله ، فأشبهت هذه المعاملة من يريد أن يؤلم حبيبه لما يتعقّبه من نفع عظيم ، فهو يتردّد في كيفيّة وصول ذلك الألم إليه على وجه يقلّ تأذّيه ، فلا يزال يظهر له ما يرغّبه وما يتعقّبه من اللذّة الجسيمة والراحة العظيمة إلى أن يتلقّاه بالقبول ويعدّه من الغنائم المؤدّية إلى إدراك المأمول .(1)

ويؤيّد هذا المعنى ما رواه في الكافي مسنداً عن الصادق عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «قال

ص: 95


1- . وردت هذه الوجوه الثلاثة في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 284 نقلاً عن الشيخ البهائي . وانظر مرآة العقول ، ج 10 ، ص 384 - 385 .

اللّه عزّ وجلّ : من استذلّ عبدي المؤمن فقد بارزني بالمحاربة ، وما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في عبدي المؤمن ؛ إنّي اُحبّ لقاه فيكره الموت فأصرفه عنه»(1) بناءا على رجوع الضمير في «أصرفه» إلى إكراه الموت ، بمعنى أنّي اُظهر له من اللطف والكرامة ما يزيل عنه كراهة الموت .

الرابع : أنّ التردّد إنّما هو في الأسباب ، بمعنى أنّ اللّه سبحانه يظهر للمؤمن أسبابا يغلب على ظنّه دنوّ الوفاة ليصير إلى الاستعداد إلى الآخرة استعداداً تامّاً ، وينشط إلى العمل ، ثمّ يظهر له أسباباً توجب البسط في الأمل ، فيرجع إلى عمارة دنياه بما لابدّ منه ، ولمّا كان ذلك بصورة التردّد اُطلق عليه ذلك استعارة ؛ إذ كان العبد المتعلّق بتلك الأسباب بصورة المتردّد ، وأسند إليه التردّد تعالى حيث إنّه فاعل التردّد في العبد ، فالتردّد حينئذٍ في اختلاف الأحوال لا في مقدار الآجال .

الخامس : أنّه تعالى لا يزال يورد على المؤمن أسباب حبّ الموت حالاً بعد حال ليؤثر المؤمن الموت ، فيقبض مريداً له ، وإيراد تلك الأحوال المراد به غاياتها من غير تعجيل بالغايات من القادر على التعجيل يكون تردّداً ، أمّا بالنسبة إلى قادريّة المخلوقين(2) فهو بصورة التردّد وإن لم يكن ثمّة تردّد .

ويؤيّده ما روي أنّ إبراهيم عليه السلام لمّا أتاه ملك الموت لقبض روحه وكره ذلك أخّره اللّه تعالى إلى أن رأى شيخاً يأكل ولعابه يسيل على لحيته ، فاستفظع ذلك وأحبّ الموت . وقريب منه ما روي عن موسى عليه السلام .(3)

وفيه وفي ما قبله : أنّ غايتهما توجيه التردّد في الوفاة فقط ، وظاهر الحديث أنّ له سبحانه في أفعاله تردّدا ، سيّما في قبض المؤمن ، فلم يرتفع أصل الإشكال .

السادس : أنّ المعنى : ما تردّد عبدي المؤمن في شيء أنا فاعله كتردّده في قبض روحه ، فإنّه متردّد بين إرادته للبقاء وإرادتي للموت ، فأنا ألطف به واُبشّره حتّى أصرفه

ص: 96


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 354 ، باب من آذى المسلمين واحتقرهم ، ح 11 ؛ وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 268 ، ح 16276 . وفيه إلى قوله : «بارزني بالمحاربة» .
2- . كذا في النسخ والمطبوع .
3- . أورد المجلسي رحمه اللّه الوجه الرابع والخامس في بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 17 .

عن كراهة الموت .

وأضاف سبحانه نفس تردّد وليّه إلى ذاته المقدّسة ؛ كرامةً وتعظيماً ، كما يقول غداً يوم القيامة لبعض من يعاتبه من عباده المؤمنين على تقصيره عن تعهّد وليّ من أوليائه : عبدي ، مرضتُ فلم تعدني ، فيقول : كيف تمرض وأنت ربّ العالمين ؟ فيقول : مرض عبدي فلان فلم تعده ولو عدته لوجدتني عنده(1) ، فكما أضاف مرض عبده إلى ذاته المقدّسة عن نعوت خلقه ؛ إعظاماً لقدر عبده وتنويهاً لكرامة منزلته ، كذلك أضاف التردّد إلى ذاته .

ويؤيّده ما ورد في تفسير قوله تعالى : « وَ لاَتَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ »(2) أنّ المراد من قوله : «يسبّوا اللّه» يسبّوا وليّه .(3)

السابع : أنّ فعله تعالى لمّا كان غير مسبوق بمادّة ومدّة ، وليس بتدريجيّ الحصول ، بل آنيّ الوجود ، كما قال تعالى : « إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ »(4) ، فأشار بقوله : «ما تردّدت في شيء» إلى آخره ، إلى أنّ أفعاله تعالى ليس فيها تردّد بمعنى أن يفعلها في الحال أو في الاستقبال ، مثل هذا الفعل الذي هو قبض روح عبده المؤمن ، فإنّ فيه التراخي ، وليس مثل سائر الأفعال ، أي ليس في كلّ أفعاله تردّد ملزوم للتراخي في الفعل إلاّ في قبض روح عبده المؤمن ؛ إذ فيه التراخي ، فقد ذكر الملزوم وأراد اللازم .

ومعنى التشبيه راجع إلى الاستثناء ، فقد شبّه التراخي في الأفعال بالتراخي في قبض روح عبده المؤمن ، وليس المعنى أنّ التراخي في سائر الأفعال ليس مثل هذا التراخي ، بل التراخي فيه أقوى . وعلّل تعالى التراخي في قبض روح عبده المؤمن بكراهة الموت وكراهته تعالى مساءته بحصول موته دفعة .

ويؤيّده ما رواه الشيخ في الأمالي بإسناده عن الصادق عليه السلام عن عليّ بن الحسين عليه السلام

ص: 97


1- . وسائل الشيعة ، ج 2 ، ص 417 - 418 ، ح 2518 و 2519 .
2- . الأنعام 6 : 108
3- . تفسير الصافي ، ج 2 ، ص 147 .
4- . يس 36 : 82 .

قال : «قال اللّه عزّ وجلّ : ما من شيء أتردّد عنده تردّدي عند قبض روح عبدي المؤمن ؛ يكره الموت وأكره مساءته ، فإذا حضر أجله الذي لا تأخّر فيه بعثت له ريحانتين من الجنّة ، تُسمّى إحداهما : المسخية ، والاُخرى : المنسية ؛ فأمّا المسخية فتسخيه عن ماله ، وأمّا المنسية فتنسيه أمر الدنيا»(1) .

وفيه نظر أشرنا إليه .

الثامن : أنّ «تردّدت» في اللغة بمعنى : ردّدت مثل قولهم : ذكرت فتذكّرت ، ودبّرت فتدبّرت ، فكأنّه يقول : ما ردّدت ملائكتي ورسلي في أمر حكمت بفعله مثل ما ردّدتهم عند قبض روح عبدي المؤمن ، فاُردّدهم في إعلامي بقبضي له وتبشيره بلقائي وما أعددت له عندي ، كما ردّدت ملك الموت إلى إبراهيم عليه السلام وموسى عليه السلام في القضيّتين المشهورتين ، إلى أن اختارا الموت ، فكذلك خواصّ المؤمنين من الأولياء يردّدهم إليهم ليصلوا إلى الموت ويحبّوا لقاء المولى .

التاسع : أنّ المعنى : ما ردّدت العلل والأمراض والبرّ واللطف والرفق كما ردّدتها في عبدي المؤمن حتّى يرى بالبرّ عطفي وكرمي ، فيميل إلى لقائي طمعاً ، وبالبلاء والعلل ، فيبرم بالدنيا ولا يكره الخروج منها .

العاشر : أن يراد بذلك الإشارة إلى ما في لوح المحو والإثبات من المعلومات المنوطة بالأسباب والشروط نفياً وإثباتاً ، فإنّه أشبه شيء بالتردّد ، فإنّه متى كُتب أنّ عمر زيد - مثلاً - خمسون سنة إن وصل رحمه ، وثلاثون سنة إن قطعه ، فهو في معنى التردّد في قبض روحه بعد الخمسين أو الثلاثين ، وهكذا سائر المعلومات المكتوبة فيه المعلّقة على الشروط نفياً وإثباتاً ، فيكون المعنى : أنّه لم يقع منّي في لوح المحو والإثبات محو وإثبات أزيد ممّا وقع بالنسبة إلى قبض روح عبدي المؤمن ، وقد تقدّم ما يؤيّد هذا المطلب في تحقيق البداء .(2)

ص: 98


1- . الأمالي للطوسي ، ص 414 ، ص 932 .
2- . ذكر المجلسي وجوها ستّة من هذه العشرة في حلّ الإشكال عن الحديث ، ثلاثة منها من الخاصّة ، وثلاثة اُخرى من العامّة . بحار الأنوار ، ج 64 ، ص 155 ، وراجع : شرح اُصول الكافي ، ج 9 ، ص 193 . وقال الحرّ العامليّ بعد نقل الحديث : أقول : التردّد مجاز كناية عن التأخير . وسائل الشيعة ، ج 2 ص 428 ، ذيل الحديث 2549 . ولعلّه يرجع إلى بعض الوجوه السابقة .

المقام الثاني :

في الجواب عن الإشكال الثاني ، وقد ذكر في دفعه وجوه :

الأوّل : للبهائيّ رحمه الله في الأربعين ، قال :

إنّ لأصحاب القلوب في هذا المقام كلمات سنيَّة وإشارات سريّة وتلويحات ذوقيّة ، تعطّر مشامّ الأرواح ، وتحيي رميم الأشباح ، لا يهتدي إلى معناها ، ولا يطّلع على مغزاها إلاّ الذي تعب في الرياضات ، وعنّى نفسه بالمجاهدات حتّى ذاق مشربهم ، وعرف مطلبهم ، وأمّا من لم يفهم تلك الرموز ولم يهتد إلى تلك الكنوز - لعكوفه على الحظوظ الدنيَّة وانهماكه في اللذّات البدنيّة - فهو عند سماع تلك الكلمات على خطر عظيم من التردّي في غياهب الإلحاد ، والوقوع في مهاوي الحلول والاتّحاد ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً .

ونحن نتكلّم في هذا المقام بما يسهل تناوله على الأفهام ، فنقول : هذا مبالغة في القرب ، وبيان لاستيلاء سلطان المحبّة على ظاهر العبد وباطنه وسرّه وعلانيته ، فالمراد - واللّه أعلم - أنّي إذا أحببت عبدي جذبته إلى محلّ الاُنس وصرفته إلى عالم

القدس ، وصيّرت فكره مستغرقاً في أسرار الملكوت ، وحواسّه مقصورة على اجتلاء أنوار الجبروت ، فتثبت حينئذٍ قدمه ، ويمتزج بالمحبّة لحمه ودمه ، إلى أن يغيب عن نفسه ، ويذهل عن حسّه ، فتتلاشى الأغيار في نظره حتّى أكون بمنزلة سمعه وبصره ، كما قال من قال :

جنوني فيك لا يخفى *** وناري فيك لا تخبو

فأنت السمع والأبصا *** ر والأركان والقلب

انتهى .(1)

الثاني : للفاضل المدقّق المازندرانيّ ، قال :

إنّ الذي يخطر بالبال على سبيل الاحتمال أنّي إذا أحببته كنت كسمعه وبصره

ص: 99


1- . الأربعين ، ص 415 - 416 مع اختلاف يسير .

في سرعة الإجابة ، وقوله : «إن دعاني أجبته» إشارة إلى وجه التشبيه ، يعني أنّي اُجيبه سريعاً إن دعاني إلى مقاصده ، كما يجيبه سمعه وبصره عند إرادته سماع المسموعات وإبصار المبصرات وهكذا ، وهذا قول الناس المعروف بينهم : فلان نور عيني وبصري ويدي وعضدي ، وإنّما يريدون التشبيه في معنى من المعاني المناسبة للمقام ، ويسمّون هذا الإيهام تشبيهاً بليغاً بحذف الأداة ، مثل : زيد أسد .(1)

الثالث : أنّ معنى : «كنت سمعه الذي يسمع» إلى آخره ، أنّ العبد إذا ائتمر بالأوامر الشرعيّة وانزجر عن النواهي المرعيّة كان بمنزلة من لا يسمع شيئاً إلاّ ما أمره ربُّه بسماعه ، ولا يبصر شيئاً إلاّ ما أمره ربّه بإبصاره ، ولا يأخذ بيده شيئاً إلاّ ما أمره ربّه بأخذه ، فكان العبد كالشخص المقرّب عند ملك عظيم الشأن يكون فعله فعل الملك من غاية قربه وإطاعته للّه عزّ وجلّ(2) ، وهو تعالى منزّه عن السمع والبصر واليد والحلول والاتّحاد ، فإذا كان العبد راسخاً في الإطاعة للّه تعالى يكون سمع العبد كأنّه سمع اللّه ، ومرئيّه كأنّه مرئيّ اللّه ، وهكذا لغاية امتثاله وانزجاره ، كما يقال : إنّ الأمير قتل زيداً أو أهان عمراً أو ضرب بكراً ، والفاعل غيره ؛ تشبيهاً لفعله بفعله .

خاتمة : [في الجمع بين كراهة الموت وحبّ لقاء اللّه]

ظاهر الحديث أنّ المؤمن الخالص يكره الموت مع أنّه قد روي مستفيضاً : «من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقاءه ، ومن كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه» .(3)

وعن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال : «واللّه ، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه» .(4)

ص: 100


1- . شرح المازندراني ، ج 9 ، ص 427 .
2- . كذا ، والمقصود أنّ العبد أيضا من غاية إطاعته للّه يكون فعله فعل اللّه .
3- . الكافي ، ج 3 ، ص 134 ، باب ما يعاين المؤمن والكافر ، ح 12 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 2 ، ص 428 ، ح 2550 .
4- . بحار الأنوار ، ج 28 ، ص 234 .

وقال عليه السلام - لمّا ضربه اللعين - : «فزت وربّ الكعبة» .(1)

ويمكن الجمع بأنّ حبّ لقاء اللّه غير مقيّد بوقت ، فيحمل على حال الاحتضار ، كما روي أنّه لمّا قال عليه السلام ذلك قيل له : إنّا نكره الموت ، فقال : «ليس ذلك ، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان اللّه وكرامته ، فليس شيء أحبّ إليه ممّا أمامه ، فأحبّ لقاء اللّه وأحبّ اللّه لقاءه ، وأنّ الكافر إذا حضره الموت بشّر بعذاب اللّه ، فليس شيء أكره إليه ممّا أمامه ، كره لقاء اللّه وكره اللّه لقاءه» .

أو يقال : إنّ الموت ليس نفس لقاء اللّه ، وكراهته من حيث الألم الحاصل منه لا يستلزم كراهة لقاء اللّه .

وأيضاً فحبّ اللّه سبحانه يوجب الاستعداد التامّ للقائه ولكثرة الأعمال الصالحة ، وهو يستلزم كراهة الموت القاطع لها .(2)

وأيضاً كراهة المؤمن الموت من حيث الخوف من الذنوب والتبعات ، وهو لا ينافي حبّ لقاء اللّه من حيث أنّه لقاؤُه .

ص: 101


1- . نهج البلاغة ، ص 52 ، الخطبة 5 ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 1 ، ص 213 ؛ بحارالأنوار ، ج 28 ، ص 234 ، ح 20 .
2- . راجع : مرآة العقول ، ج 10 ، ص 387 . وقد حكي الوجه الأوّل للجمع عن الشهيد في الذكرى .

الحديث التاسع :[ حديث إدخال الدنيا فيالبيضة وشبهة عدم مطابقة جواب الإمام للسؤال ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن إسحاق الخفّاف ، قال : إنّ عبداللّه الديصانيّ سأل هشام بن الحكم ، فقال : ألك ربّ ؟ قال : بلى . قال : أقادر هو ؟ قال : نعم ، قادر قاهر . قال : يقدر أن يدخل الدنيا كلّها في البيضة ؛ لا تكبر البيضة ، ولا تصغر الدنيا ؟ قال هشام : النظرة . فقال له : قد أنظرتك حولاً ، ثمّ خرج عنه . فركب هشام إلى أبي عبداللّه عليه السلام فاستأذن عليه ، فأذن له ، فقال له : يابن رسول اللّه ، أتاني عبداللّه الديصانيّ بمسألة ليس المعوّل فيها إلاّ على اللّه وعليك .

فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «عمّاذا سألك» ؟ فقال : قال لي كيت وكيت . فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «يا هشام ، كم حواسّك ؟» قال : خمس . قال : «أيّها أصغر ؟» قال : الناظر . قال : «وكم قَدر الناظر ؟» قال : مثل العدسة أو أقلّ منها . فقال له : «يا هشام ، فانظر أمامك وفوقك ، وأخبرني بماترى» . فقال : أرى سماءا وأرضاً ودوراً وقصوراً وبراري وجبالاً وأنهاراً .

فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ الذي قدر أن يُدخل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادرٌ على أن يُدخل الدنيا كلّها البيضة ، لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة» .

فأكبّ هشام عليه وقبّل يديه ورأسه ورجليه ، وقال : حسبي يابن رسول اللّه ، وانصرف إلى منزله وغدا عليه الديصانيّ ، فقال له : يا هشام ، إنّي جئتك مسلّماً ولم أجئك متقاضياً

للجواب .

فقال له هشام : إن كنت جئت متقاضياً فهاك الجواب ، فخرج الديصانيّ عنه حتّى أتى باب جعفر بن محمّد - أبي عبداللّه عليه السلام - فاستأذن عليه ، فأذن له ، فلمّا قعد قال له : يا جعفر بن محمّد ، دلّني على معبودي .

فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «ما اسمك ؟»

ص: 102

فخرج عنه ولم يخبره باسمه ، فقال له أصحابه : كيف لم تخبره باسمك ؟

قال : لو كنت قلت له «عبداللّه» كان يقول : من هذا الذي أنت له عبد ؟!

فقالوا له : عُد إليه وقل له : يدلّك على معبودك ولا يسألك عن اسمك ، فرجع إليه فقال له : يا جعفر بن محمّد ، دلّني على معبودي ولا تسألني عن اسمي .

فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «اجلس» ، وإذا غلام له صغير وفي كفّه بيضة يلعب بها ، فقال له أبو عبداللّه : «ناولني يا غلام البيضة» ، فناوله إيّاها ، فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «يا ديصانيّ ، هذا حصن مكنون ، له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة ، وفضّة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة ، ولا الفضّه الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها ، ولا دخل فيها داخل مفسد فيخبر عن فسادها ، لا يدرى أللذّكر خُلقت أم للاُنثى ، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لها مدبّراً ؟» .

قال : فأطرق مليّاً ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّك إمام ، وحجّة من اللّه على خلقه ، وأنا تائب ممّا كنت فيه(1) .

إيضاح :

(الديصانيّ) - بالتحريك - من داص يديص ديصاناً ، إذا زاغ ومال ، ومعناه الملحد .

و(بلى) وقعت جواباً للمثبت ؛ لأنّ السائل كان منكراً لوجود الصانع ، فكأنّه نفى .

و(النَظِرة) بفتح النون وكسر الظاء : الإمهال والتأخير ، أي : أطلب منك النظرة .

و(كيت وكيت) بضمّ التاء وكسرها أي : كذا وكذا ، والتاء فيهما هاء في الأصل .

و(أكبّ عليه) أي : أقبل إليه أو ألقى نفسه عليه .

و(غدا) أي : جاءه غدوة في أوّل النهار .

و(هاك) اسم فعل بمعنى : خُذ .

و(المكنون) المستور ما فيه أو المصون من جميع جوانبه ، لا فرجة فيه ولا باب له .

ص: 103


1- . الكافي ، ج 1، ص 79 - 80 ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ، ح 4 ؛ التوحيد ، ص 122 - 124 ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 4، ص 140 - 141 ، ح 7 ؛ ج 58 ، ص 252 ، صدر ح 5 .

واعتبر عليه السلام الميعان في الذهب والذوبان في الفضّة نظراً إلى المعنى الحقيقيّ ؛ لأنّ الذهب ألين من الفضّة ، والفضّة أجمد وأصلب .

والإشكال في هذا الحديث الشريف من حيث عدم مطابقة الجواب للسؤال ظاهر ، ويمكن توجيهه بوجوه :

الأوّل : أن يكون غرض السائل أنّه هل يجوز أن يحصل كبير في صغير بنحو من أنحاء التحقّق ؟ فأجاب عليه السلام بأنّ له نحواً من أنحاء التحقّق ، وهو دخول الصورة المحسوسة المتقدّرة بالمقدار الكبير بنحو الوجود الظلّيّ في الحاسّة ، أي مادّتها الموصوفة بالمقدار الصغير ، والقرينة على أنّه كان مراده المعنى الأعمّ أنّه قنع بالجواب ولم يراجع فيه باعتراض .

الثاني : أن يكون المعنى : أنّ الذي يقدر أن يدخل ما تراه العدسة لا يصحّ أن ينسب إلى العجز ، ولا يتوهّم فيه أنّه غير قادر على شيء أصلاً ، وعدم قدرته على ما ذكرت ليس من تلقاء قدرته لقصور فيها ، بل إنّما ذلك من نقصان ما فرضته ، حيث إنّه محال ليس له حظّ من الشيئيّة والإمكان ؛ فالغرض من ذلك بيان كمال قدرته تعالى حتّى لا يتوهّم فيه عجز .

الثالث : أنّ المعنى : أنّ ما ذكرت محال ، وما يتصوّر من ذلك إنّما هو بحسب الوجود الانطباعيّ ، وقد فعله ، فما كان من السؤال له محمل ممكن فهو تعالى قادر عليه ، وما أردت من ظاهره فهو محال لا يصلح لتعلّق القدرة به .

الرابع - وهو الأظهر - : أنّ السائل لمّا كان قاصراً عن فهم ما هو الحقّ ، معانداً ، فلو أجابه عليه السلام صريحاً بعدم تعلّق القدرة به لتشبّث بذلك ولجّ وعاند ، فأجاب عليه السلام بجواب متشابه ، له وجهان ؛ لعلمه عليه السلام بأنّه لا يفرّق بين الوجود العينيّ والانطباعيّ ، ولذا قنع بذلك ورجع ، كما أنّه عليه السلام لمّا علم أنّه عاجز عن الجواب عن سؤال الاسم أورده عليه إفحاماً له ، وإظهاراً لعجزه عن فهم الاُمور الظاهرة .

ولذا أجابوا عليهم السلام غيره من السائلين بالحقّ الصريح ، كما رواه الصدوق في التوحيد

ص: 104

بسند صحيح عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ إبليس قال لعيسى بن مريم : أيقدر ربّك على أن يُدخل الأرض في بيضة لا تصغر الأرض ولا تكبر البيضة ؟ فقال عيسى : ويلك ، إنّ اللّه لا يوصف بعجز ، ومن أقدر ممّن يلطّف الأرض ويعظّم البيضة ؟!» .(1)

وروي بسند آخر عنه عليه السلام قال : «قيل لأميرالمؤمنين عليه السلام : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا وتكبر البيضة ؟ قال عليه السلام : إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يُنسب إلى العجز ، والذي سألتني لا يكون» .(2)

وفي خبرٍ آخر عنه عليه السلام : «ويلك ، إنّ اللّه لا يوصف بالعجز ، ومن أقدر ممّن يلطّف الأرض ويعظّم البيضة ؟!»(3)

فقوله عليه السلام : «فمن أقدر ممّن يلطّف الأرض» إشارة إلى أنّ المتصوَّر المحصّل المعنى من دخول الكبير في الصغير : صيرورة الكبير أصغر أو بالعكس ، وهذا المتصوّر مقدور له سبحانه ، وهو قادر على كلّ ما لا يستحيل .

والحاصل : أنّه قادر على كلّ شيء له معنى وماهيّة ، والمستحيل لا ماهيّة له ولا معنى .

ثمّ ظاهر الحديث يدلّ على أنّ الإبصار بالانطباع لا بخروج الشعاع كما هو أحد القولين ، ويأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى في محلّ أليَق .(4)

ص: 105


1- . التوحيد ، ص 117 ، ح 5 .
2- . بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 143 ، ح 10 .
3- . التوحيد ، ص 130 ، ح 10 .
4- . أورد المجلسي رحمة اللّه الوجوه الأربعة في حلّ الإشكال في مرآة العقول ، ج 1 ص 256 - 258 .

الحديث العاشر: [ في رؤية اللّه تعالى ]

اشارة

ما رويناه بأسانيدنا السالفة عن الشيخين الجليلين النبيلين ، رئيس المحدّثين الصدوق في كتاب التوحيد عن عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق ، عن محمّد بن أبي عبداللّه الكوفيّ ، وثقة الإسلام في الكافي ، عنه ، عن محمّد بن إسماعيل البرمكيّ ، عن الحسين بن الحسن ، عن بكر بن صالح ، عن الحسين بن سعيد ، عن إبراهيم بن محمّد الخزّاز ومحمّد بن الحسين ، قالا :

دخلنا على أبي الحسن الرضا عليه السلام فحكينا له ما روي : أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله رأى ربّه في صورة الشابّ الموفّق في سنّ أبناء ثلاثين سنة و رجلاه في خضرة ، وقلنا له : إنّ هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثميّ يقولون : إنّه أجوف إلى السرّة والبقيّة صمد .

فخرّ عليه السلام ساجداً وقال : «سبحانك ، ما عرفوك وما وحّدوك ، ومن أجل ذلك وصفوك ، سبحانك ، لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك ، سبحانك ، كيف طاوعتهم أنفسهم أن يشبّهوك بغيرك ، اللّهمّ لا أصفك إلاّ بما وصفت به نفسك ، ولا اُشبّهك بخلقك ، أنت أهل لكلّ خير ، فلا تجعلني من القوم الظالمين» .

ثمّ التفت عليه السلام إلينا ، فقال : «ما توهّمتم من شيء فتوهّموا اللّه عزّ وجلّ غيره» ، ثمّ قال : «نحن آل محمّد النمط الأوسط الذي لا يدركنا الغالي ولا يلحقنا التالي .

يا محمّد ، إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله حين نظر إلى عظمة ربّه كان في هيئة الشابّ الموفّق ومن أبناء الثلاثين سنة ، يا محمّد ، عظم ربّي أن يكون في صفة المخلوقين» .

قال : قلت : جعلت فداك ، من كانت رجلاه في خضرة ؟

قال : «ذاك محمّد صلى الله عليه و آله حين كان إذ نظر إلى ربّه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجُب حتّى

ص: 106

يستبين له ما في الحجُب ، إنّ نور اللّه منه أخضر ، ومنه أحمر ، ومنه أبيض ، ومنه غير ذلك ، يا محمّد ، ما يشهد به الكتاب والسنّة فنحن القائلون به»(1) .

بيان :

(الشاب الموفّق) بالميم والواو فالفاء فالقاف هو الذي أعضاؤه متوافقة بحسب الخلقة .

وفي النهاية الأثيريّة : هو الذي وصل إلى الكمال في قليل من السنين .(2)

وقيل : هو الذي وصل في الشباب إلى الكمال وجمع بين تمام الخلقة وكمال المعنى في الجمال ، أو الذي هُيّئت له أسباب الطاعة والعبادة .

وقيل : هو تصحيف الموقف بتقديم القاف على الفاء ، أي المزيّن ، فإنّ الوقف سوار من عاج ، يقال : وقفه ، أي ألبسه ، ووقف يديها بالحنّاء ، أي نقّطها ، والمراد به هنا : المزيّن بأيّ زينة كانت .

و(هشام بن سالم) هو الثقة المشهور .

و(صاحب الطاق) هو محمّد بن عليّ بن النعمان بن جعفر الأحول الصرّاف في طاق المحامل بالكوفة ، وهو ثقة أيضاً من الأجلاّء .

و(الميثميّ) هو أحمد بن الحسن .

ونسبة هذا القول إلى هؤلاء الأجلاّء - كما نسب إلى هشام بن الحكم أيضاً - لا يقدح في جلالتهم ؛ إمّا لضعف الأحاديث الدالّة على القدح فيهم ، أو لأنّ المخالفين لمّا رأوا جلالة قدر الهشامين ونحوهما نسبوا إليهم ما نسبوا ؛ ترويجاً لآرائهم الفاسدة ، أو لتخطئة رواة الشيعة وعلمائهم لبيان سفاهة آرائهم ، أو أنّهم لمّا ألزموهم في الاحتجاج أشياء ؛ إسكاتاً لهم ، نسبوا هذه المذاهب إليهم ، والأئمّة عليهم السلام لم ينفوها عنهم اتّقاءا عليهم أو لمصالح اُخر .

ويحتمل أن يكون ذلك مذهباً لهم قبل الرجوع إلى الأئمّة والأخذ بقولهم ، فقد

ص: 107


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 100 - 102 ، باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى ، ح 3 ؛ التوحيد : ص 113 - 115 ، ح 13 ؛ بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 39 - 41 ، ح 18 .
2- . لم نظفر عليه في النهاية .

قيل : إنّ هشام بن الحكم قبل أن يلقى الصادق عليه السلام كان على رأي جهم بن صفوان ، فلمّا تبعه عليه السلام تاب ورجع .

وذكر الكراجكيّ في كنز الفوائد في الردّ على القائلين بالجسم بمعنييه ، قال :

وأمّا موالاتنا هشاماً رحمه الله فهي لما شاع عنه واستفاض من تركه القول بالجسم الذي كان ينصره ، ورجوعه عنه وإقراره بخطئه فيه وتوبته منه ، وذلك حين قصد الإمام جعفر بن محمّد عليه السلام إلى المدينة ، فحجبه ، وقيل له : إنّا اُمرنا أن لا نوصلك إليه ما دمت قائلاً بالجسم ، فقال : واللّه ، ما قلت به إلاّ لأنّي ظننت أنّه وفاق لقول إمامي ، فأمّا إذا أنكره عليّ فإنّني تائب إلى اللّه تعالى منه ، فأوصله الإمام عليه السلام ودعا له بخير .

وحفظ عن الصادق عليه السلام أنّه قال لهشام : «إنّ اللّه تعالى لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء ، وكلّ ما وقع في الوهم فهو بخلافه» .

وروى عنه عليه السلام أيضاً أنّه قال : «سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلاّ هو ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، لا يحدّ ولا يحسّ ، ولا تدركه الأبصار ولا يحيط به شيء ، ولا هو جسم ولا صورة ، ولا بذي تخطيط ولا تحديد» .(1) انتهى .

وقال الشهرستانيّ في الملل والنحل - بعد ما حكى عن الكعبيّ أنّ هشام بن الحكم ، قال : إنّه تعالى جسم ذو أبعاض ، له قدر من الأقدار ، ولكن لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا تشبهه - ما لفظه :

وهذا هشام بن الحكم صاحب غور في الاُصول ، لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة ، فإنّ الرجل وراء ما يلزمه على الخصم ودون ما يظهره من التشبيه ، وذلك أنّه ألزم العلاّف ، فقال : إنّك تقول : إنّ الباري تعالى عالم بعلم ، وعلمه ذاته ، فيشارك المحدثات في أنّه عالم بعلم ، ويباينها في أنّ علمه ذاته ، فيكون عالماً لا كالعالمين ، فلِمَ لا تقول : هو جسم لا كالأجسام ، وصورة لا كالصور ، وأنّه قدرٌ لا كالأقدار إلى غير ذلك ؟(2)

ص: 108


1- . كنز الفوائد، ص 198 .
2- . الملل النحل ، ج 1 ، ص 184 - 185 .

وقد بالغ السيّد المرتضى رحمه الله في الشافي في براءة ساحة الهشامين عمّا نسب إليهما .(1)

وقيل : إنّهما قالا بجسم لا كالأجسام ، وبصورة لا كالصور ، فلعلّ مرادهم بالجسم : الحقيقة القائمة بالذات ، وبالصورة : الماهيّة ، وإن أخطأ في ذلك ، وقياس ذلك على كونه تعالى شيئاً كالأشياء باطل :

أمّا أوّلاً : فلأنّ لفظ شيء لا يشعر بالحدوث بخلاف الجسم والصورة .

وأمّا ثانياً : فإنّ جواز إطلاق الاسم عليه تعالى موقوف على الإذن ، وقد اُذن لنا في إطلاق الشيء عليه تعالى شرعاً - كتاباً وسنّة - دون الجسم والصورة .

وكيف كان ، فجلالة قدر الهشامين وصحّة عقيدتهما هو المعروف بين الأصحاب .

و(الصمد) اُريد به هنا المصمت خلاف الأجوف .

وقيل في توجيه كلامهم : إنّهم زعموا أنّ العالم كلّه شخص واحد وذات واحدة ، وله جسم وروح ، فجسمه جسم الكلّ ، وهو الفلك الأقصى بما فيه ، وروحه روح الكلّ ، والمجموع صورة الحقّ الإله ، فقسمه الأسفل الجسمانيّ أجوف ؛ لما فيه من معنى القوّة الإمكانيّة والظلمة الهيوليّة الشبيهة بالخلاء والعدم ، وقسمه الأعلى الروحانيّ صمد ؛ لأنّ الروح العقليّ موجود فيه بالفعل بلا جهة إمكان استعداديّ ومادّة ظلمانيّة ، تعالى اللّه عمّا يقول الكافرون علوّاً كبيراً .

ثمّ لمّا سمع عليه السلام مقالتهم الفاسدة ومذاهبهم الكاسدة خرّ - أي سقط - ساجداً للّه تخشّعاً وتعظيماً له تعالى ، منزّهاً له تعالى بقوله : «سبحانك ..» إلى آخره .

ولعلّه عليه السلام لم يتعرّض لإبطال نسبة هذا القول إلى القائلين ، لنوع من المصلحة اتّقاء عليهم .

ثمّ إنّه عليه السلام بعدما نزّه خالقه عن ذلك وتعجّب من تلك الأقوال العظيمة والافتراءات الجسيمة عليه تعالى ، وخاطب اللّه وناداه ببراءة نفسه القدسيّة ، مهّد قاعدة كلّيّة ، فقال : (ما توهّمتم من شيء فتوهّموا اللّه غيره) أي : فاعلموا واعتقدوا بوهمكم أنّه تعالى غير

ص: 109


1- . راجع : الشافي ، ج 1 ، ص 83 - 84 .

ما توهّمتموه ؛ لأنّ الآلات البدنيّة والعقول البشريّة قاصرة عن إدراك ذاته ، وحاسرة عن معرفة كنه صفاته .

كما قال الباقر عليه السلام : «كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم ، مردود إليكم ، ولعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ للّه زبانيتين - أي قرنين - فإنّ ذلك كمالها ، وتتوهّم أنّ عدمهما نقصان لمن لم يتّصف بهما ، وهكذا حال العقلاء في ما يصفون اللّه تعالى به» .(1)

ثمّ قال : (نحن آل محمّد النمط الأوسط) أي الجماعة القائمون على الوسط ، الذي هو العدل ، لا نفرط ولا نفرّط ، ولا نغلو ولا نقصّر .

(الذي) صفة للنمط باعتبار اللفظ .

(لا يدركنا) على سبيل الالتفات من الغيبة إلى التكلّم للتصريح بالمقصود .

(الغالي) بالغين المعجمة - كما في أكثر النسخ - من الغلوّ الواقع في طرف الإفراط ، وبالعين المهملة - كما في بعضها - وهو المتجاوز عن حدّ الفضائل الإنسانيّة . وعلى كلّ حال ، فالمراد به من يتجاوز الحدّ في الاُمور ، يعني أنّه قد جاوزنا بغياً وعدواناً ، ولا يدركنا إلاّ أن يرجع إلينا .

(ولا يسبقنا التالي) أي أنّ التالي لم يصل بعد إلينا ، وليس له أن يسبقنا .

أو المراد أنّ التالي - أي التابع لنا - لا يصل إلى النجاة إلاّ بالأخذ عنّا ، فلا يسبقنا بأن يصل إلى المطلوب لا بالتوصّل بنا .

أو المراد بالتالي هو المقصّر عن بلوغ الفضائل والواقع في طرف التفريط منها كالغالي .

ومعنى (لا يسبقنا) أي لا يسبق إلينا ، ويكون المقصود من الفقرتين الشكاية من هذا الخلق المنحوس بعدم رجوع المفرّطين إليهم ، وعدم لحوق المقصّرين بهم مع أنّ ولاية العباد إليهم عليهم السلام .

ثمّ إنّه عليه السلام شرع في توجيه الحديث النبويّ الذي رواه العامّة بأنّ الظرف - وهو قوله

ص: 110


1- . بحار الأنوار ، ج 66 ، ص 293 .

«في هيئة الشابّ الموفّق ...» إلى آخره - حال من فاعل رأى لا عن الربّ ، ومعناه أنّ النبيّ كان عند الرؤية في صفة كذا .

وههنا إشكال ، وهو : أنّه صلى الله عليه و آله لمّا نظر إلى عظمة ربّه كان بعد البعثة لمّا عرج به إلى السماء ، فكان قاب قوسين أو أدنى ورأى من آيات ربّه الكبرى ، وقد بعث صلى الله عليه و آله بعد ما مضى من عمره الشريف أربعون سنة ، فكيف يصحّ هذا ؟

ويمكن الجواب بأنّ هذا النظر لعلّه كان قبل البعثة ، وعلى تقدير كونه بعد البعثة فلا منافاة ؛ لأنّه قال : «كان في هيئة الشابّ وهيئة أبناء الثلاثين» لا أنّه كان عمره ثلاثين سنة . واحتمال كون ضمير «كان» عائداً إلى الربّ وأنّ الكلام وارد على سبيل الإنكار بعيد جدّاً .

[معنى نور الحجُب]

وقوله عليه السلام : (كان إذا نظر إلى ربّه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجُب حتّى يستبين له ما في الحجُب) من الغوامض الخفيّة التي لا يدرك حقيقتها إلاّ أهلها ، ويحتمل وجوهاً :

الأوّل : أن تبقى الحجُب والأنوار على ظاهرها ، بأن يكون المراد بالحجُب أجساماً لطيفة ، مثل العرش والكرسيّ ، تسكنها الملائكة الروحانيّون ، كما يظهر من بعض الدعوات والأخبار ، أي أفاض عليه صلى الله عليه و آله شبه نور الحجُب ليمكن له رؤية الحجُب ، كنور الشمس بالنسبة إلى عالمنا .

الثاني : أن يراد بها مقامات العارفين ؛ إذ لكلّ مقام نور من عظمته يظهر للعارف إذا بلغه .

وبالجملة ، فالحجُب هي الوجوه التي يمكن الوصول إليها في معرفة ذاته تعالى وصفاته ؛ إذ لا سبيل لأحد إلى الكنه والحقيقة ، وهي تختلف باختلاف درجات العارفين قرباً وبعداً ، وأعلاها ما بلغه خاتم النبيّين وسيّد العارفين حتّى شاهد نوره على أكمل ما يتصوّر للبشر ببصيرة قلبه .

وتسمّيها بالحجُب إمّا لأنّها وسائط بين العارف والربّ تعالى كالحجاب ، أو لأنّها موانع عن أن يسند إليه تعالى ما لا يليق به ، أو لأنّها لمّا لم تكن موصلة إلى الكنه فكأنّها

ص: 111

حجُب ؛ إذ الناظر خلف الحجاب لا يتبيّن له حقيقة الشيء كما هي ، وعلى هذا فإضافة النور إلى الحجُب بيانيّة ، وعلى تقدير أن يراد بالحجُب مقامات العارفين فهي لاميّة ، والنور في الموضعين في هذا التفسير محمول على ظاهره .

ويمكن أن يراد بالنور الأوّل منتهى ما عرفه المقرّبون منه تعالى ، وقد شاع تسمية العلم بالنور ، ومنتهاه معرفة ما يليق به سبحانه وتنزيهه عمّا لا يليق به ، وقد تضمّن جميع ذلك قوله تعالى : « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ »(1) ، وهذه المعرفة تحجب عن معرفة ما وراء ذلك من تخيّله وتمثيله وتجسيمه وتصويره وتشبيهه ورؤيته .

فمعنى الحديث على هذا : أنّه صلى الله عليه و آله كان إذا نظر إلى ربّه بقلبه اللطيف وعقله الشريف جعل الربّ قلبه صلى الله عليه و آله في نور هو منتهى معرفته سبحانه ، وقد عرفت أنّ منتهى معرفته حجاب ، فلذلك قال : مثل نور الحجُب ، بتشبيه ذلك النور بنور الحجُب في المنع من الرؤية ، بل من جميع ما لا يليق بذاته المقدّسة ، فإنّ ذلك النور مانع منها ، كما أنّ نور الحجُب الذي هو نور العظمة مانع منها ، وغاية تلك المعرفة - التي عبّر عنها بالنور - أن يستبين له صلى الله عليه و آله ما في الحجُب ممّا يجوز عليه تعالى ويمتنع .

(ويكون رجلاه في خضرة) كناية عن أنّ قلبه صلى الله عليه و آله في سبيل المعارف الإلهيّة كان مستغرقاً في بحار معرفة ما يليق به من الصفات الكماليّة والنعوت الجلاليّة ، ولم يكن في وسعه التجاوز عنها إلى ذاته الحقّة الأحديّة .

الثالث : ما اختاره السيّد السند العماد المحقّق الفيلسوف الداماد حيث قال :

الحجُب من ضروب ملائكة اللّه تعالى جواهر قدسيّة وأنوار عقليّة ، هم حجُب أشعّة جمال نور الأنوار ، ووسائط النفوس الكاملة في الاتّصال بجناب ربّ الأرباب ، جلّ سلطانه وبهر برهانه .

والنفس الإنسانيّة إذا استكملت ذاتها الملكوتيّة ، ونفضت جلبابها الهيولانيّ ناسبت نوريّتها نور تلك الأنوار ، وشابهت جوهريّتُها جوهريّتَها ، فاستحقّت

ص: 112


1- . الشورى 42 : 11 .

الاتّصال والانخراط في زمرتها ، والاستفادة منها ومشاهدة أضوائها ، ومطالعة ما في ذاتها من صور الحقايق المنطبعة فيها ، وإلى ذلك أشار عليه السلام بقوله : «جعله في نور مثل نور الحجُب حتّى يستبين له ما في الحجُب» يعني جعله في نور العلم والكمال مثل نور الحجُب حتّى يناسب جوهر ذاته جوهر ذاتهم ، فيستبين له ما في ذواتهم من الحقائق والعلوم .(1)

أقول : قيل : لا ينطبق هذا التأويل على اُصول الإماميّة كما لا يخفى ، واللّه العالم

بالحال .

[معنى الأنوار الأربعة]

قوله عليه السلام : (إنّ نور اللّه منه أخضر ، ومنه أحمر ، ومنه أبيض ، ومنه غير ذلك) نظير هذه الفقرة قد ورد في جملة من الأخبار عدا هذا الخبر :

ومنها : ما رواه ثقة الإسلام في باب العرش والكرسيّ من الكافي عن أميرالمؤمنين عليه السلام في حديثٍ قال فيه : «إنّ العرش خلقه اللّه تبارك وتعالى من أنوار أربعة : نور أحمر منه احمرّت الحمرة ، ونور أخضر منه اخضرّت الخضرة ، ونور أصفر منه اصفرّت الصفرة ، ونور أبيض منه ابيضّ البياض ، وهو العلم الذي حمّله اللّه الحَمَلة وذلك من نور عظمته(2) ، فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة» .(3)

وروى الصدوق في التوحيد عن السجّاد عليه السلام قال : «إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق العرش أرباعاً لم يخلق قبله إلاّ ثلاثة أشياء : الهواء والقلم والنور ، ثمّ خلقه من أنوار مختلفة ؛ فمن ذلك النور : نور أخضر اخضرّت منه الخضرة ، ونور أصفر اصفرّت منه الصفرة ،

ص: 113


1- . التعليقة على كتاب الكافي ، ص 229 - 230 مع بعض الأختلاف والتلخيص .
2- . في «ر» : «وذلك نورٌ من عظمته» . وفي المصدر : «وذلك من عظمته نوره» .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 129 ، باب العرش والكرسي ، ح 7 ؛ وعنه في بحارالأنوار ، ج 55 ، ص 10 ، ح 8 .

ونور أحمر احمرّت منه الحمرة ، ونور أبيض ومنه ضوء النهار» ،(1) الحديث .

وقد تحيّرت عقول العلماء وأفهام الفضلاء في معرفة المراد من هذه الأنوار ووجّهوها بوجوه :

أحدها : أنّها على ظاهرها وأنّ للّه تعالى في عالم الغيب أنواراً متّصفة بالصفات المذكورة ، ولكن لا يراها إلاّ أرباب القلوب الصافية عن غواشي الأوهام ، الخالصة عن علائق الأبدان واضطراب الأفهام ، ويظهر ذلك لأرباب العصمة من الأنبياء والأوصياء ، ومن قرب من مرتبتهم لتجرّدهم عن الانهماك في العلائق البدنيّة ، والمستلذّات النفسانيّة ، والمأمورات الحسيّة ، والمشتهيات الحيوانيّة ، والصفات البهيميّة . وهذا أسلم التوجيهات وأوفقها بظاهر الشريعة .

ثانيها : أن يراد بالنور الأخضر علمه تعالى باعتبار تعلّقه بما اخضرّ من الكائنات ، وبالنور الأحمر علمه باعتبار تعلّقه بما احمرّ منها ، وبالنور الأبيض علمه باعتبار تعلّقه بما ابيضّ منها .

ويؤيّده رواية الصدوق في التوحيد ، الحديث المتقدّم هكذا : «إنّ نور اللّه منه اخضرّ ما اخضرّ ، ومنه احمرّ ما احمرّ ، ومنه ابيضّ ما ابيضّ» ، وغير ذلك .

وفيه : أنّ هذا التوجيه لا يتمشّى في غير الخبر المذكور ، فإنّ بعضها يشعر بأنّ هذه الأنوار مخلوقة للّه تعالى .

ثالثها : للمحقّق الفيلسوف الصدر الشيرازيّ ، قال :

الحجُب النورانيّة متفاوتة النوريّة ، بعضها أخضر ، ومنه أحمر وأبيض ، ومنه غير ذلك ، فالنور الأبيض ما هو أقرب من نور الأنوار ، والأخضر ما هو أبعد منه ، فكأنّه ممتزج بضرب من الظلمة ؛ لقربه من ليالي حجُب الأجرام الفلكيّة وغيرها ، والأحمر هو المتوسّط بينهما ، وما بين كلّ اثنين من الثلاثة من الأنوار ما يناسبها ، فاعتبر بأنوار الصبح والشفق المختلفة في الألوان ؛ لقربها وبعدها من نور الأنوار الحسيّة أعني نور الشمس ؛ فالقريب من النهار هو الأبيض ، والبعيد منه الممتزج

ص: 114


1- . التوحيد ، ص 325 ، ح 1 ؛ الاختصاص ، ص 72 .

بظلمة الليل هو الأخضر ، والمتوسّط بينهما هو الأحمر .

ثمّ ما بين كلّ اثنين ألوان اُخرى مناسبة ، كالصفرة ما بين الحمرة والبياض ، والبنفسجيّة ما بين الخضرة والحمرة ؛ فتلك أنوار إلهيّة واقعة في طريق الذاهب إلى اللّه تعالى بقدمي الصدق والعرفان ، لابدّ من مروره عليها حتّى يصل إلى اللّه تعالى ، فربّما يتمثّل لبعض السلاّك في كسوة الأمثلة الحسيّة ، وربّما لا يتمثّل .(1) انتهى .

رابعها : أنّ هذه الأنوار كناية عن صفاته المقدّسة ؛ فالأخضر : قدرته تعالى على إيجاد الممكنات ، وإفاضة الأرواح التي هي عيون الحياة ومنابع الخضرة ، والأحمر : غضبه وقهره على الجميع بالإعدام والتعذيب ، والأبيض : رحمته ولطفه تعالى بعباده : « وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ »(2) .

وتطبيق هذا التوجيه على الحديث الثاني : أنّ الموجود إمّا شرّ محض أو خير محض أو مشوب من الخير والشرّ ، والأخير إمّا الشرّ غالب فيه أو لا ، فهذه أقسام أربعة ، والعلم - المسمّى بالعرش لاستقرار الموجودات فيه وعلى وفقه - متعلّق بجميع هذه الأقسام :

فمن حيث تعلّقه بالأوّل يسمّى النور الأحمر ؛ لأنّ منه احمرّت الحمرة ، أي الشرور ؛ إذ الشرّ يناسب وصفه بالحمرة لكونه محلاًّ للغضب ، وكذا العلم المتعلّق به لأدنى ملابسة .

ومن حيث تعلّقه بالثاني يسمّى بالنور الأبيض ؛ لأنّ الخير من توابع الرحمة ، والرحمة يناسب وصفها بالبياض كما قال تعالى : « وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ » .

ومن حيث تعلّقه بالثالث يسمّى بالنور الأخضر ؛ لغلبة سواد الشرّ ، والسواد إذا غلب النور مال إلى الخضرة .

ومن حيث تعلّقه بالرابع يسمّى بالنور الأصفر ؛ لأنّ فيه شيئاً من سواد الشرّ ،

ص: 115


1- . الوافي ، ج1 ، ص409 ؛ شرح المازندراني ، ج 3 ، ص 182 - 183 .
2- . آل عمران 3 : 107 .

والسواد إذا خالط النور وساواه أو نقص عنه مال النور إلى الصفرة .

فظهر أنّ العرش الذي هو علم لجملة الكائنات مخلوق من أنوار أربعة ، وإنّما قدّم الأوّل فيه لغلبة الشرور في عالم الطبائع الظلمانيّة والنفوس البشريّة ، ولذا أيضاً قدّم الثاني على الثالث ، وأخّر الرابع لقلّة الخير المحض في عالم النفوس الهيولانيّة .

خامسها : ما حكاه المحقّق المحدّث المجلسيّ عن والده رحمهما اللّه تعالى حيث قال :

وأحسن ما سمعته في هذا المقام ما استفدته من الوالد العلاّمة - رفع اللّه تعالى مقامه - وهو ممّا ظهر له من أنوار الكشف واليقين عند طيّ مقامات السالكين ، فأذكر منه على الإجمال ما يناسب منه فهم أواسط الرجال ، وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ لكلّ شيء شبيهاً ومثالاً في عالم الرؤيا ، وفي عالم الكشف والعيان تظهر تلك الصور والمثل على النفوس بحسب اختلاف مراتبها في النقص والكمال ؛ فبعض النفوس تظهر لها صورة أقرب إلى ذي الصورة ، وبعضها أبعد ، وشأن المعبّر أن ينتقل من تلك الصور إلى ذويها :

فالنور الأصفر : عبارة عن العبادة ونورها كما هو المجرّب في الرؤيا ، فإنّه إذا رأى العالم الصفرة في المنام يوفَّق للعبادة ، وكما هو المشاهد في جباه المتهجّدين من إصفرار ألوانهم وضعف بشرتهم ، وقد ورد في الخبر في شأنهم أنّهم ألبسهم اللّه من نوره لمّا خلوا به .

والنور الأبيض : العلم ؛ لأنّه منشأ الظهور ، كما هو المجرّب أنّ من رأى في المنام لبناً أو ماءً صافياً يتيسّر له علم نافع خال من الشكوك .

والنور الأحمر : المحبّة ، كما هو المشاهد من وجوه المحبّين عند طغيان المحبّة وقد جرّب في الأحلام أيضاً .

والنور الأخضر : المعرفة ، كما هو مجرّب في الرؤيا ، ويناسبه الخبر الأوّل(1) ؛ لأنّه صلى الله عليه و آله لمّا كان في مقام كمال العرفان كانت رجلاه في النور الأخضر ، وكان ثابتاً

ص: 116


1- . في المصدر : «ويناسبه هذا الخبر» .

في مقام المعرفة وخائضاً في بحارها .

وعلى تقدير كون مرادهم عليهم السلام تلك المعاني إنّما عبّروا عنها بهذه التعبيرات لقصور أفهامنا عن فهم صرف الحقّ ، كما يعرض على النفوس الناقصة في الرؤيا هذه الصور ، لأنّا في منام طويل من الغفلة عن الحقائق ، كما قال عليه السلام : «الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا» .(1)

وعلى هذا التحقيق يكون الضمير في قوله عليه السلام : «وهو العلم» في الحديث الثاني راجعاً إلى النور الأبيض ، ويحتمل أن يكون راجعاً إلى العرش ، ويكون المراد به العلم ، وهذا ما تصل إليه الأفهام القاصرة ، والأوهام الحاسرة ، واللّه العالم بحقيقة

الحال ، وإليه المرجع في المبدأ والمآل .

ص: 117


1- . مرآة العقول ، ج 1 ، ص 349 - 350 ، مع اختلاف في العبارة ؛ بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 42 .

الحديث الحادي عشر :[ لا يكون شيءٌ إلاّ بسبع ]

اشارة

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن العدّة ، عن أحمد ابن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، ومحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ومحمّد بن خالد جميعاً ، عن فضالة بن أيّوب ، عن محمّد بن عمّار ، عن حريز بن عبداللّه وعبداللّه بن مسكان جميعاً ، عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال : «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع : بمشيئة وإرادة وقضاء وقدر وإذنٍ وكتاب وأجل ، فمن زعم أنّه يقدر على نقص واحدة فقد كفر» .

قال : ورواه عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّد بن حفص ، عن محمّد بن عمارة ، عن حريز بن عبداللّه وابن مسكان مثله(1) .

ورواه أيضاً عن أبيه ، عن محمّد بن خالد ، عن زكريّا بن عمران ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال : «لا يكون شيء في السماوات ولا في الأرض إلاّ بسبع : قضاء وقدر وإرادة ومشيّة وكتاب وأجل وإذن ؛ فمن زعم غير هذا فقد كذب على اللّه ، أو ردّ على اللّه»(2) .

سبك وتحقيق :

(المشيّة) قد تقدّم معناها ، ومن معانيها : العزم .

و(الإرادة) هي : تأكّد العزم والثبوت عليه .

ص: 118


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 149، باب أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض بسبعة ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 21 ، ح 65 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 149، باب أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة ، ح 2 ؛ الخصال ، ص 359 ، ح 46 .

و(القدر) : تقدير الاُمور طولاً وعرضاً وكيلاً ووزناً ونحوها .

و(القضاء) في أفعاله تعالى هو : الحكم بالوجود في أفعالنا والحكم عليها بالثواب والعقاب .

و(الإذن) : العلم ، كما في قوله تعالى : « فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ »(1) ، أي كونوا على علم ، وقد يطلق على الأمر .

و(الكتاب) : اللوح .

و(الأجل) : الأمد المعيَّن .

وظاهر الحديث ينطبق على مذهب الأشاعرة والجبريّة القائلين بأنّ الإرادة موافقة العلم ، بمعنى أنّ كلّ ما علم اللّه وقوعه فهو مراد الوقوع ، وكلّ ما علم اللّه عدم وقوعه فهو مراد العدم ، وأنّ جميع أفعال العباد التي صدرت منهم من الطاعات والمعاصي والكفر والزندقة مراد له تعالى وبقضائه وقدره وإذنه وكتابته .

وأمّا تطبيقه على مذهب العدليّة القائلين بأنّه تعالى يريد من أفعال العباد الطاعات ولا يريد المعاصي والشرور ، وأنّه تعالى لم يأمر بالمعاصي والشرور ، فيحتاج انطباقه إلى توجيه ؛ أمّا من حيث الإرادة فمن وجوه :

الأوّل : أنّ مشيّته تعالى وإرادته متعلّقة بجميع الموجودات بمعنى أنّه أراد أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه .

الثاني : أنّ الإرادة متعلّقة بالأشياء كلّها ولكن تعلّقها بها على وجوه مختلفة ؛ إذ تعلّقها بأفعال نفسه سبحانه بمعنى إيجادها والرضا بها لكونها كلّها حسنة واقعة على وجه الحكمة ، والشرّ القليل تابع لخيرات كثيرة فيه ، وليس مراداً بالذات ، وتعلّقها

بأفعال العباد ، أمّا بالطاعات فهو إرادة وجودها والرضا بها أو الأمر بها ، وأمّا بالمباحات فهو الرخصة بها ، وأمّا بالمعاصي فهو إرادة أن لا يمنع منها بالجبر والقهر ، كما صرّح به الصدوق في كتاب الاعتقادات(2) ، أو إرادة عدمها كما فسّر به قوله تعالى : « وَلَوْ شَاءَ اللّهُ

ص: 119


1- . البقرة 2 : 279 .
2- . راجع : الاعتقادات ، ص 13 .

مَا أَشْرَكُوا »(1) ، أي ولو شاء اللّه عدم شركهم على سبيل الإجبار ما أشركوا ، ولكن لم يشأ على هذا الوجه ؛ لمنافاته غرض التكليف ، وإنّما شاء على سبيل الاختيار ليكون لهم القدرة على الفعل والترك .

ويدلّ على هذا المعنى ما رواه الطبرسيّ في احتجاجه عن الرضا عليه السلام قال : «إرادة اللّه ومشيّته في الطاعات : الأمر بها والرضا لها والمعونة عليها ، وإرادته ومشيّته في المعاصي : النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها» .

قال السائل : فللّه فيه قضاء ؟

قال : «نعم ، ما من فعل يفعله العباد من خير أو شرّ إلاّ وللّه فيه قضاء» .

قال السائل : ما معنى هذا القضاء ؟

قال : «الحكم عليهم بما يستحقّونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة» ،(2)

الحديث نقل بالمعنى .

الثالث : أنّ تعلّقها بأفعاله تعالى ما مرّ ، وتعلّقها بأفعال عباده على سبيل التجوّز ؛ لأنّه تعالى حيث كان هو الموجد لآلاتها والقدرة عليها ، ولم يمنع منها مع قدرته على المنع ، فكأنّه أرادها .

الرابع : أنّ إرادته تعالى عبارة عن العلم بما في الفعل من المصلحة .

الخامس : أنّ إرادة العبد لأفعاله مخلوقة للّه تعالى كما تقدّم نقله عن السيّد الداماد في تفسير قوله عليه السلام : «خلق اللّه المشيّة بنفسها ، ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة» فحيث كانت مخلوقة له تعالى فكأنّه فاعلها مجازاً .

وفيه من البُعد ما لا يخفى .

وأمّا رفع الإشكال من حيث القضاء والقدر فالمراد بالقدر : العلم أو تقدير الموجودات ، والمراد بالقضاء في أفعالنا : الحكم عليها بالثواب والعقاب كما مرّ عن الرضا عليه السلام .

ص: 120


1- . الأنعام 6 : 107 .
2- . الاحتجاج ، ج 2 ، ص 414 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 11 - 12 ، ح 18 مع تفاوت يسير .

وحكي عن العلاّمة رحمه الله في شرحه على التجريد أنّه قال :

يطلق القضاء على الخلق والإتمام ، قال اللّه تعالى : « فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ »(1) ، أي خلقهنّ وأتمّهنّ ، وعلى الحكم والإيجاب كقوله تعالى : « وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ »(2) ، أي أوجب وألزم ، وعلى الإعلام والإخبار كقوله تعالى : « وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ »(3) ، أي أعلمناهم وأخبرناهم .

ويطلق القدر على الخلق كقوله تعالى : « وَقَدَّرَ فِيهَا اقْوَاتَهَا »(4) ، والكتابة كقول الشاعر :

واعلم بأنّ ذا الجلال قد قدر *** في الصُحُف الاُولى التي كان سطر

والبيان كقوله تعالى : « إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ » ،(5) أي بيّنّا وأخبرنا بذلك .

إذا ظهر هذا فنقول للأشعريّ : ما تعني بقولك أنّه تعالى قضى أعمال العباد وقدّرها ؟ إن أردت به الخلق والإيجاد فقد بيّنّا بطلانه وأنّ الأفعال مستندة إلينا .

وإن عني به الإلزام لم يصحّ إلاّ في الواجب خاصّة .

وإن عني به أنّه تعالى بيّنها وكتبها وعلم أنّهم سيفعلونها فهو صحيح ؛ لأنّه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ وبيّنه لملائكته ، وهذا المعنى الأخير هو المتعيّن ؛ للإجماع على وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى وقدره ، ولا يجوز الرضا بالكفر وغيره من القبائح ، ولا ينفعهم الاعتذار بوجوب الرضا به من حيث إنّه فعله ، وعدم الرضا به من حيث الكسب ؛ لبطلان الكسب أوّلاً ، وثانياً نقول : إن كان الكفر كسباً بقضائه تعالى وقدره وجب الرضا به من حيث هو كسب ، وهو خلاف قولكم ، وإن لم يكن بقضاء وقدر بطل إسناد الكائنات بأجمعها إلى القضاء والقدر .(6) انتهى .

ص: 121


1- . فصّلت 41 : 12 .
2- . الإسراء 17 : 23 .
3- . الإسراء 17 : 4 .
4- . فصّلت 41 : 10 .
5- . النمل 27 : 57 .
6- . كشف المراد ، ص 433 .

وأمّا من حيث الإذن فقد عرفت أنّ معناه : العلم ، والكتاب : ما كتب في اللوح فلا إشكال .

أو المراد بالإذن : الأمر بالطاعات أو رفع الموانع ، وبالكتاب : الكتابة في الألواح السماويّة .

وقيل : المراد بالمشيّة : القدرة وهي كون الفاعل بحيث إن شاء فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل ، والمراد بالقدر : تعلّق الإرادة ، وبالقضاء : الإيجاد ، وبالإذن : رفع المانع ، وبالكتاب : العلم ، وبالأجل : وقت حدوث الحوادث ، والترتيب غير مقصود ؛ إذ العلم مقدَّم على الكلّ ، بل المقصود أنّ هذه الاُمور ممّا تتوقّف عليها الحوادث .

ويمكن حمل هذه الخصال السبع على اختلاف مراتب التقدير في الألواح السماويّة والأرضيّة ، أو يكون بعضها في الاُمور التكوينيّة ، وبعضها في الأحكام التكليفيّة ، أو كلّها في الاُمور التكوينيّة ، واللّه العالم بحقيقة الحال ، وإليه المرجع في المبدأ والمآل .

ص: 122

الحديث الثاني عشر :[ شاء وأراد وقدّر وقضى ولم يحبّ ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس بن عبدالرحمان ، عن أبان ، عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : شاء اللّه وأراد وقدّر وقضى ؟ قال : «نعم» . قلت : وأحبّ ؟ قال : «لا» . قلت : وكيف شاء وأراد وقدّر وقضى ولم يحبّ ؟! قال : «هكذا خرج إلينا»(1) .

إيضاح :

قوله عليه السلام : (لا) أي لا يحبّ جميع ذلك ، فالنفي وارد على الإيجاب الكلّيّ ، لثبوت محبّته تعالى لبعض ما قضاه وأراده وقدّره ، كأفعاله الصادرة عنه ، وأفعال الطاعات والعبادات الصادرة من عباده .

وقوله عليه السلام : (هكذا خرج إلينا) أي من الوحي ومن النبيّ وآبائنا الطاهرين . وفيه إعراض عن التبيين العقليّ بالاكتفاء بالبيان النقليّ لدقّة الجواب ؛ ولأنّ فهمه محتاج إلى لطف قريحة ، أو لأنّ الحكمة تقتضي عدم بيانه للسائل .

وقد وجّه الحديث الشريف بوجوه :

الأوّل : أن يكون المراد بالقضاء والقدر والمشيّة والإرادة فيما يتعلّق بأفعال العباد : علمه سبحانه بوقوع الفعل وثبته في الألواح السماويّة ، وشيء منها لا يصير سبباً للفعل ، بل هو تابع للفعل كالعلم ، وأمّا المحبّة فهي عبارة عن أمره سبحانه بالشيء وإثابته سبحانه عليه ، فهو لا يأمر بالمعاصي ولا يثيب عليها ، فصحّ إثبات القضاء وما يليه دون المحبّة .

الثاني : أنّه لمّا كانت المشيّة والإرادة وتعلّقهما بإيقاع الفعل من الإنسان مقارناً

ص: 123


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 150، باب المشيئة والإرادة ، ح 2 ؛ الفصول المهمّة ، ج 1 ، ص 231 ، ح 4 .

لمحبّته وشوقه وميل قلبه إلى ذلك الفعل توهّم السائل أنّ له سبحانه صفة زائدة على ما ذكره ، وهي المحبّة والشوق وميل القلب ، فأجاب عليه السلام بأنّه : ليس له تعالى محبّته ، بل إسنادها إليه مجاز ، وهي كناية عن أمره ، أو عدم نهيه ، أو ثوابه ومدحه .

الثالث : أنّ المشيّة والإرادة والتقدير والقضاء كلّها من فعل اللّه سبحانه ، وهي حكم اللّه في الأشياء على حدّ علمه بها ، وأمّا المشيء المراد والمقدّر المقضيّ الذي يقع في الوجود فإنّه ربّما يكون من فعل العبد الذي يطلبه من اللّه باستعداده ، وهو قد يكون محبوباً مرضيّاً - كالطاعات - وقد يكون مبغوضاً مسخوطاً - كالكفر والمعاصي - ولا شكّ أنّ الحكم غير المحكوم به والمحكوم عليه ؛ لكونه نسبة قائمة بهما ، فلا يلزم من كون الحكم الذي من طرف الحقّ خيراً أن يكون المحكوم به الذي من جهة العبد خيراً ومحبوباً ، وهذا هو التحقيق في التفصّي عن شبهة مشهورة ، هي أنّه قد ثبت وجوب الرضا بالقضاء ، وعدم جواز الرضا بالكفر والمعاصي ، فإذا كان الكفر والمعاصي بالقضاء فكيف التوفيق ؟(1)

الرابع : أنّه لا منافاة بين تعلّق الإرادة والمشيّة بشيء وأن لا يحبّه ؛ لأنّ تعلّق المشيّة والإرادة بما لا يحبّه بتعلّقهما بوقوع ما يتعلّق به إرادة العباد بإرادتهم وترتُّبه عليها ، فتعلّقهما بالذات بكونهم قادرين مريدين لأفعالهم وترتّبهما على إرادتهم وتعلّقهما بما هو مرادهم بالتبع شرّ فيه غير محبوب له ، فإنّ دخول الشرّ وما لا يحبّه في متعلّق إرادته بالعرض جائز ، فإنّ كلّ من تعلّق مشيّته وإرادته بخير وعلم لزوم شرّ له - شرّيّة لا تقاوم خيريّته - تعلّقها بذلك الشرّ بالعرض وبالتبع ، وذلك التعلّق بالتبع لا ينافي أن يكون المريد خيّراً محضاً ، ولا يتّصف بكونه شرّيراً ومحبّاً للشرّ ، ويأتي مزيد تحقيق لذلك .(2)

ص: 124


1- . الوافي ، ج 1 ، ص 520 - 521 . وقد أجاب المحقّق الشعراني عن الشبهة في هامش كتاب الوافي بقوله : وربما يجاب عن الشبهة بالفرق بين القضاء بالذات وبالعرض ، فالمأمور به هو الرضا بما يوجبه القضاء بالذات ، وهو : الخيرات كلّها ، والمنهي عنه هو الرضا بما يوجبه القضاء على سبيل العرض ، وهو الشرور اللازمة للخيرات الكثيرة بالنسبة إلى بعض الجزئيّات .
2- . انظر : مرآة العقول ، ج 2 ، ص 156 فإنّه أورد فيه الوجهين الأوّلين وكذا الأخير .

الحديث الثالث عشر:[ أمر اللّه ولم يشأ ، وشاء ولم يأمر ]

ما رويناه بأسانيدنا السالفة عن ثقة الإسلام ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عليّ بن معبد ، عن واصل بن سليمان ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : سمعته يقول : «أمر اللّه ولم يشأ ، وشاء ولم يأمر ، أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد ، ولو شاء لسجد ، ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ، ولو لم يشأ لم يأكل»(1) .

بيان :

ظاهر الحديث موافق لمذهب الجبريّة القائلين بأنّه تعالى قد يأمر بالشيء وهو لا يريده ، وينهى عن الشيء وهو يريده ، وأنّه يريد كلّ ما يدخل في الوجود وإن كان معصية ، ولا يريد ما لا يدخل فيه وإن كان طاعة ، بناءا على ما تقرّر عندهم من أنّه تعالى خالق لأفعال العباد ، فكلّ ما خلقه فقد أراده ، وكلّ ما لم يخلقه لم يرده ، فأمر إبليس بالسجود ولم يرده ؛ لعدم تحقّقه ، ونهى آدم عن الأكل وأراده ؛ لتحقّقه ، ولم يرد تركه ؛ لعدم تحقّقه .

وأمّا على مذهب العدليّة القائلين : إنّه تعالى كلّ ما يامر به فهو يريده ، وكلّ ما ينهى عنه فهو لا يريده بل يكرهه ، وأنّه تعالى يريد كلّ ما هو خير محض وحسن ؛ وُجد أو لم يوجد ، ولا يريد كلّ ما هو شرّ وقبيح كذلك ، فيحتاج تطبيقه إلى توجيه يمكن بوجوه :

أحدها : أن يكون المعنى : أنّ اللّه أمر بالأشياء على وجه الاختيار وأرادها على وجه التفويض والاختيار ، ولم يشأ تلك الأشياء مشيّة جزم ، ولم يردها إرادة قسر ، وشاء

ص: 125


1- . الكافي ، ج1، ص150 و151، باب المشيئة والإرادة ، ح3 ؛ تفسير نور الثقلين ، ج1، ص62، ح119.

شيئاً مشيّة تكليفيّة ، وأراده إرادة تخييريّة ، يعني أراد إيقاعه باختيار العبد ولم يأمر به على وجه القسر ، ولم يرده على وجه الجبر .

ثمّ أوضح ذلك عليه السلام بقوله : «أمر إبليس أن يسجد لآدم» على سبيل الاختيار ، وأراد منه السجود من غير قسر ولا إجبار ، وشاء أن لا يسجد بالجبر والقسر ، أو المعنى : ولم يشأ أن يسجد مشيّة جبر ولم يرده إرادة قسر ، بقرينة قوله سابقاً : «أمر اللّه ولم يشأ» ولو شاء سجوده لآدم على القسر والجبر لسجد له ؛ لأنّ الأفعال القسريّة لا تتخلّف عن الفاعل القادر المختار .

ونهى آدم عن أكل الشجرة على وجه الاختيار وكره منه أكل ثمرتها من غير قسر ولا إجبار ، وشاء أن يأكل منها باختياره ، أي لمّا شاء الاختيار له ، فكأنّه شاء ما اختاره ، أو شاء أن يكون له اختيار في أكله منه ، وأراد أن لا يكون مجبوراً في تركه ، ولو لم يشأ أن يكون له اختيار في أكله ويكون مجبوراً على تركه لم يأكل ؛ لأنّ المجبور على ترك الشيء ومسلوب الاختيار في فعله لا يقدر على الإتيان بذلك الشيء ، وحيث أكل علم أنّه صاحب القدرة والاختيار فيه ، وأنّه تعالى أراد أن يكون فعل العبد وتركه بقدرته ؛ حفظاً لنظام التكليف ، وتحقيقاً لمعنى الثواب والعقاب .

ثانيها : أن يكون المراد بالمشيّة العلم ، ويؤيّده ما روي عن الفقه الرضويّ حيث قال عليه السلام : «قد شاء اللّه من عباده المعصية وما أراد ، وشاء الطاعة وأرادها منهم ؛ لأنّ المشيّة مشيّة الأمر ومشيّة العلم ، وإرادته إرادة الرضا ، وإرادة الأمر أمر بالطاعة ورضي بها ، وشاء المعصية يعني : علم من عباده المعصية ولم يأمرهم بها»(1) ، الخبر .

ويكون المعنى : أنّه أمر بشيء ولم يعلم وقوع ذلك الشيء ؛ لعلمه بعدم وقوعه ، فلا يتعلّق علمه بوقوعه ، وشاء ، يعني علم وقوع الشيء ولم يأمر به ؛ لكونه غير مرضيّ له .

وقد ورد في بعض الأخبار أنّه عليه السلام سُئل عن شيء لا يعلمه اللّه ، فقال عليه السلام : «إنّ اللّه لا يعلم أنّ له شريكاً»(2) .

ص: 126


1- . فقه الرضا عليه السلام ، ص 410 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 124 ، ح 73 .
2- . بحار الأنوار ، ج 10 ، ص 53 ، ح 1 .

ثالثها : أن يكون المراد بمشيّة الطاعة هداياته وألطافه الخاصّة التي ليست من ضروريّات التكليف ، وبمشيّة المعصية خذلانه وعدم فعل تلك الألطاف بالنسبة إليه ، وشيء منهما لا يوجب جبره على الفعل والترك ، ولا ينافي استحقاق الثواب والعقاب .

رابعها : أنّ معنى قوله عليه السلام : «أمر اللّه ولم يشأ» هو أنّه تعالى أمر بشيء ولم يرد تعلّق علمه بوقوع ذلك الشيء ؛ لعلمه بعدم وقوعه .

ومعنى قوله عليه السلام : «وشاء ولم يأمر» هو أنّه أراد تعلّق علمه بوقوع شيء ؛ لعلمه بوقوعه ، ولم يأمر بذلك الشيء ؛ لأنّه يكرهه .

خامسها : أنّ المراد تهيئة أسباب فعل العبد بعد إرادة العبد ذلك الفعل .

سادسها : أنّه لمّا اقتضت المصلحة بتكليف من علم اللّه منه المعصية وكلّفه مع علمه بذلك ووكله إلى اختياره ، ففعل تلك المعصية فكأنّه شاء صدوره منه ، وكذا في الطاعة إذا علم صدوره منه ، فيسمّى ذلك مشيئة مجازاً ، وهذا مجاز شائع ، كما إذا أمر المولى عبده بأوامر وخيّره في ذلك ومكّنه على الفعل والترك ، مع علمه بأنّه لا يأتي بها ، فيقال له : أنت فعلت ذلك ؛ إذ كنت تعلم أنّه لا يفعل ، ومكّنته ووكلته إلى نفسه .

سابعها : أن يقال : المراد بالمشيّة عدم جبره على فعل الطاعة أو ترك المعصية . وبعبارةُ اُخرى : سمّي عدم المشيّة : مشيّة العدم ، وهو قريب ممّا قبله ، بل يرجع إليه .

ثامنها : أنّه إسناد للفعل إلى العلّة البعيدة ، فإنّ العبد وقدرته وإرادته لمّا كانت مخلوقة للّه تعالى فهو جلّ وعلا علّة بعيدة لجميع أفعاله .

تاسعها : ما تقدّمت الإشارة إليه في الخبر السابق من المشيّة بالتّبع ، وربّما يحقّق بوجه أوضح أخذاً ممّا حقّقه بعض الأفاضل في توجيه قوله عليه السلام : «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين» وهو : أنّ فعل العبد واقع بمجموع القدرتين : قدرة اللّه ، وقدرة العبد ، والعبد لا يستقلّ في إيجاد فعله بحيث لا دخل لقدرته تعالى فيه ، بمعنى أنّه أقدر العبد على فعله ، بحيث يخرج عن يده أزمّة الفعل المقدور للعبد مطلقاً ، كما ذهب إليه المفوّضة ، أو لا تأثير لقدرته تعالى فيه وإن كان قادراً على طاعة العاصي جبراً ؛ لعدم تعلّق إرادته بجبره في أفعاله الاختياريّة ، كما ذهب إليه المعتزلة ، وهذا أيضاً نحو من التفويض ، وليس قدرة العبد بحيث لا تأثير له في فعله أصلاً ؛ سواء كانت كاسبة - كما

ص: 127

ذهب إليه الأشعريّ ويؤول مذهبه إلى الجبر - أم لا تكون كاسبة أيضاً بمعنى أن لا يكون له قدرة واختيار أصلاً ، بحيث لا يكون فرق بين مشي زيد وحركة المرتعش ، كما ذهب إليه الجبريّة ، وهم جهم بن صفوان ومن تبعه ، وهذا معنى الأمر بين الأمرين .

ولمّا كانت مشيّة العبد وإرادته وتأثيره في فعله جزءاً أخيراً للعلّة التامّة ، وإنّما يكون تحقّق الفعل والترك مع وجود ذلك التأثير وعدمه ، فينتفي صدور القبيح عنه تعالى ، بل إنّما يتحقّق بالمشيّة والإرادة الحادثة وبالتأثير من العبد الذي هو متمّم للعلّة التامّة ، ومع عدم تأثير العبد والكفّ عنه بإرادته واختياره لا يتحقّق فعله بمجرّد مشيّة اللّه سبحانه وإرادته وقدرته ؛ إذ لم يتحقّق مشيّة وإرادة ، وتعلُّق إرادة منه تعالى بذلك الفعل مجرّداً عن تأثير العبد ، فحينئذٍ الفعل لاسيّما القبيح مستند إلى العبد .

ولمّا كان مراده تعالى من إقداره العبد في فعله وتمكينه له فيه صدور الأفعال عنه باختياره وإرادته - إذا لم يكن مانع - أيّ فعل أراد واختار من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ، ولم يرد منه خصوص شيء من الطاعة والمعصية ، ولم يرد جبره في أفعاله ؛ ليصحّ تكليفه لأجل المصلحة المقتضية له ، وكلّفه بعد ذلك الإقدار بإعلامه بمصالح أفعاله ومفاسدها في صورة الأمر والنهي ؛ لأنّهما منه تعالى من قبيل أمر الطبيب للمريض بشرب الدواء النافع ونهيه عن أكل الغذاء الضارّ ، فمن صدور الكفر والعصيان عن العبد بإرادته المؤثّرة واستحقاقه بذلك العقاب لا يلزم أن يكون العبد غالباً عليه تعالى ، ولا يلزم عجزه تعالى ، كما لا يلزم غلبة المريض على الطبيب ولا عجز الطبيب إذا خالفه المريض وهلك ، ولا يلزم أن يكون في ملكه أمر لا يكون بمشيّة اللّه تعالى وإرادته ، ولا يلزم الظلم في عقابه ؛ لأنّه فعل القبيح بإرادته المؤثّرة ، وطبيعة ذلك الفعل توجب أن يستحقّ فاعله العقاب .

ولمّا كان مع ذلك الإعلام من الأمر والنهي بواسطة الحجج عليهم السلام اللطف والتوفيق في الخيرات والطاعات من اللّه جلّ ذكره ، فما فعل الإنسان من حسنة فالأولى أن يُسند وينسب فعلها إليه تعالى ؛ لأنّه مع إقداره وتمكينه له وتوفيقه للحسنات أعلمه بمصالح الإتيان بالحسنات ومضارّ تركها ، والكفّ عنها بأوامره ، وما فعله من سيّئة فمن نفسه ؛ لأنّه مع ذلك أعلمه بمفاسد الإتيان بالسيّئات ومنافع الكفّ عنها بنواهيه ، وهذا من قبيل

ص: 128

إطاعة الطبيب ومخالفته ، فإنّه من أطاعه وبرء من المرض يُقال : عالجه الطبيب ، ومن خالفه وهلك يقال : أهلك نفسه بمخالفته للطبيب . وهذا تحقيق لطيف تنحلُّ به شبهة الجبر والاختيار ، ويتّضح به معنى الأمر بين الأمرين .

وحينئذٍ فمعنى قوله : (أمر اللّه ولم يشأ) أنّه أعلم العباد وأخبرهم بالأفعال النافعة لهم كالإيمان والطاعة ، ولم يشأ صدور خصوص تلك الأفعال عنهم ، كيف ولو شاء ولم يصدر عن بعضهم لزم عجزه تعالى ومغلوبيّته ، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ، بل إنّما شاء صدور الأفعال عنهم بقدرتهم واختيارهم أيّ فعل أرادوه ، فما شاء اللّه كان .

ومعنى قوله : (شاء ولم يأمر) أنّه شاء صدور الأفعال عن العباد باختيارهم أيّ فعل أرادوه ، ولم يأمر بكلّ ما أرادوا ، بل نهاهم عن بعضه وأعلمهم بمضرّته كالكفر والعصيان .

فقوله : (أمر إبليس أن يسجد لآدم) أي أعلمه بأنّ سجوده لآدم نافع له ، وكفّه عنه مضرّ له .

و(شاء أن لا يسجد) يعني لم يشأ خصوص السجود ، ولو شاء خصوص السجود منه لسجد ؛ لاستحالة عجزه تعالى وغلبة إبليس عليه ، بل إنّما شاء صدور أيّهما كان من السجود وتركه ، أي كفّه بإرادته واختياره .

ولمّا لم يسجد إبليس ، أي كفّ عن السجود بإرادته ، فهو تعالى لأجل ذلك شاء كفّه ، ولمّا كان الكفّ إنّما يتحقّق بمشيّة إبليس وإرادته المؤثّرة ، وهي جزء أخير للعلّة التامّة ، فلذا يستحقّ إبليس الذمّ والعقاب ، والقبح صادر عنه لا عن اللّه تعالى .

وكذلك الكلام في نهي آدم عن أكل الشجرة .

أقول : وهذا يرجع إلى ما سبق ، وذكرناه لما فيه من زيادة الإيضاح وما ينحلّ به معنى الأمر بين الأمرين .

عاشرها : حملها على التقيّة لكونها موافقة لاُصول الجبريّة ، وأكثر المخالفين منهم .

ويؤيّده ما رواه الصدوق في العيون والتوحيد بإسناده عن الحسين بن خالد ، قال : قلت للرضا عليه السلام : يابن رسول اللّه ، إنّ الناس ينسبونا إلى القول بالتشبيه والجبر ؛ لما روي من الأخبار في ذلك عن آبائك الأئمّة عليهم السلام .

ص: 129

فقال عليه السلام : «يابن خالد ، أخبرني عن الأخبار التي رويت عن آبائي الأئمّة في التشبيه أكثر أم الأخبار التي رؤيت عن النبيّ صلى الله عليه و آله في ذلك ؟» فقلت : بل ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله في ذلك أكثر . قال : «فليقولوا : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يقول بالتشبيه والجبر إذاً» . قلت له : إنّهم يقولون : إنّ رسول اللّه لم يقل من ذلك شيئاً ، وإنّما روي عليه . قال : «فليقولوا في آبائي عليهم السلام أنّهم لم يقولوا من ذلك شيئاً وإنّما روي عليهم» .

ثمّ قال عليه السلام : «مَن قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك ، ونحن منه بُراء في الدنيا والآخرة . يابن خالد ، إنّما وضع الأخبار عنّا في التشبيه والجبر الغلاة الذين صغّروا عظمة اللّه ، فمن أحبّهم فقد أبغضنا ، ومن أبغضهم فقد أحبّنا» ،(1) الخبر .

ص: 130


1- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 130 ؛ التوحيد ، ص 363 ، ح 12 ؛ ونقله عنهما في بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 294 ، ح 18 . وأورد المجلسي أكثر هذه الوجوه بألفاظها في مرآة العقول ، ج 2 ، ص 157 - 160 .

الحديث الرابع عشر :[ إنّ للّه إرادتين ومشيّتين ]

اشارة

ما رويناه بالإسناد عن شيخنا المتقدّم عن عليّ بن إبراهيم ، عن المختار بن محمّد الهمدانيّ ومحمّد بن الحسن وعبداللّه بن الحسن العلويّ جميعاً ، عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ ، عن أبي الحسن عليه السلام قال : «إنّ للّه إرادتين ومشيّتين : إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء ، أوَما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيّتهما مشيّة اللّه تعالى ، وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء أن يذبحه لما غلبت مشيّة إبراهيم مشيّة اللّه»(1) .

ورواه الصدوق في التوحيد إلاّ أنّه قال : «وأمر إبراهيم بذبح ابنه وشاء أن لا يذبحه»(2) .

بيان :

الكلام في هذا الخبر كالذي قبله ، أي إنّه تعالى نهاهما عن أكل الشجرة وشاء ذلك ، أي أكلهما منها باعتبار أنّه لم يجبرهما على الترك ، ولو لم يشأ أن يأكلا بجبره لهما على المنهيّ عنه ، ومشيئته لتركه حتماً لما غلبت مشيّتهما للأكل مشيّة اللّه تعالى ؛ لكونهما مجبورين مقهورين ، فلا يمكنهما الإتيان بفعل فضلاً عن أن تغلب مشيّتهما مشيّة القاهر ، وباقي الوجوه السابقة تجري هنا .

وقال الصدوق بعد إيراد هذا الخبر :

إنّ اللّه تعالى نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة ، وقد علم أنّهما يأكلان منها ، لكنّه عزّ وجلّ شاء أن لا يحول بينهما وبين الأكل منها بالجبر والقدرة كما منعهما من الأكل منها بالنهي والزجر ، فهذا معنى مشيّته فيهما ، ولو شاء عزّ وجلّ منعهما

ص: 131


1- . الكافي ، ج 1، ص 151، باب المشيئة والإرادة ، ح 4 ؛
2- . التوحيد ، ص 64 ، ذيل ح 18 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 139 ، ح 5 .

من الأكل بالجبر ، ثمّ أكلا منها لكانت مشيّتهما قد غلبت مشيّة اللّه - كما قال العالم - تعالى اللّه عن العجز علوّاً كبيراً .(1) انتهى .

تنبيه : [هل الحديث ينافي عصمة الأنبياء ؟]

قوله عليه السلام : (لما غلبت مشيّة إبراهيم مشيّة اللّه) ربّما ينافي ظاهر الأدلّة العقليّة والنقليّة الدالّة على عصمة الأنبياء ، وأنّهم لا يشاؤون إلاّ ما شاء اللّه .

ويمكن الجواب بأنّ المراد بمشيّة إبراهيم عليه السلام محبّته الطبيعيّة لبقاء ولده ، وذلك لا ينافي إرادة الطاعة من نفسه والعزم عليها والتسليم لأمر اللّه حسبما دلّت عليه الآية

بقوله : « فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا »(2) ، وإلاّ فحاشا

الخليل أن يشاء إلاّ ما شاء خليله .

تبصرة : [هل الذبيح إسحاق أم إسماعيل؟]

ظاهر الحديث برواية ثقة الإسلام أنّ الذبيح إسحاق بن سارة ، وقد حكي اتّفاق أهل الكتابين على ذلك ، وذهاب بعض العامّة إليه وقليل من أصحابنا(3) ، وروى الكلينيّ في باب حجّ إبراهيم من الكافي رواية اُخرى تمنع من ذلك(4) ، فلعلّه قائل بذلك أو مائل إليه ، والمشهور بين أصحابنا رواية وقولاً أنّ الذبيح إسماعيل ، وهو الذي دلّت عليه أكثر الأخبار ، ورواه الصدوق في العيون(5) ومعاني الأخبار(6) . ويمكن حمل هذا الخبر على التقيّة ، أو يُجمع بينه وبينها بأنّه عليه السلام اُمر أوّلاً بذبح إسحاق ، ثمّ نسخ واُمر بذبح إسماعيل ، والإقدام على الذبح وفعل مقدّماته إنّما وقع فيه .(7)

ص: 132


1- . التوحيد ، ص 65 - 66 ، ذيل ح 18 .
2- . الصافّات 37 : 103 - 105 .
3- . انظر : بحار الأنوار ، ج 12 ، ص 132 - 136 حيث نقل القولين مع أدلّتهما ومن ذهب إليهما .
4- . الكافي ، ج 4 ، ص 206 ، باب حجّ إبراهيم وإسماعيل ... ، ذيل ح 4 .
5- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 191 .
6- . معاني الأخبار ، ص 391 .
7- . انظر : مرآة العقول ، ج 2 ، ص 162 .

الحديث الخامس عشر :[ شاء وأراد ولم يحبّ ولم يرض ]

اشارة

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن رئيس المحدّثين محمّد بن بابويه في كتاب التوحيد عن أبيه ، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن عليّ بن معبد ، عن درست بن أبي منصور ، عن فضيل بن يسار ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «شاء وأراد ، ولم يحبّ ولم يرض ؛ شاء أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه ، وأراد مثل ذلك ، ولم يحبّ أن يُقال له : ثالث ثلاثة ، ولم يرض لعباده الكفر»(1) .

إيضاح :

قوله عليه السلام : (شاء أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه ، وأراد) أي أنّه شاء بالمشيّة الحتميّة وأراد بالإرادة الجزميّة أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه وعلى طباق ما في علمه بالنظام الأعلى ، وما هو الخير والأصلح ولوازمها ، وهذا هو أحد المعاني لتعلّق مشيّته وإرادته بكلّ شيء ، خيراً كان أو شرّاً ، ولم يحبّ الشرور اللازمة التابعة للخير والأصلح ، كأن يُقال : ثالث ثلاثة ، وأن يكفر به ، ولم يرض بهما .

أو أنّ المعنى أنّه تعالى لم يحبّ ولم يرض ، أي لم يأمر بهما بل جعلهما منهيّاً عنهما ، ولم يجعلهما بحيث يترتّب عليهما النفع ، بل بحيث يترتّب عليهما الضرر .

والمحبّة في حقّ العبد : ميل النفس وسكونه بالنسبة إلى موافقه وملائمه عند تصوّر كونه موافقاً وملائماً له ، وهذا مستلزم لإرادته إيّاه ، ولمّا كانت هذه المحبّة ممتنعة في حقّه تعالى اُريد به لازمها .

ص: 133


1- . التوحيد ، ص 339 ، ح 9 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 51 ، ح 81 .

كشف : [الردّ على الأشاعرة]

قوله عليه السلام : (ولم يرض لعباده الكفر) قيل(1) : فيه ردّ على الأشاعرة حيث قالوا : إنّه تعالى أراد الكفر من الكافر ، وأراد أن يقال فيه : ثالث ثلاثة بناءً على ما تقرّر عندهم من أنّه تعالى أراد كلّ ما له حظّ من الوجود ، وإذا أرادهما فقد أحبّهما ورضيهما ؛ لأنّ حبّه تعالى للشيء ورضاه عبارة عن الإرادة ، كما صرّحوا به في كتبهم وصرّح به أصحابنا ، ومِن ثَمّ قال ابن القيّم الحنبليّ وابن هشام - على ما نقل عنهما شارح كشف الحقّ - : إنّ هؤلاء

الأشاعرة يقولون : إنّ كلّ ما شاء اللّه وقضى فقد أحبّه ورضيه .

ولمّا رأى جماعة المتأخّرين منهم شناعة هذا القول وقبحه حاولوا التحرّز عنه ، فقال بعضهم : إرادته تعالى لجميع الأشياء حتّى الكفر وغيره عبارة عن تقديرها، وتقديره للكفر لا يوجب أن يحبّه ويرضاه .

وقال صاحب المواقف :

الرضا عبارة عن ترك الإعتراض(2) ، واللّه [لا] يريد الكفر للكافر ويعترض عليه ويؤاخذه به ، ويؤيّده أنّ العبد لا يريد الآلام والأمراض وليس مأموراً بإرادتها ، وهو مأمور بترك الاعتراض عليها .(3)

والجواب عن الأوّل : أنّ الإرادة لم تجئ - لغة ولا عرفاً - بمعنى التقدير ، ولم يصطلح عليه سوى هذا القائل ، ولهذا لم يتمسّكوا في دفع هذه الشناعة العظيمة عن أنفسهم بهذا القول ، مع أنّه لا ينفعهم أصلاً ؛ لأنّ أفعال العباد كلّها مخلوقة له تعالى

عندهم ، ولا معنى لخلق الفاعل المختار لها بدون إرادتها ، فالقبح بحاله .

والجواب عن الثاني بوجوه :

الأوّل : أنّه لم يثبت في اللغة ولا في العرف أنّ الرضا عبارة عن ترك الإعتراض ، بل الثابت فيهما أنّه عبارة عن الإرادة ، وبذلك يشعر كلام ابن القيّم في شرح منازل

ص: 134


1- . القائل هو المولى محمّد صالح المازندراني .
2- . في المطبوع والنسخ وكذا في شرح النهج : الإعراض ... ويعرض عنه ، وما اُثبت في العبارة من المصدر .
3- . شرح المواقف ، ص 178 .

السائرين ، وكلام الآبي في كتاب إكمال الإكمال ، وكلام بعض شرّاح نهج البلاغة ، حيث قال : المحبّة إرادة هي مبدأ فعل مّا ، ومحبّته تعالى للشيء هي إرادته ، والرضا قريب من المحبّة ، ويشبه أن يكون أعمّ منها ؛ لأنّ كلّ محبّ راض بما أحبّه ، ولا ينعكس .

وقد قيل : إنّ الرضا على ما يقتضيه القرآن مستلزم للإرادة أو إرادة مخصوصة ، ولعلّ تلك الإرادة المخصوصة هي التي ذهب إليها بعض الأصحاب من أنّ الرضا إرادة متعلّقة بالاُمور الحسنة من حيث هي كذلك .

الثاني : أنّ إرادة الكفر من الشخص والاعتراض عليه قبيح بحسب العقل ، فلا يصحّ إسناده إليه تعالى .

الثالث : أنّ ترك الاعتراض متحقّق في المباحات والمكروهات ، ولا يقال : إنّه تعالى راضٍ عن العباد بفعلها .

الرابع : أنّ التأييد المذكور في محلّ المنع ؛ لأنّ رضا العبد بالآلام عبارة عن إرادتها ترجيحاً لإرادته تعالى على إرادة نفسه ، وترك الاعتراض تابع لتلك الإرادة(1) ، واللّه العالم .

ص: 135


1- . شرح المازندراني ، ج 4 ، ص 269 - 271 .

الحديث السادس عشر: [ صنوف من الناس لا يحبّونا ولا يتولّونا ]

ما رويناه بالأسانيد السالفة عن رئيس المحدّثين محمّد بن بابويه في الخصال عن القطّان وعليّ بن أحمد بن موسى ، عن زكريّا القطّان ، عن ابن حبيب ، عن أبي بهلول ، عن أبي معاوية الضرير ، عن الأعمش ، عن جعفر بن محمّد عليهماالسلام .

قال ابن حبيب : وحدّثني عبداللّه بن محمّد بن ناظويه ، عن عليّ بن عبدالمؤمن الزعفرانيّ ، عن مسلم بن خالد الزنجيّ ، عن جعفر بن محمّد عليهماالسلام ، عن أبيه ، عن جدّه .

قال ابن حبيب : وحدّثني الحسن بن سنان ، عن أبيه ، عن محمّد بن خالد البرقيّ ، عن مسلم بن خالد ، عن جعفر بن محمّد عليهماالسلام .

قالوا كلّهم : «ثلاثة عشر صنفاً - وقال تميم - : ستّة عشر صنفاً - من اُمّة جدّي صلى الله عليه و آله لا يحبّونا ولا يحبّبونا إلى الناس ، ويبغضونا ولا يتولّونا ، ويخذّلون الناس عنّا ، فهم أعداؤنا حقّاً ، لهم نار جهنّم ولهم عذاب الحريق . قال : قلت : بيّنهم لي يا أبه ، وقاك اللّه شرّهم . قال : الزائد في خلقه ؛ فلا ترى أحداً من الناس في خلقه زيادة إلاّ وجدته لنا مناصباً ، ولم تجده لنا موالياً .

والناقص الخلقة من الرجال ؛ فلا ترى للّه عزّ وجلّ خلقاً ناقص الخلقة إلاّ وجدت في قلبه علينا غِلاًّ .

والأعور باليمين للولادة ؛ فلا ترى للّه خلقاً وُلد أعور اليمين إلاّ كان لنا محارباً ، ولأعدائنا مسالماً .

والغِرْبيب من الرجال ؛ فلا ترى للّه عزّ وجلّ غربيباً - وهو الذي قد طال عمره فلم يبيضّ شعره وترى لحيته مثل حنك الغراب - إلاّ كان علينا مولّباً ولأعدائنا مكاثراً .

والحُلكوك من الرجال ؛ فلا ترى منهم أحداً إلاّ كان لنا شتّاماً ، ولأعدائنا مدّاحاً .

ص: 136

والأقرع من الرجال ؛ فلا ترى رجلاً به قرع إلاّ وجدته همّازاً لمّازاً مشّاءً بالنميمة علينا .

والمفصّص بالخضرة من الرجال ؛ فلا ترى منهم أحداً - وهم كثيرون - إلاّ وجدته يلقانا بوجه ويستدبرنا بآخر ، يبتغي لنا الغوائل .

والمنبوذ من الرجال ؛ فلا تلقى منهم أحداً إلاّ وجدته لنا عدوّاً مضلاًّ مبيناً .

والأبرص من الرجال ؛ فلا تلقى منهم أحداً إلاّ وجدته يرصد لنا المراصد ويقعد لنا ولشيعتنا مقعداً ليضلّنا بزعمه عن سواء السبيل .

والمجذوم وهم حَصب جهنّم ، هم لها واردون .

والمنكوح ؛ فلا ترى منهم أحداً إلاّ وجدته يتغنّى بهجائنا ويولّب علينا .

وأهل مدينة تدعى سجستان هم لنا أهل عداوة ونصب ، وهم شرّ الخلق والخليقة ، عليهم من العذاب ما على فرعون وهامان وقارون .

وأهل مدينة تدعى الريّ هم أعداء اللّه وأعداء رسوله ، وأعداء أهل بيته ، يرون حرب أهل بيت رسول اللّه جهاراً ، وما لهم مغنماً ، فلهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب مقيم .

وأهل مدينة تدعى الموصل هم شرّ من على وجه الأرض .

وأهل مدينة تسمّى الزوراء تُبنى في آخر الزمان ، يستشفون بدمائنا ، ويتقرّبون ببغضنا ، يوالون في عداوتنا ، ويرون حربنا فرضاً وقتالنا حتماً .

يا بنيّ ، فاحذر هؤلاء ثمّ احذرهم ، فإنّه لا يخلو اثنان منهم بأحد من أهلك إلاّ همّوا بقتله»(1) .

واللفظ لتميم من أوّل الحديث إلى آخره .

توضيح :

قيل : معنى (مولّباً) أي يجمع الناس علينا بالعداوة والظلم .

و(الحلكوك) - بالضمّ والفتح - شديد السواد .

و(المفصّص بالخضرة) هو الذي تكون عينه زرقاء كالفصّ . والفصّ أيضاً : حدقة العين ، وفي بعض النسخ بالضادّين المعجمتين ، وهو تصحيف .

ص: 137


1- . الخصال ، ص 506 ، ح 4 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 69 ، ص 210 ، ح 4 .

و(المنبوذ) ولد الزنا .

و(الزوراء) هي بغداد .

ولعلّه قد سقط أحد الستّة عشر من النسّاخ أو الرواة .(1)

ثمّ إنّ الصدوق روى نحو هذه الأخبار جملة بهذا المضمون وتطبيقها على طريقة أهل العدل بعد تسليم صحّة صدورها(2) لا يخلو من إشكال ، ومع ذلك فهي مخالفة للوجدان ؛ لأنّ كثيراً من الأفراد المذكورين من كمّل المؤمنين ، وهم في غاية الصلاح والورع والتقوى ، وكثيراً من البلدان المذكورة أهلها مؤمنون موالون لأهل البيت ، مبغضون لأعدائهم .

ويمكن أن يقال : إنّ الحديث محمول على الغالب ، وإنّ بعض البلدان كالريّ يكون هذا لبيان حالهم في تلك الأزمان لا بيان حالهم إلى يوم القيامة .

وأمّا الإشكال في أنّ هؤلاء إذا كانوا قد خلقوا هكذا وما صدر عنهم لازم من خلقتهم ، فأيّ تقصير لهم ؟ ويكون تعذيبهم وعقابهم خلاف العدل ؟ فيمكن رفعه بأنّ اللّه سبحانه وتعالى لمّا علم أنّهم يكونون أشراراً باختيارهم خلقهم بهذه الصفات ،

وجعلهم من أهل تلك البلدان من غير أن يكون لتلك الأحوال مدخل في أعمالهم .

أو المراد : أنّهم في درجة ناقصة من الكمال ، غير قابلين لمعالي الفضائل والكمالات من غير أن يكونوا مجبورين على القبائح والسيّئات .

ويمكن إجراء بعض الوجوه المتقدّمة في «الطينة» هنا ، واللّه العالم بحقائق الأحوال .

ص: 138


1- . فإنّ المعدود في الحديث هو خمسة عشر صنفا .
2- . إشارة إلى عدم تمامية سند الحديث ، فإنّ أحمد بن يحيى بن زكريا وبكر بن عبد اللّه بن حبيب وتميم بن بهلول وعبد اللّه بن محمّد بن ناظويه وغيرهم من المذكورين في السند مجاهيل غير معروفين .

الحديث السابع عشر :[ من أين لحق الشقاءُ أهلَ المعصية؟ ]

ما رويناه بأسانيدنا المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن عليّ بن محمّد ، رفعه عن شعيب العقرقوفيّ ، عن أبي بصير ، قال : كنت بين يدي أبي عبداللّه عليه السلام جالساً وقد سأله سائل ، فقال : جعلت فداك يابن رسول اللّه ، من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتّى حكم لهم في علمه بالعذاب على عملهم ؟

فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «أيّها السائل ، حُكْم اللّه عزّ وجلّ لا يقوم له أحد من خلقه بحقّه ، فلمّا حكم بذلك وهب لأهل محبّته القوّة على معرفته ، ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله ، ووهب لأهل المعصية القوّة على معصيته لسبق علمه فيهم ، ومنعهم إطاقة(1) القبول منه ، فواقعوا(2) ما سبق لهم في علمه ، ولم يقدروا أن يأتوا حالاً(3) تنجيهم من عذابه ؛ لأنّ علمه أولى بحقيقة التصديق ، وهو معنى : شاء ما شاء وهو سرّه»(4) .

وهذا الخبر من غوامض الأخبار ، ويحتاج في تطبيقه على قواعد العدليّة واُصول الإماميّة إلى نوع تكلّف .

وقد روى الصدوق هذا الخبر بعينه بهذا الإسناد عن الكلينيّ هكذا : من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتّى حكم لهم في علمه بالعذاب على عملهم ؟

فقال عليه السلام : «أيّها السائل ، عَلِمَ اللّه عزّ وجلّ ألاّ يقوم أحد من خلقه بحقّه ، فلمّا علم بذلك وهب لأهل محبّته القوّة على معرفته ، ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ما هم

ص: 139


1- . في نسخة «ر» : «طاعة القبول» .
2- . في بعض النسخ : «فوافقوا» .
3- . في هامش «ر» : «خلالاً» .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 153، باب السعادة والشقاء ، ح 2 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 156 ، ح 8 .

أهله ، ووهب لأهل المعصية القوّة على معصيتهم ؛ لسبق علمه فيهم ، ولم يمنعهم إطاقة القبول(1) منه ؛ لأنّ علمه أولى بحقيقة التصديق ، فوافقوا ما سبق لهم في علمه وإن قدروا أن يأتوا خلالاً تنجيهم من معصيته ، وهو معنى شاء ما شاء وهو سرّه»(2) .(3) انتهى .

وهو أقلّ إشكالاً وأظهر انطباقاً على مذهب العدليّة إلاّ أنّ أمره عجيب ، فإنّ الموجود في الكافي كما نقلنا ، ولعلّ النسخة التي كانت عنده هكذا ، ولا يخلو من غرابة أيضاً ؛ لتطابق النسخ الموجودة في أيدينا على ما ذكرت .

و ظَنُّ أنّه رحمه الله غيّره ليطابق مذهب العدليّة أغرب أيضاً .

وكيف كان ، فلابدّ من توجيه الحديث الأوّل ، فنقول : إنّ سؤال السائل يحتمل أن يكون المقصود منه : إنّ العلم لمّا كان تابعاً للمعلوم كيف تقدّم عليه وتوهّم أنّه يجب تأخّره عن المعلوم ؟ وجوابه حينئذٍ - وإن كان ظاهراً - وهو أنّ تابعيّته لا تستدعي تأخّره عنه بحسب الزمان ، إلاّ أنّه عليه السلام لم يُجب عنه لقصور فهم السائل .

ويحتمل أنّ غرض السائل معرفة حقيقة علمه تعالى أنّه إمّا حصوليّ أو حضوريّ ؛ فإن كان حصوليّاً فحصول الصورة لا تتصوّر في حقّه تعالى ، وإن كان حضوريّاً فهو إنّما يكون بعد وجود المعلوم .

ولمّا كانت هذه المسألة من أدقّ المسائل ، وقد تحيّرت فيها عقول الحكماء والمتكلّمين ، ودهشت فيها أفهام الفحول العارفين ، ولم يعرف حقيقة ذلك من عدا الأئمّة الطاهرين ، فأجابه عليه السلام بأنّ هذا من الغوامض ، وسبيل المتشرّعين فيه وفي أمثاله التسليم جملة ، وعدم الخوض فيه تفصيلاً ، والنهي عن التفكير في حقيقته ؛ إذ كما يمتنع إدراك حقيقة ذاته تعالى فكذا يمتنع إدراك كنه صفاته .

ويحتمل - وهو الأظهر - أن يكون غرض السائل السؤال عن سبب أصل السعادة والشقاوة وصيرورة بعض الخلق كفّاراً وبعضهم مؤمنين ، وفرقة فسّاقاً واُخرى

ص: 140


1- . في نسخة «ر» : «الطاعة للقبول» .
2- . في المصدر : «وهو سرّ» .
3- . التوحيد ، ص 354 - 355 ، ح 1 .

صالحين ، ولمّا كان هذا من غوامض مسائل القضاء والقدر ، الذي لا تدركه عقول البشر ، أجابه عليه السلام ب- «أنّ حكم اللّه لا يقوم له - أي لمعرفته وأسراره - أحد من خلقه بحقّه» ، أي بحقّ الحكم أو بحقّ القيام ، كما قال أميرالمؤمنين عليه السلام - وقد سأله سائل عن القدر - فقال : «بحر عميق فلا تلجه» ، ثمّ سأله ثانياً ، فقال : «طريق مظلم فلا تسلكه» ، ثمّ سأله ثالثة ، فقال : «سرّ اللّه فلا تتكلّفه» .(1)

ثمّ قال عليه السلام : (فلمّا حكم ذلك وهب لأهل محبّته) أي للذين علم أنّهم سيصبرون على طاعته ، ويقومون على أمره ونهيه ، ويسلكون باختيارهم بسيل محبّته . والإضافة يحتمل أن تكون إلى الفاعل أو إلى المفعول ، أي الذين أحبّهم لعلمه بأنّهم يطيعونه ، أو الذين يحبّونه .

(القوّة على معرفته) ، ولعلّ المراد بهذه القوّة هي الملكة الراسخة التي يقتدر بها على الطاعات بسهولة وإقبال ، وإلاّ فالقوّة التي هي عبارة عمّا يصلح للتأثير ، ويمكن ارتباطه بالفعل لا اختصاص لها بهم .

و(وضع عنهم ثقل العمل) بالتوفيقات والهدايات والألطاف الخاصّة .

(بحقيقة ما هم أهله) من الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيّات ؛ فالقوّة والإعانة منه تعالى لطفاً وإكراماً ، والفعل منهم على سبيل الاختيار .

(ووهب لأهل المعصية) لعلّ الهبة هنا على سبيل التهكّم ، أو يقال : إعطاء أصل القوّة لطف ورحمة ، وباستعمال العبد إيّاها في المعصية تصير شرّاً ، أو أنّهم لمّا كانوا طالبين للمعصية راغبين فيها ، فكأنّهم سألوا ذلك ووهبهم القوّة على معصيتهم .

وفي إضافة المحبّة والمعرفة إليه تعالى والمعصية إليهم لطف واضح ، وإشارة إلى أنّ المعرفة والمحبّة لمّا كانت من ألطافه تعالى وهداياته وجب أن تضاف إليه ، والمعصية لمّا كانت من مقتضيات نفوسهم وجب أن تضاف إليهم ، والمراد بمعصيتهم : المعصية التي يفعلونها بإرادتهم واختيارهم ؛ (لسبق علمه فيهم) بما

ص: 141


1- . بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 110 ، ح 35 .

يصيرون إليه من المعصية والمخالفة ؛ إذ علم تعالى أنّ التكليف لا يتمّ إلاّ بإعطاء الآلة وإلاّ لكانوا مجبورين على الترك ، (ومنعهم إطاقة القبول منه) في الطاعات وسلوك سبيل الخير .

والظاهر أنّ «منع» مصدر مضاف إلى الفاعل عطف على ضمير «فيهم» ، وإعادة حرف الجرّ غير لازمة كما عليه جملة من محقّقي النحويّين ، ووجد في القرآن المبين كقوله تعالى : « وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ »(1) فيمن قرأ بالجرّ ، أي ولسبق علمه في منعهم أنفسهم لطاقة القبول .

ويحتمل أن يكون عطفاً على السبق وتكون اللام فيهما لام العاقبة ، كما في قوله تعالى : « فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً »(2) ، أي وهب تعالى لهم القوّة مع أنّه كان يعلم عدم إطاعتهم ، وتصييرهم أنفسهم بحيث كأنّهم لا يطيقون القبول منه .

ويحتمل أن يكون «منعهم» بصيغة الماضي ويكون المراد ترك الألطاف الخاصّة ، فلمّا لم يلطف تعالى بهم فكأنّه منعهم القبول ، كما في قوله تعالى : « خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ »(3) ، والمقصود أنّة تعالى سلب منهم الألطاف الخاصّة والتوفيق والإعانة بسبب إبطالهم الاستعداد الفطريّ لإطاقة القبول منه ، وإفسادهم القوّة المعدّة لقبول الطاعة ، ولا يلزم من ذلك جبر ولا ظلم ؛ لأنّ الجبر إنّما يلزم لو لم يهب لهم القوّة على الطاعة وإطاقة القبول ، والظلم إنّما هو وضع الشيء في غير موضعه ، وهم بسبب ذلك الإبطال والاستعداد خرجوا عن استحقاق الإعانة والتوفيق .

(فواقعوا) بالقاف والعين ، وفي بعض النسخ بالفاء والقاف (ما سبق لهم في علمه) تعالى من المعاصي الموجبة لعذابهم .

و(لم يقدروا) قدرة تامّةً بسهولة كما كانت للفريق الأوّل عند الألطاف الخاصّة

ص: 142


1- . النساء 4 : 1 .
2- . القصص 28 : 8 .
3- . البقرة 2 : 7 .

(أن يأتوا حالاً تنجيهم من عذابه لأنّ علمه أولى بحقيقة التصديق) أي إنّما صاروا كذلك لأنّ علمه تعالى لا يتخلّف ، لا لأنّ العلم علّة ، بل لأنّ علمه سبحانه لا محالة يكون موافقاً للمعلوم .

(وهو معنى شاء ما شاء وهو سرّه) أي معنى مشيّة اللّه وسرّها هو هذا المعنى ، أي علمه مع التوفيق لقوم ، ومع الخذلان لآخرين على وجه لا يصير شيء منهما سبباً للإجبار على الطاعة أو المعصية .

وقال المحدّث الكاشانيّ في الوافي بعد هذا الحديث ما لفظه :

يمكن الإشارة إلى سرّ ذلك لأهله من المتعمّقين وإن كان الظاهريّون بمعزل عن فهمه ونيله ، بأن يقال : لمّا كان الخلق هم المعلومون للّه سبحانه وهو العالم بهم ، والمعلوم يعطي العالم ويجعله بحيث يدرك ما هو عليه في نفسه ولا أثر للعلم في المعلوم بأن يحدث فيه ما لا يكون في حدّ ذاته ، بل هو تابع للمعلوم ، والحكم على المعلوم تابع له ، فلا حكم من العالم على المعلوم إلاّ بالمعلوم ، وبما يقتضيه بحسب استعداده الكلّيّ والجزئيّ ، فما قدّر سبحانه على العبد الكفر والعصيان من نفسه ، بل اقتضاه أعيانهم وطلبهم بألسنة استعداداتهم أن يجعلهم كافراً أو عاصياً ، كما يطلب عين الصورة الكلبيّة الحكم عليها بالنجاسة العينيّة ، فما كانوا في علم اللّه سبحانه ظهروا به في وجوداتهم العينيّة ، فليس للحقّ إلاّ إفاضة الوجود عليهم ، والحكم لهم وعليهم ، فلا يحمدوا إلاّ أنفسهم ولا يذمّوا إلاّ أنفسهم ، ولا يبقى للحقّ إلاّ حمد إفاضة الوجود ، لأنّ ذلك له لا لهم ، فلذلك قال : « مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ »(1) ، أي ما قدّرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ثمّ طالبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ، بل ما عاملناهم إلاّ بما علّمناهم ، وما علّمناهم إلاّ بما أعطونا من نفوسهم ممّا هم عليه ، فإن كان ظلماً فهم الظالمون ، ولذلك قال : « وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »(2) . وفي الحديث : «من وجد خيراً فليحمد اللّه ، ومن وجد غير

ص: 143


1- . ق 50 : 29 .
2- . البقرة 2 : 57 .

ذلك فلا يلومنّ إلاّ نفسه» .

فإن قلت : فما فائدة قوله سبحانه : « فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ »(1) ؟

قلنا : «لو» حرف امتناع لامتناع الشرط ، فما شاء إلاّ ما هو الأمر إليه ، ولكنّ عين الممكن قابل للشيء ونقيضه في حكم دليل العقل ، وأيّ الحكمين المعقولين وقع فهو الذي عليه الممكن في حال ثبوته في العلم ، فمشيّته أحديّة التعلّق وهي نسبة تابعة للعلم ، والعلم نسبة تابعة للمعلوم ، والمعلوم أنت وأحوالك ، فعدم المشيّة معلّل بعدم إعطاء أعيانهم هداية الجميع ؛ لتفاوت استعداداتهم ، وعدم قبول بعضها للهداية ، وذلك لأنّ الاختيار في حقّ الحقّ تعارضه وحدانيّة المشيئة ، فنسبته إلى الحقّ من حيث ما هو الممكن عليه لا من حيث ما هو الحقّ عليه ، قال تعالى : « وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي »(2) ، وقال : « أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ »(3) ، وقال : « مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ » ، فهذا هو الذي يليق بجناب الحقّ ، والذي يرجع إلى الكون : « وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا »(4) فما شاء ، فإنّ الممكن قابل للهداية والضلال من حيث ما هو قابل ، فهو موضع الانقسام ، وفي نفس الأمر ليس للحقّ فيه إلاّ أمر واحد .

فإن قلت : حقائق المخلوقات واستعداداتها فائضة من الحقّ سبحانه فهو جعلها كذلك .

قلنا : الحقائق غير مجعولة ، بل هي صورة علميّة للأسماء الإلهيّة ، وإنّما المجعول وجوداتهم في الأعيان ، والوجودات تابعة للحقائق ، ولنقبض عنان القلم عن أمثال هذه الأسرار فإنّها من جملة أسرار القدر المنهيّ عن إفشائها ، وللّه الحمد .(5) انتهى .

ص: 144


1- . الأنعام 6 : 149 .
2- . السجدة 32 : 13 .
3- . الزمر 39 : 19 .
4- . السجدة 32 : 13 .
5- . الوافي ، ج 1 ، ص 531 - 529 باختلاف يسير .

أقول : ليته رحمه الله أمسك عنان القلم من أوّل الأمر ، فإنّه وإنْ دقّق إلاّ أنّ هذا مسلك صعب سالكه على خطر عظيم ، وقد ادّعى مايخالف البرهان وظاهر الكتاب والسنّة، والذي ينبغي لأمثالنا الإذعان والتسليم ، وعدم الفحص عن هذه الدقائق وإيكال علمها إلى اللّه وأنبيائه وأوليائه .

ص: 145

الحديث الثامن عشر :[ إنّ اللّه خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه ]

اشارة

ما رويناه بالأسانيد السابقة عن شيخنا المقدّم ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن صفوان بن يحيى ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ اللّه خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه ؛ فمن خلقه اللّه سعيداً لم يبغضه أبداً ، وإن عمل شرّاً أبغض عمله ولم يبغضه ، وإن كان شقيّاً لم يحبّه أبداً ، وإن عمل صالحاً أحبّ عمله وأبغضه

لما يصير إليه ، فإذا أحبّ اللّه شيئاً لم يبغضه أبداً ، وإذا أبغض شيئاً لم يحبّه أبداً»(1) .

بيان :

تطبيق هذا الحديث على قواعد العدليّة واُصول الإماميّة يقتضي أن يحمل الخلق في خلق السعادة والشقاء على الخلق التقديريّ لا التكوينيّ ، والخلق الثاني في قوله : «قبل أن يخلق خلقه» على الخلق التكوينيّ الموجود في الخارج ، والسعادة قد تطلق على ما يوجب دخول الجنّة والراحة الأبديّة واللذّات الدائمة ، ضدّ الشقاوة التي هي ما يوجب دخول النار والعقوبات الأبديّة والآلام الدائمة ، وقد تطلق السعادة على كون خاتمة الأعمال بالخير ، والشقاوة على كون خاتمة الأعمال بالشرّ .

والمراد - واللّه أعلم - أنّ اللّه قدّرهما بتقدير التكاليف الموجبة لهما ، أو كتب فيالألواح السماويّة كون فلان من أهل الجنّة ، وفلان من أهل النار موافقاً لعلمه سبحانه التابع لما يختارونه بعد وجودهم وتكليفهم بإرادتهم واختيارهم .

ص: 146


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 152، باب السعادة والشقاء ، ح 1 ؛ التوحيد ، ص 357 ، ح 5 ، بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 157 ، ح 11 ؛ تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 396 .

والمراد بالخلق ثانياً الإيجاد في الخارج ؛ (فمن خلقه اللّه سعيداً) أي علمه وقدّره سعيداً ، وخلقه عالماً بأن سيكون سعيداً لم يبغضه ، أي لم يعاقبه أبداً ، ويحتمل أنّ النفي متوجّه إلى القيد .

(وإن عمل شرّاً) بمقتضى ما فيه من القوّة الداعية إلى الشرّ (أبغض عمله) أي ذمّ فعله ، وحكم بأنّ هذا الفعل ممّا يستحقّ به العقاب ، ولم يبغض الفاعل ، ولم يحكم بأنّه مستحقّ للعقاب لعلمه تعالى أنّه يوفّق للتوبة ، أو تمحى ذنوبه بالآلام والمصائب والمحن والهموم والغموم .

(وإن كان شقيّاً) في علمه تعالى ، بأن يعلم أنّه يموت على الكفر والضلال لم يحبّه أبداً ، أي لا يحكم بأنّه من أهل الجنّة ولا يثني عليه ؛ لما يعلم من عاقبته وسوء خاتمته باختياره .

(وإن عمل صالحاً) لما فيه من تلك القوّة الداعية إلى الإصلاح (أحبّ عمله) وحكم بأنّ هذا العمل ممّا يستحقّ عامله الثواب إن لم يعمل ما يحبطه أو يزيله من الكفر وغيره ، وربّما كافأه بالإحسان والإنعام في الدنيا ليرِد عليه خالياً عمّا يوجب الدخول

في الجنّة .

(وأبغضه) أي الفاعل ، وحكم بأنّه من أهل النار لما يعلم من اختياره أخيراً الكفر والطغيان وسوء الخاتمة ، فإذا أحبّ اللّه شيئاً - سواء كان شخصاً أو عملاً - لم يبغضه

أبداً ، وكذا العكس بالمعنى الذي ذكر للحبّ والبغض .

فائدة : في السرّ في اختلاف الناس في السعادة والشقاوة

قال المحدّث الكاشانيّ :

السرّ في تفاوت النفوس في الخير والشرّ ، واختلافها في السعادة والشقاوة هو : اختلاف الاستعدادات وتنوّع الحقائق ، فإنّ الموادّ السفليّة - بحسب الخلقة والماهيّة - متباينة في اللطافة والكثافة ، وأمزجتها مختلفة في القرب والبعد من الاعتدال الحقيقيّ والأرواح الإنسيّة التي بإزائها مختلفة بحسب الفطرة الاُولى في الصفاء والكدورة والقوّة والضعف ، مترتّبة في درجات القرب والبعد من

ص: 147

اللّه تعالى ؛ لما تقرّر وتحقّق أنّ بإزاء كلّ مادّة ما يناسبها من الصور ، فأجود الكمالات لأتمّ الاستعدادات ، وأخسّها لأنقصها كما اُشير إليه بقوله عليه السلام : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ، خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام» فلا يمكن لشيء من المخلوقات أن يظهر في الوجود ذاتاً وصفة وفعلاً إلاّ بقدر خصوصيّة قابليّته واستعداده الذاتيّ .

ووجه آخر وهو : أنّه قد ثبت أنّ للّه عزّ وجلّ صفاتا وأسماءا متقابلة هي من أوصاف الكمال ونعوت الجلال ، ولها مظاهر متباينة ، بها يظهر أثر تلك الأسماء ، فكلّ اسم من الأسماء يوجب تعلّق إرادته سبحانه وقدرته إلى إيجاد مخلوق يدلّ عليه من حيث اتّصافه بتلك الصفة ، فلذلك اقتضت رحمة اللّه عزّ وجلّ إيجاد المخلوقات كلّها لتكون مظاهر لأسمائه الحسنى ومجالي(1) لصفاته العليا .

مثلاً : لمّا كان قهّاراً أوجد المظاهر القهريّة التي لا يترتّب عليها إلاّ أثر القهر من الجحيم وساكنيه والزقّوم ومتناوليه ، ولمّا كان عفوّاً أوجد مجالي للعفو والغفران يظهر فيها آثار رحمته ، وقس على هذا ؛ فالملائكة ومن ضاهاهم من الأخيار وأهل الجنّة مظاهر اللطف ، والشياطين ومن والاهم من الأشرار وأهل النار مظاهر القهر ، ومنها تظهر السعادة والشقاوة ؛ فمنهم شقيّ وسعيد .

فظهر أن لا وجه لإسناد الظلم والقبائح إلى اللّه تعالى ؛ لأنّ هذا الترتيب والتمييز من وقوع فريق في طريق اللطف ، وآخر في طريق القهر من ضروريّات الوجود والإيجاد ، ومن مقتضيات الحكمة والعدالة .

ومن هنا قال بعض العلماء : ليت شعري لِمَ لا يُنسب الظلم إلى الملك المجازي حيث يجعل بعض من تحت تصرّفه وزيراً قريباً ، وبعضهم كنّاساً بعيداً ؛ لأنّ كلاًّ منهما من ضروريّات مملكته ، وينسب الظلم إلى اللّه تعالى في تخصيص كلّ من عبيده بما خصّص ، مع أنّ كلاًّ منهما ضروريّ في مقامه .(2) انتهى كلامه رحمه الله .

ص: 148


1- . جمع مجلى ، بمعنى المظهر .
2- . الوافي ، ج 1 ، ص 528 .

تبصرة : [في السرّ في اختلاف الناس في السعادة والشقاوة أيضا]

قال المحقّق المازندرانيّ بعد الحديث المذكور :

الإنسان عبارة عن مجموع الجوهرين : النفس والبدن ، ولكلّ واحد منهما طريقان : طريق الخير ، وطريق الشرّ ؛ فطريق الخير للأوّل العقائد الصحيحة والأخلاق المرضية ، وللثاني هي : الأعمال الحسنة ، وطريق الشرّ للأوّل هي : العقائد الباطلة والأخلاق الرذلة ، وللثاني هي الأعمال القبيحة ، فإن استقام هذان الجوهران في شخص دائماً - كما في الأنبياء والأوصياء - كان سعيداً مطلقاً ، محبوباً للّه تعالى دائماً غير مبغوض أبداً .

وإن لم يستقم شيء منهما أبداً كان شقيّا مطلقاً مبغوضاً أبداً غير محبوب أصلاً .

وإن استقام الأوّل دائماً دون الثاني كان هو محبوباً دائماً غير مبغوض أبداً ؛ لأنّ الجوهر الأوّل أولى بالحقيقة الإنسانيّة ، بل هو الإنسان حقيقة ، وكان عمله مبغوضاً .

وإن استقام الثاني دائماً دون الأوّل كان هو مبغوضاً وعمله محبوباً .

وإن استقام كلّ واحد منهما في وقت دون آخر يعتبر حاله في الخاتمة ، فإن استقاما أو استقام الأوّل وحده كان هو عند اللّه محبوباً ، وكان عمله مبغوضاً ، وإن استقام الثاني أو لم يستقم شيء منهما كان هو عند اللّه مبغوضاً ، وكان عمله محبوباً ، وكلّما

كان العمل وحده مبغوضاً أمكن أن تتداركه التوبة أو المصيبة الدنيويّة أو البرزخيّة أو الشفاعة أو العفو .

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الكافر الذي يؤمن محبوب له تعالى في علم الغيب والمؤمن الذي يكفر مبغوض أبداً .

لا يقال : هذا ينافي قوله تعالى : « لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ »(1) ، فإنّ هؤلاء كانوا محبوبين للّه تعالى ؛ لأنّ الرضا عنهم يوجب المحبّة ، ثمّ صار بعضهم مبغوضاً بالنفاق في حال حياته صلى الله عليه و آله ، وبعضهم بالخلاف بعده .

ص: 149


1- . الفتح 48 : 18 .

لأنّا نقول : الرضا متعلّق بالمؤمنين ، وكون هؤلاء من المؤمنين عند المبايعة ممنوع ، وعلى تقدير التسليم كان الرضا مشروطاً بالوفاء وعدم النكث ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : « فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ »(1) ، وهؤلاء لمّا نكثوا عُلم أنّهم فقدوا شروط المحبّة .(2)

انتهى كلامه رفع مقامه .

ص: 150


1- . الفتح 48 : 10 .
2- . شرح المازندراني ، ج 4 ، ص 280 - 279 .

الحديث التاسع عشر :[ خلق اللّه تعالى الخير والشر ]

ما روينا بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي ، وعن الصدوق عن العدّة ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن ابن محبوب وعليّ بن الحسين ، عن معاوية بن وهب قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «إنّ ممّا أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام وأنزل عليه في التوراة : إنّي أنا اللّه لا إله إلاّ أنا خلقت الخلق وخلقت الخير وأجريته على يدي من اُحبّ ؛ فطوبى لمن أجريته على يديه . وأنا اللّه لا إله إلاّ أنا خلقت الخلق ، وخلقت الشرّ وأجريته على يدي من اُريد ؛ فويل لمن أجريته على يديه»(1) .

وعن محمّد بن مسلم في الحسن ، قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : «إنّ في بعض ما أنزل اللّه من كتبه : إنّي أنا اللّه لا إله إلاّ أنا خلقت الخير وخلقت الشرّ ؛ فطوبى لمن أجريت على يديه الخير ، وويل لمن أجريت على يديه الشرّ ، وويل لمن قال : كيف ذا وكيف ذا؟»(2) .

وعن الصادق عليه السلام قال : «قال اللّه عزّ وجلّ : أنا اللّه لا إله إلاّ أنا خالق الخير والشرّ ؛ فطوبى لمن أجريت على يديه الخير ، وويل لمن أجريت على يديه الشرّ ، وويل لمن يقول : كيف ذا وكيف ذا؟» . قال يونس : يعني من ينكر هذا لا من يتفقّه فيه(3) .

كشف وإيضاح :

الخير والشرّ تارة يطلقان على الطاعة والمعصية ، وتارة على أسبابهما ودواعيهما ،

ص: 151


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 154 ، باب خلق الخير والشرّ ، ح 1 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 283 ، ح 414 ؛ و عن المحاسن في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 160 ، ح 18 . ولم نعثر عليه في كتب الشيخ الصدوق .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 154 ، باب خلق الخير والشرّ ، ح 2 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 283 ، ح 415 ؛ و عن المحاسن في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 160 ، ح 19 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 154 ، باب خلق الخير والشرّ ، ح 3 .

واُخرى على المخلوقات النافعة - كالحبوب والثمار والحيوانات المأكولة - والمخلوقات الضارّة - كالسموم والحيّات والعقارب - ، ومرّة على النعم والبلايا .

والأشاعرة على أنّ جميع ما ذكر من فعل اللّه تعالى ؛ لظواهر كثير من الآيات والأخبار ، وما ورد أنّه خالق الخير والشرّ ، وهذه الأخبار الثلاثة ظاهرها ذلك ، والمعتزلة خالفوهم في أفعال العباد واستدلّوا على ذلك ببراهين عقليّة ونقليّة ليس هنا

موضع ذكرها .

إذا عرفت هذا فانطباق هذه الأخبار على مذهب العدليّة يمكن بتوجيهات :

أحدها : أن تحمل على التقيّة ؛ لموافقتها العامّة .

ثانيها : أن يكون المراد بالخير(1) والشرّ المخلوق له تعالى ما لا يلائم الطبع ، وإن كان مشتملاً على مصلحة ، كخلق الحيوانات المؤذية والعقاقير المرّة ، لا ما كان مستلزماً للفساد ولم يكن فيه مصلحة أصلاً ، فإنّه منفيّ عنه تعالى عقلاً ونقلاً ، ولهذا ذهب الحكماء إلى أنّ كلّ ما يمكن صدوره من الحكيم إمّا أن يكون كلّه خيراً أو كلّه شرّاً ، أو بعضه خيراً وبعضه شرّاً ، فإن كان كلّه خيراً وجب عليه تعالى خلقه ، وإن كان كلّه شرّاً لم يجُز خلقه ، وإن كان بعضه خيراً وبعضه شرّاً ، فإمّا أن يكون خيره أكثر من شرّه فهو واجب على اللّه خلقه أيضاً ، وإن كان شرّه أكثر من خيره أو كانا متساويين لم يجز خلقه ، وما ترى من المؤذيات في العالم فخيرها أكثر من شرّها .

ثالثها : ما حكي عن بعض شارحي نهج البلاغة حيث جمع بين ما روي في دعاء التوجّه : «الخير في يديك ، والشرّ ليس إليك» وبين ما روي في بعض الأدعية : «اللّهمّ أنت خالق الخير والشرّ» بأنّ المراد بالأوّل أنّ الأفعال التي فعلها اللّه وأمر بها حسنة كلّها ، وليست القبائح من أفعاله تعالى ولا من أوامره ، ومعنى الثاني أنّه تعالى خالق الجنّة والنار .(2)

رابعها : أنّ المراد بالخلق هو التقدير ، واللّه سبحانه وتعالى هو المقدّر لجميع

ص: 152


1- . هذا بيان للمراد من الشرّ ، ولا وجه لذكر الخير ظاهرا .
2- . منهاج البراعة للراوندي ، ج 3 ، ص 299 - 300 .

الأشياء ، المبيّن لحدودها ونهاياتها حتّى الخير والشرّ .

خامسها : أنّ المراد بالخير والشرّ الآلات والأسباب التي بها يتيسّر فعل الخير والشرّ ، كما أنّه سبحانه خلق الخمر وخلق في الناس القدرة على شربها .

سادسها : أنّ الخير والشرّ كناية عن أنّهما يحصلان بتوفيقه وخذلانه ، فكأنّه خلقهما .

سابعها : أنّ المراد بالخير والشرّ النعم والبلايا ، أو المراد بخلقهما خلق من يعلم أنّه يكون باختياره مختاراً للخير أو مختاراً للشرّ .

ثمّ إنّ غرض يونس رحمه الله أنّ الويل لمن أنكر كون خالق الخير والشرّ هو اللّه تعالى بتفقّهه وعلمه اتّكالاً على عقله ، وأمّا من سأل عن عالم وغرضه الاستفهام ، أو اتّضاح الأمر ، أو يخطر بباله من غير شكّ له ، أو يؤمن به مجملاً وهو متحيّر في معناه ، معترف بجهل مغزاه لقصور فهمه وعقله عن إدراكه ، فلا يشمله التهديد والوعيد ولا ويل له ، واللّه العالم .

ص: 153

الحديث العشرون :[ القضاء والقدر ]

ما رويناه بالأسانيد السالفة عن جملة من مشايخنا الأعلام ، وفضلائنا الكرام ، ومنهم ثقة الإسلام وعلم الأعلام في الكافي(1) ، ورئيس المحدّثين محمّد بن بابويه في كتاب التوحيد(2) بأسانيد عديدة ، وفي عيون الأخبار(3) بطرق متعدّدة ، وأحمد بن أبي طالب الطبرسيّ في كتاب الاحتجاج(4) ، والكراجكيّ في كنز الفوائد(5) وغيرهم في غيرها بطرق عديدة ومتون سديدة .(6)

ففي العيون والتوحيد عن الدقّاق عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق ، عن محمّد بن الحسن الطائيّ ، عن سهل بن زياد ، عن عليّ بن جعفر الكوفيّ ، عن عليّ بن محمّد الهادي عليه السلام عن آبائه عن الحسين بن عليّ أميرالمؤمنين عليه السلام .

وعن محمّد بن عمر الحافظ البغداديّ ، عن إسحاق بن جعفر العلويّ ، عن أبيه ، عن سليمان بن محمّد القرشيّ ، عن إسماعيل بن أبي زياد ، عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن جدّه عن أبيه .

وعن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الفارسيّ ، عن أحمد بن محمّد بن رميح النسويّ ، عن عبدالعزيز بن إسحاق بن جعفر ، عن عبدالوهّاب بن عيسى المروزيّ ،

ص: 154


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 155 ، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح 1 .
2- . التوحيد ، ص 380 ، ح 28 .
3- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 126 ، ح 38 .
4- . الاحتجاج ، ج 1 ، ص 310 .
5- . كنز الفوائد ، ص 169 .
6- . الإرشاد ، ج 1 ، ص 235 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 12 و 13 و 14 ، ح 9 .

عن الحسن بن عليّ بن محمّد البلويّ ، عن محمّد بن عبداللّه بن نجيح ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عن أبيه .

وعن أحمد بن الحسن القطّان ، عن الحسن بن عليّ البلويّ ، عن محمّد بن زكريّا الجوهريّ ، عن العبّاس بن بكّار الضبّيّ ، عن أبي بكر الهذليّ ،عن عكرمة ، عن ابن عبّاس .

وفي الاحتجاج رواه عن العسكريّ في رسالته إلى أهل الأهواز .

وفي كنز الفوائد عن المفيد ، عن محمّد بن عمر الحافظ ، عن إسحاق بن جعفر العلويّ ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ ، عن سليمان بن محمّد القرشيّ ، عن السكونيّ ، عن الصادق عن أبيه عن جدّه عليهم السلام .

والكلينيّ عن عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد وإسحاق بن محمّد ، وغيرهما رفعوه - واللفظ هنا للكلينيّ - قال :

كان أميرالمؤمنين عليه السلام جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفّين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه ، ثمّ قال : يا أميرالمؤمنين ، أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء اللّه وقدره ؟

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : «أجل يا شيخ ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من اللّه وقدره» .

فقال له الشيخ : عند اللّه أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين .

فقال له : «مه يا شيخ ، فواللّه ، لقد عظّم اللّه لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليه مضطرّين» .

فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرّين ، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا و منصرفنا ؟

فقال له : «وتظنّ أنّه قضاء حتم وقدر لازم ، إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من اللّه ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمان ، وحزب الشيطان ، وقدريّة هذه الاُمّة ومجوسها ، إنّ اللّه تبارك وتعالى

ص: 155

كلّف تخييراً ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعص مغلوباً ، ولم يُطع مكرهاً ، ولم يملك مفوّضاً ، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً ، ولم يبعث النبيّين

مبشّرين ومنذرين عبثاً « ذلِكَ ظَنُّ الَّذِين كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ »»(1) .

فأنشأ الشيخ يقول :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته *** يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً *** جزاك ربّك بالإحسان إحسانا

وزاد في التوحيد والعيون :

فليس معذرة في فعل فاحشة *** قد كنت راكبها فسقاً وعصيانا

لا لا ولا قائلاً ناهيه أوقعه *** فيها عبدت إذاً يا قوم شيطانا

ولا أحبّ ولا شاء الفسوق ولا *** قتل الوليّ له ظلماً وعدوانا

أنّى يحبّ وقد صحّت عزيمته *** ذوالعرش أعلن ذاك اللّه إعلانا

وفي بعض روايات العيون والتوحيد : فقال له الشيخ : يا أميرالمؤمنين ، فما القضاء والقدر اللذان ساقانا ، وما هبطنا وادياً ولا علونا تلعة إلاّ بهما ؟

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : «الأمر من اللّه والحكم ، ثمّ تلا هذه الآية : « وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً »(2) أي أمر ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه» .

وفي الاحتجاج قال : وروي أنّ الرجل قال : فما القضاء والقدر اللذان ذكرت يا أميرالمؤمنين ؟

قال : «الأمر بالطاعة ، والنهي عن المعصية ، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية والمعونة على القرب إليه ، والخذلان لمن عصاه ، والوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، كلّ ذلك قضاه اللّه في أفعالنا ، وقدّره لأعمالنا ، أمّا غير ذلك فلا تظنّه ، فإنّ الظنّ له محبط للأعمال» .

فقال الرجل : فرّجت عنّي يا أميرالمؤمنين فرّج اللّه عنك .

ص: 156


1- . ص 38 : 27 .
2- . الإسراء 17 : 23 .

إيضاح وتحقيق :

(صِفّين) ك- «سِجّين» اسم موضع قريب (الرقّة) بشاطئ الفرات ، كانت به الواقعة العظمى بين معاوية وأميرالمؤمنين عليه السلام .

و(جثا) ك- «دعا» و«رمى» يجثو جثياً وجثواً - بضمّهما - : جلس على ركبتيه ، أو قام على أطراف أصابعه .

(تلعة) هي ما ارتفع من الأرض .

و(بطن واد) هو ما انخفض من الأرض .

(عند اللّه أحتسب عنائي) العناء - بالفتح والمدّ - : التعب والنصب ، ويحتمل أن يكون استفهاماً إنكاريّاً ، أي كيف أحتسب أمر مشقّتي عند اللّه وقد كنت مجبوراً في فعلي ؟ ويحتمل الإخبار ، أي : لا أستحقّ شيئاً بهذا الفعل ، إذ لا معنى لأجر شخص بفعل غيره ، ولعلّ اللّه يعطيني بفضله من غير استحقاق للتفضّل .

ويؤيّده أنّ في بعض الروايات بعده : ولا أرى لي في ذلك أجراً ، فردّ عليه عليه السلام ، وذكر أنّه ليس قضاء حتماً يبلغ حدّ الإكراه والاضطرار ، وقال له : «مه» أي اسكت واكفف نفسك عن هذا الكلام .

وفي العيون : «مهلاً يا شيخ ، لقد عظّم اللّه لكم الأجر في مسيركم» مصدر ميميّ بمعنى السير ، وكذا المقام والمنصرف ، ويحتمل كونها اسم زمان أو مكان ، وأكّده عليه السلام بالقسم - مع أنّه صادق مصدّق - لمطابقته مقتضى الحال ، فإنّ المقام مقام إنكار كما عرفت ، أو استعظام .

وقوله عليه السلام : (وأنتم سائرون ومقيمون) أي بإزاء العدوّ بصفّين .

و(منصرفون) أي راجعون ، تصريح بنسبة تلك الأفعال إلى قدرتهم المؤثّرة .

(ولم تكونوا في شيء من حالاتكم) من السير والإقامة والانصراف (مكرهين) كما زعمته الجبريّة الصرفة ، (ولا إليه مضطرّين) كما زعمته الأشاعرة ، وأثبتوا الكسب كما سيأتي إن شاء اللّه ، فيكون الإكراه أشدّ من الاضطرار .

ولمّا توهّم السائل من الجوابين التدافع والتنافي ، قال : وكيف ... إلخ ؟ فأجابه عليه السلام وقال : (وتظنّ) وهو عطف على مقدّر مستفهم عنه ، أي أظننت قبل الجواب

ص: 157

وتظنّ الآن (أنّه) كان (قضاء حتماً) محكماً مبرماً موجباً بحيث لا يكون في وسع العبد خلافه ، ولا مدخل لاختيار العبد وإرادته فيه (وقدراً لازماً) لا اختيار في متعلّقه ولا قدرة على فعله وتركه ؟ بل المراد بهذا القضاء والقدر المتعلّقين بأفعال العباد : الأمر

والنهي ، وبيان حسن الأفعال وقبحها ومباحها وحرامها وفرضها ونفلها ، أو العلم بها ، أو الثبت في الألواح السماويّة ، وشيء منها لا يصير سبباً للجبر والاضطرار .

ثمّ أبطل مذهب الجبريّة والأشاعرة بقوله : (إنّه لو كان كذلك) أي قضاءاً حتماً وقدراً لازماً (لبطل الثواب والعقاب) المترتّبان على الطاعات والمعاصي ، التابعين للاختيار دون الإجبار (والأمر والنهي) ؛ إذ طلب الفعل والترك متفرّعان على الاختيار ، ولا يتصوّران مع الإجبار ، فإنّ من طلب الطيران من الإنسان وعدم الإحراق من النار عُدَّ سفيهاً جاهلاً ، تعالى اللّه عن ذلك .

(والزجر من اللّه) ببلاياه النازلة على العصاة بعصيانهم ، وأحكامه تعالى في القصاص والحدود ونحو ذلك ؛ لأنّ زجره تعالى للعبد إنّما يتصوّر إذا كان العبد قادراً مختاراً ، والمفروض خلافه ، ألا ترى أنّك لو زجرت الأعمى عن الإبصار نُسبت إلى السفه .

(وسقط الوعد) على الثواب ، (والوعيد) على العقاب المقصود منهما إتيان الحسنات وترك السيّئات ؛ إذ ذلك لا يعقل من المجبور في أفعاله ، فالوعد والوعيد سفه وعبث ، تعالى اللّه عنهما .

وأيضاً على هذا التقدير تكون جميع القبائح مستندة إليه تعالى ، ولو جاز ذلك جاز أن يخلف الوعد والوعيد ، ويكرم العاصي ويعاقب المطيع ، ويكذب في الإخبار بأحوال الآخرة ، ويصدّق الكاذب بإظهار المعجزة على يده ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً

كبيراً .

ثمّ أكّده بقوله عليه السلام : (فلم تكن لائمة للمذنب ، ولا محمدة للمحسن) ؛ إذ لا معنى لتوجّه اللوم والمدح إليهما مع صدور الذنب والإحسان من غيرهما .

كما حكي أنّه قال عدليٌّ لجبريّ : إنّكم إذا ناظرتم أهل العدل قلتم بالقدر ، وإذا دخل أحدكم منزله ترك ذلك لأجل فِلْس . قال : وكيف ذاك ؟ قال : إذا كسرت جاريته كوزاً يسوى فلساً ضربها وشتمها ونسي مذهبه .

ص: 158

وحكي عن سلام القاري أنّه صعد المنارة فأشرف على بيته ، فرأى غلامه يفجر بجاريته ، فبادر بضربهما ، فقال الغلام : القضاء والقدر ساقانا ، فقال : لعلمك بالقضاء والقدر أحبّ إليّ من كلّ شيء ، أنت حرّ لوجه اللّه .

ورأى شيخ بإصبهان منهم رجلاً يفجر بأهله ، فجعل يضرب امرأته وهي تقول : القضاء والقدر ، فقال : يا عدوّة اللّه أتزنين وتعتذرين بمثل هذا ؟ فقالت : أوتركت السنّة وأخذت مذهب ابن عبّاد الرافضيّ ، فتنبّه وألقى السوط وقبّل ما بين عينيها واعتذر إليها ، وقال : أنت سنّيّة حقّاً ، وجعل لها كرامة على ذلك .

ويأتي كثير من حكاياتهم في مقام أليق إن شاء اللّه .(1)

(ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب) .

وفي رواية الأصبغ بن نباتة عن أميرالمؤمنين عليه السلام التي نقلها العلاّمة في شرح التجريد هكذا : «ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ، ولا المسيء أولى بالذمّ من المحسن» .(2)

وفي الاحتجاج - على ما في البحار - : «ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب ، ولا المذنب أولى بعقوبة الذنب من المحسن» .(3)

وهاتان الروايتان أظهر معنى من رواية الكافي والتوحيد والعيون ؛ إذ العبد إذا كان مسلوب الاختيار كان المحسن والمسيء متساويين في عدم القدرة وعدم استناد أفعالهما إليهما ، فلا يكون الأوّل أولى بالمدح من الثاني ، ولا الثاني أولى بالذمّ من الأوّل ، بل لهما رتبة التساوي في المدح والذمّ .

وأمّا على الرواية السابقة ففيه إشكال ؛ لأنّهما إذا كانا متساويين فكيف يوصف المذنب بأنّه أولى بالإحسان من المحسن ، والمحسن أولى بالعقوبة من المذنب ؟

ص: 159


1- . انظر : شرح الحديث الحادي والعشرين .
2- . كشف المراد ، ص 434 .
3- . بحار الأنوار ، ج 5 ص 96 ، ح 19 ؛ الاحتجاج ، ج 1 ، ص 310 .

ويمكن توجيهه بوجوه :

أحدها : أنّه تعالى لمّا أجبر المذنب على القبائح بزعمهم ، والقبائح من حيث هي لذّات حاضرة إحسان ، وأجبر المحسن على الطاعات ، والطاعات من حيث هي مشقّة عقوبة حاضرة ، فكان المذنب أولى بالإحسان والمحسن أولى بالعقوبة ، وتوضيح ذلك : أنّه لمّا بطل الثواب والعقاب والأمر والنهي ، والزجر والوعد والوعيد ، ولم يبق حينئذٍ إلاّ الإحسان والعقوبة الدنيويّة ، فيكون المذنب في الدنيا كالسلطان القاهر الصحيح الذي يكون في غاية التنعّم ، ويأتي بكلّ ما يشتهيه من الشرب والزنا والقتل والقذف وأخذ أموال الناس وغير ذلك ، وليس له مشقّة التكاليف الشرعيّة .

والمحسن كالفقير المريض الذي يكون دائماً في التعب والنصب من التكاليف الشرعيّة من الإتيان بالمأمورات والانتهاء عن المنهيّات ، ومن قلّة المؤنة وتحصيل المعيشة من الحلال في غاية المشقّة ، فحينئذٍ الإحسان الواقع للمذنب أكثر ممّا وقع للمحسن فهو أولى بالإحسان من المحسن ، والعقوبة الواقعة على المحسن أكثر ممّا وقع على المذنب ، فهو أولى بالعقوبة من المذنب .

ثانيها : أن يكون المعنى أنّه لو فرض جريان المدح والذمّ أو استحقاقهما واستحقاق الإحسان والإثابة والعقوبة وترتّبها على الأفعال الاضطراريّة الخارجة عن القدرة والاختيار لكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن وبالعكس ؛ لأنّ في عقوبة المسيء على ذلك التقدير جمعٌ بين إلزامه بالسيّئة القبيحة عقلاً وجعله مورداً لملامة العقلاء وعقوبته عليها ، وكلّ منهما إضرار وإزراء به ، وفي إثابة المحسن جمعٌ بين إلزامه بالحسنة الممدوحة عقلاً - ويصير بذلك ممدوحاً عند العقلاء - وإثابته عليها ،

وكلّ منهما نفع وإحسان إليه ، وفي خلاف ذلك يكون لكلّ منهما نفع وضرر ، وهذا بالعدل أقرب ، وذلك بخلافه أشبه .

ثالثها : أنّ المعصية راحة حاضرة ، والطاعة مشقّة ظاهرة ، وجبرهما على ذلك إمّا لأجل القابليّة أو لأنّه يفعل ما يشاء ولا يقبح منه شيء ، وعلى التقديرين تلزم الأولويّة المذكورة :

أمّا على الأوّل فلأنّ الذات غير متغيّرة في النشأتين ، فيلزم أن تكون ذات المذنب

ص: 160

أولى بالراحة والإحسان دائماً ، وذات المحسن أولى بالمشقّة والعقوبة دائماً ؛ ليصل إلى كلّ واحد ما عُوّد به وما هو به أليق .

وأمّا على الثاني فلأنّ الأصل بقاء ما كان على ما كان ، فيلزم أن يحسن إلى المذنب ويثيبه فيحصل له الربح في الدارين ويتخلّص من المشقّة في الكونين ، وأن يعاقب المحسن فيحصل له مع المشقّة الحاضرة المشقّة في الآخرة .

رابعها : أنّ المذنب - لصدور القبائح والسيّئات منه - متألّم منكسر البال ، لظنّه أنّها وقعت منه باختياره ، وقد كانت بجبر جابر وقهر قاهر فيستحقّ الإحسان ، وأنّ المحسن لفرحه بصدور الحسنات منه وزعمه أنّه قد فعلها بالاختيار أولى بالعقوبة من المذنب .

خامسها : ما قاله المحدّث الكاشانيّ في الوافي ، قال :

إنّما كان المذنب أولى بالإحسان لأنّه لا يرضى بالذنب كما يدلُّ عليه جبره عليه ، فجبره عليه يستدعي إحساناً في مقابلته ، والمحسن أولى بالعقوبة لأنّه لا يرضى بالإحسان لدلالة الجبر عليه ، ومن لا يرضى بالإحسان أولى بالعقوبة من الذي يرضى به(1) .

وفيه تأمّل .

(تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان) أي أشباههم ؛ لأنّ عبدة الأوثان الذين كانوا في عصر النبيّ صلى الله عليه و آله بعضهم كان يقول بنفي الحشر والنشر والثواب والعقاب ، وبعضهم كان يقول بالجبر كما حكى اللّه تعالى عنهم بقوله : « وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا »(2) ، أي جعلنا اللّه مجبورين عليها ، وقوله تعالى : « وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ »(3) .

وقيل : إنّما كانوا إخوانهم لأنّ القول بما يستلزم بطلان الثواب والعقاب في حكم القول بلازمه ، والقول ببطلان الثواب والعقاب قول عبدة الأوثان .

ص: 161


1- . الوافي ، ج 1 ، ص 536 .
2- . الأعراف 7 : 28 .
3- . النحل 16 : 35 .

(وخصماء الرحمان) فيه وجوه :

الأوّل : أنّهم نسبوا إليه سبحانه ما لا يليق بجنابه من الظلم والجور ، وأيّة خصومة وعداوة تكون أشدّ من ذلك ؟

الثاني : أنّ إنكار الأمر والنهي إنكار للتكليف ، والمنكرون للتكليف خصماء المكلِّف الآمر الناهي .

الثالث : أنّه لمّا نسب سبحانه في آيات كثيرة أفعال العباد إليهم ، وصرّح في كثير منها ببراءته تعالى من القبائح والظلم ، كقوله تعالى : « إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ »(1) ، « إِنَّ اللّهَ لاَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ »(2) ، « إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ »(3) ، « وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ »(4) ، وهؤلاء يقولون نحن براء من القبائح وأنت تفعلها ، فلا مخاصمة أعظم من ذلك .

(وحزب الشيطان) لأنّه لعنه اللّه أشعريّ الاُصول ، حنفيّ الفروع ، والدليل على ذلك كتاب اللّه تعالى القاطع ، فقد قال : « فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي »(5) ، فنسب الإغواء إلى اللّه تعالى ، وهو مذهب الأشاعرة القائلين : الخير والشرّ والهداية والإضلال من اللّه ، وقال : « خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ »(6) وعمل بالقياس .

أو لأنّه - لعنه اللّه - لمّا كان يبعثهم على تلك العقائد الفاسدة والمذاهب الكاسدة ، وتابعوه في ذلك كانوا من حزبه .

أو أنّه لمّا لزمهم بطلان الأمر والنهي والتكليف فيجوز لهم حينئذٍ متابعة الشيطان في كلّ ما يدعوهم إليه .

(وقدريّة هذه الاُمّة ومجوسها) إشارة للحديث المستفيض عن النبيّ صلى الله عليه و آله المتّفق عليه : «القدريّة مجوس هذه الاُمّة» ؛ ووجه تسميتها بالمجوس مشاركتها في سلب

ص: 162


1- . النساء 4 : 48 و116 .
2- . الأعراف 7 : 28 .
3- . النساء 4 : 40 .
4- . النساء 4 : 40 .
5- . الأعراف 7 : 16 .
6- . الأعراف 7 : 12 .

الفعل عن العبد ، فإنّ المجوس يسندون الخيرات إلى اللّه ، والشرور إلى إبليس .

وفي هذا الحديث دلالة على أنّ المجبّرة هم القدريّة ، ولا خلاف بين الاُمّة في أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله ذمّ القدريّة ، لكن كلّ من الجبريّة والتفويضيّة يسمّون خصومهم بها ، وفي أخبارنا اُطلقت عليهما وإن كان على التفويضيّة أكثر .

ويحتمل أن يكون تشبيههم بالمجوس لأنّ مذهب المجوس : أنّ اللّه تعالى يخلق فعله ثمّ يتبرّأ منه ، كما خلق إبليس وتبرّأ منه .

ولأنّ المجوس قالوا : إنّ نكاح الاُمّهات والأخوات بقضاء اللّه وقدره وإرادته ، ووافقهم المجبّرة حيث قالوا : إنّ نكاح المجوس لاُمّهاتهم وأخواتهم بقضاء اللّه وقدره وإرادته .

ولأنّ المجوس قالوا : إنّ القادر على الخير لا يقدر على الشرّ وبالعكس ، والمجبّرة قالوا : إنّ القدرة موجبة للفعل غير متقدّمة عليه ، فإنّ الإنسان القادر على الخير لا يقدر على ضدّه وبالعكس .

ويحتمل أن يُعطف خصماء الرحمان على عبدة الأوثان ، فالمراد بهم المعتزلة المفوّضة ، أي الأشاعرة الجبريّة إخوان المفوّضة الذين هم خصماء الرحمان ؛ لأنّهم يدّعون استقلال قدرتهم في مقابلة قدرة الرحمان ، فإنّهم يفعلون ما يريدون بلا مشاركة للّه في أعمالهم بالتوفيق والخذلان ، والاُخوّة بينهما باعتبار أنّ كلاًّ منهما على طرف خارج عن الحقّ الذي هو بينهما ، وهو الأمر بين الأمرين ، فهما يشتركان في البطلان ، كما أنّ المؤمنين إخوة [لاشتراكهم(1)] في الحقّ .

وعلى هذا يكون قوله : «وحزب الشيطان» ، وقوله : «قدريّة هذه الاُمّة» ، وقوله : «مجوسها» كلّها معطوفات على العبدة لا الإخوان ، وتكون أوصافاً للمفوّضة لا الجبريّة ، ويكون الحديث مشتملاً على نفي طرفي الإفراط والتفريط معاً ، إلاّ أنّه لا

يخلو من بُعد .

(إنّ اللّه كلّف تخييراً) أي أمر عباده مع جعله لهم مخيّرين بين الفعل والترك بإعطاء

ص: 163


1- . أثبتناه من المصدر ، وفي النسخ والمطبوع : «لاشتراكهما» .

القدرة لهم على الإتيان بما شاؤوا منهما من غير إكراه ولا إجبار .

(ونهى تحذيراً) لا إجباراً بل طلباً لاحترازهم عن فعل المنهيّ عنه من دون إكراه على الترك .

(وأعطى على القليل) من العمل (كثيراً) من الثواب ، ترغيباً للطاعة وترك المعصية .

(ولم يُعص) على البناء للمفعول (مغلوباً) أي لم يقع العصيان منه عن طاعته بمغلوبيّته من العبد ، بل بما فيه من الحكمة من عدم إكراهه وإجباره ، أو لا يقع العصيان عن طاعته بمغلوبيّة العاصي ، فإنّه لا عصيان مع عدم الاختيار .

(ولم يُطَع مكرِهاً) - بكسر الراء - اسم فاعل ، أي لم تقع طاعته بإكراهه المطيع على الطاعة .

وربّما يُقرء على صيغة المفعول ، فيكون ردّاً على المفوّضة أيضاً ؛ لأنّه إذا استقلّ العبد ولم يكن لتوفيقه تعالى مدخل في ذلك فكأنّه سبحانه يكره فيه .

ويمكن أن يُقرء الفعلان على بناء الفاعل ويكون الفاعل المطيع والعاصي . وهو بعيد .

(ولم يملك مفوِّضا) - بكسر الواو - اسم فاعل من التفويض ، وفيه ردّ على المفوّضة .

و(يملّك) يمكن قراءته على بناء التفعيل ويكون مفعوله القدرة والإرادة والاختيار ، أو على بناء الإفعال بمعنى إعطاء السلطنة مفوّضاً إليهم بحيث لم يحصرهم بالأمر والنهي ، أو لم يكن له مدخل في أفعالهم بالتوفيق والخذلان .

(ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً) فيه إشارة إلى قوله تعالى : « وَمَا خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِين كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ »(1) ، وهذا إمّا ردّ على عبدة الأوثان المذكورين سابقاً بتقريب ذكر إخوانهم .

أو على المجبّرة ؛ إذ الجبر يستلزم بطلان الثواب والعقاب ، والتكليف المستلزم لكون خلق السماوات والأرض وما بينهما عبثاً وباطلاً .

ص: 164


1- . ص 38 : 27 و28 .

وعلى المفوّضة أيضاً ؛ لأنّ التفويض على أكثر الوجوه - التي تأتي إن شاء اللّه - ينافي غرض الإيجاد ، وكون بعثة الأنبياء والرسل مع الجبر باطلاً ظاهر ، بل مع التفويض على بعض الوجوه .(1)

(ولم يبعث النبيّين مبشّرين ومنذرين عبثاً) وفيه إشارة إلى مفسدة اُخرى ، وهي : أنّه لو تحقّق الجبر لكان إرسال الرسل وتبشيرهم وإنذارهم عبثاً ؛ لأنّ الغرض من ذلك هو الإخبار بالأحكام وإظهار مناهج الحلال والحرام ، والتقريب بالطاعة والتبعيد عن المعصية ، ومع الإجبار لا فائدة في الإخبار والإظهار ، ولا نفع في التبشير والإنذار ، وما لا فائدة فيه فهو لغو وعبث .

ثمّ اقتبس عليه السلام من القرآن فقال عليه السلام : (ذلك) - أي ظنّ أنّ القضاء كان حتماً والقدر لازماً - (ظنّ الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار) .

ص: 165


1- . جاء أكثر هذا الشرح للحديث في مرآة العقول ، ج 2 ، ص 175 - 182 .

الحديث الحادي والعشرون

اشارة

[ لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن جملة من علمائنا الأعلام وفضلائنا الكرام المعوّل عليهم في النقض والإبرام ، ومنهم ثقة الإسلام في الكافي ، ورئيس المحدّثين محمّد بن بابويه ، ورئيس الملّة المفيد ، وشيخ الطائفة ، وعلم الهدى ، وغيرهم بأسانيد معتبرة عديدة ومتون منقّحة سديدة عن الباقر عليه السلام والصادق عليه السلام وأبي الحسن الثالث عليه السلام وغيرهم من الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين أنّهم قالوا : «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين»(1) .

وهذا الخبر كاد أن يكون متواتراً ، وصدوره عن أهل البيت عليهم السلام مقطوع به . وفي بعض الأخبار «القدر» بدل «التفويض» .

كما في الكافي عن الصادق عليه السلام والباقر عليه السلام وقد [سُئلا(2)] : هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا : «نعم ، أوسع مابين السماء والأرض» .(3)

وعن الصادق عليه السلام وقد سُئل عن الجبر والقدر ، فقال : «لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما ، فيها الحقّ التي بينهما ، لا يعلمها إلاّ العالم أو من علَّمها إيّاه العالم» .(4)

ص: 166


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 159، باب الجبر والقدر ، ح 9 - 12 ؛ التوحيد ، ص 360 ، ح 3 ؛ الاعتقادات ، ص 33 ؛ الاحتجاج ، ج 2 ، ص 414 و 451 ؛ رسائل المرتضى ، ج 1 ، ص 135 ؛ تصحيح الاعتقاد ، ص 46 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 51 ، ح82 ، ص 116 ، ح 46 .
2- . في الأصل : «سئل» ، وما اُثبت من المصدر .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 159 ، باب الجبر والقدر ، ح 9 ؛ التوحيد ، ص 360 ، ح 3 ؛ وعن التوحيد في بحارالأنوار ، ج 5 ، ص 51 ، ح 82 .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 159 ، باب الجبر والقدر ... ح 10 .

وفي بعض الأخبار نفي الجبر والاستطاعة .

وكيف كان ، فتحقيق الكلام في هذا المقام وبيان ما فيه من نقض وإبرام - على وجه أنيق وطرز رشيق تهشّ إليه الطباع السليمة ، وتلتذّ به الأفهام المستقيمة - يقتضي بسطه

في مقامات :

المقام الأوّل:[في أنّ مسألة خلق الأعمال من أصعب المسائل الإسلاميّة إشكالاً]

اعلم أنّ هذه المسألة - وهي مسألة خلق الأعمال - من أعظم المسائل الإسلاميّة غموضاً ، وأصعبها إشكالاً ، وقد تحيّرت فيها العقول والأفهام ، واضطربت فيها آراء الأنام ، وغرقت في لجج بحارها طوائف من منتحلي الإسلام ، وبقي في الحيرة والشكّ فيها أقوام .

والسرّ في ذلك أنّ هذه المسألة من غوامض مسائل القضاء والقدر التي لا تدركها العقول القاصرة ، والأفهام الحاسرة ، بل لابدّ فيها من الأخذ من معادن الوحي والتنزيل ، واُولي الفضل والتأويل ، الذين نزل في بيتهم جبرئيل ، كما اُشير إليه في الحديث السابق ونحوه بقوله عليه السلام : «لا يعلمها إلاّ العالم أو من علّمها إيّاه» .

وروى الصدوق رحمه الله في العقائد وغيره عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه سأله رجل عن القدر ، فقال عليه السلام : «بحر عميق فلا تَلِجه» . ثمّ سأله ثانية ، فقال : «طريق مظلم فلا تسلكه» . ثمّ سأله ثالثة ، فقال : «سرّ اللّه فلا تتكلّفه»(1) .

وقال عليه السلام في القدر : «ألا إنّ القدر سرّ من سرّ اللّه ، وحرز من حرز اللّه ، مرفوع في حجاب اللّه ، مطويّ عن خلق اللّه ، مختوم بخاتم اللّه ، سابق في علم اللّه ، وضع اللّه عن العباد علمه ، ورفعه فوق شهاداتهم ؛ لأنّهم لا ينالونه بحقيقة الربّانيّة ، ولا بقدرة الصمدانيّة ، ولا بعظمة النورانيّة ، ولا بعزّة الوحدانيّة ؛ لأنّه بحرٌ زاخر موّاج ، خالص للّه تعالى ، عمقه مابين السماء والأرض ، عرضه مابين المشرق والمغرب ، أسود كالليل

ص: 167


1- . العقائد ، ص 14 ؛ التوحيد ، ص 365 ، ح 3 ؛ وعنه في بحارالأنوار ، ج 5 ، ص 97 ، ح 22 .

الدامس ، كثير الحيّات والحيتان ، يعلو مرّة ويسفل اُخرى ، في قعره شمس تضيء ، لا ينبغي أن يطّلع عليها إلاّ الواحد الفرد ، فمن تطلّع عليها فقد ضادّ اللّه في حكمه ، ونازعه في سلطانه ، وكشف عن سرّه وستره ، وباء بغضب من اللّه ومأواه جهنّم وبئس المصير»(1) .

أقول : ولمّا ترك الناس وصيّة ربّهم ونصيحة نبيّهم ولم يسكتوا عمّا سكت اللّه عنه ، واستبدّوا بعقولهم الفاسدة ، وآرائهم الكاسدة ، غرقوا في هذا البحر العظيم ، وبعدوا عن العزيز الحكيم ، ففرقة قدريّة ، وفرقة جبريّة ، وفرقة مفوّضة ، وفرقة مذبذبون ، واُخرى شاكّون مشكّكون ، حتّى طال بينهم الكلام ، وكثر النقض والإبرام ، واعتركت الآراء ، وتصادمت الأهواء ، حتّى لم يبق لأحد مع خصمه منزعة في قوس فكره إلاّ ورماها ، ولا خلسة في خاطره إلاّ وأبداها ، ومع ذلك لم يأت أكثرهم بحاصل في الدين ، ولم يظفر بطائل فيما يفيد سلوك طريق اليقين ، بل ربّما استدلّ كلّ من الفريقين بآية واحدة ، أو رواية واحدة كما اتّفق لهم في الاستعاذة .

[استدلال كلّ من القدريّة والجبريّة على بطلان مذهب الآخر بالاستعاذة]

فالقدريّة استدلّوا بها على بطلان مذهب الجبريّة من وجوه :

الأوّل : أنّ فيها اعترافاً بكون العبد فاعلاً لتلك الاستعاذة ، فلو كان خالق الأفعال هو اللّه دون العبد كان كذباً . وأيضاً إذا خلق اللّه الفعل في العبد امتنع لأحد دفعه ، وإذا لم يخلقه امتنع تحصيله ، فلا فائدة في الاستعاذة ؛ فثبت أنّ قول القائل : «أعوذ» اعتراف بكون العبد موجداً لفعله .

الثاني : أنّ الاستعاذة باللّه إنّما تحسن إذا لم يكن خالقاً للاُمور التي يستعاذ منها ، وأمّا إذا كان هو فاعلها فيمتنع الاستعاذة به منها ، وإلاّ لكانت الاستعاذة باللّه من اللّه .

الثالث : أنّ الاستعاذة باللّه من المعاصي ، وهي من قضاء اللّه ، وذلك يستلزم أن لا يرضى العبد بالقضاء ، والرضا بالقضاء واجب .

ص: 168


1- . التوحيد ، ص 383 - 384 ، ح 32 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 97 .

الرابع : أنّ الاستعاذة باللّه من الشيطان إنّما يحسن لو كانت الوسوسة فعلاً له ، وأمّا إذا كانت فعلاً للّه ولم تكن فعلاً للشيطان ولا له أثر فيها فكيف يستعاذ من شرّه ؟ بل يجب أن يستعاذ من شرّ اللّه لا من شرّه ؛ إذ لا شرّ إلاّ من قِبله .

الخامس : أنّ للشيطان أن يقول : يا إلهي ، إذا كنت ما فعلت شيئاً أصلاً وأنت يا إله الخلق قضيت صدور الوسوسة عنّي ولا قدرة لي على مخالفة قضائك وحكمتك ، ثمّ قلت : « لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا »(1) ، وقلت : « يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ »(2) ، وقلت : « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »(3) ، فمع هذه الأعذار الظاهرة والأسباب القويّة كيف يجوز في عنايتك ورحمتك أن تذمّني وتلعنني ؟!

السادس : يقول أيضاً : يا إلهي ، جعلتني مرجوماً ملعوناً بسبب جرم صدر منّي أو لا بسبب جرم صدر منّي ؛ فإن كان الأوّل بطل الجبر ، وإن كان الثاني فهو محض الظلم ، وقد قلت : « وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ »(4) ، فكيف يليق هذا بك ؟!

وللجبريّة أن يقولوا للقدريّة : إنّ الإشكالات التي ألزمتمونا بها هي بأسرها واردة عليكم من وجهين :

الأوّل : أنّ قدرة العبد إمّا تكون معيّنة لأحد الطرفين فالجبر لازم ، وإمّا أن تكون حاصلة لهما ، فرجحان أحد الطرفين على الآخر إن كان لمرجّح ففاعل المرجّح إن كان هو العبد عاد التقسيم فيه ويتسلسل ، وإن كان هو اللّه فإنّه تعالى إذا فعل ذلك المرجّح

صار الفعل واجب الوقوع ، وإذا لم يفعله يصير ممتنع الوقوع ، وحينئذٍ يلزمكم كلّما ذكرتموه ، وإن كان الرجحان لا لمرجّح فهو باطل من وجهين :

الأوّل : أنّه ينسدُّ به باب إثبات الصانع للعالم ؛ إذ مداره على أنّ رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر يستحيل من غير مرجّح .

الثاني : أنّه على هذا التقدير يكون وجود ذلك الرجحان واقعاً على سبيل الاتّفاق ،

ص: 169


1- . البقرة 2 : 286 .
2- . البقرة 2 : 185 .
3- . الحجّ 22 : 78 .
4- . غافر 40 : 31 .

ولم يكن صادراً من العبد ، وإذاكان الأمر كما ذكرنا فقد عاد الجبر المحظور .(1)

الوجه الثاني في السؤال منكم : سلّمتم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، ووقوع الشيء خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلاً ، وذلك محال ، والمؤدّي إلى المحال محال ، فكل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازم عليكم في العلم لزوماً لا محيص عنه ، وسيأتي الجواب عن هذه الشبهة الواهية إن شاء اللّه .

وقال رئيس المشكّكين وإمامهم الرازيّ :

حال هذه المسألة عجيبة ، فإنّ الناس كانوا فيها مختلفين أبداً بسبب أنّ ما يمكن الرجوع فيها إليه متعارضة متدافعة ، فمعوّل الجبريّة على أنّه لابدّ لترجيح الفعل على الترك من مرجّح ليس من العبد ، ومعوّل القدريّة على أنّ العبد لو لم يكن قادراً

على فعله لما حسن المدح والذمّ والأمر والنهي ، وهما مقدّمتان بديهيّتان .

ثمّ من الدلايل العقليّة اعتماد الجبريّة على أنّ تفاصيل أحوال الأفعال غير معلومة للعبد ، واعتماد القدريّة على أنّ أفعال العباد واقعة على وفق قصودهم ودواعيهم ، وهما متعارضان .

ومن الإلزامات الخطابيّة أنّ القدرة على الإيجاد كما لا يليق(2) بالعبد الذي هو منبع النقصان ، فإنّ أفعال العباد تكون سفهاً وعبثاً ، فلا يليق بالمتعالي عن النقصان .

وأمّا الدلائل السمعيّة فالقرآن مملوّ ممّا يوهم الأمرين ، وكذا الآثار ، وإن من اُمّة من الاُمم لم تكن خالية من الفرقتين ، وكذا الأوضاع والحكايات المتدافعة من الجانبين ، حتّى قيل : إن وضع النرد على الجبر ووضع الشطرنج على القدر .

إلاّ أنّ مذهبنا أقوى بسبب أنّ القدح في قولنا : لا يترجّح الممكن إلاّ بمرجّح يوجب انسداد باب إثبات الصانع ، ونحن نقول : الحقّ ما قاله بعض أئمّة الدين : أنّه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الأمرين ، وذلك لأنّ مبنى المبادئ القريبة لأفعال العبد على قدرته واختياره ، والمبادئ البعيدة على عجزه واضطراره ، فإنّ الإنسان مضطرّ في صورة مختار ، كالقلم في يد الكاتب ، والوتد في شقّ الحائط ، وفي كلام

ص: 170


1- . تفسير القرآن الكريم ، صدر المتألّهين ، ج 1 ، ص 22 - 23 .
2- . في المصدر : «كمال لا تليق» بدل «كما لا يليق» .

العقلاء : قال الحائط للوتد لم تشقّني ؟ قال : سل من يدقّني .(1) انتهى .

فهذا حال إمامهم ، فانظر كيف اعترف بالشكّ والحيرة ، واعترف أخيراً بالأمر بين الأمرين ، ولم يبيّن معناه على وجه يرفع الإشكال في البين .

وقال قطب أوليائهم محي الدين بن العربيّ في الفتوحات - على ما حكى عنه الفيلسوف الشيرازيّ - :

اعلم أنّ الكلّ من عند اللّه ، ولكن لمّا تعلّق لبعض الأفعال لسان ذمّ فما كان في الأفعال في باب قبح وشرّ فدينا بنفوسنا ما ينسب إلى الحقّ من ذلك وقاية وأدباً مع اللّه ، وما كان من خير وحسن رفعنا نفوسنا من البين وأضفنا ذلك إلى اللّه حتّى يكون

هو المحمود بكلّ ثناء أدباً مع اللّه ، وإيفاءاً لحقوقه فإنّه للّه بلا شكّ مع ما فيه من الاشتراك كما دلّ عليه في قوله : « وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ »(2) ، وقوله : « مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ »(3) مع قوله : « قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ اللّهِ »(4) ، فأضاف العمل وقتاً إلينا ووقتاً إليه ، فلهذا قلنا : فيه رائحة الاشتراك . قال تعالى : « لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ »(5) ، فأضاف خيرنا وشرّنا إلينا ، وقال : « فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا »(6) ، فله الإلهام ، وقد خلق العمل .(7)

فهذه مسألة لا يتخلّص فيها توحيد أصلاً ؛ لا من جهة الكشف ولا من جهة الخبر ، فالأمر الصحيح في ذلك أنّه مربوط بين حقّ وخلق غير مختصّ [مخلص] لأحد الجانبين ، فإنّه أعلى ما يكون من النسب الإلهيّة أن يكون الحقّ هو عين الوجود الذي استفادته الممكنات ، فما ثمّ إلاّ عين وجود الحقّ ، والتغييرات الظاهرة في

ص: 171


1- . شرح المقاصد ، ج 4 ، ص 263 - 264 نقلاً عن الرازي .
2- . الصافّات 37 : 96 .
3- . النساء 4 : 79 .
4- . النساء 4 : 78 .
5- . البقرة 2 : 286 .
6- . الشمس 91 : 8 .
7- . في الفتوحات : «فله الإلهام فينا ولنا العمل بما ألهم ... فقد يكون عطاؤه الإلهام ، وقد يكون خلق العمل» .

هذه العين أحكام أعيان الممكنات ، فلولا العين ما ظهر الحكم ، ولولا الممكن ما ظهر التغيّر ، فلابدّ في الأفعال من حقّ وخلق .

ثمّ قال :

وفي بعض مذهب العامّة : أنّ العبد محلّ ظهور أفعال اللّه ، وموضع جريانها فلا يشهدها الحسّ إلاّ من الأكوان ، ولا تشهدها بصيرتهم إلاّ من اللّه من وراء حجاب ، هذا الذي ظهرت على يديه المريد لها المختار فيها ، فهو لها(1) مكتسب باختياره ، وهذا هو مذهب الأشاعرة .

ومذهب بعض العامّة : أنّ الفعل للعبد حقيقة ، ومع هذا فربط الفعل عندهم بين الحقّ والخلق لا يزول ، وأنّ هؤلاء يقولون : القدرة الحادثة في العبد الذي يكون بها هذا الفعل من الفاعل ، أنّ اللّه خلق له القدرة عليها فلا يخلص الفعل للعبد إلاّ بما

خلق اللّه فيه من القدرة عليه ؛ فما زال الاشتراك . وهذا مذهب أهل الاعتزال .

فهؤلاء ثلاثة : أصحابنا والأشاعرة والمعتزلة ، ما زال منهم وقوع الاشتراك ، وهكذا أيضاً حكم مثبتي العلل لا يتخلّص لهم إثبات المعلول الذي لعلّته ، التي هي معلولة لعلّة اُخرى فوقها ، إلى أن ينتهي إلى الحقّ في ذلك ، الذي هو عندهم علّة العلل ، فلولا علّة العلل ما كان معلول عن علّة ؛ إذ كلّ علّة دونه معلولة ، فالاشتراك ما ارتفع على مذهب هؤلاء .

و[أمّا] عدا هؤلاء الأصناف من الطبيعيّين والدهريّين ، فغاية ما يؤول إليه أمرهم : أنّ الذي نقول نحن فيه : إنّه الإله ، يقول الدهريّة : إنّه الدهر ، والطبيعيّة : إنّه الطبيعة ، وهم لا يخلصون الفعل الظاهرمنّا دون أن يضيفوا [ذلك] إلى الدهر أو الطبيعة ، فما زال وجود الاشتراك في الكلّ نحلة ومذهباً ، وما ثمّ عقل يدلّ على خلاف هذا ، ولا خبر إلهيّ في شريعة يخلص الفعل من جميع الجهات إلى أحد الجانبين ، فلنقرّه كما أقرّه اللّه على علم اللّه فيه ، وما ثمَّ إلاّ كشف وعقل وشرع ، وهذه الثلاثة ما

خلصت ولا تخلص أبداً دنياً وآخرة ، جزاءً بما كنتم تعملون .

فالأمر في نفسه - واللّه أعلم - ما هو إلاّ كما وقع ، ما يقع فيه تخليص ؛ لأنّه في نفسه

ص: 172


1- . في نسخة ظ : «بها» .

غير مخلّص ، إذ لو كان في نفسه مخلَصاً لابدّ إن كان يظهر على بعض الطوائف ولا يتمكّن لنا أن نقول : الكلّ على خطأ ، فإنّ في الكلّ الشرائع الإلهيّة ، ونسبة الخطأ إليها محال ، ولا يخبر الأشياء على ما هي عليها إلاّ اللّه وقد أخبر ، فما الأمر إلاّ كما أخبر ، فاتّفق الحقّ والعالم في هذه المسألة على الاشتراك ، وهذا هو الشرك الخفي والجلي وموضع الحيرة .(1)

انتهى كلامه ، عامله اللّه بعدله .

أقول : فانظر إلى هذا الفاضل الذي هو قطب رحى أوليائهم ، والمعوّل عليه بين علمائهم كيف اعترف بالحيرة والتحيّر ، وصار أخيراً إلى الشرك ، وأنّ أفعال القبائح والظلم والفواحش واقعة بين العبد والربّ غير مخلصة لأحدهما ، وهو شرك محض ، وظلم عظيم ، يبطله النقل والكشف والبرهان ، ويحكم بفساده الوجدان ، ويضحك منه الإنس والجانّ .

وقوله : فما زال وجود الاشتراك في كلّ نحلة ومذهب ، وما ثمّ عقل يدلّ على خلافه ولا خبر إلهيّ في شريعة ، إلخ ؛ ممنوع ؛ إذ العقول السليمة والأفهام المستقيمة والبراهين القطعيّة والدلائل النقليّة كلّها قد دلّت على ما دلّ عليه أولياء اللّه وأهل بيت الصعمة وخلفاء الدين والأئمّة الذين هم كسفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هوى ، من نفي الجبر والقدر والاشتراك كما يأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى ؛ فقوله ذلك رجم بالغيب بلا شكّ ولا ريب .

وقد روى الثقة الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسيّ وغيره في كتاب الاحتجاج أنّه دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبداللّه بن مسلم ، فقال له : يا أبا حنيفة ، إنّ هاهنا جعفر بن محمّد من علماء آل محمّد صلى الله عليه و آله ، فاذهب بنا نقتبس منه علماً .

فلمّا أتيا إذا هما بجماعة من شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم عليه ، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث(2) ، فقام الناس هيبة له، فالتفت أبو حنيفة وقال : يابن مسلم،

ص: 173


1- . الفتوحات المكّية ، ج 3 ، ص 207 - 208 ؛ تفسير القرآن الكريم ، ج 1 ، ص 440 - 442 . وبعض الزيادات أو موارد الخلاف أثبتناها من الفتوحات .
2- . يقال للفتى الشابّ : حديث السنّ ، فإذا حذف السنّ قلت : حدث - بفتحتين - وجمعه أحداث . كتاب العين ، ج 3 ، ص 177 حدث .

من هذا ؟ قال : هذا موسى ابنه . قال : واللّه ، لاُجبهنّه(1) بين يدي شيعته . قال : مه ، لن تقدر على ذلك ، قال : واللّه لأفعلنّه .

ثمّ التفت إلى موسى عليه السلام ، فقال : يا غلام ، أين يضع الغريب حاجته في بلدتكم هذه ؟

قال : «يتوارى خلف الجدار ، ويتوقّى أعين الجار ، وشطوط الأنهار ، ومسقط الثمار ، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، فحينئذٍ يضع حيث شاء» .

ثمّ قال : يا غلام ، ممّن المعصية ؟

قال : «يا شيخ ، لا تخلو من ثلاث : إمّا أن تكون من اللّه وليس للعبد شيء ، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله ، وإمّا أن تكون من العبد ومن اللّه ، واللّه أقوى

الشريكين ، فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الأصغر بذنبه ، وإمّا أن تكون من العبد وليس من اللّه شيء ؛ فإن شاء عفا وإن شاء عاقب» .

قال : فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنّما اُلقم فوه الحجر .

قال : فقلت له : ألم أقل لك لا تتعرّض لأولاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟!

وفي ذلك يقول الشاعر هذه الأبيات :

لم تخل أفعالنا اللاتي نذمّ بها *** إحدى ثلاث معان حين نأتيها

إمّا تفرّد بارينا بصنعتها *** فيسقط اللّوم عنّا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيها فيلحقه *** ما سوف يلحقنا من لايم فيها

أو لم يكن لإلهي في جنايتها *** ذنب فماالذنب إلاّ ذنب جانيها(2)

المقام الثاني:

في بيان حكاية المذاهب في هذه المسألة

قال العلاّمة المحدّث المجلسيّ رحمه الله : إنّ أفعال العباد دائرة بحسب الاحتمال العقليّ

ص: 174


1- . في المصدر : «اُخجله» .
2- . الاحتجاج ، ج 2 ، ص 387 .

بين اُمور :

الأوّل : أن يكون حصولها بقدرة اللّه وإرادته من غير مدخل لقدرة العبد فيه وإرادته .

الثاني : أن يكون بقدرة العبد وإرادته من غير مدخل لقدرة اللّه وإرادته فيه ، أي بلا واسطة ؛ إذ لا ينكر عاقل أنّ الإقدار والتمكين مستندان إليه تعالى ؛ إمّا ابتداء أو بواسطة .

الثالث : أن يكون حصولها بمجموع القدرتين وذلك بأنّ المؤثّر قدرة اللّه بواسطة قدرة العبد ، أو بالعكس ، أو يكون المؤثّر مجموعهما من غير تخصيص أحدهما بالمؤثّريّة والاُخرى بالآليّة .

وذهب إلى كلّ من تلك الاحتمالات - ما خلا الاحتمال الثاني من محتملات الشقّ الثالث - طائفة ، أمّا الأوّل ففيه قولان :

الأوّل : مذهب الجبريّة الجهميّة البحتة ، وهم جهم بن صفوان وأتباعه ، حيث ذهبوا إلى أنّ الفعل من اللّه سبحانه بلا تأثير لإرادة العبد وقدرته فيه ولا كسب ، بل لا فرق عندهم بين مشي زيد وحركة المرتعش ، ولا بين الصاعد إلى السطح والساقط منه .

الثاني : مذهب أبي الحسن الأشعريّ وأتباعه ، فإنّهم لمّا رأوا شناعة قول الجهميّة فرّوا منه إلى ما لا ينفعهم وقالوا : أفعال العباد الاختياريّة واقعة بقدرة اللّه وحده وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل اللّه سبحانه أجرى عادته بأنّه يوجد في العبد قدرة واختياراً ، فإذا لم يكن هناك مانعٌ(1) أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقاً للّه إبداعاً وإحداثاً ، ومكسوباً للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاًّ له ، وقالوا : نسبة الفعل إلى العبد باعتبار قيامه به لا باعتبار إيجاده له ؛ فالقائم والآكل والشارب عندهم بمنزلة الأسود والأبيض .

والثاني : وهو استقلال العبد بالفعل مذهب أكثر الإماميّة والمعتزلة ، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ العباد موجدون لأفعالهم ، مخترعون لها بقدرتهم ، لكن أكثر المعتزلة قائلون بوجوب الفعل بعد إرادة العبد ، وبعضهم قال بعدم وجوب الفعل بل يصير أولى .

ص: 175


1- . في «ظ» والمطبوع : «صانعٌ» .

قال المحقّق الطوسيّ رحمه الله :

ذهب مشايخ المعتزلة وأبوالحسن البصريّ وإمام الحرمين من أهل السنّة إلى أنّ العبد له قدرة قبل الفعل ، وإرادة بها تتمّ مؤثريّته ، فيصدر منه الفعل فيكون العبد مختاراً ؛ إذ كان فعله بقدرته الصالحة للفعل والترك تبعاً لداعيه الذي هو إرادته ، والفعل يكون بالقياس إلى القدرة وحدها ممكناً ، وبالقياس إليها مع الإرادة يصير واجباً .

وقال محمود الملاحميّ وغيره من المعتزلة : إنّ الفعل عند وجود القدرة والإرادة يصير أولى بالوجود ؛ حذراً من أن يلزمهم القول بالجبر لو قالوا بالوجوب ، وليس ذلك بشيء ؛ لأنّ مع حصوله الأولويّة إن جاز له الطرف الآخر ما كانت الأولويّة بأولويّة ، وإن لم يجز فهو الواجب ، وإنّما غيّروا اللفظ دون المعنى . انتهى .

واختلف في نسبة احتمالي الشقّ الثالث وتحقيقهما ، ففي المواقف وشرحه :

أفعال العباد الاختياريّة واقعة بقدرة اللّه تعالى وحدها [وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، وقالت المعتزلة : بقدرة العبد وحدها(1)] على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار ، وقالت طائفة بالقدرتين .

ثمّ اختلفوا فقال الاُستاذ - يعني أبا إسحاق - الاسفراينيّ بمجموع القدرتين على أن يتعلّقا جميعاً بالفعل نفسه ، وجواز اجتماع المؤثّرين على أثر واحد .

وقال القاضي - يعني الباقلاّنيّ - : على أن تتعلّق قدرة اللّه بأصل الفعل وقدرة العبد بصفته ، أعني كونه طاعة ومعصية ، إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا توصف بها أفعاله تعالى ، كما في لطم اليتيم تأديباً أو إيذاءً ، فإنّ ذات اللطم أوقعه بقدرة اللّه

وتأثيره ، وكونه طاعة على الأوّل ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره.

وقالت الحكماء وإمام الحرمين : هي واقعة على سبيل الوجوب وامتناع التخلّف بقدرة يخلقها اللّه في العبد إذا قارنت حصول الشرائط وارتفاع الموانع .

والضابط في هذا المقام : أنّ المؤثّر إمّا قدرة اللّه ، أو قدرة العبد على الانفراد

ص: 176


1- . ما بين المعقوفتين أثبتناه من شرح المواقف ، ص 145 .

كمذهبي الأشعريّ وجمهور المعتزلة ، أو هما معاً ، وذلك إمّا مع اتّحاد المتعلّقين كمذهب الاُستاذ منّا والنجّار من المعتزلة ، أو دونه ، وحينئذٍ فإمّا مع كون إحداهما متعلّقة للاُخرى ، ولا شبهة في أنّه ليس قدرة اللّه متعلّقة لقدرة العبد ، إذ يستحيل

تأثير الحادث في القديم فتعيّن العكس ، وهو أن تكون قدرة العبد صادرة عن قدرة اللّه وموجبة للفعل ، وهو قول الإمام والفلاسفة ، وإمّا بدون ذلك وهو مذهب القاضي ؛ لأنّ المفروض عدم اتّحاد المتعلّقين .(1) انتهى .

واعترض عليه المولى جمال الدين محمود وغيره بأنّ جعل المذهب المنسوب إلى الإمام والفلاسفة كون المؤثّر مجموع القدرتين دون مذهب المعتزلة تحكّمٌ بحتٌ ؛ إذ لا فرق بين هذين المذهبين في أنّ المؤثّر الحقيقيّ في الفعل هو قدرة العبد وتلك القدرة الحادثة مخلوقة للقدرة القديمة الإلهيّة .

ثمّ قال :

الصواب في الضبط أن يقال : المؤثّر إمّا قدرة اللّه تعالى وحدها وهو مذهب الشيخ الأشعريّ ، وإمّا قدرة العبد وحدها وهو مذهب جمهور المعتزلة والإمام والفلاسفة ، وإمّا هما معاً مع اتّحاد المتعلّقين وهو مذهب الاُستاذ ، أو بدون ذلك بأن تتعلّق القدرة القديمة بنفس الفعل ، والحادثة بصفته وهو مذهب القاضي . انتهى .

ثمّ اعلم أنّ هذا المذهب الذي نسبوه إلى الحكماء من أنّ العلّة القريبة للفعل الاختياريّ إنّما هو العبد وقدرته ، لكنّ قدرته مخلوقة للّه تعالى ، وإرادته حاصلة بالعلل المترتّبة منه تعالى قول بعضهم ، وقال جمّ غفير منهم : لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه ، وموجد أفعال العباد هو اللّه تعالى سبحانه .

وقالوا : إنّ الفعل كما يسند إلى الفاعل كإسناد البناء إلى البنّاء ، قد يسند إلى الشرط كإسناد الإضاءة إلى الشمس والسراج - مثلاً - فبعض الأفعال الصادرة عن الطبائع النوعيّة كالحركات الطبيعيّة والقسريّة والأفعال الاختياريّة للإنسان وغيره ، بل الأفعال

ص: 177


1- . شرح المواقف ، ص 145 - 148 .

الصادرة عن النفوس الفلكيّة والعقول المجرّدة بناءا على القول بوجودها ، فكلّ من هذه الاُمور - لاسيّما إرادة النفوس الحيوانيّة والإنسانيّة والفلكيّة ، بل العقول مع عدم المانع - شرط واسطة لصدور تلك الأفعال من مفيض الوجود ، وإسنادهما إلى تلك المبادئ من قبيل إسناد الفعل إلى الشرائط والوسائط لا إلى الفاعل والموجد ، وهذا قريب من مذهب الأشاعرة .

إذا عرفت هذه المذاهب فاعلم أنّ تأثير قدرة العبد وإرادته في الأفعال الاختياريّة من أجلى البديهيّات ، وسخافة مذاهب الأشاعرة ومن يحذو حذوهم لا يحتاج إلى بيان ، وبطون الأوراق والصحف والزبر من علمائنا والمخالفين مشحونة بذلك .

قال العلاّمة الحلّيّ رحمه الله :

الإماميّة قسّموا الأفعال إلى ما يتعلّق بقصودنا ودواعينا وإرادتنا واختيارنا بحركتنا الاختياريّة الصادرة عنّا ، كالحركة يمنة ويسرة ، وإلى ما لا يتعلّق بقصودنا ودواعينا وإرادتنا واختيارنا ، كالآثار التي فعلها اللّه تعالى من الألوان وحركة النموّ والتغذية والنبض وغير ذلك ، وهو مذهب الحكماء .

والحقّ أنّا نعلم بالضرورة أنّا فاعلون ، يدلّ عليه العقل والنقل ، أمّا العقل فإنّا نعلم بالضرروة الفرق بين حركتنا الاختياريّة والاضطراريّة ، وحركة الجماد ، ونعلم بالضرورة قدرتنا على الحركة الاُولى ، كحركتنا يمنة ويسرة ، وعجزنا عن الثانية كحركتنا إلى السماء ، وحركة الواقع من شاهق ، وانتفاء قدرة الجماد ، ومن أسند الأفعال إلى اللّه تعالى ينفي الفرق بينهما ، ويحكم بنفي ما قضت الضرورة بثبوته .

قال أبو الهذيل العلاّف - ونعم ما قال - : حمار بشر أعقل من بشر ، فإنّ حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور فإنّه يطفر ، ولو أتيت به إلى جدول كبير وضربته فإنّه لا يطفر ويروغ عنه ؛ لأنّه فرّق بين ما يقدر عليه وما لا يقدر عليه ، وبشر لا يفرّق بين المقدور له وغير المقدور له .(1) انتهى .

وإذا كان الحكم بذلك ضروريّاً فالشُبه الموردة في مقابلة ذلك لا يصغى إليها ، وإن

ص: 178


1- . لم نظفر على العبارة بعينها ، راجع المضمون في منهاج الكرامة ، ص 41 ؛ شرح منهاج الكرامة ، ص 92 .

كانت قويّة ، وكثير من أحوال الإنسان واُموره إذا أمعن النظر فيها ليصل إلى حدّ يتحيّر العقل فيها كحقيقة النفس وكيفيّة الإبصار مع كونهما أقرب الأشياء إليه لا يمكنه الوصول إلى حقيقة ذلك ، وينتهي التفكّر فيها إلى حدّ التحيّر ، وليس ذلك سبباً لأن ينفي وجودهما وتحقّقهما فيه .

ثمّ اعلم أنّ الحقّ إنّ المعتزلة أيضاً خرجوا عن الحقّ للإفراط من الجانب الآخر ، فإنّهم يذهبون إلى أنّه تعالى لا مدخليّة له في أعمال العباد أصلاً سوى خلق الآلات والتمكين والإقدار ، حتّى أنّ بعض المعتزلة قالوا : إنّ اللّه لا يقدر على عين مقدور

العبد ، وبعضهم قالوا : لا يقدر على مثله أيضا ، فهم عزلوا اللّه عن سلطانه ، وكأنّهم أخرجوا اللّه عن ملكه وأشركوا من حيث لا يعلمون .(1)

[معاني التفويض والاستطاعة]

أقول : الذي يستفاد من الأخبار أنّ المفوّضة يطلق على معان :

أحدها : تفويض اللّه الأمر إلى العباد بحيث لا يكون لأوامره تعالى ونواهيه وبواعثه وزواجره وتوفيقه وإحسانه وتأييده وتسديده وخذلانه مدخل فيه ، ويلزم منه إخراج القادر المطلق عن سلطانه ، ونسبة العجز الظاهر إلى من لا يدخل النقص في شأنه .

ثانيها: هو رفع الحظر عن الخلق في الأفعال والإباحة لهم ما شاؤوا من الأعمال.

ثالثها : تفويض أمر الخلق والرتق إلى بعض عباده .

وهو باطل بجميع معانيه ، وأكثر ما يطلق التفويض في هذا الباب على المعنى الأوّل ، وقد يطلق على الثاني .

وقد يطلق التفويض على معنى رابع ، وهو تفويض اختيار الإمام ونصبه إلى الاُمّة ، وتفويض الأحكام إليهم بأن يحكموا فيها بآرائهم وقياساتهم واستحساناتهم .

والاستطاعة يطلق على ثلاثة معان :

الأوّل : القدرة الزائدة على ذات القادر .

ص: 179


1- . مرآة العقول ، ج 1 ، ص 196 - 200 .

الثاني : آلة تحصل معها القدرة على الشيء ، كالزاد والراحلة وتخلية السرب وصحّة البدن في الحجّ .

الثالث : على التفويض المقابل للجبر ، وهو المراد في أخبار الباب .

وأمّا لفظ القدريّة فقد يطلق على المجبّرة كما تقدّم في رواية الاحتجاج ، وقد يطلق على المفوّضة كما يفهم من جملة من الروايات .

فذلكة : [مَن هُم القدرية ؟]

لا خلاف بين الاُمّة في أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد ذمّ القدريّة ، ولكن كلّ من الجبريّة والتفويضيّة يرمون خصومهم بهذا الاسم : « وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ »(1) ، وقد صدق الفريقان ؛ إذ الظاهر من جملة من الأخبار أنّ القدريّة يطلق على كلّ منهما .

قال في المقاصد : لا خلاف في ذمّ القدريّة .

وقال شارحه :

قد ورد في صحاح الأحاديث : «لُعِنَت القدريّة على لسان سبعين نبيّاً» . والمراد بهم القائلون بنفي كون الخير والشرّ كلّه بتقدير اللّه ومشيّته ، سُمّوا بذلك لمبالغتهم في نفيه وكثرة مدافعتهم إيّاه . وقيل : لإثباتهم للعبد قدرة الإيجاد ، وليس بشيء ، إلاّ أنّ المناسب حينئذٍ القدريّ - بضمّ القاف - .

وقالت المعتزلة : القدريّة هم القائلون بأنّ الشرّ والخير كلّه من اللّه تعالى وبتقديره ومشيّته ؛ لأنّ الشائع نسبة الشخص إلى ما يثبته ويقول به ، كالجبريّة والحنفيّة والشافعيّة ، لا إلى ما ينفيه .

وردّ بأنّه صحّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله قوله : «القدريّة مجوس هذه الاُمّة» ، وقوله عليه السلام : «إذا قامت القيامة نادى منادٍ : أهل الجمع ، أين خصماء اللّه ؟ فتقوم القدريّة» . ولا خفاء في أنّ المجوس هم الذين ينسبون الخير إلى اللّه والشرّ إلى الشيطان ويسمّونهما

ص: 180


1- . البقرة 2 : 114 .

«يزدان وأهرمن» ، وأنّ من لا يفوّض الاُمور كلّها إلى اللّه ويعترض لبعضها فينسبها إلى نفسه يكون هو المخاصم للّه تعالى .

وأيضاً من يضيف القدر إلى نفسه ويدّعي كونه الفاعل والمقدّر أولى باسم القدريّ ممّن يضيفه إلى ربّه .

فإن قيل : روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال لرجل قدم عليه من فارس : «أخبرني بأعجب شيء رأيت» . فقال : رأيت أقواماً ينكحون اُمّهاتهم وبناتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم : لم تفعلون ذلك ؟ قالوا : قضاء اللّه علينا وقدره ، فقال صلى الله عليه و آله : «سيكون في آخر اُمّتي أقوام يقولون بمثل مقالتهم ، اُولئك مجوس اُمّتي» .

وروى الأصبغ بن نباتة : أنّ شيخاً قام إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعد منصرفه من صفّين ، ثمّ ذكر الخبر المتقدّم .

وعن الحسن : بعث اللّه محمّداً إلى العرب وهم قدريّة يحملون ذنوبهم على اللّه ، ويصدّقه قوله تعالى : « وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا »(1) .

قلنا : ما ذكر لا يدلّ [إلاّ(2)] على أنّ القول بأنّ فعل العبد إذا كان بقضاء اللّه وقدره وخلقه وإرادته يجوز للعبد الإقدام عليه ويبطل اختياره فيه واستحقاقه للثواب والعقاب والمدح والذمّ عليه قول المجوس ، فلينظر أنّ هذا قول المعتزلة أم المجبّرة ، ولكن : « مَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ »(3) .

ومن وقاحتهم أنّهم يروّجون باطلهم بنسبته إلى أميرالمؤمنين وأولاده عليهم السلام ، وقد صحّ عنه أنّه خطب الناس على منبر الكوفة فقال : «ليس منّا من لم يؤمن بالقدر ؛ خيره وشرّه» ، وأنّه قال لمن قال : إنّي أملك الخير والشرّ والطاعة والمعصية : «تملكها مع اللّه أو تملكها بدون اللّه ؟ فإن قلت : أملكها مع اللّه فقد ادّعيت أنّك

ص: 181


1- . الأعراف 7 : 28 .
2- . أثبتناه من المصدر .
3- . النور 24 : 40 .

شريك اللّه ، وإن قلت : أملكها بدون اللّه ، فقد ادّعيت أنّك أنت اللّه» ؛ فتاب الرجل على يده .

وأنّ جعفر الصادق عليه السلام قال لقدريّ : «اقرأ الفاتحة» ، فقرأ ، فلمّا بلغ قوله : « إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »(1) ، قال له جعفر عليه السلام : «على ماذا تستعين باللّه وعندك أنّ الفعل منك وجميع ما يتعلّق بالإقدار والتمكين والألطاف قد حصلت وتمّت ؟» فانقطع القدريّ ، والحمد للّه ربّ العالمين .(2) انتهى .

والمعتزلة وجّهوا تشبيه المجبّرة بالمجوس من وجوه :

أحدها : أنّ المجوس اختصّوا بمقالات سخيفة ، واعتقادات واهية معلومة البطلان ، وكذا المجبّرة .

وثانيها : مذهب المجوس أنّ اللّه تعالى يخلق فعله ثمّ يبرأ منه كما خلق إبليس وانتفى منه ، وكذا المجبّرة قالوا : إنّ اللّه يفعل القبائح ثمّ يتبرّأ منها .

وثالثها : إنّ المجوس قالوا : إنّ نكاح الاُمّهات والأخوات بقضاء اللّه وقدره وإرادته ، ووافقهم المجبّرة في ذلك .

ورابعها : أنّ المجوس قالوا : إنّ القادر على الخير لا يقدر على الشرّ وبالعكس ، والمجبّرة قالوا : إنّ القدرة موجبة للفعل غير متقدّمة عليه ، فإنّ الإنسان القادر على الخير لا يقدر على ضدّه وبالعكس .

المقام الثالث

في بطلان القول بالجبر والتفويض زيادة على ما تقدّم

اعلم أنّ أعظم أدلّة المجبّرة على مطلبهم قولهم : إنّ اللّه قد كلّف بالمحال وبما لا يطاق ، وإنّ علمه بالشيء يوجب وقوعه وإلاّ لانقلب علمه تعالى جهلاً ، فقد سلب الاختيار عن العبد .

ص: 182


1- . الفاتحة 1 : 5 .
2- . وردت الفذكلة بكاملها في مرآة العقول ، ج 2 ، ص 178 - 180 .

واحتجّوا بقوله تعالى في شأن الكفّار : « سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ »(1) ، وقوله تعالى : « لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ »(2) ، وقوله تعالى : « وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ »(3) ، وقوله تعالى : « سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً »(4) ، وقوله تعالى : « تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ »(5) .

وتوضيح ذلك: أنّ اللّه تعالى قد أخبر عن شخص معيّن بأنّه لا يؤمن قطّ ، فلو صدر منه الإيمان لزم الكذب على اللّه تعالى في كلامه ، ولأنّه تعالى علم منه في الأزل أنّه لا يؤمن ، فلو آمن لزم انقلاب علمه جهلاً ، وذلك محال فكذا ما يستلزمه ، فصدور الإيمان منه محال ، وقد كلّف به .

وأيضاً الإيمان يعتبر فيه التصديق بكلّ ما أخبر اللّه عنه ، ومن جملته : أنّهم لا يؤمنون ، فقد صاروا مكلّفين بأن يؤمنوا بأنّهم لا يؤمنون ، وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات .

والمعتزلة نقضوا هذه الاحتجاجات إجمالاً وتفصيلاً :

أمّا الأوّل : فإنّ علم اللّه تعالى وخبره بعدم إيمان قوم لا يجوز أن يكون مانعاً من الإيمان لوجوه :

الأوّل : أنّ القرآن مملوء من الآيات الدالّة على أنّه لا مانع لأحد من الإيمان كما قال اللّه تعالى : « وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى »(6) والكلام إنكار ، كقوله تعالى لإبليس : « مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ »(7) ، وقوله تعالى : « فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ »(8) ، « فَمَا لَهُمْ

ص: 183


1- . البقرة 2 : 6 .
2- . يس 36 : 7 .
3- . يوسف 12 : 103 .
4- . المدّثّر 74 : 17 .
5- . المسد 111 : 1 .
6- . الإسراء 17 : 94 .
7- . الأعراف 7 : 12 .
8- . الانشقاق 84 : 20 .

عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ »(1) .

الثاني : أنّ اللّه تعالى قال في كتابه : « رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ »(2) ، وقال تعالى : « وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ »(3) ، فقد تبيّن أنّه ما أبقى لهم عذراً إلاّ وقد أزاله عنهم ، فلو كان علمه تعالى بكفرهم مانعاً لهم من الإيمان لكان ذلك من أعظم الأعذار ، وأقوى الوجوه الدافعة لاستحقاقهم للعقاب ، والتالي باطل فكذا المقدَّم .

الثالث : أنّه ذكر في مقام الذمّ والزجر والتقبيح قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ »(4) الآية ، فلو كانوا ممنوعين من الإيمان غير قادرين عليه لما استحقّوا التقبيح البتّة ، بل كانوا معذورين كالأعمى في أن لا يرى .

الرابع : أنّ القرآن إنّما اُنزل ليكون حجّة للّه ولرسوله صلى الله عليه و آله لا أن يكون حجّة لهم على اللّه ورسوله ، فلو كان العلم والخبر مانعين لكان لهم أن يقولوا : إنّا كفرنا لسبق القضاء على كفرنا ، وترك المقضيّ مستحيل ، فلِمَ يطلب المحال منّا ، ولِمَ يأمرنا بالمحال ؟

الخامس : أنّه لو كان علمه السابق بعدم الإيمان مانعاً عن الإيمان لوجب أن لا يكون اللّه قادراً على شيء أصلاً ؛ والتالي باطل فكذا المقدَّم .

بيان الملازمة : أنّ الذي عُلم وقوعه واجب ، والذي عُلم عدم وقوعه ممتنع ، وشيء من الواجب والممتنع لا يكون مقدوراً ؛ إذ المصحّح للمقدوريّة هو الإمكان دون قسيميه .

السادس : أنّ الأمر بالمحال سفه وعبث ، فلو جاز ورود الشرع به لجاز وروده بكلّ أنواع السفه ، فما كان يمتنع وروده بإظهار المعجزة على يد الكاذب فلا يبقى وثوق بصحّة النبوّات ، ولا بصحّة القرآن وسائر الكتب ، بل يجوز أن يكون الكلّ سفهاً

ص: 184


1- . المدّثّر 74 : 49 .
2- . النساء 4 : 165 .
3- . طه 20 : 134 .
4- . البقرة 2 : 6 .

وباطلاً .

السابع : لو جاز ورود الأمر بالمحال لجاز الأمر للأعمى برؤية ما في السماء ، والزمِن بالطيران في الهواء ، ولو جاز ذلك لجاز بعثة الأنبياء إلى الجمادات والعجماء ، وإنزال الكتب والملائكة عليها لتبليغ التكاليف حالاً بعد حال ، ومعلوم أنّ ذلك سخرية وتلاعب بالدين .(1)

قال الصاحب بن عبّاد في فصل له في هذا الباب :

كيف يأمره بالإيمان وقد منعه منه ؟ وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه ؟ وكيف يصرفهم عن الإيمان ثمّ يقول : « أَنَّى يُصْرَفُونَ »(2) ؟ ويخلق فيهم الكفر ثمّ يقول : « فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ »(3) ؟ وأنشأ فيهم الكفر ثمّ يقول : « لِمَ تَكْفُرُونَ »(4) ؟ وخلق فيهم لَبس الحقّ بالباطل ثمّ يقول : « وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ »(5) ؟ وصدّهم عن السبيل ثمّ يقول : « لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ »(6) ؟ وحال بينهم وبين الإيمان ثمّ قال : « وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا »(7) ؟ وذهب بهم عن الرشد ثمّ قال : « فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ »(8) ؟ وأضلّهم عن الدين حتّى أعرضوا ثمّ قال : « فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ »(9) ؟ وغيرها من الآيات الدالّة على أنّ التكليف بما لا يطاق لم يقع ، قال سبحانه : « لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا »(10) ، وقال : « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »(11) ، وقال : « وَيَضَعُ عَنْهُمْ

ص: 185


1- . انظر : المطالب العالية ، ج 9 ، ص 48 - 50 .
2- . غافر 40 : 69 .
3- . العنكبوت 29 : 61 .
4- . آل عمران 3 : 70 .
5- . البقرة 2 : 42 .
6- . آل عمران 3 : 99 .
7- . النساء 4 : 39 .
8- . التكوير 81 : 26 .
9- . المدّثّر 74 : 49 .
10- . البقرة 2 : 286 .
11- . الحجّ 22 : 78 .

إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ »(1) ، وأيّ حرج ومشقّة فوق التكليف بالمحال .(2)

وأمّا ما أجابوا به عن العلم فللمعتزلة فيه طريقان :

إحداهما : طريقة أبي هاشم وأبي علي الجبّائيّ والقاضي عبدالجبّار ، قالوا لمن قال : لو وقع خلاف علم اللّه لانقلب علمه جهلاً ، إنّه قد أخطأ من قال : إنّة ينقلب علمه جهلاً ، وأخطأ أيضاً من قال : إنّ علمه لا ينقلب جهلاً ، ولكن يجب الإمساك عن القولين .

وثانيهما : طريقة الكعبيّ واختيار أبي الحسين البصريّ والمتأخّرين منهم ، وهو: إنّ العلم تبع للمعلوم ، فإذا فرضت الواقع من العبد هو الإيمان عرفت أنّ الحاصل في الأزل للّه تعالى العلم بالإيمان ، ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلاً عن الإيمان

عرفت أنّ الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلاً عن الإيمان ، فهو فرض علم بدلاً عن علم آخر لا أنّه انقلاب في العلم وتغيّر له .(3)

أقول : التحقيق في الجواب : أنّ العلم لابدّ أن يوجد المعلوم على وفقه مطابقاً له ، والذي علمه اللّه هو صدور المعصية عن زيد بالاختيار ، وصدور الإحراق عن النار - مثلاً - بالاضطرار ، ويستحيل خلاف ما علمه ، فلو صدرت المعصية بطريق الإلجاء والإحراق بطريق الاختيار لزم المحال ، وليس العلم هو العلّة القريبة الموجبة للمعصية ، وإنّما علّتها اختيار زيد وإرادته مع اُمور اُخر .

لا يقال : إنّ علم اللّه مقدّم فكيف يكون تابعاً ؛ لأنّ التابعيّة ملزومة للتأخير ؟

لأنّا نقول : إنّ معنى التابعيّة هو أصالة المعلوم في التطابق ، وهذا المعنى يجتمع مع تقدُّم العلم .

بيان ذلك : أنّ العلم حكاية عن المعلوم ومثال له ، فنسبته إليه كنسبة الفرس المنقوشة على الجدار إلى ذات الفرس ، فكما يصحّ أن يقال : إنّما كانت الصورة هكذا

ص: 186


1- . الأعراف 7 : 157 .
2- . لم نعثر عليه .
3- . المطالب العالية ، ج 9 ، ص 53 .

لأنّ ذات الفرس هكذا ، ولا يصحّ أن يقال : ذات الفرس هكذا لأنّ الصورة هكذا ، فكذا يصحّ أن يقال : إنّما علمت زيدا شرّيراً لأنّه كان في نفسه شرّيراً دون أن يقال : كان زيد في نفسه شرّيراً ، لأنّي علمته شرّيراً . وفي المقام أبحاث شريفة تركنا ذكرها مخافة التطويل .

واعلم أنّ هذه الحجج لا اختصاص لها بالمجبّرة ، بل الأشاعرة احتجّوا بها أيضاً ، وهم المجبّرة حقّاً والجبر مذهبهم ، كما عرفت سابقاً .

وربّما احتجّوا أيضاً بأنّه إن وجب صدور الفعل فلا اختيار وإلاّ فلا صدور ؛ لما تقرّر أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد .

وبتقرير آخر : جميع ما يتوقّف عليه الفعل إذا تحقّق فإمّا أن يلزم الفعل أو لا ؛ وعلى الأوّل يلزم الاضطرار ، وعلى الثاني تخلّف المعلول عن علّته التامّة ، ونحن قد ذكرنا لهذه الشبهة أجوبة كثيرة لا مزيد عليها ، وأطلنا الكلام فيها في رسالة مستقلّة في «الحسن والقبح العقليّين» وفي مقدّمة شرح المفاتيح وفي منية الممارسين وبغية الطالبين ، والذي نقول هنا :

أوّلاً : أنّ هذه شبهة في مقابلة الضرورة والبداهة ، فإنّ كلّ عاقل يفرّق بين حركة المرتعش وغيره ، كما تقدّم .

وثانياً : أنّها منقوضة في حقّه تعالى من دون تفاوت ، فما هو جوابكم فهو جوابنا.

وثالثاً : أنّ المرجّح للفعل أو الترك هو الإرادة ، ولا تتسلسل ؛ لأنّ المختار من كان فعله بإرادة لا من كانت إرادته بإرادة ؛ لأنّ الإرادة معنى اعتباريّ انتزاعيّ لا يحتاج إلى المؤثّر .

ورابعاً : أنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار كما حقّق في محلّه .

[بعض الأدلّة على بطلان مذهب المجبّرة]

ثمّ إنّ بطلان مذهب المجبّرة والأشاعرة القائلين باستناد جميع أفعال العباد إلى اللّه تعالى قد دلّت عليه الآيات المتظافرة والنصوص المتواترة والبراهين العقليّة والأدلّة القطعيّة ، بل الوجدان الذي يغني عن البرهان ، ولا بأس بالإشارة إلى جملة من ذلك ،

ص: 187

فإنّا لو أطلقنا عنان القلم في هذا الباب لاحتجنا إلى تأليف كتاب مستقلّ كبير الحجم .

منها : أن يقال للأشاعرة - القائلين بخلق الأعمال والعبد يكتسبها منه ، فالكسب لا يوجبها ولا يوجدها وإنّما يوجدها ويوجبها اللّه على زعمهم - : هل يقدر العبد على ترك الكسب أم لا ؟ فإن قالوا : نعم ، قالوا بالاختيار ، وحصل الوفاق ، وإن قالوا : لا ، فقد ساووا المجبّرة ، بل هُم هُم .

ومنها : أن يقال لمن ادّعى نفي الاختيار عن العبد وأنّه مجبور : إنّ العقلاء ما يعرفون حقيقة الجبر للعبد إلاّ إذا كان مختاراً فجبره غيره ومنعه من اختياره ، وأنتم تزعمون أنّه ما كان مختاراً ولا كان له فعل حقيقة .

ومنها : أن يقال للأشاعرة والمجبّرة : إنّه لو كان كما زعمتم أنّه لا فاعل في العالم سوى اللّه لزمكم أن يكون اللّه تعالى قد أرسل الرسل إلى نفسه ، وأنزل الكتب على نفسه ، وكلّ وعد ووعيد وتهديد صدر على لسان الملائكة والأنبياء والأوصياء وفي كتبه فإنّه يكون على قول المجبّرة قد وعد ذلك نفسه وتوعّدها وتهدّدها .

وإذا جاز عند الأشاعرة عليه تعالى أن يضلّ العباد ويجبرهم على الفساد ويلبّس عليهم بالمحال ويصدّق الكذّابين بالمعجزات ، ويظهر الدلالات الباهرات على أيدي المبطلين ، فكيف يمكن إثبات نبوّة نبيّ وصحّة شريعته ؟

ومنها : أنّ المجبّرة والأشاعرة يجوز على قواعدهم وعقائدهم - بل صرّحوا به - أن يجمع اللّه - مع عدله وحكمته - الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين وعباده الصالحين ، فيخلّدهم في الجحيم والعذاب الأليم أبد الآبدين ، ويجمع الكفّار والملحدين والزنادقة والمنافقين وإبليس والشياطين ويخلّدهم في الجنّة والنعيم أبد الآبدين ، ويزعمون أنّ ذلك من الإنصاف والعدل ؛ لأنّه يتصرّف في ملكه كيف يشاء ، «وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» .(1)

ومن أعجب ما يعتذرون به : أنّ أفعال العباد لو كانت صادرة منهم لكانوا شركاء اللّه ،

ص: 188


1- . الأنعام 6 : 91 ؛ الزمر (67) : 39 .

فاقتضى التعظيم إسناد الأفعال كلّها إلى اللّه ، وهذا عذر أقبح من الفعل ، إذ أيّ شركة تكون لعبد لم يكن شيئاً مذكوراً أوجده اللّه تعالى بعد العدم تنسب قبائح الأفعال إليه دون ربّه ؟ وأيّ عقل يحكم بأنّ أفعال العبيد الذين هم بمكان من الضعف والحقارة أفعال اللّه تعالى ؟ وكيف يكون فعل الفاعل لذاته كفعل الفاعل بغيره ؟ ولو فرض أنّ العبد يصدر منه فعل مثل فعل اللّه لم يقتض ذلك أن يكون شريكاً له .

ومن أعجب ما يحتجّون به أنّ العبد لو فعل شيئاً باختياره كان ذلك دليلاً على عجز اللّه ، حيث يقع منه ما لا يريده من المعاصي ، وهذه سفسطة ؛ إذ أيّ عجز يلحق المالك إذا جعل عبده مختاراً في أفعاله وأعماله سواءا فعل العبد ما يكرهه مولاه أو يحبّه ، مع قدرته على قهره وإعدامه ، فأيّ عجز يلزم من ذلك ؟ وأيّ قهر وغلبة للعبد ؟ ألا ترى أنّ السلطان العظيم ربّما أنعم على من ليس على طريقته وجعله مختاراً في أمره مع عدم دلالة ذلك على عجزه وضعفه .

ومنها : أنّ الآيات الفرقانيّة والنصوص القرآنيّة على كثرتها قد تضمّنت أنّ الكفّار في يوم القيامة - الذي تنكشف به حقائق الاُمور - لم يعتذروا بهذه الأعذار ، بل يعترفون بأنّ المعاصي منهم كما حكى اللّه عنهم ، فقالوا : « رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ »(1) ، ولم يقولوا : تعمل أنت غير الذي كنت تعمل ، وقالوا وهم في النار : « رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ »(2) ، وقالوا : « رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ »(3) ، « أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ »(4) إلى غير ذلك من الآيات .

ومنها : أنّ الشيطان اعترف بأنّه أضلّهم ، بقوله : « إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ

ص: 189


1- . فاطر 35 : 37 .
2- . المؤمنون 23 : 107 .
3- . المؤمنون 23 : 99 و 100 .
4- . الزمر 39 : 56 .

فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم »(1) ، وربّهم شهد بذلك حيث قال تعالى : « الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ »(2) وهم نزّهوا الشيطان عن اعترافه بإضلالهم وغرورهم وقالوا : ما أضلّنا إلاّ اللّه ، وردّوا شهادة ربّهم ونسبوا قبائح أفعالهم إليه تعالى .

ومنها : أنّهم وأمثالهم يعتذرون يوم القيامة بخلاف معتقدهم في الدنيا كما حكى اللّه عنهم : « وَقَالُوا رَبَّنَا إِنّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبيلاَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيِنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً »(3) مع أنّهم يعتقدون أنّ اللّه هو المُضلّ لهم ، وقالوا : « رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنَ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ »(4) ، ويقولون هنا : اللّه أضلّنا ، وقالوا : « وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ »(5) .

ومنها : أنّ اللّه تعالى يقول : « وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً »(6) ، فإذا كان اللّه هو الذي قتل المؤمن وقضاه وقهره عليه - بزعمهم - فلمن يهدّد ؟ ومن يلعن ؟ وكذا قوله تعالى : « فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ »(7) .

ومنها : ما رواه كثير من المسلمين عن الصادق عليه السلام أنّه قال يوماً لبعض المجبّرة : «هل يكون أحد أقبل للعذر الصحيح من اللّه تعالى ؟» . فقال : لا . قال : «فما تقول فيمن قال : لا أقدر وهو لا يقدر ، أيكون معذوراً أم لا ؟» فقال المجبّر : يكون معذوراً . قال له : «فإذا كان اللّه يعلم من عباده بأنّهم ما قدروا على طاعته ، وقال لسان حالهم أو مقالهم للّه يوم

ص: 190


1- . إبراهيم 14 : 22 .
2- . محمّد 47 : 25 .
3- . الأحزاب 33 : 67 و68 .
4- . فصّلت 41 : 29 .
5- . الشعراء 26 : 99 .
6- . النساء 4 : 93 .
7- . الزخرف 43 : 55 .

القيامة : يا ربّ ، ما قدرنا على طاعتك ؛ لأنّك منعتنا منها ، أما يكون قولهم في عذرهم صحيحاً على قول المجبّرة ؟» فقال : بلى واللّه .

فقال عليه السلام : «فيجب - على قولك - أن يقبل اللّه هذا العذر الصحيح ولا يؤاخذ أحداً أبداً ، وهذا خلاف قول أهل الملل كلّهم» . فتاب المجبّر من القول بالجبر في الحال .(1)

ومنها : ما رواه جمّ غفير من العامّة والخاصّة : أنّ الحجّاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصريّ ، وإلى عمرو بن عبيد ، وإلى واصل بن عطاء ، وإلى عامر الشعبيّ أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم من القضاء والقدر .

فكتب إليه الحسن البصريّ: إنّ من أحسن ما انتهى إلينا ما سمعت من أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال : «أتظنّ أنّ الذي نهاك دهاك ؟! إنّما دهاك أسفلك وأعلاك ، واللّه بريء من ذاك» .

وكتب إليه عمرو بن عبيد : أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول عليّ بن أبيطالب عليه السلام : «لو كان الوزر في الأجل محتوماً لكان الموزور في القصاص مظلوماً» .

وكتب إليه واصل بن عطاء : أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام : «أيدلّك على الطريق ، ويأخذ عليك المضيق ؟!»

وكتب إليه الشعبيّ : أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام : «كلّ ما استغفرت اللّه عنه فهو منك ، وكلّما حمدت اللّه تعالى عليه فهو منه» .

فلمّا وصلت كتبهم إلى الحجّاج ووقف عليها ، قال : لقد أخذوها من عين صافية(2) ،

ص: 191


1- . الطرائف ، ج 2 ص 327 - 328 ؛ الصراط المستقيم ، ج 3 ، ص 60 ؛ و نقله عن الطرائف في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 58 ، ح 107 .
2- . الطرائف ، ج 2 ، ص 329 ؛ كنز الفوائد ، ج 1 ، ص 364 ؛ وعن الطرائف في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 58 - 59 ، ح 108 .

هذا مع ما كان عليه الحجّاج من العداوة والنصب والبغض .

ومنها : ما رواه جملة من علمائهم : أنّ رجلاً سأل الصادق عليه السلام عن القدر ، فقال : «ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو فعله ، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو فعل اللّه تعالى ، يقول اللّه تعالى للعبد : لِمَ عصيت ؟ لِمَ فسقت ؟ فهذا فعل العبد ، ولا يقول : لِمَ مرضت ؟ لِمَ قصرت ؟ لِمَ ابيضضت ؟ لِمَ اسوددت ؟ لأنّه فعل اللّه» .(1)

ومنها : ما رووه أنّ الفضل بن سهل سأل عليّ بن موسى الرضا عليه السلام بين يدي المأمون ، فقال : يا أبا الحسن ، الخلق مجبورون ؟

فقال عليه السلام : «اللّه أعدل من أن يجبر ثمّ يعذّب» . قال : فمطلقون ؟

قال : «اللّه أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه» .(2)

ومنها : أنّ بعض أهل العدل وقف على جماعة من المجبّرة فقال لهم : أنا ما أعرف المجادلة والإطالة ، لكنّي أسمع في القرآن قوله تعالى : « كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ »(3) ، ومفهوم هذا الكلام عند كلّ عاقل أنّ الموقِد غير اللّه ، وأنّ المطفي للنار اللّه ، فكيف تقبل العقول أنّ الكلّ منه ؟ وأنّ الموقد للنار هو المطفي لها ؟ فانقطعوا ولم يردّوا جواباً .(4)

ومنها : ما حكي أنّه قيل للمجبّرة : نرى اللّه قد استعظم في القرآن قول المشركين والكافرين ، فقال : « تَكَادُ السَّماوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً »(5) ونحو ذلك ممّا استعظمه اللّه تعالى ، فإذا كان كلّ فعل وقول وقع منه وصدر عنه ، فكيف يستعظم فعل نفسه وينكره ؟(6)

ص: 192


1- . الطرائف ، ج 2 ، ص 330 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 59 ، ح 109 .
2- . كشف الغمّة ، ج 2 ، ص 306 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 49 ، ص 173 ، ح 9 .
3- . المائدة 5 : 64 .
4- . الطرائف ، ص 330 - 331 .
5- . مريم 19 : 90 .
6- . الطرائف ، ص 330 - 331 .

ومنها : ما حكي أنّه قيل لهم : إنّ اللّه تعالى يقول : « قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا »(1) مَن هذا الذي قد خاب ؟ فلم يكن لهم عن ذلك جواب .(2)

ومنها : أنّ بعض العدليّة اجتاز على قوم من الجبريّة - وكان العدليّ راكباً - فقال له الجبريّ : انزل حتّى أسألك مسألة ، فقال له العدليّ : أتقدر أن تسألني ؟ فقال : لا ، قال : أنا أقدر أن أنزل واُجيبك ؟ قال : لا ، فقال العدليّ : كيف يطلب نزولي من لا يقدر على سؤالي ، ولا أقدر على نزولي إليه ولا جوابي ؟ فانقطع الجبريّ .(3)

ومنها : أنّ عدليّاً قال لمجبّر : ممّن الحقّ ؟ قال : من اللّه ، قال : من المحقّ ؟ قال : هو اللّه ، قال : فممّن الباطل ؟ قال : من اللّه ، قال : فمن المبطل ؟ فانقطع المجبّر ولم يقدر أن يقول هو اللّه ، تعالى عن ذلك ، وكان يلزمه ذلك .(4)

ومنها : ما حكي أنّه اجتمع عدليّ وجبريّ للمناظرة وجعلا بينهما حكماً ، فقال العدليّ للجبريّ : هل من شيء غير اللّه وما خلق ؟

فقال الجبريّ : لا .

فقال له العدليّ : فهل يعذّب الكفّار والعصاة على أنّه خلقهم ؟

قال : لا .

قال : فيعذّبهم على أنّه ما خلقهم ؟

قال : لا .

قال : فعلى أيّ شيء يعذّبهم ؟

قال : لأنّهم عصوه .

فقال له العدليّ : قد كذبت هاهنا ، مَن يعصيه وأنت قد قلت : ليس في الوجود غير اللّه وما خلق اللّه ؟! فقولك : يعصيه ، مَن هذا العاصي ؟ فانقطع المجبر وحكم

ص: 193


1- . الشمس 91 : 9 و10 .
2- . الطرائف ، ص 330 - 331 .
3- . المصدر السابق ، ص 330 - 331 .
4- . المصدر السابق ، ص 331 - 332 .

الحكمُ عليه .(1)

ومنها : ما يحكى أنّ جماعة من اليهود اجتمعوا إلى أبي بحر الخاقانيّ فقالوا له : أنت سلطان عادل ومنصف ، ومن المسلمين في بلدك المجبّرة وهم يشهدون لنا أنّنا لا نقدر على الإسلام والإيمان ويعيبون علينا في الأفعال والأقوال ، فجمع المجبّرة وقال لهم :

ما تقولون فيما ذكره اليهود من احتجاجهم عليكم ؟ فقالوا : كذا نقول ؛ إنّهم لا يقدرون

على الإسلام والإيمان ، وطالبهم بالدليل فعجزوا فنفاهم .(2)

ومنها : أن يقال لهم : هذه المناظرة بيننا - هل هي بيننا في التحقيق - أو بين اللّه وبين نفسه ؟ فإن كانت بيننا فقد بطل ما تدّعونه أنّه لا فاعل سوى اللّه ، وإن كانت بين اللّه وبين نفسه فهل تقبل العقول أنّ اللّه يناظر نفسه ، ويغلب نفسه ، ويعجز نفسه .

وأيضاً المتناظران إذا كان أحدهما محقّاً والآخر مبطلاً ، أو أحدهما عالماً والآخر جاهلاً ، وكانت المناظرة بين اللّه وبين نفسه - كما زعموا - يلزمهم أن يكون ربّهم متّصفاً بعلم وجهل ، وغلبة وعجز .

ومنها : أنّ هذه الشكوك والجهالات الحاصلة للعباد من خصومكم ومخالفيكم حتّى تنتهي إلى اليقين ، أو تخرج إلى المناظرة ، إن كانت منهم فقد بطل ما تدّعونه من أنّه لا فاعل سوى اللّه ، وإن كانت من اللّه كان كفراً صريحاً .

ومنها : أن يقال لهم : إنّ من كان جاهلاً ثمّ صار عالماً ، ومن كان شاكّاً فصار ظانّاً ثمّ صار عالماً ، ولا ريب أنّ الجهل والعلم والشكّ أفعال ، فمن المتّصف بهذه الأفعال ؟ فإن كان هو العبد فقد خرجتم عن مذهبكم ، وإن كان هو اللّه فقد كفرتم .

ومنها : ما رووه أنّ ثمامة كان في مجلس المأمون وأبو العتاهية حاضر ، فسأل أبو العتاهية المأمون أن يأذن له في المناظرة مع ثمامة والاحتجاج عليه ، فأذن له ، فحرّك أبو العتاهية يده - وكان جبريّاً - وقال : من حرّك هذه ؟

فقال ثمامة - وكان عدليّاً - : حرّكها من اُمّه زانية .

ص: 194


1- . المصدر السابق ، ص 331 - 332 .
2- . المصدر السابق ، ص 331 - 332 .

فقال أبو العتاهية : شتمني يا أميرالمؤمنين في مجلسك .

فقال ثمامة : ترك مذهبه يا أميرالمؤمنين ؛ لأنّه يزعم أنّ اللّه حرّكها ، فلأيّ سبب غضب أبو العتاهية ، وليس للّه اُمّ ؟ فانقطع أبو العتاهية .(1)

ومنها : ما أورده عليهم بعض شعراء العدليّة :

إذا كانت الأشيا من اللّه كلّها *** فذلك عذر للروافض في السبّ

لأنّ إله العرش في حكمه قضى *** عليهم بهذافالعتاب على الربّ(2)

ومنها : أنّ الآيات القرآنيّة تنادي بأفصح لسان على بطلان مذهبهم كما قال اللّه تعالى : « اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ »(3) ، وهي صريحة في أنّ الطاغوت غير اللّه ، وقال تعالى حاكياً عنهم : « سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَحَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ »(4) ، ونحو ذلك كثير .

ومنها : أنّ جبريّاً قال لعدليّ : أما ترضى أن يكون من خلق المعاصي لك ربّاً ؟

فقال : لا واللّه ولا عبداً . يعني لو كان لي عبد يخلق المعاصي ما رضيت به أن يكون عبدي ، ولو عرض عليّ عبد يعمل المعاصي ويخلقها ما رضيت أن يكون في خدمتي .

إلى غير ذلك ممّا يلزمهم من العقائد الفاسدة والمذاهب الكاسدة ، أعاذنا اللّه وسائر المسلمين منها بمنّه وفضله .

فصل : [بعض الأدلّة على بطلان التفويض]

وأمّا بطلان التفويض والاستطاعة والقدر بالمعنى الذي تقدّم - كما ذهب إليه المعتزلة - فقد دلّت جملة من الآيات القرآنيّة والأخبار النبويّة من الطرفين على بطلان(5) ذلك :

ص: 195


1- . المصدر السابق ، ص 341 .
2- . لم نعثر عليه .
3- . البقرة 2 : 257 .
4- . الأنعام 6 : 148 .
5- . الظاهر : زيادة «بطلان» .

كقوله تعالى : « كُلُّ شَيْءٍ فَعَلوُهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ »(1) .

وقوله تعالى : « وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ »(2) .

وقوله تعالى : « وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ »(3) .

وقوله تعالى : « هذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ »(4) .

وقوله تعالى : « مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا »(5) ، إلى غير ذلك من الآيات .

وما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله مستفيضاً قال : «جفّ القلم بما هو كائن ، اعملوا فالكلّ ميسّر لما خلق له» .(6)

وما رواه ثقة الإسلام في الكافي ، عن عليّ بن حنظلة ، عن الصادق عليه السلام قال : «يسلك بالسعيد في طريق الأشقياء حتّى يقول الناس : ما أشبهه بهم ، بل هو منهم ، ثمّ تداركه السعادة ، وقد يسلك بالشقيّ طريق السعداء حتّى يقول الناس ما أشبهه بهم ، بل هو منهم ، ثمّ تداركه الشقاء ، إنّ من كتبه اللّه سعيداً وإن لم يبق من الدنيا إلاّ فواق ناقة(7) ختم اللّه له بالسعادة» .(8)

وقد تقدّم جملة من الأخبار الدالّة على أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بقضاء وإرادة وقدر ومشيّة ، وكتاب وأجل وإذن .

ص: 196


1- . القمر 54 : 52 و53 .
2- . الأنعام 6 : 59 .
3- . يس 36 : 12 .
4- . الجاثية 45 : 29 .
5- . الحديد 57 : 22 .
6- . راجع : عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 22 ؛ مسند أحمد ، ج 1 ص 307 ، مع تفاوت كثير في ألفاظه .
7- . فُواق الناقة وفَواقها : هو ما بين الحلبتين من الوقت ؛ لأنّ الناقة تحلب ثمّ تترك وقتا يرضعها الفصيل لتدرّ ، ثمّ تحلب ، أو مابين فتح يدك وقبضها على الضرع . انظر : القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 1219 فوق ؛ التعليقة للداماد ، ص 374 .
8- . الكافي ، ج 1 ، ص 154 ، باب السعادة والشقاء ، ح 3 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 159 ، ح 15 .

وما رواه في الكافي عن الصادق عليه السلام قال : «إنّ اللّه خلق الخلق فعلم منهم ما هم صائرون إليه ، وأمرهم ونهاهم ؛ فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ، ولا يكونون آخذين وتاركين إلاّ بإذن اللّه» .(1)

وعنه عليه السلام قال : «قال رسول اللّه : من زعم أنّ اللّه يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على اللّه ، ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة اللّه فقد كذب على اللّه ، ومن كذب على اللّه أدخله النار» .(2)

وعن إسماعيل بن جابر ، قال : كان في مسجد المدينة رجل يتكلّم في القدر والناس مجتمعون ، قال : فقلت : يا هذا ، أسألك ؟ قال : سل . قلت : يكون في ملك اللّه تبارك وتعالى ما لا يريد ؟ قال : فأطرق طويلاً ثمّ رفع رأسه فقال : يا هذا ، لئن قلتُ إنّه يكون في ملكه ما لا يريد ، إنّه لمقهور ، ولئن قلت إنّه لا يكون في ملكه إلاّ ما يريد أقررت لك بالمعاصي .

قال : فقلت لأبي عبداللّه عليه السلام : سألت هذا القدريّ فكان من جوابه كذا وكذا ، فقال : «لنفسه نظر ، أما لو قال غير ما قال لهلك» .(3)

بيان الجواب عن السؤال أنّه تعالى لا يكون في ملكه ما لا يريد كما تقدّم سابقاً : أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبع ، وعدّ منها الإرادة ، ولكن إرادته تعالى المتعلّقة بأفعاله : إيجادها ، وبالطاعات : إرادة وجودها والأمر بها على سبيل التخيير ، وبالمناهي : إرادة عدمها والأمر بتركها ، وبالمباحات : إرادة تساويها في الفعل والترك ، وقد تقدّم تفسير مشيّته تعالى وإرادته بما لا مزيد عليه .

وقيل للصادق عليه السلام : أجبر اللّه العباد على المعاصي ؟ قال : «لا» . قيل : ففوّض إليهم الأمر ؟ قال : «لا» . قيل : فإذاً ؟ قال : «لطف من ربّك بين ذلك» .(4)

ص: 197


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 158 ، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح 5 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 37 ، ح 55 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 158 ، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح 6 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 51 ، ح 85 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 158 ، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح 7 .
4- . المصدر السابق ، ح 8 .

وعن الصادق والباقر عليهماالسلام قالا : «إنّ اللّه أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ، واللّه أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون» ، قال : فسُئلا عليهماالسلام : هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا : «نعم ، أوسع ما بين السماء والأرض» .(1)

بيان المعنى : أنّ اللّه أعزّ وأقدر من أن يريد من العبد إرادة حتم وجزم فلا يكون ذلك الأمر ، بل أراد أن تكون أفعال العباد باختيارهم فكان ذلك ، وقد أراد تعالى من آدم كفّ النفس عن الأكل من الشجرة ، ومن إبليس السجود لآدم ، ومن الكافر الإيمان ، ومن العصاة ترك المعاصي ، ولم يقع المراد في هذه الصور ، فعلم أنّ إرادته تعالى لم تكن على سبيل الحتم ، بل كانت إرادة تخييريّة تكليفيّة .

والجبريّة والأشاعرة قالوا : إنّ اللّه تعالى أراد أضداد هذه الاُمور فلهذا وقعت ، ولا يخفى قبحه .

ويحتمل أن يكون ضمير «يكون» راجعاً إلى الإرادة المفهومة من «يريد» ، ويكون المعنى : أنّ اللّه أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون إرادة ذلك الأمر ، ويكون إرادة خلافه ، ويكون ردّاً على من قال من المفوّضة : إنّه تعالى فوّض قبول أمره إلى العباد ، بمعنى أنّهم إن قبلوا أمره فهو مراد له ويثيبهم ، وإن لم يقبلوه - بأن فعلوا خلافه - فما فعلوه مراد له ويعاقبهم ، وهذا أحد معاني التفويض .

وفي رواية العسكريّ عليه السلام (2) ما يدلّ على بطلانه بهذا المعنى .

وعن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «اللّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد»(3) ، ومعناه ما تقدّم .

وفي العيون والتوحيد عن الجعفريّ ، عن الرضا عليه السلام قال : ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال عليه السلام : «ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ، ولا يخاصمكم

ص: 198


1- . المصدر السابق ، ح 9 .
2- . المروية في الاحتجاج ، ج 1 ، ص 311 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 160 ، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح 14 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 296 ، ح 464 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 41 - 64 .

عليه أحد إلاّ كسرتموه ؟» قلت : إن رأيت ذلك . فقال : «إنّ اللّه عز وجلّ لم يُطَع بإكراه ، ولم يُعْصَ بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بطاعة لم يكن اللّه عنها صادّاً ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته ، فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه» .

ثمّ قال عليه السلام : «من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم(1) من خالفه» .(2)

وفي الاحتجاج عن الثماليّ : أنّه قال أبو جعفر عليه السلام للحسن البصريّ : «إيّاك أن تقول بالتفويض ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً منه وضعفاً ، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً» .(3)

وفي التوحيد عن المفضّل ، عن الصادق عليه السلام قال : «لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين» . قال : قلت : ما أمر بين أمرين ؟ قال : مَثَل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته ، فتركته ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية» .(4)

وفي التوحيد عن عليّ بن يقطين ، عن أبي إبراهيم عليه السلام قال : «مرّ أمير المؤمنين عليه السلام بجماعة بالكوفة وهم يختصمون في القدر ، فقال لمتكلّمهم : أباللّه تستطيع ؟ أم مع اللّه ؟ أم من دون اللّه تستطيع ؟ فلم يدر ما يردّ عليه ، فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : إن زعمت أنّك باللّه تستطيع ، فليس إليك من الأمر شيء ، وإن زعمت أنّك مع اللّه تستطيع فقد زعمت أنّك شريك معه في ملكه ، وإن زعمت أنّك من دون اللّه تستطيع فقد ادّعيت الربوبيّة من دون اللّه تعالى .

ص: 199


1- . في العيون : «خاصم» .
2- . عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 144 ، ح 48 ، التوحيد ، ص 361 ، ح 7 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 16 ، ح 22 .
3- . الاحتجاج ، ج 2 ص 327 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 17 ، ح 26 .
4- . التوحيد ، ص 362 ، ح 8 ؛ بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 197 .

فقال : لا يا أميرالمؤمنين ، بل باللّه أستطيع .

فقال عليه السلام : أمّا إنّك لو قلت غير هذا لضربت عنقك» .(1)

بيان :

لعلّ مراده عليه السلام بقوله : «باللّه تستطيع» أنّ اللّه يجبره على الفعل فلذا قال : «فليس إليك من الأمر شيء» ، ولمّا نفى المتكلّم الثلاثة وقال : باللّه أستطيع ، و علم عليه السلام أنّ مراده : أستطيع بما ملّكني اللّه من الآلات ، لم يرد عليه .

ويحتمل أنّ قوله عليه السلام : «ليس لك من الأمر شيء» ، أي أنّك غير مستقلّ بالفعل على سبيل التفويض ، بأن لا يقدر اللّه على ردّك ، إلى غير ذلك من الأخبار .

المقام الرابع

في تحقيق الأمر بين الأمرين ، والمنزلة بين المنزلتين

وهو أمر دقيق ، ولعلمائنا - رضوان اللّه عليهم - في تحقيقه مسالك :

الأوّل : ما سلكه رئيس الطائفة المحقّة الشيخ المفيد في شرحه على الاعتقادات حيث قال - بعد قول الصدوق :

اعتقادنا في الجبر والتفويض قول الصادق عليه السلام : «لا جبر ولا تفويض ...» إلى آخر رواية المفضّل - ما لفظه :

الجبر هو الحمل على الفعل والاضطرار إليه بالقسر والغلبة ، وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن يكون لهم قدرة على دفعه والامتناع من وجوده فيهم ، وقد يعبّر عمّا يفعله الإنسان بالقدرة التي معه على وجه الإكراه له على التخويف والإلجاء : أنّه جبر ، والأصل فيه ما فُعل من غير قدرة على امتناعه حسبما قدّمناه .

وإذا تحقّق القول في الجبر على ما وصفناه كان مذهب المجبّر هو قول من يزعم أنّ

ص: 200


1- . التوحيد ، ص 352 - 353 ، ح 23 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 39 ، ح 61 .

اللّه تعالى خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون للعبد قدرة على ضدّها والامتناع منها ، وخلق فيهم المعصية كذلك ، فهم المجبّرة حقّاً ، والجبر مذهبهم على التحقيق .

والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال ، والإباحة لهم ما شاؤوا من الأعمال ، وهذا قول الزنادقة ، وأصحاب الإباحات .

والواسطة بين هذين القولين أنّ اللّه أقدر الخلق على أفعالهم ومكّنهم من أعمالهم ، وحدّ لهم الحدود في ذلك ، ورسم لهم الرسوم ، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف ، والوعد والوعيد ، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها ، ولم يفوّض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها ، ووضع الحدود لهم فيها ، وأمرهم بحسنها ، ونهاهم عن قبيحها ، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض على ما بيّنّاه .(1) انتهى .

وهو جيّد ولكن تنزيل الأخبار المتقدّمة عليه لا يخلو من بُعد .

الثاني : أن يكون الجبر المنفيّ ما ذهب إليه الأشعريّ والجهميّة ، والتفويض المنفيّ هو كون العبد مستقلاًّ في الفعل بحيث لا يقدر الربّ تعالى على صرفه عنه كما عليه بعض المعتزلة ، والأمر بينهما هو أنّ اللّه تعالى جعل عباده مختارين في الفعل والترك

مع قدرته على صرفهم عمّا يختارون ، وعلى جبرهم على فعل ما لا يفعلون .

الثالث : أن يقال الأمر بين الأمرين هو : أنّ الأسباب القريبة للفعل بقدرة العبد ، والأسباب البعيدة - كالآلات والأدوات والجوارح والأعضاء والقوى - بقدرة اللّه سبحانه ، فقد حصل الفعل بمجموع القدرتين .

واُورد عليه : أنّ هذا التفويض بهذا المعنى لم يقل به أحد حتّى يحتاج إلى نفيه .

الرابع : أنّ المراد بالأمر بين الأمرين كون بعض الأشياء باختيار العبد - وهي الأفعال التكليفيّة - وبعضها باختياره كالصحّة والمرض والنوم واليقظة وأشباهها . وفيه ما في سابقه .

ص: 201


1- . تصحيح اعتقادات الإماميّة ، ص 47 .

الخامس : أنّ التفويض المنفيّ هو تفويض الخلق والرزق وتدبير العالم إلى العباد ، كما ذهب إليه الغلاة في الأئمّة . ويؤيّد ذلك ما رواه الصدوق في العيون بإسناده عن يزيد بن عمير ، قال : دخلت على عليّ بن موسى الرضا بمرو ، فقلت له : يابن رسول اللّه ، روي لنا عن الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام أنّه قال : «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين» فما معناه ؟

فقال عليه السلام : «من زعم أنّ اللّه يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أنّ اللّه عزّ وجلّ فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام فقد قال بالتفويض؛ فالقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك» . فقلت له : يابن رسول اللّه ، فما أمر بين أمرين ؟ فقال : «وجود السبيل إلى إتيان ما اُمروا به ، وترك ما نهوا عنه» . فقلت له : فهل للّه عزّ وجلّ مشيّة وإرادة في ذلك ؟ فقال : «أمّا الطاعات فإرادة اللّه ومشيّته فيها : الأمر بها والرضا لها والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيّته في المعاصي : النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها» . قلت : فللّه عزّ وجلّ فيها القضاء ؟ قال : «نعم ، ما من فعل يفعله العباد من خير وشرّ إلاّ وللّه فيه قضاء» . قلت : فما معنى هذا القضاء ؟ قال : «الحكم عليهم بما يستحقّونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة» .(1)

السادس : ما ذكره الفاضل الاسترآباديّ حيث قال :

معنى الأمر بين الأمرين أنّهم ليسوا بحيث ما شاؤوا صنعوا ، بل فعلهم معلّق على إرادة حادثة متعلّقة بالتخلية أو بالصرف(2) ، وفي كثير من الأحاديث : أنّ تأثير السحر موقوف على إذنه تعالى ، وكأنّ السرّ في ذلك أنّه لا يكون شيء من طاعة أو معصية أو غيرها - كالأفعال الطبيعيّة - إلاّ بإذن جديد منه تعالى ، فيتوقّف حينئذٍ كلّ حادث على الإذن توقّف المعلول على شرطه ، لا توقّفه على سببه .(3)

السابع : ما ذكره بعض الأفاضل وهو :

ص: 202


1- . عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 124 ، ح 17 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 11 - 12 ، ح 18 .
2- . التخلية : ضدّ الحبس والمنع ، والصرف : المنع والإمساك . انظر : مجمع البحرين ، ج 1 ص 130 خلا ؛ لسان العرب ، ج 9 ، ص 189 (صرف) .
3- . الحاشية على اُصول الكافي ميراث حديث شيعه ، ج 8 ، ص 330 .

أنّ فعل العبد واقع بمجموع القدرتين والإرادتين ، والتأثيرين من العبد ومن الربّ سبحانه ، والعبد لا يستقلّ في إيجاد فعله بحيث لا مدخل لقدرة اللّه فيه أصلاً ، بمعنى أنّه : أقدر العبد على فعله بحيث يخرج عن يده أزمّة الفعل المقدور للعبد مطلقاً كما ذهب إليه المفوّضة ، أو لا تأثير لقدرته فيه وإن كان قادراً على طاعة العاصي جبراً لعدم تعلّق إرادته بجبره في أفعاله الاختياريّة كما ذهب إليه المعتزلة .

وهذا أيضاً نحو من التفويض ، وقول بالقدر وبطلانه ظاهر ، كيف ولقدرة خالق العبد وموجده تأثير في فعل العبد بلا شبهة ، كما يحكم به الحدس الصائب ، وليس قدرة العبد بحيث لا تأثير له في فعله أصلاً ، سواء كانت كاسبة كما ذهب إليه الأشعريّ ويؤول مذهبه إلى الجبر كما يظهر بأدنى تأمّل ، أم لا تكون كاسبة أيضاً ، بمعنى أن لا تكون له قدرة واختيار أصلاً ، بحيث لا فرق بين مشي زيد وحركة المرتعش كما ذهب إليه الجبريّة ، وهم الجهميّة .

قال : وهذا هو معنى الأمر بين الأمرين ، ومعنى قول الحكماء الإلهيّين : لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه ، فمعناه أنّه لا يوجد شيء إلاّ بإيجاده تعالى وتأثيره في وجوده بأن يكون فاعلاً قريباً له ، سواءا كان بلا مشاركة تأثير غيره فيه ، كما في أفعاله سبحانه

كخلق زيد - مثلاً - أو بمشاركة تأثير غيره فيه كخلقه فعل زيد مثلاً ، فجميع الكائنات حتّى أفعال العباد بمشيّته تعالى وإرادته وقدرته ، أي : تعلّق إرادته ، وقضاؤه ، أي : إيجاده وتأثيره في وجوده .

ولمّا كانت مشيّة العبد وإرادته وتأثيره في فعله - بل تأثير كلّ واحد من الاُمور المذكورة آنفاً في أفعاله - جزءاً أخيراً للعلّة التامّة في أفعاله ، وإنّما يكون تحقّق الفعل والترك مع وجود ذلك التأثير وعدمه ، فينتفي صدور القبح عن اللّه تعالى ، بل إنّما يتحقّق بالمشيّة والإرادة الحادثة بالتأثير من العبد الذي هو متمّم للعلّة التامّة ، ومع عدم تأثير العبد والكفّ عنه بإرادته واختياره لا يتحقّق فعله بمجرّد مشيّة اللّه تعالى وإرادته وقدرته ، بل لا يتحقّق مشيّة وإرادة ، وتعلّق إرادة منه تعالى بذلك الفعل ، ولا يتعلّق جعله وتأثيره في وجود ذلك الفعل مجرّداً عن تأثير العبد ، فحينئذٍ الفعل - لاسيّما القبيح - مستند إلى العبد .

ص: 203

ولمّا كان مراده تعالى من إقداره العبد في فعله وتمكينه له فيه : صدور الأفعال عنه باختياره وإرادته إذا لم يكن مانع ، أيّ فعل أراد واختار من الإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، ولم يرد منه خصوص شيء من الطاعة والمعصية ، ولم يرد جبره في أفعاله ليصحّ تكليفه لأجل المصلحة المقتضية له ، ولا يعلم تلك المصلحة إلاّ اللّه تعالى ، وكلّفه بعد ذلك الإقدار بإعلامه بمصالح أفعاله ومفاسدها في صورة الأمر والنهي ؛ لأنّهما من اللّه تعالى من قبيل أمر الطبيب للمريض بشرب الدواء النافع ، ونهيه عن أكل الغذاء الضارّ ، وذلك ليس بأمر ونهي حقيقة ، بل هو إعلام بما هو نافع وضارّ له .

فمن صدور الكفر والعصيان عن العبد بإرادته المؤثّرة واستحقاقه بذلك العقاب لا يلزم أن يكون العبد غالباً عليه تعالى ، ولا يلزم عجزه تعالى ، كما لا يلزم غلبة المريض على الطبيب ، ولا عجز الطبيب إذا خالفه المريض وهلك ، ولا يلزم أن يكون في ملكه أمر لا يكون بمشيّته تعالى وإرادته ، ولا يلزم الظلم في عقابه ؛ لأنّه فعل القبيح بإرادته المؤثّرة ، وطبيعة ذلك الفعل توجب أن يستحقّ فاعله العقاب.

ولمّا كان مع ذلك الإعلام من الأمر والنهي بواسطة الحجج البيّنة ، اللّطف والتوفيق في الخيرات والطاعات من اللّه جلّ ذكره ، فما فعل الإنسان من حسنة فالأولى أن يُسند وينسب إليه تعالى ؛ لأنّ مع إقداره وتمكينه له وتوفيقه للحسنات أعلمه بمصالح الإتيان بالحسنات ومضارّ تركها والكفّ عنها بأوامره . وما فعله من سيّئة فمن نفسه ؛ لأنّه مع ذلك أعلمه بمفاسد الإتيان بالسيّئات ومنافع الكفّ عنها بنواهيه .

وهذا من قبيل إطاعة الطبيب ومخالفته ، فإنّ من أطاعه وبرأ من المرض يقال له : عالجه الطبيب وصيّره صحيحاً ، ومن خالفه وهلك يقال : أهلك نفسه لمخالفته الطبيب ؛ فظهر إسناد الحسنات إلى اللّه تعالى وإسناد السيّئات إلى العبد ، فهذا معنى

الأمر بين الأمرين ، وينطبق عليه الآيات والأخبار من غير تكلّف .(1) انتهى .

ص: 204


1- . سبق ذكر هذا الوجه عن بعض الأفاضل في شرح الحديث الثالث عشر .

الثامن : ما ذكره المحدّث المحقّق الكاشانيّ في كتاب قرّة العيون وغيره ، وادّعى أنّه طريقة أهل المعرفة والشهود ، وهي أقرب إلى التحقيق ، وإن كانت أبعد من الأفهام ، قال :

إنّ المخلوقات مع تباينها في الذوات والصفات والأفعال ، وترتّبها في القرب والبعد من الحقّ الأوّل والذات الأحديّة ، تجمعها حقيقة واحدة إلهيّة جامعة لجميع حقائقها وطبقاتها ، لا بمعنى أنّ المركّب من المجموع شيء واحد هو الحقّ سبحانه ، حاشا الجناب الإلهيّ عن وصمة الكثرة والتركيب ، بل هو هو ، والأشياء أشياء .

بل بمعنى أنّ تلك الحقيقة الإلهيّة مع أنّها في غاية البساطة والأحديّة ينفذ نورها في أقطار السماوات والأرضين ، فما من ذرّة إلاّ وهو محيط بها ، قاهر عليها ، ظاهر فيها ، كما قال إمام الموحّدين أميرالمؤمنين عليه السلام : «مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء لا بمزايلة» .

وكذلك للصفات المخلوقات جهة واحدة إلهيّة جامعة للجميع ، فإنّ السمع والبصر وغيرهما من الصفات في أيّ موصوف كان هو للّه سبحانه حقيقة ، ولذلك قال : « وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ »(1) ، أي لا غيره ، يعني : هو السميع بعين سمع كلّ سميع ، والبصير بعين بصر كلّ بصير ، وقال : « هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ »(2) ، أي بعين كلّ حياة .

وفي الحديث القدسيّ : «فبي يسمع وبي يبصر» . وكذلك الأفعال فإنّها منسوبات من ذلك الوجه الذي ينسب إلى الحقّ بعينه ، فكما أنّ وجود زيد بعينه أمر متحقّق في الواقع ، وهو شأن من شؤون الحقّ سبحانه وتعالى ، ولمعة من لمعاته ، ومظهر من مظاهره ، فكذلك هو فاعل لما يصدر عنه بالحقيقة لا بالمجاز ، ومع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحقّ سبحانه بلا شوب قصور وتشبيه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً ،

ص: 205


1- . الشورى 42 : 11 .
2- . غافر 40 : 65 .

كما قال تعالى : « وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ رَمَى »(1) .

فاخمد ضرام أوهامك أيّها الجبريّ ، فالفعل ثابت لك بمباشرتك إيّاه وقيامه بك ، وسكّن حواسك أيّها القدريّ ، فالفعل مسلوب عنك من حيث أنت أنت ؛ لأنّ وجودك إذا قُطع النظر عن ارتباطه بوجود الحقّ فهو باطل ، فكذا فعلك ؛ إذ كلّ فعل متقوّم بوجود فاعله .

وانظروا جميعاً بعين الاعتبار في فعل الحواسّ كيف انمحى وانطوى في فعل النفس ، وتصوّرها في تصوّر النفس ، واتلوا جميعاً قوله تعالى : « قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ »(2) ، وتصالحا بقول الإمام بالحقّ : «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» ، قال اللّه تعالى : « وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ »(3) ، أثبت المشيّة للعبد فنفى به الجبر ، وجعلها بعد مشيّة اللّه فنفى به التفويض ، وقال : « فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ »(4) وما كسبت يداهم إلاّ باللّه لا من دون اللّه ، فيكون وهناً في سلطانه ، ولا مع اللّه ، فيكون شركاً باللّه ؛ فَبِيَد العباد طاعة اللّه ومعصية اللّه ، إلاّ أنّه لا حول عن المعصية ولا قوّة على الطاعة إلاّ باللّه ، ولا مشيّة إلاّ بعد مشيّة اللّه ، والتنزيه والحسنات والمحامد ترجع إلى مقام الوحدة ، والتشبيه والسيّئات والمذامّ ترجع إلى محالّ الكثرة ؛ فسبحان من تنزّه عن الفحشاء ، وسبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء .

وفي الكافي عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «من زعم أنّ اللّه يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على اللّه ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة اللّه فقد أخرج اللّه عن سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة اللّه فقد كذب على اللّه ، ومن كذب على اللّه أدخله النار» .

وعن الصادق عليه السلام قال : «اللّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد» .

ص: 206


1- . الأنفال 8 : 17 .
2- . التوبة 9 : 14 .
3- . الدهر 76 : 30 .
4- . الشورى 42 : 30 .

وفيه : قيل للرضا عليه السلام : اللّه فوّض الأمر إلى العباد ؟ قال : «اللّه أعزّ من ذلك» . قيل : فجبرهم على المعاصي ؟ قال : «اللّه أعدل وأحكم من ذلك» .

ثمّ قال عليه السلام : «قال اللّه تعالى : يابن آدم ، أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك» .

أقول : أمّا أولويّته سبحانه بالحسنات فلأنّه تعالى أمر بها ووعد الثواب عليها ، ووهب القوّة عليها ، ووفّق لها ، ولأنّ الكمالات والخيرات راجعة إلى الوجود وهو منه سبحانه .

وأمّا أولويّة العبد بالسيّئات فلأنّ اللّه عزّ وجلّ نهى عنها ، وأوعد العقاب عليها ، ووهب القوّة ليصرفها في الطاعات فصرفها في المعاصي ، ولأنّ النقائص والشرور راجعة إلى العدم ، وهو من سوء الاستعدادات ولوازم الماهيّات المنزلة في عالم القضاء ، كما قيل :

هرچه هست از قامت ناساز بى اندام ماست *** ورنه تشريف تو بر بالاى كَس كوتاه نيست(1)

انتهى .

التاسع : ما ذكره المحدّث الكاشانيّ أيضاً في الوافي وقرّة العيون(2) :

قال في الوافي :

إنّ الآراء أربعة : اثنان فاسدان ، وهما : الجبر والتفويض ، اللذان بهما يهلك كثير من الناس ، واثنان دائران حول التحقيق ، ومرجعهما إلى الأمر بين الأمرين ، وأحدهما أقرب إلى الحقّ والقبول ، وأبعد من الأوهام والعقول ، وهو طريق أهل الشهود العارفين بأسرار الأخبار ، والآخر بالعكس ، وهو طريقة أهل العقول والأنظار .

وبيان الأوّل عسير ؛ لغموضه جدّاً ، فلنطوه طيّاً ونكتفي ببيان الثاني ، وإن لم نعتقده لتضمّنه أكثر ما يترتّب على الجبر من المفاسد ، إلاّ أنّه يخرج عقول الخواصّ عن

ص: 207


1- . راجع : قرّة العيون ، ص 383 - 388 .
2- . المصدر السابق .

بعض أسباب الحيرة ولهذا مال إليه فحول العلماء ، ولنذكر في بيانه ما ذكره بعض المحقّقين موافقاً لما حقّقه المحقّق الطوسيّ نصير الملّة والدين قدس سره في بعض رسائله المعمولة في ذلك ، قال :

قد ثبت أنّ ما يوجد في هذا العالم فقد قدّر بهيئته وزمانه في عالم آخر فوق هذا العالم قبل وجوده ، وقد ثبت أنّ اللّه تعالى قادر على جميع الممكنات ، ولم يخرج شيء من الأشياء عن مصلحته وعلمه وقدرته وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة ، وإلاّ لم يصلح لمبدئيّة الكلّ ؛ فالهداية والضلالة والإيمان والكفر والخير والشرّ والنفع والضرّ وسائر المتقابلات كلّها منتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه وإرادته ومشيّته ؛ إمّا بالذات أو بالعرض ، فأعمالنا وأفعالنا - كسائر الموجودات وأفاعيلها - بقضائه وقدره ، وهي واجبة الصدور منّا بذلك ، ولكن بتوسّط أسباب وعلل من إدراكاتنا وإراداتنا وحركاتنا وسكناتنا وغير ذلك من الأسباب العالية الغائبة عن علمنا وتدبيرنا ، الخارجة عن قدرتنا وتأثيرنا .

فاجتماع تلك الاُمور التي هي الأسباب والشرائط مع ارتفاع الموانع علّة تامّة يجب عندها وجود ذلك الأمر المدبّر والمقضيّ المقدّر ، وعند تخلّف شيء منها أوحصول مانع يبقى وجوده في حيّز الامتناع ، ويكون ممكناً وقوعيّاً بالقياس إلى كلّ واحد من الأسباب الكونيّة .

ولمّا كان من جملة الأسباب - وخصوصاً القريبة منها - إرادتنا وتفكّرنا وتخيّلنا . وبالجملة ، ما نختار به أحد طرفي الفعل والترك فالفعل اختياريّ لنا ، فإنّ اللّه تعالى أعطانا القوّة والقدرة والاستطاعة ليبلونا أيّنا أحسن عملاً مع إحاطة علمه ، فوجوبه

لا ينافي إمكانه ، واضطراريّته لا تدافع كونه اختياريّاً ، كيف وإنّه ما وجب إلاّ بالاختيار ؟! ولا شكّ أنّ القدرة والاختيار - كسائر الأسباب من الإدراك والعلم والإرادة والتفكّر والتخيّل وقواها وآلاتها - كلّها بفعل اللّه تعالى لا بفعلنا واختيارنا ، وإلاّ لتسلسلت القدرة والإرادة إلى غير نهاية .

وذلك لأنّا وإن كنّا بحيث إن شئنا فعلنا ، وإن لم نشأ لم نفعل لكنّا لسنا بحيث إن شئنا شئنا ، وإن لم نشأ لم نشأ ، بل إذا شئنا فلا تتعلّق مشيّتنا بمشيّتنا ، بل بغير مشيّتنا ،

ص: 208

فليست المشيّة إلينا ؛ إذ لو كانت إلينا لاحتجنا إلى مشيّة اُخرى سابقة ، وتسلسل الأمر إلى غير نهاية ، ومع قطع النظر عن استحالة التسلسل نقول : جملة مشيّاتنا غير المتناهية بحيث لا يشذُّ منها مشيّة ، لا تخلو إمّا أن يكون وقوعها بسبب أمر خارج عن مشيّتنا أو بسبب مشيّتنا ؛ والثاني باطل ؛ لعدم إمكان مشيّة اُخرى خارجة عن تلك الجملة ، والأوّل هو المطلوب .

فقد ظهر أنّ مشيّتنا ليست تحت قدرتنا كما قال عزّ وجلّ : « وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ »(1) ؛ فإذن نحن في مشيّتنا مضطرّون ، وإنّما تحدث المشيّة عقيب الداعي ، وهو تصوّر الشيء الملائم تصوّراً ظنّيّاً ، أو تخيّليّاً ، أو علميّاً .

فإنّنا إذا أدركنا شيئاً فإن وجدنا ملائمته أو منافرته ، لنا دفعه بالوهم أو ببديهة العقل انبعث منّا شوقاً إلى جذبه أو دفعه ، وتأكّد هذا الشوق ، وهذا هو العزم الجازم المسمّى بالإرادة ، وإذا انضمّت إلى القدرة التي هي هيئة للقوّة الفاعلة انبعثت تلك

القوّة لتحريك الأعضاء الأدويّة من العضلات وغيرها ، فيحصل الفعل .

فإذن ، إذا تحقّق الداعي للفعل الذي تنبعث منه المشيّة تحقّقت المشيّة ، فإذا تحقّقت المشيّة التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت القدرة لا محالة ، ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة ؛ فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة ، والقدرة محرّكة ضرورة عند انجزام المشيّة ، والمشيّة تحدث ضرورة في القلب عقيب الداعي ، فهذه ضروريّات يترتّب بعضها على بعض ، وليس لنا أن ندفع وجود شيء منها عند تحقّق سابقه ، فليس يمكن لنا أن ندفع المشيّة عند تحقّق الداعي للفعل ، ولا انصراف القدرة إلى المقدور بعدها ، فنحن مضطرّون في الجميع ، فنحن في عين الاختيار مجبورون ، فنحن إذاً مجبورون على الاختيار .

قال في الوافي :

هذا ملخّص ما ذكره ، ولا يخفى ما فيه من اشتماله على مفاسد الجبر ، وأيضاً ليس في فهمه وإفهامه كثير غموض حتّى يلزم العارفين كتمانه ، وعدم الرخصة في إفشائه ، فعلم أنّ الحقّ فيه أمر آخر لا يصل إليه إلاّ من هو أهله ، وذلك فضل اللّه

ص: 209


1- . الدهر 76 : 30 .

يؤتيه من يشاء واللّه ذوالفضل العظيم .(1) انتهى كلامه .

أقول : الطريق الذي أشار إليه وطوى ذكره لغموضه هو الذي ذكرناه قبل هذا الطريق ، كما صرّح به في قرّة العيون ، وهذا الطريق - كما ذكر - هو عين الجبر وليس من الأمر بين الأمرين في شيء ، وتفصيل ما فيه يفضي إلى التطويل ، واحتياج الإرادة منّا إلى إرادة اُخرى ممنوع ، بل هي من الاُمور الانتزاعيّة كالزمان والمكان ، فإنّ كلّ ممكن لا يخلو منهما أو من أحدهما ، مع أنّ المكان لا يحتاج إلى مكان ، والزمان لا يحتاج إلى زمان .

العاشر : ما اختاره العلاّمة المحقّق المحدّث المجلسيّ رحمه الله في جملة من كتبه ك- البحار(2) وحقّ اليقين(3) ومرآة العقول ، قال في الأخير : الذي ظهر لنا من الأخبار المعتبرة المأثورة عن الصادقين عليهم السلام هو أنّ الجبر المنفيّ قول الأشاعرة والجبريّة كما عرفت ، والتفويض المنفيّ هو قول المعتزلة إنّه تعالى أوجد العباد وأقدرهم على أعمالهم وفوّض إليهم الاختيار ، فهم مستقلّون بإيجادها على وفق مشيّتهم وقدرتهم ، وليس للّه سبحانه في أعمالهم صنع .

وأمّا الأمر بين الأمرين فهو أنّ لهداياته وتوفيقاته تعالى مدخلاً في أفعالهم ، بحيث لا يصل إلى حدّ الإلجاء والاضطرار ، كما أنّ لخذلانه سبحانه مدخلاً في فعل المعاصي وترك الطاعات ، لكن لا بحيث ينتهي إلى حدّ لا يقدر معه على الفعل أو ا لترك ، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه في أحواله المختلفة ، وهو مثلاً أن يأمر السيّد عبده بشيء يقدر على فعله ، وفهّمه ذلك ، ووعده على فعله شيئاً من الثواب ، وعلى تركه قدرٌ من العقاب ، فلو اكتفى من تكليف عبده بذلك ، ولم يزد عليه مع علمه بأنّه لا يفعل الفعل بمحض ذلك لم يكن ملوماً عند العقلاء لو عاقبه على تركه ، ولا ينسب عندهم إلى الظلم ، ولا يقول عاقل : إنّه أجبره على ترك الفعل ، ولو لم يكتف السيّد بذلك وزاد في

ص: 210


1- . الوافي ، ج 1 ص 537 - 539 وقوله أخيرا : «ولا يخفى ما فيه ... إلى قوله : في إفشائه» غير موجود في الوافي .
2- . بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 82 - 83 .
3- . حقّ اليقين ، ص 10 - 11 .

ألطافه و الوعد بإكرامه ، والوعيد على تركه ، وأكّد ذلك ببعث من يحثّه على الفعل ، ويرغّبه فيه ، ويحذّره على الترك ثمّ فعل ذلك بقدرته واختياره ، فلا يقول عاقل إنّه جبره على الفعل .

وأمّا فعل ذلك بالنسبة إلى قوم وتركه بالنسبة إلى آخرين فيرجع إلى حسن اختيارهم ، وصفاء طويتهم ، أو سوء اختيارهم ، وقبح سريرتهم ، أو إلى شيء لا يصل إليه علمنا ، فالقول بهذا لا يوجب نسبة الظلم إليه سبحانه بأن يقال : جبرهم على المعاصي ثمّ عذّبهم عليها كما يلزم الأوّلين ، ولا عزله تعالى عن ملكه واستقلال العباد بحيث لا مدخل للّه في أفعالهم ، فيكونون شركاء للّه في تدبير عالم الوجود كما يلزم الآخرين . ويدلّ على هذا الوجه أخبار كثيرة ممّا قدّمنا ذكره .(1) انتهى ملخّصاً .

وهو معنى جيّد لا غبار عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه .

ص: 211


1- . مرآة العقول ، ج 2 ص 207 - 208 .

الحديث الثاني والعشرون :[ لم يزل اللّه عليما سميعا بصيرا ]

اشارة

ما رويناه بأسانيدنا المتقدّمة عن رئيس المحدّثين محمّد بن بابويه في كتاب التوحيد عن أبيه ، عن سعد بن عبداللّه ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن إسماعيل بن سهل ، عن حمّاد بن عيسى ، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام فقلت : لم يزل اللّه يعلم ؟ فقال : «أنّى يكون يعلم ولا معلوم ؟»

قال : قلت : فلم يزل اللّه يسمع ؟ قال : «أنّى يكون ذلك ولا مسموع ؟»

قال : قلت : فلم يزل يبصر ؟ قال : «أنّى يكون ذلك ولا مبصر ؟»

قال : ثمّ قال عليه السلام : «لم يزل اللّه عليماً سميعاً بصيراً ، ذاتٌ علاّمةٌ سميعةٌ بصيرةٌ»(1) .

بيان :

ظاهر الخبر لا يخلو من إشكال ، والداء فيه عضال ؛ إذ السائل لمّا سأله بأنّ اللّه لم يزل عليماً فأجابه عليه السلام بالإنكار ، بأنّه كيف يعلم ولا معلوم ؟ وكذا في السمع والبصر ، فهو يدلّ بظاهره على نفي قدم العلم ودوامه ، ثمّ قال عليه السلام : «لم يزل اللّه عليما ...» إلى آخره ، فأثبت قدم العلم والسمع والبصر ودوامها .

ويمكن الجواب بأنّ غرض السائل كان عن علمه تعالى هل هو حضوريّ - كما زعمه جمع من الحكماء والمتكلّمين - فأجابه عليه السلام بنفي علمه تعالى على جهة الحضور ، بمعنى كون جميع الأشياء حاضرة لديه ، موجودة عنده ؛ إذ علمه سبحانه متقدّم على خلقها وإيجادها ، فكيف يمكن فرض وجود أعيانها أو صُورها حاضرة لديه تعالى ؟ فنفى عليه السلام كونه عالماً على هذه الجهة ، فقال عليه السلام : كيف يكون عالماً

ص: 212


1- . التوحيد ، ص 139 ، ح 2 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 72 ، ح 19 .

والحال أنّه لم يكن معلوم ، بل قد كان عالماً ، والمعلوم ليس بحاضر ، وقد كان سميعاً والمسموع ليس بحاضر ، وبصيراً والمبصر ليس بحاضر ؟!

ثمّ صرّح بنفي ما يوهم كلامه عليه السلام من نفي العلم مطلقاً بقدمه قبل وجود المعلومات ، فقال عليه السلام : لم يزل عالماً سميعاً بصيراً ذاتٌ علاّمةٌ سميعةٌ بصيرةٌ ، يعني : أنّ هذه الصفات عين الذات وليست بزائدة عليها ، وسيأتي مزيد تحقيق لهذا إن شاء اللّه .

[هل السمع والبصر هما نفس العلم ، بالمسموعات والمبصرات ؟]

ثمّ اعلم أنّه قد اختلف العلماء في أنّ السمع والبصر هل هما نفس العلم بالمسموعات والمبصرات ، أو صفة اُخرى غير العلم ؟ فذهب المحقّقون منهم - وهو الذي عليه الإماميّة - إلى الأوّل ، وهو الذي دلّت عليه الأدلّة العقليّة والنقليّة ، ومنها هذا الخبر وغيره .

وذهب طائفة إلى الثاني ، وقالوا : ذكرهما مع العلم في كثير من الآيات والروايات ، وإثباتهما بالدليل بعد إثبات العلم بجميع المعلومات دليل على المغايرة .

وربّما تخيّل أنّهما نوعان من الإدراك لا يتعلّقان إلاّ بالوجود العيني ، فهما من توابع الفعل فيكونان حادثين بعد الوجود .

والحقّ هو الأوّل ؛ لما عرفت ، وذكر الخاصّ بعد العام شائع ، وإثباتهما بالدليل - بعد إثبات عموم العلم - للدلالة على تحقّق هذا العلم المخصوص له سبحانه ، أعني العلم بالمسموع والمبصر .

ويمكن كونهما ردّاً على بعض الحكماء المتفلسفين حيث زعموا أنّه تعالى غير عالم بالجزئيّات فكان ذلك ردّاً عليهم .

لا يقال : كما أنّه تعالى عالم بالمسموع والمبصر من هذه الحيثيّة ، فكذلك هو عالم بالملموس مثلاً من حيث إنّه ملموس ، فلِمَ لا يطلق عليه اللامس ويراد أنّه عالم بالملموسات بالحيثيّة المذكورة ؟

لأنّا نقول : لا ريب في أنّه تعالى عالم بها من هذه الحيثيّة ، ولكن لمّا كانت أسماؤُه تعالى توقيفيّة - لا يقدم عليها إلاّ بإذنٍ منه - لم نطلق ذلك عليه .

ص: 213

الحديث الثالث والعشرون :[ في أسمائه تعالى ]

ما رويناه بالأسانيد السالفة عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن عليّ بن محمّد ، عن صالح بن أبي حمّاد ، عن الحسين بن يزيد ، عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة ، عن إبراهيم بن عمر ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ اللّه تبارك وتعالى خلق اسماً بالحروف غير متصوّت ، وباللفظ غير منطق ، وبالشخص غير مجسّد ، وبالتشبيه غير موصوف ، وباللون غير مصبوغ ، منفيّ عنه الأقطار ، مبعّد عنه الحدود ، محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم ، مستتر غير مستور ، فجعله كلمة تامّة على أربعة أجزاء معاً ، ليس منها واحد قبل الآخر ، فأظهر منها ثلاثة أسماء ؛ لفاقة الخلق إليها ، وحجب منها واحداً ، وهو الاسم المكنون المخزون ، فهذه الأسماء التي ظهرت ، فالظاهر هو اللّه تبارك وتعالى .

وسخّر سبحانه لكلّ اسم من هذه الأسماء أربعة أركان ، فذلك اثنا عشر ركناً ، ثمّ خلق لكلّ ركن منها ثلاثين اسماً فعلاً منسوباً إليها ، فهو الرحمن الرحيم ، الملك ، القدّوس ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الحيّ ، القيّوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، العليم ، الخبير ، السميع ، البصير ، الحكيم ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، العليّ ، العظيم ، المقتدر ، القادر ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، البارئ ، المنشئ ، البديع ، الرفيع ، الجليل ، الكريم ، الرزّاق ، المحيي ، المميت ، الباعث ، الوارث ؛ فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتّى تتمّ ثلاثمائة وستّين اسماً ، فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة ، فهذه الأسماء الثلاثة أركان ، وحجب الإسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة ، وذلك قوله تعالى : « قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَانَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْماءُ الْحُسْنَى »(1) .(2)

ص: 214


1- . الإسراء 17 : 110 .
2- . الكافي ، ج 1، ص 112، باب حدوث الأسماء ، ح 1 .

ورواه الصدوق في التوحيد بتفاوتٍ مّا تأتي الإشارة إليه .(1)

وهذا الخبر من متشابهات الأخبار ومعضلات الآثار ، ولا يعلم تأويله إلاّ اللّه والراسخون في العلم من الأئمّة الأطهار ، فالاعتراف بالعجز عن إدراك معناه أحوط وأولى ، وإيكال علمه إلى قائله أسلم وأقوى ، ولكنّا نتكلّم فيه على سبيل الاحتمال دون الجزم في المقال ، مقتصرين على ما احتمله جملة من علمائنا الأبدال .

قوله عليه السلام : (خلق اسماً) بصيغة المفرد ، وقد قيل في تعيينه أقوال وكلّها رجم بالغيب بلا ريب : فقيل : هو اللّه .

وقيل : هو اسم دالّ على صفات ذاته جميعاً ، ولعلّه يرجع إلى الأوّل .

واُورد عليهما : أنّ اسم اللّه من توابع هذا الاسم المخلوق أوّلاً كما يدلّ عليه هذا الحديث .

واحتمل بعضهم : أن يكون المراد به اسماً دالاًّ على مجرّد ذاته تعالى من غير ملاحظة صفة من الصفات معه ، قال : وكأنّه هو ، وهو أشرف الأسماء ؛ لأنّه إشارة إلى الذات من حيث هي هي ، وغيره من الأسماء يعتبر معه صفات ومفهومات لها إضافة إلى عالم الحدوث .

وأيضاً إذا قلت : هو اللّه الرحمان الرحيم الغفور الرحيم كان هو بمنزلة الذات ، وغيره من الأسماء بمنزلة الصفات .

واحتمل أيضاً : أن يراد به العليّ العظيم ، لقوله عليه السلام : «فأوّل ما اختار لنفسه : العليّ العظيم» .

وفيه : أنّه ذكره في أسماء الأركان فهو ينافي هذا الاحتمال ، إلاّ أن يقال : إنّه عليه السلام مزج الأصل مع الفرع ، للإشعار بالارتباط لكمال الملائمة .

واحتمل أيضاً : أن يكون المراد به اسماً آخر غير معروف عندنا ؛ لأنّ له تعالى أسماءاً مكنونة لا يعلمها إلاّ هو وخواصّ أوليائه ، وهذا أقرب ، وحينئذٍ فيراد بالأوّليّة المذكورة : الأوّليّة الإضافيّة بالنسبة إلى الأسماء الظاهرة .

ص: 215


1- . التوحيد ، ص 190 ، ح 3 ؛ و عنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 166 ، ح 8 .

واحتمل : أن يكون المراد بالاسم هو المسمّى ، يعني أنّه تعالى خلق مفهوماً عظيماً من مفهومات الأسماء و جعل ما بعده صفة ؛ لدلالة الحديث على أنّ ذلك الاسم ليس من باب الحرف والصوت .

واعلم أنّ في بعض النسخ «أسماء» بصيغة الجمع ، قيل : ولعلّه مبنيٌ على أنّه مجزّأ بأربعة أجزاء وكلّ منها اسم ، فلذا أطلق عليه صيغة الجمع (بالحروف غير متصوّت) .

وفي أكثر نسخ التوحيد : «غير منعوت» ، وهو وما بعده من الفقرات حال من فاعل (خلق) ، والجارّ متعلّق بمتصوّت ، والمعنى : أنّ اللّه سبحانه خالق هذا الاسم والحال أنّه لم يتصوّت بالحروف ... إلى آخره .

وبالجملة ، فيكون المقصود بيان المغايرة بين الاسم والمسمّى بعدم جريان صفات الاسم بحسب ظهوراته النطقيّة والكتبيّة فيه تعالى .

ويؤيّد ذلك ما في أكثر نسخ التوحيد : خلق أسماء بالحروف(1) ، وهو عزّ وجلّ

بالحروف غير منعوت ، هذا هو الظاهر .

ويحتمل أن يكون قوله : «غير متصوّت ... إلخ» حالاً من قوله : إسماً ، ويكون الخلق بمعنى التقدير والعلم ، والمعنى : أنّ اللّه خلق ، أي قدّر وعلم اسماً ، حال كون هذا الاسم عند حصوله في العلم الأقدس لم يكن ذا صوت ولا ذا صورة ولا ذا شكل ولا ذا صبغ .

واحتمل أن يكون إشارة إلى أنّ أوّل خلقه كان بالإفاضة على أرواح النبيّ والأئمّة بلا نطق وصبغ ولون وخطّ بقلم .

و(متصوّت) إمّا على البناء للفاعل ، أي لم يكن خلقها بإيجاد حرف وصوت ، أو على البناء للمفعول ، أي هو تعالى ليس من قبيل الأصوات والحروف حتّى يصحّ كون الاسم عينه تعالى .

(وباللفظ غير منطق) قيل : هو بضمّ الميم وكسر الطاء ، من نطق بالكلام إذا تلفّظ به ، أي لم يجعل الحروف ناطقة على الإسناد المجازي كقوله تعالى : « هذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ »(2) ،

ص: 216


1- . في هامش التوحيد : في بعض النسخ : «خلق أسماء» بصيغة الجمع . وهو من خطأ الناسخ ؛ لمنافاته مع الذيل ، حيث قال : «فجعله كلمة تامة» . التوحيد ، ص 190 .
2- . الجاثية 45 : 29 .

وقيل : بفتح الطاء ، أي ناطق ، أو أنّه غير منطوق باللفظ كالحروف ليكون من جنسها ، وتطبيق الفقرات على الاحتمالين السابقين ظاهر .

(وبالشخص غير مجسّد) الجسد : البدن ، والمجسَّد : من أكملت خلقته البدنيّة وتمّت تشخّصاته العينيّة الجسميّة .

(وبالتشبيه غير موصوف) الظرف متعلّق بموصوف .

(وباللون غير مصبوغ) كلّ ذلك لاستحالة ذلك عليه سبحانه على الأوّل ، واستحالة وجود ذلك في علمه على الثاني .

(منفيّ عنه الأقطار) أي الأبعاد ؛ لاستحالة الجسميّة عليه تعالى وعلى علمه .

(مبعد عنه الحدود) أي التركيب والانقطاع والانتهاء .

(محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم) ؛ لأنّ الحسّ يتوهّم إدراكه بالجسم والجسمانيّات ، واللّه تعالى وصفاته منزّه عن الجسميّة ولواحقهما .

(مستتر غير مستور) أي كنه ذاته تعالى مستتر عن الحواس ، غير مستور عن القلوب الصافية ، أو أنّه تعالى مستور عن الخلق ، ومن حيث الآثار غير مستور ، بل هو أظهر من كلّ شيء ؛ إذ في كلّ شيء له آ ية تدلّ على أنّه واحد .

أو أنّه تعالى مستتر بكمال ذاته وغير مستور بستر وحجاب .

أو أنّه غير مستور بل هو في غاية الظهور ، والنقص إنّما هو من قِبَلنا ، فإنّ عدم إدراك الخفافيش نور الشمس لقصورها ، هذا كلّه على الاحتمال الأوّل .

وعلى الثاني يحتمل أن يكون المعنى : أنّ هذا الاسم أو هذه الأسماء مستورة عن الخلق وغير مستورة عنه تعالى ، (فجعله كلمة تامّة) أي جعل ذلك الاسم كلمة تامّة لكماله وتمامه بالذات ، وعدم كونه تابعاً لغيره من الأسماء الحسنى ، أو لتمامه باعتبار كونه أصلاً ومبدأ لجميع تلك الأسماء ، كما أنّ المسمّى به هو اللّه تعالى مبدأ لجميع الأشياء أو لتمامه في الدلالة على ذاته الحقّة من غير ملاحظة صفة من الصفات معه ، وقيل : لتمامه باعتبار دلالته على ذات جامعة لجميع صفات الكمال .

(على أربعة أجزاء معاً ، ليس واحد منها قبل الآخر) بل تلك الأسماء في مرتبة ذواتها

ص: 217

ملحوظة معاً من غير ترتّب بعض على بعض ، كترتّب الخالق والرازق على العالم والقادر .

أو أنّها لمّا كان تحقّقها في العلم الأقدس لم يكن بينها تقدّم وتأخّر .

أو أنّ إيجادها لمّا كان بالإفاضة على الأرواح المقدّسة لا بالتكلّم لم يكن بينها وبين أجزائها تقدّم وتأخّر في الوجود كما يكون في تعلّم الخلق .

ولعلّ المراد بالأجزاء الأربعة : أنّ أسماءه تعالى ترجع إلى أربعة ؛ لأنّها إمّا أن تدلّ على الذات ، أو على الصفات الثبوتيّة الكماليّة ، أو السلبيّة التنزيهيّة ، أو صفات الأفعال ، فجرى ذلك الاسم الجامع إلى أربعة أسماء جامعة .

(وحجب منها واحداً ، وهو الاسم المكنون المخزون) الذي لا يعلمه إلاّ هو تعالى ، فعن الصادق عليه السلام : «أنّ اسم اللّه الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً ؛ اُعطي محمّد صلى الله عليه و آله اثنين وسبعين حرفاً ، وحجب عنه حرف واحد» .(1) والمراد بالحرف : الاسم ، وإطلاقه عليه شائع .

وفي نسخ التوحيد : «وحجب واحداً منها ، وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الثلاثة التي اُظهرت ، فالظاهر هو اللّه تبارك وتعالى» .

وعليه فيكون المعنى : أنّ هذه الثلاثة حُجُب ووسائط بين الخلق وبين هذا الاسم المكنون ؛ إذ بها يتوسّلون إلى الذات وإلى الاسم المختصّ بها .

(فالظاهر هو اللّه تعالى) أي الظاهر البالغ إلى غاية الظهور وكماله من بينها هو اللّه تعالى ؛ لأنّه يضاف غيره إليه ويعرف به ، فيقال : الرحمان اسم اللّه تعالى ، ولا يقال اللّه اسم الرحمان مثلاً ، ولم يبيّن الآخرين .

ويحتمل أن يراد بهما : الرحمان الرحيم ؛ لاقترانهما مع اللّه في التسمية ، ورجوع سائر الأسماء الحسنى إلى هذه الثلاثة ؛ لأنّ بعضها دالّ على المجد والثناء ، فهو تابع للّه ، وبعضها دالّ على إفاضة الوجود والخيرات الدنيويّة ، فهو تابع للرحمان ، وبعضها دالّ على إفاضة الخيرات الاُخرويّة ، فهو تابع للرحيم .

ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ الظاهر بهذه الأسماء هو اللّه تعالى ، وهذه الأسماء

ص: 218


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 230 ، باب ما اُعطي الأئمّة عليهم السلام من اسم اللّه الأعظم ، ح 2 .

إنّما جعلها ليظهر بها على الخلق ، فالمظهر هو الاسم والظاهر به هو الربّ سبحانه .

ونقل العلاّمة المجلسيّ رحمه الله أنّ في أكثر نسخ الكافي : «هو اللّه تبارك وتعالى» ، وفي بعضها : «هو اللّه وتبارك وتعالى»(1) ، فعلى أكثر النسخ يكون ذلك بياناً للأسماء الثلاثة ، ويؤيّده نسخة «الواو» فأوّلها : اللّه ، وهو الدالّ على النوع الأوّل ؛ لكونه موضوعاً للذات الجامعة للصفات الذاتيّة الكماليّة .

والثاني : تبارك ؛ لأنّه من البركة والنموّ ، وهو إشارة إلى معدن الفيوض ومنبع الخيرات التي لا تتناهى ، وهو رئيس جميع الصفات الفعليّة من الخالقيّة والرازقيّة والمنعميّة ، وسائر ما هو منسوب إلى الفعل ، كما أنّ الأوّل رئيس الصفات الوجوديّة من العلم والقدرة وغيرهما .

والثالث : تعالى ؛ لدلالته على تعاليه سبحانه عن مشابهة الممكنات وما يوجب نقصاً أو عجزاً ، فيدخل فيه جميع صفات التنزيه .

ولمّا كان المراد بالاسم ما دلّ على الذات والصفات أعمّ من أن يكون اسماً أو فعلاً أو جملة ، فلا محذور حينئذٍ في عدّ تبارك وتعالى من الأسماء .

ويؤيّد هذا المعنى : رواية التوحيد حيث قال فيها : «فالظاهر هو اللّه وتبارك وسبحانه» وهو صريح في أنّ ذلك بيان الأسماء الثلاثة . وهذا بالنسبة إلى اللّه وتبارك كما قدّمنا ، وأمّا بالنسبة إلى «سبحان» فمن حيث إنّه دالّ على تنزيهه تعالى عن جميع النقائص ، فيندرج فيه ويتبعه جميع الصفات السلبيّة والتنزيهيّة .

ولمّا كان لكلّ من تلك الأسماء الثلاثة الجامعة شعب أربع ترجع إليها ، جعل لكلّ منها أربعة أركان ، فقال عليه السلام : «وسخّر سبحانه لكلّ اسم من هذه الأسماء الثلاثة الظاهرة أربعة أركان» هي بمنزلة الدعائم :

فأمّا (اللّه) فلدلالته على الصفات الكماليّة الوجوديّة له أربعة دعائم ، هي : وجوب الوجود المعبّر عنه بالصمديّة ، والقيّوميّة ، والعلم ، والقدرة ، والحياة ، أو مكان الحياة : اللطف أو الرحمة أو العزّة .

ص: 219


1- . مرآة العقول ، ج 2 ، ص 26 .

وإنّما جعلت هذه الأربعة أركاناً لأنّ سائر الصفات الكماليّة إنّما ترجع إليها كالسميع والبصير والخبير - مثلاً - فإنّها راجعة إلى العلم ، والعلم يشملها ، وهكذا .

وأمّا (تبارك) فله أربعة أركان وهي : الإيجاد ، والتربية في الدارين ، والهداية في الدنيا ، والمجازاة في الآخرة ، أي الموجد أو الخالق ، والربّ ، والهادي ، والديّان .

ويمكن إدخال الهداية في التربية ، وجعل المجازاة ركنين : الإثابة والانتقام ، ولكلّ منهما شُعبٌ من أسماء اللّه الحسنى كما لا يخفى بعد التأمّل والتتبّع .

وأمّا (سبحان) على نسخة التوحيد أو (تعالى) على نسخة الكافي فلكلّ منهما أربعة أركان ؛ لأنّه إمّا تنزيه الذات عن مشابهة الممكنات ، أو تنزيهه عن إدراك الحواس والأوهام والعقول ، أو تنزيه صفاته عمّا يوجب النقص ، أو تنزيه أفعاله عمّا يوجب الظلم والعجز والنقص .

ويحتمل وجه آخر وهو : تنزيهه عن الشريك والأضداد والأنداد ، وتنزيهه عن المشاكلة والمشابهة ، و تنزيهه عن إدراك العقول والأوهام ، و تنزيهه عمّا يوجب النقص والعجز من التركيب والصاحبة والولد والتغيّرات والعوارض والظلم والجور والجهل وغير ذلك .

(فذلك اثنا عشر ركناً) حاصلة من ضرب ثلاثة في أربعة على ما تقدّم .

(ثمّ خلق لكلّ ركن منها - أي من الاثني عشر - ثلاثين اسماً فعلاً) أي أسماء دالّة على صفات الأفعال (منسوباً إليها) أي إلى تلك الأفعال ، أو إلى تلك الأركان الأربعة ، بأن يقال لها : أسماء الأركان أو إلى الأسماء الثلاثة الظاهرة ، ويحصل من ذلك ثلاثمائة وستّون اسماً .

ثمّ شرع عليه السلام في بيان بعض أسمائه الحسنى على التمثيل وأجمل الباقي ، فقال : (فهو الرحمان) لجميع الخلق في الدنيا ، (الرحيم) بالمؤمنين في الآخرة .

(الملك) في عالم الملك والملكوت ، يتصرّف كيفما يشاء .

(القدّوس) الطاهر عن النقائص والأضداد ، المنزّه عن الأولاد والأنداد .

(الخالق) الموجد للخلائق من العدم ، المقدّر لهم ؛ لأنّ الخلق ورد بمعنى التقدير .

(الباري) بمعنى الخالق بلا همّة ولا رويّة .

ص: 220

(المصوّر) وهو الخالق للخلق على صور مختلفة .

ولا يتخيّل أنّ هذه الأسماء الثلاثة مترادفة حيث إنّها بمعنى الإيجاد والإنشاء ، بل هي متخالفة في المعنى ، ونظيرها أنّ البنيان يحتاج إلى تقدير في الطول والعرض ، وإلى إيجاد بوضع الأحجار والأخشاب على نهج خاصّ ، وإلى تزيين ونقش وتصوير ؛ فهذه اُمور ثلاثة مترتّبة تصدر عنه جلّ شأنه في إيجاد الخلائق من كتم العدم ، فله سبحانه باعتبار كلّ منها اسم على ذلك الترتيب .

(الحيّ) المدرك الدائم بلا زوال .

و(القيّوم) على كلّ شيء بالحفظ والرعاية .

(لا تأخذه سنة) وهي الفتور والنعاس المتقدّم على النوم (ولا نوم) وهو ترقٍّ من الأدنى إلى الأعلى .

(العليم) بجميع الأشياء - كلّيّاتها وجزئيّاتها - قبل وجودها ، كعلمه بها بعد وجودها.

(الخبير) بدقائقها وحقائقها .

(السميع) العليم بمسموعاتها .

(البصير) العالم بمبصراتها .

(الحكيم) الموجِد للأشياء على وفق المصالح والحكم .

(العزيز) الذي لا يعادله شيء ولا يغلبه أحد .

(الجبّار) وهو الذي يجبر الخلق على ما ليس لهم فيه اختيار من الصحّة والمرض ، والموت والحياة ، والغنى والفقر ، والشباب والهرم ، والقوّة والضعف ، أو يجبر حالهم ويصلح نقائصهم .

(المتكبّر) المنزّه عن الحاجة والنقص .

(العليّ) العالي عن الخلق بالقدرة عليهم أو المترفّع عن الأشياء والاتّصاف بصفاتها .

(العظيم) الذي لا يدرك أحد كنه جلاله ، ولا يعرف نهاية كماله .

(المقتدر) الذي له اقتدار تامّ بحيث لا يجري شيء في ملكه بخلاف حكمه .

(القادر) الذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل .

(السلام) مصدر معناه السلامة من كلّ عيب ونقص وآفة ، أو معناه المسلَم ؛ لأنّ

ص: 221

السلامة تنال منه تعالى .

(المؤمن) الذي يؤمن عباده من الظلم والجور ، أو يؤمن من أطاعه من عذابه ، أو الذي يصدق وعده ، أو يصدّق ظنون عباده ولا يخيّب آمالهم .

(المهيمن) وهو الرقيب الحافظ لكلّ شيء ، أو الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل ، وأصله : مُؤءمِن ، بهمزتين ، من : أءمن ، قلبت الثانية ياءا ؛ لكراهة اجتماعهما ، ثمّ صيّرت الاُولى هاءا .

(البارئ) الظاهر أنّ تكراره من سهو القلم أو من الناسخ .

(المنشئ) للخلائق بلا مثال من الغير .

(البديع) بلا مثال سابق منه .

(الرفيع) لرفعة ذاته وصفاته عن ذوات الممكنات وصفاتها .

(الجليل) لجلال ذاته وقدرته على الإطلاق ، بحيث يصغر دونه كلّ جليل .

(الكريم) المفيض للجود بلا استحقاق .

(الرزّاق) وهو المجري رزقه على عباده .

(المحيي) المفيض للحياة ابتداءا وبعد الموت .

(المميت) المزيل للحياة عن كلّ ذي حياة بلا ممارسة ولا آلات .

(الباعث) للخلائق بعد الممات والمعيد لهم بعد الوفاة .

(الوارث) لرجوع الأملاك إليه بعد فناء الملاّك ، واسترداد أملاكهم ومواريثهم بعد موتهم كما قال جلّ شأنه : « لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ »(1) .

فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى من غيرها حتّى يتمّ ثلاثمائة وستّون اسماً ، فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة ، وهو مؤيّد لما في نسخة التوحيد وبعض نسخ الكافي من أنّ الأسماء الثلاثة مذكورة في كلامه عليه السلام أشار إليها ، وهذه الأسماء الثلاثة أركان لتلك الأسماء الحسنى التي أشار إلى بعضها وطوى بعضها .

ص: 222


1- . غافر 40 : 16 .

ويحتمل أن يكون المراد بالأسماء الثلاثة ما يدلّ على وجوب الوجود والعلم والقدرة ، وبالاثني عشر ما يدلّ على الصفات الكماليّة والتنزيهيّة التي تتبع تلك الصفات . والمراد بالثلاثين صفات الأفعال التي هي آثار تلك الصفات الكماليّة . ويؤيّده قوله : «فعلاً منسوباً إليها» .

ويحتمل أن يراد بالأسماء الثلاثة : اللّه ، الرحمان ، الرحيم ، كما تقدّم ، ويراد بالأركان الأربعة حروفها ، فإنّ الحروف المكتوبة في كلّ من هذه الأسماء الثلاثة أربعة ، وسمّيت أركاناً باعتبار أنّ تمامها وقوامها إنّما يتحقّق بتلك الحروف .

وحكى العلاّمة المجلسيّ عن والده رحمهماالله أنّه قال :

الذي يخطر بالبال في تفسير هذا الخبر على الإجمال هو أنّ الاسم الأوّل كان جامعاً للدلالة على الذات والصفات ، ولمّا كان معرفة الذات محجوبة عن غيره تعالى جزّأ ذلك الاسم إلى أربعة أجزاء ، وجعل الاسم الدالّ على الذات محجوباً عن الخلق وهو الاسم الأعظم باعتبار ، والدالّ على المجموع اسم أعظم باعتبار آخر .

ويشبه أن يكون الجامع هو اللّه ، والدالّ على الذات فقط هو ، وتكون المحجوبيّة باعتبار عدم التعيين كما قيل : إنّ الاسم الأعظم داخل في جملة الأسماء المعروفة ولكنّها غير معيّنة لنا . ويمكن أن يكون غيرهما .

والأسماء التي أظهرها اللّه للخلق على ثلاثة أقسام :

منها : ما يدلّ على التقديس مثل : العليّ العظيم العزيز الجبّار المتكبّر .

ومنها : ما يدلّ على علمه .

ومنها : ما يدلّ على قدرته تعالى .

وانقسام كلّ واحد منها إلى أربعة أقسام بأن يكون التنزيه إمّا مطلقاً ، أو للذات ، أو للصفات ، أو للأفعال ، أو يكون ما يدلّ على العلم ، إمّا لمطلق العلم ، أو للعلم بالجزئيّات كالسميع والبصير ، أو الظاهر ، أو الباطن .

وما يدلّ على القدرة إمّا للرحمة الظاهرة ، أو الباطنة ، أو الغضب ظاهراً ، أو باطناً ، أو ما يقرب من ذلك التقسيم من الأسماء المفردة على ما ورد في القرآن والأخبار تقرب من ثلاثمائة وستّين اسماً ، ذكرها الكفعميّ رحمه الله في مصباحه فعليك بجمعها

ص: 223

والتدبّر في ربط كلّ منها بركن من تلك الأركان .(1) انتهى كلامه .

وقال المحدّث الكاشانيّ في الوافي بعد ذكر هذا الخبر :

بيان : الاسم : ما دلّ على الذات الموصوفة بصفة معيّنة ، سواءا كان لفظاً أو حقيقة من الحقائق الموجودة في الأعيان ، فإنّ الدلالة كما تكون بالألفاظ كذلك تكون بالذوات من غير فرق بينهما فيما يؤول إلى المعنى ، بل كلّ موجود بمنزلة كلام صادر عنه تعالى وتمجيده ، بل كلّ منهما عند اُولي البصائر لسان ناطق بوحدانيّته ، يسبّح بحمده ويقدّسه عمّا لا يليق بجنابه كما قال تعالى : « وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ »(2) ، بل كلّ من الموجودات ذكر وتسبيح له تعالى ؛ إذ يفهم منه وحدانيّته وعلمه واتّصافه بسائر صفات الكمال ، وتقدّسه عن سمات النقص والزوال .

قوله عليه السلام : «مستتر» من الاستتار «غير مستتر» على البناء للمفعول ، إشارة إلى أنّ خفاءه وعدم نيله إنّما هو لضعف البصائر والأبصار ، لا أنّه جعل عليه ستراً أخفاه .

وكأنّ الاسم الموصوف بالصفات المذكورة إشارة إلى أوّل ما خلق اللّه الذي مرَّ ذكره في باب العقل ، أعني النور المحمّديّ والروح الأحمديّ صلى الله عليه و آله الذي هو العقل الكلّيّ .

وأجزاؤُه الأربعة إشارة إلى جهته الإلهيّة والعوالم الثلاثة التي تشتمل عليها أعني : عالم العقول المجرّدة عن المواد والصور ، وعالم الخيال المجرَّد من المواد دون الصور ، وعالم الأجسام المقارنة للمواد .

وبعبارةٍ اُخرى : إلى الحسّ والخيال والعقل والسرّ .

وبثالثة : إلى الشهادة والغيب وغيب الغيوب .

وبرابعة : إلى الملك والملكوت والجبروت واللاهوت .

ومعيّة الأجزاء عبارة عن لزوم كلّ منها الآخر ، وتوقّفه عليه في تماميّة الكلمة ، وجزؤُه المكنون : السرّ الإلهيّ والغيب اللاهوتيّ .

قوله عليه السلام : «فهذه الأسماء التي ظهرت» مبتدأ وخبر ، أي فهذه الأسماء الشائعة بين

ص: 224


1- . كتاب الأربعين ، ص 71 ؛ مرآة العقول ، ج 2 ، ص 28 - 29 .
2- . الإسراء 17 : 44 .

الناس هي التي ظهرت من الأسماء الثلاثة .(1)

قوله عليه السلام : «فالظاهر هو اللّه» يعني أنّ الظاهر بهذه الأسماء الثلاثة هو اللّه ، فإنّ المسمّى يظهر بالاسم ويعرف به .

ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام : «فالظاهر هو اللّه» خبر لقوله : (فهذه) ، وقوله : «التي ظهرت» صفة له، أي فالظاهر بها هو اللّه .(2)

والأركان الأربعة : الحياة والموت والرزق والعلم التي وكّل بها أربعة أملاك : إسرافيل وعزرائيل وميكائيل وجبرئيل :

وفعل الأوّل : نفخ الصور والأرواح في قوالب المواد والأجساد ، وإعطاء قوّة الحسّ والحركة لانبعاث الشوق والطلب ، وله ارتباط مع المفكّرة ، ولو لم يكن هو لم ينبعث الشوق والحركة لتحصيل الكمال في أحد .

وفعل الثاني : تجريد الأرواح والصور عن الأجساد والمواد ، وإخراج النفوس من الأبدان ، وله ارتباط مع المصورة ،ولو لم يكن هو لم تكن الاستحالات والانقلابات في الأجسام ، ولا الاستكمالات ولا الانتقالات الفكريّة في النفوس ، ولا الخروج من الدنيا والقيام عند اللّه للأرواح ، بل كانت الأشياء كلّها واقفة في منزل واحد ومقام أوّل .

وفعل الثالث : إعطاء الغذاء والإنماء على قدر لائق وميزان معلوم لكلّ شيء بحسبه ، وله ارتباط مع الحفظ والإمساك ، ولو لم يكن هو لم يحصل النشو والنماء في الأبدان ، ولا التطوّر في أطوار الملكوت في الأرواح ، ولا العلوم الجمّة للفطرة .

وفعل الرابع : الوحي والتعليم وتأدية الكلام من اللّه سبحانه إلى عباده ، وله ارتباط مع القوّة النطقيّة ، ولو لم يكن هو لم يستفد أحد معنى من المعاني بالبيان والقول ،

ص: 225


1- . هذا المقطع من قوله : «فهذه الأسماء» إلى قوله : «الثلاثة» غير موجود في الوافي ، وإنّما جاء فيه بدل ذلك قوله عليه السلام : «فهذه الأسماء التي ظهرت» گذا وجدت فيها رأيناه من نسخ الكافي والصواب : بهذه الأسماء ، بالباء كما رواه الصدوق طاب ثراه في كتاب توحيده ، ويدلّ عليه آخر الحديث حيث قال : وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة . الوافي ، ج 1 ص 465 .
2- . من قوله : «و يحتمل» إلى قوله : «هو اللّه» ، غير موجود في الطبعة المحقّقة من الوافي .

ولم يقبل قلب أحد إلهام الحقّ وإلقائه في الروع ، وهاهنا أسرار لا يحتملها المقام .(1) انتهى .

أقول : ليته طوى هذا الكلام كما طوى تلك الأسرار ، فإنّ هذا التأويل في كلامهم عليهم السلام جرأة عظيمة ، بل هو رجم بالغيب .

وأعظم من ذلك تأويل بعضهم الاثني عشر في هذا الخبر بأنّها كناية عن البروج الفلكيّة ، والثلاثمائة والستّين عن درجاتها .

ومنهم من جعل الاسم كناية عن مخلوقاته تعالى ، والاسم الأوّل الجامع عن أوّل مخلوقاته وهو العقل ، وما جعل بعد ذلك كناية عن كيفيّة تشعُّب المخلوقات وتعدُّد العوالم ، وهو راجع إلى تأويل المحدّث الكاشانيّ ، وأنا أستغفر اللّه لي ولمن خاض في

التأويل بغير برهان ولا دليل ، وأكِلُ الأمر والعلم إلى اللّه وأنبيائه ورسله وأوليائه .

والمقدار الذي يؤمن به من هذا الخبر : أنّ أسماءه تعالى مخلوقة حادثة ، وأنّه تعالى خلق أوّلاً اسماً واحداً ، ثمّ جعل هذا الاسم أصلاً لأربعة أسماء ، وجعل واحداً من هذه الأربعة مكنوناً مخزوناً عنده ، مستأثراً به في علم الغيب ، وأظهر ثلاثة بين خلقه لحاجتهم إليها .

ثمّ جعل هذه الثلاثة أصلاً لاثني عشر اسماً ، وجعل كلَّ واحد من الاثني عشر أصلاً لثلاثين اسماً حتّى بلغ العدد ثلاثمائة وستّين اسماً ؛ فالثلاثمائة والستّون ترجع إلى الاثني عشر ، وترجع الاثنا عشر إلى ثلاثة ، والثلاثة ترجع إلى ذلك الواحد ، وذلك الواحد مبدأ ومرجع لجميع الأسماء .

كما أنّ الواحد الحقّ سبحانه مبدأ ومرجع لجميع الأشياء ، وما زاد على ذلك من التعيين والتشخيص والأسماء والأركان إنّما ذكر على سبيل الاحتمال ، وإلاّ فهو رجم بالغيب وكذب على اللّه بلا ريب .

وقوله عليه السلام : (وحجب الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة) لعلّ الباء للسببيّة ،

ص: 226


1- . الوافي ، ج 1 ، ص 464 - 465 .

والظرف متعلّق بحجب ؛ والمعنى - واللّه أعلم - : أنّه تعالى حجب ذلك الاسم الواحد عن الخلق بسبب ظهور هذه الأسماء الثلاثة وكفايتها لهم .

وقوله عليه السلام : «وذلك قوله : « قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَانَ »(1)» إمّا إشارة إلى فاقة الخلق وإثبات احتياجهم إلى هذه الأسماء ، أو استشهاد بأنّ له تعالى أسماء حسنى وضعها ليدعوه الخلق بها ، أو إشارة إلى كون الأسماء الثلاثة الظاهرة أركاناً للبواقي،ويكون فيه إيماء لطيف إلى تلك الثلاثة بناءا على أنّها اللّه الرحمان الرحيم.

وإنّما لم يذكر الثالث إمّا للاختصار ، أو لأنّه أراد بالرحمان المتّصف بالرحمة المطلقة الشاملة للرحمة الدنيويّة والاُخرويّة .

وسبب نزول هذه الآية على ما قيل : إنّ المشركين سمعوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : يا اللّه يا رحمان ، فقالوا : إنّه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر ، فنزلت الآية .(2)

أو في اليهود إذ قالوا : إنّك لتقلّ ذكر الرحمان وقد أكثره اللّه في التوراة ، فنزلت الآية ردّاً لما توهّم الأوّلون من التعدّد ، أو عدم الإتيان بذكر الرحمان .(3)

ص: 227


1- . الإسراء 17 : 110 .
2- و 3 . بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 172 .
3- بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 172 .

الحديث الرابع والعشرون: [ في توحيده تعالى ]

اشارة

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن العبّاس بن عمرو الفقيميّ - نسبة إلى «فقيم» ك- «هذيل» حيّ من كنانة - عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبداللّه عليه السلام وكان من قول أبي عبداللّه عليه السلام : «لا يخلو قولك أنّهما اثنان من أن يكونا قديمين قويّين ، أو يكونا ضعيفين ، أو يكون أحدهما قويّاً

والآخر ضعيفاً ، فإن كانا قويّين فلِمَ لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه ، وينفرد بالتدبير ؟

وإن زعمت أنّ أحدهما قويّ والآخر ضعيف ، ثبت أنّه واحد - كما نقول - للعجز الظاهر في الثاني .

فإن قلت : أنّهما اثنان ، لم يخل من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة ، أو مفترقين من كلّ جهة ، فلمّا رأينا الخلق منتظماً ، والفلك جارياً ، والتدبير واحداً ، والليل والنهار والشمس والقمر دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد .

ثمّ يلزمك إن ادّعيت اثنين فرجة ما بينهما حتّى يكونا اثنين ، فصارت الفرجة ثالثاً بينهما ، قديماً معهما ، فيلزمك ثلاثة ، فإن ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين ، حتّى يكون ما بينهم فرجة فيكونوا خمسة ، ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة» .

قال هشام : فكان من سؤال الزنديق أن قال : فما الدليل عليه ؟

فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «وجود الأفاعيل دلّت على أنّ صانعاً صنعها ، ألا ترى أنّك إذا نظرت إلى بناء مشيّد مبنيّ علمت أنّ له بانياً ، وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده» .

قال : فما هو ؟

قال : «هو شيء بخلاف الأشياء ، أرجع بقولي إلى إثبات معنى وأنّه شيء بحقيقة الشيئييّة

ص: 228

غير أنّه لا جسم ولا صورة ، ولا يحسّ ولا يجسّ ، ولا يدرك بالحواسّ الخمس ، لا تدركه الأوهام ، ولا تنقصه الدهور ، ولا تغيّره الأزمان»(1) .

تحقيق وإيضاح :

قوله عليه السلام : (لا يخلو قولك أنّهما اثنان من أن يكونا قديمين) لا أوّل لوجودهما ، ولا تقدّم لأحدهما على الآخر .

(قويّين) متساويين في القوّة والقدرة على كلّ فرد من الممكنات بالاستقلال والاستبداد ، وعلى دفع(2) كلّ ما يمنع نفاذهما كما هو شأن الواجب بالذات .

(أو ضعيفين) ، ليس لكلّ منهما تلك القوّة والاستقلال .

(أو يكون أحدهما قويّاً والآخر ضعيفاً) ؛ فالحصر العقليّ دائر بين هذه الثلاثة ، وإذا بطل الأوّلان تعيّن الثلاث .

(فإن كانا قويّين) على ما وصفنا (فلِمَ لا يدفع كلّ منهما صاحبه وينفرد بالتدبير؟) فقوّتهما حينئذٍ تستلزم عدم قوّتهما ؛ لأنّ قوّة كلّ منهما على هذا الوجه تستلزم قوّته على دفع الآخر عن إرادة ضدّ ما يريده نفسه من الممكنات ، والمدفوع غير قويّ بهذا المعنى فيلزم نقيض المفروض .

وبتقرير آخر : أنّه يلزم من تساويهما في القوّة والدفع إمّا عدم التكوين والإيجاد إن توافقت إرادتهما ؛ لامتناع اجتماع علّتين تامّتين على معلول واحد ، أو تحقّق الضدّين معاً إن تخالفتا ، بأن يريد أحدهما شيئاً والآخر ضدّه أو عدمه .

ويمكن أن يوجّه بتوجيه آخر وهو : أنّهما لو كانا قويّين لزم إمّا استناد كلّ معلول شخصيّ إلى علّتين مستقلّتين في الإفاضة وذلك محال ، أو لزم الترجيح بلا مرجّح وهو فطريّ الاستحالة ، أو لزم كون أحدهما غير واجب بالذات وهو خلاف المفروض .

(وإن زعمت أنّ أحدهما قويّ والآخر ضعيف ثبت أنّه - أي المبدئ للعالم - واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني) عن المقاومة ، وثبت احتياج الضعيف إلى العلّة الموجدة

ص: 229


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 80 و 81 ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ، ح 5 .
2- . في «ر» : «رفع» .

له ؛ لأنّ القويّ أقوى وجوداً من الضعيف ، وضعف الوجود لا يتصوّر إلاّ بجواز خلوّ الماهيّة عن الوجود ، ويلزم منه الاحتياج إلى المبدء المباين الموجد له .

وبتقرير آخر : أنّ الضعف منشأ العجز ، والعاجز لا يكون إلهاً بل مخلوقاً محتاجاً ؛ لأنّه محتاج إلى من يعطيه القوّة والكمال والخيريّة .

ولم يذكر عليه السلام الشقّ الثاني لظهوره عند الناس بحكم الفطرة السليمة بأنّ الضعيف ينافي الإلهيّة .

وبتقرير آخر : أنّ العاجز لا يقدر أن يعارض القوي ويدّعي الربوبيّة لنفسه ، أو يدّعي المشاركة فيها ، بل هو في وجوده ولوازم ذاته وسائر كمالاته محتاج إليه ، والمحتاج لا يكون واجباً لذاته .

ثمّ استدلّ عليه السلام على التوحيد ببرهان ثان أشار إليه بقوله : «فإن قلت - والمحكي عن الاحتجاج(1) «وإن قلت» بالواو وهو أوضح - : أنّهما اثنان لم يخل من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة» في الحقيقة ، ويلزم من هذا عدم الامتياز بالتعيّن ؛ للزوم المغايرة بين الحقيقة والتعيّن المختلفين ، واستحالة إسنادهما إلى الغير ، فيكون لهما مبدءاً .

(أو مفترقين من كلّ جهة) وذلك معلوم الانتفاء ؛ لما أشار إليه عليه السلام بقوله : (فلمّا رأينا الخلق منتظماً) على نظام مخصوص ، (والفلك جارياً) على نحو خاصّ بقدر معيّن ، (والتدبير واحداً) في الارتباط والانتظام كما يأتي توضيحه إن شاء اللّه .

(والليل والنهار) متعاقبين متفاوتين في الطول والقصر بتفاوت مضبوط ، (والشمس والقمر) يجريان لمستقرّ لهما .

(دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر) وهو ارتباط أجزاء العالم بعضها ببعض ، كارتباط أجزاء الشخص الواحد وأعضائه بعضها ببعض ، فإنّا نجد أجزاء العالم مع اختلاف طبائعها الخاصّة وتباين صفاتها وأفعالها المخصوصة مرتبطاً بعضها ببعض ، ويفتقر بعضها إلى بعض ، وكلّ منهما يعيّن بطبعه صاحبه ، وهكذا نشاهد الأجرام العالية وما ارتكز فيها من الكواكب النيّرة في حركاتها الدوريّة ، وأضوائها الواقعة

ص: 230


1- . الاحتجاج ، ج 2، ص 71 .

منها ، نافعة للسفليّات ، محصّلة لامتزاج المركّبات التي يتوقّف عليها صور الأنواع ونفوسها ، وحياة الكائنات ونموّ الحيوان والثبات .

فإذا تحقّق ما ذكرنا من وحدة العالم لوحدة النظام واتّصال التدبير دلّ (على أنّ المدبّر واحد) دبّره على أحسن النظام وأتمّ القوام ؛ إمّا لأنّ التلازم والتناسب بين الشيئين لا يتحقّق إلاّ بعلّيّة أحدهما للآخر ، أو بمعلوليّتهما لعلّة واحدة موجبة لهما ، فلو تعدّد

المدبّر اختلّ الأمر وفسد النظام كما اُشير إليه بقوله تعالى : « لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا »(1) .

وإمّا لأنّ التدبير الواحد لا يجوز استناده إلاّ إلى مدبّر واحد ، لامتناع اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد شخصيّ .

وإمّا لأنّ المدبّر الواحد كاف لصدور التدبير الجمليّ ، وإذا لاحظنا معه أنّ المشاركة نقص لا يليق بالواجب بالذات ولاحظنا لزوم التعطيل علمنا أنّه لا مدبّر غيره .

فإن قيل : إنّ هذه الوجوه إنّما تنفي وجود مدبّرين متّفقين مستقلّين في صدور الكلّ وصدور كلّ واحد واحد ، ووجود مدبّرين يستقلّ أحدهما كذلك ويستقلّ الآخر في البعض ، لا وجود مدبّرين غير متّفقين ، بأن يستقلّ أحدهما في بعض والآخر في بعض آخر بحيث يحصل من المجموع هذا النظام والتدبير .

قيل : كلّ واحد إذا لم يستقلّ في الكلّ ، فإن استقلَّ مجموعهما فيه لزم أن يكون المجموع هو المدبّر ، وهذا - مع كونه باطلاً ؛ لاستحالة التركيب في الواجب - رافع للاثنينيّة ، وإن استقلّ أحدهما في بعض ؛ والآخر في بعض آخر لزم النقص المحال على الواجب بالذات ، وارتفاع التلازم والائتلاف بين البعضين ، وإلاّ لزم عدم استقلال كلّ واحد في البعض أيضاً ، وهذا خلف .

ثمّ استدلّ عليه السلام على نفي الاثنينيّة بدليل آخر أشار إليه بقوله : (ثمّ يلزمك إن ادّعيت اثنين فرجة ما بينهما حتّى يكونا اثنين) ؛ إذ لا محالة لابدّ أن يكون بينهما انفصال في

ص: 231


1- . الأنبياء 21 : 22 .

الوجود وافتراق في الهويّة (فصارت الفرجة) موجوداً (ثالثاً بينهما) موجوداً (قديماً معهما) أي مع الاثنين .

أمّا وجود الفرجة فلأنّه لو كان أمراً عدميّاً لزم أن يكون لكلّ واحد منهما مميّز وجوديّ ليتحقّق معنى الامتياز ؛ إذ ليس لكلّ واحد منهما غير الأمر العدميّ الذي للآخر ، فلابدّ من أن يكون له الأمر الوجوديّ الذي يقابله ، فلا يرد أنّه يجوز أن تكون

الفرجة أمراً عدميّاً فلا يلزم وجود إله ثالث .

وأمّا قِدمه فلأنّ الاثنين والقديمين ممتازان به ، فهو أيضاً قديم بالضرورة . ولم يقل عليه السلام : ثالثة قديمة نظراً إلى معنى الفرجة وهو المميّز .

(فيلزمك) القول بوجود (ثلاثة) آلهة أو قدماء ثلاثة ، (فإن ادّعيت) ابتداءاً أو بعد هذا الإلزام(1) (الثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين) من وجوب تحقّق الفرجة بينهم لتحقّق الثلاثة (حتّى يكون بينهم فرجة) اُخرى غير المذكورة أوّلاً ، (فيكون) الثلاثة مع الفرجتين (خمسة) .

لا يقال : إنّ المراد بالفرجة ما به الامتياز ، وحينئذٍ فلابدّ لكلّ من الثلاثة ما يمتاز به عن الآخر ، فاللازم حينئذٍ ستّة لا خمسة .

لما يقال : إنّ المراد بالفرجة الأمر الوجوديّ الذي يقع به الامتياز واللازم ثبوت الفرجتين بجواز امتياز الثالث عن الأوّلين بأمر عدميّ ، أي بعدم وجود هاتين الفرجتين فيه ولذلك لزم في الفرض الأوّل ثلاثة لا أربعة .

فإن قيل : إذا جاز ذلك في الثالث جاز في الأوّلين أيضاً ، فلا يتجاوز العدد عن ثلاثة .

قيل : قد عرفت ممّا ذكر أنّ امتياز كلّ واحد من الثلاثة بأمر عدميّ يقتضي امتياز كلّ واحد منهم بأمر وجوديّ ، ولا أقلّ من امتياز الاثنين منهم به .

(ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة) فإن ادّعيت خمسة لزمك ما لزمك في الثلاثة ، حتّى يكون بينهما فرج أربعة فيكونوا تسعة ، وهكذا فيلزمك أن لا تستقرّ

ص: 232


1- . في الحديث : «ثلاثة» .

في عدد المدبّر على مرتبة معيّنة ، وهو باطل ضرورة .

وقد وجّه الخبر بوجوه اُخر نقلها يفضي إلى الملل والتطويل بلا طائل وباقي أجزاء الخبر واضحة ، واللّه العالم .

تذييل : [بعض براهين التوحيد]

لعلّ الإشارة إلى بعض براهين التوحيد على وجه الاختصار تعين على فهم الحديث فنقول : لهم في تقريره وجوه :

الأوّل : أنّه لمّا ثبت كون الوجود عين حقيقة الواجب ، فلو تعدّد لكان امتياز كلّ منهما عن الآخر بأمر خارج عن الذات ، فيكونان محتاجين في تشخّصهما إلى أمر خارج ، وكلّ محتاج ممكن .

الثاني : أنّه لو تعدّد الواجب لذاته فإمّا أن يكون امتياز كلّ منهما عن الآخر بذاته ، فيكون مفهوم واجب الوجود محمولاً عليهما بالحمل العرضي ، والعارض معلول للمعروض ، فيرجع إلى كون كلّ منهما علّة لوجوب وجوده ، وقد ثبت بطلانه .

وإمّا أن يكون ذلك الامتياز بالأمر الزائد على ذاتهما وهو أفحش ، فإنّه إمّا أن يكون معلولاً لماهيّتهما أو لغيرهما ، وعلى الأوّل إن اتّحدت ماهيّتهما كان التعيين مشتركاً ، وهذا خلف ، وإن تعدّدت الماهيّة كان كلّ منهما شيئاً عرض له وجوب الوجود ، أعني الوجود المتأكّد للواجب ، وقد تبيّن بدلائل عينيّة الوجود بطلانه ، وعلى الثاني يلزم الاحتياج إلى الغير والإمكان .

وبالجملة ، لو كان الواجب متعدّداً لكان نسبة الوجوب إليهما نسبة العوارض فكان ممكناً لا واجباً .

الثالث : أنّه لو كان للّه سبحانه شريك لكان لمجموع الواجبين وجودٌ غير وجود الآحاد ، سواءا كان ذلك الوجود عين مجموع الوجودين أو أمراً زائداً عليه ، ولكان هذا الوجود محتاجاً إلى وجود الأجزاء ، والمحتاج إلى الغير ممكن محتاج إلى المؤثّر ، والمؤثّر في الشيء يجب أن يكون مؤثّراً في كلّ واحد من أجزائه وإلاّ لم يكن مؤثّراً في

ص: 233

ذلك الشيء ، وقد ادّعوا الضرورة فيه ، ولا يمكن التأثير فيما نحن فيه في شيء من الأجزاء ؛ لكون كلّ من الجزئين واجباً ، فالشريك يستلزم التأثير فيما لا يمكن التأثير فيه ، أو إمكان ما فرض وجوبه ، إلى غير ذلك من المفاسد .

الرابع : برهان التمانع ، وأظهر تقريراته : أنّ وجوب الوجود يستلزم القوّة والقدرة على جميع الممكنات قوّة كاملة بحيث يقدر على إيجادها ودفع ما يضادّه مطلقاً ، وعدم القدرة على هذا الوجه نقص ، والنقص عليه محال ضرورة ، بدليل إجماع العقلاء عليه ، ومن المحال عادة إجماعهم على نظري ، ولئن لم يكن ضروريّاً فنظري ظاهر ، متّسق الطرق ، واضح الدليل ، واستحالة إجماعهم على نظري لا يكون كذلك أظهر ، فنقول حينئذٍ :

لو كان في الوجود واجبان لكانا قويّين ، وقوّتهما تستلزم عدم قوّتهما ؛ لأنّ قوّة كلّ منهما على هذا الوجه تستلزم قوّته على دفع الآخر عن إرادة ضدّ ما يريده نفسه من الممكنات ، والمدفوع غير قويّ بهذا المعنى الذي زعمنا أنّه لازم لسلب النقص .

الخامس : تقرير آخر لبرهان التمانع ذكره المحقّق الدوّاني وهو : أنّه لا يخلو أن يكون قدرة كلّ واحد منهما وإرادته كافية في وجود العالم ، أو لا شيء منهما كاف ، أو أحدهما كاف فقط .

وعلى الأوّل يلزم اجتماع المؤثّرين التامّين على معلول واحد .

وعلى الثاني يلزم عجزهما ؛ لأنّهما لا يمكن لكلّ منهما التأثير إلاّ باشتراك الآخر .

وعلى الثالث لا يكون الآخر خالقاً ، فلا يكون إلهاً : « أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ »(1) .(2)

السادس : أنّ كلّ من جاء من الأنبياء وأصحاب الكتب المنزلة إنّما ادّعى الاستناد إلى واحد استند إليه الآخر ، ولو كان في الوجود واجبان لكان يخبر مخبرٌ من قِبَله بوجوده وحكمه ، واحتمال أن يكون في الوجود واجب لا يرسل إلى هذا العالم ، أو لا يؤثّر ولا

ص: 234


1- . النحل 16 : 17 .
2- . نقله عنه في نور البراهين ، ج 1 ، ص 175 .

يدبّر أيضاً فيه - مع تدبيره ووجود خبره في عالم آخر أو عدمه - ممّا لا يذهب إليه وهم واهم ، فإنّ الوجوب يقتضي العلم والقدرة وغيرهما من الصفات ، ومع هذه الصفات الكماليّة يمتنع عدم الإعلام ونشر الآثار بحيث يبلغ إلينا وجوده .

وأمّا ما زعمت الثنويّة من الإله الثاني فليس بهذه المثابة و ممّا يرسل ويحكم فيهم ، وإن قالوا بوجود الواجب الآخر فقد نفوا لازمه ، فهو باطل بحكم العقل .

وقد روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال لولده الحسن عليه السلام : «واعلم أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت صفته وفعاله ، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضادّه في ذلك أحد ، ولا يحاجّه ، وأنّه خالق كلّ شيء» .(1)

ص: 235


1- . نهج البلاغة ، ص 394 ، الكتاب 31 .

الحديث الخامس والعشرون :[ إنّ اللّه تعالى علم لا جهل فيه ، وحياة لا موت فيه ]

ما رويناه بالأسانيد السالفة عن الصدوق في التوحيد ، عن أبيه ، عن سعد بن عبداللّه ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن الحكم ، عن منصور الصيقل ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ اللّه علمٌ لا جهل فيه ، وحياةٌ لا موت فيه ، ونورٌ لا ظلمة فيه»(1) .

وبإسناده عن يونس ، قال : قلت للرضا عليه السلام : روينا : أنّ اللّه تعالى علمٌ لا جهل فيه ، حياةٌ لا موت فيه ، نورٌ لا ظلمة فيه . قال : «كذلك هو»(2) .

وعن الباقر عليه السلام قال : «إنّ اللّه نورٌ لا ظلمة فيه ، وعلمٌ لا جهل فيه ، وحياةٌ لا موت فيه»(3) .

توضيح :

العلم والحياة لمّا كانا عين الذات صحّ إطلاقه تعالى عليهما ، والحيّ عند الحكماء : الدرّاك الفعّال ، وعند المتكلّمين من الإماميّة والمعتزلة : كونه تعالى منشأً للعلم والإرادة .

وبعبارةٍ اُخرى : كونه تعالى بحيث يصحَّ أن يعلم ويقدر .

وأمّا إطلاق النور عليه تعالى فيمكن أن يراد به الوجود ؛ لأنّه منشأ الظهور ، ويراد بالظلمة : الإمكان ، والمعنى أنّه سبحانه وجود لا إمكان فيه .

ص: 236


1- . التوحيد ، ص 137 ، ح 11 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 84 ، ح 16 .
2- . التوحيد ، ص 138 ، ح 12 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 84 ، ح 17 .
3- . التوحيد ، ص 138 ، ح 13 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 84 ، ح 18 .

الحديث السادس والعشرون :[ في رؤية اللّه تعالى ]

اشارة

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن أحمد بن إدريس ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن سيف ، عن محمّد بن عبيد ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام أسأله عن الرؤية ، وما ترويه العامّة والخاصّة ، وسألته أن يشرح لي ذلك .

فكتب بخطّه عليه السلام : «اتّفق الجميع لا تمانع بينهم أنّ المعرفة من جهة الرؤية ضرورة ، فإذا جاز أن يُرى اللّه بالعين ، وقعت المعرفة ضرورة ، ثمّ لم تخل تلك المعرفة من أن تكون إيماناً ، أو ليست بإيمان ، فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية إيماناً ، فالمعرفة التي في دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان ؛ لأنّها ضدّه فلا يكون في الدنيا مؤمن ؛ لأنّهم

لم يروا اللّه عزّ وجلّ .

وإن لم تكن المعرفة التي من جهة الرؤية إيماناً لم تخل هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب أن تزول ، ولا تزول في المعاد .

فهذا دليل على أنّ اللّه تعالى ذكره لا يُرى بالعين ؛ إذ العين يؤدّي إلى ما وصفناه»(1) .

توضيح :

هذا الخبر من معضلات الأخبار ومشكلات الآثار ، ولعلمائنا الأبرار في توجيهه مسالك :

أحدها : ما سلكه المحقّق المازندرانيّ :

قوله عليه السلام : (اتّفق الجميع) أي جميع الاُمّة ، أو جميع العقلاء من مجوّزي الرؤية

ص: 237


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 96 ، باب إبطال الرؤية ، ح 3 ، وعنه في بحار الأنوار ؛ ج 4 ، ص 56 ، ح 34 .

ومحيليها ، وهو ممّا استدلّ به على حجّيّة الإجماع ؛ لاستدلال المعصوم به ، وكون ذلك على سبيل الإلزام خلاف الظاهر .

(لا تمانع) أي لا تنازع ولا اختلاف بينهم على أنّ المعرفة من جهة الرؤية ضرورة ، أي بديهة أو واجبة ؛ إذ كلّ ما يرى يعرف بأنّه على ما يرى ، وأنّه متّصف بالصفات التي يُرى عليها ضرورة ، فحصول معرفة المرئي بالصفات التي يرى عليها ضروريّ ، وهذا الكلام يحتمل وجهين :

أحدهما : كون قوله عليه السلام : (من جهة الرؤية) خبراً ، أي أنّ المعرفة بالمرئيّ تحصل من جهة الرؤية ضرورة .

[وثانيهما(1)] : تعلّق الظرف بالمعرفة ، وكون قوله : (ضرورة) خبر ، أي المعرفة الناشئة من جهة الرؤية ضرورة ، والضرورة يحتمل أن يكون معناها البداهة أو الوجوب .

(ثمّ لم تخل تلك المعرفة) الضروريّة من جهة الرؤية (من أن تكون إيماناً أو ليست بإيمان) ؛ إذ لا ثالث لهما ولا واسطة بينهما ؛ لرجوعهما إلى النفي والإثبات اللَّذين لا يجتمعان ولا يرتفعان ، فإذا بطل القسمان بطلت الرؤية .

وأشار عليه السلام إلى بطلان الأوّل بقوله : (فإن كانت المعرفة) الحاصلة (من جهة الرؤية إيماناً فالمعرفة التي في دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان) ، والتالي باطل فالمقدّم مثله .

وأشار عليه السلام إلى بيان الشرطيّة بقوله : (لأنّها ضدّه) أي لأنّ الرؤية ضدّ الاكتساب ؛ لأنّ الرؤية تفيد العلم الضروري والاكتساب يفيد العلم الكسبي ، فإن كان الأوّل إيماناً لم

يكن الثاني إيماناً ؛ لأنّ الإيمان له حقيقة واحدة ، إذ كلّ شيء واحد لابدّ أن يكون له حقيقة واحدة ، ولا يجوز أن يكون له حقائق متعدّدة ، متخالفة كانت أو متضادّة ، وكلّ حقيقة إمّا نظريّة حاصلة بالاكتساب أو ضروريّة غير مفتقرة إليه ، ولا يجوز أن تكون ضروريّة ونظريّة معاً ؛ لأنّهما نوعان متباينان من العلم . ولايجوز أن يكون شيء واحد

ص: 238


1- . في الأصل : «وثانيها» .

نظريّاً وضروريّاً في وقت واحد ؛ لاستحالة اجتماع الضدّين في ذات واحدة في وقت واحد .

ثمّ أشار عليه السلام إلى بطلان التالي بقوله : (فلا يكون في الدنيا مؤمن ؛ لأنّهم لم يروا اللّه عزّ وجلّ) ذكره في الدنيا ، وإذا لم يروه لم يكونوا مؤمنين ؛ إذ المفروض أنّ الإيمان هو المعرفة من جهة الرؤية ، وهذا باطل بالاتّفاق ، فقد ثبت أن المعرفة من جهة الرؤية ليست بإيمان .

ثمّ أشار عليه السلام إلى بطلان القسم الثاني بقوله : (وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية إيماناً لم تخل هذه المعرفة التي) حصلت في الدنيا (من جهة الاكتساب أن تزول) أي لابدّ من أن تزول في المعاد ؛ لاستحالة اجتماع المعرفة الضروريّة التي من جهة الرؤية والمعرفة النظريّة التي هي ضدّها في شخص واحد في وقت واحد كما تقدّم .

(ولا تزول في المعاد) ، أي والحال أنّ هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب لا تزول في الآخرة ؛ لأنّ حشر المؤمن بلا إيمان باطل بالاتّفاق ، ولأنّ ما اكتسبته النفس في الدنيا من الكمالات والمعارف كان معها بعد فراق البدن في الآخرة بلا خلاف ، وإذا كانت هذه المعرفة باقية غير زائلة في الآخرة امتنع أن تتحقّق تلك المعرفة الضروريّة التي هي ضدّها ، فقد ثبت بطلان القسم الثاني أيضاً ، فإذن بطل القسمان كلاهما .

وإذا بطلا بطل جواز رؤيته بالعين ؛ لأنّه منحصر فيهما كما أشار إليه بقوله : (فهذا دليل على أنّ اللّه تعالى ذكره لا يرى بالعين ؛ إذ العين تؤدّي إلى ما وصفناه) من أنّه يلزم على تقدير تحقّق الرؤية العينيّة أن لا يكون في الدنيا مؤمن ، أو يزول الإيمان المكتسب في الآخرة ، وقد عرفت بطلانهما بالعقل والإجماع ، وبطلان اللازم دليل على بطلان الملزوم .

ثمّ قال : فإن قلت : كما يلزم على تقدير أن تكون تلك المعرفة من جهة الرؤية إيماناً أن لا يكون في الدنيا مؤمن ، كذلك يلزم أن تزول هذه المعرفة الكسبيّة في الآخرة ؛ لاستحالة اجتماع العلم الضروري والعلم النظري بشيء واحد في وقت واحد ، وكما أنّ اللازم الأوّل باطل كذلك اللازم أيضاً باطل ، فلِمَ لا يذكر اللازم الثاني في القسم الأوّل ؟

ص: 239

أيضاً قلت : إمّا لأنّه [لا(1)] فساد في زوال المعرفة الكسبيّة في الآخرة على تقدير أن لا تكون تلك المعرفة إيماناً ، أو لأنّ ما ذكره في القسم الأوّل كاف لإبطاله ؛ وما ذكره لإبطال القسم الثاني يستفيد منه العارف اللبيب وجهاً آخر لإبطال القسم الأوّل ، فأحال ذلك إلى فهمه .

قال : ويخطر بالبال أنّ هنا إشكالاً في غاية الصعوبة وهو أنّ هذا الدليل يجري فيما يجوز رؤيته بالاتّفاق من أحوال القبر ، مثل السؤال في القبر والجنّة والنار والصراط والميزان ، فإنّ معرفة هذه الاُمور عند مشاهدتها ضروريّة ، [و(2)] في الدنيا كسبيّة ،

فيجري فيها هذا الدليل بعينه .

اللّهمّ إلاّ أن يقال : معرفة هذه الاُمور في الدنيا أيضاً ضروريّة ؛ لحصولها بقول الرسول الصادق الأمين كما قال أميرالمؤمنين عليه السلام : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً». ولا يجري مثل هذا الجواب فيما نحن فيه ؛ لأنّ معرفة وجود الباري لا يمكن أن تحصل بقوله ؛ لاستحالة الدور ، فليتأمّل(3) . انتهى كلامه .

وقريب منه ما نقل عن السيّد الداماد ، أنّ معنى قوله عليه السلام : «لا تزول» يعنى لا يزول في نشأة المعاد عن النفس علم قد اكتسبته في هذه النشأة ، فلو كان اللّه سبحانه يرى بالعين في تلك النشأة لكان يتعلّق به الإدراك الإحساسيّ الضروريّ والعلم العقليّ الاكتسابيّ معاً ، وذلك محال بالضرورة البرهانيّة ، ولاسيّما إذا كان الإدراكان المتباينان بالنوع ، بل المتباينان بالحقيقة في وقت واحد .(4)

واُورد عليه : أنّ الإدراك الاكتسابيّ لم يتعلّق إلاّ بالتصديق بوجوده ونعوته لا ذاته وهويّته ، ولعلّ الإدراك الإحساسيّ يتعلّق بذاته وهويّته فلا منافاة بين الإدراكين ؛ لتغاير متعلّقيهما .

الثاني : ما اختاره المحدّث الكاشانيّ في معنى الحديث ، وهو : أنّه لا شكّ أنّ

ص: 240


1- و 2 . أثبتناه من المصدر .
2-
3- . شرح المازندراني ، ج 3 ، ص 170 - 173 مع تلخيص واختلاف في العبارة .
4- . التعليقة على كتاب الكافي ، ص 223 .

المعرفة بالشيء تحصل من جهة رؤيته ضرورة ، فإذا جازت رؤيته سبحانه وقعت المعرفة به ضرورة .

ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون الإيمان به سبحانه عبارة عن تلك المعرفة التي تحصل من جهة رؤيته ، أو عبارة عن المعرفة التي اكتسبناها في دار الدنيا .

فإن كان الأوّل فالمعرفة الثانية ليست بإيمان ؛ لأنّها ضدّه ، فإنّا قد اكتسبنا في دار الدنيا علماً برهانيّاً من جهة العقل والنقل بأنّ اللّه سبحانه ليس بجسم ولا صورة ولا محدود ولا محصور في جهة ولا مكان ولا زمان ، وأنّه حاضر عندنا ولا نراه بهذه الأعين مع صحّة أعيننا وجامعيّتها لشرائط الرؤية .

وبالجملة ، لا يجوز أن يحاط به معرفةً وعلماً كما قال عزّ وجلّ : « وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً »(1) وكما دلّ عليه إحاطته عزّ وجلّ بكلّ شيء فلا يحاط بشيء . وظاهر أنّ هذا ضدّ لمعرفته سبحانه من جهة الرؤية بهذه الأعين .

وإن كان الإيمان به جلّ ذكره عبارة عن المعرفة التي اكتسبناها في دار الدنيا ، فلا يخلو إمّا أن تزول تلك المعرفة عند رؤيته سبحانه في الآخرة أو لا تزول ، ولا يجوز أن لا تزول ؛ لأنّهما ضدّان فكيف يجتمعان ؟

ولا يجوز أيضاً أن تزول ؛ لأنّ الفرض أنّ الإيمان عبارة عن هذه المعرفة ، وأنّ هذا العلم من جملة أركان الإيمان والاعتقاد الصحيح باللّه جلّ ذكره ، وأنّه كذلك ، وظاهر أنّ الاعتقاد الصحيح لا يزول في الآخرة ، فمعرفته من جهة الرؤية ليست بصحيحة ، فلا يجوز أن يرى اللّه سبحانه بهذه الأعين بحال .(2)

الثالث : أنّ حاصل الدليل : أنّ المعرفة من جهة الرؤية غير متوقّفة على الكسب والنظر ، والمعرفة في دار الدنيا متوقّفة عليه ، ضعيفة بالنسبة إلى الاُولى فتخالفتا ، مثل : الحرارة القويّة والحرارة الضعيفة ، فإن كانت المعرفة من جهة الرؤية إيماناً لم تكن

ص: 241


1- . طه 20 : 110 .
2- . الوافي ، ج 1 ، ص 380 - 381 .

المعرفة من جهة الكسب إيماناً كاملاً(1) ؛ لأنّ المعرفة من جهة الرؤية أكمل منها ، وإن لم تكن إيماناً يلزم سلب الإيمان عن الرائين ؛ لامتناع اجتماع المعرفتين في زمان واحد في قلب ، يعني قيام تصديقين أحدهما أقوى من الآخر بذهن واحد ، أحدهما حاصل من جهة الرؤية والآخر من جهة الدليل ، كما يمتنع قيام حرارتين بماء واحد في زمان واحد .(2)

ويرد عليه النقض بكثير من المعارف التي تعرف في الدنيا بالدليل وتصير في الآخرة بالمعاينة ضروريّة ، ويمكن بيان الفرق بتكلّف .

الرابع : ما حقّقه بعض الأفاضل(3) بعد ما مهّد أنّ نور العلم والإيمان يشتدّ حتّى ينتهي إلى المشاهدة والعيان ، ولكنّ العلم إذا صار عيناً لم يصر عيناً محسوساً ، والمعرفة إذا انقلبت مشاهدة لم تنقلب مشاهدة بصريّة حسيّة ؛ لأنّ الحسّ والمحسوس نوع مضادّ للعقل والمعقول ، ليست نسبة أحدهما إلى الآخر نسبة النقص إلى الكمال والضعف إلى الشدّة ، بل لكلّ منهما في حدود نوعه مراتب في الكمال والنقص ، لا يمكن لشيء من أفراد أحد النوعين المتضادّين أن ينتهي في مراتب استكمالاته واشتداده إلى شيء من أفراد النوع الآخر .

فالإبصار إذا اشتدّ لا يصير تخيّلاً مثلاً ، ولا التخيّل إذا اشتدّ يصير تعقّلاً ، ولا بالعكس .

نعم ، إذا اشتدّ التخيّل يصير مشاهدة ورؤية بعين الخيال لا بعين الحسّ ، وكثيرا مّا يقع الغلط من صاحبه أنّه رأى بعين الخيال أم رأى بعين الحسّ الظاهر ، كما يقع للمبرسمين(4) والمجانين .

وكذا التعقّل إذا اشتدّ يصير مشاهدة قلبيّة ورؤية عقليّة لا خياليّة ولا حسّيّة .

وبالجملة ، الإحساس والتخيّل والتعقّل أنواع متقابلة من المدارك كلّ منها في

ص: 242


1- . كلمة «كاملاً» غير موجودة في المصدر .
2- . الحاشية على اُصول الكافي ، للمحدّث الاسترآبادي ميراث حديث شيعة ، ج 8 ، ص 306 .
3- . هو صدر المتألّهين الشيرازي .
4- . البرسام : داء ذات الجنب . انظر لسان العرب ، ج 12 ، ص 46 برسم .

عالم آخر من العوالم الثلاثة ، ويكون تأكّد كلّ منها حجاباً مانعاً عن الوصول إلى الآخر .

فإذا تمهّد هذا فنقول : اتّفق الجميع أنّ المعرفة من جهة الرؤية أمر ضروريّ ، وأنّ رؤية الشيء متضمّنة لمعرفته بالضرورة ، بل الرؤية بالحسّ نوع من المعرفة ، فإنّ من رأى شيئاً فقد عرفه بالضرورة ...

فإن كان الإيمان بعينه هو هذه المعرفة التي من حقّها الإدراك البصري والرؤية الحسّيّة ، فلم تكن المعرفة العلميّة التي حصلت للإنسان من جهة الاكتساب بطريق الفكر والنظر إيماناً ؛ لأنّها ضدّ[ه] ، لأنّك قد علمت أنّ الإحساس ضدّ التخيّل ، وأنّ الصورة الحسّيّة ضدّ الصورة العقليّة ...

فإذا لم يكن الإيمان بالحقيقة مشتركاً بينهما ولا أمراً جامعاً لهما - لثبوت التضادّ وغاية الخلاف بينهما - ولا جنساً مبهماً بينهما غير تامّ الحقيقة المتحصّلة كجنس المتضادّين ، مثل : اللونيّة بين لوني السواد والبياض ؛ لأنّ الإيمان أمر محصّل وحقيقة

معيّنة ، فهو إمّا هذا وإمّا ذاك ، فإذا كان ذاك لم يكن هذا ، وإن كان هذا لم يكن ذاك ،(1) إلى آخر ما مرّ سابقاً .

تبصرة : [اختلاف المذاهب في رؤية اللّه تعالى]

اختلفت الاُمّة في رؤية اللّه تعالى على أقوال شتّى وآراء متفرّقة :

فالإماميّة والمعتزلة على امتناعها مطلقاً .

والمشبّهة والكراميّة على جواز رؤيته تعالى في الجهة والمكان ؛ لكونه تعالى بزعمهم جسماً .

والأشاعرة على جواز رؤيته تعالى منزّهاً عن الجهة والمقابلة .

ثمّ اختلفوا في أنّها هل هي مختصّة بالآخرة أم تجوز في الدنيا أيضاً ؟ فذهب بعضهم إلى الأوّل ، وبعضهم إلى الثاني .

ثمّ اختلفوا في أنّها هل وقعت في الدنيا أم لا ؟ فأنكر بعضهم ذلك ، وبعض أثبت ،

ص: 243


1- . شرح اُصول الكافي لصدر المتألّهين ، ج 3 ، ص 143 - 145 بتلخيص .

وقال : إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله رآه في الدنيا ليلة الإسراء .

وحكي عن ابن عبّاس أنّه قال : إنّ اللّه اختصّه بالرؤية ، وموسى بالكلام ، وإبراهيم بالخلّة ، وأخذ به جماعة من أسلافهم ، والأشعريّ في جماعة من أصحابه وابن حنبل والحسن ، وتوقّف فيه جماعة ؛ هذا حال رؤيته في الدنيا .

وأمّا في الآخرة فأجمع الأشاعرة على وقوعها ، وأحالها الإماميّة والمعتزلة ، ولهم أدلّة عقليّة ونقليّة تضمّنتها الكتب الكلاميّة .(1)

ص: 244


1- . انظر مرآة العقول ، ج 1 ، ص 344 - 345 .

الحديث السابع والعشرون :[ لك يا إلهي وحدانيّة العدد ]

ما رويناه بأسانيدنا السابقة عن زين العابدين وسيّد الساجدين في الصحيفة السجّاديّة ، قال مخاطباً للّه تعالى : «لك يا إلهي وحدانيّة العدد»(1) .

وظاهره مناف لما اتّفق عليه أهل التوحيد من نفي الوحدة العدديّة عنه تعالى ، ودلّ عليه العقل والنقل ؛ لأنّ حقيقة الوحدة العدديّة ومعروضها إنّما هو هويّات عالم الإمكان ، فهي قصارى الممكن بالذات ، وإنّما الذي يطلق عليه تعالى هو الوحدة الحقيقيّة .

وأمّا النقل فقول أميرالمؤمنين عليه السلام في بعض خطبه : «الواحد بلا تأويل عدد»(2) ، وفي بعضها : «واحد لا بعدد ، قائم لا بأمد»(3) .

وما رواه الصدوق في التوحيد والخصال ومعاني الأخبار بإسناده عن شريح بن هاني ، قال : إنّ أعرابيّاً قام يوم الجمل إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال : يا أميرالمؤمنين ، أتقول إنّ اللّه واحد ؟ قال : فحمل الناس عليه وقالوا : يا أعرابيّ ، أما ترى ما فيه أميرالمؤمنين عليه السلام من تقسيم القلب ؟! فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : «دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابيّ هو الذي نريده من القوم» .

ثمّ قال : «يا أعرابيّ ، إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام ؛ فوجهان منها

ص: 245


1- . الصحيفة السجّاديّة ، ص 134 ، الدعاء الثامن والعشرون .
2- . نهج البلاغة ، ص 212 ، الخطبة 152 . وفيه : «الأحد» بدل «الواحد» ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 140 ، باب جوامع التوحيد ، ح 5 .
3- . نهج البلاغة ، ص 269 ، الخطبة 185 ؛ الاحتجاج ، ج 1 ، ص 204 . وفيهما : «دائم» بدل «قائم» .

لا يجوزان على اللّه عزّ وجلّ ، ووجهان يثبتان فيه : فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : إنّه ثالث ثلاثة .

وقول القائل : هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّه تشبيه ، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك .

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ .

وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى ، يعني به : أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ»(1) .

والمعنى الأوّل الذي نفاه عليه السلام هو الوحدة العدديّة ، بمعنى أن يكون له ثان من نوعه ، والمعنى الثاني أن يكون المراد صنفاً من نوع ، فإنّ النوع يطلق في اللغة على الصنف ، وكذا الجنس على النوع كما يقال لروميّ مثلاً : هذا واحد من الناس ، أي صنف من أصنافهم .

والمعنيان المثبتان : الأوّل منهما إشارة إلى نفي الشريك ، والثاني إلى نفي التركيب .

وكيف كان ، فقد ذكر علماؤنا لتوجيه هذه الفقرة الشريفة وجوهاً :

أحدها : أنّ المراد بهذا الكلام نفي الوحدة العدديّة لا إثباتها ؛ لأنّ المعنى أنّ وحدانيّة العدد لك ، ومن صنعك ، وإذا كانت من صنعه ومن فعله تكون حادثة ، وإذا كانت حادثة تكون غيره ، فيكون المقصود نفيها عنه ، حيث إنّه عليه السلام أثبت بهذا الكلام أنّه صانعها وموجدها ، ويلزم من ذلك أن لا تكون هي هو .

ثانيها : أنّ المعنى : ليس لك من العدد إلاّ الوحدانيّة ، بمعنى أنّه تعالى ليس بداخل في العدد ، بل له هذا الوصف بمعنى آخر ، وهو الوحدانيّة ، وإنّما ذكر وصف العدد لفائدة أنّه إن وصف تعالى بكونه أحداً فربّما يتوهّم منه أنّ أحديّته عدديّة يلزمها ما يلزم

ص: 246


1- . التوحيد ، ص 83 ، ح 3 ؛ الخصال ، ج 1 ، ص 2 ، ح 1 ؛ معاني الأخبار ، ص 5 ، ح 2 ؛ و نقله عن التوحيد والخصال في بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 206 - 207 ، ح 1 .

الوحدة العدديّة ؛ فقوله عليه السلام يدلّ على أنّه ليس له إلاّ الوحدانيّة المغايرة للوحدة العدديّة والمشاركة لها في الاسم .

ويحتمل أن يكون في التعبير بالوحدانيّة دون الواحديّة إشارة إلى أنّ العدد ليس العدد الذي للواحديّة ، بل الذي له الوحدانيّة ، فيكون مسمّى بالعدديّة مجازاً.

أو المعنى : إذا عدَّ الموجودات كنت أنت المتفرّد بالوحدانيّة من بينها .

ثالثها : أنّ معناه : أنّ لك من جنس العدد صفة الوحدة ، وهو كونك بلا شريك ، أو كونك لا ثاني لك في الربوبيّة .

رابعها : أنّ المراد به : لك وحدانيّة العدد بالخلق والإيجاد لها ، فإنّ الوحدة العدديّة من صنعه ، وفيض جوده . والفرق بينه وبين المعنى الأوّل[ : أنّ هذا المعنى يفيد أنّ المقصود أنّها من صنعه وموجودا ، والمقصود من الأوّل نفيها عنه(1)] .

وربّما قرّر هذا المعنى بتقرير آخر وهو : أنّ الوحدة العدديّة ظلّ(2) الوحدة الحقّة الصرفة القيّوميّة ، فسبيل اللام في قوله عليه السلام «لك» مثلها في قوله تعالى : « لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ »(3) .

خامسها : أنّ الياء في الوحدانيّة ياء النسبة ، وحاصل المعنى : أنّ الوحدة التي نسبت إليها الأعداد وتركّبت منها ، وهي لم تدخل تحت عدد مخصوص بالإطلاق عليك(4) ، لا تطلق على غيرك ؛ لأنّ كلّ ما سواه فله ثان ويندرج معه تحت كلّيّ ، فهو واحد من الجنس .

سادسها : أن تكون الياء للمبالغة مثلها في الأحمريّ ، والمعنى : أنّ حقيقة الوحدة العدديّة - التي ينبغي أن تسمّى وحدة - مخصوصة لك ، وأمّا إطلاقها على غيرك فمجاز شائع .

ويؤيّده ما رواه في الكافي عن فتح الجرجانيّ ، عن أبي الحسن عليه السلام في حديث

ص: 247


1- . ما بين المعقوفتين أثبتناه من «ظ» .
2- . في المطبوع : «ضدّ» .
3- . البقرة 2 : 255 .
4- . كذا . والأنسب : «لك» .

طويل يقول فيه : قلت : يابن رسول اللّه ، لا يشبهه شيء ، ولا يشبه هو شيئاً ، واللّه واحد ، والإنسان واحد ، أليس قد تشابهت الوحدانيّة ؟

قال عليه السلام : «يا فتح ، أحلْت(1) ثبّتك اللّه ، إنّما التشبيه في المعاني ، وأمّا في الأسماء فهي واحدة ، وهي دليل على المسمّى ، وذلك أنّ الإنسان وإن قيل : إنّه واحد ، فإنّه يخبر عن جثّة واحدة وليس باثنين ، والإنسان وحده ليس بواحد ؛ لأنّ أعضاءه مختلفة ، وألوانه مختلفة ، ومَن ألوانه مختلفة ليس بواحد ، وهو أجزاء مجزّأة ليست بسواء ، دمه غير لحمه ، ولحمه غير دمه ، وعصبه غير عروقه ، وشعره غير بشره ، وسواده غير بياضه .

وكذلك سائر جميع الخلق كالإنسان واحد في الاسم لا واحد في المعنى ، واللّه جلّ جلاله هو واحد ولا واحد غيره ، لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان ، فأمّا الإنسان المخلوق المصنوع المؤلّف من أجزاء مختلفة وجواهر شتّى غير أنّه بالاجتماع شيء واحد» .

قلت : جعلت فداك ، فرّجت عنّي فرّج اللّه عنك .(2)

سابعها : ما حكي عن الفاضل الشريف السيّد علي خان من أنّ حاصل المعنى :

أنّه لا كثرة فيك ، أي لا جزء لك ، ولا صفة لك تزيدان على ذلك .

وتوضيح المرام : أنّ قوله عليه السلام : «لك يا إلهي وحدانيّة العدد» يفسّره قوله عليه السلام : «ومن سواك مختلف الحالات ، منتقل في الصفات» ، فإنّه عليه السلام قابَل كلّ فقرة من الفقرات الأربع ، المتضمّنة للصفات التي قصرها عليه سبحانه ، بفقرة متضمّنة لخلافها فيمن سواه ، على طريق اللفّ والنشر الذي يسمّيه أرباب البديع معكوس الترتيب .

إذا علمت ذلك ظهر لك أنّ المراد بوحدانيّة العدد له تعالى معنى يخالف معنى اختلاف الحالات ، والتنقّل من الصفات لغيره سبحانه ؛ فيكون المقصود : إثبات وحدانيّة ما تعدّد من صفاته ، وتكثّر من جهاته ، وإنّ عددها وكثرتها في الاعتبارات والمفهومات ، لا تقتضي اختلافاً في الجهات والحيثيّات ، ولا تركّباً من الأجزاء ،

ص: 248


1- . اُحلْت : أي ذكرت المحال .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 118 - 119 ، باب آخر ... ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 173 ، ح 2 .

بل جميع نعوته وصفاته المتعدّدة موجودة بوجود ذاته .

وحيثيّة ذاته بعينها حيثيّة علمه وقدرته ، وسائر صفاته الإيجابيّة ، فلا تعدّد فيها ولا تكثّر فيها أصلاً ، بل هي وحدانيّة العدد ، موجودة بوجود واحد بسيط من كلّ وجه ، أو كلّ منها عين ذاته ، فلو تعدّدت لزم كون الذات الواحدة ذواتاً .

إلى أن قال :

وبالجملة ، فمعنى قصر وحدانيّة العدد عليه تعالى نفي التعدّد والتكثّر والاختلاف عن الذات والصفات على الإطلاق ، وهذا المعنى مقصور عليه سبحانه لا يتجاوزه إلى غيره(1) . انتهى ملخّصاً .

ثامنها : أنّ العدد هنا متضمّن معنى الذات ، والتضمين فنّ من فنون العرب ، شائع الاستعمال بينهم ، فكأنّه عليه السلام قال : لك يا إلهي وحدانيّة الذات لا لغيرك .

ويؤيّده الفقرة التي بعدها وهي قوله : «وملكة القدرة الصمد» .

ولا يخفى ضعفه .

ص: 249


1- . رياض السالكين ، ج 4 ، ص 295 - 297 .

الحديث الثامن والعشرون :[ في النهي عن التعمّق في كنهه تعالى ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن الصدوق في التوحيد والعيّاشيّ في تفسيره ، والسيّد الرضي في النهج - بتفاوت مّا - عن مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليهم : أنّه خطب بهذه الخطبة بعد أن قال له رجل : صف لنا ربّنا(1) لنزداد له حبّاً ومعرفة .

فغضب عليه السلام ونادى : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس حتّى غصّ المسجد بأهله ، فصعد المنبر وهو مغضب متغيّر اللون ، فحمد اللّه سبحانه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه و آله وقال : الحمد للّه ، وساق الخطبة إلى أن قال في جملة خطبته :

«فانظر أيّها السائل ، فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به واستضئ بنور هدايته ، وما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله وأئمّة الهدى أثره ، فَكِلْ علمه إلى اللّه سبحانه وتعالى ، فإنّ ذلك مقتضى حقّ اللّه عليك .

واعلم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه تعالى عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب ، والإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً ، فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من

الهالكين(2) .

ص: 250


1- . في التوحيد : «صف لنا ربّك» .
2- . التوحيد ، ص 48 - 56 ، ح 13 ؛ تفسير العيّاشيّ ، ج 1 ، ص 163 ، ح 5 ؛ نهج البلاغة ، ص 124 - 125 ، الخطبة91 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 257 ، ح 1 ؛ و ج4 ، ص 274 ، ح 2 ؛ و ج 54 ، ص 106 ، ح 90 ؛ و ج 89 ، ص 109 ، ح 8 .

إيضاح :

(الاقتحام) الهجوم والدخول مغالبة .

و(السدد) جمع السدّة ، وهي الباب المغلق .

وفيه إشكال ؛ لدلالته على أنّ الراسخين في العلم في قوله تعالى : « وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَلْبَابِ »(1) غير معطوف على المستثنى ، كما دلّت عليه الأخبار المتظافرة وأجمع عليه الشيعة من أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة وأنّهم عليهم السلام عندهم علم القرآن كلّه ، محكمه ومتشابهه ، ومجمله ومؤوّله .

ومنها ما في الكافي عن الصادق عليه السلام قال : «نحن الراسخون في العلم ، ونحن نعلم تأويله» .(2)

وفي رواية : «فرسول اللّه صلى الله عليه و آله أفضل الراسخين في العلم ، قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان اللّه لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله ، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه»(3) .

وعن الباقر عليه السلام : «إنّ الراسخين في العلم من لا يختلف علمه» .(4)

نعم ، هذا يوافق مذهب العامّة القائلين بوجوب الوقف على اللّه ، وأنّ العلم بمؤوّل القرآن ومتشابهاته مخصوص باللّه سبحانه وتعالى .

وكيف كان ، فقد وجّه بوجوه :

ص: 251


1- . آل عمران 3 : 7 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 213 ، باب أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 178 - 179 ، ح 33536 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 213 ، باب أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة ، ح 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 179 ، ح 33537 .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 245 ، باب في شأن إنّا أنزلناه في ليلة القدر ، ضمن ح 1 .

أحدها : أن تحمل هذه الخطبة - الدالّة على اعتراف الراسخين في العلم وتسليمهم - على أنّ وقت ذلك قبل أن يعلّمهم اللّه سبحانه ذلك المتشابه ، وما عداها على ما بعد ذلك ، فكأنّه سبحانه بيّن أنّهم لمّا آمنوا بجملة ما أنزل من المحكمات والمتشابهات ، ولم يتّبعوا ما تشابه منه - كالذين في قلوبهم زيغ - آتاهم اللّه علم التأويل ، وضمّهم إلى نفسه في الاستثناء في قوّة دفع الاستبعاد عن مشاركتهم للّه في ذلك العلم ، وبيان أنّهم إنّما استحقّوا إفاضة ذلك العلم باعترافهم بالجهل ، وقصورهم عن الإحاطة بالمتشابهات من تلقاء أنفسهم ، وإن علموا التأويل بوحي إلهي .

وفي تتمّة كلامه عليه السلام بعد هذا دليل على ذاك ، فإنّه عليه السلام لمّا أخبر ببعض المغيّبات قال له رجل كلبيّ : اُعطيت يا أميرالمؤمنين علم الغيب ؟ فقال عليه السلام : «يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب وإنّما هو تعلّم من ذي علم» .

ثانيها : أن يكون المراد بإقرارهم بالعجز عن إدراك المتشابهات وتسليمهم إنّما هو بالنظر إلى ذاتهم وطبيعتهم البشريّة ، بحيث لو خلوا وأنفسهم ولم يعلموا ذلك بوحي إلهيّ لكانوا عاجزين عن ذلك ، مسلّمين له ، وذلك غير مناف لعلمهم بذلك من الوحي الإلهي كما قالت الملائكة : « سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا »(1) .

ثالثها : أن يكون للآية معنيان : ظهر وبطن ؛ فالمتشابه بالنسبة إلى أحدهما المراد به : إدراك كنه الواجب ومعرفة حقيقته ، وهم عليهم السلام بالنسبة إلى هذا المعنى عاجزون عن إدراكه ومعرفته حقّ المعرفة ، فكلّ منهم قائل : سبحانك ما عرفناك حقّ معرفتك . وعلى هذا المعنى تحمل الخطبة .

والمعنى الثاني للمتشابه هو : معرفة معاني المتشابهات وإدراكها من القرآن ، وهذا هو المعنى الذي علموه عليهم السلام بالوحي الإلهي وعليه تحمل الأخبار المذكورة .

وعلى الأوّل فالوقف على اللّه (2) ، وعلى الثاني فلا وقف ، وهو معنى دقيق لا يخفى لطفه .

ص: 252


1- . البقرة 2 : 32 .
2- . أي الوقف في الآية : «وما يعلم تأويله إلاّ اللّه» .

رابعها : أن تحمل الخطبة على أن يكون إلزاماً على من يفسّر الآية كذلك أو يكون السائل منهم ، فأجابه عليه السلام بمقتضى ما يطابق اعتقاده .

خامسها : للمحقّق البحرانيّ ، وهو : أنّ لفظ الراسخين في العلم قد ورد في آية اُخرى غير الآية المتقدّمة ، وهي قوله سبحانه : « لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ »الآية(1) .

ولا ريب في أنّ الرسوخ في العلم ليس منحصراً في مرتبة واحدة ، بل له مراتب متعدّدة ، أوّلها : مرتبة الذين اقتصروا في صفات اللّه تعالى وملائكته وعلم غيبه على ما أوقفتهم الشريعة عليه في الجملة ، كما أوصله الرسول صلى الله عليه و آله إلى أفهامهم ، وعلى هؤلاء يحمل كلام أميرالمؤمنين في الخطبة وهذه الآية ، ولفظ الراسخين في الآية المتقدّمة الواردة في الأئمّة عليهم السلام تحمل على أعلى المراتب المناسبة لحالهم ، كما اُشير إليه في الرواية السابقة بقوله عليه السلام : «فرسول اللّه صلى الله عليه و آله أفضل الراسخين في العلم»(2) .

ص: 253


1- . النساء 4 : 162 .
2- . الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 183 .

الحديث التاسع والعشرون :[ في رؤية اللّه تعالى ]

ما رويناه بالطرق السابقة عن الصدوق في كتاب التوحيد ، عن الحسين بن أحمد بن إدريس ، عن أبيه ، عن أحمد بن إسحاق ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام أسأله عن الرؤية وما فيه الناس ، فكتب عليه السلام : «لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء وعُدم الضياء بين الرائي والمرئي لم تصحّ الرؤية وكان في ذلك الاشتباه ؛ لأنّ الرائي متى ساوى المرئيّ في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه ، وكان في ذلك التشبيه ، لأنّ الأسباب لابدّ من اتصالها بالمسبّبات»(1) .

بيان :

قوله : (أسأله عن الرؤية) أي رؤية اللّه ، هل هي ممكنة أم لا ؟ وما اختلف فيه الناس من جوازها واستحالتها في الدنيا والآخرة ، أو في الدنيا ، وأنّها واقعة أم لا ؟

وأقصى ما للمجوّزين أنّه تعالى علّق رؤية موسى عليه السلام على استقرار الجبل ، وهو في نفسه ممكن ، والمعلّق على الممكن ممكن .

وأنّها لو كانت ممتنعة لم يسألها موسى عليه السلام بقوله : « رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ »؛(2) لأنّ العاقل

لا يطلب المحال ، فسؤاله عليه السلام لها دليل على اعتقاده جوازها ، فتكون جائزة وإلاّ لزم جهله عليه السلام .

وما روي عن ابن عبّاس أنّ اللّه اختصّ محمّداً صلى الله عليه و آله بالرؤية - يعني ليلة المعراج - وموسى عليه السلام بالكلام ، وإبراهيم عليه السلام بالخلّة .

ص: 254


1- . التوحيد ، ص 109 ، ح 7 ؛ و عنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 34 ، ح 13 .
2- . الأعراف 7 : 143 .

هذا كلّه بالنسبة إلى الدنيا .

وأمّا في الآخرة فلظاهر كثير من الآيات والروايات كقوله تعالى : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ »(1) .

واُجيب عن الأوّل : أنّا لا نسلّم أنّ المعلّق عليه هو استقرار الجبل مطلقاً ، فإنّ الجبل كان مستقرّاً مشاهداً وقت هذا التعليل بل استقراره حال التجلّي ، وإمكانه ممنوع ودون إثباته خرط القتاد .

وعن الثاني بالمعارضة والحلّ ؛ أمّا الأوّل فلأنّ رؤيته لو كانت جائزة لما عدّ طلبها أمراً عظيماً ، ولما سمّاه اللّه ظلماً ، ولما أرسل عليهم صاعقة ، ولما قال تعالى : « فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ »(2) .

وأمّا الحلّ فلأنّ الأمر في قوله عليه السلام : «أرني» ليس محمولاً على طلب الرؤية - لعلمه عليه السلام بأنّه لا يمكن رؤيته - بل على إظهار حاله جلّ شأنه على الجماعة الحاضرين معه الطالبين لرؤيته تعالى ، القائلين له : « أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً » ، فقال عليه السلام ذلك القول ليسمعوا قوله تعالى : « لَنْ تَرَانِي »فيعلموا أنّه لا يمكن رؤيته ويرجعوا عن اعتقادهم .

وأمّا ما نقل عن ابن عبّاس فمع عدم حجّيته ليس صريحاً في الرؤية العينيّة ؛ لجواز أن يكون المراد بالرؤية التي اختصّت به صلى الله عليه و آله الرؤية القلبيّة ، يعني الإدراك العلميّ على وجه الكمال . ويؤيّده ما روي عن ابن عبّاس : أنّه صلى الله عليه و آله رآه بقلبه(3) .

وأمّا الآيات والروايات فمؤوّلة ؛ لمعارضتها العقل والنقل ، ولو لم يكن إلاّ قوله تعالى : « لاَتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ »(4) ، وقوله تعالى : « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ »(5) لكفى في ذلك .

فكتب عليه السلام : (لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئيّ هواء) شفّاف (ينفذه) أي

ص: 255


1- . القيامة 75 : 22 و23 .
2- . النساء 4 : 153 .
3- . صحيح مسلم ، ج 1 ، ص 109 .
4- . الأنعام 6 : 103 .
5- . الشورى 42 : 11 .

ينفذ فيه شعاع (البصر) ويتّصل بالمرئي ، وهذا يدلّ بظاهره على مذهب الرياضيّين القائلين بأنّ الإبصار يحصل بخروج الشعاع من العين ، واتّصاله بالمرئي ، ويلزم من ذلك جواز الحركة والانتقال على العرض ، لا على مذهب القائلين : أنّه جوهر في العين مع صغرها ، فيتّصل بنصف كرة العالم .

ولا على مذهب من قال : إنّه يتحقّق بالإدراك بقوّة خلقها اللّه للنفس تدرك المرئي عند حصول الرائي .

ولا على مذهب من قال : إنّ المشف الذي بين البصر والمرئي يتكيّف بكيفيّة الشعاع الذي في البصر ويصير بذلك آلة للإبصار .

ولا على رأي من قال : إنّ الإبصار بانطباع صورة المبصر في الباصرة عند مقابلته لها .

ويمكن أن يقال : المراد بنفوذ البصر في الهواء توقّفه في الرؤية عليه وتوصّله به ، فينطبق على المذاهب الثلاثة .(1)

(فإذا انقطع الهواء وعُدم الضياء بين الرائي والمرئي) بحائل أو بكمال القرب أو لغيرهما . و«ال» في الهواء للعهد ، أي : الهواء المعهود الذي ينفذه البصر ، (لم تصحّ الرؤية بالبصر) .

وانقطاع الهواء وعدم الضياء يتحقّق مع فقد كلّ واحد من الشرائط التي اعتبرها العقلاء في الرؤية ، وهي سلامة الحاسّة ، وكثافة المبصر ، وعدم القرب والبعد المفرطين ، والمقابلة أو حكمها ، ووقوع الضوء على المرئيّ ، وكونه غير مفرط ، وعدم الحجاب ، والتعمّد للإبصار ، وتوسّط الشّفاف ، أو عدم توسّط الكثيف ، فإذا اجتمعت هذه الأشياء وجبت الرؤية قطعاً .

وخلاف الأشعريّ مكابرة ومخالفة للضرورة ، وإذا انتفى أحد هذه لم تصحّ الرؤية .

(وكان في ذلك) أي في توسّط الهواء والضياء بين الرائي والمرئي (الاشتباه) أي شبه كلّ منهما بالآخر ، يقال : اشتبها ، إذا أشبه كلّ منهما الآخر .

ص: 256


1- . شرح هذا الحديث من بدايته إلى هنا تراه في شرح المازندراني ، ج 3 ، ص 174 - 177 .

وعلّل ذلك بقوله : (لأنّ الرائي متى ساوى المرئيّ في السبب الموجب بينهما في الرؤية) وهو الهواء المتوسّط ، وكون كلّ منهما واقعاً في طرفه ، مقابلاً للآخر ونحوهما ممّا تقدّم (وجب الاشتباه) أي مشابهة أحدهما للآخر في توسّط الهواء بينهما (وكان في ذلك) أي في ثبوت المشابهة بينهما (التشبيه) للخالق بالمخلوق في كونه طرفاً وفي جهته ، ويصحّ كون الهواء بينهما ، وكونه متحيّزاً ذا صورة إلى غير ذلك ممّا نفاه الدليل العقليّ والنقليّ سيّما قوله تعالى : « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ »(1) .

ويحتمل أن يكون المعنى : و«كان في ذلك» أي في انقطاع الهواء (الاشتباه) أي عدم الرؤية وبقاء المرئي على اشتباهه ، فلا تصحّ الرؤية ، ولا يتّضح حال المرئي للرائي .

ويحتمل أن يكون المعنى : «وكان ذلك» أي في الحكم المذكور ، وهو حصول الرؤية مع الشروط ، وعدمها مع عدمها الاشتباه بين الرائي والمرئي في الشرائط المعتبرة بينهما ، والأوصاف الموجودة فيهما ، المجوّزة لكون كلّ واحد منهما رائياً للآخر ، من المقابلة ، وكون كلّ منهما في جهة ، وكونه جسماً مركّباً ، ومغايرته لبصره ، واحتياجه إلى الشرائط ، وافتقاره إلى الآلة التي يبصر بها ، وغير ذلك ممّا يمتنع نسبته إلى اللّه ، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً .

ويحتمل أن يكون المعنى : «وكان في ذلك» التشبيه ، أي في كون الرائي والمرئي في طرفي الهواء الواقع بينهما ، يستلزم الحكم بمشابهة المرئي بالرائي ، من الوقوع في جهة ليصحّ كون الهواء بينهما ، فيكون متحيّزاً ذا صورة وضعيّة ، فإنّ كون الشيء في طرف مخصوص من طرفي الهواء ، وتوسّط الهواء بينه وبين شيء آخر سبب عقليّ للحكم بكونه في جهة ومتحيّزاً وذا وضع ، وهو المراد بقوله : (لأنّ الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسبّبات) .

ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام : «لأنّ الأسباب ...» إلى آخره تعليلاً لجميع ما ذكر في هذا الدليل .

بيان ذلك : أنّ الهواء المتوسّط سبب للرؤية ، ويكون هذا رائياً من حيث أنّه راءٍ ،

ص: 257


1- . الشورى 42 : 11 .

وذاك مرئيّ من حيث أنّه مرئيّ ، فوجب اتّصاله بهما ، واتّصاله بهما سبب لكون كلّ واحد منهما واقعاً في حيّز ، وفي طرف منه ، وموصوفاً بالجسميّة ولواحقها ، (فوجب اتّصال هذه الأفعال بكونهما على هذه الأوصاف(1)) ، وكونهما على هذه الأوصاف سبب لوقوع المشابهة بينهما ، فوجب أن يتّصل به ، وتلك المشابهة سبب للتشبيه فوجب اتّصالها به ، كلّ ذلك لوجوب اتّصال الأسباب بالمسبّبات واقترانها معها وعدم انفكاكها عنها .

والأشاعرة قالوا : إنّ الرؤية ليست بأشعّة ولا انطباع وليس لها سبب ولا شرط سوى حياة الرائي ووجود المرئي ، وإنّما هي إدراك ، والإدراك معنى يخلقه اللّه تعالى في المدرك ، فإن خلق في جزء من العين سمّي إبصاراً ، أو في جزء من القلب سمّي علماً ، أو في جزء من الاُذن سمّي سمعاً ، أو في اللسان سمّي ذوقاً ، أو في الجسد سمّي حسّاً ، واختصاص خلقه بهذه المحالّ(2) إنّما هو بحكم العادة ، وإلاّ فيجوز خرق العادة بأن يخلق الإبصار في اليد .

وهذا كلّه مبنيّ على نفي الأسباب كما حقّق في محلّه ، فأشار عليه السلام هنا إلى بطلانه ، مع أنّ ذلك لا ينفعهم ؛ لأنّ الإبصار العينيّ في أيّ عضو خلق لابدّ له من مشار إليه بالإشارة الحسّيّة إمّا بالذات أو بالعرض ، وكلّ مشار إليه كذلك إمّا جسم أو حالٌّ فيه ، كما يشهد به الذوق السليم والعقل المستقيم ، فلو تعلّقت باللّه تعالى الرؤية للحقه التشبيه كما أشار إليه عليه السلام تعالى اللّه عنه .

تذييلٌ :

قال جماعة من العارفين : إنّ العلم الضروريّ حاصل بأنّ الإدراك المخصوص المعلوم بالوجه الممتاز عن غيره لا يمكن أن يتعلّق بما ليس في جهة ، وإلاّ لم يكن للبصر مدخل فيه ولا كسب لرؤيته ، بل المدخل في ذلك للعقل ، فلا وجه حينئذٍ لتسميته إبصاراً .

ص: 258


1- . العبارة بين القوسن مشوّشة في النسخ والمطبوع .
2- . المحالّ : جمع محلّ .

والحاصل : أنّ الإبصار بهذه الحاسّة يستحيل أن يتعلّق بما ليس في جهة بديهةً ، وإلاّ لم يكن لها مدخل فيه ، وهم قد جوّزوا الإدراك بهذه الجارحة الحسّاسة .

وأيضاً هذا النوع من الإدراك يستحيل ضرورةً أن يتعلّق بما ليس في جهة مع قطع النظر عن أنّ تعلّق هذه الحاسّة يستدعي الجهة والمقابلة .

وما ذكره الفخر الرازيّ من أنّ الضروريّ لا يصير محلاًّ للخلاف ، وأنّ الحكم المذكور ممّا يقتضيه الوهم ويعين عليه ، وهو ليس مأموناً ؛ لظهور خطأه في الحكم بتجسّم الباري تعالى وتحيّزه ، وما ظهر خطؤه مرّة فلا يؤمن بل يتّهم ، ففاسد ؛ لأنّ

خلاف بعض العقلاء في الضروريّات جائز ، كالسوفسطائيّة والمعتزلة في قولهم بانفكاك الشيئيّة والوجود وثبوت الحال .

وأمّا قوله بأنّه حكم الوهم الغير المأمون فطريف جدّاً ؛ لأنّه منقوض بجميع أحكام العقل ، لأنّه أيضاً ممّا ظهر خطؤه مراراً ، وجميع الهندسيّات والحسابيّات ، وأيضاً مدخليّة الوهم في الحكم المذكور ممنوع ، وإنّما هو عقليّ صرف عندنا ، وكذلك ليس كون الباري تعالى متحيّزاً ممّا يحكم به ويجزم ، بل هو تخييل يجري مجرى سائر الأكاذيب في أنّ الوهم وإن [صوّره(1)] وخيّله إلينا لكن العقل لا يكاد يجوّزه بل يحيله ، ويجزم ببطلانه .

وكون ظهور الخطأ مرّة سبباً لعدم ائتمان المخطئ واتّهامه ممنوع أيضاً ، وإلاّ قدح في الحسّيّات وسائر الضروريّات ، وقد تقرّر بطلانه في موضعه(2) ، واللّه العالم .

ص: 259


1- . أثبتناه من المصدر ، وفي الأصل : «وإن جوّزه» .
2- . بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 35 - 36 .

الحديث الثلاثون :[ من عرف نفسه فقد عرف ربّه ]

ما رويناه عن جملة من علمائنا الأعلام وفضلائنا الكرام ، واشتهر بين الخاصّ والعامّ من قول النبيّ عليه وآله أفضل الصلاة وأتمّ السلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»(1) .

وقد ذكر له المحقّقون معان انتهت إلى اثني عشر :

الأوّل : أنّه لمّا كانت النفس محرّكة للبدن ، والروح محرّكة للجسد ، فيلزم من معرفة ذلك معرفة أنّ للعالم مدبّراً ، وللسكون محرّكاً ، فمعرفة النفس من جملة الأدلّة الموصلة إلى معرفة الربّ .

الثاني : أنّ من عرف كون نفسه واحدة ، وأنّها لو كانت متعدّدة لأمكن التعارض والممانعة والفساد في البدن ، عرف أنّ الربّ لو تعدّد لكان ذلك كلّه كما قال تعالى : « لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا »(2) .

الثالث : من عرف أنّ النفس هي المحرّكة للجسد باختيارها وإرادتها عرف أنّ اللّه هو المدبّر للعالم باختياره وإرادته .

الرابع : من عرف أنّه لا يخفى على النفس أحوال الجسد علم أنّه لا يعزب عن الباري مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ؛ لامتناع علم المخلوق وجهل الخالق .

الخامس : من عرف أنّ النفس ليست إلى شيء من الجسد أقرب منها إلى شيء آخر منه علم أنّ نسبة الأشياء كلّها إلى قدرة اللّه تعالى وعلمه على السواء .

السادس : من عرف أنّ النفس موجودة قبل البدن باقية بعده عرف أنّ ربّه تعالى كان

ص: 260


1- . عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 102 ، ح 149 ؛ الجواهر السنيّة ، ص 116 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 32 ، ح 22 .
2- . الأنبياء 21 : 22 .

موجوداً قبل خلق المخلوقات وهو بعدها باق لم يزل ولا يزال .

السابع : من عرف أنّ نفسه لا يُعرف كنه ذاتها وحقيقتها عرف أنّ ربّه كذلك بطريق أولى .

الثامن : من عرف أنّ نفسه لا يعرف لها مكان ولا أينيّة عرف أنّ ربّه منزّه عن المكان والأينيّة .

التاسع : من عرف أنّ النفس لا تحسّ ولا تمسّ ولا تدرك بالحواسّ الظاهرة عرف أنّ اللّه كذلك .

العاشر : أنّ من عرف نفسه علم أنّها أمّارة بالسوء ، فاشتغل بمجاهدتها وبعبادة ربّه ، ومن عبد اللّه وأطاعه كانت معرفته صحيحة ، ومن عصاه فكأنّه لم يعرفه ؛ لأنّه إذا لم ينتفع بمعرفته فهو أسوأ حالاً ممّن لا يعرفه ، فكأنّه عليه السلام قال : من عرف نفسه جاهدها وعبد ربّه ، ومن عبده فقد عرفه حقّ المعرفة وحصل له ثمرة العلم .

الحادي عشر : من عرف نفسه بصفات النقص عرف ربّه بصفات الكمال ؛ إذ النقص دالّ على الحدوث فيلزم ملازمة كمال القِدم .

الثاني عشر : أنّه عليه السلام علّق محالاً على محال ، أي كما أنّه لا يعرف حقيقة النفس ولا يمكن معرفة حقيقتها ، كذلك لا يمكن معرفة حقيقة الربّ ، فيجب أن يوصف بما وصف به نفسه ، واللّه أعلم .

ص: 261

الحديث الحادي والثلاثون: [ إنّ اللّه خلق آدم على صورته ]

ما اشتهرت روايته عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «إنّ اللّه خلق آدم على صورته»(1) .

وقد ذكر السيّد المرتضى رضى الله عنه لتأويله وجوهاً :

أحدها : أنّ الضمير راجع إلى آدم ، يعني أنّ اللّه تعالى خلقه على الصورة التي قبض عليها ، فإنّ حاله لم يتغيّر في الصورة بزيادة ولا نقصان ، كما يتغيّر أحوال البشر .

ثانيها : أن يكون الضمير راجعاً إلى اللّه ، والمعنى أنّ اللّه خلقه على الصورة التي اختارها واجتباها ؛ لأنّ الشيء قد يضاف على هذا الوجه إلى مختاره .

ثالثها : أنّ هذا الكلام خرج على سبب معروف ؛ لأنّ الزهريّ روى عن الحسن أنّه كان يقول : مرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله برجل من الأنصار وهو يضرب وجه غلام له ، ويقول : قبّح اللّه وجهك ووجه من يشبهك ، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله : «بئس ما قلت ، فإنّ اللّه خلق آدم على صورته ، يعني صورة المضروب» .

رابعها : أن يكون المراد : أنّ اللّه تعالى خلق آدم وخلق صورته لينتفي بذلك الشكّ في أنّ تأليفه من فعل غيره ؛ لأنّ التأليف من جنس المقدور للبشر ، والجواهر وما شاكلها من الأجناس المخصوصة من الأعراض هي التي يتفرّد القديم تعالى بالقدرة عليها ، فيمكن قبل النظر أن تكون الجواهر من فعله ، وتأليفها من فعل غيره فكأنّه صلى الله عليه و آله أخبر بهذه الفائدة الجليلة ، وهو : أنّ جوهر آدم وتأليفه من فعل اللّه تعالى .

ص: 262


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 134 ، باب الروح ، ح 4 ؛ التوحيد ، ص 103 ، ح 18 ؛ الاحتجاج ، ج 2 ، ص 323 ، و ص 344 ، و ص 410 ؛ عوالي اللآلي ، ج 1 ، ص 53 ، ح 78 ؛ بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 11 ، ح 1 ؛ و ص 13 ، 14 .

خامسها : أن يكون المعنى : أنّ اللّه أنشأه على هذه الصورة التي شوهد عليها على سبيل الابتداء ، وأنّه لم ينتقل إليها ويتدرّج كما جرت العادة في البشر .(1)

سادسها : ما ذكره جماعة من شرّاح الحديث ولم يذكره السيّد وهو : أنّ المراد بالصورة الصفة من كونه سميعاً بصيراً متكلّما ، وجعله قابلاً للاتّصاف بصفاته الكماليّة والجلاليّة على وجه لا يفضي إلى التشبيه .(2)

أقول : يدلّ على الوجه الثاني ما رواه الصدوق في التوحيد عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عمّا يروون : «أنّ اللّه عزّ وجلّ خلق آدم على صورته» ، قال : «هي صورة محدثة مخلوقة ، اصطفاها اللّه واختارها على سائر الصور المختلفة ، فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه ، فقال : « بَيْتِيَ »(3) ، و « نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي »»(4) .(5)

ويدلّ على الوجه الثالث ما رواه الصدوق في التوحيد والعيون بإسناده عن الحسين بن خالد ، قال : قلت للرضا عليه السلام : يابن رسول اللّه ، إنّ الناس يروون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «إنّ اللّه خلق آدم على صورته» ، فقال عليه السلام : «قاتلهم اللّه لقد حذفوا أوّل الحديث ، إنّ رسول اللّه مرّ برجلين يتسابّان فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبّح اللّه وجهك ووجه من

يشبهك ، فقال صلى الله عليه و آله : يا عبد اللّه ، لاتقل هذا لأخيك ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ خلق آدم على صورته» .(6)

وفي التوحيد بإسناده عن عليّ عليه السلام قال : «سمع النبيّ رجلاً يقول لرجل : قبّح اللّه

ص: 263


1- . تنزيه الأنبياء ، ص 176 - 177 .
2- . نقله عنهم المحدّث الجزائري في لوامع الأنوار ، ص 73 مخطوط . كما وحكى وجها سابعا عن ابن طاووس ، و وجها ثامنا وتاسعا عن الفاضل النيشابوري ، وأبدى في الوجه العاشر ما خطر بباله ، ونقل أخيرا عن بعض أهل الحديث ترجيحه أن هذا الخبر من موضوعات من قال بالجسم والصورة .
3- . البقرة 2 : 125 .
4- . الحجر 15 : 29 .
5- . التوحيد ، ص 103 .
6- . التوحيد ، ص 153 ؛ عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 98 .

وجهك ووجه من يشبهك ، فقال صلى الله عليه و آله : مه لا تقل هذا ، فإنّ اللّه خلق آدم على صورته» .

قال الصدوق رحمه الله : تركت المشبّهة من هذا الحديث أوّله وقالوا : إنّ اللّه خلق آدم على صورته ، فضلّوا في معناه وأضلّوا .(1)

ص: 264


1- . التوحيد ، ص 152 .

الحديث الثاني والثلاثون :[ لِمَ خلق اللّه الخلق ؟ ]

اشارة

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن الصدوق رحمه الله في العلل بإسناده عن الصادق عليه السلام أنّه سُئِلَ : لِمَ خلق اللّه ؟ فقال : «إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ، ولم يتركهم سُدى ، بل خلقهم بإظهار قدرته ، ولتكليفهم طاعته ، فيستوجبوا بذلك رضوانه ، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ، ولا ليدفع بهم مضرّة ، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد»(1) .

أقول :

هذا الحديث الشريف ردّ على الأشاعرة القائلين بأنّ أفعاله تعالى ليست معلّلة بالأغراض ، وتحقيق الكلام فيه موكول إلى محلّ آخر .

وعلى قوم ملاحدةٍ أنكروا التكاليف استناداً إلى شبهات فاسدة ، وأوهام كاسدة ، نذكرها ونذكر الجواب عنها إجمالاً :

الشبهة الاُولى : أنّ التكليف إمّا أن يكون حال استواء دواعي العبد إلى الفعل والترك ، أو حال رجحان دواعي أحدهما .

فعلى الأوّل يستحيل وقوع المأمور به ، والتكليف غير واقع ولا جائز عند الأكثر ؛ لأنّ الممكن ما لم يترجّح وجوده لم يقع ؛ إذ يلزم من تجويز الترجيح بلا مرجّح انسداد باب إثبات الصانع .

وعلى الثاني فالمرجوح ممتنع الوقوع ، وإلاّ لزم ترجيح المرجوح ، فالراجح واجب الوقوع ، فالتكليف بالراجح تكليف بإيجاد ما يجب وقوعه ، وبالمرجوح بما يمتنع وقوعه ، وكلاهما مستحيلان .

ص: 265


1- . علل الشرائع ، ج 1 ، ص 9 ، ح 2 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 313 ، ح 2 .

الشبهة الثانية : أنّ المكلّف به إن علم اللّه في الأزل وقوعه فخلاف معلومه محال ، فلا فائدة في ورود الأمر به ، وإن علم لا وقوعه فالتكليف به تكليف بالمحال ، وكلاهما عبث وسفه ، واللّه تعالى منزّه عنهما ، وإن لم يعلم هذا ولا ذاك فهو قول بالجهل في حقّه تعالى ، وهو باطل .

والجواب عن هاتين الشبهتين يعلم ممّا تقدّم في الجبر والاختيار ، وأنّ علم اللّه ليس بعلّة لفعل المكلّف ، وأنّ الإنسان فاعل مختار ، والترجيح بلا مرجّح إنّما هو وجود الممكن بدون فاعل ، وليس الأمر هنا كذلك .

الشبهة الثالثة : أنّ ورود الأمر بالتكاليف إمّا لفائدة أو لا لفائدة :

فإن كان الأوّل فهي إمّا عائدة إلى المعبود أو إلى العابد ؛ والأوّل محال ؛ لأنّه كامل الذات بذاته لا بغيره .

وإن كان الثاني فهي إمّا عاجلة أو آجلة ؛ والأوّل باطل ؛ لأنّ التكاليف كلّها مشاقّ وآلام في الدنيا ، والثاني عبث ؛ لأنّ جميع الفوائد محصورة في رفع الألم وحصول اللذّة ، واللّه تعالى قادر على تحصيلهما للعبد ابتداءا من غير توسّط العبادة والمشقّة ، فيكون توسّط التكاليف عبثا ، وهو ممتنع على الحكيم ، وكذلك الشقّ الثاني .

والجواب : أنَّ المنفعة راجعة إلى العابد ، واللّه تعالى وإن كان قادرا على تحصيلها للمكلّف بلا واسطة التكليف ، ولكن اقتضت حكمته الباهرة أن يقرن المسبّبات بأسبابها كما تقدّم تحقيقه .

الشبهة الرابعة : أنّ العبد غير موجد لأفعاله ؛ لما تقرَّر أنّ المؤثّر في الوجود هو اللّه ، ولأنّ العبد غير عالم بتفصيل ما يفعله ، ومن لا يعلم شيئاً بتفاصيله لا يكون موجداً له ، فالأمر له بذلك تكليف بالممتنع ، وهو محال .

والجواب : ما تقدّم في مسألة الجبر والاختيار من كون العبد في فعله مختاراً ، وأنّ أفعال العباد هم الذين أوجدوها ، ولم يوجدها فيهم الحكيم الغفّار .

الشبهة الخامسة : أنّ المقصود من التكليف إنّما هو تطهير القلب على ما دلّت عليه ظواهر الكتاب والسنّة ، فلو قدّرنا إنساناً استغرق أوقاته في إشغال قلبه باللّه تعالى بعد تطهيره من الرذائل ، وتحليته بالفضائل ، بحيث لو اشتغل بهذه التكاليف الظاهرة

ص: 266

لصار ذلك عائقاً له عن الاستغراق في معرفة اللّه تعالى ، وجب أن تسقط عنه هذه التكاليف الظاهرة .

والجواب : أنّ المقصود من التكليف وإن كان تطهير القلب وجلاؤه ، إلاّ أنّ الإنسان لا سبيل له إلى ذلك إلاّ بالأخذ من الحكيم الخبير العليم بحقايق الأشياء ، القادر على ما يشاء ، والإنسان المسكين العاجز الضعيف ربّما أراد أن يصلح شيئاً فأفسده كما يتّفق له في كثير من أفعاله وأعماله ، وكما هو المشاهد بالنسبة إلى من أراد الدخول في صناعة أو عمل وهو جاهل بها ورام الإصلاح ، صار ما يفسده أكثر ممّا يصلحه .

وقد دلّنا الشارع الحكيم على أنّه لا سبيل إلى تطهير القلب وتحليته بالفضائل ، وتخليته من الرذائل ، إلاّ بالمواظبة والمداومة على الأعمال الصالحة الظاهرة ، مع أنّه لم يبلغ أحد المرتبة القصوى والغاية العظمى في ذلك مثل ما بلغ نبيّنا سيّد النبيّين ورئيس

العارفين ، وقد كان أكثر الناس عبادة لربّه وأشدّهم مواظبة .

وبالجملة ، فكلّ أحد نفسه مغمورة في أوّل الكون في أعمق بحر الطبائع ، والجةٌ(1) في غياهب ظلمات الدنيا ، مغشاة بأغشية الحجب الجسمانيّة ، ملطّخة بالأخباث النفسانيّة من الشهوة والغضب والأكل والشرب والجماع والنوم والهمّ والغمّ وما جرى مجراها من خطرات الوهم وهواجس النفس وغير ذلك إلاّ من عصمه اللّه تعالى .

وليس اشتغال القلب باللّه والتشوّق إليه ممّا يمكن حصوله إلاّ عقيب العبادات ، وبعد إطالة النظر في تحصيل المعارف الإلهيّة ، لا كما زعمه هؤلاء الملاحدة من الصوفيّة من الإعراض عن الشريعة الصادرة عن الحضرة الإلهيّة ، بواسطة الحضرة النبويّة ، ردّاً على اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله وحكماً بغير ما أنزل اللّه ، « وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ »(2) ، وترجيحاً لمتابعة الشيطان وإطاعته على متابعة الرحمان وإطاعته ، وعناداً للّه ورسوله ، واللّه ينادي في محكم كتابه بلفظ يفهمه الجاهل والعالم : « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ »(3) .

ص: 267


1- . من ألجّ في الأمر ، إذا تمادى ولجّ فيه . انظر : المصباح المنير ، ص 549 لجج .
2- . المائدة 5 : 44 .
3- . الذاريات 51 : 56 .

ثمّ إنّه يرد على أرباب هذه الشبهة أنّهم أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التكليف ، فهذا تكليف بعدم التكليف وأنّه متناقض .

تبصرة : [سبب العقاب في الآخرة]

ربّما يختلج في الخواطر الفاترة والعقول القاصرة أنّ اللّه تعالى إذا كان منزّهاً عن لذّة الانتقام ، ومستغنياً عن طاعة العبيد ، فما السبب في التعذيب والإيلام والعقاب في الآخرة ؟ بل أيّ غرض في التكليف ؟ وهذا في الحقيقة نكوص إلى الشبهة الثالثة .

والجواب : أنّ المعاصي والسيّئات أمراض مهلكات ، والطاعات أدوية منجيات ، واللّه تعالى بمنزلة الطبيب ، والإنسان المسكين بمنزلة المريض ، فكما أنّ الحُمية واستعمال الدواء بأمر الطبيب يرجع نفعه إلى المريض ، فكذا فعل الطاعات يرجع نفعها إلى الإنسان ، والمريض إذا خالف أمر الطبيب باستعمال ما يضرّه وترك ما ينفعه فأهلك نفسه لم يكن هلاكه من الطبيب ، بل ولا لأجل عين المخالفة ، بل لأنّه سلك غير طريق الصحّة التي قرّرها له الطبيب ، فكذا الإنسان المسكين كما قال تعالى : « قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا » ،(1) وقال تعالى : « فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا »(2) .

والعقاب على ترك الأوامر وارتكاب الخطايا ليس من اللّه غضباً وانتقاماً على نحو غضبنا وانتقامنا ، بل لاقتضاء حكمته الباهرة التي تعجز عنها العقول القاصرة وترتّب الأسباب على المسبّبات ، فخلق تعالى نفس الإنسان على وجه تنجيها وتكملها الفضائل ، وتهلكها وتشقيها الرذائل ، وهو تعالى غير عاجز عن الإشباع من غير أكل ، والإرواء من غير شرب ، وإنشاء الولد من غير مضاجعة ووقاع ، ولكنّه تعالى قد رتّب الأسباب والمسبّبات لحكمة خفيّة لا يعلمها إلاّ اللّه والراسخون في العلم ، وسيأتي لهذا مزيد توضيح عن قريب إن شاء اللّه تعالى .(3)

ص: 268


1- . الشمس 91 : 9 و10 .
2- . يونس 10 : 108 .
3- . راجع شرح الحديث الرابع والثلاثين .

الحديث الثالث والثلاثون:

اشارة

[ في تفسير قوله تعالى : « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ » ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن المحدّث الحرّ العامليّ بإسناده عن الصدوق ، بإسناده عن جميل بن درّاج ، عن الصادق عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ »(1) فقال : «خلقهم للعبادة» . قلت : خاصّة أم عامّة ؟ قال : «بل عامّة»(2) .

تحقيق مقام وتوضيح مرام : [الكفّار مكلّفون بالفروع]

الظاهر أنّ السؤال كان عن كونها عامّة للكفّار أم هي خاصّة بالمؤمنين ؟ فأجاب عليه السلام بأنّها عامّة للمسلمين والكفّار كما هو ظاهرها . وفيه دلالة على كون الكفّار مكلّفين بالفروع كما هو الأقوى ، وقد حرّرنا في هذه المسألة رسالة مستقلّة .(3)

وخلاصة الكلام فيها : أنّهم اتّفقوا على أنّ الكفّار مكلّفون بالإيمان ، واختلفوا في كونهم مكلّفين بالفروع كالصلاة والصيام والزكاة والحجّ أم لا ؟ فالمحكيّ عن أكثرهم الأوّل ، وعن الحنفيّة والإسفرائنيّ الثاني ، ومنهم من فصّل فقال : إنّهم مكلّفون بالنواهي منها دون الأوامر ، وربّما بنوا خلافهم هذا على أنّ حصول الشرط الشرعيّ هل هو مشروط(4) في صحّة التكليف أم لا ؟ فمن قال بالشرطيّة نفى التكليف ، ومن

ص: 269


1- . الذاريات 81 : 56 .
2- . وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 84 ، ح 196 ؛ علل الشرائع ، ج 1 ، ص 14 ، ح 12 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 314 ، ح 7 .
3- . أثبتها في الذريعة ، ج 4 ، ص 407 بعنوان «تكليف الكفّار بالفروع» ، وقد فرغ منها في 18 جمادي الثانية 1214 ه .
4- . كذا ، والأنسب : «شرطٌ» .

نفاها أثبته ، وأنت خبير بأنّ عدم اشتراط الحصول في شرائط الصلاة كالطهارة ونحوها ممّا تشهد به الضرورة والكتاب والسنّة والإجماع ، فهو حجّة واضحة على مَن نفى التكليف .

ثمّ إنّ ظاهر الأكثرين أنّ محلّ النزاع في الأحكام الخمسة ، وخصّه بعضهم بالوجوب والتحريم متعلّقاً بأنّ ثمرة الخلاف وقوع العقاب ، ولا عقاب على غيرهما .

وكيف كان ، فالحقّ ما عليه الأكثر ، ودليلنا : الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل .

أمّا الأوّل فقوله تعالى : « يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »(1) ، فإنّه عامّ يشمل المسلمين والكفّار .

وقوله تعالى : « أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ »(2) ، فإنّه خطاب عامّ لبني آدم يشمل الكفّار والمسلمين .

وقوله تعالى : « وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً »(3) ، فإنّها بعمومها

تشمل المسلمين والكفّار .

وقوله تعالى : « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ »(4) .

وأمّا ما أجاب به المحقّق البحرانيّ عن الآيتين الأوّلتين بتخصيصهما بالأخبار الدالّة على أن لا تكليف إلاّ بعد معرفة المكلّف والمبلّغ ، وبالدليل العقليّ ، وهو : لزوم تكليف ما لا يطاق . على أنّ الآيات العامّة مخصوصة بالآيات الدالّة على الاختصاص بالمؤمنين كما في قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » بحمل المطلق على المقيّد ، والعام على الخاص(5) ، فهو واضح الفساد ، أمّا الأخبار التي أشار إليها فيأتي ما فيها .

وأمّا لزوم تكليف ما لا يطاق فجوابه : أنّ الكفر لا يصلح مانعاً من التكليف ؛ لتمكّنهم من إزالته كسائر شرائط الصحّة التي ليست موجودة حين التكليف كالطهارة

ص: 270


1- . البقرة 2 : 21 .
2- . يس 36 : 60 و61 .
3- . آل عمران 3 : 97 .
4- . الذاريات 5 : 56 .
5- . انظر : الدرر النجفيّة ، ج 2 ، ص 40 .

والستر وغيرهما . نعم ، لو كان التكليف بالفروع مشروطاً ببقائهم على الكفر لامتنع .

وأمّا كون هذه الخطابات العامّة مخصوصة بالمؤمنين ففيه :

أوّلاً : أنّه إنّما يحمل المطلق على المقيّد إذا كان بينهما تعارض ومنافاة بحيث لا يمكن اجتماعهما ، وهنا لا منافاة بينهما بأن يتوجّه الخطاب تارة للمسلمين ، وتارة للمؤمنين ، كما يقول القائل : مَن ظاهر فعليه عتق رقبة ، ثمّ يقول : إن ظاهرتَ يا زيد

فاعتق رقبة .

وثانياً : أنّ تقييد الناس بالمؤمنين إنّما يصحّ أن لو كانت الآية : ( ياأيّها الذين آمنوا اعبدوا ربّكم ) و( للّه على المؤمنين حجّ البيت ) بحيث يكونان متواردين على محلّ واحد ، مع أنّ الآيات التي فيها «يا أيّها الذين آمنوا» إنّما وردت في محلّ آخر وحكم

آخر من إقامة الصلاة ومن السعي إلى الجمعة .

وثالثاً : أنّ تخصيص الخطاب بالمؤمنين ليس للتخصيص كما نصّ عليه المفسّرون ، بل لأنّهم هم المتأهّلون للامتثال والمنتفعون بذلك دون غيرهم .

ومنها : قوله تعالى في الكفّار : « مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ »(1) ، فإنّها ظاهرة كمال الظهور كالنور على الطور ، وظاهرٌ أنّ مرادهم خصوص هذه الأفعال ، لا أنّا لم نك من المسلمين الذين هذا شأنهم .

لا يقال : قد يكونوا كاذبين في هذا القول كما كذبوا في قولهم : «واللّه [ربّنا] ما كنّا مشركين»(2) ، «ما كنّا نعمل من سوء»(3) .

لأنّا نقول : لو كانوا كاذبين لما أقرّهم على ذلك ، وإقرارهم في الآيتين الأخيرتين لاستقلال العقل بتكذيبهم ووضوحه .

وما ورد في بعض الأخبار أنّ معناها : أنّا لم نقل بوصيّ محمّد ، ولم نكن من أتباع السابقين لا ينافي الظاهر ؛ لأنّ القرآن له بطون ووجوه ، يحمل على أحسنها . على أنّ

ص: 271


1- . المدّثّر 74 : 42 - 44 .
2- . الأنعام 6 : 23 .
3- . النحل 16 : 28 .

ذلك لا يدفع الاستدلال بقولهم : «لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ » .

ومنها : قوله تعالى : «والذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر ... ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما»(1) ، فإنّه بعمومه شامل للكفّار .

ومنها : قوله تعالى : « فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى »(2) حيث ذمّه تعالى على ترك الصلاة ولو كان غير مكلّف بها لما استحقّ الذمّ .

ومنها : قوله تعالى : « وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ »(3) ، فإنّه تعالى ذمّهم على عدم إيتاء الزكاة وهي من الفروع .

ومنها : قوله تعالى في ذمّ الكفّار : « اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ »(4) ، فقد ورد عنهم عليهم السلام في تفسيرها أنّهم ما اتّخذوهم آلهة وإنّما صدّقوهم في كلّ ما قالوا وكلّ ما أفتوا لهم .(5)

وأمّا السنّة فهي أخبار كثيرة متفرّقة في كتب الحديث :

منها : ما دلّ على أنّ الإيمان مبثوث على الجوارح ، ففي الكافي عن الصادق عليه السلام قال في حديث : «إنّ اللّه تعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها ، وفرّقه فيها ، فليس من جوارحه جارحة إلاّ وقد وكّلت من الإيمان بغير ما وكّلت اُختها» .(6)

وعن الصادق عليه السلام قال : «ما من موضع قبر إلاّ وهو ينطق في كلّ يوم ثلاث مرّات - إلى أن قال - : وإذا دخل الكافر قبره قالت له [يعني الأرض] : لا مرحباً بك ولا أهلاً» .

إلى أن قال : «ثمّ إنّه يخرج رجل أقبح مَن رُئي قطّ ، فيقول : يا عبد اللّه ، من أنت ؟ فما رأيت شيئاً أقبح منك . قال : فيقول : أنا عملك السيّئ الذي كنت تعمله ورأيك

ص: 272


1- . الفرقان 25 : 68 .
2- . القيامة 75 : 31 و32 .
3- . فصّلت 41 : 6 و7 .
4- . التوبة 9 : 31 .
5- . الكافي ، ج 1 ، ص 53 ، باب التقليد ، ح 1 و 3 .
6- . الكافي ، ج 2 ، ص 34 ، باب في أن الإيمان مبثوث ... ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 164 ، ح 20218 .

الخبيث»(1) ، الخبر .

وعن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «إذا حُمل عدوّ اللّه إلى قبره نادى حملته : ألا تسمعون يا إخوتاه ، إنّي أشكو إليكم ما وقع فيه أخوكم الشقيّ ، إنّ عدوّ اللّه خدعني وأوردني ثمّ لم يصدرني ، وأقسم لي أنّه ناصح لي فغشّني ، وأشكو إليكم دنيا غرّتني ، حتّى إذا اطمأننت إليها صرعتني ، وأشكو إليكم أخلاّء الهوى فتنوني

ثمّ تبرّأوا منّي وخذلوني ، وأشكو إليكم أولادا حميت عنهم وآثرتُهم على نفسي فأكلوا مالي وأسلموني . وأشكو إليكم مالاً منعت فيه حقّ اللّه فكان وباله عليّ وكان نفعه لغيري» .

وساق كلامه وشكواه إلى أن قال : «فمالي من شفيع يُطاع ، ولا صديق حميم ، « لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ »»(2) .(3)

وعن الصادق عليه السلام قال : «يُسئل الميّت في قبره عن خمس : عن صلاته وزكاته وحجّه وصيامه وولايته إيّانا أهل البيت»(4) ، الحديث .

وروي في أخبار كثيرة قد عقد لها باب مستقلّ ، أنّه لا يُسئل في قبره إلاّ من محض الإيمان أو محض الكفر .(5)

وورد أيضاً في أخبار كثيرة : أنّ الإسلام بُني على هذه الخمس المذكورة ،(6) فيكون الكافر مكلّفاً بها كما لا يخفى .

ص: 273


1- . الكافي ، ج 3 ، ص 241 - 242 ، باب ما ينطق به موضع القبر ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 267 ، ح 114 .
2- . الزمر 39 : 58 .
3- . الكافي ، ج 3 ، ص 233 ، باب أنّ الميّت يمثل له ماله ... ، ح 2 .
4- . الكافي ، ج 3 ، ص 241 ، باب المسألة في القبر ... ، ح 15 .
5- . الكافي ، ج 3 ، ص 235 ، باب المسألة في القبر ... .
6- . المحاسن ، ج 1 ، ص 286 ؛ الكافي ، ج 2 ، ص 18 ، باب دعائم الإسلام ؛ الأمالي للصدوق ، ص 340 ؛ الخصال ، ص 278 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 4 ، ص 151 ، 418 ؛ وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 13 - 28 ، ح 1 و 2 و 5 و10 و 11 15 و 18 و 24 و 29 و 31 و 32 و 33 .

وفي أخبار كثيرة : أنّه يُسئل عن الحجّة بين أظهرهم ، وعن الإمامة(1)، مع أنّ المنكر

لتكليف الكفّار بالفروع منّا منكر للتكليف بالإمامة كما سيأتي إن شاء اللّه .

وعن عليّ بن الحسين عليه السلام في حديثٍ قال فيه : «إذا كان يوم القيامة بعث اللّه الناس من حفرهم» - إلى أن قال - : فقال رجل من قريش : يابن رسول اللّه ، إذا كان للرجل المؤمن عند الرجل الكافر مظلمة ، أيّ شيء يأخذ من الكافر وهو من أهل النار ؟

قال فقال له عليّ بن الحسين عليه السلام : «يطرح عن المسلم من سيّئاته بقدر ماله على الكافر ، فيعذّب الكافر بها مع عذابه بكفره عذاباً بقدر ما للمسلم من قِبَله من مظلمة»(2) ، الحديث .

ولا ريب أنّ غير المكلّفين لا يؤاخذون بالمظالم ، فلو كان الكفّار غير مكلّفين بالفروع مطلقاً لما كانوا مكلّفين بترك المحرّمات التي منها الظلم للعباد بأقسامه .

وعن الباقر عليه السلام قال : «قال النبيّ صلى الله عليه و آله : إنّ المؤمن إذا غلب عليه ضعف الكِبَر أمر اللّه تعالى الملك أن يكتب له في حاله تلك مثل ما كان يعمل وهو شابّ نشيط صحيح ، ومثل ذلك إذا مرض وكّل اللّه به ملكاً فيكتب له في سقمه ما كان يعمل من الخير حتّى يرفعه اللّه ويضعه ، وكذلك الكافر إذا اشتغل بسقم في جسده كتب اللّه له ما كان يعمل

من شرّ في صحّته» .(3)

وعن يحيى بن محمّد ، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ » ، قال : «اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم من أهل الكتاب - إلى أن قال - : وذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب ، فيحبسان بعد العصر « فَيُقْسِمَانِ باللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ

ص: 274


1- . بحار الأنوار ، ج 26 ، ص 240 - 262 .
2- . الكافي ، ج 8 ، ص 106 ، ح 79 ؛ بحار الأنوار ، ج 7 ، ص 269 ، ح 35 .
3- . الكافي ، ج 3 ، ص 113 ، باب ثواب المرض ، ح 2 ؛ الدعوات للراوندي ، ص 163 ؛ بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 120 ، ح 8 ؛ جامع أحاديث الشيعة ، ج 3 ، ص 80 ، ح 3367 .

شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الآثِمِينَ »(1) ،(2) الحديث .

فانظر كيف صرّحا وأقرّهما اللّه عليه بأنّ كتمان الشهادة التي هي من الفروع إثم .

وعن أبي جعفر عليه السلام قال : «قال النبيّ صلى الله عليه و آله : أخبرني الروح الأمين جبرئيل أنّ اللّه لا إله غيره إذا أوقف الخلائق وجمع الأوّلين والآخرين اُتي بجهنّم تقاد بألف زمام - إلى أن قال : - ثمّ يوضع عليها صراط أدقّ من الشعر وأحدُّ من السيف عليه ثلاث قناطر : الاُولى : عليها الأمانة والرحمة ، والثانية : عليها الصلاة ، والثالثة : عليها عدل ربّ العالمين لا إله غيره ، فيكلّفون الممرّ عليها فتحبسهم الرحمة والأمانة ، فإن نجوا منها حبستهم الصلاة ، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى عدل ربّ العالمين ، وهو قول اللّه تعالى : « إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ »(3) .(4)

وعن الصادق عليه السلام قال : «إنّ العبد إذا كان خلقه اللّه في الأصل - أصل الخلقة - مؤمناً لم يمت حتّى يكرّه اللّه إليه الشرّ ويباعده منه» .

إلى أن قال : «وإنّ العبد إذا كان اللّه خلقه في الأصل - أصل الخلق - كافراً لم يمت حتّى يحبّب إليه الشرّ ويقرّبه منه ، فإذا حبّب إليه الشرّ وقرّبه منه ابتلي بالكبر والجبروتيّة ، فقسا قلبه ، وساء خلقه ، وغلظ وجهه ، وظهر فحشه ، وقلّ حياؤُه وكشف اللّه ستره ، وركب المحارم فلم ينزع عنها ، وركب معاصي اللّه وأبغض طاعته»(5) ، الحديث .

وفي العلل عن الباقر عليه السلام قال : «نيّة المؤمن [أفضل من عمله(6)] ، وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه ، ونيّة الكافر شرّ من عمله ، وذلك لأنّ الكافر ينوي من الشرّ

ص: 275


1- . المائدة 5 : 106 .
2- . الكافي ، ج 7 ، ص 4 ، باب الإشهاد على الوصيّة ، ح 6 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 253 ، ح 60 ؛ تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 348 ، ح 218 ؛ بحار الأنوار ، ج 101 ، ح 318 .
3- . الفجر 89 : 14 .
4- . الكافي ، ج 8 ، ص 313 ، ح 486 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 241 ؛ بحار الأنوار ، ج 7 ، ص 125 ، ح 1 .
5- . الكافي ، ج 8 ، ص 12 ، ح 1 ؛ تحف العقول ، ص 314 ؛ وسائل الشيعة ، ج 16 ، ص 45 ، ح 20935 ؛ بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 396 ، ح 1 .
6- . أثبتناه من المصدر ، وفي الأصل : «خير من العمل» .

ويأمل من الشرّ ما لا يدركه» .(1)

وروى الكلينيّ بإسناده عن أبي هاشم ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً ، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبداً ؛ فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء» ، ثمّ تلا عليه السلام قوله تعالى : « قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ » ،(2) قال : «على نيّته» .(3)

وعن سعيد بن المسيّب ، عن عليّ بن الحسين عليه السلام في موعظته كلّ جمعة في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «ألا وإنّ أوّل ما يسألانك - يعني الملكين - عن ربّك الذي كنت تعبده ، وعن نبيّك الذي اُرسل إليك ، وعن دينك الذي كنت تدين به ، وعن كتابك الذي كنت تتلوه ، وعن إمامك الذي كنت تتولاّه ، وعن عمرك فيما أفنيته ، ومالك من أين اكتسبته ؟ وفيما أنفقته ؟» .(4)

وهذا الخبر بضميمة الأخبار الدالّة على أنّ الكافر يُسئل في القبر يدلّ على المطلوب .

وعن قثم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : قلت له : جعلت فداك ، أخبرني عن الزكاة كيف صارت من كلّ ألف خمسة وعشرين ، لم يكن أقلّ من ذلك ولا أكثر ؟ ما وجهها ؟ فقال عليه السلام : «إنّ اللّه تعالى خلق الخلق كلّهم فعلم صغيرهم وكبيرهم وغنيّهم وفقيرهم ، فجعل من كلّ ألف إنسان خمسة عشرين مسكيناً ، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم ؛ لأنّه خالقهم» .(5)

وعن الصادق عليه السلام قال : «العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجّله اللّه سبع ساعات ، فإن

ص: 276


1- . علل الشرائع ، ج 2 ، ص 524 .
2- . الإسراء 17 : 84 .
3- . الكافي ، ج 2 ، ص 85 ، باب النيّة ، ح 5 .
4- . الكافي ، ج 8 ، ص 73 ، ح 29 .
5- . المحاسن ، ج 2 ، ص 327 ، ح 80 ؛ الكافي ، ج 3 ، ص 508 ، باب العلّة في وضع الزكاة ... ، ح 2 ، علل الشرائع ، ج 2 ، ص 369 ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 9 ، ص 147 ، ح 11714 .

استغفر لم يكتب عليه شيء ، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيّئة ، وإنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى يستغفر ربّه فيغفر له ، وإنّ الكافر لينساه من ساعته» .(1)

وعن أبي جعفر عليه السلام قال : «مرّ نبيّ من أنبياء بني إسرائيل برجل بعضه تحت حائط ، وبعضه خارج منه ، قد شقّته الطير ، ومزّقته الكلاب ، ثمّ مضى فعرضت له مدينة فدخلها فإذا هو بعظيم من عظمائها ميّت على سرير مسجّى بالديباج ، حوله المجامر(2) ، فقال : يا ربّ ، أشهد أنّك حكيم عدل لا تجور ، هذا عبدك لم يشرك بك طرفة عين أمتّه بتلك الميتة ، وهذا عبدك لم يؤمن بك طرفة عين أمتّه بهذه الميتة .

فقال : عبدي ، أنا كما قلت حكم عدل لا أجور ، ذلك عبدي كانت له عندي سيّئة أو ذنب أمتّه بتلك الميتة لكي يلقاني ولم يبق لي عليه شيء ، وهذا عبدي كانت له حسنة فأمّته بهذه الميتة لكي يلقاني وليس له عندي حسنة» .(3)

وقد وردت أخبار كثيرة في انتفاع الكافر بما يفعله من أعمال الخير في الدنيا أو في الآخرة وإن كان مخلّداً في النار .(4)

وعن أبي عبيدة الحذّاء في الصحيح ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إنّ اُناساً أتوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعد ما أسلموا ، فقالوا : يا رسول اللّه ، أيؤخذ الرجل منّا بما كان في الجاهليّة بعد إسلامه ؟

فقال لهم النبيّ صلى الله عليه و آله : مَن حسن إسلامه وصحّ يقين إيمانه لم يأخذه اللّه تعالى بما عمل في الجاهليّة ، ومن سخف إسلامه ولم يصحّ يقين إيمانه أخذه اللّه تعالى بالأوّل والآخر» .(5)

ص: 277


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 437 ، باب الاستغفار من الذنب ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 16 ، ص 66 ، ح 20995 ؛ بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 41 ، ح 77 .
2- . المجامر : جمع المجمرة والمجمر ، وهو الشيء الذي يجعل فيه الجمر ؛ الصحاح ، ج 2 ، ص 616 جمر .
3- . كتاب المؤمن ، ص 18 ، ح 13 ؛ الكافي ، ج 2 ، ص 446 ، باب تعجيل عقوبة الذنب ، ح 11 .
4- . لم نعثر عليه .
5- . المحاسن ، ج 1 ، ص 250 ، ح 264 ؛ الكافي ، ج 2 ، ص 461 ، باب أنّه لا يؤاخذ المسلم ... ، ح 1 ؛ مستدرك الوسائل ، ج 11 ، ص 195 ، ح 12725 .

وعن الفضيل بن عياض ، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الرجل أحسن(1) في الإسلام ، أيؤخذ بما عمل في الجاهليّة ؟ فقال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهليّة ، ومن أساء في الإسلام اُخذ بالأوّل والآخر» .(2)

وعن محمّد بن مسلم في الصحيح ، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن صدقات أهل الذمّة وما يؤخذ من جزيتهم من ثمن خمورهم ولحم خنازيرهم وميّتهم ، قال : «عليهم الجزية في أموالهم ، يؤخذ [منهم] من ثمن لحم الخنزير أو الخمر ، فكلّ ما أخذوا منهم من ذلك فوزر ذلك عليهم ، وثمنه للمسلمين حلال يأخذونه في جزيتهم» .(3)

وعن عليّ بن عقبة في الصحيح عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ المؤمن ليذنب الذنب فيذكر بعد عشرين سنة ، فيستغفر اللّه تعالى ، فيغفر له ، وإنّ الكافر ليذنب الذنب فينساه من ساعته» .(4)

ويدلّ على ذلك أيضاً ما ورد في الأحكام الشرعيّة من الخطابات الشاملة للمسلمين والكفّار . وقوله صلى الله عليه و آله : «الإسلام يجبّ ما قبله»(5) ، فإنّ الكافر لو لم يكن مكلّفاً لما كان للجبّ معنى ، فتأمّل .

وأمّا الإجماع فقد حكاه جمع من الأصحاب إلى أن وصلت النوبة إلى المحدّث الاسترآباديّ والمحقّق الكاشانيّ ونسج على منوالهما المحقّق البحرانيّ .

ص: 278


1- . في المصدر : «يحسن» .
2- . الكافي ، ج 2 ، ص 461 ، باب أنّه لا يؤاخذ المسلم ... ، ح 2 .
3- . الكافي ، ج 3 ، ص 568 ، باب صدقة أهل الجزية ، ح 5 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 2 ، ص 52 ، ح 1673 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 4 ، ص 114 ، ح 333 ؛ وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 154 ، ح 20195 .
4- . الكافي ، ج 2 ، ص 438 ، باب الاستغفار من الذنب ، ح 6 ، وسائل الشيعة ، ج 16 ، ص 81 ، ح 21039 .
5- . المجازات النبويّة ، ص 54 ، ح 32 ؛ عوالي اللآلي ، ج 2 ، ص 54 ، ح 145 ؛ بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 22 ، ح 24 ؛ و ج 9 ، ص 222 ؛ و ج 21 ، ص 114 ، ح 8 ؛ مستدرك الوسائل ، ج 7 ، ص 448 ، ح 8625 .

[احتجاج القائلين بأنّ الكفّار غير مكلّفين بالفروع]

احتجّ القائلون بأنّ الكفّار غير مكلّفين بالفروع بوجوه :

الأوّل : أنّ الفروع لو كانت واجبة على الكافر فإمّا أن يكون وجوبها عليه حال كفره ، أو حال الإسلام ، وكلاهما باطل ، أمّا الأوّل فلامتناعها منه حال الكفر ؛ لأنّها مشروطة بالقربة ، وهي ممتنعة من الكافر . وأيضاً لا تصحّ منه حال الكفر إجماعاً .

وأمّا الثاني فلسقوطها عنه بالإسلام ؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله .

واُجيب أوّلاً بأنّ الكفر لا يصلح مانعاً للتكليف ؛ لتمكّنهم من إزالته كسائر شرائط الصحّة التي ليست موجودة حين التكليف كالطهارة والستر وغيرهما . نعم ، لو كان التكليف بالفروع مشروطاً ببقائهم على الكفر لامتنع .

وثانياً : أنّ مراتب الإيمان مختلفة متفاوتة كمراتب العبادة ، وأقلّها ما هو حاصل لكلّ أحد بالفطرة الاُولى التي فطر الناس عليها ، وذلك يكفي لتوجّه الخطاب ، وورود التكليف ، وقيام الحجّة ، فالأمر التكليفيّ بالعبادة متوجّه إلى الكفّار مشروطاً بتقديم

المعرفة المستأنفة ، كاشتراط الصلاة للمحدث بتقديم الطهارة ، واشتراط أداء الدين للمدين بالسعي إليه ، فكما أنّ الطهارة والسعي واجبان على من وجبت عليه الصلاة محدثاً ، وأداء الدين ساكناً ، فكذا الكافر يصحّ أن يجب عليه العبادة بهذا التكليف ، وشرط الإتيان بها الإيمان أوّلاً ، ثمّ الإتيان بها .

وباقي الأدلّة التي نذكرها لصاحب الحدائق :

الثاني : لزوم تكليف ما لا يطاق ؛ إذ تكليف الجاهل بما هو جاهل به تصوّراً أو تصديقاً عين تكليف ما لا يطاق ، وهو باطل .

والجواب : أنّ الجاهل غير معذور ، بل هو كالعامد ؛ للأخبار المستفيضة الدالّة على وجوب طلب العلم ، وأنّه لا يسع الناس البقاء على الجهالة ، وغير ذلك ممّا استقصيناه في مقدّمة «شرح المفاتيح» و«منية المحصّلين» و«بغية الطالبين» إلاّ إذا كان غافلاً بالكلّيّة ، فالأوجه عدم توجّه التكليف إليه ، والكفّار بأسرهم ليسوا كذلك . نعم ، لو فرض جهلهم ببعض المسائل بذلك المعنى فالأمر كذلك .

الثالث : عدم الدليل ، وهو دليل العدم .

ص: 279

وفيه : أنّ الأدلّة على ذلك كثيرة كما عرفت من الآيات والروايات والإجماع والاعتبار ، وهذه الدعوى غفلة عظيمة .

الرابع : الأخبار الدالّة على وجوب طلب العلم ، فإنّ موردها للمسلم دون الكافر .

وفيه : أوّلاً : أنّ مفهوم الوصف - بعد تسليم حجّيّته - لا يعارض المنطوقات الصريحة والأدلّة الصحيحة .

وثانياً : أنّ مفهوم الوصف حجّة إذا لم تظهر للوصف فائدة سواه ، وهنا الفائدة في التخصيص بالمسلم أنّه هو الذي ينتفع بالعلم دون غيره ، كما تقدّم في وجه تخصيص بعض الخطابات بالمؤمنين .

الخامس : أنّه كما لم يُعلم منه صلى الله عليه و آله أنّه أمر أحداً ممّن دخل في الإسلام بقضاء صلاته ، كذلك لم يعلم منه صلى الله عليه و آله أنّه أمر أحداً دخل في الإسلام بغسل الجنابة ، ولو أمر بذلك لنقل ، وما رواه في المنتهى عن قيس بن عاصم واُسيد بن حضير ممّا يدلّ على أمر النبيّ بالغسل لمن أراد الدخول في الإسلام فخبر عامّي لا ينهض حجّة .

والجواب : أنّ عدم أمره صلى الله عليه و آله بقضاء الصلاة لكون الإسلام يجبّ ما قبله وعدم أمره صلى الله عليه و آله بغسل الجنابة ممنوع ، سيّما مع الخبر الذي نقله ، وضعف إسناده لا يضرّ بعد عموم الأدلّة الدالّة على تكليفهم بذلك .

السادس : اختصاص الخطابات القرآنيّة بالذين آمنوا ، وورود «يا أيّها الناس» يُحمل على المؤمنين حمل المطلق على المقيّد .

أقول : قد عرفت الجواب سابقاً فلا نعيده .

السابع : الأخبار الدالّة على توقّف التكليف على الإقرار والتصديق بالشهادتين :

ومنها : ما رواه في الكافي عن زرارة في الصحيح ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق ؟ فقال : «إنّ اللّه تعالى بعث محمّداً صلى الله عليه و آله إلى الناس أجمعين رسولاً وحجّة للّه على خلقه في أرضه ؛ فمن آمن باللّه تعالى وبمحمّد رسول اللّه واتّبعه وصدّقه ، فإنّ معرفة الإمام منّا واجبة عليه ، ومن لم يؤمن

باللّه ورسوله ولم يتّبعه ولم يصدّقه ويعرف حقّهما ، فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن باللّه ورسوله ويعرف حقّهما ؟» الحديث .

ص: 280

قال : وهو كما ترى صريح الدلالة على خلاف ما ذكروه ، فإنّه متى لم تجب معرفة الإمام قبل الإيمان باللّه وبرسوله صلى الله عليه و آله فبطريق أولى معرفة سائر الفروع التي هي متلقّاة من الإمام .

ومنها : ما رواه أحمد بن أبي طالب الطبرسيّ في كتاب الاحتجاج عن أميرالمؤمنين في حديث الزنديق لمّا جاءه بآيات من القرآن قد اشتبهت عليه ، قال عليه السلام : «فكان أوّل ما قيّدهم به الإقرار بالوحدانيّة والربوبيّة ، وشهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، فلمّا أقرّوا بذلك تلاه بالإقرار لنبيّه بالنبوّة ، والشهادة بالرسالة ، فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثمّ الصوم ثمّ الحجّ» ، الحديث .

ومنها : ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره في قوله تعالى : « وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ »(1) حيث قال عليه السلام : «أترى أنّ اللّه عزّ وجلّ طلب من المشركين زكاة أموالهم وهم يشركون به ، حيث يقول : « وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ »الآية ، إنّما دعى اللّه العباد للإيمان ، فإذا آمنوا باللّه ورسوله افترض عليهم [الفرائض]»(2) .(3)

ومنها : ما روي عن الباقر

عليه السلام في تفسير قوله تعالى : « أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ »(4) حيث قال : «كيف يأمر بطاعتهم ، ويرخصّ في منازعتهم ؟ إنّما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول» .(5)

والجواب عن هذه الأخبار إجمالاً : أنّها لا تكافئ الأخبار المتقدّمة سنداً وعدداً ودلالةً .

وثانياً : أنّه مع التسليم للتكافؤ يجب الترجيح ، والمرجّحات المنصوصة والاعتباريّة موجودة في الأخبار المتقدّمة ؛ لموافقتها للقرآن الكريم ، ومخالفة هذه له كما عرفت ، ولموافقة هذه للتقيّة كما عرفت ، والرشد في خلافهم ، إلى غير ذلك من

ص: 281


1- . فصّلت 41 : 6 - 7 .
2- . في الأصل : «الغرض» ، وما اُثبت من المصدر .
3- . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 262 ؛ وعنه في بحارالأنوار ، ج 9 ، ص 233 - 234 ، ح 128 .
4- . النساء 4 : 59 .
5- . راجع : الدرر النجفيّة ، ج 2 ، ص 34 - 40 .

المرجّحات من حيث السند والعدد والدلالة .

وأمّا تفصيلاً فأمّا صحيحة زرراة فلابدّ من حملها على غير ظاهرها ؛ إذ ظاهرها عدم تكليف الكفّار بالاُصول والفروع ، حيث إنّ ظاهرها أنّ معرفة الإمام غير واجبة على من لم يعرف النبيّ صلى الله عليه و آله ، بل ظاهرها أنّ معرفة النبيّ صلى الله عليه و آله ليست بواجبة على من لم يعرف اللّه تعالى ، وهذا ممّا لم يلتزمه أحد من المسلمين ، وغاية ما فيها من الدلالة بالمفهوم ، وهو لا يعارض المنطوق ، بل المنطوقات الصريحة من الكتاب والسنّة على أنّ مثل هذه الأولويّة - التي لا ترجع إلى المفهوم العرفيّ بل إلى الاعتبار الظنّيّ - لا حجّيّة فيها .

وبالجملة ، فالمستدلّ المذكور يمنع حجّيّة الأولويّة ، والخصم أوّلاً : يمنع الاستدلال بمثلها ، وثانياً : أنّها لا تعارض المنطوقات الصريحة .

وأمّا خبر الاحتجاج فيمكن الجواب عنه بوجوه :

الأوّل : أنّه لا دلالة فيه على كون الكفّار غير مكلّفين بالفروع أصلاً ، وذلك أنّ غاية ما فيه أنّ اللّه سبحانه كلّف عباده أوّلاً بربوبيّته ووحدانيّته ، ثمّ كلّفهم ثانيا بالرسالة ، ثمّ كلّفهم ثالثاً بالفروع ، وهذا لا يقتضي أن لا يكونوا مكلّفين بالفروع أصلاً .

ألا ترى أنّ المسلمين مكلّفون بجميع الفروع مع أنّهم في أوّل الإسلام لم تنزل عليهم التكاليف جميعاً دفعة ، بل كانت تكاليفهم تنزل شيئاً فشيئاً ، وذلك لم يستلزم كون تكليفهم بالتأخير موقوفاً على امتثالهم التكليف الأوّل ، وذلك واضح .

الثاني : أنّ هذا الخبر لو صحّ الاستدلال به على ما فهم منه للزم كون الكفّار باللّه غير مكلّفين بالرسالة وبمعرفة الرسول التي هي من اُصول الدين ، ولم يذهب أحد من المسلمين إليه ، وفيه من الفساد ما لا يخفى ، فيتعيّن كون معناه أنّهم لم يكلّفوا دفعة بل كانت تكاليفهم تنزل شيئاً فشيئاً .

وأمّا الخبر الثالث - وهو خبر عليّ بن إبراهيم - فهو من المتشابهات التي لا يظهر لها معنى ينطبق على ما يقولون ، ويمكن توجيهه بما ينطبق على كون الكفّار مكلّفين بالفروع بأنّ قوله عليه السلام : «أترى أنّ اللّه عزّ وجلّ طلب من المشركين ...» إلى آخره استفهام إنكاريّ ، وقوله عليه السلام : «وهم يشركون به» جملة حالية من الضمير في أموالهم ، والمعنى : أنّ اللّه لم يطلب من المشركين أداء الزكاة حال كونهم مشركين ؛

ص: 282

لأنّها لا تصحّ منهم في حال الشرك ؛ لاشتراطها بالقربة الممتنعة منهم ، وإنّما طلبها منهم بعد إسلامهم . فأمّا قوله عليه السلام : «إنّما دعى اللّه العباد للإيمان به ، فإذا آمنوا به افترض عليهم الفرض» فيمكن حمله على المعنى المتقدّم في سابقه ، أي أنّ التكاليف وقعت على التدريج ولم تقع دفعة واحدة .

وأمّا ما روي عن الباقر عليه السلام فلا يخفى ما فيه من الإجمال ، وغاية ما يمكن توجيهه من جانب الخصم بأنّه لا يمكن أن يكون الأمر بقوله تعالى : « أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ »(1) ، والخطاب والأمر في قوله تعالى : « فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ »(2) الآية ، أن يكون عامّاً للكفّار والمسلمين ؛ لأنّ الخطاب في قوله تعالى : «أطيعوا» للذين آمنوا كما في صدر الآية ، والخطاب في قوله : « فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ » للذين آمنوا أيضاً ، مع أنّ الإمام قد فسّر الآية بأنّ المأمورين بالردّ مع المنازعة إنّما هم المأمورون بالطاعة لا غيرهم ، وهم الذين آمنوا فلا يكون عامّاً ، وفيه ما لا يخفى من التكلّف ، وغاية ما فيه حينئذٍ أنّ هذه الآية لا تعمّ الكفّار والمسلمين ، وذلك لا ينافي كون الكفّار مخاطبين بذلك من دليل خارجيّ .

ويمكن أن يكون الحصر في قوله عليه السلام : «إنّما قال ذلك للمأمورين» حصرٌ إضافيّ بالنسبة إلى منازعة الأئمّة ، يعني أنّ الخطاب في قوله : «فإن تنازعتم» خاصّ بما عدا الأئمّة عليهم السلام من الذين يجب عليهم إطاعة الأئمّة ، لا أنّه عامّ للأئمّة حتّى يكون المعنى : أنّه إذا وقع النزاع بين الأئمّة وبين غيرهم يجب عليهم الردّ إلى اللّه ورسوله .

وبالجملة ، فهذه الأخبار المتشابهة لا تصلح حجّة في هذا المطلب في مخالفة الآيات المتظافرة والروايات المتواترة .

وممّا يقطع على مقالتهم بالبطلان أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يدعو الكفّار إلى هذا الدين وهو مركّب من كلمتين ، الشهادة وسائر ما يتعبّدُ اللّه به عباده من صلاة وزكاة وحجّ وجهاد وتحريم سحر ورياء وغيرهما من المحرّمات .

ص: 283


1- . النساء 4 : 59 .
2- . النساء 4 : 59 .

الحديث الرابع والثلاثون :[ الخلود في العذاب ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام وعلم الأعلام محمّد بن يعقوب الكلينيّ رحمه الله في الكافي عن العدّة ، عن أحمد بن أبي عبداللّه ، عن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن سعيد ، عن نضر مولى أبي عبداللّه عليه السلام ، عن موفّق مولى أبي الحسن عليه السلام قال : كان مولاي أبوالحسن عليه السلام إذا أمر بشراء البَقْل يأمرني بالإكثار من الجرجير(1) فيشترى له ، وكان يقول عليه السلام : «ما أحمق بعض الناس ! يقولون : إنّه نبت في وادي جهنّم ، واللّه عزّوجلّ يقول : « وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ »(2) فكيف تنبت البقل(3)؟» .

تحقيق مرام في دفع شكوك وأوهام :

اعلم أنّ هذا الحديث الشريف ردّ على اُناس من العامّة العمياء ، تركوا التمسّك بكتاب اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وبسنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ، واتّبعوا الفلاسفة في الاستناد إلى الأهواء والآراء

والاستبداد بالأوهام الفاسدة والآراء الكاسدة ، وخالفوا الكتاب المبين وسنّة سيّد المرسلين وإجماع سائر المسلمين ، بل ضرورة المذهب والدين ، فذهبوا إلى أنّ الكفّار وإن كانوا مخلّدين في النار إلى ما لا نهاية له ، إلاّ أنّ عذابهم لابدّ له من انقطاع وزوال ، فتكون النار عليهم برداً وسلاماً بعد ما يعذّبون بها مقدار استحقاقهم .

ص: 284


1- . الجرجير : بقلة حادّة الطعم تنبت في المناطق المعتدلة ، وهي بالفارسية تسمّى : «شاهي» . انظر كتاب العين ، ج 6 ، ص 15 ؛ لسان العرب ، ج 4 ، ص 132 جرجر .
2- . البقرة 2 : 24 ، التحريم (66) : 6 .
3- . الكافي ، ج 6 ، ص 368 ، باب الجرجير ، ح 4 ؛ وسائل الشيعة ، ج 25 ، ص 197 ، ح 31655 ؛ بحار الأنوار ، ج 8 ، ص 306 ، ح 65 .

وممّن صرّح بذلك الشيخ محي الدين بن العربيّ في مواضع من مؤلّفاته ، فقال في الفصّ اليونسيّ من فصوص الحكم - على ما نقله عنه الفيلسوف صدر الدين الشيرازيّ في أسفاره وتفسيره وغيره - ما لفظه :

وأمّا أهل النار فمآلهم إلى النعيم ، ولكن في النار ؛ إذ لابدّ لصورة النار بعد انتهاء مدّة العذاب أن تكون برداً وسلاماً على من فيها ، وهذه صفتهم(1) ، فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل اللّه عليه السلام حين اُلقي في النار .(2)

وقال في الفصّ الإسماعيليّ :

الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، والحضرة الإلهيّة تطلب الثناء المحمود بالذات ، فيثنى عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، بل بالتجاوز ، «فلا تحسبنّ اللّه مخلف وعده رسله» ، ولم يقل وعيده ، بل قال : « وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئِاتِهِمْ »(3) ، مع أنّه توعّد على ذلك .(4)

وقال في الباب الثامن والخمسين :

وأمّا كتاب الفجّار لفي سجّين ، وفيه اُصول السدرة التي فيها شجرة الزقّوم ، فهناك [تنتهي ]أعمال الفجّار في أسفل السافلين ، فإن رحمهم الرحمان من عرش الرحمانيّة بالنظرة التي ذكرناها جعل لهم نعيماً في منزلهم ، فلا يموتون فيها ولا يحيون ، فهم في نعيم النار دائمون ، كنعيم النائم بالرؤيا التي يراها في حال نومه من السرور ، وربّما يكون في فراشه مريضاً ذا بؤس وفقر ، ويرى نفسه في المنام ذا سلطان ونعمة وملك ، فإن نظرت إلى النائم من حيث ما يراه في منامه ويلتذّ به قلت : إنّه في نعيم [و صدقت] ، وإن نظرت إليه من حيث ما تراه في فراشه الخشن ومرضه وبؤسه وفقره وكلومه(5) قلت : إنّه في عذاب .

ص: 285


1- . في المصدر : «وهذا نعيمهم» .
2- . شرح القيصري على فصوص الحكم ، ص 385 - 386 .
3- . الأحقاف 46 : 16 .
4- . شرح القيصري على فصوص الحكم ، ص 211 .
5- . الكلوم : جمع الكلْم بمعنى الجرح .

هكذا يكون أهل النار «ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى»(1) ، أي لا يستيقظ أبداً من نومته ، فتلك الرحمة التي يرحم اللّه بها أهل النار الذين هم أهلها وأمثالها ، فالمحرور منهم ينعّم بالزمهرير ، والمقرور منهم يجعل في الحرور ، فقد يكون عذابهم يوهم وقوع العذاب بهم ، وذلك كلّه بعد قوله تعالى : « لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ - أي العذاب - وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ »(2) ذلك زمان عذابهم وأخذهم بجرائمهم قبل أن تلحقهم الرحمة التي سبقت الغضب الإلهيّ ، فإذا اطّلع أهل الجنان في هذه الحالة على أهل النار ورأوا منازلهم في النار وما أعدّ اللّه فيها وما هي عليه من قبح المنظر ، قالوا : معذّبون ، وإذا كوشفوا على الحسن المعنويّ الإلهيّ في حقّ ذلك المسمّى قبحاً ورأوا ما هم فيه من نومهم وعلموا أحوال أمزجتهم ، قالوا : منعّمون ، فسبحان القادر على ما يشاء لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم ، فقد فهمت قول اللّه : « لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى »(3) . وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «وأمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون» .(4)

وقال في الباب الخامس والثلاثمائة من الفتوحات بعد كلام طويل :

لابدّ من حكم الرحمة على الجميع ، أي أهل النار وأهل الجنّة .

ثمّ قال :

ولا يلزم ممّن كان من أهل النار الذين يعمّرونها أن يكونوا معذّبين بها ، فإنّ أهلها وعمّارها وخزنتها - وهم ملائكة - وما فيها من الحشرات والحيّات وغير ذلك من الحيوانات التي تبعث يوم القيامة ولا واحد فيها يكون النار عليه عذاباً ، كذلك من يبقى فيها لا يموتون فيها ولا يحيون ، وكلّ من ألِف موطنه كان به مسروراً ، وأشدّ العذاب مفارقة الوطن ، ولو فارق النار أهلها لتعذّبوا باغترابهم عمّا اُهّلوا له ، وأنّ اللّه قد خلقهم على نشأة تألف ذلك الوطن ، فعمرت الداران ، وسبقت الرحمة

ص: 286


1- . الأعلى 87 : 13 .
2- . الزخرف 43 : 75 .
3- . طه 20 : 74 .
4- . الفتوحات المكّيّة ، ج 1 ، ص 364 ، والزيادات أو موارد الخلاف بين المعقوفتين أثبتناها منه ، طبع دارإحياء التراث العربي .

الغضب .

وقد وجدنا في نفوسنا ممّن جبلهم اللّه على الرحمة أنّهم يرحمون جميع عباد اللّه حتّى لو حكّمهم اللّه في خلقه لأزالوا صفة العذاب من العالم بما تمكّن حكم الرحمة من قلوبهم ، وصاحب هذه الصفة أنا وأمثالي ونحن مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض ، وقد قال عن نفسه جلّ علاه أنّه أرحم الراحمين ، فلا يشكّ أنّه أرحم منّا بخلقه ، ونحن عرفنا من نفوسنا هذه المبالغة في الرحمة ، فكيف يتسرمد العذاب عليهم وهو بهذه الصفة العامّة ؟

إنّ اللّه أكرم من ذلك ولاسيّما وقد قام الدليل العقليّ على أنّ الباري لا تنفعه الطاعات ولا تضرّه المخالفات ، وأنّ كلّ شيء جارٍ بقضائه وقدره وحكمه ، وأنّ الخلق مجبورون في اختيارهم ، وقد قام الدليل السمعيّ أنّ اللّه يقول في الصحيح : «يا عبادي» فأضافهم إلى نفسه ، وما أضاف قطّ العباد إلى نفسه إلاّ مَن سبقت له الرحمة ، والآن يؤبّد(1) عليهم الشقاء ؟ [وإن دخلوا النار] فقال : «يا عبادي ، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم اجتمع على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً» . فقد أخبر بما دلّ عليه العقل أنّ الطاعات والمعاصي ملكه ، وأنّه على ما هو عليه لايتغيّر ولا يزيد ولا ينقص ملكه ممّا طرأ عليه وفيه ، فإنّ الكلّ مُلكه ومِلكه .

ثمّ قال : من تمام هذا الخبر الصحيح : (يا عبادي ، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّ واحد منكم مسألته ، ما نقص في ملكي شيئاً» الحديث . وما نشكّ أنّه ما من أحد إلاّ وهو يكره ما يؤلمه طبعاً ، فما من أحد إلاّ وقد سأله أن لا يؤلمه وأن يعطيه اللذّة في الأشياء .

ولا يقدح ما أومأنا إليه في الحديث إذا تعلّق به المنازع في هذه المسألة إدخال (لو) في ذلك ، فإنّ السؤال من العالم في ذلك قد علم وقوعه بالضرورة من كلّ مخلوق ، فإنّ الطبع يقتضيه ، والسؤال قد يكون حينئذٍ قولاً وحالاً كبكاء الصغير الرضيع وإن لم يعقل عند وجود الألم الحسّيّ بالألم والوجع النفسيّ لمخالفة الغرض إذا منع من

ص: 287


1- . في المصدر : «أن لا يؤبّد عليهم الشقاء» .

الثدي .

وقد أخذت المسألة حقّها ، والأحوال التي ترد على قلوب الرجال لا تحصى كثرة ، وقد أعطيناك منها في هذا الباب اُنموذجاً على هذا الاُسلوب .(1) انتهى كلامه .

وقال العلاّمة القيصريّ في شرح الفصّ الهوديّ من فصوص الحكم - على ما حكاه عنه الفاضل الفيلسوف الشيرازيّ أيضاً - ما لفظه :

اعلم أنّ من اكتحل عيناه بنور الحقّ يعلم أنّ العالم بأسره عباد اللّه ، وليس لهم وجود وصفة وفعل إلاّ باللّه وحوله وقوّته ، وكلّهم محتاجون إلى رحمته وهو الرحمان الرحيم ، ومن شأن مَن هو موصوف بهذه الصفات أن لا يعذّب أحداً عذاباً أبديّاً ، وليس ذلك المقدار من العذاب أيضاً إلاّ لأجل إيصالهم إلى كمالاتهم المقدّرة لهم ، كما يذاب الذهب والفضّة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدّره وينقص عياره ، وهو متضمّن لعين اللطف والرحمة ، كما قيل :

وتعذيبكم عذب وسخطكم رضى *** وقطعكم وصل وجوركم عدل(2)

وقال في موضع آخر من شرح الفصوص في ذكر أهل النار ، ما لفظه :

وعند تسلّط سلطان المنتقم عليهم يتعذّبون بنار الجحيم ، كما قال اللّه تعالى :

« أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا »(3) ؛

« وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ »(4) ؛

« لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ »(5) ؛

و « قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ »(6) ؛

ص: 288


1- . الفتوحات المكّية ، ج 3 ، ص 27 - 28 مع اختلاف يسير ، وبعض الزيادات أضفناها من المصدر .
2- . شرح القيصري على الفصوص ، ص 351 .
3- . الكهف 18 : 29 .
4- . الزخرف 43 : 77 .
5- . البقرة 2 : 162 .
6- . الزخرف 43 : 77 .

« اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ »(1) .

فلمّا مرّت عليهم السنون والأحقاب واعتادوا بالنيران ونسوا نعيم الرضوان ، قالوا : « سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَحِيصٍ »(2) ، فعند ذلك تعلّقت الرحمة بهم ، ورفع عنهم العذاب ، مع أنّ العذاب بالنسبة إلى العارف الذي دخل فيها بسبب الأعمال التي تناسبها عذب من وجهٍ ، وإن كان عذاباً من آخر كما قيل : وتعذيبكم عذب ، إلى آخره .

ثمّ أيّد ذلك وأتى له بأمثلة ونظائر ، ثمّ قال :

وأنواع العذاب غير مخلّد على أهله من حيث أنّه عذاب ؛ لانقطاعه بشفاعة الشافعين ، وآخر من يشفع هو أرحم الراحمين كما جاء في الحديث الصحيح كذلك ينبت الجرجير في قعر جهنّم لانطفاء النار وانقطاع العذاب(3) ، وبمقتضى :

سبقت رحمتي غضبي ، فظاهر الآيات التي جاءت في حقّهم بالتعذيب كلّها حقّ ، وكلام الشيخ لا ينافي ذلك ؛ لأنّ كون الشيء من وجه عذاباً لا ينافي كونه من وجه آخر عَذباً .(4) انتهى .

ثمّ إنّ الفاضل الفيلسوف صدر الدين الشيرازيّ قد ذهب إلى هذا القول واستدلّ بهذه الأدلّة في الأسفار وأيّدها وشيّدها ، وقال في تفسير سورة البقرة ما نصّه :

فصل : اتّفق أهل الإسلام على أنّه يحسن من اللّه تعالى تعذيب الكفّار ، وقال بعضهم : لا يحسن ؛ أمّا الفرقة الاُولى فمستندهم أدلّة سمعيّة - كالكتاب والخبر والإجماع - وأمّا الفرقة الثانية فمستندهم دلائل عقليّة :

الأوّل : أنّه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي ، وذلك لحكمة النظام ومصلحة الخلائق ، لما مرّ من أنّ الناس كلّهم لو كانوا صلحاء مؤمنين خائفين من

ص: 289


1- . المؤمنون 23 : 108 .
2- . إبراهيم 14 : 21 .
3- . في شرح الفصوص : «لانقطاع النار وارتفاع العذاب» .
4- . الأسفار الأربعة ، ج 9 ، ص 349 - 362 مع تلخيص وتغيير في العبائر وتفسير القرآن الكريم ، ج 1 ، ص 365 - 375 . وراجع : شرح الفصوص ، ص 213 - 214 الفصّ الإسماعيلي .

عقاب اللّه لاختلّ نظام الدنيا وبطلت أسباب المعيشة .

ولما بيّنّا أنّ صدور الفعل عن قدرة العبد يتوقّف على انضمام الداعي من العلم والإرادة وغيرهما ، وبعد انضمام الداعي يجب صدور الفعل ، وحصول الداعي ليس بقدرته وإلاّ لكان للداعي داعٍ آخر ، ويعود الكلام جزماً(1) فيتسلسل ، وهو محال ، أو ينتهي إلى داع حصل بخلق اللّه لا بقدرة العبد .

فإذا كان اللّه هو الخالق للدواعي الشيطانيّة التي توجب المعاصي ، فيكون هو المُلجئ إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها .

وربّما قرّروا هذا بوجه آخر وقالوا : إذا كانت التكاليف الشرعيّة قد جاءت إلى شخصين فقبلها أحدهما فاُثيب ، وخالفها آخر فعوقب ، فإذا سُئل لم أطاع هذا ولم عصى الآخر ؟

فيجاب : لأنّ المطيع أحبّ الثواب وحذر العقاب ، والعاصي لم يحبّ ولم يحذر ، أو لأنّ هذا أصغى إلى مَن وعظه وفهم عنه مقالته فأطاع ، وهذا لم يصغ ولم يفهم فعصى .

فيقال : ولم أحبّ الخير هذا وأصغى وفهم ، ولم يكن الآخر كذلك ؟

فيجاب : لأنّ هذاحازم لبيب فطن ، وذلك أخرق جاهل غبيّ .

فيقال : ولم خصّ هذا بالعقل والفطنة دون ذاك ، ولا شكّ أنّ الفطنة والبلادة من الأحوال الغريزيّة ، فإذا تناهت التعليلات إلى اُمور خلقها اللّه اضطراراً فعلم أنّ السبب للإطاعة والعصيان والتوفيق والحرمان من الأشخاص اُمور واقعة عليها بقضاء اللّه وتقديره .

وعند هذا يقال : أين من العدل والرحمة أن يخلق في عبد من الفظاظة والقساوة والغباوة والطيش والخرق ما يوجب عنه صدور العصيان ، ثمّ يعاقب عليه ، وهذه ممّا هو مجبول عليها كما جبل على أضدادها الطائع ؟

وأين من العدل أن يسخّن قلب العاصي ويقوّي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه

ص: 290


1- . في المصدر : جزعا .

ولا يرزقه ما يرزقه المطيع من اُستاذ سليم ، ومؤدِّب عليم ، وواعظ مبلّغ ، وناصح شفيق ، بل يقيّض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم ، فيكتسب منهم ما يكتسبه المطيع ، ثمّ يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيب الحازم العالم البارد طبيعة الرأس الصبور ، المعتدل المزاج ، القلب الذكي ، اللطيف الروح ، الدرّاك يقظان النفس الحازم ، ما هذا من العدل والكرم والرحمة .

فثبت بهذا القول أنّ العقاب على خلاف قضيّة العقول .

الثاني : أنّ التعذيب في الآخرة ضررٌ خال عن جهات المنفعة :

أمّا إنّه ضرر فظاهر .

وأمّا إنّه خال عن جهات النفع فلأنّ تلك المنفعة إمّا عائدة إلى اللّه أو إلى غيره ، والأوّل باطل ؛ لتعاليه عن وصمة التغيير والانفعال ، والثاني أيضاً باطل ؛ لأنّها إمّا عائدة إلى المعذَّب أو إلى غيره ، أمّا إليه فهو محال ؛ لأنّ الإضرار لا يكون عين الانتفاع .

وأمّا إلى غيره فهو محال ؛ لأنّ دفع الضرر أولى بالرعاية من إيصال النفع ، فإيصال الضرر إلى شخص لغرض إيصال النفع إلى آخر ترجيح للمرجوح على الراجح ، وهو باطل .

وأيضاً فلا منفعة يريد اللّه إيصالها إلى أحد إلاّ وهو قادر عليها بوجوه شتّى ، فالإضرار عديم الفائدة .

فثبت أنّ التعذيب ضرر خالٍ من جهات المنفعة ، وأنّه معلوم القبح بديهة ، بل قبحه في العقول أشدّ من قبح الكذب [الغير الضارّ والجهل الغير الضارّ ، بل من قبح الكذب(1)] الضارّ والجهل الضارّ ؛ لأنّ الكذب الضارّ وسيلة إلى الضرر ، وقبح وسيلة الضرر دون قبح نفس الضرر ، وإذا ثبت قبحه امتنع صدوره من اللّه تعالى ؛ لأنّه حكيم ، والحكيم لا يفعل القبيح .

الثالث : أنّه لمّا كان عالماً بأنّ الكافر لا يؤمن كما أخبر عنه في الآية السابقة وعنى بها

ص: 291


1- . الزيادة أثبتناها من المصدر .

قوله تعالى : « خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ »(1) ، فمتى كلّفه لم يظهر منه إلاّ العصيان الذي هو سبب للعقاب ، فكان ذلك التكليف مستعقباً لاستحقاق العذاب ، إمّا لأنّه تمام العلّة ، أو لأنّه شطرها ، فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحاً ، لكونه مستعقباً للضرر الخالي عن النفع ، والحكيم لا يفعل القبيح ، فوجب أحد الأمرين ، إمّا عدم التكليف أو عدم العقاب ، وعلى أيّهما فالمطلوب حاصل .

الرابع : أنّه سبحانه إنّما كلّفنا لنفع يعود إلينا ، لأنّه تعالى قال : « إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا »(2) ، فإذا عصينا فقد فوّتنا على أنفسنا تلك المنافع ، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنساناً ويقول : إنّي اُعذّبك العذاب الشديد لأنّك فوّتَّ على نفسك بعض المنافع ؟ فإنّه يقول له : إنّ تحصيل النفع مرجوح بالنسبة إلى دفع الضرر ، فهب أنّي فوّتُّ على نفسي أدون المطلوبين ، فأنت تفوّتُ عليّ لأجل ذلك أعظمهما .

أو هل يحسن من السيّد أن يأخذ عبده ويقول إنّك قدرت على أن تكسب ديناراً لنفسك لتنتفع به خاصّة من غير أن يكون لي فيه شيء البتّة ، فلمّا لم تفعل فأنا اُعذّبك واُقطّع أعضاءك إرباً إرباً ؟ لا شكّ أنّ هذه نهاية السفاهة فكيف يليق بأحكم الحاكمين ؟

ثمّ قالوا :

هب أنّا سلّمنا هذا العقاب ، فمن يقول بالدوام ؟ وذلك لأنّ أقسى الناس قلباً ، وأشدّهم غلظةً وبُعداً عن الخير والرحمة إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه عذّبه يوماً أو شهراً أو سنةً ، ثمّ إنّه يشبع منه ويملُّ ، ولو بقي مواظباً عليه يلومه كلّ أحد ، ويقال : هب أنّه بالغ في الإساءة والإضرار بك ولكن إلى متى هذا التعذيب ؟ فإمّا أن تقتله وتريحه ، وإمّا أن تخلّصه .

فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذُّ بالانتقام ، فالغنيّ عن الكلّ كيف يلصق به

ص: 292


1- . البقرة 2 : 7 .
2- . الإسراء 17 : 7 .

هذا الذمّ ؟

مع ما يقال من أنّه تعالى(1) نهى عباده عن استيفاء الزيادة ، فقال تعالى : « فَلا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً »(2) ، « وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا »(3) .

ثمّ إنّ العبد هب أنّه عصى طول عمره فأين عمره من الأبد ؟! فيكون العذاب المؤبّد ظلماً .

الخامس(4) : أنّ العبد لو واظب على الكفر طول عمره ، فإذا تاب ثمّ مات عفا اللّه عنه وأجاب دعاءه ، وقبل توبته ، أترى هذا الكريم العظيم ما بقي كرمه في الآخرة ؟ أو عقول أولئك المعذّبين ما بقيت ؟ فِلَم [لا يتوبون(5)] عن معاصيهم ؟ فإذا تابوا فِلَم لا يقبل اللّه توبتهم ؟ ولِمَ لا يسمع دعاءهم ؟ ولِمَ يخيّب رجاءهم ؟ ولِمَ كان في الدنيا في الرحمة والكرم إلى حيث قال : « ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ »(6) ، « أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ »(7) وصار في الآخرة بحيث كلّما كان تضرّعهم إليه أشدّ ، فإنّه لا يخاطبهم إلاّ بقوله : « اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ »(8) ؟

قالوا : فهذه الوجوه ممّا يوجب القطع بعدم العقاب .

واعلم أنّ أكثرها مبتنية على اُصول المعتزلة من التحسين والتقبيح العقليين ، وأنّ الأصلح واجب على اللّه ولا محيص لهم عنها من جهة العقل .

والأشاعرة أجابوا عن هذه الشُبه بمنع صحّة تلك الاُصول ، وبما تواتر من الآيات والأخبار المنقولة من الرسول صلى الله عليه و آله الواردة في خلود الكفّار في عذاب النار .

ص: 293


1- . في المصدر : «الخامس : إنّه تعالى نهى عباده» .
2- . الإسراء 17 : 33 .
3- . الشورى 42 : 40 .
4- . في المصدر : «السادس» .
5- . في نسخ الكتاب ومطبوعه : «فلم يتوبوا عن معاصيهم» .
6- . المؤمن 40 : 60 .
7- . النمل 27 : 62 .
8- . المؤمنون 23 : 108 .

وأمّا على اُصولنا الحكميّة الإيمانيّة فالجواب عنها بما مرّ : أنّ العقوبة إنّما لحقت الكفّار لا من جهة انتقام منتقم خارجيّ يفعل الإيلام والتعذيب على سبيل القصد وتحصيل الغرض حتّى يرد السؤال في الفائدة وعدم الفائدة ، أو في كون المنفعة عائدة إليه تعالى أو إلى العبد ، بل العقوبة إنّما تلحقهم من باب اللوازم والتبعات والنتائج والثمرات . فهذا هو الجواب بحسب الاُصول الحقّة عن الإشكال الوارد على أصل العقاب .

وأمّا الإشكال الوارد على دوام العذاب وأبديّته للكفّار ، فوروده من جهة اُخرى غير جهة التحسين والتقبيح ، فلذلك كان موجب تحيّر الحكماء وتدهّش أفاضل العرفاء ، حتّى أنّ الشيخ العارف السبحانيّ محي الدين بن العربيّ وتلميذه الشيخ صدر الدين القونويّ صرّحا بالقول بانتهاء مدّة العقاب وعدم تسرمد العذاب وتبعهما غيرهما من شرّاح الفصوص ، ومن يحذو حذوهم ، ثمّ نقل عبارات الفصوص والفتوحات وعبارة القصيريّ بنحو ما ذكرنا .

ثمّ قال بعد نقل كلامهم :

وممّا يدلّ على نفي تسرمد العذاب حديث : سيأتي على جهنّم زمان ينبت في قعرها الجرجير ، وذكر البغويّ - المشهور بمحيي السنّة - في معالم التنزيل في تفسير قوله تعالى : « وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا »(1) أنّه قال ابن مسعود : ليأتينّ زمان على جهنّم ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً .(2)

انتهى ما أوردنا نقله من تفسير الفيلسوف صدر الدين الشيرازيّ .

وقال المحدّث العارف المحقّق الكاشانيّ في كتاب عين اليقين الذي تبجّح في أوّله وقال :

هذه رموز ربّانيّة اُوتيتها من فضل اللّه ، وكنوز عرفانيّة انتقدتها من نفائس خزائن أهل اللّه ، وأنوار ملكوتيّة اقتبستها من مشكاة المستضيئين بنور اللّه ، وأسرار

ص: 294


1- . هود 11 : 108 .
2- . تفسير القرآن الكريم ، ج 1 ص 361 - 365 و 375 .

جبروتيّة التمستها من هدى الراسخين في العلم من أولياء اللّه ، قد صرفت أيّاماً من عمري في مدارستها ، متعمّقاً في استكشاف حقائقها ، وقضيت أعواماً من دهري في ممارستها ، ممعناً في استطلاع دقائقها ، بتمرينها مرّة بعد اُخرى ، وتليينها كرّة

غبّ اُولى حتّى ازدادت لنفسي إشراقاً واعتباراً ، وضياءا واستبصاراً ، فكشفت عن كنه(1) أستارها ، وتبيّنت لي أعلامها ومنارها ببراهين نورانيّة ، وإلهامات روحانيّة ، وإشارات فرقانيّة ، وأمارات ذوقيّة وجدانيّة ، فاطمأنّت نفسي إليها ، وسكن قلبي لديها ، وانشرح صدري لها ، كمن قد وجد ضالّة عزيزة عليه .(2)

مع أنّ جلّه ومعظمه مأخوذ من مؤلّفات اُستاذه المشار إليه من الأسفار وغيرها ، قال في آخر الكتاب المذكور :

ثمّ ليعلم أنّ الألم - عقليّاً كان أو حسّيّاً - لابدّ وأن يزول يوماً ، و يؤول إلى النعيم ولو بعد أحقاب ؛ لأنّ العسر لا يدوم ، والهيئات المضادّة للحقّ غريبة عن جوهر النفس ، فكذا ما يلزمها .

قال الشيخ الأعرابيّ في فصوص الحكم : أمّا أهل النار فمآلهم إلى النعيم لكن في النار ... إلى آخره .

وقال في موضع آخر : الثناء على اللّه بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ... إلى آخره .

ثمّ قال المحدّث الكاشانيّ بعد ذلك :

ويصدّقه ما رواه شيخنا الصدوق في كتاب التوحيد عن مولانا الصادق عليه السلام عن آبائه قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من وعده اللّه على عمل ثواباً فهو منجزه له ، ومن أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار» .

ثمّ نقل عبارات الفتوحات المتقدّمة ، ثمّ قال :

وقال المحقّق كمال الدين عبدالرزّاق الكاشيّ في شرحه للفصوص : إنّ أهل النار إذا دخلوها وتسلّط العذاب على ظواهرهم وبواطنهم ملكهم الجزع والاضطراب فيكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضاً ، متخاصمين متقاولين كما ينطق به

ص: 295


1- . في المصدر : «فكشفت عنّي أكنّة أستارها» .
2- . عين اليقين ، ج 1 ، ص 20 .

كلام اللّه في مواضع ، وقد أحاط بهم سرادقها ، فطلبوا أن يخفّف عنهم العذاب أو أن يُقضى عليهم ، كما حكى اللّه عنهم بقوله : « يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ »(1) ، أو أن يرجعوا إلى الدنيا فلم يجابوا إلى طلباتهم ، بل اُجيبوا بقوله : « لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ »(2) ، وخوطبوا بمثل قوله : « إِنَّكُم مَّاكِثُونَ »(3) ، « اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ »(4) .

فلمّا يئسوا ووطّنوا أنفسهم على العذاب والمكث على ممرّ السنين والأحقاب، وتعلّلوا بالأعذار ومالوا إلى الاصطبار ، وقالوا : « سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَحِيصٍ »(5) ، فعند ذلك رفع اللّه العذاب عن بواطنهم ، وخبت نار اللّه الموقدة التي تطّلع على الأفئدة ، ثمّ إذا تعوّدوا بالعذاب بعد مضيّ الأحقاب ألفوه ولم يتعذّبوا بشدّته بعد طول مدّته ، ولم يتألّموا به وإن عظم ، ثمّ آل أمرهم إلى أن يتلذّذوا به ويستعذبوه ، حتّى لو هبّ عليهم نسيم من الجنّة استكرهوه وتعذّبوا به ، كالجُعل وتأذّيه برائحة الورد ، لتألّفه بنتن الأرواث والقاذورات .

ثمّ نقل كلام اُستاذه ، وكلام محي الدين ، وكلام القيصريّ ، وأيّده وشيّده وقال :

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله : «أنّ اللّه خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة ، فجعل في الأرض منها رحمة ، بها تعطف الوالدة على ولدها ، والبهائم بعضها على بعض ، والطير ، وأخّر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة مائة» .(6) انتهى كلامه .

ونحوه كلامه في المعارف(7) الذي هو ملخّص هذا الكتاب بأخصر ممّا ذكر .

ص: 296


1- . الزخرف 43 : 77 .
2- . البقرة 2 : 162 .
3- . الزخرف 43 : 77 .
4- . المؤمنون 23 : 108 .
5- . إبراهيم 14 : 21 .
6- . عين اليقين ، ج 2 ، ص 454 - 463 .
7- . اُصول المعارف ، ص 176 - 177 .

هذا غاية ما شيّدوا به هذا المطلب ، ونهاية ما أيّدوا به هذا المذهب من الشبهات التي هي أوهن من بيت العنكبوت ، وأنّه لأوهن البيوت ، ولم يلتفتوا إلى مخالفة ذلك للآيات القرآنيّة المتظافرة ، والأخبار والآثار المعتبرة ، وإجماع المسلمين ، بل ضرورة

المذهب والدين ، مع أنّها شبهات فاسدة من وجوه شتّى :

الأوّل : أنّ ما اعتمدوا عليه في هذا الباب من مرسلة الجرجير ، ومقطوعة ابن مسعود - مع أنّهما في غاية الضعف ونهاية القصور - لم يوجد منهما عين ولا أثر في كتب الإماميّة ، ولا ريب في وضعهما وكذبهما ، فكيف يصلح الاعتماد عليهما سيّما في حكم مخالف للضرورة فضلاً عن الكتاب والسنّة ؟ وقد تواتر عنه صلى الله عليه و آله بين الفريقين وعن أولاده المصطفين : أنّ كلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو مزخرف يضرب به الحائط ، فكيف يمكن الاحتجاج بهما ؟

على أنّ رواية الجرجير قد عرفت تكذيب الكاظم عليه السلام لها . وحديث ابن مسعود - بعد تسليم صحّته وثبوته - لا حجّة فيه ، ولا يخفى ضعف ظاهره وخافيه ؛ لأنّه غير مستند إلى نبيّ ولا إلى إمام ، ومجرّد قول ابن مسعود كيف يكون حجّة في مثل هذا المقام ؟

على أنّه يدلُّ على نفي الخلود وأكثر هؤلاء معترفون بفساده قطعاً .

وروى عمران ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : بلغنا أنّه يأتي على جهنّم حينٌ تصطفق أبوابها ؟ فقال : «لا واللّه ، إنّه الخلود» . قلت : « خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّماوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ »(1) .

فقال : «هذه في الذين يخرجون من النار»(2) ، واصطفاق الأبواب كناية عن خلوّها عن الناس .

وهذا الحديث ردّ على ابن مسعود .

الثاني : أنّ ما استدلّ به من أنّ حال أهل جهنّم ومآلهم إلى النعيم في النار ؛ إذ لابدّ

ص: 297


1- . هود 11 : 107 .
2- . الفصول المهمّة ، ج 1 ، ص 373 .

للعذاب من انقطاع ، فيكون نعيمهم فيها كنعيم إبراهيم ، والثناء على اللّه بصدق الوعد لا بصدق الوعيد كما قال تعالى : « فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَه »(1) ولم يقل وعيده ، بل قال : « وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئِاتِهِمْ »(2) كلام واضح الفساد :

أمّا أوّلاً : فلأنّه لا دليل على وجوب انقطاع مدّة العذاب وانتهائه ، بل الأدلّة القطعيّة على خلافه ، واشتمال الآية على عدم خلف الوعد ، لا يدلّ على حسن خلف الوعيد ؛ إذ إثبات الشيء لا يدلّ على نفي ما عداه بإحدى الدلالات الثلاث . على أنّه لا وعيد بالنسبة إلى الرسل والأنبياء المعصومين من الزلل ، المفطومين من الخلل ، وما تضمن ظاهره الوعيد لهم كنحو قوله تعالى : « وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ »(3) وأمثاله ، فهو إمّا من باب «إيّاك أعني واسمعي يا جاره» أو على تقدير الصدور الممتنع عليهم عقلاً ونقلاً .

وأمّا ثانياً : فلأنّ الوعيد الذي يحسن خلفه إنّما هو من أقسام الإنشاء ، ولكنّ الخلود في العذاب ، قد دلّت عليه الآيات والروايات الواردة بطريق الإخبار ، وأخبار اللّه يمتنع فيها الكذب ضرورة .

وأمّا ثالثاً : فلأنّ اللّه سبحانه وتعالى قد وعد أنبياءه ورسله بالانتقام من أعدائهم في الدنيا والآخرة وخلودهم في العذاب الدائم ، فخلود الكفّار في العذاب الدائم وعد من اللّه وعد به أنبياءه ، ويمتنع على اللّه تعالى خلف وعده ضرورة عقلاً ونقلاً ، كما قال تعالى : « فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَه إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ » ، فيجب وقوعه لا محالة ، فتكون الآية الشريفة ردّاً عليهم .

على أنّ الظاهر من سياق الآية : أنّه ليس الغرض وعد الرسل بالثواب ، بل وعدهم بالنصر والظفر في الدنيا ، والانتقام من أعدائهم وعذابهم في الدنيا والآخرة .

وأمّا رابعاً : فإنّ مقتضى شبهاتهم المذكورة : أنّ الكفّار لا يستحقّون الخلود في

ص: 298


1- . إبراهيم 14 : 47 .
2- . الأحقاف 46 : 16 .
3- . الحاقّة 69 : 44 .

العذاب بل لا يجوز ذلك عليهم ، ووعيد اللّه تعالى لهم بالعذاب وبدوامه يدلّ على استحقاقهم لذلك حتّى يحسن ويصدق العفو ، فيلزم هؤلاء أن ينكروا أصل الوعيد ، وإنكاره تكذيب للقرآن العظيم والنبيّ الكريم ، وهو موجب للكفر والخلود في الجحيم .

وأمّا القول بأنّ الغرض من هذا الوعيد الإصلاح والانزجار عن المعاصي ، فلو تمّ لقام في أصل العذاب أيضاً ، وهم لا يقولون به .

وبقيام هذه الاحتمالات الواهية الركيكة ينسدّ باب التكليف ويرتفع الوثوق بأقوال ربّ العالمين والأنبياء والمرسلين ، ويلزم منه الخروج عن زمرة المسلمين ، بل عن سائر الملّيّين .

وأمّا خامساً : فإنّ قوله تعالى : « وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئِاتِهِمْ »(1) مخصوص ببعض أهل المعاصي من فرق المسلمين الذين لا يخلّدون ، كما أطبق عليه المفسّرون وتظافرت به الآيات والروايات .

على أنّ التجاوز لا يتحقّق إلاّ قبل دخول جهنّم أو بعد الدخول مع الخروج عنها ، وأمّا رفع العذاب عنهم وهم فيها بعد عذابهم بقدر ما يستحقّونه فلا يسمّى ذلك تجاوزاً ، بل عدلاً كما لا يخفى .

الثالث : أنّ قولهم : قد قام البرهان العقليّ على أنّ الطاعات لا تنفع اللّه والمعاصي لاتضرُّه ، كلام حقّ وصدق ، بل نقول : إنّ الطاعات تنفع فاعليها ، والمعاصي تضرّهم ، ولهذا ترتّب على تلك الثواب وعلى هذه العقاب .

وقولهم : إنّ كلّ شيء بقضاء وقدر ، فالخلق مجبورون في حال اختيارهم ، فكيف يدوم عذابهم ؟ إن أرادوا رفع الاختيار عنهم وأنّهم مجبورون على أفعالهم ، فهذا الكلام يقبّح أصل التكليف ، ويرفعه فضلاً عن أصل العذاب ، بل فضلاً عن دوامه ، وبهذا يوجب الخروج عن زمرة المسلمين والمخالفة لضرورة الدين المبين ، وكفى به شناعة وفظاعة إلى يوم الدين .

ص: 299


1- . الأحقاف 46 : 16 .

الرابع : أنّ قولهم : إنّ العالم بأسره عباد اللّه وليس لهم وجود وصفة وفعل إلاّ باللّه وحوله وقوّته ، وكلّهم محتاجون إلى رحمته ، وهو الرحمان الرحيم ، ومِن شأن مَن هو موصوف بهذه الصفات أن لا يُعَذّب أحداً عذاباً أبديّاً ، وليس ذلك المقدار من العذاب

إلاّ لأجل إيصالهم إلى كمالاتهم المعدّة لهم ، كما يذاب الذهب والفضّة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدّره وينقص عياره ، وهو عين اللطف والرحمة .

وقولهم : إنّ العبد الذي رزق أدنى رحمة يرحم العباد ولا يرضى بدوام عذاب عدوّه ، وإن أساء معه ما أساء ، فكيف بأرحم الراحمين ؟!

لا يخفى فساده مضافاً إلى ما مرّ من الوجوه ، فإنّ قياس المنتقم الجبّار على الصيرفيّ المذيب للذهب بالنار ، وقياس رحمة أرحم الراحمين على رحمة العبد الجاهل المسكين قياس مع الفارق ؛ إذ الفرق واضح بين الإيلام بطريق الإصلاح وبين العقوبة بطريق الاستخفاف والاستهانة ، وتعذيب الكفّار من الثاني كما قال تعالى : « اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ »(1) ، « ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ »(2) ، « خُذُوهُ فَغُلُّوهُ »(3) إلى آخر الآيات .

والفرق واضح أيضاً بين حال العبد الضعيف الجاهل العاجز ، وبين الربّ الخالق العالم الجبّار القهّار . ألا ترى أنّ أنواع الأمراض والأوجاع والزمانات والبلاء والابتلاء والتعذيبات الواقعات في الدنيا التي ابتلى اللّه بها خلقه لحِكَم ومصالح - هو أعلم بها - لو فوّضت إلى أقسى العباد قلباً وأجفاهم غلظة لرفعها عن الناس ولم يرضَ بها ، سيّما بالنسبة إلى الأطفال والصبيان والرُضَّع والمشايخ والعاجزين ، فكيف يقاس فعل ربّ العالمين بحال الجاهل المسكين ؟!

أو لم يعلموا أنّ أفعال اللّه تعالى في الدنيا فضلاً عن الآخرة تعجز عن إدراكها العقول القاصرة والأفهام الكاسدة الفاترة كالنظر إلى أنواع العذاب والعقاب بالنسبة إلى الاُمم السالفة والفرق الماضية ، وأخذهم بأنواع النكال وأشدّ العذاب والوبال ؟ ولم

ص: 300


1- . المؤمنون 23 : 108 .
2- . الدخان 44 : 49 .
3- . الحاقّة 69 : 30 .

يتدبّروا كيف جعل اللّه تعالى إدخال مقدار الحشفة موجباً للقتل والحرق في اللواط ونحو ذلك من الأحكام التي تعجز عن إدراكها العقول والأفهام ؟!

على أنّ ذلك إنْ تمّ منع أصل العذاب والعقاب في النار وهم لايقولون به ، مع أنّ اللّه تعالى يقول في محكم كتابه في شأن أهل النار : « وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ »(1) ، ويقول سبحانه : « وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً »(2) ونحوهما من الآيات والروايات .

وسيّد الساجدين وزين العابدين عليه السلام يقول في الصحيفة الكاملة : «إلهي ، لو بكيت إليك حتّى تسقط أشفار عيني ، وانتحبت حتّى ينقطع صوتي ، وقمت لك حتّى تنتشر قدماي ، وركعت لك حتّى ينخلع صلبي ، وسجدت لك حتّى تتفقّأ حدقتاي ، وأكلت تراب الأرض طول عمري ، وشربت ماء الرماد آخر دهري ، وذكرتك في خلال ذلك حتّى يكلّ لساني ، ثمّ لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياءا منك ، ما استوجبت بذلك محو سيّئة واحدة من سيّئاتي ، وإن كنتَ تغفر لي حين أستوجب مغفرتك ، وتعفو عنّي حين استحقُّ عفوك ، فإنّ ذلك غير واجب لي باستحقاق ، ولا أنا أهل له باستيجاب ، إذ كان جزائي منك في أوّل ما عصيتك النار ؛ فإن تعذّبني فأنت غير ظالم لي ...» .(3)

هذا مع أنّهم اعترفوا بأنّ العذاب ليس بفعل منتقم خارجيّ ، بل هو من لوازم أفعالهم ، ونتائج اعتقاداتهم ومعاصيهم ، فإذا كانت العقوبة والعذاب من نتائج الأعمال والمعاصي ، فأيّ ضرر في أن تكون الأعمال والاعتقادات نتيجة وثمرة(4) لدوام العقاب ؟

وتوضيح المقام : أنّ تكليف اللّه عباده يجري مجرى تكليف الطبيب والمريض، فإذا غلبت عليه الحرارة أمره بشرب المبرّدات ، وهو غنيّ عن شربه ، لا يضرّه مخالفته ولا

ص: 301


1- . الأنعام 6 : 28 .
2- . الإسراء 17 : 72 .
3- . الصحيفة السجاديّة ، ص 89 .
4- . كذا ، والأنسب : «منتجة ومثمرة» .

ينفعه موافقته كما يعترف به كلّ ذي لبّ ، لكنّ النفع والضرر يرجعان إلى المريض ويلزمان لأفعاله ، وإنّما الطبيب مرشد فقط ، فإن وفّق المريض حتّى وافق الطبيب شُفي وتخلّص من ألم المرض ، وإن لم يوفّق وخالف تمادى به المرض وهلك ، وبقاؤُه وهلاكه سيّان عند الطبيب ، لاستغنائه عن بقائه وفنائه .

فكما أنّ اللّه تعالى خلق للشقاء سبباً مفضياً إليه ، فكذلك للسعادة الاُخرويّة سبباً ، وهو الطاعة ، ونهي النفس عن الهوى بالمجاهدة المزكّية لها عن رذائل الأخلاق ، وهذه الرذائل مشقيات للنفس ، مهلكات لها في الآخرة ، كما أنّ رذائل الأخلاط ممرضات للبدن في الدنيا ، والمعاصي بالإضافة إلى حياة الآخرة كالسموم بالإضافة إلى الحياة الدنيا .

وللنفوس طبيب كما أنّ للأبدان طبيباً ، والأنبياء والأوصياء هم أطبّاء النفوس ، يرشدون الخلق إلى طريق الفلاح بتمهيد التكاليف المزكّية للقلوب كما قال تعالى : « قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا »(1) .

ثمّ نقول : إنّ المريض إذا خالف أمر الطبيب وتمادى به المرض فبالحقيقة لم يتماد مرض المريض بمخالفة الطبيب لأجل المخالفة ، بل لأنّه سلك غير طريق الصحّة الذي أمره الطبيب به ، فكذلك التقوى التي أشار إليها بقوله : « يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »(2) هي الحُمية التي تنفي عن القلوب أمراضها ، وأمراض القلوب تفوّت حياة الآخرة كما تفوّت أمراض الأجساد حياة الدنيا .

وبالجملة ، فإنّ الطاعات أدوية نافعة ، والمعاصي سموم قاتلة ، وتأثيرهما في القلوب كتأثير هاتين في الأبدان ، وكما لا ينجو في الآخرة إلاّ من أتى اللّه بقلبٍ سليم ، كذلك لا ينجو هنا من المرض إلاّ من أتى بمزاج معتدل ، وكما يصحّ قول الطبيب للمريض : قد عرّفتك ما يضرّك وما ينفعك ، فإن وافقتني فلنفسك ، وإن خالفت فعليها ، كذلك قال اللّه تعالى : « فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ

ص: 302


1- . الشمس 91 : 9 و10 .
2- . البقرة 2 : 21 .

عَلَيْهَا »(1) .

وأمّا العقاب على ترك الأوامر وارتكاب الخطيئات فليس ذلك من اللّه غضباً وانتقاماً على نحو غضبنا وانتقامنا ، بل لاقتضاء حكمته الباهرة التي تعجز عنها العقول القاصرة ترتّب المسبّبات على الأسباب ، فخلق النفس الإنسانيّة على وجه تنجيها الفضائل وتهلكها الرذائل ، واللّه تعالى غير عاجز عن الإشباع من غير أكل ، والإرواء من غير شرب ، وإنشاء الولد من غير وقاع ، ولكن قدّرها بالأسباب والمسبّبات ؛ لحكمة خفيّة لا يعلمها إلاّ اللّه والراسخون في العلم .

الخامس : أنّ تمثيلهم لتنعّم أهل النار بتلذّذ السمند(2) بالنار ، و[أنّهم] يتأذّون من الجنّة كما يتأذّى الجُعل برائحة الورد ، وأنّ النار دواءٌ لمعاصيهم كما تكون دواء لبعض أهل الدنيا ، أو أنّهم كحال النائم ونحو ذلك من هذه المزخرفات التي لم يقم عليها دليل

ولا برهان ، ويضحك منها الإنس والجان ، بل مخالفة للبراهين القطعيّة من الآيات القرآنيّة والأخبار المعصوميّة .

والفرق واضح بين الحيوان الذي يلتذّ بالذات والطبع بالقاذورات ، ويتأذّى من الطيّبات ، وبين الإنسان الذي اعتاد على التلذّذ بأنواع التنعّمات ، ويتأذّى بأنواع الأذيّات ، ويتألّم من كلّ مؤذ خصوصاً من نار الجحيم وعذاب الحميم ، وكيف يتصوّر فيمن يعذّب بأشدّ العذاب ويعاقب بأعظم أنواع العقاب ، ويستغيث فلا يغاث ، ويستجير فلا يجار ، وينادي بالويل والثبور ، ويتمنّى الموت وما هو بميّت ، ويريد الخروج وما هو بخارج من النار ، ويطلب الخلاص وليس بخالص من عذاب المنتقم الجبّار ، أن يصير بعد استيلاء العقاب عليه بقدر زمان عصيانه بلا فاصلة ، معتاداً إلفا إلى تلك النار ، متلذّذاً بها مع عدم فصل زمان بين التنعّم والعذاب ؟ ما هذا إلاّ أمر محال ، ومجرّد وهم وخيال ، ولاسيّما مع قصر زمن العقاب ، لقصر عمره ومعصيته وكفره بربّ الأرباب .

ص: 303


1- . يونس 10 : 108 .
2- . السمند : طائر يكثر وجوده في الهند ، يقال : إنّه لا يحترق بالنار . انظر : حياة الحيوان ، ج 2 ، ص 45 - 46 .

السادس : أنّ التهديد والوعيد والتخويف الشديد ، والإخبار بوقوع العذاب العظيم والعقاب الجسيم قد تظافر في الآيات وتواتر في الروايات ، فإن كان المراد من هذا العذاب والعقاب : الذي ليس فيه ألم ولا نكال ، فكيف يحسن التهديد والتخويف به ويقال : إنّه يحسن خلْفه ؟ وإن كان المراد به المؤلم المؤذي ، فكيف يقال باعتياده والتلذّذ به والإلفة له ؟

السابع : أنّ غاية ما يدلّ عليه حسن خلف الوعيد وشمول الرحمة ونحوهما حسن العفو والتجاوز ، ومدّعى هؤلاء وجوب العفو وقبح دوام العذاب ، فإن كان دوام العذاب والعقاب عدلاً فلا قبح فيه ، وإن كان ظلماً وجوراً فلا معنى للتجاوز والعفو عنه ، فإنّهما لا يجريان إلاّ في المستحقّ .

الثامن : أنّه إذا كانت هذه التهديدات والتخويفات والإخبارات إنّما صدرت لمصلحة الانزجار والارتداع عن المعاصي والسيّئات ، وليست على حقيقتها ، مع قيام الدليل العقليّ القطعيّ على قبح أصل العذاب بزعم طائفة منهم ، وقبح دوامه وعدم جوازه بزعم آخرين ، تكون هذه التهديدات والتوعيدات حينئذٍ لا فائدة فيها ولا ثمرة تعتريها ، وتجويز صدور مثل ذلك عن الحكيم العليم يؤدّي إلى مفاسد عظيمة ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً .

التاسع : أنّ ما زعموه من انقطاع العقاب أو عدم وقوعه ليس بمكذَّب ولا مناف للآيات والأخبار الدالّة على وقوعه ودوامه ؛ إذ يكون حينئذٍ من قبيل العام المخصّص ولا يسمّى ذلك كذباً ، فكما أنّ آيات العقاب لغير الكفّار أو لهم مشروطة بعدم التوبة

وإن لم تشتمل على الشرط ، فكذا آيات العقاب ودوامه مشروطة بعدم العفو ، أو تحمل على استحقاق العاصيللعقاب وإن حسن العفو عنه.

ولو سلّم كون ذلك كذباً فلا ضير ؛ إذ لا نسلّم قبح كلّ كذب ، بل الكذب الضارّ ، أمّا الكذب النافع فلا ، وأيّ نفع أعظم من ترتّب الانقياد للطاعات والانزجار عن السيّئات ؟

واستحقاق الثواب والخلاص من العقاب كلام فاسد متهافت متناقض من وجوه :

أمّا أوّلاً فللفرق الواضح بين ما يقبل التخصيص والصرف عن الظاهر ، وبين ما لا يقبله ، والعام من أقسام الظاهر القابل لذلك ، بخلاف النصّ الذي لا يحتمل فيه غير

ص: 304

معناه ، والآيات والأخبار الدالّة على وقوع العقاب ودوامه من قبيل الثاني دون الأوّل .

وأمّا ثانياً فلأنّ جواز التخصيص والصرف عن الظاهر إنّما يصحّ إذا دلّ عليه الدليل ، والأدلّة هنا على خلاف ذلك ، وقد عرفت فساد شبهاتهم الواهية الركيكة .

وأمّا ثالثاً فلأنّ هذا مناقض لما زعموه من عدم جواز استمرار العقاب وقبحه ، أو قبح أصله ، فإنّ العفو لا يطلق ولا يجدي معناً .

وأمّا رابعاً فلأنّ الكذب النافع إنّما لم يقبح بالنسبة إلى العاجز عن المصلحة بدونه ، واللّه سبحانه على كلّ شيء قدير ، ولم نقف على قائل من المسلمين بجواز الكذب على اللّه تعالى .

العاشر : أنّ ما زعمه الفاضل صدر الدين الشيرازيّ من أنّ التخرّج عن الشبهات الواردة على قبح أصل العذاب لا محيص عنه بناءاً على القول بالحسن والقبح العقليّين ووجوب الأصلح على اللّه تعالى ، وأنّ الجواب عنها منحصر بما يوافق اُصوله الحكميّة من أنّ العقوبة إنّما لحقت الكفّار من حيث اللوازم والنتائج والثمرات ، لا أنّها بفعل منتقم خارجيّ ، لا يخفى ما فيه وضعف خارجه وخافيه :

أمّا أوّلاً فلأنّ نفي الحسن والقبح العقليّين ونفي وجوب الأصلح على اللّه تعالى خروج عن إجماع الإماميّة الاثني عشريّة ، ومخالف للأدلّة العقليّة والنقليّة كما حقّق في محلّه .

وأمّا ثانياً فإنّ ما اعتمد عليه في التخرّج عن الإشكال مع أنّه لا يدفع بعض الشبهات التي ذكرها ، بل أكثرها كالشبهة الاُولى والثانية والثالثة بناءاً على ما زعموه من أنّه تعالى هو الخالق للدواعي والعلل التامّة الموجبة للمعاصي ، ومن أنّه تعالى لا منفعة يريد إيصالها إلى أحد ، ولا مضرّة يريد رفعها عنه ، إلاّ وهو قادر عليه . ومن أنّه تعالى كان عالماً بأنّ الكافر لا يؤمن ، فلِم كلّفه بل أوجده ، ونحو ذلك ممّا تقدّم ، فإنّ هذا الجواب لا يدفع هذه الإيرادات كما لا يخفى .

بل مخالف لنصوص الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة من أنّ التعذيب والعقوبة بفعل اللّه وأمره كما يأتي بيانها إن شاء اللّه . ومستلزم لبطلان العفو والشفاعة ونحو ذلك ممّا يستلزم القول به الخروج عن طريقة المسلمين واتّباع غير سبيل المؤمنين .

ص: 305

وما ورد في بعض الأخبار والآثار ممّا يشعر بذلك فإنّما هو على سبيل المجاز والاستعارة كقوله صلى الله عليه و آله : «قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فاطفئوها بصلاتكم»(1) ، وقوله عليه السلام : «إنّما هي أعمالكم»(2) ، ونحو ذلك .

نعم ، يمكن أن يقال بأنّ اللّه سبحانه وتعالى كما اقتضت حكمته البالغة أن يتكوّن من النطفة علقة ثمّ مضغة ثمّ لحماً ثمّ عظاماً ثمّ خلقاً آخر على شكل غريب ونوع عجيب ، كلّ ذلك بخلقه وفعله وتدبيره ، كذلك اقتضت حكمته البالغة أن يتولّد من الاعتقادات الفاسدة والأعمال السيّئة الكاسدة هذه العقوبات العظيمة وتلك ا لتعذيبات الجسيمة بتقديره وتدبيره ، لا أنّه تعالى ليس له مدخل فيها كما يظهر من كلامه .

وأمّا ثالثاً فإنّه إذا أمكن - بناءا على زعمهم واُصولهم - أن يكون العذاب الشديد والعقاب الأكيد من لوازم اعتقادات الكفّار وثمرات أعمالهم ، كذلك يمكن أن يكون دوام العذاب والخلود في العقاب من نتائج أعمالهم وثمرات اعتقاداتهم ، لا من فعل منتقم خارجيّ حتّى يقبح منه ذلك ، ويجب عليه قطع مدّة العذاب وانتهاء زمن العقاب ، بناءا على اُصولهم التي زعموا صحّتها وقواعدهم التي ادّعوا تنقيحها ، فكيف غفلوا عمّا تقتضيه اُصولهم وقواعدهم والتزموا مخالفة القرآن المبين وسنّة سيّد المرسلين ، والخروج عن إجماع المسلمين بل ضرورة الدين ؟

الحادي عشر : أنّ منصوص الآيات وصراح الروايات قد تظافرت وتواترت بدوام العذاب واستمرار العقاب :

فمنها قوله تعالى في سورة البقرة ردّاً على اليهود الذين زعموا أنّ العذاب يصيبهم مدّة أيّام عبادتهم العجل ثمّ ينقطع عنهم : « وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَتَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ

ص: 306


1- . من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 208 ، ح 624 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 238 ، ح 13 ؛ وسائل الشيعة ، ج 4 ، ص 120 ، ح 4678 .
2- . توحيد المفضّل ، ص 92 ؛ الحكايات ، ص 85 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 90 .

سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ »(1) .

فقد ذكر جمع من المفسّرين أنّ سبب نزول الآية : أنّ اليهود زعموا أنّ النار لا تعذّبهم إلاّ أيّاماً قلائل ، أو أربعين يوماً عدد الأيّام التي عبدوا فيها العجل ، فردّ اللّه عليهم قولهم ، وقال : قل يا محمّد ، لهم اتّخذتم عند اللّه عهداً - أي موثقاً - أن لا يعذّبكم إلاّ هذه المدّة ؟ فإن كان ذلك فإنّ اللّه لا ينقض عهده ، أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون ؟

وفي تفسير الإمام العسكريّ عليه السلام ما ملخّصه : إنّ اليهود لمّا قال لهم ذووا أرحامهم لهم : لِمَ تفعلون هذا النفاق الذي تعلمون أنّكم به عند اللّه مسخوط عليكم معذّبون ؟ أجابهم هؤلاء بأنّ مدّة العذاب الذي نعذّب به لهذه الذنوب أيّاماً معدودة ، وهي التي عبدنا فيها العجل وهي تنقضي ، ثمّ نصير بعده في النعمة في الجنان ، ولا نستعجل المكروه في الدنيا للعذاب الذي هو بقدر أيّام ذنوبنا ، فإنّها تفنى وتنقضي ونكون قد حصلنا لذّات الحرّية من الخدمة ، ولذّات نعمة الدنيا ، ثمّ لا نبالي بما يصيبنا بعد ، فإنّه إذا لم يكن دائماً فكأنّه قد فنى(2) ، الحديث .

وقال اللّه تعالى في سورة البقرة : « وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُوْلئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالاْخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ »(3) .

وقال تعالى : « وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ »(4) ، ولو كان لهم تنعّم في النار والتذاذ لما كانت لهم بئس المصير .

وقال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ »(5) .

ص: 307


1- . البقرة 2 : 80 و81 .
2- . تفسير الإمام العسكري عليه السلام ، ص 303 - 304 .
3- . البقرة 2 : 85 و86 .
4- . البقرة 2 : 126 .
5- . البقرة 2 : 161 و162 .

وقال تعالى : « وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ »(1) ، والتقريب فيها ما تقدّم ؛ إذ لو تلذّذ بها لم تكن بئس المهاد ، أي الفراش .

وقال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلَ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ »(2) ، والتقريب ما تقدّم .

وقال تعالى : « خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ »(3) .

وقال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِلْ ءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ »(4) .

وقال تعالى : « وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ »(5) .

وقال تعالى : « وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ »(6) .

وقال تعالى : « وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ »(7) .

وقال تعالى : « وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »(8) .

وقال تعالى : « وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ »(9) .

وقال تعالى : « وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ »(10) .

ص: 308


1- . البقرة 2 : 206 .
2- . آل عمران 3 : 10 - 12 .
3- . البقرة 2 : 162 .
4- . آل عمران 3 : 91 .
5- . آل عمران 3 : 151 .
6- . آل عمران 3 : 162 .
7- . البقرة 2 : 7 .
8- . البقرة 2 : 10 .
9- . آل عمران 3 : 178 .
10- . آل عمران 3 : 181 .

وقال تعالى : « فَلاَ تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »(1) .

وقال تعالى : « ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ »(2) .

وقال تعالى : « وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ »(3) .

وقال تعالى : « وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً »(4) .

وقال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً »(5) .

وقال تعالى : « فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً »(6) .

وقال تعالى : « وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً »(7) .

وقال تعالى : « أُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً »(8) .

وقال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ »(9) ، فقد وصفهم اللّه بإرادة الخروج من النار من شدّة العذاب وأنّ لهم عذاباً مقيماً .

وهؤلاء العرفاء يزعمون أنّهم يتلذّذون بها ولا يريدون الخروج منها ، وأنّه لو هبّت عليهم ريح من الجنّة لتأذّوا بها كما يتأذّى الجعل برائحة الورد ، واللّه سبحانه يخبر

عنهم بما ذكر ، فتخيَّر أيّها الناظر بين تصديق قول اللّه ورسوله ، وقول هؤلاء الذين

ص: 309


1- . آل عمران 3 : 188 .
2- . آل عمران 3 : 197 .
3- . النساء 4 : 14 .
4- . النساء 4 : 37 .
5- . النساء 4 : 56 .
6- . النساء 4 : 97 .
7- . النساء 4 : 115 .
8- . النساء 4 : 121 .
9- . المائدة 5 : 36 و37 .

لا يكادون يفقهون حديثاً .

وقال تعالى : « وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ »(1) .

وقال تعالى : « وَعَدَ اللّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ »(2) .

وقال تعالى : « ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ »(3) .

وقال تعالى : « وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِن وَرآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ »(4) .

وقال تعالى : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ »(5) .

وقال تعالى : « فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيَها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرينَ »(6) .

وقال تعالى : « وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ »(7) .

وقال تعالى : « الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ »(8) .

وقال تعالى : « مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً »(9) .

وقال تعالى : « إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ

ص: 310


1- . التوبة 9 : 73 .
2- . التوبة 9 : 68 .
3- . يونس 10 : 52 .
4- . إبراهيم 14 : 15 - 17 .
5- . إبراهيم 14 : 28 و29 .
6- . النحل 16 : 29 .
7- . النحل 16 : 85 .
8- . النحل 16 : 88 .
9- . الإسراء 17 : 97 .

كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً »(1) .

وقال تعالى : « فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً * وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً »(2) .

وهؤلاء العرفاء يقولون : ننجّي الذين في جهنّم من الكفّار نجاة خلافاً لقول اللّه تعالى .

وقال تعالى : « فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ »(3) .

وقال تعالى : « قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِن ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ »(4) .

وقال تعالى : « وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ »(5) .

وقال تعالى في سورة النور : « وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ »(6) .

وقال تعالى : « الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ

ص: 311


1- . الكهف 18 : 29 .
2- . مريم 19 : 68 - 72 .
3- . الحجّ 22 : 19 - 22 .
4- . الحجّ 22 : 72 .
5- . المؤمنون 23 : 103 - 108 .
6- . النور 24 : 57 .

سَبِيلاً »(1) .

وقال تعالى : « وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً »(2) .

وقال تعالى : « وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً »(3) .

وقال تعالى : « أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ »(4) .

وقال تعالى : « ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ »(5) .

وقال تعالى : « وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ »(6) .

وقال تعالى : « وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا »(7) .

وقال تعالى : « إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ »(8) .

وقال تعالى : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِنْ عَذَابِهَا كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ - إلى أن قال : - فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ »(9) .

وقال تعالى : « وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ *

ص: 312


1- . الفرقان 25 : 34 .
2- . الفرقان 25 : 65 و66 .
3- . الفرقان 25 : 68 - 69 .
4- . العنكبوت 29 : 68 .
5- . لقمان 31 : 24 .
6- . السجدة 32 : 13 - 14 .
7- . السجدة 32 : 20 .
8- . الأحزاب 33 : 64 - 66 .
9- . فاطر 35 : 36 و37 .

قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ »(1) .

وقال تعالى : « فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيَها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرينَ »(2) .

وقال تعالى : « فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ »(3) .

وقال تعالى : « إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ* وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ »(4). أي لابثون دائمون في العذاب كما ذكره المفسّرون . وعن ابن عبّاس والسدّي إنّما يجيبهم بذلك مالك بعد ألف سنة .

وقال تعالى : « اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ »(5) .

وقال تعالى : « قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ »(6) .

وقال تعالى : « وَلِلَّذِينَ كَفَرُوْا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ - إلى قوله : - فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ »(7) .

وقال تعالى : « وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً »(8) .

وقال تعالى : « إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآبَاً * لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لاَيَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً * إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا

ص: 313


1- . غافر 40 : 49 و50 .
2- . النحل 16 : 29 .
3- . فصّلت 41 : 27 - 28 .
4- . الزخرف 43 : 74 - 77 .
5- . الطور 52 : 16 .
6- . التحريم 66 : 6 .
7- . الملك 67 : 6 - 11 .
8- . الجن 72 : 15 .

بِآيَاتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَيءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً »(1) .

لا يقال : إنّ قوله تعالى : «أحقاباً» يدلّ على انتهاء مدّة العذاب ؛ لأنّه قد ذكر بعض المفسّرين أنّ الحقب ثمانون سنة من سنين الآخرة .

وعن بعضهم أنّ الأحقاب ثلاثة وأربعون حقباً ، كلّ حقب سبعون خريفاً ، كلّ خريف سبعمائة سنة ، كلّ سنة ثلاثمائة وستّون يوماً ، كلّ يوم ألف سنة .

وعن مجاهد قيل : إنّ الحقب الواحد سبعون ألف سنة ، كلّ يوم من تلك السنين ألف سنة ممّا تعدّون .(2)

لأنّا نقول : إنّ هذه الأقوال شاذّة نادرة ومعارضة بأقوال اُخر أصحّ منها ، فقد ذكر كثير من المفسّرين أنّ المعنى : أحقاباً لا انقطاع لها ، يعني كلّما مضى حقب جاء بعده حقب آخر .

وقيل : إنّ المعنى لابثين فيها أحقاباً لا يذوقون في تلك الأحقاب برداً ولا شراباً ، ثمّ يلبثون فيها لا يذوقون غير الحميم والغسّاق من أنواع العذاب ، فهو توقيت لأنواع العذاب لا لمكثهم في النار .

وقال في مجمع البيان : وروى العيّاشيّ بإسناده عن حمران ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الآية ، فقال : «هذه في الذين يخرجون من النار» ، وروي عن الأحول مثله .(3) انتهى .

أقول : وروى عليّ بن إبراهيم في تفسيره مثله .(4)

هذا ما حضرنا من الآيات المتعلّقة بتأبيد العذاب ودوامه ، وأمّا الآيات المتعلّقة بأصل العذاب فهي كثيرة ، ولا يخفى ما في هذه الآيات من الدلالة الصريحة والمقالة الفصيحة بوجه واضح قطعيّ وطريق يقينيّ لا يقبل التأويل ، ولو جاز تأويل مثل هذه

ص: 314


1- . النبأ 78 : 21 - 30 .
2- . مجمع البيان ، ج1 ، ص 243 و فيه : «عن الحسن» لا «مجاهد» ؛ بحار الأنوار ، ج 8 ، ص 275 ؛ جامع البيان ، ج 30 ، ص 15 .
3- . مجمع البيان ، ج 10 ، ص 244 ؛ تفسير العيّاشي ، ج 2 ، ص 160 .
4- . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 402 .

الآيات التي هي نصّ في الباب لزم بطلان الكتاب والسنّة والخروج عن الدين وزمرة المسلمين ، وكفى بذلك شنعة .

وأمّا الروايات الواردة في الباب فهي أكثر من أن تحصى ، وأوسع من أن تستقصى ، وقد ذكرنا جملة منها في رسالتي تسلية الفؤاد وتسلية الحزين ، وقد ذكر شطراً وافراً منها العلاّمة المجلسيّ في مجلّد المعاد من البحار ، ونحن نذكر بعضها على سبيل الإيجاز والاختصار :

ففي أمالي الصدوق بإسناده عن الباقر عليه السلام قال : «إنّ أهل النار يتعاوون فيها كما تتعاوى الكلاب والذئاب ممّا يلقون من أليم العذاب ، ما ظنّك - يا عمرو - بقوم لا يُقضى عليهم فيموتوا ، ولا يخفّف عنهم من عذابها ؛ عطاش فيها جياع ، كليلة أبصارهم ، صمّ بكم عمي ، مسودّة وجوههم ، خاسئين فيها نادمين ، مغضوب عليهم فلا يُرحمون من العذاب ولا يخفّف عنهم ، وفي النار يسجرون ، ومن الحميم يشربون ، ومن الزقّوم يأكلون ، وبكلاليب النار يخطمون ، وبالمقامع يضربون ، فهم في النار يُسحبون على وجوههم ، ومع الشياطين يقرنون ، إن دعوا لم يستجب لهم ، وإن سألوا حاجة لم تقض لهم» .(1)

وفي الخصال عن الصادق عليه السلام في حديث وصف أبواب النار ، قال : «وباب تدخل منه بنو اُميّة - إلى أن قال - : وهو باب الهاوية ، تهوي بهم سبعين خريفاً ، فكلّما هوى بهم سبعين خريفاً فارت بهم فورة قذفت بهم في أعلاها سبعين خريفاً ، ثمّ هوى بهم كذلك سبعين خريفاً ، فلا يزالون هكذا أبداً خالدين مخلّدين» ،(2) الحديث .

وفي أمالي الشيخ عن عليّ عليه السلام في وصف النار ، قال : «قعرها بعيد ، وحرّها شديد ، وشرابها صديد ، وعقابها جديد ، ومقامعها حديد ، لا يُفَتَّر عذابها ، ولا يموت ساكنها ، دار ليس فيها رحمة ، ولا يسمع لأهلها دعوة» .(3)

ص: 315


1- . الأمالي للصدوق ، ص 557 ، المجلس 82 ، ح 14 ؛ روضة الواعظين ، ص 508 .
2- . الخصال ، ص 361 ؛ بحار الأنوار ، ح 8 ، ص 285 ، ح 11 .
3- . الأمالي للطوسي ، ص 29 ، المجلس 1 ، ح 31 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 8 ، ص 286 ، ح 16 .

وفي تفسير القمّيّ عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال : «وأمّا أهل المعصية فخذلهم في النار ، واُوثق منهم الأقدام ، وغلّ منهم الأيدي إلى الأعناق ، واُلبس أجسادهم سرابيل من قطران ، وقُطّعت لهم مقطّعات من النار ، هم في عذاب قد اشتدّ حرَّه ، ونار قد أطبق على أهلها ، فلا يُفَتَّر(1) عنهم أبداً ، ولا يدخل عليهم ريح أبداً ، ولا ينقضي منهم عمر العذاب أبداً شديداً ، والعذاب أبداً جديداً ، لا الدار زايلة فتفنى ، ولا آجال القوم تقضى» .(2)

وروى العيّاشيّ بإسناده عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال : «إنّ أهل النار لمّا غلا الزقّوم والضريع في بطونهم - كغلي الحميم - سألوا الشراب فاُتوا بشراب غسّاق وصديد يتجرّعه ولا يكاد يسيغه ، ويأتيه الموت من كلّ مكان وما هو بميّت ، ومن ورائه عذاب غليظ ، وحميم يغلي في جهنّم منذ خلقت كالمهل يشوي الوجوه ، بئس الشراب وساءت مرتفقا» .(3)

وفي رواية اُخرى عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه كان يبكي ويقول : «وا بعد سفراه ! وا قلّة زاداه ! في سفر القيامة يذهبون ، وفي النار يتردّدون ، وبكلاليب النار يتخطّفون ، مرضى لا يعاد سقيمهم ، وجرحى لا يداوى جريحهم ، وأسرى لا يفكّ أسيرهم ، من النار يأكلون ، ومنها يشربون ، وبين أطباقها يتقلّبون»(4) ، الحديث .

وروي أنّ أهل النار إذا دخلوها ورأوا نكالها وأهوالها عرفوا أنّ أهل الجنّة في ثواب عظيم ونعيم مقيم ، فأمّلوا أن يطعموهم أو يسقوهم ليخفّف عنهم بعض العذاب ، كما قال تعالى : « وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ »(5) ، قال : فيحبس الجواب عنهم أربعين سنة ، ثمّ يجيبونهم بلسان الاحتقار : « إِنَّ

ص: 316


1- . في المصدر : «فلا يفتح» .
2- . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 289 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 8 ، ص 292 ، ح 34 .
3- . تفسير العياشي ، ج 2 ، ص 223 ، ح 7 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 8 ، ص 302 ، ح 58 .
4- . الدروع الواقية ، ص 276 ؛ بحار الأنوار ، ج 43 ، ص 88 .
5- . الأعراف 7 : 50 .

اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ »(1) .

قال : فيمرّ الخزنة بهم وهم يشاهدون ما نزل بهم من المصائب ، فيأملون أن يخفّفوا عنهم كما قال تعالى حكاية عنهم : « وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ »(2) ، فيحبس عنهم الجواب أربعين سنة ، ثمّ يجيبونهم : « قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ »(3) ، فإذا يئسوا منهم رجعوا إلى مالك مقدّمهم وأمّلوا منه الخلاص كما حكى اللّه عنهم : « وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ »(4) ، فيحبس عنهم الجواب أربعين سنة وهم في العذاب ، ثمّ يجييبهم كما حكى اللّه عنهم : « قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ »(5) .

ثمّ يقولون : « رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ »(6) ، فيقفون أربعين سنة في ذلّ الهوان ، ثمّ يجيبهم اللّه تعالى : « اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ »(7) ؛ فعند ذلك ييئسون من كلّ فرج وراحة ، وتغلق أبواب جهنّم عليهم ويدوم لديهم الهلاك والشهيق والزفير والصراخ .(8)

وفي الاختصاص عن الباقر عليه السلام - في حديث طويل في وصف الكفّار في عذاب النار - قال : «ثمّ تطبق عليهم أبوابها ، ثمّ يجعل كلّ رجل منهم في ثلاثة توابيت من حديد من نار ، فلا يسمع لهم كلام أبداً إلاّ أنّ لهم فيها شهيقاً كشهيق البغال ، وزفيراً مثل نهيق الحمار ، وعواءا كعواء الكلاب ، صمّ بكم عمي ، فليس لهم فيها كلام إلاّ أنين ، فيطبق عليهم أبوابها ، ويمدد عليهم عمدها ، فلا يدخل عليهم روح أبداً ، ولا يخرج منهم

ص: 317


1- . الأعراف 7 : 50 .
2- . غافر 40 : 49 .
3- . غافر 40 : 50 .
4- . الزخرف 43 : 77 .
5- . الزخرف 43 : 77 .
6- . المؤمنون 23 : 106 - 107 .
7- . المؤمنون 23 : 108 .
8- . الدروع الواقية ، ص276 - 279 ؛ بحار الأنوار ، ج7، ص304 - 306 مع تلخيص واختلاف في العبارة.

الغمّ أبداً ، فهي عليهم مؤصدة ، - يعني مطبقة - ليس لهم من الملائكة شافعون ، ولا من أهل الجنّة صديق حميم ، وينساهم الربّ ويمحو ذكرهم من قلوب العباد ، فلا يذكرون أبداً» .(1)

وفي الصحيفة السجّاديّة : «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من نار تغلّظتَ بها على من عصاك - إلى قوله : - ومن نار نورها ظلمة ، وهيّنها أليم ، وبعيدها قريب ، ومن نار يأكل بعضها بعضاً ، ويصول بعضها على بعض ، ومن نار تذر العظام رميماً ، وتسقي أهلها حميماً ، ومن نار لا تبقي على من تضرّع إليها ، ولا ترحم من استعطفها ، ولا تقدر على التخفيف عمّن خشع لها واستسلم إليها ، تلقى سكّانها بأحرّ ما لديها من أليم النكال ، وشديد الوبال ...» إلى آخره .(2)

وفي نهج البلاغة : «واحذروا ناراً قعرها بعيد ، وحرّها شديد ، وعذابها جديد ، دار ليس فيها رحمة ، ولا تُسمع فيها دعوة ، ولا تفرّج فيها كربة» .(3)

إلى غير ذلك من الأخبار والآثار التي يفضي فيها التفصيل إلى التطويل .

وروى القمّيّ في تفسيره عن أبي بصير في الصحيح عن الصادق عليه السلام قال في حديث : «إنّ أهل النار يعظّمون النار ، وإنّ أهل الجنّة يعظّمون الجنّة ، وإنّ جهنّم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاماً ، فإذا بلغوا أعلاها قُمعوا بمقامع الحديد ، فهذه حالهم ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : « كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ »»(4) ،(5) الحديث .

وعن أبي جعفر عليه السلام في بيان طبقات النار ، قال : «والرابعة : «الحطمة» ، ومنها يثور

ص: 318


1- . الحديث بكامله في الاختصاص ، ص 359 - 365 . وعنه في بحار الأنوار ، ح 8 ، ص 317 - 323 ، ح 99 .
2- . الصحيفة السجّاديّة ، ص 152 ؛ مصباح الكفعمي ، ص 57 ؛ مفتاح الفلاح ، ص 353 .
3- . نهج البلاغة ، ص 383 ، الكتاب 27 ؛ الأمالي للطوسي ، ص 29 ؛ بحار الأنوار ، ج 7 ، ص 104 ، ح 16 .
4- . الحجّ 22 : 22 .
5- . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 81 ؛ التفسير الصافي ، ج 3 ، ص 369 .

شرر كالقصر « كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ »(1) تدقّ كلّ من صار إليها مثل الكحل ، فلا يموت الروح ، كلّما صاروا مثل الكحل عادوا .

والخامسة : «الهاوية» فيها ملأ يدعون : يا مالك ، أغثنا ، فإذا أغاثهم جعل لهم آنية من صفر من نار فيها صديد ماء يسيل من جلودهم كأنّه مُهلٌ ، فإذا رفعوه ليشربوا منه تساقط لحم وجوههم فيها من شدّة حرّها ، وهو قول اللّه تعالى : « وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً »(2) ، ومن هوى فيها هوى سبعين عاماً في النار ، كلّما احترق جلده بدّل جلداً غيره» .(3)

وفيه أيضاً قال : «إنّ جهنّم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاماً ، فإذا بلغوا أسفلها زفرت بهم جهنّم ، فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد ، فهذه حالهم» .(4)

وعن الصادق عليه السلام قال : «إنّ في النار لناراً يتعوّذ منها أهل النار ، وما خلقت إلاّ لكلّ متكبّر جبّار عنيد ، ولكلّ شيطان مريد ، ولكلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب ، ولكلّ ناصب لآل محمّد صلى الله عليه و آله » .

وقال : «إنّ أهون الناس عذاباً يوم القيامة لرجل في ضحضاح من نار ، عليه نعلان من نار ، وشراكان من نار ، يغلي منهما دماغه كما يغلي قدر الرجل ، ما يرى أنّ في النار أحداً أشدّ عذاباً منه ، وما في النار أحد أهون عذاباً منه» .(5)

والأخبار في ذلك كثيرة ، وفيما ذكرناه كفاية ، واللّه الكفيل بالهداية .

ص: 319


1- . المرسلات 77 : 33 .
2- . الكهف 18 : 29 .
3- . تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 376 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 8 ، ص 289 ، ح 27 .
4- . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 170 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 8 ، ص 280 ، ح 1 .
5- . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 257 - 258 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 8 ، ص 295 ، ح 44 .

الحديث الخامس والثلاثون :[ المعرفة من صنع اللّه ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن رئيس المحدّثين الصدوق في كتاب التوحيد ، عن أبيه ، عن محمّد بن يحيى العطّار ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد ابن أبي عمير ، عن محمّد بن حكيم ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : المعرفةُ صُنعُ مَن هي ؟ قال : «من صنع اللّه عزّ وجلّ ليس للعباد فيها صنع»(1) .

اعلم أنّ الأخبار بهذا المضمون متظافرة بل كادت أن تكون متواترة ، ولا بأس بالإشارة إلى جملة منها :

ففي الكافي والتوحيد عن الصادق عليهماالسلام : «إنّ اللّه احتجّ على الناس بما أتاهم وعرّفهم» .(2)

وعنه عليه السلام : «المعرفة من صنع اللّه ليس للعباد فيها صنع» .(3)

وعنه عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : « وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَا يَتَّقُونَ »(4) قال : «حتّى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه» .(5)

ص: 320


1- . التوحيد ، ص 410 ، ح 1 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 163 ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح 2 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 162 - 163 ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح 2 ؛ التوحيد ، ص 411 ، ح 3 .
3- . لم نعثر على هذا الحديث بهذا النصّ ، ولكن جاء بهذا المعنى في : التوحيد ، ص 226 ، ح 7 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 30 ، ح 39 .
4- . التوبة 9 : 115 .
5- . الكافي ، ج 1 ، ص 163 ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح 5 ؛ التوحيد ، ص 414 ، ح 11 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 196 ، ح 2 .

وقال : « فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا »(1) قال : «يبيّن لها ما تأتي وما تترك» .(2)

وقال : « إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً »(3) قال : «عرّفناه ، إمّا آخذ وإمّا تارك» .(4)

وعن قوله : « وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى »(5) قال : «عرّفناهم

فاستحبّوا العمى على الهدى وهم يعرفون» . وفي رواية : «بيّنّا لهم» .(6)

وعن عبد الأعلى ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : أصلحك اللّه ، هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة ؟ قال : فقال : «لا» . قلت : فهل كلّفوا المعرفة ؟ قال : «لا ، على اللّه البيان ، لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها ، ولا يكلّف اللّه نفساً إلاّ ما آتاها» .

قال : وسألته عن قوله : « وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَا يَتَّقُونَ » قال : «حتّى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه» .(7)

وعن الصادق عليه السلام قال : «ستّة أشياء ليس للعباد فيها صنع : المعرفة ، والجهل ، والرضا ، والغضب ، والنوم ، واليقظة» .(8)

وعنه عليه السلام قال : «ليس للّه على خلقه أن يعرفوا ، وللخلق على اللّه أن يعرّفهم ، وللّه على الخلق إذا عرّفهم أن يقبلوا» .(9)

ص: 321


1- . الشمس 91 : 8 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 163 ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح 3 ؛ التوحيد ، ص 411 ، ح 4 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 196 ، ح 3 .
3- . الدهر 76 : 3 .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 163 ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح 3 ؛ التوحيد ، ص 411 ، ح 4 .
5- . فصّلت 41 : 17 .
6- . الكافي ، ج 1 ، ص 163 ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح 3 ؛ التوحيد ، ص 411 ، ح 4 .
7- . الكافي ، ج 1 ، ص 163 ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح 5 ؛ التوحيد ، ص 414 ، ح 11 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 302 ، ح 10 .
8- . الكافي ، ج 1 ، ص 164 ، باب اختلاف الحجّة على عباده ، ح 1 ؛ التوحيد ، ص 411 - 412 ، ح 6 ؛ الخصال ، ص 325 ، ح 13 .
9- . الكافي ، ج 1 ، ص 164 ، باب حجج اللّه على خلقه ، ح 1 .

وسُئل عليه السلام عمّن لم يعرف شيئاً هل عليه شيء ؟ قال : «لا» .(1)

وعنه عليه السلام قال : «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» .(2)

وبالجملة ، فالأخبار بهذا المضمون كثيرة متفرّقة مرويّة في الجوامع العظام والكتب المعتبرة كالكافي ، والتوحيد ، والمحاسن ، وقرب الإسناد ، والخصال وغيرها ، وظاهر هذه الأخبار - بل صريحها - أنّ معرفة اللّه تعالى فطريّة لا نظريّة كسبيّة ، كما ذهب إليه جملة من محقّقي متأخّري المتأخّرين ، وأنّ العباد إنّما كلّفوا الانقياد إلى الحقّ وترك الاستكبار عن قبوله .

وأمّا المعارف فإنّها ممّا يلقيه اللّه في قلوب عباده عند اختيارهم الحقّ ، ثمّ يكمل ذلك يوماً فيوماً بقدر أعمالهم وطاعاتهم حتّى يوصلهم إلى درجة اليقين ، وحسبك في ذلك ما وصل إليك من سيرة النبيّين وأئمّة الدين في تكميل أصحابهم ، فإنّهم عليهم السلام لم يحملوهم على الاكتساب والنظر ، وتتبّع كتب الفلاسفة وغيرهم ، بل إنّما دعوهم أوّلاً إلى الإقرار بالتوحيد وسائر العقائد ، ثمّ تكميل النفس بالطاعات والرياضات حتّى فازوا بما سعدوا به من أعالي درجات السعادات .

قال الفاضل المحدّث الاسترآباديّ :

وقد تواترت الأخبار عن أهل بيت النبوّة متّصلة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله بأنّ معرفة اللّه - بعنوان أنّه الخالق للعالم ، وأنّ له رضى وسخطاً ، وأنّه لابدّ من معلّم من جهته تعالى ليعلّم الخلق ما يرضيه وما يسخطه - من الاُمور الفطريّة التي وقعت في القلوب بإلهام فطريّ إلهيّ ، كما قالت الحكماء : الطفل يتعلّق بثدي اُمّه بإلهام فطريّ إلهيّ .

وتوضيح ذلك : أنّه تعالى ألهمهم بتلك القضايا ، أي خلقها في قلوبهم وألهمهم بدلالات واضحة على تلك القضايا ، ثمّ أرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتاب ، فأمر فيه ونهى فيه .

وبالجملة ، لم يتعلّق بهم وجوب ولا غيره من التكاليف إلاّ بعد بلوغ خطاب

ص: 322


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 164 ، باب حجج اللّه على خلقه ، ح 2 ؛ التوحيد ، ص 412 ، ح 8 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 164 ، باب حجج اللّه على خلقه ، ح 3 ؛ التوحيد ، ص 413 ، ح 9 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 63 ، ح 33496 .

الشارع ، ومعرفة اللّه تعالى قد حصلت لهم قبل بلوغ الخطاب بطريق إلهام بمراتب ، وكلّ من بلغته دعوة النبيّ صلى الله عليه و آله يقع في قلبه من اللّه تعالى يقين بصدقه ، فإنّه تواترت الأخبار عنهم عليهم السلام بأنّه ما من أحد إلاّ وقد يرد عليه الحقّ حتّى يصدع قلبه ، قَبِله أو تركه ، فأوّل الواجبات الإقرار اللسانيّ بالشهادتين .

وكذلك تواترت الأخبار عنهم عليهم السلام بأنّه على اللّه التعريف والبيان ، وعلى الخلق أن يقبلوا ما عرّفهم اللّه تعالى .

وطريق التعريف والبيان : أنّه تعالى أوّلاً يلهمهم بتلك القضايا وكذلك يلهمهم بدلالات واضحة عليها صادعة قلوبهم ، ثمّ بعد ذلك تبلغهم دعوة النبيّ صلى الله عليه و آله ، والدلالات على صدقه ، ثمّ بعد ذلك يجب عليهم الإقرار بالشهادتين وبباقي ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله إجمالاً ، وبأنّ من لم يحصل في حقّه هذه الاُمور - سواءا كان من أهل الفترة أو كان له مانع آخر - لم يتعلّق به تكليف في دار الدنيا ، ويتعلّق به تكليف بدل ذلك يوم القيامة « لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ »(1) .

ثمّ أورد جملة وافرة من أخبار هذا الباب :

ومنها : ما رواه الصدوق في التوحيد في جملة حديث ، وفيه : أنّه سُئل الصادق عليه السلام عن المعرفة والجحود ، أهما مخلوقان ؟ فكتب عليه السلام : «إنّ المعرفة من صنع اللّه عزّ وجلّ في القلب مخلوقة ، والجحود صنع اللّه في القلب مخلوق ، وليس للعباد فيهما من صنع ، ولهم فيهما الاختيار من الاكتساب ؛ فبشهوتهم للإيمان اختاروا المعرفة فكانوا بذلك مؤمنين عارفين ، وبشهوتهم للكفر اختاروا الجحود وكانوا بذلك كافرين جاحدين ضلاّلاً ، وذلك بتوفيق اللّه لهم وخذلان من خذله اللّه ؛ فبالاختيار والاكتساب عاقبهم اللّه وأثابهم» .(2)

ثمّ قال بعد ذكر الأخبار :

هنا فوائد :

ص: 323


1- . الأنفال 8 : 42 .
2- . التوحيد ، ص 226 ، ح 7 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 30 ، ح 39 .

الاُولى : [أنه يستفاد من هذه الأحاديث(1)] غلط المعتزلة والأشاعرة ومن يحذو حذوهم ممّن وافق المعتزلة من متأخّري أصحابنا في مسألة أوّل الواجبات .

إلى أن قال :

الرابعة : أنّه يستفاد منها أنّ العباد لم يكلّفوا بتحصيل معرفة أصلاً ، وأنّه على اللّه التعريف والبيان أوّلاً بإلهام محض ، وثانياً بإرسال الرسول وإنزال الكتاب وإظهار المعجزة على يده صلى الله عليه و آله ، وعليهم قبول ما عرّفهم اللّه تعالى .

الخامسة : يستفاد من الحديث - وعنى به الحديث الأخير - أنّ الإذعان القلبيّ المتعلّق بالقواعد الإيمانيّة من اللّه تعالى ، وليس من أفعالنا الاختياريّة ، وفيه وجهان :

أحدهما : كونه ميلاً قلبيّاً طبيعيّاً يترتّب على المقدّمات الفائضة على القلب من اللّه تعالى .

وثانيهما : كونه مخلوقاً للّه تعالى ، وهو الحقّ ، وهو صريح الأحاديث .

ثمّ قال :

وهنا إشكال كان لا يزال يخطر ببالي في أوائل سنّي ، وهو : أنّه كيف تقول بأنّ التصديقات فائضة من اللّه تعالى على النفوس الناطقة ، ومنها كاذبة ، ومنها كفريّة ؟

وهذا إنّما يتّجه على رأي جمهور الأشاعرة القائلين بجواز العكس ، بأن يجعل اللّه كلّ ما حرّمه واجباً وبالعكس ، المنكرين للحسن والقبح الذاتيّين ، لا على رأي محقّقيهم ، ولا على رأي المعتزلة ، ولا على رأي أصحابنا .

اللّهمّ إلاّ أن يقال : تواترت الأخبار عنهم عليهم السلام بأنّ اللّه يحول بين المرء وبين أن يجزم جزماً باطلاً ، فبقي الإشكال في الظنّ الباطل .

ويمكن أن يقال : إنّه من الميول القلبيّة .

والإنصاف أنّ الفرق بين الجزم والظنّ بأنّ الجزم من الكيفيّات النفسانيّة الفائضة على النفوس ، والظنّ من الميول الطبيعيّة القلبيّة ، بعيد عن الصواب .

ص: 324


1- . ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر .

وأقول : الأحاديث السابقة صريحة في أنّ التصديقات القلبيّة الإيمانيّة التي يرتفع بها الشكّ مخلوقة للّه تعالى ، وللعباد اكتساب الأعمال ، وفي الأحاديث تصريحات بأنّ من جملة نعماء اللّه تعالى على بعض عباده أنّه يسلّط عليه ملكاً يسدّده ويلهمه الحقّ .

ومن جملة غضب اللّه تعالى على بعض أنّه يخلّي بينه وبين الشيطان ليضلّه عن الحقّ ويلهمه الباطل .

وأيضاً من المعلوم أنّ خلق الإذعان الغير المطابق للواقع قبيح لا يليق به تعالى .

فالجواب الحقّ عن الإشكال أن يقال : إنّ التصديقات الصادقة فائضة على القلوب من اللّه تعالى بلا واسطة أو بواسطة ملك ، وهي تكون جزماً وظنّاً ، والتصديقات الكاذبة تقع في القلوب بإلهام الشيطان ، وهي لا تتعدّى الظنّ فلا تصل إلى حدّ الجزم .

وقال :

السادسة : إنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام بأنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ، كما تواترت بأنّ المعرفة موهبة غير كسبيّة ، وإنّما عليهم اكتساب الأعمال ، فكيف يكون الجمع بينهما ؟

أقول : الذي استفدته من كلماتهم عليهم السلام في الجمع بينهما : أنّ المراد بالمعرفة ما يتوقّف عليه حجّيّة الأدلّة السمعيّة من معرفة صانع العالم وأنّ له رضاً وسخطاً ، وينبغي أن ينصب معلّماً ليعلّم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم ، ومن معرفة النبيّ والمراد بالعلم : الأدلّة السمعيّة ، كما قال صلى الله عليه و آله : العلم إمّا آية محكمة ، أو سنّة متّبعة ، أو فريضة عادلة .

وفي قول الصادق عليه السلام المتقدّم : «إنّ من قولنا : إنّ اللّه احتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ثمّ أرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتاب وأمر فيه ونهى» ، وفي نظائره إشارة إلى ذلك . ألا ترى أنّه عليه السلام قدّم أشياء على الأمر والنهي ، فتلك الأشياء كلّها معارف ، وما يستفاد من الأمر والنهي كلّه هو العلم .

قال :

السابعة : إنّ العامّة قد روت عنه صلى الله عليه و آله قريباً ممّا تقدّم ، فالأشاعرة منهم ذهبوا إلى أنّ

ص: 325

اللّه يخلق التوحيد والكفر والطاعة والمعصية في عباده ، ويمكن أن يتوهّم متوهّم أنّ ظاهر بعض الآيات وبعض الروايات معهم ، وليس الأمر كذلك ، بل معناهما أنّ اللّه تعالى كلّف الأرواح كلّهم ؛ صغيرهم وكبيرهم ، وكافرهم ومؤمنهم قبل تعلّقهم بالأبدان بثلاثة أشياء : الإقرار بالربوبيّة والنبوّة والولاية ، فأقرّ بعض بكلّها ، وبعضهم ببعض ، دون بعض ، ثمّ كلّف جمعاً منهم بعد تعلّقهم بالأبدان ، فكلّ يعمل في عالم الأبدان على وفق ما عمل في عالم الأرواح .

وأمّا إنّه تعالى هو المضلّ فقد تواترت الأخبار عنهم بأنّ اللّه تعالى يخرج العبد من الشقاوة إلى السعادة ، ولا يخرجه من السعادة إلى الشقاوة ، فلابدّ من الجمع بينهما ، ووجه الجمع - كما يستفاد من الأحاديث وإليه ذهب ابن بابويه - أنّ من جملة غضب اللّه تعالى على بعض العباد أنّه إذا وقع منهم عصيان ينكت نكتة سوداء في قلبه ؛ فإن تاب وأناب يزيل اللّه تعالى تلك النكتة ، وإلاّ فتنتشر تلك النكتة حتّى تستوعب قلبه كلّه ، فحينئذٍ لا يلتفت قلبه إلى موعظة ودليل .

لا يقال : من المعلوم أنّه غير مكلّف بعد ذلك ؛ لأنّه إذا امتنع تأثّر قلبه فيكون التكليف من قبيل التكليف بما لا يطاق .

لأنّا نقول : من المعلوم أنّ انتشار تلك النكتة لا ينتهي إلى حدّ تعذُّر التأثّر .

وممّا يؤيّد هذا المقام ما اشتمل عليه كثير من الأدعية المأثورة من أهل بيت النبوّة من الاستعاذة باللّه من ذنب لا يوفّق صاحبه للتوبة بعده أبداً .(1)

انتهى كلامه ملخّصاً ، وإنّما نقلناه بطوله لما فيه من الفوائد .

[الجمع بين وجوب المعرفة على العباد وأنّ المعرفة من صنع اللّه]

وأقول : هذا ما يقتضيه الأخبار المذكورة ، وأمّا تطبيقها على ما ذهب إليه أكثر أصحابنا والمعتزلة والأشاعرة من أنّ معرفته تعالى نظريّة واجبة على العباد ، وأنّه تعالى كلّفهم بالنظر والاستدلال فيها ، إلاّ أنّ الأشاعرة قالوا : يجب معرفته تعالى نقلاً بالنظر ، والمعرفة بعده من صنع اللّه بطريق العادة ، والمعتزلة ومن يحذو حذوهم قالوا : يجب

ص: 326


1- . انظر : الفوائد المدنيّة ، ص 407 - 449 .

معرفته عقلاً بالنظر ، والمعرفة بعده من صنع العبد يولدها النظر ، كما أنّ حركة اليد تولد حركة المفتاح .

ثمّ إنّهم اختلفوا في أوّل واجب ، فقال الأشعريّ : هو معرفته تعالى ؛ إذ هو أصل المعارف والعقائد الدينيّة وعليه يتفرّع كلّ واجب من الواجبات الشرعيّة .

وقيل : هو النظر في معرفته تعالى ؛ لأنّ المعرفة تتوقّف عليه ، وهو المحكيّ عن جمهور المعتزلة .

وقيل : هو أوّل جزء منه ؛ لأنّ وجوب الكلّ يستلزم وجوب أجزائه ، فأوّل جزء من النظر واجب ومقدّم على النظر المتقدّم على المعرفة .

وقيل : هو القصد إلى النظر ؛ لأنّ النظر فعل اختياريّ مسبوق بالقصد المتقدّم على أوّل جزء من أجزاء النظر .(1)

إلى غير ذلك من مزخرفاتهم ، فيحتاج تطبيق هذه الأخبار إلى تكلّفات ، ويمكن أن توجّه بوجوه :

الأوّل : أنّ المراد بها العلم بوجوده سبحانه وتعالى ، فإنّه ممّا فطر اللّه العباد عليه إذا خلّوا أنفسهم عن المعصية والأغراض الدنيويّة كما قال تعالى : « وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ »(2) ، وبه فسّر قوله صلى الله عليه و آله : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» ، أي من وصل إلى حدّ يعرف نفسه فيوقن بأنّ له خالقاً ليس له مثله .

الثاني : أن يراد بها كمال المعرفة ، فإنّه من قِبَل اللّه تعالى بسبب كثرة الطاعات والعبادات والرياضات .

الثالث : أن يكون المراد بها معرفة غير ما يتوقّف عليه العلم بصدق الرسل ، فإنّ ما سوى ذلك إنّما نعرفه بما عرّفنا اللّه على لسان أنبيائه وحججه .

الرابع : أن يكون المراد بها معرفة الأحكام الشرعيّة ؛ لعدم استقلال النظر فيها .

ص: 327


1- . الفوائد المدنيّة ، ص 406 .
2- . لقمان 31 : 25 .

الخامس : أن يكون المراد أنّها ممّا تحصل بتوفيقه تعالى للاكتساب .

وذهب الحكماء إلى أنّ العلّة الفاعليّة للمعرفة - تصوّريّاً كان أو تصديقيّاً ، بديهيّاً كان أو نظريّاً ، شرعيّاً كان أو غيره - ، إنّما يفيضه اللّه تعالى في الذهن بعد حصول استعداد له بسبب الإحساس ، أو التجربة ، أو النظر ، أو الفكر ، أو الاستماع من المعلّم أو غير ذلك ، فهذه الاُمور معدّات ، والعبد كاسب .

ص: 328

الحديث السادس والثلاثون :[ كلّ مولود يولد على الفطرة ]

ما رويناه بأسانيدنا المتقدّمة عن ابن أبي جمهور في عوالي اللآلي قال : قال النبيّ صلى الله عليه و آله : «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه»(1) .

توضيح :

قال السيّد المرتضى رضى الله عنه بعد نقل بعض التأويلات عن المخالفين :

والصحيح في تأويله أنّ قوله عليه السلام : «يولد على الفطرة» يحتمل أمرين :

أحدهما : أن تكون «الفطرة» هاهنا الدين ، وتكون «على» بمعنى اللام ، فكأنّه صلى الله عليه و آله قال : كلّ مولود يولد للدين ، ومن أجل الدين ؛ لأنّ اللّه تعالى لم يخلق من يبلغه مبلغ المكلّفين إلاّ ليعبده فينتفع بعبادته ، يشهد بذلك قوله تعالى : « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ »(2) .

ثمّ قال : وإنّما ساغ أن يريد بالفطرة - التي هي الخلقة - في اللغة الدين من حيث كان هو المقصود بها ، وقد يجري على الشيء اسم مالَه به هذا الضرب من التعلّق والاختصاص ، وعلى هذا يتأوّل قوله تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا »(3) أراد دين اللّه الذي خلق الخلق له .

وقوله تعالى : « لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ »(4) أراد به أنّ ما خلق اللّه العباد له من الطاعة

ص: 329


1- . عوالي اللآلي ، ج 1 ، ص 35 ؛ وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 125 ، ح 20130 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 281 ، ح 22 .
2- . الذاريات 51 : 56 .
3- . الروم 30 : 30 .
4- . الروم 30 : 30 .

والعبادة ليس ممّا يتغيّر ويختلف حتّى يخلق قوماً للطاعة ، وآخرين للمعصية ، ويجوز أن يريد بذلك الأمر ، وإن كان ظاهره ظاهر الخبر ، فكأنّه قال : لا تبدّلوا ما خلقكم اللّه له من الدين والطاعة بأن تعصوا وتخالفوا .

والوجه الآخر في تأويل قوله : «على الفطرة» أن يكون المراد به الخلقة ، وتكون لفظة «على» على ظاهرها لم يُرَد بها غيره ، ويكون المعنى : كلّ مولود يولد على الخلقة الدالّة على وحدانيّة اللّه وعبادته والإيمان به ؛ لأنّه عزّ وجلّ قد صوّر الخلق

وخلقهم على وجه يقتضي النظر فيه معرفته والإيمان به وإن لم ينظروا ولم يعرفوا ، فكأنّه صلى الله عليه و آله قال : كلّ مخلوق ومولود ، فهو يدلُّ بصورته وخلقته على عبادة اللّه تعالى وإن عدل بعضهم فصار يهوديّاً أو نصرانيّاً ، فهذا الوجه أيضاً يحتمله قوله تعالى : « فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا » .

وإذا ثبت ما ذكرناه في معنى الفطرة ، فقوله صلى الله عليه و آله : «حتّى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه» يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّ من كان يهوديّاً أو نصرانيّاً ممّن خلقتُه لعبادتي وديني فإنّما جعله أبواه كذلك ، أو من جرى مجراهما ممّن أوقع له الشبهة ، وقلّده الضلال عن الدين ، وإنّما خصّ الأبوين لأنّ الأولاد في الأكثر ينشؤون على مذاهب آبائهم ، ويألفون أديانهم ونحلتهم ، ويكون الغرض بالكلام تنزيه اللّه تعالى عن ضلال العباد وكفرهم ، وأنّه إنّما خلقهم للإيمان فصدّهم عنه آباؤُهم ، أو من جرى مجراهم .

والوجه الآخر أن يكون «يهوّدانه وينصّرانه» أي يلحقانه بأحكامهما ؛ لأنّ أطفال أهل الذمّة قد ألحق الشرع أحكامهم بأحكامهم ، فكأنّه صلى الله عليه و آله قال : لا تتوهّموا - من حيث لحقت أحكام اليهود والنصارى أطفالهم - أنّهم خلقوا لدينهم ، بل لم يخلقوا إلاّ للإيمان والدين الصحيح ، لكنّ آباءهم هم الذين أدخلوهم في أحكامهم .(1) انتهى ملخّصاً .

أقول : لا يحتاج في تأويل الخبر إلى هذه التكلّفات والتأويلات ، ولا إشكال في إبقائه على ظاهره ، فإنّ الظاهر من الآيات والأخبار أنّ اللّه تعالى قرّر عقول الخلق على

ص: 330


1- . الأمالي ، ج 4 ، ص 3 - 4 .

التوحيد ، والإقرار بالصانع في بدء الخلق عند الميثاق ، فقلوب جميع الخلق مذعنة بذلك وإن جحدوه معاندةً ، بناءاً على ما تحقّق سابقاً أنّ معرفته تعالى فطريّة فطر قلوب الخلق عليها .

وروى الصدوق في التوحيد بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ : « حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ »(1) ، وعن الحنيفيّة ، قال : «هي الفطرة التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق اللّه» ، قال : «فطرهم على المعرفة» .

قال زرارة : وسألته عن قول اللّه عزّ وجلّ : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى »(2) قال : «أخرج من ظهر آدم ذرّيّته إلى يوم القيامة ، فخرجوا كالذرّ فعرّفهم وأراهم صنعه ، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربّه» .

وقال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : كلّ مولود يولد على الفطرة ، يعني : على المعرفة بأنّ اللّه عزّ وجلّ خالقه ، وذلك قوله تعالى : « وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ »(3) .(4)

وعن العلا عن الصادق عليه السلام قال : سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ : « فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا »(5) قال : «التوحيد»(6) .

وعن هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام قال : قلت : « فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا » ؟ قال : «التوحيد»(7) .

ص: 331


1- . الحج 22 : 31 .
2- . الأعراف 7 : 172 .
3- . لقمان 31 : 25 .
4- . التوحيد ، ص 330 - 331 ، ح 9 ؛ الكافي ، ج 2 ، ص 12 - 13 ، باب فطرة الخلق على التوحيد ، ح 4 .
5- . الروم 30 : 30 .
6- . التوحيد ، ص 328 ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 277 ، ح 4 .
7- . التوحيد ، ص 328 - 329 ، ح 2 ؛ الكافي ، ج 2 ، ص 12 ، باب فطرة الخلق على التوحيد ، ح 1 .

وعن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ « فِطْرَتَ اللَّهِ »الآية ، ما تلك الفطرة ؟ قال : «هي الإسلام ، فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد ، فقال : « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ » وفيه المؤمن والكافر»(1) .

وعن زرارة عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى : « فِطْرَتَ اللَّهِ » الآية ، قال : «فطرهم على التوحيد»(2) .

وعن الحلبيّ عنه عليه السلام في الآية ، قال : «فطرهم على التوحيد»(3) .

وعن زرارة عنه عليه السلام في الآية ، قال : «فطرهم جميعاً على التوحيد»(4) .

وعنه عليه السلام فيها ، قال : «التوحيد ، ومحمّد رسول اللّه وعليّ أميرالمؤمنين»(5) .

وعن زرارة ، عن الباقر عليه السلام في الآية ، قال : «فطرهم على التوحيد عند الميثاق على معرفة أنّه ربّهم» . قلت : وخاطبوه ؟ قال : فطأطأ رأسه ، ثمّ قال : «لولا ذلك لم يعلموا مَن ربّهم ومَن رازقهم»(6) .

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فإنّ بكاءهم أربعة أشهر : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأربعة أشهر الصلاة على النبيّ وآله ، وأربعة أشهر الدعاء لوالديه»(7) ، إلى غير ذلك من الأخبار .

وقال بعض المحقّقين : الحقّ الحقيق بالتصديق أنّ التصديق بوجوده تعالى أمر فطريّ ، ولذا ترى الناس عند الوقوع في الأهوال وصعاب الأحوال يتكلّمون بحسب الجبلّة على اللّه ، ويتوجّهون توجّهاً غريزيّاً إلى مسبّب الأسباب ومسهّل الاُمور

ص: 332


1- . التوحيد ، ص 329 ، ح 3 ؛ الكافي ، ج 2 ، ص 12 ، باب فطرة الخلق على التوحيد ، ح 2 .
2- . التوحيد ، ص 329 ، ح 4 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 277 ، ح 6 .
3- . التوحيد ، ص 329 ، ح 5 ؛ الكافي ، ج 2 ، ص 13 ، باب فطرة الخلق على التوحيد ، ح 5 .
4- . التوحيد ، ص 329 ، ح 6 ؛ الكافي ، ج 2 ، ص 12 ، باب فطرة الخلق على التوحيد ، ح 3 .
5- . التوحيد ، ص 329 - 330 ، ح 7 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 278 ، ح 9 .
6- . التوحيد ، ص 330 ، ح 8 ؛ بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 278 ، ح 10 .
7- . التوحيد ، ص 331 ، ح 10 ؛ وسائل الشيعة ، ج 21 ، ص 447 ، ح 27544 .

الصعاب ، وإن لم يتفطّنوا لذلك ، ويشهد لهذا قول اللّه عزّ وجلّ : « وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ »(1) ، « قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ »(2) .

وفي تفسير مولانا العسكريّ عليه السلام أنّه سُئل مولانا الصادق عليه السلام عن اللّه ، فقال للسائل : «يا عبداللّه ، هل ركبت سفينة قطّ ؟» قال : بلى . قال : «فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك ؟» قال : بلى . قال : «فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟» قال : بلى . قال الصادق عليه السلام : «فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حين لا منجي ، وعلى الإغاثة حين لا مغيث» .(3)

قيل : وفي قوله سبحانه : « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ » إشارة لطيفة إلى ذلك ، فإنّه سبحانه استفهم منهم الإقرار بربوبيّته لابوجوده ، تنبيهاً على أنّهم كانوا مقرّين بوجوده في بداية عقولهم وفطرة نفوسهم .

وقال النبيّ صلى الله عليه و آله : «اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا : لا إله إلاّ اللّه» .(4)

ولهذا أيضاً اُمر الأنبياء عليهم السلام بقتل من أنكر وجود الصانع فجأةً بلا استتابة ولا عتاب ؛ لأنّه منكر ما هو من ضروريّات الاُمور ، وقال تعالى : « أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ »(5) .

وقال السيّد ابن طاوس في جملة وصاياه لولده :

إنّني وجدت كثيراً ممّن رأيته وسمعت به من علماء الإسلام قد ضيّقوا على الأنام ما كان سهّله اللّه جلّ جلاله ورسوله من معرفة مولاهم ومالك دنياهم واُخراهم ، فإنّك تجد كتب اللّه عزّ وجلّ السالفة والقرآن الشريف مملوّة من التنبيهات على

ص: 333


1- . لقمان 31 : 25 .
2- . الأنعام 6 : 40 و41 .
3- . تفسير الإمام العسكري عليه السلام ، ص 22 ، ح 6 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 41 ، ح 16 .
4- . تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 171 ؛ مستدرك الوسائل ، ج 18 ، ص 206 ، ح 22503 .
5- . إبراهيم 14 : 10 .

الدلالات على معرفة محدث الحادثات ومغيّر المتغيّرات ومقلّب الأوقات ، وترى علوم سيّدنا خاتم الأنبياء وعلوم من سلف من الأنبياء على سبيل كتب اللّه جلّ جلاله المنزلة عليهم في التنبيه اللطيف والتشريف بالتكليف ، ومضى على ذلك الصدر الأوّل من علماء المسلمين إلى أواخر من كان ظاهراً من الأئمّة المعصومين عليهم السلام .

فإنّك تجد من نفسك بغير إشكال أنّك لم تخلق جسدك ولا روحك ، ولا صورتك ولا عقلك ، ولا ما خرج من اختيارك من الآمال والأحوال والآجال ، ولا خلق ذلك أبوك ولا اُمّك ولا من تقلّبتَ بينهم من الآباء والاُمّهات ؛ لأنّك تعلم يقيناً أنّهم كانوا عاجزين عن هذه المقامات ، ولو كان لهم قدرة على تلك المهمّات ما كان قد حيل بينهم وبين المرادات وصاروا من الأموات .

فلم يبق مندوحة أبداً عن واحد منزّه عن إمكان المتجدّدات ، خلق هذه الموجودات ، وإنّما تحتاج أن تعلم ما هو عليه جلّ جلاله من الصفات ، ولأجل شهادة العقول الصريحة والأفهام الصحيحة بالتصديق بالصانع أطبقوا جميعاً على فاطر وخالق ، وإنّما اختلفوا في ماهيّته وحقيقة ذاته وفي صفاته بحسب اختلاف الطرايق .(1) انتهى كلامه رفع مقامه .

ص: 334


1- . كشف المحجّة ، ص 48 .

الحديث السابع والثلاثون :[ خلافة مروان بن محمّد ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن الحميريّ في قرب الإسناد ، عن أحمد ، عن البزنطيّ ، قال : قلت للرضا عليه السلام : إنّ رجلاً من أصحابنا سمعني وأنا أقول : إنّ مروان بن محمّد لو سُئل عنه صاحب القبر ما كان عنده منه علم ، فقال الرجل : إنّما عنى بذلك أبابكر وعمر ، فقال : «لقد جعلهما في موضع صدق ، قال جعفر بن محمّد : إنّ مروان بن محمّد لو سأل عنه محمّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما كان عنده منه علم ، لم يكن من الملوك الذين سُمّوا له وإنّما كان له أمر طرأ»(1) .

قال أبو عبداللّه وأبو جعفر وعليّ بن الحسين والحسين بن عليّ والحسن بن عليّ وعليّ بن أبي طالب عليهم السلام : «واللّه ، لولا آية في كتاب اللّه لحدّثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة : « يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ »»(2) .(3)

بيان :

قال العلاّمة المحدّث المجلسيّ رحمه الله : مروان بن محمّد هو الذي من خلفاء بني اُميّة ، وكانت خلافته من الاُمور الغريبة كما يظهر من السِيَر ، والمقصود أنّ خلافته كانت من الاُمور البدائيّة التي لم تصل إلى النبيّ في حياته ، فلو كان صلى الله عليه و آله سُئل في حياته عن هذا الأمر لم يكن له علم بذلك ؛ لأنّ مروان لم يكن من الملوك الذين سمّوا للنبيّ ، فالمراد

بصاحب القبر : الرسول .

ص: 335


1- . قرب الإسناد ، ص 353 ، ح 1265 ؛ بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 97 ، ح 5 .
2- . الرعد 13 : 39 .
3- . قرب الإسناد ، ص 353 ، ح 1266 ؛ بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 97 ، ح 5 .

ولمّا حمله السامع على الشيخين ، قال عليه السلام : قد جعل الرجل هذين الرجلين في موضع صدق وأكرمهما حيث جعلهما جاهلين بهذا الأمر ، مع أنّهما ليسا في معرض العلم بالاُمور المغيّبة حتّى ينفي خصوص ذلك عنهما . هكذا حقّق هذا الخبر ، وكن من الشاكرين(1) .

أقول : ويحتمل أن يكون المراد أنّه لو سُئل صلى الله عليه و آله عن سلطنة مروان الحمار ، هل هو من جملة بني اُميّة الذين رآهم النبيّ صلى الله عليه و آله ينزون على المنبر كالقردة كما اُشير إليه في القرآن بقوله تعالى : « وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ »(2) لما كان عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله منه علم ومن سلطنته ؛ لحقارة سلطنته ورذالته(3) ، وأنّه لم يكن في عداد أحدٍ ، أو أنّه لم يره بشخصه النبيّ صلى الله عليه و آله كما رأى غيره حتّى يكون عنده منه علم ، والآية الأخيرة تدلُّ على أنّ البداء يقع في العلوم التي تصل إلى الأئمّة ، وقد تقدّم تحقيق ذلك .

ص: 336


1- . بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 97 .
2- . الإسراء 17 : 60 .
3- . قلت : هذا الاحتمال لا يستقيم ؛ لما هو معروف من أنّ مروان الحمار كان من أدهى ملوكهم ، وبدهائه وخبثه استولى على الملك ؛ مع أنّ أباه لم يكن ملكاً ولا وليّ عهد ، وكيفيّة استيلائه مشهورة في التأريخ ، والذي أراه في تأويل الحديث : أنّ مروان في الواقع لم يكن من بني اُميّة الذين رآهم النبيّ صلى الله عليه و آله ينزون على منبره نزو القردة ؛ لأنّ اُمّه كانت أمة لإبراهيم بن الأشتر رحمهماالله واتّهبها محمّد من ثقله يوم قتله وكانت حاملاً بمروان فولدته على فراشه ، ولذلك كان أهل خراسان ينادونه عند المحاربة : يابن الأشتر ، فقال عدوّ اللّه : ما اُبالي أيّ الفحلين غلب عَلَيّ ، وتجدون قصّته مفصّلة في شرح النهج في المجلّد الثاني ص214 ، وعلى هذا فيتّجه عدم رؤية النبيّ صلى الله عليه و آله إيّاه ينزو على المنبر ؛ لأنّه دعيّ فيهم وإنّما رأى صلى الله عليه و آله الأمويّين وليس الخبيث هذا منهم . ش

الحديث الثامن والثلاثون :[ نحن المثاني ]

ما رويناه بالأسانيد السابقة عن عليّ بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن الباقر عليه السلام قال : «نحن المثاني التي أعطاها اللّه نبيّنا صلى الله عليه و آله ، ونحن وجه اللّه نتقلّب في الأرض بين أظهركم ، عرفنا من عرفنا ، وجهلنا من جهلنا ، من عرفنا فأمامه اليقين ، ومن جهلنا فأمامه السعير»(1) .

إيضاح :

قوله عليه السلام : «نحن المثاني» إشارة إلى قوله تعالى مخاطباً لنبيّه صلى الله عليه و آله : « وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ »(2) ، والمعروف بين المفسّرين أنّ السبع المثاني سورة الفاتحة ، وقيل : هي السور السبع الطوال ، وقيل : مجموع القرآن ، لقسمته أسباعاً ، و«من المثاني» بيان للسبع ، وهي من التثنية ،أو الثناء ، فإنّ كلّ ذلك مثنّى تكرّر قراءته وألفاظه وقصصه ومواعظه ، أو مثنّى بالبلاغة والإعجاز ، أو مثنٍ على اللّه بما هو أهله من صفاته العظمى ، وأسمائه الحسنى .

ويمكن أن يراد بالمثاني القرآن ، أو كتب اللّه كلّها ، فتكون لفظة «من» للتبعيض ، وقوله : «والقرآن العظيم» من عطف العام على الخاص ، أو الكلّ على الجزء ، إن اُريد ب «السبع» الآيات ، أو السور ، وإن اُريد به الأسباع فمن عطف أحد الوصفين على الآخر .

هذا ما يتعلّق بالآية بحسب ما قاله المفسّرون .

ص: 337


1- . تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 377 ، في تفسير الآية « وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَاً مِنَ المَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ » ؛ و عنه في بحار الأنوار ، ج 24 ، ص 114 ، ح 1 .
2- . الحجر 15 : 87 .

وأمّا على ما فسّره عليه السلام من أنّ المراد بالمثاني هم عليهم السلام فيمكن أن يكون مأخوذاً من التثنية ؛ لكونهم عليهم السلام قرنوا بالكتاب وجعلوا ثاني اثنين بالنسبة إليه في قوله صلى الله عليه و آله : «إنّي مخلّف فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»(1) .

أو لكونهم عليهم السلام قرنوا ثانياً بالنبيّ ؛ لأنّه صلى الله عليه و آله هو الحجّة الاُولى ، وهم الحجّة الثانية ؛ لكونهم خلفاءه وأوصياءه .

أو لأنّ لهم عليهم السلام جهتين : جهة روحانيّة متّصلة بعالم القدس والعلوّ والارتباط بذاته تعالى ، وجهة بشريّة مرتبطة بالمخلوقين ، أو من الثناء ، أي من الذين يثنون على اللّه حقّ الثناء . هذا كلّه لتوجيه المثاني .

وأمّا بالنسبة إلى توجيه (السبع) فيمكن من حيث أنّ المعصومين ما عدى النبيّ أسماؤهم سبعة والباقي متكرّر ، فيكون معنى الآية : ولقد آتيناك يا أحمد من النسل سبعاً ، أي سبعة أسماء الذين هم فاطمة وعليّ ونسلهما الغرر ، وفيه نوع من التغليب .

أو يكون المعنى : قد أعطيناكَ من تقرّ بهم عينك من الحجج سبعة أسماء ، فلا تغليب .

ويحتمل أن يكون الوجه فيتخصيص السبع لانتشار العلم من سبعة منهم عليهم السلام .

ويحتمل أن يكون معنى كونهم سبعاً من المثاني سبعاً مثنّاة ، أي متكرّرات مرّتين ، فيكونون أربعة عشر ، وهم أربعة عشر بناءاً على عدم التغاير بين المعطي والمعطى له .

أو يكون ما عدى النبيّ وبضميمة القرآن أربعة عشر بجعل الواو في القرآن العظيم للمعيّة .

ويحتمل أن يكون المراد : نحن المقصودون الممدوحون في السبع المثاني التي هي الفاتحة ؛ لأنّها مشتملة على وصفهم ومدحهم ومدح طريقتهم وذمّ أعدائهم وطريقتهم في قوله تعالى : « اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ »(2) .

ص: 338


1- . تحف العقول ، ص 425 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 522 ، المجلس 79 ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 188 ، ح 33565 .
2- . الفاتحة 1 : 6 و7 .

وقوله عليه السلام : «فأمامه اليقين» أي الموت ، فإنّه المراد بقوله تعالى : « وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ »(1) .

ويكون إشارة إلى حضورهم عليهم السلام عند الموت لدى أوليائهم وبشارتهم لهم بالجنّة ووصيّتهم ملك الموت بالرفق بهم كما ورد في جملة من الأخبار .

أو يكون المراد أنّ معرفته بنا تنكشف له عند الموت وتكون يقيناً .

ومعنى كونهم عليهم السلام وجه اللّه أنّهم يتوجّه بهم إلى اللّه تعالى .

ص: 339


1- . الحجر 15 : 99 .

الحديث التاسع والثلاثون :[ إنّ القضاء والقدر خلقان من خلق اللّه ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن الشيخ الصدوق في التوحيد ، عن أبيه ، عن سعد بن عبداللّه ، عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبي عمير عن جميل بن درّاج ، عن زرارة ، عن عبداللّه بن سليمان ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : سمعته يقول : «إنّ القضاء والقدر خلقان من خلق اللّه ، واللّه يزيد في الخلق ما يشاء»(1) .

إيضاح :

قال المفيد رحمه الله :

القضاء على أربعة أضرب : أحدها : الخلق ، والثاني : الأمر ، والثالث : الإعلام ، والرابع : القضاء بالحكم .

فأمّا شاهد الأوّل فقوله تعالى : « فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ »(2) ، وأمّا الثاني فقوله تعالى : « وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ »(3) ، وأمّا الثالث فقوله تعالى : « وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ »(4) ، وأمّا الرابع فقوله تعالى : « وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ »(5) ، يعني يفصل الحكم بالحقّ بين الخلق ، وقوله تعالى : « وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ »(6) .

ص: 340


1- . التوحيد ، ص 364 ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 111 ، ح 36 .
2- . فصّلت 41 : 12 .
3- . الإسراء 17 : 23 .
4- . الإسراء 17 : 4 .
5- . المؤمن 40 : 20 .
6- . الزمر 39 : 69 .

وقد قيل : إنّ للقضاء معنى خامساً وهو الفراغ من الأمر ، واستُشهد على ذلك بقول يوسف عليه السلام : « قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ »(1) يعني فرغ منه ، وهذا يرجع إلى معنى الخلق .

وإذا ثبت ما ذكرناه في أوجه القضاء بطل قول المجبّرة : أنّ اللّه تعالى قضى بالمعصية على خلقه ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكونوا يريدون به أنّ اللّه خلق العصيان في خلقه فكان يجب أن يقولوا : قضى في خلقه بالعصيان ولا يقولوا قضى عليهم ؛ لأنّ الخلق فيهم لا عليهم ، مع أنّ اللّه تعالى قد أكذب من زعم أنّه خلق المعاصي بقوله سبحانه : « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ »(2) كما مرّ .

ولا وجه لقولهم : قضى المعاصي على معنى أنّه أمر بها ؛ لأنّه تعالى قد أكذب مدّعي ذلك بقوله : « إِنَّ اللّهَ لاَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ »(3) .

ولا معنى لقول من زعم : أنّه قضى بالمعاصي على معنى أنّه أعلم الخلق بها ؛ إذ كان الخلق لا يعلمون أنّهم في المستقبل يطيعون أو يعصون ، ولا يحيطون علماً بما يكون منهم في المستقبل على التفصيل ، ولا وجه لقولهم : أنّه قضى بالذنوب على معنى أنّه حكم بها بين العباد ؛ لأنّ أحكام اللّه تعالى حقّ والمعاصي منهم ، ولا لذلك فائدة ، وهو لغو بالاتّفاق ؛ فبطل قول من زعم أنّ اللّه تعالى يقضي بالمعاصي والقبايح .

والوجه عندنا في القضاء والقدر - بعد الذي بيّنّاه - أنّ للّه تعالى في خلقه قضاءاً وقدراً ، وفي أفعالهم أيضاً قضاءاً وقدراً معلوماً ، ويكون المراد بذلك أنّه قد قضى في أفعالهم الحسنة بالأمر بها ، وفي أفعالهم القبيحة بالنهي عنها ، وفي أنفسهم بالخلق لها ، وفيما فعله فيهم بالإيجاد له ، والقدر منه سبحانه فيما فعله ، إيقاعه في حقّه وموضعه ، وفي أفعال عباده ما قضاه فيها من الأمر والنهي والثواب والعقاب ؛ لأنّ ذلك كلّه واقع موقعه وموضوع في مكانه ، لم يقع عبثاً ولم

ص: 341


1- . يوسف 12 : 41 .
2- . السجدة 32 : 7 .
3- . الأعراف 7 : 28 .

يوضع باطلاً ، فإذا فُسّر القضاء في أفعال اللّه تعالى والقدر بما شرحناه زالت الشبهة منه وثبتت الحجّة به ، ووضح الحقّ فيه لذوي العقول ، ولم يلحقه فساد ولا اختلال(1) . انتهى كلامه رحمه الله .

وقال الصدوق في التوحيد :

نقول : إنّ اللّه تبارك وتعالى قد قضى جميع أفعال العباد وقدّرها ، وجميع ما يكون في العالم من خير وشرّ ، والقضاء قد يكون بمعنى الإعلام كما قال اللّه عزّ وجلّ : « وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ »(2) يريد : أعلمناهم ، كما قال تعالى : « وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ »(3) يريد : أخبرناهم

وأعلمناهم ، فلا ننكر أن يكون اللّه عزّ وجلّ يقضي أعمال العباد وسائر ما يكون من خير وشرّ على هذا المعنى ؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ عالم بها أجمع ، ويصحّ أن يُعلمها عباده .

وقد يكون القدر أيضاً في معنى الكتاب والإخبار ، كما قال اللّه عزّ وجلّ : « إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ »(4) يعني كتبناها وأخبرنا .

وقال العجّاج :

واعلم بأنّ ذا الجلال قد قدر *** في الصحف الاُولى التي كان سطر

وقدّر معناه : كتب .

وقد يكون القضاء بمعنى الحكم والإلزام ، قال اللّه عزّ وجلّ : « وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانَاً »(5) يريد : حكم بذلك وألزمه خلقه .

وقد يجوز أن يقال : إنّ اللّه قضى من أعمال العباد على هذا المعنى ما قد ألزمه عباده وحكم به عليهم ، وهي الفرائض دون غيرها .

ص: 342


1- . تصحيح اعتقادات الإماميّة ، ص 54 - 56 .
2- . الإسراء 17 : 4 .
3- . الحجر 15 : 66 .
4- . النمل 27 : 57 .
5- . الإسراء 17 : 23 .

وقد يجوز أيضاً أن يقدّر اللّه عزّ وجلّ أعمال العباد بأن يبيّن مقاديرها وأحوالها من حسن وقبح وفرض ونفل وغير ذلك ، ويفصّل من الأدلّة على ذلك ما يعرف به هذه الأحوال لهذه الأفعال ، فيكون عزّ وجلّ مقدّرا لها في الحقيقة ، وليس يقدّرها ليعرف مقدارها ولكن ليبيّن لغيره ممّن لا يعرف ذلك حال ما قدّره بتقديره إيّاه ، وهذا أظهر من أن يخفى ، وأبين من أن يحتاج إلى الاستشهاد .

ألا ترى أنّا قد نرجع إلى أهل المعرفة بالصناعات في تقديرها لنا ، فلا يمنعهم علمهم بمقاديرها من أن يقدّروها لنا ليبيّنوا لنا مقاديرها ، وإنّما أنكرنا أن يكون اللّه عزّ وجلّ حكم بها على عباده ومنعهم من الانصراف عنها أو أن يكون فَعَلها وكوّنها ؛ فأمّا أن يكون عزّ وجلّ خلقها خلق تقدير فلا ننكره .

وسمعت بعض أهل العلم يقول : إنّ القضاء على عشرة أوجه :

فأوّل وجهٍ منها : العلم ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : « إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا »(1) ، يعني : علمها .

والثاني : الإعلام ، وهو قوله عزّ وجلّ : « وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ »(2)

وقوله عزّ وجلّ : « وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذلِكَ الأَمْرَ »(3) ، أي أعلمناه .

والوجه الثالث : الحكم ، وهو قوله عزّ وجلّ : « يَقْضِي بِالْحَقِّ »(4) ، أي يحكم .

[والوجه الرابع : القول ، وهو قوله عزّ وجلّ « وَ اللّهِ يَقْضِي بِالْحَقِّ »(5) أي يقول

بالحقّ(6)] .

والوجه الخامس : الحتم ، وهو قوله عزّ وجلّ : « فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ »(7)

يعني : حتمنا وهو القضاء الحتم .

ص: 343


1- . يوسف 12 : 68 .
2- . الإسراء 17 : 4 .
3- . الحجر 15 : 66 .
4- و 5 . المؤمن 40 : 20 .
5-
6- . ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر .
7- . سبأ 34 : 14 .

والوجه السادس : الأمر ، وهو قوله عزّ وجلّ : « وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ »(1)

يعني : أمر ربّك .

والوجه السابع : الخلق ، وهو قوله عزّ وجلّ : « فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ »(2) يعني : خلقهنّ .

والوجه الثامن : الفعل ، وهو قوله عزّ وجلّ : « فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ »(3) ، يعني افعل ما أنت فاعل .

والوجه التاسع : الإتمام ، وهو قوله عزّ وجلّ : « فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ »(4) ، وقوله عزّ وجلّ حكاية عن موسى : « أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ »(5) ، أي أتممت .

والوجه العاشر : الفراغ من الشيء ، وهو قوله عزّ وجلّ : « قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ »(6) ، يعني فرغ لكما منه ، وقول القائل : قد قضيت لك حاجتك ، يعني فرغت لك منها .

ويجوز أن يقال : أنّ الأشياء كلّها بقضاء اللّه وقدره تبارك وتعالى ، يعني أنّ اللّه قد علمها وعلم مقاديرها ، وله في جميعها حكم من خير أو شرّ ، فما كان من خير فقد قضاه ، يعني أنّه أمر به وحتمه وجعله حقّاً وعلم مبلغه ومقداره ، وما كان من شرّ

فلم يأمر به ولم يرضه ، ولكنّه عزّ وجلّ قد قضاه وقدّره بمعنى أنّه علمه بمقداره ومبلغه وحكم فيه بحكمه .(7) انتهى .

وقال العلاّمة رحمه الله في شرح التجريد :

ص: 344


1- . الإسراء 17 : 23 .
2- . فصّلت 41 : 12 .
3- . طه 20 : 72 .
4- . القصص 28 : 29 .
5- . القصص 28 : 28 .
6- . يوسف 12 : 41 .
7- . التوحيد ، ص 384 - 385 ، ذيل الحديث 32 .

يطلق القضاء على الخلق والإتمام . قال اللّه تعالى : « فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ »(1) ، أي خلقهنّ وأتمّهنّ .

وعلى الحكم والإيجاب كقوله تعالى : « وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ »(2) ، أي أوجب وألزم .

وعلى الإعلام والإخبار كقوله تعالى : « وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ »(3) ، أي أعلمناهم وأخبرناهم .

ويطلق القدر على الخلق كقوله تعالى : « وَقَدَّرَ فِيهَا اقْوَاتَهَا »(4) .

والكتابة كقول الشاعر :

واعلم بأنّ ذا الجلال قد قدر *** في الصحف الاُولى التي كان سطر

والبيان كقوله تعالى : « إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ »(5) ، أي بيّنّا وأخبرنا بذلك .

إذا ظهر هذا فنقول للأشعريّ : ما تعني بقولك : إنّه تعالى قضى أعمال العباد وقدّرها ؟ إن أردت به الخلق والإيجاد فقد بيّنّا بطلانه ، وأنّ الأفعال مستندة إلينا .

وإن عنى به الإلزام لم يصحّ إلاّ في الواجب خاصّة .

وإن عنى به أنّه تعالى بيّنّها وكتبها وعلم أنّهم سيفعلونها فهو صحيح ؛ لأنّه قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ وبيّنه للملائكة ، وهذا المعنى الأخير هو المتعيّن ؛ للإجماع على وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى وقدره ، ولا يجوز الرضا بالكفر وغيره من القبايح ، ولا ينفعهم الاعتذار بوجوب الرضا به من حيث إنّه فعله ، وعدم الرضا به من حيث الكسب ؛ لبطلان الكسب أوّلاً . وثانياً فلأنّا نقول : إن كان كون الكفر كسباً بقضائه تعالى وقدره وجب الرضا به من حيث هو كسب ، وهو خلاف قولكم ، وإن لم يكن بقضائه وقدره بطل إسناد الكائنات بأجمعها إلى القضاء

ص: 345


1- . فصّلت 41 : 12 .
2- . الإسراء 17 : 23 .
3- . الإسراء 17 : 4 .
4- . فصّلت 41 : 10 .
5- . النمل 27 : 57 .

والقدر(1) . انتهى .

وعن شارح المواقف ، قال :

اعلم أنّ قضاء اللّه عند الأشاعرة هو الإرادة الأزليّة المتعلّقة بالأشياء على ما هي عليها فيما لا يزال ، وقدره إيجاده إيّاها على وجه مخصوص وتقدير معيّن في ذواتها وأحوالها .

وأمّا عند الفلاسفة فالقضاء عبارة عن علمه تعالى بما ينبغي أن يكون عليه الموجود حتّى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام ، وهو المسمّى عندهم بالعناية التي هي مبدأ فيضان الوجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها .

والقدر عبارة عن خروجها إلى الوجود العينيّ بأسبابها على الوجه الذي تقرّر في القضاء .

والمعتزلة ينكرون القضاء والقدر في الأعمال الاختياريّة الصادرة عن العباد ويثبتون علمه تعالى بهذه الأفعال ، ولا يسندون وجه ذلك إلى ذلك العلم بل إلى اختيار العباد وقدرتهم(2) . انتهى .

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى معنى الخبر فنقول : قوله : «القضاء والقدر خلقان من خلق اللّه» يحتمل أن يكون بضمّ الخاء ، أي صفتان من صفات اللّه عزّ وجلّ ؛ لأنّهما إن كانا بمعنى العلم فهما من صفات الذات ، وإن كانا بمعنى الحكم والكتابة ونحوهما كانا من صفات الأفعال ، على نحو ما تقدّم .

ويحتمل أن يكونا بفتح الخاء ، أي هما نوعان من خلق الأشياء وتقديرها في الألواح السماويّة ، وله تعالى البداء فيهما قبل الإيجاد ، فذلك قوله : « يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ »(3) .

أو المعنى : أنّهما مرتبتان من مراتب خلق الأشياء وأنّها تتدرّج في الخلق إلى أن تظهر في الوجود العينيّ ، واللّه العالم بحقيقة الحال .

ص: 346


1- . كشف المراد ، ص 315 - 316 .
2- . شرح المواقف ، ص 180 - 181 .
3- . فاطر 35 : 1 .

الحديث الأربعون :[ للإنسان أجلان ]

اشارة

ما رويناه عن القمّيّ في تفسيره عن أبيه ، عن النضر ، عن الحلبيّ ، عن ابن مسكان ، عن أبي عبداللّه عليه السلام في قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِندَهُ »(1) قال : «الأجل المقضيّ هو المحتوم الذي قضاه اللّه وحتّمه ، والمسمّى هو الذي فيه البداء يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، والمحتوم ما ليس فيه تقديم ولا تأخير»(2) .

إيضاح :

الذي يظهر من الأخبار المستفيضة - التي كادت أن تبلغ التواتر - أنّ للإنسان أجلين : أجل محتوم ليس فيه زيادة ولا نقصان ، وأجل معلّق قابل للزيادة والنقصان والتقديم والتأخير ، وهذا من أنواع البداء وأقسامه ، ولولاه لما صحّ الدعاء بطلب ازدياد العمر

واقتران طوله وقصره بأسباب معلومة ، وهو الظاهر من الآية ، حيث إنّ ظاهرها ثبوت أجلين .

ولا ينافي ذلك الآيات الاُخر كقوله تعالى : « فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَستَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ »(3) ، وقوله تعالى : « مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ »(4) ، وقوله تعالى : « وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ »(5) ونحو ذلك ؛ لأنّ المراد بها - واللّه أعلم - الأجل المحتوم .

ص: 347


1- . الأنعام 6 : 2 .
2- . تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 194 ؛ بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 99 ، ح 7 .
3- . الأعراف 7 : 34 .
4- . الحجر 15 : 5 .
5- . العنكبوت 29 : 53 .

وفي تفسير القمّيّ عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللّه تعالى : « وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا »(1) ، قال : «إنّ عند اللّه كتباً موقوفة يقدّم منها ما يشاء ويؤخّر ، فإذا كان ليلة القدر أنزل فيها كلّ شيء [يكون إلى ليلة ]مثلها ، فذلك قوله : « لَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا » : إذا أنزله وكتبه كتّاب السماوات ، وهو الذي لا يؤخّره» .(2)

وعن الصادق عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : « ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِندَهُ »(3) قال : «الأجل الذي غير مسمّى موقوف ، يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر منه ما يشاء ، وأمّا الأجل المسمّى فهو الذي ينزل ممّا يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل ، فذلك قول اللّه : « فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَستَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ »»(4) .(5)

وعن حمران عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «المسمّى ما سمّي لملك الموت في تلك الليلة ، وهو الذي قال اللّه : إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، والآخر له فيه المشيّة ؛ إن شاء قدّمه ، وإن شاء أخّره» .(6)

وعن العيّاشيّ في تفسيره عن حمران ، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه : « قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِندَهُ »قال : «هما أجلان : أجل موقوف يصنع اللّه ما يشاء ، وأجل محتوم» .(7)

وعن الصادق عليه السلام في قوله عزّ وجلّ : « قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِندَهُ » قال : «الأجل الأوّل هو الذي يبديه إلى الملائكة والرسل والأنبياء ، والأجل المسمّى عنده هو الذي ستره عن الخلائق» .(8)

وعنه عن أبيه عليهماالسلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ المرء ليصل رحمه وما بقي من عمره

ص: 348


1- . المنافقون 63 : 11 .
2- . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 371 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 139 ، ح 2 .
3- . الأنعام 6 : 2 .
4- . الأعراف 7 : 34 .
5- . تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 354 ، ح 5 . و عنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 116 ، ح 44 مع تفاوت يسير .
6- . تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 354 ، ح 6 . و عنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 116 ، ح 45 .
7- . تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 354 ، ح 7 . و عنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 116 ، ح 46 .
8- . تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 355 ، ح 9 . و عنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 117 ، ح 47 .

إلاّ ثلاث سنين فيمدُّها اللّه إلى ثلاث وثلاثين سنة ، وإنّ المرء ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثون سنة فيقصرها اللّه إلى ثلاث سنين أو أدنى» .(1)

[الكلام في أجل المقتول]

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه قد اختلفت الناس في المقتول لو لم يقتل هل كان يموت في وقت القتل أم لا ؟

فالمحكيّ عن المجبّرة وأبي الهذيل العلاّف : أنّه كان يموت قطعاً .

وعن بعض البغداديّين : أنّه كان يعيش قطعاً .

وقال بعض المحقّقين : إنّه كان يجوز أن يعيش وأن يموت .

ثمّ اختلفوا فقال قوم منهم : إن كان المعلوم منه البقاء لو لم يقتل فله أجلان .

وعن الجبّائيّين وأصحابهما والحسن البصريّ : أنّ أجله هو الوقت الذي قتل فيه ، ليس له أجل آخر لو لم يقتل ، فما كان يعيش إليه ليس بأجل حقيقيّ له الآن بل تقديريّ .

واحتجّ الموجبون لموته بأنّه لولاه لزم خلاف معلوم اللّه تعالى ، وهو محال .

واحتجّ الموجبون لحياته بأنّه لو مات لكان الذابح غنم غيره محسناً ، ولما وجب القود ؛ لأنّه لم يفوّت حياته .

واُجيب عن الأوّل بأنّ علم اللّه بموته على أيّ حال ممنوع . على أنّه يلزمهم وقوع خلاف العلم على هذا الفرض على كلّ حال ، فإنّ مَن علم اللّه أنّه سيقتل إذا مات بغير قتل كان خلاف ما علمه اللّه تعالى .

واُجيب عن الثاني بمنع الملازمة ، فإنّ الغنم لو ماتت استحقّ مالكها عوضاً زائداً من اللّه تعالى ، فبذبح الذابح فوّت تلك الأعواض الزائدة ، والقود من حيث مخالفة الشارع ؛ إذ قتله حرام عليه وإن علم موته ، ولهذا لو اُخبر الصادق بموت زيد لم يجز لأحد قتله .

ص: 349


1- . تفسير العيّاشي ، ج 2 ، ص 220 ، ح 75 . و عنه في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 121 ، ح 66 .

الحديث الحادي والأربعون :[ لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها ]

ما رويناه بأسانيدنا المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ؛ وعدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن الباقر عليه السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حجّة الوداع : ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها ، فاتّقوا اللّه وأجملوا في الطلب ، ولا

يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية اللّه ، فإنّ اللّه تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالاً ، ولم يقسّمها حراماً ، فمن اتّقى اللّه وصبر أتاه رزقه من حلّه ، ومن هتك حجاب ستر اللّه عزّ وجلّ وأخذه من غير حلّه قصر به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة»(1) .

إيضاح :

(النفث) بالنون والثاء المثلّثة : النفخ .

و(الروع) بالضمّ : القلب والعقل ، والمراد : ألقى في قلبي .

والإجمال في الطلب : أن لا يكون الكدّ فيه فاحشاً .

وقال البهائيّ في الأربعين : الرزق عند الأشاعرة : كلّ ما انتفع به حيّ ، سواءا كان بالتغذّي أو بغيره ، مباحاً كان أو حراماً ، وخصّه بعضهم بما يتربّى به الحيوان من الأغذية والأشربة .

وعند المعتزلة : هو كلّ ما صحّ انتفاع الحيوان به بالتغذّي أو غيره ، وليس لأحد منعه منه ، فليس الحرام رزقاً عندهم .

ص: 350


1- . الكافي ، ج 5 ، ص 80 ، باب الإجمال في الطلب ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 44 ، ح 21938 .

وقال الأشاعرة في الردّ عليهم : لو لم يكن الحرام رزقاً لم يكن المتغذّي به طول عمره مرزوقاً ، وليس كذلك لقوله تعالى : « وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا »(1) .

وفيه نظر ، فإنّ الرزق عند المعتزلة أعمّ من الغذاء وهم لم يشترطوا الانتفاع بالفعل ، فالمتغذّي طول عمره بالحرام إنّما يرد عليهم لو لم ينتفع مدّة عمره بشيء انتفاعاً محلّلاً ولا بشرب الماء والتنفّس في الهواء ، بل ولا تمكّن من الانتفاع بذلك أصلاً ، وظاهر أنّ هذا ممّا لا يوجد .

وأيضاً فلهم أن يقولوا : لو مات حيوان قبل أن يتناول شيئاً محلّلاً ولا محرّماً يلزم أن يكون غير مرزوق ، فما هو جوابكم فهو جوابنا .

هذا ، ولا يخفى أنّ الأحاديث المنقولة في هذا الباب متخالفة ، والمعتزلة تمسّكوا بهذا الحديث ، وهو صريح في مدّعاهم غير قابل للتأويل .

والأشاعرة تمسّكوا بما رووه عن صفوان بن اُميّة ، قال : كنّا عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذ جاء عمرو بن قرّة فقال : يا رسول اللّه ، إنّ اللّه كتب عليّ الشقوة ، فلا أراني اُرزق إلاّ من دفّي(2) بكفّي ، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة .

فقال صلى الله عليه و آله : «لا آذنُ لك ولا كرامة ولا نعمة ، أي عدوّ اللّه ، لقد رزقك اللّه طيّباً فاخترت ما حرّم اللّه عليك من رزقه مكان ما أحلّ اللّه لك من حلاله ! أمّا إنّك لو قلت بعد هذه المقالة ضربتك ضرباً وجيعاً» .

والمعتزلة يطعنون في سند هذا الحديث تارة ، ويؤوّلونه - على تقدير سلامته - اُخرى ، بأنّ سياق الكلام يقتضي أن يُقال : فاخترت ما حرّم اللّه عليك من حرامه ، مكان : ما أحلّ اللّه لك من حلاله ، وإنّما قال صلى الله عليه و آله : «من رزقه» ، مكان : من حرامه ، فأطلق على الحرام اسم الرزق بمشاكلة قوله : فلا أراني اُرزق ، وقوله صلى الله عليه و آله : «لقد رزقك اللّه» .

وهذا كما يقوله من يخصُّ الثناء باللسان في قوله صلى الله عليه و آله : «لا اُحصي ثناءا عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» ، إنّه من باب المشاكلة لقوله : ثناء عليك ، وأنّ المراد : أنت كما

ص: 351


1- . هود 11 : 6 .
2- . الدفّ : آلة طرب تضرب به النساء و جمعه : دفوف . انظر لسان العرب ، ج 9 ، ص 104 دفف .

وصفت نفسك ، والمشاكلة وإن كانت نوعاً من المجاز إلاّ أنّها من المحسّنات المعنويّة الكثيرة الواردة في القرآن والحديث الفاشية في نظم البلغاء ونثرهم ، فليس الحمل عليها ببعيد ، ويزول التنافي بين الحديثين .

وتمسّك المعتزلة أيضاً بقوله : « وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ »(1) .

قال الشيخ الجليل أبو جعفر الطوسيّ في تفسيره الموسوم بالتبيان ما حاصله : إنّ هذه الآية تدلُّ على أنّ الحرام ليس رزقاً ؛ لأنّه سبحانه مدحهم بالإنفاق من الرزق ،والإنفاق من الحرام لا يوجب المدح .

وقد يقال : إنّ تقديم الظرف يفيد الحصر ، وهو يقتضي كون المال المنفق على ضربين : ما رزقه اللّه وما لم يرزقه ، وأنّ المدح إنّما هو على الإنفاق ممّا رزقهم اللّه وهو الحلال ، لا ممّا سوّلت لهم أنفسهم من الحرام ، ولو كان كلّما ينفقونه رزقاً من اللّه

سبحانه لم يستقم الحصر ؛ فتأمّل .

وكتب في الحاشية وجه التأمّل :

أنّ التقديم لا ينحصر أن يكون للحصر فقط ؛ إذ يمكن أن يكون هاهنا للسجع .

وأيضاً إنّما يستفيد من هذا كون الحلال رزقاً ، لا أنّ الحرام ليس رزقاً ، مع أنّه المبحوث عنه ، [وأيضا يكن أن يكون «من» في قوله تعالى «مِمَّا رَزَقْناهُمْ» للتبعيض(2)] انتهى .

وقال العلاّمة المجلسيّ في البحار بعد نقل كلام البهائيّ :

أقول : إنْ كان المراد بقولهم : رزقهم اللّه الحرام أنّه خلقه ومكّنهم من التصرّف فيه ، فلا نزاع في أنّ اللّه تعالى رزقهم بهذا المعنى ، وإن كان المعنى : أنّه المؤثّر في أفعالهم وتصرّفاتهم في الحرام ، فهذا إنّما يستقيم على أصلهم الذي ثبت بطلانه .

وإن كان الرزق بمعنى التمكين وعدم المنع من التصرّف فيه بوجه ، فظاهر أنّ الحرام ليس برزق بهذا المعنى على مذهب من المذاهب .

ص: 352


1- . البقرة 2 : 3 .
2- . الأربعين ، ص 222 مع اختلاف يسير . وزيادة أثبتناها من المصدر بين المعقوفتين .

وإن كان المعنى أنّه قدّر تصرّفهم فيه بأحد المعاني التي مضت في القضاء والقدر ، أو أنّه خذلهم ولم يصرفهم جبراً عن ذلك ؛ فبهذا المعنى يصدق أنّه رزقهم الحرام .

وأمّا ظواهر الآيات والأخبار الواردة في ذلك فلا يرتاب عاقل في أنّها منصرفة إلى الحلال .(1)

انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : ومن الأخبار الواردة في أنّ اللّه قسّم الأرزاق من حلال ما رواه المحدّث الحرّ العامليّ عن العيّاشيّ في تفسيره عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «إنّ اللّه خلق خَلْقه وقسّم لهم أرزاقهم من حلّها وعرّض لهم بالحرام ؛ فمن انتهك حراماً نقّص له من الحلال بقدر ما انتهك من الحرام وحوسب به» .(2)

وعن الباقر عليه السلام قال : «ليس من نفس إلاّ وقد فرض اللّه لها رزقاً حلالاً يأتيها في عافية ، وعرض لها بالحرام من وجه آخر ، فإنْ هي تناولت من الحرام شيئاً قاصّها به من الحلال الذي فرض لها ، وعند اللّه سواهما فضل كبير» .(3)

وعن المفيد في المقنعة ، قال : قال الصادق عليه السلام : «الرزق مقسوم على ضربين : أحدهما واصل إلى صاحبه وإن لم يطلبه ، والآخر معلّق بطلبه ، فالذي قسّم للعبد على كلّ حال آتيه وإن لم يسعَ له ، والذي قسّم له بالسعي فينبغي له أن يلتمسه من وجوهه ، وما أحلّ اللّه له دون غيره ، فإن طلبه من جهة الحرام فوجده حسب عليه برزقه وحوسب به» .(4)

والأخبار في ذلك كثيرة .

ص: 353


1- . بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 151 .
2- . تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 239 ، ح 116 ؛ الفصول المهمّة ، ج 1 ، ص 270 .
3- . الكافي ، ج 5 ، ص 80 ، باب الإجمال في الطلب ، ح 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 45 ، ح 21940 . وفيهما : «كثير» بدل «كبير» .
4- . المقنعة ، ص 586 .

الحديث الثاني والأربعون :[ إنّ الأسعار بيد اللّه ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي عن العدّة ، عن سهل ابن يزيد ، عن محمّد بن أسلم ، عمّن ذكره ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ اللّه وكّل بالسعر ملكاً ، فلن يغلو من قِلّة ولا يرخص من كثرة»(1) .

وبإسناده عن السجّاد عليه السلام قال : «إنّ اللّه عزّ وجلّ وكّل ملكاً بالسعر يدبّره بأمره»(2) .

وعن الصادق عليه السلام نحوه .(3)

ووجه الإشكال في هذه الأخبار : أنّها بظاهرها منافية للوجدان من أنّ أفعال العباد لها مدخليّة تامّة في التسعيرات ، ولما ثبت أنّه ليسعّر على المحتكر إذا أجحف بالثمن ، ومن النهي عن الاحتكار ، ومن استحباب إقلال الثمن .

وموافقة لمذهب الأشاعرة القائلين : لا مسعّر إلاّ اللّه ، بناء على أصلهم أنّه لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه تعالى .

ومخالفة لما عليه الإماميّة والمعتزلة من أنّ الغلاء والرخص قد يكونان بأسباب راجعة إلى اللّه تعالى ، وقد يكونان بأسباب ترجع إلى اختيار العباد .

ويمكن التوفيق بحمل هذه الأخبار ونحوها على أنّ أكثر أسبابها راجعة إلى قدرة اللّه تعالى .

أو أنّ اللّه لمّا لم يصرف قدرة العباد عمّا يختارونه من ذلك مع ما يحدث في نفوسهم من كثرة رغباتهم أو غناهم بحسب المصالح ، فكأنّهما وقعا بإرادته تعالى كما مضى في الأخبار الدالّة على أنّ جميع ما يقع في الوجود بإرادة اللّه ومشيئته تعالى .

ص: 354


1- . الكافي ، ج 5 ، ص 162 ، باب الأسعار ، ح 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 431 ، ح 22921 .
2- . الكافي ، ج 5 ، ص 163 ، باب الأسعار ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 431 ، ح 22919 .
3- . الكافي ، ج 5 ، ص 163 ، باب الأسعار ، ح 4 . وعنه في وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 432 ، ح 22922 .

الحديث الثالث والأربعون :[ تزعم أنّك جرم صغير ]

ما رويناه بالطرق السابقة عن المحقّق المحدّث الكاشانيّ أنّه روى في تفسيره الصافيّ مرسلاً عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال :

دواؤك فيك وما تشعر *** وداؤك منك وما تبصر

وأنت الكتاب المبين الذي *** بأحرفه يظهر المضمر

وتزعم أنّك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر(1)

بيان :

الخطاب للإنسان كما يظهر من المقام ، ودواؤه فيه وهو العقل ، وداؤه منه وهو الجهل ، ولكنّه لا يبصر بالأوّل ، ولا يشعر بالثاني ، كما في أغلب الخلق فإنّ جهلهم مركّب .

وإطلاق الكتاب المبين على الإنسان شائع في عرف العرفاء ؛ لأنّ الكتابة تطلق على الصناعة ، والإنسان من أحسن مصنوعات اللّه تعالى ، وعليه حمل ما روي عن الصادق عليه السلام قال : «الصورة الإنسانيّة هي أكبر حجّة اللّه على خلقه ، وهي الكتاب الذي كتبه بيده» .(2)

وأشار عليه السلام إلى وجه المناسبة بقوله : «المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر» ، فإنّ الكتاب لمّا كان مبيّناً للناس معالم دينهم وشرائع أحكامهم وسائر معارفهم وعقائدهم ، فكذا الإنسان الكامل ، بل هو كتاب اللّه الناطق ، وكما أنّ الكتاب بحروفه

ص: 355


1- . تفسير الصافي ، ج 1 ، ص 92 ؛ مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 122 أنس .
2- . تفسير الصافي ، ج 1 ، ص 92 . وفيه : «كتبه اللّه بيده» .

يظهر مضمره ومخفيه ، فكذا الإنسان يعبّر عمّا في ضميره بالحروف والكلمات .

وأمّا أنّ العالم الأكبر قد انطوى فيه فلا يخفى أنّ الإنسان عالَم صغير مختصر من العالم الكبير ، وفيه نظير جميع ما في العالم الكبير :

فالأعضاء الظاهرة في العالم الأصغر - وهي الرأس واليد والبطن والفرج والرجلان - بمنزلة الأقاليم السبعة .

والأعضاء الباطنة - وهي الرئة والدماغ والكلية والقلب والمريء والكبد والطحال - بمنزلة السماوات السبع .

والروح الحيوانيّ بمنزلة الكرسيّ ، ونظير ذلك الثوابت .

والروح النفسانيّ بمنزلة العرش ، ونظير ذلك فلك الأفلاك .

والقوى والمشاعر والحواسّ في العالم الأصغر بمنزلة الملائكة والعقول والنفوس في العالم الأكبر .

والعقل خليفة اللّه في العالم الأصغر كما أنّ الإنسان خليفة اللّه في العالم الأكبر .

والأعضاء ما دامت فاقدة للنشو والنموّ فهي بمنزلة المعادن ، فلمّا شرعت في النشو والنماء فهي بمنزلة النبات ، فلمّا صارت قابلة للحسّ والحركة الإراديّة فهي بمنزلة الحيوان .

وكما أنّ في العالم الأكبر آدم وحوّاء وإبليس ، كذلك في العالم الأصغر ؛ فالعقل بمنزلة آدم في العالم الأصغر ، والجسم بمنزلة حوّاء ، والوهم بمنزلة إبليس ، والشهوة بمنزلة الطاوس ، والغضب بمنزلة الحيّة ، والذئب بمنزلة الشجرة المنهيّ عنها ، والأخلاق الحسنة بمنزلة الجنّة ، والأخلاق الرديّة بمنزلة النار .

ولا اعتبار بالصفة ، فالكلب ليس خسيساً مطروداً بحسب الصورة وإنّما هو خسيس مطرود بحسب صفة الإيذاء ، وكذلك الخنزير إنّما هو مطرود بسبب الحرص والشره ، وكذلك الشيطان مطرود بحسب الإفساد والإغواء ، وكذلك الملك محمود بصفة الإطاعة والانقياد له .

والإنسان مع صفة الإيذاء كلب ، ومع صفة الحرص والشره خنزير ، ومع صفة الإفساد والإغواء شيطان ، ومع صفة الإطاعة والانقياد ملك .

ص: 356

وكما أنّ الإنسان في العالم الأكبر يتلذّذ بالمطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراكب ونحوها ، كذلك العقل الذي هو خليفة اللّه في العالم الأصغر يتلذّذ بالملاذّ الروحانيّة من المعارف الحقّة والعلوم الدينيّة والمعالم اليقينيّة والإدراكات العقليّة

والأفكار الذهنيّة ، ويتلذّذ بمكنونات الدقائق ، ويتنزّه بحدائق الكتب وبساتين الأسفار وأثمار النكات اللطيفة وأزهار الأشعار الشريفة وأمثال ذلك .

فالحدائق والبساتين ونحوها تتنوّع على أنواع : منها ما يتّصف بالوجود الخارجيّ ، ومنها ما يتّصف بالوجود الذهنيّ ، ومنها بالوجود العقليّ ، ومنها بالوجود الخطّيّ ، وهذا هو الموجود في الكتب والصحف والقراطيس التي هي جنّات اُولي الألباب كما يشاهد من عرائس النفايس المورّدة الخدود .

وأيضاً البدن بمنزلة المكان المظلم ، والروح بمنزلة الضوء ، والحرارة الغريزيّة بمنزلة شعلة السراج ، والرطوبة الغريزيّة بمنزلة الزيت ؛ فحياة البدن بالروح ، فإذا أشرقت فإنّك حيّ ، وإذا أظلمت فإنّك ميّت .

وأيضاً فالعقل أو النفس كالسلطان ، وهو أي الإنسان خليفة الرحمان ، والأعضاء كالبلدان ، والحواسّ كالأعوان ، والصور والأذهان كالعمّال ، والخزّان والجوارح والأركان كالخدم والغلمان ، وبقاء سلطنة هذا الملك بصلاح رعيّته ، واستقرار ملكه بانتظام اُمور مملكته ، وبالصحّة ينتظم أمر عالم الأجسام ، وبالمرض يختلّ هذا النسق والانتظام .

والعلم المتكفّل بذلك علم الطبّ الباحث عن أحوال بدن الإنسان ، وكذلك بصحّة النفس وبمتابعتها للعقل ينتظم أمر عالم العقول والأرواح ، وبفسادها يفسد .

ص: 357

الحديث الرابع والأربعون :[ في حال ولد الزنا ]

ما رويناه بالأسانيد السابقة عن الصدوق في العلل ، عن أحمد بن محمّد ، عن أبيه ، عن محمّد بن أحمد ، عن إبراهيم بن إسحاق ، عن محمّد بن سليمان الديلميّ ، عن أبيه رفع الحديث إلى الصادق عليه السلام قال : «يقول ولد الزنا : يا ربّ ، ما ذنبي ؟ فما كان لي في أمري صنع ، قال : فيناديه مناد فيقول : أنت شرّ الثلاثة : أذنب والداك فتبت عليهما وأنت رجس ، ولا يدخل الجنّة إلاّ طاهر»(1) .

بيان :

هذا الخبر بظاهره لا يوافق قانون العدليّة وما عليه العدليّة من أنّ ولد الزنا كسائر الناس مكلّف باُصول الدين وفروعه ، ويجري عليه أحكام المسلمين مع إظهار الإسلام ، ويثاب على الطاعات ويعاقب على المعاصي ، خلافاً للمحكي عن الصدوق والمرتضى وابن إدريس(2) من القول بكفره وإن لم يظهره . وهذا لا يوافق قانون العدل ، فإنّه إن كان مختاراً في فعله ، فإذا فرض منه الطاعة والعبادة كان مستحقّاً للثواب ، وإن لم يكن مختاراً في فعله كان عذابه جوراً وظلماً ، واللّه ليس بظلاّم للعبيد .

مع أنّه قد روى ثقة الإسلام في الكافي عن الحسين بن محمّد ، عن المعلّى ، عن الوشّا ، عن أبان ، عن ابن أبي يعفور ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ ولد الزنا يستعلم ، إن عمل خيراً جزي به ، وإن عمل شرّاً جزي به»(3) ، فإنّه صريح في المطلوب ، موافق

ص: 358


1- . علل الشرائع ، ج 2 ، ص 564 ، ح 2 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 285 ، ح 5 .
2- . راجع : الهداية ، ص 544 ؛ والانتصار ، ص 502 ؛ والسرائر ، ج 1 ، ص 357 .
3- . الكافي ، ج 8 ، ص 238 ، ح 322 ؛ وسائل الشيعة ، ج 20 ، ص 442 ، ح 26044 .

لقانون العدل .

وبالجملة ، فظاهر الخبر المذكور مخالف للأدلّة العقليّة والنقليّة من الكتاب والسنّة ، فيجب تأويله ، ويمكن توجيهه بوجوه :

الأوّل : أنّه محمول على الغالب ، فإنّه لمّا كان الغالب في ولد الزنا أن يفعل باختياره المعاصي وما يفضي به إلى الكفر فلذا حكم عليه بذلك وأنّه لا يدخل الجنّة ، وأمّا ظاهراً فلا يحكم بكفره إلاّ بعد ظهور ذلك منه .

الثاني : أن يحمل الخبر على أنّ ولد الزنا لا يدخل الجنّة ، كما رواه البرقيّ في المحاسن(1) عن سدير ، قال : قال أبو جعفر عليه السلام : «من طهرت ولادته دخل الجنّة» .

وعن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق الجنّة طاهرة مطهّرة ، فلا يدخلها إلاّ من طابت ولادته»(2) ، إلى غير ذلك من الأخبار .

وحينئذٍ فنقول : إنّ اللّه سبحانه وتعالى لا يجب عليه إدخال أحد الجنّة ، بل غاية ما يجب عليه بعد أن تصدر منهم الطاعات أن يثيبهم ، وليس يجب عليه أن تكون إثابتهم في الجنّة ، بل يجعل لولد الزنا مكاناً في الأعراف أو في غيره يليق بحاله ، وهذا ليس

بظلم ولا جور ، تعالى اللّه عن ذلك .

ولا ينافي ذلك رواية الكافي ؛ إذ ليس فيه تصريح بأنّ ثوابه يكون في الجنّة .

وأمّا العمومات الدالّة على أنّ من يؤمن باللّه ويعمل صالحاً يدخله الجنّة فهي مخصّصة بالأخبار الدالّة على أنّ ولد الزنا ونحوه لا يدخلونها .

الثالث : أن نقول - بعد تسليم أنّ اللّه يدخله النار وإن عمل صالحاً - يمكن تطبيقه على قانون العدل بأن نقول : إنّ النار لا تؤذيه ، بل يكون له فيها نعيم كما فعل اللّه ذلك بالنسبة إلى جماعة من الكفّار كحاتم وغيره ، ودلّت عليه الأخبار .(3)

ص: 359


1- . المحاسن ، ج 1 ، ص 139 ، ح 28 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 287 ، ح 10 .
2- . المحاسن ، ج 1 ، ص 139 ، ح 29 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 285 ، ح 4 .
3- . الكافي ، ج 2 ، ص 189 ، باب إدخال السرور على المؤمنين ، ح 3 ؛ بحار الأنوار ، ج 8 ، ص 314 ، ح 92 ؛ جامع السعادات ، ج 2 ، ص 174 .

وربّما يستأنس لهذا بما رواه البرقيّ في المحاسن عن أبيه ، عن النضر ، عن يحيى الحلبيّ ، عن أيّوب بن الحرّ ، عن أبي بكر ، قال : كنّا عنده ومعنا عبداللّه بن عجلان ، فقال عبداللّه بن عجلان : معنا رجل يعرف ما نعرف ويقال : إنّه ولد الزنا ، فقال : «ما تقول ؟» فقلت : إنّ ذلك ليقال . فقال : «إن كان ذلك كذلك بُني له بيت في النار من صدر ، يردّ عنه وهج جهنّم ويؤتى برزقه»(1) .

ولعلّ معنى صدر جهنّم : أعلاها ، أي يبنى له بيت في صدرها وأعلاها ، أو أنّه تصحيف صبر - بالتحريك - وهو الجَمَد ، واللّه العالم بحقيقة الحال .

ص: 360


1- . المحاسن ، ج 1 ، ص 149 ، ح 64 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 287 ، ح 12 .

الحديث الخامس والأربعون :[ حال الأطفال في يوم القيامة ]

ما رويناه عن الصدوق في الخصال عن أبيه ، عن محمّد العطّار ، عن الأشعريّ ، عن عليّ بن إسماعيل ، عن حمّاد بن حريز ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إذا كان يوم القيامة احتجّ اللّه عزّ وجلّ على خمسة : على الطفل ، والذي مات بين النبيّين صلوات اللّه عليهم ، والذي أدرك النبيّ وهو لا يعقل ، والأبله ، والمجنون الذي لا يعقل ، والأصمّ والأبكم ، فكلّ واحد منهم يحتجّ على اللّه عزّ وجلّ» .

قال : «فيبعث اللّه إليهم رسولاً فيؤجّج لهم ناراً ، فيقول لهم : ربّكم يأمركم أن تثبوا فيها ، فمن وثب فيها كانت عليه برداً وسلاماً ، ومن عصى سيق إلى النار»(1) .

قال الصدوق :

إنّ قوماً من أصحاب الكلام ينكرون ذلك ويقولون : إنّه لا يجوز أن يكون في دار الجزاء تكليف ، ودار الجزاء للمؤمنين إنّما هي الجنّة ، ودار الجزاء للكافرين إنّما هي النار ، وإنّما يكون هذا التكليف من اللّه عزّ وجلّ في غير الجنّة والنار ، فلا يجوز أن يكون كلّفهم في دار الجزاء ، ثمّ يصيّرهم إلى الدار التي يستحقّونها بطاعتهم ومعصيتهم ، فلا وجه لإنكار ذلك ، ولا قوّة إلاّ باللّه .(2)

أقول : لا خلاف بين أصحابنا في أنّ أطفال المؤمنين يدخلون الجنّة بلا تكليف .

ويدلّ عليه مضافاً إلى العقل ظاهر قوله تعالى : « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِم مِن شَيْءٍ »(3) .

ص: 361


1- . الخصال ، ص 283 ، ح 31 ؛ بحار الانوار ، ج 5 ، ص 289 ، ح 2 .
2- . الخصال ، ج 1 ، ص 283 ، ذيل ح 31 .
3- . الطور 52 : 21 .

وفي تفسير القمّيّ عن الصادق عليه السلام قال : «إنّ أطفال شيعتنا من المؤمنين تربّيهم فاطمة ، وقوله تعالى : « أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » قال : يهدون إلى آبائهم يوم القيامة» .(1)

وفي الكافي والتوحيد عن الصادق عليه السلام في هذه الآية ، قال : «قصرت الأبناء عن عمل الآباء ، فألحقوا الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم» .(2)

وفي الفقيه عن الحلبيّ في الصحيح أو الحسن عن الصادق عليه السلام قال : إنّ «اللّه تبارك وتعالى يدفع إلى إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين يغذّونهم بشجرة في الجنّة لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من الدرّ ، فإذا كان يوم القيامة اُلبسوا وطيّبوا واُهدوا إلى آبائهم ؛ فهم ملوك في الجنّة مع آبائهم ، وهو قوله تعالى : « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ »» .

ولا ينافي هذا الخبر ما تقدّم من تربية فاطمة عليهاالسلام إيّاهم ، لإمكان الجمع بسبب اختلاف مراتبهم ، فبعضهم تربّيه فاطمة ، وبعضهم سارة ، أو أنّ فاطمة تربّيهم أوّلاً ثمّ تدفعهم إليها أو بالعكس .

وأمّا أطفال الكفّار والمشركين فالمشهور بين أصحابنا المتكلّمين أنّهم لا يدخلون النار ، فهم إمّا يدخلون الجنّة أو يسكنون الأعراف .

وذهب جماعة من المحدّثين : أنّهم يكلّفون في القيامة بتأجيج نار ؛ فمن أطاع دخل الجنّة ، ومن خالف دخل النار .

وذهب جماعة من حشويّة العامّة : أنّهم يعذّبون كآبائهم ، ويلزم الأشاعرة تجويز ذلك ، واحتجّوا بوجوه :

الأوّل : قول نوح عليه السلام : « وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً »(3) .

والجواب : أنّه مجاز والتقدير : أنّهم يصيرون كذلك .

الثاني : قالوا : إنّا نستخدمه لأجل كفر أبيه ، فقد فعلنا فيه ألماً وعقوبة ، فلا يكون

ص: 362


1- . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 332 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 289 ، ح 1 .
2- . الكافي ، ج 3 ، ص 249 ، باب الأطفال ، ح 5 ؛ التوحيد ، ص 394 . وفيه : «فألحق اللّه عزّ وجلّ للأبناء بالآباء» ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 3 ص 490 ، ح 4733 .
3- . نوح 71 : 27 .

قبيحاً .

واُجيب بأنّ الخدمة ليست عقوبة للطفل ، وليس كلّ ألم عقوبة ، فإنّ الفصد والحجامة ألمان وليسا عقوبة . نعم ، استخدامه عقوبة لأبويه وامتحان له يعوّض عليه كما يعوّض على أمراضه .

الثالث : قالوا : إنّ حكم الطفل يتبع حكم أبيه في الدفن ومنع التوارث والصلاة عليه ومنع التزويج .

والجواب : أنّ المنكَر عقابه لأجل جرم أبيه ، وليس بمنكَرٍ أن يتبع حكم أبيه في بعض الأشياء إذا لم يحصل له بها ألم وعقوبة ، ولا ألم له في منعه من الدفن والتوارث ، وترك الصلاة عليه .

وقد اختلفت الأخبار في حالهم :

فروى الصدوق في الفقيه عن وهب بن وهب ، عن صفوان ، عن جعفر بن محمّد عليهماالسلام عن أبيه عليه السلام قال : «قال عليّ : أولاد المشركين مع آبائهم في النار ، وأولاد المؤمنين مع آبائهم في الجنّة» .

وعن عبداللّه بن سنان ، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحَنْث ، قال : «كفّار واللّه أعلم بما كانوا عاملين ، يدخلون مداخل آبائهم» .(1)

وفي الكافي عن زرارة ، قال : سألت أبا جعفر عن الولدان ، فقال : «سُئل رسول اللّه عن الولدان الأطفال ، فقال صلى الله عليه و آله : اللّه أعلم بما كانوا عاملين»(2) .

وعن زرارة ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : ما تقول في الأطفال الذين ماتوا قبل أن يبلغوا ؟ فقال : «سُئل عنهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال صلى الله عليه و آله : اللّه أعلم بما كانوا عاملين» ، ثمّ أقبل عليّ فقال : «يا زرارة ، هل تدري ما عنى بذلك رسول اللّه ؟» قال : قلت : لا ، فقال : «إنّما عنى : كفّوا عنهم ولا تقولوا فيهم شيئاً وردّوا علمهم إلى اللّه»(3) .

ص: 363


1- . من لا يحضره الفقيه ، ج 3 ، ص 491 ، ح 4739 و 4740 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 294 ، ح 21 و 22 .
2- . الكافي ، ج 3 ، ص 249 ، باب الأطفال ، ح 3 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 292 ، ح 10 .
3- . الكافي ، ج 3 ، ص 249 ، باب الأطفال ، ح 4 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 292 ، ح 11 .

وعن هشام ، عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه سُئل عمّن مات في الفترة ، وعمّن لم يدرك الحنث ، والمعتوه ، فقال : «يحتجّ اللّه عليهم ، يؤجّج(1) لهم ناراً ، فيقول لهم : ادخلوها ، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ، ومن أبى قال اللّه تبارك وتعالى : هذا قد أمرتكم فعصيتموني» .(2)

والحقّ الحقيق في الجمع بين هذه الأخبار على وجه بها يليق : أنّ الأخبار الدالّة على أنّهم يعذّبون ويلحقون بآبائهم إمّا محمولة على التقيّة لما عرفت ، أو محمولة على أنّه سبق في علم اللّه تعالى أنّهم يختارون العصيان حينئذٍ فحكم عليهم بالنار .

ويشهد له ما رواه في الكافي عن سهل عن غير واحد رفعه أنّه سُئل عن الأطفال ، فقال : «إذا كان يوم القيامة جمعهم اللّه وأجّج لهم ناراً وأمرهم أن يطرحوا أنفسهم فيها ، فمن كان في علم اللّه عزّ وجلّ أنّه سعيد رمى نفسه فيها وكانت عليه برداً وسلاماً ، ومن كان في علمه أنّه شقيّ امتنع فيأمر اللّه تعالى بهم إلى النار . فيقولون : يا ربّنا ، تأمر بنا إلى النار ولم تجر علينا القلم ؟ فيقول الجبّار : قد أمرتكم مشافهة فلم تطيعوني ، فكيف لو أرسلت رسلي بالغيب إليكم ؟!»(3) .

ويمكن أن يحمل قوله عليه السلام : «كفّاراً»(4) على أنّه يجري عليهم في الدنيا أحكام الكفّار بالتبعيّة في النجاسة وعدم التغسيل والتكفين والصلوات والتوارث وغير ذلك ، وتخصّ الأخبار الدالّة على دخولهم النار ومداخل آبائهم بمن لم يدخل منهم دار التكليف .

هذا وأمّا الأخبار الدالّة على تكليف الأطفال في القيامة مطلقاً فهي مقيّدة بالأخبار الدالّة على انتفاء ذلك عن أطفال المؤمنين ، ولا بُعد في القول بذلك ، وإن ذهب جملة من الأصحاب أنّهم لا يدخلون النار مطلقاً ؛ عملاً بظاهر هذه الأخبار ، واللّه العالم

بحقيقة حقائق الأحوال .

ص: 364


1- . في المصدر : «يرفع لهم» .
2- . الكافي ، ج 3 ، ص 249 ، باب الأطفال ، ح 6 وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 292 - 293 ، ح 14 .
3- . الكافي ، ج 3 ، ص 248 ، باب الأطفال ، ح 2 . وعنه في بحارالأنوار ، ج 5 ، ص 291 - 292 ، ح 8 .
4- . الوارد في رواية عبد اللّه بن سنان .

الحديث السادس والأربعون :[ رفع عن اُمّتي تسعة أشياء ]

اشارة

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن الصدوق في التوحيد والخصال عن العطّار ، عن سعد ، عن ابن يزيد ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : رفع عن اُمّتي تسعة أشياء : الخطاء والنسيان وما اُكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه والحسد والطيرة والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة»(1) .

تحقيقٌ :

المراد بالرفع في أكثر هذه الاُمور رفع المؤاخذة والعقاب ، وفي بعضها رفع التأثير كما في الطيرة على احتمال ، وفي بعضها عدم التكليف كالرفع عمّا لم يعلم .

وقد يقال : إنّه يدلّ على جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد ، إنّه يمكن تقدير فعل لكلّ نوع من الأنواع كما قيل في قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ »(2) ، وقوله تعالى : « وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ »(3) .

ويبقى الإشكال في أنّ ظاهر هذا الحديث الشريف اختصاص رفع كلّ من هذه الأشياء بهذه الاُمّة ، مع أنّ رفع الخطاء والنسيان وما استكره عليه ونحو ذلك ممّا لا يجوّز العقل المؤاخذة عليه ، فلا اختصاص له بهذه الاُمّة .

ص: 365


1- . التوحيد ، ص 353 ، ح 24 ؛ الخصال ، ص 417 ، ح 9 ؛ وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 369 ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 280 ، ح 47 ، و ج22 ، ص 443 ، ح 3 .
2- . الأحزاب 33 : 56 .
3- . الرعد 13 : 15 .

ويمكن أن يقال : إنّ المراد اختصاص هذه الاُمّة برفع المجموع فلا ينافي اشتراك البعض .

أو أنّ سائر الاُمم كانوا يؤاخذون بالخطاء والنسيان إذا كان مباديهما باختيارهم ، وكان يلزمهم تحمّل المشاقّ العظيمة فيما اُكرهوا عليه ، وقد وسّع اللّه على هذه الاُمّة بتوسيع دائرة التقيّة .

وكذا بالنسبة إلى ما لا يطاق كما في بعض الأخبار : أنّ بني إسرائيل كان تكليفهم إذا أصابهم بول أن يقرضوا لحومهم بالمقاريض .

ولنتكلّم على هذه الأفراد في مقامات :

المقام الأوّل : في الخطأ والنسيان

يقال : أخطأ فلان إذا فاته الصواب ، ولا كلام في رفع المؤاخذة عليهما في الجملة ، وفي الكتاب الكريم : « رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا »(1) ، وفيه : « لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيَما أَخْطَأْتُم بِهِ وَلكِن مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ »(2) .

وبعمومه أيضاً يدلّ على عدم مؤاخذة المجتهد إذا أخطأ في الحكم بعد الأخذ من الأدلّة الشرعيّة الظاهرة ، وقد بسطنا الكلام في ذلك في مقدّمة المفاتيح ، وفي منية المحصّلين .

وأمّا قوله تعالى : « لاَيَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ »(3) فقد قيل : إنّه مأخوذ من خَطِأ الرجل خطا من باب : علم ، إذا أتى بالذنب متعمّداً .

لا يقال : إنّ بعض الأحكام مترتّبة على الخطأ والنسيان كما في خطأ الطبيب والختّان وقتل الخطأ ، وكذا في النسيان بالنسبة إلى من ترك ركناً من الصلوات ، فإنّ الأوّلين ضامنان ، وعلى الثالث الدية والكفّارة ، وعلى الرابع الإعادة .

لأنّا نقول : ترتّب بعض الأحكام على الخطأ والنسيان لا ينافي عدم المؤاخذة

ص: 366


1- . البقرة 2 : 286 .
2- . الأحزاب 33 : 5 .
3- . الحاقّة 69 : 37 .

والعقاب عليهما .

لا يقال : إنّ ظاهر الآية الاُولى جواز المؤاخذة عليهما بحيث سأل عدم المؤاخذة .

لأنّا نقول : إنّ السؤال والدعاء قد يكون طلباً للواقع ، والغرض منه بسط الكلام مع المحبوب ، وعرض الاحتياج إليه كما قال إبراهيم وإسماعيل : « رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا »(1) ، ومن المعلوم أنّهما لن يفعلا غير المقبول .

المقام الثاني : في الإكراه

والكَره - بالفتح - : المشقّة - وبالضمّ - : القهر ، وقيل : بالفتح : الإكراه ، وبالضمّ : المشقّة ، وأكرهته على الأمر إكراهاً : حملته عليه كرهاً . ولا خلاف في رفع المؤاخذة عليه في الجملة .

ويدلّ عليه قوله تعالى : « إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ »(2) . وروي أنّها نزلت في عمّار بن ياسر رحمه الله حين جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو يبكي ، فقال صلى الله عليه و آله له : «ما وراءك ؟» فقال : يا رسول اللّه ، ما تركت حتّى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير - يعني المشركين - فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعُد لهم بما قلت» .(3)

وروى العامّة والخاصّة : أنّ قريشاً أكرهوا عمّاراً وأبويه ياسراً وسميّة على الارتداد ، فلم يقبله أبواه فقتلوهما ، وأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا مكرهاً ، فقيل : يا رسول اللّه ، إنّ عمّاراً كفر ، فقال صلى الله عليه و آله : «كلاّ ، إنّ عمّاراً مُلِئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» ، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عمّار وهو يبكي ، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ، وقال : «مالكَ ؟ إنْ عادوا فَعُدْ لهم بما قلت» .(4)

يدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى : « لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا »(5) ، وقوله تعالى :

ص: 367


1- . البقرة 2 : 127 .
2- . النحل 16 : 106 .
3- . عوالي اللآلي ، ج 2 ، ص 104 ؛ بحار الأنوار ، ج 19 ، ص 35 .
4- . الإحتجاج ، ج 1 ، ص 267 ؛ عوالي اللآلي ، ج 2 ، ص 104 ؛ أسباب النزول للواحدي النيسابوري ، ص 190 .
5- . البقرة 2 : 286 .

« فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ »(1) ، وقوله تعالى : « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »(2) ، وقوله تعالى : « لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِيْ شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً »(3) ، وقوله تعالى : « وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ »(4) .

ويدلّ على ذلك إجماع الإماميّة ، وسيرة الأئمّة ، والأخبار المتواترة .

والمخالفون قالوا بأفضليّة تركها(5) إعزازاً للدين ، والآيات حجّة عليهم ، والأخبار من طرقنا متواترة ، ومنها ما استفاض من قولهم عليهم السلام : «مَن لا تقيّة له لا دين له»(6) .

وبعض الأصحاب قسّم التقيّة إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : حرام ، وهو في الدماء ؛ لما روي أنّه لا تقيّة في الدماء ، ولأنّ التقيّة إنّما وجبت حقناً للدم ، فلا تكون سبباً لإباحته .

الثاني : مباح ، وهو إظهار كلمة الكفر ، فإنّ الأخبار فيها متعارضة ، والجمع بينهما يقتضي القول بالإباحة ، وله شواهد من الأخبار ، فإنّهم عليهم السلام صوّبوا فعل من أظهر وفعل من لم يظهر الكفر وقتل ، سيّما خبر عمّار .

الثالث : الوجوب ، وهو فيما عدى هذين القسمين .

وزاد الشهيد رحمه الله قسماً مكروها ، وهو التقيّة في المستحبّ حيث لا ضرر عاجلاً ولا آجلاً ، وكان يُخاف منه الالتباس على عوام الناس .

والحرام : التقيّة حيث يؤمن الضرر عاجلاً وآجلاً ولا يخاف منه الالتباس على عوام المذهب(7) ، ولا يخفى ما فيه .

وقد استقصينا الكلام فيالتقيّة وأحكامها بما لا مزيد عليه في شرح ديباجة المفاتيح.

ص: 368


1- . التغابن 64 : 16 .
2- . الحج 22 : 78 .
3- . آل عمران 3 : 28 .
4- . البقرة 2 : 195 .
5- . أي ترك التقيّة .
6- . عوالي اللآلي ، ج 1 ، ص 433 ؛ بحار الأنوار ، ج 24 ، ص 112 .
7- . القواعد والفوائد ، ج 2 ، ص 156 ولم يقيّد الحرام بعدم خوف الالتباس على عوامّ المذهب .

المقام الثالث : في الرفع عمّا لم يعلم حكمه

وهذا الفرد أيضاً يرجع إلى رفع المؤاخذة ، وهو قد يكون في الموضوع كالصلوات في الثوب والمكان المغصوبين والثوب النجس ، والسجود على الموضع النجس ، وقد يكون في الحكم كما في كثير من الأحكام .

وقد اختلف أصحابنا في معذوريّة الجاهل وعدمها(1) ؛ فالمشهور بينهم أنّه غير معذور مطلقاً إلاّ فيما قام الدليل على معذوريّته فيه ، كما في الجهر والإخفات والقصر والإتمام ونحوها ، وفرّعوا على ذلك بطلان عبادة الجاهل الذي ليس بمجتهد ولا مقلّد ؛ إذ يجب عليه معرفة واجبات الصلوات على أحد الوجهين : الاجتهاد أو التقليد .

وذهب جماعة من متأخّري المتأخّرين كالمولى المقدّس الأردبيليّ ، وصاحبي المدارك والمفاتيح ، والمحدّث الأسترآباديّ والمحدّث الشريف الجزائريّ إلى معذوريّته مطلقاً ، إلاّ في مواضع مخصوصة دلّ الدليل على عدم معذوريّته فيها .

ثمّ ظاهر كلامهم أنّه معذور فيما إذا طابق فعله الواقع ، وظاهر كلام المحدّث الشريف أنّه معذور مطلقاً وإن لم يطابق فعله الواقع .

ويدلّ على القول المشهور : الأوامر الواردة في الكتاب والسنّة بوجوب طلب العلم ، وما روي عنهم عليهم السلام بطرق مستفيضة : أنّ «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» ، وقولهم عليهم السلام : «طلب العلم فريضة من فرائض اللّه» ، وهي كثيرة مروية في الكافي والفقيه والبصائر والأمالي وغيرها(2) ، فلا أقلّ من حملها على القَدَر الضروريّ من معرفة اللّه وصفاته ، والعبادات الواجبة وشرائطها من المناهي والمحرّمات ولو بالأخذ عن الفقيه .

وعن أبي الحسن عليه السلام أنّه سُئل : هل يسع الناس ترك المسألة عمّا يحتاجون إليه ؟

ص: 369


1- . راجع : الحدائق الناضرة ، ج 1 ، ص 77 - 87 ؛ العناوين ، ج 1 ، ص 524 حكم من أتى بالعبادة مخالفا للواقع ؛ فرائد الاُصول ، ج 2 ، ص 20 وما بعدها .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 30 ، باب فرض العلم ؛ بصائر الدرجات ، ص 22 ؛ الأمالي للطوسي ، ص 488 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 20 باب عدم جواز القضاء والإفتاء بغير علم . ولم نعثر عليها في الفقيه .

فقال : «لا» .(1)

وفي الصحيح عن زرارة ومحمّد بن مسلم وبريد ، قالوا : قال أبو عبداللّه عليه السلام لحمران بن أعين في شيء سأله : «إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون» .(2)

وعن مؤمن الطاق عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «لا يسع الناس حتّى يسألوا ويتفقّهوا ويعرفوا إمامهم ، ويسعهم أن يأخذوا بما يقول وإن كان تقيّة» .(3)

وعن الصادق عليه السلام قال : «اُفّ لرجل لا يفرّغ نفسه في كلّ جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه» .(4)

إلى غير ذلك من الأخبار .

ولو كان الجاهل معذوراً مطلقاً لصحّ جميع ما أتى به من العبادات ، وحينئذٍ فيسعه ترك المسألة ، والأخبار بخلافه ، فإنّ المراد من قولهم : لا يسع الناس ترك المسألة ، أنّه لا تصحّ أعمالهم إلاّ إذا كانت عن معرفة وتفقّه وسؤال وفحص .

وعنه عليه السلام قال : «وددت أنّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقّهوا» .(5)

وعن الصادق عليه السلام - وقد سُئل عن قوله تعالى : « قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ »(6) - فقال عليه السلام : «إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة : أكنت عالماً ؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت ، وإن قال : كنت جاهلاً ، قال له : أفلا تعلّمت حتّى تعمل ، فيخصمه ؛ فذلك

ص: 370


1- . المحاسن ، ج 1 ، ص 225 ، ح 148 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 30 ، باب فرض العلم ... ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 68 ، ح 33219 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 40 ، باب سؤال العالم وتذاكره ، ح 2 ؛ منية المريد ، ص 175 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 198 ، ح 6 .
3- . وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 110 ، ح 21298 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 221 ، ح 61 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 225 ، ح 147 .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 40 ، باب سؤال العالم وتذاكره ، ح 5 .
5- . الكافي ، ج 1 ، ص 31 ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه ، ح 8 ؛ منية المريد ، ص 112 ؛ مجمع البحرين ، ج 2 ، ص 453 سوط .
6- . الأنعام 6 : 149 .

الحجّة البالغة» .(1)

وعنه عليه السلام قال : «اُغد عالماً أو متعلّماً ، أو أحبّ أهل العلم ، ولا تكن رابعاً فتهلك ببغضهم»(2) .

وعنه عليه السلام : «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق ، لا يزيده سرعة السير من الطريق إلاّ بعداً»(3) .

وعن الحسن بن زياد الصيقل ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «لا يقبل اللّه عزّوجلّ عملاً إلاّ بمعرفة ، ولا معرفة إلاّ بعمل ؛ فمن عرف دلّته المعرفة على العمل ، ومَن لم يعمل فلا معرفة له ، إنّ الإيمان بعضه من بعض»(4) .

وعن الصادق عليه السلام عن أبيه عليه السلام عن عليّ عليه السلام قال : «إيّاكم والجهّال من المتعبّدين ، والفجّار من العلماء ، فإنّهم فتنة كلّ مفتون»(5) .

وعن الثماليّ عن السجّاد عليه السلام قال : «لا حسب لقرشيّ ولا عربيّ إلاّ بالتواضع ، ولا كرم إلاّ بالتقوى ، ولا عمل إلاّ بنيّة ، ولا عبادة إلاّ بتفقّه ؛ ألا وإنّ أبغض الناس إلى اللّه عزّ وجلّ من لا يقتدي بسنّة إمام ، ولا يقتدي بأعماله»(6) .

وعن أبي الصلت ، عن الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «لا قول إلاّ

بعمل ، ولا عمل إلاّ بنيّة ، ولا قول وعمل ونيّة إلاّ بإصابة السنّة»(7) .

ص: 371


1- . الأمالي للمفيد ، ص 228 ؛ الأمالي للطوسي ، ص 9 - 10 ، المجلس 1 ، ح 10 .
2- . المحاسن ، ج 1 ، ص 227 ، ح 155 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 34 ، باب أصناف الناس ، ح 3 ؛ الخصال ، ج 1 ، ص 123 ، ح 117 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 187 ، ح 2 .
3- . فقه الرضا عليه السلام ، ص 381 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 43 ، باب من عمل بغير علم ... ، ح 1 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 4 ، ص 401 ، ح 5864 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 24 ، ح 33503 .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 44 ، باب من عمل بغير علم ... ، ح 2 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 422 ، المجلس 65 ، ح 19 . بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 206 ، ح 18 .
5- . قرب الإسناد ، ص 34 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 207 ، ح 3 و ح 2 ، ص 106 ، ح 1 .
6- . الكافي ، ج 8 ، ص 234 ، ح 312 ؛ وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 47 ، ح 85 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 207 ، ح 10 .
7- . تهذيب الأحكام ، ج 4 ، ص 186 ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 10 ، ص 13 ، ح 12714 ؛ بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 207 ، ح 21 .

وعن أبي عثمان العبديّ ، عن الصادق عليه السلام ، عن أبيه ، عن عليّ ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «لا قول إلاّ بعمل ، ولا عمل إلاّ بنيّة، ولا قول وعمل ونيّة إلاّ بإصابة السنّة»(1).

وعنه عن آبائه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح»(2) .

وعن الصادق عليه السلام قال : «قطع ظهري اثنان : عالم متهتّك وجاهل متنسّك ؛ هذا يصدّ الناس عن علمه بتهتّكه ، وهذا يصدّ الناس عن نسكه بجهله»(3) .

وعن أميرالمؤمنين عليه السلام قال : «المتعبّد على غير فقه كحمار الطاحونة»(4) ، الحديث .

وعن الصادق عليه السلام قال : «العامل على غير بصيرة كالسائر على السراب بقيعة ، لا يزيده سرعة سيره إلاّ بُعدا»(5) .

وعن الباقر عليه السلام قال : «تفقّهوا في الحلال والحرام ، وإلاّ فأنتم أعراب»(6) .

وعن الصادق عليه السلام قال : «تفقّهوا في دين اللّه ولا تكونوا أعراباً»(7) .

وفيهما إشارة إلى أنّ الجاهل بالأحكام كالأعراب الذين قال اللّه تعالى فيهم : « الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً »(8) .

وعنه عليه السلام قال : «لو أتيت بشابّ من شباب الشيعة لا يتفقّه لأدّبته»(9) .

ص: 372


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 70 ، باب الأخذ بالسنّة ... ، ح 9 ؛ وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 47 ، ح 84 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 207 ، ح 6 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 44 ، باب من علم بغير علم ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 25 ، ح 33112 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 208 ، ح 7 .
3- . عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 77 ، ح 64 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 208 ، ح 8 ؛ مجموعة ورّام ، ج 1 ، ص 82 .
4- . الاختصاص ، ص 245 ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 20 ، ص 304 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 208 ، ح 10 .
5- . بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 208 ، ح 9 .
6- . المحاسن ، ج 1 ، ص 227 ، ح 158 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 214 ، ح 14 .
7- . المحاسن ، ج 1 ، ص 228 ، ح 162 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 31 ، باب فرض العلم ... ، ح 7 ؛ تحف العقول ، ص 513 .
8- . التوبة 9 : 97 .
9- . المحاسن ، ج 1 ، ص 228 ، ح 161 ؛ مشكاة الأنوار ، ص 133 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 314 ، ح 16 .

وعن الباقر عليه السلام قال : «لو أتيت بشابّ من شباب الشيعة لا يتفقّه في الدين لأوجعته»(1) .

وعن الصادق عليه السلام قال : «تفقّهوا في دين اللّه تعالى ولا تكونوا أعراباً ، فإنّ من لم يتفقّه في دين اللّه لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة ولم يزكّ له عملاً»(2) .

وعن أبان بن تغلب عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «لوددت أنّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقّهوا»(3) .

وعنه عليه السلام حين قيل له : رجل عرف هذا الأمر لزم بيته ولم يتعرّف إلى أحد من إخوانه ؟ قال : فقال : «كيف يتفقّه هذا في دينه ؟!»(4)

وعن أميرالمؤمنين عليه السلام في حديث قال فيه : «والعلم مخزون عند أهله وقد اُمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه»(5) .

وعن الصادق عليه السلام إنّه قال لحمران بن أعين في شيء سأله : «إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون»(6) .

وعنه عليه السلام قال : «قرأت في كتاب عليّ عليه السلام : إنّ اللّه لم يأخذ على الجهّال عهداً بطلب العلم حتّى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال ؛ لأنّ العلم كان قبل الجهل»(7) .

ص: 373


1- . المحاسن ، ج 1 ، ص 228 ، ح 161 ؛ مشكاة الأنوار ، ص 133 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 314 ، ح 17 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 31 ، باب فرض العلم ... ، ح 7 ؛ تحف العقول ، ص 513 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 214 ، ح 18 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 31 ، باب فرض العلم ... ، ح 8 ؛ منية المريد ، ص 112 .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 31 ، باب فرض العلم ... ، ح 9 ؛ منية المريد ، ص 375 ؛ وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 354 ، ح 20722 .
5- . الكافي ، ج 1 ، ص 30 ، باب فرض العلم ... ، ح 4 ؛ تحف العقول ، ص 199 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 24 ، ح 33111 .
6- . الكافي ، ج 1 ، ص 40 ، باب سؤال العالم وتذاكره ، ح 2 ؛ منية المريد ، ص 175 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 198 ، ح 6 .
7- . الكافي ، ج 1 ، ص 41 ، باب بذل العلم ، ح 1 ؛ منية المريد ، ص 185 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 67 ، ح 1 .

وعنه عليه السلام إنّه قال لعبدالرحمان : «إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك : إيّاك أن تفتي الناس برأيك ، أو تدين بما لا تعلم»(1) .

إلى غير ذلك من الأخبار .

ويمكن الاستدلال على ذلك أيضاً بالأخبار الدالّة على وجوب طاعة اللّه ورسوله والأئمّة ، ووجوب التمسّك بهم والردّ إليهم ، والكون معهم ، فإنّ ظاهرها أنّ من لم يأخذ منهم أو عمّن أخذ منهم لا يُعَدّ في العرف طائعاً لهم ، ولا رادّاً إليهم ، ولا متمسّكاً بهم ، ولا كائناً معهم ، وإذا لم يصدق عليه ذلك لم يصدق عليه امتثال فعل ما اُمروا به

وإن كان ما فعله موافقاً لذلك في نفس الأمر بضرب من الاتّفاق .

أصل :

وممّا يدلّ على معذوريّته مطلقاً إلاّ في مواضع مخصوصة إطلاق الحديث المذكور وقال صلى الله عليه و آله : «الناس في سعة ممّا لم يعلموا»(2) ، وقوله عليه السلام : «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(3) ، ونحو ذلك ، وهي بإطلاقها شاملة للجاهل بالعبادات .

والجواب : أنّها محمولة على الجهل بالموضوعات أو على الجاهل الغافل بالكلّيّة ؛ لما تقدّم من الأخبار الكثيرة ، وهي أقوى سنداً وأكثر عدداً وأوضح دلالة وأفصح مقالة ، وأوفق بكتاب اللّه وبالشهرة بين الأصحاب ، فيتعيّن حمل هذه الأخبار القليلة على ما ذكرنا .

ويزيد على ذلك ما روي عنه عليه السلام أنّه حين رأى من يصلّي ولم يحسن ركوعه ولا سجوده ، أنّه قال : «نقر كنقر الغراب ! لئن مات هذا وهذه صلاته ليموتنّ

ص: 374


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 42 ، باب النهي عن القول بغير علم ، ح 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 21 ، ح 33102 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 114 ، ح 6 .
2- . عوالي اللآلي ، ج 1 ، ص 424 ، ح 109 ؛ وعنه في مستدرك الوسائل ، ج 18 ، ص 20 ، ح 21886 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 164 ، باب حجج اللّه على خلقه ، ح 3 ؛ التوحيد ، ص 413 ، ح 9 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 163 ، ح 33496 .

على غير ديني»(1) .

وما روي عنهم عليهم السلام : «ليس منّا من استخفّ بصلاته ، ولا ينال شفاعتنا من استخفّ بصلاته»(2) .

ويرد عليه أيضاً : أنّ أحد الجاهلين إن صلّى في الوقت والآخر في غير الوقت ، لا يخلو إمّا أن يستحقّا عليه العقاب أو لا يستحقّا أصلاً ، أو يستحقّ أحدهما دون الآخر ، وعلى الأوّل يثبت المطلوب ، وعلى الثاني يلزم خروج الواجب عن كونه واجباً ، وعلى الثالث يلزم خلاف العدل ؛ لاستوائهما في الحركات الاختياريّة الموجبة للمدح والذمّ ،

وإنّما حصل مصادفة الوقت وعدمه بضرب من الاتّفاق من غير أن يكون لأحدهما فيه ضرب من السعي ، وتجويز مدخليّة الاتّفاق الخارج عن القدرة في استحقاق المدح والذمّ ممّا هدم بنيانه البرهان ، وعليه إطباق العدليّة في كلّ زمان .

وصل :

وممّا يدلّ على القول الثالث أخبار متفرّقة :

منها : ما ورد في مدح جماعة تطهّروا بالماء بعد الأحجار مع عدم العلم بحسن ذلك ، فنزل فيهم : « إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ »(3) .(4)

ومنها : ما ورد في صحّة حجّ من مرّ بالموقف جاهلاً .(5)

وما ورد من قوله صلى الله عليه و آله لعمّار حين غلط في التيمّم وتمعّك(6) في التراب : «ألا فعلت

ص: 375


1- . الكافي ، ج 3 ، ص 268 ، باب من حافظ على صلاته ، ح 6 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 239، ح17؛ وسائل الشيعة ، ج 4 ، ص 31 ، ح 4434 .
2- . الكافي ، ج 3 ، ص 269 ، باب من حافظ على صلاته ، ح 7 . وفيه : «منّي» بدل «منّا» .
3- . البقرة 2 : 222 .
4- . من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 30 ، ح 59 ؛ وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 354 - 355 ، ح 942 ؛ بحار الأنوار ، ج 77 ، ص 197 ، ح 2 .
5- . انظر : وسائل الشيعة ، ج 13 ، ص 558 ، باب أنّ من أفاض من عرفات قبل الغروب جاهلاً لم يلزمه شيء ...
6- . تمعّك : تمرّغ . انظر الصحاح ، ج 4 ، ص 1608 - 1609 معك .

كذا ؟»(1) فإنّه يدلّ على أنّه لو فعل كذا لصحّ ، مع أنّه لم يكن عالماً بذلك ، والشريعة السهلة السمحة تقتضي ذلك أيضاً .

ومن الأخبار الواردة في ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب عن عبدالصمد بن بشير ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : جاء رجل يلبّي حتّى دخل المسجد الحرام وهو يلبّي وعليه قميصه ، فوثب إليه الناس من أصحاب أبي حنيفة ، فقالوا له : شقّ قميصك وأخرجه من رجليك ، فإنّ عليك بدنة وعليك الحجّ من قابل ، وحجّك فاسد .

فطلع أبو عبداللّه عليه السلام فقام على باب المسجد فكبّر واستقبل الكعبة ، فدنا الرجل من أبي عبداللّه عليه السلام وهو ينتف شعره ويضرب وجهه ، فقال له أبو عبداللّه عليه السلام : «اُسكن يا عبداللّه» ، فلمّا كلّمه - وكان الرجل عجميّاً - فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «ما تقول ؟»

قال : كنت رجلاً أعمل بيدي فاجتمعت لي نفقة ، فجئت أحجّ لم أسأل أحداً عن شيء ، فأفتوني هؤلاء بأن أشقّ قميصي وأنزعه من قِبل رجلي ، وأنّ حجّي فاسد ، وأنّ عليّ بدنة .

فقال له : «متى لبست قميصك ؟ أبعد ما لبّيت أم قبل ؟» قال : قبل أن اُلبّي . قال : «فأخرجه من رأسك ، فإنّه ليس عليك بُدنة ، وليس عليك حجّ من قابل ، أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه»(2) ، الحديث .

فإنّ فيه دلالة على معذوريّة الجاهل من وجهين :

الأوّل : قوله عليه السلام : «أيّ رجل ...» إلى آخره .

الثاني : أنّ هذا الخبر تضمّن صحّة ما فعله السائل قبل لقاء الإمام مع الاغتسال والإحرام والتلبية ونحوهما مع إخبار السائل بأنّه لم يسأل أحداً عن شيء من الأحكام .

وما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال : «من لبس ثوباً لا ينبغي له لبسه وهو محرم ففعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو جاهلاً فلا شيء

ص: 376


1- . دعائم الإسلام ، ج 1 ، ص 120 ؛ فقه القرآن ، ج 1 ، ص 38 ؛ بحار الأنوار ، ج 78 ، ص 167 ، ح 29 .
2- . تهذيب الأحكام ، ج 5 ، ص 72 ، ح 47 ؛ وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 488 - 489 ، ح 16861 .

عليه ، ومن فعله متعمّداً فعليه دم»(1) .

وزاد في التهذيب : «لو أكل طعاماً لا ينبغي أكله أو نتف إبطه أو قلّم ظفره أو حلّق رأسه» .

ومرسلة جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهماالسلام في رجل نسي أن يحرم أو جهل ، وقد شهد المناسك كلّها وطاف وسعى ، قال : «يجزيه نيّته ، إذا كان قد نوى ذلك كلّه فقد تمّ حجّه وأن يحلّ»(2) ، الخبر .

وما رواه في الكافي عن ابن عمّار عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديثٍ قال : سألته عن رجل وقع على امرأته وهو محرم ، قال : «إن كان جاهلاً فليس عليه شيء ، وإن لم يكن جاهلاً

فعليه سوق بدنة وعليه الحجّ من قابل»(3) .

وما رواه في الكافي عن زرارة ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : رجل وقع على أهله وهو محرم ، قال : «أجاهل أو عالم ؟» قال : قلت : جاهل . قال : «يستغفر اللّه ولا يعود ولا شيء عليه»(4) .

وعن ابن عمّار ، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن متمتّع وقع على أهله ولم يُنزل ، قال : «ينحر جزوراً وقد خشيت أن يكون قد ثلم حجّه إن كان عالماً ، وإن كان جاهلاً فلا شيء عليه» .

وسألته عن رجل وقع على امرأته قبل أن يطوف طواف النساء ، قال : «عليه جزور

ص: 377


1- . الكافي ، ج 4 ، ص 348 ، باب ما يجب فيه الفداء من لبس الثياب ، ح 1 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 5 ، ص 369 - 370 ، ح 200 ؛ وسائل الشيعة ، ج 13 ، ص 158 ، ح 17475 .
2- . الكافي ، ج 4 ، ص 325 ، باب من جاوز ميقات أرضه بغير إحرام ، ح 8 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 5 ، ص 61 ، 38 ؛ وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 338 ، ح 14959 . وفيها : «وإن لم يهلّ» بدل «وأن يحلّ» .
3- . الكافي ، ج 4 ، ص 373 - 374 ، باب المحرم يواقع امرأته قبل أن يقضي مناسكه ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 13 ، ص 113 ، ح 17370 .
4- . الكافي ، ج 4 ، ص 374 ، باب المحرم يواقع امرأته قبل أن يقضي مناسكه ، ح 4 ؛ وسائل الشيعة ، ج 13 ، ص 108 ، ح 17353 .

سمينة ، وإن كان جاهلاً فليس عليه شيء»(1) .

وعن عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي إبراهيم عليه السلام قال : سألته عن رجل دخل مكّة بعد العصر ، فطاف بالبيت وقد علّمناه كيف يصلّي ، فنسي ، فقعد حتّى غابت الشمس ، ثمّ رأى الناس يطوفون فقام فطاف طوافاً آخر قبل أن يصلّي الركعتين لطواف الفريضة . فقال : «جاهل ؟» قلت : نعم . قال : «ليس عليه شيء»(2) .

وفي التهذيب عن عبدالحميد بن سعيد عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال : سألته عن رجل أحرم يوم التروية من عند المقام بالحجّ ، ثمّ طاف بالبيت عند إحرامه وهو لا يرى

أنّ ذلك لا ينبغي له ، أينقض طوافه بالبيت إحرامه ؟

فقال : «لا ، ولكن يمضي على إحرامه»(3) .

وما رواه في الكافي عن عبدالرحمان بن الحجّاج في الصحيح ، عن أبي إبراهيم ، قال : سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة ، أهي ممّن لا تحلّ له أبداً ؟

فقال : «لا ، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك» . فقلت : بأيّ الجهالتين أعذر : بجهالته أن يعلم أنّ ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنّها في عدّة ؟ فقال : «إحدى الجهالتين أهون من الاُخرى ؛ الجهالة بأنّ اللّه حرّم ذلك عليه ، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها» .

فقلت : فهو بالاُخرى معذور ؟ قال : «نعم ، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها» . فقلت : وإن كان أحدهما متعمّداً والآخر يجهل ؟ فقال : «الذي تعمّد لا يحلّ له أن يرجع إلى صاحبه أبداً»(4) .

ص: 378


1- . الكافي ، ج 4 ، ص 378 ، باب المحرم يأتي أهله وقد قضى بعض مناسكه ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 13 ، ص 121 - 122 ، ح 17387 .
2- . الكافي ، ج 4 ، ص 426 ، باب السهو في ركعتي الطواف ، ح 7 ؛ وسائل الشيعة ، ج 13 ، ص 441 ، ح 18165 .
3- . تهذيب الأحكام ، ج 5 ، ص 169 ، ح 10 ؛ وسائل الشيعة ، ج 13 ، ص 447 ، ح 18185 .
4- . الكافي ، ج 5 ، ص 427 ، باب المرأة التي تحرم على الرجل فلا تحلّ له أبدا ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 20 ، ص 450 - 451 ، ح 26068 .

وعن إسحاق بن عمّار ، قال : لأبي إبراهيم عليه السلام : بلغنا عن أبيك أنّ الرجل إذا تزوّج المرأة في عدّتها لم تحلّ له أبداً ؟ فقال : «هذا إذا كان عالماً ، فإذا كان جاهلاً فارقها وتعتدّ ، ثمّ يتزوّجها نكاحاً جديداً»(1) .

وفي التهذيب والفقيه عن الحلبيّ في الصحيح ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : قلت له : رجل صام في السفر ؟ فقال : «إن كان بلغه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نهى عن ذلك فعليه القضاء ، وإن لم يكن بلغه فلا شيء عليه»(2) .

وفي الكافي عن العيص ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «من صام في السفر بجهالة لم يقضه»(3) .

وعن ليث المراديّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إذا سافر الرجل في شهر رمضان أفطر ، وإن صامه بجهالة لم يقضه»(4) .

وفي التهذيب عن زرارة وأبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام : عن رجل أتى أهله في شهر رمضان أو أتى أهله وهو محرم وهو لا يرى إلاّ أنّ ذلك حلالٌ له ؟ قال : «ليس عليه شيء»(5) .

وروى الصدوق في التوحيد عن عبدالأعلى بن أعين ، قال : سألت أبا عبداللّه عمّن لا يعرف شيئاً ، هل عليه شيء ؟ قال : «لا»(6) .

وعنهم عليهم السلام : «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(7) .

ص: 379


1- . الكافي ، ج 5 ، ص 428 - 429 ، باب المرأة التي تحرم على الرجل ... ، ح 10 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 7 ، ص 308 ، ح 33 ؛ وسائل الشيعة ، ج 20 ، ص 453 ، ح 26074 .
2- . تهذيب الأحكام ، ج 4 ، ص 220 ، ح 18 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 2 ، ص 145 ، ح 1987 ؛ وسائل الشيعة ، ج 10 ، ص 179 ، ح 13158 .
3- . الكافي ، ج 4 ، ص 128 ، باب من صام في السفر بجهالة ، ح 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 10 ، ص 180 ، ح 13160 .
4- . الكافي ، ج 4 ، ص 128 ، باب من صام في السفر بجهالة ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 10 ، ص 180 ، ح 13161 .
5- . تهذيب الأحكام ، ج 4 ، ص 208 ، ح 10 ؛ وسائل الشيعة ، ج 10 ، ص 53 ، ح 12813 .
6- . التوحيد ، ص 412 ، ح 8 . و عنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 281 ، ح 50 .
7- . التوحيد ، ص 413 ، ح 9 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ح 33496 .

إلى غير ذلك من الأخبار التي أوردناها في مقدّمة شرح المفاتيح وبسطنا المسألة حقّها هناك ؛ فمن شاء فليراجع ذلك فإنّه واف بما هنالك .

وأكثر هذه الأخبار وإن كانت قد وردت في أمكنة مخصوصة إلاّ أنّه بضمّ بعضها إلى بعض ، واستقراء جميعها ، وعموم بعضها ، وتأيّدها بما تقدّم ربّما يحصل منها الاطمئنان بمعذوريّة الجاهل ، وبذلك تصير المسألة في قالب الإشكال ، والداء فيها عضال ؛ لتصادم الأنظار وتعارض الأخبار .

ويمكن التفصيل في المقام والبيان على وجه تلتئم عليه أخبار الطرفين ويرتفع الإشكال عن الجانبين بما صار إليه بعض المحقّقين من فضلاء البحرين ، وحاصله : أنّ الجاهل على قسمين :

أحدهما : غير العالم بالحكم وإن كان شاكّاً أو ظانّاً ، وهذا غير معذور ، بل يجب عليه الفحص والسؤال والتفتيش ، ومع تعذّر الوقوف على الحكم ففرضه التوقّف أو الاحتياط في العمل ، وعليه تحمل الأخبار السابقة .

وممّا يدلّ على وجوب رجوع الجاهل بهذا المعنى إلى الاحتياط صحيحة عبدالرحمان بن الحجّاج ، قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان ، الجزاء عليهما أم على كلّ واحد منهما جزاء ؟ قال : «لا ، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد» . قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه . فقال عليه السلام : «إذا أصبتم بمثل ذلك فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه وتعلموا»(1) .

وحسنة يزيد الكناسيّ ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن امرأة تزوّجت في عدّة طلاق، لزوجها عليه الرجعة - وساق الحديث إلى أن قال : - قلت : أرأيت إن كان ذلك منها بجهالة ؟ قال : فقال : «ما من امرأة اليوم إلاّ وهي تعلم أنّ عليها عدّة في طلاق أو موت ، ولقد كنّ نساء الجاهليّة يعرفن ذلك» . قلت : فإن كانت تعلم أنّ عليها عدّة ولا تدري

ص: 380


1- . الكافي ، ج 4 ، ص 391 ، باب القوم يجتمعون على الصيد ... ، ح 1 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 5 ، ص 466 ، ح 277 ؛ وسائل الشيعة ، ج 13 ، ص 46 ، ح 17201 .

كم هي ؟ قال : فقال : «إذا علمت أنّ عليها عدّة لزمتها الحجّة فتسأل حتّى تعلم»(1) .

ومفهوم الشرط : أنّها إذا لم تعلم أنّ عليها عدّة بأن كانت غافلة لم تلزمها الحجّة .

والإطلاق الثاني للجاهل هو : أن يكون غافلاً ذاهلاً عن الحكم بالكلّيّة ، وهذا هو الذي نقول بأنّه معذور ، وتكليفه قد منعت منه الأدلّة العقليّة والنقليّة ، وإلزامه العلم بالحكم تكليف بما لا يطاق ، وعلى هذا تحمل الأخبار الأخيرة ، ويشير إلى ذلك قوله عليه السلام في صحيحة عبدالرحمان المنقولة المتقدّمة في التزويج في العدّة ، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها ، وذلك لعدم تصوّره الحكم بالكلّيّة ، بخلاف الظانّ أو الشاكّ فإنّه يقدر على ذلك لو تعذّر عليه العلم .(2)

المقام الخامس : فيما لا يطاق وما اضطرّوا إليه

أمّا الأوّل : فقد أجمعت العدليّة على عدم جواز التكليف به ، ويدلّ عليه الكتاب والسنّة والإجماع والعقل .

قال اللّه تعالى : « لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا »(3) ، والوسع دون الطاقة .

وقال تعالى : « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »(4) .

وقال تعالى : « إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ »(5) .

وقال تعالى : « وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ »(6) .

إلى غير ذلك من الآيات والروايات .

والأشاعرة والمجبّرة جوّزوا على اللّه تكليف ما لا يطاق ؛ لما رأوا من أنّ أفعال

ص: 381


1- . الكافي ، ج 7 ، ص 192 - 193 ، باب حد المرأة التي لها زوج فتزوّج ، ح 2 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 10 ، ص 20 - 21 ، ح 61 ؛ وسائل الشيعة ، ج 28 ، ص 126 - 127 ، ح 34385 .
2- . الدرر النجفيّة ، ج 1 ، ص 91 - 93 ؛ الحدائق الناضرة ، ج 1 ، ص 82 .
3- . البقرة 2 : 286 .
4- . الحج 22 : 78 .
5- . النساء 4 : 40 .
6- . فصّلت 41 : 46 .

العباد مخلوقة للّه تعالى ومع ذلك يعاقبهم عليها ، وقد مرّ الكلام فيها مستقصى مفصّلاً فلا نعيده .

وأمّا ما اضطرّوا إليه : فهو أعمّ من أن يكون سبب الاضطرار إليه منه تعالى كأكل الميتة والتداوي بالمحرّم ، والإفطار بالمرض في شهر رمضان ، أو من جهة المكلّف كمن جرح نفسه أو أضرّها فاضطرّ إلى الإفطار ، والحكم لا خلاف فيه ، والآيات والروايات دالّة عليه :

قال اللّه تعالى : « يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ »(1) .

وقال تعالى : « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »(2) .

وقال تعالى : « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ »(3) .

وقال الصادق عليه السلام : «من اضطرّ إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل شيئاً حتّى يموت فهو كافر» .(4)

والأخبار في ذلك كثيرة .

المقام السادس : في الحسد

وهو محلّ الإشكال من الخبر ، فإنّ الأخبار المستفيضة الكثيرة قد دلّت على ذمّه وكونه من المهلكات ، وأنّ الحاسد أشرّ من إبليس .

قال اللّه تعالى : « أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ »(5) .

وقال تعالى : « إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا »(6) .

ص: 382


1- . البقرة 2 : 185 .
2- . الحج 22 : 78 .
3- . البقرة 2 : 173 .
4- . من لا يحضره الفقيه ، ج 3 ، ص 345 ، ح 4214 ؛ وسائل الشيعة ، ج 24 ، ح 30376 .
5- . النساء 2 : 54 .
6- . آل عمران 3 : 120 .

وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب»(1) .

والحسد : هو كراهة النعمة على المحسود وحبّ زوالها منه ، فإن لم يحبّ زوالها منه ولا يكره دوامها عليه ولكن يشتهي لنفسه مثلها يسمّى غبطة ، وقد يسمّى منافسة كما قال تعالى : « وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ »(2) .

والغبطة إن كانت في الدنيا فمباحة ، وإن كانت في الدين فمندوب إليها .

قال النبيّ صلى الله عليه و آله : «المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد»(3) .

وكيف كان ، فوجه الإشكال : أنّ الحسد مع كونه من المهلكات والكبائر التي توعّد اللّه عليها النار حتّى قال الباقر عليه السلام : «إنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب»(4) ، وروي : أنّ اُصول الكفر ثلاثة ، وعدّ منها الحسد(5) ، فكيف يكون مرفوعاً عن هذه الاُمّة ولا يؤاخذ عليه ؟

والجواب : أنّ أصل الحسد كالعضو للإنسان لا يخلو منه أحد ، كما ورد في بعض الأخبار : ثلاثٌ لا يخلو منها أحد وعدّ منها الحسد(6) ، وليس المحرّم منه مجرّد الخطور في القلب ، وإنّما المحرّم منه ما يظهره الحاسد بالقول أو الفعل أو اليد أو اللسان .

ويدلّ على ذلك ما روي عنه عليه السلام قال : «ثلاث لا ينجو منهنّ أحد» . وفي رواية : «قلّ من ينجو منهنّ : الظنّ ، والطيرة ، والحسد ، وساُحدّثكم بالمخرج من ذلك : إذا ظننت فلا تحقّق ، وإذا تطيّرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ»(7) .

وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : وضع عن اُمّتي تسع

ص: 383


1- . شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 317 ؛ عوالي اللآلي ، ج 1 ، ص 104 ، ح 36 ؛ بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 257 ، ح 30 .
2- . المطففين 83 : 26 .
3- . كشف الريبة ، ص 57 .
4- . الكافي ، ج 2 ، ص 306 ، باب الحسد ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 365 ، ح 20754 .
5- . انظر : الكافي ، ج 2 ، ص 289 ، باب في اُصول الكفر وأركانه ، ح 1 ؛ الخصال ، ج 1 ، ص 90 ، ح 28 ؛ وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 339 ، ح 20684 .
6- . انظر : بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 254 .
7- . مجموعة ورّام ، ج 1 ص 127 . وانظر : بحار الأنوار ، ج 55 ، ص 320 .

خصال : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، وما استكرهوا عليه ، والطيرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يَد»(1) .

وعن أمالي الشيخ عن الكاظم عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذات يوم لأصحابه : ألا إنّه قد دبّ إليكم داء الاُمم من قبلكم ، وهو الحسد ، وليس بحالق لكنّه

حالق الدين ، وينجي منه أن يكفّ الإنسان يده ويخزن لسانه ، ولا يكون زاعماً على أخيه المؤمن»(2) .

المقام السابع : [في] الطِيرة

بكسر الطاء وفتح الياء وسكونها ، مصدر تطيّر طيرة ك- «تحيّر حيرة» ، قيل : ولم يأت من المصادر على هذا الوزن غيرهما .

قال في المجمع : وأصله فيما يقال التطيُّر بالسوانح والبوارح من الطير والظِباء وغير ذلك ، وكان ذلك يصدّهم عن مقاصدهم فنفاه الشرع .(3) انتهى .

وبالجملة ، فالظاهر أنّها عبارة عمّا يتشأّم به من الفال الردي ، ويمكن أن يكون المراد برفعها : النهي عنها ، بأن لا يكون منهيّاً عنها في الاُمم السالفة .

ويحتمل أن يكون المراد رفع تأثيرها عن هذه الاُمّة ، أو حرمة تأثّر النفس بها ، أو الاعتناء بشأنها ؛ والأخير أظهر .

والأخبار فيها مختلفة ، ففي بعضها : أن لا تأثير لها ، وفي بعضها : الاجتناب عنها ، وفي بعضها : التفصيل بأنّه إن تأثّرت النفس منها اجتنب عنها وإلاّ فلا(4) .

ص: 384


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 463 ، باب ما رفع عن الاُمّة ، ح 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 370 ، ح 20771 .
2- . الأمالي للطوسي ، ص 117 ، المجلس 4 ، ح 182 . وعنه في وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 368 ، ح 20768 . وفي الأمالي : «ذاغمز» بدل «زاعما» وفي الوسائل : «ذاغمر» بدلها ، والمراد بالغمر : الحقد والغلّ . انظر : لسان العرب ، ج 5 ، ص 32 غمر .
3- . مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 384 طير .
4- . انظر : بحار الأنوار ، ج 14 ، ص 34 ؛ و ج 27 ، ص 277 ؛ و ج 55 ، ص 225 ، 310 .

المقام الثامن : في التفكّر في الوسوسة في الخلق

ولعلّ المراد به التفكّر فيما يوسوس الشيطان في القلب في الخالق ومبدئه وكيفيّة خلقه ، فإنّها معفوّ عنها ما لم يعتقد خلاف الحقّ ، وما لم ينطق بالكفر الذي يخطر بباله .

وروي عن الصادق عليه السلام قال : «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال : يا رسول اللّه ، هلكت . فقال : أتاك الخبيث فقال لك : من خلقك ؟ فقلت : اللّه ، فقال لك : اللّه من خلقه ؟ فقال : اي والذي بعثك بالحقّ ، لقد كان كذا . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ذلك محض الإيمان . قال الصادق عليه السلام : إنّما قال «واللّه محض الإيمان» يعني خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض ذلك في قلبه»(1) .

وفي بعض الأخبار : «إنّكم إذا وجدتم ذلك فقولوا : آمنّا باللّه وبرسوله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه»(2) .

وفي بعضها : «قولوا : لا إله إلاّ اللّه»(3) .

وقيل : ويحتمل في معنى الفقرة هو ما يخطر في القلب من تطلّب أسرار الأقضية والأقدار ، وأنّه كيف يصحّ خلق هذا الشيء بغير مادّة؟ أو ما الغرض والعلّة في إيجاد الشيء الفلانيّ ؟ ونحو ذلك .

وقيل : هي التفكّر في خلق الأعمال ومسألة القضاء والقدر .

وقيل : فيما يوسوس الشيطان في النفس من أحوال المخلوقين وسوء الظنّ بهم في أعمالهم وأحوالهم .

وقوله عليه السلام : «ما لم ينطق بشفة» الظاهر أنّه قيد للثلاثة الأخيرة كما تقدّم ، واللّه العالم بالحال .

ص: 385


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 425 ، باب الوسوسة وحديث النفس ، ح 3 .
2- . المصدر السابق ، ح 4 .
3- . الكافي ، ج 2 ، ص 425 - 426 ، باب الوسوسة وحديث النفس ، ح 5 .

الحديث السابع والأربعون:[ في استفادة ظهور ملك جماعة من أهل الحقّ والباطل من فواتح السور ]

ما رويناه بالأسانيد السالفة عن المحدّث الكاشانيّ في تفسير الصافي ، والعلاّمة المجلسيّ رحمه اللهعن العيّاشيّ في تفسيره عن أبي لبيد المخزوميّ ، قال : قال أبو جعفر عليه السلام : «يا أبا لبيد ، إنّه يملك من ولد العبّاس اثنا عشر ، يقتل بعد الثامن منهم أربعة ، تصيب أحدهم الذبحة فتذبحه ، فئة قصيرة أعمارهم ، قليلة مدّتهم ، خبيثة سيرتهم ، منهم الفويسق الملقّب بالهادي والناطق والغاوي . يا أبا لبيد ، إنّ في حروف القرآن المقطّعة لعلماً جمّاً ، إنّ اللّه تبارك وتعالى أنزل « الم * ذلِكَ الْكِتَابُ »(1) فقام محمّد صلى الله عليه و آله حتّى ظهر نوره وثبتت كلمته ، وولد يوم ولد وقد مضى من الألف السابع مائة سنة وثلاث سنين» .

ثمّ قال : «وتبيانه في كتاب اللّه في الحروف المقطّعة إذا عددتها من غير تكرار ، وليس حرف من حروف مقطّعة تنقضي أيّامه إلاّ وقيام قائم من بني هاشم عند انقضائه» .

ثمّ قال عليه السلام : «الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ؛ فذلك مائة وأحد وستّون . ثمّ كان بدء خروج الحسين بن عليّ « الم * اللّهُ »(2) ، فلمّا بلغت مدّته قام قائم ولد العبّاس عند « المص »(3) ويقوم قائمنا عند انقضائها ب « المر »(4) ، فافهم ذلك وعَهِ واكتمه»(5) .

ص: 386


1- . البقرة 2 : 1 - 2 .
2- . آل عمران 3 : 1 - 2 .
3- . الأعراف 7 : 1 .
4- . الرعد 13 : 1 . وفي المصدر : «الر» .
5- . تفسير العيّاشي ، ج 2 ، ص 3 ، ح 3 ؛ تفسير الصافي ، ج 1 ، ص 90 ؛ بحار الأنوار ، ج 52 ، ص 106 ، ح 13 .

تنوير

اعلم أنّ هذا الخبر من غوامض الأخبار ، ومتشابهات الآثار ، ومعضلات الأسرار ، والاعتراف بالعجز والقصور عن فهمه أولى ، والإذعان بردّه إلى قائله أحرى ، ولم أعثر على مَن تعرّض لحلّ غوامضه سوى العلاّمة المجلسيّ رحمه الله في الأربعين ، وهو رحمه اللهوإن بالغ في التحقيق وتجاوز النهاية في التدقيق إلاّ أنّه لم يعثر على حقيقة معناه ، ولم يصب كنه مبناه ، كما سيتّضح لك الحال .

قال رحمه الله :

الذي يخطر بالبال في حلّ هذا الخبر الذي هو من معضلات الأخبار ومخبّيات الأسرار هو : أنّه عليه السلام بيّن أنّ الحروف المقطّعة التي في فواتح السور إشارة إلى ظهور ملك جماعة من أهل الحقّ وجماعة من أهل الباطل ، فاستخرج ولادة النبيّ صلى الله عليه و آله من عدد أسماء الحروف المبسوطة بزبرها وتبيانها كما يتلفّظ بها عند قراءتها بحذف المكرّرات ، كأن تعدّ ألف لام ميم تسعة ، ولا تُعد متكرّرة بتكرّرها في خمس من السور ، فإذا عددتها كذلك تصير مائة وثلاثة أحرف ، وهذا يوافق تأريخ ولادة النبيّ صلى الله عليه و آله ؛ لأنّه قد كان مضى من الألف السابع من ابتداء خلق آدم مائة سنة وثلاث سنين ، وإليه أشار بقوله «وتبيانه» أي تبيان تاريخ ولادته صلى الله عليه و آله .

ثمّ بيّن عليه السلام أنّ كلّ واحدة من تلك الفواتح إشارة إلى ظهور دولة من بني هاشم ظهرت عند انقضائها ، ف- «الم» الذي في سورة البقرة إشارة إلى ظهور دولة الرسول صلى الله عليه و آله ، إذ أوّل دولة ظهرت من بني هاشم كانت دولة عبدالمطّلب ، فهو مبدأ التأريخ ، ومن ظهور دولته إلى ظهور دولة الرسول وبعثته كان قريباً من إحدى وسبعين ، الذي هو عدد «الم» ، ف- «الم ذلك» إشارة إلى ذلك .

وبعد ذلك في نظم القرآن «الم» الذي في آل عمران ، فهو إشارة إلى خروج الحسين عليه السلام ؛ إذ كان خروجه في أواخر سنة ستّين من الهجرة ، وكان بعثته صلى الله عليه و آله قبل الهجرة نحواً من ثلاث عشرة سنة ، وإنّما كان شيوع أمره وظهوره بعد سنتين من البعثة .

ثمّ بعد ذلك في نظم القرآن «المص» وقد ظهرت دولة بني العبّاس عند انقضائها ،

ص: 387

ويشكل هذا بأنّ ظهور دولتهم وابتداء بيعتهم كان في سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، وقد مضى من البعثة مائة وخمس وأربعون سنة ، فلا يوافق ما في الخبر .

ويمكن التفصّي عنه بوجوه :

الأوّل : أن يكون مبدأ هذا التاريخ غير مبدأ «الم» بأن يكون مبدؤه ولادة النبيّ مثلاً ، فإنّ بدو دعوة بني العبّاس كانت في سنة مائة من الهجرة ، وظهور بعض أمرهم في خراسان كان في سنة سبع أو ثمان ومأة ، ومن ولادته صلى الله عليه و آله إلى ذلك الزمان كان مائة وإحدى وستّين سنة .

الثاني : أن يكون المراد بقيام قائم ولد العبّاس : استقرار دولتهم وتمكّنهم ، وذلك كان في أواخر زمن المنصور ، وهو يوافق هذا التاريخ من البعثة .

الثالث : أن يكون هذا الحساب مبنيّاً على حساب أبجد القديم الذي ينسب إلى المغاربة ، وفيه «سعفص» «قرشت» «ثخذ» «ضظغ» فالصاد في حسابهم ستّون ، فيكون مائة وإحدى وثلاثين ، فيوافق تاريخه (الم) ؛ إذ في سنة مائة وسبع عشرة من الهجرة ظهرت دعوتهم في خراسان فاُخذوا وقُتل بعضهم .

ويحتمل أن يكون مبدأ هذا التاريخ زمان نزول الآية ، وهي وإن كان مكّيّة - كما هو المشهور - فيحتمل أن يكون نزولها في زمان قريب من الهجرة ، فيقرب من بيعتهم الظاهرة ، وإن كانت مدنيّة فيمكن أن يكون نزولها في زمانه صلى الله عليه و آله (1) ينطبق على بيعتهم بغير تفاوت .

ويؤيّد التصحيف ما رواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار بإسناده عن جمعة بن صدقة ، قال : أتى رجل من بني اُميّة - وكان زنديقاً - إلى جعفر بن محمّد عليهماالسلام ، فقال : قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه : المص أيّ شيء أراد بهذا ؟ وأيّ شيء فيه من الحلال

والحرام ؟ وأيّ شيء فيه ممّا ينتفع به الناس ؟

فاغتاظ من ذلك جعفر بن محمّد عليهماالسلام ، فقال : «أمسك ويحك ، الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد ستّون ، كم معك ؟» فقال الرجل : إحدى وثلاثون

ص: 388


1- . في المصدر : «في زمان» .

ومائة . فقال جعفر بن محمّد : «إذا انقضت سنة إحدى وثلاثين ومائة انقضى ملك أصحابك» . قال : فنظرنا فلمّا انقضت سنة إحدى وثلاثين ومائة يوم عاشوراء دخلت المسوّدة الكوفة وذهب ملكهم .

فإنّ هذا الخبر على ما في أكثر النسخ القديمة صريح في أنّ مبنى التأريخ على الحساب الذي أومأنا إليه ، وهو يستقيم إذا كان مبدأ التأريخ البعثة أو وقت نزول الآية ، والأخير أظهر .

وصحّف بعض من نظر في ذلك الكتاب ولم يطّلع على حساب المغاربة ، فكتب مكان ستّون : «تسعون» ، زعماً منه أنّه من غلط الناسخين ، ولم يتفطّن أنّه لا يوافق ما ذُكر بعده من حساب المجموع ، ولا يوافق تأريخ خروجهم بوجه ، فإنّه لا يستقيم إذا كان مبدأ التاريخ البعثة ، أو نزول الآية ، ولا على تأريخ الهجرة مع بُعد ابتنائه عليه ، لتأخُّر حدوثه عن وفاة الرسول ، ولا على تأريخ عام الفيل ؛ لأنّه يزيد على واحد وستّين ومائة .

ومثل هذا التصحيف كثيراً مّا يصدر من النسّاخ ؛ لعدم معرفتهم بما عليه بناء الخبر ، فيزعمون أنّ ستّين غلط ، لعدم مطابقته لما عندهم من الحساب ، فيصحّفونها على ما يوافق زعمهم .

قوله : «فلمّا بلغت مدّته» أي كملت المدّة المتعلّقة بخروج الحسين عليه السلام ، فإنّ ما بين شهادته عليه السلام إلى خروج بني العبّاس كان من توابع خروجه ، وقد انتقم اللّه له من بني اُميّة في تلك المدّة إلى أن استأصلهم .

قوله : «ويقوم قائمنا عند انقضائها ب- «المر»(1)» هذا ، ويحتمل وجوهاً :

الأوّل : أن يكون من الأخبار المشروطة بالبداء ولم يتحقّق ؛ لعدم تحقّق شرطه كما تدلّ عليه أخبار كثيرة أوردناها في كتابنا الكبير .

الثاني : أن يكون تصحيف «المر» ، ويكون مبدأ التاريخ ظهور النبيّ صلى الله عليه و آله قريباً من البعثة ك- «الم» ، ويكون المراد بقيام القائم قيامه بالإمامة تورية ، فإنّ إمامته عليه السلام

ص: 389


1- . في المصدر : «الر» .

كانت في سنة ستّين ومائتين ، فإذا اُضيف إليها أحد عشر سنة قبل البعثة يوافق ذلك .

الثالث : أن يكون المراد جميع أعداد كلّ «الر» يكون في القرآن ، وهي خمس مجموعها ألف ومائة وخمس وخمسون ، ويؤيّده أنّه عليه السلام عند ذكر «الم»لتكرّره ذكر ما بعده فتعيّن السورة المقصودة ، ويتبيّن أنّ المراد واحدة منها بخلاف «الر» لكون المراد جميعها ، فتفطّن .

ويؤيّده ما رواه الشيخ الجليل الحسن بن سليمان تلميذ الشهيد في كتاب المحتضر(1) ، قال : روي أنّه وجد بخطّ مولانا أبي محمّد الحسن العسكريّ عليه السلام ما صورته : «قد صعدنا ذُرى الحقائق بأقدام النبوّة والولاية - وساقه إلى أن قال فيه : -

وسيسفر لهم ينابيع الحيوان بعد لظى النيران لتمام «الم» و«طه»والطواسين ، من السنين» . فإنّه يمكن تفسير هذا الخبر بوجوه :

الأوّل : أن يكون المراد عدّ كلّ «الم» في القرآن سواءاً انضمّ معها غيرها أم لا ، ويعدّ ما انضمَّ إليها أيضا كالصاد في «المص»والراء في «المر» فيرتقي مجموعها مع «طه» والطواسين إلى ألف ومائة وتسعة وخمسين ، وهذا قريب ممّا ذكرنا في الخبر الأوّل ، وهذا الوجه يؤيّده .

الثاني : أن يكون المراد عدّ كلّ «الم» وقع في القرآن مع عدم ضمّ ما انضمّ إليها في الحساب ، فيرتقي إلى ثمانمائة وثمانية وخمسين ، فيكون ابتداء التأريخ من زمان تكلّمه عليه السلام بهذا الكلام ، فإن كان في أواخر زمانه عليه السلام كان بعد مضي مأتين وستّين من الهجرة ، فيكون المراد سنة ألف ومائة وثمان عشر من الهجرة ، ولا يبعد ممّا ذكرنا من الوجه الأوّل كثيراً .

الثالث : أن يكون المراد عدّ(2) «الم» [مرّة] بزبرها وبيّناتها ، وكذا «طه» والطواسين ، فيوافق عدداً وتوجيهاً ما ذكرنا في الوجه الثاني ، وفيه احتمالات اُخر تظهر ممّا ذكرنا للمتدبّر .

الرابع : من الوجوه المحتملة في الخبر الأوّل أن يكون المراد : انقضاء جميع

ص: 390


1- . في المصدر وفي نسخ الكتاب والمطبوع : «المختصر» ، والصحيح ما أثبتناه .
2- . أثبتنا ما في المصدر ، وفي نسخ الكتاب والمطبوع : «عدد» هنا وفي الموردين السابقين أيضا .

الحروف مبتدءاً ب «الر» ، بأن يكون الغرض سقوط «المص» من العدد أو «الم» أيضاً .

وعلى الأوّل يكون : ألفاً وستّمائة وستّة وتسعين ، [وعلى الثاني يكون ألفا وخمسمائة وخمسة عشرين .

وعلى حساب المغاربة يكون على الاُوّل : ألفين وثلاثمائة وخمسة وعشرين(1)] ، وعلى الثاني : ألفين ومائة وأربعة وتسعين . وهذه أنسب بتلك القاعدة الكلّيّة وهي قوله : «وليس من حرف ينقضي» ؛ إذ دولتهم عليهم السلام آخر الدول ، لكنّه بعيد لفظاً ولا نرضى به ، رزقنا اللّه تعجيل فرجه .

ثمّ قال رحمه الله بعد ذلك :

اعلم أنّ هذه التوقيتات على تقدير صحّة أخبارها لا تنافي النهي عن التوقيت ؛ إذ المراد بها النهي عن التوقيت على الحتم لا على وجه يحتمل البداء ، كما صرّح به في كثير من الأخبار ، أو عن التصريح به ، فلا ينافي الرمز والبيان على وجه يحتمل الوجوه الكثيرة ، أو يخصّص بغير المعصوم عليه السلام .

وينافي الأخير بعض الأخبار ، والأوّل أظهر ، وغرضنا من ذكر تلك الوجوه إبداء احتمال لا ينافي ما مرّ من الزمان ، فإن مرّ هذا الزمان ولم يظهر الفرج - والعياذ باللّه - كان ذلك من سوء فهمنا ، واللّه المستعان .

مع أنّ احتمال البداء قائم في كلّ محتملاتها كما رواه الكلينيّ وغيره بأسانيدهم عن عليّ بن يقطين ، قال : قال لي أبوالحسن عليه السلام : «يا عليّ ، إنّ الشيعة تُربَّى بالأماني منذ مائتي سنة» .

[قال :] وقال يقطين لابنه عليّ : ما بالنا قيل لنا فكان ، وقيل لكم فلم يكن ؟ فقال له عليّ : إنّ الذي قيل لنا ولكم من مخرج واحد ، غير أنّ أمركم حضركم فاُعطيتم محضه فكان كما قيل لكم ، وإنّ أمرنا لم يحضر فعلّلنا بالأمانيّ ، ولو قيل لنا : إنّ هذا الأمر لا يكون إلاّ إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة لقست القلوب ولرجعت عامّة الناس

ص: 391


1- . ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر ، وفي بحار الأنوار : «ألفين وثلاثمائة وخمسين» .

عن الإسلام ، ولكن قالوا : ما أسرعه و ما أقربه تألّفاً لقلوب الناس وتقريباً للفرج .

قوله : «تربّى بالأماني» أي يربّيهم ويصلحهم أئمّتهم ، بأن يمنّوهم تعجيل الفرج وقرب ظهور الحقّ ؛ لئلاّ يرتدّوا وييأسوا .

ويقطين كان من أتباع بني العبّاس فقال لابنه عليّ الذي كان من خواصّ الكاظم : ما بالنا وُعدنا دولة بني العبّاس على لسان الرسول والأئمّة عليهم السلام فظهر ما قالوا وما وعدوا ، وأخبروا بظهور دولة أئمّتكم فلم يحصل ؟ والجواب متين ظاهر .

وروى الشيخ والنعمانيّ في كتابي الغيبة بإسنادهما عن أبي حمزة الثماليّ ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : إنّ عليّاً كان يقول : «إلى السبعين بلاء» ، وكان يقول : «بعد البلاء رخاء» ، وقد مضت السبعون ولم نر رخاءا ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : «يا ثابت ، إنّ اللّه تعالى كان وقّت هذا الأمر في السبعين ، فلمّا قُتل الحسين عليه السلام اشتدّ غضب اللّه على أهل الأرض فأخّره إلى أربعين ومائة سنة ، فحدّثناكم فأذعتم الحديث وكشفتم قناع الستر ، فأخّره اللّه ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً عندنا « يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ »»(1) .

قال أبو حمزة : وقلت ذلك لأبي عبداللّه عليه السلام ، فقال : «قد كان ذلك»(2) .

انتهى كلامه رفع مقامه .

وقد بالغ في التحقيق والتدقيق إلاّ أنّه قد انقضى الزمان المذكور ولم تقتضِ المصلحة الظهور ، واللّه العالم بعواقب الاُمور ، وكان يمكن أن نتكلّف وجهاً آخر للتوجيه ، ولكن رأينا الأسلم الاعتراف بالعجز والقصور وإيكال العلم إلى الخبير بحقائق الاُمور .

ص: 392


1- . الرعد 13 : 39 .
2- . الأربعين للمجلسي ، ص 394 - 400 . وراجع : بحار الأنوار ، ج 52 ، ص 107 - 109 .

الحديث الثامن والأربعون:[ تعليل خلق الكافر ]

ما رويناه بأسانيدنا المتقدّمة عن الشيخ الصدوق في التوحيد عن عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق ، عن محمّد بن أبي عبداللّه الكوفيّ ، عن محمّد ابن إسماعيل البرمكيّ ، عن جعفر بن سليمان بن أيّوب الخزّاز ، عن عبداللّه بن الفضل الهاشميّ ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : لأيّ علّة جعل اللّه تبارك وتعالى الأرواح في الأبدان بعد كونها في ملكوته الأعلى في أرفع محلّ ؟

فقال عليه السلام : «إنّ اللّه تبارك وتعالى علم أنّ الأرواح في شرفها وعلوّها متى تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبيّة دونه عزّ وجلّ ، فجعلها بقدرته في الأبدان التي قدّرها في ابتداء التقدير ؛ نظراً لها ورحمة بها ، وأحوج بعضها إلى بعض ، ورفع بعضها فوق بعض درجات ، وكفى بعضها ببعض ، وبعث إليهم رسله ، واتّخذ عليهم حججه ، مبشّرين ومنذرين ، يأمرونهم بتعاطي العبوديّة والتواضع لمعبودهم بالأنواع التي تعبّدهم بها ، ونصب لهم عقوبات في العاجل وعقوبات في الآجل ، ومثوبات في الآجل ؛ ليرغّبهم بذلك في الخير ، ويزهّدهم في الشرّ ليذلّهم بطلب المعاش والمكاسب ، فيعلمون بذلك أنّهم مربوبون وعباد مخلوقون ، ويقبلوا على عبادته ، فيستحقّوا بذلك نعيم الأبد وجنّة الخلد ، ويأمنوا من النزوع إلى ما ليس لهم بحقّ» .

ثمّ قال عليه السلام : «يابن الفضل ، إنّ اللّه تبارك وتعالى أحسن نظراً لعباده منهم لأنفسهم ، ألا ترى أنّك لا ترى منهم إلاّ محبّاً فيهم للعلوّ على غيره ، حتّى أنّ منهم لمن قد نزع إلى دعوى الربوبيّة ، ومنهم من قد نزع إلى دعوى النبوّة بغير حقّها ، ومنهم من قد نزع إلى دعوى الإمامة بغير حقّها ، مع ما يرون في أنفسهم من النقص والعجز والضعف والمهانة والحاجة والفقر والآلام المتناوبة عليهم ، والموت الغالب لهم والقاهر لجميعهم .

ص: 393

يابن الفضل ، إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح بهم « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ

شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »»(1) .(2)

توضيح :

هذا الحديث الشريف يدلّ على أنّ اللّه سبحانه وتعالى لا يفعل بعباده إلاّ ما هو الأصلح بهم ، وأنّ فعل الأصلح على اللّه واجب ، بمعنى أنّه أوجبه على نفسه ، وذلك ممّا اتّفقت عليه العدليّة ودلّت عليه جملة من الأخبار المعصوميّة ، وقد عقد لها الصدوق في كتاب التوحيد باباً على حدة(3) .

وهاهنا إشكال مشهور قد تحيّرت فيه العقول وحارت فيه الفضلاء الفحول ، واضطربت فيه أفهام الأنام ، وتدهّشت فيه أفكار حكماء الإسلام ، وهو : أنّ الكافر الذي سبق علم اللّه فيه أنّه لا يؤمن ولا يسلم باختياره ، ويخلّد في النار في القيامة معذّباً بأشدّ العذاب ومعاقباً بأعظم العقاب ، ما الحكمة والمصلحة في إيجاده وخلقه ، سيّما إذا كان في الدنيا فقيراً مهاناً ذليلاً مبتلى بأنواع البلاء ؟

ومثل هذا السؤال صدر عن إبليس اللعين مع الملائكة المقرّبين معترضاً به على ربّ العالمين بعد تسليم أنّه عدل أحكم الحاكمين ، فأتاه الجواب بأنّك لو صدقت في أنّي حكيم [لِمَ] سألت عن ذلك ؟ وإنّي لا اُسأل عمّا أفعل وهم يُسألون(4) .

وهذا الجواب يقتضي أنّ هذا السؤال من غوامض القضاء والقدر الذي تعجز عنه عقول البشر ، وتحيّر فيه أرباب النظر ، وأنّ الأولى فيه الإيمان والتسليم إجمالاً ، وعدم الفحص عن السبب والحكمة ، فإنّ خفاء الحكمة لا يدلّ على عدمها ، وكم من خبايا في زوايا عجزت عنها العقول ، وتحيّرت فيها الفحول ، وبقيت في قالب الإشكال

ص: 394


1- . يونس 10 : 44 .
2- . التوحيد ، ص 402 ، باب أنّ اللّه لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح لهم ، ح 9 ؛ علل الشرائع ، ج 1 ، ص 15 ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 133 ، ح 6 .
3- . التوحيد ، ص 398 ؛ باب أنّ اللّه تعالى لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح لهم .
4- . لم نظفر به .

والداء العضال ، فكان السكوت عن هذه المسألة والبحث عنها أحقّ وأحرى وأسلم وأقوى ، والخوض فيها من الفضول المنهيّ عنه .

وقد ورد في الحديث : «إنّ اللّه سكت عن أشياء ولم يسكت عنها نسياناً ولا جهلاً ، فلا تتكلّفوها»(1) ، ولكن لشقاوتنا لم نزل نترك ما يجب علينا علمه ونخوض فيما نهينا عنه ، والمستعان باللّه على نفوسنا الأمّارة بالسوء .

وكيف كان ، فللناس في التخرّج عن ذلك مذاهب وطرق عديدة :

أحدها : أنّه قد تقرّر في علم الكلام أنّ الأصلح واجب على العزيز العلاّم .

ويدلّ عليه قوله تعالى : « كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ »(2) ، والقائل بأنّه تعالى لا يجب عليه شيء إنّما هو هرب عن لفظ الإيجاب هيبة من سطوة ربّ الأرباب ، وكان الأولى بالأدب والأحسن بالمهرب أن يقول : إنّه تعالى أوجب على نفسه ذلك ، فيتحرّى أحسن المسالك .

والقول الفصل ، والكلام الجزل في هذا المقام ، وتحقيق هذا المرام : أنّ باني هذه الدار ، الملك الحكيم القادر الجبّار ، لم يخلق لداره ما هو شرّ مطلقاً ؛ لأنّه مخالف لحكمته ، ومناف لعدله ورحمته ، والإنسان مع كونه جاهلاً عاجزاً يبني لنفسه داراً ويرفع جداراً ، ويعيّن خلوة لخاصّته ، ورواقاً لأهل صحبته وغرفة لندمائه ، وحجرة لزوجته ، واُخرى لإمائه ، ومخزناً لجواهره الغالية الشريفة ، وملابسه الثمينة النظيفة ، وبيتاً للروائح العطرة والأشربة الطيّبة المطهّرة ، ومحرزاً للأدوية المرّة ، وموضعاً

للكنيف ، ومخبزاً للرغيف ، ومطبخاً للطبخ ، ومسلخاً للسلخ ، ومبرزاً للفضلات ، وبالوعة لصبّ الغسالات ، ومطرحا لإلقاء القمامات ، ومستحمّا للغسل ، واصطبلاً للدوابّ ، ومكاناً لغسل الأواني والثياب .

ويعيّن بعض غلمانه لملازمته ومرافقته ومجالسته ومنادمته ، وبعضاً لصيانة أمتعته المرغوبة ، وآخر لأطعمته وأشربته وحوائجه المطلوبة ، وبعضاً للطحن والخبز

ص: 395


1- . وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 260 ، ح 20452 مع اختلاف في العبارة .
2- . الأنعام 3 : 54 .

والطبخ ، وبعضاً للكنس والفرش والسلخ ، وبعضاً لخدمة الفرس والحمار ، وبعضاً لحراسة ما في الدار .

ولو اعترض عليه أحد بأنّك لِمَ بنيت هذا المقام للجلوس والمنام ؟ وهذا المكان مطبخاً للطعام ؟ وهذا الموضع مصبّاً للقاذورات ؟ وهذا البيت محرزاً للأدوية والمكروهات ؟ وهلاّ جعلت كلّ بيوت الدار مفروشاً نظيفاً مطيّباً بالروائح الطيّبة رشيقاً ؟ ولم جعلت غلامك الفلانيّ للكنس وخدمة الدوابّ ؟ ولم ألبست ذلك العبد فاخر الثياب ؟ وذاك الثياب الغليظة القذرة ؟ وجعلت ذلك لتنظيف الدار من العذرة ؟ وهلاّ جعلت الكلّ للمنادمة والمجالسة والمصاحبة والمؤانسة ؟ لضحك صاحب الدار من سخافة عقله ، وسفاهة رأيه ، وغفلته عمّا لاحظه هو وقصده في ترتيب الدار ، وإنّما استعمل غلمانه فيما هو الأليق باستعدادهم ، والأوفق بنظام حال الدار وما أحاط به الجدار ، والأصلح بحالهم وبعمارة الدار على ما يقتضيه صلاح الجميع ونظام الكلّ من حيث هو كلّ ، لا بخصوص فرد فرد من الشريف والوضيع ، وهذا هو مطمح نظر الحكيم الحقّ والعظيم المطلق .

وبالجملة ، الغاية الأزليّة متعلّقة بتدبير الكلّ من حيث هو كلّ أوّلاً وبالذات ، وبتدبير الجزء ثانياً بالعرض لا بالذات ، ولا يمكن أن يكون نظام الكلّ أحسن من نظام الواقع وإن أمكن لكلّ فرد فرد ما هو أكمل منه بالنظر إلى خصوصيّته في الواقع ، لكنّه

حينئذٍ يكون مخلاًّ بحسن نظام الكلّ وإن خفي علينا وجهه ، فتعالى الخالق الصانع .

وقد عرفت أنّ المعمار الباني للدار إذا طرح نقش عمارة فربّما كان الأحسن لتلك العمارة من حيث الكلّ أن يكون بعض أطرافه مبرزاً ، والطرف الآخر مَخبَزاً ، والبعض الآخر مجلساً ، والآخر مطبخاً ، والجانب الآخر مخزناً ، والآخر مسلخاً ، بحيث لو غيّر

هذا الوضع لاختلّ مجموع نظم العمارة ، وانحطّ عن مرتبة الجمال والنضارة ، وإن كان الأحسن نظراً إلى خصوصيّة كلّ فرد من الأجزاء أن يكون مجلساً مثلاً ومكاناً نظيفاً مرغوباً للجالسين وغرفة لا يبغون عنها حولاً .

فكلّنا بنظام الكلّ مربوط *** والكلّ بالكلّ ممزوج ومخلوط

لكن تفاوتت الأقدار من سبب *** فبعضنا غابط والبعض مغبوط

ص: 396

وبتقرير آخر وهو : أنّ اللّه سبحانه وتعالى لو اقتصر على الممكن الأشرف في الإيجاد لبقيت كلّ الموجودات طبقة واحدة ، بل انحصرت في أوّل المخلوقات الذي هو العقل الأوّل ، أو النور المحمّديّ ، أو العرش ، أو غير ذلك على اختلاف الآراء ،

ولبقيت المراتب الباقية في كتم العدم مع إمكان وجودها ، فكان حيفاً عليها وجوراً لا عدلاً وقسطاً .

فالعناية الإلهيّة تقتضي نظام الوجود على أحسن ما يمكن ، فلو أمكن أحسن ممّا هو عليه الآن لوجد من وجود الواهب المنّان ، ولو تساوت الموجودات في الشرف والكمال والنقص والتمام لفات الحسن في ترتيب النظام وارتفع الصلاح ، ولو لم توجد النفوس الشقيّة والطبائع الغليظة لكانت لا تتمشّى اُمورهم ولا تتهيّأ مصالحهم ، ولبقي الاحتياج إليها في العالم مع فقدها .

كما لو كان البصل زعفراناً ، والدّقلي(1) اقحواناً(2) ، أو لو لم يوجد البصل والدقلي أصلاً لحُرم الناس من منافعها وتضرّروا في فقدها مع إمكان وجودها ، وكما لا يختلج في صدرك أنّ البصل لِمَ لم يكن زعفراناً ، والقيصوم(3) ضيمراناً ،(4) والكلب أسداً ، والوهم عقلاً ، فيجب أن لا ينقدح في قلبك وبالك إذن أنّ باقلاً(5) لِمَ لم يكن سحباناً ، والفقير سلطاناً ، والشقيّ سعيداً ، والجاهل الشرّير عالماً خيّراً إذ لو كان كذلك لاضطرّ السلطان إلى صنعة الكنس ، والحكيم المتألّه إلى مباشرة الرجس . ولم يبق التناسل

ص: 397


1- . الدقل بالتحريك : أردى التمر . كتاب العين ، ج 5 ، ص 116 دقل .
2- . الاُقحوان : نبات له زهرة صفراء صغيرة في الوسط ، تحيط بها أوراق من الزهر الأبيض الصغير يشبّه الشعراء بها الأسنان . انظر : لسان العرب ، ج 15 ، ص 171 قحو .
3- . القيصوم : نبت طيّب الرائحة ، وهو من نبات السهل . لسان العرب ، ج 12 ، ص 487 قصم .
4- . الضيمران : ريحان البرّ أو الريحان الفارسيّ . لسان العرب ، ج 4 ، ص 493 ضمر .
5- . باقل : اسم رجل من ربيعة وكان عيّيا ، وبلغ من عيّه أنّه كان اشترى ظبياً بأحد عشر درهما ، فقيل له : بكم اشتريت الظبي ؟ ففتح كفّيه وفرّق اُصابعه وأخرج لسانه يشير بذلك إلى أحد عشر ، فانفلت الظبي وذهب ، فضربوا به المثل : أعيا عن باقل . انظر : لسان العرب ، ج 11 ، ص 62 بقل . وسحبان أيضا رجل من وائل ، وكان لَسِنا بليغا ، يضرب به المثل في البيان والفصاحة . لسان العرب ، ج 1 ، ص 461 (سحب) .

على تقدير التماثل وبطل النظام ووقع الهرج والمرج بالتمام فلم يكن ذلك عدلاً بل كان ظلماً وجوراً .

ثمّ إنّ الدنيّ لا يتألّم من دناءته ، والخسيس لا يتضرّر من خساسته ، والجاهل جهلاً بسيطاً لا يتعذّب لجهله ، والعامي الأعمى البصيرة لا يشقى بعماه الأصليّ ؛ لكون كلّ منها لم يغيّر عمّا هو عليه ليتألّم بفقر كماله ويتعذّب بضدّ حاله ، بل كان كلّ أحد يعشق ذاته ويحبّ نفسه وإن كان خسيساً دنيّاً ، وفي المثل السائر : غثّك خير من سمين غيرك ؛ فمن أساء في عمله وأخطأ في اعتقاده فإنّما ظلم نفسه بظلمه جوهره وسوء استعداده ، وكان أهلاً للشقاوة ، وينادى على لسان المالك : مهلاً ، فيداك كسبتا وفوك نفخ(1) ، وإنّما قصر استعداده واظلم جوهره لعدم إمكانه(2) كونه أخسّ ممّا وجد كما لا يمكن أن يلد القرد إنساناً في أحسن صورة وأكمل سيرة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم(3) .

وبالجملة ، تفاوت الخلق فيالكمال والنقص والسعادة والشقاوة إمّا باُمور ذاتيّة جوهريّة ، وإمّا باُمور عارضة كسبيّة بواسطة الأعمال والأفعال :

فالاختلاف بحسب الاُمور الذاتيّة بمحض العناية الإلهيّة المتقضّية لحسن الترتيب وفضيلة النظام ، وليس منشأً لإشكالٍ أصلاً كما علمت .

وأمّا بحسب العوارض اللاحقة فهي من اللوازم والتوابع الحاصلة بمصادفات الأسباب ، فكلّ آفة وشرّ تلحق الشيء بسبب أمر خارج اتّفاقيّ فليس ممّا يدوم عليه ، بل يزول بزوال سببه ، وسيعود الشيء إلى ما كان عليه أوّلاً من طبيعته الأصليّة ؛ إذ

الأسباب الاتفاقيّة غير دائمة ولا أكثريّة في الوجود ، اللّهمّ إلاّ أن تنقل طبيعة الشيء

ص: 398


1- . أصل المثل : يداك أوكتا وفوك نفخ . يقال في التوبيخ ، أصله : أنّ رجلاً كان في جزيرة من جزائر البحر فأراد أن يعبر على زقّ قد نفخ فيه ، فلم يُحسن إحكامه حتى إذا توسّط البحر خرجت منه الريح فغرق ، فلما غشيه الموت استغاث برجل فقال له : يداك أو كتا سدّتا الزقّ وفوك نفخ . مجمع الأمثال ، ج 2 ، ص 335 .
2- . في «ث» : «بعد إمكانه» .
3- . هذا تلفيق من آيتي 118 و 19 من سورة هود 11 .

إلى طبيعة اُخرى ، فتكون هذه الثانية طبيعة أصليّة ، والكلام فيها عائد من أنّ ما يكون عارضاً غريباً لها يزول عنها بسرعة ، فعلم أنّ أكثر أحوال الشيء الخير والسلامة ، والآفة والشرّ من النوادر الاتّفاقيّة .

وبتقرير آخر : إنّ هذا العالم بهذا الصنع الحسن وذاك النمط المتقن الموضوع على نمط غريب وطرز عجيب ، تحيّر فيه العقول ، وتذعن له اُولوا الألباب من الفحول ، مرتبط بعضه ببعض كمال الارتباط ، ومحتاج بعضه إلى بعض كمال الاحتياج ، فهو كالإنسان الذي له أعضاء وجوارح وحواسّ ظاهرة وباطنة ، مرتبط بعضها ببعض ، ومحتاج بعضها إلى بعض .

وقد ورد في الأخبار أنّه لمّا قال قائل بحضور أحد المعصومين الأطهار : اللّهمّ أغنني عن خلقك نهاه عليه السلام عن ذلك وزجره عمّا هنالك ، وقال : «لا تقل هكذا ، فإنّ الخلق كالأعضاء يحتاج بعضها إلى بعض» ، وفي خبرٍ : «كالأصابع مرتبط بعضها ببعض» ، قل : اللّهمّ أغنني عن شرار خلقك» .(1)

وحينئذٍ فكما أنّ الإنسان لا تتحقّق فيه الإنسانيّة ، ولا يتمكّن إلاّ بخلق أعضاء رئيسيّة ، وأعضاء خادمة لتلك الرئيسيّة ، وأعضاء علويّة وأعضاء سفليّة ، بدون ذلك لا يكون إنساناً على نمط حسن وطرز متقن ، فكذا هذا العالم لا يمكن إيجاده إلاّ على هذا

النحو بأن يكون فيه إنسان رئيس وآخر خسّيس ، وهكذا .

فكما في الإنسان لا ينسب إليه الظلم ولا يقال : لِمَ جعلت الرجل أسفل والرأس أعلى والأعضاء والجوارح خادمة للقلب ؟ ولِمَ لم تجعل كلّها رئيسيّة ، فكذا هنا لا يمكن أن يقال ذلك بعينه من دون تفاوت أصلاً ، فإنّ الإنسان عالَم صغير وهو اُنموذج للعالم الكبير ، وكما لا يخفى على المحقّق الخبير ، والناقد البصير ، ولا ينبّئك مثل خبير .

ثانيها : أن يقال : إنّه قد ثبت في موضعه أنّ الماهيّات ليست بجعل جاعل ، وحينئذٍ فبعد ما ثبت أنّ الكافر مستحقّ للعقاب فالعقل يحكم بأنّ إيجاده لا فساد فيه أصلاً ،

ص: 399


1- . انظر : بحار الأنوار ، ج 75 ، ص 135 ؛ مستدرك الوسائل ، ج 5 ، ص 262 ، ج 5830 .

بعد أن لم يجعل اللّه ذاته كذلك ، وإن علم موجده أنّه يصدر عنه اُمور يستحقّ بها العذاب الدائميّ ؛ لأنّ صدور هذه الاُمور قد فرض أنّه باختياره ، فيستحقّ العقاب والذمّ عليه .

ثالثها : أن يقال : إنّ نعمة الوجود لا توازيها نعمة ، فمن كان مبتلى بالعذاب الدائميّ ، فنعمة الوجود راجحة عليه ومأثورة عند العقلاء .

وبالجملة ، فالوجود أشرف من العدم مطلقاً ، والدليل على ذلك أنّه قد شوهد بعض الناس يحترق بالنار ويصطلي فيها فيدعوه بعض من هو خارج عنها بأن يأتي قريباً منه ليضرب عنقه ويخلّصه من النار ، فلمّا يروم ضرب رقبته يفرّ منه إليها ، وما ذلك إلاّ

لإيثار ساعة من الوجود الكذائيّ على العدم .

رابعها : ما عليه جماعة من الصوفيّة ، وحاصله : أنّ للّه تعالى صفات وأسماءً متقابلة هي من أوصاف الكمال ونعوت الجلال ، ولها مظاهر متباينة بها يظهر أثر تلك الأسماء ، فكلّ من الأسماء يوجب تعلّق إرادته سبحانه وقدرته إلى إيجاد مخلوق يدلّ عليه من حيث اتّصافه بتلك الصفة ، فلذلك اقتضت رحمة اللّه عزّوجلّ إيجاد المخلوقات كلّها لتكون مظاهراً لأسمائه الحسنى ، ومجالي لصفاته العليا .

مثلاً : لمّا كان قهّاراً أوجد المظاهر القهريّة التي لا يترتّب عليها إلاّ أثر القهر من الجحيم وساكنيه ، والزقّوم ومتناوليه ، ولمّا كان عفوّاً غفوراً أوجد مجالي للعفو والغفران ، يظهر فيها آثار رحمة اللّه ، وقس على هذا ، فالملائكة ومن ضاهاهم من الأخيار وأهل الجنّة مظاهر اللطف ، والشياطين ومن والاهم من الأشرار وأهل النار مظاهر القهر .

ومن هذا يظهر وجه اختلاف الناس في السعادة والشقاوة فمنهم شقيّ وسعيد ، فظهر أن لا وجه لإسناد الظلم والقبائح إلى اللّه تعالى ؛ لأنّ هذا الترتيب والتمييز من وقوع فريق في طريق اللطف ، وآخر في طريق القهر من ضروريّات الوجود والإيجاد ، ومن مقتضيات الحكمة والعدالة .

ومن هنا قال بعض العلماء :

ليت شعري لم لا ينسب الظلم إلى الملك المجازيّ ، حيث يجعل بعض من تحت

ص: 400

تصرّفه وزيراً قريباً ، وبعضهم كنّاساً بعيداً ؛ لأنّ كلاًّ منهما من ضروريّات مملكته ، وينسب الظلم إلى اللّه تعالى في تخصيص كلّ من عبيده بما خصّص ، مع أنّ كلاًّ منهما ضروريّ في مقامه هذا .

وهذه الأجوبة كلّها لا تخلو من نظر .

أمّا الأوّل : فلإباء العقل السليم ، والفهم المستقيم من أن يحسن إيلام شخص ليكون غيره في راحة وسرور ، وكيف يجوز أن يكون ذات الواجب تعالى مع كونه محض الوجود عندهم وبحت الخير مستلزماً لمثل هذا الأمر ؟ ولو جاز مثل هذا لجاز أن تكون ذاته تعالى مستلزمة لشرور كثيرة إمّا مساوية للخيرات أو أزيد منها من دون تفرقة أصلاً، والفرق بين الشرّ القليل والكثير فيما نحن فيه لا وجه له قطعاً.

وأمّا الجواب الثاني : ففيه كلام طويل وأبحاث دقيقة مذكورة في محلّها ، ذكرها يوجب التطويل ، ويفهم بعضها ممّا تقدّم في مسألة الجبر والاختيار .

وأمّا الثالث : فلأنّ العقل السليم يحكم حكماً قطعيّاً ويجزم جزماً بديهيّاً بأنّ العدم البحت خير من مثل هذا الوجود بالنسبة إلى ذلك المعذّب بأنواع العذاب ، ولهذا ورد أنّ أهل جهنّم يتمنّون الموت(1) . وورد في بعض الأدعية : «ليت اُمّي لم تلدني»(2) ، وفي الآية : « وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً »(3) .

وأمّا الطريق الأخير فهو واضح الفساد ؛ إذ لا يرجع محصّله إلاّ إلى ذاته تعالى باعتبار بعض صفاته العليّة تستلزم عذاب شخص وبقاءه في العقاب الشديد دائماً ، وهذا ممّا لا ينبغي أن يتفوّه به جاهل فضلاً عن عاقل ، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ، ولعلّهم أرادوا بذلك غير ظاهره فيحالوا إلى باطنهم .

وبالجملة ، فالاعتراف بالعجز والقصور ، والإذعان والتسليم أولى من الخوض في ارتكاب هذه الأجوبة الركيكة . وهذه المسألة من غوامض القدر المنهي عن الخوض

ص: 401


1- . فمنه ما ورد عن عليّ عليه السلام في قوله تعالى حكاية عن أهل النار : «ونادوا يا مالك ليقض علينا ربّك» أي نموت ، فيقول مالك : «إنّكم ماكثون» الزخرف 43 : 77 . راجع : تفسير القمي ، ج 2 ، ص 289 .
2- . الصحيفة السجاديّة ، ص 404 .
3- . النبأ 78 : 40 .

فيه ، فنكل علمها إلى اللّه سبحانه وأوليائه .

واعلم أنّ المحدّث الحرّ العامليّ قد ألّف رسالة طويلة الذيل في تعليل خلق الكافر(1) ، ولم يأت فيها بشيء تطمئنّ النفس إليه ويعوّل العقل عليه .

وحاصل ما فيها بعد بطلان الجبر وثبوت الاختيار ، وذكر جواباً إجماليّاً وهو : أنّه قد ثبت بالأدلّة العقليّة والنقليّة أنّ اللّه عدل حكيم لا يفعل قبيحاً ولا يخلّ بواجب ، وأنّه منزّه عن الظلم والعبث والنقص والجهل ، فوجب أن نَجْزم بأنّ جميع أفعاله موافقة للمصلحة والحكمة وإن لم يظهر لنا وجهها ، ثمّ ذكر اثني عشر علّة تفصيليّة:

الاُولى : إرادة وقوع العبادة منه باختياره أو تكليفه بالعبادة ، كما أنّ هذه العلّة في خلق المؤمن ، وهذه العلّة مستفادة من جملة من الآيات أوضحها قوله تعالى :

« وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ »(2) ، فإنّ الجمع بين الجنّ والإنس ، وحصر علّة خلقهم في العبادة شامل للمؤمن والكافر ، خصوصاً مع ملاحظة قلّة المؤمن جدّاً بالنسبة إلى الكفّار ، فإنّ أكثرهم كفّار ، والحصر إضافيّ بالنسبة إلى الرزق ونحوه ، أو باعتبار الأظهريّة والأكمليّة .

الثانية : إرادة كونه دليلاً من جملة الأدلّة على معرفة الخالق ووجوده ووفور كرمه وجوده كما يستفاد من الحديث القدسيّ : «كنت كنزاً مخفيّاً فأحببت أن اُعرف ، فخلقت الخلق لكي اُعرَف»(3) .

الثالثة : إظهار القدرة الكاملة والحكمة الباهرة من حيث أنّ اللّه قد خلق المؤمن والكافر ، وما حكمته ظاهرة وما حكمته خفيّة ، وما تميل إليه الطباع وتنفر عنه ، وخلق أصناف المخلوقات مع اختلاف أقسامهم وألوانهم ، وطبائعهم وألسنتهم ، وأحوالهم وموادّهم ، وعناصرهم وشهوتهم ، ولو خلقهم على وجه واحد لظنّ بعض القاصرين عجزه تعالى عن ذلك وأنّه تعالى موجَب غير مختار .

ص: 402


1- . انظر : الذريعة ، ج 7 ، ص 246 .
2- . الذاريات 51 : 56 .
3- . انظر : بحار الأنوار ، ج 84 ، ص 198 .

الرابعة : الإشارة والإيماء إلى بطلان الجبر والإلجاء ، فإنّ وجود المؤمن والكافر والمطيع والعاصي والخير والشرّ ، وكون المؤمن قد يكفر ، والكافر قد يؤمن والعادل قد يفسق ، والفاسق قد يتوب ، يدلّ على بطلان الجبر ، فإنّه لو كان جائزاً أو لازماً لكان المناسب لحكمة اللّه تعالى أن يجبر الإنسان على الخير والإيمان والطاعة لا على أضدادها .

الخامسة : إظهار تمام الحلم وكمال الرحمة والبعد عن الظلم بإمهال الظالم والعاصي ، وإنظار من صدر منه أكبر الكبائر وأعظم المعاصي ؛ ليتوب من تاب وينيب إليه من أناب .

السادسة : إرادة حصول نفع دنيويّ من الكافر للمؤمنين ، كما يشاهد عياناً من أنّ جملة من الكفّار قائمون بخدمة المسلمين وأعمالهم ، ومُعينون لهم على إقامة نظام معايشهم ، وفي الصناعات والزراعات والتجارات والجهاد والقتال ، وحينئذٍ فخلق الكافر كخلق الدابّة لما فيها من عظيم المنفعة ، بل منفعة الكافر أعظم غالباً .

السابعة : إرادة إظهار حسن الإيمان أو زيادة حسنه عند ظهور قبح الكفر ، وكذا إظهار قدر نعمة الإيمان والهداية ومنّة اللطف والتوفيق والعناية ، فإنّ الأشياء تتبيّن بأضدادها ، والنعمة يعرف قدرها عند فقدها أو رؤية فاقدها ، ولهذا قيل : أربعة لا يعرف قدرها إلاّ أربعة : الشباب لا يعرف قدره إلاّ الشيوخ ، والعافية لا يعرف قدرها إلاّ أهل البلاء ، والصحّة لا يعرف قدرها إلاّ المرضى ، والحياة لا يعرف قدرها إلاّ الموتى ؛ فكان خلق الكافر لطفاً للمؤمنين وموجباً لثباتهم على الدين .

الثامنة : إرادة كون المؤمن في الدنيا خائفاً وجلاً عاملاً بالتقيّة ، فإنّ ذلك لطف عظيم ، وقد روى الصدوق في الأمالي : أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان أحبّ الأشياء إليه أن يُرى خائفاً جائعاً .

التاسعة : إرادة المنع من القول بالغلوّ في الأنبياء والمرسلين والأئمّة الطاهرين ، فإنّه حيث كان لهم أعداء وأضداد وأنداد يقتلونهم ويؤذونهم ، وكانوا تارة غالبين وتارة مغلوبين ظهر بطلان قول من ادّعى الاُلوهيّة فيهم ، ولولا ذلك لاعتقد كثير من الناس ذلك .

العاشرة : إظهار وفور الجود والكرم وكثرة الإحسان والنعم ، وبيان أنّ اللّه أكرم

ص: 403

الأكرمين وخير الرازقين ، حيث إنّه ينعم على المستحقّين وغيرهم ويرزق المطيعين وغيرهم ، فيحصل الاعتبار ويدعو إلى ترك القنوط عن رحمة اللّه والاعتماد على غيره ، وهو لطف عظيم .

الحادية عشرة : إظهار حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة ، فيكون ذلك داعياً إلى الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة كما قال عليه السلام : «لو كانت الدنيا تساوي عند اللّه جناح بعوضة لما سقى اللّه الكافر منها شربة ماء»(1) .

الثانية عشرة : إرادة تكثير الأنواع السفليّة وتكثير النسل وتعريض نسل الكافر للإسلام .

ثمّ أورد جملة من الأحاديث تدلّ على أنّ أكثر هذه العلل التي ذكرها في سبب إيجاد الخلق وعلّة وجودهم لا خصوص الكافر ، وأنت خبير بأنّ هذه المصالح والحِكَم وإن كانت حقّاً إلاّ أنّ منافعها وفوائدها إنّما ترجع في الكافر إلى غيره كما عرفت سابقاً ؛ فتبقى المسألة في قالب الإشكال ، واللّه العالم بحقائق الأحوال .

ص: 404


1- . انظر : من لا يحضره الفقيه ، ج 4 ، ص 362 ، ح 5762 ؛ وسائل الشيعة ، ج 16 ، ص 17 - 18 ، ح 20846 .

الحديث التاسع والأربعون:[ الدنيا طالبة مطلوبة ]

ما رويناه بالأسانيد عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن هشام بن الحكم ، عن الكاظم عليه السلام أنّه قال له في جملة حديث طويل : «يا هشام ، إنّ العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة ؛ لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة مطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة ؛ فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا ، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة»(1) .

بيان :

قوله عليه السلام : (لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة) أي طالبة للمرء لأن توصل إليه ما عندها من الرزق المقدّر وقوته المقرّر ، (مطلوبة) أي يطلبها الحريص طلباً للزيادة .

و(الآخرة طالبة) لمن في الدنيا ، تطلبه لتوصل إليه أجله المقدّر ووقته المقرّر ، (ومطلوبة) يطلبها أهلها للوصول إلى أشرف درجاتها وأرفع طبقاتها بالأعمال الحسنة والأخلاق الفاضلة .

ويبقى الكلام في النكتة في ترك العاطف في الأوّل والإتيان به في الثاني ، ويمكن أن يكون لوجهين :

الأوّل : أنّه للتنبيه على أنّ الدنيا طالبة موصوفة بالمطلوبيّة ، فتكون الطالبيّة لكونها موصوفة بمنزلة الذات ، فدلّ على أنّ الدنيا من حقّها في ذاتها أن تكون طالبة ، وتكون المطلوبيّة - لكونها صفة لاحقة بالطالبيّة - من الطواري والعوارض التي ليست من حقّ الدنيا في ذاتها أن تكون موصوفة بها ، فلو أتى بالعاطف لفاتت تلك الدلالة .

ص: 405


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 18 ، كتاب العقل والجهل ، ح 12 ؛ تحف العقول ، ص 387 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 139 ، ح 1 ، و ج 75 ، ص 95 - 96 ، ح 1 .

وبتقرير آخر : أنّ المتحقّق من نسبة الطالبيّة والمطلوبيّة إلى الدنيا والواقع منهما في نفس الأمر هو المطلوبيّة ، بناءا على أنّ النفي والإثبات في الكلام راجعان إلى القيد كما هو المقرّر في العربيّة .

ووجهه ظاهر ؛ لظهور أنّ الناس كلّهم - إلاّ من شذّ - طالبون للدنيا ، بخلاف نسبتهما إلى الآخرة فإنّ طالبيّتها أيضاً متحقّقة في نفس الأمر .

الوجه الثاني : أن نجعل قوله : «الدنيا طالبة مطلوبة» خبراً بعد خبر كما هو الظاهر ، وحينئذٍ ففي ترك العاطف دلالة على عدم ارتباط طالبيّتها بمطلوبيّتها ؛ لوقوع الافتراق بينهما باعتبار قلّة طالب الآخرة ، فاحتيج في ربط إحداهما إلى الاُخرى إلى العطف ، بخلاف الدنيا فإنّ كمال اتّصال مطلوبيّة الدنيا بطالبيّتها ، ونهاية ربطها بها ، وعدم افتراقها عنها باعتبار أنّ الدنيا في الواقع مطلوبة للكلّ ، فلا حاجة هنا إلى رابطة مستفادة من العطف ، فلذا ترك العاطف .

ثمّ إنّ الطالبيّة والمطلوبيّة في كلّ من الدنيا والآخرة يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أنّ كلاًّ منهما متّصفة بهما مع قطع النظر عن الاُخرى .

ثانيهما : أنّ كلّ واحدة منهما طالبة عند كون الاُخرى مطلوبة ، ومطلوبة عند كون الاُخرى طالبة ، ويرشد إليه قوله عليه السلام : «فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا» أي حتّى يستوفي منها رزقه ، كما قال صلى الله عليه و آله : «لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها»(1) .

وقال الصادق عليه السلام : «لو كان العبد في جُحر لأتاه اللّه برزقه»(2) .

(ومن طلب الدنيا) وصرف عمره فيها (طلبته الآخرة) حتّى يستوفي منها أجله ، فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه ، لانقطاعها عنه وعدم وفائها له ، وآخرته ؛ لعدم صرف فكره إليها .

ص: 406


1- . الكافي ، ج 5 ، ص 80 ، باب الإجمال في الطلب ، ح 1 و 11 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 321 ، ح 880 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 293 المجلس التاسع والأربعون ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 44 ، ح 21938 .
2- . الكافي ، ج 5 ، ص 81 ، باب الإجمال في الطلب ، ح 4 ؛ وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 46 ، ح 21942 ؛ مستدرك الوسائل ، ج 13 ، ص 28 ، ح 14647 . ولكن في الأخيرين : «لأتاه رزقه» بدل «لأتاه اللّه برزقه» .

الحديث الخمسون :[ بين المرء والحكمة نعمة العالم ، والجاهل شقي بينهما ]

ما رويناه بأسانيدنا المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن المفضّل بن عمر ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «يا مفضّل ، لا يفلح مَن لا يعقل ، ولا يعقل من لا يعلم ، وسوف ينجب من يفهم ، ويظفر من يحلم ، والعلم جُنّة ، والصدق عزّ ، والجهل ذلّ ، والفهم مجدٌ ، والجود نُجْحٌ ، وحسن الخلق مجلبة للمودّة ، والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس ، والحزم مساءة الظنّ ، وبين المرء والحكمة نعمة العالم ، والجاهل شقي بينهما ، واللّه وليّ من عرفه ، وعدوّ من تكلّفه ، والعاقل غفور ، والجاهل ختور ، وإن شئت أن تُكرم فَلِنْ ، وإن شئت أن تُهَن فاخشن ، ومن كَرُمَ أصله لانَ قلبه ، ومن خشن عنصره غلظ كبده ، ومن فرّط تورّط ، ومن خاف العاقبة تثبّت عن التوغّل فيما لا يعلم ، ومن هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه ، ومن لم يعلم لم يفهم ، ومَن لم يفهم لم يسلم ، ومَن لم يسلم لم يكرم ، ومَن لم يكرم يهضم ، ومن يهضم كان ألوم ، ومن كان كذلك كان أحرى أن يندم»(1) .

توضيح :

(لا يفلح من لا يعقل) أي لا يفوز بالدارين ولا ينجو في النشأتين من لا يتّبع حكم العقل ، ومن لا يكون عقله مستولياً على هوى نفسه ، أو من لا يكون عقله كاملاً ، أو من لا يتعقّل ويتفكّر فيما ينفعه ؛ لأنّ العقل هو مبدأ جميع الخيرات ومنشأ جميع الكمالات فلا يتصوّر الفلاح بدونه .

(ولا يعقل مَن لا يعلم) أي من انتفت عنه حقيقة العلم انتفت عنه حقيقة العقل ؛ لأنّ

ص: 407


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 26 ، ح 29 ؛ تحف العقول ، ص 356 ؛ وسائل الشيعة ، ج 18 ، ص 113 ، ح 7 ؛ بحار الأنوار ، 75 ، ص 269 ، ح 109 .

تحقّق حقيقة العقل وقوامها ومراتبها إنّما هو بالعلم ، فإذا انتفى انتفى ، أو من انتفى عنه العلم بقوى النفس ومحاسنها وقبائحها لا يعقل ، يعني لا يستولي عقله على قواه النفسانيّة ؛ ضرورة أنّ استيلاءه عليها متوقّف على العلم بها ، أو المعنى : لا يكون عقله كاملاً ، أو لا يتعقّل من لا يحصّل العلم ليصير ذا علم ، أو من لا يكون عالماً بما يجب عليه ، وما ينبغي تعقّله والتدبّر فيه .

(وسوف ينجب من يفهم) النجيب : الفاضل النفيس في نوعه . والمراد : أنّ من يكون ذا فهم فهو قريب من أن يصير عالماً ، ومن صار عالماً فقريب أن يستولي عقله على هوى نفسه .

(ويظفر من يحلم) الظفر : هو النجاة والفوز بالخيرات ، والحلم - بالكسر - : الأناة ، أي الحلم سبب للظفر على العدوّ ، أو للظفر بالمقصود ، أو للاستيلاء على النفس والشيطان .

(والعلم جُنّة) بالضمّ ، أي وقاية من سهام الشيطان ، أو من غلبة القوى الشهوانيّة والغضبيّة ، أو من الدواعي النفسانيّة ، أو من أن يلتبس عليه الأمر ، وتدخل عليه الشبهة ، أو سبب للاحتراز عن شرّ الأعادي كالجُنّة ؛ إذ بالعلم يمكن الظفر على الأعداء الظاهرة والباطنة .

(والصدق عزٌّ) أي شرف ، أو قوّة وغلبة . وقيل : المراد بالصدق هنا الصدق في الاعتقاد ، ولذا قابله بالجهل ، فإنّ الاعتقاد الكاذب جهل ، كما أنّ الاعتقاد الصادق علم .

(والفهم مجدٌ) المجد : هو الكرم والشرف الواسع ، يعني أنّ الفهم من الصفات الكريمة الشريفة الموجبة لشرافة الذات ورفعة الحسب وجلالة القدر .

(والجودُ نُجحٌ) النُجْح - بالضمّ - : هو الظفر بالمطالب والحوائج ، ولعلّ المراد الظفر بالمطالب الاُخرويّة ؛ لأنّ اللّه تعالى يقابل القليل بالجزيل ، أو يورث الفوز بالمآرب الدنيويّة ؛ لأنّه يجلب قلوب الناس إلى التودّد لصاحبه ، ويصرف همّتهم إليه بتحصيل مطالبه والقيام بمآربه .

(وحسن الخلق مجلبة للمودّة) حسن الخلق : هو الاعتدال بين طرفي الإفراط والتفريط في القوّة الغضبيّة والشهويّة . والمجلبة : إمّا مصدر ميميّ والحمل للمبالغة ،

ص: 408

أو اسم آلة .

(والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس) الهجوم : الإتيان بغتة ، واللوابس : الاُمور المشتبهة .

والحاصل : أنّ من عرف أهل زمانه وميّز بين حقّهم وباطلهم وعالمهم وجاهلهم ، ومن يتّبع الحقّ ومن يتّبع الأهواء منهم ، لا تشتبه عليه الاُمور ، ويتّبع المحقّين ويترك المبطلين ، ولا تعرض له شبهة بكثرة أهل الباطل وقلّة أهل الحقّ ، وغلبة المبطين وضعف المحقّين .

(والحزم مساءة الظنّ) الحزم : إحكام الأمر وضبطه والأخذ فيه بالثقة ، والمساءة : مصدر ميميّ ، والمعنى : أنّ إحكام الأمر وضبطه والأخذ فيه بالثقة يوجب سوء الظنّ ، أو يترتّب على سوءالظنّ بأهل الزمان بعدم الاعتماد عليهم في الدين والدنيا، وهذا ممّا يؤكّد الفقرة السابقة .

ولا يقال : هذا ينافي ما ورد من وجوب حسن الظنّ بالإخوان وحمل أقوالهم وأفعالهم على المحامل الصحيحة ، لإمكان الجمع بوجهين :

الأوّل : أن تكون تلك الأخبار محمولة على ما إذا ظهر كونهم من المؤمنين ، وهذا على عدمه .

والثاني : أن يقال : حمل أفعالهم وأقوالهم على المحامل الصحيحة لا ينافي عدم الاعتماد عليهم في اُمور الدين والدنيا حتّى يظهر منهم ما يوجب اطمئنان النفس .

ويمكن أيضا أن يحمل النهي عن مساءة الظنّ على الاعتقاد الفاسد والقول بالشيء رجماً بالغيب ، ومساءة الظنّ التي من الحزم على التجويز العقليّ ، والتثبّت في إخباراتهم حتّى يتبيّن الحقّ من الباطل والصدق من الكذب ؛ لئلاّ يقع الهرج والمرج ويبطل الدين .

(وبين المرء والحكمة نعمة العالم ، والجاهل شقي بينهما) . هذه العبارة من المشهورات بالإشكال ، وقد تعرَّض لحلّها الفضلاء ووجّهوها بوجوه من التأويل ؛ إذ يمكن أن يقرأ «العالم» بكسر اللام وفتحها ، ومجروراً بالإضافة ومرفوعاً ، وعلى أيّ تقدير ففيه وجوه :

ص: 409

الأوّل : يحتمل أن يكون المراد بكون الشيء بين المرء والحكمة : كونه موصلاً للمرء إليها ، وواسطة في حصولها له ، كما ورد في رواية جابر عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «بين العبد والكفر ترك الصلاة»(1) أي تركها موصل للعبد إلى الكفر .

والغرض أنّ ما أنعم اللّه به على العالم من العلم والفهم والصدق على اللّه واسطة للمرء توصله إلى الحكمة ، فإنّ المرء إذا عرف حال العالم اتّبعه وأخذ منه ، فتحصل له الحكمة ومعرفة الحقّ والإقرار به والعمل على وفقه ، وكذا بمعرفته حال الجاهل وأنّه غير عالم صادق على اللّه ، يترك متابعته والأخذ منه ، و يسعى في طلب العالم ، فيطّلع عليه ويأخذ منه ، فالجاهل باعتبار سوء حاله باعث بعيد لوصول المرء إلى الحكمة ، وهو شقيّ محروم يوصل معرفة حاله المرء إلى سعادة الحكمة ، وهذا الكلام كالتفسير والتأكيد لما سبقه .

ويحتمل أن يحمل البينيّة في الأوّل على التوسّط في الإيصال ، وفي الثاني على كون الشيء حاجزاً مانعاً من الوصول ، فالجاهل شقيّ مانع من الوصول إلى الحكمة .

ولا يبعد أن يقال : المراد بنعمة العالِم : العالم نفسه ، والإضافة بيانيّة ، أو يكون العالم بدلاً من قوله نعمة ، فإنّ العالم أشرف ما أنعم اللّه بوجوده على عباده .

الثاني : ما ذكره بعض الأفاضل أيضاً ، قال :

لعلّ المراد به أنّ الرجل الحكيم من لدن عقله وتمييزه إلى بلوغه حدّ الحكمة متنعّم بنعمة العلم ونعيم العلماء ، فإنّه لا يزال في نعمة من أغذية العلوم ، وفواكه المعارف ، فإنّ معرفة الحضرة الإلهيّة لَروضة فيها عين جارية ، وأشجار مثمرة قطوفها دانية ، بل جنّة عرضها كعرض السماء والأرض ، والجاهل بين مبدأ أمره ومنتهى عمره في شقاوة عريضة ، وطول أمل طويل ، ومعيشة ضنك ، وضيق صدر ، وظلمة إلى قيام ساعته وكشف غطائه ، وفي الآخرة عذاب شديد .

انتهى كلامه رحمه الله وهو مبنيّ على الإضافة .

ص: 410


1- . جامع الأخبار ، ص 73 ؛ بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 202 ، ح 2 ؛ مستدرك الوسائل ، ج 3 ، ص 45 ، ح 2978 .

الثالث : ما نقله العلاّمة المجلسيّ رحمه الله عن والده عن مشايخه العظام ، وهو : أن يُقرأ «نعمةٌ» بالتنوين ، ويكون «العالم» مبتدأ و«الجاهل» معطوفاً عليه ، و«شقيّ» خبر كلّ منهما ، والضمير في «بينهما» راجع إلى المرء والحكمة .

والحاصل : أنّ الذي يوصل المرء إلى الحكمة هو توفيق اللّه تعالى ، وهو من أعظم نعمه على العباد ، والعالم والجاهل يشقيان ويتعبان بينهما ، فمع توفيقه تعالى لا يحتاج إلى سعي العالم ولا يضرّ منع الجاهل ، ومع خذلانه تعالى لا ينفع سعي العالم . ويؤيّد هذا ما في بعض النسخ من قوله : «يسعى» مكان «يشقى» .

الرابع : أن يُقرء «العالم» بالفتح إمّا مجرور[ا] بالإضافة البيانيّة ، أو مرفوعاً بالبدليّة ، أي بين المرء والحكمة نعمة ، هي العالم ، فإنّ بالتفكّر فيه وفي غرائب صنعه تعالى يصل إلى الحكمة ، والجاهل شقيّ محروم بين الحكمة وتلك النعمة .

الخامس : أن يُقرء «العالِم» بالكسر مرفوعاً على البدليّة ، ويكون الضمير في «بينهما» راجعاً إلى الجاهل والحكمة ، والمعنى : أنّ بين المرء ووصوله إلى الحكمة نعمة ، هي العالِم ، فإنّ بهدايته وإرشاده وتعليمه يصل إلى الحكمة ، والجاهل يتوسّط بينه وبين الحكمة شقيّ يمنعه عن الوصول إليها .

السادس : أن يُقرء «العالم» بالكسر والجرّ بالإضافة اللاميّة ، وضمير «بينهما» راجع إلى الحكمة ونعمة العالم ، أي يتوسّط بين المرء والحكمة نعمة العالم ، وهي إرشاده وتعليمه ، والجاهل محروم بين الحكمة وتلك النعمة ، أي منهما جميعاً .

السابع : ما ذكره بعض الشارحين أيضاً : وهو أن يكون البين مرفوعاً بالابتدائيّة ، و«نعمة» خبره مضافاً إلى «العالم» بكسر اللام ، و«الجاهل» أيضاً مرفوعاً بالابتدائيّة ، و«شقيّ» خبره مضافاً إلى «بينهما» ، وضمير «بينهما» راجعاً إلى المرء والحكمة .

وقال : المراد بالعالم إمام الحقّ ، والجاهل إمام الجور ، وحاصل المعنى : أنّ وصْل المرء مع الحكمة نعمة للإمام ، تصير سبباً لسروره ؛ لأنّ بالهداية يفرح الإمام ، وإمام الجور يتعب ويحزن بالوصل بين المرء والحكمة ، ولا يخفى بُعده .

ص: 411

الثامن : ما صار إليه بعضهم من قراءة «نعمة العالم» بفتح النون ، بمعنى أنّ الموصل للمرء إلى الحكمة تنعّم العالم بعلمه ، فإذا رآه المرء انبعثت نفسه إلى تحصيل الحكمة ، والجاهل له شقاوة حاصلة من بين المرء والحكمة أو المتعلّم والعالم ، وذلك لأنّه لا يزال يتعب نفسه إمّا بالحسد أو الحسرة على الفوت أو السعي في التحصيل مع عدم القابليّة .(1)

(واللّه وليّ من عرفه) أي محبّه أو ناصره أو المتولّي لاُموره حتّى يبلغ به حدّ الكمال .

(وعدوّ من تكلّفه) أي تكلّف معرفته وأظهر من معرفته ما ليس له ، أو طلب من معرفته تعالى ما ليس في وسعه وطاقته .

(والعاقل غفور) أي مصلح لأمره ، من قولهم : غفروا هذا الأمر ، أي أصلحوه بما ينبغي أن يصلح ، أو ساترٌ لذنوب إخوانه وعيوبهم ومتجاوز عن سيّئاتهم ، من الغفر بمعنى التغطية .

(والجاهل ختور) من الختر بمعنى الكبر والخديعة . وقيل : بمعنى خباثة النفس وفسادها ، والمعنى : أنّه خبيث النفس ، كثير الغدر والخدعة بالناس ؛ لأنّه فاقد للبصائر الذهنيّة ، وعادم للفضائل العقليّة ، وحامل للرذائل الشيطانيّة ، فيظنّ أنّ الغدر والحيل

والمكر والختل وكشف العيوب والذنوب ، وسوء المعاملة مع الناس خيرٌ له في تحصيل منافعه ومطالبه ، وتيسّر مقاصده ومآربه .

(وإن شئت أن تُكْرَم فَلِنْ) أي إن شئت أن تكون كريماً شريفاً عند الخلائق فَلِنْ للناس في الكلام والسلام ، واخفض لهم جناحك عند اللقاء ، فإنّ من لان جانبه كثر أعوانه وأنصاره ، ومن كثر أنصاره كان مكرماً شريفاً .

(وإن شئت أن تُهن) وفي بعض النسخ : «تهان» وعلى ما في أكثر النسخ يمكن أن يُقرء على المعلوم من وهن يهن ، بمعنى الضعف . والخشونة : ضدّ اللين ، يعني : إن

ص: 412


1- . انظر : مرآة العقول ، ج 1 ، ص 87 - 89 .

شئت أن تستحقر وتستخفّ عند الناس فصر ذا خشونة عند ملاقاتك للناس .

(ومن كرم أصله لان قلبه) لعلّ المراد بكرم الأصل كون النفس فاضلة شريفة ، أو كون طينته طيّبة ، كما يدلّ عليه قوله : «ومن خشن عنصره غلظ كبده» ، وإنّما نسب اللين إلى القلب ، والغلظة إلى الكبد ؛ لأنّهما من صفات النفس ، ولكلّ منهما مدخليّة في التعطّف والغلظة وسرعة قبول الحقّ وعدمها ، فنسب كلّ من الفريقين إلى أحدهما ليظهر مدخليّتهما في ذلك .

ويحتمل أن يكون الأوّل إشارة إلى سرعة الانقياد للحقّ وقبوله ، والثاني إلى عدم الشفقة والتعطّف على العباد .

ويمكن أن تكون النكتة في العدول عن القلب إلى الكبد التنبيه على أنّ الجاهل لا قلب له ، فإنّ القلب يطلق على محلّ المعرفة والإيمان ، كما قال سبحانه : « إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ »(1) .

وربّما يجعل لين القلب إشارة إلى عدم المبالغة في القهر والغلبة والتسلّط ، وغلظة الكبد إلى قوّة القوى الشهوانيّة ؛ لأنّ الكبد آلة للنفس البهيميّة والقوّة الشهويّة ؛ لأنّه آلة للتغذية وتوزيع ما يتحلّل على الأعضاء ، فيوجب قوّة الرغبة في المشتهيات.

(ومن فرّط تورّط) فرّط - بالتشديد أو التخفيف - بمعنى قصّر ، أي من قصّر في طلب الحقّ وفعلِ الطاعات أوقع نفسه في ورطات المهالك ، أو بالتخفيف بمعنى سبق ، أي من استعجل في ارتكاب الاُمور وبادر إليها من غير تفكّر للعواقب أوقع نفسه في المهالك .

(ومن خاف العاقبة تثبّت عن التوغّل) أي الدخول في الأمر بالاستعجال من غير رويّة فيما لا يعلم .

(ومن هجم على أمر بغير علم فقد جدع أنف نفسه) أي جعل نفسه ذليلاً غاية الذلّ .

ص: 413


1- . ق 50 : 37 .

والجدع : قطع الأنف .

(ومن لم يعلم لم يفهم) أي من لم يكن عالماً بالشيء لم يميّز بين الحقّ والباطل فيه .

(ومن لم يفهم) أي من لم يميّز بين الحقّ والباطل لم يسلم من ارتكاب الباطل ، بل لايسلم في شيء أصلاً ؛ أمّا في ارتكاب الباطل فظاهر ، وأمّا في ارتكاب الحقّ - إن اتّفق - فلأنّ القول به بلا علم هلاك وضلالة .

(ومن لم يسلم لم يُكرم) على البناء للمفعول ، أي لم يعامل معاملة الكرام بل يخذل ، أو على البناء للفاعل ، أي لم يكن شريفاً فاضلاً .

(ومَنْ لم يكرم يهضم) على البناء للمفعول ، أي يكسر عزّه وبهاؤه ويُهان ، أو : يترك مع نفسه ويوكل أمره إليه .

(ومَن يهضم كان ألوم) أي أشدّ ملامة وأكثر استحقاقاً لأن يلام .

(ومَن كان كذلك كان أجدر بالندامة) على ما ساقه إلى نفسه من الملامة بسبب التوغّل فيما لا يعلم .

ص: 414

الحديث الحادي والخمسون:[ اُجوبة الرضا عليه السلام عن أسئلة عمران الصابي في التوحيد ]

الحديث الحادي والخمسون(1)

ما رويناه عن الصدوق في العيون(2) في باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع أهل الأديان وأصحاب المقامات في التوحيد عند المأمون ، بإسناده عن الرضا عليه السلام في جملة حديث طويل أنّه عليه السلام بعد أن ألزمهم وأعجزهم بالبراهين البيّنات والحجج الواضحات وانقطعوا عن الكلام ، قال عليه السلام : «يا قوم ، إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم» أي غير مستحي ولا منقبض .

فقام إليه عمران الصابي - وكان واحداً من المتكلّمين - فقال : يا عالم الناس ، لولا أنّك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل ، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ولقيت المتكلّمين ، فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً فرداً ليس غيره ، لا شريك ولا ندّ ، قائماً بوحدانيّته ، (أي وحدانيّة مستندة إلى ذاته وهو اللّه تعالى) ، أفتأذن لي أن أسألك ؟

قال الرضا عليه السلام : «إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو» .

قال : أنا هو .

قال : «سل يا عمران ، وعليك بالنصفة» بالتحريك : الإنصاف ، وهو أن تعطي من الحقّ كما تستحقّه لنفسك ، «وإيّاك والخطل» بالتحريك ، وهو النطق الفاسد

ص: 415


1- . لم يذكر هذا الحديث ولا شرحه في نسخة «ر» و «ث» ، كما أنّ الرقم الثاني والخمسين في ترقيم الأحاديث غير موجود فيهما ، فلعلّه هو هذا الحديث المثبّت في نسخة «ظ» والمطبوع ، والمرقّم فيهما بالحادي والخمسين .
2- . عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 168 وما بعدها ، ضمن ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 10 ، ص 310 ، ح 1 .

المضطرب ، «والجور» وهو الميل عن القصد أو عن طريق الهدى ، أو الظلم في البحث والكلام .

فقال : واللّه يا سيّدي ، ما اُريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلّق به فلا أجوزه .

قال : «سل عمّا بدا لك» .

فازدحم الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض من كثرة الازدحام ، فقال عمران الصابي : أخبرني عن الكائن الأوّل (أي عن كنهه وحقيقته) وأخبرني عمّا خلق (أي عن أيّ شيء خلق المخلوقات وأوجدها) .

قال عليه السلام : «سألت عن ذلك فافهم الجواب : أمّا الواحد» الذي هو اللّه سبحانه وتعالى «فلم يزل واحداً» في صنعه لا شريك له ولا وزير ولا نظير ، «كائناً لا شيء معه» ؛ إذ لو كان معه غيره لكان قديماً أيضاً ، وبطلانه تقدّم من برهان التمانع «بلا حدود» من طول وعرض وعمق ، أو بلا ابتداء وانتهاء «ولا أعراض» ؛ إذ هو تعالى يجلّ عن الأعراض ، إذ هو الذي أوجدها واخترعها ، «ولا يزال كذلك» أبداً دائماً .

«ثمّ خلق خلقاً مبتدعَا» بصيغة اسم المفعول صفة للخلق ، أي من غير مثال سبق ، أو بصيغة اسم الفاعل حال من فاعل خلق ، أي أوجدهم حال كونه مبتدعاً لهم ، «مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة» فيهم الأجسام والأعراض ، والجواهر والأعيان ، والروحانيّون والجسمانيّون ، والناريّون والطيّبون ، والناطقون والصامتون ، والطويل والقصير ، والأسود والأبيض وغيرهم ، ومن الحكم في اختلاف المخلوقات عدم توهّم كونه تعالى موجباً .

«لا في شيء أقامه» يحتمل أن تكون «في» بمعنى «من» فإنّ حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض ، أي أوجد الخلق لا من شيء أقامه ، أي لم يقم خلق مصنوعاته من مادّة قديمة كما زعمه الفلاسفة .

«ولا في شيء حدّه» لعلّ المراد : أنّه تعالى لم يخلقهم في شيء محدود ألاّ يتجاوزونه ، بأن يكونوا مسلمين أو كافرين ، مطيعين أو عاصين ، بل خلقهم مختارين غير مكرهين .

«ولا على شيء احتذاه» أي لم يخلق الخلق على محاذاة مثال وصورة سابقة كانت

ص: 416

مصنوعة لغيره تعالى «ومثّله له» أي مثّل الغير ذلك وصوّره ، واللّه تعالى صوّر مخلوقاته على ذلك المثال . ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل راجعاً إليه تعالى ، أي لم يخلق خلقه على مثال أوجده غيره ليصوّر الخلق على ذلك المثال .

«فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة» كالأنبياء والرسل والأئمّة «وغير صفوة» كغيرهم «واختلافاً» في الأمزجة والألوان والأخلاق «وائتلافاً» في ذلك ، والمصدران حالان ، أي مختلفين ومؤتلفين ، «وألواناً وذوقاً وطعماً» أي مختلفين في اللون والذوق والطعم .

«فخلقهم لا لحاجة كانت منه إلى ذلك» الخلق «ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلاّ به ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة» في علوّ مرتبته وعظم شأنه ، «ولا نقصاناً ، تعقل هذا يا عمران ؟»

قال : نعم ، واللّه يا سيّدي .

قال : «واعلم يا عمران ، إنّه لو كان خلق ما خلق لحاجة لم يخلق إلاّ مَن يستعين به على حاجته» من الأنبياء والرسل والمؤمنين والصالحين والعابدين ، «ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق ؛ لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى وأشدّ سلطنة ، والحاجة - يا عمران - لا يسعها» ضمير «لا يسعها» يرجع إلى الخلق ، أي الخلائق لا يسعون الحاجة ولا يدفعونها عنه سبحانه ، وذلك أنّهم أهل حاجة إليه وتتجدّد حاجتهم إليه آناً فآناً ، ومثل هؤلاء لا يستعان بهم في رفع حاجة مثله بأن يعينوه على

خلق أحد أو ترتيبه أو نحو ذلك ، وإلى ذلك أشار بقوله عليه السلام : «لأنّه لم يحدث من الخلق شيئاً إلاّ حدثت فيه حاجة اُخرى» ؛ لأنّهم في كلّ زمان لهم نهاية الاحتياج إلى بارئهم وخالقهم .

«ولذلك أقول : لم يخلق الخلق لحاجة إليهم» ؛ إذ كانوا هم المحتاجين إليه ، «ولكن نقل بالخلق الحوائج» بأن أحوج «بعضهم إلى بعض ، وفضّل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضّل ، ولا نقمة منه على من أذلّ منهم ؛ فلهذا خلق» .

قال عمران : يا سيّدي ، هل كان الكائن (أي الصانع) معلوماً في نفسه عند نفسه ؟ .

قال الرضا عليه السلام : «إنّما تكون المعْلمة بالشيء لنفي خلافه وليكون الشيء نفسه بما

ص: 417

نفى عنه موجوداً» .

قيل : لعلّ حاصل السؤال والجواب : أنّ الصانع هل كان معلوماً عند نفسه بصورة حاصلة في ذاته ؟ ومن ثمّ قال : في نفسه .

والجواب : أنّ الصورة الحاصلة إنّما تكون بشيء يشترك مع غيره في شيء من الذاتيّات ، فلا يحتاج لمعرفة نفسه إلى حصول صورة ، بل هو حاضر بذاته عند ذاته ، فقوله عليه السلام : «ولم يكن هناك شيء يخالفه» أي شيء يخالفه في بعض الذاتيّات ، «فتدعو الحاجة إلى نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد ما علم منها» أي من ذاته بجنس وفصل وتشخيص ، «أفهمت يا عمران ؟»

قال : نعم واللّه يا سيّدي ، فأخبرني بأيّ شيء علم ما علم ، أبضمير أم بغير ذلك ؟

ولعلّ المراد بالصورة الذهنيّة يعني أنّه تعالى يعلم معلوماً بصورة ذهنيّة حصلت في الذهن أم بغيرها ؟ وقال الرضا عليه السلام مجيباً له : «أرأيت إذا علم بضمير هل تجد بدّاً من أن تجعل(1) لذلك الضمير حدّاً ينتهي إليه المعرفة» ، يعني أنّ العلم لو لم يكن إلاّ بحصول تلك الصورة ، فالعلم بالمعلوم لابدّ أن يكون موقوفاً على العلم بالصورة التي هي ملاحظة المعلوم وتحديدها وتصويرها . قال عمران : لابدّ من ذلك . قال الرضا عليه السلام : «فما ذلك الضمير ؟» فانقطع ولم يحر جواباً .

قال الرضا عليه السلام : «لا بأس أن نسألك عن الضمير نفسه تعرفه بضمير آخر ، فإن قلت : نعم ، أفسدت عليك قولك ودعواك» أي أنّه على قولك أنّه لابدّ لكلّ معلوم أن يعرف بصورة ، فالصورة أيضاً معلوم ، فلابدّ وأن تعرف بصورة اُخرى ، وهكذا إلى ما لا نهاية له ، فإن قلت : إنّ الصورة تعرف بنفسها بالعلم الحضوريّ من غير حاجة إلى صورة اُخرى ، فلِمَ لا يجوز أن يكون علمه تعالى بأصل الأشياء على وجه لا يحتاج إلى صورة وضمير ؟

قال الرضا عليه السلام : «يا عمران ، أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير ، وليس يقال له أكثر من فعل وعمل وصنع» بصيغة الماضي ، «وليس يتوهّم منه مذاهب

ص: 418


1- . في المصدر : «هل يجد بُدّا من أن يجعل ...» .

وتجزية كمذاهب المخلوقين وتجزيتهم ، فاعقل ذلك وابْنِ عليه ما علمت منه صوابه» .

فلمّا أفسد عليه السلام عليه الأصل الذي هو مبنى كلام السائل أقام البرهان على امتناع حلول الصورة فيه واتّصافه بالضمير ؛ لمنافاته لوحدته الحقيقيّة واستلزامه التجزّي والتبعيض ، وكونه متّصفاً بالصفات الزائدة ، وكلّ ذلك ينافي وجوب الوجود ، وحينئذٍ فليس فيه تعالى عند إيجاد المخلوقين سوى التأثير من غير عمل ورويّة وتفكُّر وتصوير وخطور وذهاب الفكر إلى المذاهب وسائر ما يكون في الناقصين العاجزين من الممكنات .

قال عمران : يا سيّدي ، ألا تخبرني عن حدود خلقه ، كيف هي ؟ وما معانيها ؟ وعلى كم نوع تكون ؟

قال : «قد سألت فافهم ، إنّ حدود خلقه على ستّة أنواع : ملموس ، وموزون ، ومنظور إليه ، وما لا ذوق له(1) وهو الروح ، ومنها : منظور إليه وليس له وزن ولا لمس ولا حسّ ولا لون ولا ذوق ، والتقدير والأعراض والصور والطول والعرض ، ومنها : العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعملها وتغيّرها من حال إلى حال وتزيدها وتنقصها ، فأمّا الأعمال والحركات فإنّها تنطلق ؛ لأنّه لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه ، فإذا فرغ من الشيء انطلق بالحركة وبقي الأثر ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره» .

قال بعض الفضلاء في بيان هذه الستّة أنواع :

لعلّ النوع الأوّل ما يكون ملموساً وموزوناً ومنظورا إليه .

والثاني ما لا يكون له تلك الأوصاف كالروح ، وإنّما عبّر عنه بما لا ذوق له اكتفاءاً ببعض صفاته ، وفي بعض النسخ : «وما لا لون له وهو الروح» ، وهذا أظهر للمقابلة .

والثالث ما يكون منظوراً إليه ، أي أنّه يظهر للنظر بآثاره أو قد يرى ولا لون له بالذات ، أو يراد به الملك والجنّ وأشباههما ، والظاهر أنّ قوله : «ولا لون»

ص: 419


1- . في المصدر : «وما لا لون له» .

من زيادات النسّاخ .

والرابع : التقدير ويدخل فيه التصوير والطول والعرض .

والخامس : الأعراض القارّة المدركة بالحواسّ ، كاللون والضوء ، وهو الذي عبّر عنه بالأعراض .

والسادس : الأعراض غير القارّة كالأعمال والحركات التي تذهب هي وتبقى آثارها .

قال له عمران : يا سيّدي ، ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره ولا شيء معه ، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق ، حيث إنّه لم يكن خالقاً فصار خالقاً ؟

قال له الرضا عليه السلام : «هو قديم لم يتغيّر بخلقه الخلق ، ولكن الخلق يتغيّر بتغييره إيّاه» حيث إنّهم صاروا موجودين بعد أن كانوا معدومين ، ويمرضون ويصحّون ويغتنون ويفقرون ويطولون ويقصرون ، وهكذا .

قال عمران : [يا سيّدي(1)] فبأيّ شيء عرفناه ؟ قال عليه السلام : «بغيره» . قال : فأيّ شيء غيره ؟ قال الرضا عليه السلام : «مشيّته واسمه وصفته وما أشبه ذلك» .

وسيأتي في كلامه عليه السلام إنّ المشيّة والإرادة بمعنى واحد ، وفسّر عليه السلام الإرادة بالإبداع والإحداث ، فيكون المعنى : أنّا نعرفه بأفعاله وإبداعه وآثاره وأسمائه وصفاته التي تعتبرها عقولنا وتثبتها له .

«وكلّ ذلك» الذي ندركه بأذهاننا ونتصوّره بقلوبنا من الأفعال والآثار والأسماء «محدث مخلوق مدبّر» واللّه سبحانه وتعالى غيره .

قال عمران : يا سيّدي ، فأيّ شيء هو ؟

قال عليه السلام : «هو نور» كما قال تعالى : « اللَّهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ »(2) «بمعنى أنّه هاد لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض وليس لك عليّ أكثر من توحيدي إيّاه» يعني : إنّه لا

يمكنني أن اُبيّن لك من ذات الصانع وصفاته إلاّ ما يرجع إلى توحيده .

ص: 420


1- . أثبتناه من المصدر .
2- . النور 24 : 35 .

قال عمران : يا سيّدي ، أليس قد كان ساكناً قبل الخلق لا ينطق ثمّ نطق (فيكون قد لحقه التغيير) ؟

قال الرضا عليه السلام : «لا يكون السكوت إلاّ عن نطق قبله» ؛ لأنّ السكوت هو عدم النطق عمّا من شأنه النطق ، «والمثل في ذلك إنّه لا يقال للسراج هو ساكت لا ينطق» ؛ لأنّ السراج ليس من شأنه النطق ، «ولا يقال إنّ السراج ليضيء فيما يريد أن يفعل بنا» الإضاءة «لأنّ الضوء من السراج ليس يفعل بعقل(1) منه ولا كون» هذا من تمام الكلام الأوّل ويشتمل على تشبيه آخر بالسراج .

وحاصله : أنّ السراج لا يقال إنّه أراد بنا الإضاءة ، لأنّه لا يتّصف بإرادة عدمها ؛ إذ لا فعل له ولا شعور ولا إرادة ، والشيء إنّما يتّصف بشيء إذا جاز اتّصافه بنقيض ذلك الشيء ، ولهذا لا يقال للجدار أعمى ، وإنّما هو شيء ليس غيره ، يعني أنّ السراج ليس إلاّ السراج من غير أن يكون معه إرادة ولا فعل ولا مزاولة عمل ، «فلمّا استضاء لنا قلنا : قد أضاء لنا حتّى استضأنا به ، فبهذا تستبصر أمرك» .

قال عمران : يا سيّدي ، فإنّ الذي كان عندي أنّ الكائن قد تغيّر في فعله ، (أي كالخلق والرزق) عن حاله بخلقه الخلق (إذ لم يكن خالقاً ، فكان خالقاً ، ولم يكن رازقاً فكان رازقاً ولم يكن معه غيره ، وبعد أن أوجد خلقه حصل غيره) .

قال الرضا عليه السلام : «أحلت» أي قلت محالاً «يا عمران في قولك : إنّ الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه حتّى يصيب الذات منه ما يغيّره» فإنّ الخلق ونحوه من صفات الأفعال ، والذات لا تتغيّر بتغيّرها . «يا عمران ، هل تجد النار بغيرها تغيّر نفسها ؟(2) وهل تجد الحرارة تحرق نفسها ؟ أو هل رأيت بصراً قطّ رأى بصره ؟»

قال عمران : لم أر هذا .

حاصل ذلك : أنّ الفاعل لا يدخله تغيّر بسبب فعله ، نعم يدخل من فعل غيره ، كالنار فإنّها لا تحدث تغيّراً بسبب ما توجد منها من التأثيرات ، نعم تنفعل عن الغير

ص: 421


1- . في المصدر : «ليس بفعل منه ولا كون» .
2- . في المصدر : «تغيّر بغير نفسها» .

كما إذا صبّ عليها ماء ، وكذلك الحرارة لا تحرق نفسها عند إحراقها غيرها ، وكذلك البصر إذا أثّر في غيره بانطباع تلك الصورة لا يؤثّر في نفسه ، بأن تنطبع الحدقة في نفسها دائماً ، وإنّما تنطبع في بصر آخر يغايرها ، فكذلك هو سبحانه - وله المثل الأعلى - لا يدخل عليه تغيير في ذاته بإيجاد الممكنات وإنّما يتأثّر من غيره ،(1) وليس هناك غير يؤثّر فيه لأنّه مبدأ الأغيار .

لا يقال : الإنسان إذا ضرب عضواً منه على آخر يتأثّر ، فيكون متأثّراً من نفسه .

قلنا : أحد العضوين مؤثّر والآخر متأثّر .

فيقال : الإنسان أثّر في نفسه بواسطة غيره وهو عضوه ، واللّه تعالى جلّ شأنه واحد حقيقيّ لا يدخل التركيب فيه ، فلا يعقل تغيّره بفعل نفسه .

ثمّ قال عمران : ألا تخبرني يا سيّدي أهو في الخلق أم الخلق فيه ؟

قال الرضا عليه السلام : «جلّ هو - يا عمران - ربّنا عن ذلك ، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً ، وساُعلمك يا عمران ما تعرفه به» من الأمثلة وتعلم أنّه ليس في الخلق ولا الخلق فيه .

«ولا قوّة إلاّ باللّه» رفع إيهام ما في نسبة التعليم إلى نفسه القدسيّة ، ثمّ نسب ذلك إلى اللّه تعالى لبيان أنّ الطاعات والخيرات لا تكون إلاّ بفضله وإعانته وتوفيقه وهدايته .

«أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك ؟ فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه فبأيّ شيء استدللت بها على نفسك يا عمران ؟» قال عمران : بضوء بيني وبينها . قال الرضا عليه السلام : «هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر ممّا تراه في عينك ؟» قال : بلى . قال الرضا عليه السلام : «فأرناه» ، فلم يحر جواباً . قال الرضا عليه السلام : «لا أرى النور إلاّ وقد دلّك ودلّ المرآة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما ، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيهامقالاً ، وللّه المثل الأعلى» .

لمّا توهّم عمران أنّ الخلق والتأثير لا يكونان إلاّ بحلول الأثر في المؤثّر أو بالعكس فأجابه عليه السلام بالتنظير ، فمثّل بالمرآة حيث إنّه يشترط انطباع صورة البصر

ص: 422


1- . كذا ، والجملة غير منسجمة مع ما هو بصدد توضيحه ، وهو أنّ اللّه لا يتأثّر من غيره .

فيها وانطباع صورتها في البصر بوجود ضوء قائم بالهواء المتوسّط بينهما ، فالضوء علّة لتأثير البصر والمرآة ، مع عدم حصوله في شيء منهما وعدم حصول شيء منهما فيه . نعم ، لا يجوز تأثير الصانع في العالم مع عدم حصول العالم فيه ولا حصوله في العالم .

ثمّ التفت عليه السلام إلى المأمون فقال : «الصلاة قد حضرت» .

فقال عمران : يا سيّدي ، لا تقطع عليّ مسألتي فقد رقّ قلبي .

قال الرضا عليه السلام : «نصلّي ونعود» ، فنهض ونهض المأمون ، فصلّى الرضا عليه السلام داخلاً ، وصلّى الناس خارجاً خلف محمّد بن جعفر ، ثمّ خرجا فعاد الرضا عليه السلام إلى مجلسه ودعا بعمران ، فقال : «سل يا عمران» .

قال : يا سيّدي ، ألا تخبرني عن اللّه عزّ وجلّ هل يوجد بحقيقة أو يوجد بوصف ؟ (أي هل يعرف بالاطّلاع على كنه حقيقته ، أو كنه صفاته) .

قال الرضا عليه السلام : «إنّ اللّه» النور «المبدى»ٔالمعيد ، «الواحد الكائن الأوّل ، لم يزل واحداً لا شيء معه ، فرداً لا ثاني معه» ولا شيء غيره ؛ «لا معلوماً ولا مجهولاً ، ولا محكماً ولا متشابهاً ، ولا مذكوراً ولا منسيّاً» . هذا تفصيل لقوله عليه السلام : لا ثاني معه ، أي ليس معه غيره ؛ لا معلوماً ذلك لغير ولا مجهولاً ولا محكماً ولا متشابهاً .

والمراد بالمحكم : ما يعرف حقيقته ، وبالمتشابه : ما هو ضدّه . وقيل : إنّه إشارة إلى نفي قول من قال بقِدم القرآن ، فإنّ المحكم والمتشابه يطلقان على آياته .

«ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء غيره» تعالى .

«ولا من وقت كان» أي ليس وجوده تعالى ناشئاً من وقت بأن يكون الوقت سابقاً عليه ؛ إذ هو الموقّت للأوقات ، الموجد لها ، فهو سابق عليها ، «ولا إلى وقت يكون» ، بل يعدم الأوقات ويبقى بعدها .

«ولا بشيء قام ولا إلى شيء يقوم» كما قال بعض الكفرة : إنّه تعالى قام بعيسى أو بمريم . ولعلّ التكرار بالنسبة إلى الماضي والحال والاستقبال .

«ولا إلى شيء استند» واعتمد ، «ولا في شيء استكنّ» واستقرّ من سماء أو عرش كما قال بعض الكفرة به .

«وذلك كلّه» أي ما تقدّم من وصفه تعالى بأنّه المبدئ المعيد الواحد الكائن الأوّل

ص: 423

«قبل خلقه الخلق ، إذ لا شيء غيره» حتّى يكون معه «وما أوقعت عليه من» لفظ «الكلّ» ونحوه من كان ويكون من الألفاظ المشعرة بالحدوث «فهي صفات محدثة» ، وإنّما ذكرت في وصفه تعالى «وترجمة يفهم بها من فهم» .

وبالجملة ، فالألفاظ قاصرة عن بيان كنه ذاته وحقيقة صفاته ، ولكنْ لابدّ من الإتيان بها للترجمة والإفهام .

«واعلم أنّ الإبداع والمشيّة والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة» وفيه تصريح - كما في غيره من الأخبار - بأنّ الإرادة من جملة صفات الفعل الحادثة ، لا أنّها عين الإبداع ، وهو من صفات الفعل الحادثة ، وجمهور المتكلّمين على أنّها من صفات الذات القديمة ، والظاهر أنّ النزاع لفظيّ ، فإنّ من فسّرها بالإبداع والإيجاد قال بأنّها حادثة ولا خلاف في ذلك ، ومن قال بقدمها فسّرها بالعلم بالأصلح ، ولا ريب أنّه من جملة صفات الذات القديمة .

«وكان أوّل إبداعه وإرادته ومشيّته : الحروف التي جعلها أصلاً لكلّ شيء» من اللغات والأسماء والصفات «ودليلاً على كلّ مدرَك» - بفتح الراء - أي كلّ ما يمكن إدراكه ، فالحروف دليلة عليه «وفاصلة(1) لكلّ مشكل» ؛ إذ لا يمكن بيان المشكل وعلمه إلاّ بالألفاظ المركّبة من الحروف «وبتلك الحروف تفريق كلّ شيء من اسم حقّ وباطل ، أو فعل(2) أو مفعول أو معنى ، أو غير معنى» ؛ إذ لا يعرف ذلك كلّه ولا يتميّز إلاّ بالكلام المشتمل عليها ، «وعليها اجتمعت الاُمور كلّها» ؛ إذ بيان كلّ شيء وإبانته إنّما تتحقّق بها «ولم يجعل اللّه تعالى للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها تتناهى ، ولا وجود لها لأنّها مبدعة بالإبداع» .

لعلّ المراد : أنّ اللّه سبحانه خلق الحروف المفردة وليس لها موضوع غير أنفسها ، ولم يجعل لها وصفاً ولا معنى تنتهي إليه ويوجد ويعرف بتلك الحروف ، وحينئذٍ فما تقدّم من الإشارة إلى معاني الحروف لا يكون من باب الوضع لها ، بل يكون دلالتها

ص: 424


1- . في المصدر : «وفاصلاً» .
2- . في المصدر : «أو فاعل» .

عليه بالالتزام والإشارة ، فيكون معنى شرعيّاً لا معنى وضعيّاً .

«والنور في هذا الموضع» لعلّ المراد بالإشارة : الإبداع «أوّل فعل اللّه الذي هو نور السماوات والأرض» ولعلّ المراد من النور هنا : الوجود ؛ لأنّه به تظهر المحسوسات بالنور ، فالإبداع هو الإيجاد ، وبالإيجاد تصير الأشياء موجودة ؛ فالإبداع هو التأثير ، «والحروف هي المفعول بذلك الفعل» ، أي هي الأثر الموجود بذلك التأثير ، «وهي الحروف التي عليها مدار الكلام والعبارات كلّها» ، أي تعليمها أو إعطاء آلاتها من اللّه عزّ وجلّ ، «علّمها خلقه وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً» ، الثمانية والعشرون المعروفة وخمس حروف اُخرى ضمّت إليها يأتي بيانها .

«فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدلُّ على لغات العربيّة ، ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفاً تدلُّ على لغات السريانيّة والعبرانيّة ، ومنها خمسة أحرف متحرّفة في سائر اللغات من العجم» وهم ما عدى العرب «لأقاليم اللغات كلّها ، وهي خمسة أحرف تحرّفت من الثمانية والعشرين حرفاً من اللغات ، فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً» .

والمراد بالخمسة(1) المشار إليها : الكاف الفارسيّة في قولهم : «بگو» بمعنى : تكلّم ، والجيم الفارسيّة المنقوطة بثلاث نقاط في قولهم : «يعنى چه» ، والزاء الفارسيّة المنقوطة بثلاث نقاط كما يقولون : «ژاله» ، والباء المنقوطة ثلاث نقاط كما في : «پياله» و«پياده» .

«فأمّا الخمسة المختلفة (ف ي ج ح خ)»(2) [و] في بعض النسخ : حجج جمع حجّة ، يعني : أنّ الاختلاف لعلل وأسباب أوجبته كاختلاف لهجات الناس واختلاف منطقهم . وقيل : الأظهر أنّه عليه السلام كان قد ذكر تلك الحروف فاشتبهت على الرواة وصحّفوها .

«لا يجوز ذكرها» أي لا يتجاوز ذكر الحروف وعددها «أكثر ممّا ذكرنا»(3) من بيانها ،

ص: 425


1- . كذا ، والمذكور هنا أربعة لا خمسة .
2- . أثبتناها من المصدر . وفي الأصل : «فبحجج» .
3- . في المصدر : «ممّا ذكرناه» .

«ثمّ جعل الحروف بعد إحصائها وإحكام عدّتها فعلاً منه» أي من جملة أفعاله التي يوجدها في بعض الأجسام «كقوله عزّ وجلّ : « كُنْ فَيَكُونُ »(1) و«كن» منه تعالى : صنع ، وما يكون به : المنصوع» .

«فالخلق الأوّل من اللّه عزّ وجلّ : الإبداع» وهو الإيجاد لا عن مثال سبق و«لا وزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حسّ ، والخلق الثاني : الحروف ، لا وزن لها ولا لون وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها ، والخلق الثالث : ما كان من الأنواع كلّها محسوساً ملموساً ذا ذوق منظور إليه ، واللّه تبارك وتعالى سابق الإبداع(2) ؛ لأنّه ليس قبله عزّ وجلّ شيء ولا كان معه شيء . والإبداع سابق للحروف ، والحروف لا تدلّ على غير نفسها» .

قال المأمون : وكيف لا تدلّ على غير نفسها ؟

قال الرضا عليه السلام : «لأنّ اللّه تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً ، فإذا ألّف منها أحرفاً أربعة أو خمسة أو ستّة أو أكثر من ذلك أو أقلّ لم يؤلّفها لغير معنى ولم يكن إلاّ بمعنى محدَث لم يكن قبل ذلك شيئاً» .

قيل : ظاهره إنّ كلّ معنى تدلّ عليه الحروف بعد تأليفها لا يكون ذلك المعنى إلاّ حادثاً ، وأمّا الأسماء الدالّة على الذات المقدّسة فإنّما وضعت لمعان محدثة ذهنيّة ، وهي دالّة عليه تعالى ، ولم توضع تلك الحروف أوّلاً لكنه حقيقته المقدّسة ، ولا لكُنْه صفاته الحقيقيّة ؛ لأنّها إنّما وضعت لتعريف الخلق ودعائهم بها ، ولا يتمكّنون من الوصول إلى كنه الذات والصفات ، ولذا قال عليه السلام : «لم يكن إلاّ لمعنى لم يكن قبل ذلك شيئاً» على أنّه يجوز أن يكون المراد منها غير أسمائه تعالى .

قال عمران : فكيف لنا بمعرفة ذلك من أنّ الحروف لا تدلّ على غير نفسها وإذا ألّفت دلّت على معنى محدث ؟

ص: 426


1- . البقرة 2 : 117 .
2- . في المصدر : «للإبداع» .

قال الرضا عليه السلام : «أمّا المعرفة فوجه ذلك وبيانه أنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير نفسها ذكرتها فرداً من دون تأليف وضمّ بعضها إلى بعض ، فقلت : أ ب ت ث ج ح خ حتّى تأتي على آخرها ، فلم تجد لها معنى غير أنفسها ، وإذا ألّفتها وجمعت منها أحرفاً وجعلتها اسماً وصفة لمعنى ما طلبت ووجه ما عنيت ، كانت دليلة على معانيها الموصوفة لها داعية إلى الموصوف بها ، أفهمته ؟»

قال : نعم .

قال الرضا عليه السلام : «واعلم أنّه لا يكون صفة لغير موصوف ، ولا اسم لغير معنى ، ولا حدّ لغير محدود ، والصفات والأسماء كلّها تدلّ على الكمال والوجود» يعني أنّ صفات اللّه وأسماءه كلّها دالّة على وجوده وكماله لا على ما يشتمل على نقص كالإحاطة والشمول ، «ولا تدلّ على الإحاطة كما لا تدلّ على الحدود»(1) بيان للمنفيّ أي كما لا تدلّ على الحدود «التي هي التربيع والتثليث والتسديس» .

ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ الإحاطة تدلُّ على أنّ المحاط مشتمل على الحدود ؛ «لأنّ اللّه جلّ جلاله وعزّ أن تدرك(2) معرفته بالصفات والأسماء ، ولا تدرك بالتحديد بالطول والعرض والقلّة والكثرة واللون والوزن وما أشبه ذلك ، وليس يحلّ باللّه عزّ وجلّ وتقدّس شيء من ذلك حتّى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم» أي على نحو ما يعرفون به أنفسهم أو بسبب معرفة أنفسهم «بالضرورة التي ذكرنا» ، أي لأنّه ضروريّ أنّه تعالى لا يحدّ بالحدود ولا يوصف بها .

وقيل : معناه إنّه تعالى لا يعرف بالتحديد ؛ لأنّ الحدود لا تحلّ فيه ولا حدّ لغير محدود بالضرورة ، فلو عرّف بالحدود يلزم كونه محدوداً بها .

ولعلّ غرضه عليه السلام تنزيهه تعالى عن صفات تلك المعرّفات ، بأنّ الحروف وإن دلّت عليه لكن ليس فيه صفاتها ، والمعاني الذهنيّة وإن دلّتنا عليه لكن ليس فيه حدودها

ص: 427


1- . في المصدر : «كما تدلّ الحدود التي هي التربيع و ...» .
2- . في المصدر : «لأنّ اللّه عزّ وجلّ تدرك معرفته بالصفات و ...» .

ولوازمها .

«ولكن يدلّ على اللّه عزّ وجلّ بصفاته ويدرك بأسمائه ، ويستدلّ عليه بخلقه حتّى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين ولا استماع اُذن ولا لمس كفّ ولا إحاطة بقلب . فلو كانت صفاته جلّ ثناؤه لا تدلّ عليه وأسماؤه لا تدعو إليه» يعني أنّه

لابدّ للناس أن ينتقلوا من أسمائه وصفاته التي يعرفونها إلى ذاته تعالى بوجه من الوجوه حتّى يكون الذات هي المعبود ، فالأسماء والصفات وإن كانت مغايرة لذاته تعالى لكنّها آلة لملاحظة الذات ووسيلة إلى الانتقال إليها .

وقوله : «والمعْلمة من الخلق» أي محلّ العلم من القوى والمشاعر المخلوقة ، ويمكن قراءته بصيغة اسم الفاعل أي المعلّمون وأرباب العلم من الخلق .

«لا تدركه لمعناه» ، الضمير راجع إلى اللّه تعالى ، فيكون بدلاً من الضمير في يدركه . وقيل : إنّه راجع إلى الخلق أي : لقصد الخلق إليه .

«كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه» . هذا جواب «لو» .

«فلولا إنّ ذلك كذلك» أي لولا أنّ المعبود الحقيقيّ غير الأسماء والصفات «لكان المعبود الموحَّد غير اللّه ؛ لأنّ صفاته وأسماءه غيره» ، واللازم باطل فالملزوم مثله ، «أفهمت ؟»

قال : نعم يا سيّدي ، زدني .

قال الرضا عليه السلام : «إيّاك وقول الجهّال من أهل العمى والضلال الذين يزعمون أنّ اللّه جلّ وتقدّس موجود في الآخرة» أي معروف بحسّ البصر مشاهد فيه «للحساب والثواب والعقاب ، وليس بموجود» أي مشاهد ومرئيّ في الدنيا «للطاعة والرجاء ، ولو كان في الوجود» أي الرؤية والمشاهدة «للّه عزّ وجلّ نقص واهتضام» في الدنيا «لم يوجد في الآخرة أبداً» أي لم يشاهد ولم ير فيها - ولو كان - كما لا يحصل في الدنيا .

«ولكنّ القوم» الذاهبين إلى هذه المذاهب الفاسدة «تاهوا وعموا وصمّوا عن الحقّ من حيث لا يعلمون ، وذلك قوله عزّ وجلّ : « وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ

ص: 428

أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً »(1) يعني أعمى عن الحقائق الموجودة ، وقد علم ذووا الألباب أنّ الاستدلال على ما هنالك لا يكون إلاّ بما هاهنا» يعني أنّ الاستدلال على أحوال الآخرة لا يكون إلاّ بما في الدنيا وما يكون فيها .

وقيل : المراد بقوله «ما هناك» صفاته تعالى و«بما هاهنا» الوحي والرسل ، يعني : أنّه لا يمكن الاستبداد في معرفته تعالى بالعقل ، بل لابدّ من الرجوع إلى السفراء بينه وبين الخلق بقرينة قوله عليه السلام : «ومن أخذ علم ذلك» أي علم ذاته وصفاته «برأيه ، فطلب وجوده وإدراكه عن معرفة نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلاّ بُعداً ؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ علم ذلك خاصّة» كما ورد : «يا من لا يعلم ما هو إلاّ هو(2)» .

وقال سيّد الأنبياء : «سبحانك ما عرفناك حقّ معرفتك(3)» فاختصاص ذلك به تعالى معلوم «عند قوم يعلمون ويعقلون ويفهمون» حيث اعترفوا بالعجز عن معرفته .

قال عمران : يا سيّدي ، ألاتخبرني عن الإبداع خلق هو أم غير خلق ؟

قد تقدّم أنّ الإبداع هو الإرادة ، ويجوز إرادتهما هنا ، إلاّ أنّ إرادة الإيجاد هو الأظهر وهو أحد معاني الإرادة .

قال له الرضا عليه السلام : «بل خلق ساكن» . قيل : أي : نسبة وإضافة بين العلّة والمعلول ، فكأنّه ساكن فيهما ، أو عرض قائم بمحلّ لا يمكن مفارقته ، ويجوز أن يكون معناه : أنّه غير موجود في الخارج «لا يدرك بالسكون» أي أنّه أمر اعتباريّ إضافيّ ينتزعه العقل ولا يشار إليه في الخارج ، «وإنّما صار» الإبداع «خلقاً لأنّه شيء محدث» ، أي لأنّ هذه النسبة والتأثير غيره تعالى وهو محدث ، وكلّ محدَث معلول ، فلا يتوهّم أنّه خلق يحتاج إلى تأثير آخر ، وهكذا حتّى يتسلسل ، «واللّه الذي أحدثه فصار خلقاً له ، وإنّما هو اللّه عزّ وجلّ وخلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما ، فما خلق اللّه عزّ وجلّ لم يعد»

ص: 429


1- . الإسراء 17 : 72 .
2- . بحار الأنوار ، ج 10 ، ص 316 .
3- . عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 132 ، ح 227 .

أي لم يتجاوز «أن يكون خلقه ، وقد يكون الخلق ساكناً ومتحرّكاً ومختلفاً ومؤتلفاً ومعلوماً ومتشابهاً ، وكلّما وقع عليه حدّ فهو خلق اللّه عزّ وجلّ» يعني : أنّ الإبداع ممّا يقع عليه الحدود ويعرف بالتعريفات الكاشفة عنه فيكون مخلوقاً .

واعلم أنّ كلّ ما أوجدته الحواس فهو معنى مدرك للحواس ، وكلّ حاسّة تدلّ على ما جعل اللّه عزّ وجلّ لها في إدراكها من مسموع أو مبصَر أو مشموم أو مذوق أو ملموس «والفهم من القلب يجمع ذلك» الذي أدركته الحواس «كلّه» .

واعلم أنّ الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خَلَقَ خلقاً مقدَّراً بتحديد وتقدير «وكان الذي خلق» أي الذي خلقه تعالى «خلقين» خبر كان «اثنين» : التقدير والمقدّر ، وليس في واحد منهما لون ولا وزن ولا ذوق .

قيل : يجوز أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى ما ورد في الأخبار من أنّ التقدير والمقدَّرات الواقع عليها التقدير داخلة في عالم التكوين ، والذي يدخل تحت مقولة التكوين هو القضاء والإمضاء ، فيكون التقدير عبارة عن إرادة الخلق والمشيّة الواردة عليه ، وتلك الإرادة من صفات الأفعال الحادثة ، وكلّ حادث مخلوق إلاّ أنّ الإرادة حادثة بنفسها لا بإرادة اُخرى ، وإلاّ لزم التسلسل .

وأمّا المقدّر فهو عبارة عن نقش الصور والحدود والأشكال في عالم التقدير في اللوح المحفوظ أو غيره .

ويجوز أن يكون إشارة إلى ما نصّ عليه طائفة من الحكماء والمتكلّمين من أنّ الجواهر والأعراض المقدّرة بالنسبة إلى حقيقتها لا توصف بلون ولا ذوق ولا وزن ولا طول ولا عرض ، وإنّما تلزمها هذه الاُمور بالنظر إلى وجودها الخارجيّ .

ألا ترى أنّك تعرّف الإنسان بأنّه حيوان ناطق ، فهذه الحقيقة لا تتّصف بالنظر إلى ذاتها بشيء من الاُمور المذكورة . نعم ، إذا وجد الإنسان في الخارج قارنه الشكل ونحوه .

فيكون قوله : «خلقين اثنين» عبارة عن جميع المخلوقات ، «فجعل أحدهما يدرك

ص: 430

بالآخر» ؛ لأنّ التقدير والمقدّر من الاُمور الإضافيّة التي لا تحتاج في التعريف إلى أمر ثالث «وجعلهما مدركين بنفسهما» أمّا المقدّر فيدرك بالتقدير ، وأمّا التقدير فمدرك بنفسه .

«ولم يخلق شيئاً فرداً(1) قائماً بنفسه دون غيره» يعني أنّه تعالى لم يخلق شيئاً يشابهه في الوحدانيّة وعدم التركيب ، ويكون قائماً بنفسه «للذي» أي لأجل الذي «أراد من الدلالة على نفسه وإثبات وجوده» بأن يستدلّ من ذلك الخلق الذي هو مركّب - وأقلّه التركيب العقليّ - على أنّ له صانعاً ؛ «فاللّه تبارك وتعالى فرد واحد لا ثاني معه يقيمه ولا يعضده ولا يكنَه» ، إلى آخر الحديث ، واللّه العالم(2) .

ص: 431


1- . في المصدر : ولم يخلق خلقا فردا .
2- . مقاطع كثيرة من هذا الشرح مأخوذة بألفاظها عن لوامع الأنوار للمحدّث الجزائري ، الورقة 144 - 151 مخطوط .

الحديث الثاني والخمسون :[ حديثنا صعب مستصعب ]

ما رويناه بأسانيدنا السالفة عن جملة من المشايخ الأعلام والمحدّثين الكرام ، ومنهم ثقة الإسلام في الكافي ، والصدوق في الخصال والأمالي ومعاني الأخبار ، والقطب الراونديّ في الخرائج ، والصفّار في البصائر وغيرهم بأسانيد شتّى وطرق عديدة ومتون سديدة متفاوتة عن الباقر والصادق وأميرالمؤمنين والنبيّ صلى الله عليه و آله قالوا :

«إنّ حديثنا - وفي بعضها : «أمرنا» ، وفي بعضها : «حديث آل محمّد » ، وفي بعضها : «علم العلماء» - صعب مستصعب ، لا يحتمله إلاّ ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبدٌ مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان» .

وفي بعضها : «لا يحتمله إلاّ صدور منيرة وقلوب سليمة أو أخلاق حسنة»(1) .

وهذه الأحاديث تحتمل وجوهاً :

الأوّل - وهو أقواها وأوجهها - : أنّ المراد أنّ حديثهم وحديث ما هم عليه من شرافة الذات ونورانيّتها ، والكمالات الفاضلة والأخلاق الكاملة والإشراقات التي تشرق على عقولهم الملكوتيّة ونفوسهم اللاهوتيّة ، وقدرتهم على ما لا يقدر غيرهم عليه من العلم بالاُمور الغيبيّة والأسرار الإلهيّة والأخبار الملكوتيّة والأسرار اللاهوتيّة والأطوار الناسوتيّة ، والأوضاع الفلكيّة والأوصاف الملكيّة ، والوقائع الخالية والبدائع الآتية والحاليّة ، والأحكام الغريبة والقضايا العجيبة .

ص: 432


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 401 ، باب فيما جاء أنّ حديثهم صعب مستصعب ، ح 1 ؛ الخصال ، ص 207 ، ح 27 ؛ الأمالي للصدوق ، ص52 ، ح 6 ؛ معاني الأخبار ، ص 188 ، ح 1 ؛ الخرائج والجرائح ، ج 2 ، ص 792 ، ح1 ؛ بصائر الدرجات ، ص 40 ، ح 2 و3 و4 و ص 42 ، ح 6 و 7 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 93 ، ح 56 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 71 ، ح 30 ، وص 190 ، ح 24 ، وص 184 ، ح 7 ، وص 189 ، ح 21 .

والمراد بأمرهم عليهم السلام : شأنهم وما لهم من الكمالات والفضائل والفواضل الخارجة عن طوق غيرهم صعب في نفسه ، مستصعب فهمه على الخلق ، لا يؤمن به ولا يقبله إلاّ ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان ، وأمدّه بتطهيره وامتحانه وابتلائه بالتكاليف العقليّة والنقليّة ، وكيفيّة سلوك سبيله ، لحصول الإيمان الكامل باللّه وبرسوله وبالأئمّة وباليوم الآخر حتّى يتحلّى بالكمالات العلميّة والعمليّة والفضائل الخلقيّة والنفسانيّة ، ويعرف مبادئ كمالاتهم وقدرتهم وكيفيّة صدور مثل هذه الغرائب والعجائب عنهم ، فيصدّقهم ولا يستنكر ما ذكر من فضائلهم وما يأتون به من قول وفعل وأمر ونهي وإخبار ، ولا يتلقّاهم بالتكذيب .

كما كان جماعة من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام يفعلون ذلك معه فيما كان يخبر به من الفتن والوقائع حتّى فهم ذلك منهم ، فقال : «يقولون يكذب ، قاتلهم اللّه ، فعلى من أكذب ؟ أعلى اللّه ؟ فأنا أوّل من آمن به ، أم على رسوله ؟ وأنا أوّل من صدّقه ؟»(1)

بل يحتمل كلّ ما يقولون ويفعلون ويأتون به على وجهه ، وينسبه إلى مبدأه ويتلقّاه بالقبول عليه ويحتمله على الصواب إن عرفه ووجد له محملاً صحيحاً ، وإن اشمأزّ قلبه وعجز عن معرفته تثبّت فيه وآمن به على سبيل الإجمال وفوّض علم كنهه إلى اللّه

وإلى الرسول وإلى علماء آل محمّد صلى الله عليه و آله ولا ينسبهم إلى الكذب .

ويرشد إلى ذلك ما رواه في الكافي عن الباقر عليه السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ حديث آل محمّد صعب مستصعب ، لا يؤمن به إلاّ ملك مقرّب ، أو نبيّ مرسل ، أو عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان ؛ فما ورد عليكم من حديث آل محمّد فلانت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه ، وما اشمأزّت منه قلوبكم وأنكرتموه فردّوه إلى اللّه وإلى الرسول وإلى العالم

من آل محمّد صلى الله عليه و آله ، وإنّما الهالك أن يحدّث أحدكم بشيء منه لا يحتمله فيقول : واللّه ، ما كان هذا ، واللّه ، ما كان هذا ، والإنكار هو الكفر»(2) .

ص: 433


1- . نهج البلاغة ، ص 100 ، الخطبة 72 ؛ الاختصاص ، ص 155 ؛ الاحتجاج ، ج 1 ، ص 173 ؛ خصائص الأئمّة ، ص 99 ؛ بحار الأنوار ، ج 35 ، ص 422 ؛ و ج 38 ، ص 269 . مع تفاوت في الجميع في بعض الألفاظ .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 401 ، باب في ما جاء أنّ حديثهم صعب مستصعب ، ح 1 .

ونحوه مرويّ في البصائر(1) .

وما رواه في البصائر أيضاً عن أبي بصير ، عن الباقر عليه السلام قال : «حديثنا صعب مستصعب لا يؤمن به إلاّ ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان ،

فما عرفت قلوبكم فخذوه ، وما أنكرت فردّوه إلينا»(2) .

وعن الثماليّ عن أبي جعفر عليه السلام مثله(3) .

وعن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إنّ حديثنا صعب مستصعب أجرد ذكوان(4) وعِرٌ شريف كريم ؛ فإذا سمعتم منه شيئاً ولانت له قلوبكم فاحتملوه واحمدوا اللّه عليه ، وإن

لم تحتملوه ولم تطيقوه فردّوه إلى الإمام العالم من آل محمّد ، فإنّما الشقيّ الهالك الذي يقول : واللّه ، ما كان هذا» .

ثمّ قال : «يا جابر ، إنّ الإنكار هو الكفر العظيم»(5) .

وعن الأصبغ بن نباتة عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال : سمعته يقول : «إنّ حديثنا صعب مستصعب خشن مخشوش ، فانبذوه إلى الناس نبذاً ؛ فمن عرف فزيدوه ، ومن أنكر فأمسكوا ، لا يحتمله إلاّ ثلاث : ملك مقرّب ، أو نبيّ مرسل ، أو عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان»(6) .

والخشاش - بالكسر - ما يدخل في عظم أنف البعير من خشب ، والبعير الذي يفعل به ذلك مخشوش ، وهذا الوصف لبيان صعوبته بأنّه يحتاج في انقياده إلى الخِشاش .

وعن فرات بن أحمد ، قال : قال عليّ عليه السلام : «إنّ حديثنا تشمئزّ منه القلوب ، فمن عرف فزيدوهم ، ومن أنكر فذروهم» .(7)

ص: 434


1- . بصائر الدرجات ، ص 20 ، ح 1 .
2- . بصائر الدرجات ، ص 21 ، ح 4 .
3- . بصائر الدرجات ، ص 22 ، ح 6 .
4- . أجرد أكوان : سيأتي معناهما .
5- . بصائر الدرجات ، ص 22 ، ح 9 . ولكن فيه : «عن عمرو بن شمر» .
6- . بصائر الدرجات ، ص 21 ، ح 5 .
7- . بصائر الدرجات ، ص 23 ، ح 12 .

الثاني : أن يكون المراد بذلك أسرار اللّه المخزونة عندهم المكنونة لديهم ممّا لا يطيق تحمّلها غيرهم إلاّ الملائكة المقرّبون دون غير المقرّبين ، والأنبياء المرسلون دون غير المرسلين ، والمؤمنون الممتحنون دون غير الممتحنين .

ويؤيّد هذا المعنى ما يأتي إن شاء اللّه في حديث سلمان وأبي ذرّ وأحاديث اُخر هنالك تؤيّد هذا المعنى ، وما رواه في البصائر عن إسماعيل بن عبدالعزيز ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «حديثنا صعب مستصعب» . قال : قلت : فسّر لي جعلت فداك . قال : «ذكوان ذكيّ أبداً» . قلت : أجرد ؟ قال : «طريّ أبداً» . قلت : مقنّع ؟ قال : «مستور»(1) .

والمراد بالذكاء : التوقّد والالتهاب ، أي بنور الحقّ دائماً ، والأجرد : الذي لا شعر على بدنه ، واستعير للطراوة والحسن .

وعن أبي الصامت عن الصادق عليه السلام قال : «إنّ حديثنا صعب مستصعب ، شريف كريم ، ذكوان ذكيّ ، وعرٌ لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، ولا عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان» . قلت : فمن يحتمله جعلت فداك ؟ قال : «من شئنا يا أبا الصامت» . قال أبو الصامت : فظننت أنّ للّه عباداً هم أفضل من هؤلاء(2) .

ومعنى ظننت : علمت ، والأفضل من الثلاثة : هم عليهم السلام ، والإمام الذي بعدهم ، واستثناء خاتم الأنبياء ظاهر .

ويدلّ على ذلك ما رواه أبو الصامت أيضاً عن الصادق عليه السلام قال : «إنّ حديثنا ما لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا عبد مؤمن» . قلت : فمن يحتمله ؟

قال : «نحن نحتمله»(3) .

ويبقى الكلام في التعارض بين هذين الخبرين وبين ما تقدّم ، حيث أنّ ظاهرهما أنّ الثلاثة لا تحتمله ، والأخبار الاُولى دلّت على أنّة لا يحتمله إلاّ الثلاثة .

ص: 435


1- . بصائر الدرجات ، ص 22 ، ح 9 .
2- . بصائر الدرجات ، ص 22 ، ح 10 .
3- . بصائر الدرجات ، ص 23 ، ح 11 .

ويمكن الجمع بأنّ التحمّل المثبت في الأخبار الاُولى هو الإقرار والإذعان والتصديق به والتسليم لقائله ، والتحمّل المنفيّ هنا هو كتمانه وإخفاؤه وعدم إظهاره ، فإنّه لا يحتمله أحد من هؤلاء الثلاثة بل لابدّ من أن يبديه ويظهره ، وهم عليهم السلام قد كتموه وأخفوه لعجز العقول والأفهام عن دركه كما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام : «إنّ هنا - وأشار إلى صدره الشريف - لعلماً جمّاً لو وجدت له حملة»(1) .

ويُستأنس لذلك بما رواه الصدوق في معاني الأخبار بإسناده عن أبي محمّد عليه السلام قال : كتبت إليه عليه السلام : روي عن آبائكم : «إنّ حديثكم صعب مستصعب ، لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان» .

قال : فجاء الجواب : «إنّما معناه أنّ الملك لا يحتمله في جوفه حتّى يخرجه إلى ملك مثله ، ولا يحتمله نبيّ حتّى يخرجه إلى نبيّ مثله ، ولا يحتمله مؤمن حتّى يخرجه إلى مؤمن مثله ، أي إنّما معناه أن لا يحتمله في قلبه من حلاوة ما هو في صدره حتّى يخرجه إلى غيره»(2) .

وروى الصفّار في البصائر عن سدير الصيرفيّ أنّه سُئل الصادق عليه السلام عن معنى قول أميرالمؤمنين عليه السلام : «إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يعرفه إلاّ ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان» ، فقال : «نعم ، إنّ من الملائكة مقرّبين وغير مقرّبين ، ومن الأنبياء مرسلين وغير مرسلين ، ومن المؤمنين ممتحنين وغير ممتحنين ، وإنّ أمركم هذا عرض على الملائكة فلم يقرّ به إلاّ المقرّبون ، وعرض على الأنبياء فلم يقرّ به إلاّ المرسلون ، وعرض على المؤمنين فلم يقرّ به إلاّ الممتحنون»(3) .

ولعلّ المراد بهذا الإقرار الإقرار التامّ الذي يكون عن معرفة بكنه حقيقتهم وعلوّ قدرهم ورفعة شأنهم وغرائب أحوالهم ، حتّى لا ينافي عدم الإقرار بذلك عصمة

ص: 436


1- . نهج البلاغة ، الخطبة : 147 .
2- . معاني الأخبار ، ص 188 ؛ و عنه في وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 93 ، ح 33301 .
3- . بصائر الدرجات ، ص 26 - 27 ، وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 184 - 185 ، ح 7 .

الأنبياء والملائكة .

وعن أبي حمزة الثماليّ ، قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : «إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ثلاثة : ملك مقرّب ، أو نبيّ مرسل ، أو مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان» .

ثمّ قال : «يا أبا حمزة ، ألست تعلم أنّ في الملائكة مقرّبين وغير مقرّبين ، وفي النبيّين مرسلين وغير مرسلين ، وفي المؤمنين ممتحنين وغير ممتحنين ؟» قلت : بلى .

قال : «ألا ترى إلى صفوة أمرنا ؟ إنّ اللّه اختار له من الملائكة مقرّبين ، ومن النبيّين مرسلين ، ومن المؤمنين ممتحنين»(1) .

وعن أبي الربيع الشاميّ عن أبي جعفر عليه السلام قال : كنت معه جالساً فرأيت أنّ أبا جعفر عليه السلام قد قام فرفع رأسه وهو يقول : «يا أبا الربيع ، حديث تمضغه الشيعة بألسنتها لا تدري ما كنهه !» قلت : ما هو جعلني اللّه فداك ؟ قال : «قول أبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام : إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان . يا أبا الربيع ، ألا ترى أنّه يكون ملك ولا يكون مقرّباً ولا يحتمله إلاّ مقرّب ، وقد يكون نبيّ وليس بمرسل ولا يحتمله إلاّ مرسل ، وقد يكون مؤمن وليس بممتحن ولا يحتمله إلاّ مؤمن قد امحتن اللّه قلبه للإيمان»(2) .

وروى المجلسيّ في البحار عن صالح بن ميثم عن أبيه ، قال : بينما أنا في السوق إذ أتاني الأصبغ بن نباتة ، فقال : ويحك يا ميثم ، لقد سمعت من أميرالمؤمنين عليّ ابن أبي طالب حديثاً صعباً شديداً ، فأيّنا يكون كذلك ؟ قلت : وما هو ؟ قال : سمعته يقول : «إنّ حديثنا أهل البيت صعب مستصعب ، لا يحتمله إلاّ ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان» . فقمت من فورتي فأتيت عليّاً عليه السلام ، فقلت : يا أميرالمؤمنين ، حديث أخبرني به الأصبغ عنك قد ضقت به ذرعاً . قال : وما هو ؟

ص: 437


1- . بصائر الدرجات ، ص 28 ، ح 9 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 196 ، ح 48 .
2- . بصائر الدرجات ، ص 26 ، ح 1 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ح 2 ، ص 197 ، ح 49 .

فأخبرته ، قال : فتبسّم ثمّ قال : «اجلس يا ميثم ، أوكلُّ علم يحتمله عالم ؟ إنّ اللّه تعالى قال للملائكة : « إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ »(1) ، فهل رأيت الملائكة احتملوا العلم ؟» قال : قلت : هذه واللّه أعظم من ذلك . قال : «والاُخرى : أنّ موسى أنزل اللّه عزّ وجلّ عليه التوراة فظنّ أن لا أحد أعلم منه ، فأخبره اللّه تعالى إنّ في خلقي من هو أعلم منك ، وذاك إذ أنّه خاف على نبيّه العُجْب . قال : فدعا ربّه أن يرشده إلى العالم» . قال : «فجمع اللّه بينه وبين الخضر ، فخرق السفينة فلم يحتمل ذلك موسى عليه السلام ، وقتل الغلام فلم يحتمله ، وأقام الجدار فلم يحتمله . وأمّا المؤمنون فإنّ نبيّنا أخذ يوم غدير خمّ

بيدي فقال : اللّهمّ من كنت مولاه فإنّ عليّاً مولاه ، فهل رأيت احتملوا ذلك الأمر إلاّ من عصمه اللّه منهم ، فابشروا ثمّ ابشروا ، فإنّ اللّه تعالى قد خصّكم بما لم يخصّ به الملائكة والنبيّين والمرسلين فيما احتملتم من أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله »(2) .

الثالث : أن يراد بذلك فتواهم في الأحكام الإلهيّة وغورهم في الأسرار الشرعيّة ، فإنّ ذلك لا يحتمله ويتحمّله من عدى الثلاثة المذكورين ، بل يستنكفون منه كمال الاستنكاف ويرشد إلى ذلك بعض الأخبار أيضاً .

الرابع : أن يكون المراد من ذلك الإقرار بإمامتهم وعصمتهم ، فإنّه لا يقرّ بها إلاّ هؤلاء الثلاثة كما يستفاد من كثير من الأخبار المتقدّمة ، ويجاب عن عدم إقرار الأنبياء غير المرسلين والملائكة غير المقرّبين والمؤمنين غير الممتحنين بما تقدّم ، من أنّ المراد : الإقرار التامّ الصادر عن علم وعرفان بكنه حقيقتهم .

وفي بعض الآثار عن عمير الكوفيّ ، قال : معنى «حديثنا صعب مستصعب ذكوان أجرد ، لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل» هو ما رويتم أنّ اللّه تبارك وتعالى لا يوصف ، ورسوله لا يوصف ، والمؤمن لا يوصف ؛ فمن احتمل حديثهم فقد حدّهم ،

ص: 438


1- . البقرة 2 : 30 .
2- . بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 210 - 211 ، ح 106 .

ومن حدّهم فقد وصفهم ، ومن وصفهم فقد أحاط بهم وهو أعلم منهم(1) .

وعن المفضّل ، قال : قال أبو جعفر عليه السلام : «إنّ حديثنا صعب مستصعب ذكوان أجرد ، لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان» .

أمّا الصعب فهو الذي لم يركب بعدُ ، وأمّا المستصعب فهو الذي يُهرب منه إذا رأى ، وأمّا الذكوان فهو ذكاء المؤمنين ، وأمّا الأجرد فهو الذي لا يتعلّق به شيء من بين يديه ولا من خلفه ، وهو قوله تعالى : « اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ »(2) ، فأحسن الحديث حديثنا لا يحتمل أحد من الخلائق أمره بكماله حتّى يحدّه ؛ لأنّ من حدّ شيئاً فهو أكبر منه ، واللّه

العالم .

ص: 439


1- . بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 194 ، ح 39 .
2- . الزمر 39 : 23 .

الحديث الثالث والخمسون:[ لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله ]

اشارة

ما رويناه بأسانيدنا السالفة عن ثقة الإسلام في الكافي في أواخر أبواب الحجّة عن أحمد بن إدريس ، عن عمران بن موسى ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «ذكرت التقيّة يوماً عند عليّ بن الحسين عليه السلام ، فقال: واللّه ، لو علم أبوذرّ ما في قلب سلمان لقتله ، ولقد آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بينهما، فما ظنّكم بسائر الخلق ؟! إنّ علم العلماء صعب مستصعب ، لا يحتمله إلاّ نبيّ مرسل أو ملك مقرّب أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان» .

وقال : «إنّما صار سلمان من العلماء لأنّه امرءٌ منّا أهل البيت ، فلذلك نسبته إلى العلماء»(1) .

وقد تعرّض جملة من العلماء الأعلام والفضلاء الكرام المعوّل عليهم في النقض والإبرام لحلّ هذا الحديث ورفع الإشكال عنه بوجوه :

الأوّل : ما ذكره المحقّق المولى محمّد صالح المازندرانيّ في شرح الكافي قال :

المراد بما في قلب سلمان : العلوم والأسرار ، ومنشأ القتل هو الحسد والعناد ، وفيه مبالغة على التقيّة من الإخوان فضلاً عن أهل الظلم والعدوان .

ثمّ قال : فإن قلت : هل فيه لوم لأبي ذر ؟

قلت : لا ؛ لأنّ المقصود في مواضع استعمال «لو» هو أنّ عدم الجزاء مترتّب على عدم الشرط .

ص: 440


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 401 باب فيما جاء أنّ حديثهم صعب مستصعب ، ح 2 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 190 ، ح 25 ، و ج 22 ، ص 343 ، ح 53 .

وأمّا ثبوته فقد يكون محالاً ، لابتنائه على ثبوت الشرط ، وثبوت الشرط قد يكون محالاً عادة أو عقلاً كعلم أحدنا بجميع ما في قلب الآخر ، وثبوت حقيقة الملائكة للمتكلّم في قوله : لو كنتُ ملكاً لم أعص . ومن هذا القبيل قوله تعالى : « لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ »(1) .

على أنّه يمكن أن يكون المقصود من التعليق هو التعريض بوجوب التقيّة وكتمان الأسرار على ما يخاف منه الضرر كما في قولك : واللّه ، لو شتمني الأمير لضربته ، فإنّه تعريض بشاتم آخر وتهديد له بالضرب ، بدليل أنّ الأمير ما شتمك ولو شتمك لما أمكنك ضربه ، فتأمّل .

وقوله : «إنّ علم العلماء» أي الذين منهم سلمان ، كما يصرّح به .(2) انتهى .

أقول : وفيه بُعدٌ ؛ لأنّ ظاهر الحديث أنّ أبا ذرّ لو اطّلع على علم سلمان واعتقاده لاستحلّ قتله ، لا أنّ ذلك لا يصدر عن أبي ذرّ . وفي بعض الروايات : «لكفّره» بدل «لقتله» .

الثاني : أنّ سلمان لمّا كان من أهل البيت عليهم السلام لقولهم عليهم السلام : «سلمان منّا أهل البيت»(3)

وكان عنده من العلوم المأخوذة منهم ما ليس عند أبي ذرّ ، فسلمان يتّقي في إظهار ما عنده لأبي ذرّ ، ولو أظهره له لقتله ؛ لأنّه يرى أنّ هذا العلم الذي عنده لا يكون إلاّ عند نبيّ أو وصيّ نبيّ ، وهو ليس أحدهما ، أو ساحر فيستحلّ قتله بذلك ، فكان سلمان يكتم ما عنده تقيّة حتّى عن أبي ذرّ مع أنّه أخوه ، فغيره ينبغي أن يفعل ذلك .

ويؤيّد ذلك ما رواه الكشّيّ بإسناده عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «دخل أبوذرّ على سلمان وهو يطبخ قدراً له ، فبينما هما يتحادثان إذ انكبّت القدر على وجهها على الأرض ، فلم يسقط من مرقها ولا ودكها(4) شيء ، فعجب من ذلك أبوذرّ عجباً شديداً ، وأخذ سلمان القدر فوضعها على حالها الأوّل على النار ثانية ، وأقبلا يتحادثان فبينما

ص: 441


1- . الزمر 39 : 65 .
2- . شرح المازندراني ، ج 7 ، ص 5 .
3- . مناقب آل أبي طالب ، ج 1 ، ص 75 .
4- . الودك : هو دسم اللحم ودهنه . انظر : الصحاح ، ج 4 ، ص 1613 ودك .

هما يتحادثان إذ انكبّت القدر على وجهها فلم يسقط منها شيء من مرقها ولا ودكها .

قال : فخرج أبوذرّ وهو مذعور من عند سلمان ، فبينما هو متفكّر إذ لقي أميرالمؤمنين عليه السلام على الباب ، فلمّا أن بصر به أميرالمؤمنين عليه السلام قال له : يا أباذرّ ، ما الذي أخرجك من عند سلمان ؟ وما الذي أذعرك ؟

فقال أبوذر : يا أميرالمؤمنين ، رأيت سلمان صنع كذا وكذا فعجبت من ذلك .

فقال أميرالمؤمنين : يا أباذرّ ، إنّ سلمان لو حدّثك بما يعلم لقلت رحم اللّه قاتل سلمان . يا أباذرّ ، إنّ سلمان باب اللّه في الأرض ؛ من عرفه كان مؤمناً ومن أنكره كان كافراً ، وإنّ سلمان منّا أهل البيت»(1) .

وأظنّ أنّي رأيت في بعض الروايات التي أستحضرها الآن : أنّ أباذرّ دخل يوماً على سلمان فرآه قد ركّب قدراً وأدخل رجليه تحت القدر يتوقّدان ، فخرج وهو مذعور(2) .

الثالث : أنّ ضمير الفاعل في «قتله» راجع إلى العلم ، وضمير المفعول فيه راجع إلى أبي ذرّ ، ومعناه : أنّ أباذرّ لو اُعطي علم سلمان لما أطاق تحمّله بل كان العلم قاتلاً له .

وفيه نظر ؛ إذ لا يناسب أجزاء الحديث ولا تقيّة حينئذٍ ، اللهمّ إلاّ أن يحمل أنّ سلمان يتّقي على أبي ذرّ شفقة عليه من خوف إظهاره ، فيكون سبباً لقتله .

الرابع : أن يكون المراد مرجع الضميرين كما تقدّم ولكن يكون المعنى بطريق آخر ، وهو أنّه لو علم أبوذرّ ما في قلب سلمان لما قدر أبوذرّ على كتمان ذلك العلم بل كان يظهره ، وإذا أظهره قتل بسبب إظهاره ؛ لعدم فهم الناس لمعانيه ؛ لأنّ عقولهم لا تصل إلى ذلك كما اتّفق لكثير من خواصّ الأئمّة كمحمّد بن سنان وجابر الجعفيّ ممّن اتّهمهم أهل الرجال بالغلوّ والارتفاع ؛ لأنّ الأئمّة ألقوا إليهم من أسرار علومهم ما لم يحدّثوا به غيرهم من الشيعة ، فاستغرب الشيعة تلك الأخبار ؛ لعدم موافقة غيرهم لهم على روايتها ، فطعنوا عليهم بهذا السبب . وربّما كان الأمر يؤول بهم إلى القتل .

ص: 442


1- . رجال الكشّي ، ج 1 ، ص 59 .
2- . لم نعثر على هذه الرواية ، وذكر المحدّث النوري قصّة جرت بين سلمان والمقداد فيها بعض الشبه لما رواه المؤلّف . راجع : نفس الرحمان في فضائل سلمان ، ص 352 .

وفيه ما تقدّم ؛ إذ لا معنى حينئذٍ للتقيّة والحثّ عليها ، اللّهمّ إلاّ أن يحمل على أنّ سلمان كان حينئذٍ يتّقي على أبي ذرّ شفقة عليه وخوفاً من أن يظهر شيئاً من ذلك فيكون سبباً لقتله .

الخامس : أن يكون المعنى لو علم أبوذرّ ما في قلب سلمان من العلم لقتله ؛ لأنّ أباذرّ يعلم أنّ في قلب سلمان علماً ويعلم أنّه لا يجوز له إظهاره تقيّة ، فمع ذلك إذا أظهر سلمان ما في قلبه لأبي ذرّ ولم يتّق منه لقتله ؛ لعدم جواز إظهاره لذلك العلم ، ولا يخفى بُعده .

السادس : ما أجاب به السيّد المرتضى على ما نقله عنه الفاضل المدقّق الميرزا محمّد في الرجال الكبير ، قال :

إنّ هذا الخبر إذا كان من أخبار الآحاد التي لا توجب علماً ولا تثلج صدراً وكان له ظاهر ينافي المعلوم المقطوع تأوّلنا ظاهره على ما يطابق الحقّ ويوافقه إن كان ذلك مستسهلاً ، وإلاّ فالواجب اطّراحه وإبطاله .

فإذا كان من المعلوم الذي لا يحيل سلامة سريرة كلّ واحد من سلمان وأبي ذرّ ، ونِقاءُ صدرِ كلّ واحدٍ منهما لصاحبه ، وأنّهما ما كانا من المدغلين في الدين ولا المنافقين ، فلا يجوز مع هذا المعلوم أن يعتقد أنّ الرسول صلى الله عليه و آله يشهد بأنّ كلّ واحد منهما لو اطّلع على ما في قلب صاحبه لقتله على سبيل الاستحلال لدمه .

ومن أجود ما قيل في تأويله : إنّ الهاء في قوله «لقتله» راجعة إلى المطّلع عليه ، كأنّه أراد أنّه إذا اطّلع على ما في قلبه وعلى(1) موافقة باطنه لظاهره ، وشدّة إخلاصه له اشتدّ ظنّه به ومحبّته له وتمسّكه بمودّته ونصرته ، فقتله ذلك الظنّ والودّ بمعنى أنّه كاد يقتله . كما يقولون : فلان يهوى غيره وتشتدّ محبّته له حتّى أنّه قد قتله حبّه أو أتلف نفسه وما جرى مجرى هذا من الألفاظ ، وتكون فائدة هذا الخبر حسن الثناء على الرجلين ، وأنّه آخى بينهما وباطنهما كظاهرهما ، وسرّهما في الصفاء والنقاء كعلانيتهما(2) . انتهى .

ص: 443


1- . في المصدر : «وعلم موافقته» .
2- . نهج المقال ، ص 170 طبعة حجريّة .

أقول : لا يخفى على العارف النحرير ، والمدقّق الخبير ، ما في هذه الأجوبة من التكلّف والتعسّف ، التمحّل والبعد ، والتحقيق في المقام على وجه لا يحوم حوله نقض ولا إبرام ، ولا يعتريه شوائب فاسد الأوهام ، أنّه لا يخفى على من تتبّع الأخبار ، وتصفّح الآثار ، وجاس خلال تلك الديار ، سالكاً سبيل الإنصاف ، مجتنباً طريق الاعتساف ، بأنّ المستفاد منها على وجه لا يزاحمه ريب ، ولا يعتريه شكّ ولا عيب ، أنّ من العلوم علوماً ربّانيّة ، وأسراراً ملكوتيّة ، وحقائق خفيّة ، وخفايا مزيّة ، غير ما في أيدينا من العلوم الرسميّة ، والأحكام الظاهريّة ، عزيزة المنال ، عديمة المثال ، دقيقة المدرك ، صعبة المسلك ، يصعب إليها الوصول ، وتقصر دون بلوغ كنهها العلماء الفحول . ولهذا خوطب أكثر الناس بالظواهر الجليّة ، دون الأسرار والغوامض الدقيقة الخفيّة ، وإنّما خصّ بها قوم دون آخرين ، ولو سمعها دون أهلها لأنكروها أشدّ إنكار ، وحكموا على معتقديها وقائلها باستحقاق النار ، والحشر مع الكفّار ، وهم لا يلامون في ذلك ، لقصور أفهامهم عن تلك المسالك ، فإنّما يكلّف اللّه الناس ويداقّهم ويخاطبهم على قدر ما آتاهم من العقول .

ويكفيك شاهداً على ذلك ، ومرشداً إلى ما هنالك ، ما نصّ عليه اللّه العزيز الحميد في القرآن المجيد ، من قصّة موسى والخضر ، كيف أنكر عليه قتل الغلام وخرق السفينة وإقامة الجدار ، لمنافاة ذلك لظاهر الشريعة ، وكيف كان الحقّ مع الخضر لموافقة ذلك للحقيقة الحقيقيّة ، وكيف ألزم نفسه السكوت والتسليم ومع ذلك لم يستطع صبراً ، ونكّص إلى الإنكار ، والتشديد في إظهاره ، وسأتلو عليك جملة وافية من الأخبار ، وبلغة شافية من الآثار الواردة عن النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة الأطهار ، عليهم صلوات اللّه الملك الغفّار ، ما يرفع عنك هذا الاستبعاد ، ويهديك إلى طريق الرشاد .

فمنها : ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «إنّ من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلاّ أهل المعرفة باللّه ، فإذا نطقوا به لم يجهله إلاّ أهل الاغترار باللّه عزّ وجلّ ، ولم يتحمّله إلاّ أهل الاعتراف باللّه ، فلا تحقروا عالماً آتاه اللّه علماً ، فإنّ اللّه تعالى لم يحقره إذ آتاه إيّاه»(1) .

ص: 444


1- . رواه في كنز العمّال ، ج 1 ، ص 181 ، ح 28942 إلى قوله : «لم يجهله إلاّ أهل الغرّة باللّه» . ولم نعثر على تتمّة الحديث في المصادر الروائيّة .

ومنها : ما روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال : «اندمجتُ على مكنون علم لو بُحْتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويّ(1) البعيدة»(2) .

وروي عنه عليه السلام قال لكميل بن زياد : «إنّ هاهنا لعلماً جمّاً - وأشار إلى صدره الشريف - لو وجدت له حملة»(3) .

وعن زين العابدين عليه السلام إنّه قال في أبيات منسوبة إليه :

إنّي لأكتم من علمي جواهره *** كيلا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدّم في هذا أبو حسن *** إلى الحسين ووصّى قبله الحسنا

يا ربّ جوهر علم لو أبوح به *** لقيل لي : أنت ممّن يعبد الوثنا

ولاستحلّ رجال مسلمون دمي *** يرون أقبح ما يأتونه حسنا(4)

وعن الباقر عليه السلام : «الناس كلّهم بهائم إلاّ قليلاً من المؤمنين»(5) .

قال بعض العارفين : وتصديق ذلك قوله تعالى : « أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً »(6) .

وروى الصدوق في الأمالي عن مدرك ، قال : قال الصادق عليه السلام : «يا مدرك ، رحم اللّه عبداً اجترّ مودّة الناس إلينا فحدّثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون»(7) .

وروى الكشّيّ عن العبد الصالح عليه السلام أنّه قال ليونس : «يا يونس ، ارفق بهم فإنّ

ص: 445


1- . مفردة رشاء ككساء : الحبل لسان العرب ، ح 14 ، ص 322 «رشو» . والطَويّ : البئر المطويّة بالحجارة (لسان العرب ، ج 15 ، ص 19 «طوي») .
2- . نهج البلاغة ، ص 52 ، الخطبة 5 ؛ بحار الأنوار ، ج 28 ، ص 234 ، ح 20 .
3- . نهج البلاغة ، ص 496 ، الحكمة : 147 وفيه : «لو أصبت» .
4- . الأربعين للماحوزي ، ص 345 .
5- . بصائر الدرجات ، ص 522 ، ح 13 ؛ الكافي ، ج 2 ، ص 342 ، باب في قلّة عدد المؤمنين ، ح 2 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 200 ، ح 3 .
6- . الفرقان 25 : 44 .
7- . الأمالي للصدوق ، ص 199 ، المجلس الحادي والعشرين ، ح 7 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 65 ، ح 4 .

كلامك يدقّ عليهم» . قال : قلت : إنّهم يقولون لي : زنديق . قال لي : «وما يضرّك أن تكون في يديك لؤلؤة فيقول لك الناس : هي حصاة ، وما كان ينفعك إذا كان في يدك حصاة فيقول الناس : هي لؤلؤة»(1) .

وفي الأمالي ومعاني الأخبار عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «إنّ عيسى بن مريم قام في بني إسرائيل ، فقال : يا بني إسرائيل ، لا تحدّثوا بالحكمة الجهّال فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم»(2) .

وروى الكشّيّ عن أبي جعفر البصريّ ، قال : دخلت مع يونس بن عبدالرحمان على الرضا عليه السلام فشكا إليه ما يلقى من أصحابه من الوقيعة ، فقال الرضا عليه السلام : «دارهم فإنّ عقولهم لا تبلغ»(3) .

وعن ذريح المحاربيّ ، قال : سألت أبا عبداللّه عن جابر الجعفيّ وما روى ، فلم يجبني وأظنّه قال : وسألته ثانياً ولم يجبني ، فسألته الثالثة ، فقال لي : «يا ذريح ، دع ذكر جابر ، فإنّ السفلة إذا سمعوا بأحاديثه شنّعوا - أو قال : أذاعوا -»(4) .

وعن أبي جميلة ، عن جابر ، قال : رويت خمسين ألف حديث ما سمعه أحد منّي(5) .

وعن أبي جميلة ، عن جابر ، قال : حدّثني أبو جعفر تسعين ألف حديث لم اُحدّث بها أحداً قطّ ولا اُحدّث بها أحداً أبداً . فقلت لأبي جعفر عليه السلام : جعلت فداك ، قد حمّلتني وقراً عظيماً بما حدّثتني به من سرّكم الذي لا اُحدّث به أحداً ، فربّما جاش في صدري حتّى يأخذني منه شبه الجنون . قال : «يا جابر ، فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبال فاحفر حفيرة ودل رأسك فيها ثمّ قل : حدّثني محمّد بن عليّ بكذا وكذا»(6) .

ص: 446


1- . رجال الكشّي ، ص 488 ، ح 928 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 66 ، ح 6 .
2- . الأمالي للصدوق ، ص 305 ، المجلس الخمسون ، ح 11 ؛ معاني الأخبار ، ص 196 ، ح 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 16 ، ص 128 ، ح 21156 .
3- . رجال الكشّي ، ص 488 ، ح 929 ؛ مستدرك الوسائل ، ج 12 ، ص 215 ، ح 13919 .
4- . رجال الكشّي ، ص 193 ، ح 340 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 69 ، ح 20 .
5- . رجال الكشّي ، ص 194 ، ح 342 ؛ مستدرك الوسائل ، ج 12 ، ص 298 ، ح 14134 .
6- . رجال الكشّي ، ص 194 ، ح 343 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 69 ، ح 22 .

وعن جابر ، قال : دخلت على أبي جعفر عليه السلام وأنا شابّ - إلى أن قال : - ودفع إليّ كتاباً ، وقال : «إن أنت حدّثت به قبل أن يهلك بنو اُميّة فعليك لعنتي ولعنة آبائي ، وإن أنت كتمت منه شيئاً بعد هلاك بني اُميّة فعليك لعنتي ولعنة آبائي» .

ثمّ دفع إليّ كتاباً آخر ، ثمّ قال : «وهاك هذا ، فإن حدّثت بشيء منه أبداً فعليك لعنتي ولعنة آبائي»(1) .

وعن عمر بن شمر ، قال : جاء قوم إلى جابر الجعفيّ فسألوه أن يعينهم في بناء مسجدهم ، فقال : ما كنت بالذي اُعين في بناء شيء يقع منه رجل مؤمن فيموت ، فخرجوا من عنده وهم يبخّلونه ويكذّبونه ، فلمّا كان من الغد أتمّوا الدراهم ووضعوا أيديهم في البناء ، فلمّا كان عند العصر زلّت قدم البنّاء فمات(2) .

وعنه قال : جاء العلاء بن رزين رجل جعفيّ ، قال : خرجت مع جابر لمّا طلبه هشام حتّى انتهى إلى السواد ، قال : فبينا نحن قعود وراعٍ قريب منّا ، إذ ثغت(3) نعجة من شائه(4)

إلى حَمل ، فضحك جابر ، فقلت : ما يضحكك يا أبا محمّد ؟ قال : إنّ هذه النعجة دعت حملها فلم يجيء ، فقالت له : تنحّ عن ذلك الموضع فإنّ الذئب عام أوّل أخذ أخاك منه ، فقلت : لأعلمنّ حقيقة هذا وكذبه .

فجئت إلى الراعي ، فقلت : يا راعي تبيعني هذا الحَمل ، فقال : لا ، قلت : ولِمَ ؟ قال : لأنّ اُمّه أفره شاة في الغنم وأغزرها دَرّة ، وكان الذئب أخذ حملاً لها منذ عام أوّل من ذلك الموضع ، فما رجع لبنها حتّى وضعت هذا فدرّت عليه ، فقلت : صدق .

فلمّا صرنا على جسر الكوفة نظر إلى رجل معه خاتم ياقوت ، فقال له : يا فلان ، خاتمك هذا البرّاق أرنيه ، فخلعه وأعطاه ، فلمّا صار في يده رمى به في الفرات ، قال الآخر : ما صنعت ؟ قال : تحبّ أن تأخذه ؟ قال : نعم ، فأشار بيده إلى الماء فإذا هو

ص: 447


1- . رجال الكشّي ، ص 192 ، ح 339 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 70 ، ح 28 .
2- . رجال الكشّي ، ص 195 ، ح 345 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 66 ، ص 270 ، ح 1 .
3- . ثغت : صوّتت . والثغاء بالضمّ : صوت الشاة . انظر : كتاب العين ، ج 4 ، ص 440 ثغو .
4- . الشاء : جمع شاة . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 1639 شوه .

يعلو بعضه إلى بعض حتّى إذا قرب قال : تناوله وأخذه(1) .

وروي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه كان يسمّي رشيد الهجريّ رشيد البلايا وكان قد اُلقي إليه علم البلايا والمنايا ، وكان [في] حياته إذا لقي الرجل يقول له : يا فلان ، تموت بميتة كذا ، ويقول : أنت يا فلان تموت بقتلة كذا وكذا ، فيكون كما يقول رشيد(2) .

وعن أبي خالد التمّار ، قال : كنت مع ميثم التمّار بالفرات يوم الجمعة فهبّت ريح وهو في سفينة من سفن الرمان ، قال : فخرج ونظر إلى الريح فقال : شدّوا رأس سفينتكم ، إنّ هذا الريح عاصف ، مات معاوية الساعة .

قال : فلمّا كانت الجمعة المقبلة أقبل بريد من الشام فلقيته واستخبرته ، فقلت : يا أبا عبداللّه ما الخبر ؟ قال : الناس على أحسن حال ، توفّي أميرالمؤمنين وبايع الناس يزيد . قال : قلت : أيّ يوم توفّي ؟ قال : يوم الجمعة(3) .

وعن حمزة بن ميثم ، قال : خرج أبي إلى العمرة فحدّثني ، قال : استأذنت على اُمّ سلمة ، فضربت بيني وبينها خدراً ، فقالت لي : أنت ميثم ؟ فقلت : أنا ميثم ، فقالت : كثيراً مّا رأيت الحسين بن عليّ بن فاطمة يذكرك . فقلت : فأين هو ؟ قالت : خرج في غنم له آنفاً . فقلت : أنا واللّه أكثر ذكره ، فاقرئيه السلام منّي فإنّي مبادر .

فقالت : يا جارية فأدهنيه ، فخرجت فدهّنت لحيتي ب- (بان)(4) .

فقلت أنا : أما واللّه ، لئن دهّنتها لتخضبنّ فيكم بالدماء .

فخرجنا فإذا ابن عبّاس جالس ، فقلت : يابن عبّاس ، سلني ما شئت من تفسير القرآن فإنّي قرأت تنزيله على أميرالمؤمنين وعلّمني تأويله .

فقال : يا جارية ، الدواة والقرطاس ، فأقبل يكتب ، فقلت : يا ابن عبّاس ، كيف بك

ص: 448


1- . رجال الكشّي ، ص 195 - 196 ، ح 346 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 66 ، ص 271 ، ح 2 .
2- . رجال الكشّي ، ص 75 ، ح 131 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 42 ، ص 136 - 137 ، ح 17 .
3- . رجال الكشّي ، ص 80 ، ح 135 ؛ بحار الأنوار ، ج 42 ، ص 127 - 128 ، ح 10 .
4- . في الحديث : «نعم الدهن البان» ، والبان : ضرب من الشجر يؤخذ منه الدهن ، واحده بانة ، وقد يطلق البان على نفس الدهن توسّعاً . مجمع البحرين ، ج 6 ، ص 216 بون .

إذا رأيتني مصلوباً تاسع تسعة أقصرهم خشبة ، وأقربهم بالمطهرة(1) .

فقال لي : وتكهن أيضاً ؟! فخرق الكتاب .

فقلت : مه ، احفظ ما سمعت فإن يك ما أقول لك حقّاً أمسكته ، وإن يك باطلاً خرقته ، قال : هو ذاك .

فقدم أبي علينا فما لبث يومين حتّى أرسل عبيداللّه بن زياد فصلبه تاسع تسعة ، أقصرهم خشبة وأقربهم إلى المطهرة ، فرأيت الرجل الذي جاء إليه ليقتله قد أشار إليه بالحربة وهو يقول : أما واللّه لقد كنت ما علمتك إلاّ قوّاماً ثمّ طعنه في خاصرته [فأجافه] فاحتقن الدم ، فمكث يومين ، ثمّ إنّه في اليوم الثالث بعد العصر انبعث منخراه دماً فخضبت لحيته [بالدماء(2)] .

وروي عن الرضا عليه السلام عن أبيه عن آبائه ، قال : «أتى ميثم التمّار أميرالمؤمنين فقيل له : إنّه نائم ، فنادى بأعلى صوته : انتبه أيّها النائم ، فواللّه لتخضبنّ لحيتك من رأسك ، فانتبه أميرالمؤمنين عليه السلام ، فقال : أدخلوا ميثماً ، فقال له : أيّها النائم لتخضبنّ لحيتك من رأسك .

فقال : صدقت وأنت واللّه لتقطعنّ يداك ورجلاك ولسانك»(3) ، الحديث .

وفي رواية : إنّه لمّا صلبه عبيداللّه بن زياد ولم يقطع لسانه تكذيباً لمولاه أميرالمؤمنين ، قال للناس وهو مصلوب : سلوني قبل أن اُقتل ، فواللّه لاُخبرنّكم بعلم ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، وبما يكون من الفتن ، فلمّا سأله الناس حدّثهم حديثاً واحداً ، إذ أتاه رسول من قِبَل ابن زياد فألجمه بلجام شريط(4) .

وفي رواية : أنّه نادى بأعلى صوته : أيّها الناس ، من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن عليّ بن أبي طالب . قال : فاجتمع الناس فأقبل يحدّثهم بالعجائب ،

ص: 449


1- . المطهرة : بيت يتطهّر فيه يشمل الوضوء والغسل والاستنجاء . انظر : لسان العرب ، ج 4 ، ص 506 طهر .
2- . رجال الكشّي ، ص 80 - 81 ، ح 136 ؛ بحار الأنوار ، ج 42 ، ص 128 ، ح 11 . والزيادات اُثبتت من المصدر بين معقوفتين .
3- . رجال الكشّي ، ص 85 ، ح 140 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 42 ، ص 131 ، ح 14 .
4- . الشريط : حبل يُغتل من الخوص . الصحاح ، ج 3 ، ص 1136 شرط .

فخرج عمرو بن حريث وهو يريد منزله ، فقال : ما هذه الجماعة ؟ قالوا : ميثم التمّار يحدّث الناس ، فانصرف مسرعاً وقال : أصلح اللّه الأمير ، بادر وابعث إلى هذا من يقطع لسانه ، فإنّي لستُ آمن أن يغيّر قلوب أهل الكوفة فيخرجوا عليك .

فالتفت إلى حرسيّ فوق رأسه فقال : اذهب فاقطع لسانه ، قال : فأتاه الحرسيّ فقال : يا ميثم ، قال : وما تشاء ؟ قال : أخرج لسانك قد أمرني الأمير بقطعه ، قال ميثم : ألا زعم ابن الأمة الفاجرة أنّه يكذّبني ويكذّب مولاي ، هاك لساني ، فقطع لسانه(1) .

وروى الصفّار في بصائر الدرجات بإسناده عن جابر عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ أمرنا سرّ مستتر ، وسرّ لا يفيده إلاّ سرّ ، وسرٌّ على سرّ ، وسرّ مقنّع بسرّ»(2) .

وعن أبان بن عثمان ، قال : قال لي أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ أمرنا هو الحقّ ، وحقّ الحقّ ، وهو الظاهر ، وباطن الظاهر ، وباطن الباطن ، وهو السرّ ، وسرّ السرّ ، وسرّ المستتر ، وسرّ مقنّع بالسرّ»(3) .

والأخبار في هذا المعنى كثيرة لو استقصيناها لخرجنا عن وضع الكتاب .

تذييلٌ : [في بعض ما ورد فيفضل سلمان]

نقل عن القرطبيّ من العامّة أنّه قال :

سلمان يكنّى أبا عبداللّه ، وكان ينسب إلى الإسلام ، فيقول : أنا سلمان بن الإسلام ، ويعدّ من موالي رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأنّه أعانه بما كوتب عليه ، فكان سبب عتقه ، وكان يعرف بسلمان الخير ، وقد نسبه رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى بيته ، فقال : «سلمان منّا أهل البيت» .

وأصله فارسيّ من (رام هرمز) قرية ، وقيل : بل من إصبهان ، وكان أبوه مجوسيّاً ، فنبّهه اللّه على قبح ما كان عليه أبوه وقومه ، فجعل في قلبه التشوّق إلى طلب الحقّ ،

ص: 450


1- . رجال الكشّي ، ص 85 ، ح 140 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 42 ، ص 131 ، ح 14 .
2- . بصائر الدرجات ، ص 48 ، ح 1 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 71 ، ح 31 مع تفاوت في بعض الألفاظ .
3- . بصائر الدرجات ، ص 49 ، ح 4 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 71 ، ح 33 . ولكن فيهما : «عن مرازم» .

فهرب بنفسه وفرّ عن أرضه ، فوصل إلى المقصود بعد مكابدة عظيم الصعاب والصبر على المكابدة .

وقال عليّ : «سلمان علم العلم الأوّل والآخر ، وهو بحر لا ينزف ، وهو منّا أهل البيت» . وعنه عليه السلام أيضاً : «سلمان مثل لقمان» . وله أخبار حسان وفضائل جمّة .(1)

انتهى .

وقال في مجمع البحرين في مادّة (فرس) :

وسلمان الفارسيّ مشهور معروف ، أصله من إصبهان ، وقيل : من مرازم ، توفّي سنة سبع وثلاثين بالمدائن ، نقل أنّه عاش ثلاثمائة وخمسين سنة ، وأمّا مائتين وخمسين سنة فممّا لا شكّ فيه(2) .

وروى الكشّيّ بإسناده عن زرارة ، قال : سمعت أبا عبداللّه يقول : «أدرك سلمان العلم الأوّل والعلم الآخر ، وهو بحر لا ينزف ، وهو من أهل البيت عليهم السلام ، بلغ من علمه أنّه مرّ برجل في رهط فقال له : يا عبداللّه ، تُب إلى اللّه عزّ وجلّ من الذي عملت به في بطن بيتك البارحة ، قال : ثمّ مضى ، فقال له القوم : لقد رماك سلمان بأمر فما دفعته عن نفسك ؟ قال : إنّه أخبرني بأمر ما اطّلع عليه إلاّ اللّه وأنا» .

وفي خبر آخر مثله ، وزاد في آخره : إنّ الرجل كان أبابكر بن أبي قحافة(3) .

وعن أبي جعفر عليه السلام وذكر عنده سلمان ، فقال عليه السلام : «مه ، لا تقولوا : سلمان الفارسيّ ، ولكن قولوا : سلمان المحمّديّ ، ذلك رجل منّا أهل البيت»(4) .

وعنه عليه السلام قال : «كان عليّ عليه السلام محدّثاً ، وكان سلمان محدّثاً»(5) .

ص: 451


1- . نقله عنه في شرح المازندراني ، ج 7 ، ص 7 .
2- . مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 382 فرس .
3- . رجال الكشّي ، ص 12 ، ح 25 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 373 ، ح 11 .
4- . رجال الكشّي ، ص 12 ، ح 26 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 349 ، ح 67 .
5- . رجال الكشّي ، ص 12 ، ح 27 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 349 ، ح 68 .

وعنه عليه السلام قال : «كان سلمان من المتوسّمين»(1) .

وعن أبي بصير عن الصادق عليه السلام قال : «سلمان علم الاسم الأعظم»(2) .

وعن الحسن بن حمّاد ، قال : كان سلمان إذا رأى الجمل الذي يقال له عسكر يضربه ، فيقال له : يا أبا عبداللّه ، ما تريد من هذه البهيمة ؟ فيقول : ما هذا بهيمة ولكن هذا عسكر بن كنعان الجنّيّ ، يا أعرابيّ لا ينفقنّ جملك هاهنا ولكن اذهب به إلى الحوأب(3) ، فإنّك تُعطى به ما تريد(4) .

وعن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «اشتروا عسكرا بسبعمائة درهم ، وكان شيطانا»(5) .

وعن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : يا سلمان ، لو عرض علمك على المقداد لكفر ، يا مقداد ، لو عرض علمك على سلمان لكفر»(6) .

ويمكن توجيه ذلك بأنّ لمعرفة اللّه طرقا بعدد أنفاس الخلائق ، وكلٌّ مكلّف بقدر عقله وفهمه .

وعن أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «كان - واللّه - عليّ محدّثاً ، وكان سلمان محدّثاً». قلت: اشرح لي. قال: «يبعث اللّه إليه ملكاً ينقر في اُذنه يقول: كيت وكيت»(7) .

وعن الفضل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال لي : «تروي ما يروي الناس : أنّ عليّاً قال في سلمان : أدرك علم الأوّل وعلم الآخر ؟» قلت : نعم . قال : «فهل تدري ما عنى ؟» قال : قلت : يعني علم بني إسرائيل وعلم النبيّ ؟ قال : «ليس هكذا يعني ، ولكن

ص: 452


1- . رجال الكشّي ، ص 12 - 13 ، ح 28 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 349 ، ح 69 .
2- . رجال الكشّي ، ص 13 ، ح 29 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 346 ، ح 59 .
3- . رجال الكشّي ، ص 13 ، ح 30 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 382 - 383 ، ح 17 .
4- . الحوأب - ككوكب - : منزل بين مكّة والبصرة . انظر : معجم البلدان ، ج 2 ، ص 314 . وعسكر : اسم الجمل الذي ركبته عائشة بنت أبي بكر في معركة الجمل .
5- . رجال الكشّي ، ص 13 ، ح 31 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 383 ، ذيل ح 17 .
6- . الاختصاص ، ص 11 - 12 .
7- . رجال الكشّي ، ص 15 - 16 ، ح 36 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 350 ، ح 72 .

علم النبيّ وعلم عليّ وأمر النبيّ وأمر عليّ عليه السلام »(1) .

وعن عمرو بن يزيد ، قال : قال سلمان : قال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «إذا حضرك أو أخذك الموت حضر أقوام يجدون الريح ولا يأكلون الطعام» ، ثمّ أخرج صرّة من مسك ، فقال : هبة أعطانيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله . قال : قال : ثمّ بلّها ونضحها حوله ثمّ قال لامرأته : قومي أجيفي الباب(2) ، فأجافت الباب ورجعت وقد قبض رضى الله عنه(3) .

وعن الفضل بن شاذان ، قال : ما نشأ في الإسلام رجل من كافّة الناس كان أفقه من سلمان(4) .

وعن محمّد بن حكيم ، قال : ذكر عند أبي جعفر عليه السلام سلمان الفارسيّ ، فقال : «ذاك سلمان المحمّديّ ، إنّ سلمان منّا أهل البيت ، إنّه كان يقول للناس : هربتم من القرآن إلى الأحاديث ، وجدتم كتاباً دقيقاًحوسبتم فيه على النقير والقطمير والفتيل(5) وحبّة خردل ، فضاق ذلك عليكم ، وهربتم إلى الأحاديث التي اتّسعت عليكم(6) .

والأخبار في مدحه وفضله وغزارة علمه كثيرة .

ص: 453


1- . رجال الكشّي ، ص 16 ، ح 37 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 350 ، ح 73 .
2- . أجيفي الباب : أغلقيه . انظر : لسان العرب ، ج 9 ، ص 35 جوف .
3- . رجال الكشّي ، ص 16 ، ح 38 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 383 ، ح 18 .
4- . رجال الكشّي ، ص 16 ، ذيل ح 38 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 146 ، ح 33444 .
5- . النقير : النقرة في ظهر النواة ، والقطمير : الجلدة الرقيقة على ظهر النواة ، والفتيل : قشر يكون في بطن النواة ، وهو والنقير والقطمير أمثال للقلّة . ش
6- . رجال الكشّي ، ص 18 ، ح 42 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 385 ، ح 25 .

الحديث الرابع والخمسون :[ في تفسير آية النور ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي بإسناده عن الصادق والكاظم عليهماالسلام في قول اللّه عزّ وجلّ : « اللَّهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمشكواة »(1) : «فاطمة عليهاالسلام» « فِيهَا مِصْبَاحٌ » : «الحسن عليه السلام » « الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ » : «الحسين عليه السلام » « الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ » : «فاطمة كوكب درّيّ بين نساء أهل الدنيا» « يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ » : «إبراهيم» « زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ » : «لا يهوديّة ولا نصرانيّة» « يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ » : «يكاد العلم ينفجر منها» « ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ » : «إمام منها بعد إمام» « يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ » : «يهدي اللّه للأئمّة من يشاء» « وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ للنَّاسِ » .

قلت : « أَوْ كَظُلُمَاتٍ »(2) ؟ قال : «الأوّل وصاحبه ، « يَغْشَاهُ مَوْجٌ » : الثالث « مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٍ » : الثاني ، « بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ » : معاوية وفتن بني اُميّة ، « إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ » : المؤمن في ظلمة فتنتهم « لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً » : إماماً من ولد فاطمة ، « فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ » : إمام يوم القيامة» .

وقال في قوله : « يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم »(3) : «أئمّة المؤمنين يوم القيامة يسعى نورهم بين أيدي المؤمنين وبأيمانهم حتّى ينزلوهم منازل أهل الجنّة»(4) .

ص: 454


1- . النور 24 : 35 .
2- . النور 24 : 40 .
3- . الحديد 57 : 12 .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 195 ، باب أنّ الأئمّة عليهم السلام نور اللّه عزّوجلّ ، ح 5 ؛ تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 102 و103 ؛بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 18 و19 ، ح 6 ؛ و ج 23 ، ص 304 ، ح 1 .

توضيح :

« اللَّهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ» أي منوّرهما ، أو هاد لأهل السماوات والأرض .

«مَثَلُ نُورِهِ كمشكواة » : فاطمة» أي صفة نوره كصفة مشكاة ، وهي الكوّة التي ليست بنافذة . وقيل : هي اُنبوبة في وسط القنديل يوضع فيها المصباح ، وهو السراج والفتيلة المشتعلة ، والمراد بها هنا فاطمة عليهاالسلام لأنّها محلّ لنور الأئمّة وسراج الاُمّة . وشبّه الأئمّة بالنور والسراج لأنّ المتّبعين آثارهم يستضيئون بنور هدايتهم وضياء علومهم إلى طريق الرشاد كما يهتدي السالكون في الظلمة بالنور والسراج .

(فِيهَا مِصْبَاحٌ ) أي سراج ، وهو الحسن .

«« الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ » : الحسين» يعني أنّ مصباحا الأوّل المنكر كناية عن الحسن عليه السلام ، والثاني المعرّف كناية عن الحسين عليه السلام ، فلا يلزم اتّحاد المصباحين . على أنّ للاتحاد وجهاً ؛ لأنّ الحسنين من نور واحد بحسب الحقيقة وإن كانا في الظاهر نورين .

ومعنى « الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ » ؛ أي في قنديل مثل الزجاجة في الصفاء والشفّافيّة .

فقد شبّه فاطمة عليهاالسلام تارة بالمشكاة ، وتارة بالزجاجة ، وبالاعتبار الثاني جعلها ظرفاً لنور الحسين عليه السلام لزيادة ظهور نوره على الحسن عليه السلام لكون سائر الأئمّة من صلبه .

قوله : « الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ » أي منسوب إلى الدرّ باعتبار المشابهة به في الضياء والصفاء والتلألؤ ، هذا إذا كان بتشديد الراء والياء كما هو الظاهر ، وإن كان بتشديد الياء فقط فهو من الدرء بمعنى الرفع ، قلبت همزته ياءا واُدغمت الياء في الياء ، فإنّه يدفع الظلام بضوئه ولمعانه .

ووجه تشبيه فاطمة عليهاالسلام به أنّها - صلوات اللّه عليها وعلى اُمّها وأبيها وبعلها وبنيها - كوكب درّيّ يضيء لامع نورانيّ فيما بين نساء أهل الدنيا .

« يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ » توقد بالتاء أو الياء على صيغة المجهول من الاتّقاد ، و«من» ابتدائيّة ، أي توقد تلك الزجاجة أو ذلك المصباح من شجرة مباركة كثيرة النفع ، وهي إبراهيم ، ونفعه كثير ؛ لوجود الأنبياء والأوصياء من نسله .

وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثمّ إبدال الزيتونة عنها تفخيم لشأنها .

ص: 455

وعبّر عنها بالزيتونة للتنبيه على كثرة نفعها .

واتّصافها بالعلم الذي هو كالزيت في كونه مادّة لضيائها ومبدءاً لنورانيّتها .

وقوله : (لا يهوديّة ولا نصرانيّة) قيل : لعلّ هذا باعتبار أنّه كان مسكن اليهود من طرف المشرق ، ومسكن النصارى من طرف المغرب .

وقوله : « يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ » ضمير التأنيث يعود إلى فاطمة عليهاالسلام ، والمراد بالزيت العلم على سبيل الاستعارة والتشبيه ، يعني يكاد علمها يتفجّر من قلبها الظاهر إلى قلوب المؤمنين والمؤمنات بنفسه قبل أن يُسئل ؛ لكثرته وغزارته وفرط ضيائه ولمعانه .

(يهدي اللّه للأئمّة) أي لأجلهم وتوسّطهم أو إليهم .

« وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ » تشبيه للمعقول بالمحسوس لزيادة البيان والإيضاح .

« أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ »الآية : شبّه أعمال الذين كفروا أوّلاً بسراب في أنّها لاغية لا منفعة لها ، وثانياً بظلمات في أنّها خالية عن النور والضياء .

واللجّيّ : العميق ، منسوب إلى اللجّ وهو معظم الماء .

وضمير «يغشاه» راجع إلى البحر .

ولمّا كان كلّ ما في الأوَّلَيْنِ من الظلام والفتن موجود في الثالث مع زيادة ما أحدثه نسب إليه الغشاء والموج الذي هو عبارة عن الاضطراب .

وضمير «فوقه» في الموضعين راجع إلى «موج» القريب منه ، والظلمات الثانية المتراكم بعضها فوق بعض .

ومعنى الحديث : أنّ الظلمات الاُولى كناية عن الأوّل ، والموج الأوّل عن الثاني ، والموج الثاني عن الثالث ، والظلمات الثانية التي بعضها فوق بعض كناية عن معاوية وفتن بني اُميّة .

ص: 456

الحديث الخامس والخمسون :[ أنا قسيم اللّه بين الجنّة والنار ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي بإسناده عن الصادق عليه السلام في حديث ، قال : «كان أميرالمؤمنين عليه السلام كثيراً مّا يقول : أنا قسيم اللّه بين الجنّة والنار ، وأنا الفاروق الأكبر ، وأنا صاحب العصا والميسم ، ولقد أقرّت لي الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقرّوا به لمحمّد صلى الله عليه و آله ، ولقد حُمِّلتُ على مثل حَمولته وهي حمولة الربّ ، وإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله يُدعى فيكسى ، واُدعى فاُكسى ، ويستنطَق واُستنطَق ، فأنطق على حدّ منطقه ، ولقد اُعطيت خصالاً ما سبقني إليها أحد قبلي ، علمتُ المنايا والبلايا ، والأنساب ، وفصل الخطاب ، فلم يفتني ما سبقني ، ولم يعزب عنّي ما غاب عنّي ، اُبشِّر بإذن اللّه ، واُؤدّي عنه ، كلّ ذلك من اللّه مكّنني فيه بعلمه»(1) .

إيضاح :

(كثيراً مّا يقول) : نصب على المصدريّة أو الظرفيّة باعتبار الموصوف و«ما» لتأكيد معنى الكثرة ، والعامل ما يليه ، أي يقول قولاً كثيراً أو حيناً كثيراً .

(أنا قسيم اللّه بين الجنّة والنار)(2) وذلك لأنّ حبّه موجب للجنّة وبغضه موجب للنار ، فيه يقسم الفريقان ، وبسببه يتفرّقان : فريق في الجنّة وفريق في السعير ، وذلك تقدير العزيز الحكيم الخبير .

وهذا كلّه محمول على إظهار الفضيلة حتّى تقوم الحجّة وتتّضح المحجّة عليهم ،

ص: 457


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 196 ، باب أنّ الأئمّة هم أركان الأرض ، ح 1 ؛ بصائر الدرجات ، ص 201 ، ذيل ح 3 ؛ بحار الأنوار ، ج 39 ، ص 344 ، ح 16 .
2- . فعيل بمعنى فاعل ، والإضافة بمعنى «من» أي قاسم من اللّه بين أهل الجنّة والنار . ش .

وليس من قبيل « وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ »(1) ، وليس المقصود به الافتخار حتّى يكون نقصاً ، بل هو من باب إظهار كرامة اللّه والتحدّث بنعمة اللّه وتنبيه الغافلين كما قال يوسف : « اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ »(2) ، وكما قال سيّد الأنبياء : «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر»(3) .

(وأنا الفاروق الأكبر) إذ به يفرّق ، أو هو الفارق بين الحقّ والباطل ، والحلال والحرام ، والمؤمن والكافر ، وولد الحلال من ولد الزنا ، والصادق من الكاذب ، وليست هذه الفضيلة لأحد سواه .

(وأنا صاحب العصا) لعلّ المراد بها عصا موسى التي صارت إليه من شعيب وإلى شعيب من آدم ، والمراد : أنّها عندي أقدر بها على ما قدر عليه موسى ، كما صرّح بذلك في بعض الأخبار :

ففي الكافي عن الباقر عليه السلام قال : «كانت عصا موسى لآدم ، فصارت إلى شعيب ، ثمّ صارت إلى موسى بن عمران ، وإنّها لعندنا ، وإنّ عهدي بها آنفاً ، وهي خضراء كهيئتها حين نزعت من شجرتها ، وإنّها لتنطق إذا استنطقت ، اُعدّت لقائمنا يصنع بها ما [كان] يصنع بها موسى ، وإنّها لتروّع وتلقف ما يأفكون(4) ، وتصنع ما تُؤمر به ، إنّها حيث أقبلت تلقف ما يأفكون ، لها شعبتان : إحداهما في الأرض والاُخرى في السقف ، وبينهما أربعون ذراعاً ، تلقف ما يأفكون [بلسانها(5)] .

وعن الصادق عليه السلام قال : «ألواح موسى عندنا ، وعصا موسى عندنا ، ونحن ورثة النبيّين»(6) .

ص: 458


1- . الضحى 93 : 11 .
2- . يوسف 12 : 55 .
3- . بحار الأنوار ، ج 24 ، ص 322 ، ح 33 . وفيه : «أنا سيّد الناس ...» .
4- . الأعراف 7 : 116 .
5- . الكافي ، ج 1 ، ص 231 ، باب ما عند الأئمّة من آيات الأنبياء ، ح 1 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 13 ، ص 45 ، ح 11 . وما اُثبت من الزيادات فمن المصدر .
6- . الكافي ، ج 1 ، ص 231 ، باب ما عند الأئمّة من آيات الأنبياء ، ح 2 ؛ بحار الأنوار ، ج 47 ، ص 26 .

(والميسم) - بالكسر - هي الحديدة التي يكوى بها ، ولمّا كان بحبّه عليه السلام يتميّز المؤمن والمنافق فكأنّه عليه السلام كان يسم على جبين المنافق بكيّ النفاق ، أو المراد به حقيقةً كما نقل أنّه عليه السلام يخرج في آخر الزمان في أحسن صورة ومعه عصا موسى وميسم يضرب المؤمن بالعصا ، ويكتب في وجهه : مؤمن ، فينير وجهه ، ويسم الكافر بالميسم ويكتب في وجهه : كافر فيسودّ وجهه وعند ذلك تنسدّ باب التوبة . ويمكن أن يراد بالميسم خاتم سليمان .

(ولقد حُمِّلتُ) بصيغة المتكلّم والبناء للمفعول على مثل حمولته ، والحمولة بالفتح هي الإبل التي تحمل ، أو بالضمّ : الأحمال ، والمراد بها هنا : المعارف الإلهيّة والعلوم اليقينيّة والتكاليف الشرعيّة والأخلاق الفاضلة النفسانيّة ، وهي من حيث إنّها تحمل

صاحبها إلى مقام الاُنس ومنزل القرب (حمولة) بالفتح ، ومن حيث إنّها حالة في المكلّف وصفة من صفاته حُمولة بالضمّ .

(وهي حمولة الربّ) أي الأحمال والمعارف والتكاليف التي وردت من اللّه سبحانه لتربية الناس وتكليفهم .

(يدعى فيُكسى) يعني في القيامة .

(ويستنطق) أي للشهادة ، ويستنطَق عليه السلام هو كذلك كما قال تعالى : « لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً »(1) ، وهم عليهم السلام الشهداء .

(المنايا والبلايا) أي العلم بآجال الناس وابتلائهم .

(وفصل الخطاب) أي الخطاب الفصل ، إمّا بمعنى الفاعل ، أي الفاصل بين الحقّ والباطل ، أو بمعنى المفعول ، أي المفصول الواضح الدلالة على المقصود للعارف ، ويكون المراد به كلام اللّه ، فإنّه العالم به ، أو الحكم البالغة والأوامر والنواهي وأحوال ما كان وما يكون ، أو الكتب السماويّة بأسرها .

(فلم يفتني ما سبقني) أي علم ما مضى .

(ولم يعزب عنّي ما غاب عنّي) أي علم ما يأتي ، كلّ ذلك من اللّه تعالى ، رفع لما يتوهّمه الغلاة والملاحدة .

ص: 459


1- . البقرة 2 : 143 .

الحديث السادس والخمسون :[ في تفسير قوله تعالى : « وإنّه لذكر لك ولقومك » ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام في الكافي عن العدّة ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي بصير ، عن أبي عبداللّه عليه السلام في قوله جلّ جلاله : « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ »(1) : «فرسول اللّه الذكر ، وأهل بيته هم المسؤولون ، وهم أهل الذكر» . انتهى(2) .

وفيه إشكال ؛ إذ الخطاب للنبيّ صلى الله عليه و آله فيكون المعنى : إنّك لذكر لك ، وهو كما ترى ، والمعروف بين المفسّرين أنّ الذكر هو القرآن كما قال تعالى : « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ »(3) ، وروي عن الصادق عليه السلام في تفسير الآية ، قال : «الذكر : القرآن ، ونحن قومه ، ونحن المسؤولون»(4) .

ويمكن توجيهه بوجوه :

الأوّل : أن يكون المعنى : فرسول اللّه صلى الله عليه و آله صاحب الذكر على حذف مضاف كقوله تعالى : « وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ »(5) ، ويكون المراد بالذكر القرآن .

الثاني : أن يكون الذكر مصدراً بمعنى المفعول ، أي المذكور كما في قوله تعالى : « هذَا خَلْقُ اللَّهِ »(6) وقولهم : هذا الثوب نسج اليمن ، والمعنى : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله هو

ص: 460


1- . الزخرف 43 : 44 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 211 ، باب أنّ أهل الذكر ... هم الأئمّة، ح 4 ؛ بصائر الدرجات ، ص 57 ، ح 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 62 ، ح 33203 ؛ بحار الأنوار ، ج 23 ، ص 176 ، ح 10 .
3- . الحجر 15 : 9 .
4- . تفسير الصافي ، ج 4 ، ص 393 .
5- . يوسف 12 : 82 .
6- . لقمان 31 : 11 .

المذكور في الخطاب .

الثالث : أن يكون المراد بالذكر في كلامه تعالى : القرآن ، ويكون إطلاق النبيّ على الذكر من باب المبالغة ؛ لاختصاص النبيّ صلى الله عليه و آله بعلمه وكونه نازلاً عليه وحافظه ومفسّره .

الرابع : أن يكون المراد بالذكر هو الرسول صلى الله عليه و آله ويكون «كاف» الخطاب في «لك ولقومك» غير متوجّه إلى خطاب معيّن ، بل إلى كلّ من له قابليّة الخطاب كما في قوله تعالى : « وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ »(1) ، وقوله تعالى : « وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ » على هذا خطابا(2) للرسول صلى الله عليه و آله من باب الالتفات . وفيه بُعد .

الخامس : أن يكون في الحديث وهم من الرواة أو إسقاط أو تبديل لإحدى الآيتين بالاُخرى سهواً من الراوي أو الناسخ ، ويكون هذا الحديث تفسيراً لقوله تعالى : « فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ »(3) .

ص: 461


1- . الأنعام 6 : 27 .
2- . كذا ، والمقصود : أنّه على هذا الخطاب للرسول من باب الالتفات .
3- . النحل 16 : 43 .

الحديث السابع والخمسون :[ لن يهلك عالم إلاّ بقي من بعده ]

ما رويناه بالأسانيد عن ثقة الإسلام في الكافي مسنداً عن الصادق عليه السلام قال : «إنّ عليّاً كان عالماً ، والعلم يُتوارث ، ولن يهلك عالم إلاّ بقي من بعده من يعلم علمه أو ما شاء اللّه»(1) .

وعن الباقر عليه السلام قال : «إنّ العلم الذي نزل مع آدم عليه السلام لم يرفع ، والعلم يتوارث ، وكان عليّ عليه السلام عالم هذه الاُمّة ، وإنّه لم يهلك منّا عالم قطّ إلاّ خلفَه من أهله مَن علم مثل علمه أو ما شاء اللّه»(2) .

وعنه عليه السلام قال : «إنّ العلم يتوارث ، ولا يموت عالم إلاّ وقد ترك مَن يعلم مثل علمه أو ما شاء اللّه»(3) .

والإشكال في معنى هذه المشيّة ، فقيل : إنّه لدفع توهّم أنّه لا آخر للأئمّة وأنّهم لاينحصرون في عدد ، بل كلّما مات منهم واحد ورثه آخر إلى ما لا نهاية له ، فقال عليه السلام : «أو ما شاء اللّه» ، أي من هلاك الخلق وقيام الساعة ، فإنّه لا يبقى بعد موت الإمام من يعلم مثل علمه ، بل لا يبقى بعده أحد .

وقيل : إنّ الباقي يعلم جميع علم الهالك قبل هلاكه ، أو ما شاء اللّه أن يعلمه قبل هلاكه ، أو ما شاء اللّه أن يعلمه قبله ، فإنّه قد يعلم بعض علمه قبله وبعضه بعده ، بسبب حديث الملك إيّاه أو إلهامه .

وقيل : إنّ المراد بذلك مَن عدى الأئمّة عليهم السلام ، ومعنى قوله عليه السلام : «منّا» أي من علمائنا أو من شيعتنا ، ويكون المعنى : كلّما مات عالم من علماء شيعتنا خلفه من يعلم علمه أو أزيد أو نقص ، واللّه العالم .

ص: 462


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 221 ، باب أنّ الأئمّة ورثة العلم ... ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 27 ، ص 295 ، ح 1 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 222 ، باب أنّ الأئمّة ورثة العلم ... ، ح 2 ؛ بحار الأنوار ، ج 36 ، ص 167 ، ح 23 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 222 ، باب أنّ الأئمّة ورثة العلم ... ، ح 2 ؛ بحار الأنوار ، ج 36 ، ص 169 ، ح 32 .

الحديث الثامن والخمسون

[ في أنّ عليّا كان يعرف قاتله والليلة التي يقتل فيها فلماذا أبى إلاّ الخروج في تلك الليلة ؟ ]

ما رويناه بالأسانيد عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن عبدالحميد ، عن الحسن بن الجهم ، قال : قلت للرضا عليه السلام : إنّ أميرالمؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله والليلة التي يُقتل فيها والموضع الذي يُقتل فيه ، وقوله عليه السلام - لمّا سمع صياح الوزّ(1) في الدار - : «صوائح تتبعها نوائح» وقول اُمّ كلثوم : لو صلّيت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلّي بالناس ، فأبى عليها ، وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح ، وقد عرف عليه السلام أنّ ابن ملجم قاتله بالسيف ، كان هذا ممّا لم يحلّ تعرّضه له .

فقال : «ذلك كان ، ولكنّه خيّر تلك الليلة لتمضي مقادير اللّه عزّ وجلّ»(2) .

إيضاح :

غرض السائل أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام كان عارفاً بقتله في ذلك الوقت بتلك القرائن المذكورة ، ومع ذلك إنّه أبى إلاّ الخروج في تلك الليلة مع علمه بأنّه يُقتل في خروجه ، فكان هذا ممّا لم يجز تعرّضه ، فكيف فعل عليه السلام ذلك والحال أنّ إلقاء اليد(3) إلى التهلكة منهيّ عنه عقلاً ونقلاً ، آية ورواية ؟ وهذا السؤال كثيراً مّا يتساءل عنه .

ص: 463


1- . الوزّ لغة في الإوّز ، وهو من طير الماء والاُنثى وزّة جمع وزّات . انظر : المصباح المنير ، ص 29 أوز .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 259 ، باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون متى يموتون ... ، ح 4 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 42 ، ص 246 ، ح 47 .
3- . كذا ، والمقصود : الإلقاء باليد في التهلكة .

وحاصل الجواب هنا : أنّه عليه السلام خيّر في تلك الليلة ، أي جعل إليه الأمر والخيار في أن يختار لقاء اللّه أو البقاء في الدنيا ، فاختار عليه السلام لقاء اللّه تعالى ، فسقط عنه وجوب حفظ النفس .

وفي بعض النسخ «حُيّر» بالحاء المهملة ، والظاهر أنّه تصحيف ، وعلى تقدير الصحّة ينبغي أن تحمل على الحيرة المحمودة ، وهي الحيرة في اللّه التي هي حيرة اُولي الألباب دون الحيرة في الأمر التي هي حيرة أهل النظر .

وفي بعض النسخ «حُيّن» بالحاء المهملة والياء المشدّدة والنون بمعنى أنّه وقّت أجله تلك الليلة أو هلك عليه السلام ، وهو تصحيف أيضاً ، والأوّل هو الأصحّ ، وهو الموافق لما عقد الكلينيّ في العنوان وأخبار الباب .

وتوضيح الجواب : أنّهم عليهم السلام في جميع حالاتهم يجرون على ما اختارت لهم الأقضية الربّانيّة والتقديرات الإلهيّة ، فكلّما علموا أنّه مختار له تعالى مرضيّ لديه اختاروه ورضوا به ، سواء كان في قتل أو هوان وذلّ من أعدائهم ، وإن كانوا عالمين بذلك وقادرين على دفعه بالدعاء والتضرّع ، ولكنّهم تركوا الدفع واختاروا الوقوع لعلمهم برضائه سبحانه بذلك واختياره ذلك لهم ، والتحليل والتحريم أحكام توقيفيّة عن الشارع ، فما وافق أمره ورضاه فهو حلال ، وما خالف ذلك فهو حرام .

على أنّ مطلق الإلقاء باليد إلى التهلكة غير محرّم ؛ لأنّه مخصّص بالجهاد والدفع عن النفس والأهل والمال والإعطاء باليد إلى القصاص وإقامة الحدود وغير ذلك ، فكذا خصّص هنا .

ومن الأخبار المؤيّدة لذلك ما رواه في الكافي عن عبدالملك بن أعين ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «أنزل اللّه تعالى النصر على الحسين عليه السلام حتّى كان مابين السماء والأرض ، ثمّ خيّر النصر أو لقاء اللّه تعالى فاختار لقاء اللّه»(1) .

يعني أنزل اللّه ملائكة من السماء ينصرونه كجدّه صلى الله عليه و آله حتّى صاروا بين السماء

ص: 464


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 260 ، باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون متى يموتون ... ، ح 8 .

والأرض وخيّر بين الأمرين ، فاختار لقاء اللّه لمّا علم أنّه مرضيّ له تعالى .

وعن ضريس الكناسيّ عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال فيه : فقال له حمران : جعلت فداك ، أرأيت ما كان من أمر قيام عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين وخروجهم وقيامهم بدين اللّه عزّ وجلّ وما اُصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم والظفر بهم

حتّى قُتلوا وغُلبوا .

فقال أبو جعفر عليه السلام : «يا حمران ، إنّ اللّه تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار ، ثمّ أجراه [فبتقدّم] علم إليهم من رسول اللّه صلى الله عليه و آله قام عليّ والحسن والحسين ، وبعلمٍ صمت من صمت منّا ، ولو أنّهم - يا حمران - حيث نزل بهم ما نزل من أمر اللّه عزّ وجلّ وإظهار الطواغيت عليهم ، سألوا اللّه عزّ وجلّ أن يدفع ذلك عنهم ، وألحّوا عليه في [طلب] إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم إذاً [لأجابهم] ودفع ذلك عنهم ، ثمّ كان انقضاء مدّة الطواغيت وذهاب ملكهم أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدّد ، وما كان ذلك الذي أصابهم - يا حمران - لذنب اقترفوه ، ولا

لعقوبة معصية خالفوا اللّه فيها ، ولكن لمنازل وكرامة من اللّه أراد أن يبلغوها ، فلا تذهبنّ بك المذاهب فيهم»(1) .

وحاصل السؤال : أنّه إن كان لهم العلم بجميع الاُمور فلِمَ أقدموا على ما فيه هلاكهم ممّا ذكر ؟

وحاصل الجواب : أنّه كان لهم عليهم السلام علم بذلك وأقدموا عليه لكونه مرضيّاً له تعالى ؛ ليبلغوا درجة الشهادة ومحلّ الكرامة منه تعالى .

والأخبار بهذا المضمون كثيرة .

ص: 465


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 261 - 262 ، باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون علم ما كان ... ، ح 4 مع اختلاف في بعض الكلمات ، أثبتنا موارد الاختلاف كما في الكافي .

الحديث التاسع والخمسون :

اشارة

[ تفويض الأحكام إلى النبيّ والأئمّة عليهم السلام ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن سنان ، عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ اللّه تبارك وتعالى أدّب نبيّه ، فلمّا انتهى به إلى ما أراد قال له : « وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ »(1) ، ففوّض إليه دينه تعالى ، فقال : « وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا »»(2) .

وإنّ اللّه عزّ وجلّ فرض الفرائض ولم يقسم للجدّ شيئاً ، وإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أطعمه السدس ، فأجاز اللّه جلّ ذكره له ذلك ، وذلك قول اللّه : « هذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ »(3)» .(4)

وبإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : «وضع رسول اللّه صلى الله عليه و آله دية العين ودية النفس ، وحرّم النبيذ وكلّ مسكر» . فقال له رجل : وضع رسول اللّه صلى الله عليه و آله من غير أن يكون جاء فيه شيء ؟ قال : «نعم ، ليعلم مَن يطيع الرسول ممّن يعصيه»(5) .

وعن زرارة ، عن الباقر والصادق عليهماالسلام قالا : «إنّ اللّه تبارك وتعالى فوّض إلى نبيّه أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم» . ثمّ تلا هذه الآية : « وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا »(6) .

ص: 466


1- . القلم 68 : 4 .
2- . الحشر 59 : 7 .
3- . ص 38 : 39 .
4- . الكافي ، ج1، ص267، باب التفويض إلى رسول اللّه، ح6؛ وعنه في بحار الأنوار، ج17، ص5 - 6، ح4 .
5- . الكافي ، ج 1 ، ص 267 ، باب التفويض إلى رسول اللّه ، ح 7 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 17 ، ص 6 ، ح 5 .
6- . الكافي ، ج 1 ، ص 266 ، باب التفويض إلى رسول اللّه ، ح 3 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 17 ، ص 4 ، ح 2 .

تحقيق وإيضاح :

الأخبار بهذا المضمون كثيرة رواها المحدّثون في كتبهم كالكلينيّ في الكافي ، والصفّار في البصائر وغيرهما(1) .

وحاصلها : أنّ اللّه سبحانه فوّض أحكام الشريعة إلى نبيّه بعد أن أيّده واجتباه وسدّده وأكمل له محامده وأبلغه إلى غاية الكمال .

والتفويض بهذا المعنى غير التفويض الذي أجمعت الفرقة المحقّة على بطلانه ، وقال به بعض أهل المذاهب الباطلة والمقالات الفاسدة ، حيث ذهبوا إلى أنّ اللّه تعالى خلق محمّداً صلى الله عليه و آله وفوّض إليه أمر العالم ، فهو الخلاّق للدنيا وما فيها ، أو أنّه فوّض إليه أمر الرزق دون الخلق ، أو أنّه فوّض العباد في الفعل على وجه الاستقلال ؛ وبطلان التفويض في الأوّلين من ضروريّات الدين ، وفي الأخير من ضروريّات المذهب .

وماورد في إبطال التفويض وذمّ المفوّضة ولعنهم فهو ناظر إلى ذلك ، وقد تقدّم الكلام في المعنى الأخير مستقصى .

وروي عن الرضا عليه السلام أنّه قال : «اللّهمّ من زعم أنّا أرباب فنحن منه بُراء ، ومن زعم أنّ إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن منه بُراء كبراءة عيسى بن مريم من النصارى»(2) .

وعن زرارة ، قال : قلت للصادق عليه السلام : إنّ رجلاً من ولد عبداللّه بن سبأ يقول بالتفويض . فقال : «فما التفويض ؟»

فقلت : إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق محمّداً وعليّاً ثمّ فوّض الأمر إليهما ، فخلقا ورزقا وأحييا وأماتا . فقال : «كذب عدوّ اللّه ، إذا رجعت إليه فاقرأ عليه الآية التي في سورة الرعد : « أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِم قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ

ص: 467


1- . انظر : بصائر الدرجات ، ص 378 - 383 ، باب التفويض إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 265 - 268 ، باب التفويض إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ بحار الأنوار ، ج 17 ، ص 3 - 14 ، باب وجوب طاعته وحبّه والتفويض إليه ؛ و ج 25 ، ص 328 - 346 ، فصل في بيان التفويض ومعانيه .
2- . بحار الأنوار ، ج 25 ، ص 343 ، ذيل ح 25 .

الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ »»(1) . فانصرفت إلى الرجل فأخبرته بما قال الصادق عليه السلام ، فكأنّما ألقمته حجراً ، أو قال : فكأنّما خرس(2) .

[اقسام التفويض الصحيح]

والتفويض الذي يصحّ أقسامٌ :

منها : تفويض أمر الخلق إلى النبيّ صلى الله عليه و آله بمعنى أنّه تعالى أوجب عليهم طاعته صلى الله عليه و آله في كلّ ما يأمر به وينهى عنه ، سواءا علموا وجه الصحّة أم لم يعلموا ، وإنّما الواجب عليهم الانقياد والإذعان بأنّ طاعته طاعة اللّه تعالى ، كما قال تعالى : « وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا »(3) .

ومنها : تفويض الخلق لهم عليهم السلام بما هو أصلح له أو للخلق ، وإن كان الحكم الأصليّ خلافه كما في صورة التقيّة ، وهي أيضاً من حكم اللّه تعالى إلاّ أنّه منوط على عدم إمكان الأوّل بالإضرار ونحوه .

ومنها : تفويض الأحكام والأفعال بأن يُثبت ما يراه حسناً ، ويردّ ما رآه قبيحاً ، فيجيزه اللّه تعالى لإثباته إيّاه .

ومنها : تفويض الإرادة بأن يريد شيئاً لحسنه ، ولا يريد شيئاً لقبحه ، فيجيزه اللّه تعالى لإرادته إيّاه .

والأحاديث الواردة في صحّة التفويض تنطبق على هذه المعاني ، وحاصل هذه الأخبار : أنّ اللّه تبارك وتعالى إنّما فوّض الأحكام الشرعيّة إلى نبيّه بعد أن اجتباه بالهداية إلى جميع ما فيه صلاح العباد في اُمور المعاش والمعاد ، وأكرمه واصطفاه بالعصمة المانعة عن الخطأ والزلل في القول والعمل ؛ لعلمه سبحانه بأنّ كلّ ما يصنعه ويحكم به فهو حكم اللّه عزّ وجلّ .

ولذلك كان تعالى يجيزه ويمضيه في الأحكام التي فوّضها إليه ، فتلك الأحكام من

ص: 468


1- . الرعد 13 : 16 .
2- . بحار الأنوار ، ج 25 ، ص 343 ، ذيل ح 25 .
3- . الحشر 59 : 7 .

حيث إنّها لم يسبق فيها من اللّه تعالى وحيٌ ولا خطاب بتحريم أو إيجاب ومع ذلك فقد حكم بها النبيّ صلى الله عليه و آله ووضعها ، فهي أحكام النبيّ وموضوعاته ، ومن حيث إنّها صدرت عن أسباب مقتضية لها هي من فعل اللّه تعالى ، مع تعقّب الإجازة منه تعالى والإمضاء ، فهي أحكام اللّه تعالى ظهرت على لسان نبيّه صلى الله عليه و آله .

وعلى هذا ينزل قوله تعالى : « مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ »(1) ، « وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا » ، والتفويض بهذا المعنى وإن ورد به النقل ولم يُحلْه العقل إلاّ أنّ فيه إشكالاً من وجوه :

الأوّل : أنّه مخالف لظاهر قوله تعالى : « إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى »(2) ، وقوله تعالى : «مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ »(3) .

الثاني : أنّ التفويض إنّما يكون فيما لم يرد فيه من اللّه تعالى وحي ولا كتاب ، والأحكام الشرعيّة بأسرها منصوصة حتّى أرش الخدش ، قال تعالى : « مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ »(4) ، وقال تعالى : « وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ »(5) .

وفي الكافي عن الباقر عليه السلام قال : «إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلى الله عليه و آله »(6) ، الحديث .

وعن الصادق عليه السلام قال : «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه تعالى ، ولكن لم تبلغه عقول الرجال»(7) .

وعنه عليه السلام قال : «إنّ اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء ، واللّه ما ترك شيئاً

ص: 469


1- . النساء 4 : 80 .
2- . النجم 53 : 4 .
3- . الأحقاف 46 : 9 .
4- . الأنعام 6 : 38 .
5- . النحل 16 : 89 .
6- . الكافي ، ج 1 ، ص 59 ، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة ... ، ح 2 .
7- . الكافي ، ج 1 ، ص 60 ، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة ... ، ح 6 ؛ وسائل الشيعة ، ج 26 ، ص 294 ، ح 33025 .

يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبد أن يقول : لو كان هذا أنزل في القرآن إلاّ وقد أنزله اللّه فيه»(1) .

وعنه عليه السلام : «إنّي لأعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وأعلم ما في الجنّة ، وأعلم ما في النار ، وأعلم ما كان وما يكون» . ثمّ سكت عليه السلام (2) هنيئة ، فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه ، فقال : «علمت ذلك من كتاب اللّه عزّ وجلّ ، إنّ اللّه يقول : «فيه تبيان كلّ شيء»(3) .

وعنه عليه السلام قال : «قد ولدني رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأنا أعلم كتاب اللّه ، وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وفيه خبر السماء وخبر الأرض ، وخبر الجنّة والنار ، خبر ما كان ، وخبر ما هو كائن ، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفّي ، إنّ اللّه يقول : فيه تبيان كلّ شيء»(4) .

وعن تفسير العيّاشيّ عن الصادق عليه السلام قال : «نحن - واللّه - نعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وما في الجنّة وما في النار وما بين ذلك» .

ثمّ قال عليه السلام : «إنّ ذلك في كتاب اللّه» ، ثمّ تلا قوله تعالى : « وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ »(5) .(6)

وفي العيون عن الرضا عليه السلام قال : «جهل القوم وخُدعوا عن أديانهم ، إنّ اللّه لم يقبض نبيّه حتّى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن ، فيه تفصيل كلّ شيء ، بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه كُمَلاً ، فقال عزّ وجلّ : « مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ »(7)» .(8)

ص: 470


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 59 ، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة ... ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 65 ، ص 237 .
2- . في المصدر : «مكث» .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 261 ، باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون علم ما كان ، ح 2 ؛ بحار الأنوار ، ج 26 ، ص 111 ، ح 8 .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 61 ، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة ... ، ح 8 ؛ بحار الأنوار ، ج 89 ، ص 98 ، ح 68 .
5- . النحل 16 : 89 .
6- . تفسير العيّاشي ، ج 2 ، ص 266 ، ح 57 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 89 ، ص 101 ، ح 77 .
7- . الأنعام 6 : 38 .
8- . عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 216 ، ح 1 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 25 ، 120 - 121 ، ح 4 .

وفي النهج عن أميرالمؤمنين عليه السلام في حديث اختلاف العامّة في الفُتيا ، في كلام له عليه السلام : «أم أنزل اللّه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ؟ أم كانوا شركاء له فعليهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ؟ أم أنزل ديناً تامّاً فقصّر الرسول عن تبليغه وأدائه واللّه سبحانه يقول : « مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ » ، وفيه تبيان كلّ شيء»(1) .

الثالث : إنّ أكثر الروايات الدالّة على تفويض الأحكام إلى النبيّ تضمّنت تفويض الأحكام إلى الأئمّة أيضاً .

ففي الكافي عن الصادق عليه السلام قال : «إنّ اللّه عزّ وجلّ أدّب الرسول حتّى قوّمه على ما أراد ، ثمّ فوّض إليه فقال عزّ اسمه : « وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا »(2) ، فما فوّض تعالى إلى رسوله فقد فوّضه إلينا»(3) .

وعنه عليه السلام قال : «لا واللّه ، ما فوّض اللّه تعالى إلى أحد من خلقه إلاّ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وإلى الأئمّة ، وقال عزّ وجلّ : « إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ »(4) ، وهي جارية في الأوصياء»(5) . والأخبار في ذلك كثيرة(6) .

والقول بتفويض الأحكام إلى الأئمّة مناف لما ثبت من استكمال الشرع في زمان النبيّ كما قال تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً »(7) .

وكذا لما علم من امتناع تطرّق النسخ والزيادة والنقصان في شريعة نبيّنا ، وما ورد

ص: 471


1- . نهج البلاغة ، ص 61 ، الخطبة 18 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 284 ، ح 1 .
2- . الحشر 59 : 7 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 268 ، باب التفويض إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ... ، ح 9 .
4- . النساء 4 : 105 .
5- . الكافي ، ج 1 ، ص 267 - 268 ، باب التفويض إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ... ، ح 8 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 17 ، ص 7 ، ح 6 .
6- . انظر : بصائر الدرجات ، ص 378 - 383 ، باب التفويض إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 265 - 268 ، باب التفويض إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ... ؛ بحار الأنوار ، ج 17 ، ص 3 - 14 ، باب وجوب طاعته وحبّه والتفويض إليه ؛ و ج 25 ، ص 328 - 346 ، فصل في بيان التفويض ومعانيه .
7- . المائدة 5 : 3 .

من أنّ : «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(1) .

هذا ، ويمكن رفع الإشكال بالنسبة إلى دفع الإشكال الأوّل : أنّ كلّ واحد من معاني التفويض الصحيحة قد ثبت بالوحي أيضاً ، إلاّ أنّ الوحي تابع لإرادته صلى الله عليه و آله ، يعني إرادة ذلك فأوحى إليه ، كما أنّه صلى الله عليه و آله أراد تغيير القبلة وزيادة الركعتين في الرباعيّة والركعة في الثلاثيّة وغير ذلك ، فأوحى اللّه تعالى إليه بما أراد .

وبالنسبة إلى البواقي بأنّ المراد بالتفويض إليهم عليهم السلام التفويض في الأحكام الظاهريّة كالتقيّة ونحوها دون الأحكام الواقعيّة ، واللّه العالم بالحال .

ص: 472


1- . بصائر الدرجات ، ص 148 ، ح 7 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 58 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 19 ؛ بحار الأنوار ، ج 86 ، ص 147 .

الحديث الستّون :[ إنّ عليّا عليه السلام كان محدّثا ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن العدّة ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن الحسين بن المختار ، عن الحرث(1) بن المغيرة ، قال : قال(2) أبو جعفر عليه السلام : «إنّ عليّاً عليه السلام كان محدَّثاً» . قال : فنقول نبيّ ؟ قال : فحرّك يده هكذا ، ثمّ قال : «أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسى أو كذي القرنين ، أَوَما بلغكم أنّه قال : وفيكم مثله؟»(3) .

توضيح :

(كان محدَّثاً) - بالفتح - في رواية الأحول عن الباقر عليه السلام : «المحدَّث : الذي يُحَدَّث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه»(4) .

وفي رواية بريد عنه عليه السلام : «المحدَّث : الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة» ،(5)

يعني : يكلّمه الملك ، ونحوه في رواية محمّد بن مسلم(6) .

ص: 473


1- . في المصدر : «الحارث» .
2- . في البحار : + «لي» .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 269 ، باب في أنّ للأئمّة بمن يشبهون ممن مضى ... ، ح 4 ؛ بحار الأنوار ، ج 40 ، ص 142 ، ح 43 .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 176 ، باب الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدّث ، ح 3 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 18 ، ص 266 - 267 ، ح 27 .
5- . بصائر الدرجات ، ص 371 ، ح 11 .
6- . الكافي ، ج 1 ، ص 271 ، باب أنّ الأئمّة عليهم السلام محدّثون مفهمون ، ح 4 .

(فنقول) بصيغة التكلّم مع الغير ، ويحتمل بصيغة الخطاب .

(نبيّ) أي هو نبيّ ، (فحرّك يده هكذا) يعني رفع يده وأشار برفع يده إلى نفي النبوّة .

(أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسى) «أو» فيه للترديد على سبيل منع الخلوّ ، فيمكن الاجتماع ، ويمكن أن تكون «أو» بمعنى «بل» كما عن الجوهريّ ، ويكون إشارة إلى أنّ محادثة الملك كما يكون للنبيّ كذلك قد يكون للوصيّ .

وصاحب سليمان : آصف بن برخيا ، وصاحب موسى : هارون ، أو يوشع بن نون .

(أو كذي القرنين) وهو الإسكندر . وقيل : إنّه سمّي بذلك لأنّه ملك المشرق والمغرب . وقيل : لأنّه كان في رأسه شبه قرنين . وقيل : لأنّه رأى في النوم أنّة أخذ بقرني الشمس . (أوما بلغكم أنّه قال : وفيكم مثله) وضمير «مثله» راجع إلى ذي القرنين ، وضمير «أنّه قال» راجع إلى عليّ عليه السلام ، وهو إشارة إلى ما رواه القمّيّ عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه سُئل عن ذي القرنين ، أنبيّاً كان أم ملكاً ؟ فقال : «لا نبيّاً ولا ملكاً ، عبدٌ أحبّ اللّه فأحبّه اللّه ، ونصح للّه فنصح له ، فبعثه اللّه إلى قومه فضربوه على قرنه الأيمن ، فغاب عنهم ما شاء اللّه أن يغيب ، ثمّ بعثه الثانية فضربوه على قرنه الأيسر ، فغاب عنهم ما شاء اللّه أن يغيب ، ثمّ بعثه الثالثة ، فمكّن اللّه له في الأرض ، وفيكم مثله» يعني نفسه(1) ، الحديث . ونحوه مرويّ من طرق العامّة .(2)

وإنّما كان عليه السلام مثله لأنّه ضُرب على رأسه ضربتين : إحداهما يوم الخندق ، والاُخرى

ضربة ابن ملجم .

ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله لما روي عنه صلى الله عليه و آله أنّ عليّاً ذو قرني هذه الاُمّة(3) ، أي مثله فيها .

ص: 474


1- . تفسير القميّ ، ج 2 ، ص 41 ؛ بحار الأنوار ، ج 12 ، ص 178 ، ح 5 .
2- . انظر : كنز العمّال ، ج 2 ، ص 456 .
3- . بحار الأنوار ، ج 39 ، ص 40 و 41 .

الحديث الحادي والستّون :[ أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله حدّث عليّا عليه السلام بألف باب ... ]

ما رويناه بالأسانيد عن ثقة الإسلام ، عن عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن الوليد ، عن سباب الصيرفيّ ، عن يونس بن رباط ، قال : دخلت أنا وكامل التمّار على أبي عبداللّه عليه السلام ، فقال له كامل : جعلت فداك ، حديث رواه فلان .

فقال : اذكره .

فقال : حدّثني أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله حدّث عليّاً بألف باب يوم توفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله كلّ باب يفتح ألف باب ، فذاك ألف ألف باب .

فقال : «لقد كان ذلك» .

فقلت : جعلت فداك ، فظهر ذلك لشيعتكم ومواليكم ؟

فقال : «يا كامل ، باب أو بابان» .

فقلت له : جعلت فداك ، فما يروى من فضلكم من ألف ألف باب إلاّ باباً أو بابين ؟!

قال : فقال : «وما عسيتم أن ترووا من فضلنا ما تروون من فضلنا إلاّ ألفاً غير معطوفة»(1) .

بيان :

قوله عليه السلام : (باب أو بابان) كون العطف من كلام السائل - لشكّه - بعيد ، بل الظاهر أنّ العطف من كلامه عليه السلام وليس من باب الشكّ منه ، لتنزّهه عنه ، بل المراد - واللّه أعلم - أنّه ظهر باب تامّ وشيء من باب آخر ، وتسميته باباً من باب تسمية الجزء باسم الكلّ أو من باب التغليب .

ص: 475


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 297 ، باب الإشارة والنصّ على أمير المؤمنين ، ح 9 .

وقوله عليه السلام : (إلاّ ألفاً غير معطوفة) يحتمل وجوهاً :

الأوّل : أن يكون المراد بها باباً واحداً ناقصاً ؛ لأنّ الألف على رسم الخطّ الكوفيّ صورتها هكذا (-َا) وكونها غير معطوفة ، أي غير مائل طرفها كناية عن نقصانها ، ولا ينافيه ما سبق من ظهور باب أو بابين ؛ لدلالته على ظهور باب تامّ وشيء من باب آخر كما تقدّم .

ويمكن أن يحمل البابان على أبواب الفروع ، وهذا الباب المعبّر عنه بالألف الناقصة على باب من أبواب الاُصول ، وهذا على تقدير كون الألف بفتح الأوّل وكسر اللام .

الثاني : أن تكون الألف الغير المعطوفة احترازاً عن الهمزة ، وكناية عن الوحدة ، أو إشارة إلى ألف منقوشة ليس قبلها صفر أو غيره .

الثالث : أن يكون الألف بفتح الألف وسكون اللام ، ويراد به باب واحد ، وعبّر عنه بالألف ؛ لأنّ الباب الواحد ينحلّ بألف باب مع إظهار تكثّره ، ومعنى «غير معطوفة» أنّه ليس معه معطوف ، وهو قول السائل : باب أو بابان ، والمعنى : إلاّ باباً واحداً لا بابين .

الرابع : أن يكون المعنى : أنّكم لا تروون إلاّ الألْف - بسكون اللام - بمعنى أنّكم لا تروون إلاّ هذا اللفظ من غير أن تعرفوا الأبواب وحقيقتها ومعانيها . وحاصله : أنّكم لا تقدرون أن ترووا من حقيقة فضلنا شيئاً إلاّ هذا اللفظ الغير المشتمل على معنى ظهر لكم .

الخامس : أن يكون المراد بالألف الغير المعطوفة الألف المستقيمة ، وهي التي في أوائل الحروف ، واحترز بغير المعطوفة من الألف التي مع اللام المنحنية الغير المستقيمة مع اللام ، أو عن الألف التي تكتب بالخطّ الكوفيّ كما تقدّم ، فتكون كناية

من باب واحد من غير إضافة شيء ، وذكر الألف الغير المعطوفة لأنّ بقيّة الحروف كلّها معطوفة حتّى الألف التي مع اللام .

السادس : أن يحمل كلام السائل على استبعاد أن يكون المأثور من فضلهم - أي

ص: 476

علمهم الذي يحصل لهم الفضل به على غيرهم - باباً أو بابين من ألف ألف باب ، فأجاب عليه السلام بأنّ الواصل إلى الناس من علمنا ليس إلاّ شيئاً نزراً قليلاً كنّى عنه بالألف الغير المعطوفة .

وفي الحديث المشهور أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «إنّ العلم والحكمة كلّها عشرة أجزاء ، اختصّ أميرالمؤمنين عليه السلام منها بتسعة لا يشاركه فيها أحد ، والجزء الباقي قد قسّم على الناس أجمعين ، وهو أفضلهم فيه»(1) .

فيمكن أن تكون الألف إشارة إلى ذلك الجزء الواحد ، وهو ممّا يشارك فيه الناس ، وكونها غير معطوفة ، أي غير تامّة ، إشارة إلى عدم وقوفهم على حقيقة ذلك الجزء وكنهه ، وأنّ علمه على وجه الكمال مختصّ بهم عليهم السلام ، واللّه العالم .

ص: 477


1- . انظر : بحار الأنوار ، ج 40 ، ص 149 ، ح 54 .

الحديث الثاني والستّون :[ أسلم أبو طالب بحساب الجمل ... ]

ما رويناه بالأسانيد عن ثقة الإسلام عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد وعبداللّه ابني محمّد بن عيسى ، عن أبيهما ، عن عبداللّه بن المغيرة ، عن إسماعيل بن أبي زياد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام

قال : «أسلم أبوطالب عليه السلام بحساب الجمل» . قال : «بكلّ لسان(1) ، وعقد بيده ثلاثاً وستّين»(2) .

وقد ذكر في توجيهه وجوه :

الأوّل : أنّ المراد بالحساب العدد والقدر ، وبالجمل جمع الجملة ، وهي الطائفة ، يعني أنّه آمن بعدد كلّ طائفة وقدرهم .

وقوله : «بكلّ لسان» تفسير لقوله : «بحساب الجمل» .

وأمّا قوله : «وعقد بيده ثلاثاً وستّين» فلعلّه أراد به عقد الخنصر والبنصر(3) ، وعقد الإبهام على الوسطى ، فإنّه يدلّ على هذا العدد عند أهل الحساب ، وأراد بهذا الرمز أنّه آمن باللّه مدّة زمان تكليفه ، وهي ثلاث وستّون سنة ، أو آمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله في سنة ثلاث وستّين من عمره .

الثاني : ما رواه الصدوق في معاني الأخبار عن محمّد بن أحمد الداوديّ ، عن أبيه ، قال : كنت عند أبي القاسم الحسين بن روح ، فسأله رجل : ما معنى قول العبّاس

ص: 478


1- . لم يرد في هذا الحديث : «قال : بكلّ لسان» ، وإنّما ورد في حديث آخر . راجع : الكافي ، ج 1 ، ص 449 ، ح 32 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 449 ، باب مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ووفاته ، ح 33 ؛ بحار الأنوار ، ج 35 ، ص 78 ، ح 17 .
3- . الخِنْصِر : الإصبع الصغرى ، والبِنْصِر : الإصبع بين الوسطى والخنصر . انظر : القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 549 خنصر ؛ و ج 1 ، ص 506 (بنصر) .

للنبيّ صلى الله عليه و آله : إنّ عمّك أبا طالب قد أسلم بحساب الجمل وعقد بيده ثلاثاً وستّين ؟

فقال : عنى بذلك إله أحد جواد ، وتفسير ذلك أنّ الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والهاء خمسة ، والألف واحد ، والحاء ثمانية ، والدال أربعة ، والجيم ثلاثة ، والواو ستّة ، والألف واحد ، والدال أربعة ، فذلك ثلاث وستّون(1) .

وهذا الحديث فيه إبهام أيضاً يحتاج إلى توضيح ، وقد أوضحه بعض المحقّقين ، قال : إنّ ههنا قاعدة قد وضعها القدماء في مفاصل أصابع اليدين ، وهذا الخبر مبنيّ على تلك القاعدة كما حقّق في منية الممارسين وصورة الثلاثة والستّين أن يثني الخنصر والبنصر والوسطى من اليمين للثلاثة ، كما هو المعهود بين الناس في عدّ الواحد إلى الثلاثة ، ولكن توضع رؤوس الأنامل في هذه العقود قريبة من اُصولها ، وأن يوضع للستّين ظفر إبهام اليمنى على باطن العقدة اليمنى للسبّابة كما يفعله الرماة للحصاة .

وإن شئت معرفة هذه القاعدة بجملتها فاعلم أنّ الخنصر والبنصر والوسطى من اليمين لعقد الآحاد فقط ، والمسبّحة(2) والإبهام للأعشار فقط .

فالواحد : أن تضمّ الخنصر مع نشر الباقي ؛ والإثنان : ضمّ الخنصر إلى البنصر مع نشر الباقي ؛ والثلاثة : ضمّ الوسطى إليهما مع نشر الباقي ؛ والأربعة : نشر الخنصر وترك البنصر والوسطى مضمومتين ؛ والخمسة : نشر البنصر مع الخنصر ، وترك الوسطى مضمومة ؛ والستّة : نشر جميع الأصابع وضمّ البنصر ؛ والسبعة : أن تجعل الخنصر فوق البنصر منشورة مع نشر الباقي أيضاً ؛ والثمانية : ضمّ الخنصر والبنصر فوقها ونشر الباقي ؛ والتسعة : ضمّ الوسطى إليهما .

فهذه تسع صور جمعت في الثلاث أصابع : الخنصر والبنصر والوسطى .

وأمّا الأعشار فالمسبّحة والإبهام :

فالعشرة : أن تجعل ظفر المسبّحة في مفصل الإبهام من جنبها ؛ والعشرون وضع رأس الإبهام بين المسبّحة والوسطى ؛ والثلاثون : ضمّ رأس المسبحّة مع رأس

ص: 479


1- . معاني الأخبار ، ص 286 .
2- . المسبّحة : السبّابة ، وهي التي بين الإبهام والوسطى . انظر : لسان العرب ، ح 2 ، ص 474 سبح .

الإبهام(1) ؛ والأربعون : أن تضع الإبهام معكوفة الرأس إلى ظاهر الكفّ ؛ والخمسون : أن تضع الإبهام إلى باطن الكفّ معكوفة الأنملة ملصّقة بالكفّ ؛ والستّون : أن تنشر الإبهام وتضمّ إلى جانب المفاصل المسبّحة ؛ والسبعون : عكف باطن المسبّحة على باطن رأس الإبهام ؛ والثمانون : ضمّ الإبهام وعكف باطن المسبّحة على ظاهر أنملة الإبهام المضمومة ؛ والتسعون : ضمّ المسبّحة إلى أصل الإبهام ووضع الإبهام عليها .

وإذا أردت آحاداً وأعشاراً عقدت من الآحاد ما شئت مع ما شئت من الأعشار المذكورة ، وإذا أردت أعشاراً بغير آحاد عقدت ما شئت من الأعشار مع نشر أصابع الآحاد كلّها ، وإذا أردت آحاداً بغير أعشار عقدت في أصابع الآحاد ما شئت مع نشر أصابع الأعشار .

وأمّا المئآت فهي عقد أصابع الآحاد مع اليد اليسرى :

فالمائة كالواحد ، والمائتان كالإثنين ، وهكذا إلى التسعمائة .

وأمّا الاُلوف فهي عقد أصابع العشرات ههنا ، والألف كالعشر ، والألفان كالعشرين إلى التسعة آلاف .

فإذا عرفت هذا تبيّن لك معنى الحديث .

ثمّ قال : فإن قيل : قد جاء في رواية خلف بن حمّاد في حديث الحائض ، قال : ثمّ عقد بيده اليسرى تسعين ، مع أنّ الموافق للقاعدة المذكورة إنّما هو تسعمائة ؛ لأنّ المائة والاُلوف في اليسرى ، كما أنّ الآحاد والعشرات في اليمنى .

قيل : قد أجاب عنه شيخنا البهائيّ في مشرق الشمسين بأنّ الراوي وهم في التعبير ، أو أنّ ذلك اصطلاح آخر في العقود غير مشهور .

فإن قيل : كيف يدلّ كلام أبي طالب بأنّه إله أحد جواد على إسلامه مع أنّ جميع أهل الكتاب مقرّون بذلك ؟

قيل : إنّ هذا جواب للمخالفين الزاعمين أنّه كان يعبد الأصنام ولم يدّع أحد بأنّه

ص: 480


1- . تحديد الثلاثين غير مذكور لا في النسخ الخطّية ولا في المطبوع ، وكذا تحديد العشرين غير مذكور بكامله ، وأثبتناهما من سائر المصادر .

من أهل الكتاب .

الثالث : أنّ معنى قوله : «عقد بيده ثلاثاً وستّين» أنّه أشار بإصبعه المسبّحة إلى قول : «لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه» أو قالهما مشيراً إلى ذلك ، فإنّ عقد الخنصر والبنصر وعقْد الإبهام على الوسطى يدلّ على الثلاث والستّين على اصطلاح أهل الحساب ، وكان المراد بحساب الجمل .

هذا ، ويؤيّده ما روي عن مناقب ابن شهرآشوب عن شعبة عن قتادة عن الحسن في خبر طويل ننقل منه موضع الحاجة ، وهو : أنّه لمّا حضرت أباطالب الوفاة دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبكى ، وقال : يا محمّد ، إنّي أخرج من الدنيا ومالي غمّ إلاّ غمّك - إلى أن قال النبيّ صلى الله عليه و آله : - «يا عمّ ، إنّك تخاف عليّ أذى أعدائي ولا تخاف على نفسك عذاب ربّي ؟!»

فضحك أبوطالب وقال : يا محمّد ، دعوتني وكنت أميناً ، وعقد بيده على ثلاث وستّين عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام على إصبعه الوسطى ، وأشار بإصبعه المسبّحة يقول : لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

فقام عليّ عليه السلام وقال : «اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، والذي بعثك بالحقّ نبيّاً لقد شفّعك اللّه في عمّك وهداه بك» .

فقام جعفر وقال : لقد سِدْتنا في الجنّة يا شيخي كما سِدْتنا في الدنيا .

فلمّا مات أبوطالب عليه السلام أنزل اللّه تعالى : « يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ »(1) .(2)

وأمّا قوله «بكلّ لسان» فكأنّه إشارة إلى ما روي من أنّه إنّما أسلم بلسان الحبشة ، غير واقع ، بل أسلم بلسان العرب أيضاً ، والمراد أنّه قال : بكلّ لسان حتّى لسان الحبشة .

وروى في المناقب عن طريق الجمهور عن أبي ذر الغفاريّ رحمه الله قال : واللّه الذي لا إله إلاّ هو ، ما مات أبوطالب حتّى أسلم بلسان الحبشة ، قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله : أتفقه الحبشة ؟ قال : «نعم يا عمّ ، إنّ اللّه علّمني جميع الكلام» .

ص: 481


1- . العنكبوت 29 : 56 .
2- . لم نعثر عليه في المناقب . نعم ، هو موجود في بحار الأنوار ، ج 35 ، ص 79 ، ذيل ح 18 .

قال : يا محمّد (اسدن لمصاقافاطالاها) يعني أشهد مخلصاً لا إله إلاّ اللّه .

فبكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال : «إنّ اللّه أقرّ عيني بأبي طالب»(1) .

الرابع : أنّه أشار بذلك إلى كلمتي «لا» و«إلاّ» ، والمراد : كلمة التوحيد ، فإنّ الأصل فيها النفي والإثبات .

الخامس : أنّ أباطالب أو أبا عبداللّه عليه السلام أمر بالإخفاء اتّقاءاً ، فأشار بحساب العقود إلى كلمة سبّح من التسبيحة ، وهي التغطية ، أي غطّ واستر هذا فإنّه من الأسرار ، وهذا المعنى محكيّ عن الشيخ البهائيّ(2) .

السادس : أنّه أشار بذلك إلى أنّه أسلم بثلاث وستّين لغة ، ويؤيّده ما رواه الكلينيّ عن الصادق عليه السلام قال : «إنّ أبا طالب أسلم بحساب الجمل» . قال : «بكلّ لسان»(3) ؛ بأن يكون الظرف متعلّقاً بالقول .

السابع : أنّ أباطالب علم نبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله قبل بعثته بالجفر ، فالمراد أنّه أسلم بسبب حساب مفردات الحروف بحساب الجمل .

الثامن : أنّه أشار بذلك إلى عمر أبي طالب حين أظهر الإسلام ، وهو ثلاث وستّون سنة ، واللّه العالم بالحال .

ص: 482


1- . لم نعثر عليه في المناقب . نعم ، نقله عنها في بحار الأنوار ، ج 35 ، ص 78 ، ح 18 .
2- . حكاه عنه في بحار الأنوار ، ج 35 ، ص 80 ؛ وفي الأنوار النعمانيّة ، ج 4 ، ص 32 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 449 ، باب مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ووفاته ، ح 32 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 35 ، ص 78 ، ح 16 .

الحديث الثالث والستّون :[ هل كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله محجوجا بأبي طالب؟ ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام ، عن محمّد بن يحيى ، عن سعيد بن عبداللّه ، عن جماعة من أصحابنا ، عن أحمد بن هلال ، عن اُميّة بن عليّ القيسيّ ، قال : حدّثني درست بن أبي منصور : أنّه سأل أبا الحسن الأوّل عليه السلام : أكان رسول اللّه محجوجاً بأبي طالب ؟ فقال : «لا ، ولكنّه كان مستودعاً للوصايا فدفعها إليه صلى الله عليه و آله » . قال : قلت : فدفع إليه الوصايا على أنّه محجوج به ؟ فقال : «لو كان محجوجاً به ما دفع إليه الوصيّة» . قال : فقلت : وما كان حال أبي طالب ؟ قال : «أقرّ بالنبيّ وبما جاء به ، فدفع إليه الوصايا ومات من يومه»(1) .

إيضاح :

(محجوجاً بأبي طالب) يعني هل كان أبوطالب حجّة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله قبل البعثة ؟ فقال : (لا) أي لم يكن محجوجاً به .

ولمّا زاد عليه السلام في السؤال أنّ أباطالب كان مستودعاً للوصايا ، أي وصايا الأنبياء أو وصايا عيسى أو غيره تمسّك به السائل ، وقال : فدفع إليه الوصايا على أنّه محجوج به ، فإنّه إذا كان من أهل الوصيّة ودفعها إليه صلى الله عليه و آله كان حجّة عليه صلى الله عليه و آله وكان محجوجا به ، فقال عليه السلام : لو كان - أي رسول اللّه صلى الله عليه و آله - محجوجاً به ما دفع إليه الوصيّة ؛ لأنّ الوصيّة مع الحجّة ما دام حيّاً .

ثمّ سُئل ثانياً بقوله : فما كان حال أبي طالب ؟ يعني أنّه إذا لم يكن رسول اللّه محجوجاً به فهل كان محجوجاً برسول اللّه وآمن به ؟

ص: 483


1- . الكافي ، ج1 ، ص445 ، باب مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ووفاته ، ح 18 ؛ وانظر: بحار الأنوار، ج35، ص72، ح8 .

فأجاب عليه السلام بأنّه كان محجوجاً بالنبيّ وأقرّ به وبما جاء به ، ودفع إليه الوصايا وآمن ومات من يومه .

لا يقال : دفْع الوصيّة في يوم الموت لا ينافي كون الدافع حجّة على المدفوع إليه ، بل قد يجامعه كما في الأئمّة ، فلا يتمّ ما مرّ من أنّه لو كان محجوجاً به ما دفع إليه الوصيّة !

لأنّا نقول : موته في يوم الدفع لا يستلزم مقارنة الموت للدفع ؛ لجواز وقوع الدفع في أوّله والموت في آخره ، فلا يكون الدافع حجّة على المدفوع ؛ لأنّ الحجّة لا تبقى بعد دفع الوصيّة زماناً ؛ لا طويلاً ولا قصيراً .

على أنّ الواو لمطلق الجمع ، فعلى هذا يجوز أن يكون المراد : أنّه دفع إليه الوصيّة وآمن به باطناً ثمّ أقرّ به ومات من يوم الإقرار . هكذا فسّر الحديث المحقّق المازندرانيّ(1) .

ويمكن فيه توجيهات اُخر :

أحدها : أن يكون غرض السائل أنّ أباطالب هل كان حجّة على رسول اللّه ؟ فأجاب بنفي ذلك معلّلاً بأنّه لو كان مستودعاً للوصايا لما دفعها إليه ، لا على أنّه أوصى إليه وجعله خليفة له ليكون حجّة عليه ، بل كما يوصل المستودع الوديعة إلى صاحبها ، فلم يفهم السائل ذلك ، وأعاد السؤال وقال : دفع الوصايا مستلزم لكونه حجّة عليه ، فأجاب عليه السلام بأنّه دفع إليه الوصايا على الوجه المذكور ، وهذا لا يستلزم كونه حجّة بل ينافيه .

وقوله عليه السلام : «ومات من يومه» أي يوم الدفع أو يوم الإقرار ، ويراد به الإقرار ظاهراً.

ثانيها : أن يكون المعنى : هل كان عليه السلام محجوجاً - أي مغلوباً في الحجّة - بسبب أبي طالب حيث قصر في هدايته إلى الإيمان ولذا لم يؤمن ؟ فقال عليه السلام : ليس الأمر كذلك بل كان قد آمن وأقرّ ، وكيف لا يكون كذلك والحال أنّ أباطالب كان من الأوصياء ، وكان أميناً على وصايا الأنبياء وحاملاً لها إليه صلى الله عليه و آله .

ص: 484


1- . شرح المازندراني ، ج 7 ، ص 172 .

فقال السائل : هذا موجب لزيادة لزوم الحجّة عليهما حيث علم نبوّته بذلك ولم يقرّ ، فأجاب عليه السلام بأنّه لو لم يكن مقرّاً لم يدفع الوصايا إليه .

ثالثها : أن يكون المعنى : أنّه لو كان محجوجاً به وتابعاً له لم يدفع الوصيّة إليه ، بل كان ينبغي أن تكون عند أبي طالب ، والوصايا التي ذكرت بعد كأنّها غير الوصيّة الاُولى ، واختلاف التعبير يدلّ عليه ، فدفع الوصيّة كان سابقاً على دفع الوصايا وإظهار الإقرار ، وإنّ دفعها في غير وقت يدفعها الحجّة إلى المحجوج بأن كان متقدّماً عليه ، أو أنّه بعد دفعها اتّفق موته من غير علم منه بذلك ، والحجّة إنّما يدفعها إلى المحجوج عند العلم بموته أو دفع بقيّة الوصايا فأكمل الدفع يوم موته، واللّه العالم .

ص: 485

الحديث الرابع والستّون :[ يكون من بعدي اثنا عشر إماما ومن بعدهم اثنا عشر مهديّا ]

ما رويناه عن المحدّث الحرّ العامليّ عن الشيخ في كتاب الغيبة بإسناده عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الليلة التي كانت وفاته : يا أباالحسن ، أحضر دواة وصحيفة ، فأملى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وصيّته حتّى انتهى إلى هذا الموضع ، فقال : يا عليّ ، إنّه يكون بعدي اثنا عشر إماماً ومن بعدهم اثنا عشر مهديّاً ؛ فأنت - يا عليّ - أوّل الاثني عشر إماماً ، وذكر النصّ عليهم بأسمائهم وألقابهم إلى أن انتهى إلى الحسن العسكريّ عليه السلام ، فقال : إذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد المستحفظ من آل محمّد صلى الله عليه و آله ، فذلك اثنا عشر إماماً . ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهديّاً ، فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوّل المهديّين ، له ثلاثة أسامي ، اسم كاسمي ، واسم أبي ، وهو عبداللّه ، وأحمد ، والاسم الثالث المهدي ، هو أوّل المؤمنين»(1) .

وعن الشيخ في كتاب الغيبة بإسناده عن أبي حمزة ، عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث طويل قال فيه : «يا أبا حمزة ، إنّ منّا بعد القائم أحد عشر مهديّاً من ولد الحسين عليه السلام »(2) .

وبالإسناد عن الشيخ في المصباح الكبير في الدعاء المرويّ عن صاحب الزمان الذي خرج إلى أبي الحسن الضرّاب الأصفهانيّ بمكّة ، وفيه : «اللّهمّ صلّ على محمّد المصطفى وعليّ المرتضى وفاطمة الزهراء والحسن الرضا والحسين المصطفى وجميع الأوصياء مصابيح الدجى - إلى أن قال - : وصلّ على وليّك وولاة عدلك والأئمّة من ولده ومُدّ في أعمارهم وزد في آجالهم وبلّغهم أقصى آمالهم ديناً ودنياً

ص: 486


1- . الغيبة للطوسي ، ص 150 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 36 ، ص 260 - 261 ، ح 81 .
2- . الغيبة للطوسي ، ص 478 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 53 ، ص 146 ، ح 2 .

وآخرة ، إنّك على كلّ شيء قدير»(1) .

وروي دعاء آخر عن الرضا عليه السلام أنّه كان يأمر بالدعاء لصاحب الزمان بهذا الدعاء ، وفيه : «اللّهمّ ادفع عن وليّك وخليفتك - إلى أن قال - : اللّهمّ صلّ على ولاة عهده والأئمّة من بعده وزد في آجالهم وبلّغهم آمالهم» ، وفيه أوصاف وألقاب مختصّة بصاحب الزمان(2) .

وكيف كان ، فظاهر هذه الأخبار يخالف النصوص المتواترة في كون الأئمّة عليهم السلام منحصرين في اثني عشر ، بل يخالف الضرورة من المذهب والبراهين العقليّة والنقليّة ، فلابدّ من تأويلها وتوجيهها ، وقد وجّهت بوجوه :

الأوّل : ما يحكى عن السيّد المرتضى ، وهو : أنّه يجوز ذلك على وجه الإمكان والاحتمال ، ثمّ قال :

إنّا لا نقطع بزوال التكليف عند موت المهدي ، بل يجوز أن يبقى بعده أئمّة يقومون بحفظ الدين ومصالح أهله ، ولا يخرجنا هذا من التسمية بالإثني عشريّة ؛ لأنّا كلّفنا أن نعلم إمامتهم وقد بيّنّا ذلك بياناً شافياً ودلّلنا عليه ، فانفردنا بهذا عن غيرنا .(3)

انتهى .

ولا يخفى ما فيه من الوهن والقصور ؛ لما في هذا التجويز من مخالفة الضرورة والتواتر ، وليته رحمه الله كان سلك الطريقة التي لم يزل يسلكها من ردّ هذه الأخبار لكونها آحاداً لا تفيد علماً ولا عملاً .

الثاني : أن يكون لفظ «بعد» بمعنى «غير» كما في قوله تعالى : « فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ »(4) ، ويكون المراد بهم النوّاب في زمن غيبة القائم عليه السلام فإنّ في بعض الأخبار : أنّ له عليه السلام نوّاباً(5) .

ص: 487


1- . مصباح المتهجّد ، ص 408 ؛ الغيبة للطوسي : ص 280 ، ذيل ح238 ؛ جمال الاُسبوع : ص 500 ؛ بحار الأنوار، ج 91 ، ص 83 ، ح 2 .
2- . مصباح المتهجّد ، ص 409 ؛ جمال الاُسبوع : ص 511 ؛ بحار الأنوار، ج 92 ، ص 330 ، ح 4 .
3- . نقل عنه الحرّ العاملي في الإيقاظ من الهجعة ، ص 401 .
4- . الجاثية 45 : 23 .
5- . لم نعثر عليه بهذا اللسان ، ولكن قد يراد به التوقيع المعروف . انظر : الاحتجاج ، ج 2 ، ص 283 . وعنه في بحارالأنوار ، ج 2 ، ص 90 ، ح 13 .

وفيه : أنّ هذا التوجيه لا ينطبق على الحديث الأوّل حيث قال فيه : «فيسلّمها إلى ابنه» ، اللّهمّ إلاّ أن يؤوّل بأنّه عليه السلام يوصي إلى ولده ليخرج عن حدّ قوله عليه السلام : «من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة»(1) فيوصي ليفوز بفضيلة الوصيّة ، ثمّ يموت ولده قبله كما في هارون وموسى ، مع أنّ رواة الحديث الأوّل من العامّة .

الثالث : أنّ قوله «من بعده» بتقدير مضاف ، أي من بعد ولادته أو من بعد غيبته ، ويكون إشارة إلى سفرائه ووكلائه من ثقاته وأصحابه وعلماء شيعته ، وفيه(2) كما روي عنه صلى الله عليه و آله قال : «اللّهمّ ارحم خلفائي» قيل : ومن خلفاؤك ؟ قال : «الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنّتي»(3) .

وفيه : أنّ هذا المعنى إنّما يمكن تطبيقه على الحديث الثالث والرابع ؛ لعدم الحصر فيهما بعدد معيّن ، دون الأوّل والثاني ؛ لعدم انحصاره في اثني عشر ، فتأمّل .

الرابع : أنّه قد ورد عنهم عليهم السلام ما يصلح لرفع هذا الإشكال ، فقد روى الصدوق في كتاب إكمال الدين بإسناده عن أبي بصير ، قال : قلت للصادق عليه السلام : سمعت من أبيك أنّه قال : «يكون بعد القائم اثنا عشر مهديّاً» .

فقال عليه السلام : «قد قال : اثنا عشر مهديّاً ، ولم يقل اثنا عشر إماماً ، ولكنّهم قوم من شيعتنا يدعون الناس إلى ولايتنا ومعرفة حقّنا»(4) .

وهو صريح في أنّ الاثني عشر أو الأحد عشر من السفراء والوكلاء والعلماء ، وحينئذٍ فلابدّ من تقدير مضاف ، أي من بعد غيبته أو بعد خروجه(5) .

ص: 488


1- . المقنعة ، ص 666 ؛ المناقب لابن شهر آشوب ، ج 3 ، ص 46 ؛ وسائل الشيعة ، ج 19 ، ص 259 ، ح 24546 .
2- . كذا في الأصل ، والظاهر زيادة كلمة «وفيه» .
3- . من لا يحضره الفقيه ، ج 4 ، ص 420 ، ح 5919 ؛ معاني الأخبار ، ص 374 - 375 ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 91 ، ح 33295 .
4- . كمال الدين ، ص 358 ، ح 56 .
5- . لا يخفى أن الوجه الرابع ليس وجها برأسه وإنّما هو تأييد للوجه الثالث ، كما ورد كذلك في الإيقاظ من الهجعة .

الخامس : أن تكون محمولة على رجعة الأئمّة بعد رجعة القائم ، فقد وردت في ذلك روايات كثيرة في أنّهم عليهم السلام يرجعون حتّى النبيّ ، وهذا ينطبق على رواية الأحد عشر ، والحديث الثالث والرابع لا ينافيه ؛ إذ ليس فيهما عدد خاصّ ، وأمّا الأوّل فيمكن

حمله على دخول النبيّ صلى الله عليه و آله في الأحد عشر ، فيكونون اثني عشر بعد النبيّ ، فإنّ المستفاد من كثير من الأخبار أنّ رجعة الأئمّة والرسول إنّما هي بعد وفاة المهديّ عليه السلام ، واللّه العالم(1) .

ص: 489


1- . راجع : الإيقاظ من الهجعة ، ص 401 - 405 ، كما وأضاف الحرّ فيه احتمالاً آخر في الحديث ، وهو الحمل على التقيّة ، على تقدير أن يراد منه نفي الرجعة ، كما حمله بعض المحقّقين .

الحديث الخامس والستّون :[ إذا خرج القائم عليه السلام حكم بحكم داود وسليمان ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام في الكافي بإسناده عن أبي عبيدة الحذّاء عن الصادق عليه السلام في حديثٍ قال فيه : «يا أبا عبيدة ، إذا قام قائم آل محمّد حكم بحكم داود وسليمان ، لا يسأل بيّنة»(1) .

وبإسناده عن أبان عن الصادق عليه السلام قال : «لا تذهب الدنيا حتّى يخرج رجل منّي يحكم بحكومة آل داود ، لا يسأل بيّنة ، يعطي كلّ ذي حقّ حقّه»(2) .

وروي أخبار اُخَر بهذا المعنى(3) .

وهذه الأحاديث بظاهرها تنافي ما ثبت واستفاض من أنّ شريعة نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله إنّما هي الأخذ بالظاهر ، وأنّ شريعته ثابتة إلى يوم القيامة لا تنسخ(4) .

ويمكن التوجيه بأنّ لفظة «إذا» ليست من أدوات العموم على التحقيق ، بل تفيد الجزئيّة ، فيكون المراد أنّ القائم عليه السلام قد يحكم بحكم داود وسليمان في بعض القضايا ، كما أنّ داود وسليمان حكما بذلك في بعض القضايا لا في كلّها ، وكما أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام حكم بذلك في بعض الأحيان .

وقال الطبرسيّ في إعلام الورى :

ص: 490


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 397 ، باب في الأئمّة عليهم السلام أنّهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود ... ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 23 ، ص 86 ، ح 28 ؛ وج 26 ، ص 176 ، ح 55 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 397 - 398 ، باب في الأئمّة عليهم السلام أنّهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود ... ، ح 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 230 ، ح 33661 . وفيهما : «كلّ نفس حقّها» بدل «كلّ ذي حقّ حقّه» .
3- . انظر : الكافي ، ج 1 ، ص 397 - 398 ، باب في الأئمّة عليهم السلام أنّهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود ... .
4- . انظر : بصائر الدرجات ، ص 148 ، ح 7 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 58 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 19 .

وأمّا ما روي أنّه يحكم بحكم آل داود ولا يسأل بيّنة فهذا أيضاً غير مقطوع به ، وإن صحّ فتأويله : أن يحكم بعلمه فيما يعلمه ، فإذا علم الإمام أو الحاكم أمراً من الاُمور فعليه أن يحكم بعلمه ولا يسأل عنه ، وليس في هذا نسخ للشريعة .

على أنّ هذا الذي ذكروه من ترك قبول الجزية واستماع البيّنة إن صحّ لم يكن نسخاً للشريعة ؛ لأنّ النسخ هو ما تأخّر دليله عن الحكم المنسوخ ولم يكن مصطحبه ، فأمّا إذا اصطحب فلا يكون ذلك ناسخاً لصاحبه ، وإن كان مخالفه في المعنى ، ولهذا اتّفقنا على أنّ اللّه سبحانه لو قال : ألزموا السبت إلى وقت كذا ثمّ لا تلزموا لم يكن نسخاً ؛ لأنّ الدليل الرافع مصاحب للدليل الموجب .

وإذا صحّت هذه الجملة وكان النبيّ صلى الله عليه و آله قد أعلمنا بأنّ القائم من ولده يجب اتّباعه وقبول أحكامه فنحن إذا صرنا إلى ما يحكم به فينا - وإن خالف بعض الأحكام المتقدّمة - غير عاملين بالنسخ ؛ لأنّ النسخ لا يدخل فيما يصطحب الدليل(1) .

انتهى كلامه ، واللّه العالم بالحال .

ص: 491


1- . إعلام الورى ، ص 477 .

الحديث السادس والستّون :[ في ولادة النبيّ صلى الله عليه و آله ]

ما رويناه بالأسانيد عن ثقة الإسلام في الكافي في باب تأريخ ولادة النبيّ صلى الله عليه و آله قال : ولد النبيّ لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل في عام الفيل يوم الجمعة من الزوال . وروي أيضاً عند طلوع الفجر قبل أن يبعث بأربعين سنة ، وحملت به اُمّه آمنة في أيّام التشريق عند الجمرة الوسطى(1) . انتهى .

ومحلّ الإشكال من كلامه رحمه الله في قوله : «حملت به اُمّه في أيّام التشريق» مع ضميمة أنّه ولد في شهر ربيع الأوّل ، فإنّه يلزم على هذا أن تكون مدّة حمله صلى الله عليه و آله إمّا سنة وثلاثة أشهر أو ثلاثة أشهر ؛ لأنّ أيّام التشريق هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجّة ، وعلى كلا الحالين فهو خارق للعادات ولم ينقل أحد أنّه من خصائصه صلى الله عليه و آله .

والجواب : أنّ المراد بأيّام التشريق الأيّام المعلومة من شهر جمادي الاُولى الذي وقع فيه حجّ المشركين في عام الفيل باعتبار النسيء ، حيث كانوا يؤخّرون عن ذي الحجّة ، فيحجّون سنتين في محرّم وسنتين في صفر ، وهكذا إلى أن يتمّ الدور ثمّ يستأنفونه ، وعلى هذا فمدّة حمله صلى الله عليه و آله عشرة أشهر بلا زيادة ولا نقصان .

قال المحقّق البحرانيّ في الدرّة النجفيّة :

الصواب أنّ ما ذكره الكلينيّ رحمه الله أعمّ من أن يكون رواية كما هو الظاهر ، أو فتوى مبنيّ - واللّه العالم - على النسيء الذي كان متعارفاً في زمن الجاهليّة ، ونسخ بالإسلام المشار إليه في قوله تعالى : « إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ »(2) .

ص: 492


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 439 ، باب مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ووفاته ؛ وانظر : كنز الفوائد ، ص 72 ؛ ومصباح المتهجّد ، ص 791 ؛ وبحار الأنوار ، ج 15 ، ص 279 ، ح 25 ؛ وج 94 ، ص 120 ، ح 1 .
2- . التوبة 9 : 37 .

فإنّ أهل الجاهليّة كما ورد في الأخبار كانوا يحرّمون الحلال من الأشهر الحرم ويحلّون الحرام منها لمطالبهم ومصالحهم ، فقد يحلّون بعض الأشهر الحرم لإرادة القتل والغارة ، ويعوّضون عنه شهراً آخراً من الأشهر المحلّلة ، فيحرّمون في الأشهر المحلّلة ما أحلّوه في الأشهر المحرّمة ، فإذا كان الأمر كذلك فيجوز أن يكون حجّهم حين حملت به صلى الله عليه و آله اُمّه في أيّام التشريق كان في شهر جمادى الثانية ، ويكون مدّة حمله صلى الله عليه و آله حينئذٍ تسعة أشهر كما هوالمشهور .

ويؤيّده ما ذكره ابن طاوس في الإقبال أنّ ابتداء الحمل بالنبيّ

صلى الله عليه و آله كان في تسعة عشر من شهر جمادى الآخرة ، وذكر الشيخ الثقة محمّد بن عليّ بن بابويه في الجزء الرابع من كتاب النبوّة بأنّ الحمل به صلى الله عليه و آله كان ليلة الجمعة لاثني عشر ليلة ذهبت من جمادى الآخرة(1) .

قال الطبرسيّ في المجمع نقلاً عن مجاهد : كان المشركون يحجّون في كلّ شهر عامين ، فحجّوا في ذي الحجّة عامين ، ثمّ حجّوا في المحرّم عامين ، ثمّ حجّوا في صفر عامين ، وكذلك في الشهور حتّى وافقت الحجّة التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة ، ثمّ حجّ النبيّ صلى الله عليه و آله في العام القابل حجّة الوداع ، فوافقت في ذي الحجّة ، فقال صلى الله عليه و آله في خطبته : «ألا وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات : ذوالقعدة وذوالحجّة ومحرّم ورجب مضر بين جمادى وشعبان» ، أراد بذلك أنّ الأشهر الحرم قد رجعت إلى مواضعها وعاد الحجّ إلى ذي الحجّة وبطل النسيء .

واستنبط بعض أفاضل السادات من هذا الكلام أنّ مدّة حمله على هذا الحساب تكون أحد عشر شهراً ، ويكون ذلك دليلاً على حقّيّة مذهب من قال : إنّ أقصى مدّه الحمل سنة ، قال : لأنّ عمره صلى الله عليه و آله كان ثلاثاً وستّين ، وقد وافق حجّهم في آخر عمره صلى الله عليه و آله في ذي الحجّة بناءا على قوله ، فإذا رجعنا من آخر عمره إلى أوّله معطين لكلّ شهر من شهور السنة حجّتين يكون وقوع وضع حمله صلى الله عليه و آله في شهر

ص: 493


1- . الاستشهاد بكلام ابن طاوس غير موجود هنا في الدرّة النجفيّة وإنّما يأتي ذكره في طي كلام الشيخ عليّ في حاشية الروضة .

ربيع الأوّل - الذي اتّفق حجّهم في تلك السنة في جمادى الاُولى أوّل حجّهم فيه بعد وضع حمله صلى الله عليه و آله فيه - فيكون حمله في العام السابق في شهر ربيع الثاني(1) أيّام التشريق ، فيكون مدّة الحمل أحد عشر شهراً كما لا يخفى .

ونقل عن الفاضل الأسترآباديّ في الحاشية على هذا الموضع من الكافي أنّه نقل هذا الاستنباط وارتضاه وصحّحه .

وقد اعترضه بعض الأفاضل بأنّه يلزم على هذا بأن يكون سنّه الشريف خمساً وستّين سنة ؛ إذ في كلّ دورة كاملة يزيد عمره على عدد حجّهم في تلك الدورة بسنة ، فإذا كان الابتداء من جمادى الاُولى والانتهاء إلى ذي الحجّة في الدورة التالية يرتقي عدد حجّهم في تلك الشهور إلى ثلاثه وستّين سنة ، فيجب أن يكون عمره الشريف خمساً وستّين سنة .

وتوضيح ذلك : على تقدير الابتداء من جمادى الاُولى ووصول الدورة إلى شهر ربيع الأوّل وإتمام حجّهم فيه يكون عدد حجّاتهم اثنين وعشرين ، كما أنّ عمره صلى الله عليه و آله كذلك ، فإذا زاد في عمره سنة وانتهى إلى هذا الشهر ولم يحضر بعد زمان حجّهم يكون عمره ثلاثاً وعشرين سنة بلا زيادة ولانقصان ، وعدد حجّهم كما كان ، وكذلك الحال في الدورة الاُخرى بعينها ، فيجب أن يكون ابتداء حجّهم بعد وضع حمله صلى الله عليه و آله في شهر جمادى الثانية حتّى يكون عدد حجّهم حين الانتهاء إلى حجّة الوداع إحدى وستّين ، ويوافق مع ثلاث وستّين من عمره ، وعلى هذا يكون حمل اُمّه صلى الله عليه و آله في العام السابق في شهر جمادى الاُولى ، فيكون مدّة حمله عشرة أشهر ويكون منطبقاً على المذهب المشهور .

وأنت خبير بأنّ هذا كلّه على تقدير صحّة ما نقل عن مجاهد كما حكاه الطبرسيّ رحمه الله عنه ، وهو منظور فيه من وجهين :

أحدهما : أنّ الذي صرّح به جملة المفسّرين في معنى النسيء لا ينطبق على ما ذكره ؛ إذ معناه - كما ذكروه - هو ما قدّمنا ذكره من تحليل بعض الأشهر الحرم

ص: 494


1- . في المصدر : «ربيع الأوّل» .

لأجل استباحة الغارة فيه والقتال وتعويض غيره من الأشهر المحلّلة عنه ، فيحرّمون فيه القتال ويحجّون فيه ، لا ما ذكره ، فإنّه لا ينطبق على الآية الشريفة ،وهو قوله سبحانه : « يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَاحَرَّمَ اللّهُ »(1) .

ويزيده بياناً ما ذكره الثقة الجليل عليّ بن إبراهيم في تفسيره من أنّه كان سبب نزول الآية المذكورة أنّه كان رجل من كنانة يقف في الموسم فيقول : قد أحللت دماء المحلّين [من] طيّ وخثعم في شهر المحرّم وأنسأته وحرّمت بدله صفر ، فإذا كان العام القابل يقول : قد أحللت صفر وأنسأته وحرّمت بدله شهر المحرّم ، فأنزل اللّه تعالى : « إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ »(2) .

وقيل : إنّ أوّل من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكنانيّ ؛ كان يقوم على جبل في الموسم فينادي : إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرّم ، ثمّ ينادي في القابل : إنّ آلهتكم قد حرّمت عليكم المحرّم ، فحرّموه .

وثانيهما : أنّ ما ذكره من أنّ الحجّة التي كانت قبل الوداع كانت في ذي القعدة تردّه الأخبار الواردة بقراءة أميرالمؤمنين عليه السلام آيات (براءة) في الموسم تلك السنة ، فإنّها صريحة في كون الحجّ تلك السنة كان في ذي الحجّة .

ففي حديث عن الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى : « فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ »(3) ، فهذه أشهر السياحة : عشرون من ذي الحجّة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر .

وفي حديث آخر عنه : فلمّا قدم عليّ عليه السلام وكان يوم النحر بعد الظهر وهو يوم الحجّ الأكبر قام ، ثمّ قال : إنّي رسول رسول اللّه إليكم ، فقرأها عليهم : « بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ »

عشرين من ذي الحجّة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر .

إلى غير ذلك من الأخبار .

ص: 495


1- . التوبة 9 : 37 .
2- . التوبة 9 : 37 .
3- . التوبة 9 : 2 .

فقد اتّضح بذلك أنّ الأظهر في دفع التناقض فيما ذكره شيخنا ثقة الإسلام هو ما ذكرناه في المقام ، وهو أنّ الحمل به كان في شهر جمادى الثانية وحجّهم - بناءا على النسيء - كان في ذلك الشهر .

وممّا يؤيّده أيضاً ما وجدته في حاشية الفاضل الشيخ عليّ [بن الشيخ محمّد بن شيخ حسن بن شيخنا الشهيد الثاني - قدّس اللّه تعالى أرواحهم - (1)] على شرح اللمعة ، قال : رأيت في كتاب (اُصول الأخبار) للشيخ حسين بن عبدالصمد ، قال : ذكر عليّ بن طاوس في كتاب الإقبال أنّ ابتداء الحمل بالنبيّ في تسعة عشر من شهر جمادى الآخرة . وذكر محمّد بن بابويه في الجزء الرابع من كتاب النبوّة بأنّ الحمل به صلى الله عليه و آله ليلة الجمعة لاثنتي عشر ليلة ذهبت من جمادى الآخرة . هذه عبارته بعينها .

ثمّ قال : وهاتان الروايتان يوافقان الشرع ، ويعضدهما الاعتماد على ما عليه الأكثر . انتهى . وربّما حمل ذلك على النسيء . انتهى ما ذكره في الحاشية المشار إليها .

وعلى هذا يكون مدّة الحمل تسعة أشهر ، وعلى تقدير صحّة كلام مجاهد فالذي يلزم منه أيضاً كون مدّة الحمل عشرة أشهر كما عرفت لا ما توهّمه ذلك الفاضل ، من كونه سنة ، وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني في شرح اللمعة

حيث قال - بعد نقل الأقوال في أقصى مدّة الحمل - : واتفق الأصحاب على أنّه لا يزيد على السنة ، مع أنّهم رووا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله حملت به اُمّه في أيّام التشريق ، واتّفقوا على أنّه ولد في شهر ربيع الأوّل ، فأقلّ ما يكون لبثه في بطن اُمّه سنة وثلاثة أشهر ، وما نقل أحد من العلماء أنّ ذلك من خصائصه . انتهى .

فإنّه ناش من عدم إعطاء التأمّل حقّه في هذا المجال ، والغفلة عمّا اُجيب به عن هذا الإشكال .

وقال شيخنا المجلسيّ رحمه الله في كتاب الأربعين - بعد نقل كلام الكلينيّ رحمه الله وإيراد الإشكال عليه ، ثمّ إيراد كلام مجاهد - ما صورته : إذا عرفت هذا فقيل على هذا : إنّه

يلزم أنّ مولده صلى الله عليه و آله في جمادى الاُولى ؛ لأنّه صلى الله عليه و آله توفّي وهو ابن ثلاث وستّين سنة ،

ص: 496


1- . اُضيفت من المصدر .

ودورة النسيء أربعة وعشرون سنة ، ضِعف عدد الشهور ، فإذا أخذنا من الثانية وستّين ورجعنا تصير السنة الخامسة عشر ابتداء الدورة ؛ لأنّه إذا نقص من اثنين وستّين : ثمانية وأربعون تبقى أربعة عشر ، الاثنتان الأخيرتان منها لذي القعدة ، واثنتان قبلها لشوّال ، وهكذا ، فتكون الأوليان منها لجمادى الاُولى ، وكان الحجّ عام مولد النبيّ صلى الله عليه و آله - وهو عام الفيل - في جمادى الاُولى ، فإذا فرض أنّه صلى الله عليه و آله حملت به اُمّه في الثاني عشر منه ، ووضعت في الثاني عشر من ربيع الأوّل ، يكون مدّة الحمل عشرة أشهر لا مزيدة ولا نقيصةٍ .

أقول : ويرد عليه أنّه [أخطأ(1)] في حساب الدورة أربعة وعشرون سنة ؛ إذ في كلّ سنتين يسقط شهر من شهور السنة باعتبارالنسيء ، ففي كلّ خمس وعشرين سنة يحصل أربعة وعشرون حجّة تمام الدورة .

وأيضاً على ما ذكره يكون مدّة الحمل أربعة عشر شهراً ؛ إذ لو كان عام مولده أوّل حجّ في جمادي الاُولى يكون في عام الحمل الحجّ في ربيع الثاني .

فالصواب أن يقال [كان] في عام حمله صلى الله عليه و آله الحجّ في جمادى الاُولى ، وفي عام مولده في جمادى الثانية ، و(2)يكون في حجّة الوداع [والتي قبلها الحجّ في ذي الحجّة ، ولا يخالف شيئا إلاّ ما مرّ عن مجاهد أنّ حجّة الوداع(3)] كانت مسبوقة بالحجّ في ذي القعدة ، وقوله غير معتمد في الخبر إن ثبت أنّه رواه خبراً ، ويكون مدّة الحمل على هذا تسعة أشهر إلاّ يوماً ، فيوافق ما هو المشهور في مدّة حمله صلى الله عليه و آله عند المخالفين .(4) انتهى كلامه زيد إكرامه .

ص: 497


1- . أثبتناه من كتاب الأربعين ، وفي النسخ والمطبوع من الكتاب وكذا نسخ الدرر النجفيّة : اختار .
2- . هذا المقطع : «ويكون في حجة الوداع ...» إلى آخره لم يدرج في كتاب الأربعين هنا ، وإنّما جاء بعد صفحة من الكلام تقريبا ، فهناك خلل في نقل كلام المجلسي من حيث السقط والتقطيع . راجع : الأربعين ، ص 198 .
3- . ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر .
4- . الدرر النجفيّة ، ج 1 ، ص 337 - 344 .

الحديث السابع والستّون :[ في نداء إبراهيم : هلمّ إلى الحجّ ]

ما رويناه بالأسانيد عن الكلينيّ في الكافي ، والصدوق في العلل بإسنادهما عن عبداللّه بن سنان ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «لمّا أمر اللّه عزّ وجلّ إسماعيل وإبراهيم عليهماالسلام ببنيان البيت وتمّ بناؤه أمره أن يصعد ركناً ثمّ ينادي في الناس : ألا هلمّ إلى الحجّ ، فلو نادى : هلمّوا إلى الحجّ لم يحجّ إلاّ من كان يومئذٍ إنسيّاً مخلوقاً ، ولكن نادى هلمّ الحجّ ، فلبّى الناس في أصلاب الرجال : لبّيك داعي اللّه ، لبّيك داعي اللّه ؛ فمن لبّى عشراً حجّ عشراً ، ومن لبّى خمساً حجّ خمساً ، ومن لبّى أكثر فبعدد ذلك ، ومن لبّى واحداً حجّ واحداً ، ومن لم يلبّ لم يحجّ» .

والمروي عن الفقيه : «إلى الحجّ» ، في المواضع الثلاثة ، وعند ذكر المفرد في الموضعين : «نادى» ، وعند ذكر الجمع : «ناداهم»(1) .

تحقيق :

قد حقّق في الاُصول عدم جواز خطاب المعدوم ، وأنّ الخطابات مختصّة بالموجودين ، ويعلم شمولها للمعدومين بالإجماع والكتاب والسنّة ، كقوله تعالى : « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ »(2) ، و«حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة» .

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه قد صرّح جملة من محقّقي البيان أنّه إذا اُريد بالخطاب

ص: 498


1- . الكافي ، ج 4 ، ص 206 باب حجّ إبراهيم و إسماعيل ... ، ح 6 ؛ علل الشرائع ، ج 2 ، ص 419 ، ح 1 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 2 ، ص 232 ، ح 2282 ؛ وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 10 ، ح 9 ؛ بحار الأنوار ، ج 12 ، ص 105 ، ح 17 ؛ وج 96 ، ص 187 ، ح 18 .
2- . سبأ 34 : 28 .

العموم بحيث يشمل الموجود والمعدوم اُتي بصيغة المفرد ، وقالوا : قد يترك الخطاب إلى غير المعيّن ليعمّ الخطاب كلّ مخاطب على سبيل البدل ؛ قصداً للعموم وإرادة كلّ من يصلح لذلك كقوله تعالى : « وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ »(1) .

وقال بعضهم :

إذا كان ضمير المخاطب واحداً أو مثنّى يكون العموم على سبيل البدل ظاهراً ، وإن كان جمعاً فالظاهر أنّه إذا قصد غير معيّن يعمّ جميع المخاطبين على سبيل الشمول ، لكن قيل : لم يوجد في القرآن ولا في كلام العرب خطاب عامّ بصيغة الجمع . انتهى .

وإذا تبيّن لك هذا اتّضح معنى الحديث ، والمعنى - واللّه أعلم - أنّه لمّا كان مقصوده خطاب جميع الناس بالحجّ من الموجودين والمعدومين أتى بصيغة المفرد ؛ لأنّها هي الموضوعة لمثل هذا ، ولم يأت بصيغة الجمع فيقول : هلمّوا ؛ لأنّ صيغة الجمع مختصّة بالموجودين دون المعدومين ، والمقصود خلاف ذلك ، فلهذا عدل عنها إلى صيغة الإفراد التي تستعمل في العموم .

ونقل عن بعض الأفاضل أنّه قال في هذا المقام ما نصّه :

ليس المناط الفرق بين أفراد الصيغة وجمعها ، بل ما في الحديث بيان للواقعة ، والمراد أنّ إبراهيم نادى : هلمّ إلى الحجّ بلا قصد إلى منادى معيّن ، أي لا خصوص الموجودين ، فلذا يعمّ الموجودين والمعدومين ، فلو ناداهم ، أي الموجودين ، وقال : هلمّوا إلى الحجّ قاصداً إلى الموجودين ، كان الحجّ مخصوصاً بالموجودين ، فضمير «هم» في «ناداهم» راجع إلى الناس لا الموجودين ، فالمناط قصد المنادى المعيّن المشار إليه بلفظة «هم» في إحدى العبارتين ، وعدم القصد في الاُخرى المشعر به ذكر «نادى» مطلقاً ، لا الإفراد والجمع(2) . انتهى .

ولا يخفى ما فيه من التكلّف والقصور ، ولفظ الحجّ الموجود في بعض النسخ بدون «إلى» منصوب بنزع الخافض .

ص: 499


1- . الأنعام 6 : 27 .
2- . نقله عنه في بحار الأنوار ، ج 12 ، ص 106 .

الحديث الثامن والستّون :[ ما من نبيّ ولا وصيّ نبيّ يبقى في الأرض أكثر ... ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن المحمّدين الثلاثة في الكافي والفقيه والتهذيب بأسانيدهم عن زياد بن أبي الجلال ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «ما من نبيّ ولا وصيّ نبيّ يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيّام حتّى ترفع روحه ولحمه وعظمه إلى السماء ، وإنّما

تُؤتى مواضع آثارهم ويبلّغونهم من بعيد السلام ويسمعونهم في مواضع آثارهم من قريب»(1) .

وفي التهذيب عن عطيّة الأبرازيّ ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «لا تمكث جثّة نبيّ ولا وصيّ نبيّ في الأرض أكثر من أربعين يوماً»(2) .

ولعلّ الجمع بين الخبرين بالنسبة إلى الثلاثة والأربعين أنّ رفع الأكثر بعد ثلاثة ، ويمكث بعضهم إلى أربعين ثمّ يرفع .

أو أنّه يرفع كلّ منهم بعد الثلاثة ، ثمّ يرجع إلى قبره ، ثمّ يرفع بعد الأربعين .

ثمّ إنّ فيهما إشكالاً وهو : أنّ ظاهرهما عدم بقاء أبدانهم في الأرض ، وهو لا يخلو من إشكال ، مع معارضته لما رواه في التهذيب في حديث المفضّل عن الصادق عليه السلام حيث قال فيه : «إنّ اللّه عزّ وجلّ أوحى إلى نوح وهو في السفينة أن يطوف بالبيت اُسبوعاً ، فطاف بالبيت كما أوحى اللّه ، ثمّ نزل والماء إلى ركبتيه ، فاستخرج تابوتاً فيه عظام آدم ، فحمله في جوف السفينة - إلى أن قال - : فأخذ نوح

ص: 500


1- . الكافي ، ج 4 ، ص 567 ، ح 1 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 2 ، ص 577 ، ح 3161 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 106 ، ح 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 14 ، ص 323 ، ح 19315 .
2- . تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 106 ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 97 ، ص 130 ، ح 17 .

التابوت فدفنه في الغريّ»(1) .

وما رواه الصدوق في الفقيه عن الصادق عليه السلام قال : «إنّ اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى موسى بن عمران أن أخرج عظام يوسف من مصر - إلى أن قال - : فاستخرجه من شاطئ النيل في صندوق مرمر ، فحمله إلى الشام»(2) .

ونحوه في الكافي(3) .

ولم أقف على من توجّه لحلّ هذاالإشكال من هذه الأخبار بتوجيه يشفي الغليل سوى من نحكي كلامهم :

قال العلاّمة المحدّث المجلسيّ في مجلّد المزار من بحار الأنوار - بعد إيراد الخبرين الأوّلين - ما لفظه :

ثمّ إنّ في هذين الخبرين إشكالاً من جهة منافاتهما لكثير من الأخبار الدالّة على بقاء أبدانهم في الأرض ، كأخبار نقل عظام آدم ، ونقل عظام يوسف ، وبعض الآثار الواردة بأنّهم نبشوا قبر الحسين فوجدوه في قبره ، وأنّهم حفروا في الرصافة بئراً فوجدوا فيها شعيب بن صالح ، وأمثال تلك الأخبار كثيرة .

فمنهم من حمل أخبار الرفع على أنّهم يرفعون بعد الثلاثة ثمّ يرجعون إلى قبورهم ، كما ورد في بعض الأخبار : أنّ كلّ وصيّ يموت يلحق بنبيّه ثمّ يرجع إلى مكانه .

ومنهم من حملها على أنّها صدرت لنوع من المصلحة تورية ؛ لقطع أطماع الخوارج والنواصب الذين كانوا يريدون نبش قبورهم وإخراجهم منها ، وقد عزموا على ذلك مراراً فلم يتيسّر لهم .

ويمكن حمل أخبار العظام على أنّ المراد نقل الصندوق المتشرّف بعظامهم وجسدهم في ثلاثة أيّام أو أربعين يوماً ، أو أنّ اللّه ردّهم إليها لتلك المصلحة ،

ص: 501


1- . تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 22 - 23 ، ح 8 ؛ وسائل الشيعة ، ج 14 ، ص 384 - 385 ، ح 19435 .
2- . من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 193 ، ح 594 ؛ وسائل الشيعة ، ج 3 ، ص 162 ، ح 3292 .
3- . الكافي ، ج 8 ، ص 155 .

وعلى هذا الأخير تحمل الأخبار الاُخر ، واللّه يعلم .

وقال الشيخ أبوالفتح الكراجكيّ في كنز الفوائد : إنّا لا نشكّ في موت الأنبياء ، غير أنّ الخبر قد ورد بأنّ اللّه تعالى يرفعهم بعد مماتهم إلى سمائه ، وأنّهم يكونون فيها أحياء منعّمين إلى يوم القيامة ، وليس ذلك بمستحيل في قدرة اللّه تعالى .

وقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «أنا أكرم على اللّه من أن يدعني في الأرض أكثر من ثلاث» ، وهكذا عندنا حكم الأئمّة عليهم السلام .

ثمّ قال : قال النبيّ صلى الله عليه و آله : «لو مات نبيّ في المشرق ومات وصيّه بالمغرب لجمع اللّه بينهما» ، وليست زيارتنا لمشاهدهم على أنّهم بها ولكن لكونها أشرف المواضع فكانت غيبة الأجسام فيها ، ولعبادة أيضاً نُدبنا إليها(1) ، إلى آخر ما قال رحمه الله .

وقال المحدّث الكاشانيّ رحمه الله في الوافي ذيل الحديث الأوّل :

بيانٌ : حمل هذا الحديث على ظاهره ليس بمستبعد في عالم القدرة وفي خوارق عاداتهم عليهم السلام مع أنّه يحتمل أن يكون المراد باللحم والعظم المرفوعين : المثاليّين منهما ، أعني البرزخيّين ، وذلك لعدم تعلّقهم بهذه الأجساد العنصريّة ، فكأنّهم وهم بعد في جلابيب أبدانهم قد نفضوها وتجرّدوا عنها فضلاً عمّا بعد وفاتهم ، والدليل على ذلك من الحديث قولهم عليهم السلام : «إنّ اللّه خلق أرواح شيعتنا ممّا خلق منه أبداننا» ؛ فأبدانهم ليست إلاّ تلك الأجساد اللطيفة المثاليّة ، وأمّا العنصريّة فكأنّها

أبدان الأبدان .

ويدلّ على ذلك أيضاً من الحديث ما يأتي في حديث المفضّل : «إنّ اللّه تعالى أوحى إلى نوح عليه السلام أن يستخرج من الماء تابوتاً فيه عظام آدم فيدفنه في الغري ففعل» .

وما ورد من : «أنّ اللّه سبحانه أوحى إلى موسى بن عمران أن أخرج عظام يوسف بن يعقوب من مصر» ، الحديث .

فلولا أنّ الأجسام العنصريّة منهم تبقى في الأرض لما كان لاستخراج العظام ونقلها من موضع إلى آخر بعد سنين معنى ، وإنّما يبلّغونهم من بعيد السلام لأنّهم في

ص: 502


1- . بحار الأنوار ، ج 97 ، ص 131 .

الأرض وهم في السماء ، وإنّما يسمعونهم من قريب لقربهم المعنويّ من آثارهم وزوّارهم وحضور أسمائهم عند المسلّمين عليهم ، وربّما يرى شخصهم في بعض الأحيان هناك بتلك الأبدان ، كما يدلّ عليه حديث النهي عن الإشراف على قبر النبيّ الآتي في باب آخر(1) .

وقال بعد إيراده رواية عطيّة :

لا منافاة بين الخبرين ، لأنّها إذا لم تبق أكثر من ثلاثة أيّام صدق أنّها لم تبق أكثر من أربعين يوماً ، ولعلّ ذلك يختلف باختلاف أزمنة ذهابهم عن الجسد العنصري الذي من الأرض بالإضافة إليهم(2) . انتهى .

وفي بعضه نظر ظاهر وتكلّف لا يخفى على اللبيب الماهر . والحديث الذي أشار إليه ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن العدّة ، عن أحمد بن محمّد البرقيّ ، عن جعفر بن مُثنّى الخطيب ، قال : كنت بالمدينة وسقف المسجد الذي يشرف على القبر قد سقط ، والفعلة يصعدون وينزلون ، ونحن جماعة ، فقلت لأصحابنا : من منكم له موعد يدخل على أبي عبداللّه عليه السلام ؟ فقال مهران بن أبي نصر : أنا ، وقال إسماعيل بن عمّار الصيرفيّ : أنا ، فقلت لهما ، سلا لنا عن الصعود لنشرف على قبر النبيّ صلى الله عليه و آله .

فلمّا كان من الغد لقيناهما فاجتمعنا جميعاً ، فقال إسماعيل : قد سألناه لكم عمّا ذكرتم ، فقال : «ما اُحبّ لأحد منهم أن يعلو فوقه ، ولا آمنه أن يرى شيئاً يذهب منه بصره أو يراه قائماً يصلّي أو يراه مع بعض أزواجه صلى الله عليه و آله »(3) .

وقال الفاضل المدقّق المازندرانيّ - بعد إيراد هذا الحديث بعد أن علّل كراهة رؤيته يصلي باعتبار الإشراف على بيته - : واعلم أنّ الأنبياء والأوصياء والشهداء والأولياء والصلحاء بعد مفارقتهم الدنيا بأبدانهم أحياء مرزوقون فاعلون للأعمال الصالحة ،

ص: 503


1- . الوافي ، ج 14 ، ص 1337 - 1338 ، ذيل ح 14365 .
2- . الوافي ، ج 14 ، ص 1339 ، ذيل ح 14366 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 452 ، باب النهي عن الإشراف على قبر النبيّ ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 14 ، ص 373 - 374 ، ح 19417 .

وإنّما المانع من رؤيتهم عادةً حجاب قرّره اللّه تعالى لحكمة لا يعلمها إلاّ هو وأهل البصائر من عباده ، وربّما يظهر صورتهم لمن يشاء اللّه تعالى كما ظهر النبيّ صلى الله عليه و آله للأوّل في حال يقظته ، فقال له : «آمن بعليّ وبأحد عشر من ولدي ، إنّهم مثلي إلاّ النبوّة ، وتُب إلى اللّه عمّا في يدك فإنّه لا حقّ لك فيه» ، فأراد أن يعزل نفسه عمّا هو فيه فمنعه صاحبه ، وقال : هذا من سحر بني هاشم(1) . انتهى .

وللمحقّق البحرانيّ في الدرّة النجفيّة توجيه غريب لهذه الأخبار ، قال :

إنّ المستفاد من جملة من الأخبار أنّ دفن الميّت إنّما يقع في موضع تربته التي خلق منها ، ومنها صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام قال : «من خُلق من تربة دفن فيها» .

وعن الصادق عليه السلام : «إنّ النطفة إذا وقعت في الرحم بعث اللّه ملكاً فأخذ من التربة التي يدفن فيها فماثها في النطفة ، فلا يزال قلبه يحنّ إليها حتّى يدفن فيها» .

وحينئذٍ فما ورد من الأخبار دالاًّ على رفعهم عليهم السلام من الأرض بالأبدان العنصريّة يجب تقييده بما دلّت عليه هذه الأخبار من الدفن في الموضع الأصليّ الذي اُخذت منه الطينة ، ويجب حمل خبري عظام آدم ويوسف على الدفن في غير الموضع المشار إليه ، فكأنّه إنّما وقع على جهة الإيداع في هذا المكان لمصلحة لا نعلمها ، والمقرّ الحقيقيّ إنّما هو الموضع الذي أمر اللّه سبحانه بالنقل إليه بعد ذلك ، فيصير الدفن في ذلك الموضع من قبيل ما لو بقي على وجه الأرض من غير دفن في وجوب بقاء الجسد العنصريّ ، وإن جاز انتقال كلّ منهما إلى بدن مثاليّ في ذلك العالَم ، لعدم إمكان نقل البدن العنصريّ ، حيث إنّه مأمور بنقله إلى ذلك المكان الآخر بعد الإيداع في هذا المكان مدّة ، فمن أجل ذلك لم يُرفعا به .

وأمّا وجه الحكمة في الدفن أوّلاً في ذلك المكان مع كونه ليس هو المكان الأصليّ والتربة الحقيقيّة فلا يجب علينا تطلّب وجهه ولا تحصيل علّته ، وإنّما يجب علينا الإيمان بما وقع كما في كثير من أسرار القضاء والقدر ، وهو وجه وجيه .

ص: 504


1- . شرح المازندراني ، ج 7 ، ص 194 .

بقي الكلام في الجمع بين خبري الثلاثة والأربعين ، ويمكن أن يكون وجهه حمل الأوّل على أقلّ المدّة ، والثاني على أكثرها ، أو على تفاوت مراتبهم ومنازلهم .

بقي الإشكال في العظام مع أنّ أجساد الأنبياء لا تبلى ، فإمّا أن تحمل العظام على الصندوق المتشرّف بالعظام ، أو تحمل العظام على الجسد فإنّها تطلق عليه في بعض الأوقات(1) . انتهى ملخّصاً .

ولا يخفى ما فيه من التكلّف البعيد والتمحّل الشديد .

ص: 505


1- . الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 166 والمقطع الأخير من الكلام : «بقي الإشكال في العظام ...» غير موجود في الطبعة المحقّقة من المصدر .

الحديث التاسع والستّون :[ في حديث النملة مع سليمان ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن الصدوق في العلل والعيون بإسناده عن الرضا عليه السلام في قوله تعالى : « فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِن قَوْلِهَا »(1) ، قال : «لمّا قالت النملة : « يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ »(2) حملت الريح صوت النملة إلى سليمان عليه السلام وهو مارّ في الهواء والريح قد حملته ، فوقف وقال : عليّ بالنملة ، فلمّا اُتي بها ، قال سليمان : يا أيّتها النملة ، أما علمت أنّي نبيّ اللّه وأنّي لا أظلم أحداً ؟ قالت النملة : بلى . قال سليمان : فلِمَ تحذّرينهم ظلمي وقلتِ : « يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ» ؟

قالت النملة : خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيصدّوا عن اللّه عزّوجلّ .

ثمّ قالت النملة : أنت أكبر أم أبوك داود ؟ قال سليمان : بل أبي داود .

قالت النملة : فلِمَ زيد في حروف اسمك حرف على حروف اسم أبيك داود ؟ قال سليمان : مالي بهذا علم . قالت النملة : لأنّ أباك داوى جرحه بودٍّ فسمّي داود ، وأنت يا سليمان أرجو أن تلحق بأبيك .

ثمّ قالت النملة : هل تدري لِمَ سُخّرت لك الريح من بين سائر المملكة ؟ قال سليمان : مالي بهذا علم .

قالت النملة : يعني عزّ وجلّ بذلك لو سخّرت لك جميع المملكة كما سخّرت لك هذه الريح لكان زوالها من يدك كزوال الريح . فحينئذٍ تبسّم ضاحكاً من قولها»(3) .

وفي بعض النسخ : «وأنت سليمان ، أرجو أن تلحق بأبيك» ، بدون حرف النداء .

ص: 506


1- . النمل 27 : 19 .
2- . النمل 27 : 18 .
3- . علل الشرائع ، ج 1 ، ص 72 ، ح 1 ؛ عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 84 ، ح 8 ؛ بحار الأنوار ، ج 14 ، ص 92 ، ح 2 .

وقد ذكر في هذا الحديث إشكالان :

الأوّل : أنّ سليمان اعترف بالجهل وعدم العلم الغير اللائق بالأنبياء ، والأنبياء يجب أن يكونوا أعلم من غيرهم ، ويظهر من الحديث كون النملة أعلم من سليمان .

الثاني : أنّه لا يظهر من كلام النملة وجوابها معنى يعتدّ به .

واُجيب عن الأوّل بوجوه :

الأوّل : أنّة لا يلزم من علم النملة بهذا الشيء الجزئيّ كونها أعلم من سليمان ، بل علمها بهذاالجزئي بالنسبة إلى معلوماته كلا شيء ، والعوام قد يكونون عالمين بأشياء لا يعلمها العلماء ، ولا يلزم من ذلك كونهم أعلم من العلماء .

الثاني : أنّ الواجب كون الأنبياء أعلم من رعيّتهم ، لقبح تقديم المفضول على الفاضل ، والنملة ليست من الرعيّة .

الثالث : أنّ علم النملة بذلك ليس من الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ولا الاعتقاديّة ، فلا يضرّ عدم علم سليمان بذلك .

الرابع : أنّه لا يبعد أن يكون اللّه تعالى أراد علم سليمان بذلك على لسان النملة .

الخامس : أنّه يحتمل أن يكون أرسل اللّه سبحانه ملكاً إلى سليمان على صورة النملة ليُعلمه ذلك .

السادس : يحتمل أنّه عليه السلام كان عالماً بجواب النملة ويكون قوله «لا علم لي» أي من قبل نفسي كما قالت الملائكة : « لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلَّمْتَنَا »(1) وإن كان عالماً بذلك من قبل اللّه تعالى .

وأمّا الإشكال الثاني فقد ذُكر له وجوه :

الأوّل : أنّ معنى سؤالها : أنّه إذا كان أبوك أعظم منك فلِمَ زيد في اسمك حرف مع أنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني ؟

وحاصل جوابها : أنّ أباك لمّا حصل منه تلك الزلّة التي نعيت عليه بادر إليها بالتوبة والتودّد إلى اللّه سبحانه ، فاشتقّ له اسم منه ، وهو : داود ، وأنت وإن صدرت منك زلّة

ص: 507


1- . البقرة 2 : 32 .

فطفقت مسحاً بالسوق والأعناق ، لكنّك سليم المداواة والتوبة ؛ لأنّك سلطانك شاغل لك عنها ، فمن ثَمّ اشتقّ لك اسم من السلامة لا من المداواة ، وأنا أرجو أن تلحق بأبيك في حصول التوبة والتودّد .

واُورد على هذا الجواب : أنّ سليمان إن تاب وتودّد فينبغي أن يشتقّ له أيضاً اسم منه ، وإلاّ لابدّ من التزام عدم توبته إلى آخر العمر ؛ وبُعده ظاهر .

ويمكن الجواب بأنّ الوجوه التي تعتبر في التسمية إنّما هي نكات استحسانيّة يُكتفى فيها بأدنى مناسبة ولا يلزم اطّرادها وجوداً وعدماً ، فإنّ من سمّى ولداً له فيلونه حمرة : أحمر لا يلزمه عليه أن يسمّي سائر أولاده أيضاً بهذا الاسم وإن كان في ألوانهم

حمرة .

على أنّا لا نسلّم أنّ وجه التسمية بداود هو مطلق التوبة والتودّد حتّى يلزم تسمية سليمان بذلك أو بما يقاربه إن وقع منه التوبة والتودّد ، بل يحتمل أن يكون وجه التسمية نوعاً خاصّاً منهما ، وهو التوبة والتودّد على الوجه الذي وقع من داود عليه السلام ، والذي يمكن فرض وقوعه من سليمان فيما بعد إنّما هو التوبة والتودّد بكمال التأثّر والتحسّر لكن المبادرة قد فاتته ، وما روي من مبادرة سليمان بالتوبة لم يثبت أنّها كانت مع كمال التأثّر والتحسّر كما كانت من داود عليه السلام .

ولا يخفى عليك أنّ الجواب لا يخلو عن إشكال بعد ؛ لأنّ مفاد كلام النملة حينئذٍ وجه تسمية داود عليه السلام بما ينبى ء عن الدواء والتودّد ، وتسمية سليمان بما ينبئ عن السلامة ، والمقصود بيان شيء آخر وهو العلّة في زيادة حروف هذا الاسم على ذاك ، فلا ارتباط ظاهراً بين العلّة والمعلّل ، فتأمّل .

الثاني : أن يكون حاصل المعنى : أنّك سالم من الذنب الذي جاء به أبوك فلا ذنب لك ، فلذا اشتقّ لك اسم من السلامة وزدت على حروف أبيك كما زدت عليه بالمعنى .

ثمّ لمّا كان كلامها موهماً لكونه من جهة السلامة أفضل من أبيه ، استدركت ذلك بأنّ ما صدر عنه لم يصر سبباً لنقصه بل صار سبباً لكمال محبّته وتمام مودّته ، وأرجو أيضاً

أن تلحق بأبيك في ذلك لتكمل محبّتك .

الثالث : أنّ المعنى أنّ أصل الاسم كان داوى جرحه بودّ ، وهو أكثر من اسمك وإنّما

ص: 508

صار بكثرة الاستعمال داود ، ثمّ دعت له بأن يلحق بأبيه في الكمال والفضل .

الرابع : أنّ هذا الاسم مشتمل على سليم أو مأخوذ منه ، والسليم يستعمل بمعنى الجريح واللديغ تفاؤلاً بصحّته وسلامته ، فالحرف الزائد للدالة على وجود الجرح ، فكما أنّ الجرح زائد في البدن عن أصل الخلقة كذلك هذا الحرف ، وفيه معنى لطيف وهو : أنّ هذه الزيادة في الاسم للدلالة على الزيادة في المسمّى ليست ممّا يزيد به الاسم والمسمّى كمالاً ، بل قد تكون الزيادة لغير ذلك .

الخامس : أنّ الصدوق طاب ثراه ذكر في العلل(1) في عنوان هذا الباب هكذا : «باب العلّة التي من أجلها زيد في حروف اسم سليمان حرف من حروف اسم أبيه داود» فلعلّه - كما قيل - حمل الخبر على أن يكون معناه : أنّك لمّا كنت سليمان اُريد أن يشتقّ لك اسم من السلامة ، ولمّا كان أبوك داود داوى جرحه بودّ وصار كاملاً بذلك أراد اللّه تعالى أن يكون في اسمك حرف من حروف اسمه لتلحق به في الكمال ، فزيد فيه الألف وما يلزمه لتمام التركيب وصحّته من النون ، فصار سليمان وإلاّ لكان السليم كافياً للدلالة على السلامة ، فلذا زيد في حروف اسمك على حروف اسم أبيك . وفي بعض نسخ الحديث : من حروف اسم أبيك ، وهو ألصق بهذا المعنى .

وقولها : وأرجو أن تلحق بأبيك ، أي بتلك الزيادة ، فيدلّ ضمناً وكناية على أنّه إنّما زيد لذلك .

وقال الثعالبيّ في تفسيره :

فقالت النملة : هل علمت لم سمّي أبوك داود ؟ قال : لا ، فقالت : لأنّه داوى جرحه بودّ .

هل تدري لم سمّيت سليمان ؟ قال : لا ، قالت : لأنّك سليم وكنت إلى ما اُوتيت لسلامة صدرك ، وإنّ لك أن تلحق بأبيك(2) . انتهى .

ص: 509


1- . تقدم تخريجه .
2- . تفسير الثعلبي ، ج 7 ، ص 198 .

ويظهر منه تأييد للمعنى الثاني .

السادس : أن يكون المراد بيان اشتقاق الاسمين من المعنيين المذكورين ، وأنّ زيادة حرف في اسمه على اسم أبيه ليس لكونه أكبر ، بل لاقتضاء الاشتقاق ذلك ، فاتّفق زيادة حرف لا لكونه أكبر من أبيه سنّاً ولا فضلاً ، ويبقى ذكر عدم كونه أكبر من أبيه إشارة إلى أنّ القاعدة المشهورة من أنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني أغلبيّة لا كلّيّة .

السابع : أن يكون المعنى : أنّ أباك لمّا كان به جرح اُوحي إليه : داوِ بودّ ، ولمّا كانت الباء زائدة للتعدية سقطت عند التسمية ؛ لعدم وجود فعل يحتاج إلى التعدية ، فبقي داود يلفظ بواوين ويكتب بواحد ، ولمّا كان سليمان سليماً - أي سالماً من ذلك - سمّي

سليمان بالتصغير ، إمّا لكونه أصغر سنّاً أو لغير ذلك من فوائد التصغير ، وحينئذٍ صار التنوين نوناً ؛ لأنّه كان دالاًّ على معنى فلم يحسن سقوطه ، لفوات ما دلّ عليه .

الثامن : أنّه قيل لأبيك : داء ودّ ، فلفظ داء مبتدأ خبره محذوف ، أي بك داء ، ولفظ (ودّ) خبر مبتدؤه محذوف ، أي داؤه ودّ ، أي محبّة اللّه ولمن أمر بحبّه ، فلمّا سمّي به حذف المدّ فصار داود ، وأنت سليمان ، أي سليم ، بمعنى ملسوع لديغ ، تسمية الشيء باسم ضدّه تفاؤلاً ، فيكون جرحه باقياً وجرح أبيه زال ، ووجود الجرح زيادة ، فكان زيادة الحرف لذلك . وقد روي : «أنّ سليمان آخر من يدخل الجنّة من الأنبياء لكثرة ما اُعطي في الدنيا» .

ويكون قولها : أرجو أن تلحق بأبيك إشارة إلى أنّي أرجو أن تداوي جرحك بالودّ أيضاً كما فعل أبوك .

التاسع : أن يكون المراد : أنّ اللّه تعالى لمّا علم أنّ داود يداوي جرحه بودّ ، أي بمحبّة اللّه وحده لانقطاعه عن الدنيا سمّي داود ، ولمّا طلب سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده كان سعة دنياه وكثرة ملكه جرحاً لم يقدر على دوائه بودّ خالص ؛ لأنّ محبّة اللّه مشوبة بمحبّة غيره في الجملة ، وإن كان ذلك راجعاً إلى محبّة اللّه ففيه إشارة إلى أنّ الزيادة في الحروف قد تكون لنقصان المعنى كما يقال : زيادة الحدّ نقصان في المحدود .

ص: 510

العاشر : أن يكون المراد : أنّ أباك داوى نفسه من جرح يتوقّعه ويخاف منه بودّ ، فلم يحصل له ذلك الجرح ، وكان دواؤه لحفظ الصحّة والتحفّظ من حصول المرض لا لدفع المرض الذي قد حصل ، فإنّهم قد قسّموا الدواء والعلاج إلى قسمين ، وأنا أرجو أن تلحق بأبيك فتداوي جرحك المتوقّع لئلاّ يقع ، وأنت الآن سليم فلذلك سمّيت سليمان ، وأرجو أن تسمّى داود إذا داويت نفسك بودّ ، وقد ذكر سابقاً أنّ زيادة المباني لا يلزم كونها لزيادة المعاني ، واللّه العالم بحقيقة كلام أوليائه(1) .

ص: 511


1- . راجع : قصص الأنبياء للمحدّث الجزائري ، ص 416 ؛ ولوامع الأنوار ، الورقة 362 - 364 مخطوط .

الحديث السبعون :[ لو أنّ الموت يشترى لاشتراه الكريم ... ]

ما رويناه بالأسانيد السابقة عن ثقة الإسلام في أوائل الروضة بإسناده عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال في خطبته الوسيلة : «أيّها الناس ، لو أنّ الموت يشترى لاشتراه من أهل الدنيا الكريم الأبلج واللئيم الملهوج»(1) .

إيضاح :

(الأبلج) يطلق على المشرق الوجه ، ويطلق أيضاً على الذي وضح ما بين حاجبيه فلم يقترنا ، وهذا عندهم من علامات اليُمْن والبركة .

و(الملهوج) من لهج بالشيء إذا ولع به ، ولعلّ المراد به هنا الحريص .

وقد ذكر العلاّمة المحدّث المجلسيّ للحديث ثلاثة معان :

الأوّل : أن يكون المراد : أنّه لو كان الموت ممّا يمكن أن يشترى لاشتراه الكريم لشدّة حرصه في الكرم وقلّة بضاعته ، كما هو الغالب في أصحاب الكرم حيث لا يجد ما يجود به ، فهو محزون دائماً لذلك ويتمنّى الموت ويشتريه إن وجده ، واللئيم يشتريه ؛ لأنّه لا يحصل له ما هو مقتضى حرصه ، وقد ينقص من ماله شيء بالضرورة ، وهو مخالف لشحّه(2) ، ويرى الناس في نعمة فيحسدهم عليها ، فهو في شدّة لازمة لا ينفكّ عنها بدون الموت فيتمنّاه .

ص: 512


1- . الكافي ، ح 8 ، ص 22 ، ذيل ح4 ؛ حياة أميرالمؤمنين عليه السلام ، ج 2 ، ص 175 ، ح 9 .
2- . في المصدر : «لسجيّته» .

الثاني : أن يكون المراد أنّ الكريم يشتريه ليتخلّص منه البائع ، واللئيم يشتريه لأنّه

حريص على جمع الأشياء كلّها حتّى الموت .

الثالث : أنّ الكريم يشتريه ليرفعه من بين الخلق ، واللئيم يشتريه ليميت جميعهم ويستبدّ بأموالهم(1) .

ويمكن معنى رابع وهو : أنّ الكريم الواسع الطبع يشتريه عند عدم اقتداره على المال ليحسن به إلى الناس،والحريص يشتريه إذا لم يقدر على المال لشدّة حبّه له .

ص: 513


1- . مرآة العقول ، ج 25 ، ص 49 . وراجع : الأنوار النعمانيّة ، ج 4 ، ص 29 .

الحديث الحادي والسبعون :[ إنّ اللّه يكره البخيل في حياته والكريم في مماته ]

ما رويناه عن المحدّث الشريف نعمة اللّه الجزائريّ عنه عليه السلام أنّه قال : «إنّ اللّه يكره البخيل في حياته والكريم في مماته»(1) .

وقد ذكر له معان :

الأوّل : أنّ الكراهة في الموضعين منصرفة إلى القيد ، والمعنى : أنّ اللّه يكره حياة البخيل وموت الكريم .

الثاني : أن يكون المعنى : أنّ اللّه يكره البخيل في وقت حياته ، ويكره الكريم في وقت مماته ، أي الذي يتكرّم عند موته ، بأن يرى أمارات الموت فيبادر إلى التكرّم بالوصايا بالأشياء الواجبة عليه التي كان يبخل بها في الحياة .

الثالث : أن يكون المراد من الكريم في مماته : الذي يتكرّم عند الموت ، لهبته بماله ليضرّ بالورثة .

الرابع : أن يكون المراد : أنّه تعالى يبغض الذي يبخل بالحياة ويريدها ويرجّحها على غيرها من الموت وما بعده ، وكذلك الكريم الذي يريد الموت ويتكرّم على نفسه بالموت ، بل الذي ينبغي للمؤمن أن يكون حاله لا يريد إلاّ ما أراده اللّه تعالى له من موت أو حياة ، وهو المراد من قوله تعالى في دعاء التوجّه : « وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ »(2) ، أي لا أرجّح منهما إلاّ ما رجّحه لي تعالى واختاره ، موتاً أو حياة(3) .

ص: 514


1- . الأنوار النعمانيّة ، ج 4 ، ص 29 ؛ ورواه المجلسيّ في بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 173 ، ح 8 ؛ هكذا : «إنّ اللّه يبغض البخيل في حياته ، والسخي عند وفاته» ؛ الحلوانيّ في نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ، ص 19 ، ح 43 ؛ والسيوطيّ في الجامع الصغير ، ج 1 ، ص 284 .
2- . الأنعام 6 : 162 .
3- . راجع الأنوار النعمانيّة ، ج 4 ، ص 29 .

الحديث الثاني والسبعون

[ طول آدم وحواء حين هبطا إلى الأرض ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام في الروضة عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ،عن الحسن بن محبوب ، عن مقاتل بن سليمان ، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام : كم كان طول آدم عليه السلام حين هُبط به إلى الأرض ؟ وكم كان طول حوّاء ؟ قال : «وجدنا في كتاب عليّ عليه السلام : إنّ اللّه عزّ وجلّ لمّا أهبط آدم وزوجته حوّاء إلى الأرض كانت رجلاه بثنيّة الصفا ورأسه دون اُفق السماء ، وإنّه

شكا إلى اللّه عزّوجلّ ما يصيبه من حرّ الشمس ، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى جبرئيل : إنّ آدم قد شكا ما يصيبه من حرّ الشمس ، فأغمزه غمزة وصيّر طوله سبعين ذراعاً بذراعه، وأغمز حوّاء غمزة فصيّر طولها خمسة وثلاثين ذراعاً بذراعها»(1) .

إيضاح :

الثنيّة في الجبل كالعقبة فيه ، وقيل : هو الطريق العالي فيه ، وقيل : أعلى المسيل في رأسه .

وقوله عليه السلام : (دون اُفق السماء) أي عنده ، أو قريباً منه . والآفاق : النواحي .

وفي الحديث الشريف إشكال من وجوه :

الأوّل : أنّه قد ثبت في محلّه أنّ شعاع الشمس كلّما كان أقرب إلى الأرض وأبعد من السماء كان أحرّ ، وذلك لأنّه إنّما يفعل الحرارة بالانعكاس من جرم كثيف كالأرض وشبهها ، فكيف شكا آدم عليه السلام شدّة حرّ الشمس من فوق ؟

الثاني : أنّه كيف يقصر الإنسان الحيّ بالغمزة مع بقاء حياته ونظام أحشائه وأطرافه ؟

ص: 515


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 233 ، ح 308 ؛ بحار الأنوار ، ج 11 ، ص 127 ذيل ح 57 .

الثالث : أنّ كلّ إنسان تستوي خلقته بحيث ينتفع بأعضائه إنّما طوله بقدر ثلاثة أذرع ونصف ذراع بذراعه تقريباً ، فإن كان أطول من ذلك من غير أن يطول ذراعه بما يقرب من هذه النسبة لم ينتفع من يديه ولم تصل يداه إلى طرفيه ، فكيف يكون طول آدم سبعين ذراعاً بذراعه ، وطول حوّاء خمسة وثلاثين ؟

وقد اُجيب عن الإشكال الأوّل بوجهين :

أوّلاً : أنّه يمكن أن يكون للشمس حرارة من غير جهة الانعكاس أيضاً ، كما يستفاد من بعض الأخبار ، وتكون قامته عليه السلام طويلة جدّاً بحيث يتجاوز الطبقة الزمهريريّة ويتأذّى من تلك الحرارة . ويؤيّده ما ورد في قصّة عوج بن عناق أنّه كان يرفع السمك إلى عين الشمس فيشويه بحرارتها .

ثانياً : أنّ شكايته عليه السلام من حرّ الشمس لم يكن لدنوّه منها ومن حرّها من فوق ، بل لأنّه مع تلك القامة لا يسعه ظلٌّ ولا يكنّه بيت ، فلم يزل ضاحياً يؤذيه حرّ الشمس لذلك ، وبعد قصر قامته ارتفع ذلك ، وكان يمكنه الاستظلال بالأبنية وغيرها .

وعن الثاني بأنّ قدرة اللّه تعالى أعظم من أن يعجزها شيء ، وإن أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فإنّ في الوجود أسباباً خفيّة عجزت عن إدراكها عقول أمثالنا(1) .

وأمّا الإشكال الثالث فقد اُجيب عنه بوجوه :

الأوّل : أنّ استواء الخلقة ليس منحصراً فيما هو معهود الآن ، فإنّ اللّه تعالى قادر على خلق الإنسان على هيئات اُخرى ، كلّ منها فيه استواء الخلقة . ومعلوم أنّ بعض أعضائنا الآن ليست كأعضاء المخلوقين قبلنا بزمان كثير ، وقامتنا ليست كقامتهم ، فالقادر على خلقنا دونهم في القدر ، وعلى تقصير طولنا عن الأوّل قادر على أن يجعل بعض أعضائنا مناسباً للبعض بغير المعهود ، وذراع آدم عليه السلام يمكن أن يكون قصيراً مع طول العضد وجعله ذا مفاصل ، أو ليّناً بحيث يحصل الارتفاق به والحركة كيف شاء كما يمكن بهذا الذراع والعضد .

الثاني : أن يكون المراد بالسبعين سبعين قدماً أو شبراً ، وترك ذكر القدم أو الشبر

ص: 516


1- . راجع : بحار الأنوار ، ج 11 ، ص 127 ؛ والوافي ، ج 26 ، ص 314 ، ذيل ح 25426 .

لما هو متعارف شائع من كون الإنسان سبعة أقدام ، أو أنّ من قرينة المقام كان يُعلم ذلك ، كما إذا قيل : طول الإنسان سبعة ، يتبادر منه الأقدام ، فيكون المراد به أنّه صار سبعين قدماً أو شبراً بالأقدام المعهودة في ذلك الزمان ، كما إذا قيل : غلام خماسيّ ، فإنّه يتبادر منه كونه خمسة أشبار لتداول مثله واشتهاره ، وعلى هذا يكون قوله عليه السلام : «ذراعاً» بدلاً من السبعين بمعنى أنّ طوله الآن - وهو السبعون - بقدر ذراعه قبل ذلك .

وفائدة قوله عليه السلام : «ذراعاً بذراعه» معرفة طوله أوّلاً ، فإنّ من كون الذراع سبعين قدماً مع كونه قدمين ، والقدمان سُبْعا القامة يُعلم منه طوله الأوّل ، فذكره لهذه الفائدة .

على أنّ السؤال الواقع بقول السائل : كم كان طول آدم عليه السلام حين هبط إلى الأرض ؟ يقتضي جواباً يطابقه ، وكذا قوله : كم كان طول حوّاء ؟ فلولا قوله عليه السلام : «ذراعاً بذراعه وذراعاً بذراعها» لم يكن الجواب مطابقاً ؛ لأنّ قوله عليه السلام : «دون اُفق السماء» مجمل ، فأفاد عليه السلام الجواب عن السؤال مع إفادة ما ذكره معه من كونه صار هذا القدر .

وأمّا ما ورد في حوّاء فالمعنى أنّه جعل طول حوّاء خمسة وثلاثين قدماً بالأقدام المعهودة الآن ، وهي ذراع بذراعها الأوّل ، فبالذراع يظهر أنّها كانت على النصف من آدم عليه السلام ولا بعد في ذلك ، فإنّه ورد في الحديث ما معناه أن يختار الرجل امرأة دونه في الحسب والمال والقامة ؛ لئلاّ تفتخر المرأة على الزوج بذلك وتعلو عليه ، فلا بُعد في كونه أطول منها .

الثالث : أن يكون سُبعين بضمّ السين : تثنية سُبع ، والمعنى : أنّه صيّر طوله بحيث صار سُبعي الطول الأوّل ، والسُبعان ذراع من حيث اعتبار الإنسان سبعة أقدام ، كلّ قدمين ذراع بذراعه ، فيكون الذراع بدلاً أو مفعولاً بتقدير : أعني .

وفي ذكر «ذراعاً بذراعه» حينئذٍ الفائدة المتقدّمة لمعرفة طوله أوّلاً في الجملة ، فإنّ سؤال السائل عن الطول الأوّل فقط .

وأمّا حوّاء عليهاالسلام فالمعنى : أنّه جعل طولها خمسه - بضمّ الخاء - أي خُمس ذلك الطول ، وثُلثين تثنية ثلث ، أي ثلثي الخمس ، فصارت خُمساً وثلثي الخمس ، وحينئذٍ التفاوت بينهما قليل ؛ لأنّ السُبعين في آدم أربعة من أربعة عشر ، والخمس وثلثا الخمس من حوّاء خمسة من خمسة عشر ، فيكون التفاوت بينهما يسيراً إن كان

ص: 517

الطولان الأوّلان متساويين ، وإلاّ فقد لا يحصل تفاوت .

والفائدة في قوله «ذراعاً بذراعها» كما تقدّم ، فإنّ السؤال وقع بقوله : وكم كان طول حوّاء ؟ ويحتمل بعيداً عود ضمير خمسه وثلثيه إلى آدم ، والمعنى أيضاً : أنّها صارت خُمس آدم الأوّل [وثلثيه ، فتكون أطول منه ، أو خمسه(1)] وثلثيه بعد القصر فتكون أقصر ، والأوّل أربط وأنسب بما قبله مع مناسبة تقديم الخمس ، ومناسبة الثُلثين له ، ويقرّب الثاني قلّة التفاوت الفاحش على أحد الاحتمالين .

ثمّ قال هذا الموجّه : فإن قلت : ما ذكرت من السُبعين من الأذرع والأقدام ينافي ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «إنّ أباكم كان طوّالاً كالنخلة السحوق ستّين ذراعاً» .

قلت : يمكن الجواب بأنّ ستّين ذراعاً راجع إلى النخلة لا إلى آدم ، فإنّه أقرب لفظاً ومعنى من حيث إنّ السحوق هي الطويلة ، ونهاية طولها لا يتجاوز الستّين غالباً ، فقد

شبّه طوله عليه السلام بالنخلة التي هي في نهاية الطول ، ولا ينافي هذا كونه أطول منها ، فإنّ من التشبيه أن يشبّه شيء بشيء بحيث يكون المشبّه به مشهوراً(2) متعارفاً في جهة من الجهات ، فيقال : فلان مثل النخلة ، ويراد به مجرّد الطول والاستقامة مع أنّه أقصر منها .

ويحتمل كون المراد أنّ آدم صار ستّين ذراعاً ، وهذا التفاوت قد يحصل في الأذرع ، وهو مابين الستّين والسبعين .

أو لأنّ الذراع كما يطلق على المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى قد يطلق على الساعد ولو مجازاً ، وعلى تقدير تثنية سُبع يستقيم ، سواءا رجع إلى آدم أم إلى النخلة .

الرابع : ما نقل عن البهائيّ رحمه الله من أنّ في الكلام استخداماً بأن يكون المراد بآدم - حين إرجاع الضمير إليه - آدم ذلك الزمان من أولاده عليه السلام .

ولا يخفى بُعده عن استعمالات العرف ومحاوراتهم ، مع أنّه لا يجري ذلك في حوّاء إلاّ بتكلّف ركيك . نعم ، يمكن إرجاعها إلى الرجل والمرأة بقرينة المقام ، لكنّه بعيد أيضاً غاية البعد .

ص: 518


1- . اُضيفت من المصدر .
2- . في المرآة : «مشهودا» .

الخامس : ما قاله العلاّمة المحدّث المجلسيّ رحمه الله في الأربعين ومرآة العقول ، وهو : أن يكون إضافة الذراع إليهما على التوسعة والمجاز بأن نسب ذراع جنس آدم إليه وجنس حوّاء إليها ، وهو قريب ممّا سبق .

السادس : ما قاله أيضاً وهو : أن يكون المراد بذراعه الذراع الذي قرّره عليه السلام لمساحة الأشياء ، وهذا يحتمل وجهين :

أحدهما: أن يكون الذراع الذي عمله آدم مخالفاً للذراع الذي عملته حوّاء عليهاالسلام .

وثانيهما : أن يكون الذراع المعمول في هذا الزمان واحداً(1) ، لكن نسب في بيان طول كلّ منهما إليه لقرب المرجع .

السابع : ما قاله أيضاً وهو : أن يكون المراد تعيين حدّ الغمز لجبرئيل بأن يكون المعنى : اجعل طول قامته بحيث يكون بعد تناسب الأعضاء طوله الأوّل سبعين ذراعاً بالذراع الذي حصل له بعد القصر والغمز ، فيكون المراد بطوله طوله الأوّل ، ونسبه إليه باعتبار أنّ كونه سبعين ذراعاً إنّما يكون بعد خلق ذلك الذراع ، فيكون في الكلام شبه قلب ، أي اجعل ذراعه بحيث يكون جزءاً من سبعين جزءاً من طول قامته قبل الغمز .

ومثل هذا الكلام قد يكون في المحاورات ، وليس تكلّفه أكثر من بعض الوجوه التي ذكرها الأفاضل الكرام ، وبه تتّضح النسبة بين القامتين ؛ إذ طول قامة مستوي الخلقة ثلاثة أذرع ونصف تقريباً ، فإذا كان طول قامته الاُولى سبعين بذلك الذراع تكون نسبة القامة الثانية إلى الاُولى نسبة واحد إلى عشرين ، أي نصف عشر ، وينطبق الجواب على السؤال ؛ إذ الظاهر منه أنّ غرض السائل استعلام طول قامته الاُولى ، فلعلّه كان يعرف طول قامته الثانية لاشتهاره بين أهل الكتاب والمحدّثين من العامّة بما رووا عن الرسول صلى الله عليه و آله من ستّين ذراعاً ، فمع صحّة تلك الرواية يعلم بانضمام ما أوردناه في حلّ خبر الكتاب أنّه عليه السلام كان طول قامته أوّلاً ألفا ومائتي ذراع بذراع مَن كان في زمن الرسول صلى الله عليه و آله ، أو بذراع من كان في زمن آدم من أولاده عليه السلام .

ص: 519


1- . في النسخ المطبوع : «في هذا الزمان وذلك الزمان واحدا» .

الثامن : ما قاله أيضاً ، قال : خطر ببالي ولكن وجدته بعد ذلك منسوباً إلى بعض الأفاضل من مشايخنا رحمهم الله وهو أنّ الباء في قوله عليه السلام «بذراعه» للملابسة ، يعني صيّر طول آدم سبعين ذراعاً بملابسة ذراعه ، أي كما قصّر من طوله قصّر من ذراعه لتناسب أعضائه ، وإنّما خصّ بذراعه لأنّ جميع الأعضاء داخلة في الطول بخلاف الذراع ، والمراد حينئذٍ بالذراع في قوله : «سبعين ذراعاً» إمّا ذراع من كان في زمان آدم عليه السلام ، أو من كان في زمان من صدر عنه الخبر . وهذا وجه قريب .

التاسع : ما ذكره بعضٌ وهو : أن يكون الضمير في قوله : «بذراعه» راجع إلى جبرئيل ، أي بذراعه عند تصوّره بصورة رجل ليغمزه .

ولا يخفى بُعده من وجهين :

أحدهما : عدم انطباقه على ما ذكر في هذا الكتاب ؛ إذ الظاهر أنّ «صيّر» هنا بصيغة الأمر ، فكان الظاهر على هذا الحمل أن يكون «بذراعك» ويمكن توجيهه إذا قرء بصيغة الماضي بتكلّف تام .

وثانيهما : عدم جريانه في أمر حوّاء لتأنيث الضمير ، إلاّ أن يتكلّف بإرجاع الضمير إلى اليد ولا يخفى ركاكته وتعسّره(1) .

العاشر : أن يكون الضمير راجعاً إلى الصادق عليه السلام أي أشار عليه السلام إلى ذراعه فقال : صيّره سبعين ذراعاً بهذا الذراع ، أو إلى عليّ عليه السلام لما سبق أنّه كان في كتابه ، وهذا إنّما يستقيم على بعض النسخ ، فإنّ فيها في الثاني أيضاً : بذراعه ، وعلى تقديره أيضاً يندفع الإشكال الأخير في الحلّ السابق أيضاً ، لكن البعد عن العبارة باق(2) .

واعلم أنّ المحدّث الكاشانيّ بعد أن نقل هذا الحديث والإشكال الثالث فيه ، قال ما لفظه : وأمّا عن الثالث فلم يتيسّر لي التفصّي عنه من جهة التفسير ، وأمّا من جهة التأويل فلعلّ طول القامة كناية عن علوّ الهمّة ، وقصر اليد عن عدم بلوغ قدرته إليها ، وتأذّيه

ص: 520


1- . جاء ذكر الوجوه التسعة أيضا في بحار الأنوار ، ج 11 ، ص 127 - 129 ، ذيل ح 57 .
2- . الأربعين ، ص 181 - 186 ؛ مرآة العقول ، ج 26 ، ص 171 - 177 .

بحرّ الشمس عن تأذّيه بحرارة قلبه بسبب ذلك ، وتقصير قامته بوضع يد جبرئيل عن إنزاله إيّاه عن تلك المرتبة من الهمّة إلى مرتبة أدنى ، والعلم عند اللّه (1) . انتهى كلامه .

ولا يخفى ما فيه على الماهر اللبيب ، وهذه التأويلات لا تناسب مذاقهم عليهم السلام .

ثمّ اعلم أنّ الغمز يمكن أن يكون باندماج الأجزاء وتكاثفها ، أو بالزيادة في العرض ، أو بتحليل بعض الأجزاء بأمره تعالى ، أو بالجميع ، واللّه أعلم .

ص: 521


1- . الوافي ، ج 26 ، ص 315 ، ذيل ح 25426 .

الحديث الثالث والسبعون:[ حديث هيت وماتع في ابنة غيلان الثقفيّة ]

ما رويناه بالأسانيد المتقدّمة عن ثقة الإسلام ، عن الحسين بن محمّد وعليّ بن إبراهيم ، عن أبيه جميعاً ، عن جعفر بن محمّد الأشعريّ ، عن عبداللّه بن ميمون القدّاح ، عن أبي عبداللّه عليه السلام عن آبائه قال : «كان بالمدينة رجلان يسمّى أحدهما هيت والآخر ماتع ، فقالا لرجل - ورسول اللّه صلى الله عليه و آله يسمع - : إذا فتحتم الطائف - إن شاء اللّه - فعليك بابنة غيلان الثقفيّة ، فإنّها شموع نجلاء مبتّلة هيفاء شنباء ، إذا جلست تثنّت ، وإذا تكلّمت غنّت ، تقبل بأربع ، وتدبر بثمان ، بين رجليها مثل القدح .

فقال النبيّ صلى الله عليه و آله : لا أراكما من اُولي الإربة من الرجال ، فأمر بهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله فعزب(1) بهما إلى مكان يقال له الغرايا ، وكانا يتسوّقان في كلّ جمعة»(2) .

تنوير وإيضاح :

الظاهر أنّ هذين الرجلين كانا يدخلان أنفسهما في المخنّثين وغير اُولي الإربة ، فلاتستحي النساء منهما .

والمخنّث - بفتح النون - وهو الذي يشبه النساء في أخلاقهنّ وكلامهنّ وحركاتهنّ ، وهو قد يكون خلقة ، وقد يكون تصنّعاً من الفسقة ، ونظير هذا الحديث موجود في طرق الجمهور(3) .

ص: 522


1- . في نسخ الكتاب : «فغرّب» وسيأتي توضيح الكلمة بكلا الاحتمالين .
2- . الكافي ، ج 5 ، ص 523 ، باب اُولي الإربة من الرجال ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 20 ، ص 205 ، ح 25439 ؛ بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 88 ، ح 42 .
3- . راجع : السنن الكبرى ، ج 8 ، ص 224 ؛ وشرح مسلم للنووي ، ج 14 ، ص 162 - 163 .

واختلف في اسمه فقيل - وهو الأشهر - أنّه هيت بالهاء المكسورة بعدها ياء ساكنة مثنّاة من تحت ، وبعدها تاء مثنّاة من فوق .

وقيل : اسمه هنب بالهاء والنون والباء الموحّدتين ، والهنب : الأحمق .

وماتع بالتاء المثنّاة من فوق قبل العين المهملة ، قيل : هو مولى فاختة المخزوميّة ، وكان هو وهيت في بيوت النبيّ صلى الله عليه و آله يعدّهما من غير اُولي الإربة .

وابنة غيلان الثقفيّة منسوبة إلى ثقيف ، وإنّما اعتبر نسبة المضاف دون المضاف إليه مع أنّه أقرب وأخفّ ؛ لأنّ المضاف أصل والمضاف إليه فرع ؛ إذ ذكره لتعريف المضاف أو للتنبيه على أنّ المضاف هاهنا هو الخاطر بالبال ، الحاضر في الخيال ، دون المضاف إليه .

والشموع - بفتح الشين - المرأة المزّاحة ، وقيل : هي اللعوب الضحوك .

والنجلاء : إمّا من نجلت الأرض إذا اخضرّت ، أي خضراء ، أو من النجَل بالتحريك وهو سعة العين ، يقال : عين نجلاء ، أي واسعة .

والمبتّلة بتشديد التاء المفتوحة : هي التي لم يركب لحمها بعضه على بعض ، أو بمعنى منبتلة ، أي منقطعة عن الزوج كناية عن بكارتها .

والهيفاء : الضامرة البطن والكشح ودقيقة الخاصرة . وفي بعض النسخ بالقاف ، أي : طويلة العنق .

والشنباء من الشنب - بالتحريك - وهو البياض والبريق والتحديد في الأسنان .

و(تثنّت) أي ترد بعض أعضائها إلى بعض ، من ثنى الشيء كسعى ، إذا ردّ بعضه إلى بعض فتثنّى ، فيكون كناية عن سمنها ، أو من الثني بمعنى ضمّ شيء إلى شيء ، ومنه التثنية ، فالمعنى : أنّها كانت تثنّي رجلاً واحدة وتضع الاُخرى على فخذها ، كما هو

شأن المغرور بحسنه أو بجاهه من الشبّان ، أو من ثنّيت العود إذا عطفته ، أي إذا جلست انعطفت أعضاؤها وتمايلت كما هو شأن المتبختر المتجبّر ، أو أنّها رشيقة القدّ ليس لها انعطاف إلاّ إذا جلست .

ص: 523

وفي روايات العامّة زيادة: وإذا قعدت ثنيت ، أي فرّجت رجليها لضخم ركبتيها.

(وإذا تكلّمت غنّت) وفي روايات العامّة تغنّت ، وهو إمّا من الغناء ، أو من الغُنّة ، أي تتغنّى في كلامها وتدخل صوتها في الخيشوم ، وقد عُدّ ذلك من علامات التجبّر .

وقوله : (تُقبل بأربع وتدبر بثمان) قيل فيه وجوه :

الأوّل : أنّ لها أربع عُكَن(1) تقبل بهنّ ولهنّ أطراف أربعة من كلّ جانب ، فتصير ثماني تدبر بهنّ ، كذا عن المطرزيّ في المغرب .

وعن الماذريّ : الأربع التي تقبل بهنّ هنّ من كلّ ناحيه ثنتان ، ولكلّ واحدة طرفان ، فإذا أدبرت ظهرت الأطراف ثمانية ، وإنّما أنّث ولم يقل : بثمانية ؛ لأنّ المراد بها الأطراف ، وهي مذكّرة وهو لم يذكر لفظ المذكّر ، ومتى لم يذكره جاز حذف التاء وإثباتها . وفيه وجه آخر ، وهو مراعاة التوفيق بينها وبين أربع .

الثاني : أن يراد بالأربع الثديان واليدان ، يعني أنّ هذه الأربعة بلغت في العظمة حدّاً توجب مشيها مكبّة مثل الحيوانات التي تمشي على أربع ، فإذا أقبلت أقبلت بهذه الأربع ، ولم يعتبر الرجلين لأنّهما محجوبتان خلف الثديين لعظمهما ، فلا تكونان مرئيّتين عند الإقبال ، وإذا أدبرت أدبرت بها مع أربعة اُخرى ، وهي الرجلان والإليتان ؛ لأنّ جميع الثمانية عند الإدبار مرئيّة .

ويؤيّده ما يحكى عن الجزريّ حيث قال :

إنّ سعدا خطب امرأة بمكّة فقيل : إنّها تمشي على ستّ إذا أقبلت ، وعلى أربع إذا أدبرت ؛ يعني بالستّ يديها ورجليها وثدييها ، يعني لعظم يديها وثدييها ، فإنّها تمشي مكبّة ، والأربع رجلاها وإليتاها وإنّهما كادتا تمسّان الأرض لعظمهما ، وهي بنت غيلان الثقفيّة التي قيل فيها : تقبل بأربع وتدبر بثمان ، وكانت تحت عبدالرحمان بن عوف .

ص: 524


1- . العكنة - بالضمّ - : ما انطوى وتثنّى من لحم البطن سمناً ، والعكناء : الناقة الغليظة الأخلاف . انظر : لسان العرب ، ج 13 ص 288 عكن .

الثالث : أن يراد بالأربع الذوائب المرسلة في طرف الوجه في كلّ طرف اثنان مفتول ومرسل ، وبالثمان : الذوائب المرسلة خلفها ، فإنّهنّ كثيراً مّا يقسمنّه ثمانية أقسام ؛ فالمقصود وصفها بكثرة الشعر .

الرابع : أن يكون المراد بالأربع العينين والحاجبين أو الحاجب والعين والأنف والفم ، أو مكان الأنف النحر أو مثل ذلك ، وبالثمان : تلك الأربع مع قلب الناظر ولسانه وعينيه ، أو قلبه وعقله ولسانه وعينه ، أو قلبه وعينيه واُذنه ولسانه .

وقوله : (مثل القدح) شبّه فرجها بالقدح في العظم وحسن الهيئة .

وقوله عليه السلام : (لا أراكما) من اُولي الإربة ، أي ما كنت أظنّكما من اُولي الإربة ، أي الذين لهم حاجة إلى النساء ، بل كنت أظنّ أنّكما لا تشتهيان النساء ، فلذا نفاهما من المدينة لأنّهما كانا يدخلان على النساء ويجلسان معهنّ .

وقوله : (فعُزب بهما) على بناء المفعول بالعين المهملة والزاء المعجمة - كما في أكثر النسخ - وهو البُعد والخروج من موضع إلى آخر ، والباء للتعدية . وفي بعض النسخ بالغين المعجمة والراء المهملة بمعنى النفي عن البلد ، ولا يناسبه التعدية إلاّ

بتكلّف .

(والغرايا) اسم حصن بالمدينة .

وقوله : (يتسوّقان) أي يدخلان سوق المدينة للبيع والشراء .

ونقل عن عياض أنّه لمّا فتحت الطائف تزوّج هذه المرأة عبدالرحمان بن عوف ، وقيل : تزوّجها سعد بمكّة بعد عبدالرحمان .

وفي طرق الجمهور عن اُمّ سلمة : أنّ مخنّثاً كان عندها ورسول اللّه صلى الله عليه و آله في البيت ، فقال لأخي اُمّ سلمة : يا عبداللّه بن أبي اُميّة ، إن فتح اللّه لكم الطائف غداً فإنّي اُدلّك على ابنة غيلان الثقفيّة ، فإنّها تقبل بأربع وتدبر بثمان .

قال : فسمعه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال : «لا يدخلنّ هؤلاء عليكم»(1) .

ص: 525


1- . مسند أحمد ، ج 6 ، ص 290 ؛ صحيح البخاري ، ج 5 ، ص 102 ؛ السنن الكبرى ، ج 8 ، ص 223 .

وعن عائشة ، قالت : كان يدخل على أزواج النبيّ مخنّث ، كانوا يعدّونه من غير اُولي الإربة ، قالت : فدخل النبيّ صلى الله عليه و آله يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة ، قال : فإذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان(1) . وفي بعض الروايات : «تقبل بأربع وتذهب بثمان مع ثغر كالأقحوان ، إن مشت تثنّت ، وإن تكلّمت تغنّت بين رجليها كالإناء المكفئ»(2) .

ص: 526


1- . صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 11 ؛ سنن أبي داود ، ج 2 ، ص 271 ، ح 4107 ؛ السنن الكبرى ، ج 7 ، ص 96 .
2- . الاستذكار لابن عبد البرّ ، ج 7 ، ص 287 ؛ تفسير القرطبي ، ج 12 ، ص 235 .

الحديث الرابع والسبعون:[ كان أمير المؤمنين عليه السلام على سنّة المسيح عليه السلام ]

ما رويناه بأسانيدنا عن الصدوق في العيون بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إنّ اللّه عزّ وجلّ أرسل محمّداً صلى الله عليه و آله إلى الجنّ والإنس ، وجعل من بعده اثني عشر وصيّاً ، منهم من سبق ومنهم من بقي ، وكلّ وصيّ جرت به سنّة ، والأوصياء الذين من بعد محمّد صلى الله عليه و آله على سنّة أوصياء عيسى ، وكانوا اثني عشر ، وكان أميرالمؤمنين عليه السلام

على سنّة المسيح عليه السلام »(1) .

بيان :

يعني كما أنّ الناس افترقوا في المسيح على ثلاث فرق : فبعض النصارى قالوا : هو ابن اللّه كما قال تعالى : « وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ »(2) ، وأمّا اليهود فقد قالوا بكفره وبوجوب قتله حتّى دخلوا عليه ليقتلوه فرفعه اللّه إليه ، وفرقة من النصارى قالوا فيه الحقّ ، كما افترق الناس في مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام ؛ كالغلاة والخوارج والشيعة .

وروي عنه عليه السلام قال : «جئت إلى النبيّ - وهو في ملأ من قريش - فنظر إليّ ثمّ قال : يا عليّ ، إنّما مثلك في هذه الاُمّة كمثل عيسى بن مريم أحبّه قوم فأفرطوا ، وأبغضه قوم فأفرطوا ، فضحك الملأ الذين عنده وقالوا : اُنظروا كيف يشبّه ابن عمّه بعيسى بن مريم .

قال : فنزل الوحي : « وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ »(3) ، قال : يضحكون»(4) .

ص: 527


1- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 59 ، ح 21 ؛ الخصال ، ص 478 ، ح 43 ؛ بحار الأنوار ، ج 36 ، ص 392 .
2- . التوبة 9 : 30 .
3- . الزخرف 43 : 57 .
4- . انظر : بحار الأنوار ، ج 9 ، ص 151 نقلاً بالمضمون .

الحديث الخامس والسبعون :[ في تشبيه الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله بالصلاة على إبراهيم عليه السلام ]

اشارة

ما رويناه بالأسانيد عن الصدوق في العيون بإسناده عن الرضا عليه السلام في حديث طويل قال فيه : «إنّه لمّا نزلت هذه الآية ، وهي قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلَّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً »(1) قيل : يا رسول اللّه ، قد عرفنا التسليم عليك ، فكيف الصلاة ؟ قال : تقولون : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على

إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد»(2) الحديث .

تحقيق :

الصلاة بهذا اللفظ مستفيضة في طرق العامّة والخاصّة ، وهاهنا إشكال مشهور ، وهو : أنّ أرباب فنّ البيان صرّحوا بأنّ المشبّه به ينبغي أن يكون أقوى من المشبّه ، كما تقول : زيد كالأسد ، وهاهنا ليس كذلك ؛ لأنّ نبيّنا صلى الله عليه و آله أشرف من إبراهيم عليه السلام وغيره بالإجماع .

وقد تعرّض علماء الإسلام لدفع هذا الإشكال بوجوه نذكرها على سبيل الإجمال :

الأوّل : أنّ أشدّيّة المشبّه به وأغلبيّته ليست أمراً لازماً(3) ، بل قد يتحقّق التشبيه بدونها كما يقول أحد الأخوين لأبيه : أعطني ديناراً كما أعطيت أخي ، وقد يعدّ منه قوله تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ »(4) ، وقوله تعالى : « أَحْسِن

ص: 528


1- . الأحزاب 33 : 56 .
2- . عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 236 ، قطعة من ح 1 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 25 ، ص 228 ، قطعة من ح 20 .
3- . في لوامع الأنوار ، ص 195 : «أنّ أشدّيّة المشبّه به أغلبيّة وليست أمرا لازما» .
4- . البقرة 2 : 183 .

كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ »(1) .

والحاصل : أنّ التشبيه لأصل الفعل بالفعل لا القدر بالقدر .

الثاني : ما يحكى عن ابن حجر ، وهو : أنّ هذه الصلاة إنّما وقعت قبل أن يُعلم أنّ نبيّنا أفضل من إبراهيم(2) . ولا يخفى ضعفه .

الثالث : ما حكي عنه أيضاً ، وهو : أنّه صلى الله عليه و آله قال ذلك تواضعاً ، وشرّع ذلك لاُمّته ليكسبوا بذلك فضيلة(3) ، وهو كسابقه .

الرابع : أنّ الكاف للتعليل كما في قوله تعالى : « كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ »(4) ، وقوله تعالى : « وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ »(5) .

الخامس : أنّ إبراهيم لمّا كان أفضل من الأنبياء قبله كانت الصلاة عليه أفضل من الصلاة على جميع من قبله ، من الأنبياء وغيرهم ، فكذا الصلاة على نبيّنا أفضل من الصلاة على من قبله ، ومنهم إبراهيم وآل إبراهيم .

واعترض بأنّ هذا لا يحسم مادّة الإشكال إلاّ إذا ثبت أنّ فضل الصلاة على إبراهيم على مَن قبله أفضل من فضل الصلاة على نبيّنا على من قبله ، وإثباته متعسّر أو متعذّر(6) .

واُجيب بأن ليس على المجيب عن الشبهة إثبات ، بل يكفيه الاحتمال .

السادس : ما ذكره جملة من العامّة ، وهو أنّ المشبّه إنّما هو الصلاة على آل محمّد ، فقولنا : «اللّهمّ صلّ على محمّد» ، كلام تامّ غير متّصل بما بعده ، وقولنا : «وآل محمّد كما صلّيت» كأنّه ابتداء كلام .

وفيه : أنّه - مع ركاكته وعدم انتظام الكلام عليه - إنّما يتمشّى على قواعدهم من أفضليّة الأنبياء على الأئمّة عليهم السلام ، وأمّا على اُصولنا فلا يستقيم .

ص: 529


1- . القصص 28 : 77 .
2- . فتح الباري ، ج 8 ، ص 410 ، ونسب الرأي هنا إلى غيره .
3- . فتح الباري ، ج 6 ، ص 294 .
4- . البقرة 2 : 151 .
5- . البقرة 2 : 198 .
6- . حكى المحدّث الجزائري هذا الاعتراض عن الشيخ البهائي ، لوامع الأنوار ، ص 195 .

على أنّه قد ورد في رواياتهم في التشهّد هكذا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، وبارك على محمّد وآل محمّد ، وسلّم على محمّد وآل محمّد ، وترحّم على محمّد وآل محمّد ، كما صلّيت وباركت وسلّمت وترحّمت على إبراهيم وآل إبراهيم(1) ، ولا ريب في أنّ تعاطف هذه الجمل يمنع الجواب .

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ المشبَّه هو الصلاة على إبراهيم وآل إبراهيم ، وآله إنّما هم فيهم أنبياء كثيرون ، والمستفاد من الأخبار إنّما هو تفضيل كلّ واحد من الأئمّة على كلّ واحد من الأنبياء السابقين ، لا فضل كلّ واحد منهم على جميع الأنبياء ، أو على أكثرهم .

السابع : ما ذكره بعضهم ، وهو أنّ المشبَّه به المجموع المركّب من الصلاة على إبراهيم وآله ، ومعظم الأنبياء هم من آل إبراهيم ، والمشبَّه مجموع الصلاة على نبيّنا وآله ، فإذا قوبل جميعهم بآله صلى الله عليه و آله رجحت الصلاة عليهم على الصلاة على آله ، فيكون الفاضل من الصلاة على إبراهيم لمحمّد صلى الله عليه و آله فيزيد به على إبراهيم .

ولا يخفى ركاكته ، مع أنّ ظاهر اللفظ تشبيه الصلاة على محمّد بالصلاة على إبراهيم ، وعلى آله بالصلاة على آل إبراهيم عليه السلام .

الثامن : ما يحكى عن الشهيد في قواعده عند بيان أنّه لا يتعلّق الأمر والنهي ، والدعاء والإباحة ، والشرط والجزاء ، والوعد والوعيد ، والترجّي والتمنّي ، إلاّ بالمستقبل ، فمتى وقع تشبيه بين لفظي دعاء ، أو أمر ، أو نهي ، أو واحد مع الآخر فإنّما يقع بالمستقبل .

قال رحمه الله :

وعلى هذا خرّج بعضهم الجواب عن السؤال المشهور في الصلاة بأنّ الدعاء إنّما يتعلّق بالمستقبل ، ونبيّنا كان الواقع قبل هذا الدعاء أنّه أفضل من إبراهيم ، وهذا الدعاء يطلب فيه زيادة على هذا الفضل مساوية لصلاته على إبراهيم ، فهما وإن

ص: 530


1- . السنن الكبرى للبيهقي ، ج 2 ، ص 379 ؛ الشرح الكبير لابن قدامة ، ج 1 ، ص 580 .

تساويا في الزيادة ، إلاّ أنّ الأصل المحفوظ خال عن معارضة الزيادة(1) .

التاسع : أنّه لا يلزم أن يكون المشبَّه به أقوى من كلّ وجه ، بل يلزم أن يكون شيئاً ظاهراً واضحاً كما في قوله تعالى : « مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ »(2) ، وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى ، لكن لمّا كانت المشكاة أمراً واضحاً ظاهراً في نظر السامع شبّه بها نوره .

ولمّا كان تعظيم إبراهيم وآله أمراً ظاهراً في العالمين ، فلذا شبّه به ، ويؤيّده ما في بعض الدعوات من ضمّ الطلب المذكور بكونه في العالمين .

ولعلّ هذا معنى ما حكي عن الطيّبي أنّه قال : ليس التشبيه المذكور من باب إلحاق الناقص بالكامل ، بل من باب إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر(3) .

العاشر : ما ذكره بعض العامّة وهو : أنّ سبب هذا التشبيه أنّ الملائكة قالت : في بيت إبراهيم : « رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ »(4) ، وقد علم أنّ محمّداً وآل محمّد من أهل بيت إبراهيم ، فكأنّه قال : أجب دعاء الملائكة إذ قالوا ذلك في محمّد وآل محمّد كما أجبته عندما قالوه في آل إبراهيم الموجودين حينئذٍ ، ولذلك ختمها بما

ختمت به الآية ، وهو قوله : «إنّك حميد مجيد»(5) .

الحادي عشر : أنّ المشبّه به هو الصلاة على إبراهيم وآله من لدن خلق الدنيا أو من لدن خلق إبراهيم إلى هذا الآن ، والصلاة على نبيّنا في كلّ آن وإن كان أفضل من الصلاة على إبراهيم أيضاً في هذا الآن ، لكن لا يبعد أن يقال : لمّا كان ظرف الصلاة على النبيّ هذا الآن الجزئيّ ، وظرف الصلاة على إبراهيم مجموع الزمان ا لممتدّ الطويل الذي هذا الآن جزء صغير منه ، كانت الصلاة على إبراهيم في كلّ الزمان

ص: 531


1- . القواعد والفوائد ، ج 2 ، ص 92 .
2- . النور 24 : 35 .
3- . فتح الباري ، ج 11 ، ص 137 .
4- . هود 11 : 73 .
5- . فتح الباري ، ج 11 ، ص 138 نقلاً عن الحليمي .

أفضل من الصلاة على نبيّنا في هذا الآن(1) .

الثاني عشر : أنّ الصلاة بهذا اللفظ جارية في كلّ صلاة على لسان كلّ مصلٍّ إلى انقضاء التكليف ، فيكون الحاصل لمحمّد صلى الله عليه و آله بالنسبة إلى مجموع الصلوات أضعافاً مضاعفة(2) . وفيه نظر .

الثالث عشر : أنّ المعلوم من مذهب الإماميّة إنّما هو فضل كلّ واحد من الأئمّة على كلّ واحد من الأنبياء لا فضل كلّ واحد على جميع الأنبياء ، ولكون إبراهيم وآله مشتملين على ثلاثة من اُولي العزم وآلاف من غير اُولي العزم ، لا ينافي فضل هؤلاء بأجمعهم إذا جمعت فضائلهم وثوابهم على نبيّنا وآله عليهم السلام ، وإن كان فضل كلّ واحد منهم على كلّ واحد من هؤلاء أضعافاً مضاعفة ، إلاّ أنّه إنّما يفهم من بعض الأخبار فضلهم على الجميع .

الرابع عشر : ما اختاره أكثر محقّقي الخاصّة والعامّة ، وهو : أنّه لمّا كان نبيّنا من جملة آل إبراهيم كما أنّ جماعة من الأنبياء كذلك كانت الصلاة على نبيّنا وآله حاصلة في ضمن الصلاة على إبراهيم على الوجه الأتمّ الأكمل ، والمطلوب بقولنا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد (إلى آخره) أن يُخصّوا من اللّه سبحانه بصلاة اُخرى على حِدة مماثلة للصلاة التي عمّتهم وغيرهم ، والصلاة العامّة للكلّ من حيث العموم أقوى من الخاصّة بالبعض(3) .

وقد اُجري هذا الجواب في حلّ خبر الذي روي عن الرضا عليه السلام أنّ المراد بالفداء ا لعظيم في قوله تعالى في إسماعيل : « وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ »(4) : «الحسين عليه السلام »(5) فما يتوهّم من الإشكال بأنّ الفداء يكون أحطّ مرتبة من المفدّى عنه .

ص: 532


1- . حكى المحدّث الجزائري هذا الجواب عن بعض معاصريه ، وقال فيه أخيرا : «وهذا الجواب فيه ما فيه» . لوامع الأنوار ، ص 197 .
2- . نسب المحدّث الجزائري هذا الوجه إلى الشهيد «قدّس سرّه» . لوامع الأنوار ، ص 197 .
3- . راجع : الأنوار النعمانيّة ، ج 1 ، ص 134 - 137 ؛ لوامع الأنوار ، ص 195 - 197 .
4- . الصافّات 37 : 107 .
5- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 187 .

فحاصل جوابه : أنّه لمّا كان نبيّنا صلى الله عليه و آله والحسين وفاطمة وسائر الأئمّة أجمعين من أولاد إسماعيل عليه السلام فلو تحقّق ذبح إسماعيل في ذلك الوقت لم يوجد نبيّنا صلى الله عليه و آله ولا واحد من الأئمّة ، فكأنّه عليه السلام صار فداءا لنفسه وجدّه وأبيه واُمّه وأخيه وأولاده المعصومين جميعاً ولإسماعيل ، ولا شكّ في أنّ مرتبة كلّ السلسلة أعظم من مرتبة الجزء الواحد ،

وهو الحسين عليه السلام .

واُورد على أصل الجواب : أنّه مبنيّ على أن يكون عطف قوله : وآل إبراهيم على إبراهيم مقدّماً على التشبيه حتّى يكون المقصود تشبيه الصلاة على نبيّنا وآله جميعاً بالصلاة على إبراهيم وآله جميعاً فيتمّ التشبيه ؛ إذ لو فرضنا تقدّم الحكم - أعني التشبيه - على العطف لعاد المحذور كما كان ؛ إذ مرجع التشبيه حينئذٍ بالنسبة إلى الصلاة على نبيّنا وآله في هذا الكلام إلى تشبيهين : أحدهما : تشبيهها بالصلاة على إبراهيم ، وثانيهما : تشبيهها بالصلاة على آل إبراهيم ، والمحذور باق في التشبيه الأوّل دون الثاني ، ولكن في تقدّم الحكم على العطف وفي عكسه مشاجرة طويلة بين أهل العربيّة .

تكملة : [الكلام في الفصل بين النبيّ وآله في الصلاة عليهم]

قال العلاّمة المجلسيّ رحمه الله في الأربعين : اشتهر بين الناس عدم جواز الفصل بين النبيّ وبين آله ب- «على» مستدلّين بالخبر المشهور بينهم ، ولم يثبت عندنا هذا الخبر ، وهو غير موجود في كتبنا ، ويروى عن شيخنا البهائيّ رحمه الله أنّ هذا من أخبار الإسماعيليّة ، لكن لم نجد في الدعوات المأثورة عن أرباب العصمة عليهم السلام الفصل بها إلاّ شاذّاً وتركه أولى وأحوط(1) . انتهى .

أقول : بل الفصل بها موجود في كثير من الأدعية والأذكار سيّما في الصحيفة

السجّاديّة(2) ، ولولا خوف الإطالة لتلوت عليك من ذلك شطراً وافراً .

ص: 533


1- . الأربعين ، ص 591 .
2- . راجع : الصحيفة السجاديّة ، ص 105 ، 221 ، 245 ، 255 ، 292 ، 303 ، 349 ، 446 .

تنوير : [الكلام في وجوب الصلاة على النبيّ وآله واستجابها]

قد اختلف في أنّ الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله وآله هل هي واجبة أو مستحبّة ؟ وعلى الأوّل فهل تجب في العمر مرّة أو كلّما ذكر ؟

والخلاف في ذلك واقع بين العامّة وبين الخاصّة :

فالعامّة منهم من قال باستحبابها مطلقاً ، ومنهم من قال بوجوبها في الجملة ، ويصحّ الامتثال بالإتيان بها في العمر مرّة في الصلاة وفي غيرها ، وبعضهم قال : إنّها واجبة في تشهّد آخر الصلاة من غير تعيين المحلّ . وقيل : يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد ، وقيل : إنّها تجب كلّما ذكر النبيّ ، وقيل : إنّها تجب في كلّ مجلس مرّة ولو تكرّر ذكره ، وبعضهم : إنّها تجب في كلّ دعاء(1) .

وأمّا الإماميّة فالمشهور بينهم - بل حكي عليه الإجماع - وجوبها في التشهّد(2) ، وعن الصدوق وجوبها كلّما ذكر النبيّ ، وهو المحكيّ عن صاحب كنز العرفان(3) أيضاً ، وإليه يميل جملة من متأخّري المتأخّرين ، لما استفاض من طرق العامّة والخاصّة عنه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «من ذكرت عنده ولم يصلّ عليّ فدخل النار فأبعده اللّه»(4) ، وقال : «من ذكرت عنده فنسي الصلاة عليّ خُطِئ به طريق الجنّة»(5) ، ونحوها .

ويستفاد من جملة منها تكرارها كلّما تكرّر الذكر ، كتعدّد الكفّارة بتعدّد الموجب .

وهل حكم الضمير والكنية واللقب كالاسم أم لا ؟ وجهان ، أحوطهما الأوّل .

واحتجّ لعدم الوجوب بالأصل والشهرة وعدم تعليمهم عليهم السلام للمؤذّنين وتركهم ذلك مع عدم وقوع نكير لهم كما يفعلون الآن ، ولو كان لنقل إلينا .

ص: 534


1- . راجع : فتح العزيز ، ج 3 ، ص 503 ؛ فتح الوهّاب ، ج 1 ، ص 80 ، مغني المحتاج ، ج 1 ، ص 7 .
2- . انظر : تذكرة الفقهاء ، ج 3 ، ص 227 .
3- . انظر : كنز العرفان ، ج 1 ، ص 133 ؛ زبدة البيان ، ص 84 .
4- . الكافي ، ج 2 ، ص 495 ، باب الصلاة على النبيّ محمّد وأهل بيته ، ح 19 ؛ وسائل الشيعة ، ج 6 ، ص 408 ، ح 8299 ؛ بحار الأنوار ، ج 82 ، ص 279 .
5- . الكافي ، ج 2 ، ص 495 ، باب الصلاة على النبيّ محمّد وأهل بيته ، ح 19 ؛ وسائل الشيعة ، ج 6 ، ص 408 ، ح 8299 ؛ بحار الأنوار ، ج 17 ، ص 31 ، ح 12 مع تفاوت يسير .

وفيه : أنّ الأصل لا يجدي مع وجود النصوص ، وكذا الشهرة مع عدم نصّ معارض .

وأمّا عدم النكير على المؤذّنين فلم يثبت أنّهم كانوا يتركون في زمن النبيّ ومن يقدر على نهيهم من الأئمّة عليهم السلام ، بل لا حجّة في عدم إنكار العلماء أيضاً ؛ لأنّ أزمنتهم كانت أزمنة تقيّة وخوف .

وعدم تعليم المؤذّنين أيضاً غير معلوم ، بل هذه الأخبار العامّة المشهورة تعليم لهم ولغيرهم .

سبك وتحقيق : [هل الصلاة على محمّد وآله نافعة لهم ؟]

اختلف في أنّ الصلاة على محمّد وآله هل تنفعهم شيئاً بأن تكون باعثة لمزيد كمالاتهم ومرتبتهم وأجرهم ، أم لا ، بل هي سبب لحصول الثواب لنا والأجر ؟

فذهب الأكثر إلى أنّهم عليهم السلام قد بلغوا في مرتبة الكمال والفضل مرتبة لا يمكن الزيادة عليها ولا الترقّي عنها ، فإنّهم عليهم السلام قد جمعوا الكمالات النفسانيّة وجميع الفضائل الربّانيّة ، فلم يبق كمال إلاّ حازوه ، ولا فضل إلاّ جمعوه ، بل هم قد بلغوا مرتبة لا يمكن لأحد من البشر الوصول إليها ؛ فصلواتنا عليهم لا تزيدهم شيئاً وإنّما هي باعثة لمزيد أجرنا وثوابنا ، كما أنّك إذا أردت التقرّب لشخص تظهر له موالاة أحبّائه والثناء عليهم حتّى تتقرّب بذلك إليه .

وذهب جملة من محقّقي متأخّري المتأخّرين - ومنهم العلاّمة المجلسيّ(1) وتلميذه المحدّث الشريف الجزائريّ(2) - إلى أنّ صلواتنا عليهم سبب لمزيد قربهم وكمالاتهم ، ولم يدلّ دليل على عدم ترقّيهم عليهم السلام في الكمالات في النشأة الاُخرى ، بل بعض الأخبار يدلّ على خلافه كما ورد في بعض أخبار التفويض أنّه إذا اُفيض شيء على إمام العصر يفاض أوّلاً على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ثمّ على إمام إمام حتّى ينتهي إلى إمام العصر ، حتّى لا يكون آخرنا أعلم من أوّلنا ، بل مراتب قربه وارتباطه ورحماته غير متناهية ، ولا يبعد أن يكونوا دائماً متصاعدين على مدارج القرب والكمال .

ص: 535


1- . الأربعين ، ص 585 .
2- . الأنوار النعمانيّة ، ج 1 ، ص 138 .

ويمكن أن تكون الصلاة سبباً لزيادة المثوبات الاُخرويّة وإن لم تصر سبباً لحصول كمالهم ، وكيف يمنع ذلك عنهم وقد ورد في الأخبار الكثيرة وصول آثار الصدقات الجارية والأولاد والمصحف وغيرها إلى الميّت . وأيّ دليل دلّ على استثنائهم عن تلك الأحكام ؟ بل هم آباء هذه الاُمّة المرحومة والاُمّة أولادهم ، وكلّما صدر عن الاُمّة من خير وطاعة يصل إليهم نفعها وبركتها .

ويمكن أيضاً أن تكون صلواتنا عليهم سبباً لاُمور تنسب إليهم من رواج دينهم وكثرة اُمّتهم واستيلاء قائمهم ، بل تعظيمهم وتبجيلهم وذكرهم في الملأ الأعلى بالجميل والثناء عليهم ، كما ذكر بعض في تفسير الصلاة عليه : أنّ المراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته ، وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في اُمّته وإبداء فضيلته بالمقام المحمود .

وقد ورد في بعض الأخبار في معنى السلام عليهم : أنّ المراد سلامتهم وسلامة دينهم وشيعتهم في زمان القائم عليه السلام (1) .

تتمّة : [هل لعن أعداء محمّد وآله يزيد في عقابهم ؟]

ونظير هذا ما يقال في اللعن على أعدائهم أنّه هل يصير سبباً لزيادة عقابهم أم لا ؟ وعلى الثاني يلزم أن يكون لغواً ، وعلى الأوّل يلزم أن يقاسوا من الشدائد والعذاب بفعل غيرهم ما لا يستحقّونه ، ويمكن التخرّج عن ذلك بوجوه :

الأوّل : أن نختار الشقّ الثاني ، ويقال : الفائدة فيه إظهار بغض أعداء اللّه ، وليس الغرض منه طلب العذاب بل محض إظهار عداوتهم ، فنستحقّ بذلك المثوبات العظيمة ، كما في ذكر كلمة التوحيد المخبر عمّا في الضمير من الاعتقاد الحقّ .

الثاني : أن نختار الشقّ الأوّل ونقول : إنّ مقادير العقوبات ليس إلاّ بتقدير الشارع ، مثلاً : الشارع قرّر على ترك الصلاة عقاب ألف سنة ، وقال لعبده : لا تتركها وإلاّ اُعاقبك كذا وكذا ، فيجد العقل حسن العقاب في تلك المدّة على تركها لأمره بها وتحذيره عن

ص: 536


1- . الأربعين للمجلسي ، ص 586 .

تركها ، وإعلامه كون ذلك العقاب بإزاء تركها ، فكذا هاهنا قرّر الشارع لهؤلاء الأشقياء على قبائح أعمالهم عقاباً في نفسه وعقاباً متوقّفاً على لعن من يلعنهم ، فهم يستحقّون كلّ عقاب يترتّب على كلّ لعن .

الثالث : أن يقال : إنّ اللّه تعالى لا يعاقبهم على قدر استحقاقهم ، فكلّما لعنهم لاعنٌ زِيد بسببه في عقابهم لا يزيد على ما يستحقّونه من العقوبات .

الرابع : أن يقال : إنّ لأعمال هؤلاء قبحاً في نفسه من مخالفة أمر اللّه تعالى وقبحاً آخر من جهة ظلمهم لغيرهم ، ومنع الفوائد التي كانت تترتّب على اقتدار المعصوم واستيلائه وظهوره من المنافع الدنيويّة والاُخرويّة ، ورفع الظلم وكشف الحيرة والجهالات ، ولا يوجد أحد لم يصل إليه من ثمرة تلك الأشجار الملعونات شيء ، بل في كلّ آنٍ يصل إليهم من آثار ظلمهم مضارّ كثيرة ، كما ورد في الأخبار المتظافرة أنّه ما زال حجر عن حجر ولا اُريقت محجمة دم إلاّ وهو في أعناقهما(1) ، يعني الأوّل والثاني ، فكلّ الشيعة مظلومون طالبوا حقوق ، وكلّ لعن طلب حقّ واستعداء عن ظلم ، فيزيد عقابهم على قدر لعن من يلعنهم ، واللّه العالم(2) .

ص: 537


1- . انظر : الكافي ، ج 8 ، ص 102 - 103 ، ح 75 .
2- . راجع : الأربعين للمجلسي ، ص 586 - 587 .

الحديث السادس والسبعون :[ في الطبيب سمّي طبيبا لأنّه يطيّب النفوس ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام في الروضة بإسناده عن الصادق عليه السلام قال : «قال موسى عليه السلام : يا ربّ ، من أين الداء ؟ قال : منّي ، قال : فالشفاء ؟ قال : منّي ، قال : فما يصنع عبادك بالمعالج ؟! قال : يطيّب أنفسهم ؛ فيومئذٍ سمّي المعالج الطبيب»(1) .

بيان :

قوله عليه السلام : (يطيّب) إن كان بالبائين الموحّدتين - كما في بعض النسخ - فالأمر واضح ، وإن كان بالياء المثنّاة والباء الموحّدة - كما في أكثر النسخ - فلا يخلو من إشكال ؛ لأنّ المشتقّ والمشتقّ منه مختلفان ؛ لأنّ أحدهما من المضاعف والآخر من المعتلّ .

ويمكن أن يقال : إنّ المراد من تسميته بالطبيب ليس بسبب تداوي الأبدان عن الأمراض ، بل بسبب تداوي النفوس عن الهموم والأحزان ، فهو إنّما سمّي طبيباً لمعالجته للنفوس فتطيب لذلك .

قال الفيروزآباديّ : الطبّ - مثلّثة الطاء - علاج الجسم والنفس(2) ، فلا يكون الاشتقاق على هذا ملحوظاً ليتكلّف إدخاله تحت أحد أقسام الاشتقاق ، ويمكن أن يكون ذلك مبنيّاً على الاشتقاق الكبير .

ص: 538


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 88 ، حديث الطبيب ، ح 52 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 25 ، ص 221 ، ح 31736 ؛ بحار الأنوار ، ج 59 ، ص 62 ، ح 2 .
2- . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 192 طبب .

الحديث السابع والسبعون:[ إنّ قلوب بني آ دم بين إصبعين من أصابع الرحمان ]

ما رويناه عن المرتضى علم الهدى عن النبيّ صلى الله عليه و آله مرسلاً ، قال : «إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمان ، يصرّفها كيف يشاء»(1) .(2)

وقد ذكر له معاني :

الأوّل : أنّه قد ورد في اللغة والشعر الفصيح إطلاق الإصبع على الأثر الحسن ، ومعناه حينئذٍ : إنّه ما من آدميّ إلاّ وقلبه بين نعمتين جليلتين حسنتين ، وهي نعم الدنيا ونعم الآخرة ؛ لأنّهما نوعان ، ووجه تسمية النعمة بالإصبع أنّه يشار بالإصبع إلى النعمة .

الثاني : أن يكون المقصود تيسير تصريف القلوب عليه تعالى ، كما يقال : هذا الشيء في خنصري وتحت إصبعي ، وهو المراد من قوله تعالى : « وَالْسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ »(3) .

الثالث : أنّه يجوز أن يكون القلب يشتمل عليه جسمان على شكل الإصبعين ، يحرّكه اللّه تعالى بهما ويقلّبه بهما .

الرابع : أنّ المراد بالإصبعين : النقطة السوداء والنقطة البيضاء اللذان في قلب ابن آدم ، كما ورد في الأخبار : أنّ الاُولى تتزايد بتزايد الذنوب حتّى يصير القلب كلّه

ص: 539


1- . في المصدر : «كيف شاء» .
2- . الأمالي للسيّد المرتضى ، ج 2 ، ص 2 ؛ عوالي اللآلي ، ج 1 ، ص 48 ، ح 69 ، وفيه : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمان» ؛ شرح مسلم للنووي ، ج 16 ، ص 204 ، مع اختلاف يسير .
3- . الزمر 39 : 67 .

أسوداً ، كما أنّ القلب إذا فعل أفعال البرّ يتزايد بياضاً حتّى يصير كلّه أبيض(1) .

الخامس : أنّ المراد بهما : أوامر اللّه تعالى ونواهيه اللذين لا يكون التصديق بهما والإذعان إلاّ بالقلب ، فيكون إشارة إلى الأوامر والنواهي ونسخهما في وقت دون آخر .

السادس : أن يكون المراد بهما : اللطف والخذلان ، فإنّه من عمل ما يستحقّ به الألطاف منحه من الألطاف ما يكون هو جلّ شأنه عينه التي بها يبصر ، وسمعه الذي به يسمع ، وقلبه الذي به يفهم ، كما ورد في الحديث المشهور(2) ، ومن استحقّ الخذلان بأعماله أهمله ونفسه حتّى يرد مورد المهالك .

السابع : أنّ المراد بهما ما ورد في بعض الأخبار : أنّ لكلّ إنسان ملكاً عن يمينه وشيطاناً عن يساره ، أحدهما يأمره بالخير والآخر يأمره بالشرّ ، وسمّي كلّ منهما إصبعاً لأنّه مخلوق من مخلوقاته(3) ، واللّه العالم .

ص: 540


1- . انظر : إرشاد القلوب ، ج 1 ، ص 46 ؛ بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 327 ، ح 10 ؛ مستدرك الوسائل ، ج 11 ، ص 333 ، ح 13190 .
2- . عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 103 ، ح 152 ؛ إرشاد القلوب ، ج 1 ، ص 91 ؛ جامع الأخبار ، ص 81 ؛ مفتاح الفلاح ، ص 367 .
3- . هذه الوجوه الأربعة الأخيرة أيداها السيّد الجزائري في الأنوار النعمانيّة ، ج 1 ، ص 72 ، وأضاف وجها آخر بقوله : «ويجوز أن يكون هذا الحديث إشارة إلى الأسرار الإلهيّة التي يفعلها سبحانه بقلب عبده من غير أن يطلعها عليها ؛ لأنّه الذي يحول بين المرء وقلبه ، لكنّ ذلك الصنع منه سبحانه لا يصل إلى حدّ الإلجاء والاضطرار حتّى ينافي التكليف ، فيكون إشارة إلى قول مولانا أمير المؤمنين : «عرفت اللّه بفسخ العزائم ونقض الهمم» .

الحديث الثامن والسبعون :[ سرّ الحقيقة ممّا لا يمكن أن يقال ]

ما رويناه عن الشيخ البهائيّ في الكشكول ، قال : روي إنّ سرّ الحقيقة ممّا لا يمكن أن يقال . والظاهر أنّه من الموضوعات التي وضعتها الصوفيّة ، كما لا يخفى على المتتبّع للأخبار المعصوميّة .

وكيف كان فقد ذكر له البهائيّ رحمه الله محملين :

الأوّل : أنّه مخالف لظاهر الشريعة في نظر العلماء ، فلا يمكن قوله ، وعلى هذا جرى قول مولانا زين العابدين عليه السلام :

يا رُبّ جوهر علم لو أبوح به *** لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا

ولاستحلّ رجال مسلمون دمي *** يرون أقبح ما يأتونه حسنا

الثاني : أنّ العبارة قاصرة عن أدائه غير وافية ببيانه ، فكلّ عبارة قريبة إلى الذهن من وجه ، بعيدة عنه من وجوه ، وعلى هذا جرى قول بعضهم :

وإنّ قميصاً خيط من نسج تسعة *** وعشرين حرفاً عن معانيك قاصر(1)

ص: 541


1- . الكشكول ، ج 3 ، ص 18 ولم ينقله بعنوان الرواية وإنّما قال : قولهم : «إنَّ سرّ ...» .

الحديث التاسع والسبعون :[ إنّ الميّت ليعذّب ببكاء الحيّ عليه ]

ما رويناه عن المرتضى قال : روي عنه عليه السلام : «إنّ الميّت ليعذَّب ببكاء الحيّ عليه»(1).

وفي رواية اُخرى : «إنّ الميّت في قبره يعذّب بالنياحة عليه»(2) .

ووجه الإشكال معارضته للأدلّة العقليّة والنقليّة وآية : « وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى »(3) ، « وَأَن لَّيْسَ لِلاْءِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى »(4) ، وأنّ الإنسان لا يعذّب بفعل غيره .

ووجّه بوجوه :

الأوّل : أنّه إذا أوصى أهله بأن ينوحوا ويبكوا عليه كما كان متعارفاً في الجاهليّة يعذّب بسبب ذلك .

الثاني : أنّ معنى يعذّب ببكاء أهله : أنّه إذا علم ببكائهم ونياحتهم تألّم بسبب ذلك ، فكان عذاباً له .

الثالث : أن يكون المراد ما تعارف في الأعصار السابقة من أنّهم ينوحون على الميّت ويعدّدون أوصافه الجميلة عندهم ، القبيحة عند اللّه ، مثل : قتل الأقران والغارة

على المسلمين ونحو ذلك من الأوصاف التي يعذّب الميّت عليها ، وهم ينوحون بها عليه(5) .

ص: 542


1- . الأمالي للسيّد المرتضى ، ج 2 ، ص 17 ؛ الطرائف ، ص 208 ، ح 304 ؛ مسند أحمد ، ج 1 ، ص 42 ؛ و ج 2 ، ص 38 ؛ صحيح البخاريّ ، ج 2 ، ص 80 ، و81 ؛ صحيح مسلم ، ج 3 ، ص 41 .
2- . الأمالي للسيّد المرتضى ، ج 2 ، ص 17 ؛ مسند أحمد ، ج 1 ، ص 26 و 36 ؛ السنن الكبرى ، ج 4 ، ص 71 .
3- . الأنعام 6 : 164 .
4- . النجم 53 : 39 .
5- . الأنوار النعمانيّة ، ج 4 ، ص 68 .

الحديث الثمانون :

[ قول الحسن البصري : لو غلي دماغه من حرّ الشمس ما استظلّ بحائط صيرفي ]

ما رويناه بالأسانيد عن الصدوق في الفقيه بسنده إلى سدير الصيرفيّ ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : حديث بلغني عن الحسن البصريّ فإن كان حقّاً فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، فقال : وما هو ؟ قلت : بلغني أنّ الحسن يقول : لو غلي دماغه من حرّ الشمس ما استظلّ بحائط صيرفيّ ، ولو تفتّت كبده عطشاً لم يستسق من دار صيرفيّ ماء ، وهو عملي وتجارتي ، وعليه نبت لحمي ودمي ، ومنه حجّي وعمرتي .

قال : فجلس عليه السلام فقال : «كذب الحسن ، خذ سواءا ، وأعط سواءا ، وإذا حضرت الصلاة فدع ما بيدك وانهض إلى الصلاة ، أما علمت أنّ أصحاب الكهف كانوا صيارفة» يعني صيارفة الكلام ولم يعن صيارفة الدراهم(1) .

بيان :

هذا الخبر من متشابهات الأخبار ومضطربات الآثار ، وقد حارت في معناه الأفكار ، واضطربت في فهمه العلماء الأبرار ، فإنّه لا يظهر بحسب الظاهر لقوله عليه السلام في تكذيب الحسن البصريّ : إنّ أهل الكهف كانوا صيارفة الكلام لا صيارفة الدراهم معنى يعتمد عليه وتركن النفس إليه ؛ فذهب بعضهم إلى أنّ هذه الفقرة - أعني قوله : يعني صيارفة الكلام لا صيارفة الدراهم - من كلام الصدوق وقيل : إنّها من كلام الراوي ، وقيل : من كلام الإمام .

أقول : وكيف كان ، فقد رويت هذه الفقرة أيضاً في عدّة أخبار اُخر فيبقى الإشكال

ص: 543


1- . من لا يحضره الفقيه ، ج 3 ، ص 159 ، ح 3583 ؛ الكافي ، ج 5 ، ص 113 ، باب الصناعات ، ح 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 139 ، ح 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 14 ، ص 439 ، ح 15 .

بحذافيره :

فمنها : ما رواه العيّاشيّ في سورة الكهف عن درست عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه ذكر أصحاب الكهف ، فقال : «كانوا صيارفة كلام ولم يكونوا صيارفة دراهم»(1) ونحوه غيره.

وكيف كان ، فقد ذكر علماؤنا رضي اللّه عنهم لتوجيهه وجوهاً :

الأوّل : أن يكون «يعنى» و«لم يعْن» بصيغة المفعول ، فيكون المراد : أنّ الحسن وهم في تأويل ما روي في الصيارفة ، فإنّ المعنيّ بها : صيارفة الكلام لا صيارفة الدراهم بناءا على ما ورد من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله من التهديد لمن يصرّف الكلام في المواعيد وغيرها .

الثاني : أنّ الفعلين المذكورين مبنيّان للفاعل ، أي يعني رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيما ورد منه في ذمّ الصيرفيّ : صيرفيّ الكلام ، كما نبّه عليه ، وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله (2) وذكر تهديده لمن يصرّف الكلام في المواعيد وغيرها ، وحاصله يرجع إلى ما قبله ، والفرق إنّما هو في الصيغة .

الثالث : أنّ المعنى : أنّ صرف الكلام في مقام التقيّة أمر ممدوح وإن كان في غيره مذموماً ، ومقصود الإمام عليه السلام من بيان أنّهم كانوا صيارفة الكلام الترغيب في استعمال التقيّة .

ويؤيّده ما روي عن الراونديّ في قصص الأنبياء عن الصادق عليه السلام وذكر أصحاب الكهف ، فقال : «لو كلّفكم قومكم بما كلّفهم قومهم ما فعلتم فعلهم» . فقيل له : وما كلّفهم قومهم ؟ قال : «كلّفوهم الشرك باللّه ، فأظهروه لهم وأسرّوا الإيمان حتّى جاءهم الفَرَج» .

وقال : «إنّ أصحاب الكهف كذّبوا فآجرهم اللّه ، وصدقوا فآجرهم اللّه» .

وقال : «كانوا صيارفة الكلام ولم يكونوا صيارفة الدراهم» .

وقال : «خرج أهل الكهف على غير ميعاد ، فلمّا صاروا في الصحراء أخذ هذا على

ص: 544


1- . تفسير العيّاشي ، ج 2 ، ص 322 .
2- . كذا في النسخ والمطبوع .

هذا وهذا على هذا العهد والميثاق . ثمّ قال : أظهروا أمركم فأظهروه فإذا هم على أمر واحد ، وهو الدين الحقّ» .

وقال : «إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الكفر ، وثوابهم على إظهارهم الكفر أعظم منه على إسرارهم الإيمان» .

قال : «وما بلغت تقيّة أحد ما بلغت تقيّة أصحاب الكهف أن كانوا يشدّون الزنانير(1) ويشهدون الأعياد ، فأعطاهم اللّه اُجورهم مرّتين»(2) .

وفي قوله عليه السلام : «ما فعلتم فعلهم» نوع شكاية من شيعته في الإفشاء وترك التقيّة .

بقي الكلام : أنّ رواية سدير منساقة للترغيب في صرف الدراهم ولا مدخل لذلك في كون أهل الكهف صيارفة الكلام ، وغاية ما يمكن أن يقال : إنّ أمثال هذه التنظيرات موجودة في الأحاديث :

مثل ما روي في الكافي في باب الكفالة والحوالة عن حفص البختريّ ، قال : أبطأت عن الحجّ ، فقال لي أبو عبداللّه عليه السلام : «ما أبطأك عن الحجّ ؟» فقلت : جعلت فداك ، تكفّلت برجل فخفر بي(3) . فقال : «مالك والكفالات ، أما علمت أنّها أهلكت القرون الاُولى ؟» ثمّ قال : «إنّ قوماً أذنبوا ذنوباً كثيرة فأشفقوا منها وخافوا خوفاً شديداً ، فجاء آخرون فقالوا : ذنوبكم علينا ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ عليهم العذاب ، ثمّ قال تبارك وتعالى : تخافوني واجترأتم عليّ»(4) .

فانظر كيف قاس عليه السلام كفالة الأموال بكفالة الآثام ؟(5) انتهى كلام سلطان العلماء رحمه الله .

ص: 545


1- . الزنانير : جمع زنّار ، وهو ما يشدّه النصارى واليهود على أوساطهم كالحزام . انظر : مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 319 زنر .
2- . قصص الأنبياء للراوندي ، ص 253 .
3- . في المطبوع : «فحضرني» وقريب منه يقرأ في النسخ ، وما أثبت من المصدر ، وخفرت الرجل : إذا نقضت عهده وغدرت به . انظر : مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 291 خفر .
4- . الكافي ، ج 5 ، ص 103 ، باب الكفالة والحوالة ، ح 1 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 14 ، ص 508 - 509 ، ح 35 .
5- . الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 200 - 201 نقلاً عن الفاضل المحقّق خليفه سلطان في حواشيه على كتاب من لا يحضره الفقيه .

وذكر بعض المحقّقين بعد ذكره هذا الكلام أنّ هذا الكلام جيّدٌ إلاّ أنّه لم يأت على الإشكال الذي في الباب .

ويمكن أن يقال : إنّه لمّا كان الصيرفيّ كما يطلق على صيرفيّ النقود كذلك يطلق على صيرفيّ الكلام بالزيادة والتحسين لتحصيل مطلبه منه ، واستشهد بكلام أهل اللغة على هذا الإطلاق .

قال : وأهل الكهف كانوا صيارفة بالمعنى الثاني يعني جهابذة نقّاداً يفصلون بين مبهرج(1) الكلام وصحيحه ، ويميّزون بين خطئه وصوابه ؛ فالواجب أن يقال هنا : إنّه إذا كان الأمر كذلك فكيف يتّجه ذمّ صيارفة الدراهم والإزراء بهم مطلقاً إلى الحدّ الذي ذكره الحسن البصريّ ؟ إذ المدح والذمّ والثواب والعقاب لا يناط بمجرّد الإطلاقات اللفظيّة من حيث هي ، وإنّما يناط بالمعاني ، ولا شبهة في أنّ الفصل بين الصحيح والرديء في الجملة من حيث هو فصل وتمييز ليس بمحرّم ولا مكروه ، وإنّما المحرّم والمكروه فصل خاصّ يقع من بعض الصيارفة(2) .

الرابع : ما قاله بعضهم وحاصله : أنّه ليس في لفظ الصيرفيّ ولا في معناه ما يوجب مقالة الحسن البصريّ ؛ لتحقّقها في أهل الكهف وغيرهم من الصلحاء ، أمّا اللفظ فظاهر ، وأمّا في المعنى فلأنّ معنى الصرف هو المحتال المتصرّف في الاُمور - على ما

صرّح به أهل اللغة - وذلك مشترك بين أصحاب الكهف باعتبار تصرّفهم في الكلام وتمييز الصحيح منه من الفاسد ، واختبار الصحيح للعمل ، وصيارفة الدراهم والدنانير وتبديلها وتمييزهم بين الجيّد والمزيّف ، وإذا كان النقد ممّا لم ينه عنه الشارع كما نبّه عليه بقوله عليه السلام : «خذ سواءا واعط سواءا» ، كتصرّف أصحاب الكهف في الكلام ، ولا قصور في الصيرفيّ من حيث هو صيرفيّ ، ولا من حيث هو صيرفيّ الدراهم ، بل القصور لو كان في تصرّفه الخاصّ(3) . انتهى .

ص: 546


1- . في المصدر : «هرج الكلام» .
2- . الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 201 - 203 .
3- . لم نقف عليه .

الحديث الحادي والثمانون :[ أوصى عيسى إلى شمعون وأوصى شمعون إلى يحيى ]

ما رويناه بالأسانيد عن المحقّق المحدّث البحرانيّ ، قال في بعض الأخبار : وأوصى عيسى بن مريم إلى شمعون بن حمون الصفا ، وأوصى شمعون إلى يحيى ابن زكريّا(1) .

قال :

وهذا بظاهره ينافي ما في الكافي بقوله : عليّ بن محمّد عن بعض أصحابنا ، عن عليّ بن الحكم ، عن عبداللّه بن سليم العامريّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ عيسى بن مريم جاء إلى قبر يحيى بن زكريّا - وكان سأل ربّه أن يحيي له يحيى - فدعاه فأجابه وخرج له من القبر ، فقال : ما تريد منّي ؟ فقال : اُريد أن تؤنسني كما كنت في الدنيا . فقال له : يا عيسى ، ما سكنت عنّي حرارة الموت ، وأنت تريد أن تعيدني وتعود إليّ حرارة الموت ؟! فتركه وعاد إلى قبره»(2) .

وهذا الخبر قد سأل به بعض الفضلاء الشيخ أحمد بن عبدالسلام البحرانيّ(3) يوم الجمعة ، فأجاب بما لفظه : وجهٌ لدفع التناقض - بما وصل إليه فهم أحمد بن عبدالسلام البحرانيّ لا زالت فضائلكم مشهورة وبيوتكم بأنوار الإفادة معمورة - :

ص: 547


1- . الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 379 .
2- . الكافي ، ج 3 ، ص 260 ، باب النوادر ، ح 37 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 170 ، ح 47 ؛ وج 14 ، ص 347 ، ح 7 .
3- . قال المحقّق البحراني : هذا الشيخ المجيب كان من أجلاّء فضلاء بلاد البحرين ، وكان هو الخطيب لشيخنا علاّمة الزمان الشيخ عليّ بن سليمان القدي البحراني يوم الجمعة ؛ لأنّه كان خطيبا مصقعا بليغا . الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 381 .

على تقدير تسليم الحديثين وإنّهما خارجان من آفاق الصدق وبازغان من مطلع الحقّ ، يمكن دفع التنافي المفهوم من ظاهرهما بأنّ عيسى عليه السلام حيث كان باقياً بنشأته الصوريّة في عالم الأفلاك إلى آخر الزمان ، كانت الوصيّة الصادرة من عيسى إلى شمعون عند خروجه بقالبه الصوريّ إلى السماء ، وسؤاله ربّه أن يحيي له يحيى بعد وصيّة شمعون إليه وشهادته على يد الأشقياء ، ولا محذور في ذلك ، بل لولا ذلك لوقع التنافي في الحديث الثاني بعضه ببعض كما يظهر لك أخيراً .

فإن قيل : هذا الكلام يخالف الظاهر في الحديث الثاني : أنّ عيسى بن مريم جاء إلى قبر يحيى بن زكريّا ؛ لأنّ الظاهر من ذلك أنّ وقوع ذلك يوم إذ كان عيسى في العالم العنصريّ قبل عروجه إلى العالم الفلكيّ .

فالجواب : أنّ عروجه إلى العالم الفلكيّ غير مانع من ذلك ، فإنّ المفهوم من الروايات أنّه يزور قبور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام ولا استحالة في ذلك ؛ إذ مجيئه إلى قبور شركائه في النبوّة والولاية أقرب مدركاً من الحكم بمجيء الأرواح المفارقة لأجسادها في هذه النشأة ، مع ثبوت ذلك بالروايات الصحيحة الصريحة .

على أنّ الظاهر من الحديث أنّ المجيء إلى القبر مجيء روحانيّ أو مثاليّ لا صوريّ . وكذا إجابة يحيى وخروجه من القبر إليه ؛ إذ لو كان ذلك محمولاً على هذه النشأة العنصريّة والحياة الفانية لم يكن لاستعفاء يحيى من العود المتعلّق بالقالب الصوريّ وجه يركن إليه ، ولم يكن لتعليقه عدم قبوله للتعلّق الجسمانيّ بالخوف من حرارة الموت معنى يعتمد عليه ؛ لأنّ حمله على ظاهره يستدعي وقوع التعلّق الجسمانيّ وحصول المغايرة التي كانت موجودة قبل الموت ، فكيف يتحقّق الاستعفاء ممّا وقع ؟

أم كيف يعلّل طلب الاستعفاء بالخوف من لحوق حرارة الموت الذي لابدّ من وقوعه على تقدير عوده إلى حالته التي كان عليها من المفارقة الواقعة قبل طلب عيسى ؟

فعلمنا من ذلك كلّه أنّ سؤال عيسى وإجابة يحيى وخروجه كلّ ذلك إمّا في عالم

ص: 548

الأرواح أو عالم المثال ، حينئذٍ فلا يتحقّق التنافي بين الحديثين ، وهذا ما وعدنا به سابقاً بقولنا : كما يظهر لك أخيراً ، واللّه أعلم بالصواب . وفي الحديثين بحث طويل لا يسع المقام ذكره ، والسلام(1) . انتهى .

أقول : لعلّ البحث الطويل الذي أشار إليه ما فيه من الإشكال من أنّه مناف للأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ أجساد الأنبياء لا تبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيّام أو أربعين يوماً ، وقد تقدّم الكلام في ذلك مستقصى .

ص: 549


1- . الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 379 - 381 .

الحديث الثاني والثمانون :[ من عرف الحقّ لم يعبد الحقّ ]

ما رويناه عن المحدّث الحرّ العامليّ ، قال : في بعض الروايات الغير المعتمدة : «من عرف الحقّ لم يعبد الحقّ»(1) .

ثمّ وجّهه على تقدير صحّته باثني عشر وجهاً :

الأوّل : أن يكون المراد بالعبادة في قوله : «لم يعبد الحقّ» الجحود والإنكار ، ويكون المعنى : من عرف الحقّ لم يجحده ولم ينكره ، وهذا المعنى صرّح به أهل اللغة كصاحب القاموس ، وبه فسّر قوله تعالى : « قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ »(2) ، أي الجاحدين(3) .

الثاني : أن يكون يُعبّد بالتشديد بمعنى يذلّل ، أي من عرف الحقّ لم يذلّل الحقّ ، بأن يستخفّ بالطاعات ويرتكب المحرّمات .

الثالث : أن يكون المراد من عرف الحقّ ، أي حقّ المعرفة لم يعبد الحقّ ؛ لأنّ حقّ المعرفة إنّما تحصل يوم القيامة ، وفي ذلك اليوم ينقطع التكليف فلم يعبد الحقّ .

الرابع : أن يكون المعنى من عرف الحقّ ، أي حقّ المعرفة التي تمكّن في الدنيا لم يعبد حقّ العبادة ، فكيف مَن دونه في المعرفة والعبادة .

الخامس : أن يكون المعنى من عرف الحقّ ، أي من عرف اللّه لم يعبد حقّ العبادة ، وبين هذا الوجه وما قبله فرق يظهر بالتأمّل .

ص: 550


1- . الإثنا عشريّة ، ص 91 .
2- . الزخرف 43 : 81 .
3- . مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 94 عبد . ولم نجده في القاموس .

السادس : أن يكون «من» اسم استفهام إنكاريّ بمعنى النفي ، فيكون المعنى : أيّ شخص يعرف الحقّ ولم يعبده ، وحذف الواو في هذا المقام غير مضرّ فهو كقول المتنبّي :

أيّ يوم سررتني بوصال *** لم ترعني ثلاثة بصدود

أي ولم ترعني .

السابع : أن يكون «من» اسم موصول بمعنى الذي ، ويراد بها اللّه سبحانه ، والمراد بالحقّ حقائق الأشياء ، فيكون المعنى : الذي عرف حقائق الأشياء لم يعبد ؛ لأنّه معبود لا عابد .

الثامن : أن يكون المعنى كما تقدّم و«يُعبد» بالبناء للمجهول ، أي من عرف حقائق الأشياء الذي هو اللّه لم يعبد حقّ العبادة .

التاسع : أن يكون المعنى الذي عرف الحقّ ، أي اللّه سبحانه لم يُعبد - بالبناء للمجهول - بالحقّ ؛ لامتناع كونه ربّاً مربوباً وإلهاً مألوهاً .

العاشر : أن يكون المراد ب«الحقّ» الحقّ الواجب للمؤمنين على هذا العارف ، و«لم يعبّد» بالتشديد بالبناء للمعلوم ، أي من عرف الواجب عليه لم يذّلل ذلك الحقّ الواجب ، عليه فيكون يُعبَّد بمعنى يذلّل .

الحادي عشر : أن يكون «عرّف» بالتشديد و«يعبّد» مشدّداً مبنيّاً للمفعول ، أو للفاعل ، ثمّ يجري عليه بعض الوجوه السابقة .

الثاني عشر : أن يراد ب«الحقّ» الثابت كما ذكر سابقاً ويخصُّ بغيره تعالى ، حيث أنّ كنه ذاته تعالى لا تعرف ، وإنّما تتعلّق المعرفة بصفاته تعالى وأسمائه وأفعاله وأنبيائه وحججه ونحوهما(1) ممّا لا يجوز عبادته ؛ فمن عرف علم أنّه غير مستحقّ للعبادة فلم يعبده ، ومن عبده لم يكن عرف اللّه ولا عبده .

ص: 551


1- . كذا في الأصل ، ولعلّ الأنسب : «ونحوها» .

الحديث الثالث والثمانون :[ علماء أُمّتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل ]

ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «علماء اُمّتي أنبياء بني إسرائيل» أو «كأنبياء بني إسرائيل» ، أو «أفضل من أنبياء بني إسرائيل»(1) .

وهذا الحديث لم نقف عليه في اُصولنا وأخبارنا بعد الفحص والتتبّع ، والظاهر أنّه من موضوعات العامّة ، وممّن صرّح بوضعه من علمائنا المحدّث الحرّ العامليّ في الفوائد الطوسيّة(2) ، والمحدّث الشريف الجزائريّ(3) . وكيف كان ، فيمكن توجيهه بوجهين :

الأوّل : أنّ المراد بالعلماء الأئمّة ، ووجه الشبه العصمة أو الحجّيّة على الخلق أو الفضل عند اللّه ، وذلك لا ينافي ما ثبت من كون كلّ من الأئمّة أفضل من كلّ واحد من أنبياء بني إسرائيل ؛ لأنّ المراد التشبيه بالمجموع ، ولو سلّم يكون من عكس التشبيه ، وهو شائع .

ويؤيّد هذا الوجه ما تظافر من الأخبار الواردة عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام ومن قولهم عليهم السلام : «نحن العلماء وشيعتنا المتعلّمون وسائر الناس غثاء»(4) .

ص: 552


1- . أوائل المقالات للشيخ المفيد ، ص 178 ؛ المزار للمفيد ، ص 6 ؛ عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 77 ، ح 67 ؛ بحار الأنوار ، ج 24 ، ص 307 ، ح 6 .
2- . الفوائد الطوسيّة ، ص 376 واُورد فيه اثنا عشر وجها في توجيه الحديث .
3- . لم نقف على مقالة المحدّث الجزائري .
4- . بصائر الدرجات ، ص 8 ، ح 1 - 6 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 34 ، باب أصناف الناس ، ح 4 ؛ الخصال ، ج 1 ، ص 123 ، ح 115 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 18 ، ح 33094 ، وص 68 ، ح 33220 . والغثاء : الزبد والهالك والبالي من ورق الشجر المخالط زبد السيل . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 1726 غثا .

الثاني : أن يكون المراد بالعلماء : علماء الاُمّة من الفرقة المحقّة والطائفة الحقّة ، سيّما الذين أتوا في الغيبة الكبرى ، ولم يروا النبيّ صلى الله عليه و آله ولم يدركوا الوصيّ ، وثبتوا على الإيمان كما ورد مدحهم في القرآن بقوله : « الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ »(1) على ما استفاضت به الأخبار(2) .

ووجه الشبه إمّا في قرب المرتبة عند اللّه تعالى ، أو في وجوب العمل بأقوالهم والرجوع إلى أحكامهم ، أو الكثرة والانتشار في الأقطار والأمصار ، أو وجودهم في كلّ عصر وزمان ، أو تحمّلهم للمشاقّ العظيمة الكثيرة من الظلم والخوف أو نحو ذلك .

ص: 553


1- . البقرة 2 : 3 .
2- . راجع : كنز الدقائق ، ج 1 ، ص 86 .

الحديث الرابع والثمانون :[ كلّ العلوم في باء بسم اللّه ]

ما رويناه عن المحدّث الشريف الجزائريّ في شرح العيون عن مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام قال : «كلّ العلوم تتدرّج في الكتب الأربعة ، وعلومها في القرآن ، وعلوم القرآن في الفاتحة ، وعلوم الفاتحة في بسم اللّه الرحمن الرحيم ، وعلومها في باء بسم اللّه» .

حكي عن الفاضل النيشابوريّ أنّه قال في معنى هذا الحديث : وذلك لأنّ المقصود من كلّ العلوم وصول العبد إلى الربّ ، وهذه الباء للإلصاق ، فهي توصل العبد إلى الربّ ، وهو نهاية الطلب ، وأقصى الأمد .

وفي رواية اُخرى أنّه قال : «وأنا النقطة تحت الباء» .

قيل : ولعلّ معناه أنّه عليه السلام يميّز العلوم ويبيّنها ، كما أنّ النقطة تحت الباء تميّزها عمّا يشاركه في المركز من التاء والثاء والياء(1) .

ويمكن أن يكون المراد بالنقطة الوحدة والبساطة ، ويكون المعنى أنّه هو الفرد الذي لا يشاركه أحد في علومه وغرائب أحواله ، وعلى ذلك يحمل ماورد من أنّ «العلم نقطة كثّرها الجاهلون»(2) ، فتأمّل .

ص: 554


1- . لوامع الأنوار ، ص 255 مخطوط ؛ وحكاه في نور البراهين ، ج 2 ، ص 3 ، ح 1 .
2- . عوالي اللآلي ، ج 4 ص 129 ، ح 223 .

الحديث الخامس والثمانون :[ إنّ للّه اثني عشر ألف عالَم ]

ما رويناه بالأسانيد السابقة عن الصدوق في الخصال بإسناده عن الصادق عليه السلام قال : «إنّ للّه عزّ وجلّ اثني عشر ألف عالَم ، كلّ عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين ، ما يرى عالَم منهم أنّ للّه عالماً غيرهم ، وإنّي الحجّة عليهم»(1) .

وعن محمّد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : «لقد خلق اللّه في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليسوا هم من ولد آدم عليه السلام ، خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحداً بعد واحد مع عالمه ، ثمّ خلق اللّه آدم أبا البشر ، وخلق ذرّيّته منه»(2) ، الحديث .

وفي الخصال والتوحيد عن جابر بن يزيد ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : « أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ »(3) . قال : يا جابر ، تأويل ذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم وأسكن أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، جدّد اللّه عزّ وجلّ عالماً غير هذا العالم ، وجدّد عالماً من غير فحولة ولا إناث يعبدونه

ويوحّدونه ، وخلق لهم أرضاً غير هذه الأرض تحملهم ، وسماء غير هذه السماء تظلّهم ، لعلّك ترى أنّ اللّه عزّ وجلّ إنّما خلق هذا العالم الواحد وترى أنّ اللّه لم يخلق بشراً غيركم ؟ بلى واللّه ، لقد خلق اللّه تبارك وتعالى ألف ألف عالم ، وألف ألف آدم ، أنت في آخر تلك العوالم ، واُولئك الآدميّين»(4) .

وروى الثقة الجليل محمّد بن الحسن الصفّار في البصائر بإسناده عن الحسن بن عليّ عليه السلام

ص: 555


1- . الخصال ، ج 2 ، ص 639 ، ح 14 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 27 ، ص 41 ، ح 1 .
2- . الخصال ، ج 2 ، ص 358 ، صدر ح 45 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 8 ، ص 374 ، ح 1 .
3- . ق 50 : 15 .
4- . الخصال ، ج 2 ، ص 652 ، ح 54 ؛ التوحيد ، ص 277 ، ح 2 ؛ ونقله عن الخصال في بحار الأنوار ، ج 8 ، ص 374 - 375 ، ح 2 .

قال : «إنّ للّه تعالى مدينتين إحداهما بالمشرق والاُخرى بالمغرب ، عليهما سور من حديد ، وعلى كلّ مدينة منهما سبعون ألف ألف مصراع من ذهب ، وفيها سبعون ألف ألف لغة ، يتكلّم كلّ لغة بخلاف لغة صاحبه ، وأنا أعرف جميع اللغات ، وما فيها وما بينهما وما عليهما حجّة غيري وغير الحسين أخي»(1) .

وبإسناده عن أبي عبداللّه عليه السلام ، عن أبيه ، عن عليّ بن الحسين عليه السلام ، عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال : «إنّ للّه بلدة خلف المغرب يقال لها : «جابلقا» ، وفي جابلقا سبعون ألف اُمّة ، ليس منها اُمّة إلاّ مثل هذه الاُمّة ، فما عصوا اللّه طرفة عين ، وما يعملون من عمل ولا يقولون قولاً إلاّ الدعاء على الأوّلَين والبراءة منهما ، والولاية لأهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله »(2) .

وبإسناده عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ من وراء أرضكم هذه أرضاً بيضاء ، ضوؤها منها ، فيها خلق يعبدون اللّه لا يشركون به شيئاً ، يتبرّؤون من فلان وفلان»(3) .

وبإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إنّ اللّه خلق جبلاً محيطاً بالدنيا من زبرجد أخضر ، وإنّ خضرة السماء من خضرة ذلك الجبل ، وخلق خلقاً لم يفترض عليهم شيئاً ممّا افترض على خلقه من زكاة وصلاة ، وكلّهم يلعن رجلين من هذه الاُمّة وسمّاهما»(4) .

قيل : إنّما وصف عليه السلام الجبل بالخضرة لتوسّطه بين ذلك العالم الروحانيّ الموصوف بالنور والبياض ، وهذا العالم الجسمانيّ الموصوف بالظلمة والسواد .

وبإسناده عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ وراء عين شمسكم هذه أربعين عين شمس فيها خلق كثير ، وإنّ من وراء قمركم هذا أربعين قمراً ، فيها خلق كثير لا يدرون أنّ اللّه خلق آدم أم لم يخلقه ، ألهمهم إلهاماً لعن فلان وفلان»(5) .

ص: 556


1- . بصائر الدرجات ، ص 338 - 339 ، باب في الأئمّة عليهم السلام أنّهم يعرفون ... ، ح 4 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 462 ، باب مولد الحسن بن عليّ ... ، ح 5 ؛ ونقله عن البصائر في بحار الأنوار ، ج 27 ، ص 41 ، ح 2.
2- . بصائر الدرجات ، ص 490 ، باب في الأئمّة عليهم السلام أنّ الخلق ... ، ح 1 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 30 ، ص 195 - 196 ، ح 58 .
3- . بصائر الدرجات ، ص 490 ، باب في الأئمّة عليهم السلام أنّ الخلق ... ، ح 2 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 30 ، ص 196 ، ح 59 .
4- . بصائر الدرجات ، ص 492 ، باب في الأئمّة عليهم السلام أنّ الخلق ... ، ح 6 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 27 ، ص 47 ، ح 10 ؛ و ج 30 ، ص 196 ، ح 61 ؛ و ج 57 ، ص 120 ، ح 9 .
5- . بصائر الدرجات ، ص 490 ، باب في الأئمّة عليهم السلام أنّ الخلق الذي خلف ، ح 3 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 30 ، ص 196 ، ح 60 .

وعن عبيداللّه بن عبداللّه الدهقان عن أبي الحسن عليه السلام قال : سمعته يقول : «إنّ للّه خلف هذا النطاق زبرجدة خضراء ، فمن خضرتها اخضرّت السماء» . قال : قلت : وما النطاق ؟ قال :

«الحجاب ، وللّه وراء ذلك سبعون ألف عالم أكثر من عدد الإنس والجنّ»(1) .

وعن عبدالصمد بن عليّ ، قال : دخل رجل على عليّ بن الحسين عليه السلام فقال له : «من أنت ؟» قال : منجّم ، قال : «فأنت عرّاف !» قال : فنظر إليه ثمّ قال : هل أدلّك على رجل قد مرّ منذ دخلت علينا في أربعة عشر عالَماً كلّ عالم أكبر من الدنيا ثلاث مرّات ، لم يتحرّك من

مكانه ؟ قال : من هو ؟ قال : «أنا»(2) .

وفي رواية اُخرى : «اثني عشر عالماً»(3) .

وروى القمّيّ في تفسيره عن عبداللّه بن عبّاس في قوله تعالى : « رَبِّ الْعالَمِينَ »(4) قال : إنّ اللّه خلق ثلاثمائة عالماً وبضعة عشر عالماً خلف قاف ، وخلف البحار السبعة ، لم يعصوا اللّه طرفة عين ، ولم يعرفوا آدم ولا ولده(5) ، الحديث .

وروى ثقة الإسلام في الكافي عن عجلان بن صالح في الصحيح ، قال : دخل رجل على أبي عبداللّه عليه السلام فقال له : جعلت فداك ، هذه قبّة آدم عليه السلام ؟ قال : «نعم ، وللّه قباب كثيرة ، ألا إنّ خلف مغربكم هذا تسعة وثلاثين مغرباً ، أرضاً بيضاء مملوّة خلقاً ، يستضيئون بنوره لم يعصوا اللّه طرفة عين ، ما يدرون خلق آدم أم لم يخلق ، يبرؤون من فلان وفلان»(6) .

وعن الثماليّ قال : قام أبو جعفر عليه السلام ليلة وأنا عنده ونظر إلى السماء ، فقال : «يا أبا حمزة ، هذه قبّة أبينا آدم ، وأنّ للّه تعالى سواها تسعة وثلاثين قبّة فيها خلق ما عصوا اللّه طرفة عين»(7) .

ص: 557


1- . بصائر الدرجات ، ص 492 ، باب في الأئمّة أنّ الخلق الذي خلف ، ح 7 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 30 ، ص 197 - 198 ، ذيل ح 62 مع تفاوت يسير ، وفي آخره : + «وكلّهم يلعن فلانا وفلانا» .
2- . بصائر الدرجات ، ص 400 - 401 ، باب ما اُعطي الأئمّة من القدرة ، ح 13 ؛ الاختصاص ، ص 319 - 320 ، وعنهما في بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 26 - 27 ، ح 12 . مع تفاوت يسير فيها .
3- . لم نعثر عليه .
4- . الفاتحة 1 : 2 .
5- . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 409 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 54 ، ص 322 ، ح 4 .
6- . الكافي ، ج 8 ، ص 231 ، حديث القباب ، ح 301 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 54 ، ص 335 ، ح 22 .
7- . الكافي ، ج 8 ، ص 231 ، حديث القباب ، ح 300 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 54 ، ص 335 ، ح 21 .

بيان :

لا بُعد في حمل هذه الأخبار على ظواهرها من دون التزام تأويل فيها .

ونقل عن المقدسيّ - وهو من أعاظم حكماء الإسلام - أنّه قال في كتاب إخوان الصفا : إنّ البلاد المعمورة في الربع المسكون من الأرض عدّتها سبعة عشر ألف مدينة وكسْر ، فعلى هذا يمكن أن يكون المراد بالعوالم : المدن ؛ للتفاوت الفاحش المشاهد في أحوال المدن وأوضاعها من تباين ثمارها ونباتاتها وحيواناتها ، واختلاف سكّانها في ألسنتهم وألوانهم وشمائلهم وأخلاقهم وسائر أحوالهم الصوريّة والنفسانيّة وغير ذلك من مقتضيات الطوالع والعرض والطول والتراب والأهوية المتخالفة .

فبسبب هذه الاختلافات يدّعى أنّ كلاًّ منها عالم على حدة ، وهذا مجاز معروف مشهور حتّى بالنسبة إلى الأشخاص كما يقال : إنّ فلاناً عالم آخر .

ويمكن بضميمة عدّ السماوات والأفلاك الكلّيّة والجزئيّة وطبقات العناصر وكائنات الجوّ من الغيوم والأمطار والثلوج والبروق والرعود والشهب وجميع أصناف النجوم والكواكب وأقسامها والبحار وما فيها من العجائب ، وبالجملة فهذا كلّه ممكن(1) .

ويبقى الكلام في التوفيق بين الروايات المذكورة من الاختلاف في عدد العوالم المخلوقة الآن الموجودة بالفعل كلّ منها في محلّه الذي يعلمه اللّه ، وقد حاول بعض المحقّقين الجمع بينها بأنّ حديث الاثني عشر ألف يدلّ على عدد العوالم المتعاقبة المتجدّدة في محلّ هذا العالم المحسوس الذي نحن فيه ، وكذا حديث الألف ألف ، فيجمع بينهما بحمل السبعة على الأنواع ، ويكون لكلّ منهما عدّة كثيرة من الأفراد بحيث يبلغ المجموع ألف ألف ، والسبعون ألف في حديث الدهقان يكون محمولاً على العدد الكثير كما هو الشائع المعروف ، فلا ينافي الاثني عشر ألف .

وإن اُريد فيه الحقيقة فليحمل على الأفراد ويكون الاثنا عشر ألف محمولاً على الأنواع نظير ما تقدّم ، والثلاثمائة وبضعة عشر في حديث ابن عبّاس على الأجناس ، أو

ص: 558


1- . لم نعثر عليه .

أنّ الثلاثمائة وبضعة عشر هي العوالم التي خلف قاف والبحار السبعة ، والبواقي في غيرها من الأماكن .

مع أنّ حديث ابن عبّاس لا يعوَّل عليه في مقابلة أخبار أرباب العصمة عليهم السلام .

وفي حديث الأربعة عشر وما يقرب منه إنّما يدلّ على أنّه عليه السلام قد مرّ في ساعته تلك على أربعة عشر عالماً ، ولا يدلّ على انحصار العوالم في ذلك .

وكون القباب أربعين لا ينافي كون العوالم أكثر من ذلك ؛ لاحتمال كون الزيادة على غير هذه الهيئة الكرويّة .

على أنّ مفهوم العدد ليس بحجّة كما حقّق في محلّه .

ويمكن في حديث السبعين ألف وجه آخر ، وهو أن يكون المراد : الاُمم التي في جابلقا كما يدلُّ عليه حديث البصائر المتقدّم .

واعلم أنّ طائفة من الإشراقيّين وحكماء الإسلام أوّلوا الروايات المذكورة بما أثبتوه من النشأة المثاليّة المتوسّطة بين عالمي المعقول والمحسوس ، وقالوا : إنّه عالم نورانيّ من نفسه ، ولذا قال عليه السلام : «يستضيئون بنوره» أي بنور ذلك العالم . وقال عليه السلام : «ضوؤها منها» ، ووصف بالخضرة - في رواية الدهقان - لتوسّطه بين العالم الروحانيّ الموصوف بالبياض والنور ، والعالم الجسمانيّ الموصوف بالظلمة والسواد .

ونقل عن المحقّق التفتازانيّ في شرح المقاصد أنّة قال : ذهب بعض المتألّهين من الحكماء والمتأخّرين ، ونسب إلى القدماء أنّ بين عالمي المحسوس والمعقول واسطة تسمّى عالم المثال ، ليس في تجرّد المجرّدات ولا في مخالطة الماديّات ، وفيه لكلّ موجود من المجرّدات والأجسام والأعراض والحركات والسكنات والأوضاع والهيئات والطعوم والروائح مثال قائم بذاته ، معلّق لا في مادّة ومحلّ ، يظهر للحسّ بمعونة مظهره كالمرآة والخيال والماء والهواء ونحو ذلك ، وقد ينتقل من مظهر إلى مظهر ، وقد يبطل كما إذا فسدت المرآة والخيال ، أو زالت المقابلة أو التخيّل .

وبالجملة ، هو عالم عظيم الفسحة غير متناه ، يحذو حذو العالم الحسّيّ في دوام حركات أفلاكه المثاليّة وقبول عناصره ومركّباته وإشراقات العالم العقليّ .

وهذا ما قال الأقدمون : إنّ من الوجود عالماً مقداريّاً غير العالم الحسّيّ ، لا تتناهى

ص: 559

عجائبه ولا تحصى مدنه ، ومن جملة تلك المدن جابلقا وجابرسا ، وهما مدينتان عظيمتان لكلّ منهما ألف باب ، لا يحصى ما فيهما من الخلائق ، ومن هذا العالم تكون الملائكة والجنّ والشياطين والغيلان(1) ؛ لكونها من قبيل المثال والنفوس الناطقة الفارقة الظاهرة فيها ، وبه تظهر المجرّدات في الصور المختلفة بالحسن والقبح واللطافة والكثافة وغير ذلك بحسب استعداد الفاعل والقابل .

وعليه بنوا أمر المعاد الجسمانيّ ، فإنّ البدن المثاليّ الذي تتصرّف فيه النفس حكمه حكم البدن الحسّيّ في أنّ له جميع الحواسّ الظاهرة والباطنة ، فيتلذّذ ويتألّم باللذّات والآلام الجسمانيّة . وأيضاً يكون من الصور المعلّقة نورانيّة فيها نعيم السعداء ، وظلمانيّة فيها عذاب الأشقياء ، وكذا أمر المنامات وكثير من الإدراكات ، فإنّ جميع ما يرى في المنام أو يتخيّل في اليقظة بل يشاهد في الأمراض وعند غلبة الخوف ونحو ذلك من الصور المقداريّة التي لا تحقّق لها في عالم الحسّ كلّها من عالم المثل ، وكذا كثير من الغرائب وخوارق العادات .

كما يحكى عن بعض الأولياء أنّه مع إقامته ببلدته كان من حاضري المسجد الحرام أيّام الحجّ ، وأنّه ظهر من بعض جدران البيت ، أو خرج من بيت مسدود الأبواب والكُوّات(2) ، وأنّه أحضر بعض الأشخاص أو الثمار أو غير ذلك من مسافة بعيدة في زمن قريب إلى غير ذلك .

ونقل بعضهم عن المعلّم الأوّل نقلاً عن هرمس وفيثاغورس وانباذفلس وأفلاطون وغيرهم من أفاضل القدماء أنّ في الوجود عوالم اُخر ذوات تقادير ، غير هذا العالم الذي نحن فيه وغير النفس والعقل ، وفيها العجائب والغرائب ، وفيها من البلاد والعباد

والبحار والأنهار والأشجار والصور المليحة والقبيحة ما لا يتناهى ، ويقع هذا العالم في الإقليم الثامن الذي فيه جابلقا وجابرسا ، وهو إقليم ذات العجائب ، وهي في

ص: 560


1- . الغيلان : جمع الغول ، وهي جنس من الجن والشياطين . انظر : النهاية ، ج 3 ، ص 396 غول .
2- . الكوّات : جمع الكوّة ، النقبة في الحائط غير النافذة ويقال لها بالفارسية : روزنه . انظر : مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 364 (كوى) .

وسط ترتيب العوالم ولابدّ لك من المرور عليه ، وقد يشاهد هذا العالم بعض الكهنة والسحرة وأهل العلوم الروحانيّة فعليك بالإيمان بها وإيّاك والإنكار(1) .

وقال : المحدّث الكاشانيّ في روضة الوافي بعد حديث القباب :

نُقل عن الحكماء الأقدمين أنّ في الوجود عالماً مقداريّاً غير العالم الحسّيّ ، لا تتناهى عجائبه ولا تحصى مدّته ، من جملة تلك المدن جابلقا وجابرسا ، وهما مدينتان عظيمتان ، لكلّ منهما ألف باب ، لا يحصى ما فيها من الخلائق .

وقال بعض أهل العلم : في كلّ نفس خلق اللّه عوالم يسبّحون الليل والنهار ولا يفترون ، وخلق اللّه من جملة عوالمها عالماً على صورنا إذا أبصره العارف يشاهد نفسه فيه .

ثمّ قال : وكلّ ما فيها حيّ ناطق وهي باقية لا تفنى ولا تتبدّل ، وإذا دخل بها العارفون إنّما يدخلون بأرواحهم لا بأجسامهم ، فيتركون هياكلهم في هذه الأرض الدنيا ويتجرّدون ، وفيها مدائن لا تحصى بعضها يُسمّى مدائن النور ، لا يدخلها من العارفين إلاّ كلّ مصطفى مختار ، وكلّ حديث وآية وردت عندنا فصرفها العقل عن ظاهرها وجدناها على ظاهرها في هذه الأرض ، وكلّ جسد يتشكّل فيه الروحانيّ من ملك وجنّ ، وكلّ صورة يرى الإنسان فيها نفسه في النوم فمن أجساد هذه الأرض . انتهى كلامه .

ونحن قد بيّنّا ذلك بالبراهين في كتابنا المسمّى ب- عين اليقين ، فليطالعه ثمّة من كان من أهله(2) .

أقول : هذا كلام محيي الدين في الفتوحات ، نقله بأدنى اختصار وزاد فيها : وقد أشار إلى ذلك عبداللّه بن عبّاس فيما روي عنه في حديث هذه الكعبة وأنّها بيت واحد من أربعة عشر بيتاً ، وأنّ في كلّ أرض من الأرضين السبع خلقاً مثلنا حتّى أنّ فيهم ابن عبّاس مثلي ، وصدقت هذه الرواية عند أهل الكشف ... وكلّ ما فيها حيّ

ص: 561


1- . بحار الأنوار ، ج 54 ، ص 351 نقلاً عن شرح المقاصد .
2- . الوافي ، ج 26 ، ص 480 ؛ عين اليقين ، ج 1 ، ص 273 - 277 .

ناطق ، إلى آخر ما تقدّم(1) .

وقال الشيخ البهائيّ في الأربعين - بعد تحقيق أنّ الأرواح بعد مفارقة الأبدان تنتقل إلى أبدان مثاليّة ذوات جهتين متوسّطة بين العالمين - ما لفظه :

وهذا يؤيّد ما قاله طائفة من أساطين الحكماء من أنّ في الوجود عالماً مقداريّاً غير العالم الحسّيّ هو واسطة بين عالم المجرّدات وعالم الماديّات ، ليس في تلك اللطافة ولا في هذه الكثافة ، فيه للأجسام والأعراض من الحركات والسكنات والأصوات والطعوم والروائح وغيرها مُثُل ، قائمة فيه بذواتها ، معلّقة لا في مادّة ،

وهو عالم عظيم الفسحة ، وسكّانه على طبقات متفاوتة في اللطافة والكثافة وقبح الصور وحسنها ، ولأبدانهم المثاليّة جميع الحواسّ الظاهرة والباطنة ، فيتنعّمون ويتألّمون باللذّات والآلام النفسانيّة والجسمانيّة .

ونسب العلاّمة في شرح حكمة الإشراق القول بوجود هذا العالم إلى الأنبياء والأولياء والمتألّهة من الحكماء ، وهو وإن لم يقم على وجوده شيء من البراهين العقليّة لكنّه قد تأيّد بالظواهر النقليّة ، وعرفه المتألّهون بمجاهداتهم الذوقيّة وتحقّقوه بمشاهداتهم الكشفيّة .

وأنت تعلم أنّ أرباب الأرصاد الروحانيّة أعلى قدراً وأرفع شأناً من أصحاب الأرصاد الجسمانيّة ، فكما أنّك تصدّق هؤلاء فيما يلقونه إليك من خفايا الهيئات الفلكيّة ، فحقيق أن تصدّق اُولئك أيضاً فيما يتلونه عليك من خبايا العوالم الملكيّة(2) .

انتهى كلامه . واللّه العالم بالحال .

****

ص: 562


1- . الفتوحات المكّية ، ج 1 ، ص 177 - 178 .
2- . الأربعين ، ص 506 .

الحديث السادس والثمانون : من رآني في منامه فقد رآني

اشارة

الحديث السادس والثمانون

[ من رآني في منامه فقد رآني ]

ما رويناه بالأسانيد عن الصدوق في العيون والأمالي بإسناده عن الحسن بن عليّ بن فضّال عن الرضا عليه السلام أنّه قال له رجل من أهل خراسان : يابن رسول اللّه ، رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله في المنام كأنّه يقول لي : كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بضعتي ، واستحفظتم وديعتي ، وغُيِّب في ثراكم نجمي .

فقال الرضا عليه السلام : «أنا المدفون في أرضكم ، وأنا بضعة من نبيّكم ، وأنا الوديعة والنجم ، ولقد حدّثني أبي عن جدّي عن أبيه عن آبائه عليهم السلام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : من رآني في منامه فقد رآني ؛ لأنّ الشيطان لا يتمثّل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ، ولا في صورة أحد من شيعتهم ، وإنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزء من النبوّة»(1) .

بيان :

الكلام في هذا الحديث الشريف يقع في مقامات :

[المقام] الأوّل : في حقيقة الرؤيا وسبب صدقها وكذبها

وقد وقع الخلاف في ذلك :

فالحكماء بنوا ذلك على ما أسّسوه من انطباع صور الجزئيّات في النفوس المنطبعة الفلكيّة وصور الكلّيّات في العقول المجرّدة ، وقالوا : إنّ النفس في حال النوم قد تتّصل بتلك المبادي العالية فيحصل لها بعض العلوم الحقّة الواقعة، فهذه هي الرؤيا الصادقة،

ص: 563


1- . عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 257 ، ح 11 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 64 ، المجلس الخامس عشر ، ح 10 ؛ بحار الأنوار ، ج 49 ، ص 283 ، ح 1 .

وقد تركّب المتخيّلة بعض الصور المخزونة في الخيال ببعض وهذه [ هي (1)] الرؤيا الكاذبة .

وكلامهم مبنيّ على إثبات العقول المجرّدة والنفوس ، وثبوتهما لا يوافق ظاهر الشريعة الحقّة .

والمتكلّمون على أنّ الرؤيا خيال باطل :

أمّا عند المعتزلة ، فلفقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة وإثبات الشعاع وتوسّط الهواء الشفّاف وانتفاء الحجاب ونحوها .

وأمّا عند الأشاعرة ، فلأنّ عادته تعالى لم تجر بخلق الإدراك في الشخص وهو نائم ، ولأنّ النوم ضدّ الإدراك فلا يجامعه .

ولا يخفى فساد ما ذهبوا إليه ؛ لأنّ هذه الرؤيا ليست على قياس الرؤية البصريّة في عالم الملك ؛ بل هي على نحو آخر ، وفي عالم آخر كما في عالم البرزخ ؛ فلا تنافي عدم تحقّق الشرائط السابقة .

والشيخ المفيد رحمه الله جعل للرؤيا أربع جهات :

الأُولى : حديث النفس بالشيء والفكر فيه حتّى يصير كالمنطبع في النفس ، فيتخيّل للنائم ذلك بعينه وأشكاله ونتائجه ، وهذا معروف بالاعتبار .

والجهة الثانية : من الطباع وما يكون من قهر بعضها لبعض ، فيضطرب له المزاج ويتخيّل لصاحبه ما يلائم ذلك الطبع الغالب ، من مأكول ومشروب ومرئيّ ومنكوح وملبوس ومهيّج ومزعج ، وقد ترى تأثير الطبع الغالب في اليقظة والمشاهدة ، حتّى أنّ من غلبت عليه الصفراء يتخيّل له وقوعه من مكان عال ويناله الهلع والجزع ، ومن غلبت عليه السوداء يتخيّل له : أنّه صعد في الهواء وناجته الملائكة ، وربّما يعتقد في نفسه النبوّة ونحو ذلك . بل ربّما أثّر الطبع الغالب في اليقظة حتّى أنّ من غلبت عليه الصفراء يصعب عليه الصعود إلى المكان العالي ويتخيّل له وقوعه منه .

ص: 564


1- . في المطبوع : - «هي» ، وقد اُضيفت من النسخ .

الجهة الثالثة : ألطاف من اللّه عزّ وجلّ لبعض خلقه من تنبيه وتبشير وإعذار وإنذار ، فيلقى في روعه تخيّلات اُمور تدعوه إلى الطاعة ، والشكر على النعمة ، وتزجره عن المعصية ، وتخوّفه الآخرة .

الجهة الرابعة : أسباب من الشيطان ، ووسوسة يذكّره بها أُموراً تحزنه ، وأسباباً تغمّه وتدعوه إلى ارتكاب محظور يكون فيه عطبه ، أو تخيّل شبهة في دينه يكون منها هلاكه ... ، إلى آخر كلامه رحمه الله .

ثمّ قال : إنّ المريض والسكران والممتلئ من الطعام لا يصحّ له منام .(1)

وقسّم السيّد المرتضى المنامات إلى ثلاثة أقسام :

منها : ما يكون في غير سبب يقتضيه ، ولا داع يدعو إليه اعتقاداً مبتدءاً .

ومنها : ما يكون من وسواس الشيطان يفعل في داخل سمعه كلاماً خفيفا يتضمّن أشياء مخصوصة فيعتقد النائم إذا سمع ذلك الكلام أنّه يراه .

ومنها : ما يكون سببه خاطراً يفعله اللّه أو يأمر بعض الملائكة بفعله . ومعنى هذا الخاطر أن يكون كلاماً يفعل في داخل السمع ، فيعتقد النائم أيضاً مايتضمّن ذلك الكلام ، والمنامات الداعية إلى الخير تصرف إلى هذا الوجه ، كما أنّ ما يقتضي الشرّ

منها مصروف إلى وساوس الشيطان . والمنامات الصحيحة سببها يجوز أن يكون أنّ اللّه تعالى يفعل كلاماً في سمعه لضرب من المصلحة بأن شيئاً يكون أو قد كان ، فيكون ذلك في اليقظة ويصحّ تأويله .(2)

وقال العلاّمة المجلسيّ في مرآة العقول :

إنّ الذي ظهر لنا من الأخبار أنّ الرؤيا تستند إلى أُمور شتّى :

منها : أنّ للروح فيحالة النوم حركة إلى السماء ، إمّا بنفسها - بناءا على تجسّمها كما هو الظاهر من الأخبار - ، أو بتعلّقها بجسد مثاليّ إن قلنا به في حالة الحياة أيضاً ، بأن يكون للروح جسدان : أصليّ ، ومثاليّ ، يشتدّ تعلّقها في حال اليقظة بهذا الجسد الأصليّ ، ويضعف تعلّقها بالآخر ، وينعكس الأمر في حال النوم ، أو بتوجّهها

ص: 565


1- . كنز الفوائد ، ص 210 - 211 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 209 مع تفاوت .
2- . رسائل المرتضى ، ج 2 ، ص 11 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 215 مع تفاوت يسير .

وإقبالها على عالم الأرواح بعد ضعف تعلّقها بالجسد بنفسها من غير الجسد المثاليّ .

وعلى تقدير التجسّم أيضاً يحتمل ذلك - كما يؤمي إليه بعض الأخبار - بأن يكون حركتها كناية عن إعراضها عن هذا الجسد وإقبالها على عالم آخر ، وتوجّهها إلى نشأة اُخرى .

وبعد حركتها - بأيّ معنى كانت - ترى أشياء في الملكوت الأعلى وتطالع بعض الألواح التي اُثبتت فيها التقديرات ، فإن كان لها صفاء ولعينها ضياء ترى الأشياء كما اُثبتت ، فلا تحتاج إلى تعبير ، وإن اسدلت على عين قلبه أغطية التعلّقات الجسمانيّة والشهوات النفسانيّة فيرى الأشياء بصور شبيهة لها ، كما أنّ ضعيف البصر و مؤوف(1) العين يرى الأشياء على غير ما هي عليه .

والعارف بعلّته يعرف أنّ هذه الصورة المشبّهة - التي اشتبهت عليه - صورة لأيّ شيء ، فهذا شأن المعبّر العارف بداء كلّ شخص وعلّته .

ويمكن أيضاً أن يظهر اللّه له الأشياء في تلك الحالة بصور تناسبها لمصالح كثيرة ، كما أنّ الإنسان قد يرى المال في نومه بصورة حيّة ، وقد يرى الدراهم بصورة عذرة ليعرف أنّهما يضرّانه وهما مستقذران واقعاً فينبغي أن يتحرّز عنهما ويتجنّبهما .

وقد ترى في الهواء أشياء فهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها .

ويحتمل أن يكون المراد بما يراه في الهواء ما أنس به من الاُمور المألوفة والشهوات والخيالات الباطلة .

ثمّ استشهد على ذلك ببعض الأخبار الآتية كروايتي النوفليّ ومعاوية بن عمّار ونحوهما .(2)

أقول : وهو رحمه الله وإن أجاد وأفاد ، وسلك جادّة الصواب والسداد ، إلاّ أنّه لا يخلو عن إشكال ؛ إذ يشكل ذلك برؤيا يوسف عليه السلام التي حكاها اللّه عزّ وجلّ في كتابه من سجود

ص: 566


1- . المؤوف : الذي فيه آفة ، وهي عاهة أو نقص . اُنظر : الصحاح ، ج 4 ، ص 1333 ؛ لسان العرب ، ج 9 ، ص 16 أوف .
2- . مرآة العقول ، ج 25 ، ص 213 - 214 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 217 - 218 .

الشمس والقمر له المعبّر المأوّل بالملك والسلطنة .

وبما ورد من أنّ السجّاد عليه السلام رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله زوّجه بحوراء من الجنّة فجامعها وحملت ، فأمره رسول اللّه صلى الله عليه و آله بأن يسمّيه زيداً ، ولمّا قصّ الرؤيا في صبيحة ذلك اليوم على أصحابه فإذا عند انتهاء كلامه عليه السلام قد ورد عليه رسول المختار ومعه الجارية التي أهداها إليه ، وكان قد اشتراها بمبلغ خطير ، وكانت فائقة في الجمال .

قال الراوي : فلمّا رأينا شغفه بالجارية انصرفنا عنه ، وفي العام القابل أتيته أزوره فخرج وعلى يده زيد وهو يقول : «« هذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً »»(1) .(2)

فإنّ الرؤيا في هذين الموضعين ممّا تحتاج إلى تعبير ، مع أنّه لا يجوز أن يكون سببها إسدال أغشية الظلمات .

وبالجملة ، فما ذكره رحمه الله جيّد إلاّ أنّه لا يتمّ في ما يحتاج إلى التعبير بالنسبة إلى الأنبياء والأئمّة عليهم السلام .

ويمكن أن يقال : إنّ رؤياهم عليهم السلام لم تكن بمحتاجة إلى التأويل والتعبير ، وإنّما أوّلوها لمصلحة أو لغرض إفادة غيرهم ، أو أنّ سبب الاحتياج إلى التأويل أمر آخرغير ما ذكر .

وكيف كان ، فما اختاره رحمه الله هو الذي تنطبق عليه الأخبار بقضّها وقضيضها :

ومنها : ما رواه العيّاشيّ عن الباقر عليه السلام قال : «ما من أحد ينام إلاّ خرجت نفسه إلى السماء وبقيت روحه في بدنه وصار بينهما كشعاع الشمس ، فإذا أذن اللّه في قبض الأرواح أجابت الروح النفس ، وإن أذن اللّه في ردّ الروح أجابت النفس الروح وهو قوله سبحانه : « اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا »(3) الآية ، فما رأت في ملكوت السماوات فهو ممّا له تأويل ، وما رأت فيما بين السماء والأرض پفهو ممّا يتخيّله الشيطان ولا تأويل له» .(4)

ص: 567


1- . يوسف 12 : 100 .
2- . تفسير أبي حمزة الثمالي ، ص 213 ، ح 152 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 335 ، المجلس 54 ، ح 12 ؛ تفسير فرات الكوفي ، ص 200 ، ح 261 ؛ بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 183 ، ح 48 نقلاً بالمضمون .
3- . الزمر 39 : 42 .
4- . مجمع البيان ، ج 8 ، ص 404 ؛ تفسير الصافي ، ج 4 ، ص 323 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 27 . ولم نعثر عليه في تفسير العيّاشي الموجود .

وعن مناقب ابن شهر آشوب : إنّ النصرانيَّيْن سألا أميرالمؤمنين عليه السلام عن مسائل كان من جملتها السؤال عن الرؤيا الصادقة والكاذبة ، فقال عليه السلام : «إنّ اللّه تعالى خلق الروح وجعل لها سلطاناً ، وسلطانها النفس ، فإذا نام العبد خرج الروح وبقي سلطانه ، فيمرّ به جيل من الملائكة وجيل من الجنّ ، فمهما كان من الرؤيا الصادقة فمن الملائكة ، ومهما كان من الرؤيا الكاذبة فمن الجنّ» .(1)

وعن جامع الأخبار : عن أبي بصير أنّه سأل : أبا عبداللّه عليه السلام الرجل النائم هنا والمرأة النائمة يريان أنّهما بمكّة أو بمصر من الأمصار ، أرواحهما خارجة من أبدانهما ؟

قال : «لا يا أبا بصير ، إذا فارقت البدن لم تعد إليه ، غير أنّها بمنزلة عين الشمس هي مركوزة في السماء في كبدها وشعاعها في الدنيا» .(2)

وعن أبي جعفر عليه السلام : «إنّ العباد إذا ناموا خرجت أرواحهم إلى سماء الدنيا فما رأت الروح في سماء الدنيا فهو الحقّ ، وما رأت في الهوء فهو أضغاث» .(3)

وعن أبي الحسن عليه السلام قال : «إنّ المرء إذا نام ؛ فإنّ روح الحيوان باقية في البدن ، والذي تخرج منه روح العقل» .(4)

وعن الصدوق في العلل والخصال بإسناده عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام عن آبائه عن أميرالمؤمنين عليهم السلام قال : «لا ينام الرجل وهو جنب ، ولا ينام إلاّ على طهور ، فإن لم يجد الماء فليتيمّم الصعيد ؛ فإنّ روح المؤمن ترتفع إلى اللّه تبارك وتعالى فيصلها(5) ويبارك عليها ، فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته ، وإن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع اُمناء ملائكته فيردّونها في جسده» .(6)

ص: 568


1- . مناقب آل أبي طالب ، ج 2 ، ص 357 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 41 ، ح 12 .
2- . جامع الأخبار ، ص 488 ، ح 1360 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 43 ، ح 17 مع تفاوت يسير .
3- . جامع الأخبار ، ص 489 ، ح 1361 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 43 ، ح 18 .
4- . جامع الأخبار ، ص 489 ، ح 1362 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 43 ، ح 19 .
5- . كذا في النسخ الثلاث و المطبوع من الكتاب ، وفي المصادر الروائيّة : «ويقبلها» أو «ويلقاها» .
6- . علل الشرائع ، ج 1 ، ص 295 ، ح 1 ؛ الخصال ، ص 613 ، ح 10 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 31 ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 379 ، ح 1003 مع تفاوت يسير .

وفي الأمالي عن معاوية بن عمّار ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إنّ العباد إذا ناموا خرجت أرواحهم إلى السماء ، فما رأت الروح في السماء فهو الحقّ ، وما رأت في الهواء فهو الأضغاث ، ألا وإنّ الأرواح جنود مجنّدة ؛ فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ، فإذا كانت الروح في السماء تعارفت وتباغضت ، فإذا تعارفت في السماء تعارفت في الأرض ، وإذا تباغضت في السماء تباغضت في الأرض» .(1)

وعن النوفليّ ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : المؤمن يرى الرؤيا فتكون كما يراها ، وربّما يرى الرؤيا فلا يكون شيء ؟! فقال : «إنّ المؤمن إذا نام خرجت روحه ممدودة صاعدة إلى السماء ، فكلّ ما رآه روح المؤمن في ملكوت السماء في موضع التقدير والتدبير فهو الحقّ ، وكلّ ما رآه في الأرض فهو أضغاث أحلام» . فقلت له : وتصعد روح المؤمن إلى السماء ؟ قال : «نعم» . قلت : حتّى لا يبقى شيء في بدنه ؟ فقال : «لا ، لو خرجت كلّها حتّى لايبقى منه شيء إذاً لمات» . قلت : فكيف تخرج ؟ فقال : «أما ترى الشمس في السماء موضعها ، ضوؤها وشعاعها في الأرض ؟ فكذلك الروح أصلها في البدن وحركتها ممدودة» .(2)

وعن الحسن بن راشد ، عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال : قال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله - وساق الحديث إلى أن قال - : يا عليّ ، إنّ أرواح شيعتك لتصعد إلى السماء في رقادهم ووفاتهم فتنظر الملائكة إليها - كما ينظر الناس إلى الهلال - شوقاً إليهم ،ولما يرون من منزلتهم عند اللّه عزّ وجلّ» ، الحديث .(3)

وعن عيسى بن عبداللّه عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن عليّ عليهم السلام قال : «سألت رسول

ص: 569


1- . الأمالي للصدوق ، ص 145 ، المجلس 29 ، ح 16 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 32 ، ح 4 ؛ روضة الواعظين ، ص 492 مع تفاوت يسير .
2- . الأمالي للصدوق ، ص 145 ، المجلس 29 ، ح 15 ؛ روضة الواعظين ، ص 492 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 32 ، ح 6 مع تفاوت يسير في جميع المصادر .
3- . الأمالي للصدوق ، ص 563 ، المجلس 83 ، ح 2 ؛ فضائل الشيعة ، ص 17 ، ح 17 ؛ بشارة المصطفى ، ص 181 ؛ بحار الأنوار ، ج 65 ، ص 45 ، ح 91 .

اللّه صلى الله عليه و آله عن الرجل ينام فيرى الرؤيا ، فربّما كانت حقّاً وربّما كانت باطلاً ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : يا عليّ، ما من عبد ينام إلاّ عرج بروحه إلى ربّ العالمين ؛ فما رأى عند ربّ العالمين فهو حقّ ، ثمّ يأمر اللّه العزيز الجبّار بردّ روحه إلى جسده ، فصارت الروح بين السماء والأرض ، فما رأته فهو أضغاث أحلام» .(1)

وعن أبي بصير ، عن أبي جعفر قال : سمعته يقول : «إنّ لإبليس شيطاناً يقال له : هزع ، يملأ [ ما بين ]المشرق والمغرب ، في كلّ ليلة يأتي الناس في المنام» .(2)

وعن البرقيّ في المحاسن ، عن جميل بن درّاج ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ المؤمنين إذا أخذوا مضاجعهم صعد اللّه بأرواحهم إليه ؛ فمن قضى عليه بالموت جعله في رياض الجنّة بنور رحمته ونور عزّته ، وإن لم يقدّر عليه الموت بعث بها مع اُمنائه

من الملائكة إلى الأبدان التي هي فيها» .(3)

إذا عرفت هذا فالمستفاد من الأخبار اُمور :

الأوّل : أنّها قد دلّت على أنّ الروح حال النوم تخرج من البدن وتفارقه على الوجه المتقدّم ، وأنّ الرؤيا - صادقها وكاذبها - عبارة عمّا تراه بعد خروجها من البدن ، وهو ردّ على المتكلّمين ونحوهم .

[ الأمر ] الثاني : أنّ الرؤيا تقع على وجوه :

منها : ما يكون على جهة البشرى للمؤمن من اللّه عزّ وجلّ .

ومنها : ما يكون على جهة التخويف له والإنذار من المعاصي .

ومنها : ما يكون تحزيناً من الشيطان .

ومنها : ما يكون ناشئاً عمّا يحدّث به المرء نفسه في اليقظة ، فيراه في منامه بصورته أو ما يشبهه .

ص: 570


1- . الأمالي للصدوق ، ص 146 ، المجلس 29 ، ح 17 ؛ روضة الواعظين ، ص 492 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 158 ، ح 1 .
2- . الأمالي للصدوق ، ص 146 ، المجلس 29 ، ح 17 ؛ روضة الواعظين ، ص 492 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 159 ، ح 2 .
3- . المحاسن ، ج 1 ، ص 178 ، ح 163 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 165 ، ح 15 مع تفاوت يسير .

ويدلّ عليه ما روي عن عليّ بن بابويه بإسناده عن الكاظم عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الرؤيا على ثلاثة : بشرى من اللّه ، وتحزين من الشيطان ، والذي يحدّث به الإنسان نفسه» .(1)

وروى ثقة الإسلام في الكافي عن سعد بن أبي خلف ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «الرؤيا على ثلاثة وجوه : بشارة من اللّه تعالى للمؤمن ، وتحذير من الشيطان ، وأضغاث أحلام» .(2)

وعن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «قال رجل لرسول اللّه فيقوله تعالى : « لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا »(3) قال : هي الرؤيا الحسنة تُرى للمؤمن فيبشّر بها في دنياه» .(4)

وما اشتملت عليه الأخبار المتقدّمة من تقسيم الرؤيا إلى صادقة وكاذبة ، وأنّ الاُولى : هي ما تراه بعد الصعود إلى السماء ، والثانية : ما تراه في الهواء لا ينافي هذه الأخبار ، بل يحقّقها ؛ لأنّ ما يكون من اللّه سبحانه على جهة الإنذار والتخويف والبشارة هي الرؤيا الصادقة التي تراها في السماء ، وما عداها فهي الكاذبة التي تراها في الهواء .

وحينئذٍ فما عبّر به بعض الأخبار السابقة بأنّ ما يرى في الهواء من الأضغاث شامل لما يحصل على جهة التحزين من الشيطان ، ولما يحدّث المرء به نفسه .

وما اشتملت عليه هذه الأخبارمن تقسيم الرؤيا لا يدلّ على الانحصار ؛ لأنّه كثيراً ما يرى الإنسان الرؤيا على غير هذه الوجوه فيقع إثرها ، فتكون صادقة ، ولا يقع إثرها فتكون كاذبة .

ص: 571


1- . عوالي اللآلي ، ج 1 ، ص 79 ، ح 166 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 191 ، ح 58 ؛ كنز العمّال ، ج 15 ، ص 371 ، ح 41427 ، رواه المجلسي عن الإمامة والتبصرة لإبن بابويه ، ولكن لم نعثر عليه فيما بأيدينا من النسخة المطبوعة .
2- . الكافي ، ج 8 ، ص 90 ، ح 61 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 180 ، ح 42 ؛ الفصول المهمّة ، ج 1 ، ص 689 ح 1092 .
3- . يونس 10 : 64 .
4- . الكافي ، ج 8 ، ص 90 ، ح 60 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 133 ، ح 353 ؛ الفصول المهمّة ، ج 3 ، ص 278 ، ح 2942 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 180 ، ح 41 مع تفاوت يسير .

[ الأمر ] الثالث : ظاهر قوله تعالى : « اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا »(1) والأخبار المتقدّمة أنّ جميع الأرواح وقت النوم ؛ - مؤمنها وكافرها - ترفع إلى السماء ، ويحصل لها الاطّلاع على الوجه المتقدّم ، وإن كان لروح المؤمن قرب واختصاص ، وعلى هذا فالرؤيا الصادقة تحصل للمؤمن والكافر كرؤيا ملك مصر سبع بقرات وسبع سنبلات ، ورؤيا الفتيان في السجن .

ويمكن أن يقال : إنّ صحّتها من غير المؤمن على سبيل الندرة ؛ لأنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزء من النبوّة(2) ، وغير المؤمن ليس كذلك .

ولقوله عليه السلام : «انقطع الوحي وبقي المبشّرات ، ألا وهي نوم الصالحين والصالحات» .(3)

ولما يستفاد من بعض الأخبار من اشتراط الصلاح والتقوى في صحّة الرؤيا .(4)

المقام الثاني : في معنى قوله صلى الله عليه و آله : «من رآني فقد رآني» ومعنى رؤيتهم عليهم السلام

اشارة

حكي عن المفيد رحمه الله أنّه قال :

أمّا رؤية الإنسان للنبيّ أو لأحد الأئمّة عليهم السلام في المنام فإنّ ذلك عندي على ثلاثة أقسام :

قسم أقطع على صحّته ، وهو كلّ منام رأى فيه النبيّ أو أحد الأئمّة وهو فاعل لطاعة أو آمر بها ، وناه عن معصية أو مبيّن لقبحها ، وقائل بالحقّ أو داعٍ إليه ، وزاجر عن باطل أو ذامّ لمن هو عليه .

وأمّا الذي أقطع على بطلانه فهو كلّ ما كان بضدّ ذلك ؛ لعلمنا أنّ النبيّ والإمام

ص: 572


1- . الزمر 39 : 42 .
2- . اُنظر : من لا يحضره الفقيه ، ج 2 ، ص 585 ، ح 3191 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 64 ، المجلس 15 ، ح 10 ؛ عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 257 ، ح 11 ؛ روضة الواعظين ، ج 1 ، ص 234 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 234 ، ح 1 .
3- . جامع الأخبار ، ص 172 ؛ عنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 176 ، ح 36 .
4- . انظر : بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 167 ، ح 20 و 21 ؛ و ص 172 ، ح 31 ؛ و ص 176 ، ح 36 ؛ و ص 177 ، ح 40 و 41 ، وغيرها .

صاحبا حقّ ، وصاحب الحقّ بعيد عن الباطل .

وأمّا الذي يجوز فيه الصحّة والبطلان فهو المنام الذي يرى فيه النبيّ والإمام وليس هو آمراً ولا ناهياً ، ولا على حال يختصّ بالديانات ، مثل : أن يراه راكباً أو ماشياً أو جالساً أو نحو ذلك .

فأمّا الخبر الذي روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله من قوله : «من رآني فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتشبّه بي» ، فإنّه إذا كان المراد به المنام يحمل على التخصيص دون أن يكون في كلّ حال ، ويكون المراد به القسم الأوّل من الثلاثة أقسام ؛ لأنّ الشيطان لا يتشبّه

بالنبيّ صلى الله عليه و آله في شيء من الحقّ والطاعات .

وأمّا ما روي عنه صلى الله عليه و آله من قوله : «من رآني نائماً فكأنّما رآني يقظاناً» فإنّه يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون المراد به رؤية المنام ، ويكون خاصّاً كالخبر الأوّل على القسم الذي قدّمناه .

والثاني : أن يكون المراد به اليقظة دون المنام ، ويكون قوله صلى الله عليه و آله «نائماً» حالاً للنبيّ صلى الله عليه و آله وليست حالاً من «رآه» ، فكأنّه قال : من رآني وأنا نائم فكأنّما رآني وأنا منتبه .

والفائدة في هذا المقال أن يعلمهم بأنّه يدرك في الحالين إدراكاً واحداً ، فيمنعهم ذلك إذا حضروا عنده وهو نائم أن يلفظوا فيما لا يحسن أن يذكر بحضرته وهو منتبه .

وقد روي عنه صلى الله عليه و آله أنّه غفا ، ثمّ قام يصلّي من غير تجديد وضوء ، فسئل عن ذلك ، فقال : «إنّي لست كأحدكم ، تنام عيناي ولا ينام قلبي» .

وجميع هذه الروايات أخبار آحاد ، فإن سُلّمت فعلى هذا المنهاج .

وقد كان شيخي رحمه الله يقول : إذا جاز من بشر أن يدّعي في اليقظة أنّه إله ، كفرعون ومن جرى مجراه مع قلّة حيلة البشر وزوال اللَّبس في اليقظة ، فما المانع من أن يدّعي إبليس عند النائم بوسوسة له أنّه نبيّ مع تمكّن إبليس ممّا لا يتمكّن منه البشر ، وكثرة اللبس المعترض في المنام ؟

ص: 573

وممّا يوضح لك أنّ من المنامات التي يتخيّل للإنسان أنّه قد رأى فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله والأئمّة ما هو حقّ وما هو باطل ، أنّك ترى الشيعيّ يقول : رأيت في المنام رسول اللّه ومعه أميرالمؤمنين عليه السلام وهو يأمرني بالاقتداء به دون غيره ويعلمني أنّه خليفته من بعده ، وأنّ أبابكر وعمر وعثمان ظالموه وأعداؤه وينهاني عن موالاتهم ، ويأمرني بالبراءة منهم ، ونحو ذلك ممّا يختصّ بمذهب الشيعة ، ثمّ ترى الناصبيّ يقول : رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله في النوم ومعه أبوبكر وعمر وعثمان وهو يأمرني بمحبّتهم وينهاني عن بغضهم ويعلمني أنّهم أصحابه في الدنيا والآخرة وأنّهم معه في الجنّة ، ونحو ذلك ممّا يختصّ بمذهب الناصبيّة . فنعلم لا محالة أنّ أحد المنامين حقّ والآخر باطل ، فأولى الأشياء منها أن يكون الحقّ منهما ما ثبت بالدليل في اليقظة على صحّة ما تضمّنه ، والباطل ما أوضحت الحجّة عن فساده وبطلانه ، وليس يمكن للشيعيّ أن يقول للناصبيّ : إنّك تكذب في قولك أنّك رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأنّه يقدر أن يقول له مثل هذا بعينه .

وقد شاهدنا ناصبيّاً تشيّع وأخبرنا في حال تشيّعه أنّه يرى منامات بالضدّ ممّا كان يراه في حال نصبه ، فبان بذلك أنّ أحد المنامين باطل وأنّه من حديث النفس أو من وسوسة إبليس ونحو ذلك ، وأنّ المنام الصحيح هو لطف من اللّه بعبده على المعنى المتقدّم وصفه .

وقولنا في المنام الصحيح إنّ الإنسان رأى في منامه النبيّ صلى الله عليه و آله إنّما معناه أنّه كان قد رآه ، وليس المراد به التحقيق في اتّصال [ شعاع ] بصره بجسد النبيّ ، وأيّ بصر يدرك به في حال نومه ، وإنّما هي معان تصوّرت في نفسه يخيّل له فيها سرّ لطف اللّه تعالى ، وليس هذا بمنافٍ للخبر الذي روي من قوله صلى الله عليه و آله : «من رآني فقد رآني» لأنّ معناه فكأنّما رآني(1) . انتهى كلامه .

وقال السيّد المرتضى على ما نقله العلاّمة المجلسيّ رحمهماالله :

فإن قيل : ما تأويل ما روي عنه صلى الله عليه و آله من قوله «من رآني فقد رآني فإنّ الشيطان لا

ص: 574


1- . كنز الفوائد ، ج 2 ، ص 62 - 65 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 211 - 213 نقلاً عن المفيد مع تفاوت يسير .

يتمثّل بي» وقد علمنا أنّ المحقّ والمبطل والمؤمن والكافر قد يرون النبيّ صلى الله عليه و آله في حال النوم ويخبر كلّ واحد منهم عنه صلى الله عليه و آله بضدّ ما يخبر الآخر ، فكيف يكون رائياً له في الحقيقة مع هذا ؟

قلنا : هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد ، ولا يعوّل على مثل ذلك . على أنّه يمكن مع تسليم صحّته أن يكون المراد به : من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة ؛ لأنّ الشيطان لا يتمثّل بي لليقظان ، فقد قيل : إنّ الشيطان ربّما تمثّل بصورة البشر ، وهذا أشبه بظاهر ألفاظ الخبر ؛ لأنّه قال : «من رآني فقد رآني» فأثبت غيره رائياً له ونفسه مرئيّة ، وفي النوم لا رائي له في الحقيقة ولا مرئيّ وإنّما ذلك في اليقظة ، ولو حملناه على النوم لكان تقدير الكلام : من اعتقد أنّه يراني في منامه وإن كان غير راءٍ لي في الحقيقة فهو في الحكم كمن قد رآني ، وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر وتبديل لصيغته .(1) انتهى .

ولا يخفى أنّ هذا التأويل والذي قبله لا يجريان في هذا الخبر ؛ فإنّه نصّ في إرادة الرؤيا في المنام .

وأمّا قوله : إنّ المؤمن والكافر يشاهد ، فيمكن أن يقال : إنّ رؤية الكافر والمخالف له إن وقعت فإنّما هي على سبيل الإرشاد له والهداية ، كما هو المشاهد المسموع فيمن يستبصر من المخالفين ويسلم من الكافرين .

وأمّا مشاهدة المؤمنين له صلى الله عليه و آله على أحوال مختلفة فإنّ الحال كذلك أيضاً في اليقظة ، وكذلك الأئمّة عليهم السلام كما يظهرمن غرائب أسرارهم من أنّ الناس يشاهدون صورهم ويسمعون أصواتهم على ما تحتمله عقولهم .

وأمّا فتواه صلى الله عليه و آله للناس على سبيل التضادّ فهو حال الأئمّة في اليقظة ، فإنّهم يفتون الناس بحسب التقيّة وعدمها ، وبحسب ما تقتضيه المصالح الشرعيّة أو للتفويض بالمعنى الذي تقدّم في محلّه .(2)

ص: 575


1- . رسائل المرتضى ، ج 2 ، ص 12 - 13 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 216 - 217 .
2- . تقدّم في شرح الحديث التاسع والخمسون ، فراجع .

[ هل المقصود رؤيتهم عليهم السلام بصورتهم الأصلية : ]

وكيف كان ، فقد وقع الخلاف في أنّه هل المراد رؤيته صلى الله عليه و آله وأولاده الطاهرين بصورهم الأصليّة أو بأيّ صورة اتّفقت ؟

والأخبار الواردة في المقام محتملة للأمرين والكلام هنا يقع في مقامين :

الأوّل : في كون هذه الرؤية هل هي على سبيل الحقيقة ، بمعنى أنّ الرائي له في المنام مثل الرائي له في اليقظة ، أم لا ؟

ظاهر الأخبار الأوّل ، وفي بعض أخبار العامّة : «من رأى فقد رأى الحقّ» . قال ابن الأثير في النهاية : أي رؤياً صادقة ليست من أضغاث الأحلام . وقيل : فقد رآني حقيقة غير مشتبه(1) .

وظاهر كلام الشيخ المفيد المتقدّم الثاني ؛ حيث حمل الرؤية على تخييل صورته في نفس الرائي ، وهو ظاهر كلام المحدّث المجلسيّ رحمه اللهفي البحار ، حيث أنّه بعد نقل كلمات جملة من العامّة الدالّة على الرؤية على الحقيقة قال :

والظاهر أنّها ليست رؤية بالحقيقة ، وإنّما هي بحصول الصورة في الحسّ المشترك أو غيره بقدرة اللّه تعالى . والغرض من هذه العبارة بيان حقيقة الرؤيا وأنّها من اللّه لا من الشيطان ، وهذا المعنى هو الشائع في مثل هذه العبارة ، كأن يقول رجل : من أراد أن يراني فلير فلاناً ، أو من رأى فلاناً فقد رآني ، أو من وصل فلاناً فقد وصلني ؛ فإنّ كلّ هذه محمولة على التجوّز والمبالغة ، ولم يرد بها معناها حقيقة(2) . انتهى .

واعترضه المحقّق البحرانيّ فقال بعد نقله :

ولا يخفى بعده :

أمّا أوّلاً : فلما رواه في كتاب الإكمال من أنّه روي في الأخبار الصحيحة عن أئمّتنا : «من رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو أحداً من الأئمّة قد دخل مدينة أو قرية في منامه ، فإنّه أمن لأهل المدينة أو القرية ممّا يخافون ويحذرون ، وبلوغ لما يأملون ويرجون» .

ص: 576


1- . النهاية لابن الأثير ، ج 1 ، ص 397 حقق .
2- . بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 237 .

فإنّ ترتّب هذه الاُمور على مجرّد وجود الصورة في الحسّ المشترك ونحوه بعيد غاية البعد .

وأمّا ثانياً : فلما تقدّم من أنّ الرؤيا الصادقة عبارة عمّا تراه الروح بعد خروجها من الجسد حال النوم وصعودها إلى الملكوت ، فكلّ ما رأته ثَمّةَ فهو حقّ ، وهو رحمه الله قد اعترف بذلك ، فما المانع من أن يتّصل بأحد منهم عليهم السلام وهم في ذلك العالم بلا ريب ؟

ولما ورد في الأخبار من أنّهم ينقلون بعد الدفن بأجسادهم الشريفة إلى السماء ، وأنّ الزائر إنّما يزور موضع قبورهم ، فهم أحياء في السماء منعّمون كما كانوا في الدنيا ، وأيّ مانع من تحصيل اتّصال الروح بهم هناك .

وأمّا ثالثاً : فلا ريب أنّ الأخبار قد استفاضت بأنّه ما من ميّت يموت في شرق الأرض وغربها إلاّ ويرى حال موته النبيّ وأميرالمؤمنين عليهماالسلام ، وليست هذه الرؤية بحاسّة البصر ؛ لشمول ذلك للأعمى ومن تعطّل بصره في تلك الحال ، بل الرؤية إنّما هي بهذه الروح التي تصعد وقت النوم ، وهذه الرؤية فيحال النوم على حسب تلك الرؤية في حال الموت ؛ ولا أظنّه يلتزم التجوّز في رؤيتها عليه السلام حال الموت ؛ لاستفاضة ؛ الأخبار وصحّتها وصراحتها بكون الرؤية حقيقة .

وغاية الأمر : أنّ في الموت إشكالاً مذكوراً في محلّه : من أنّه كيف يمكن القول بحضورهم عليهم السلام على جهة [ الحقيقة(1) ] مع جواز أن يموت في ساعة واحدة اُلوف من الناس في أطراف الأرض من شرقها وغربها وشمالها وجنوبها؟ وهذا مجرّد استبعاد عقليّ فإنّا لمّا قام لنا الدليل على ذلك وجب علينا القول به ، وبيان كيفيّة ذلك غير واجب علينا ؛ فإنّ ذواتهم المقدّسة عليها مسحة من الذات الإلهيّة التي تاهت في بيداء معرفتها العقول ، وضلّت في الوصول إلى حقيقتها ألباب الفحول ، ونورهم الذي خلقوا منه هو من نور ذاته السبحانيّة ومشتقّ من تلك البروق الصمدانيّة ، ولذا ورد في الخبر عنه عليه السلام : «يا عليّ ، ما عرف اللّه إلاّ أنا وأنت ، ولا عرفني إلاّ اللّه وأنت ، ولا عرفك إلاّ اللّه وأنا» ، وهذه المعرفة جارية فيهما

ص: 577


1- . هذه الكلمة لم ترد في النسخ ولا في المطبوع ، وإنما اُضيفت من المصدر .

وفي أبنائهما المعصومين ، وحينئذٍ فلا مطمع في الوقوف على كنه حقايق ذواتهم المقدّسة كسائر الأنام وقياسهم على غيرهم من البشر في أمثال هذه الأحكام ، ومن نظر إلى عبادتهم وذكرهم وتسبيحهم في عالم الأرواح علم أنّه لا مساح له عمّا ذكرنا ولا براح .(1)

الثاني : في الإشكال الذي أورده المفيد والمرتضى على ظاهر الخبر من رؤية المحقّ والمبطل له صلى الله عليه و آله وإخباره كلاًّ منهم بما يوافق معتقده ، وقد أشرنا إلى جوابه .

ويمكن أن نقول هنا زيادة على ما تقدّم : إنّ الخبر مخصَّص بالمؤمن ؛ لما دلّ من الأخبار على أنّ صحّة الرؤيا غالباً مشترطة بالإيمان والصلاح والتقوى(2) . وإن اتّفق صدق رؤية غيره - كما في رؤية العزيز - فهو نادر . ويؤيّد ذلك جعلها جزءاً من النبوّة ، وذلك يرشد إلى وقوع الصادقة من المؤمن الصادق ليناسب حاله حال النبيّ صلى الله عليه و آله وكفى بها شرفاً أنّها نوع ممّا أُكرمت به الأنبياء ، وهو الاطّلاع على علم الغيب كما قال صلى الله عليه و آله : «لم تبق من مبشّرات ، إلاّ أنّ الرؤيا الصادقة يراها الرجل المسلم» .(3)

المقام الثالث : [ إذا رؤي النبيّ صلى الله عليه و آله في النوم وأوجب على الرائي أمرا فهل يجب امتثاله ؟ ]

اشارة

ظاهر الحديث المذكور أنّه صلى الله عليه و آله إذا رؤي في النوم وأوجب على الرائي أمراً وحرّم عليه شيئاً ، يكون واجباً وحراماً كما في اليقظة .

وفيه إشكال ، بل الظاهر أنّه لم يقل بذلك أحد من الأصحاب .

وحكى المحدّث الشريف في شرح العيون عن الفاضل الصفديّ بأنّه قال :

قد تكلّم الفقهاء فيمن رأى النبيّ صلى الله عليه و آله وأمره بأمر هل يلزم العمل به أم لا ؟ قالوا : إن أمره بما يوافق أمره يقظة فلا كلام فيه ، وإن أمره بما يخالف أمره يقظة فإن قلنا : إنّ

ص: 578


1- . الدرر النجفيّة ، ج 2 ، ص 279 - 281 .
2- . تقدّم تخريجه .
3- . بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 192 ، ح 64 ؛ كنز العمّال ، ج 15 ، ص 371 ، ح 41424 . هكذا في النسخ الثلاث والمطبوع ، لكنّ الحديث في مصادر العامّة هكذا : «لم يبق من مبشّرات النبوّة إلاّ الرؤيا الصادقة يراها الرجل المسلم» .

من رآه صلى الله عليه و آله على الوجه المنقول في صفته فرؤياه حقّ ، فهذا من قبيل تعارض الدليلين والعمل بأرجحهما ، وما ثبت في اليقظة فهو أرجح فلا يلزمنا العمل بما أمره فيما خالف أمره يقظة .

قال : وقال العلاّمة طاب ثراه : يجوز العمل بما يسمع في المنام عن النبيّ والأئمّة إذا لم يكن مخالفاً للإجماع ؛ لما روي من أنّ الشيطان لا يتمثّل بصورتهم . انتهى .

ثمّ قال : أقول : مثل هذه المنامات الحسنة تصلح مؤكّدة ومرجّحة .(1)

انتهى كلام المحدّث الشريف .

وحكى المحقّق البحرانيّ أنّ السيّد مُهنّا بن سنان سأل العلاّمة رحمه اللهفقال :

ما يقول سيّدنا فيمن رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله في منامه أو بعض الأئمّة وهو يأمره بشيء أو ينهاه عن شيء ، فهل يجب امتثال ما أمر به أو نهى عنه أم لا يجب ذلك ، مع ما صحّ عن سيّدنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «من رآني ؛ في منامه فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي» وغير ذلك من الأحاديث ؟

وما قولكم لو كان ما أمر به أو ما نهى عنه على خلاف ما في أيدي الناس من ظاهر الشريعة ، هل بين الحالين فرق أم لا ؟ أفتنا في ذلك مبيّناً ، جعل اللّه كلّ صعب عليك هيّناً .

فأجابه رحمه الله بما لفظه :

أمّا ما يخالف الظاهر فلا ينبغي المصير إليه ، وأمّا ما يوافق الظاهر فالأولى المتابعة من غير وجوب ؛ لأنّ رؤيته صلى الله عليه و آله لا تعطي وجوب الاتّباع في المنام . انتهى .

ثمّ قال المحقّق المذكور :

لا يخفى ما في كلام السائل والمسؤول من التأييد لما قدّمناه من كون رؤيته صلى الله عليه و آله في المنام رؤية حقيقيّة لا أنّها عبارة عن مجرّد حصول الصورة في الحسّ المشترك الذي هو عبارة عن مجرّد تخيّله وتصوّره ؛ إذ مجرّد التخيّل والتصوّر لا يصحّ أن يترتّب عليه حكم شرعيّ ، لا وجوباً ولا استحباباً .

ص: 579


1- . لوامع الأنوار ، ص 479 مخطوط .

وحاصل جواب العلاّمة رحمه الله : أنّه وإن كان قد رآه في المنام إلاّ أنّه لم يقم دليل على وجوب الاتّباع في الرؤية النوميّة . وهو جيّد ؛ أمّا أوّلاً فلأنّ الأدلّة الدالّة على وجوب متابعتهم وأخذ الأحكام منهم عليهم السلام إنّما تحمل على ما هو المعروف المتكرّر دائماً من الأفراد الشائعة التي ينصرف إليها الإطلاق دون النادرة .

أمّا ثانياً فلأنّ الرؤيا وإن كانت صادقة فإنّها قد تحتاج إلى تأويل وتفسير وهو لا يعرفه ، فالحكم بوجوب العمل بها والحال كذلك مشكل .

وأمّا ثالثاً فلأنّ الأحكام الشرعيّة إنّما بنيت على العلوم الظاهرة ، لا على العلم بأيّ وجه اتّفق ، ألا ترى أنّهم عليهم السلام إنّما يحكمون في الدعاوى بالبيّنات والأيمان ، وربّما عرفوا المحقّ من المبطل واقعاً ، وربّما عرفوا كفر المنافقين وفسق الفاسقين ونجاسة بعض الأشياء بعلومهم المختصّة بهم ؟ إلاّ أنّ الظاهر أنّهم ليسوا مأمورين بالعمل بتلك العلوم في الأحكام الشرعيّة ، بل إنّما يعملون على ظاهر علوم الشريعة ، وقد روي عنه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «إنّا نحكم بالظاهر ، واللّه المتولّي للسرائر» .

وروي عنه صلى الله عليه و آله قال : «إنّما أنا بشر وإنّكم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض ، فأقضي له نحو ما أسمع ؛ فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئاً فلا يأخذه ؛ فإنّما أقطع له قطعة من نار» .

وأمّا رابعاً فلما ورد بأسانيد متعدّدة عن الصادق عليه السلام في أحاديث الأذان : «أنّ دين اللّه تعالى أعزّ من أن يُرى في النوم»(1) . انتهى كلامه رحمه الله .

وهو جيّد متين .

المقام الرابع : في معنى قوله عليه السلام : «الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءاً من النبوّة»(2)

وهذا المضمون قد ورد في عدّة أخبار ، ففي الكافي عن هشام بن سالم - في الصحيح - عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : سمعته يقول : «رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزء من أجزاء النبوّة » .(3) .

ص: 580


1- . الدرر النجفيّة ، ج 2 ، ص 282 - 284 مع تفاوت يسير .
2- . الكافي ، ج 8 ، ص 90 ح 58 ؛ عنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 177 ، ح 40 .
3- . بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 177 - 178 مع تفاوت يسير .

قال المحدّث المجلسيّ رحمه الله :

لمّا غيّب اللّه في آخر الزمان عن الناس حجّتهم تفضّل عليهم وأعطاهم رأياً قويّاً في استنباط الأحكام الشرعيّة ممّا وصل إليهم من أئمّتهم ولمّا حجب عنهم الوحي أعطاهم الرؤيا الصادقة أزيد ممّا كان لغيرهم ليظهر عليهم بعض الحوادث قبل حدوثها .

وقيل : إنّما يكون هذا في زمان القائم عليه السلام .

وقوله : «على سبعين» لعلّ المراد أنّ للنبوّة أجزاء كثيرة سبعون منها من قبل الرأي ، أي الاستنباط الحقيقيّ لا الاجتهاد والتظنّيّ ، والرؤيا الصادقة بهذا المعنى حاصلة لأهل آخر الزمان على نحو تلك السبعين ومشابهة لها ، وإن كان في النبيّ صلى الله عليه و آله أقوى ، ويحتمل أن يكون المراد : على نحو بعض أجزاء السبعين ، كما ورد : «أنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءاً من النبوّة» . انتهى

وعن كتاب الحسين بن سعيد ، عن الصادق عليه السلام قال : «رؤى المؤمن(1) جزء من سبعين جزءاً من النبوّة ، ومنهم من يُعطى على الثلث» .(2) قيل في معناه : أي بعض الكمّل من المؤمنين يكون رأيه ورؤياه ثلث أجزاء النبوّة .(3)

وكيف كان ، فالكلام في موضعين :

الأوّل : في معنى كونها جزء من النبوّة : فقيل : إنّ المراد : الإشارة إلى أنّ الرؤيا الصادقة من المؤمنين والصالحين في الصدق والصحّة كالنبوّة ؛ لما فيها من الإعلام بالمغيّبات أو الأُمور الغير المعلومة على نحو النبوّة .

وقيل : إنّ للرؤيا الصادقة ملكاً وكّل بها ، يُرى الرائي من ذلك مافيه من التنبيه على ما يكون له ، أو يقدّر عليه من خير أو شرّ ، وهذا معنى النبوّة ؛ لأنّ معنى النبيّ : إمّا فعيل بمعنى مفعول ، أي : يُعلمه اللّه ويُطلعه في منامه من غيبه ما لا يظهر عليه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول ، أو بمعنى فاعل كعليم ، أي : يعلم غيره بما أُلقي عليه ، وهذه

ص: 581


1- . كذا في النسخ الثلاث ، وفي المصدر : «إنّ المؤمن رؤياه» ، وفي المطبوع : «رؤيا المؤمنين» .
2- . المؤمن ، ص 35،ح 71 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 191 ، ح 59 مع تفاوت يسير .
3- . بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 191 .

صورة صاحب الرؤيا .

وقيل : المراد : أنّها جزء من أجزاء علم النبوّة ، وعلم النبوّة باق وإن كانت النبوّة غير باقية .

وقيل : إنّما كانت جزءاً من النبوّة في حقّ الأنبياء دون غيرهم .

وقيل : لأنّ النبوّة من جملة أقسامها : الرؤيا في المنام .

[ الموضع ] الثاني : في معنى كونها جزءاً من سبعين جزءاً من النبوّة ، فقيل : يحتمل أن تكون هذه الجزئيّة من طريق الوحي ؛ فإنّ منه ما سمع من اللّه تعالى من دون واسطة كما قال تعالى : « أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ »(1) ، ومنه ما سمع بواسطة الملك ، ومنه ما يلقى في القلب كما قال تعالى : « إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى »(2) ، ومنه ما يأتي به الملك وهو على صورة آدميّ ، ومنه ما يأتيه في منامه بحقيقته ، ومنه ما يأتيه بمثال(3) أحياناً يسمع الصوت ويرى الضوء ، ومنه ما يأتيه كصلصلة الجرس ، ومنه ما يلقيه روح القدس في روعه ، إلى غير ذلك ممّا لم نقف عليه ، ولعلّ مجموع هذه الطرق سبعون ، ولا يجب العلم بها تفصيلاً .

وقيل : إنّ مجموع خصال النبوّة سبعون وإن لم نعلمها تفصيلاً ، ومنها : الرؤيا والمنام الصادق من المؤمن خصلة واحدة لها هذه النسبة مع تلك الخصال .

وقيل : إن ذكر السبعين إنّما خرج مخرج التمثيل كما قيل في قوله تعالى : « إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ »(4) ، وقوله تعالى : « ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً »(5) أي طويلة ، واللّه العالم .(6)

ص: 582


1- . الشورى 42 : 51 .
2- . النجم 53 : 4 .
3- . هكذا في النسخ الثلاث والمطبوع ، وفي المصدر : «تمثال» .
4- . التوبة 9 : 80 .
5- . الحاقّة 69 : 32 .
6- . العبارة من قوله : «فالكلام في موضعين» إلى هنا ، نقلها المؤلف عن الدرر النجفيّة ، ج 2 ، ص 287 - 288 .

تذييل : [ في تفسير قوله صلى الله عليه و آله الرؤيا الحسنة جزءٌ من ستّة وأربعين جزءا من النبوّة ]

قد روى العامّة بأسانيدهم عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «الرؤيا الحسنة - وفي بعض النسخ : الصالحة - جزء من ستّة وأربعين جزءاً من النبوّة» . وقد ذكروا لذلك توجيهات أوجهها ما ذكره الفاضل المحدّث ابن الأثير في النهاية ، قال : الجزء : القطعة والنصيب من الشيء ، ومنه الحديث : «الرؤيا الصالحة جزء من ستّة وأربعين جزءاً من النبوّة» ، وإنّما خصّ هذا العدد ؛ لأنّ عمره صلى الله عليه و آله في أكثر الروايات الصحيحة كان ثلاثاً وستّين سنة ، وكانت مدّة نبوّته منها ثلاثاً وعشرين سنة ؛ لأنّه صلى الله عليه و آله بعث عند استيفاء الأربعين ، وكان في أوّل الأمر يرى الوحي في المنام ودام كذلك نصف سنة ، ثمّ رأى الملك في اليقظة ، فإذا نسبت مدّة الوحي في النوم - وهي نصف سنة - إلى مدّة نبوّته - وهي ثلاث وعشرون سنة - كانت نصف جزء من ثلاثة وعشرين جزءا ، وذلك جزء واحد من ستّة وأربعين جزءاً .(1) انتهى .

واُورد عليه أنّه صلى الله عليه و آله كان يوحى إليه في سائر أيّام حياته في النوم في أحكام الشريعة ، وأنّه كان يرى الرؤيا بعد ذلك كما دلّت عليه الآيات كقوله تعالى : « لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ »(2) وقوله تعالى : « وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ »(3) .

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الرؤيا بعد تلك المدّة لمّا كانت قليلة جدّاً لم تقدح في ذلك .

وقيل : إنّها إنّما كانت جزءاً من النبوّة في حقّ الأنبياء دون غيرهم .

وقيل : إنّا جزء من أجزاء علم النبوّة وعلم النبوّة باقٍ والنبوّة غير باقية .

وقيل : المراد أنّها كالنبوّة في الحكم بالصحّة ، وهو معنى قوله صلى الله عليه و آله : «ذهبت النبوّة وبقيت المبشّرات الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له» .

ص: 583


1- . بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 178 .
2- . الفتح 48 : 27 .
3- . الإسراء 17 : 60 .

تتميم : [ في سبب نزول قوله تعالى : « إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ »]

روى القمّيّ في تفسيره في قوله تعالى : « إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ »(1) الآية ، عن أبيه ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن أبي بصير ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «كان سبب نزول هذه الآية أنّ فاطمة عليهاالسلام رأت في منامها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله همّ أن يخرج هو وعليّ وفاطمة والحسن والحسين من المدينة ، فخرجوا حتّى جاوزوا من حيطان المدينة فعرض لهم طريقان ، فأخذ رسول اللّه ذات اليمين حتّى انتهى بهم إلى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول اللّه شاةً كبراء - وهي التي في إحدى اُذنيها نقط بيض - فأمر بذبحها ، فلمّا أكلوا ماتوا في مكانهم ، فانتبهت فاطمة باكية ذعرة فلم تخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله بذلك .

فلمّا أصبحت جاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله بحمار فأركب عليه فاطمة وأمر أن يخرج أميرالمؤمنين والحسن والحسين من المدينة - كما رأت فاطمة - في نومها - ، فلمّا خرجوا من حيطان المدينة عرض لهم طريقان ، فأخذ رسول اللّه ذات اليمين - كما رأت فاطمة عليهاالسلام - حتّى انتهوا إلى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول اللّه شاةً كبراء - كما رأت فاطمة - فأمر بذبحها فذُبحت وشويت .

فلمّا أرادوا أكلها قامت فاطمة وتنحّت ناحية منهم تبكي مخافة أن يموتوا ، فطلبها رسول اللّه حتّى وقف عليها وهي تبكي ، فقال : ما شأنك يا بنيّة ؟ قالت : يا رسول اللّه ، إنّي رأيت البارحة كذا وكذا في نومي ، وفعلت أنت كما رأيته ، فتنحّيت عنكم لئلاّ أراكم

تموتون .

فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله فصلّى ركعتين ثمّ ناجى ربّه ، فنزل عليه جبرئيل ، فقال : يا محمّد ، هذا شيطان يقال له : الرها ، وهو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا ، و يؤذي(2) المؤمنين في نومهم ما يغتمّون به ، فأمر جبرئيل ، فجاء به إلى رسول اللّه ، فقال : أنت أريت فاطمة هذه الرؤيا ؟ قال : نعم يا محمّد ، فبصق عليه ثلاث بزقات فشجّه في ثلاث مواضع .

ص: 584


1- . المجادلة 58 : 10 .
2- . هكذا في النسخ الثلاث التي بأيدينا وفي المصدر ، ولكن في المطبوع : «يُري» بدل «يؤذي» .

ثمّ قال جبرئيل لمحمّد صلى الله عليه و آله : إذا رأيت في منامك شيئاً تكرهه ، أو رأى أحد من المؤمنين ، فليقل : أعوذ بما عاذت به ملائكة اللّه المقرّبون وأنبياء اللّه المرسلون وعباده الصالحون من شرّ ما رأيت من رؤياي ، ويقرأ الحمد والمعوّذتين وقل هو أللّه أحد ، ويتفل عن يساره ثلاث تفلات ؛ فإنّه لا يضرّه ما رأى ، فأنزل اللّه على رسوله : « إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ » الآية»(1) .

والإشكال في هذا الخبر من وجهين :

أحدهما : أنّ ظاهره تمثّل الشيطان بصورهم عليهم السلام حيث قال فيه : «إنّ الشيطان هو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا» ، وهو منافٍ لما تقدّم من أنّ الشيطان لا يتمثّل بهم عليهم السلام .

والثاني : كون رؤياها شيطانيّة ،وهو مناف لشرف عصمتها(2) .

وأُجيب عن الأوّل : بأنّ المعنى أنّ الشيطان أراها هذه الرؤيا على أنّهم قد ماتوا بعد الأكل ، وإلاّ فجميع ما رأته كان حقّاً وصدقاً ، والذي تخلّف منها إنّما هو رؤيتها لموتهم بعد الأكل .

وعن الثاني : بأنّ تعرّض الشيطان لها وكون منامها شيطانيّاً وإن كان بعيداً ، ولكن باعتبار عدم بقاء الشبهة وزوالها سريعاً وترتّب المعجز من الرسول صلى الله عليه و آله في ذلك ، والمنفعة المستمرّة للاُمّة ببركتها عليهاالسلاميقلّ الاستبعاد المذكور ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

ختام به الإتمام : [ الرؤيا الصادقة والكاذبة ]

روى ثقة الإسلام في الكافي ، عن الرضا عليه السلام قال : «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان إذا أصبح قال لأصحابه : هل من مبشّرات ؟ يعني به الرؤيا» .(3)

وعن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : جعلت فداك ، الرؤيا الصادقة والكاذبة

ص: 585


1- . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 355 - 356 مع تفاوت يسير وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 187 ، ح 53 .
2- . في بعض النسخ والمطبوع : عظمتها ، وفي بعض النسخ ما أثبتناه ، والظاهر أنّه هو الصحيح .
3- . الكافي ، ج 8 ، ص 90 ، ح 59 .

مخرجهما من موضع واحد ؟

قال : «صدقت ، أمّا الكاذبة المختلفة فإنّ الرجل يراها في أوّل ليله(1) في سلطان المردة الفسقة ، وإنّما هي شيء يخيّل إلى الرجل ، وهي كاذبة مخالفة لا خير فيها . وأمّا الصادقة إذا رآها بعد الثلثين من الليل مع حلول الملائكة - وذلك قبل السحر - فهي صادقة لا تختلف إن شاء اللّه إلاّ أن يكون جنبا أو ينام على غير طهور أو لم يذكر اللّه تعالى حقيقة ذكره ؛ فإنّها تختلف وتبطئ على صاحبها» .

بيان : قوله عليه السلام : «مخرجهما من موضع واحد» لعلّ معناه : أنّ ارتسامهما في محلّ واحد ، أو أنّ علّتهما معاً الارتسام ولكنّ علّة الارتسام فيهما مختلفة ، أو أنّ كليهما صوراً علميّة يخلقهما اللّه تعالى في قلوب عباده بأسباب روحانيّة أو شيطانيّة أو طبيعيّة .

وقوله عليه السلام : «في سلطان المردة الفسقة» لعلّه عبّر بذلك عن أوّل الليل ؛ لأنّه يستولي على الإنسان شهوات ما رآه في النهار وكثرت في ذهنه الصور الخياليّة ، واختلط بعضها ببعض ، وبسبب كثرة مزاولة الاُمور الدنيويّة يبعد من ربّه وتغلب عليه القوى النفسانيّة والطبيعيّة .

فبسبب هذه الاُمور تبعد عنه ملائكة الرحمن وتستولي عليه جنود الشيطان ، فإذا كان وقت السحر سكنت قواه وزال عنه ما اعتراه من الخيالات الشهوانيّة ، فأقبل عليه مولاه بالفضل والإحسان ، وأرسل إليه ملائكة ليدفعوا عنه أحزاب الشيطان ، فما كان في الحالة الاُولى فهو من الوساوس الشيطانيّة ، وما كان من الثانية فهو من الإفاضات الرحمانيّة .

وعن معمّر بن خلاّد ، قال : سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول : «ربّما رأيت الرؤيا فاُعبّرها ، والرؤيا على ما تُعَبَّر» .(2)

ص: 586


1- . كذا في النسخ وأكثر المصادر الحديثيّة ، وفى النسخة المطبوعة من الكتاب : «اللّيل» مكان «ليله» .
2- . الكافي ، ج 8 ، ص 91 ، ح 62 ؛ وعنه في الفصول المهمّة ، ج 1 ، ص 689 ، ح 1093 ؛ وبحار الأنوار ، ج 58 ، ص 193 ، ح 75 .

وعن الحسن بن جهم ، قال : سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول : «الرؤيا على ما تُعَبَّر» . فقلت له : إنّ بعض أصحابنا روى أنّ رؤيا الملك كانت أضغاث أحلام . فقال أبوالحسن عليه السلام : «إنّ امرأة رأت على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّ جذع بيتها قد انكسر ، فأتت رسول اللّه فقصّت عليه الرؤيا ، فقال لها النبيّ صلى الله عليه و آله : يقدم زوجك ويأتي وهو صالح ، وقد كان زوجها غائباً ، فقدم كما قال النبيّ صلى الله عليه و آله . ثمّ غاب عنها زوجها غيبة اُخرى ، فرأت في المنام كأنّ جذع بيتها قد انكسر فأتت النبيّ فقصّت عليه الرؤيا ، فقال لها : يقدم زوجك ويأتي صالحاً ، فقدم على ما قال ، ثمّ غاب زوجها ثالثة فرأت في منامها أنّ جذع بيتها قد انكسر ، فلقيت رجلاً أعسر فقصّت عليه الرؤيا ، فقال لها الرجل السوء : يموت زوجك ، قال : فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه و آله فقال : ألا كان عبّر لها خيراً» .(1)

بيان : اُريد بالملك ملك مصر الذي كان في زمان يوسف عليه السلام ، وتوجيه تطبيق الجواب على السؤال أنّ الرؤيا على ما تعبّر كائناً ما كان .

وعن جابر بن يزيد ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يقول : إنّ رؤيا المؤمن ترفّ بين السماء والأرض على رأس صاحبها حتّى يعبّرها لنفسه أو يعبّرها له مثله ، فإذا عبّرت لزمت الأرض ، فلا تقصّوا رؤياكم إلاّ على من يعقل»(2) .

وعن أبي بصير ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الرؤيا لا تقصّ إلاّ على مؤمن خلا من الحسد والبغي» .

وعن ابن اُذينة : أنّ رجلاً دخل على أبي عبداللّه عليه السلام فقال : رأيت كأنّ الشمس طالعة على رأسي دون جسدي ، فقال : «تنال أمراً جسيماً ، ونوراً ساطعاً ، وديناً شاملاً ، فلو غطّتك لانغمست فيه ولكنّها غطّت رأسك ، أما قرأت : « فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذَا رَبِّي هذَا أَكْبَرُ »(3) تبرّأ منها إبراهيم عليه السلام » . قال : قلت : جعلت فداك ، إنّهم يقولون : إنّ الشمس خليفة أو ملك . فقال : «ما أراك تنال الخلافة ، ولم يكن في آبائك وأجدادك

ص: 587


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 335 ، ح 528 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 164 ، ح 13 .
2- . الكافي ، ج 8 ، ص 336 ، ح 529 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 173 ، ح 33 ؛ ومستدرك الوسائل ، ج 5 ، ص 117 ، ح 5471 .
3- . الأنعام 6 : 78 .

ملك ، وأيّ خلافة وملوكيّة أكبر من الدين والنور ترجو به دخول الجنّة ، إنّهم يغلطون» .

قلت : صدقت جعلت فداك .(1)

وعنه : عن رجل رأى كأنّ الشمس طالعة على قدميه دون جسده ، قال : «مال(2) يناله من نبات الأرض من بُرّ أو تمر يطأه بقدميه ويتّسع فيه وهو حلال ، إلاّ أنّه يكدّ فيه كما كدّ آدم عليه السلام »(3) .

وعن محمّد بن مسلم ، قال : دخلت على أبي عبداللّه عليه السلام وعنده أبو حنيفة ، فقلت له : جعلت فداك ، رأيت رؤيا عجيبة . فقال لي : «يابن مسلم ، هاتها ؛ فإنّ العالم بها جالس» وأومأ بيده إلى أبي حنيفة . قال : فقلت : رأيت كأنّي دخلت داري وإذا أهلي قد خرجت علَيّ فكسرت جوزاً كثيراً ونثرت علَيّ ، فتعجّبت من هذه الرؤيا . فقال أبو حنيفة : أنت رجل تخاصم وتجادل أيّاماً(4) في مواريث أهلك ، فبعد نصب شديد تنال حاجتك منهم إن شاء اللّه . فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «أصبت واللّه يا أبا حنيفة» . قال : ثمّ خرج أبو حنيفة من عنده ، فقلت : جعلت فداك ، إنّي كرهت تعبير هذا الناصب . فقال : «يابن مسلم ، لا يسوؤك اللّه ، فما يواطئ تعبيرهم تعبيرنا ولا تعبيرنا تعبيرهم ، وليس التعبير كما عبّره» . قال : فقلت : جعلت فداك ، فقولك : «أصبت واللّه» وتحلف عليه وهو مخطئ ؟! قال : «نعم ، حلفت عليه أنّه أصاب الخطأ» . قال : فقلت له : فما تأويلها ؟ قال : «يابن مسلم ، إنّك تتمتّع بامرأة» ، فتعلم بها أهلك فتمزّق عليك ثياباً جدداً فإنّ القشر كسوة اللبّ(5) .

قال ابن مسلم : فواللّه ما كان بين تعبيره وتصحيح الرؤيا إلاّ صبيحة الخميس ، فلمّا كان غداة الجمعة وأنا جالس بالباب إذ مرّت بي جارية فأعجبتني ، فأمرت غلامي فردّها ثمّ أدخلها داري ، فتمتّعت بها فأحسّت بي وبها أهلي ، فدخلت علينا البيت ، فبادرت

ص: 588


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 291 ، ح 445 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 161 ، ح 10 .
2- . كذا في النسخ الثلاث والمطبوع من الكتاب ، لكن في الكافي المطبوع : «ما» بدل «مال» .
3- . الكافي ، ج 8 ، ص 292 ، ح 446 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 162 ، ح 11 مع تفاوت يسير .
4- . كذا في النسخ الثلاث والمطبوع من الكتاب ، لكن في الكافي وبحار الأنوار : «لئاما» بدل «أيّاما» .
5- . أثبتنا الكلمة من المصدر . وفي النسخ والمطبوع : «كسوة العبد» .

الجارية نحو الباب وبقيت أنا ، فمزّقت علَيّ ثياباً جدداً كنت ألبسها في الأعياد .

وجاء موسى الزرّاد(1) العطّار إلى أبي عبداللّه فقال له : يابن رسول اللّه ، رأيت رؤيا هالتني ، رأيت صهراً لي ميّتاً قد عانقني وقد خفت أن يكون الأجل قد اقترب .

فقال عليه السلام : «يا موسى ، توقّع الموت صباحاً ومساءا ؛ فإنّه ملاقينا ، ومعانقة الأموات للأحياء أطول لأعمارهم ، فما كان اسم صهرك ؟»

قال : حسين .

فقال : «أما إنّ رؤياك تدلّ على بقائك وزيارتك أبا عبداللّه الحسين عليه السلام ؛ فإنّ كلّ من عانق سميّ الحسين فإنّه يزوره إن شاء اللّه» .(2)

وذكر إسماعيل بن عبداللّه القرشيّ ، قال : أتى إلى أبي عبداللّه عليه السلام رجل ، فقال له : يابن رسول اللّه ، رأيت في منامي كأنّي خارج من مدينة الكوفة في موضع أعرفه ، وكأنّ شبحاً من خشب أو رجلاً منحوتاً من خشب على فرس من خشب يلوّح بسيفه وأنا اُشاهده فزعاً مرعوباً .

فقال له عليه السلام : «أنت رجل تريد اغتيال رجل في معيشته ، فاتّق اللّه الذي خلقك ثمّ يميتك» .

فقال الرجل : أشهد أنّك قد اُوتيت علماً واستنبطته من معدنه ، اُخبرك يابن رسول اللّه عمّا فسّرت لي : إنّ رجلاً من جيراني جاءني وعرض علَيّ ضيعته ، فهممت أن أملكها بوكس(3) كثير ؛ لما عرفت أنّه ليس لها طالب غيري . فقال أبو عبداللّه عليه السلام :

«وصاحبك يتولاّنا ويتبرّأ من عدوّنا ؟» قال : نعم يابن رسول اللّه ، رجل جيّد البصيرة مستحكم الدين ، وأنا تائب إلى اللّه وإليك ممّا هممت به ونويت به ، فأخبرني يابن رسول اللّه لو كان ناصبيّاً أيحلّ اغتياله ؟ فقال : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك وأراد منك

ص: 589


1- . كذا في المطبوع ، لكن في النسخ الثلاث وفي المصادر الروائيّة : «الزوّار» بدل «الزرّاد» .
2- . الكافي ، ج 8 ، ص 293 ، ح 447 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 162 ، ح 12 .
3- . الوكس : النقص ، واتضاع الثمن في البيع . اُنظر : الصحاح ، ج 3 ، ص 989 ؛ لسان العرب ، ج 6 ، ص 257 وكس .

النصيحة ولو إلى قاتل الحسين عليه السلام » .(1)

وعن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «رأيت كأنّي على رأس جبل والناس يصعدون إليه من كلّ جانب حتّى إذا كثروا عليه تطاول بهم في السماء وجعل الناس يتساقطون عنه من كلّ جانب حتّى لم يبق منهم إلاّ عصابة يسيرة ، ففعل ذلك خمس مرّات في كلّ مرّة يتساقطون عنه وتبقى تلك العصابة ، أما إنّ قيس بن عبداللّه بن عجلان في تلك العصابة» .

قال : فما مكث بعد ذلك إلاّ خمس(2) حتّى هلك .(3)

وعن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «إنّ رجلاً كان على أميال من المدينة فرأى في منامه فقيل له : انطلق فصلّ على أبي جعفر عليه السلام ؛ فإنّ الملائكة تغسله في البقيع ، فجاء الرجل فوجد أبا جعفر عليه السلام قد توفّي» .(4)

وعن ياسر الخادم ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام : رأيت في النوم كأنّ قفصاً فيه سبع عشرة قارورة إذ وقع القفص فتكسّرت القوارير . فقال : «إن صدقت رؤياك يخرج رجل من أهل بيتي يملك سبعة عشر يوماً ثمّ يموت» . فخرج محمّد بن إبراهيم بالكوفة مع أبي السرايا ، فمكث سبعة عشر يوماً ثمّ مات .(5)

ص: 590


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 293 ، ح 448 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 449 ، ح 22967 ؛ وبحار الأنوار ، ج 58 ، ص 163 ، ح 12 .
2- . كذا في النسخ الثلاث والمطبوع ، وفي المصدر : «نحوا من خمس» .
3- . الكافي ، ج 8 ، ص 182 ، ح 206 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 165 ، ح 14 ؛ رجال الكشّي ، ص 242 ، ح 444 .
4- . الكافي ، ج 8 ، ص 183 ، ح 207 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 183 ، ح 48 ؛ ومدينة المعاجز ، ج 5 ، ص 61 ، ح 1479 .
5- . الكافي ، ج 8 ، ص 257 ، ح 370 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 49 ، ص 223 ، ح 16 ؛ مناقب أبي طالب ، ج 4 ، ص 352 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 160 ، ح 7 ؛ مدينة المعاجز ، ج 7 ، ص 256 ، ح 2307 .

الحديث السابع والثمانون : الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر

الحديث السابع و الثمانون

[ الدنيا سجن المؤمن و جنّة الكافر ]

ما رويناه عن المحدّث الحرّ العامليّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر»(1) .

وهذا الحديث مستفيض من طرق العامّة(2) والخاصّة .(3)

والإشكال فيه : إنّ كثيراً من المؤمنين حالهم في الدنيا في نهاية الاستقامة والسعة ، وكثير من الكفّار حالهم في الدنيا في نهاية الضيق والعسر .

ويمكن دفع هذا الإشكال بوجوه :

الأوّل : أنّ المؤمن وإن كان حاله في الدنيا في سعة ويسر ، إلاّ أنّه بالنسبة إلى حاله في الآخرة ومحلّه فيها في سجن في الدنيا ، والكافر بعكس ذلك .

وهذا الجواب مرويّ عن أبي محمّد الحسن عليه السلام حين اعترض عليه اليهوديّ فأجابه بهذا الجواب(4) .

الثاني : أن يكون محمولاً على الأغلبيّة بالنسبة إلى جميع المؤمنين وجميع الكفّار ،

ص: 591


1- . وسائل الشيعة ، ج 16 ، ص 17 ، ح 20846 ؛ و ج 24 ، ص 245 ، ح 30452 .
2- . راجع : مسند أحمد ، ج 2 ، ص 323 ؛ سنن ابن ماجة ، ج 2 ، ص 1378 ، ح 4113 ؛ سنن الترمذي ، ج 3 ، ص 384 ، ح 2426 ؛ كنز العمّال ، ج 3 ، ص 185 ، ح 6081 .
3- . راجع : من لا يحضره الفقيه ، ج 4 ، ص 363 ، ح 5762 ؛ تحف العقول ، ص 53 ؛ الأمالي للطوسي ، ص 346 ، المجلس 12 ، ح 715 ؛ مكارم الأخلاق ، ص 439 ؛ بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 169 ، ح 41 .
4- . كشف الغمّة ، ج 1 ، ص 544 ؛ الفصول المهمّة ، ص 703 ؛ بحار الأنوار ، ج 43 ، ص 346 - 347 ؛ و ج 65 ، ص 220 .

والبناء على الغالب جائز في سائر المقامات .

الثالث : أنّ المؤمن في الدنيا لمّا كان لم يزل في ملاحظة الطاعات والإتيان بالواجبات والمستحبّات في جميع الأوقات ، وفي اجتناب المحرّمات والمكروهات ، ولم يزل يتأمّل في العواقب ، ويتذكّر النار والحساب والعقاب ، فهو من حيث ملاحظة هذه الامور وعدم مفارقته لها في سجنٍ ، والكافر لمّا كان دائماً في الانهماك في المعاصي واللذّات ولا يخطر بباله جنّة ولا نار ولا حساب ولا عقاب فالدنيا جنّة له .

الرابع : أن يكون المراد : الدنيا سجن للمؤمن الكامل في الإيمان ، وجنّة للكافر الكامل في الكفر ، كما روي :، «أنّ أشدّ الناس بلاء في الدنيا الأنبياء ، ثمّ الأوصياء ، ثمّ الأمثل فالأمثل»(1) .

الخامس : أن يكون خبراً بمعنى الأمر ، أي ينبغي للمؤمن أن يجعل الدنيا على نفسه بمنزلة السجن ، كما أنّ المحبوس في السجن لا يريد تناول ما زاد على أقلّ الكفاية كسدّ الرمق ، وفكره مصروف إلى أسباب الخروج .

وهذا المعنى في بقيّة الحديث لا يخلو عن بعد ، ويمكن أن يوجّه بأنّه بالنسبة إلى الكافر على وجه التهديد والوعيد كقوله تعالى : « اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ »(2) أو المعنى : يحقّ للكافر أن يتّخذ الدنيا جنّة له ، فإنّه ليس له في الآخرة نصيب إلاّ العذاب والعقاب .

السادس : أن يكون المعنى : أنّ المؤمن يعدّ الدنيا على نفسه سجناً فلا يرغب إليها ولا يميل إلى لذّاتها ويخشى من غوائلها وإن كان متنعّماً فيها ظاهراً ، والكافر بعكس ذلك .

ص: 592


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 259 ، باب شدّة ابتلاء المؤمن ، ح 29 ؛ علل الشرائع ، ج 1 ، ص 44 ، ح 1 ؛ الأمالي للطوسي ، 659 ، المجلس 35 ، ح 1363 ؛ وسائل الشيعة ، ج 3 ، ص 262 ، ح 3589 ؛ بحار الأنوار ، ج 64 ، ص 222 ، ح 6 .
2- . فصّلت 41 : 40 .

الحديث الثامن والثمانون : عقول النساء في جمالهنّ وجمال الرجال في عقولهم

الحديث الثامن والثمانون

[ عقول النساء في جمالهنّ وجمال الرجال في عقولهم ]

ما رويناه بالأسانيد عن الصدوق في الأمالي ، بإسناده عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن عليّ عليه السلام قال : «عقول النساء في جمالهنّ ، وجمال الرجال في عقولهم»(1) .

ووجّهت الفقرة الاُولى بمعان :

الأوّل : أنّ المعنى : ينبغي أن يراد من النساء الجمال ، فلا ينبغي أن يطلب منهنّ العقول ، فكأنّه قيل : عقول النساء موجودة في جمالهنّ ؛ لأنّ الجمال يغني عن العقل ، وهو عوض عنه ، فلا ينبغي أن يراد منهنّ ما يراد من العقلاء من التدبير والرأي ؛ لندرة العقل

فيهنّ .

الثاني : أن يراد : أنّ عقول النساء لازمة لجمالهنّ بحسب الغالب ، فالتي هي جميلة عاقلة ، وإذا كبرت وذهب جمالها ذهب عقلها . وقد قيل : مَن حَسُن خَلقه حَسُن خُلقه ،والجمال يطلق على الحُسن والخَلق والخُلق .

الثالث : أن يكون المعنى : النساء عقولهنّ مصروفة في جمالهنّ ، فإنّ المرأة تصرف عقلها في تحسين نفسها وتجميلها من الخضاب والحنّاء والدهن والصبغ والطيب ، فإنّ همّة النساء هذه الأشياء ، بخلاف الرجال فإنّ جمالهم مصروف في عقولهم ، يعني :

أنّ همّتهم ليست في التجمّل ، بل في كسب العقل وتحصيله وتكميله ، أو في تحصيل العلم ، فإنّ العقل يطلق عليه .

الرابع : أن يراد : أنّ عقول النساء مخفيّة في جمالهنّ ؛ لأنّ جمالهنّ ظاهر للناس منظور للعقلاء . وعقولهنّ - لضعفها وندورها - لا تظهر بالنسبة إلى الجمال ، فكأنّه

ص: 593


1- . الأمالي للصدوق ، ص 228 ، المجلس 40 ، ح 9 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 82 ، ح 1 .

سترها وغطّاها وأخفاها ، والقول في جمال الرجال في عقولهم بالعكس .

الخامس : أن يراد : أنّ عقول النساء كائنة في جمالهنّ ، بمعنى أنّ ذات الجمال منهنّ تميل النفوس إليها وتُقبل القلوب عليها ، ويرضى الناس عقلها وإن كان ضعيفاً ، فإنّ زيادة الجمال تجبره ، وغير ذات الجمال لا تميل النفوس إليها وإن كان عقلها أحسن من عقل الجميلة ، فكأنّ عقل كلّ واحدة منهنّ كائن في جمالها والجمال يبديه ويقوّيه وإن كان ضعيفاً ، وعدمه يخفيه ويوهنه وإن كان قويّاً بالنسبة إلى ما دونه .

السادس : أن يكون استفهاماً إنكاريّاً في الفقرتين ، أي : أتظنّون أنّ عقول النساء في جمالهنّ ، فمن ثَمّ تميلون إلى الجميلة ولاتسألون عن عقلها ؟! ليس الأمر كذلك ، بل العقل ينفكّ عن الجمال فيوجد كلّ منهما بدون الآخر ، فينبغي أن لا تكتفوا فيهنّ بالجمال بدون العقل ، بل يكون الغرض الأهمّ عندكم العقل ، ويكون الجمال مقصوداً بالتبعيّة لا بالإصالة ، ويؤيّد ذلك ما ورد(1) من النهي عن تزوّج المرأة لأجل مالها أو جمالها .

وفي الفقرة الثانية كأنّه عليه السلام يقول : أتظنّون أنّ جمال الرجال في عقولهم وحدها ؟! ليس الأمر كذلك ، بل لابدّ من وجود العلم والدين والصلاح والكرم والمروّة وغير ذلك من صفات الجمال .

ص: 594


1- . اُنظر : وسائل الشيعة ، ج 20 ، ص 35 ، ح 24963 ؛ وص 49 ، ح 25004 و25006 و25008 و25014 ؛ وص 53 ، ح 25015 ؛ وص 54 ، ح 25018 و25019 .

الحديث التاسع والثمانون : استنطاق العقل

الحديث التاسع والثمانون

[ استنطاق العقل ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام في الكافي بأسانيد عديدة ومتون متفاوتة(1) عن الأئمّة عليهم السلام ومنها : في الصحيح عن الباقر عليه السلام : «لمّا خلق اللّه العقل استنطقه ثمّ قال له : أقبل ، فأقبل ، ثمّ قال له : أدبر ، فأدبر ، ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك ، ولا أكملتك إلاّ فيمن اُحبّ ، أما إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى ، وإيّاك اُعاقب ، وإيّاك أثيب»(2) .

وقد استشكل فيه من وجوه :

الأوّل : انّ قوله : «استنطقه» مع كونه ليس من أهل النطق ، ما وجهه ؟

واُجيب بوجوه :

أوّلاً : أنّه بمعنى كلّمه ، والتكلّم قد يكون مع من لا يفهم الكلام لغرض آخر ، كما ورد عنهم عليهم السلام : «أنّه ينبغي أن يمرّ الإنسان وبالدار والخربة فيقول : أين بانوك ؟ أين ساكنوك(3)» ؟ ونحو ذلك . ولعلّ المقصود من مكالمة العقل مجرّد إظهار انقياده وإطاعته لا نطقه .

وثانياً : أنّه لا يبعد بقاؤه على ظاهره ويكون اللّه تعالى قد أودع فيه قدرة على النطق وأعطاه الاقتدار على ذلك بدون جارحة ، كما اتّفق في الشجرة مع موسى وغيرها ، وفي الكتاب الكريم ما يرشد إلى ذلك كقوله تعالى : « أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ »(4) ،

ص: 595


1- . اُنظر : الكافي ، ج 1 ، ص 20 ، كتاب العقل والجهل ، ح 14 وص 26 ، ح 26 وص 27 ، ح 32 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 10 ، كتاب العقل والجهل ، ح 1 .
3- . المحاسن ، ج1 ، ص26 ، ح5 ، الكافي ، ج2 ، ص55 ، باب التفكر ، ح2 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج15 ، ص195 ، ح20259 ، بحار الأنوار ، ج68 ، ص320 ، ح2 .
4- . فصّلت 41 : 21 .

وقوله تعالى : « أَتَيْنَا طَائِعِينَ »(1) ، وقوله تعالى : « وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ »(2) .

وثالثاً : أن يراد بالنطق المجازيّ وهو الإخبار بلسان الحال .

الثاني : أنّ قوله عليه السلام : «ثمّ قال له أقبل ، إلخ» ، ظاهره الترتيب بتراخ مع أنّه لا تراخي ظاهراً .

واُجيب بوجوه :

الأوّل : أنّه لا بُعد فيوقوع التراخي بين هذه الاُمور .

الثاني : أنّ لفظة «ثمَّ» قد تأتي للترتيب باتّصال كما في قول الشاعر :

* جرى في الأنابيب ثمّ اضطرب *

الثالث : أنّ التراخي في كلّ شيء بحسبه ، والاُمور العظيمة المهمّة تستعمل فيها «ثمَّ» دون الفاء ؛ لأنّها لعظم قدرها ينبغي أن تكون في أزمنة متباعدة .

الثالث : أنّ الإقبال والإدبار لا يتصوّر وقوعهما من العقل ظاهراً أو لا تظهر لهما فائدة .

واُجيب بأنّه لا ، بعد في ذلك مع أنّ اللّه على كلّ شيء قدير ، ولعلّ الغرض منهما إظهار الانقياد مع أنّه لا بُعد في أن يخلق اللّه العقل أوّلاً على حالة يمكن اتّصافه بالإقبال والإدبار الحقيقيّين ، فقد أعطى اللّه الملائكة والجنّ القدرة على التشكّل بالأشكال .

الرابع : أنّ الإقبال والإدبار إنّما يتصوّران بالنسبة إلى المكان ، واللّه تعالى منزّه عنه . على أنّه قد ورد(3) أنّ العقل أوّل المخلوقات ، فلم يكن حينئذٍ مكان .

واُجيب بأنّ الإقبال والإدبار لا ينحصران في الجسمانيّات ، بل قد يكونان في غير المكان ، كما يقال : فلان أقبل على العلم وأدبر عن الجهل . على أنّه لا دلالة فيهما بكونه تعالى في مكان ، بل يمكن أن يعيّن للعقل مكاناً للإقبال والإدبار كما يختاره ويريده .

وما ورد من أنّ العقل أوّل المخلوقات فمحمول على الأوّليّة الإضافيّة ، وقد ورد في

ص: 596


1- . فصّلت 41 : 11 .
2- . الإسراء 17 : 44 .
3- . اُنظر : الكافي ، ج 1 ، ص 21 ، كتاب العقل والجهل ، ح 14 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 4 ، ص 369 ، ح 5762 ؛ الخصال ، ج 2 ، ص 589 ، ح 13 ؛ تحف العقول ، ص 400 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 97 ، ح 8 .

بعض الأخبار : «أنّه أوّل خلق من الروحانيّين» .(1)

الخامس : أنّ التكليف متوقّف على كمال العقل ، وقد تضمّن هذا الحديث أنّه لا يكمل إلاّ فيمن أحبّه اللّه فيلزم أن يكون من أبغضه اللّه غير مكلّف .

واُجيب بأنّ التكليف موقوف على العقل لا على كماله ، والعقل على أقسامه وكماله له مراتب متفاوتة ، فالإكمال المذكور في الحديث محمول على ما هو أعلى درجة ممّا يتوقّف عليه التكليف . وإكمال العقل إمّا أن يكون تفضّلاً من اللّه على بعض العباد

بواسطة عملهم الصالح ، أو تفضّلاً محضاً ، أو بتوفيقهم للعمل بمقتضى ما وهبهم من العقل .

السادس : أنّ التكليف متوجّه إلى الإنسان العاقل لا إلى نفس العقل ، فما معنى إيّاك آمر وإيّاك أنهى ؟ وما الحكمة في تقديم المعمول ؟

واُجيب بأنّ العقل كان مكلّفاً في ذلك الوقت بالإقبال والإدبار بلا شبهة ، ولا بُعد أيضاً في كونه مكلّفاً بغير ذلك من تحصيل المعارف والاعتقادات . ولا بُعد في استمرار تكليفه بمثل ذلك ، والاختصاص قد يكون للحصر الحقيقيّ في ذلك الوقت وتأتي له فائدة اُخرى .

السابع : انّه كيف يجمع بين هذا الحديث وبين ما ورد في آخر بهذا اللفظ : «بك آخذ وبك اُعطي ، وبك اُثيب وبك اُعاقب»(2) ممّا يدلّ على أنّ المكلّف غيره بسببه وواسطته ؟

واُجيب بأنّه لا منافاة بين أن يكون العقل مكلّفاً بتكليف خاصّ وبين أن يكون دليلاً للمكلّفين على تكليفهم ومناطاً فيه ، وليس المراد أنّ العقل يثاب ويعاقب بفعل صاحبه ، بل كلّ منهما يثاب ويعاقب بفعل نفسه .

الثامن : انّ العقل إذا كان من المجرّدات فلا يتصوّر تعلّق الثواب والعقاب به ، وإن

ص: 597


1- . المحاسن ، ج 1 ، ص 196 ، ح 22 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 21 ، كتاب العقل والجهل ، ح 14 ؛ الخصال ، ج 2 ، ص 589 ، ح 13 ؛ تحف العقول ، ص 400 ؛ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 109 ، ح 7 .
2- . اُنظر : من لا يحضره الفقيه ، ج 4 ، ص 369 ، ح 5762 ؛ الجواهر السنيّة ، ص 145 ؛ عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 100 ، ح 142 ؛ و عنه في بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 97 ، ح 9 .

جُعل متشكّلاً بشكل ليمكن تعلّق الثواب والعقاب بذلك الشكل ، فلا يستحقّ ثواباً ولا عقاباً .

واُجيب بأنّ اللّه تعالى قادر على أن يوصل إليه ثواباً وعقاباً بما يناسبه ،(1) بل قد وقع ذلك بالفعل كما دلّ عليه حديث جنود العقل والجهل مع أنّ تجرّد العقل غير ثابت ، بل يظهر من الأخبار أن لا مجرّد إلاّ اللّه .

التاسع : أنّ اللّه سبحانه كان عالماً بطاعة العقل فماوجه الأمر ؟

والجواب : أنّه تعالى عالم بطاعة كلّ مطيع بمعصية كلّ عاص ومع ذلك يحسن التكليف اظهاراً للطاعة والمعصية ؛ ليستحقّ الفاعل الثواب أو العقاب .

أقول : لا يخفى عليك ما في هذه الأسئلة والأجوبة من الركاكة والسخافة والتكلّف والتعسّف ، والعجب من المحدّث الحرّ العامليّ حيث ذكر هذه الأسئلة والأجوبة بأدنى تغيير وإصلاح منّا .(2)

ص: 598


1- . اُنظر : الكافي ، ج 1 ، ص 21 ، كتاب العقل والجهل ، ح 14 ؛ الخصال ، ص 589 ، ح 13 ، وعنه في بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 109 ، ح 7 .
2- . راجع : الفوائد الطوسيّة ، ص 42 - 49 ، فائدة 12 .

الحديث التسعون : لا تسبّوا الدهر فإنّه هو اللّه

الحديث التسعون

[ لا تسبّوا الدهر فانّه هو اللّه ]

ما روينا بالأسانيد عن السيّد المرتضى رحمه الله عن النبيّ صلى الله عليه و آله مرسلاً قال : «لا تسبّوا الدهر ، فإنّه هو اللّه»(1) .(2)

قال السيّد رحمه الله :

قد ذكر قوم في تأويل هذا الخبر أنّ المراد به : لا تسبّوا الدهر ؛ فإنّه لا فعل له وإنّ اللّه تعالى مصرّفه ومدبّره ، فحذف من الكلام ذكر المصرّف والمدبّر وقال : هو الدهر .

وفي هذا الخبر وجه آخر هو أحسن من الذي ذكرناه ، وهو : أنّ الملحدين ومن نفى الصانع من العرب كانوا ينسبون ما ينزل بهم من أفعال اللّه تعالى - كالمرض والعافية

والجدب والخصب والبقاء والفناء - إلى الدهر ؛ جهلاً منهم بالصانع جلّت عظمته ، ويذمّون الدهر ويسبّونه في كثير من الأحوال حيث اعتقدوا أنّه الفاعل بهم هذه الأفعال ، فنهاهم النبيّ صلى الله عليه و آله عن ذلك ، وقال لهم : لا تسبّوا الدهر ، أي : لا تسبّوا من فعل بكم هذه الأفعال ؛ فإنّ الفاعل لهذه الأفعال هو اللّه ، وإنّما قال : إنّ اللّه تعالى هو الدهر من حيث نسبوا إلى الدهر أفعال اللّه تعالى ، وقد حكى اللّه سبحانه وتعالى عنهم قولهم : « مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ » .(3) انتهى ملخّصاً .

ص: 599


1- . في المصدر : «فإنّ الدهر هو اللّه» .
2- . الأمالي للمرتضى ، ج 1 ، ص 34 ، المجلس 4 .
3- . الأمالي للمرتضى ، ج 1 ، ص 35 ، المجلس 4 . والآية في سورة الجاثية (45) : 24 .

أقول : ويحتمل معنى ثالث ، ولعلّه أقرب وهو : أنّ الدهر اسم من أسماء اللّه تعالى كما ورد في بعض الأدعية : «يا دهر يا ديهور»(1) ، ونظيره ما ورد من النهي عن قول : جاء رمضان ، وانقضى رمضان ، معلّلاً بأنّ رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى .(2)

ص: 600


1- . قوت القلوب ، ج 1 ، ص 22 ؛ مفاتيح الغيب للفخر الرازي ، ج 1 ، ص 140 ؛ مصباح الاُنس ، ص 528 ؛ تحفة الملوك ، ص 200 .
2- . بصائر الدرجات ، ص 311 ، ح 12 ؛ الكافي ، ج 4 ، ص 69 ، باب في النهي عن قول رمضان بلا شهر ، ح 2 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 2 ، ص 172 ، ح 2050 ؛ وسائل الشيعة ، ج 10 ، ص 319 ، ح 13505 ؛ بحار الأنوار ، ج 93 ، ص 376 ، ح 1 .

الحديث الحادي والتسعون : يولج كل واحد ، الخ

الحديث الحادي والتسعون

[ يولج كلّ واحد منهما في صاحبه ويولج صاحبه فيه ]

ما رويناه بالأسانيد عن سيّد الساجدين وزين العابدين عليه السلام قال في دعاء الصباح من الصحيفة السجّاديّة : «يولج كلّ واحد منهما في صاحبه ، ويولج صاحبه فيه»(1) .

وفي هذه الفقرة إشكال مشهور ، وهو : أنّه بحسب الظاهر يستغنى عن قوله : «ويولج صاحبه فيه» بقوله : «يولج كلّ واحد منهما في صاحبه» ، فما الفائدة في التكرار ؟

والجواب من وجوه :

الأوّل : أنّ المراد بالفقرة الثانية التنبيه - بالواو الحاليّة - على أمر مستغرب ، وهو حصول الزيادة والنقصان معاً في كلّ من الليل والنهار في وقت واحد ، وذلك بحسب اختلاف البقاع كالشماليّة عن خطّ الاستواء والجنوبيّة عنه ، سواء كانت مسكونة أم لا ، فإنّ صيف الشماليّة شتاء الجنوبيّة وبالعكس ، فزيادة النهار ونقصانه واقعان في وقت واحد ولكن في بقعتين ، وكذلك زيادة الليل ونقصانه .

ولو لم يصرّح عليه السلام بقوله : «ويولج صاحبه فيه» لم يحصل التنبيه على ذلك ، بل كان الظاهر من كلامه عليه السلام وقوع زيادة النهار في وقت ونقصانه في آخر ، وكذا الليل كما هو محسوس معروف للخاصّ والعامّ ، فالواو في قوله عليه السلام : «ويولج صاحبه فيه» واو الحال بإضمار مبتدأ ، كما هو المشهور بين النحاة .

الثاني : أن يقال : إنّ معنى قوله عليه السلام : «يولج كلّ واحد منهما في صاحبه» يدخل كلاًّ من الليل والنهار في الآخر ، ومعنى قوله : «ويولج صاحبه فيه» جعل كلّ منهما عقيب الآخر

ص: 601


1- . الصحيفة السجّاديّة : ص 48 ، الدعاء 6 ، وعنها في بحار الأنوار ، ج 55 ، ص 199 ، ح 37 .

بلا فصل ؛ فإنّ الإيلاج يرد تارة بمعنى الدخول ، وتارة بمعنى التعقيب ، أي جعل أحدهما عقيب الآخر ، فيكون الإيلاج في الفقرة الاُولى بمعنى الدخول ، وفي الثانيه بمعنى التعقيب أو بالعكس .

الثالث : أنّ الواو في الفقرة الثانية ليست للحال حتّى تحتاج إلى حذف المبتدأ ، بل للعطف كما هو الظاهر ، فالفقرة الاُولى تدلّ على أنّ كلاًّ من الليل والنهار مولج ، والثانية على أنّ كلاًّ منهما مولج فيه ، والثاني وإن كان لازماً للأوّل إلاّ أنّ الأوّل دلّ على ما دلّ عليه الثاني ضمناً وكناية ، والثاني دلّ صريحاً ، والتصريح بما علم كناية وضمناً للاهتمام والمبالغة أمر شائع ذائع بين الفصحاء والبلغاء .

ص: 602

الحديث الثاني والتسعون : لا ينقص من زاده ناقص

الحديث الثاني والتسعون

[ لا ينقص من زاده ناقص ]

ما رويناه أيضاً عن السيّد السجّاد عليه السلام قال فيها : «لا ينقص من زاده ناقص»(1) .

كيف إعرابه ؟ وما معناه ؟

الجواب : «لا» نافية ، و«ينقص» على وزن «ينصر» يستعمل لازماً ومتعدّياً ، وقد استعمل هنا متعدّياً كما في قوله تعالى : « نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا »(2) ، وقوله سبحانه : « غَيْرَ مَنقُوصٍ »(3) .

وقد يستعمل متعدّياً إلى مفعولين بنفسه فيقال : نقصت زيداً حقّه . ويحتمل أن يكون حقّه بدل اشتمال ، فينبغي التمثيل بقولنا : نقص زيد حقه بالبناء للمجهول ونصب حقّه .

و«مَن» موصول منصوب محلاًّ على المفعوليّة («ينقص » ، و«زاد على» وزن باع صلته ، وفاعله مستكنّ راجع إلى اللّه في الفقرات السابقة من الدعاء ، والضمير البارز مفعوله عائد إلى الموصول ، و«ناقص» بالرفع فاعل ينقص .

وهذا الإعراب بعينه يأتي في الفقرة اللاحقة ، وهي قوله : «ولا يزيد من نقص منهم زائد» ، والكلام على حذف مضاف ؛ إذ ليس المراد تعلّق النقص والزيادة بالذات .

والمعنى : أنّ من زاد اللّه قوته أو رزقه منهم لا ينقصه ناقص ، ومن نقصه اللّه

ص: 603


1- . الصحيفة السجّاديّة : ص 22 ، الدعاء 1 .
2- . الرعد 13 : 41 .
3- . هود 11 : 109 .

لا يزيده زائد .

وقدّم المفعولين في الفقرتين لمزيد الاعتناء ببيان فعله تعالى من الزيادة والنقصان . وفائدة الفقرتين التأكيد لما دلّت عليه الفقرة السابقة ، وهو كون القوت من الرزق معلوماً مقسوماً من لدنه سبحانه لا يستطيع غيره أن يتصرّف فيه بزيادة ولانقصان .

ويدلّ على أنّ الأرزاق مقسومة محدودة منه تعالى لا مدخل للعباد فيها بزيادة ونقصان ، وقد تقدّم تحقيق الكلام في ذلك .(1)

ص: 604


1- . راجع شرح الحديث 41 في الجزء الأوّل .

الحديث الثالث والتسعون : يا من لا تبدل حكمة الوسائل

الحديث الثالث والتسعون

[ يا من لا تبدّل حكمته الوسائل ]

ما رويناه أيضاً عنه عليه السلام فيما قال : «يا من لا تبدّل حكمته الوسائل»(1) .

وظاهره ينافي ما ورد من الحثّ على الدعاء ووعد الإجابة . ويمكن دفعه بأنّ المعنى أنّه إذا تُوسّل بغيره تعالى في قضاء حاجة أو تحصيل رزق لا يكون ذلك باعثاً على تبديل حكمته تعالى بأن يقطع عنه رزقه ويمنعه ما منحه من النعم .

وما في الدعاء من قوله عليه السلام : «فقد تعرّض للحرمان واستحقّ من عندك الإحسان»(2) لا ينافيه ، فإنّ هذا يقتضي حرمانه ممّا توسّل لأجله ، ولو توسّل به تعالى لمنحه وأعطاه على أنّ التعرّض والاستحقاق قد لا يقتضيان المنع .

ويمكن أن يكون المعنى : أنّ الحكمة والمصلحة إذا اقتضت تقدير شيء على العبد ، فالتوسّل به تعالى لدفع ذلك لا ينفع ، بل لابدّ من إمضاء ما فيه الحكمة والمصلحة ، كما أنّ المريض إذا توسّل وألحّ على الطبيب بترك الدواء ، والطفل إذا بكى وتضرّع بين يدي والديه للتخلّص من الحجامة والتشريط(3) ونحوهما ، فإنّه لا يدفع ذلك .

ص: 605


1- . الصحيفة السجاديّة ، ص 69 ، الدعاء 13 .
2- . الصحيفة السجّاديّة ، ص 70 ، الدعاء 13 .
3- . التشريط : الحجامة ، اُنظر : لسان العرب ، ج 8 ، ص 418 ؛ القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 257 .

الحديث الرابع والتسعون : ما روي في قوله تعالى : «ألم تر إلى الذين خرجوا»

اشارة

الحديث الرابع والتسعون

[ ما روي في قوله تعالى : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ » ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام في الروضة عن العدّة ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن عمر بن يزيد وغيره ، عن بعضهم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، وبعضهم عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوْا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ »(1) فقال : «إنّ هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام كانوا سبعين ألف بيت ، وكان الطاعون يقع فيهم في كلّ أوان ، فكانوا إذا أحسّوا به خرج من المدينة الأغنياء لقوّتهم وبقي فيها الفقراء لضعفهم ، فكان الموت يكثر في الذين أقاموا ويقلّ في الذين خرجوا ، فيقول الذين خرجوا : لو كنّا أقمنا لكثر فينا الموت ، ويقول الذين أقاموا : لو كنّا خرجنا لقلّ فينا الموت .

قال : فاجتمع رأيهم جميعاً أنّه إذا وقع الطاعون فيهم وأحسّوا به خرجوا كلّهم من المدينة ، فلمّا أحسّوا بالطاعون خرجوا جميعاً وتنحّوا عن الطاعون حذر الموت ، فساروا في البلاد ما شاء اللّه .

ثمّ إنّهم مرّوا بمدينة خربة قد جلى أهلها عنها وأفناهم الطاعون فنزلوا بها ، فلمّا حطّوا رحالهم واطمأنّوا قال لهم اللّه عزّ وجلّ : موتوا جميعاً ، فماتوا من ساعتهم وصاروا رميماً يلوح ، وكانوا على طريق المدينة فكنستهم المارّة ، فنحّوهم وجمعوهم في موضع .

فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بنيإسرائيل يقال له : حزقيل ، فلمّا رأى تلك العظام بكى واستعبر وقال : يا ربّ ، لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتّهم ، فعمّروا بلادك وولدوا عبادك وعبدوك

ص: 606


1- . البقرة 2 : 243 .

مع من يعبدك من خلقك ، فأوحى إليه : أتحبّ ذلك ؟ قال : نعم يا ربّ ، فأحياهم اللّه . قال : فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه أن قل : كذا وكذا ، فقال الذي أمره اللّه عزّ وجلّ أن يقوله .

فقال أبو عبداللّه عليه السلام : وهو الاسم الأعظم .

فلمّا قال حزقيل ذلك الكلام نظر إلى العظام كيف يطير بعضها إلى بعض ، فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض يسبّحون اللّه عزّ ذكره ويكبّرونه ويهلّلونه . فقال حزقيل عند ذلك : أشهد أنّ اللّه على كلّ شيء قدير» .

قال عمر بن يزيد : فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «فيهم نزلت هذه الآية(1)» .

بيان

« ألم تر » أي ألم تعلم يا محمّد ، أو أيّها السامع .

و« حزقيل » على وزن زنبيل : أحد الأنبياء ، قيل : إنّه ذو الكفل ، وإنّما سمّي بذي الكفل ؛ لأنّه كفل سبعين نبيّاً نجّاهم من القتل وقال لهم : اذهبوا ؛ فإنّي إن قتلت كان خيراً من أن تقتلوا جميعاً ، فلمّا جاء اليهود وسألوا حزقيل عن الأنبياء السبعين قال لهم : إنّهم ذهبوا فلا أدري أين هم ؟ فمنعه اللّه منهم .

وقيل : إنّ ذا الكفل هو إلياس . وقيل : اليسع . وقيل : إنّه نبيّ كان بعد سليمان يقضي بين الناس كقضاء داود ، ولم يغضب قطّ إلاّ للّه .

وقيل : لم يكن نبيّاً ولكن كان عبداً صالحاً تكفّل برجل صالح .

وقيل : تكفّل لنبيّ بقومه أن يقضي بينهم بالحقّ ففعل ، فسمّي ذو الكفل .

« وهم اُلوف » قال المفسّرون : المراد بالاُلوف كثرة العدد .

وقيل : إنّهم خرجوا مؤتلفي القلوب لم يخرجوا عن تباغض ، فهو جمع آلف ، مثل قاعد وقعود ، وشاهد وشهود .

واختلف من قال معناه العدد ، فقيل : ثلاثة آلاف ، وقيل : ثمانية آلاف ، وقيل : عشرة آلاف ، وقيل : بضعة وثلاثين ألفاً ، وقيل : أربعون ألفاً ، وقيل : سبعون ألفاً ، وقيل : كانوا عدداً كثيراً ، وهذه الأقوال للعامّة ، وكلّها رجم بالغيب وافتراء على اللّه بلا ريب .

ص: 607


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 198 ح 237 ؛ و عنه في بحار الأنوار ، ج 13 ، ص 385 ، ح 6 .

« فقال لهم اللّه موتوا » قيل : معناه : أماتهم اللّه ، وقيل : معناه : أماتهم بقول سمعته الملائكة لضرب من العبرة .

قوله عليه السلام : (يلوح) أي تظهر للناس عظامهم المندرسة من غير جلد ولا لحم .

وفي هذا الحديث دلالة على مدح التوكّل على اللّه وذمّ الفرارمن قضاء اللّه ومن الطاعون .

[ حكم الفرار من الطاعون ]

وقد اختلف الناس في حكم الفرارمن الطاعون ، فقيل بالتحريم ؛ لهذا الخبر ، وما روي عنه صلى الله عليه و آله قال : «الفرارمن الطاعون كالفرار من الزحف»(1) .

وفي خبر : «الفارّ من الطاعون كالفارّ من الزحف(2)» والزحف : الجيش ، والمراد به هنا جيش النبيّ أو الإمام الذي يجب الثبات فيه .

وما دلّ على ذمّ الفرارمن قضاء اللّه وكراهية لقاء اللّه .(3)

والجواب : أنّ الخبر الأوّل لا دلالة فيه على التحريم صريحاً ولا ظاهراً . نعم ، ربّما أشعر بالذمّ وهو أعمّ من التحريم ، مع أنّ الأصل عدمه .

وأمّا الخبر الثاني فهو من طرق العامّة وشأن نزول خاصّ ، وهو مفسّر بقوم مخصوصين ، كما يأتي بيانه في الأخبار الآتية .

وأمّا الفرار من قضاء اللّه وذمّ كراهة لقاء اللّه فهو أمر آخر غير ما نحن فيه كما تقدّم بيانه .

وقيل بالوجوب ؛ لوجوب دفع الضرر المظنون ، ووجوب حفظ النفس من التهلكة ، والبقاء في موضع يظنّ فيه التلف إلقاء باليد إلى التهلكة ، والخروج منه والفرار

ص: 608


1- . معاني الأخبار ، ص 254 ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 2 ، ص 430 ، ح 2554 ؛ بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 122 ، ح 4 .
2- . مسند أحمد ، ج 3 ، ص 324 ؛ الجامع الصغير ، ج 2 ، ص 230 ، ح 5972 ؛ كنز العمّال ، ج 10 ، ص 79 ، ح 28442 .
3- . اُنظر : بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 84 .

فيه مظنّة السلامة .

ولأنّ الشارع جعل الأديان لآحاد الناس وقاية للأبدان حتّى أوجب سبّ النبيّ والإمام عند الاضطرار إليه رعاية لحفظ الأبدان ، فإذا أوجب مثل ذلك فالوجوب فيما نحن فيه أولى .

وفي دلالة هذه الأدلّة على الوجوب نظر كما لا يخفى .

والأقوى عندي جواز الفرار والخروج عن محلّ الطاعون دون الوجوب والتحريم ؛ لضعف أدلّتهما ، مضافاً إلى الأصل ، ولما دلّت عليه جملة من الأخبار المستفيضة :

منها : ما رواه الصدوق في العلل بإسناده عن عليّ بن المغيرة ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : القوم يكونون في البلد يقع فيهم الموت ، ألهم أن يتحوّلوا عنها إلى غيرها ؟ قال : «نعم» . قلت : بلغنا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عاب قوماً بذلك !

فقال صلى الله عليه و آله : «اُولئك كانوا رئيّة بإزاء العدوّ ، فأمر رسول اللّه أن يثبتوا في موضعهم ولا يتحوّلوا عنه إلى غيره ، فلمّا وقع فيهم الموت تحوّلوا من ذلك المكان إلى غيره ، فكان تحويلهم من ذلك المكان إلى غيره كالفرار من الزحف» .(1)

و«رئيّة» بالهمزة من الرؤية ، أي : كانوا يتراؤون العدوّ ويترقّبونهم .

وفي بعضها : «ربيئة» على وزن فعيلة بالهمزة ، وهي العين الطليعة الذي ينظر للقوم لئلاّ يدهمهم عدوّ .

وفي بعضها : رتبة بالتاء قبل الباء ، أي رتّبوا وأثبتوا بإزاء العدوّ . ويقال : رتّب الشيء يرتّب رتوباً ، أي ثبت .

ومنها : ما رواه ثقة الإسلام عن الحلبيّ في الحسن ، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الوباء يكون في ناحية مصر فيتحوّل الرجل إلى ناحية اُخرى أو يكون في مصر فيخرج عنه إلى غيره ، قال : «لا بأس ، إنّما نهى النبيّ صلى الله عليه و آله عن ذلك لمكان رئيّة(2) كانت بحيال

ص: 609


1- . علل الشرائع ، ج 2 ، ص 520 مع اختلاف يسير .
2- . في المصدر : «ربيئة» و هي العين و الطليعة الذي ينظر للقوم ؛ لئلاّ يدهمهم عدوّ . انظر : النهاية لابن الأثير ، ج 2 ، ص 179 ربأ .

العدوّ فوقع بينهم الوباء فهربوا منه ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الفارّ منه كالفارّ من الزحف لكراهية أن تخلو مراكزهم» .(1)

ومنها : ما رواه الصدوق في معاني الأخبار عن أبان الأحمر ، قال : سأل بعض أصحابنا أبا الحسن عليه السلام عن الطاعون يقع في بلدة وأنا فيها ، أتحوّل عنها ؟

قال : «نعم» . قلت : فإنّا نتحدّث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف» ؟!

قال : «إنّ رسول اللّه إنّما قال هذا في قوم كانوا يكونون في الثغور نحو العدوّ فيقع الطاعون فيخلون أماكنهم ويفرّون منها ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذلك فيهم» .

قال : وروي أنّه إذا وقع طاعون في أهل مسجد فليس لهم أن يفرّوا منه إلى غيره .(2)

ويمكن أن تكون الرواية الأخيرة - على تقدير صحّتها - محمولة على الكراهة ؛ جمعاً بينها وبين ما سبق ، ولعلّ لخصوصيّة المسجد مدخلاً .

ومنها : ما رواه عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى عليه السلام قال : سألته عن الوباء يقع في الأرض ، هل يصلح للرجل أن يهرب منه ؟

قال : «يهرب منه ما لم يقع في مسجده الذي يصلّي فيه ، فإذا وقع في أهل مسجده الذي يصلّي فيه فلا يصلح له الهرب منه» .(3)

والعجب من المحدّث الشريف الجزائريّ حيث استدلّ في شرح العيون بهذه الأحاديث على الوجوب ، حيث قال : إنّ هذه الأحاديث دلّت على الأمر بالفرار من الطاعون ، والأمر للوجوب ، ولا أقلّ من الحمل على الاستحباب ، فمن أين جاء التحريم؟!(4)

مع أنّه ليس في هذه الأخبار أمر كما ترى !

ص: 610


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 108 ، ح 85 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 2 ، ص 429 ، ح 2552 ، مع تفاوت يسير .
2- . معاني الأخبار ، ص 254 ، ح 1 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 2 ، ص 430 ، ح 2554 .
3- . مسائل عليّ بن جعفر ، ص 117 ، ح 54 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 2 ، ص 431 ، ح 2556 .
4- . لوامع الأنوار ، ص 138 مخطوط .

تذييل : [ في جواز منع أهل الطاعون إذا ارادوا دخول بلدة خالية منه ]

قال المحدّث المذكور :

إذا أراد أهل الطاعون الدخول إلى قرية أو بلدة خالية منه ، فهل يجوز لأهل ذلك المحلّ منعهم أم لا ؟

الظاهر هو الأوّل إذا كانوا متلبّسين به :

أمّا أوّلاً : فلقوله صلى الله عليه و آله : «لا يورد ممرض على مصحّ» ، حملوه على مثل هذا المرض من الأمراض الحادّة .

وأمّا ثانياً : فلأنّ حذّاق الحكماء والأطبّاء أمروا بالتحرّز عن مصاحبة أهل الأمراض المُعدية ، وعدّوا منها الطاعون والحميّات الوبائيّة والقروح الكثيرة الأوساخ ، وكما يرجع إليهم في الأدوية ومعرفة العقاقير كذلك في هذا وأشباهه .

وأمّا إذا كانوا خالين من مرض الطاعون لكنّهم كانوا في بلدة وقرية وفرّوا منه فالمفهوم من كلام علماء الإسلام وكتبهم أنّ منعهم جايز أيضاً .

قال الغزالي في كتاب إحياء العلوم : إنّ الطاعون إنّما يحصل من الهواء ، والهواء لا يضرّ من حيث يلاقي ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق ، فإنّه إذا كان فيه عفونة ووصل إلى الرئة والقلب وباطن الأحشاء أثّر فيها بطول الاستنشاق ، فلا يظهر الوباء والطاعون على الظاهر إلاّ بعد التأثير في الباطن ، فالخروج من البلد لا يخلّص غالباً من الأثر الذي استحكم من قبل لكنّه يتوهّم الخلاص ، فيصير هذا من جنس الموهومات كالرقى والطيرة وغيرهما . انتهى .(1)

أقول : وعلى هذافإذا بقوا خارج البلد أيّاماً يعرف بها عدوى الطاعون وعدمه فلا بأس .

وذكر بعض أهل الحديث :

أنّ الوهم والخوف مضرّان لمن عرضا له وربّما قتلاه ، فإذا كان أهل البلد يتوهّمون ويتطيّرون بدخول أهل الطاعون عليهم تضرّروا بهم ؛ لأنّ الوهم والخوف قتّالان .

ص: 611


1- . لم نعثر عليه .

وروي أنّه قيل لأميرالمؤمنين عليه السلام : إنّه لم ينج أحد من ضربة سيفك ؟

فقال عليه السلام : «إنّ الخوف والسيف يجهزان على قتله» .

وقال شيخنا المفيد : إنّه بلغ من بأس عليّ عليه السلام وخوف الأعداء منه أن جعل اللّه عزّ وجلّ الملائكة على صورته ليكون ذلك أرعب لقلوبهم .

وعن أبي جعفر عليه السلام في حديث «بدر» قال : «لقد كان يُسئل الجريح من المشركين فيقال له : من جرحك ؟ فيقول : عليّ بن أبي طالب ، فإذا قالها مات» .

وفي الأثر : أنّ طائفة من الحكماء ذكروا أنّه لو لدغت حيّة رجلاً فلم يرها وخبر أنّها لسعة زنبور حتّى صحّ عنده ذلك ربّما لم يمت . ولو انعكس عنده الحال لربّما مات .

قالوا : الوجه فيه أنّه إذا اُخبر عن لسعة الزنبور أنّها لدغ حيّة خاف القلب وانقبض وفتر البدن وتفتّحت المسامّ إلى القلب حتّى يكون العلّة في سرعة وصول السمّ إلى القلب ، وسمّ الزنبور إذا توجّه إلى القلب كفى في موت ذلك الإنسان ، وأمّا إذا صحّ عنده أنّها لسعة زنبور قوي القلب وبقوّته يقوى البدن ، فتصلب العظام ويشتدّ اللحم وتنسدّ الفُرَج والمسامّ ، فيشيع السمّ في كلّ البدن ولا يصل منه إلى القلب ما يقتله (1) انتهى .

فائدة : [ استدلال آخر على عدم جواز الفرار من الطاعون ]

روى الصدوق في العيون بإسناده إلى العسكريّ عليه السلام عن آبائه

عليهم السلام قال : قيل للصادق:

أخبرنا عن الطاعون ، فقال : «عذاب اللّه لقوم ورحمة لآخرين» .

قالوا : وكيف تكون الرحمة عذاباً ؟

قال : «أما تعرفون أنّ نيران جهنّم عذاب على الكفّار ، وخزنة جهنّم معهم فيها ، فهي رحمة [ اللّه ]عليهم»؟ .(2)

وقد استدلّ بهذا الحديث بعضهم على عدم جواز الفرار من الطاعون ، حيث إنّه رحمة فكيف يفرّ منها .

ص: 612


1- . لوامع الأنوار ، ص 139 - 142 مخطوط .
2- . عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 275 ، ح 9 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 121 ، ح 1 .

وفيه نظر ؛ لأنّ الظاهر أنّ معناه : أنّه إذا وافقهم الطاعون كان عليهم رحمة ؛ إذ كلّ أحد لا يسعه الفرار ، ولا كلّ من فرّ نجا ، فإنّ الواجب على الإنسان الاحتراز عن المحذور قطعاً لا أنّ الاحتراز ممّا يدفع منه المحذور قطعا ، فإنّ شرب السمّ حرام ، ولو شربه

جاهلاً به كان مأجوراً . وكيف كان فهو غير مكافئ للأخبار المتقدّمة .

وفي صحيفة الرضا عليه السلام عن آبائه ، قال : قال عليّ عليه السلام : «الطاعون مِيتة وحِيّة»(1) أي سريعة .

وفي الكافي عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال : «دعا نبيٌّ من الأنبياء على قومه ، فقيل له : اُسلّط عليهم عدوّهم ، فقال : لا ، فقيل له : فالجوع ؟ فقال : لا ، فقيل له : ما تريد ؟ قال : موت دفيق(2) سريع ، يحزن القلب ويقلّ العدد ، فأرسل عليهم الطاعون» .(3)

ص: 613


1- . صحيفة الرضا عليه السلام ، ص 77 ، ح 159 ؛ عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 42 ، ح 139 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 121 ، ح 2 .
2- . كذا في الكافي المطبوع وبعض نسخ الكتاب ، وفي بعض النسخ : «الدفيف» مكان «الدفيق» ، وهما بمعنى السريع ، والدفق مثال الهِجَف : السريع من الإبل ، ويقال أيضا : مشى فلان الدفقى ، إذا أسرع . اُنظر : الصحاح ، ج 4 ، ص 1475 ؛ لسان العرب ، ج 10 ، ص 99 دفق .
3- . الكافي ، ج 3 ، ص 261 ، ح 41 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 122 - 123 مع تفاوت يسير .

الحديث الخامس والتسعون : الوفاء بالوعد

اشارة

الحديث الخامس والتسعون

[ الوفاء بالوعد ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام في الكافي ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن شعيب العقرقوفيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليف إذا وعد»(1) .

تحقيق : [ حكم الوفاء بالوعد ]

المشهور بين الأصحاب أنّ الوفاء بالوعد مستحبّ غير واجب ؛ للأصل .

وذهب بعضهم إلى الوجوب ، وهو المحكيّ عن الشيخ كمال الدين ميثم البحرانيّ في شرح المائة كلمة(2) ، وإليه يميل المحدّث نعمة اللّه الجزائريّ ،(3) وهو ظاهر جملة من الأخبار ومنها : هذا الخبر .

ومنها : ما رواه أيضاً في الصحيح عن هشام بن سالم قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «عِدة المؤمن أخاهُ نَذرٌ» لا كفّارة له ؛ فَمَن أخلف فبخلف اللّه بدأ ، ولمقته تعرّض وذلك قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ »(4)»(5) .

ص: 614


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 364 ، باب خلف الوعد ، ح 2 ؛ و عنه في وسائل الشيعة ج 12 ، ص 165 ، ح 15965 .
2- . شرح مائة كلمة ، ص 154 ، ذيل الكلمة الثامنة .
3- . لوامع الأنوار للجزائري ، ص 299 مخطوط .
4- . الصف 61 : 2 و 3 .
5- . الكافي ، ج 2 ، ص 363 - 364 ، باب خلف الوعد ، ح 1 ؛ و عنه في وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 165 ، ح 15966 .

وعن منصور بن حازم في الصحيح أو الحسن ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّما سمّي إسماعيل صادق الوعد لأنّه وعد رجلاً في مكان فانتظره [ في ذلك المكان ]سنة ، فسمّاه اللّه صادق الوعد ، ثمّ إنّ الرجل أتاه بعد ذلك ، فقال له إسماعيل : ما زلت منتظراً لك » .(1)

وفي العلل والعيون عن سليمان الجعفريّ ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : «أتدري لم سمّي إسماعيل صادق الوعد ؟» قلت : لا أدري .

قال : «إنّه وعد رجلاً فجلس [ له ] حولاً ينتظره» .(2)

وعن عبداللّه بن سنان ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعد رجلاً إلى صخرة ، فقال : أنا لك ههنا حتّى تأتي ، قال : فاشتدّت الشمس عليه ، فقال له أصحابه : يا رسول اللّه ، لو أنّك تحوّلت إلى الظلّ ، قال : قد وعدته إلى ههنا وإن لم يجيء كان منه المحشر» .(3)

وهذان الخبران لا دلالة لهما على الوجوب .

ومنها : أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام في غير موضع من نهج البلاغة إذا ذكر مطاعن معاوية ومعايبه ذكر من جملتها : أنّه يعد ولا يفي .(4) ولو كان مندوباً إليه لما نقمه على معاوية ؛ لأنّ حاله أقبح من أن يذمّ على ترك السنن والمندوبات .

ومنها : قوله عليه السلام : «المرء(5) حرٌّ ما لم يعد(6)» ، يعني أنّه لا يخرج عن الرقّيّة إلاّ بالوفاء بالوعد ، وإلاّ كان مطالباً به مشغولة ذمّته كذمّة العبد بالنسبة إلى حقوق مولاه ، وهو

ص: 615


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 104 ، باب الصدق وأداء الأمانة ، ح 7 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 164 ، ح 15964 .
2- . علل الشرائع ، ج 1 ، ص 77 ، ح 1 ، عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 79 ؛ وعنهما في وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 165 ، ح 15967 .
3- . علل الشرائع ، ج 1 ، ص 78 ، ح 4 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 165 ، ح 15968 ؛ وبحار الأنوار ، ج 72 ، ص 95 ، ح 13 .
4- . نهج البلاغة ، ص 318 ، خطبة 200 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 40 ، ص 193 ، ح 77 .
5- . كذا في المطبوع والنسخ الثلاث ، لكن في المصدر : «المسؤول» مكان «المرء» .
6- . نهج البلاغة ، ص 535 ، الحكمة 336 ؛ بحار الأنوار ، 75 ، ص 113 ، ح 7 .

الوجه في الشبه المقتضي لإطلاق اسم الرقّ عليه .

ومنها : قول الصادق عليه السلام : «إذا قال الرجل للرجل : هلمّ أحسن بيعك يحرم عليه الربح»(1) ، والحمل على الكراهة خلاف الظاهر .

ومنها : قوله عليه السلام في ملحقات الصحيفة : «لكلّ نذر نذرته ، وكلّ وعد وعدته ، وكلّ عهد عاهدته ثمّ لم أف به»(2) ؛ فإنّ توسّطه بين الواجبين قرينة على وجوبه .

ومن ذلك ما رواه الصدوق رحمه الله في العيون مسنداً عن الرضا عليه السلام عن آبائه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممّن كملت مروّته وظهرت عدالته ووجبت اُخوّته وحرمت غيبته» .(3)

ومنها : ما ورد في ذمّ الغدر وحرمته ، والغدر ضدّ الوفاء ، ومن ذلك : ما رواه في الكافي عن الأصبغ بن نباتة ، قال : قال أميرالمؤمنين عليه السلام ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة : «يا أيّها الناس ، لولا كراهيّة الغدر لكنت من أدهى الناس ، إلاّ أنّ لكلّ غُدَرَةَ(4) فجرة ، ولكلّ فجرة كفرة ، ألا وإنّ الغدر والفجور والخيانة في النار» .(5)

والأحاديث في ذلك كثيرة ، إلاّ أنّ الحكم بالوجوب لا يخلو من إشكال .

وربّما استدلّ بعضهم على الوجوب بأنّ القول بالاستحباب يلزم منه جواز الترك ، وهو حرام ؛ لأنّه كذب ، وليس من المواضع المستثناة كالكذب في الإصلاح بين الناس ، والكذب على الزوجة فيمايعدها ، والكذب في الحروب ونحو ذلك ، فالقول

ص: 616


1- . الكافي ، ج 5 ، ص 152 ، باب آداب التجارة ، ح 9 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 3 ، ص 272 ، ح 3984 ؛ وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 395 ، ح 22828 ؛ بحار الأنوار ، ج 100 ، ص 136 ، ح 6 .
2- . البلد الأمين ، ص 117 ؛ المصباح للكفعمي ، ص 113 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 87 ، ص 177 ، ح 19 .
3- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 30 ، ح 34 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 396 ، ح 34046 ؛ وبحار الأنوار ، ج67 ، ص 1 ، ح 1 .
4- . قال ابن أبي الحديد : الغدرة بضمّ الفاء . فتح العين : الكثير الغدر ، والكفرة والفجرة : الكثير الكفر والفجور ، وكلّ ما كان على هذا البناء فهو الفاعل ، فإن سكنت العين فهو المفعول . ويروي غَدْرَة وفجرة وكفرة على فَعلَة للمرّة الواحدة . انتهى . اُنظر : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 10 ، ص 211 .
5- . الكافي ، ج 2 ، ص 338 ، باب المكر و الغدر و الخديعة ، ح 6 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 70 ، ح 20005 ؛ وبحار الأنوار ، ج 33 ، ص 454 ، ح 671 .

باستحباب الوفاء بالوعد مع القول بأنّ خلفه كذب حرام متضادّان .

واُجيب بأنّ المواعيد من قبيل الإنشاء لا الإخبار .

وأجاب المحدّث الشريف الجزائريّ بجواب آخر مبنيّ على مقدّمة ، وهي : أنّ دلالة الإنشاء كالأمر والنهي على الأحكام دلالة مطابقة مفهومة من نفس اللفظ ، وأمّا الخبر فقد يتضمّن الحكم أيضاً ، إلاّ أنّ دلالته عليه بالتبع والالتزام ويحتاج في تحقيق

تحصيل الحكم إلى الدليل من خارج مثل قوله تعالى : « وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ »(1) ؛ فإنّه خبر دالّ على الحكم ويحتاج إلى الدليل من خارج .

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ قولك : أزورك غداً خبر تضمّن الوعد بالزيارة ، فإن كان الوفاء بالوعد واجباً من دليل خارج كان الخبر متضمّناً لحكم واجب ، فإذا أتى به صدق وعده فاُثيب على الصدق ، وأتى بالحكم المدلول على وجوبه فاُثيب عليه أيضاً ، وإن كان الدليل الخارج دالاًّ على الاستحباب - كما هو المشهور - كان الوفاء به مستحبّاً ، وكان هذا الحكم المندوب داخلاً في هذا الخبر ، مستلزماً له ، إلاّ أنّه إذا لم يف به يكون تاركاً للمندوب وكاذباً في خبر المشتمل على ذلك الحكم ، فيكون عاصياً بالكذب ، مرتكباً للحرام ، لكنّه غير معاقب على ترك ما اشتمل عليه من الحكم المندوب .

ويوضح هذا أنّ قولك : اُصلّي نوافل الظهر غداً ، لا تصيّر النوافل واجبة غداً ، بل هي باقية على الاستحباب ، ومتى أخلّ بها غداً يكون مؤاخذاً على كذبه على تقدير الوجوب لا على ترك النافلة .

وكذا إذا قال : أنظر غداً إلى السماء ، فقد تضمّن هذا الخبر حكماً مباحاً ، إلاّ أنّه لو لم يأت به غداً يكون تاركاً للمباح غير مؤاخذ على هذا الترك ، وإن كان مؤاخذاً من حيث الكذب ، أمّا لو قال لصاحبه : سأزني معك غداً ، فالشارع هنا قد نهاه عن هذا الصدق فلا يعاقب على هذا الكذب ، بل يثاب عليه .

وبالجملة ، فلا منافاة بين قولهم باستحباب الوفاء بالوعد وعدم جواز الكذب فيه ، وهم لم يصرّحوا بجواز الكذب هنا ، وإنّما نصّوا على استحباب الحكم ، فيكون خبراً

ص: 617


1- . البقرة 2 : 228 .

متضمّناً للحكم المندوب .

ثمّ حكى عن بعض المجتهدين من المعاصرين : أنّ الوعد إذا اقترن بالمشيّة كأن يقول : آتيك غداً إن شاء اللّه ، خرج عن كونه وعداً يجب الوفاء به أو يستحبّ . قال :

ولا يخفى ما فيه ؛ لأنّ العرف لا يفهم من هذه المشيّة إلاّ التبرّك ، بل المفهوم منه أنّها مؤكّدة لتحقّق الوعد لا معلّقة له ، ولكونها مشيّة تعليق بقصد القائل لا ينفع هنا ، ألا ترى إلى اليمين ، فإنّه على نيّة المحلوف له لا الحالف ، والتورية لا تفيده شيئاً . نعم ، إذا كان الوعد المقارن للمشيّة وعداً لمن يعرف حال القائل اتّجه ذلك .(1) انتهى كلامه .

ص: 618


1- . لواح الأنوار للجزائري ، ص 299 - 301 مخطوط .

الحديث السادس والتسعون : حول آية انك ميت وإنّهم ميتون

الحديث السادس والتسعون

[ حول آية انك ميت وإنّهم ميتون ]

ما رويناه بالأسانيد عن الصدوق في العيون بإسناده عن الرضا عليه السلام عن آبائه قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : لمّا نزلت هذه الآية : « إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ »(1) قلت : يا ربّ ، أتموت الخلائق وتبقى الأنبياء ؟ فنزلت : « كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ »(2) ».(3)

بيان

السؤال لا يخلو عن غرابة ، والظاهر أنّه من سهو القلم أو من سهو النسّاخ ، والأصل هكذا : «أتموت الخلائق وتبقى الملائكة» ، كما هو مرويّ عن صحيفة الرضا عليه السلام .(4)

وقال المحدّث الشريف الجزائريّ في شرح العيون :

لعلّه صلى الله عليه و آله استنبطه من ظاهر الخطاب ؛ لأنّ قوله : «إنّك ميّت» خطاب له صلى الله عليه و آله ، وقوله : «وإنّهم ميّتون» يعني الأُمّة فيخرج الأنبياء ، وفي صحيفة الرضا عليه السلام : وتبقى الملائكة ، وهو الأظهر . انتهى .

وقال العلاّمة المجلسيّ رحمه الله في البحار : والصواب ما في صحيفة الرضا عليه السلام ، وما في

ص: 619


1- . الزمر 39 : 30 .
2- . العنكبوت 29 : 57 .
3- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 32 ، ح 51 ؛ وعنه في بحار الأنوار ج 6 ، ص 328 ، ح 8 ؛ كنز العمال ، ج2 ، ص491 ، ح4578 .
4- . صحيفة الرضا عليه السلام ، ص 62 ، ح 95 .

العيون لا يستقيم إلاّ بتكلّفات بعيدة ، كأن يقال : احتمل أن يكون الآية الاُولى محمولة على الاستفهام الإنكاريّ ، أو يكون السؤال عن الموت بعد الرجعة ، أو يكون المراد بالأنبياء جماعة منهم لم يموتوا كالخضر وإلياس وإدريس وعيسى عليهم السلام . انتهى(1) .

وذكر بعض الفضلاء في توجيهه وجهين :

أحدهما : أن يكون سؤاله عن موت الأنفس بعد قطع تعلّقها عن الأبدان بالموت الطبيعيّ ، وذلك لأنّه لمّا نزل قوله تعالى : « وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّماوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ »(2) جوّز النبيّ صلى الله عليه و آله أن يكون الأنبياء هم المستثنون ، فتكون نفوسهم باقية بعد خراب أبدانهم فنزلت الآية الثانية الدالّة على موت جميع الخلائق .

وثانيهما : أنّ المراد بالأنبياء : الرسل من الملائكة الذين يأتون بالوحي للأنبياء .

ص: 620


1- . بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 328 ، ولكن من كلمة «كأن يقال» إلى كلمة «وعيسى» غير موجود في بحار الأنوار المطبوع حديثا ، وكذا في الطبعة الرحليّة ، فالظاهر أنّ المحلّ الصحيح لكلمة «انتهى» بعد كلمة «بعيدة» وبقيّة العبارة لمؤلّف الكتاب في توضيح مراد المجلسي رحمه الله .
2- . الزمر 39 : 68 .

الحديث السابع والتسعون : الذي يسقط من المائدة مهور حور العين

الحديث السابع والتسعون

[ الذي يسقط من المائدة مهور حور العين ]

ما رويناه بالأسانيد عنه فيه عنه عليه السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الذي يسقط من المائدة مهور الحور العين(1)» .

قال الفيروز آباديّ : المائدة : الطعام ، والخوان عليه الطعام(2) .

وحينئذٍ فالساقط منهما سواء سقط من الطعام على الخوان أو على غيره ، وكذا الساقط من الخوان على الأرض وعلى غيرها إذا أكله الإنسان بهذا القصد وعظّم نعمة اللّه كان جزاؤه الحور العين .

وفي بعض الأخبار(3) : ما يسقط من الخوان مهور الحور العين .

ولا منافاة إمّا بإرادة الخوان من المائدة أو يكون الخوان أحد الفردين كما هو الأظهر .

وعلى التقديرين فهل يكون الثواب منوطاً بأكله أجمع أو البعض ؟ الظاهر هو الثاني وإن كان الأوّل أظهر من اللفظ ، ويحتمل أن يراد أنّ كلّ حبّة وذرّة من الطعام مهر لواحدة من الحور العين كما هو المتداول الشائع على ألسنة الناس ، وقيل : بل ربّما جاءت به رواية ، واللّه العالم .(4)

ص: 621


1- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 34 ، ح 68 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 24 ، ص 380 ، ح 30833 ؛ وبحار الأنوار ، ج 63 ، ص 433 ، ح 20 .
2- . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 339 ميد .
3- . اُنظر : وسائل الشيعة ، ج 24 ، ص 378 ، الباب 76 ؛ بحار الأنوار ، ج 63 ، ص 428 ، الباب 20 .
4- . لوامع الأنوار للجزائري ، ص 305 مخطوط .

الحديث الثامن والتسعون : التوحيد نصف الدين و ...

الحديث الثامن والتسعون

[ التوحيد نصف الدين و ... ]

ما رويناه عنه فيه عنه عليه السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : التوحيد نصف الدين ، واستنزلوا الرزق بالصدقة(1) .

لعلّ المراد بالتوحيد : الاعتقادات الصحيحة التي هي مناط الإيمان ، ويكون المراد بالنصف الآخر : الأعمال ؛ لأنّ الإيمان مركّب منهما .

ويحتمل أن يكون المراد : خصوص كلمة التوحيد ، ويكون النصف الآخر عبارة عن التشهّد بالرسالة والإقرار بالأئمّة عليهم السلام .

ويمكن استفادة كلا المعنيين من الأخبار .

وقوله عليه السلام : «واستنزلوا الرزق بالصدقة» ، أي اطلبوا نزوله بواسطة الصدقة ؛ فإنّ الصدقة جالبة للرزق كما استفاض في الأخبار .(2)

ص: 622


1- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 35 ، ح 75 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 9 ، ص 371 ، ح 12264 ؛ وبحار الأنوار ، ج 93 ، ص 121 ، ح 25 .
2- . اُنظر وسائل الشيعة ، ج 9 ، ص 367 ، أبواب الصدقة ، الباب 1 ؛ بحار الأنوار ، ج 93 ، ص 111 ، أبواب الزكاة ، الباب 14 .

الحديث التاسع والتسعون : قوله(ص) في سورة التوحيد والجحد أنّها...

الحديث التاسع والتسعون

[ قوله صلى الله عليه و آله في سورة التوحيد والجحد أنّها ثلث القرآن وربعه ]

ما رويناه عنه فيه عنه عليه السلام قال : «قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام : صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله صلاة السفر فقرأ في الاُولى «قل يا أيّها الكافرون» ، وفي الثانية «قل هو اللّه أحد» ثمّ قال : قرأت لكم ثلث القرآن وربعه(1)» .

بيان

قد روي هذا المضمون في جملة من الأخبار ، ووجه الإشكال ما قيل : أنّ ذلك يستلزم مساواة الجزء للكلّ ؛ فإنّ كلّ واحدة من السورتين جزء من ثلث القرآن أو من ربعه ، وهو مشتمل عليها فكيف تكون أفضل منه ؟ ويلزم أن يكون ثواب من قرأ ثلث القرآن وربعه ومن قرأ واحدة من السورتين سواءً ، وأنّه إذا قرأ الثلث الذي فيه «التوحيد» أو الربع الذي فيه «الجحد» أن يكون ما عدا السورتين خالياً من الثواب ، وأنّ من نذر ختم القرآن كلّه أن يبرأ بقراءة التوحيد ثلاثاً أو الجحد أربعاً .(2)

والجواب : أنّ الخبر ليس على الحقيقة ، بل على سبيل التجوّز ، والمراد : أنّ قراءة التوحيد يعدل ثوابها قراءة ثلث القرآن الخالي عن التوحيد ، وكذا الجحد ، كما قيل في

ص: 623


1- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 37 ، ح 101 ؛ وسائل الشيعة 6 ، ص 82 ، ح 7405 ؛ وبحار الأنوار ، ج 82 ، ص 30 ، ح 19 .
2- . اُنظر الفوائد الطوسيّة ، ص 301 .

قوله تعالى : « لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ »(1) : أي ليست فيها ليلة القدر(2) . وفي قوله عليه السلام : «صلاة فريضةٍ خير من عشرين حجّة» ، أي ليس فيها صلاة فريضة .(3)

ويمكن أن يقال أيضاً : إنّه محمول على المبالغة في التشبيه كما يقال : زيدٌ أسدٌ ، فيكون المعنى : قراءة التوحيد تقارب ثواب قراءة ثلث القرآن ، والجحد ربعه حتّى كأنّ ثوابها ثوابه .

وأمّا إشكال النذر فدفعه ظاهر ؛ لأنّ النذر إنّما ينصرف إلى الحقائق والأفراد المتبادرة الشائعة دون الشاذّة النادرة .

وما يقال(4) من أنّ ذلك مناف لقوله عليه السلام «أفضل الأعمال أحمزها»(5) ففيه أنّ هذا الحديث على تقدير ثبوته محمول على أنّ كلّ عمل يقع على أنحاء شتّى ، فأفضل تلك الأنحاء أحمزها ، كما في الوضوء في الصيف والشتاء ، والصدقة في الرخص والغلاء ، مع أنّه مخصّص بصور كثيرة هذا منها .

واعلم أنّه قد استنبط جمع من الفضلاء وجهاً مناسباً لكون التوحيد ثلث القرآن ، وهو : أنّ القرآن مع غزارة فوائده اشتمل على ثلاثة معان فقط : معرفة ذات اللّه تعالى وتقدّسه ، ومعرفة صفاته وأسمائه ، ومعرفة أفعاله وسننه مع عباده ، ولمّا تضمّنت سورة الإخلاص أحد هذه الأقسام الثلاثة وهو التقديس ، وصفت بكونها ثلث القرآن .

أو أنّ القرآن لا يتجاوز معرفة ذاته تعالى وتقديسه ومعرفة صفاته وأسمائه ، ومعرفة

ص: 624


1- . القدر 97 : 3 .
2- . الكافي ، ج 4 ، ص 157 ، باب في ليلة القدر ، ح 4 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 10 ، ص 350 - 351 ، ح 13583 .
3- . من لا يحضره الفقيه ، ج 2 ، ص 221 - 222 ، ح 2237 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 112 ، ح 14383 .
4- . اُنظر : الفوائد الطوسيّة ، ص 301 .
5- . اُنظر : بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 229 ؛ النهاية لابن الأثير ، ج 1 ، ص 422 ؛ مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 573 حمز . هذا الخبر مع أنّه عامّي غير مذكور في الجوامع الحديثيّة للعامّة والخاصّة ، والمجلسي رحمه اللهذكره في بحار الأنوار مرسلاً مع الترديد في صحّته .

أفعاله وسننه في عباده .

أو أنّ مقاصده ترجع تحقيقاً إلى ثلاثة معان :

أحدها : معرفة اللّه تعالى .

الثاني : معرفة السعادة والشقاوة الاُخرويّة .

والثالث : معرفة ما يوصل إلى الاُولى ويبعد من الثانية .

وسورة التوحيد مشتملة على الأصل الأوّل في كلّ من التقسيمين ، وهو المعرفة الإلهيّة والإقرار بتوحيده وتنزيهه عن مشابهة الخلق بالصمد ، ونفي الأصل والفرع والكفؤ فيكون بمنزلة الثلث .

وأمّا السرّ في أنّ «الجحد» ربع القرآن ، فلأنّ مقاصد القرآن الكريم راجعة إلى معرفة ما يجب اعتقاده نفياً أو إثباتاً ومايجب العمل به فعلاً أو تركاً ، وسورة «الجحد» مشتملة على الأوّل خاصّة ، فهي بمنزلة ربع القرآن ، واللّه العالم .

ص: 625

الحديث المائة : في قراءة الآية «عمل غير صالح»

الحديث المائة

[ في قراءة الآية : « عمل غير صالح » ]

ما رويناه بالأسانيد السابقة عن الصدوق في العيون بإسناده عن الوشّا ، عن الرضا عليه السلام

قال : سمعته يقول : قال أبي عليه السلام : قال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ اللّه عزّ وجلّ قال لنوح : « يَا نُوحُ إِنَّهُو لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ »(1) لأنّه كان مخالفاً له ، وجعل من اتّبعه من أهله» .

قال : وسألني : «كيف يقرؤون هذه الآية في ابن نوح ؟» قلت : يقرأها الناس على وجهين : « إِنَّهُو عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ »(2) و «إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صالح» ، فقال : «كذبوا هو ابنه ولكنّ اللّه عزّ وجلّ نفاه عنه حين خالفه في دينه»(3) .

بيان

قوله : «على وجهين» يعني على وزن المصدر وعلى وزن الفعل ، وقراءة المصدر توهم أنّه تولّد من الزنا ، وأنّ الخيانة وقعت من اُمّه كما حكي(4) عن أكثر الجمهور وجعلوه المراد من قوله تعالى : « تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا »(5) .

ص: 626


1- . هود 11 : 46 .
2- . هود 11 : 46 .
3- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 75 - 76 ، ح 3 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 11 ، ص 320 ، ح 26 ، تفسير العيّاشي ، ج 2 ، ص 151 ، ح 41 .
4- . راجع : جامع البيان للطبري ، ج 12 ، ص 65 - 67 ؛ تفسير القرطبي ، ج 9 ، ص 46 ؛ تفسير ابن كثير ، ج 2 ، ص 464 . وهو محكيّ بعض العامّة لا أكثرهم .
5- . التحريم 66 : 10 .

وقوله عليه السلام : «كذبوا» يعني : في القراءة الموهمة لذلك .

فإن قيل : الذي قرأ على وزن الفعل الكسائيّ ويعقوب وسهيل ، والباقون على صيغة المصدر ، فما معنى نفيه عليه السلام لها مع أنّها من القراءة المتواترة قرأ بها أكثر السبعة وأكثر العلماء على أنّ القراءات السبع ، كلّها متواترة نزل بها الروح الأمين ، وعلى ذلك بنوا ما روي عنه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «نزل القرآن على سبعة أحرف»(1) أنّ المراد بها القراءات ؟

قيل : الجواب من وجهين :

الأوّل : أنّا لا نسلّم أنّ تواتر القراءات عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، بل عن أربابها من القرّاء ، وهم آحاد من المخالفين استبدّوا بآرائهم وجعلوا قرائتهم قسيمة لقراءة أهل البيت العالِمين بالتنزيل والتأويل ، فيكون هذا الخبر قدحاً في تواترها عن النبيّ صلى الله عليه و آله .

والثاني : أن يكون التكذيب راجعاً إلى تأويلهم قراءة المصدر بذلك التأويل القبيح الباطل ، فلا يكون راجعاً إلى أصل القراءة .

ص: 627


1- . تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 12 ، ح 11 ؛ الخصال ، ج 2 ، ص 358 ، ح 43 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 89 ، ص 49 ، ح 10 ؛ مسند أحمد ، ج 2 ، ص 30 ؛ النهاية لابن الأثير ، ج 1 ، ص 355 حرف ؛ الدّرّ المنثور ، ج 2 ، ص 6 ؛ كنز العمّال ، ج 2 ، ص 53 ، ح 3085 .

الحديث الحادي والمائة : أطفئوا المصابيح بالليل ...

الحديث الحادي والمائة

[ أطفئوا المصابيح بالليل ... ]

ما رويناه عنه أيضاً فيه عنه عليه السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : أطفئوا المصابيح بالليل ، لا تجرّها الفويسقة فتحرق البيت وما فيه»(1) .

بيان

المراد بالفويسقة : الفارة كما يظهر من الأخبار .(2)

وعن أبي سعيد الخدريّ أنّه سُئل : لم سمّيت الفأرة الفويسقة ؟ فقال : استيقظ النبيّ صلى الله عليه و آله ذات ليلة وقد أخذت فأرة فتيلة لتحرق على رسول اللّه البيت ، فقام إليها وقتلها ، وأحلّ قتلها للمحلّ والمحرم .(3)

وعن ابن عبّاس ، قال : جاءت فأرة فأخذت تجرّ الفتيلة ، فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله على السجّادة التي كان قاعداً عليها ، فأحرقت منها موضع الدرهم .(4)

ص: 628


1- . عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 75 ، ح 348 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 5 ، ص 323 - 324 ، ح 6679 ؛ وبحار الأنوار ، ج 73 ، ص 164 ، ح 1 .
2- . اُنظر : الكافي ، ج 4 ، ص 363 ، باب ما يجوز للمحرم قتله و ما يجب عليه فيه الكفّارة ، ح 3 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 2 ، ص 363 ، ح 2718 ؛ وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 547 ، ح 17039 ؛ بحار الأنوار ، ج 73 ، ص 177 ، ح 15 .
3- . بحار الأنوار ، ج 61 ، ص 256 ؛ وانظر : المصنّف لابن أبي شيبة ، ج 4 ، ص 440 ، ح 13 ؛ سنن ابن ماجة ، ج 2 ، ص 1032 ، ح 3089 ؛ مجمع الزوائد ، ج 8 ، ص 112 ؛ عون المعبود ، ج 14 ، ص 108 .
4- . بحار الأنوار ، ج 61 ، ص 256 ؛ واُنظر : سنن أبي داوود ، ج 2 ، ص 529 ، ح 5247 ؛ المستدرك للحاكم ، ج 4 ،ص 284 ؛ صحيح ابن حبّان ، ج 12 ، ص 327 - 328 . وفي المصادر : «الخمرة» بدل «السجّادة» . والخمرة : هي مقدار ما وضع الرجل عليه وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة خوص ونحوه من النبات ، اُنظر : النهاية لابن الأثير ، ج 2 ، ص 78 ؛ لسان العرب ، ج 4 ، ص 258 ؛ مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 701 خمر .

وعن زيد بن أسلم : أنّ نوحاً عليه السلام لمّا حمل في السفينة من كلّ زوجين اثنين شكا أهل السفينة الفأرة وأنّها تفسد طعامهم ومتاعهم وتقرض حبال السفينة ، فأوحى اللّه تعالى إلى الأسد فعطس ، فخرجت الهرّة منه فتخبّأت الفأرة منها .(1)

ومن شأن الفأر أن يأتي القارورة الضيّقة الرأس فيحتال حتّى يدخل ذنبه فيها ، وكلّ ما ابتلّ بما فيها أخرجه وامتصّه حتّى لا يدع منها شيئاً .(2)

ص: 629


1- . بحار الأنوار ، ج 61 ، ص 256 ؛ تفسير ابن كثير ، ج 2 ، ص 461 ؛ الدّرّ المنثور ، ج 3 ، ص 331 .
2- . اُنظر : بحار الأنوار ، ج 61 ، ص 256 ؛ حياة الحيوان للدميري ، ج 2 ، ص 58 ، باب الفاء ، كلمة «الفأرة» .

الحديث الثاني والمائة : الطبائع الأربع

الحديث الثاني والمائة

[ الطبائع الأربع ]

ما رويناه بالأسانيد عن الصدوق في العيون ، عن موسى بن جعفر عليه السلام أنّه دخل على الرشيد ، فقال له الرشيد : يابن رسول اللّه ، أخبرني عن الطبائع الأربع ، فقال موسى عليه السلام : «أمّا الريح فإنّه ملك يُدارى ، وأمّا الدم فإنّه عبد عارم(1) وربّما قتل العبد مولاه ، وأمّا البلغم فإنّه خصم جدل إن سددته من جانب انفتح من آخر ، وأمّا المِرّة فإنّه الأرض إذا اهتزّت خفّت(2) بما فوقها» .

فقال له هارون : يابن رسول اللّه ، تنفق على الناس من كنوز اللّه ورسوله(3) .

إيضاح

المراد : أنّ الجسم الطبيعيّ مركّب من العناصر الأربعة : النار ، والهواء ، والماء ، والأرض . ويسمّيها الأطبّاء الأركان الأربعة .

وأمّا كيفيّاتها : فالنار حارّة يابسة بالطبع ، تفعل ذلك فيما تجاوره ، وموضع كرتها أعلى مواضع كرات العناصر ؛ فإنّ محدّب كرتها مماسّ لمقعَّر فلك القمر ، وفيه دلالة على أنّها أخفّ من سائر العناصر ؛ لأنّها تطلب المحيط بطبعها .

ص: 630


1- . كذا في المطبوع وفي بحار الأنوار . لكن في عيون الأخبار وسائر النسخ : «غارم» مكان «عارم» . ومعنى عارم : شرس مؤذي ، يقال : صبّي عارم ، أي خبيث شرير ، اُنظر : الصحاح ، ج 5 ، ص 1983 ؛ النهاية لابن الأثير ، ج 3 ، ص 223 ؛ لسان العرب ، ج 12 ، ص 395 عرم .
2- . كذا في المطبوع ، لكن في بعض النسخ : «حُفّت» مكانها ، وفي البحار والعيون : «جفت» مكانهما .
3- . عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 80 - 81 ، ح 8 ؛ عنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 294 ، ح 4 .

وأمّا الهواء فهو حارّ رطب ؛ وهو جسم بسيط ، وموضع كرته تحت كرة النار .

والماء بارد رطب ، وموضع كرته فوق الأرض وتحت الهواء .

وأمّا الأرض فهي باردة يابسة ، وموضعها الطبيعيّ المركز الحقيقيّ ، وهي المتوسّطة بين الكلّ .

فهذه هي الأركان الأربعة ، وإذا امتزجت هذه الأركان وبطلت صورة كلّ واحد منها حصلت الطبائع الأربع وانتسبت كلّ طبيعة إلى عنصر .

والمراد بالريح هنا : الصفراء التي هي بمنزلة النار في الكيفيّة بالنسبة إلى باقي العناصر ، وهي رغوة(1) ما صفا من الكيلوس(2) إذا نضج في الكبد كرغوة الدم الطافية عليه ولونها أحمر لقوّه لطافتها الحادثة ، ووزنها خفيف ، فمن هنا علت على الجميع .

وأمّا إطلاق الريح عليها ، فلأنّ تلك الرغوة لا تخلو من الريح ، مع أنّ الريح على ما قاله الأطبّاء نفخ يحدث من مادّة الصفراء باعتبار أنّ تلك الرغوة لا تخلو منه .

وأمّا أنّه ملك يدارى ، فلأنّها أحدّ وأحرّ من سائر الأخلاط ، مع أنّك تحقّقت أنّها فوقها حسّاً ، فهي مسلّطة على الأخلاط فوقها ، فإن خرجت عن الاعتدال ولم تعالج سريعاً قتلت صاحبها .

وأمّا الدم فهو حارّ رطب ونسبته من الأخلاط كنسبة الهواء من الأركان ، ويرشد إليه تولّده من الأغذية الحارّة الرطبة كاللحوم .

وأمّا أنّه عبد فلأنّه مركب الحرارة الغريزيّة ، وباعتبار فعله وخدمة البدن من التسخين ودفع البرودة وإعانة القوى على أفعالها وترطيبه وإفادته حسن اللون وغير ذلك يكون كالعبد .

وأمّا البلغم الطبيعيّ وهو ما يصلح لأن يصير دماً في وقت من الأوقات ، وهو دم قاصر عن تمام النضج ، وهو بارد رطب كالماء ، وتحدث منه الأمراض الباردة والرطبة

ص: 631


1- . الرغوة - مثلّثة الراء - : الزبد يعلوا الشيء عند غليانه . اُنظر : المصباح المنير ، ص 232 ؛ مجمع البحرين ، ج 2 ، ص 200 رغو .
2- . الكيلوس : الطعام إذا انهضم في المعدة قبل أن ينصرف عنها ويصير دما ، وسيّمونه أيضا الكيموس . انظر : النهاية لابن الأثير ، ج4 ، ص200 ؛ لسان العرب ، ج6 ، ص197 كمس .

عند كثرته ، وهو كالخصم الجدل لتكثّر أنواعه في الرقّة والغلظة والملوحة والمرارة والحموضة ونحو ذلك ، وكلّ واحد من أنواعه يفعل ما لا يفعله الآخر ، فهو باعتبار كثرته لا يسدّه شيء كالماء الكثير .

وأمّا المرّة وهي في اللغة : القوّة والشدّة ، وفي اصطلاح الأطبّاء تطلق تارة على الصفراء واُخرى على السوداء ، وسمّيت مِرّة لمرارتها وحدّتها ، وينبغي أن يراد منها هنا السوداء ، ونسبتها إلى الأخلاط كنسبة الأرض إلى الأركان ، والطبيعيّ منها ثقل الدم ، وهي تحدث عن احتراق أيّ خلط كان .

وأمّا إطلاق الأرض عليها ؛ فلأنّ الأجزاء الأرضيّة غالبة عليها لأنّها حاصلة من رسوب الدم المحمود المتولّد في الكبد فتكون بمنزلة الأرض ، وهي إذا تحرّكت - بسبب خروجها عن الاعتدال - رجفت واضطرب ما فوقها .

ص: 632

الحديث الثالث والمائة : لم يناد بشيء مثل ما نودي بالولاية

الحديث الثالث والمائة

[ لم يناد بشيء مثل ما نودي بالولاية ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام في الكافي بإسناده عن الباقر عليه السلام قال : «بني الإسلام على خمس : الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والولاية ، ولم يُناد بشيء مثل ما نودي بالولاية»(1) .

بيان

إشارة إلى يوم الغدير وغيره ؛ فإنّ النداء بالولاية وقع مكرّراً غير محصور ، وفي مجمع عظيم في غدير خمّ،(2) بخلاف غير الولاية ، فإنّه لم يقع التكرار فيه مثل التكرار فيها ، ولم يقع في مجمع مثل مجمعها ؛ لعلم اللّه بتهاون الناس بأمرها .

ص: 633


1- . الكافي،ج 2 ، ص 18 ، باب دعائم الإسلام ، ح 1 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 17 - 18 ، ح 10 ؛ وبحار الأنوار ، ج 65 ، ص 329 ، ح 1 . وفي المصادر الثالث : زيادة كلمة «على» قبل كلمة «الصلاة» .
2- . غدير خمّ - بضمّ الحاد و تشديد الميم - موضع بين مكّة المشرّفة والمدينة المنوّرة على ثلاثة أميال من الجُحفة . اُنظر : معجم البلدان ، ج 2 ، ص 389 ، كلمة «خمّ» ، معجم ما استعجم ، ج 2 ، ص 368 ، كلمة «الجحفة» ؛ مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 704 خمم و ج 3 ، ص 294 .

الحديث الرابع والمائة : بُني الإسلام على خمس

اشارة

الحديث الرابع والمائة

[ بُني الإسلام على خمس ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه وعبداللّه بن الصلت جميعاً عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز بن عبداللّه ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «بُني الإسلام على خمسة أشياء : على الصلاة والزكاة والحجّ والولاية والصوم» . قال زرارة : فقلت : وأيّ شيء من ذلك أفضل ؟ فقال : «الولاية أفضل ؛ لأنّها مفتاحهنّ ، والوالي هو الدليل عليهنّ» . قلت : ثمّ الذي يلي ذلك في الفضل ؟ فقال : «الصلاة ؛ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : الصلاة عمود دينكم» . قال : قلت : ثمّ الذي يليها في الفضل ؟ قال : «الزكاة ، لأنّه قرنها بها وبدأ بالصلاة قبلها . وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الزكاة تذهب الذنوب» . قلت : والذي يليها في الفضل ؟

قال : «الحجّ ، قال اللّه عزّ وجلّ : « وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ »(1) ، وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : لحجّة مقبولة خير من عشرين صلاة نافلة ، ومن طاف بهذا البيت طوافاً أحصى فيه اُسبوعه وأحسن ركعتيه غفر له . وقال في يوم عرفة ويوم المزدلفة ما قال» . قلت : بماذا اتبعه ؟(2) قال : «الصوم» . قلت : ما بال الصوم صار آخر ذلك أجمع ؟ قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الصوم جُنّة من النار» . قال : ثمّ قال : «إنّ أفضل الأشياء ما إذا أنت(3) فاتك لم تكن منه توبة دون أن ترجع إليه فتؤدّيه بعينه ، إنّ الصلاة والزكاة والحجّ والولاية ليس ينفع(4) شيء مكانها دون أدائها ، وإنّ الصوم إذا

ص: 634


1- . آل عمران 3 : 97 .
2- . كذا في المطبوع و النسخ ، ولكن في المصدر : «يتبعه» مكانها .
3- . وردت كلمة «أنت» ، في جميع النسخ ، لكنّها لم ترد في الكافي المطبوع .
4- . كذا في المطبوع وسائر النسخ ، لكن في الكافي المطبوع : «يقع» مكان «ينفع» .

فاتك أو قصّرت أو سافرت فيه أدّيت مكانه أيّاماً غيرها وجزيت ذلك الذنب بصدقة ولا قضاء عليك ، وليس من تلك الأربعة شيء يجزيك مكانه غيره» .

قال : ثمّ قال : «ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن : الطاعة للإمام بعد معرفته ، إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول : « مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا »(1) ، أما لو أنّ رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه فتكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له حقّ على اللّه في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان» . ثمّ قال : «أُولئك المحسن منهم يدخله اللّه الجنّة بفضل رحمته»(2) .

إيضاح مقال وتفصيل إجمال

هذا الحديث الشريف لا يخلو من غموض من حيث ما اشتمل عليه من التعليلات للأفضليّة بالنسبة إلى كلّ من الخمسة ، والتعليل لتأخير الصوم وتضمّنه إثبات القضاء ونفيه ، ولا بأس بالتعرّض لشرحه مجملاً ، فنقول :

قوله عليه السلام : (الولاية أفضل) أي من المذكورات ؛ لأنّها مفتاحهنّ ، بها تفتح أبواب معرفة تلك المذكورات وحقائقها وشرائطها وآدابها وموانعها ومصلحها ومفسدها .

والوالي الذي هو الحاكم الأمين من قِبله تعالى هو الدليل عليهنّ لا غيره ؛ لظهور أنّها أُمور متلقّاه منه تعالى إلى صاحب الوحي ، فلابدّ أن تُسمع منه وتُؤخذ عنه - بواسطةٍ أو بلا واسطة - لا بالآراء الفاسدة ، والعقول الناقصة الكاسدة .

فقال : (الصلاة ، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : الصلاة عمود دينكم) .

استدلاله عليه السلام على أفضليّة الصلاة بالحديث المذكور من حيث أنّه جعل الصلاة عمود الدين ، فشبّه الدين بالفسطاط وأثبت العمود له على سبيل التخيليّة ، وحمل العمود على الصلاة من باب التشبيه البليغ ، فبفسادها يفسد الدين بالكلّيّة ولا ينتفع

ص: 635


1- . النساء 4 : 80 .
2- . الكافي ، ج 2 ، ص 18 - 19 ، باب دعائم الإسلام ، ح 5 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 65 ، ص 332 ، ح 10 مع تفاوت يسير .

به ، كما أنّ الفسطاط لا ينتفع به مع وجود الطُنُب والأوتاد [ وانتفاء العود ] .

ويدلّ على ذلك أيضاً قول الصادق عليه السلام : «ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة»(1) ، وقوله عليه السلام : «أحبّ الأعمال إلى اللّه عزّ وجلّ الصلاة»(2) ولعلّ المراد بها المفروضة دون النافلة ؛ لأنّ الصلاة أفضل من الزكاة التي هي أفضل من الحجّ ، والحجّ

أفضل من عشرين صلاة نافلة ، ويؤيّده ما روي : «أنّ صلاة فريضة خير من عشرين حجّة» .(3)

فإن قيل : إنّ هذا ينافي ما روي : «أنّ الحجّ أفضل من الصلاة والصيام ؛ لأنّ المصلّي يشتغل عن أهله ساعة ، والصائم يشتغل عن أهله بِياض يوم ، وأنّ الحاجّ يشخص(4) ببدنه ، ويُضحي(5) نفسه ، وينفق ماله ، ويطلب الغيبة عن أهله ، لا في مال يرجوه ولا إلى تجارة»(6) . وأيضاً الحجّ أشقّ منهما ، وقد روي عنه صلى الله عليه و آله قال : «أفضل الأعمال أحمزها» .(7)

ص: 636


1- . الكافي ، ج 3 ، ص 264 ، باب فضل الصلاة ، ح 1 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 210 ، ح 634 ؛ وسائل الشيعة ، ج 4 ، ص 38 ، ح 4453 ؛ بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 225 - 226 ، ح 50 .
2- . الكافي ، ج 3 ، ص 264 ، باب فضل الصلاة ، ح 2 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 210 ، ح 638 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 4 ، ص 38 ، ح 4454 .
3- . الكافي ، ج 3 ، ص 265 - 266 ، باب فضل الصلاة ، ح 7 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 4 ، ص 39 ، ح 4456 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 209 ، ح 630 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 227 ، ح 55 .
4- . شخوص المسافر : خروجه من منزله ، وشخص من بلد إلى بلد شخوصا ، أي : ذهب ، اُنظر : الصحاح ، ج 3 ، ص 1043 ؛ النهاية لابن الأثير ، ج 2 ، ص 450 ؛ لسان العرب ، ج 7 ، ص 46 ، مادّة «شخص» .
5- . أضحى ، أي : صار في الضحى ، وأضحى الشيءَ ، أي أظهره ، ويقال : أضحِ لمن أحرمت له ، أي إظهر واعتزل الظلّ . اُنظر : الصحاح ، ج 6 ، ص 2407 ؛ النهاية لابن الأثير ، ج 3 ، ص 77 ؛ لسان العرب ، ج 14 ، ص 477 - 478 ، مادّة «ضحا» .
6- . من لا يحضره الفقيه ، ج 2 ، ص 221 ، ح 2236 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 112 ، ح 14328 ؛ علل الشرائع ، ج 2 ، ص 456 - 457 ، ح 1 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 96 ، ص 18 - 19 ، ح 67 مع تفاوت يسير فى الجميع .
7- . اُنظر : بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 229 ؛ النهاية لابن الأثير ، ج 1 ، ص 442 ؛ مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 573 (حمز) . و هذا الخبر عامّيّ غير مذكور في الجوامع الحديثيّة الرائجة للعامّة والخاصّة ، والمجلسي رحمه اللهذكره في البحار مرسلاً ، مردّدا في صحّته .

فالجواب : أنّه يمكن رفع التنافي بحمل الصلاة في هذا الحديث على النافلة وفيما نحن فيه على الفريضة . وتحقّق العلّه المذكورة في الفريضة غير مسلَّم ؛ لأنّ فعلها متوقّف على أربعة آلاف باب من المقدّمات والمقارنات والواجبات والمندوبات والكيفيّات والمحرّمات والمكروهات والتروك القلبيّة واللسانيّة والأركانيّة ، وتحصيلها لا يمكن بدون صرف العمر والمشقّة الشديدة والاشتغال عن الأهل في الأزمنة الطويلة بخلاف الحجّ .

وبذلك يعلم الجواب عن الحديث الثاني .

ويجاب عنه أيضاً بأنّه محمول على ما إذا كان المفضَّل والمفضَّل عليه من نوع واحد ، كالوضوء في الصيف والشتاء ونحوه .

قال : (الزكاة لأنّه قرنها بها) .

استدلّ عليه السلام على أنّ فضل الزكاة بعد الصلاة وقَبل غيرها ، بمجموع مقارنتهما في الذكر مع البدأة بذكر الصلاة .

ثمّ أكّد الجزء الأخير بذكر الحديث وهو قوله عليه السلام : «الزكاة تذهب الذنوب» .

لا يقال : الحجّ أيضاً يذهب بالذنوب .

لأنّا نقول : المقصود أنّ الزكاة علّة لمحو الذنوب وذهابها مستقلّة ، ولم يثبت أنّ الحجّ علّة مستقلّة لمحوها ؛ لجواز أن يكون محوها بعد الحجّ على سبيل التفضّل دون الوجوب ، وهذا القدر كاف في التفضيل . ويمكن جعل الحديث مع ما سبق دليلاً واحداً .

والذي يليها في الفضل «الحجّ» ، قال اللّه تعالى : « وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ »(1) الآية .

استدلّ عليه السلام على أنّ الحجّ أفضل من الصوم ، بالآية حيث عدّ تعالى ترك الحجّ كفراً دون الصوم وترك ذكر العقاب المترتّب عليه تفخيماً وتعظيماً ، ثمّ استدلّ على ذلك ثانياً بالحديث ، وهو إنّما يدلّ على أنّ الحجّ أفضل من الصوم لو كان عشرون نافلة أفضل من الصوم أو مساوية له ، ولا يبعد أن يجعل هذا دليلاً على

ص: 637


1- . آل عمران 3 : 97 .

أفضليّتهما بالنسبة إليه .

وقوله عليه السلام : (أحصى فيه اُسبوعه) أي : ضبطها وحفظها عن الزيادة والنقصان «وأحسن ركعتيه» أيفعلهما في وقتهما ومكانهما مع الشرائط والكيفيّات والترتيل.

( وقال في يوم عرفة ويوم المزدلفة ما قال ) ، أشار عليه السلام بذلك إلى ما جاء في ثواب عبادة اليومين وفضل الوقوف بالمشعرين .

قلت : بماذا اُتبعه ؟ قال : «الصوم» .

لا يقال : هذا السؤال ليس على ما ينبغي ؛ لأنّه إذا علم أنّ جميع الأعمال المذكورة في الحديث أفضل من الصوم فقد علم أنّ الصوم في الفضيلة بعدها .

لأنّا نقول : لعلّ المقصود من السؤال استعلام وجه تأخير الصوم في الفضيلة عن الأعمال كما يشير إليه قوله : قلت : وما بال الصوم ؟ .

وقوله عليه السلام : (الصوم جُنّة من النار)(1) إشارة إلى فضيلة الصوم لا أفضليّته ، وسرّ ذلك أنّ أعظم أسباب النار هو الشهوات ، والصوم يكسرها . وذكر عليه السلام هذا الحديث في فضل الصوم دفعاً لما عسى أن يتوهّم أنّه ممّا لا فضل فيه ، وأنّه قليل الأجر .

ثمّ ذكر عليه السلام قاعدة كلّيّة في معرفة الأفضل بقوله : (ثمّ إنّ أفضل الأشياء) ، وفيه إشارة إلى أنّ الصوم دون الأعمال المذكورة في الفضل ، وذلك لأنّه لمّا لم يكن لتلك الأعمال بدل كما كان للصوم عُلم أنّ الاهتمام بها أعظم وأكمل ، والثواب المترتّب عليها أفخم وأجزل ، فلذلك أراد الشارع وقوعها بعينها .

وقوله عليه السلام : (ما إذا أنت فاتك) ، لفظة أنت زائدة ، والمراد بالفوت ههنا : ما يقوم مقامه أو الأعمّ منه ومن سقوطه رأساً .

وقوله عليه السلام : (وإنّ الصوم إذا فاتك) إشارة إلى أقسام الفوت وحكمه إجمالاً ؛ لأنّ الفوت إمّا للعذر - مثل المرض وغيره - ، أو للتقصير والتعمّد في تركه ، أو للسفر ، واللازم إمّا القضاء في مكانه فقط أو الكفّارة فقط أو هما جميعاً أو لا هذا ولا ذاك ، كما فصّلناه في

ص: 638


1- . المحاسن ، ج 1 ، ص 221 - 222 ، ح 134 ؛ الكافي ، ج 4 ، ص 62 ، باب ما جاء في فضل الصوم والصائم ، ح 1 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 2 ، ص 74 ، ح 1771 ؛ وسائل الشيعة ، ج 10 ، ص 395 ، ح 13673 .

شرح المفاتيح ، وفّق اللّه لإتمامه بمحمّد وآله .

والصوم قد تكفي الصدقة عنه وتقوم مقامه ، بخلاف تلك الأربعة ؛ فإنّه لا يجزي مكانها إلاّ قضاؤها بعينها ، فهي أفضل من الصوم .

وقوله عليه السلام : (ذروة الأمر) المراد بالأمر : الدين ، والمعنى : أنّ طاعة الإمام بعد معرفته والانقياد إليه أرفع الطاعات مرتبة وأسناها منزلة كالذِروة ، وهي من حيث أنّها توصل إلى المطلوب - وهو قرب الحقّ - كالسّنام ، ومن حيث أنّها سبب للوصول إلى جميع الخيرات الدنيويّة والاُخرويّة كالمفتاح ، ومن حيث أنّ بها يتحقّق الدخول في الدين ومعرفة قوانينه كالباب ، ومن حيث أنّها توجب المغفرة والرحمة والدرجات العالية رضا الرحمن .

والضمير في قوله : «بعد معرفته» راجع إلى الإمام أو إلى اللّه ، واستشهاده عليه السلام بقوله تعالى : « مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ »(1) إمّا إشارة إلى أنّ طاعة الإمام هي بعينها طاعة الرسول ؛ لأنّه صلى الله عليه و آله أمر بطاعته وأقامه مقامه ، أو إشارة إلى أنّ الرسول يشمل الإمام في المعنى .

وقوله : ( أولئك المحسن منهم ) لعلّه إشارة إلى من يطع الرسول ، وهو المؤمن العارف بحقّ الإمام .

ص: 639


1- . النساء 4 : 80 .

الحديث الخامس والمائة : تقبيل يد أبي عبد اللّه(ع) ورأسه ورجله

الحديث الخامس والمائة

[ تقبيل يد أبي عبد اللّه عليه السلام ورأسه ورجله ]

ما رويناه بالأسانيد عن ثقة الإسلام عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحجّال ، عن يونس بن يعقوب ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : ناولني يدك اُقبِّلها ، فأعطانيها ، فقلت : جعلت فداك ، رأسك ، ففعل فقبّلته ، فقلت : جعلت فداك ، رجلاك ، فقال : «أقسمت أقسمت أقسمت - ثلاثاً - وبقي شيء وبقي شيء وبقي شيء»(1) .

هذا الحديث من الغوامض ويحتمل وجوهاً :

الأوّل : أنّه عليه السلام قال ثلاث مرّات : حلفت أن لا اُناول رجلي لأحد يقبّلها ، وقوله : «وبقي شيء» محمول على الاستفهام الإنكاريّ ، أي وهل يبقى مكان للسؤال لذلك بعد حلفي عليه ؟

الثاني : أن يكون المعنى : أقسمت أن لا أفعل ذلك ، وقوله : «وبقي شيء» جملة خبريّه بمعنى الأمر ، أي : وليبق شيء ممّا يجوز أن يقبّل ، ويكون منعه عليه السلام حينئذٍ من ذلك تقيّة من بعض الحاضرين ؛ لأنّ تقبيل اليد والرأس كان شائعاً عند العرب فلم تكن فيه تقيّة ، وأمّا تقبيل الرجل فهو مختصّ بالسلطان .

الثالث : أن يكون «أقسمت» على صيغة الخطاب من القِسم - بالكسر - وهو الحظّ والنصيب ، أي أخذتَ حظّك ونصيبك ، وقوله : «وبقي شيء» على أحد المعاني السابقة .

ص: 640


1- . الكافي ج 2 ، ص 185 ، باب التقبيل ، ح4 ، وعنه في وسائل الشيعة ج 12 ، ص 234 ح 16175 ، بحار الأنوار ، ج 73 ، ص 39 ، ح 37 .

الرابع : أن يكون المعنى : أقسمت أنت أن تقبّل الأعضاء الثلاثة ، وقد قبّلت اثنين منها ، وبقي شيء وهو الرجل فقبّلها لتبرّ قسمك ، فخذ قبّلها .

الخامس : أن يكون المعنى أقسمت أنا أن لا اُرخّص لأحدٍ في ذلك ، إمّا لعدم الجواز أو لعدم الرجحان أو للتقيّة ، وقوله عليه السلام : «وبقي شيء» أي بقي منّي تجويز ذلك بعد حلفي على تركه .

السادس : أن يكون الأوّل استفهاماً ، أي هل أقسمت على تقبيل الأعضاء الثلاثة ، والحال أنّه قد بقي منها شيء فلذلك أصررت على تقبيله ؟ وهل هذا سبب إصرارك ؟ أي لا معنى لهذا الإصرار مع امتناعي ، واللّه العالم .

ص: 641

الحديث السادس والمائة : لا يُقبّل رأس أحد ولا يده إلاّ ...

الحديث السادس والمائة

[ لا يُقبّل رأس أحد ولا يده إلاّ ... ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن رفاعة ، عن موسى ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «لا يُقبّل رأس أحد ولا يده إلاّ يد رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو من اُريد به رسول اللّه صلى الله عليه و آله »(1) .

بيان

يحتمل أن يكون المراد بمن اُريد به رسول اللّه صلى الله عليه و آله عترته الطاهرين والأئمّة المعصومين ، بقرينة ما رواه بعده عن عليّ بن يزيد صاحب السابريّ ، قال : دخلت على أبي عبداللّه عليه السلام فتناولت يده فقبّلتها ، فقال : «أما إنّها لا تصلح إلاّ لنبيّ أو وصيّ نبيّ»(2) .

ويحتمل أن يراد به ما هو أعمّ من ذلك لسائر صالحي ذرّيّته ، بل لصالحي المؤمنين أيضاً ؛ فإنّ تقبيل يدهم من حيث صلاحهم وإيمانهم باللّه وبرسول اللّه واتّباعهم له إنّما اُريد به رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، بل شمول الحكم للعلماء باللّه العاملين بأمره ، الهادين الناس ممّن وافق قولهم فعلهم أولى ؛ فإنّهم خلفاء رسول اللّه ، كما يدلّ عليه قوله عليه السلام : «اللّهمّ ارحم خلفائي»(3) ، بل هم ورثته الروحانيّون ؛ فإنّ العلماء ورثة الأنبياء ؛ لأنّ الأنبياء لم

ص: 642


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 185 ، باب التقبيل ، ح 2 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 234 ، ح 16173 ؛ وبحار الأنوار ، ج 73 ، ص 37 ، ح 35 .
2- . الكافي ، ج 2 ، ص 185 ، باب التقبيل ، ح 3 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 234 ، ح 16174 ؛ وبحار الأنوار ، ج 73 ، ص 39 ، ح 36 .
3- . من لا يحضره الفقيه ، ج 4 ، ص 420 ، ح 5919 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 91 ، ح 33295 ؛ عيون الأخبار ، ج 2 ، ص 37 ، ح 94 ، وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 144 ، ص 4 .

يورثوا درهماً ولا ديناراً كما في الحديث .(1)

ص: 643


1- . اُنظر : بصائر الدرجات ، ص 10 ، ح 1 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 92 ، ح 21 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص 32 ، باب صفة العلم ... ، ح 2 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 78 ، ح 33247 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 60 ، المجلس 14 ، ح 9 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 164 ، ح 2 .

الحديث السابع والمائة : ثلاثة لم ينج منها نبيّ فمن دونه

الحديث السابع والمائة

[ ثلاثة لم ينج منها نبيّ فمن دونه ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام في الروضة ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن أبي مالك الحضرميّ ، عن حمزة بن حمران ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «ثلاثة لم ينج منها نبيّ فمن دونه : التفكير في الوسوسة في الخلق ، والطِيرة ، والحسد ، إلاّ أنّ المؤمن لا يستعمل حسده»(1) .

بيان

(التفكّر في الوسوسة في الخلق) : هو التفكير فيما يحصل في نفس الإنسان من الوساوس في خالق الأشياء وكيفيّة خلقها وخلق أعمال العباد ، أو التفكّر في حكمة خلق بعض الشرور في العالم من غير استقرار في النفس وحصول شكّ بسببها .

فعن محمّد بن حمران ، قال : سألت الصادق عليه السلام عن الوسوسة ، فقال : «لا شيء فيها ، تقول : لا إله إلاّ اللّه» .(2)

وقيل : المراد بالخلق : المخلوق ، أي التفكّر فيهم وحديث النفس بعيوبهم وتفتيش أحوالهم .

ص: 644


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 108 ، ح 86 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 366 ، ح 20761 ؛ وبحار الأنوار ، ج 55 ، ص 323 ، ح 12 .
2- . الكافي ، ج 2 ، ص 424 ؛ باب الوسوسة و حديث النفس ، ح 1 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 7 ، ص 168 ، ح 9038 ؛ وبحار الأنوار ، ج 55 ، ص 324 ؛ ذيل ح 13 مع تفاوت يسير .

(والطِيرة) مثل الغيبة : ما يتشأّم به من الفأل الردئ ، وقد تقدّم(1) الكلام فيها ، والمراد بها هنا : إمّا انفعال النفس عمّا يتشأّم به او تأثيرها واقعاً وحصول مقتضاها .

والمراد بالحسد : الحسد المركوز في الخاطر الذي لم يظهره الإنسان بيدٍ ولا لسان كما تقدّم(2) الكلام فيه في حديث : «رفع عن اُمّتي» ، وهو ليس من المعاصي ، ويمكن أن يكون المراد به ما يعمّ الغبطة .

وقال الصدوق في الخصال بعد إيراد هذا الحديث :

يعني بالطِيرة في هذا الموضع أن يتطيّرمنهم قومهم ، فأمّا هم عليهم السلام فلا يتطيّرون ، وذلك كما قال اللّه عزّوجلّ عن قوم صالح : « قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ » ،(3) وكما قال آخرون لأنبيائهم : « إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ »(4) .

وأمّا الحسد في هذا الموضع فهو أن يُحسدوا ، لا أنّهم عليهم السلام يحسدون غيرهم ، وذلك كما قال اللّه تعالى : « أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكًا عَظِيمًا »(5) .

وأمّا التفكّر في الوسوسة في الخلق فهو بلواهم عليهم السلام بالوسوسة(6) لا غير ذلك ،وذلك كما حكى اللّه عنهم عن الوليد بن المغيرة المخزوميّ « إِنَّهُو فَكَّرَ وَ قَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ »(7) يعني قال للقرآن : « إِنْ هَٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَٰذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ »(8) .(9) انتهى .

وفيه نظر .

ص: 645


1- . تقدم في المجلد الأول من شرح الحديث السادس والاربعون .
2- . تقدّم في المجلّد الأوّل في شرح الحديث السادس والأربعون .
3- . النمل 27 : 47 .
4- . يس 36 : 18 .
5- . النساء 4 : 54 .
6- . في المصدر : بأهل الوسوسة .
7- . المدّثّر 74 : 18 و19 .
8- . المدّثّر 74 : 24 و 25 .
9- . الخصال ، ج 1 ، ص 89 - 90 ، ذيل ح 27 .

الحديث الثامن والمائة : نية المؤمن خير من عمله

الحديث الثامن والمائة

[ نية المؤمن خير من عمله ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الكافر شرّ من عمله ، وكلّ يعمل على نيّته(1)» .

بيان

هذا الحديث مستفيض بين الفريقين(2) ، والإشكال فيه من وجهين :

أحدهما : أنّه مناف للروايات الدالّة على أنّ المؤمن إذا همّ بحسنة ولم يفعلها كتبت واحدة ، وإذا فعلها كتبت عشراً ، وأنّ السيّئة إذا نُويت ولم تُفعل لم تكتب ، وإذا فُعلت كتبت بواحدة ، والعقل والنقل متعاضدان على أنّ العذاب والثواب على الأعمال دون النيّات .

الثاني : أنّه مناف لما روي : «أنّ أفضل الأعمال أحمزُها»(3) ، أي أشقّها ، والعمل أشقّ من النيّة : فكيف تكون النيّة أفضل من العمل ؟

وكيف كان فقد ذكر العلماء من الخاصّة والعامّة في معنى الحديث وجوهاً :

ص: 646


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 84 ، باب النيّة ، ح 2 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 50 ، ح 95 ؛ وبحار الأنوار ، ج 67 ، ص 189 ، ح 2 مع تفاوت يسير .
2- . اُنظر : مجمع الزوائد ، ج 1 ، ص 61 ؛ الجامع الصغير ، ج 2 ، ص 678 ، ح 9295 ؛ كنز العمال ، ج 3 ، ص 418 ، ح 7236 .
3- . تقدّم تخريجه ذيل شرح الحديث تحت الرقم 99 .

الأوّل : ما ذكره الغزّاليّ ، وهو :

أنّ كلّ طاعة تنتظم بنيّة وعمل ، وكلّ منهما من جملة الخيرات إلاّ أنّ النيّة من الطاعتين خير من العمل ؛ لأنّ أثر النيّة في المقصود أكثر من أثر العمل ، لأنّ صلاح القلب هو المقصود من التكليف ، والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود ، والغرض من حركات الجوارح أن يعتاد القلب إرادة الخير ، ويؤكّد فيه الميل إليه ليتفرّغ عن شهوات الدنيا ، ويقبل على الذكر والفكر ، فبالضرورة تكون خيراً بالإضافة إلى الغرض ، قال اللّه تعالى : « لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَ لاَ دِمَآؤُهَا وَ لَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ »(1) ، والتقوى صفة القلب ، وفي الحديث : «إنّ في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد» ، أراد بها القلب .(2)

الثاني : ما حكي عن ابن دريد وهو : أنّ المؤمن ينوي خيرات كثيرة لا يسعه الزمان على عملها ، فكان الثواب المترتّب على نيّاته أكثر من الثواب المترتّب على أعماله(3) ، ويؤيّده ما رواه في الكافي عن الصادق عليه السلام قال : «إنّما خلِّد اللّه أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً ، وإنّما خُلِّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبداً ، فبالنيّات خُلّد هؤلاء وهؤلاء» ، ثمّ تلا قوله تعالى : « قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ »(4) قال : «على نيّته»(5) .

الثالث : أنّ المؤمن ينوي أن يوقع عباداته على أحسن الوجوه ؛ لأنّ إيمانه يقتضي ذلك ، ثمّ إذا كان يشتغل بها لا يتيسّر له ذلك ولا يتأتّى كما يريد ، فلا يأتي بها كما

ص: 647


1- . الحجّ 22 : 37 .
2- . إحياء علوم الدين ، ج 14 ، ص 162 - 164 ط دار الكتاب العربى ملخّصا و ملتقطا . و انظر : بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 192 ذيل ح 2 .
3- . المجتنى لابن دريد ، ص 11 ط حيدر آباد ؛ وانظر : القواعد والفوائد ، ج 1 ، ص 113 الفائدة (22) ؛ شرح المازندراني ، ج 8 ، ص 268 ، الوافي ، ج 4 ، ص 368 ؛ بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 109 .
4- . الإسراء 17 : 84 .
5- . الكافي ، ج 2 ، ص 85 ، باب النيّة ، ح 5 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 50 ، ح 96 ؛ وبحار الأنوار ، ج 67 ، ص 201 ، ح 5 .

ينبغي ، فالذي ينوي دائماً خير من الذي يعمل في كلّ عبادة(1) .

الرابع : أن يكون المراد بالحديث مجموع المعنيين الأخيرين ؛ لاشتراكهما في أمر واحد ، وهو نيّة الخير الذي لا يتأتّى له كما يريده(2) ، ويدلّ عليه ما رواه الصدوق في العلل عن الباقر عليه السلام قال : «نيّة المؤمن خير من عمله ، وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه ، ونيّة الكافر شرٌّ من عمله ، وذلك لأنّ الكافر ينوي الشرّ ويأمل من الشرّ ما لا يدركه» .(3)

وعن الصادق عليه السلام أنّه قال له زيد الشحّام : إنّي سمعتك تقول : «نيّة المؤمن خيرمن عمله» ، فكيف تكون النيّة خيراً من العمل ؟ قال : «لأنّ العمل ربّما كان رياءً للمخلوقين والنيّة خالصة لربّ العالمين ، فيعطي عزّ وجلّ على النيّة ما لا يعطي على العمل» .

قال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ العبد لينوي من نهاره أن يصلّي بالليل فتغلبه عينه فينام ، فيثبت اللّه له صلاته ويكتب نَفَسَه تسبيحاً ، ويجعل نومه صدقة» .(4)

الخامس : أنّ المعنى : أنّ نيّة المؤمن خيرمن عمله بلا نيّة ، كما قيل في ليلة القدر خيرمن ألف شهر ، وفريضة خير من عشرين حجّة .(5)

وفيه : أوّلاً : أنّ العمل بلا نيّة لا خير فيه أصلاً .

وثانياً : أنّ العمل بغير نيّة لا يتصوّر إلاّ من الغافل .

السادس : أنّ نيّة المؤمن اعتقاد الحقّ وإطاعة الربّ لو : خلّد في الدنيا ، وهي خير من عمله ؛ إذ ثمرتها الخلود في الجنّة ، بخلاف عمله ؛ فإنّه لا يوجب الخلود فيها . ونيّة

ص: 648


1- . الوافي ، ج 4 ، ص 367 .
2- . اُنظر : الوافي ، ج 4 ، ص 367 ؛ بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 190 ذيل ح 2 .
3- . علل الشرائع ، ج 2 ، ص 524 ، ح 2 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 54 ، ح 109 ؛ وبحار الأنوار ، ج 67 ، ص 206 ، ح 19 مع تفاوت يسير .
4- . علل الشرائع ، ج 2 ، ص 524 ، ح 1 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 53 - 54 ، ح 107 - 108 ؛ وبحار الأنوار ، ج 67 ، ص 206 ، ح 18 مع تفاوت يسير .
5- . اُنظر : رسائل المرتضى ، ج 3 ، ص 236 ؛ إحياء علوم الدين ، ج 14 ، ص 162 ؛ الأربعون حديثا للبهائي ، ص 232 ، ذيل ح 37 ؛ القواعد والفوائد ، ج 1 ، ص 109 ؛ مرآة العقول ، ج 8 ، ص 93 ؛ الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 114 .

الكافر اعتقاد الباطل ومعصية الربّ لو خلّد فيها وهي شرّ من عمله ؛ إذ ثمرته الخلود في النار بخلاف عمله(1) .

ويؤيّده - مضافاً إلى الحديث السابق - الإضافة إلى المؤمن والكافر ؛ فإنّ الوصف مشعر بالعلّيّة .

وهذا المعنى قريب ممّا تقدّم .

السابع : أنّ النيّة روح العمل ، والعمل بمثابة البدن لها ، فخيريّة العمل وشريّته تابعتان لخيريّة النيّة وشرّيّتها ، كما أنّ شرافة البدن وخباثته تابعتان لشرافة الروح وخباثته ، فبهذا الاعتبار نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الكافر شرّ من عمله .(2)

الثامن : أنّ نيّة المؤمن وقصده أوّلاً هو اللّه ، وثانياً العمل ؛ لأنّه يوصل إليه ، ونيّة الكافر وقصده غيره تعالى ، وعمله يوصل إليه ، وبهذا الاعتبار صحّ ما ذُكر .(3) والعمل في هذه الأمكنة ليس أشقّ من النيّة بل الأمر بالعكس ؛ لأنّ النيّة ليست مجرّد التلفّظ بلفظ مخصوص وحصول معناه في القلب ، بل حصولها متوقّف على تنزيه الظاهر والباطن عن الرذائل كلّها ، وتوجّه القلب بكلّيّته إلى اللّه تعالى وإعراضه عن جميع ما سواه .

وتطهير العمل عبارة عن ترك ما يوجب نقصه وفساده ، ولا ريب في أنّ النيّة على هذا الوجه أشقّ من العمل ، كما يدلّ عليه ما روي في الروضة عن أميرالمؤمنين عليه السلام : «إنّ تصفية العمل أشدّ من العمل ، وتخليص النيّة من الفساد أشدّ على العاملين من طول الجهاد»(4) ، الحديث .

ص: 649


1- . اُنظر : القواعد والفوائد ، ج 1 ، ص 110 ؛ الأربعون حديثا للبهائي ، ص 232 ، ذيل ح 37 ؛ شرح المازندراني ، ج 8 ، ص 267 ؛ بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 189 - 190 ؛ الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 114 .
2- . اُنظر : شرح المازندراني ، ج 8 ، ص 267 ؛ بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 192 ، مقتبسا من كلام المحقق الطوسي في بعض رسائله .
3- . اُنظر : شرح المازندراني ، ج 8 ، ص 267 - 268 ؛ بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 192 - 193 . ذكراه مستفيدا من كلام المحقّق الطوسي في بعض رسائله .
4- . الكافي ، ج 8 ، ص 24 ، ح 4 ؛ وانظر : تحف العقول ، ص 99 ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 288 ، ح 1 .

التاسع : أنّه عامّ مخصّص أو مطلق مقيّد ؛ إذ بعض الأفعال العظام كنيّة الجهاد خيرمن بعض الأعمال الخفيفة كتسبيحة أو تحميدة أو قراءة آية ؛ لما في تلك النيّة من تحمّل النفس المشقّة الشديدة والتعرّض للغمّ والهمّ الذي لا يوازنه تلك الأفعال(1) .

العاشر : أنّ النيّة يمكن فيها الدوام بخلاف العمل ؛ فإنّه يتعطّل عنه المكلّف أحياناً ، فإذا نُسبت هذه النيّة الدائمة إلى العمل المنقطع كانت خيراً منه ، وكذا القول في نيّة الكافر .(2)

الحادي عشر : أنّ النيّة لا يكاد يدخلها الرياء ولا العجب ، لأنّا نتكلّم على تقدير النيّة المعتبرة شرعاً ، بخلاف العمل فإنّه قد يعتريه ذلك ، ويؤيّده الحديث السابق .

وفيه : أنّ المراد بالعمل : العمل الصحيح الخالي عنهما وإلاّ لم يقع التفضيل فتأمّل .

الثاني عشر : أنّ المراد بالمؤمن : الخالص ، كالمبتلى بمعاشرة أهل الخلاف ومداراة أهل الباطل ؛ فإنّ غالب أفعاله جارية على التقيّة ، وأعماله الواقعة تقيّةً منها : ما يثاب عليه كالعبادات الواجبة ، ومنها : ما لا يثاب ولا يعاقب عليه كالباقي ، وأمّا نيّته فهي خالية عن ، التقيّة فيثاب عليها لا محالة(3) .

ويؤيّده ما روي عن الصادق عليه السلام وقد سُئل عن الغزو مع غير الإمام العادل ، فقال : «إنّ اللّه يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة» .(4)

الثالث عشر : أنّ أفعل التفضيل خارج عن بابه و«مِن» تبعيضيّة ، والمعنى : أنّ نيّة

ص: 650


1- . اُنظر : رسائل المرتضى ، ج 3 ، ص 239 ؛ القواعد و الفوائد ، ج 1 ، ص 109 - 110 ؛ مرآة العقول ، ج 8 ، ص 94 ؛ الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 114 .
2- . اُنظر : إحياء علوم الدين ، ج 14 ، ص 162 ؛ القواعد والفوائد ، ج 1 ، ص 110 ؛ الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 114 .
3- . اُنظر : القواعد و الفوائد ، ج 1 ، ص 111 ؛ الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 115 .
4- . الكافي ، ج 5 ، ص 20 ، باب الغزو مع الناس إذا خيف على الإسلام ، ح 1 ، وعنه في وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 43 ، ح 19952 .

المؤمن خير من جملة أعماله دفعاً لما يتوهّم أنّ النيّة لا يدخلها الخير والشرّ .

لا يقال : النيّة من أفعال القلوب فكيف تكون عملاً ؟

لأنّا نقول : تسمّى عملاً مجازاً كما تسمّى فعلاً .(1)

الرابع عشر : أنّ طبيعة النيّة خير من طبيعة العمل ؛ لأنّه لا يترتّب عليها عقاب أصلاً ؛ بل إن كانت خيراً أُثيب عليها ، وإن كانت شرّاً كان وجودها كعدمها ، بخلاف العمل ؛ فإنّه من يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره .(2)

الخامس عشر : أنّ النيّة من أعمال القلب وهو أفضل الجوارح ، فعمله أفضل من عملها ، ألا ترى إلى قوله تعالى : « أَقِمِ الصَّلَوةَ لِذِكْرِى »(3) حيث جعل الصلاة وسيلة إلى الذكر ، والمقصود أشرف من الوسيلة . وأيضاً فأعمال القلب مستورة عن الخلق لا يتطرّق إليها الرياء ونحوه ، بخلاف أعمال الجوارح .(4)

السادس عشر : أنّ المراد بالنيّة تأثّر القلب عند العمل ، وانقياده إلى الطاعة وإقباله على الآخرة وانصرافه عن الدنيا ، وذلك أفضل من العمل الذي هو مجرّد الصورة ، وهذا المعنى يرجع إلى سابقه .(5)

السابع عشر : أنّ المراد بالنيّة - التي هي أفضل من العمل - انبعاث النفس وميلها وتوجّهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها ، إمّا عاجلاً وإمّا آجلاً ، وهذا الانبعاث والميل في

ص: 651


1- . اُنظر : رسائل المرتضى ، ج 3 ، ص 237 - 238 ؛ القواعد والفوائد ، ج 1 ، ص 112 - 113 ؛ شرح المازندراني ، ج 8 ، ص 268 ؛ بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 191 ، ذيل ح 2 ؛ الدررالنجفيّة ، ج 3 ، ص 115 .
2- . اُنظر : إحياء علوم الدين ، ج 14 ، ص 162 ؛ الأربعون حديثا للبهائي ، ص 233 ، ذيل ح 37 ؛ بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 190 - 191 ؛ مرآة العقول ، ج 8 ، ص 93 - 94 ؛ الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 117 .
3- . طه 20 : 14 .
4- . اُنظر : إحياء علوم الدين ، ج 14 ، ص 162 ؛ الأربعون حديثا للبهائي ، ص 233 ، ذيل ح 37 ؛ بحار الأنوار ،ج 67 ، ص 191 ، ذيل ح 2 ؛ مرآة العقول ، ج 8 ، ص 94 ؛ الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 117 .
5- . اُنظر : إحياء علوم الدين ، ج 14 ، ص 162 - 165 ؛ الأربعون حديثا للبهائي ، ص 233 - 234 ، ذيل ح 37 ؛ الوافي ، ج 4 ، ص 366 - 367 ؛ بحار الأنوار ، ج 67 ، ص 191 - 192 ، ذيل ح 2 ؛ مرآة العقول،ج 8 ، ص 94 ، الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 117 - 118 .

غاية الصعوبة ، فهو أفضل من العمل كما تقدّم تحقيقه .(1)

الثامن عشر : أنّ نيّة المؤمن لجملة الطاعات خير من عمله ، يعني عملاً واحداً ، ونيّة الفاجر كذلك ، فالنيّة دائمة والعمل موقّت والدائم خير من الموقّت .(2)

التاسع عشر : أنّ العمل يوجد بالنيّة لا النيّة بالعمل .(3)

العشرون : أنّ سبب هذا الحديث أنّ رجلاً أنصاريّاً نوى أن يعمل جسراً كان على باب المدينة قد انهدم فسبقه يهوديّ فعمله ، فاغتمّ لذلك الأنصاريّ ، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله : «نيّة المؤمن خير من عمله» ، يعني اليهوديّ .(4)

الحادي والعشرون : أنّ المراد من النيّة : الإرادة ، بمعنى : إرادته وإخلاصه بجميع الأعمال خير من عمله .(5)

الثاني والعشرون : أنّ نيّة المؤمن أن لا يرجع عن الإيمان خير من عمله ، والكافر على ضدّ ذلك .(6)

الثالث والعشرون : أنّ نيّة المؤمن على أن يزداد خيراً إن قدر خير من عمله ، وكذا نيّة الفاجر .(7)

الرابع والعشرون : أنّ «خيراً وشرّاً» منصوبان على أنّهما مفعولا «نيّة» ، وكان حذف الألِف منهما تبادر كونهما صيغتي تفضيل ، وأنّهما خبر لبمتدئين ، فوقع فيهما تحريف ، والمعنى : أنّ المؤمن إذا نوى خيراً وإن لم يفعله كان محسوباً من جملة أعماله ، والكافر إذا نوى شرّاً كان ذلك من أعماله فيثاب المؤمن بذلك ويعاقب الكافر بذلك ، وفيه تنبيه على أنّ هذا من العمل الذي في قوله تعالى : « فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

ص: 652


1- . الأربعون حديثا للبهائي ، ص 234 - 236 ، ذيل ح 37 .
2- . اُنظر : الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 120 ، حكاه عن بعض العامّة .
3- . اُنظر : الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 120 ، نقلاً عن بعض العامّة .
4- . اُنظر : الأنوار النعمانيّة ، ج 2 ، ص 352 ؛ مجمع البحرين ، ج 4 ، ص 397 ، مادّة «نوى» .
5- . اُنظر : الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 120 ، حكاه عن بعض العامّة .
6- . اُنظر : الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 120 ، عن بعض العامّة .
7- . اُنظر : الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 120 عن بعض العامّة .

خَيْرًا يَرَهُو * وَ مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ »(1) .(2)

هذا وقد تقدّم الجواب عن الإشكال الثاني وهو أنّ العمل الواحد إذا كان يقع على أنحاء شتّى فأفضل أنواعه أحمزها كالوضوء في الصيف والشتاء ، واللّه العالم.

ص: 653


1- . الزلزال 99 : 7 و8 .
2- . اُنظر : الأنوار النعمانية ، ج 2 ، ص 353 ، نسبه إلى بعض المعاصرين ، وانظر : الدرر النجفيّة ، ج 3 ، ص 3 .

الحديث التاسع والمائة : لا ينقض الوضوء إلاّ حدث ...

الحديث التاسع والمائة

[ لا ينقض الوضوء إلاّ حدث ... ]

ما رويناه بالأسانيد عن شيخ الطائفة في التهذيب بإسناد صحيح عن الصادق عليه السلام قال : « لا ينقض الوضوء إلاّ حدث ، والنوم حدث»(1) .

قد استشكل بعض الفضلاء في هذا الحديث من حيث إنّه حاول إرجاعه إلى أحد الأشكال الأربعة وكون نتيجته حينئذٍ لا ينقض الوضوء إلاّ النوم ، فتكلّف لذلك شططاً ، فقيل : إنّ صورته بحسب الظاهر صورة قياس من الشكل الثاني ، ولا يخفى اشتمال صغراه على عقدي إيجاب وسلب ، لكنّ عقد الإيجاب يوجب عقمه لاشتراط اختلاف مقدّمتيه كيفاً ، ولا سبيل إلى عقد السلب لعدم تكرار الوسط حينئذٍ ، فلا سبيل إلى جعله من الشكل الثاني :

فإمّا أن يجعل الحدث في الصغرى بمعنى كلّ حدث ، كما قالوه في قوله تعالى : « عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ »(2) من أنّ المراد : كلّ نفس ، فيصير في قوّة قولنا : كلّ حدث ناقض ، ويؤول إلى الشكل الرابع ، فينتج : بعض الناقض نوم .

وإمّا أن يجعل الصغرى كبرى وبالعكس ، فيكون من الشكل الأوّل .

وإمّا أن يستدلّ على استلزامه للمطلوب وإن لم يكن مستجمعاً لشرائط القياس ، كما قالوه في قولنا : زيد مقتول بالسيف ، والسيف آلة حديديّة ، فإنّه لا شكّ في انتاجه : زيد مقتول بآلة حديديّة ، مع عدم جريانه على وتيرة شيء من الأشكال الأربعة ، وكما في

ص: 654


1- . تهذيب الأحكام : ج 1 ، ص 6 ، ح 5 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 253 ، ح 654 .
2- . الانفطار 82 : 5 .

قولنا : زيد بن عمرو ، وعمرو ليس في البلد .

ومن حيث إنّه حاول إرجاعه إلى أحد الأشكال الأربعة وكون نتيجته حينئذٍ : لا ينقض الوضوء إلاّ النوم ، وتكلّف لذلك شططاً .

والأولى في توجيهه كما عليه الفاضلان المحقّقان المحدّثان العلاّمة المجلسيّ والمحقّق الكاشانيّ(1) : أنّه ليس غرض الإمام عليه السلام من هذا الكلام التكلّم بالشكل المنطقيّ ، بل كان غرضه عليه السلام من هذه الكلمات إيصالها إلى أفهام السامعين ، والغرض من هذا الحديث هو الردّ على العامّة في كلا الحكمين :

أمّا قوله عليه السلام : «لا ينقض الوضوء إلاّ حدث» فهو ردّ على أبي حنيفة ومن تبعه من القائلين بأنّ القهقهة والرعاف وأكل ما مسّته النار ونحوها نواقض للوضوء(2) ممّا ليس من الأحداث .

والجزء الثاني من الخبر وهو قوله عليه السلام : «والنوم حدث» ردّ على جماعة من العامّة أيضاً ، حيث قالوا : إنّ النوم في نفسه ليس بحدث ناقض ، وإنّما هو ناقض باعتبار أنّه مظنّة خروج الحدث ، وفرّعوا عليه بما لو نام وهو جالس متحرّز من خروج الحدث بحيث حصل له العلم بعدم وقوعه لم ينقض وضوؤه ، وقد وردت بعض الأخبار من طرقنا في ذلك(3) ، وهي محمولة على التقيّة .

ص: 655


1- . الأربعون حديثا للمجلسي ، ص 491 - 497 ؛ الوافي ، ج 6 ، ص 255 .
2- . انظر : بدائع الصنائع ، ج 1 ، ص 31 - 32 ؛ كشّاف القناع ، ج 1 ، ص 154 .
3- . انظر : بدائع الصنائع ، ج 1 ، ص 31 .

الحديث العاشر والمائة : الرجل يصيب الماء في الساقية ، ايغتسل منه ؟

الحديث العاشر والمائة

[ الرجل يصيب الماء في الساقية ، أيغتسل منه ؟ ]

ما رويناه بالأسانيد عن الشيخ في التهذيب ، عن أحمد بن موسى بن القاسم البجليّ ، عن أبي قتادة ، عن عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه السلام قال : سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقيةٍ أو مستنقع ، أيغتسل منه للجنابة أو يتوضّأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ صاعاً للجنابة ولا مُدّاً للوضوء وهو متفرّق فكيف يصنع به وهو يتخوّف أن تكون السباع قد شربت منه ؟

فقال : «إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفّاً من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه ، وكذا كفّاً أمامه ، وكذا عن يمينه ، وكذا عن شماله ، فإن خشي أن لا يكفيه ، غسل رأسه ثلاث مرّات ثمّ مسح جلده بيده ، فإنّ ذلك يجزيه ، وإذا كان الوضوء غَسَلَ وجهه ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه ، وإن كان الماء متفرّقاً فقدر أن يجمعه ، وإلاّ اغتسل من هذا وهذا ، فإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه فإنّ ذلك يجزيه»(1) .

بيان

هذا الحديث من معضلات الأخبار ومتشابهات الآثار ، ومضمونه قد ورد في جملة من الأخبار :

فروى الشيخ في التهذيب عن الحسين ، عن ابن سنان ، عن ابن مسكان ، قال :

ص: 656


1- . تهذيب الأحكام ، ج ، ص 416 ، ح 1315 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 216 ، ح 553 ؛ بحار الأنوار ، 77 ، ص 137 ، ح 8 .

حدّثني صاحب لي ثقة أن أسأل أبا عبداللّه عليه السلام عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل وليس معه إناء ، والماء في وَهدة(1) فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع ؟ قال : «ينضح بكفّ بين يديه ، وكفّاً من خلفه ، وكفّاً عن يمينه ، وكفّاً عن شماله ، ثمّ يغتسل»(2) .

وفي التهذيب عن الكاهليّ ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «إذا أتيت ماءا وفيه قِلّة فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك وتوضّأ»(3) .

وقال الصدوق في الفقيه : فإن اغتسل الرجل في وهدة وخشي أن يرجع ما ينصبّ عنه إلى الماء الذي يغتسل فيه ، أخذ كفّاً وصبّه أمامه ، وكفّاً عن يمينه ، وكفّاً عن يساره ، وكفّاً من خلفه واغتسل منه .(4)

وروى الفاضلان في المعتبر(5) والمنتهى(6) عن جامع البزنطيّ ، عن عبدالكريم ، عن محمّد بن قيس ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : سألته عن الجُنب ينتهي إلى الماء القليل والماء في وَهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع ؟ قال : عليه السلام : «ينضح بكفّ

بين يديه ، وكفّ خلفه ، وكفّ عن يمينه ، وكفّ عن شماله ويغتسل» .

وكيف كان فالكلام في هذا الحديث يقع في مواضع :

الأوّل : قد اختلف الأصحاب في أنّ النضح للجوانب الأربعة المذكورة هل هو للأرض أو للبدن ؟ وعلى أيّ تقدير فما الحكمة فيه ؟ فقيل : إنّه للأرض ، واختلف في وجه الحكمة حينئذٍ فيه ، فقيل : لإزالة النجاسة الوهميّة الناشئة من مخافة شرب السباع

فيه ، ومنها الكلاب والخنازير كما هو ظاهر الخبر الأوّل بل صريحه .

ص: 657


1- . الوهدة : الأرض المخفضة ؛ لسان العرب،ج 3 ، ص 471 وهد .
2- . تهذيب الأحكام، ج 1 ، ص 417 - 418 ، ح 1318 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 217 - 218 ، ح 554 .
3- . تهذيب الأحكام ، ج 1 ، ص 408 ، ح 1283 ؛ وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 218 ، ح 555 ؛ بحار الأنوار ، ج 77 ، ص 140 .
4- . كتاب من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 15 ، ذيل ح 20 .
5- . المعتبر ، ج 1 ، ص 88 .
6- . المنتهى ، ج 1 ، ص 136 .

وفيه : أنّه لو كان الأمر كذلك فلا حاجة حينئذٍ إلى نضح الأمكنة الأربعة المخصوصة ، ولا تظهر الحكمة في خصوصها .

وقيل : إنّ الحكمة في ذلك التيام أجزاء الأرض حتّى يمتنع سرعة انحدار ماء الغسالة التي تنفصل عن البدن .

وفيه : أنّ التيام أجزاء الأرض موجب لسرعة انحدار ماء الغسالة إلى محلّ الماء لا موجب لبطئ انحدارها .

والحقّ أنّ لكلٍّ من التوجيه والإيراد وجهاً بسبب اختلاف الأراضي ، فبعضها يكون انحدار الماء فيها بسبب النضح أكثر ، وبعضها بالعكس .

وقيل : إنّ الحكمة هي عدم عود ماء الغسل ، لكن لا لأجل كونه غسالة بل من جهة النجاسة الوهميّة التي في الأرض ، فالنضح إنّما هو لإزالة النجاسة الوهميّة عنها بذلك . وفيه بُعدٌ بالنسبة إلى الروايات سيّما الاُولى .

وقيل بأنّ الحكمة هي رفع ما يستقذر منه الطبع من الكثافات بأن يأخذ من وجه الماء أربع أكفّ وينضح على الأرض ، ويؤيّده حسنة الكاهليّ عن الصادق عليه السلام ، قال : «إذا أتيت ماءا وفيه قِلّة فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك وتوضّأ»(1) .

ورواية أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : إنّا نسافر فربّما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية ، فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبيّ وتبول فيه الدابّة [ و تروث ] ، فقال : «إن عرض في قلبك منه شيء فقل هكذا - يعني فرّج الماء بيدك(2) - وتوضّأ منه» .

وفيه : أنّه لو كان الأمر كذلك لكفى النضح إلى الجهة الواحدة دون الأربع أو الثلاث .

على أنّ ظاهر ما عدى الخبر الأوّل على أنّ العلّة إنّما هي منع رجوع الغسالة ، ولعلّ الحكمة في ذلك رفع النجاسة الوهميّة الناشئة من شرب الكلاب مع خوف رجوع

ص: 658


1- . تهذيب الأحكام ، ج 1 ، ص 408 ، ح 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 218 ، ح 555 ؛ بحار الأنوار ، ج 77 ، ص 140 .
2- . في النسخ والمطبوع : «بين يديك» و ما أثبت من المصدر .

الغسالة كما تشعر به الأخبار المتقدّمة .

وقيل : إنّ العلّة في ذلك محض التعبّد ، وهذا أسلم الطرق ولا بأس به ، ولكنّه ليس بجواب بل هو اعتراف بالعجز عن الجواب .

وقيل : إنّ محلّ النضح والمنضوح إنّما هو الماء كما تشير إليه حسنة الكاهليّ ورواية أبي بصير ، وتكون الحكمة في ذلك إزالة النجاسة الوهميّة ، ولكن ذلك لا يوافق إلاّ رواية عليّ بن جعفر عليه السلام دون الأخبار والعبارات الاُخر .

وقيل : إنّ محلّ النضح المذكور هو البدن ، واختلف على تقديره في وجه الحكمة فيه أيضاً ، فقيل : إنّ الحكمة في ذلك ترطيب البدن لئلاّ ينفصل عنه ماء الغسل كثيراً ، فلا يفي الماء بغسله لقلّته .

وفيه : أنّ هذا لا يلائم الخبرين الأخيرين ، وعبارة الفقيه ؛ لصراحتها في كون العلّة منع رجوع الغسالة .

على أنّه يلزم منه عدم جواب الإمام عليه السلام في الخبر الأوّل عن إشكال السائل ، فإنّ السال إنّما استشكل وتخوّف من شرب السباع منه .

وقيل : إنّ الحكمة إزالة توهّم ورود الغسالة إمّا بحمل ما يرد على الماء وروده بما نضح على البدن قبل الغسل الذي ليس من الغسالة ، وإمّا أنّه مع الاكتفاء بالمسح بعد النضح لا يرجع إلى الماء شيء .

وقيل : إنّ الحكمة في ذلك ليجري ماء الغسل على البدن بسرعة ويكمل الغسل قبل وصول الغسالة إلى ذلك الماء .

واورد عليه : أنّ سرعة جريان ماء الغسل على البدن مقتضٍ لسرعة تلاحق أجزاء الغسالة وتواصلها ، وهو يعين على سرعة الوصول إلى الماء .

ويمكن الجواب بأنّ انحدار الماء من أعالي البدن إلى أسافله أسرع من اتّصال الانحدار إلى الأرض بالماء إلى الانخفاض ؛ لأنّه طالب للمركز على أقرب الطرق ، فيكون انفصاله عن البدن أسرع من اتّصاله بالماء الذي اغترف منه ، هذا إذا لم تكن المسافة بين مكان الغسل وبين الماء الذي يغترف منه قليلة جدّاً ، فلعلّه كان في كلام السائل ما يدلّ على ذلك .

ص: 659

الموضع الثاني : أنّه بناءا على أنّ محلّ النضح في الأخبار المذكورة هو الأرض ، وأنّ الحكمة فيه هي منع رجوع الغسالة ، يكون مؤيّداً أو دليلاً لمذهب المانعين من استعمال الماء المستعمل في الغسل ، ومخالفاً لمذهب الأكثرين المجوّزين لذلك ، وظاهرهم حمله على الاستحباب كما عن المنتهى(1) مقرّباً له بحَسَنة الكاهليّ ، ووجه التقريب ما قيل : إنّ الاتّفاق واقع على عدم المنع من المستعمل في الوضوء ، فالأمر بالنضح في الحديث الأوّل محمول على الاستحباب عند الكلّ ، فلا يبعد أن تكون تلك الأوامر الواردة في تلك الأخبار كذلك .

الموضع الثالث : أنّ رواية عليّ بن جعفر عليه السلام توافق مذهب ابن الجنيد في وجوب غسل الرأس ثلاثاً ، وإجزاء المسح لبقيّة البدن عن الغسل على ما حكي عنه .(2)

[ الموضع ] الرابع : قال المحدّث الكاشانيّ في الوافي - بعد إيراد رواية عليّ بن جعفر عليه السلام - :

هذا الحديث عدّه أصحابنا من الأحاديث المعضلة المعاني وقد أتوا في تفسيره بتعسّفات باردة لا وجه لإيرادها ، فنقول - وباللّه التوفيق - : إنّه يتضمّن سؤاله

اُموراً :

أحدها : قلّة الماء وقصوره عن الصاع والمُدّ المستلزم لفوات سنّة الإسباغ ، بل المقتضي لعدم صحّة الغسل إذا رجعت الغسالة إليه ، حيث أنّ الساقية والمستنقع يكونان غالباً في وهدة . وهذا وإن لم يصرّح به في السؤال إلاّ أنّه يستفاد من آخر الحديث أنّه عليه السلام تفرّس ذلك من السائل ، مع احتمال أن يكون قد ابتدأ به من غير سؤال ، والحديث الآتي صريح فيه .

والثاني : في تفرّق الماء مع قلّته الموجب لعسر استعماله وسرعة قبوله الفساد .

والثالث : خوفه من ورود وارد عليه ممّا أفسده من كلب ونحوه من السباع المقتضي لوسوسة قلبه وريبه في طهارته ، فأشار عليه السلام أوّلاً بما يزيل عن قلبه الريب في نجاسته الموهومة ، بل توهّم رجوع الغسالة إليه بنضح بعضه على أطراف الساقية

ص: 660


1- . المنتهى ، ج 1 ، ص 137 .
2- . الحدائق الناضرة ، ج 1 ، ص 464 .

والمستنقع لتطيب بقيّته ، وليجوّز أن تكون القطرات الواردة عليه إنّما وردت من الأطراف المنضوحة دون البدن ، والنضح وإن كان ممّا يزيد في قلّة الماء إلاّ أنّه يجبره سقوط سنّة الإسباغ في حال الاضطرار ، وأنّه يكفيه حينئذٍ غسل رأسه ثلاثاً ، يعني بثلاثة أكفّ كما يأتي في محلّه ، ثمّ مسح سائر جسده بيده ، وتثليث الأكفّ للرأس وإن كان أيضاً ممّا يزيد في تقليل الماء إلاّ أنّه يعين في غسل سائر البدن بما ينصبّ منه على أطرافه .

ويستفاد من هذا الحديث جواز الاكتفاء بالمسح في غير الوجه والرأس في الطهارتين مع قلّة الماء ، بل صحّة الغسل مع قلّته إذا انضافت الغسالة إليه وتمّمته ، ولا غرو لأنّه مضطرّ ، ويأتي الكلام فيه في محلّه .

ويحتمل الحديث معنى آخر ، وهو : أن يكون المنضوح بالأكفّ أطراف البدن ليزيل توهّم ورود الغسالة ، إمّا بحمل ما يرد على الماء على وروده ممّا نضح على البدن قبل الغسل الذي ليس من الغسالة ، وإمّا أنّه مع الاكتفاء بالمسح بعد النضح لا يرجع إلى الماء شيء ، وليستعين بذلك النضح على غسل البدن مع قلّة الماء ، فإنّه إذا كان البدن رطباً يكفيه قليل من الماء ، وعلى هذا التفسير يكون الجواب عن توهّم النجاسة مسكوتاً عنه ؛ لأنّه قد ظهر في ضمن الحديث .(1) انتهى كلامه .

ص: 661


1- . الوافي ، ج 6 ، ص 79 - 80 .

الحديث الحادي عشر والمائة : سئل الإمام عن التيمّم فتلا آية السرقة و ...

الحديث الحادي عشر والمائة

[ سئل الإمام عن التيمّم فتلا آية السرقة و ... ]

ما روينا بالأسانيد عن الشيخ في التهذيب والاستبصار ، عن حمّاد بن عيسى ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه سُئل عن التيمّم ، فتلا هذه الآية : « وَالسَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا »(1) ، وقال : « « فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ »(2) قال : «فامسح على كفّيك من حيث موضع القطع ، وقال : « وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا » »(3) .(4)

والإشكال في هذا الحديث من وجوه :

الأوّل : أنّ السائل إمّا أن يكون سأل عن كيفيّة التيمّم ، أو كمّيّته ، أو وقته ، أو العذر المسوّغ له ، أي عمّا يتيمّم به ، أو عمّا ينقضه ، أو عمّا يوجبه ، أو عمّا يبيحه ، وظاهر الجواب لا يطابق شيئاً من هذه الأشياء كما ترى .

ويمكن الجواب بأنّ السائل سأل عن بعض الكيفيّة ، وهي كيفيّة مسح اليدين وحدّ الذي يمسح منها ، أو أنّ السؤال كان بلفظ عامّ والإمام فهم منه السؤال عن كيفيّة خاصّة ، فأجابه عليه السلام على ذلك لو كان الحال يقتضي الاقتصار على ذلك .

[ الوجه ] الثاني : أنّ الإمام عليه السلام أجاب السائل بتلاوة الآيتين المذكورتين مع أنّه لم يظهر للجواب بهما معنى ، ولو ظهر لم يدلّ على التيمّم الذي تذهب إليه الشيعة ، بل ربّما دلّ على خلافه كما يأتي .

ص: 662


1- . المائدة 5 : 38 .
2- . المائدة 5 : 6 .
3- . مريم 19 : 64 .
4- . التهذيب ، ج 1 ، ص 207 ، ح 2 ، الاستبصار ، ج 1 ، ص 170 ، ح 1 ، وسائل الشيعة ، ج 3 ، ص 365 ، ح 3879 .

ويمكن الجواب عنه بوجهين :

الأوّل : أن يكون مراد الإمام أنّ الأيدي قد اُطلقت على معانٍ : فاُطلقت تارةً على مابين الأصابع والزند ، وتارة على أطراف الأصابع إلى أُصولها ، وتارة على أطراف الأصابع إلى الزند ، فإذا كان لليد إطلاقات كثيرة وفهم التعيين منها موقوف على البيان ، فيكون المراد باليد في آية التيمّم من أطراف الأصابع إلى الزند ، وفهم ذلك ببيان من النبيّ صلى الله عليه و آله .

الثاني : أنّه لمّاكان قد قيّدت الأيدي في آية الوضوء بالمرافق حيث قال : « وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ »(1) علم أنّ إطلاق اليد على ذلك مجاز محتاج إلى القرينة ؛ إذ التأسيس أولى من التأكيد ، فيكون إطلاق اليد على ما بين الأصابع إلى المرافق مجازاً يحتاج إلى القرينة ، فيكون غرض الإمام عليه السلام الردّ على العامّة القائلين بوجوب المسح في التيمّم إلى المرافق بأنّها في آية التيمم مطلقة ، فلايراد بها ذلك المعنى ، فيكون المراد بها إمّا إلى الزند أو إلى اُصول الأصابع ، ولا قائل بالأخير ، فتعيّن الأوّل .

[ الوجه] الثالث : أنّ قوله عليه السلام في الخبر : قال : «فامسح على كفّيك . من حيث موضع القطع» في غاية الإشكال ، فإنّ محلّ القطع عند الإماميّة هو اُصول الأصابع الأربعة ما عدى الإبهام ، وموضع المسح عندهم منها إلى الزند .

ويمكن الجواب بأنّه لمّا كان بعض العامّة يعتقد أنّ موضع القطع إلى الزند فيكون احتجاجاً من الإمام عليه السلام عليهم بأنّ الأيدي لها إطلاقان : إطلاق في آية السرقة على الأصابع مع الزند ، وإطلاق في الوضوء إلى المرفق ، وقد وردت مطلقة في التيمّم ، فيجب أن تحمل على الزند ؛ لأنّ الأصل عدم الزائد ، ولعدم النصّ على التقييد ، ولما تقدّم سابقاً .

[ الوجه ] الرابع : أنّ في هذه الضمائر التي في الحديث تشويشاً ؛ لأنّ ضمير (تلا) عائد إلى الإمام ، وضمير (قال) الاُولى إلى اللّه ، والثانية إلى الإمام ، والثالثة إلى اللّه ، وهو ركيك لا يتكلّم به الفصيح ، والمتكلّم هنا سيّد الفصحاء .

ص: 663


1- . المائدة 5 : 6 .

ويمكن الجواب بأنّه لابُعد في كون الضمائر كلّها عائدة إلى الإمام عليه السلام ويكون معنى (قال) الاُولى والثالثة : «تلا» أو «تمثّل» .

أو نقول : الضمير الثالث والرابع عائدان إلى الإمام فلا تشويش .

أو نقول : إنّ هذه الضمائر من كلام الراوي لا من كلام الإمام عليه السلام .

[ الوجه ] الخامس : أنّ قوله : « وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا »(1) لا يظهر له مناسبة لما قبله .

ويمكن الجواب بأنّ الغرض منه أنّ اللّه سبحانه وتعالى لم يترك شيئاً بغير حكم ولا حكماً بغير دليل ، بل بيَّن جميع ذلك في القرآن ؛ لقوله تعالى : « مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِن شَىْ ءٍ »(2) ، وقوله تعالى : « وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْ ءٍ »(3) ، أو المراد أنّ اللّه لم ينس تقييد آية التيمّم بقوله : « إِلَى الْمَرَافِقِ » وقولكم يشعر بنسبة النسيان إليه ، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً .

تذييل

قال في الوافي - بعد إيراد الحديث - :

لعلّ المراد أنّه لمّا أطلق الأيدي في آيتي السرقة والتيمّم وقيّدت في آية الوضوء بالتحديد إلى المرافق علمنا أنّ الحكم في الأُوليين(4) واحد ، وفي الثالث حكم آخر في معنى الأيدي ، وموضع القطع إنّما هو وسط - الكفّ كما يأتي في محلّه - لا الزند ، فهذا الخبر شاذٌّ ينافي ما سلف من الأخبار ولم يتعرّض صاحب التهذيبين لهذا التنافي والتوفيق ، وقوله : « وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا »يعني لم ينس ما قاله في آية السرقة حين أتى بما أتى في آية الوضوء والتيمّم .(5)

ص: 664


1- . مريم 19 : 64 .
2- . الأنعام 6 : 38 .
3- . النحل 16 : 89 .
4- . في المصدر : «الأوّلين» .
5- . الوافي ، ج 6، ص 584 ، ذيل ح 4987 .

الحديث الثاني عشر و المائة : الصلاة لها أربعة آلاف حدّ

الحديث الثاني عشر و المائة

[ الصلاة لها أربعة آلاف حدّ ]

ما رويناه عن المحمّدين الثلاثة(1) قدّس اللّه أرواحهم في الكافي والتهذيب صحيحاً ، وفي من لا يحضره الفقيه مرسلاً عن الصادق 7 أنّه قال : «الصلاة لها أربعة آلاف حدّ»(2) .

وروى الصدوق في الفقيه مرسلاً(3) وفي العيون والعلل مسنداً(4) عن الرضا عليه السلام قال : « الصلاة لها أربعة آلاف باب » .

وهذان الخبران من مشكلات الأخبار . وقد اختلفت في معناهما كلمة علمائنا الأبرار على وجوه :

الأوّل : أنّ المراد بالحدود والأبواب : الأحكام المتعلّقة بالصلاة من الواجبات والمندوبات ، وقد حاول ذلك الشهيد رحمه الله في رسالتي الألفيّة والنفليّة حيث قال :

لمّا وقفت على الحديثين المذكورين ووفّق اللّه سبحانه لإملاء الرسالة الألفيّة في الواجبات ، ألحقت بها بيان المستحبّات وأفردت منها ما يزيد على ثلاثة آلاف تيمّناً بالعدد وتقريباً ، وإن كان العدد لم يقع تحقيقاً .

ص: 665


1- . وهم : أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكلينيّ وأبو جعفر محمّد بن عليّ بن بابويه القمّيّ وأبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ .
2- . الكافي ، ج 3 ، ص 272 ؛ باب فرض الصلاة ، ح 6 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 242 ، ح 25 ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 195 ، ح 599 .
3- . من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 195 ح 598 .
4- . عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 255 ، ح 7 . ولم نعثر عليه في علل الشرائع . نعم ، نقله عن العيون و العلل في بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 303 ، ح 1 .

إلى آخر كلامه .

الثاني : ما ذكره المحدّث الكاشانيّ في الوافي ، وهو :

أنّ المراد منها الفرائض والسنن والآداب فعلاً وتركاً ، إلاّ أنّ التعبير بهذا العدد إنّما خرج مخرج الكناية ، فهو من باب الكناية عن التكثّر ، فإنّ التعبير عن الشيء الكثير بالآلاف شائع ، فكما أنّ للصلاة فرائض ونوافل كذلك لها محرّمات ومكروهات ، وهي حدودها وأبوابها ، فلها أربعة آلاف حدّ باعتبار كثرة كلّ من هذه الأربعة المذكورة .(1)

الثالث : ما اختاره المحدّث التقي المجلسيّ ، وهو : أنّ المراد بها المسائل المتعلّقة بها . قال : وهي تصير أربعة آلاف مسألة بلا تكلّف(2) . وهذا في الحقيقة راجع إلى الأوّل .

الرابع : أنّ المراد بهما أسباب الربط إلى جناب قدسه تعالى ، فإنّه لا يخفى على العارف حين يتوجّه إلى اللّه تعالى ويشرع في مقدّمات الصلاة إلى أن يفرغ منها يفتح له من أبواب المعارف ما لا يحصيه إلاّ اللّه سبحانه وتعالى .

الخامس : أنّ المراد بهما أبواب الفيض والفضل ، فإنّ الصلاة معراج المؤمن ، وقد روي : «أنّ للّه سبعين ألف حجاب - وفي رواية : تسعين ألف حجاب - من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سُبحات اللّه (3) وجه ما دونه»(4) . وفي الصلاة أنواع رفع الحجب التي

ص: 666


1- . الوافي ، ج 8 ، ص 827 - 828 مع التلخيص .
2- . روضة المتّقين ، ج 2 ، ص 6 .
3- . سبحات اللّه : جلاله و عظمته ، وهي في الأصل جمع «سبحة» . وقيل : أضواء وجهه . وقيل : سبحات الوجه محاسنه ؛ لأنّك إذا رأيت الحسن الوجه قلت : سبحان اللّه . وقيل : معناه تنزيه له ، أي سبحان وجهه . وقيل : إنّ «سبحات وجهه» كلام معترض بين الفعل والمفعول ، أي لو كشفها لأحرقت كلّ شيء بصره كما تقول : لو دخل الملك البلد لقتل - العياذ باللّه - كلّ من فيه . وأقرب من هذا كلّه أنّ المعنى : لو انكشف من أنوار اللّه التي تحجب العباد عنه شيء لأهلك كلّ من وقع عليه ذلك النور كما خرّ موسى صعقا وتقطّع الجبل دكّا لمّا تجلّى اللّه سبحانه وتعالى . بحار الأنوار ، ج 55 ، ص 45 .
4- . بحار الأنوار ، ج 55 ، ص 45 .

لا تخفى على العارفين ، ولهذا ورد في فضلها ما لم يرد في غيرها ، وأنّها أفضل الأعمال بعد المعرفة .(1)

السادس : أنّ المراد بالأبواب أبواب السماء التي ترفع(2) إليها الصلاة ، كلٌّ من باب أو الأبواب على التعاقب ، فكلّ صلاة تمرّ على كلّ الأبواب .

السابع : أنّ أقلّ المراتب من المفروض ألف ، ومن المسنون ألف ، ويتبع الأوّل ألف حرام ، والثاني ألف مكروه ، فيكمل نصاب العدد حينئذٍ . وهذا يُحكى عن السيّد الداماد .(3)

الثامن : أنّ مسائل أبواب العبادات من الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفروعها ، تبلغ ذلك المبلغ ، بل ربّما تجاوزته ، وجميع العبادات قد نيط بها قبول الصلاة ، من قبلت صلاته قبلت سائر أعماله ، ومن ردّت عليه صلاته ردّت عليه جميع أعماله ، فقد رجع جميع ذلك إلى حدود الصلاة ، وهذا المعنى منسوب إلى السيّد الداماد أيضاً .(4)

التاسع : أنّ أبواب الصلاة هي أبواب عروجها وطُرُق صعود الملائكة الموكّلة عليها بها ، وهي السماوات إلى السماء الرابعة والملائكة السماويّة في كلّ سماء سماء ، بوّابون وموكّلون على الردّ والقبول ، وهم كثيرون لا يحصيهم كثرة إلاّ اللّه سبحانه كما قال تعالى : « وَ مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ »(5) فالتبعير عن ملائكة كلّ سماء وهم أبواب نقد الصلاة الصاعدة إليهم والتفتيش عنها ورد لبيان التكثّر لا تعيين للمرتبة العدديّة بخصوصها ، وهو للشريف المتقدّم أيضاً .(6)

ص: 667


1- . انظر : الكافي ، ج 3 ، ص 264 ، باب فضل الصلاة ، ح 1 .
2- . في النسخ : + «منها» .
3- . حكاه عنه المجلسي في بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 304 .
4- . نسبه له المجلسي في بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 304 .
5- . المدّثّر 74 : 31 .
6- . نقله عنه في بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 305 .

العاشر : أنّ المراد بها السنن والآداب على ما رواه السيّد ابن طاووس في فلاح السائل عن الصادق عليه السلام في جملة حديث طويل قال فيه : «للصلاة أربعة آلاف حدّ لستَ تؤاخذ بها» .(1)

ص: 668


1- . فلاح السائل ، ص 23 .

الحديث الثالث عشر و المائة : إنّ أوّل صلاة أحدكم الركوع

الحديث الثالث عشر و المائة

[ إنّ أوّل صلاة أحدكم الركوع ]

ما رويناه بالأسانيد السابقة عن شيخ الطائفة في التهذيب بإسناده عن عليّ عليه السلام قال : «إنّ أوّل صلاة أحدكم الركوع» ، وفي رواية : «أوّل صلاة أحدكم الركوع»(1) .

وقد وجّه بوجوه :

الأوّل : أنّ المراد بالأوّليّة أوّل واجب في الصلاة ، يعني أوّل ما نزل وجوبه من الصلاة هو الركوع ، وقد حكي عن بعض المفسّرين أنّه لمّا نزل قوله تعالى : « أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ »(2) لم يعلموا كيف يصلّون ، فنزل قوله تعالى : « ارْكَعُواْ وَ اسْجُدُواْ »(3) ، فيكون وجوب الركوع مقدّماً في النزول على وجوب النيّة وتكبيرة الإحرام والقراءة والقيام ، وإن كان متأخّراً عن هذه كلّها في الترتيب .

الثاني : أنّ صلاة أهل الكتاب ليس فيها ركوع ، كما حكي ذلك ، فيكون المعنى : أنّ أوّل فعل تمتاز به صلاة المسلم من غيره الركوع .

الثالث : أن يكون المراد : أوّل فعل يمتاز به المصلّي عن غيره هو الركوع ؛ لأنّ النيّة فعل قلبيّ وتكبيرة الإحرام والقراءة لا يختصّان بالمصلّي لاسيّما إذا كانا سرّاً .

الرابع : أن يكون المراد : أنّ أوّل فعل من أفعال الصلاة الذي علم من الشارع الاعتناء والاهتمام به وترجيحه وتفضيله على غيره والحكم بأنّه أوجب من سواه : الركوع .

ص: 669


1- . تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 97 ، ح 130 ؛ و عنه في وسائل الشيعة ، ج 6 ، ص 311 - 312 ، ح 8054 .
2- . متكرّرة في آيات عديدة من القرآن الكريم .
3- . الحجّ 22 : 77 .

الخامس : أن يكون المراد : أنّ أوّل فعل يدرك المصلّي فضيلة الجماعة به ويجوز له الدخول فيها : الركوع .

السادس : أن يكون المراد : أنّ أوّل فعل إذا دخل فيه المصلّي لا يلتفت إلى ما نساه من أفعال الصلاة السابقة عليه : الركوع .

السابع : أن يكون المراد أنّ أوّل فعل إذا أتى به المصلّي لم يأت بما نسيه من الأذان والإقامة : الركوع ، وفيه خلاف .

الثامن : أن يكون المراد : أنّ أوّل فعل إذا تركه المصلّي عمداً أو سهواً أو زاده كذلك بطلت صلاتة : الركوع ، بناءا على ما مرّ .

التاسع : أن يكون المراد : أنّ أوّل فعل إذا أتى به المتيمّم ثمّ وجد الماء لا يقطع الصلاة به : الركوع بناءا على المشهور .

العاشر : أن يكون المراد بالركوع هو : الخضوع والخشوع فيكون المعنى : أنّ أوّل ما ينبغي للمصلّي الإتيان به قبل الشروع في الصلاة هو الخضوع والخشوع .

الحادي عشر : أن يكون الأوّل بمعنى الأفضل مجازاً ، فإنّ الأوّل مقدَّم على غيره تقدّماً حسّيّاً ، والأفضل مقدّم على المفضول تقدّماً معنويّاً .(1)

ص: 670


1- . هذه الوجوه أبداها الحرّ العاملي في الفوائد الطوسيّة ، ص 379 - 381 وأضاف الوجه الثاني عشر وقال : وثاني عشرها أن يكون الوجه فيه مجموع ما ذكر من الوجوه أو ما يمكن اجتماعه فيها .

الحديث الرابع عشر والمائة : لا بأس بأن تصلّي المرأة بحذاء الرجل

الحديث الرابع عشر والمائة

[ لا بأس بأن تصلّي المرأة بحذاء الرجل ]

ما رويناه بالأسانيد عن الصدوق في الفقيه ، عن جميل بن درّاج في الصحيح عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «لا بأس بأن تصلّي المرأة بحذاء الرجل وهو يصلّي ، فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يصلّي وعائشة مضطجعة بين يديه وهي حائض ، وكان إذا أراد أن يسجد غمز رجلها فرفعت رجلها حتّى يسجد»(1) .

وهذا الخبر من المعضلات كما ترى ، ويمكن توجيهه بوجوه :

الأوّل : أن تكون (الفاء) بمعنى الواو ، أو محرّفة عنها ، فيكون ما بعدها جملة اُخرى وبيان حكم آخر ، ويكون المعنى : لا بأس بأن تصلّي المرأة بحذاء الرجل وهو يصلّي ، فيكون قد تمّ الكلام ، ثمّ استأنف وأفاد حكماً آخر وهو : أنّه يجوز للرجل أن يصلّي والمرأة مضطجعة أمامه ، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يصلّي ، الحديث ، فالفاء ليست تعليليّة بل عاطفة بمعنى الواو ، فتفيد معنى آخر وحكماً آخر .

الثاني : أن يكون قوله : «فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يصلّي» إلى آخره تعليلاً لقوله «وهو يصلّي» ، ويكون قوله : «وهو يصلّي» عطفاً على قوله : «لا بأس بأن تصلّي المرأة بحذاء الرجل» ، فيكون المعنى : لا بأس بأن تصلّي المرأة بحذاء الرجل ولا بأس هو يصلّي ، أي لا بأس أيضاً بأنّ الرجل يصلّي بحذاء المرأة ، فإنّ رسول اللّه كان يصلّي و عائشة مضطجعة بين يديه وهي حائض ، ويكون قوله «فإنّ النبيّ» تفريعاً لقوله : «وهو يصلّي» فيكون الحديث مفيداً لجواز اجتماعهما في حالة كون أحدهما مصلّياً والآخر غير

ص: 671


1- . من لا يحضره الفقيه ، ج1 ، ص 247، ح 748 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 5 ، ص 122 ، ح 6099 .

مصلّ كما تضمّنه التعليل المذكور .

الثالث : أن يبقى على ظاهره ويكون التعليل تامّاً باعتبار أنّ غير الحائض أشرف من الحائض ، والمصلّي أشرف من غيره ، وإذا جاز الاجتماع في الصورة المذكورة جاز في الصلاة بطريق أولى .(1)

تتمّة

قال المحدّث التقي المجلسيّ رحمه الله :

التعليل الذي وقع في صحيحة جميل بصلاة النبيّ صلى الله عليه و آله وعائشة مضطجعة بين يديه ليس من خبر جميل على الظاهر ؛ لأنّ خبر جميل مذكور في التهذيب بدون التتمّة ، والتتمّة مذكورة في الكافي في مرسلة ابن رباط ، فيمكن أن تكون نسخة الفقيه بالواو لا الفاء ، ويكون خبراً آخراً لا تعلّق له بالأوّل ، وعلى نسخة الفاء فالظاهر أنّ التتمّة من خبر جميل وقعت ردّاً على العامّة بقرينة ذكر الامرأة وكذا كلّما يقع الاستشهاد بذكرها بناءا على معتقدهم ، فإنّ أكثرهم قالوا ببطلان الصلاة لو كانت المرأة بحذاء الرجل ولو لم تصلّ لعدم جواز اجتماع الرجل مع المرأة عندهم باعتبار المحاذاة لا باعتبار الصلاة ، فاستشهد عليه السلام بفعله صلى الله عليه و آله إن كانوا حاضرين أو لجميل حتّى يباحث معهم بفعله صلى الله عليه و آله ويظهر عندهم عدم حيائها وادابها .(2) انتهى .

ص: 672


1- . الفوائد الطوسيّة ، ص 62 - 63 نقلاً بالمضمون .
2- . روضة المتقين ، ج2 ، ص121 .

الحديث الخامس عشر والمائة : إنكم تلقّنون موتاكم لا إله إلاّ اللّه ونحن ...

الحديث الخامس عشر والمائة

[ إنكم تلقّنون موتاكم لا إله إلاّ اللّه ونحن ... ]

ما رويناه بالأسانيد عن الصدوق في الفقيه : قال : قال أبو جعفر عليه السلام : «إنّكم تلقّنون موتاكم : لا إله إلاّ اللّه عند الموت ، ونحن نلقّن موتانا : محمّد رسول اللّه»(1) .

يحتمل وجوهاً :

الأوّل : أن يكون المراد : إنّا أهل البيت لمّا كنّا مشتغلين دائماً بكلمة التوحيد لا نحتاج إلى التلقين بها ، ولمّا كان أهل البيت بسبب انتسابهم إلى النبيّ صلى الله عليه و آله يغفلون عن الشهادة بالرسالة فنحن نلقّنهم بها ؛ لئلاّ يغفلوا عنها كما غفلت عنها فاطمة بنت أسد اُمّ أميرالمؤمنين عليه السلام فلقّنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله ب- «ابنك ابنك»(2) .

الثاني : أنّه لمّا كانت الشهادة بالرسالة مستلزمة للشهادة بالتوحيد فنحن نلقّنه بالملزوم ويلزمه اللازم .

الثالث : أنّه لمّا وصل إليكم أنّ من كان آخر كلامه لا إله إلاّ اللّه دخل الجنّة فأنتم تلقّنونه بها ، ونحن نلقّن بالكلمتين وما بعدهما ؛ لأنّ الغرض من التلقين تذكير الاعتقادات فنحن نذكرها جميعاً ، والتخصيص بذكر الرسالة لا يدلّ على نفي ما عداها ، بل يفهمهما اُولوا الألباب .(3)

الرابع : أن يكون الخطاب لبعض أهل مكّة ، فإنّهم يقولون عند الجنازة : لا إله إلاّ اللّه،

ص: 673


1- . من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 131 ، ح 344 ، وسائل الشيعة ، ج 2 ، ص 454 ، ح 2630 .
2- . بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 279 .
3- . هذه الوجوه الثلاثة ذكرها التقي المجلسي في روضة المتّقين ، ج 1 ، ص 340 .

فكان المراد بالتلقين : ذكر ذلك عنده لحضور الرفع فوق السرير حينئذٍ كما روي ، وقوله : «ونحن نلقّن» يكون إشارة إلى أهل المدينة ، بمعنى أنّهم يلقّنون موتاهم : لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه ، فالكلام على هذا إمّا خبر يفيد التقرير على كلّ من الأمرين والثاني أفضل ، أو على وجه الإنكار على من اقتصر على التهليل .

الخامس : أن يكون الخطاب للعامّة ، بمعنى أنّهم وإن لقّنوا موتاهم الشهادتين إلاّ أنّ شهادتهم بالنبوّة بمنزلة العدم ؛ لأنّ الإقرار بالنبوّة من شروطها الإقرار بالإمامة ، فإذا لم يكن معها الإقرار بالإمامة كانت بمنزلة العدم ، فلا يشهد كما ينبغي إلاّ الخاصّة .(1)

السادس : أنّ العقل لمّا كان يستقلّ في التوحيد من غير توقّفه على ارتباط بعض الأجسام ببعض فلا يمكن غفلة الخواصّ عنه ، فلا يقدر الشيطان على إغفالهم ، بخلاف إثبات النبوّة فإنّ العلم به وثبوته في نفسه يتوقّف على خلق الأجسام وارتباط بعضها ببعض ، فليس العقل فيه بتلك المثابة ، فينبغي التلقين في تلك الحال ، وأمّا العوام فيمكن غفلتهم عن التوحيد أيضاً في حال السكرات ، فيحتاجون إلى التلقين والتذكير(2) . انتهى .

ص: 674


1- . ذكر الوجه الرابع وكذا الخامس في الفوائد الطوسيّة ، ص 71 - 72 .
2- . جامع الشتات للخاجوئي ، ص 63 نقلاً عن الفاضل التفرشي في حواشيه على الفقيه .

الحديث السادس عشر والمائة : أنّ اللّه تطوّل على عباده بثلاث

الحديث السادس عشر والمائة

[ أنّ اللّه تطوّل على عباده بثلاث ]

ما رويناه بالأسانيد عن الصدوق في الفقيه ، [ عن الصادق عليه السلام (1)] قال : «إنّ اللّه تطوّل على عباده بثلاث : ألقى عليهم الريح بعد الروح ولولا ذلك ما دفن حميم حميماً ، والقى عليهم السلوة بعد المصيبة ولولا ذلك لانقطع النسل ، وسلّط على الحبّة هذه الدابّة ولولا ذلك لكنزها ملوكهم كما يكنزون الذهب والفضّة» .(2)

بيان

لعلّ المراد من الريح : الريح المنتنة في جوف الميّت عند انتفاخه إذا ترك بغير دفن ولولا ذلك لما دفن ، قريب قرابته ، بل كان يحفظه عنده لشدّة حبّه ، فهذه الريح المنتنة هي الموجبة لدفن الحميم حميمه ، أي القريب قريبه .

ويمكن أن يراد من الريح : النفس الذي يجذبه الإنسان إلى باطنه ، فإنّه يخفّف عنه حرارة الهمّ والغمّ ، ولولا ذلك لما دفن قريب قرابته لشدّة همّه وغمّه وحزنه .

ويحتمل على بُعد أن يراد بالريح : الهواء الذي يذهب الرائحة المنتنة الخبيثة ، أي لولا هذه الريح لما قدر أن يدفن قريب قرابته لشدّة نتن رائحته ، فلم يقدر أن يقرب إليه لذلك .(3)

ص: 675


1- . أضيفت هذه العبارة من المصدر .
2- . من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 187 ، ح 566 ؛ الكافي ، ج 3 ، ص 227 - 228 ، باب في السلوة ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 3 ، ص 277 - 278 ، ح 3645 .
3- . الفوائد الطوسيّة ، ص98 - 99 ملخّصا .

والسلوة بعد المصيبة ، أي أعطاهم الصبر والتسلّي بعد المصيبة بنثر التراب أو مسح القلب من ذلك ، أو بغير ذلك تفضّلاً من اللّه تعالى ، ولولا ذلك لانقطع النسل ، أي لم يتزوّج أحد لما يلحقه من الهمّ والغمّ والألم ، وفي بعض النسخ : ألقى عليهم الرَوْح بعد الروح ، فيكون الأوّل بفتح الراء بمعنى الهواء ، والثاني يضمّها ويرجع إلى ما تقدّم .

الحديث السابع عشر والمائة : من سرّه أن يحيى حياتي ...

الحديث السابع عشر والمائة

[ من سرّه أن يحيى حياتي ... ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام في الكافي بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «من سرّه أن يحيى حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنّة التي وعد بها ربّي ويتمسّك بقضيبٍ غرسه ربّي بيده فليتولّ عليّ بن أبيطالب وأوصياءه من بعده»(1) .

بيان

التمسّك بالقضيب : إمّا كناية عن الوصول إلى الحقّ ، فيكون عبارة عن الإمامة ، أو يكون كناية عن دخول الجنّة ، فيكون تأكيداً لما تقدّمه ، أو عن دخول موضع خاصّ منها ، أو عن دخولها مع مزيد قرب وإكرام ، فيراد به شجرة خاصّة في الجنّة .

وغرسه بيده كناية عن مزيد الاعتناء والتشريف والاهتمام ، واليد بمعنى القدرة أو النعمة .

ص: 676


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 209 ، باب ما فرض اللّه عزّوجلّ ورسوله... ، ح 6 ؛ وانظر : بصائر الدرجات ، ص 48 ، ح 1 و 2 ؛ بحار الأنوار ، ج 23 ، ص 136 ، ح 78 .

الحديث الثامن عشر والمائة : من أين أصاب أصحاب عليّ ما أصابهم مع علمهم ؟

الحديث الثامن عشر والمائة

[ من أين أصاب أصحاب عليّ ما أصابهم مع علمهم ؟ ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام بإسناده عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : من أين أصاب أصحاب عليّ ما أصابهم مع علمهم بمناياهم ؟ قال : فأجابني شبه المغضب : «ممّن ذلك إلاّ منهم ؟!» .

فقلت : ما يمنعك جعلت فداك ؟

قال : «ذلك باب اُغلق إلاّ أنّ الحسين بن عليّ عليهماالسلام فتح منه شيئاً يسيراً» . ثمّ قال : «يا أبا محمّد ، إنّ اُولئك كان على أفواههم أوكية»(1) .

بيان

(من أين أصاب) : «ما» للتفخيم والتعظيم ، والمراد به الاُمور الغريبة التي أخبرهم بها ، و«مع» حال من فاعل «أصابهم» ، والمراد بأصحاب عليّ : خواصّ أصحابه ، وهم أصحاب سرّه ، يعني من أيّ سبب أصاب أصحاب عليّ عليه السلام من الاُمور الغريبة حال كونها مقرونة مع ما أصابهم من علمهم(2) بمناياهم وبلاياهم ؟ كلّ ذلك بإخباره عليه السلام إيّاهم .

(شبه المغضب) لعلّ سببه عدم وجدانه من أصحابه من يصلح أن يكون محلاًّ

ص: 677


1- . الكافي ، ج1 ، ص 264 - 265 ، باب أن الأئمّة عليهم السلام لو ستر عليهم لأخبروا ... ، ح 2 ؛ بصائر الدرجات ، ص 261 - 262 ، ح 1 و 4 ؛ وعنه البصائر في بحار الأنوار ، ج 26 ، ص 144 ، ح 17 .
2- . كذا في الأصل ، والظاهر زيادة : «ما أصابهم من» ، والأوجه في التعبير : «حال كونها مقرونة مع علمهم ...» .

للأسرار .

وقوله : (ممّن ذلك إلاّ منهم) أي ممّن يكون ذلك السبب الذي يوجب إظهار الاُمور الغريبة والأسرار العجيبة لهم إلاّ منهم ؛ لصلاحهم وتقواهم ورعاية حقوق إمامهم وكتمانهم أسراره عليه السلام .

وقوله : (ما يمنعك) أي ما يمنعك من إظهار السرّ لأصحابك كما أظهره أميرالمؤمنين عليه السلام لأصحابه .

وقوله : (ذلك باب اُغلق) إشارة إلى إظهار السرّ المعلوم ، وإغلاق بابه كناية عن عدم جواز إظهاره ؛ لعدم الوكاء .

(وفتح الحسين عليه السلام شيئاً منه يسيراً) لكون بعض أصحابه أهلاً لذلك المقدار .

ثمّ بيّن السبب ، فقال : (اُولئك كانت على أفواههم أوكية) جمع وكاء ككساء ، وهو : رباط القربة وغيرها في الأصل ، ووجه الشبه ظاهر .

ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن سبب قتلهم ونحوه مع علمهم المذكور الذي يقتضي تحرّزهم ممّا وقع ، ومعنى قوله «منهم» ، أي من تقصيرهم وعدم كتمانهم والعلم بقصورهم عن الحفظ وترك الإذاعة لم يعلموا أوقات ما يصيبهم من القتل ونحوه ، وإنّما عرفوه إجمالاً فلم يقدروا على التحرّز .

ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن حصول القتل والإذلال ونحوهما مع اختصاصهم به عليه السلام ، وذلك يقتضي قربهم عنده وكمال إيمانهم ، فيكون إشارة إلى قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ يُدَ فِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ »(1) وجوابه عليه السلام بأنّه منهم ، أي من ذنوب سلفت منهم أراد اللّه تكفيرها عنهم ، كما قال تعالى : « وَ مَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ »(2) .

أو المعنى أنّه بسبب اختيارهم للإيمان - المستلزم لاختيار الآخرة على الدنيا -

ص: 678


1- . الحجّ 22 : 38 .
2- . الشورى 42 : 30 .

توجّه إليهم البلاء في دنياهم .

ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن وجه اختصاصهم بالعلم كما تقدّم ، وقوله : «منهم» أي من أهل بيت العصمة من النبيّ صلى الله عليه و آله وعليّ والحسنين ، واللّه العالم .(1)

ص: 679


1- . الفوائد الطوسيّة ، ص 108 - 109 نقلاً بالمضمون .

الحديث التاسع عشر والمائة : السؤال عن السفر وفي كم التقصير ؟

الحديث التاسع عشر والمائة

[ السؤال عن السفر وفي كم التقصير ؟ ]

ما رويناه بالأسانيد عن شيخ الطائفة في التهذيبين ، عن محمّد بن الحسن الصفّار ، عن محمّد بن عيسى ، عن عمر ، بن سعيد ، قال : كتب إليه جعفر بن محمّد(1) يسأله عن السفر وفي كم التقصير ؟ فكتب بخطّه - وأنا أعرفه - قال : «كان أميرالمؤمنين عليه السلام إذا سافر وخرج في سفر قصّر في فرسخ» ثمّ أعاد عليه من قابل المسألة ، فكتب إليه : «في عشرة أيّام»(2) .

بيان

يحتمل أن يكون المراد أنّه كتب إليه الجواب بعد مضي عشرة أيّام ، ويكون السؤال الأوّل عن محلّ الترخّص الذي يجب فيه الشروع في الصلاة قصراً ، فإنّ الفرسخ يقارب خفاء الأذان والجدران غالباً .

ويحتمل أن يكون السؤال الثاني وقع عن التقصير في كم هو ؟ أي بعد قصد المسافة والشروع في قطعها في كم يوم يجب التقصير ؟ وهل يشترط قطعها في يومين أو ثلاثة ؟ فأجاب عليه السلام بأنّه لو قطعها في عشرة أيّام لوجب عليه التقصير ؛ لأنّه لا يشترط قطعها في يوم واحد ولا له حدّ معيّن .

ويحتمل أن يكون السؤال في أوّل الحديث عمّن قصد مسافةً وشرع في السفر ثمّ حصل له تردّد في السفر والرجوع ، ففي كم فرسخ يجب عليه التقصير ؟ فأجابه عليه السلام بأنّه

ص: 680


1- . في التهذيب : « أحمد » .
2- . الاستبصار ، ج 1 ، ص 226 ، ح 19804 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 4 ، ص 224 ، ح 35 ، وعنهما في وسائل الشيعة ، ج 8 ، ص 471 ، ح 11195 .

إذا وصل إلى حدّ الترخّص ثمّ حصل له التردّد وجب عليه التقصير إلى أن يرجع عن السفر ، ويكون السؤال في آخره عمّن وصل إلى ذلك الحدّ وإلى رأس المسافة ، ففي كم يوم يجب عليه التقصير ؟ فقال : في عشرة أيّام ، يعني إذا نوى إقامتها وكان يوم السفر

محسوباً منها ، وهو اليوم الذي قطع فيه الفرسخ أو الذي وصل فيه كان ذلك أقلّ من عشرة أيّام ، فإذا نوى إقامة عشرة أيّام غير ذلك اليوم أو ملّفقة وجب عليه التمام ، فيصدق عليه في هذه الصورة أنّه يجب عليه التقصير في عشرة أيّام ؛ لعدم انقطاع السفر بها ، لنقص اليوم الأوّل ، ويصدق عليها العشرة عرفاً ؛ لعدم الاعتداد بالأجزاء القليلة في المحاورات .

ص: 681

الحديث العشرون والمائة : علّة الجهر والإخفات في الصلوات

الحديث العشرون والمائة

[ علّة الجهر والإخفات في الصلوات ]

ما رويناه بالأسانيد عن الصدوق في الفقيه بإسناده الحسن إلى محمّد بن عمران أنّه سأل أبا عبداللّه عليه السلام فقال : لأيّ علّة يجهر في صلاة الجمعة وصلاة المغرب وصلاة العشاء الآخرة وصلاة الغداة وسائر الصلوات ، الظهر والعصر لا يجهر فيهما ؟ ولأيّ علّة صار التسبيح في الركعتين الأخيرتين أفضل من القراءة ؟

قال : «لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لمّا اُسري به إلى السماء كان أوّل صلاة فرضها اللّه عليه الظهر يوم الجمعة ، فأضاف اللّه إليه الملائكة تصلّي خلفه ، وأمر نبيّه أن يجهر بالقراءة ليبيّن لهم فضله ، ثمّ فرض اللّه عليه العصر ولم يضف إليه أحداً من الملائكة وأمره أن يخفى القراءة ؛ لأنّه لم يكن وراءه أحد ، ثمّ فرض عليه المغرب وأضاف إليه الملائكة فأمره بالإجهار وكذلك العشاء الآخرة ، فلمّا كان قرب الفجر نزل ففرض اللّه عليه الفجر ، فأمره بالإجهار ليبيّن للناس فضله كما بيّن للملائكة ، فلهذه العلّة يُجهر فيها» ، الحديث(1) .

ووجه الإشكال فيه : أنّ الإسراء بالنبيّ صلى الله عليه و آله إنّما كان بالليل كما نطق به القرآن : « سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِى لَيْلاً »(2) ، ونزل النبيّ صلى الله عليه و آله من المعراج قبل الفجر كما هو ظاهر الخبر وغيره من الأخبار .

ويمكن الجواب بأنّ معراجه صلى الله عليه و آله لم يكن منحصراً في مرّة واحدة بل كان مراراً متعدّدة ، فجاز أن يكون هذا الخبر كناية عن معراج آخر كان في النهار ، وقد سأل

ص: 682


1- . من لا يحضره الفقيه ، ج 1 ، ص 309 ، ح 924 ؛ و عنه في وسائل الشيعة ، ج 6 ، ص 83 ، ح 7407 . ولم يذكر المؤلّف تتمّة الحديث ، وهو بيان علّة أفضليّة التسبيح في الأخيرتين . راجع المصدرين .
2- . الإسراء 17 : 1 .

أبو بصير الصادق عليه السلام كم مرّة عُرج برسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ فقال : «مرّتين»(1) ، الحديث .

وفي بعض الأخبار : «إنّه عرج به مائة وعشرون مرّة»(2) .

وذكر بعض الفضلاء أنّه قد تقرّر أنّ الليل هو مدّة كون ظلّ الأرض فوقها بالنسبة إلى الربع المسكون ، بل كلّ مكان باعتباره كذلك ، ومعلوم أنّ الشمس أكبر جرماً من الأرض بكثير ، حتّى أنّهم قرّروا وبرهنوا على أنّ الشمس مقدار الأرض مائة وستّة وستّين مرّة [ وربع مرّة ] وثمن مرّة ، ويلزم من ذلك كون المضيء من الأرض أكثر من نصفها دائماً ، كما هو شأن كلّ كرّة استضاءت من كرّة أكبر منها كما في الشمس والقمر وغير ذلك ، واللازم من ذلك كون ظلّ الأرض مخروطاً مستدقّاً تدريجاً مثل شكل الصنوبرة واقعاً في خلاف جهة الشمس دائماً متحرّكاً بحركتها ، وينتهي فيما بين الأفلاك ، كما هو مقرّر أيضاً .

فليس للأرض ظلّ عند السماء السابعة قطعاً فضلاً عمّا فوقها ، والزوال هو وقت وقوع الشمس على دائرة نصف النهار وميلها عنها يسيراً إلى طرف المغرب ، وهو مختلف باختلاف الأماكن ، فلعلّ صلاته عليه السلام كانت في مكان تكون الشمس واقعة على تلك الدائرة ، أعني دائرة سمت الرأس وبالنسبة إليه صلى الله عليه و آله هناك ، وهو يجامع كون ذلك في الليل بالنسبة إلى أهل مكّة قطعاً ، وعلى هذا فيحمل قرب الفجر على ما هو بالنسبة إليهم كما هو الظاهر فتدبّر ، انتهى .(3)

ص: 683


1- . الكافي،ج 1 ، ص 443 ، باب مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ووفاته ، ح 13 .
2- . الخصال ، ج 2 ، ص 601 ، ح 3 .
3- . الفوائد الطوسيّة ، ص 139 - 141 ملخّصا .

الحديث الحادي والعشرون والمائة : من قرأ بعد كلّ صلاة...

الحديث الحادي والعشرون والمائة

[ من قرأ بعد كلّ صلاة... استغفر له جميع الخلائق إلاّ الثقلين ]

ما رويناه عن ثقة الإسلام في باب الدعاء من الكافي عن العدّة ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أبيه رفعه وساق حديثاً ، ثمّ قال بعده : عنه ، عن بعض أصحابه رفعه ، قال : «من قال بعد كلّ صلاة وهو آخذ بلحيته بيده اليمنى : يا ذا الجلال والإكرام ارحمني من النار - ثلاث مرّات - ويده اليسرى مرفوعة بطنها إلى ما يلي السماء ، ثمّ يؤخّر يده عن لحيته ، ثمّ يرفع يده ويجعل بطنها إلى السماء ، ثمّ يقول : أجرني من النار يا عزيز يا كريم ، يا رحمان يا رحيم ، ويقلّب يديه ويجعل بطونهما ما يلي السماء ، ثمّ يقول : أجرني من العذاب الأليم - ثلاث مرّات - صلّى على محمّد وآل محمّد والملائكة والروح ، غفر اللّه له ورضي عنه

ووصل بالاستغفار له حتّى يموت جميع الخلائق إلاّ الثقلين الجنّ والإنس»(1) .

ووجه الإشكال في هذا الاستثناء ، فإنّه لا يناسب المقام ، وظاهر السياق أنّه مستثنى من (جميع الخلائق) الواقع فاعل (يموت) ويفسد معناه ؛ إذ يقتضي حينئذٍ أنّ موت باقي الخلائق غير متقدّم على موت الثقلين ولا على موت بعضهما بل الأمر بالعكس ، ويمكن توجيهه باُمور :

الأوّل : أن تكون «إلاّ» صفة بمعنى غير كما في قوله تعالى : « لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا »(2) أي آلهة موصوفة بكونها غير اللّه ، وتكون صفة مؤكّدة ، أي الخلائق الموصوفون بكونهم غير الجنّ والإنس .

ص: 684


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 546 ، باب الدعاء في أدبار الصلوات ، ح 4 ؛ بحار الأنوار ، ج 83 ، ص 40 ، ح 49 .
2- . الأنبياء 21 : 22 .

الثاني : أن تكون «إلاّ» عاطفة بمعنى الواو ، فيكون من عطف الخاصّ على العام ، كما قالوه في قوله تعالى : « لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ »(1) ، أي والذين

ظلموا ، وقوله تعالى : « لاَ يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنَام بَعْدَ سُوءٍ »(2) ، أي ومن ظلم .

الثالث : أن تكون «إلاّ» زائدة كما قاله الأصمعيّ وابن جنّيّ في قول ذي الرمّة :

حراجيج(3) ما تنفكّ إلاّ مناخة *** على الخسف أو ترمي بها بلداً قفراً

وقوله :

* وما الدهر إلاّ منجنوناً(4) بأهله *

ويكون لفظ الثقلين بدل بعض من الخلائق ، والإنس والجنّ بدل كلّ من كلّ من الثقلين ، واللّه أعلم .(5)

ص: 685


1- . البقرة 2 : 150 .
2- . النمل27 : 10 - 11 .
3- . الحراجيج : جمع حرجوج ، وهي الناقة الجسيمة الطويلة على وجه الأرض ، وقيل : الشديدة ، وقيل الضامرة . انظر : لسان العرب ، ج 2 ، ص 236 حرج .
4- . المنجنون - فتح الميم والجيم - : الدولاب التي يستقى عليها ، وتتمّة البيت : «وما صاحب الحاجات إلاّ معذّبا» . قال ابن جنّيّ في شواهد المغني ، ج 1 ، ص 79 : قائل هذا البيت بعض بني سعد . وانظر : مجمع البحرين ، ج 6 ، ص 314 مجن .
5- . الفوائد الطوسية ، ص 158 - 162 بتلخيص و أبدى الحرّ العاملي وجها رابعا ورأى أنّه اَقرب الوجوه ، وقال : ورابعها : أن يكون «جميع الخلائق» فاعل «وصل» ... و«إلاّ» للاستثناء ، أي يستغفر له جميع الخلائق إلا الثقلين ، ووجه إمّا غفلة الثقلين ... الخ .

الحديث الثاني والعشرون والمائة : إذا صليت فصلّ بنعليك

الحديث الثاني والعشرون والمائة

[ إذا صليت فصلّ بنعليك ]

ما رويناه عن الشيخ البهائيّ في مفتاح الفلاح بإسناده عن عبدالرحمان ، عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال : «إذا صلّيت فصلّ بنعليك إذا كانت طاهرة ، فإنّه يقال ذلك من السنّة»(1) .

قال رحمه الله :

يمكن أن يقال فيه : أنّ قوله عليه السلام «يقال» يعني أنّك إذا صلّيت بهما عرفت الشيعة أنّ الصلاة فيهما من السنّة ؛ لأنّ هذا الراوي كان من أعيان أصحاب الصادق عليه السلام الموثوق بأقوالهم وأفعالهم ، والمعتمد عليه في اُمورهم ، فإنّهم إذا رأوه يفعل ذلك يقولون إنّه من السنّة ؛ لأنّه لا يفعل ذلك إلاّ بقول إمامه . (2)انتهى .

أقول : ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام «يقال» لأجل التقيّة حيث لم ينسب الحكم إلى نفسه أو إلى أحد من آبائه .

ص: 686


1- . مفتاح الفلاح ، ص 25 .
2- . مفتاح الفلاح ، ص 25 .

فهرس المطالب

تصدير..................... 5

مقدّمة التحقيق ..................... 7

ترجمة المؤلف ..................... 7

اُسرته ..................... 7

ولادته و تربيته : ..................... 8

أساتذته : ..................... 8

منزلته العلمية : ..................... 8

العلماء الذين كتبوا عنه : ..................... 10

مجالات عمله التأليفي : ..................... 12

الدعوة المستجابة ..................... 17

تلامذته والرواة عنه : ..................... 17

وفاته : ..................... 18

[ مقدّمة المؤلّف ] ..................... 23

الحديث الأوّل : [ حديث الطينة ] ..................... 26

الحديث الثاني : [ بقاء طينة الميّت مستديرة في القبر ] ..................... 43

تبصرة : [تحقيق الكلام في معنى إعادة المعدوم] ..................... 45

تحقيق المعاد الجسمانيّ ..................... 48

الحديث الثالث : [

اعرفوا اللّه باللّه والرسول بالرسالة... ] ..................... 50

تتمّة مهمّة : [طريقان لمعرفة اللّه] ..................... 55

الحديث الرابع : [ لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ] ..................... 57

الحديث الخامس : [ في البداء ] ..................... 61

تتمّة مهمّة : [في تحقيق اللوحين] ..................... 73

ص: 687

تبصرة : [في أنّ للّه علمين] ..................... 75

الحديث السادس : [ في العلم والمشيّة والإرادة والقدر والقضاء ] ..................... 79

الحديث السابع : [ خلق اللّه الأشياء بالمشيّة ، والمشيّة بنفسها ] ..................... 91

الحديث الثامن : [ نسبة التردّد إلى اللّه تعالى وشبهة الاتّحاد والتجسيم ] ..................... 94

المقام الأوّل : ..................... 95

المقام الثاني : ..................... 99

خاتمة : [في الجمع بين كراهة الموت وحبّ لقاء اللّه] ..................... 100

الحديث التاسع : [ حديث إدخال الدنيا في البيضة وشبهة عدم مطابقة جواب الإمام للسؤال ] ..................... 102

الحديث العاشر : [ في رؤية اللّه تعالى ] ..................... 106

[معنى نور الحجُب] ..................... 111

[معنى الأنوار الأربعة] ..................... 113

الحديث الحادي عشر : [ لا يكون شيءٌ إلاّ بسبع ] ..................... 118

الحديث الثاني عشر : [ شاء وأراد وقدّر وقضى ولم يحبّ ] ..................... 123

الحديث الثالث عشر : [ أمر اللّه ولم يشأ ، وشاء ولم يأمر ] ..................... 125

الحديث الرابع عشر : [ إنّ للّه إرادتين ومشيّتين ] ..................... 131

تنبيه : [هل الحديث ينافي عصمة الأنبياء ؟] ..................... 132

تبصرة : [هل الذبيح إسحاق أم إسماعيل؟] ..................... 132

الحديث الخامس عشر : [ شاء وأراد ولم يحبّ ولم يرض ] ..................... 133

كشف : [الردّ على الأشاعرة] ..................... 134

الحديث السادس عشر : [ صنوف من الناس لا يحبّونا ولا يتولّونا ] ..................... 136

الحديث السابع عشر : [ من أين لحق الشقاءُ أهلَ المعصية؟ ] ..................... 139

الحديث الثامن عشر : [ إنّ اللّه خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه ] ..................... 146

فائدة : في السرّ في اختلاف الناس في السعادة والشقاوة ..................... 147

تبصرة : [في السرّ في اختلاف الناس في السعادة والشقاوة أيضا] ..................... 149

الحديث التاسع عشر : [ خلق اللّه تعالى الخير والشر ] ..................... 151

الحديث العشرون : [ القضاء والقدر ] ..................... 154

ص: 688

الحديث الحادي والعشرون : [ لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ] ..................... 166

المقام الأوّل ..................... 167

[في أنّ مسألة خلق الأعمال من أصعب المسائل الإسلاميّة إشكالاً] ..................... 167

[استدلال كلّ من القدريّة والجبريّة على بطلان مذهب الآخر بالاستعاذة] ..................... 168

المقام الثاني ..................... 174

في بيان حكاية المذاهب في هذه المسألة ..................... 174

[معاني التفويض والاستطاعة] ..................... 179

فذلكة : [مَن هُم القدرية ؟] ..................... 180

المقام الثالث ..................... 182

في بطلان القول بالجبر والتفويض زيادة على ما تقدّم ..................... 182

[بعض الأدلّة على بطلان مذهب المجبّرة] ..................... 187

فصل : [بعض الأدلّة على بطلان التفويض] ..................... 195

المقام الرابع ..................... 200

في تحقيق الأمر بين الأمرين ، والمنزلة بين المنزلتين ..................... 200

الحديث الثاني والعشرون : [ لم يزل اللّه عليما سميعا بصيرا ] ..................... 212

[هل السمع والبصر هما نفس العلم ، بالمسموعات والمبصرات ؟] ..................... 213

الحديث الثالث والعشرون : [ في أسمائه تعالى ] ..................... 214

الحديث الرابع والعشرون : [ في توحيده تعالى ] ..................... 228

تذييل : [بعض براهين التوحيد] ..................... 233

الحديث الخامس والعشرون : [ إنّ اللّه تعالى علم لا جهل فيه ، وحياة لا موت فيه ] ..................... 236

الحديث السادس والعشرون : [ في رؤية اللّه تعالى ] ..................... 237

تبصرة : [اختلاف المذاهب في رؤية اللّه تعالى] ..................... 243

الحديث السابع والعشرون : [ لك يا إلهي وحدانيّة العدد ] ..................... 245

الحديث الثامن والعشرون : [ في النهي عن التعمّق في كنهه تعالى ] ..................... 250

الحديث التاسع والعشرون : [ في رؤية اللّه تعالى ] ..................... 254

الحديث الثلاثون : [ من عرف نفسه فقد عرف ربّه ] ..................... 260

ص: 689

الحديث الحادي والثلاثون : [ إنّ اللّه خلق آدم على صورته ] ..................... 262

الحديث الثاني والثلاثون : [ لِمَ خلق اللّه الخلق ؟ ] ..................... 265

تبصرة : [سبب العقاب في الآخرة] ..................... 268

الحديث الثالث والثلاثون : [ في تفسير قوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) ] ..................... 269

تحقيق مقام وتوضيح مرام : [الكفّار مكلّفون بالفروع] ..................... 269

[احتجاج القائلين بأنّ الكفّار غير مكلّفين بالفروع] ..................... 279

الحديث الرابع والثلاثون : [ الخلود في العذاب ] ..................... 284

تحقيق مرام في دفع شكوك وأوهام : ..................... 284

الحديث الخامس والثلاثون : [ المعرفة من صنع اللّه ] ..................... 320

[الجمع بين وجوب المعرفة على العباد وأنّ المعرفة من صنع اللّه] ..................... 326

الحديث السادس والثلاثون : [ كلّ مولود يولد على الفطرة ] ..................... 329

الحديث السابع والثلاثون : [ خلافة مروان بن محمّد ] ..................... 335

الحديث الثامن والثلاثون : [ نحن المثاني ] ..................... 337

الحديث التاسع والثلاثون : [ إنّ القضاء والقدر خلقان من خلق اللّه ] ..................... 340

الحديث الأربعون : [ للإنسان أجلان ] ..................... 347

[الكلام في أجل المقتول] ..................... 349

الحديث الحادي والأربعون : [ لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها ] ..................... 350

الحديث الثاني والأربعون : [ إنّ الأسعار بيد اللّه ] ..................... 354

الحديث الثالث والأربعون : [ تزعم أنّك جرم صغير ] ..................... 355

الحديث الرابع والأربعون : [ في حال ولد الزنا ] ..................... 358

الحديث الخامس والأربعون : [ حال الأطفال في يوم القيامة ] ..................... 361

الحديث السادس والأربعون : [ رفع عن اُمّتي تسعة أشياء ] ..................... 365

المقام الأوّل : في الخطأ والنسيان ..................... 366

المقام الثاني : في الإكراه ..................... 367

ص: 690

المقام الثالث : في الرفع عمّا لم يعلم حكمه ..................... 369

المقام الخامس : فيما لا يطاق وما اضطرّوا إليه ..................... 381

المقام السادس : في الحسد ..................... 382

المقام السابع : [في] الطِيرة ..................... 384

المقام الثامن : في التفكّر في الوسوسة في الخلق ..................... 385

الحديث السابع والأربعون : [ في استفادة ظهور ملك جماعة من أهل الحقّ و ... ] ..................... 386

الحديث الثامن والأربعون : [ تعليل خلق الكافر ] ..................... 393

الحديث التاسع والأربعون : [ الدنيا طالبة مطلوبة ] ..................... 405

الحديث الخمسون : [ بين المرء والحكمة نعمة العالم ، والجاهل شقي بينهما ] ..................... 407

الحديث الحادي والخمسون : [ اُجوبة الرضا عليه السلام عن أسئلة عمران الصابي في التوحيد ] ..................... 415

الحديث الثاني والخمسون : [ حديثنا صعب مستصعب ] ..................... 432

الحديث الثالث والخمسون : [ لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله ] ..................... 440

تذييلٌ : [في بعض ما ورد فيفضل سلمان] ..................... 450

الحديث الرابع والخمسون : [ في تفسير آية النور ] ..................... 454

الحديث الخامس والخمسون : [ أنا قسيم اللّه بين الجنّة والنار ] ..................... 457

الحديث السادس والخمسون : [ في تفسير قوله تعالى : ( وإنّه لذكر لك ولقومك ) ] ..................... 460

الحديث السابع والخمسون : [ لن يهلك عالم إلاّ بقي من بعده ] ..................... 462

الحديث الثامن والخمسون : [ في أنّ عليّا كان يعرف قاتله والليلة التي يقتل فيها فلماذا ... ..................... 463

الحديث التاسع والخمسون : ] تفويض الأحكام إلى النبيّ والأئمّة: ] ..................... 466

[اقسام التفويض الصحيح] ..................... 468

الحديث الستّون : [ إنّ عليّا عليه السلام كان محدّثا ] ..................... 473

الحديث الحادي والستّون : [ أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله حدّث عليّا عليه السلام بألف باب ... ] ..................... 475

الحديث الثاني والستّون : [ أسلم أبو طالب بحساب الجمل ... ] ..................... 478

الحديث الثالث والستّون : [ هل كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله محجوجا بأبي طالب؟ ] ..................... 483

الحديث الرابع والستّون : [ يكون من بعدي اثنا عشر إماما ومن بعدهم اثنا عشر مهديّا ] ..................... 486

الحديث الخامس والستّون : [ إذا خرج القائم عليه السلام حكم بحكم داود وسليمان ] ..................... 490

ص: 691

الحديث السادس والستّون : [ في ولادة النبيّ صلى الله عليه و آله ] ..................... 492

الحديث السابع والستّون : [ في نداء إبراهيم : هلمّ إلى الحجّ ] ..................... 498

الحديث الثامن والستّون : [ ما من نبيّ ولا وصيّ نبيّ يبقى في الأرض أكثر ... ] ..................... 500

الحديث التاسع والستّون : [ في حديث النملة مع سليمان ] ..................... 506

الحديث السبعون : [ لو أنّ الموت يشترى لاشتراه الكريم ... ] ..................... 512

الحديث الحادي والسبعون : [ إنّ اللّه يكره البخيل في حياته والكريم في مماته ] ..................... 514

الحديث الثاني والسبعون : [ طول آدم وحواء حين هبطا إلى الأرض ] ..................... 515

الحديث الثالث والسبعون : [ حديث هيت وماتع في ابنة غيلان الثقفيّة ] ..................... 522

الحديث الرابع والسبعون : [ كان أمير المؤمنين عليه السلام على سنّة المسيح عليه السلام ] ..................... 527

الحديث الخامس والسبعون : [ في تشبيه الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله بالصلاة على إبراهيم عليه السلام ] ..................... 528

تكملة : [الكلام في الفصل بين النبيّ وآله في الصلاة عليهم] ..................... 533

تنوير : [الكلام في وجوب الصلاة على النبيّ وآله واستجابها] ..................... 534

سبك وتحقيق : [هل الصلاة على محمّد وآله نافعة لهم ؟] ..................... 535

تتمّة : [هل لعن أعداء محمّد وآله يزيد في عقابهم ؟] ..................... 536

الحديث السادس والسبعون : [ في الطبيب سمّي طبيبا لأنّه يطيّب النفوس ] ..................... 538

الحديث السابع والسبعون : [ إنّ قلوب بني آ دم بين إصبعين من أصابع الرحمان ] ..................... 539

الحديث الثامن والسبعون : [ سرّ الحقيقة ممّا لا يمكن أن يقال ] ..................... 541

الحديث التاسع والسبعون : [ إنّ الميّت ليعذّب ببكاء الحيّ عليه ] ..................... 542

الحديث الثمانون : [ قول الحسن البصري : لو غلي دماغه من حرّ الشمس ما استظلّ بحائط

صيرفي ] ..................... 543

الحديث الحادي والثمانون : [ أوصى عيسى إلى شمعون وأوصى شمعون إلى يحيى ] ..................... 547

الحديث الثاني والثمانون : [ من عرف الحقّ لم يعبد الحقّ ] ..................... 550

الحديث الثالث والثمانون : [ علماء أُمّتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل ] ..................... 552

الحديث الرابع والثمانون : [ كلّ العلوم في باء بسم اللّه ] ..................... 554

الحديث الخامس والثمانون : [ إنّ للّه اثني عشر ألف عالَم ] ..................... 555

الحديث الخامس والثمانون : إنّ للّه اثني عشر ألف عالَم..................... 555

ص: 692

الحديث السادس والثمانون : من رآنى في منامه فقد رآني..................... 563

[المقام] الأوّل : في حقيقة الرؤيا وسبب صدقها وكذبها..................... 563

المقام الثاني : في معنى قوله صلى الله عليه و آله : «من رآني فقد رآني» ومعنى رؤيتهم..................... 572

[ هل المقصود رؤيتهم: بصورتهم الأصلية : ]..................... 576

تذييل : [ في تفسير قوله صلى الله عليه و آله الرؤيا الحسنة جزءٌ من ستّة وأربعين جزءا من النبوّة ]..................... 583

تتميم : [ في سبب نزول قوله تعالى : ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ)]..................... 584

ختام به الإتمام : [ الرؤيا الصادقة والكاذبة ]..................... 585

الحديث السابع و الثمانون : الدنيا سجن المؤمن و جنّة الكافر..................... 591

الحديث الثامن والثمانون : عقول النساء في جمالهنّ وجمال الرجال في عقولهم..................... 593

الحديث التاسع والثمانون : استنطاق العقل..................... 595

الحديث التسعون : لا تسبّوا الدهر فانّه هو اللّه..................... 599

الحديث الحادي والتسعون : يولج كلّ واحد منهما في صاحبه ويولج صاحبه فيه..................... 601

الحديث الثاني والتسعون : لا ينقص من زاده ناقص..................... 603

الحديث الثالث والتسعون : يا من لا تبدّل حكمته الوسائل..................... 605

الحديث الرابع والتسعون : ما روي في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ )..................... 606

[ حكم الفرار من الطاعون ]..................... 608

تذييل : [ في جواز منع أهل الطاعون إذا ارادوا دخول بلدة خالية منه ]..................... 611

فائدة : [ استدلال آخر على عدم جواز الفرار من الطاعون ]..................... 612

الحديث الخامس والتسعون : الوفاء بالوعد..................... 614

تحقيق : [ حكم الوفاء بالوعد ]..................... 614

الحديث السادس والتسعون : حول آية انك ميت وإنّهم ميتون..................... 619

الحديث السابع والتسعون : الذي يسقط من المائدة مهور حور العين..................... 621

الحديث الثامن والتسعون : التوحيد نصف الدين و ........................ 622

الحديث التاسع والتسعون : قوله صلى الله عليه و آله في سورة التوحيد والجحد أنّها ثلث القرآن وربعه..................... 623

الحديث المائة : في قراءة الآية : ( عمل غير صالح ..................... 626

ص: 693

الحديث الحادي والمائة : أطفئوا المصابيح بالليل ........................ 628

الحديث الثاني والمائة : الطبائع الأربع..................... 630

الحديث الثالث والمائة : لم يناد بشيء مثل ما نودي بالولاية..................... 633

الحديث الرابع والمائة : بُني الإسلام على خمس..................... 634

إيضاح مقال وتفصيل إجمال..................... 635

الحديث الخامس والمائة : تقبيل يد أبي عبد اللّه عليه السلام ورأسه ورجله..................... 640

الحديث السادس والمائة : لا يُقبّل رأس أحد ولا يده إلاّ ........................ 642

الحديث السابع والمائة : ثلاثة لم ينج منها نبيّ فمن دونه..................... 644

الحديث الثامن والمائة : نية المؤمن خير من عمله..................... 646

الحديث التاسع والمائة : لا ينقض الوضوء إلاّ حدث ........................ 654

الحديث العاشر والمائة : الرجل يصيب الماء في الساقية ، أيغتسل منه ؟..................... 656

الحديث الحادي عشر والمائة : سئل الإمام عن التيمّم فتلا آية السرقة و ........................ 662

الحديث الثاني عشر و المائة : الصلاة لها أربعة آلاف حدّ..................... 665

الحديث الثالث عشر و المائة : إنّ أوّل صلاة أحدكم الركوع..................... 669

الحديث الرابع عشر والمائة : لا بأس بأن تصلّي المرأة بحذاء الرجل..................... 671

الحديث الخامس عشر والمائة : إنكم تلقّنون موتاكم لا إله إلاّ اللّه ونحن ........................ 673

الحديث السادس عشر والمائة : أنّ اللّه تطوّل على عباده بثلاث..................... 675

الحديث السابع عشر والمائة : من سرّه أن يحيى حياتي ........................ 676

الحديث الثامن عشر والمائة : من أين أصاب أصحاب عليّ ما أصابهم مع علمهم ؟..................... 677

الحديث التاسع عشر والمائة : السؤال عن السفر وفي كم التقصير ؟..................... 680

الحديث العشرون والمائة : علّة الجهر والإخفات في الصلوات..................... 682

الحديث الحادي والعشرون والمائة : من قرأ بعد كلّ صلاة... استغفر له جميع الخلائق إلاّ الثقلين..................... 684

الحديث الثاني والعشرون والمائة : إذا صليت فصلّ بنعليك..................... 686

ص: 694

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.